الإعجاز العلمي في القرآن الكريم - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 التفسير العلمي: تعريفه - كثرة القائلين به - مؤلفاته.

الدرس: 1 التفسير العلمي: تعريفه - كثرة القائلين به - مؤلفاته. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (التفسير العلمي: تعريفه - كثرة القائلين به - مؤلفاته) معنى التفسير العلمي الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: قبل أن نخوض في الإعجاز العلمي نود أولًا أن نعرف نبذة عن التفسير العلمي: أولًا: معنى التفسير العلمي: التفسير العلمي هو: التفسير الذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن الكريم، يعني مثلًا مصطلح علمي مثلًا تناقض ضغط الجو والأكسجين، كلما ارتفعنا في الفضاء يأتي التفسير العلمي. ويأتي على الآية التي تقول: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (الأنعام: 125). فيأتي بهذه المصطلحات العلمية، ويحاول أن يفسر بها عبارات القرآن الكريم، ويجتهد الذي يفسر القرآن تفسيرًا علميًّا في استخراج مختلف العلوم. التوسع في هذا النوع من التفسير وكثرة القائلين به لقد اتسع القول في احتواء القرآن كل العلوم ما كان منها وما يكون، فالقرآن في نظر أصحاب هذه الطريقة يشمل إلى جانب العلوم الدينية ال اعتقادية، والعملية سائر علوم الدنيا على اختلاف أنواعها، وتعدد ألوانها. وممن توسعوا في التفسير العلمي الإمام الغزالي. الإمام الغزالي كان إلى عهده أكثر من استوفى بيان هذا القول في تفسير القرآن الكريم، وأهم من أيده وعمل على ترويجه في الأوساط العلمية الإسلامية على رغم ما قرر فيها من قواعد فهم عبارات القرآن الكريم.

وكتاب (الإحياء في علوم الدين) ينقل فيه عن بعض العلماء أن القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم، إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع. ثم يروي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن"، ثم يقول بعد ذلك كله: "وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله -عز وجل- وصفاته. وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها وفي القرآن إشارة إلى مجامعها، ثم يزيد على ذلك فيقول: بل كل ما أشكل فهمه على النظار، واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات في القرآن، إليه رمز ودلالات عليه. يختص أهل الفهم بدركها"، ثم لو تصفحنا كتاب الغزالي (جواهر القرآن)، الذي ألفه بعد (إحياء علوم الدين)، فنجده يزيد هذا الذي قرره في الإحياء بيانًا وتفصيلًا، فيعقد الفصل الرابع منه لكيفية انشعاب العلوم الدينية كلها، وما يتصل بها من القرآن عن تقسيمات وتفصيلات تولاها. ونكتفي بأن نقول: إن الغزالي قسم علوم القرآن إلى قسمين: الأول: علم القشر يعني السطحيات، وجعل من مشتملاته علم اللغة وعلم النحو وعلم القراءات وعلم مخارج الحروف وعلم التفسير الظاهر. والقسم الثاني: علم اللباب وجعل من مشتملاته علم قصص الأولين، وعلم الكلام وعلم الفقه وعلم أصول الفقه والعلم بالله واليوم الآخر والعلم بالصراط المستقيم وطريق السنة، ثم بعد ذلك يعقد الفصل الخامس من كتابه (جواهر القرآن) لكيفية انشعاب سائر العلوم من القرآن الكريم. فيذكر علم الطب والنجوم، وهيئة العالم، وهيئة أجسام الحيوان وتشريح أعضائه، وعلم السحر وغير ذلك، ثم يقول: "ووراء ما عددته علوم أخرى يعلم تراجمها ولا يخلو العالم عمن يعرفها. ثم بعد ذلك يقول: ولا حاجة لي إلى ذكرها بل أقول: ظهر لنا بالبصيرة الواضحة، التي لا يتمارى فيها أن في

الإمكان والقوة أصنافًا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود، وإن كان في قوة الآدمي الوصول إليها. وعلوم كانت قد خرجت من الوجود واندرست الآن، فلن يوجد في هذه الأعصار على بسيط الأرض من يعرفها. وعلوم أخر ليس في قوة البشر أصلًا إدراكها والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقربين، فإن الإمكان في حق الآدمي محدود، والإمكان في حق الملك محدود إلى غاية من النقصان، وإنما الله -سبحانه- هو الذي لا يتناهى العلم في حقه. ثم يقول بعد ذلك: ثم هذه العلوم ما عددناه وما لم نعدده ليست أوائلها خارجة من القرآن، فإن جميعها مقترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال يقول: وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مدادًا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد. فمن أفعال الله تعالى وهو بحر الأفعال مثلًا الشفاء والمرض، كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء: 80)، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله. إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه، ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان، وقد قال الله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5). وقال تعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (يونس: 5)، وقال تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة: 8، 9)، وقال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ} (الحج: 61). وقال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (يس: 38)، ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما وولوج الليل في النهار، وكيفية تكور أحدهما على الآخر إلا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض.

وهو علم برأسه ولا يعرف كمال معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار: 6 - 8)، إلا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرًا وباطنًا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها. وقد أشار في القرآن مجامع علم الأولين والآخرين، وكذلك لا يعرف معنى قوله تعالى: {سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (الحجر: 29) ما لم يعلم التسوية والنفخ والروح، ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق، وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالم بها. يقول الغزالي: ولو ذهبت أفصل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال، ولا يمكن الإشارة إلا إلى مجامعها، فتفكر في القرآن والتمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين". بهذا نعرف أن الغزالي كان من المكثرين في القول بالتفسير العلمي، ومن المؤيدين له. بعد ذلك نذهب إلى إمام آخر نحى منحى الغزالي في القول بالتفسير العلمي وهو الجلال السيوطي، فنجده يقرر ذلك بوضوح وتوسع في كتابه (الإتقان) في النوع الخامس والستين منه. كما يقرر ذلك أيضًا بمثل هذا الوضوح والتوسع في كتابه (الإكليل في استنباط التنزيل)، ونجده يسوق من الآيات والأحاديث والآثار ما يستدل به على أن القرآن مشتمل على كل العلوم. فمن الآيات نجد قول الله تعالى في الآية 38 من سورة الأنعام: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُم} (الأنعام: 38) وقوله في الآية 89 من سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ} (النحل: 89). ومن الأحاديث التي ساقها، ويستدل بها على أن القرآن مشتمل على كل العلوم: ما أخرجه الترمذي وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ستكون فتن قيل: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم)). وكذلك أيضًا ما أخرجه أبو

الشيخ عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لو أغفل شيئًا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة)) ومن الآثار ما أخرجه سعيد بن منصور عن ابن مسعود أنه قال: "من أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه خبر الأولين والآخرين". وما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "أنزل الله في القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء، لكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن". ثم نجد السيوطي بعد أن يسوق هذه الأدلة وغيرها، يذكر لنا عن بعض العلماء أنه استنبط أن عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث وستون سنة، من قوله تعالى في الآية الحادية عشرة من سورة المنافقون يقول: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} (المنافقون: 11). فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها أي ذكر بعدها سورة التغابن؛ ليظهر التغابن في فقد النبي -صلى الله عليه وسلم-. بعد أن ذكرنا الجلال السيوطي وكثرته من القول في التفسير العلمي نأتي بعد ذلك إلى عالم آخر يقرر ما قرره السيوطي وما قرره الغزالي، هذا العالم هو أبو الفضل المرسي. لقد ذكر عن أبي الفضل المرسي أنه قال في تفسيره: "جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علمًا حقيقة إلا المتكلم به، وهو الله سبحانه، ثم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلا ما استأثر به -سبحانه وتعالى-. ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل: الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنه التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، وفترت العزائم. وتضاءل أهل العلم، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه. فاعتنى قوم بضبط لغاته، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه وعددها وعدد كلماته وآياته وسوره، وأحزابه وأنصافه

وأرباعه، وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة من غير تعرض لمعانيه. ولا تدبر لما أودع فيه فسموا القراء، واعتنى النحاة بالمعرب منه، والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال واللازم والمتعدي، ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به. حتى إن بعضهم أعرب مشكله وبعضهم أعربه كلمة كلمة، واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظًا يدل على معنى واحد، ولفظًا يدل على معنين، ولفظًا يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني. وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضى نظره، واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة القطعية، والشواهد الأصلية والنظرية مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. فاستنبطوا منها أدلة على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقِدمه وقدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به، وسموا هذا العلم بأصول الدين، وتأملت طائفة منهم معاني خطابه فرأت منها ما يقتضي العموم، ومنها ما يقتضي الخصوص إلى غير ذلك. فاستنبطوا منها أحكام اللغة من الحقيقي والمجاز، وتكلموا في التخصيص والإضمار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي والنسخ إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة. واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه، وأحكمت طائفة صحيح النظر، وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام،

فأسسوا الأصول وفرعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطًا حسنًا، وسموه بعلم الفروع وبالفقه أيضًا. وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودونوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ. وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ، التي تقلقل قلوب الرجال، وتكاد تدكدك الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير، وذكر الموت والمعاد، والنشر والحشر، والحساب والعقاب والجنة والنار. استنبطوا من ذلك فصولًا من المواعظ وفصولًا من الزواجر، فسموا بذلك الخطباء والوعاظ، واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير، يعني تفسير الرؤيا مثل ما ورد في قصة يوسف في البقرات السمان، وفي منامي صاحبي السجن. وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة، وسموه تعبير الرؤيا، واستنبطوا تأويل كل رؤيا من الكتاب، فإن عز عليهم إخراجها منه، فمن السنة التي هي شارحة للكتاب، فإن عز فمن الحكم والأمثال. ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم، وعرف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} (لقمان: 17). وأخذ قوم مما في آيات المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك، أخذوا علم الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثمن حساب الفرائض، ومسائل العدل، واستخرجوا منه أحكام الوصايا. ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالات على الحكم الباهرة في الليل والنهار، والشمس والقمر ومنازله والبروج وغير ذلك، فاستخرجوا منه علم المواقيت. ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادئ

والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز وغير ذلك، واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع. ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة، فلاح لهم من ألفاظه معاني ودقائق جعلوا لها أعلامًا اصطلحوا عليها، مثل الفناء والبقاء والحضور والخوف والهيبة والأنس والوحشة والقبض والبسط، وما أشبه ذلك. هذه الفنون أخذتها الملة الإسلامية منه، وقد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل، مثل الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة وغير ذلك من العلوم، أما الطب فمداره على نظام الصحة واستحكام القوة. وذلك إنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة، وقد جمع ذلك في آية واحدة، وهي قوله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67)، وعرفنا فيه ما يفيد نظام الصحة بعد اختلالها. وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله في قوله تعالى: {شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (النحل: 69)، ثم زاد على طب الأجسام بطب القلوب وشفاء الصدور. وأما الهيئة ففي تضاعيف سوره من الآيات، التي ذكر فيها ملكوت السموات والأرض وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات. وأما الهندسة ففي قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} (المرسلات: 30، 31)، فإن فيه قاعدة هندسية وهو أن الشكل المثلث لا ظل له. وأما الجدل فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج، والقول بالموجب والمعارضة وغير ذلك شيئًا كثيرًا، ومناظرة إبراهيم نمرود ومحجته قومه أصل في ذلك عظيم. وأما الجبر والمقابلة: فقد قيل: إن أوائل السور فيها ذكر مدد وأعوام وأيام التواريخ لأمم سالفة، وإن فيها بقاء هذه الأمة وتاريخ مدة أيام الدنيا، وما مضى وما بقي مضروب بعضها في بعض.

وفي القرآن أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليه، كالخياطة في قوله تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} (الأعراف: 22)، والحدادة في قوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} (الكهف: 96). والبناء في آيات والنجارة في قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} (هود: 37)، والغزل في قوله تعالى: {نَقَضَتْ غَزْلَهَا} (النحل: 92)، والنسج في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} (العنكبوت: 41). والفلاحة في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} (الواقعة: 63)، والصيد ذكر في آيات، وكذلك الغوص وذلك في قوله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} (ص: 37)، وقوله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً} (النحل: 14). والصياغة في قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} (الأعراف: 148)، والزجاج في قوله: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} (النور: 35)، وقوله تعالى: {مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} (النمل: 44). والفخار في قوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} (القصص: 38)، والملاحة في قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ} (الكهف: 79)، والكتابة في قوله تعالى: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق: 4) وفي آيات أخرى. والخبز في قوله تعالى: {أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا} (يوسف: 36)، والطبخ في قوله تعالى: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} (هود: 69)، والقصارى بعد غسل الملابس وتنظيفها في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: 4). {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} (الصف: 14) قيل: وهم القصارون وكذلك الجزارة في قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (المائدة: 3) والبيع والشراء في آيات، والصبغ في قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} (البقرة: 138) و {جُدَدٌ بِيضٌ} (فاطر: 27). والحجارة في قوله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} (الشعراء: 149)، والكيالة والوزن في آيات كثيرة، والرمي في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْت إِذْ رَمَيْتَ} (الأنفال: 17)، وفي قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الأنفال: 60). وفي القرآن الكريم من أسماء الآلات، وضروب

المأكولات والمشروبات والمنكوحات، وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: 38). قال السيوطي: انتهى كلام أبي الفضل المرسي ملخصًا مع زيادة". ثم بعد رواية السيوطي لهذه المقالة الطويلة نجده يذكر عن أبي بكر بن العربي أنه قال في كتابه (قانون التأويل): "علوم القرآن خمسون علمًا، وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة. إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحد ومطلع، وهذا مطلق دون اعتبار الترتيب وما بينها من روابط، وهذا ما لا يحصى وما لا يعلمه إلا الله". وأخيرًا عقب السيوطي على هذه النقول وغيرها، فقال: "وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء، أما أنواعه فليس منها باب ولا مسألة هي أصلًا وإلا وفي القرآن ما يدل عليها، وفيه عجائب المخلوقات، وملكوت السموات والأرض وما في الأفق الأعلى وما تحت الثرى. وإلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات". ومن هنا يتبين كيف ظهرت آثار الثقافات العلمية للمسلمين في تفسير القرآن الكريم وكيف حاول هؤلاء العلماء المتقدمون أن يجعلوا القرآن منبع العلوم كلها ما جد، وما يجد إلى يوم القيامة، هذه النزعة التفسيرية العلمية للقرآن الكريم تمتد من عهد النهضة العلمية العباسية إلى يومنا هذا. وفي بداية الأمر كانت عبارة عن محاولات يقصد منها التوفيق بين القرآن، وما جد من العلوم، ثم وجدت الفكرة مركزة وصريحة على لسان الغزالي وابن العربي والمرسي والسيوطي، وهذه الفكرة قد طبقت علميًّا. وظهرت في مثل محاولات الفخر الرازي ضمن تفسيره للقرآن، ثم وجدت بعد ذلك كتب مستقلة لاستخراج العلوم من القرآن، وتتبع الآيات الخاصة بمختلف العلوم. وراجت هذه الفكرة في العصر المتأخر رواجًا كبيرًا بين جماعة من أهل العلم، ونتج عن ذلك مؤلفات كثيرة تعالج هذا الموضوع، كما ألفت بعض التفاسير التي تسير على ضوء هذه الفكرة. هؤلاء هم المؤيدون للتفسير العلمي.

نماذج لمؤلفات التفسير العلمي في العصر الحديث.

نماذج لمؤلفات التفسير العلمي في العصر الحديث وأرى من المستحسن أن نذكر بعض النماذج لمؤلفات التفسير العلمي في العصر الحديث، وهو اللون العلمي للتفسير في عصرنا الحاضر. إن هذا اللون من التفسير -أعني التفسير العلمي- الذي يرمي إلى جعل القرآن مشتملًا على سائر العلوم ما جد منها، وما يجد قد استشرى أمره في هذا العصر الحديث، وراج لدى بعض المثقفين الذين لهم عناية بالعلوم، وعناية بالقرآن الكريم. وكان من أثر هذه النزعة التفسيرية، التي تسلطت على قلوب أصحابها أن أخرج لنا المشغوفون بها كثيرًا من الكتب، يحاول أصحابها فيها أن يحملوا القرآن كل علوم الأرض والسماء، وأن يجعلوه دالًّا عليها بطريق التصريح أو التلميح. اعتقادًا منهم أن هذا بيان لناحية من أهم نواحي صدقه وإعجازه، وصلاحيته للبقاء. أهم الكتب التي عنيت بهذا اللون، أعني التفسير العلمي: ومن أهم هذه الكتب التي ظهرت فيها هذه النزعة التفسيرية: كتاب (كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية، والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية) للإمام الفاضل والطبيب البارع، محمد بن أحمد الإسكندراني من علماء القرن الثالث عشر الهجري، وهو كتاب كبير الحجم يقع في ثلاثة مجلدات، ومطبوع بالمطبعة الوهبية بمصر سنة 1297 هجرية، ومنه نسخة بدار الكتب المصرية. ورسالة عبد الله باشا فكري في مقارنة بعض مباحث الهيئة بالوارد في النصوص الشرعية، وقد طبعت بالقاهرة سنة 1315 هجرية. وهناك كتاب آخر اسمه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لرجل الإصلاح الإسلامي، المرحوم السيد عبد الرحمن الكواكبي. وهو عبارة عن مجموعة

مقالات له، نشرها في بعض الصحف عندما زار مصر سنة 1318 هجرية، وقد طبع هذا الكتاب وأبهم اسم مؤلفه، ورمز له الرحالة ك. هذا الكتاب (طبائع الاستبداد) للسيد عبد الرحمن الكواكبي، نريد أن نبين أهم الملامح، وأهم منهج هذا المؤلف في بيانه لهذا التفسير العلمي، فنجده ينحاز انحيازًا بليغًا إلى هذا اللون من ألوان التفسير، فيصف القرآن بأنه شمس العلوم، وكنز الحكم. ويقرر بأن السبب في إحجام العلماء عن تفسير قسمي الآلات والأخلاق من القرآن، وبيان ما يشتمل عليه من العلوم المختلفة هو أنه كانوا يخافون مخالفة رأي بعض السلف القاصرين في العلم، فيكفرون فيقتلون. ثم يقول: "وهذه مسألة إعجاز القرآن، وهي أهم مسألة في الدين لم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث، واقتصروا على ما قاله بعض السلف: أن الإعجاز في فصاحته وبلاغته وإخباره عن أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون". هذا ما يراه السيد عبد الرحمن الكواكبي في سبب انصراف العلماء عن التفسير العلمي. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 2 أهم الكتب التي عنيت بالتفسير العلمي.

الدرس: 2 أهم الكتب التي عنيت بالتفسير العلمي.

تتمة الحديث عن نماذج لمؤلفات التفسير العلمي في العصر الحديث.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (أهم الكتب التي عُنيت بالتفسير العلمي) تتمة الحديث عن نماذج لمؤلفات التفسير العلمي في العصر الحديث الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: كنا تعرضنا لكتاب (طبائع الاستبداد ونصائح الاستعباد) لرجل الإصلاح الإسلامي المرحوم السيد عبد الرحمن. في هذا الكتاب سنتعرض لاهتمامه بالتفسير العلمي: نرى عبد الرحمن الكواكبي يأخذ في بيان اشتمال القرآن على ما جد من نظريات علمية تؤيد إعجاز القرآن، فيقول: "إنه لو أطلق للعلماء عنان التدقيق، وحرية الرأي والتأليف كما أطلق لأهل التأويل والخرافات؛ لرأوا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات من الإعجاز. أيضًا لرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان تبرهن على إعجازه بصدق قوله تعالى: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (الأنعام: 59) رأوا فيه برهان عيان لا مجرد تسليم وإيمان، ومثال ذلك: أن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق، وطبائع كثيرة تعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوربا وأمريكا. والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد التصريح أو التلميح به في القرآن، منذ ثلاثة عشر قرنًا، وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء، إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن، شاهدة بأنه كلام رب لا يعلم الغيب سواه. وذلك أنهم كشفوا أن مادة الكون هي الأثير، وقد وصف القرآن بدء التكوين، فقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (فصلت: 11)، وكشفوا أن الكائنات في حركة دائمة دائبة. والقرآن يقول: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} (يس: 33) إلى أن يقول: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40)، وحققوا أن الأرض منفتقة من النظام الشمسي، والقرآن يقول: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30). وحققوا أن القمر منشق من الأرض، والقرآن يقول: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} (الرعد: 41) ويقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (القمر: 1). وحققوا أن طبقات الأرض سبع، والقرآن يقول: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12)، وحققوا أنه لولا الجبال لاقتضى الثقل النوعي أن تميد الأرض، أي: ترتج في دورتها. والقرآن يقول: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} (النحل: 15)، وكشفوا أيضًا أن التغيير في التركيب الكيمياوي، بل والمعنوي ناشئ عن تخالف نسبة المقادير. والقرآن يقول: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8)، وكشفوا أن للجمادات حياة قائمة بماء التبلور، والقرآن يقول: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: 30)،

وحققوا أن العالم العضوي، ومنه الإنسان ترقى من الجماد، والقرآن يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (المؤمنون: 12). وكشفوا ناموس اللقاح العام في النبات، والقرآن يقول: {خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} (يس: 36)، ويقول: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} (طه: 53)، ويقول: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج: 5). ويقول: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (الرعد: 3)، طريقة إمساك الظل أي: التصوير الشمسي، والقرآن يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} (الفرقان: 45). وكشفوا تسيير السفن والمركبات بالبخار والكهرباء، والقرآن يقول بعد ذكره الدواب والجواري بالريح، يقول الله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} (يس: 42)، وكشفوا وجود الميكروب وتأثيره كالجدري وغيره من المرض. والقرآن يقول: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} (الفيل: 3)، أي: متتابعة مجتمعة يقول تعالى: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} (الفيل: 4) أي: من طين المستنقعات اليابس. إلى غير ذلك من الآيات

الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة النواميس الطبيعية، وبالقياس على ما تقدم ذكره، يقتضي أن كثيرًا من آياته سينكشف سرها في المستقبل في وقتها المرهون تجديدًا لإعجازه، ما دام الزمان وما كر الجديد". وكذلك هناك كتاب (إعجاز القرآن) للمرحوم مصطفى صادق الرافعي، وهو من أنصار هذه النزعة التفسيرية، ومن المؤيدين لها: وفي هذا الكتاب نجد المؤلف -رحمه الله- يعقد بحثًا خاصًّا لموضوع القرآن والعلوم. وفيه يقرر أن القرآن بآثاره النامية معجزة أصلية في تاريخ العلم كله على بسيط هذه الأرض، من لدن ظهور الإسلام إلى ما شاء الله، ثم يستطرد إلى ذكر بعض ما نقله السيوطي في (الإتقان) و (الإكليل) عن العلامة المرسي في اشتمال القرآن على سائر العلوم. وهنا نجده يعلق استخراج علم المواقيت من القرآن، فيقول: "قال بعض المتأخرين: إن الميقات مشار إليه في القرآن بقوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} (غافر: 15) قال: فإن عدد رفيع بحساب الجمل ثلاثمائة وستون، وهي عدد درج الليل والنهار. ثم يقول الرافعي نفسه بعد هذا: وإذا أطلق حساب الجمل في كلمات القرآن كشف منه كل عجائب العصور وتواريخها وأسرارها، ثم يقول الرافعي: ولو أن هذا خارج عن غرض الكتاب لجئنا منه بأشياء كثيرة من القديم والحديث. ثم نرى الرافعي -رحمه الله- يسترسل في حديثه إلى أن يقول: وقد استخرج بعض علمائنا من القرآن ما يشير إلى مستحدثات الاختراع، وما يحقق بعض غوامض العلوم الطبيعية وبسطوا كل ذلك بسطًا ليس هو من غرضنا، فنستقصي فيه على أن هذا ومثله إنما يكون فيه إشارة ولمحة. ولعل متحققًا بهذه العلوم

الحديثة لو تدبر القرآن، وأحكم النظر فيه، وكان بحيث لا تعوزه أداة الفهم، ولا يلتوي عليه أمر لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم، وإن لم تبسط من أنبائها وتدل عليها وإلم تسمها بأسمائها. ثم يقول: وقد أشار القرآن إلى نشأة هذه العلوم، وإلى تمحيصها وغايتها على ما وصفناه آنفًا، وذلك قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53). ولو جمعت أنواع العلوم الإنسانية كلها ما خرجت في معانيها من قوله تعالى: {فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}، هذه آفاق وهذه آفاق أخرى، فإن لم يكن هذا التعبير من الإعجاز الظاهر بداهة، فليس يصح في الأفهام شيء". ثم نجد كتابًا آخر عنوانه (الإسلام والطب الحديث) للدكتور عبد العزيز السباعي الطبيب المعروف: هذا الكتاب يظهر فيه أن مؤلفه ينحاز إلى هذا اللون من ألوان التفسير وهو التفسير العلمي. هذا الكتاب جمع فيه مؤلفه مقالاته التي نشرها في مجلة الأزهر، وهو مطبوع بمطبعة الاعتماد سنة 1357 هـ، وفيه نجد المؤلف -رحمه الله- يقرر أن القرآن ليس بكتاب طب أو هندسة أو فلك، ولكنه يشير أحيانًا إلى سنن طبيعية، ترجع إلى هذه العلوم. كما يقرر أن كثيرًا من آيات القرآن لا يفهم شيئًا من معناها الحقيقي، إلا من درس العلوم الحديثة، كما يؤكد أن العلم الحديث كشف عن معنى بعض الآيات، وسينكشف الباقي منها كلما تقدمت العلوم، ثم يأتي وقت يكون فيه العلماء الماديون أقرب الناس إلى الدين. وفي هذا اتهام للصحابة، ومن جاء بعدهم من سلف الأمة بأنهم لم يفهموا المعاني الحقيقية لبعض الآيات القرآنية؛

لجهلهم بهذه العلوم المستحدثة، وهذا اتهام نعيذ منه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسلف الأمة -رضوان الله عليهم-. ونحن إذا تتبعنا ما في هذا الكتاب لوجدنا الكثير منه لا يقصده القرآن، ولا يهدف إليه من وراء خطابه للعربي الأمي. فمثلًا نجده يعرض لقوله تعالى في الآية 22 من سورة البقرة: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} (البقرة: 22) تحت عنوان: الحياة تحت ضوء القرآن. وفيه يقول: "هذه الآية الكريمة معناها والله أعلم: أن اللحوم والأسماك والألبان إلى آخره أفضل في التغذية من البقول والقمح والذرة، وليست الأفضلية في مقدار المواد الزلالية الضرورية للجسم في كل نوع؛ لأن هذا يجب ألا يكون سببًا مهمًّا للأفضلية. ثم يعقد مقارنة بين بعض الأغذية، وما فيها من نسبة المواد الزلالية، ثم يقول: وقد اهتدت أخيرًا لجنة الأبحاث بانجلترا إلى أن قيمة المواد الزلالية تختلف في نوعها، وفي المقدار منها الذي يمنع المواد الزلالية المكونة للأنسجة من أن تخترق. ورأوا أن اللحوم بالنسبة للمواد الزلالية، ونوعها لها قيمة أكثر من اللبن والذرة، مثل البيان التالي: لحوم يضع تحتها عدد 104، لبن القمر يضع تحتها عدد 100، أرز يضع تحته عدد 88، بطاطس 79 فول 70، دقيق 40 ذرة 30. ثم يقول: إن هذه النتيجة التي لخصها القرآن الشريف لم تظهر حقيقة ثابتة، إلا منذ سنوات قليلة. وغير هذا كثير في كتاب (الإسلام والطب الحديث) مما لا نصدق أنه مراد الله من خطابه للعرب بالقرآن، وإن كان لا يتعارض مع ما ثبت من ذلك علميًّا وتحققت صحته، هذا وإن أعظم علماء العصر الحديث تشيعًا للنزعة التفسيرية العلمية.

منهج الشيخ طنطاوي جوهري في كتاب (الجواهر).

منهج الشيخ طنطاوي جوهري في كتاب (الجواهر) وأكثرهم إنتاجًا لهذا التفسير العلمي هو المرحوم الشيخ طنطاوى جوهري؛ إذ إنه جمع كثيرًا من هذا العلم، وأطال في تفسيره (الجواهر) الذي يقع في خمسة وعشرين جزءًا كبارًا، والمطبوع بمصر سنة 1341هـ / 1351 هـ، يعني في هذه المد يقول الدكتور الذهبي: "ولهذا أرى أن أتكلم عنه بما يكشف عن طريقة مؤلفه ومنهجه، الذي سلكه فيه". أولًا: الدوافع التي حملت المؤلف على كتابة هذا التفسير، الشيخ طنطاوي جوهري يقول عن نفسه: "إنه مغرم بالعجائب الكونية، معجب بالبدائع الطبيعية، مشوق إلى ما في السماء من جمال وما في الأرض من بهاء وكمال". ثم يقول الشيخ طنطاوي جوهري: "إنه لما تأمل الأمة الإسلامية وتعاليمها الدينية، وجد أكثر العقلاء وبعض أجلة العلماء عن تلك المعاني معرضين، وعن التفرج عليها ساهين لاهين، فقليل منهم من فكر في خلق العوالم، وما أودع فيها من الغرائب. فدفعه ذلك إلى أن ألف كتبًا كثيرة مزج فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية، وجعل آيات الوحي مطابقة لعجائب الصنع، وحكم الخلق، وكان من أهم هذه الكتب كتاب (نظام العالم والأمم) و (جواهر العلوم) و (التاج المرصع) و (جمال العالم) و (النظام والإسلام) و (الأمة وحياتها) ". لكنه وجد أن هذه الكتب رغم كثرتها وانتشارها وترجمتها إلى اللغات الأجنبية، لم تشف غليله، فتوجه إلى ذي العزة والجلال أن يوفقه إلى أن يفسر القرآن تفسيرًا ينطوي على كل ما وصل إليه البشر من علوم، فاستجاب الله دعاءه، وتم له ما أراد.

متى وكيف شرع المؤلف في كتابة هذا التفسير؟ ابتدأ المؤلف هذا التفسير أيام أن كان مدرسًا بمدرسة دار العلوم، فكان يلقي تفسير بعض آيات على طلبة مدرسة دار العلوم، وبعض هذه الدروس كان يكتب في مجلة الملاجئ العباسية. ثم والى وتابع سيره في التفسير حتى أخرج لنا ذلك التفسير المكون من خمسة وعشرين جزءًا. غرض المؤلف من تفسيره: لقد رجا المؤلف -رحمه الله- من وراء هذا التفسير -كما يقول- أن يشرح الله به قلوبًا ويهدي به أممًا. وتنقشع به الغشاوة عن أعين عامة المسلمين، فيفهموا العلوم الكونية، وقال: "وإني لعلى رجاء أن يؤيد الله هذه الأمة بهذا الدين. ويسير على منوال هذا التفسير المسلمون، وينتشر في مشارق الأرض ومغاربها مقرونًا بالقلوب، وليتفاعل الموحدون بالعجائب السماوية، والبدائع الأرضية ويكون هؤلاء الشباب دعاة إلى نشر هذا العلم. وليقومن من هذه الأمة من يفوقون الفرنجة في الزراعة والطب والمعادن والحساب والهندسة والفلك، وغيرها من العلوم والصناعات". منهج المؤلف في تفسيره: لقد وضع المؤلف في تفسيره هذا ما يحتاجه المسلم من الأحكام والأخلاق وعجائب الكون، وأثبت فيه غرائب العلوم، وعجائب الخلق مما يشوق المسلمين والمسلمات إلى الوقوف على حقائق معاني الآيات البينات في الحيوان والنبات، والأرض والسموات. هذا وإن المؤلف -رحمه الله- ليقرر في تفسيره، أن في القرآن من آيات العلوم ما يزيد على سبعمائة وخمسين آية، في حين أن علم الفقه لا تزيد آياته الصريحة على مائة وخمسين آية، كما يقرر أن الإسلام جاء لأمم كثيرة، وأن سور القرآن الكريم متممات لأمور أظهرها العلم الحديث.

يقول الذهبي في كتابه (التفسير والمفسرون): "كثيرًا ما نجد المؤلف -رحمه الله- في تفسيره يهيب بالمسلمين أن يتأملوا في آيات القرآن، التي ترشد إلى علوم الكون، ويحثهم على العمل بما فيه، ويندد بمن يغفل هذه الآيات على كثرتها، وينعي على من أغفلها من السابقين الأولين. ووقف عند آيات الأحكام وغيرها مما يتعلق بأمور العقيدة"، كذلك يقول الذهبي في كتابه (التفسير والمفسرون): "نجد المؤلف يكرر هذه النغمة في كثير من مواضع الكتاب. فيقول في موضع منه: يا أمة الإسلام آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعًا من علم الرياضيات، فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها، هذا زمان العلوم وهذا زمان ظهور نور الإسلام، هذا زمان رقي، يا ليت شعري لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؟ ولكني أقول -أي المؤلف يقول: الحمد لله إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم، ودراستها أفضل من دراسة علم الفرائض؛ لأنه فرض كفاية فأما هذه فإنها للازدياد في معرفة الله، وهي فرض عين على كل قارئ. إن هذه العلوم التي أدخلناها في تفسير القرآن هي، التي أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء في الإسلام، فهذا زمان الانقلاب وظهور الحقائق، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم". ويقول المؤلف في موضع آخر: "إن نظام التعليم الإسلامي لابد من ارتقائه، فعلوم البلاغة ليست هي نهاية علوم القرآن، بل هي علوم لفظه، وما نكتبه اليوم علوم معناه، وانطباقها على العلوم التي أظهرها الله في الأرض. ولعل هذا الزمان سيظهر فيه آثار من قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 38) فإن البيان المذكور في سورة القيامة فسر بمعنى: أننا نبينه بلسانك، فتقرؤه كما

أقرأك جبريل، وبمعنى أنه إذا أشكل شيء من معانيه، فنحن نبينه لك وعلينا بيان ما فيه من الأحكام والعجائب. ولا جرم أن ما يتجدد اليوم من العلوم مما ذكر في هذا التفسير، ولم يذكر من البيان الذي أكد الله أنه يظهره لأمة الإسلام، فالحمد لله الذي وفق في هذا التفسير لبعض العرفان تصديقًا لما ذكر الله، من أن عليه البيان". ويقول في موضع آخر: "لماذا ألف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب الإسلامية في علم الفقه، وعلم الفقه ليس فيه في القرآن إلا آيات قلائل لا تصل مائة وخمسين آية؟ فلماذا كثر التأليف في علم الفقه وقل جدًّا في علوم الكائنات، التي لا تخلو منها سورة، بل هي تبلغ سبعمائة وخمسين آية صريحة؟ وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة، هل يجوز في عقل أو شرع أن يبرع المسلمون في علم آياته قليلة، ويجهلوا علمًا آياته كثيرة جدًّا؟! إن آباءنا برعوا في الفقه، فلنبرع نحن الآن في علم الكائنات؛ لنقم به لترقى الأمة". هل وجد (تفسير الجواهر) قبولًا لدى كثير من المثقفين؟ هذه المقالات وغيرها كثير في تفسير (الجواهر) نجد أغلبها قد صدر من المؤلف في مقام الرد على من كان يوجه إليه اللوم، والاعتراض على ما كان منه من تحميل القرآن الكريم علوم، ونظريات مستحدثة لا عهد للعرب بها، ولا صلة للقرآن بشيء منها. ويظهر لمن يتصفح هذا التفسير أن المؤلف -رحمه الله- لاقى الكثير من لوم العلماء على مسلكه، الذي سلكه في تفسيره، مما يدل على أن هذه النزعة التفسيرية لم تلق قبولًا لدى كثير من المثقفين. مصادرة المملكة السعودية لـ (تفسير الجواهر): ولعل هذا المنزع في تفسير القرآن الكريم هو السر، الذي من أجله صادرت المملكة العربية السعودية هذا الكتاب،

ولم تسمح بدخوله إلى بلادها. كما يجد القارئ ذلك في نص الكتاب المرسل من المؤلف إلى الملك عبد العزيز آل سعود، ملك نجد والحجاز، وذلك في صـ 238 من الجزء الخامس والعشرين. طريقة المؤلف في هذا التفسير: يقول الدكتور حسين الذهبي: "بعد أن قرأت الكثير من التفسير أستطيع أن أعطيك صورة واضحة عن منهج المؤلف وطريقته، التي سلكها فيه. وذلك أن المؤلف -رحمه الله- يفسر الآيات القرآنية تفسيرًا لفظيًّا مختصرًا لا يكاد يخرج عن ما كتب في التفاسير المألوفة لنا، والمتداولة بين أيدينا، لكنه سريعًا ما يخلص من هذا التفسير الذي يسميه لفظيًّا، ويدخل في أبحاث علمية مستفيضة، يسميها هو لطائف أو جواهر. هذه الأبحاث عبارة عن مجموعة كبيرة من أفكار علماء الشرق والغرب في العصر الحديث. أتى بها المؤلف ليبين للمسلمين ولغير المسلمين أن القرآن الكريم قد سبق إلى هذه الأبحاث، ونبه على تلك العلوم قبل أن يصل إليها هؤلاء العلماء بقرون متطاولة". يواصل الدكتور الذهبي حديثه عن هذا الكتاب يقول: "ثم إننا نجد المؤلف -رحمه الله- يضع لنا في تفسيره هذا كثيرًا من صور النباتات والحيوانات ومناظر الطبيعة، وتجارب العلوم بقصد أن يوضح للقارئ ما يقول توضيحًا يجعل الحقيقة أمامه كالأمر المشاهد المحسوس". ثم يواصل الدكتور الذهبي كلامه عن (تفسير الجواهر) يقول: "كذلك نجد المؤلف -رحمه الله- يستشهد أحيانًا على ما يقول بما جاء في الإنجيل، واعتماده فيما ينقل على إنجيل برنابا لأنه كما يرى أصح الأناجيل، بل هو الإنجيل الوحيد الذي لم تصل إليه يد التحريف والتبديل كما قيل".

يقول الذهبي: "وكثيرًا ما نرى المؤلف -رحمه الله- يشرح بعض الحقائق الدينية بما جاء عن أفلاطون في جمهوريته أو بما جاء عن إخوان الصفا في رسائلهم، وهو حين ينقلها يبدي لنا رضاه عنها، وتصديقه بها مع أنها تخالف الثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. كما أنه يستخرج كثيرًا من علوم القرآن بواسطة حساب الجمل، الذي لا نصدق أنه يوصل إلى حقيقة ثابتة، وإنما هي عدوى تسربت من اليهود إلى المسلمين، فتسلطت على عقول الكثير منهم. يواصل الدكتور الذهبي كلامه عن هذا التفسير فيقول: "هذا وإنا لنجد -رحمه الله- يفسر آيات القرآن تفسيرًا علميًّا يقوم على نظريات حديثة، وعلوم جديدة لم يكن للعرب عهد بها من قبل". ثم يقول الدكتور الذهبي: "ولست أرى هذا المسلك في التفسير إلا ضربًا من التكلف إن لم يُذهب بغرض القرآن، فلا أقل من أن يذهب بجلاله وجماله". وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 3 تابع: أهم الكتب التي عنيت بالتفسير العلمي - المعارضون للتفسير العلمي.

الدرس: 3 تابع: أهم الكتب التي عنيت بالتفسير العلمي - المعارضون للتفسير العلمي.

نماذج من تفسير الشيخ طنطاوي جوهري في كتابه (الجواهر).

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (تابع: أهم الكتب الت ي عُنيت بالتفسير العلمي - المعارضون للتفسير العلمي) نماذج من تفسير الشيخ طنطاوي جوهري في كتابه (الجواهر) الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: فقد تعرضنا إلى كتاب "الجواهر" للشيخ طنطاوي الجوهري، وبينا طريقة المؤلف في هذا التفسير. سنعرض نماذج من بعض ما جاء في هذا التفسير، فمثلًا عندما تعرض لقوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة: 61). نجده يقول الفوائد الطيبة في هذه الآية، ثم يأخذ في بيانِ ما أثبته الطبُّ الحديث من نظريات طبية، ويذكر مناهج أطباء أوروبا في الطب، ثم يقول: "أو ليست هذه المناهج هي التي نحا نحوها القرآن، أوليس قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} رمزًا لذلك، كأنه يقول: العيشة البدوية على المن والسلوى، وهما الطعامان الخفيفان اللذان لا مرض يتبعهما مع الهواء النقي، والحياة الحرة أفضل من حياةٍ شقيةٍ في المدن بأكل التوابل واللحم، والإكثار من ألوان الطعام مع الذلة، وجور الحكام والجبن وطمع الجيران من الممالك فتختطفكم في حين غفلة، وأنتم لا تشعرون. بمثل هذا ت تُفسر هذه الآيات بمثل هذا فيلفهم المسلمون كتاب الله". وعندما تعرض لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة} (البقرة: 67) الآيات إلى آخر القصة. نجده يعقد بحثًا في عجائب القرآن وغرائبه فيذكرُ ما انطوت عليه هذه الآيات من عجائب، ويذكر فيما يذكر علم تحضير الأرواح فيقول: "وأما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجًا،

إن هذه الآية تُتلى والمسلمون يؤمنون بها حتى ظهر عِلْمُ الأرواح بأمريكا أولًا، ثم بسائر أوروبا ثانيًا"، ثم ذكر نبذةً طويلةً عن مبدأ ظهور هذا العلم، وكيف كان انتشاره بين الأمم، وفائدة هذا العلم، ثم قال أخيرًا: "ولما كانت السورة التي نحن بصددها قد جاء فيها حياةٌ للعُزير بعد موته، وكذلك حماره، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل، ومسألة الذين خرجوا من ديارهم؛ فرارًا من الطاعون فماتوا ثم أحياهم. وعلم اللهُ أننا نعجز عن ذلك جعل قبل ذِكْر تلك الثلاثة في السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح في مسألة البقرة، كأنه يقول: إذا قرأتُم ما جاء عن بني إسرائيل في إحياء الموتى في هذه السورة عند أواخرها فلا تيأسوا من ذلك؛ فإني قد بدأت بذكر استحضار الأرواح، فاستحضروها بطرقها المعروفة، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، ولكن ليكن المُحَضِّر ذا قلب نقي خالص على قَدم الأنبياء والمرسلين، كالعزير، وإبراهيم، وموسى، فهؤلاء لعلو نفوسهم رأوا بالمعاينة، وأراهم الله ذلك بالمعاينة. وأنا -أي والله يقول- أمرت نبيكم أن يقتدي بهم فقلت: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} (الأنعام: 90) ". ومثلًا عندما تعرض لقوله تعالى في أول سورة آل عمران {الم} نجده يعقد بحثًا طويلًا عنوانه: الأسرار الكيميائية في الحروف الهجائية للأمم الإسلامية في أوائل السور القرآنية وفيه يقول: "انظر رعاك الله تأمل، يقول الله: {الم}، و {طسم}، و {حم} وهكذا يقول لنا: أيها الناس إن الحروف الهجائية إليها تُحلل الكلمات اللغوية، فما من لغة في الأرض إلا وأرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية، سواء أكانت اللغة العربية، أم اللغات الأعجمية شرقية وغربية، فلا صرف، ولا إملاء، ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها، ولا سبيل لتعليم لغة، وفهمها إلا بتحليلها. وهذا هو القانون المسنون في سائر العلوم والفنون. ولا جرم أن العلوم قسمان: لغوية، وغير لغوية، فالعلوم

اللغوية مقدمةٌ في التعليم؛ لأنها وسيلةٌ إلى معرفةِ الحقائق العلمية من رياضيةٍ، وطبيعية وإلهية فإذا كانت العلوم التي هي آلة لغيرها لا تُعرف حقائقها إلا بتحليلها إلى أصولها فكيف إذًا تكون العلوم المقصودة لنتائجها المادية والمعنوية، فهي أَولى بالتحليل، وأجدر بإرجاعها إلى أصولها الأولية التي لا تعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات. ولا علوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبات إليها، فرجع الأمر إلى تحليل العلوم". ومثلًا نراه يعرض لقوله تعالى في سورة النور: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النور: 24) وقوله في سورة فصلت: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} (فصلت: 22 - 24). وقوله في سورة يس: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} (يس: 65) ثم يقول: "أوليس الاستدلال بآثار الأقدام، وآثار أصابع الأيدي في أيامنا حاضرة هو نفس الذي صرح به القرآن، وإذا كان الله يعلم ما في المواطن بل هو القائل للإنسان: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الإسراء: 14)، والقائل: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة} (القيام: 14). أفلا يكون ذكر الأيدي والأرجل والجلود وشهادتها يوم القيامة ليلفت عقولنا إلى أن من الدلائل ما ليس بالبيِّنات المشهورة عند المسلمين، وأن هناك ما هو أفضل منها، وهي التي يحكم بها الله فاحكموا بها، ويكون ذلك القول لينبهنا ويفهمنا

أن الأيدي فيها أسرار، وفي الأرجل أسرار، وفي النفوس أسرار، فالأيدي لا تشتبه، والأرجل لا تشتبه، فاحكموا على الجانين والسارقين بآثارهم، أوليس في الحق أن أقول: إن هذا من معجزات القرآن وغرائبه، وإلا فلماذا هذه المسائل التي ظهرت في هذا العصر تظهر في القرآن بنصها وفصها". ومثلًا عندما تعرض لقوله تعالى في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} (طه: 5، 6). نجده يقول: "قوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} دخل في ذلك عوالم السحاب والكهرباء وجميع العالم المُسمى الآثار العلوية، وهو من علوم الطبيعة قديمًا وحديثًا، وقوله: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} يُشير لعلمين لم يُعرفا إلا في زماننا وهما علم طبقات الأرض المتقدم مرارًا في هذا التفسير، وعلم الآثار المتقدم بعضه في سورة يونس، فالله هنا يقول: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} ليحرض المسلمين على دراسة علوم المصريين التي تظهر الآن تحت الثرى". ومثلًا عند قوله تعالى في سورة الأنبياء: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} (الأنبياء: 30) الآية يقول: "ها أنت قد اطلعت على ما أبرزه القرآن قبل مئات السنين من أن السموات والأرض أي الشمس والكواكب وما هي فيه من العوالم كانت ملتحمة ففصلها الله تعالى، وقلنا: إن هذه معجزة؛ لأن هذا العلم لم يعرفه الناس إلا في هذه العصور، ألا ترى أن كثيرًا من المفسرين قالوا: إن الكفار في ذلك الوقت ليس لديهم هذا العلم، فكان جوابهم على ذلك أنهم أُخبروا به في نفس هذه الآية، فكأن الآية تستدل عليهم بنفس ما نزلت به، وذلك أن هذه الأمور لم تُخلق. وقد أخذ العلماء يؤولون تأويلاتٍ شتَّى لكثرة حرصهم، وذكائهم -رحمهم الله- وها نحن أولاء نجد هذه

العلوم المكنونة المخزونة قد أبرزها الله على أيدي الفرنجة، كما نطق القرآن هنا، كأنه يقول: سيرى الذين كفروا أن السموات والأرض كانت مرتوقةً ففصلنا بينهما، فهو وإن ذكرها بلفظ الماضي، فقد قصد منه المستقبل كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} (النحل: 1)، وهذه معجزة تامة للقرآن وعجيبة من أعجب ما يسمعه الناس في هذه الحياة الدنيا". ومثلًا عند قوله تعالى في سورة الرحمن: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَار} (الرحمن: 15) نجده يقول: "والمارج المختلط بعضُه ببعض فيكون اللهب الأحمر والأصفر والأخضر مختلطات، وكما أن الإنسان من عناصر مختلفات هكذا الجان من أنواعٍ من اللهب مختلطات، ولقد ظهر في الكشف الحديث أن الضوء مركبٌ من ألوان سبعة غير ما لم يعلمون، فلفظ المارج يشير إلى تركيب الأضواء من ألوانها السبعة، وإلى أن اللهب مضطرب دائمًا، وإنما خُلق الجان من ذلك المارج المضطرب، إشارةً إلى أن نفوسَ الجان لا تزال في حاجةٍ إلى التهذيب والتكميل. تأمل في مقال علماء الأرواح الذين استحضروها؛ إذ أفادتهم أن الروح الكاملة تكون عند استحضارِهَا ساكنة هادئة، أما الروح الناقصة: فإنها تكون قلقة مضطربة". وعند قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَان} (الرحمن: 35) يقول: "إنه عبر هنا بشواظٍ من نار، وفيما تقدم بقوله: {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} والشواظ والمارج كلاهما اللهب الخالص، فلماذا جعل الجان مخلوقًا من مارج، ولم يقل: من شواظ؟ فاعلم: أن المارج فيه معنى الاضطراب، وقد أثبت ذلك هناك. وهذا الاضطراب يفيد اضطراب الروح كما تقدم في علم الأرواح، وأيضًا اختلاط الألوان الآن معروف في التحليل فهو من هذا القبيل، وهذه الفكرة لم

تُعرف قط إلا في زماننا هذا؛ فإن تحليل الضوء والعلم بأنه مختلط والاطلاع على عالم الأرواح الناقصة، وأنها مضطربةٌ لم يكن إلا في زماننا وهذا من أعاجيب القرآن التي لا تُدرَكُ إلا بقراءةِ العلومِ، وليس يعقلها الناسُ بفن البلاغة المعروف، فلا أصحاب المعلقات يدركونها، ولا الذين بعدهم يعلمونها، فهل لمثل امرئ القيس، أو لأبي العلاء، أو المتنبي أن يتناولوا هذه المعاني في أقوالهم؟ كلا. فهذه البلاغة لا تخطر ببالهم، وأنى لهم علمُ الروح حتى يخصصوها بلفظ "مارج"، وعند إنزال العذاب يذكرون الشواظ". ومثلًا في سورة الزلزلة نجده يفسرها تفسيرًا لفظيًّا مختصرًا، ثم يذكر ما فيها من لطائف، مستعرضًا ما وقع من حوادث الزلزال في إيطاليا، وما وصل إليه العلم الحديث من استخراج الفحم، والبترول من الأرض، وما كَثُرَ في هذا الزمان من استخراج الدفائن من الأرض مثل: ما كُشف في مصر من آثار قدمائها. ثم يقول بعد ما يفيض في هذا وغيره: "ألست ترى أن هذه السورة، وإن كانت واردة لأحوال الآخرة تشير من طرف خفي إلى ما ذكرنا في الدنيا، فالأرض الآن كأنَّها في حالةِ زلزلة. وقد أخرجت أثقالها كنوزها وموتاها وغيرها، والناس الآن يتساءلون وها هم أولاء يُلهمون الاختراع وها هم أولاء مقبلون على زمان تنسيق الأعمال؛ بحيث تكون كل أمة في عمل يناسبها، وكل إنسان في عمله الخاص به، وينتفع به". ومثلًا نجده بعد أن يفرغَ من تفسيرِ سورة الكوثر، وسورة الكافرون، وسورة النصر يذكر لنا بحثًا مستفيضًا عنوانه: تطبيق عام على سورة الكوثر والنصر وما بينهما، وفيه نجده يتأثر بنزعتِهِ التفسيرية العلمية إلى درجةٍ جعلته يُحَمِّلُ نصوص الشارع من المعاني الرمزية ما يُستبعد أن يكون مرادًا لَهَا، وذلك أنه يقرر أولًا: أن

هذه السور لم تكن خاصة بزمان النبوة ولا بفتح مكة ونصر جيشها؛ لأن هذه الأمة كانت عند نزول هذه السور في أول عمرها، وسيطول إن شاء الله وكم سيكون لها من فتوح وانتصارات. ثم قال: "وإذا كان الأمر كما وصفنا، ونحن أبناء العرب ورثة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي جاء منا، ولغتنا في مصر والشام والعراق وشمال إفريقيا هي لغة القرآن، فلنبين للناس بعدنا سر هذه السور، فقد كان العلماء قبلنا يكتمونها؛ خوفًا من أهل زمانهم، ولكنا الآن يجب علينا إبرازها وإظهارها؛ لتأخذ هذه الأمة بعدنا حظَّهَا من الحياة، ونصيبها من الإصلاح". ثم أخذ يبين لنا الكوثر، وأوصاف كيزانه، وأوصاف من سيرد عليه من المسلمين بما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ثم قال بعد هذا كله: "اعلم أن هذه الأحاديث وردت لغاية أرقى مما يراها الذين لا يفكرون، كم من أمم جاءت قبلنا، وجاء فيهم مصلحون، فماذا فعلوا؟ ألقوا إليهم العلم بهيئةٍ جميلةٍ، وصورة مفرحة، وبهجة وجلال، ولا نزال نرى كل أمة حاضرة كفائتة، جميعهم يصيغون ما يريدون من الجمال والحكمة والعلم، ورقي الأمة بهيئة تسر الجمهور". ثم يقول: "الجاهل يسمع الدر والياقوت، وشرابًا أحلى من العسل؛ فيفرح ويعبد الله ليصل إلى هذه اللذات التي تقر بها عينه، والعالم ينظر فيقول: إن هذا القول وراءه حكمة ووراءه علم؛ لأني أرى في خلال القول عجائب فلماذا يذكر أن الكيزان أو الأباريق أو نحو ذلك عدد نجوم السماء، وأيُّ دخلٍ لنجوم السماء هنا، ولماذا عبر به؟ ". ثم يقول: "لماذا ذكر أن الذين يردون الحوض عليهم آثار الوضوء؟ ولم؟ الحق: أن نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- يريد أمرين، أمرًا واضحًا جليًّا يفرح به جميع الناس، وأمرًا يختصُّ بالقواد والعظماء.

إن النبوة بأمر الله والله جعل في أهل الأرض فلاحين لا يعرفون إلا ظواهر الزرع، وجعل أطباء يستخرجون منافِعَ من الحَبِّ والشجر، وحكماء يستخرجون علومًا، وكلٌّ لا يعرف إلا علمه، فالطبيب يشارك الفلاح في أنه يأكل ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية، هكذا حكماء الأمة الإسلامية يشاركون الجهلاء في أنهم يفهمون الحوض كما فهموه ولكن هؤلاء يمتازون بأنهم قواد الأمة الذين يقودونها. فماذا يقولون؟ يقولون: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد معاني أرقى، إن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فليس الماء الذي هو أحلى من العسل، وأبيض من الثلج كل شيء هناك، ثم إن الجنة لا ظمأ فيها، وأي شيء عدد نجوم السماء، ولماذا اختصت النجوم بالعدد، والوضوء بالأثر؟ والذي نقوله: إن الحوض يُرمز به للعلم مع بقائه على ظاهره، فلا المسك الإذفر، ولا أنواع الجواهر النفيسة من درٍّ وياقوت، ولا حلاوة العسل الذي في ذلك الماء، ولا اتساع الحوض إلا أفانين العلم، ومناظر بدائعه المختلفة المناهج العذبة المشارب السارة للناظرين". ثم يخلص من هذا كله إلى الاستدلال على أن ما ذهب إليه من قبيل الكناية التي هي لفظٌ أُطلق، وأريد به لازمه أي لازم معناه مع جواز إرادة المعنى الأصل ثم يقول بعد بيان هذه الكناية: "هنا يكون النصر، ولا يكون إلا بعد أن يتجافى الناس عن أفعال الملحدين والكافِرِين، وجعل العلوم مرتبطة بالربوبية كما تشير إليه سورة الكافرون. هنا يكون نصر الله والفتح، ويدخل الناس في هذه العلوم الحقيقية أفواجًا، وعلى حكماء المسلمين الذين بعدنا متى نشروا هذه الآراء العلمية وأمثالها ورأوا المسلمين تقدموا، ونصروا العلم على الجهل في العالم الإنساني، وأصبح المسلمون قائمين بما وعدهم ربهم من أنهم خير أمة أُخرجت للناس، وأنهم رحمة للعالمين، متى رأى

المعارضون والمنكرون للتفسير العلمي.

العلماء ذلك؛ فيعلموا أن هذا هو النصر في زماننا، وهو الفتح، وإذًا فعلى القائمين بذلك أن يحمدوا ربهم ويستغفروه". يقول صاحب كتاب (التفسير والمفسرون): "هذا هو تفسير الجواهر، وهذه نماذج منه، وضعتها أمام القارئ؛ ليقف على مقدارِ تسلط هذه النزعة التفسيرية على قلمِ مؤلفِهِ وقلبِهِ، والكتاب -كما ترى- موسوعة علمية ضربت في كل فنٍّ من فنون العلم بسهم وافر، مما جعل هذا التفسير يوصف بما وُصف به تفسير الفخر الرازي، فقيل عنه: فيه كل شيء إلا التفسير، بل هو أحق من تفسير الفخر بهذا الوصف، وأولى به. وإذا دل الكتاب على شيء فهو أن المؤلف -رحمه الله- كان كثيرًا ما يسبح في ملكوت السموات والأرض بفكرِهِ، ويطوف في نواحٍ شتى من العلم بعقله، وقلبه؛ ليوضح، ويُظهر للناسِ آيات الله في الآفاق، وفي أنفسهم، وليظهر لهم بعد هذا كله أن القرآن قد جاء متضمنًا لكل ما جاء ويجيء به الإنسان من علومٍ ونظريات، ولكل ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث تحقيقًا لقول الله تعالى في كتابه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} (الأنعام: 38)، ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده وانحراف به عن هدفه". فهذا ما قاله صاحب كتاب (التفسير والمفسرون) في كتاب (الجواهر). هؤلاء هم المؤيدون للتفسير العلمي. المعارضون والمنكرون للتفسير العلمي بعد ما ذكرنا المؤيدين للتفسير العلمي نتعرض الآن للمنكرين للتفسير العلمي: فإذا كانت فكرة التفسير العلمي قد راجت عند بعض المتقدمين وازدادت رواجًا عند بعض المتأخرين فإنها لم تلق رواجًا عند بعض العلماء الأقدمين كما أنها لم تلق رواجًا عند بعض المتأخرين منهم أيضًا.

الشاطبي ينكر التفسير العلمي: وكان زعيم المعارضة لفكرة التفسير العلمي في العصور المتقدمة، وهو الفقيه الأصولي أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي الأندلسي، المتوفى سنة 790 هجرية، وهذا مما يظهر في كتابه (الموافقات) فهو يعقد بحثًا خاصًّا لمقاصد الشارع، وينوع هذه المقاصد إلى أنواع تولَّى شرْحَهَا وبيانَهَا. يقول صاحب (التفسير والمفسرون): "والذي يهمنا هنا النوع الثاني منها وهو بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للأفهام، وفي المسألة الثالثة من مسائل هذا النوع نجده يقرر: أن هذه الشريعة المباركة أمية؛ لأن أهلها كذلك، فهو أجرى على اعتبار المصالح، ثم دلَّلَ على ذلك بأمور ثلاثة لا نطيل بذكرها، ثم عقب بفصل ذكر فيه: أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل وبينت منافع ما ينفع من ذلك، ومضار ما يضر منه. ثم ذكر من العلوم الصحيحة التي كان للعرب اعتناء بها علم النجوم وما يختص به من الاهتداء في البر والبحر واختلاف الأزمان، باختلاف سيرها، وما يتعلق بهذا المعنى". ثم قال: "وهو معنى مقررٌ في أثناء القرآن في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الأنعام: 97). وقوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون} (النحل: 16)، وقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 39، 40). وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ

ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (يونس: 5)، وقوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء: 12)، وقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِين} (الملك: 5)، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَج} (البقرة: 189)، وما أشبه ذلك من الآيات. وذكر علم الأنواء وأوقات نزول الأمطار وإنشاء السحاب وهبوب الرياح المثيرة لها وعرض لما ورد في ذلك من القرآن مثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} (الرعد: 12، 13)، وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} (الواقعة: 68، 69)، وقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (فاطر: 9). وغير ذلك من الآيات. وذكر علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية وفي القرآن من ذلك ما هو كثير قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (آل عمران: 44) الآية. وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} (هود: 49). وذكر علم الطب وبيَّنَ أنه كان في العرب منه شيء مبنيٌّ على تجارب الأميين لا على قواعد الأقدمين، قال: وعلى ذلك المساق جاءت الشريعة، لكن على وجه جامعٍ شافٍ، قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31) وذكر التفنن في علم فنون البلاغة والخوض في وجوه الفصاحة والتصرف في أساليب الكلام، قال: هو أعظم ممتحناتهم فجاءهم بما أعجزهم من القرآن قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ

بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88)، وذكر ضرب الأمثال، واستشهد بقوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَل} (الروم: 58). وذكر من العلوم التي عُني بها العرب وأكثرها باطلٌ أو جميعها علم العيافة والزجر والكهانة، وخط الرمل، والضرب بالحصى والطيرة، قال: فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل، ونهت عنه كالكهانة، وخط الرمل، وأقرت الفأل لا من جهة تطلب الغيب؛ فإن الكهانة والزجر كذلك، وأكثر هذه الأمور تخرص على علم الغيب من غير دليل، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بجهة مَن تعرف علم الغيب مما هو محض، وهو الوحي والإلهام. وبقي للناس من ذلك بعد موته -عليه السلام- جزء من النبوة، وهو الرؤيا الصالحة، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة". ثم بعد هذا البيان الذي أوضح فيه الشاطبي: أن الشريعة في تصحيح ما صححت، وإبطال ما أبطلت قد عرضت من ذلك إلى ما تعرفه العرب من العلوم، ولم تخرج عما ألفوه، نراه يزيد هذا البيان إسهابًا وإيضاحًا، ويتوجه باللوم إلى من أضافوا للقرآن كل علوم الأولين والآخرين، مفندًا هذا الزعم الذي اعتقده أن قائليه قد تجاوزوا به الحد في دعواهُم على القرآن، وذلك حيث يقول في المسألة الرابعة من مسائل النوع الثاني من المقاصد -أعني مقاصد وضع الشريعة للإفهام- ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها، وهم العرب: "ينبني عليه قواعد منها أن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يُذكر للمتقدمين والمتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم كالهندسة وغيرها من الرياضيات والمنطق، وعلم الحروف وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح".

ثم يصحح الشاطبي رأيه هذا ويحتج له بما عُرف عن السلف من نظرهم في القرآن، فيقول: "إن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المُدعى سوى ما تقدم وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منهم ما يدلنا على أصل المسألة إلا أن ذلك لم يكن فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يُقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا، نعم تضمن علومًا من جنس علوم العرب أو ما ينبني على معهودها بما يتعجب منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه والاستنارة بنوره، وأما أن فيه ما ليس من ذلك فلا". وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 4 التفسير العلمي بين المؤيدين والمعارضين والمتساهلين.

الدرس: 4 التفسير العلمي بين المؤيدين والمعارضين والمتساهلين.

تتمة الكلام عن المعارضين والمنكرين للتفسير العلمي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (التفسير العلمي بين المؤيدين والمعارضين والمتساهلين) تتمة الكلام عن المعارضين والمنكرين للتفسير العلمي الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: فكنا قد تعرضنا إلى إنكار الشاطبي لهذا اللون من التفسير العلمي: لقد أخذ الشاطبي بعد هذا في ذكر ما استند إليه أرباب التفسير العلمي من الأدلة فقال: "وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} (النحل: 89)، وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} (الأنعام: 38)، ونحو ذلك وبفواتح السور، وهي مما لم يُعهد عند العرب، وبما نُقل عن الناس فيها، وربما حُكي من ذلك عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وغيره أشياء ". ثم أخذ الشاطبي -رحمه الله- يفند هذه الأدلة فقال: "فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد أو المراد بالكتاب في قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} (الأنعام: 38) اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية، وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدًا كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب حسبما ذكره أصحاب السير، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى وغير ذلك، وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون، ولم يدَّعِ ذلك العلم أحد ممن تقدم. فلا دليل فيها على ما ادعوا وما يُنقل عن علي أو غيره في هذا لا يثبت، فليس بجائز أن يُضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن يُنكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يُضاف علمه إلى العرب خاصة، فبه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه وتقوَّل على الله ورسوله فيه". هذه هي الخلاصة الشاملة لمقالة الشاطبي في هذا الموضوع؛ وذلك هو رأيه في التفسير العلمي الذي شغف به بعض العلماء المتقدمين والمتأخرين.

يقول الذهبي: "وأحسب أني وقد وضعت بين يدي القارئ مقالةَ كل فريق وما يستند إليه من أدلة قد أنرْتُ له الطريق، وأوضحت له السبيل". هذا عن إنكار بعض العلماء للتفسير في العصر القديم، أما في العصر الحديث أيضًا لم يقف العلماء في هذا العصر موقف الإجماع على قبول هذا اللون من التفسير بل نراهم مختلفين في قبوله، والقول به، كما كان الشأنُ بينَ مَن سبقَهُم من العلماء الأقدمين. نجد هذِه المعارضة للتفسير العلمي في كثيرٍ من المحاورات والاعتراضات التي وُجهت إلى صاحب (الجواهر) وذكرها في تفسيره، كما نجد بعض أستاذتنا المعاصرين ينعون على من يأخذ بهذه الفكرة، ويقول بها، ومن بين هؤلاء أستاذنا الشيخ محمود شلتوت فقد تناول هذا الموضوع بالبحث في العدد 407، 408 من السنة التاسعة لمجلة الرسالة إبريل سنة 1941 وفيه يرد على من يذهب إلى هذا اللون من التفسير بحججٍ قويةٍ واضحة. وهذا هو الأستاذ الشيخ أمين الخولي يتناول هذا الموضوع في كتابه (التفسير معالم حياتي منهجي اليوم) وفيه يرد على أنصار هذا المذهب في التفسيرِ بحججٍ قوية واضحة، وهذا هو المرحوم السيد محمد رشيد رضا نجده في مقدمة تفسيره ينعي على من تأثروا في تفسيرهم بنزعاتهم العلمية، فشغلوا تفاسيرهم بمباحث النحو، والفقه، ونكت المعاني والبيان، والإسرائيليات، وغير ذلك، ويَعُدُّ هَذَا صَارِفًا يصرف الناس عن القرآن وهديه، ثم ينعي على الفخر الرازي ما أورده في تفسيره من العلوم الحادثة في الملة، ويعد هذا صارفًا يصرف الإنسان عن القرآن وهديه، كما يتوجه بمثل هذا اللوم على من قلد الفخر الرازي في مسلكه من المعاصرين.

ويقول الذهبي: "أظنه أراد بذلك صاحب (الجواهر) وذلك حيث يقول: وقد زاد الفخر الرازي صارفًا آخر عن القرآن هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها، وقلده بعض المعاصرين بإيرادِ مثل هذا من علوم هذا العصر، وفنونه الكثيرة الواسعة، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولا طويلة بمناسبة كلمة مفردة كالسماء والأرض يذكر من علوم الفلك والنبات والحيوان تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن". يقول الذهبي: "وأخيرًا فهذا هو شيخنا العلامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي -رحمه الله رحمة واسعة- نجده في تقريظه لكتاب (الإسلام والطب الحديث) لا يرضى عن هذا المسلك في التفسير رغم أنه مدح الكتاب، وأشاد بمجهود مؤلفه؛ وذلك حيث يقول: لست أريدُ من هذا -يعني ثناءه على الكتاب ومؤلفه- أن أقول: إن الكتاب الكريم اشتمل على جميع العلوم جملةً، وتفصيلا بالأسلوب التعليمي المعروف وإنما أريد أن أقول: إنه أتى بأصولٍ عامة لكل ما يهم الإنسان معرفته به ليبلغ درجة الكمال جسدًا وروحًا، وترك الباب مفتوحًا لأهل الذكر من المشتغلين بالعلوم المختلفة ليبينوا للناس جزئياتِهَا بقدر ما أوتوا منها في الزمان الذي هم موجودون فيه. وفي موضع آخر يقول: يجب أن لا نجر الآية إلى العلوم؛ كي نفسرها، ولا العلوم إلى الآية، ولكن إن اتفق ظاهر الآية مع حقيقةٍ علميةٍ ثابتة فسرناها بها، ومن هذا كله يتبين أن التفسير العلمي في العصر الحديث إن كان قد لقي قبولا ورواجًا عند بعض العلماء؛ فإنه لم يلق مثل هذا القبول والرواج عند كثير منهم، وقد علمتَ فيما سبق أي الرأيين أقرب إلى الحق وأحرى بالقبول". هكذا يقول الذهبي.

التفسير العلمي بين المؤيدين والمعارضين والمتساهلين.

التفسير العلمي بين المؤيدين والمعارضين والمتساهلين التفسير العلمي بين المؤيدين والمعارضين والمتساهلين الذين بالغوا في رفض التفسير العلمي قالوا: إن هذا تحميل لكتاب الله ما ليس من وظيفته خصوصًا بعد أن أعلن القرآن نفسه هذه الوظيفة، وحددها في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِين} (البقرة: 2) وكقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة: 15، 16). فوظيفة القرآن إذًا إنقاذ الإنسانية من الضلال لا بيان ما يتعلق بهذه العلوم الكونية. وقالوا: إن العلوم الكونية خاضعة لطبيعة الجزر والمد، وهناك أبحاث كثيرة لا تزال قلقة حائرة بين إثبات ونفي. فما قاله علماء الهيئة بالأمس ينقضه علماء الهيئة اليوم، وما قرره علماء الطبيعة في الماضي يقرر غيره علماء الطبيعة في الحاضر، وما أثبته المؤرخون قديمًا ينفيه المؤرخون حديثًا، وما أنكره وأسرفوا في إنكاره باسم العلم أصبحوا يثبتونه ويسرفون في إثباته باسم العلم أيضًا، وقالوا: فهل يليق بعد ذلك كله أن نبقى مخدوعين مغرورين بعلمهم الذي اصطلحوا عليه، وتحاكموا إليه، وقد سجنوا أنفسهم معه في سجنٍ ضيقٍ هو دائرة المادة، تلك الدائرة المسجونة هي أيضًا في حدود ما تفهم عقولهم، وتصل تجاربهم. وقد تكون عقولهم خاطئة وتجاربهم فاشلة، وقالوا أيضًا: هل يليق بعد ذلك كله أن نحاكم القرآن إلى هذه العلوم المادية القلقة الحائرة، بينما القرآن هو تلك الحقائق الإلهية العلوية الثابتة المتنزلة من أفق الحقِّ الأعلى الذي يعلم السر وأخفى. ذلك ما ذكره الزرقاني صاحب كتاب (مناهل العرفان في علوم القرآن) الجزء الثاني من صفحة 250 إلى 253.

والزرقاني يعتبر عد العلوم الكونية من موضوعات علوم القرآن، ومعارفه خطأ جسيمًا، وإسرافا خطيرًا، فيقول: "ولكن بعض الباحثين طاب لهم أن يتوسعوا في علوم القرآن ومعارفه، فنظموا في سلكها ما بدا لهم من علوم الكون، وهم في ذلك مخطئون ومسرفون". هذا يعني ملخص مذهب الرافضين، وأدلة الرافضين لقبول التفسير العلمي للقرآن. فإذا ما جئنا إلى الصنف الثاني والذي يقف على طرف النقيض الآخر، وجدناهم يتساهلون في تفسير القرآن بتلك العلوم الحديثة لدرجة هي غاية في العجب كما رأينا في كتاب (الجواهر) حتى ليكاد أمرهم يصل إلى تلمس أي كلام في مجال العلوم الحديثة ليفسروا به أي آية قرآنية، ظانين أنهم بهذا المسلك يخدمون القرآن لسبقه العلماء فيما قالوا بأكثر من أربعة عشر قرنًا. وإذا كان هؤلاء قد تساهلوا في قبول أيِّ كلامٍ ليفسروا به نصًّا قرآنيًّا بحجة إضافة براهين جديدة؛ للتدليل على صدقِ القرآن الكريم حتى ينكشف للناس أمجادٌ جديدةٌ للقرآن، ومعجزاتٌ حديثة له فيؤمنوا به، وبمن أنزله وبمن نزل عليه، إذا كان هؤلاء قد تساهلوا كل هذا التساهل؛ فإن ذلك مرفوضٌ منهم؛ فالأدلة على صدق القرآن أقوى من تلمس أيِّ كلامٍ ساقطٍ لا وزنَ له؛ لنقيم به دليلا على صحة القرآن؛ فإعجاز القرآن واضحٌ، وحجة هذا الإعجاز قوية، وهي غنيةٌ عن هذه التَّفَاهَات التي لا تصل إلى مجردِ نظرياتٍ علمية، فضلا عن استحالة أن تكون حقائق علمية ثابتة لا تقبل النقد. الترجيح في هذه المسألة: نحن أمام رأيين وقَفَا على طرفِي نقيض في قضية التفسير العلمي، وقبل أن نرجح أي الرأيين أفضل نود أن نشير إلى عدة أمور: الأمر الأول: هو أن التفسير العلمي ليس بدعة عصرية، فقد سلك الأقدمون من المفسرين في تفاسيرهم هذا النهج حيث فسروا القرآن بعلوم عصرهم كما يفعل

البعض الآن، ومن ينظر في التفاسير ابتداءً من تفسير ابن جرير الطبري ومرورًا بتفاسير الزمخشري والفخر الرازي ثم البيضاوي ثم محمد عبده يجد فيها نماذج لهذا اللون من التفسير، ومن بعد الإمام محمد عبده اتسع المجال بصورة ظاهرة للغاية، ولنضرب لذلك ثلاثة أمثلة من تفاسير ابن جرير الطبري، والزمخشري، والفخر الرازي. يقول ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} (التكوير: 15، 16) يقول: "اختلف أهل التأويل في الخنس الجوار الكنس، فقال بعضهم: هي النجوم الدراري الخمسة تخنس في مجراها فترجع وتُكنس، يعني: تُحبس في مجراها فتستتر في بيوتها كما تُكنس الظباء في المغارة. والنجوم الخمسة -كما يقولون- هي زحل، وعطارد، والزهري والمشتري وغير ذلك، وقال آخرون: هي بقر الوحش التي تُكنس في كُنَاسِها، وقال آخرون: هي الظباء، ثم عقب ابن جرير على هذه الأقوال بقوله: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يُقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بأشياء تخنس أحيانًا، أي: تغيب وتجري أحيانًا وتُكنس أخرى، وكنوسها هو الإيواء في مكانها، والمكانس عند العرب هي المواضع التي تأوي إليها بقر الوحش والظباء، وغير منكر أن يُستعار ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء، فإذا كان ذلك كذلك ولم يكن في الآية دلالة على أن المراد بذلك النجوم دون البقر، ولا البقر دون الظباء؛ فالصواب أن يعم بذلك كل ما كانت صفته الخنوس أحيانًا والجري أخرى". ويقول الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} (يس: 38): "أي لحد لها مؤقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة شُبه بمستقر المسافر إذا قطع سيره، أو لمنتهى لها من المشارق والمغارب؛ لأنها تتقصاها مشرقًا

مشرقًا، ومغربًا مغربًا حتى تبلغ أقصاها، ثم ترجع فذلك حدها ومستقرها؛ لأنها لا تعدوه ولا تتجاوزه، أو لحدٍّ لها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا، وهو المغرب وقيل: مستقرها، أي: أجلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها، فاستقرت عليه، وهو آخر السنة، وقيل: الوقت الذي يستقر فيه، وينقطع جريها، وهو يوم القيامة". ويقول الفخر الرازي في تفسيرِ قوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} (الأعلى: 4، 5): "فيه مسألتان، المسألة الأولى: الغثاء ما يبس من النبت، فحملته الأودية والمياه، وألوت به الرياح. والمسألة الثانية: الحوة السواد، وقال بعضهم: الأحوى هو الذي يضرب إلى السواد إذا أصابته رطوبة، وفي أحوى قولان: أحدهما: أنه نعت لغثاء، أي صار بعد الخضرة يابسًا فتغير إلى السواد؛ وسبب ذلك السواد أمور أحدها: أن العشب إنما يجف عند استيلاء البرد على الهواء، ومن شدة البرودة أنها تبيض الرطب، وتسود اليابس. وثانيًا: أن يحملها السيل فيلصق بها أجزاء كدرة فتسود، وثالثها: أن يحملها الرياح؛ فتلصق بها الغبار الكثير فتسود. القول الثاني: وهو اختيار الفراء، وأبي عبيدة، وهو أن يكون الأحوى هو الأسود لشدة خضرته، كما قيل في: {مُدْهَامَّتَان} (الرحمن: 64) أي سوداوان لشدة خضرتهما، والتقدير: الذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء كقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} (الكهف: 1، 2) أي: أنزله قيمًا ولم يجعل له عوجًا. الأمر الثاني: أسلوب القرآن في حديثه عن العلوم الكونية: فقد جاء هذا الأسلوب بطريقة عجيبة؛ بحيث توائم فكر الناس أيًّا كانت ثقافتهم، وتناسب علومهم ومعارفهم مهما تطورت وتقدمت، فإذا قرأَهُ العامة؛ وجدوا فيه

هدايتهم، وإذا اطَّلَعَ عليه الخاصة في ضوء الاكتشافات الحديثة لم يجدوه متعارضًا معها؛ فيكون ذلك أدعى إلى تصديقه، واليقين بأنَّهُ من عند الله -سبحانه وتعالى- وقد اقتضَت الحكمة الإلهية في آياته الكونية أن ينزل القرآن بأسلوبٍ لا يصدم البدهي المسلَّم به عند الناس فيكذبوه، ولا ينافي الحقيقة الكونية؛ فيكون ذلك داعيًا إلى تكذيبه، إذ يسر الله سبيل الكشف لأولي العلم في مستقبل العصور. وهذا من أعجب عجائب القرآن التي لا تنقضي، ومن أدل الدلائل على أن القرآن حقًّا من عند الله، فإن التعبير عن الحقيقة الكونية بأسلوبٍ يطابقُهَا تمامًا، أو يدل عليها أولو العلم، ثم لا يصدم الناس فيما يعتقدون، ولو كان ما يعتقدونه مخالفًا تلك الحقيقة، هذا الأسلوب القرآني في التعبير عن الحقائق الكونية، أو في دلالة أولي العلم عليها أمر يعجز عنه البشر، ولا يقدر عليه إلا الله الذي أنزل القرآن بالحق هدى للناس". هذه الخاصةُ لأسلوب القرآن في الحديث عن العلوم الكونية لم يستطع الرافضون للتفسير العلمي، أو المتشددون فيه إنكارها، من هؤلاء الذين أنكروا التفسير العلمي الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني -رحمه الله- أيَّدَ أن خاصية أسلوب القرآن في الحديث عن العلوم الكونية أمر موجود ومعهود فيقول -رحمه الله-: "إن الأسلوب الذي اختاره القرآن في التعبير عن آيات الله الكونية أسلوب بارع جمع بين البيان والإجمال؛ حيث يمر النظم القرآني على سامعيه في كل جيل وقبيل، فإذا هو واضح فيما سيق له من دلالة الإنسان وهدايته إلى الله، ثم إذا هو مجمل التفاصيل يختلف الخلق في معرفة تفاريعه، ودقائقه باختلاف ما لديهم من مواهب، ووسائل، وعلوم وفنون.

ثم قال: "ولنضرب لذلك مثلا تلك الآية الحكيمة وهي قوله -عز وجل-: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} (الذاريات: 49) فإنها مرت على بني الإنسان منذ نزلت إلى الآن، ففهموا منها جميعا أن الله يدل على قدرته وإبداعه وكماله بأنه خلق من الأشياء متنوعات مختلفة الأشكال والخصائص، لكنهم اختلفوا بعد ذلك؛ فالأوائل يُكثر عنهم أن الزوجين في الآية الكريمة هما الأمران المتقابلان معًا لا بخصوص الذكورة والأنوثة، روي عن الحسن: أنه فسر الزوجين بالليل والنهار، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والبر والبحر، والحياة والموت، وهكذا. عدد أشياء وقال: كل اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثيل له، أما المتأخرون: ففهموا أن الزوجين في الآية هما الأمران المتقابلان للذكورة والأنوثة، ويقولون: إنه ما من شيء في الوجود إلا منه الذكر والأنثى، سواء في ذلك الإنسان والحيوان والجماد وغيرها مما لا نعلمه. ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُون} (يس: 36) ويقولون: إن أحدث نظرية في أصول الأكوان تقرر أن أصول جميع الكائنات تتكون من زوجين اثنين، وبلسان العلم الحديث: إلكترون وبروتون، فإذا عُلم أن التفسير العلمي للقرآن ليس بدعة عصرية، وأنه موجود منذ أن فسر العلماء هذا القرآن الكريم، وإذا عُلم أسلوب القرآن في حديثه عن الكونيات إذا عُلم كل ذلك، وتقرر في الأذهان نقول لهؤلاء الرافضين للتفسير العلمي: إن وظيفة القرآن هي هداية الناس، واستدلالهم على ذلك بقوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} (البقرة: 2) هو هداية للمتقين. نقول لهؤلاء الرافضين والرد على احتجاجهم: بأن وظيفة القرآن متمثلة في قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} هل العلوم الكونية تعتبر إضلالا للناس؟ وهل يعدو الأخذ بالثابت منها إلا وسائل لفهم القرآن واليقين بأنه الحق من الله، كما قال -عز وجل-:

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق} (فصلت: 53). إن لله كتابين بهما يهدي خلقه إليه؛ الكتاب الأول: هو الكتاب المسطور وهو القرآن، والكتاب الثاني: هو الكتاب المنظور وهو الكون العظيم، فلا تعارض بين الكتابين بل كل منهما يفسر الآخر. أما قوله: إن العلوم الكونية خاضعة للمد والجزر، ولا تثبت على حال فما ثبت بالأمس ينقض اليوم، وما كان باطلا بالأمس يصير حقًا اليوم ويترتب على ذلك إن فسرنا القرآن بهذه العلوم المتقلبة تعريض القرآن لتلك التقلبات، والاضطرابات". هذه دعوى المعارضين للتفسير العلمي لكن للرد على هؤلاء يقول الدكتور محمد أحمد الغمراوي أشهر البارزين في هذا المجال في كتابه (الإسلام في عصر العلم) 264 إلى 265 يقول: "إن بعض المعترضين على أهل التفسير العلمي لكونيات القرآن يتهمونهم بأنهم يبنون تفسيراتهم على نظريات علمية لم تثبت. وهذا إذا صدق على بعضهم فليس يصدق على جميعه وأغلبهم لا يفسرون النص القرآني وهو الحق إلا بالحقيقة الثابتة في العلم، مدركين أن الدقة والاحتياط لازمان في كل بحث، وأنهما في البحوث القرآنية ألزم منهما حتى في العلوم التجريبية؛ لأن أهل هذه العلوم بعضهم رقيبٌ على بعض، وهي رقابة تكاد تكون معدومة بين الباحثين في القرآن والحديث. ثم إن أهل العلوم التجريبية عندهم الحكم بينهم الذي لا يخطئُ عند الاختلاف ألا وهو التجربة العلمية، والتحاكم إليها". يعني: هذا المؤلف يقول: إننا نفسر القرآن، أو النص القرآني بالحقيقة الثابتة في العلم وملتزمين بالدقة، والاحتياط ما لم يلتزمه الباحثون في القرآن والحديث، هذا خطأ من هذا المؤلف. ومن هذا

الدكتور؛ لأن الدقة في أبحاث القرآن والحديث موجودة على مدى الحياة، وليس هناك توثيق علمي أدق من التوثيق العلمي في أبحاث القرآن والحديث. وأيضًا يقول الأستاذ محمد كامل عبد الصمد: "ليس صحيحًا أن النظريات العلمية متغيرة دائمًا إلى الأبد، فلم تصبح نظرية كروية الأرض نظرية متغيرة مؤداها أنها مربعة، أو مثلثة، أو مسطحة، فكل الحقائق الفلكية التي تأكدت بالرصد والتصوير، ومثلها الحقائق الخاصة بالتشريح والفسيولوجيا كل هذه ثوابت، واكتشاف المفسر أنها تتوافق مع القرآن الكريم هو تأييد للقرآن وهو تثبيت للإيمان". يقول هذا في كتابه (الإعجاز العلمي في الإسلام) صفحة 25. ويقول أيضًا: "التفسير العلمي لا يؤثر في ثبات النص القرآني وإعجازه؛ لأن النص الكريم ثابت لا يعتريه تغيير ولا تبديل؛ لأنه محفوظ من الله مصداقًا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} (الحجر: 9)، فإن بدا عند التحقيق أن مفسرًا قد خرج بالتفسير عن إطارِ مدلولِ الحقيقة القرآنية؛ فإن النقض سيوجه حينئذ إلى هذه التفسيرات عينها، والذي سيرفضه الآخرون هو هذه الآراء البشرية ذاتها، ويبقى للنص القرآني قدسيتُهُ ومهابته، وروعته، وإعجازه دون أن يتأثر شيءٌ من ذلك بتأويل المفسرين العصريين". أيضًا من الردود على الرافضين للتفسير العلمي أن هناك مبادئ معينة للبحث العلمي بينها لنا القرآن، كما أن هناك قواعد خاصة لقبول هذا النوع من التفسير، فليس الأمر عبثًا، وليس الباب مفتوحًا لمن هبَّ ودَبَّ. وقال كلامًا يريد به تفسير أعظم كتاب عرفه أهل السموات والأرض، هذه القواعد، ومبادئ البحث العلمي التي وضعها القرآن موجودة في قول الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36) هذه الآية تضع للبحث، والباحث ثلاثة أسس:

الأساس الأول: صدق الخبر الذي يستند إليه الباحث، فلا يعتمد على كاذب، أو مضلل، وإلى هذا الأساس يشير قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ}. فعلى الباحث إذا استمع يجب أن يكون مصدر سمعه أهل الثقة والصدق وإلا فهو مسئول عما سمع، واعتمد عليه. الأساس الثاني: التجارب المعملية والمشاهدات المرئية؛ ليتأكد الباحث من سلامة نتائج بحثه، وإلى هذا الأساس يشير قوله: {وَالْبَصَرَ}. الأساس الثالث: ما يتوصل إليه العقل البشري من خلال التفكير والتدبر فيما ليس فيه خبر عن ثقة، أو تجربة متاحة، وإلى هذا الأساس يشير قوله: {وَالْفُؤَادَ}. وإلى جانب هذه الأسس وضع الإسلام مبادئ عامة لا بد من توافرها لتؤدي الأبحاث دورها المنشود منها وتؤتي الثمار المرجوة لها، من هذه المبادئ: حرية التفكير، وعدم التقليد الأعمى. أما المبدأ الأول: وهو حرية التفكير، فقد وسع الإسلام دائرتها؛ بحيث لا تقتصر على البحث العلمي فقط، بل جعلها شاملة لكل شيء حتى في اعتناق الإسلام ذاته قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} (البقرة: 256). وحينما شرع الإسلام للإنسان حرية التفكير؛ فإنه راعى في ذلك ناحيتين، الناحية الأولى: تكوين عقول الناس فهذا التكوين مكرم من الله عز وجل، الناحية الثانية: عدم إيجاد مؤثرات، وضغوط خارجية تؤثر على عقل الإنسان أيًا كانت تلك المؤثرات، وأيًّا كانت تلك الضغوط، فبعض الناس قد تقف أمامهم عقائد معينة، أو أنظمة خاصة تؤثر على تفكيرهم، وطريقة اختيارهم فأراد الله عز وجل ألا يجعل لذلك كله ميزانًا في اختيار ما يراه الإنسان صوابًا بعد مراعاة أسس البحث العلمي.

أما المبدأ الثاني: عدم التقليد الأعمى؛ فإن هذا التقليد ينافي الوصول إلى الحقيقة، ولقد نعى الله على الكفار هذا التقليد حيث قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 170، 171). واعتبر القرآن التقليد الأعمى للغير إنما يقود للخطأ، وربما يهوي بالإنسان إلى أسوأ مآل. قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (لقمان: 21). إن حرية التفكير وتقدير الإنسان لعقله وذاته هي التي تميزه عن كائن آخر ألقى قياده لآخر يسخره كيفما شاء ويستخدمه كيفما يشاء. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 5 من قواعد التفسير العلمي - الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.

الدرس: 5 من قواعد التفسير العلمي - الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.

القواعد التي يجب أن تراعى عند تفسير القرآن تفسيرا علميا.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (من قواعد التفسير العلمي - الإعجاز العلمي للقرآن الكريم) القواعد التي يجب أن تُراعى عند تفسير القرآن تفسيرًا علميًا الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: فبينا أن الذين رفضوا التفسير العلمي رفضًا مطلقًا ليسوا على صواب، وكذلك المتساهلون في التفسير العلمي ليسوا على صواب، لكن لا مانع أن نفسر القرآن الكريم تفسيرًا علميًّا، لكن بحسب قواعد وضوابط يلتزم بها المفسر، وهو يفسر القرآن بالعلوم الحديثة؛ فلا بد أن يراعي هذه القواعد. نذكر من هذه القواعد: أولًا: هذه النزعة التفسيرية محفوفة بالمخاطر صعبة المراس فيجب أن تؤخذ بالكثير من الحيطة والحذر، والتسلح بالعلوم الدينية والدنيوية معًا فلا يقتصر اهتمام أصحابها على ما برعوا فيه من علم دنيوي فقط؛ لأنهم أمام أخطرِ عملٍ يمارسه الإنسان ألا وهو بيانُ كتاب الله -سبحانه وتعالى-. ثانيًا: القرآن كتاب هداية إلى أحسن حال، وأعظم مآل، وقد نزل ليضع الخطوط العريضة لهذا الحال وذاك المآل، وليس من وظيفة القرآن التعرض لتفاصيل العلوم الدنيوية؛ فتلك متروكة للناس واجتهادهم، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- للناس: ((إن كان شيئًا من أمرِ دنياكم، فشأنكم به، وإن كان من أمر دينكم فإليَّ)) أخرجه ابن ماجه في كتاب الرهون باب 15. لكننا نجد في القرآن لفتاتٍ علميةً تزرع في قلب المتشكك اليقين، وتزيد المؤمن إيمانًا على إيمانِهِ، فالقرآنُ منهجٌ إلهي لسعادة الفرد، وسلامة المجتمع فيه لفتات علميةٌ تخاطب العقل؛ لتثبت له أنه وحي يوحى من عند الله، لفتات كونية، وأخرى طبيعية، وغيرها أنزلت على قلب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لتكون معجزات ٍ خالدةً على مرِّ الزمان تثبِّت الإيمان بالله، وتزيد من يقين المؤمن بكتاب الله، وترفع دعائمَ بناءٍ شامخٍ في القلب والفكر على أن سيدنا محمدًا الأمي صدقًا وحقًّا رسول من عند الله.

ثالثًا: حينما يشير القرآن إلى تلك الكونيات؛ فإنه يتحدث عنها بأسلوب لا يتعارض إطلاقًا مع أيِّ حقيقةٍ علميةٍ ثابتة، وهذا شيء بدهي؛ لأن القرآن قول الله، والكون فعل الله، ويستحيل أن يتعارض قول الله مع فعل الله. رابعًا: يجب علينا أن ننظر إلى ما في القرآن على أنه حقائق فما وافق من الاكتشافات الحديثة على وجه اليقين قبلناه فمعنى هذا أننا لا نريد أن نثبت القرآن بالعلم، بل إن العلم هو الذي يجب أن يثبت، ويلتمس الدليل من آيات القرآن؛ ذلك أن القرآن أصدق من أيِّ علمٍ من علومِ الدنيا، ومن أي علم في هذا العالم؛ لأن مكتشف هذا العلم أو مخترعه بشر، وقائل القرآن هو الله -سبحانه وتعالى. خامسًا: لا يجوز لنا أن نعدل عن حقيقة اللفظ القرآني، ونتجه إلى معنى مجازي إلا إذا كانت هناك قرائن قوية تحيل الأخذ بحقيقة اللفظ، وقد وقع كثيرٌ من العلماء في أخطاء جسيمة حينما عدلوا عن حقيقة اللفظ إلى معنى مجازي دون أي مبرر لذلك، وقد لوحظ على آيات القرآن أن التطابق بينها وبين العلوم الحديثة يكون أتم إذا ما روعيت هذه القاعدة بكل دقة. سادسًا: الحقائق العلمية الثابتة التي لا تقبل النقد ولا التعديل هي المعتبرة في مجال التفسير العلمي للقرآن، أما النظريات التي تحت التجربة، والخاضعة للفحص، والتمحيص، فلا مكَانَ لَهَا في هذا المجال فالآيات القرآنيةُ حقائق ثابتة فلا تفسر إلا بحقائق ثابتة. سابعًا: يجب مراعاة معاني المفردات على النحو الذي كانت مستعملة فيه أثناء نزول القرآن والحذر مما طرأ عليها من تطور بعد العهد النبوي. ثامنًا: عدم التحرر من أي قاعدة نحوية؛ فالقرآن عربي نزل بلسان عربي جارٍ على ما أَلِفُوهُ من قواعد ودلالات.

تاسعًا: يجب مراعاة الأساليب البلاغية بصورها المتعددة، ودلالاتها المتنوعة. عاشرًا: إن من خصائص الأسلوب القرآني أن عبارته حمالة أي تحتمل في كثير من الأحيان أكثر من معنى صحيح، ولا يوجد تناقض بين كل هذه المعاني. وعلى ذلك فمن المرفوض علميًّا قصر اللفظ على معنى واحدٍ وردِّ بقية المعاني الصحيحة الأخرى دون مرجح. الحادي عشر: يجب الجمع بين كل الآيات القرآنية التي تتحدث عن موضوع واحد من هذه الموضوعات الكونية فلا تترك آية في نفس الموضوع بل لا تترك آية تتصل بالموضوع ولو من بعيد؛ لأن كثيرًا من الآيات لا يمكن فهمُهُ إلا بفهم كل ما يتصل بهذه الآية. الثاني عشر: يستحيل أن يتعارض شيء من قرآن الله تعالى مع شيء ثابت من ثوابت هذا الكون؛ لأن القرآن كتاب الله المسطور، والكون كتابه المنظور؛ فهما صادران من مشكاة واحدة. الثالث عشر: يستحيل أن تتعارض آية من القرآن الكريم مع آية أخرى منه ومن ظن ذلك فمرجع ظنه إلى جهله وسوء فهمه. هذه هي قواعد التفسير للعلوم الحديثة، فإذا ما فسر مفسرٌ آية بما ظن أنه حقيقة علمية بينما الأمر ليس كذلك حيث ظهر له ما ينقض تفسيره هذا؛ فإن النقد حينئذ يجب أن يتوجه إلى التفسير لا إلى النص القرآني لأن النص القرآني ثابت لا يتغير، وألفاظه حمالة بوجوهٍ كثيرة؛ فلا نفرض عليه رأي باحث لم يعرف عن ذاته إلا النادر فضلًا عن جهله التام بأسرار هذا الكون العظيم، ومعاني القرآن الكريم.

هذه هي أهم قواعد التفسير العلمي الحديث فإذا ما طبقناها وعرفناها جاء التفسير غير مصادم للنص القرآني، وبهذا يتبين أنه لا عداوة بين العلم والدين، ولا تناقض أبدًا بين الدين والعلم؛ لأن القرآن لم يعارض العلم فليس هناك آية في القرآن تشيرُ إلى علومٍ كونية، وتتناقض مع العلم؛ فإن التناقض بين الدين والعلم غير متصور؛ لأنهما يعملان لتحقيق غرض واحد وهو تفسير الكون تفسيرًا صحيحًا، والعمل على تعميره بما يحقق سعادةَ من فيه، فإذا انفَصَلَ أحدهما عن الآخر لم يتحقق ذلك الهدف؛ إنهما جناحان لطائر واحد يريد أن يصل إلى أسعد حال، وأعظم مآل، وإن شئت قلت: هما كالإطارين لدراجة واحدة لا يمكن السير بها إلا بهما معا وفي حالة جيدة. فالانقطاع للعبادة لا يعمر الكون، والعلم بدون الدين وأخلاقه يدمر هذا الكون، وعلى ذلك فلابد للإنسان، بل وللكون أيضًا من الدين والعلم معًا فما جدوى التدين إذا ترك الإنسان عمارة الكون، وأهمل تعلم ما به يقي نفسه من أمراض الجسد، وما به يستخدم كنوز الدنيا، وينتفع بها على أحسن وجه، وما جدوى العلم إذا لم يقترن بمبادئ تهذبه، وأخلاق تقومه ليرفع الإنسانية إلى أعلى عليين من مهبطها في أسفل سافلين. إن أمامنا نماذج كثيرة ممن ظنوا أن الدين يعني الانقطاع للعبادة، ونماذج أخرى لمن ظنوا أن العلم يغني عن الدين، الأولون عاشوا الفقر والمرض والجهل والذل والآخرون عاشوا عيشة الخواء الروحي، والأمراض النفسية والتوترات العصبية، والاضطرابات السلوكية، فلم يغنِ عنهم علمهم هذا، بل كان هو السبب في معظم أمراضهم، وسوء أحوالهم. لقد هوى بهم هذا العلم الخالي من أخلاق الإسلام وتعاليم رب الكون لما فيه ومن فيه إلى مستنقعات الرذيلة، وشريعة

الغاب، فسفكوا دماء الأبرياء وهتكوا أعراض النساء، وجعلوا الحياة فوضى بلا مبدأ، ولا هدف حتى طمس الإنسانُ فطرته التي خُلِقَ عليها؛ فرأينا المرأة استرجلت، وشاهدنا من الرجال نوعًا ثالثًا فلا هم رجال لهم صفات الرجولة الشريفة، ولا هم نساء لهم صفات الأنوثة وأعضاؤها، وإنما هم بين بين لهم من الرجال أعضاؤهم، ومن النساء صفاتهن، وسلوكهن الشائن. إن القول بالعداوة بين الدين والعلم برز بصورةٍ واضحةٍ في القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر حينما اكتشف العلماء كثيرًا من أسرار هذا الكون فظنوا أن الدينَ وهْمٌ، وأنهم ليسُوا بحاجةٍ إليهِ، واعتقدوا أن هذا النظام البديع للكون ناتج عن تلك الأسباب. إن هؤلاء الذين يزعمون أنهم باكتشافاتهم هذه قد وقفوا على أن الكون لا إله له، إنما هم في غاية الجهل؛ لأنهم لم يكتشفوا إلا أسلوب العمل في الطبيعة، وهذا في حد ذاته لا ينافي وجود الإله بل هو أدعى إلى القول بوجوده، وآكد للتساؤل عمن أوجد هذا الأسلوب، وأبدع تلك الأسرار، وسبب تلك الأسباب. لطائرة تقلع من مكان وتهبط في مكان ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك؟ إنه هو هذا السؤال كيف أقلعت وكيف طارت وكيف هبطت؟ وبعد وقوفه على أسباب ذلك أيستطيع أن يزعم بعدم وجود قائد خلف هذا الإقلاع والطيران والهبوط إننا يجب أن نعترف بمن صنع تلك الطائرة وأجهزتها، ووضع قواعد إقلاعها وطيرانها وهبوطها فلا يمكن للطائرة أن تعمل كل هذا العمل إلا من خلال أياد كثيرة، وقفت وراءها. إن فرية العداء بين الدين والعلم ظهرت واضحة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، لكن القرن العشرين يهدم فرية العداء بين الدين والعلم؛ لأن العلم قد وافق الحقائق الموجودة في الآيات القرآنية، إذًا لا عداء بين الدين والعلم، بل

قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.

الدين يدعو إلى العلم وأول آية نزلت في القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1) ويقول سبحانه: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9). قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم بعد أن أسهبنا القول في التفسير العلمي نأتي بعد ذلك إلى الإعجاز العلمي للقرآن الكريم: لكن قبل أن نخوض في هذه المسألة نتحدث عن البيئة العلمية التي نزل فيها القرآن والسنة: لقد أرسل اللهُ -سبحانه وتعالى- محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلى الناسِ كافةً على اختلاف عصورهم وثقافاتهم، ومداركهم وأيده ببينات متنوعة تتناسب مع جميع من أُرسل إليهم إلى يوم القيامة؛ فمعجزة الفصاحة في كتاب الله أخضعت فصحاء العرب، ومعجزة البشارات أقامت الدليل لأهل الكتاب على صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعجزة الخوارق أرغمت الكافرين المعاندين وأوضحت لهم حجةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- الساطعة. ومعجزة الإخبار بالغيب تجلت ولا تزال تتجلى، وتتحقق على مر القرون والعصور، لكن هناك معجزة أخرى وعد بها القرآن، وتجلت في عصرِنَا، وشاهد حقائقها أهل الاختصاصات الكونية العلمية الدقيقة في عصرنا كعلم الفلك، وعلوم الأرض، والأرصاد، والنبات، والحيوان، وعلوم الطب المختلفة، وعلوم البحار وغيرها من العلوم الكونية ليكون ذلك دليلًا لكل عاقل في عصرنا أن هذا القرآن نزل من عند الله، وأن العلامة الإلهية الشاهدة بأنه من الله هي العلم الذي تحمله الآيات، وتجليه الاكتشافات العلمية الدقيقة بعد رحلة طويلة

من البحث، والدراسة، وباستخدام أدق الآلات التي لم تصنع إلا في عصر الثورة الصناعية الحاضرة. ولقد أشار القرآن إلى هذا النوع من الإعجاز، ووعد بإظهاره في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53). إن البينة أقصد المعجزة القرآنية الموجودة بين أيدينا والباقية بعدنا إلى ما شاء الله تحمل الرسالة الإلهية إلى البشر، كما تحمل الدليل على صدق هذه الرسالة فهي الشاهد والمشهود عليه كما قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} (هود: 17). أي: أفمن كان على بينة من ربه كمن ليس كذلك، والبينة البرهان الذي يدل على الحق، والمعنى: ويتلو البرهان الذي هو البينة شاهد يشهد بصحته من القرآن أو من الله -عز وجل- والشاهد هو الإعجاز الكائن في القرآن أو المعجزات النبوية، والقرآن معجز بلفظه ومعناه؛ لأنه من عند الله فألفاظه إلهية ومعانيه وعلومه إلهية، وكل منها يدل على المصدر الذي جاء منه هذا القرآن، وهو بذلك أكبر دليل وشهادة بين أيدينا. قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19). فهو رسالة ومعجزة لمن نزل عليهم ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، وقد جعل الله العلم الإلهي الذي تحمله آيات القرآن هو البينة الشاهدة على كون هذا القرآن من عند الله. قال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النساء: 166) أي: أنزله وفيه علمه ففي هذه الآية بيان لطبيعة المعجزة العلمية التي نزلت ردًّا على إنكار الكافرين لنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- التي تبقى بين يدي الناس، وتتجدد مع كل فتح بشري في آفاق العلوم والمعارف ذات الصلة بمعاني الوحي الإلهي.

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "فالله يشهد بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن العظيم؛ ولهذا قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي: فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل، وكل آية من كتاب الله تحمل علمًا إلهيًّا يعرفه البشر عند ارتقائهم بأسباب العلوم والمعارف في الميدان الذي تتحدث عنه الآية القرآنية، والقرآن مليء بالآيات التي تتحدث عن مظاهر الكون وحديثه عن الكون هو حديث من يعلم أسراره ودقائقه؛ لأنه هو الذي خلقه، وأوجده فهو الأعلم بحقائقِهِ، ودقائقِهِ". مع أن البشرية كلها في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تكن تعلم تلك الأسرار، بل كانَ يَغْلِبُ على تفكيرها الأسطورة والخرافة، لكن القرآن الكريم أوقفهم على الحقائق؛ لأن القرآن الكريم إذا كان من عند محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو مملوء بالوصف لمظاهر الكون الأرض السماء الجبال، البحار، الأنهار، الشمس، القمر، النبات، الحيوان، الإنسان، الرياح الأمطار، وغير ذلك؛ فإن حديثه عن هذه المظاهر الكونية سيعكس لنا علم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وثقافته عن المخلوقات وأسرارها كما يعكس لنا علم مجتمعه وبيئته وعلوم عصره في ذلك المجال، وهي علوم غلبت عليها السذاجة والخرافة والأسطورة فكان ينبغي أن نجد القرآن عندنا مملوءا بالخرافة، والأسطورة، والخبر الساذج عند حديثه عن الكون وأسراره، كما هو شأن كل الكتب التي دونت في تلك الأزمنة بما فيها الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى التوراة والإنجيل التي طرأ عليهما التحريف. هذا إذا كان القرآن من عند سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم. أما إذا كان القرآن من عند الله؛ فسنراه في حديثه عن المخلوقات وأسرارها يسبق مقررات العلوم الحديثة، وهذه الاكتشافات العلمية تلهث وراء القرآن، فتقرر ما فيه من حقائق وتؤكد ما فيه من مقررات في شتى المجالات والله -سبحانه وتعالى- وعد بذلك وقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: 53).

الإعجاز القرآني.

الإعجاز القرآني القرآن الكريم كتاب معجز {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) أعجز العرب ببلاغته وبيانه الشامل للفظ والتركيب والمعنى، وقد اعتنى علماء المسلمين بإعجاز القرآن الكريم فألفوا رسائل وكتبًا كثيرة في ذلك الوقت، كما كتب فيه المعاصرون رسائل ومؤلفات قيمَةً أيضًا وإن كان الجانب الأبرز وقت نزول القرآن هو إعجازه البياني، إلا أن إعجاز القرآن يشملُ جوانبَ عديدة، والإعجاز في اللغةِ مشتقٌّ من العجز والضعف وعدم القدرة، وهو مصدر أعْجَزَ، ومعناه: الفوت والسبق. والمعجزة في اصطلاح العلماء أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم من المعارضة، وإعجاز القرآن يقصد به إعجازه للناس في عدم قدرتهم على الإتيان بمثله. وقد ثبت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تحدى العرب بالقرآن على مراحل ثلاثة: 1 - تحداهم بالقرآن كله في سورة الإسراء، وذلك في قول الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88). 2 - ثم تحداهم القرآن بعشر سور من القرآن؛ وذلك في قول الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (هود: 13، 14). 3 - ثم تحداهم بسورةٍ واحدة من القرآن في سورتي يونس والبقرة في قول الله تعالى في سورة يونس: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (يونس: 38) وقول

وجوه إعجاز القرآن.

الله تعالى في سورة البقرة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 23) ومع صدق هذا التحدي عجز العرب عن تحدي القرآن، وقد كانت العربية في ريعان شبابها وقوتها وإلى اليوم وحتى آخر الزمان. وجوه إعجاز القرآن القرآن معجز في ألفاظه وأسلوبه وفي بيانه ونظمه وفي تشريعاته وأحكامه الرامية لتكوين مجتمع إنساني مثالي واقعي، كما أنه معجز فيما احتوى من علوم ومعارف لم يجمعها كتاب قبله ولا بعده، وتحققت باكتشافات العلماء لبعضها في العصور المتأخرة كحقائق ثابتة. وقد اشتهر في كتب علوم القرآن من وجوه الإعجاز الإعجاز اللغوي. إن القرآن الذي عجز العرب عن معارضته لم يخرج عن سنن كلامهم ألفاظًا وحروفًا تركيبًا وأسلوبًا، ولكنه في اتساق حروفه وطلاوة عبارته وحلاوة أسلوبه وجرس آياته ومراعاة مقتضيات الحال في ألوان البيان في الجمل الاسمية والفعلية، وفي النفي والإثبات، وفي الذكر والحذف، وفي التعريف والتنكير، وفي التقديم والتأخير، الحقيقة والمجاز، وفي الإطناب والإيجاز وفي العموم والخصوص، وفي الإطلاق والتقييد، وفي النص والفحوى. هكذا في كل ما سبق نجد القرآن هو القمة التي تعجز أمامها القدرة اللغوية لدى البشر أجمعين، وعلماء اللغة العربية هم أدرى الناس بذلك وهم يعلمون أن قريشًا الذين نزل القرآن بلغتهم هم أوضحُ العربِ لسانًا وأقدرهم بيانًا، بل هم حكام

أسواق البلاغة والبيان في عكاظ، وذي المجنة والمجاز، وهم من أدرك عظمة بيانِ القرآن، وجلال كلامه، وقد تحداهم الله أن يأتوا بمثله فلم يقدروا على ذلك. ثانيًا: من وجوه الإعجاز: الإعجاز التشريعي؛ عرفت البشرية في عصور التاريخ ألوانًا من المذاهب والنظريات، والنظم والتشريعات التي تستهدف سعادة الفردِ في مجتمعٍ فاضلٍ، وكَتَبَ الكثيرُ من الفلاسفة عن المدينة الفاضلة، ولكن واحدًا من تلك المذاهب لم يبلغ من الروعة والجلال مبلغ القرآن في إعجازه التشريعي؛ فهو يبدأ بتربية الفرد حيث يحرر وجدانه بعقيدة التوحيد: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1). ويأمر بأداء العبادات من صلاة وزكاة وصوم وحج، ويدعوه إلى الأخلاق الحسنة كالإيثار والجود، والكرم، والصبر، والأمانة، ويغرس في نفسه المسئولية الفردية: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر: 38) وفي قول الله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286). وينتقل القرآن إلى بناء الأسرة؛ لأنها نواة المجتمع فيشرع الزواج ويقيم رباط الأسرة على الود والرحمة، والسكن النفسي، والعشرة بالمعروف ومراعاة خصائص الرجل وخصائص المرأة، ويقرر القرآن كيفية قيام الدولة التي تسود المجتمع، وصفات حكومتها فهي حكومة تقوم على الشورى. قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران: 159) وهي حكومة تقوم على العدل المطلق في نطاق القدرة البشرية. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء: 135). والتشريع في الحكومة المسلمة ليس متروكًا للناس، وإنما هو مقرر من الله في القرآن والسنة النبوية المطهرة. قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة: 44) والقرآن يقرر صيانة الضرورات

الخمس للحياة الإنسانية، إذ يستحيل قيام كيان اجتماعي يسوده العدل والأمن النفسي والاجتماعي إلا بالمحافظة على الدين، والنفس، والعرض والمال والعقل. ويقرر القرآن أيضًا العلاقات الدولية في الحرب والسلم بين المسلمين وجيرانهم، أو معاهديهم، وهي أرفع معاملة عُرِفَتْ في عصورِ الحضَارَةِ الإنسانية، وبهذه التشريعات أخرج القرآن خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران: 110). ثالثًا: من وجوه إعجاز القرآن: إعجاز الهداية، وهي أن هذا الدين هو دين الفطرة التي فطر الناس عليها، فإذا حَلَّ في أمةٍ استوطنها؛ فصار جزءًا من كيانها، وما دخل أرضًا إلا وبقي فيها رغم ما يصيب أهلها من الابتلاء في دينهم. رابعًا: من وجوه إعجاز القرآن: الإعجاز الغيبي. مثل: إخبار القرآن الكريم بانتصار الروم على الفرس بعد هزيمتهم، والذي تحقق بعد بضع سنوات في قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} (الروم: 1 - 4). خامسًا: من وجوه إعجاز القرآن: الإعجاز العلمي: لقد شاع مصطلح الإعجاز العلمي في عصرنا للدلالة على أوجه إعجاز القرآن التي كشفت عنها العلوم الكونية بما يوجب التعريف به، والمقصود بالعلم في هذا المقام العلم التجريبي.

الإعجاز العلمي هو: إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما يظهر صدقه فيما أخبر به عن ربه -سبحانه وتعالى- وهو باب من أبواب الإعجاز الغيبي. أهمية الإعجاز العلمي: لما كانت الرسل -عليهم السلام- قبل رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- يبعثون إلى أقوامهم خاصة، ولأزمنة محدودة فقد أيدهم الله ببينات حسية، يعني: بمعجزات حسية كالعصا لموسى -عليه السلام- وإحياء الموتى بإذن الله على يد عيسى -عليه السلام- وتستمر هذه المعجزات الحسية محتفظةً بقوة إقناعها في الزمن المحدد لرسالة كل رسول، حتى إذا تطاول الزمن، وتقادم، وضعف أثر تلك الرسالة الصافي، واختفت قوة إقناعها الحسية؛ فعندئذ يبعث الله رسولًا آخر، ويؤيده بمعجزة جديدة مناسبة لما برع فيه أهل زمانه. ولما ختم الله الرسالات بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ضمن له حفظ دينه، وأيده ببينات، أي: معجزات حسية؛ من ذلك نبع الماء بين أصابعه وحنين الجذع، وتسبيح الحصى، وزاده على ذلك بمعجزة كبرى تبقى بين أيدي الناس إلى قيام الساعة، ألا وهي القرآن الكريم. هذه المعجزة التي يتجدد عطاؤها مع كل فتحٍ بشري في آفاق العلوم والمعارف ذات الصلة بمعاني الوحي الإلهي؛ من ذلك في عصرنا هذا الإعجاز العلمي في القرآن والسنة قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ أرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)) فمعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه للعادة في أسلوبه، وفي بلاغته، وإخباره بالمغيبات مستمر، فلا يمر عصر من العصور إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه، فعم نفعُهُ من حَضَرَ ومن غَاب، ومن وُجِدَ ومن سيُوجَدُ. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 6 الضوابط اللازمة للتعامل مع قضية الإعجاز العلمي.

الدرس: 6 الضوابط اللازمة للتعامل مع قضية الإعجاز العلمي.

معنى إعجاز القرآن الكريم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (الضوابط اللازمة للتعامل مع قضية الإعجاز العلمي) معنى إعجاز القرآن الكريم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: نبدأ أولًا بمعنى: إعجاز القرآن الكريم. إعجاز القرآن الكريم معناه: عجْز الخلق أجمعين إنسهم وجنهم، فرادى ومجتمعين عن أن يأتوا بشيء من مثله؛ ولذلك أنزل ربنا -عز وجل- في محكم كتابه هذا التحدي الأزلي الذي يقول فيه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88) ويقول سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 23، 24). ويقول سبحانه: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (يونس: 37، 38). ويقول سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (هود: 13) ويؤكد الله سبحانه على كمال القرآن الكريم فيقول: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء: 82) ويقول سبحانه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الواقعة: 77 - 80). ويقول سبحانه: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (البروج: 21، 22) ويقول سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2) ويقول سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (النساء: 105). وإعجاز القرآن الكريم معناه: عجز الخلق قاطبة عن الإتيان بشيء من مثله وهو كتاب معجز في بيانه، ولفظه معجز في فصاحته، وبلاغة أسلوبه معجز في كمال

رسالته، ومضمونه، وقد أنزل للناس كافة بدين الإسلام الذي علمه ربنا لأبينا آدم -عليه السلام- لحظة خلقه، وقرر إنزاله على فترة من أنبيائه ورسله، وأكمله وأتمه، وحفظه في هذه الرسالة الخاتمة المنزلة على خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين. وعلى ذلك فالقرآن الكريم معجز في مجموع العقائد التي يدعو الناس إلى الالتزام بها، وفي مجموع العبادات التي يدعو الناس إلى ممارستها، معجز في دستوره الأخلاقي الفريد، وفي كل تشريع من تشريعاته المبهرة بدقته، وعدله، وشموليته، وتفاصيله. والقرآن الكريم معجز كذلك في استعراضه التاريخي لعددٍ من الأمم السابقة، ولكيفية تعاملها مع رسل ربها، ولأسلوب مكافأتها أو عقابها، معجز في أسلوبه التربوي الفريد، وخطابه النفسي الدقيق، وفي إنبائه الحق بالغيب، وفي إشاراته العديدة إلى الكون ومكوناته وظواهره، وهذا الجانب الأخير من جوانبِ الإعجاز في كتاب الله هو المقصود بتعبير الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ويقصد به سبق هذا الكتاب العزيز بالإشارة إلى عددٍ من حقائق الكون وظواهره التي لم يتمكن العلم الكسبي من الوصول إلى فهم شيء منه إلا بعد قرون متطاولة من تنزل القرآن الكريم تزيد عن العشرة قرون كاملة في أقل تقدير لها. ولا يمكن لعاقل أن يتصور لهذه الحقائق العلمية مصدرا غير الله الخالق سبحانه، وفي إثبات ذلك تأكيد أن القرآن الكريم هو كلام الإله الخالق وتصديق للنبي والرسول الخاتم الذي تلقاه -صلى الله عليه وسلم- في نبوته ورسالته، وفي التبليغ عن ربه، والإعجاز العلمي للقرآن الكريم أسلوب في الدعوة إلى دين الله بلغة مناسبة لعصر تفجر المعرفة العلمية وتطور الوسائل التقنية الذي نعيشه.

وقد سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى ذلك. يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (الأنعام: 44). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ * وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سبأ: 5، 6) وقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53). وقوله سبحانه: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النساء: 166) وقوله سبحانه: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 19). وقوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: 66، 67). وقوله سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (هود: 13، 14). وقوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (الفرقان: 6) وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل: 93) وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 87، 88) وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (الشورى: 29).

الضوابط اللازمة للتعامل مع قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.

الضوابط اللازمة للتعامل مع قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم من الاستعراض السابق يتضح لنا بجلاء أن إثبات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عصر التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه هو من مواقفِ التحدي للناس كافة مسلمين وغير مسلمين؛ لأن كتابا أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على نبيٍّ أميٍّ -صلى الله عليه وسلم- وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين وعلى الرغم من ذلك؛ فإن هذا الكتاب يحوي من حقائق الكون وسننه ما لم يتوصل إنسان إلى معرفته إلا بعد مجاهدات طويلة قام بها عشرات الآلاف من العلماء عبر تاريخ البشرية الطويل، وتركز في القرون القليلة المتأخرة بصفة خاصة، والمتحدي لابد وأن يكون واقفا على أرضية صلبة، وعلى ذلك فلا يجوز توظيف شيء في هذا المجال غير الحقائق القطعية الثابتة حتى يبلغ التحدي مداه في مجال إثبات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم. وهذا الالتزام واجب حتمي في التعرض للآيات الكونية في كتاب الله باستثناء آيات الخلق بأبعادها الثلاثة: خلق الكون، خلق الحياة، خلق الإنسان؛ وذلك بسبب أن عملية الخلق لا تخضع للإدراك المباشر من المخلوقين وفي ذلك يقول الحق سبحانه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (الكهف: 51). ولكن القرآن الكريم الذي جاء بهذه الآية الكريمة يأمرنا ربنا سبحانه فيه بضرورة التأمل في قضية الخلق، وهي قضية غير مشاهدة من قِبَلِ الإنسان، وذلك في عددٍ غير قليل من الآيات القرآنية الكريمة التي منها قوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ

فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت: 19، 20). وقوله سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 190، 191). والجمع بين هذه الآيات الكريمة وأمثالها كثير في كتاب الله يؤكد على أن خلق كل من السموات والأرض، وخلق الحياة، وخلق الإنسان قد تم في غيبة كاملة من الوعي الإنساني، ولكنّ الله من رحمته بنا قد أبقى لنا في صخور الأرض، وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية ما يمكنه أن يعين الإنسان بإمكاناتِهِ المحدودة على الوصول إلى تصور ما لعملية الخلق إلا أن هذا التصور يبقى في مجالِ الفروض، والنظريات. ولا يمكن أن يرقى إلى مقام الحقيقة أبدا؛ لأن الحقيقة العلمية لا بد، وأن تكون واقعة تحت حس الإنسان وقدراته منهم؛ فإن العلوم المكتسبة لا يمكن أن تتجاوز في قضيةِ الخلق بأبعاده الثلاثة مرحلة التنظير أبدا؛ ولذلك تتعدد النظريات في قضايا الخلق بتعدد خلفيات واضعيه هل هم من المؤمنين الموحدين أم من الكفار أو من المشركين، أو من المشككين، وهل هم من السعداء في حياتهم، أم من التعساء والأشقياء والمهمومين؟ وهل هم من الأسوياء، أم من المنحرفين؟. وفي هذا الخضم يبقى للمسلم نور من الله في آية قرآنية كريمة، أو في حديث نبوي صحيحٍ مرفوع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعينه على الانتصار لإحدى هذه النظريات، والارتقاء بها إلى مقام الحقيقة، لا لأن العلوم المكتسبة قد أثبتت ذلك، ولكن لمجرد وجود إشارة إلى تلك الحقيقة في كتاب الله الخالق، أو في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم.

يقول الدكتور زعلول النجار في كتابه (السماء): "ونحن في هذه الحالة نكون قد انتصرنا للعلم بالقرآن الكريم أو بسنة خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- ولم ننتصر بالعلم لأي منهما، أما باقي الآيات الكريمة التي تعرض لها القرآن الكريم فلا يجوز أن نوظف في الاستشهاد على سبقها العلمي إلا بالحقائق القطعية الثابتة التي لا رجعة فيها، وبالضوابط المنهجية التالية: 1 - حسن فهم النص القرآني الكريم وفق دلالات الألفاظ في اللغة العربية ووفق قواعد تلك اللغة العربية، وأساليب التعبير فيها؛ وذلك لأن القرآن الكريم قد أنزل بلسان عربي مبين. 2 - فهم أسباب النزول والناسخ والمنسوخ إن وجدت وفهم الفرق بين العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصل من آيات هذا الكتاب الحكيم. 3 - فهم المأثور من تفسير المصطفى -صلى الله عليه وسلم- والرجوع إلى أقوال المفسرين من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم إلى الزمن الحاضر. 4 - جمع القراءات الصحيحة المتعلقة بالآية القرآنية الكريمة إن وجدت. 5 - جمع النصوص القرآنية المتعلقة بالموضوع الواحد، ورد بعضها إلى بعض بمعنى فهم دلالة كل منها في ضوء الآخر؛ لأن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا، كما يفسر الصحيح من أقوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولذلك كان من الواجب توظيف الصحيح من الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بموضوع الآية المتعامل معها كلما توفر ذلك؛ وذلك لحسن فهم النص القرآني الكريم. 6 - مراعاة السياق القرآني للآية أو الآيات المتعلقة بإحدى القضايا الكونية دون اجتزاء للنص القرآني عما قبله وعما بعده.

7 - مراعاة قاعدة: أن العبرة هي بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. 8 - عدم التكلف أو محاولة لَيِّ أعناقِ الآيات من أجل موافقتها للحقيقة العلمية؛ وذلك لأن القرآن الكريم أعز علينا، وأكرم عندنا من ذلك؛ لأنه كلام الله الخالق، وعلم الخالق بخلقِهِ هو الحق المطلق، الكامل الشامل المحيط بكل علمٍ آخر، وهو لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. 9 - عدم الخوضِ في القضايا الغيبية غيبة مطلقة، كالذات الإلهية، والروح والملائكة، والجن، وحياة البرزخ، وحساب القبر، وقيام الساعة، والبعث والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، والتسليم بالنصوص الواردة فيها تسليما إيمانيًّا كاملا، انطلاقا من الإيمان بكتاب الله، وبسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وبعجز الإنسان عن الوصول إلى مثل هذه الغيوب المطلقة. 10 - التأكد على أن الآخرة لها من السنن والقوانين ما يغاير سنن الدنيا وأنها لا تحتاج السنن الدنيوية الرتيبة لحدوثها فهي كما وصفها ربنا سبحانه أمر فجائي منه سبحانه بكن فيكون، أي: بين الكاف والنون وصدق الله العظيم إذ يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 187). وعلى الرغم من ذلك فإن الله سبحانه من رحمته بنا قد أبقى لنا في صخور الأرض، وفي صفحة السماء أعدادا كثيرة من الشواهد الحسية التي تقطع بفناء الكون، وبحتمية الآخرة، وأن الإشارة إلى تلك الشواهد الكونية لا يمكن أن يفسر بمحاولة التعرف على موعد الآخرة؛ لأنها غيب من الغيوب المطلقة التي لا يعلمها إلا الله؛ ولأنها لن تتم بالسنن الكونية المشاهدة في هذه الحياة.

11 - توظيف الحقائق العلمية القاطعة التي لا رجعة فيها في الاستشهاد على الإعجاز العلمي للآية، أو الآيات القرآنية في الموضوع الواحد، أو في عدد من الموضوعات المتكاملة، وذلك في جميع الآيات الكونية الواردة في كتاب الله، فيما عدا قضايا الخلق والإفناء والبعث التي يمكن فيها توظيف الآية القرآنية الكريمة للارتقاء بإحدى النظريات المطروحة إلى مقام الحقيقة. 12 - مراعاة التخصص الدقيق في مراحل إثبات وجه الإعجاز العلمي في الآية القرآنية الكريمة؛ لأن هذا مجال تخصصي على أعلى مستويات التخصص لا يجوز أن يخوض فيه كل خائض، كما لا يمكن لفرد واحد أن يغطي كل جوانب الإعجاز العلمي في أكثر من ألف آية قرآنية صحيحة، بالإضافة إلى آيات أخرى عديدة تقترب دلالاتها من الصراحة، وتغطي هذه الآيات مساحةً هائلةً من العلوم الكسبية من علم الأجنة إلى علم الفلك، وما بينهما من مختلف مجالات العلوم، والمعارف الإنسانية. 13 - يجب التفريق بين دور كلٍ من الناقل، والمحقق في قضيتي الإعجاز العلمي، والتفسير العلمي للقرآن الكريم؛ حيث إنه من أبسط ضوابط الأمانة ما يوجب على الناقل الإشارة إلى من نقل عنه حتى يأخذ كل ذي حق حقه، وحتى يكون النقل مدعما بالسند المقبول، وتجاهل هذا الخلق الإسلامي، وهذه القاعدة الأصولية فيه من الإجحاف بحقوقِ الآخرين ما لا يتناسب مع موقف المدافع عن القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة فضلا عن إضعافه للقضية ككل. 14 - الأخذ في الاعتبار إمكانية الانطلاق من الآية القرآنية الكريمة للوصول إلى حقيقة كونية لم يتوصل العلم الكسبي إلى شيء منها بعد، انطلاقا من الإيمان

الكامل بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق في صفائه الرباني، وإشراقاته النورانية، وأنه كله حق مطلق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. 15 - عدم التقليل من جهود العلماء السابقين في محاولاتهم المخلصة لفهم دلالة تلك الآيات الكونية في حدود المعلومات المتاحة في زمانهم، وذلك لأن الآية الكونية الواردة في كتاب الله تتسع دلالتها مع اتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد، حتى يظل القرآن الكريم مهيمنا على المعارف الإنسانية مهما اتسعت دوائرها، وهذا من أعظم جوانب الإعجاز في كتاب الله. 16 - التفريق بين قضيتي الإعجاز العلمي، والتفسير العلمي للقرآن الكريم: فالإعجاز العلمي يقصد به إثبات سبق القرآن الكريم للإشارة إلى حقيقة من حقائق الكون، أو تفسير ظاهرة من ظواهره قبل وصول العلم المكتسب إليها بعدد متطاول من القرون. أما التفسير: فهو محاولة بشرية لحسن فهم دلالة الآية القرآنية إن أصاب فيها المفسر فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، والمعول عليه في ذلك هو نيته، وهنا يجب التأكيد على أن الخطأ في التفسير ينسحب على المفسر، ولا يمس جلال القرآن الكريم. 17 - يجب تحري الدقة المتناهية في التعامل مع كتاب الله وإخلاص النية في ذلك والتجرد له من كل غاية، وتذكر قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: ((من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)) أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن الكريم. الحديث رقم 2950". وقد ذكر الدكتور زغلول النجار مبررات الاهتمام بقضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم؛ من هذه المبررات ما يلي:

أولا: أن القرآن الكريم أنزل إلينا لنفهمه والآيات الكونية فيه لا يمكن فهمها فهما صحيحا في إطار اللغة وحده، وذلك لشمول الدلالة القرآنية ولكلية المعرفة التي لا تتجزأ. ثانيا: أن الدعوة بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة هي الوسيلة المناسبة لأهل عصرنا عصر العلم، والتقنية الذي فتن الناس في غالبيته فيه بالعلم، ومعطياته فتنة كبيرة، ونبذوا الدينَ وراء ظهورهم، ونسوه، وأنكروا الخلق والخالق، كما أنكروا البعث، والحساب والجنة والنار وغير ذلك من الأمور؛ لأن هذه الأصول قد شوهت في معتقداتهم تشويها كبيرا ولم تعد مقنعة لهم؛ وعلى ذلك فلم يبقَ أمام أهل عصرنا من وسيلةٍ مقنعة بالدين قدر الإعجازِ العلمي في كتاب الله، وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين. ثالثا: الأصل في الحضارات أنها تتكامل فيما بينها ولا تتصارع، ولكن في زمن العولمة الذي نعيشه تحاول الحضارة المادية الغالبة بما فيها من إثم بواح، أو شرك صراح أن تمد بقيمها الهابطة، وأخلاقياتها الساقطة، وماديتها الجارفة على غيرها من الحضارات، وتوظف في ذلك كل ما توفر لها من وسائل الغلبة المادية وأسبابها، وقد أسقط الأعداء من أيدي المسلمين في هذه الأيام كل الوسائل المادية في سلسلة من المؤامرات الطويلة التي بدأت باحتلال غالبية الدول المسلمة، والعمل على تغريبها، ثم السعي الدءوب من أجل إسقاط دولةِ الخلافةِ الإسلامية بعد إنهاكها، وإضعافِهَا حتى تَمَّ إسقاطُهَا في سنة 1924 ميلادية. وتلا ذلك العمل على تمزيق الأمة إلى أكثر من خمسة وخمسين دولة ودويلة، وعلى نهب كل خيراتها وثرواتها، وتنصيب أنماط من الحكم المتعارضة عليها

للحيلولة دون إمكانية رجوعها إلى دين الله، وإمكانية توحدها في زمن التكتلات البشرية الكبيرة الذي نعيشه، ولإحكام المؤامرة ثم غرس كيان صهيوني غريب في قلب الأمة؛ لإفسادها، وإثارة الحروب والقلاقل، والفتن بين أبنائها، ولترسيخ العداوات بين الأشقاء للحيلولة دون توحدهم، وإشاعة الأفكار الهدامة، والسلوكيات المنحطة، والأخلاقيات المنهارة؛ لترسيخ تفتت الأمة والعمل على المزيد من تغريبها لتيسير الهيمنة عليها، ولم يبقَ بأيدي أمة الإسلام في زمن الغربة الذي نعيشه إلا دينها، هذا الدين الخالد الذي لا يرتضي الله من عباده دينا سواه، وهو وسيلة الدفاع الوحيدة التي بقيت بين أيدي مسلمي اليوم، وأوضح وسائله لإقامة الحجةِ على العباد في زمن العلم الذي نعيشه هو الإعجاز العلمي في كتاب الله، وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم. رابعا: أن كلا من الإسلام والمسلمين يتعرض اليوم لهجوم شرس في كافة وسائل الإعلام بغير حق، وأعداء الله في هجومهم هذا ينكرون سماوية الإسلام ربانية القرآن ونبوة خاتم المرسلين -صلى الله عليه وسلم- في وقاحة، وبجاحة سافرة، وأهم الوسائل وأنجعها للرد على هذا الهجوم هو إثبات الإعجاز العلمي لكتاب الله ولسنة رسوله بالكلمة الطيبة والحجة الواضحة البالغة والمنطق السوي. خامسا: أن العالم اليوم يتحرك في اتجاه كارثة كبرى، وقودها تطور علمي وتقني مذهل، وانحصار ديني وأخلاقي، وروحي أشد إذهالا، والتطور العلمي والتقني يطغى أصحابه، ويغريهم بإفناء، وإبادة غيرهم في غيبة الوعي الديني الصحيح، والالتزام الأخلاقي والسلوكي الذي يرعى حقوق الأخوة الإنسانية حق رعايتها، والمخرج من ذلك هو الدعوة للدين الحق، ومن أوضح وسائل الدعوة إليه هو ما في كتاب الله، وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من إعجاز علمي واضح وضوح الشمس في رابعة النهار.

سادسا: أننا معشر المسلمين قصرنا كثيرا في التبليغ عن الله، وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- وقد كلفنا بذلك ونحن نجني ثمار ذلك التقصير كله اليوم حروبا طاحنة على كل أرض إسلامية من فلسطين إلى البلقان، ومنها إلى أرض الشيشان، وكشمير وأفغانستان، وأراكان، وجنوب الفلبين، والسودان، والصومال وغيرها. ونجني أيضًا حصارا لأكثر من دولة مسلمة، ومصادرة لبلايين الدولارات من أموال المسلمين، واحتلالا عسكريا لكل من أرض فلسطين والعراق وأفغانستان وسبتة ومليلية وجزيرة ليا من الأراضي المغربية، والعديد من الجزر الأسيوية وجزر بحر إيجة التركية، وتضييقا على الملايين من الأقليات الإسلامية ومطاردة المسلمين في كل مكان من أماكن العالم، وإحكام التآمر عليهم وليست جرائم الغربيين البشعة في سجون جوانتانامو وأبو غريب وغيرها من سجون عراقية وأفغانية عديدة إلا صورة مصغرة لما يخفيه الغرب الكافر أو المشرك للمسلمين من مصير. سابعا: إن في إثارة قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين استنهاض لعقول المسلمين واستثارة للتفكير الإبداعي فيها، وتشجيع على استعادة الاهتمام بقضية العلوم والتقنية التي تخلفت فيها الأمة مؤخرا تخلفا كبيرا، في الوقت الذي تقدمت فيها دول الكفر والشرك والضلال تقدما مذهلا، حتى أصبح كم المعارف المتاحة يتضاعف كل خمس سنوات تقريبا وتقنياتها تجدد مرة كل ثلاث سنوات تقريبا؛ وبذلك أخذت الهوة الفاصلة بيننا وبينهم في مجال العلوم والتقنية تزداد اتساعا وعمقا يوما بعد يوم، وأصبحت مخاطر ذلك علينا تتضاعف مع تزايد تلك الهوة عمقا واتساعا، وعلى المسلمين مسارعة العمل على جبر هذه الهوة بأسرع وقت ممكن، وإحدى وسائلنا في ذلك الاهتمام بقضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 7 الفرق بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي.

الدرس: 7 الفرق بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي.

بيان الفرق بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (الفرق بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي) بيان الفرق بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: نبدأ ببيان الفرق بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي: يحتوي القرآن الكريم على أكثر من ألف آية صريحة تتحدث عن الكون ومكوناته وظواهره، بالإضافة إلى آيات أخرى كثيرة، تقترب دلالاتها من الصراحة، وهذه الآيات لم ترد من قبيل الإخبار العلمي المباشر للإنسان؛ وذلك لأن الكشف العلمي قد ترك لاجتهاد الإنسان، وتحصيله عبر فترات زمنية طويلة نظرا لمحدودية القدرات الإنسانية، وللطبيعة التراكمية للمعارف الكونية. ويؤكد ذلك أن تلك الآيات الكونية قد جاءت في مقامِ الاستدلال على طلاقة القدرة الإلهية في إبداع الخلق، وعلى وحدانية الخالق العظيم، وعلى أن هذا الخالق المبدع سبحانه قادر على إفناءِ خلقه، وعلى إعادةِ هذا الخلق من جديد، وهذه الآيات تحتاج إلى تفسير، كما يحتاج غيرها من آيات هذا الذكر الحكيم، وهي بحكم طبيعتها لا يمكن أن تُفْهم فهمًا دقيقًا في إطار اللغة وحدها على أهمية ذلك؛ ومن هنا كان لزامًا علينا أن نوظف المعارف الكونية النافعة، والمتاحة في تفسير تلك الآيات الكونية الواردة في كتاب الله، ولما كانت المعارف الكونية في تطورٍ مستمرٍ؛ وجب على أمة الإسلام أن ينهض منها في كل جيل نفر من علماء المسلمين الذين يتزودون بالأدوات اللازمة للتعرض لتفسير كتاب الله من مثل الإلمام التام باللغة العربية، وعلومها المختلفة، وبأصول الدين، وبأسباب النزول، وبالناسخ والمنسوخ، وبالمأثور من التفسير، وبجهود السابقين من كبار المفسرين وبالقدر اللازم من العلوم المتاحة عن الكون ومكوناته، وغير ذلك مما يحتاجه كل من يتشرف بالقيام بمثل هذه المهمة العظيمة.

وفي التفسير العلمي للآيات الكونية نوظف كل المعارف المتاحة من الحقائق والثوابت العلمية، ولكن بما أن العلم لم يصل إلى الحقيقة في كل أمر من الأمور، ولا يزال أمامه من الغيوب أكثر الكثير؛ فلا أرى -هكذا يقول الدكتور زغلول- حرجًا في مجال التفسير العلمي للقرآن الكريم من توظيف النظريات، والفروض المنطقية السائدة، والمشاهدات المتكررة؛ وذلك لأن التفسير يبقى جهدًا بشريًّا، لحسن فهم دلالة الآية القرآنية لمن أصاب فيه أجران، ولمن أخطأ أجر واحد، والخطأ في التفسير لا يمكن أن ينسحب على جلال القرآن الكريم. أما الإعجاز العلمي للقرآن: فلا يجوز أن يوظف فيه إلا القطعي من الثوابت العلمية؛ وذلك لأن المقصود بالإعجاز العلمي هو إثبات أن القرآن الكريم الذي أوحي به إلى نبي أمي -صلى الله عليه وسلم- في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين من قبل أربعة عشر قرنًا يحوي من حقائق هذا الكون ما لم يتمكن الإنسان من الوصول إليه إلا منذ عقود قليلة، وبعد مجاهدات طويلة وهذا لا يمكن لعاقل أن يتصور له مصدرًا إلا بوحي من الله الخالق البارئ المصور؛ وعلى ذلك فلا يجوز توظيف غير الحقائق القطعية الثابتة في مجال الإعجاز العلمي للقرآن الكريم؛ باستثناء آيات الخلق، والإفناء، والبعث بأبعادها الثلاثة، خلق الكون، خلق الحياة، خلق الإنسان وإفناء ذلك كله ثم بعثه، وذلك لأن هذه القضايا لا يمكن أن تخضع مباشرة لإدراك الإنسان. ومن ثم فإن العلوم المكتسبة لا يمكن أن تتجاوز فيها مرحلة التنظير، وتتعدد النظريات في مجال الخلق بتعدد خلفيات واضعيها، ويبقى للمسلم نور من الله في آية قرآنية كريمة، أو في حديث نبوي صحيح منسوب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمكن أن يعينه على الارتقاء بإحدى هذه النظريات إلى مقام الحقيقة؛ لا لأن العلوم المكتسبة قد وصلت فيها إلى الحقيقة، ولكن لمجرد وجود إشارة لها في كتاب الله، أو في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم. وهنا أيضًا لا بد من التأكيد على صعوبة التعرض لقضايا

قضية توسيع الكون.

الإعجاز العلمي في كتاب الله إلا من قبل المتخصصين كل في حقل تخصصه، فلا يقوى فرد واحد على معالجة كل القضايا الكونية التي تعرض لها القرآن الكريم من خلقِ الكونِ وإفنائه إلى خلق مراحل الجنين الإنساني المتعاقبة، إلى العديد من الظواهر الكونية المتكررة إلى غير ذلك من مختلف الآيات الكونية الواردة في كتاب الله. هذا هو الفرق بين الإعجاز العلمي، والتفسير العلمي للقرآن الكريم. قضية توسيع الكون نأتي إلى موضوع يتعلق بتوسيع الكون؛ وذلك في قول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47): قال المفسرون في معنى هذه الآية: حينما نقرأ في تفسير الفخر الرازي جزء 14 صـ 227 نجد أنه يقول: "وإنا لموسعون يقول: فيه وجوه أحدها أنه من السعة، أي: أوسعناها بحيث صارت الأرض، وما يحيط بها من الماء، والهواء بالنسبة إلى السماء وسعتها كحلقة في فلاة والبناء الواسع الفضاء عجيب؛ فإن القبة الواسعة لا يقدر عليها البناءون لأنهم يحتاجون إلى إقامة آلة يصح بها استدارتها ويثبت بها تماسك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض". هكذا قال الفخر الرازي، ثم بعد ذلك يقول الصاوي في حاشيته على الجلالين: "وإنا لموسعون من أوسع متعديًا، والفعل محذوف، أي: لموسعون السماء". (حاشية الصاوي على الجلالين) جزء 4 صـ 127، 128. يقول صاحب (الظلال): "إن الآية عودة إلى المعرض الكوني الذي افتتحت به السورة في سورة من سوره الكثيرة التي يظهرها ويجليها القرآن للقلوب، واستطراد في الإشارة إلى آيات الله هنا وهناك يصل آية نوح بآية السماء وآية

الأرض وآية الخلائق، ثم يخلص به إلى ذلك الهتاف بالبشر ليفروا إلى الله موحدين متجردين يقول: يقول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} الأيد القوة والقوة أوضح ما ينبئ عنه بناء السماء الهائل المتماسك المتناسق بأي مدلول من مدلول كلمة السماء، سواء كانت تعني مدارات النجوم والكواكب أم تعني مجموعة من المجموعات النجمية التي يطلق عليها اسم المجرة، وتحوي مئات الملايين من النجوم أم تعني طبقة من طبقات هذا الفضاء الذي تتناثر فيه النجوم والكواكب، أم غير هذا من مدلولات كلمة السماء والسعة كذلك ظاهرة فهذه النجوم ذات الأحجام الهائلة والتي تعد بالملايين لا تعدو أن تكون ذرات متناثرة في هذا الفضاء الرحيب. ولعل في الإشارة إلى السعة إيحاء آخر إلى مخازن الأرزاق التي قيل من قال: إنها في السماء، ولو أن السماء مجرد رمز إلى ما عند الله ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالا معينة يبدو أنها مقصودة في التعبير لخطاب المشاعر البشرية خطابا موحيا". انتهى كلام صاحب (الظلال) في سورة الذاريات جزء 27 صـ 3385 طبعة دار الشروق. يقول الدكتور زغلول النجار: "هذه الآية تشير إلى أن الكون الذي نحيا فيه يتسع باستمرار، وأننا إذا عدنا بهذا الاتساع إلى الوراء مع الزمن فلابد وأن يتكدس على هيئة جرم واحد". ثم يتحدث الدكتور زغلول النجار عن بدايات تعرف الإنسان على ظاهرة توسع الكون يقول: "إلى مطلع العقد الثاني من القرن العشرين ظل علماء الفلك ينادون بثبات الكون وعدم تغيره في محاولة يائسة لنفي الخلق والتنكر للخالق، حتى ثبت عكس ذلك بتطبيق ظاهرة "دوبلر" على حركة المجرات الخارجة عن مجرتنا، ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر كان العالم النمساوي "دوبلر" قد لاحظ أنه عند مرور قطار سريع يطلق صفارته فإن الراصد للقطار يسمع صوتا متصلا ذا طبقة صوتية ثابتة، ولكن هذه الطبقة

الصوتية ترتفع كلما اقترب القطار من الراصد وتهبط كلما ابتعد عنه. وفسر "دوبلر" السبب في ذلك بأن صفارة القطار تطلق عددا من الموجات الصوتية المتلاحقة في الهواء، وأن هذه الموجات تتضاغط تضاغطا شديدا كلما اقترب مصدر الصوت من الراصد، فترتفع بذلك طبقة الصوت وعلى النقيض من ذلك فإنه كلما ابتعد مصدر الصوت تمددت تلك الموجات الصوتية حتى تصل إلى سمع الراصد فتنخفض بذلك طبقة الصوت. ولاحظ "دوبلر" أن تلك الظاهرة تنطبق أيضًا على الموجات الضوئية، فعندما يصل إلى عين الراصد ضوء منبعث من مصدر متحرك بسرعة كافية يحدث تغير في تردد ذلك الضوء، فإذا كان المصدر يتحرك مقتربا من الراصد فإن الموجات الضوئية تتضاغط وينزاح الضوء المدرك نحو التردد العالي، أي نحو الطيف الأزرق وتعرف هذه الظاهرة باسم الزحزحة الزرقاء، وإذا كان المصدر يتحرك مبتعدا عن الراصد فإن الموجات الضوئية تتمدد وينزاح الضوء المدرك نحو التردد المنخفض، أي نحو الطرف الأحمر من الطيف، وتعرف هذه الظاهرة باسم الزحزحة الحمراء، وقد اتضحت أهمية تلك الظاهرة عندما بدأ الفلكيون في استخدام أسلوب التحليل الطيفي للضوء القادم من النجوم الخارجة عن مجرتنا، في دراسة تلك الأجرام السماوية البعيدة جدا عنا. وفي سنة 1914 أدرك الفلكي الأمريكي "سليفر" أنه بتطبيق ظاهرة "دوبلر" على الضوء القادم إلينا من النجوم في عدد من المجرات البعيدة عنا، ثبت له أن معظم المجرات التي قام برصدها تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة، وبدأ الفلكيون في مناقشة دلالة ذلك، وهل يمكن أن يشير إلى تمدد الكون المدرك بمعنى تباعد مجراته عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة، وبحلول سنة 1925 تمكن

هذا الفلكي نفسه "سليفر" من إثبات أن أربعين مجرة قام برصدها تتحرك فعلا في معظمها بسرعات فائقة متباعدة عن مجرتنا سكة التبانة، وعن بعضها البعض. وفي سنة 1929 تمكن "إدوان هيبل" من الوصول إلى الاستنتاج الفلكي الدقيق الذي مؤداه أن سرعة تباعد المجرات عنا تتناسب تناسبا طرديا مع بعدها عنا، والذي عرف من بعد باسم قانون "هيبل"، وبتطبيق هذا القانون تمكن "هيبل" من قياس أبعاد وسرعات تحرك 32 من تلك المجرات الخارجية وسرعة تباعدها عنا، وذلك بمشاركة من عالم كان يعمل معه في مرصد جبل "ويلسون" بولاية كاليفورنيا اسمه "ميلتون هوماسون" وذلك في بحث نشراه معا في سنة 1934 وقد أشار تباعد المجرات عنا وعن بعضها البعض إلى حقيقة توسع الكون المدرك، التي أثارت جدلا واسعا بين علماء الفلك الذين انقسموا فيها بين مؤيد ومعارض، حتى ثبتت ثبوتا قاطعا بالعديد من المعادلات الرياضية والقراءات الفلكية في صفحة السماء. وفي سنة 1917 أطلق "ألبرت أينشتاين" نظريته عن النسبية العامة لشرح طبيعة الجاذبية، وأشارت النظرية إلى أن الكون الذي نحيا فيه غير ثابت، فهو إما أن يتمدد أو ينكمش وفقا لعدد من القوانين المحددة له، وجاء ذلك على عكس ما كان "أينشتاين" وجميع معاصريه من الفلكيين وعلماء الفيزياء النظرية يعتقدونه انطلاقا من محاولاتهم اليائسة لمعارضة الخلق، وقد أصاب "أينشتاين" الذعر عندما اكتشف أن معادلاته تنبئ رغم أنفه بأن الكون في حالة تمدد مستمر، ولذلك عمد إلى إدخال معامل من عنده أطلق عليه اسم الثابت الكوني ليلغي حقيقة تمدد الكون؛ من أجل الادعاء لثباته واستقراره، برغم دوران الأجرام التي يحتويها، ثم عاد ليعترف بأن تصرفه هذا كان أكبر خطأ علمي اقترفه في حياته.

وقد قام العالم الهولندي "وليام ديسيتر" بنشر بحث في نفس السنة 1917 م استنتج فيه تمدد الكون انطلاقا من النظرية النسبية ذاتها، ومنذ ذلك التاريخ بدأ الاعتقاد في تمدد الكون يلقى القبول من أعداد كبيرة من العلماء، فقد أجبرت ملاحظات كل من "سليفر" و"ديسيتر" وكل من "هوب" و"هيوماسن" جميع الفلكيين الممارسين وعدد من المشتغلين بالفيزياء النظرية وفي مقدمتهم ألبرت "أينشتاين" نفسه على التسليم بحقيقة توسع الكون، أما مجموعة البحث العلمي بجامعة كومبوردش المكونة من كل من "هرنان جوندي" و"توماس جولد" و"فريد هويل" فقد ظلت إلى مشارف الخمسينيات من القرن العشرين تنادي بثبات الكون، ثم اضطرت اضطرارا إلى الاعتراف بحقيقة توسع الكون المدرك، وسبحان الله الخالق الذي أنزل في محكم كتابه من قبل ألف وأربعمائة من السنين قوله الحق: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47) تشير هذه الآية الكريمة إلى عدد من الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة لأحد من الخلق وقت تنزل القرآن الكريم، ولا لقرون متطاولة من بعد تنزله، منها: أولا: أن السماء بناء محكم التشييد دقيق التماسك والترابط وليست فراغا كما كان يعتقد إلى عهد قريب. وقد ثبت علميا أن المسافات بين أجرام السماء مليئة بغلالة رقيقة جدا من الغازات، التي يغلب عليها غاز الأيدروجين وينتشر في هذه الغلالة الغازية بعض الجسيمات المتناهية في الصغر من المواد الصلبة على هيئة هباءات من غبار دقيق الحبيبات، يغلب على تركيبه ذرات من الكالسيوم والصوديوم والبوتاسيوم والتيتانيوم والحديد، بالإضافة إلى جزئيات من بخار الماء والأمونيا والفورمالدهيد وغيرها من المركبات الكيميائية، وبالإضافة إلى المادة التي تملأ المسافات بين النجوم، فإن المجالات المغناطيسية تنتشر بين كل أجرام السماء لتربط بينها في بناء محكم التشييد متناسق الأطراف. وهذه حقيقة لم يدركها

العلماء إلا في القرن العشرين بل في العقود المتأخرة منه، وعلى الرغم من قلة كثافة المادة في المسافات بين النجوم، والتي تصل إلى ذرة واحدة من الغاز في كل سنتيمتر مكعب تقريبا، وإلى أقل من ذلك بالنسبة للمواد الصلبة كالغبار الكوني، إذا ما قورن بحوالي مليون مليون مليون أي عشر جزيء في كل سنتيمتر مكعب من الهواء عند سطح الأرض، فإن كمية المادة في المسافات بين النجوم تبلغ قدرا مذهلا للغاية، فهي تقدر في مجرتنا سكة التبانة وحدها بعشرة بلايين ضعف ما في شمسنا من مادة، مما يمثل حوالي 5% من مجموع كتلة تلك المجرة. ثانيًا: إن في الإشارة القرآنية الكريمة {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} (الذاريات: 47) أي بقوة وحكمة واقتدار تلميحا إلى ضخامة الكون المذهلة وإحكام صنعه، وانضباط حركاته ودقة كل أمر من أموره، وثبات سننه وتماسك أجزائه وحفظه من التصدع أو الانهيار، فالسماء لغة هي كل ما علاك فأظلك ومضمونا هي كل ما حول الأرض من أجرام ومادة وطاقة السماء التي لا يدرك العلم الكسبي إلا جزءا يسيرا منها، ويحصي العلماء أن بهذا الجزء المدرك من السماء الدنيا مائتي بليون مجرة على أقل تقدير، بعضها أكبر كثيرا من مجرتنا درب التبانة أو سكة التبانة، وبعضها أصغر قليلا منها، وتتراوح أعداد النجوم في المجرات بين المليون والعشرة ملايين وملايين الملايين. وتمر هذه النجوم في مراحل من النمو مختلفة من الميلاد إلى الطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة ثم الوفاة، ولما كان لأقرب النجوم إلينا وهي شمسنا توابع من الكواكب والكويكبات والأقمار وغيرها فإن القياس يقتضي أن يكون للنجوم الأخرى توابع، قد اكتشف عدد منها بالفعل ويبقى الكثير منها ما لم يتم اكتشافه بعد. ثالثًا: تشير هذه الآية الكريمة إلى أن الكون الشاسع الاتساع الدقيق البناء المحكم الحركة والمنضبط في كل أمر من أموره، والثابت في سننه وقوانينه قد خلقه الله

تعالى بعلمه وحكمته وقدرته، وهو سبحانه الذي يحفظه من الزوال والانهيار، وهو القادر على كل شيء، والجزء المدرك لنا من هذا الكون شاسع الاتساع بصورة لا يكاد عقل الإنسان إدراكها؛ إذ المسافات فيه تقدر ببلايين السنين الضوئية، وهو مستمر في الاتساع اليوم وإلى ما شاء الله. والتعبير القرآني {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} يشير إلى تلك السعة المذهلة. كما يشير إلى حقيقة توسع هذا الكون باستمرار إلى ما شاء الله، وهي حقيقة لم يدركها الإنسان إلا في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، حيث ثبت لعلماء كل من الفيزياء النظرية والفلك أن المجرات تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات تتزايد بتزايد بعدها عن مجرتنا، وتقترب أحيانا من سرعة الضوء المقدرة بحوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية، والمجرات من حولنا تتراجع متباعدة عنا، وقد أدرك العلماء تلك الحقيقة من ظاهرة انزياح الموجات الطيفية للضوء الصادر عن نجوم المجرات الخارجة عنا في اتجاه الطيف الأحمر، وقد أمكن قياس سرعة تحرك تلك المجرات في تراجعها عنا من خلال قياس خطوط الطيف لعدد من النجوم في تلك المجرات، وثبت أنها تتراوح ما بين 60 ألف كيلو متر في الثانية و 272 ألف كيلو متر في الثانية. وقد وجد العلماء أن مقدار الحيود في أطياف النجوم إلى الطيف الأحمر يعبر عن سرعة ابتعاد تلك النجوم عنا، وأن هذه السرعة ذاتها يمكن استخدامها مقياسا لأبعاد تلك النجوم عنا. رابعًا: تشير ظاهرة توسع الكون إلى تخلق كل من المادة والطاقة لتملأ المساحات الناتجة عن هذا التوسع، وذلك لأن كوننا تنتشر المادة فيه بكثافات متفاوتة ولكنها متصلة بغير انقطاع، فلا يوجد فيه مكان بلا زمان كما لا يوجد فيه مكان وزمان بغير مادة وطاقة، ولا يستطيع العلم حتى يومنا هذا أن يحدد مصدر كل من المادة والطاقة اللتين تملآن المساحات الناتجة عن تمدد الكون بتلك السرعات المذهلة، ولا تفسير لها إلا الخلق من العدم.

خامسًا: أدى إثبات توسع الكون إلى التصور الصحيح بأننا إذا عدنا بهذا التوسع إلى الوراء مع الزمن، فلابد وأن تلتقي كل صور المادة والطاقة كما يلتقي كل من المكان والزمان في نقطة واحدة. وأدى ذلك إلى الاستنتاج الصحيح بأن الكون قد بدأ من هذه النقطة الواحدة بعملية انفجار عظيم، وهو مما يؤكد أن الكون مخلوق له بداية، وكل ما له بداية فلابد وأن ستكون له في يوم من الأيام نهاية، كما يؤكد حقيقة الخلق من العدم لأن عملية تمدد الكون تقتضي خلق كل من المادة والطاقة بطريقة مستمرة من حيث لا يدرك العلماء، وذلك ليملأ في التو والحال المسافات الناشئة عن تباعد المجرات بسرعات مذهلة، وذلك لكي يحتفظ الكون بمستوى متوسط لكثافته التي نراه بها اليوم، وقد أجبرت هذه الملاحظات علماء الغرب على هجر معتقداتهم الخاطئة عن ثبات الكون، والتي دافعوا عنها طويلا انطلاقا من ظنهم الباطل بأزلية الكون وأبديته لكي يبالغوا في كفرهم بالخلق وجحودهم للخالق. هذه الاستنتاجات الكلية المهمة عن أصل الكون وكيفية خلقه وإبداع صنعه وحتمية نهايته؛ أمكن الوصول إليها من ملاحظة توسع الكون، وهي حقيقة من أهم حقائق علم الفلك لم يتمكن الإنسان من إدراكها إلا في الثلث الأول من القرن العشرين، ودار حولها الجدل حتى سلم بها أهل العلم أخيرا، وقد سبق القرآن الكريم بإقرارها قبل أربعة عشر قرنا أو يزيد، ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرا لتلك الإشارة القرآنية الباهرة غير الله الخالق سبحانه، فسبحان خالق الكون الذي أبدعه بعلمه وحكمته وقدرته، والذي أنزل لنا في خاتم كتبه وعلى خاتم أنبيائه ورسله عددا من حقائق الكون الثابتة، ومنها تمدد الكون وتوسعه فقال سبحانه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47) لتبقى هذه الومضة القرآنية الباهرة مع غيرها من الآيات القرآنية شهادة صدق بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وأن سيدنا ونبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- هو خاتم أنبياء الله ورسله

وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان موصولا بالوحي ومعلما من قِبل خالق السموات والأرض، وأن القرآن الكريم هو معجزته الخالدة إلى قيام الساعة. وإذا كان صدق القرآن الكريم جليا في إشاراته إلى بعض أشياء الكون وظواهره؛ فلابد وأن يكون صدقه في رسالته الأساسية؛ وهي الدين بركائزه الأربع: العقيدة العبادة الأخلاق المعاملات جليا كذلك، وهنا يتضح جانب من أهم جوانب الإعجاز في كتاب الله وما أكثر جوانبه المعجزة، ألا وهو الإعجاز العلمي، وهو خطاب العصر ومنطقه وما أحوج الأمة الإسلامية بل ما أحوج الإنسانية كلها إلى هذا الخطاب في زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه، وزمن العولمة الذي تحاول فيه القوى الكبرى على ضلالها فرض قيمها الدينية والأخلاقية والاجتماعية المنهارة على دول العالم الثالث، وفي زمرتها الدول الإسلامية بحكم غلبتها العلمية والتقنية وهيمنتها الاقتصادية والعسكرية، وقد عانت الدول الغربية ذاتها ولا تزال من الإغراق المادي الذي دمر مجتمعاتها، وأدى إلى تحللها الأسري والاجتماعي والأخلاقي والسلوكي والديني، وإلى ارتفاع معدلات كل من الجريمة والإدمان والانتحار، وإلى الحيود عن كل قوانين الفطرة السوية التي فطر الله سبحانه خلقه عليها، وإلى العديد من المشاكل والأزمات النفسية، والمظالم الاجتماعية والسياسية على المستويين المحلي والدولي لا يتسع المقام لسردها. وما أحوج علماء المسلمين إلى إدراك قيمة الآيات الكونية في كتاب الله، فيقبلوا عليها بالتحقيق العلمي المنهجي الدقيق بعد فهم عميق لدلالة اللغة وضوابطها وقواعدها، ولأساليب التعبير فيها وفهم لأسباب النزول ومعرفة بالمأثور من تفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجهود السابقين من المفسرين، ثم تقديم ذلك الإعجاز العلمي إلى الناس كافة مسلمين وغير مسلمين، مما يعد دليلا ماديا ملموسا على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وعلى أن سيدنا ونبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- هو خاتم أنبيائه ورسله في غير تكلف ولا اعتساف؛ لأن القرآن الكريم غني عن ذلك وهو

أعز علينا وأكرم من أن نتكلف له. وهذا المنهج في الاهتمام بالآيات الكونية في كتاب الله وشرح الإشارات العلمية فيها من قبل المتخصصين كل في حقل تخصصه، هو من أكثر وسائل الدعوة إلى دين الله قبولا في زمن العلم والتقنية الذي نعيشه". إذن الآية قررت بوضوح اتساع الكون وهذا ما كان ينكره الباحثون الغربيون، إلا أنهم أمام الحقائق العلمية التي تم اكتشافها منهم أقروا بأن الكون متمدد ومتسع، وهذا ما نطق به القرآن الكريم: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47) وهذا يدل دلالة صادقة على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- صادق في كل ما قاله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3، 4). وهذا الذي أقر به علماء الغرب يشهد للقرآن بأنه لا يمكن إلا أن يكون كلام الله الخالق، كما يشهد لخاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- بأنه كان موصولا بالوحي ومعلما من قبل خالق السموات والأرض، حيث إنه لم يكن لأحد من الخلق علم بهذه الحقائق الكونية في زمن الوحي ولا لقرون جاءت من بعد نزوله وتشهد هذه الآية {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47) بدقة الإشارات الكونية الواردة في كتاب الله وشمولها وكمالها وصياغتها صياغة معجزة، يفهم منها أهل كل عصر معنى من المعاني يتناسب مع المستوى العلمي للعصر، وتظل هذه المعاني تتسع باستمرار مع توسع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد، وهو من أبلغ صور الإعجاز العلمي في كتاب الله. وقول الله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47) يشهد بأن هذا الكون من صنع الله -سبحانه وتعالى- وأن حكمة الله -سبحانه وتعالى- دائمة ومستمرة وستظل معروفة للموحدين المؤمنين وستظل برهانا للكافرين المشككين، حتى يهديهم الله -سبحانه وتعالى- كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: 53). وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 8 انفجار الكون في بداية الخلق - خلق السموات والأرض.

الدرس: 8 انفجار الكون في بداية الخلق - خلق السموات والأرض.

المفسرون وقوله تعالى: {أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما}.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (انفجار الكون في بداية الخلق - خلق السموات والأرض) المفسرون وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السموات وَالْأَرْضَ كَانَتَا رتقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السموات وَالْأَرْضَ كَانَتَا رتقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30) ماذا يقول المفسرون في هذه الآية؟ أولًا: يقول الفخر الرازي: "اختلف المفسرون في المراد من الرتق والفتق على أقوال: أحدها: وهو قول الحسن، وقتادة، وسعيد بن جبير، ورواية عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهم- أن المعنى كانتا شيئًا واحدًا، ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض، وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء؛ لأنه تعالى لمَّا فَصَل بينهما ترك الأرضَ حيث هي، وأصعد الأجزاء السماوية. قال كعب: خلق الله السموات والأرض ملتصقتين، ثم خلق ريجًا توسطتهما ففتقهما بها، وثانيها: وهو قول أبي صالح، ومجاهد: أن المعنى كانت السموات ملتفقة فجعلت سبع سماوات، وكذلك الأراضون. وثالثها: وهو قول ابن عباس، والحسن، وأكثر المفسرين: أن السموات، والأرض كانتا رتقًا بالاستواء والصلابة، ففتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات والشجر، ونظيره قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} (الطارق: 11، 12) ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه لقوله بعد ذلك: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30) وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم، ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا؛ فإن قيل: هذا الوجه مرجوح؛ لأن المطرَ لا ينزل من السموات، بل من سماء واحدة وهي

سماء الدنيا. قلنا: -أي الفخر الرازي-: إنما أطلق عليه لفظ الجمع؛ لأن كل قطعة منها سماء، واعلم: أن على هذا التأويل يجوز حمل الرؤية على الإبصار. ورابعها: قول أبي مسلم الأصفهاني: يجوز أن يُرَادَ بالفتق الإيجاد، والإظهار كقوله: {فَاطِرِ السموات وَالْأَرْضِ} (فاطر: 1) وكقوله: {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السموات وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} (الأنبياء: 56) فأخبر عن الإيجادِ بلفظِ الرتق، وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق، أقول -أي: الفخر الرازي-: وتحقيقه أن العدمَ نفيٌ محضٌ، فليس فيه ذوات مميزة، وأعيان متباينة، بل كأنه أمرٌ واحد متصل متشابه، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكون يتميز بعضها عن بعض، وينفصل بعضها عن بعض، فبهذا الطريق حسن جعل الرتق مجازًا عن العدم والفتق عن الوجود. وخامسها: أن الليل سابق على النهار لقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} (يس: 37) وكانت السموات والأرض مظلمة أولًا ففتقهما الله بإظهار النهار المبصر، فإن قيل+: فأي الأقاويل أليق بالظاهر+؟ قلنا: الظاهر يقتضي أن السماء على ما هي عليه، والأرض على ما هي عليه كانتا رتقًا، ولا يجوز +كونهما كذلك، +إلا وهما موجودان، والرتق ضد الفتق، فإذا كان الفتق هو المفارقة، فالرتق يجب أن يكون هو الملازمة، وبهذا الطريق صار الوجه الرابع والخامس مرجوحًا، ويصير الوجه الأول أولى الوجوه، ويتلوه الوجه الثاني: وهو أن كل واحد منهما ++رتق ففتقهما بأن جعل كل واحد منهما سبعًا. ويتلوه الثالث: وهو أنهما كانا صُلْبَيْنِ من غير فطورٍ ففتقهما؛ لينزل المطر من السماء، ويظهر النباتُ على الأرض". هذا ما قاله الفخر الرازي في تفسيره الكبير المسمى بـ (مفاتح الغيب) جزء 22 صـ 162، 163.

قال صاحب (الظلال) في تفسير هذه الآية: "تقرير القرآن أن السموات والأرض كانتا رتقًا ففتقتا مسألةٌ جديرة بالتأمل، كلما تقدمت النظريات الفلكية في محاولة لتفسيرِ الظواهر الكونية؛ فَحَامَتْ حول هذه الحقيقة التي أوردها القرآن الكريم منذ أكثر من أربعمائة وألف عام، فالنظرية القائمة اليوم هي أن المجموعات النجمية كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس وتوابعها، ومنها الأرض والقمر كانت سديمًا ثم انفصلت، وأخذت أشكالها الكروية، وأن الأرض كانت قطعةً من الشمس، ثم انفصَلَتْ عنها وبردت، ولكن هذه ليست سوى نظريةٍ فلكية تقوم اليوم، وقد تنقض غدًا، وتقوم نظرية أخرى تصلح لتفسير الظواهر الكونية بفرض آخر يتحول إلى نظرية. ونحن أصحاب هذه العقيدة لا نحاول أن نحمل النص القرآني المستيقَن على نظرية غير مستيقنة تُقْبَلُ اليوم، وترفض غدًا؛ لذلك لا نحاول في هذه الظلال أن نوفق بين النصوص القرآنية، والنظريات التي تسمى علمية، وهي شيء آخر غير الحقائق العلمية الثابتة القابلة للتجربة، كتمدد المعادن بالحرارة، وتحول الماء بخارًا، وتجمده بالبرودة إلى آخر هذا النوع من الحقائق العلمية، وهي شيء آخر غير النظريات العلمية. إن القرآن ليس كتاب نظريات علمية، ولم يجئ ليكون علمًا تجريبيًّا كذلك، إنما هو منهج للحياة كلها منهج لتقويم العقل ليعمل، وينطلق في حدوده، ولتقويم المجتمع؛ ليسمح للعقل بالعمل، والانطلاق دون أن يدخلَ في جزئيات وتفصيليات علمية بحتة؛ فهذا متروكٌ للعقل بعد تقويمه، وإطلاق سراحه، وقد يشير القرآن ++أحيانا إلى حقائق كونية، كهذه الحقيقة التي يقررها هنا {أَنَّ السموات وَالْأَرْضَ كَانَتَا رتقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن، وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السموات والأرض، أو فتق السموات عن الأرض؟

ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قرَّرَها القرآن، ولكننا لا نجري بالنص القرآني +وراء أية نظرية فلكية، ولا نطلب تصديقًا للقرآن في نظريات البشر، وهو حقيقة مستيقنة، وقصارى ما يقال: إن النظرية الفلكية القائمة اليوم لا تُعَارِضُ المفهوم الإجمالي لهذا النص القرآني السابق عليها بأجيال+". انتهى كلام المرحوم سيد قطب من (ظلال القرآن) جزء 4 صـ 2376 طبعة دار الشروق. يقول الدكتور زغلول النجار عن هذه الآية: "في الوقت الذي ساد المجتمعات البشرية الاعتقاد الخاطئ بأزلية الكون بلا بداية ولا نهاية، وعدم محدوديته إلى ما لا نهاية، وسكونه وثباته، أي: عدم حركتِهِ على الرغم من حركة بعض الأجرام فيه. بمعنى: أن هذا الكون اللانهائي الساكن كان موجودًا منذ الأزل، وسيبْقَى إلى الأبد، وهي فريةٌ أطلَقَهَا الكفارُ والملحدون من بني البشر في محاولةٍ يائسة لنفي الخلق، والتنكر للخالق -سبحانه وتعالى- في هذا الوقت نزل القرآن الكريم موجهًا أنظار هؤلاء الجاحدين من الكفار، والمشركين، والوثنيين إلى طلاقة القدرة الإلهية في إبداعِ خلقِ الكون من جرم ابتدائي واحد، وذلك في صيغةِ استفهام توبيخي استنكاري تقريعي. يقول فيه ربنا سبحانه+: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السموات وَالْأَرْضَ كَانَتَا رتقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}. هذه الآية الكريمة واضحة الدلالة على أن الكون الذي نحيا فيه كونٌ مخلوقٌ له بداية، بدأ الله خَلْقَه من جرم ابتدائي واحد "مرحلة الرتق" وهو القادر على كل شيء، ثم أمر الله تعالى بفتقِ هذا الجرم الابتدائي فانفتق، وهذه مرحلة الفتق، وتحول إلى سحابة من الدخان "مرحلة الدخان" وخلق الله تعالى من هذا الدخان كلًّا من الأرض والسماء، أي: جميع أجرام السماء، وما ينتشر بينها من مختلف

صور المادة، والطاقة مما نعلم، وما لا نعلم وتعرف هذه المرحلة باسم مرحلة الإتيان بكل من الأرض والسماء. وقد جاء وصف المرحلتين الأخيرتين في الآية الحادية عشرة من سورة فصلت والتي يقول فيها الحق سبحانه موبخا كلا من الذين كفروا بالله تعالى فأنكروا الخلق أو أشركوا مع الله تعالى معبودا آخر: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ* فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت: 9 - 12). وهذه الآيات القرآنية الكريمة في كل من سورتي الأنبياء وفصلت تعرض لخلق السموات والأرض في إجمال وشمول، وإيجاز، كما تعرض لعددٍ من الحقائق الكونية الأخرى، وتربط بينها وبين عقيدة الإيمان بالله الخالق الواحد، الأحد الفرد الصمد؛ لأن عقيدةَ التوحيد تقوم على أساسٍ من الحقِّ الذي قامت به السموات والأرض، وكل ما فيهما من صور الخلق. ومن المسلمات: أن الآيات الكونية لم ترد في كتاب الله الخالد من قبيل الإخبار العلمي المباشر للإنسان، وذلك لأن التحصيل العلمي قد ترك لاجتهاد الناس يجمعون شواهده جيلًا بعد جيل، وأمة بعد أمة؛ نظرًا للطبيعة التراكمية للمعارف المكتسبة ولمحدودية حواس الإنسان، وقدرات عقله، ومحدودية كلٍّ من مكانِهِ في بقعَةٍ محددةٍ من الأرض وزمانِهِ، أي: عمره. ومع تسليمنا بهذا الفهم، وتسليمنا كذلك بأن الآيات الكونية التي أشار إليها ربُّنَا في محكم كتابِهِ جاءت في مقام الاستدلال على طلاقةِ القدرةِ الإلهية في إبداعِ الخلقِ، وللاستشهَادِ على أن الله تعالى

الذي أبدَعَ هذا الخلقَ قادِرٌ على إفنائِه، وعلى إعادةِ خلْقِهِ من جديد، كَمَا تأتي هذه الآيات الكونية في مَقَامِ الاستدلال على وحدانيةِ الخالق العظيم بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع وتتراءى هذه الوحدانية لكل ذي بصيرةٍ في جميع جنبات الكون، وفي كل أمر من أموره في السموات، وفي الأرض، في الأنفس، وفي الآفاق في كل سنة من سنن الكون، وفي كل ناموس من نواميسه، وفي كل جزئية من جزئياته من الذرة إلى الخلية الحية إلى المجرة. كما تتراءى في وحدة بناء الكون ووحدة لبناته، وتآصل عناصرِهِ التي تُرَدُّ كلها إلى غاز الإيدروجين، وفي وحدة كُلٍّ من المادة والطاقة، وفي تواصل كل من المكان والزمان، وفي وحدة بناء الخلية الحية، وفي وحدة الحياة والممات والمصير لكل حي. وتتراءى وحدانية الخالق -سبحانه وتعالى- في تعميم الزوجية على جميع المخلوقات من الأحياء والجمادات حتى يبقى الخالقُ في علاه متفردًا بالوحدانية المطلقة، فوق جميع خلقِهِ، ومع تسليمنا بكل ذلك؛ فإن القرآن الكريم يبقَى كلام الله الخالق الذي أوحي به إلى خاتم أنبيائه ورسله، وتعهد -سبحانه وتعالى- بحفظه باللغة نفسها التي أوحاه بها -اللغة العربية- فحفظه كلمة كلمة، وحرفًا حرفًا؛ تحقيقًا للوعد الإلهي الذي قطعه ربنا سبحانه على ذاته العلية فقال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9). ولمَّا كان القرآنُ الكريم هو كلام الله الخالق، وكان الكون من صنعتِه، وإبداع خلقه؛ فلابد أن يكون كل حرف وكلمة، وآية في القرآن الكريم حقًّا مطلقًا، وأن تكون كل الإشارات الكونية فيه ناطقةً بالحقيقة المطلقة للكون، ومكوناته، ولو وعى المسلمون ذلك حقَّ الوعي؛ لكان لهم السبق في الكشف عن العديد من حقائق هذا الكون قبل غيرهم من الأمم بقرون عديدة. ويظل هذا السبق من

العلوم المكتسبة وعملية الانفجار العظيم

أفضل وسائل الدعوة إلى دين الله الخاتم في زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه". العلوم المكتسبة وعملية الانفجار العظيم العلوم المكتسبة وعملية الانفجار العظيم التي تشير إليها الآية {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السموات وَالْأَرْضَ كَانَتَا رتقًا} (الأنبياء: 30): يقول الدكتور زغلول النجار: "للعلوم المكتسبة شواهد تؤيد مفهوم الانفجار العظيم، منها ما يلي: 1 - توسع الكون كدليلٍ على الانفجار العظيم: على الرغم من تأكيد القرآن الكريم من قبل ألف وأربعمائة سنة حقيقة توسع الكون، بقول الحق سبحانه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47) فقد بقي الفلكيون إلى مطلع العشرينيات من القرن الماضي مصرين على ثبات الكون وعدم تغيره. وفي السنوات من 1914 إلى 1925 م أثبت الفلكي الأمريكي "سليفر" أن معظم المجرات التي قام برصدها خارج مجرتنا "درب التبانة" أو "سكة التبانة" تتباعد عنا، وعن بعضها بعضا بسرعات كبيرة. وفي سنة 1929 تمكن "إدوان" من تأكيدِ ظاهرةِ توسع الكون، وتوصل إلى الاستنتاج الصحيح أن سرعة تباعد المجرات الخارجية عن مجرتِنَا تتناسب تناسبًا طرديًّا مع بعدها عنا. وفي سنة 1934 اشترك هو وأحد مساعديه في قياس أبعاد، وسرعات تحرك 32 من تلك المجرات الخارجية بعيدًا عن مجرتنا، وعن بعضها بعضًا من جانب آخر استطاع علماء كل من الفيزياء النظرية، والفلكية تأكيد حقيقة توسع الكون بتوظيف القوانين الرياضية في عددٍ من الحسابات النظرية.

ففي سنة 1917 م أطلق "ألبرت أينشتين" نظرية النسبية العامة لشرح طبيعة الجاذبية كقوة مؤثرة في الكون المدرك، وأشارت المعادلات الرياضية المستنتجة من تلك النظرية إلى أن الكون الذي نحيا فيه كون غير ثابت فهو إما أن يتمدد. وإما أن ينكمش وفقًا لعدد من القوانين المحددة له، وجاءت هذه النتيجة على عكس ما كان يعتقد "أينشتين"، وجميع معاصريه من الفلكيين، وعلماء الفيزياء النظرية، ولقد أصاب أينشتين الذعر حينما أدرك أن معادلاته تنبئ رغم أنفه بأن الكون في حالة تمددٍ مستمرٍّ؛ فعمد إلى إدخال معامل من عنده أطلق عليها اسم الثابت الكوني ليلغي به تمدد الكون، ويؤكد ثباته، واستقراره برغم دوران الأجرام التي يحتويها وحركاتها المتعددة، ثم عاد "أينشتين" ليعترفَ أمام سيلِ ملاحظات الفلكيين عن تمدد الكون بأن تصرفه هذا كان أكبر خطأ علمي اقترفه في حياته. في السنوات من 1917 إلى 1924 م قام الروسي "إلكسندر فريدمان" بإدخال عدد من التحسينات على معادلات "أينشتين" وقدم نموذجين لتفسيرِ نشأة الكون يبدأ كلٌّ منهما بحالةٍ متفردةٍ تتميز بكثافة لا نهائية، وتمدد منها إلى حالات ذات كثافة أقل، وتحدث "فريدمان" عن انحناء الكون، وعن تحدبه تبعًا لكمية المادة الموجودة فيه؛ فإن كانت تلك المادة أقل من قدر معين وجب أن يستمر تمدد الكون إلى الأبد، وفي هذه الحالة يكون نظام الكون مفتوحا أما إذا كانت كمية المادة بالكون أقل من المادة التي هي أقل التي يسمونها الكمية حرجة غدت الجاذبية على قدر من القوة؛ بحيث تجذب الكون إلى درجةٍ تتوقف عندها عملية التمدد في لحظةٍ معينةٍ من المستقبل؛ عندها يبدأ الكونُ في الانطواء على ذاتِهِ؛ ليعود إلى حالة الكثافة اللانهائية الأولى التي بدأ بها. وفي هذه الحالة يكون نظام الكون مغلقًا.

وقد أثبت كل من "وليم ديسيتر" و"أرثر إدينجيتن" في سنة 1935 م أن الكون كما صورته معادلات "أينشتين" هو كون غير ثابت، ولكن تصور كل منهما للكون كان تصورًا بدائيًّا فبينما كان نموذج "أينشتين" للكون نموذجًا ماديًّا دون حركة ونموذج "ديسيتر" حركيًّا دون مادة؛ جاء نموذج "إدينجيتن" وسطًا بين النموذجين بمعنى: أن الكون بدأ بحالة ساكنة، ثم أخذ في التمدد نظرًا لطغيان قوى الدفع للخارج على قوى الجاذبية، ولكن انطلاقًا من فكر الإلحاد السائد في عصره؛ اضطر "إدينجيتن" إلى أن يفترض للكون ماضيًا لا نهائيًا ليتخلص من حقيقة الخلق، ومن شبح نظرية الانفجار الكبير، والذي سماه باسم البداية الكارثة. في السنوات من 1932 إلى 1934 م اقترح "ريتشارد فولمان" نموذجًا متذبذبًا للكون يبدأ وينتهي بعملية الانفجار الكبير، وأخيرًا اقترح "ألان جوث" نموذج الكون المتضخم، والذي يقترح فيه أن الكون المبكر تمدد في أولِ الانفجار تمددًا رأسيًّا سريعًا جدًّا مع سطوع فائق، ثم أخذت معدلات التوسع في التباطؤ إلى معدلاتها الحالية. ومن منطلق إنكار الخلق ينادي الفلكيونَ المعاصرونَ بفكرةِ الكون المفتوح، أي: الذي يتمدد إلى ما لا نهاية، ولكن تقديرات الكتل المفقودة في حسابات توازن الكون المدرك تؤكد انغلاق الكون، هذا الانغلاق الذي سيقفُ بتمدده عند لحظة في المستقبل يعود الكون فيها إلى الانكماش، والتكدس على ذاتِهِ ليعاود سيرته الأولى؛ وبالتدريج بدأت فكرةُ تمدد الكون إلى حدٍّ ما في المستقبل تلقى القبول من الغالبية الساحقة من علماء الفلك، والفيزياء الفلكية والنظرية، وإن بقيت أعداد منهم تدعوا إلى ثباتِ الكون حتى مشارف الخمسينيات من القرن العشرين. ومن هذه الأعداد مجموعة علماء الفلك في جامعة "كمبوردج" المكونة من كل من "هيرنان بوندي" و"توماس جولد" و"فريد هويل" وقد قام هذا الفريق بنشر سلسلة من المقالات، والبحوث في السنوات 1946 و 48 و 49 دفاعًا عن النموذج الثابت للكون، ثم اضطروا إلى الاعتراف بحقيقةِ تمدده بعد ذلك بسنوات قليلة.

بقايا الإشعاع الكوني كدليل على الانفجار العظيم

ومن عجائب القدر بهؤلاء الجاحدين لحقيقة الخلق، المتنكرين لجلال الخالق سبحانه، المنادين كذبًا بأزلية العالم أن يكون أحد زعمائهم وهو "فريد هويل" الذي حمل لواء الادعاء بثبات الكون واستقراره، وأزليته لسنوات طويلة هو الذي يعلن بنفسه في سخريةٍ لاذعةٍ تعبير الانفجار الكبير للكون، وذلك في سلسلة أحاديث له عَبْرَ الإذاعة البريطانية في سنة 1950 م كان ينتقد فيها ظاهرة تمدد الكون، ويحاول إثبات بطلانها، ثم جاء بعد ذلك بسنوات ليكون من أشد المدافعين لها. وكانت نظرية خلق الكون من جرم أولي واحد عالي الكثافة قد توصل إليها البلجيكي "جورج لوميتر" وذلك في رسالة تقدم بها إلى معهد "مساشوسيشي" للتقنية دافع فيها، وفي عدد من بحوثه التالية عن حقيقة تمدد الكون، ولم تلقَ أبحاثه أي انتباه إلى أن جاء "إيدينجيتن" في سنة 1930 م ليلفت إليها الأنظار ومن هنا أطلق على "لوميتر" لقب صاحب فكرة الانفجار الكبير في صورتها الأولى". بقايا الإشعاع الكوني كدليل على الانفجار العظيم في سنة 1948 أعلن كل من "جورج جامو" وزميله "رالف ألفر" أن تركيز العناصر في الجزء المدرك من الكون يشير إلى أن الجرم الأولي الذي بدأ به الكون كان تحت ضغط، وفي درجة حرارة لا يكاد العقل البشري أن يتصورهما وعند انفجاره انتقلت تلك الحرارة إلى سحابةِ الدخان الكوني التي نتجت عن ذلك الانفجار، وسمحت بعدد من التفاعلات النووية التي أدَّتْ إلى تكون العناصر الأولية من مثل "الإيدروجين" و"الهيليوم". وفي السنة نفسها 1948 قدم كل من "إلفر" و"هيرمان" اقتراحا بأن الجرم الابتدائي للكون كان له إشعاع حراري يشابه إشعاع الأجسام المعتمة، وأن هذا الإشعاع

تصور بقايا الدخان الكوني دليل على عملية الانفجار العظيم.

تناقصَتْ شدته مع استمرار تمدد الكون وتبرده، ولكن لابد وأن تبقى منه بقية في صفحة السماء؛ إذ أمكن البحث عنها وتسجيلها، كانت تلك البقية الإشعاعية من أقوى الأدلة على بدءِ خلق الكون بعملية الانفجار الكبير. وفي سنة 1964 تمكن اثنان من علماء مختبرات "بِل" للأبحاث، وهما "أرنو بنزياس" و"روبرت ويلسون" بمحض المصادفة من اكتشاف تلك البقايا الأثرية للإشعاع الحراري الكوني على هيئة ضوضاء لاسلكية محيرة تفد بانتظام إلى الهوائي الذي كانا قد نصباه لغاية أخرى من جميع الجهات في السماء حيثما وجه الهوائي، وقدروها بثلاث درجات مطلقة 270 درجة مئوية تحت الصفر المئوي. في الوقت نفسه كان كل من روبرت دايك" وتلميذه "بيبلز" قد استنتجا من معادلاتهم الرياضية الفلكية: أن النسب المقدرة لغازي الإيدروجين والهيليوم في الكون تؤكد الكمية الهائلة من الإشعاع التي نتجت عن الانفجار الكبير، وتدعم نظريته، ومع تمدد الكون ضعف هذا الإشعاع بالتدريج، وانخفضت درجة حرارته إلى بضع درجات قليلة فوق الصفر المطلق الذي يساوي 273 درجة تحت الصفر المئوي. في سنة 1965 م قام كل من "بنزياس" و"ويلسون" بتصحيح قيمةِ البقايا الأثرية للإشعاع الحراري الكوني، وأثبتا أنها من الموجات الكهرومغناطيسية المتناهية في القصر. تصور بقايا الدخان الكوني دليل على عملية الانفجار العظيم في سنة 1989 م أرسلت مؤسسة ناسا الأمريكية إلى الفضاء مركبة فضائية لجمع المعلومات حول الإشعاع الحراري الكوني، أطلق عليها اسم مكتشف الخلفية الإشعاعية، وزود بأجهزةٍ فائقة الحساسية أثبتت وجود تلك الأشعة الأثرية المتبقية عن عملية الانفجار العظيم. وكان في هذا الاكتشاف التفسير المنطقي لسبب الأزيز اللاسلكي المنتظم الذي يعج به الكون، والذي يأتي إلينَا من مختلفِ

أطراف الكون المدركة، والذي بقي على هيئة صدى لعملية الانفجار الكبير، وقد قَامت هذه المركبةُ الفضائية بإرسال ملايين الصور إلى الأرض عن بقايا الدخان للأول الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم من على مسافة تقدر بعشرة مليارات من السنين الضوئية. وقد منح كل من "بنزياس" و"ويسلون" جائزة نوبل سنة 1978 م على اكتشافهما الذي كان فيه الدليل المادي الملموس لدعم نظرية الانفجار الكبير والارتقاء بها إلى مقام الحقيقة شبه المؤكدة، ودفع بالغالبية الساحقة من علماء الفلك، والفيزياء الفلكية إلى الاعتقاد بصحتها، وسبحان الخالق الذي أنزل في محكم كتابه من قبل ألف وأربعمائة سنة قوله الحق: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السموات وَالْأَرْضَ كَانَتَا رتقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}. وبدء خلق الكون بعملية انفجار كبرى هو من دلائل طلاقة القدرة الإلهية؛ لأنه من المعروف أن الانفجار بطبيعتِهِ يؤدي إلى تناثر المادة وبعثرتها، ولا يخلف وراءه إلا الدمار. أما هذا الانفجار الكوني الفتق بعد الرتق، فقد أدى إلى إبداع نظامي كوني له تصميم دقيق محكم الأبعاد والعلاقات، والتفاعلات، منضبط الكتل، والأحجام والمسافات، منتظم الحركة والجري، والتداخلات، مبني على الوتيرةِ نفسِهَا من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته على الرغم من تعاظم أبعاده، وكثرة أجرامه وتعقيد علاقاته، وانفجارٌ هذه نتائجه لا يمكن أن يكون قد تمَّ بغير تدبير حكيم وتقدير مسبق عظيم، لا يقدر عليه إلا رب العالمين. وقد أشار العالم البريطاني المعاصر "ستيفن هوكونج" إلى شيءٍ من ذلك في كتابه المعنون (تاريخ موجز للزمن) الذي نشره في كندا سنة 1988م، ولكن إشاراته جاءت على استحياءٍ شديد؛ نظرًا لجَوِّ الإلحاد الذي يسود الغرب بصفة عامة في زمن العلم والتقنية الذي نعيشه،

القرآن الكريم وخلق السموات والأرض.

والكتاب مملوء بالاستنتاجات المؤكدة لحقيقة الخلق، وعظيمة الخالق، وإن جاءت كلها مغلفة بسحابةٍ من الاستحياء، والتردد الشديدين. القرآن الكريم وخلق السموات والأرض في ظل سيادة الاعتقاد الخاطئ بأن الكون الذي نحيا فيه كان منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد، وأنه كون لا نهائي لا تحده حدود، وأنه كونٌ ساكن ثابت في مكانِه لا يتغير، وأن النجوم مثبتةٌ في السماء التي تدور بنجومِهَا كقطعة واحدة حول الأرض، وأن الكون شاملٌ للعناصر الأربعة التراب، والماء، والهواء والنار، وحول هذه الكُرَات الأربع تدور السماء بنجومها، وغير ذلك من الخرافات والأساطير. في هذا الوقت جاء القرآن الكريم مؤكدا أن الكون مخلوق له بداية، ولابد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية، وأنه محدود بحدود لا يتجاوزها، وإن كنا لا نستطيع أن ندركها. ومؤكِّدًا أن جميع أجرام السماء في حركة دائبة وجري مستمر إلى أجل مسمى وأن السماء ذاتها في توسع دائب إلى أجل مسمى، وأن السموات والأرض كانتا في الأصل جرمًا واحدًا، ففتقهما الله؛ فتحولت مادة هذا الجرم الأولي إلى الدخان الذي خلقت منه الأرض والسماء، وأن هذا الكون سوف يطوى ليعود كهيئتِهِ الأولى جرمًا واحدًا مفردًا، يتفتق مرة أخرى إلى سحابة من الدخان، تخلق منها أرض غير أرضنا الحالية، وسموات غير السموات التي تظلنا في حياتنا الدنيا. وهنا تتوقف رحلة الحياة الأولى وتبدأ رحلة الآخرة. وفيها الحياة أبدية خالدة خلودًا بلا موت قال سبحانه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السموات وَالْأَرْضَ كَانَتَا رتقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} وقال

تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 104) وقال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسموات وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (إبراهيم: 48). هذه الآيات القرآنية الكريمة تشير إلى عدد من حقائق الكون الكبرى والتي منها ابتداء خلق الكون من جرم أولي واحد مرحلة الرتق الأول فتق هذا الجرم الأولي، أي انفجاره مرحلة الفتق الأول تحول المادة في الجرم الأول عند فتقه إلى دخان مرحلة الدخان، خلق كل من الأرض والسموات من الدخان الكوني مرحلة الإتيان بكل من الأرض والسماء، توسع الكون منذ اللحظة الأولى لخلقه وإلى أن يشاء الله، حتمية عودة الكون بكل ما فيه وما فيه إلى جرم ابتدائي واحد مشابه تماما للجرم الأولي الذي ابتدئ منه الخلق مرحلة الرتق الثاني أو طي السماء أو الانسحاق الشديد للكون، حتمية فتق هذا الجرم الثاني أي انفجاره مرحلة الفتق للرتق الثاني حتمية تحول الرتق الثاني بعد فتقه إلى سحابة من الدخان الكوني، إعادة خلق أرض غير أرضنا الحالية وسموات غير السموات التي تظللنا اليوم وبداية رحلة الآخرة وهي دار الخلود. {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السموات وَالْأَرْضَ كَانَتَا رتقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} والرتق في اللغة عكس الفتق لأن الرتق هو الضم والالتحام والالتئام سواء كان ذلك طبيعيا أو صناعيا، والفتق لغة هو الفصل والشق والانشطار، والقرآن الكريم هنا يعطي الصورة الكاملة الجامعة لهذا الحدوث الكوني العظيم ويترك التفاصيل لجهود العلماء والمفكرين الذين يفكرون في خلق السموات والأرض. هذا السبق القرآني بحقيقة الفتق بعد الرتق يجعلنا نرتقي بنظرية الانفجار الكوني العظيم إلى مقام الحقيقة ونكون هنا قد انتصرنا بالقرآن الكريم للعلم المكتسب، وليس

العكس، والسبب في لجوءنا إلى تلك النظرية لحسن فهم دلالة الآية القرآنية رقم 30 من سورة الأنبياء هو أن العلوم المكتسبة لا يمكن لها أن تتجاوز مرحلة التنظير في القضايا التي لا تخضع لحس الإنسان المباشر. هذا السبق القرآني بالإشارة إلى حقيقة الفتق بعد الرتق أو ما يعبر عنه بالانفجار الكوني العظيم، وإلى حقيقة توسيع السماء أو تمدد الكون وإلى حقيقة الخلق من الدخان وإلى حقيقة الرتق بعد الفتق وإلى حقيقة إعادة خلق أرض غير الأرض وسموات غير السموات الحالية، وإلى العديد غيرها من الحقائق التي صاحبت خلق السموات والأرض هذه الآية الكونية {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السموات وَالْأَرْضَ كَانَتَا رتقًا} (الأنبياء: 30) تشهد بإعجاز القرآن وأنه من عند الله سبحانه، أفلا يعقلون، أفلا يفكرون، أفلا يتدبرون. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 9 شرح قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان ... }.

الدرس: 9 شرح قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان ... }.

المفسرون وقوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان ... }.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (شرح قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ... }) المفسرون وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ... } الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: سنشرح قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11). سنبدأ أولًا بمعرفة أقوال المفسرين في هذه الآية، يقول الألوسي: قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}؛ أي: قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثيرها في غيرها؛؛ أي: ثم استوى إلى خلق السماء. قوله: {وَهِيَ دُخَانٌ} يقول الألوسي: وأيًّا ما كان فليس الدخان كائنًا من النار التي هي إحدى العناصر؛ لأنها من توابع الأرض ولم تكن موجودة إذ ذاك. قوله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا}؛ أي: بما خلقت فيكما من المنافع، فليس المعنى على إتيان ذاتهما وإيجادهما، بل إتيان ما فيهما مما ذكر بمعنى إظهاره، وخص الاستواء بالسماء مع أن الخطاب المترتب عليه متوجه إليهما معًا، اكتفاءً بذكر تقدير الأرض، وتقدير ما فيها. قوله: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} تمثيلًا لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما، واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع والكره لهما، وهما مصدران وقعا موقع الحال؛ أي: طائعتين أو كارهتين. وقوله تعالى: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}؛ أي: منقادين تمثيلًا لكلام تأثرهما عن القدرة الربانية، وحصولهما كما أمرا به وتصويرًا لكون وجودهما كما هما عليه، جاريًا على مقتضى الحكمة البالغة، فإن الطوع منبئ عن ذلك والكره موهم لخلافه، وقيل: طائعين وقيل: طائعين بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء باعتبار كونهما في معرض الخطاب والجواب، ولا وجه للتأنيث عند إخبارهم عن أنفسهم لكون التأنيث بحسب اللفظ فقط. انتهى كلام الألوسي.

بعد ذلك نأتي إلى قول مفسر آخر من (ظلال القرآن) يقول سيد قطب: الاستواء هنا القصد، والقصد من جانب الله تعالى هو توجه الإرادة، وثم قد لا تكون للترتيب الزمني، ولكن للارتقاء المعنوي، والسماء في الحس أرفع وأرقى. قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} إن هناك اعتقادًا قبل خلق النجوم، كان هناك ما يسمى السديم، وهذا السديم غاز وغاز دخان، والسدم ليس الذي بها من غاز وغبار إلا ما تبقى من خلق النجوم. إن نظرية الخلق تقول: إن المجرة كانت من غاز وغبار، ومن هاذين تكونت بالتكثف النجوم، وبقيت لها بقية، ومن هذه البقية كان السدم ولا يزال من هذه البقية منتشرًا في هذه المجرة الواسعة مقدار من غاز وغبار يساوي ما تكونت منه النجوم. ولا تزال النجوم تجر منه بالجاذبية إليه، فهي تكنس السماء منه كنسًا، ولكن الكناسين برغم أعمالهم الهائلة قليلون بالنسبة لما يراد كنسه من مساحات أكبر وأشد هونًا، وهذا الكلام قد يكون صحيحًا؛ لأنه أقرب ما يكون إلى مدلول الحقيقة القرآنية {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} وإلى أنَّ خلق السماوات تم في زمن طويل في يومين من أيام الله، ثم نقف أمام الحقيقة الهائلة، وهي قول الله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}. إنها إيماءة عجيبة إلى انقياد هذا الكون للناموس، وإلى اتصال حقيقة هذا الكون بخالقه اتصال الطاعة والاستسلام لكلمته ومشيئته، فليس هناك إذن إلا هذا الإنسان، الذي يخضع للناموس كرهًا في أغلب الأحيان، إنه خاضع حتمًا لهذا الناموس لا يملك أن يخرج عنه.

وهو ترس صغير جدًّا في عجلة الكون الهائلة، والقوانين الكلية تسري عليه رضي أم كره، ولكنه هو وحده الذي لا ينقاد طائعًا طاعة الأرض والسماء، إنما يحاول أن ينفلت وينحرف عن المجرى الهين اللين؛ فيصطدم بالناموس التي لا بد أن تغلبه وقد تحطمه وتسحقه، فيستسلم خاضعًا غير طائع إلا عباد الله الذين تصطلح قلوبهم، وكيانهم وحركاتهم وتصوراتهم وإراداتهم ورغباتهم واتجاهاتهم تصطلح كلها مع النواميس الكلية؛ فتأتي طائعة وتسير هينة لينة مع عجلة الكون الهائلة، متجهة إلى ربها مع الموكب، متصلة بما فيه من قوى، وحينئذ تصنع الأعاجيب وتأتي بالخوارق؛ لأنها مصطلِحة مع الناموس مستمدة من قوته الهائلة، وهي منه وهو مشتمل عليها في الطريق إلى الله طائعين. إننا نخضع كرهًا فليتنا نخضع طوعًا، ليتنا نلبي تلبية الأرض والسماء في رضا في فرح باللقاء مع روح الوجود الخاضعة المطيعة الملبية المستسلمة لله رب العالمين. إنها تأتي أحيانًا حركات مضحكة، عجلة القدر تدور بطريقتها وبسرعتها، ولوجهتها وتدير الكون كله معها وفق سنن ثابتة، ونأتي نحن فنريد أن نسرع أو أن نبطئ نحن من بين هذا الموكب الضخم الهائل، نحن بما يطرأ على نفوسنا حين تنفك عن العجلة، وتنحرف عن خط السير من قلق واستعجال وأنانية وطمع ورغبة ورهبة، ونظل نشرد هنا وهناك، والكوكب ماض ونحتك بهذا الترس وذاك ونتألم، ونصطدم هنا وهناك ونتحطم، والعجلة ماضية في سرعتها وبطريقتها إلى وجهتها، وتذهب قواتنا وجهودنا كلها سدى، فأما حين تؤمن قلوبنا حقًّا وتستلم لله حقًّا، وتتصل بروح الوجود حقًّا، فإننا حينئذ نعرف دورنا على حقيقته، وننسق بين خطانا وخطوات القدر، ونتحرك في اللحظة المناسبة بالسرعة المناسبة في المدى المناسب تتحرك أو نتحرك بقوة الوجود كله مستمدة من خالق الوجود، ونصنع أعمالًا عظيمة فعلًا دون أن يدركنا الغرور؛ لأننا نعرف

مصدر القوة التي صنعنا بها هذه الأعمال العظيمة، ونوقن أنها ليست قوتنا الذاتية؛ إنما هي كانت هكذا؛ لأنها متصلة بالقوة العظمى ويا للرضا ويا للسعادة ويا للراحة ويا للطمأنينة التي تغمر قلوبنا يومئذٍ في رحلتنا القصيرة على هذا الكوكب الطائع الملبي السائر معنا في رحلته الكبرى إلى ربه في نهاية المطاف. ويا للسلام الذي يفيض في أرواحنا ونحن نعيش في كون صديق كله مستسلم لربه، ونحن معه مستسلمون لا تَشِذُّ خطانا عن خطاه، ولا يعادينا ولا نعاديه؛ ولأننا معه في الاتجاه وصدق الله العظيم حينما قال: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}. انتهى الكلام من (ظلال القرآن) للسيد قطب. هذا ما قاله بعض المفسرين عن هذه الآية، نأتي بعد ذلك ماذا قال أصحاب التفسير العلمي الحديث في هذه الآية عن دخانية السماء عن الفيزياء الفلكية والدخانية في الكون، عن تصوير الدخان الكوني عن انتشار مختلف صور الطاقة بالكون، عن وحدة القوى بالكون؛ هذا ما سنبينه في هذا الدرس إن شاء الله. في الثلث الأول من القرن العشرين لاحظ الفلكيون عملية توسيع الكون، التي دار من حولها جدل طويل حتى سلم العلماء بحقيقتها، وقد سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى تلك الحقيقة من قبل ألف وأربعمائة سنة بقول الحق سبحانه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47)، وكانت هذه الآية الكريمة قد نزلت والعالم كله ينادي بثبات الكون وعدم تغيره. وظل هذا الاعتقاد سائدًا حتى منتصف القرن العشرين حين أثبتت الأرصاد الفلكية حقيقة توسع الكون، وتباعد مجراته عنا، وعن بعضها البعض بمعدلات تقترب أحيانًا من سرعة الضوء المقدرة بنحو ثلاث مائة ألف كيلو متر في الثانية.

وقد أيدت كل من المعادلات الرياضية، وقوانين الفيزياء النظرية استنتاجات الفلكيين في ذلك، وانطلاقًا من هذه الملاحظة الصحيحة نادى كل من علماء الفلك والفيزياء الفلكية والنظرية بأننا إذا عدنا بهذا الاتساع الكوني إلى الوراء مع الزمن فلا بد أن تلتقي كل صور المادة والطاقة الموجودة في الكون المدرك منها وغير المدرك، وتتكدس على بعضها البعض في جرم ابتدائي واحد يتناهى في الصغر إلى ما يقرب الصفر أو العدم، وتنكمش في هذه النقطة أبعاد كل من المكان والزمان، حتى تتلاشى مرحلة الرتق. وهذا الجرم الابتدائي كان في حالة من الكثافة والحرارة، تتوقف عندهما كل القوانين الفيزيائية المعروفة، ومن ثم فإن العقل البشري لا يكاد يتصورهما، فانفجر هذا الجرم الأولي بأمر من الله تعالى في ظاهرة يسميها العلماء عملية الانفجار الكوني العظيم، ويسميها القرآن الكريم باسم الفتق، فقد سبق القرآن الكريم كل المعارف الإنسانية بالإشارة إلى ذلك الحدث الكوني العظيم من قبل ألف وأربعمائة من السنين، بقول الحق -تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30). وتشير دراسات الفيزياء النظرية في أواخر القرن العشرين إلى أن جرمًا بمواصفات الجرم الابتدائي للكون عندما ينفجر لا بد وأن يتحول إلى سحابة من الدخان، الذي تخلقت منه الأرض وكل أجرام السماء. وقد سبق القرآن الكريم بألف وأربعمائة سنة كل المعارف الإنسانية، بإشارته لمرحلة الدخان في قول الحق -تبارك وتعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ

دخانية السماء بعد الانفجار الكوني العظيم.

فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت: 9 - 12). وفي 8 نوفمبر سنة 1989 ميلادية أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية مركبة فضائية باسم مكتشف الخلفية الإشعاعية للكون، وذلك في مدار على ارتفاع ستمائة كيلو متر حول الأرض بعيدًا عن تأثير كل من السحب والملوثات في النطق الدنيا من الغلاف الغازي للأرض، وقد قامت هذه المركبة الفضائية بإرسال ملايين الصور والمعلومات إلى الأرض عن آثار الدخان الأول الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم للكون من على بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية، وهي حالة دخانية معتمة سادت الكون قبل خلق الأرض والسماوات، فسبحان الذي أنزل من قبل ألف أربعمائة سنة قوله الحق: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}. دخانية السماء بعد الانفجار الكوني العظيم أي: بعد فتق الرتق بعد التسليم بحقيقة توسع الكون وبرد ذلك التوسع إلى الوراء مع الزمن، حتى الوصول إلى جرم ابتدائي واحد متناهٍ في الضآلة حجمًا إلى الصفر، أو ما يقرب من العدم، ومتناه في الكثافة والحرارة إلى حد لا يكاد العقل الإنساني أن يتخيله؛ لتوقف كل قوانين الفيزياء المعروفة عند مرحلة الرتق، وبعد التسليم بانفجار هذا الجرم الابتدائي مرحلة الفتق في ظاهرة كونية يسميها العلماء الانفجار الكوني الكبير بدأ كل من علماء الفلك والفيزياء الفلكية والنظرية في تحليل مسار الأحوال الكونية بعد هذا الحدث الكوني الرهيب، ومع إيماننا بأن

الفيزياء الفلكية ودخانية الكون.

تلك الأحداث الموهلة في تاريخ الكون تقع في صميم الغيب الذي أخبر ربنا -تبارك وتعالى- عنه بقوله -عز وجل: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (الكهف: 51) إلا أن السنن التي فطر الله تعالى الكون عليها، لها من الاقتراب والاستمرار، والثبات ما يمكن أن يعين الإنسان على الوصول إلى شيء من التصور الصحيح لتلك الأحداث الغيبية الموهلة في أبعاد التاريخ الكوني، على الرغم من حس الإنسان المحدود، وقدرات عقله المحدودة، ومحدودية كل من زمانه ومكانه. كذلك فإن التقنيات المتطورة من مثل الصواريخ العابرة لمسافات كبيرة في السماء والأقمار الصناعية التي تطلقها تلك الصواريخ والأجهزة القياسية والتسجيلية الدقيقة، التي تحملها قد ساعدت على الوصول إلى تصوير الدخان الكوني الأول الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم، والتي وجدت بقايا أثرية له على أطراف الجزء المدرك من الكون، وعلى أبعاد تصل إلى عشرة مليارات من السنين الضوئية لتثبت دقة التعبير القرآني بلفظة دخان، التي وصف بها حالة الكون قبل خلق السماوات والأرض. الفيزياء الفلكية ودخانية الكون بعد الانفجار العظيم تحول الكون إلى غلالة من الدخان الذي خلقت منه الأرض والسماوات، وتشير الحسابات الفيزيائية إلى أن حجم الكون قبل الانفجار العظيم كاد يقترب من الصفر، وكان في حالة غريبة من تكدس كل من المادة والطاقة، وتلاشى كل من المكان والزمان تتوقف عندها كل قوانين الفيزياء المعروفة مرحلة الرتق، ثم انفجر هذا الجرم الابتدائي الأول في ظاهرة كبرى تعرف بظاهرة الانفجار الكوني العظيم، التي هي مرحلة الفتق.

وبانفجاره تحول إلى كرة من الإشعاع، والجسيمات الأولية أخذت في التمدد والتبرد بسرعات فائقة، حتى تحولت إلى غلالة من الدخان، فبعد ثانية واحدة من واقعة الانفجار العظيم تقدِّر الحسابات الفيزيائية انخفاض درجة حرارة الكون من تريليونات الدرجة المطلقة إلى عشرة بلايين من الدرجات المطلقة وعندها تحول الكون إلى غلالة من الدخان المكون من الفوتونات، والإلكترونات والنيترينوات، وأضداد هذه الجسيمات في زوجية واضحة مع قليل من البروتونات والنيترونات. ولولا استمرار الكون في التوسع والتبرد بمعدلات منضبطة بدقة فائقة، لأفنت الجسيمات الأولية للمادة وأضدادها بعضها بعضًا وانتهى الكون، ولكنه حفظ بحفظ الله الذي أتقن كل شيء خلقه، والنيترونات يمكن أن توجد في الكون على هيئة ما يسمى باسم المادة الداكنة. وقد نادى ألنجوس في سنة 1981م بأن التمدد عند بدء الانفجار العظيم كان بمعدلات فائقة التصور، أدت إلى زيادة قطر الكون بمعدل عشر مرة في الجزء من الثانية، وتشير حسابات الفيزياء النظرية إلى معدلات أعلى من ذلك، وإلى الاستمرار في انخفاض درجة حرارة الكون إلى بليون؛ يعني ألف مليون درجة مطلقة بعد ذلك بقليل، وعند تلك الدرجة ابتعدت البروتونات والنيترونات؛ لتكوين نوى ذرات الأيدروجين الثقيل أو الديتريون التي تحللت إلى الإدروجين أو اتحدت مع مزيج من البروتونات، والنيترونات؛ لتكون نوى ذرات الهيليوم، والقليل من نوى ذرات عناصر أعلى، مثل نوى ذرات الليثيوم، ونوى ذرات البرليوم، ولكن بقيت النسبة الغالبة لنوى ذرات غازى الإدروجين والهليوم. وتشير الحسابات النظرية إلى أنه بعد ذلك بقليل توقف إنتاج كل من الهليوم، والعناصر التالية له، واستمر الكون في الاتساع والتمدد والتبرد لفترة زمنية

طويلة، ومع التبرد انخفضت درجة حرارة الكون إلى آلاف قليلة من الدرجات المطلقة، حين بدأت ذرات العناصر في التكون والتجمع، وبدأ الدخان الكوني في التكدس على هيئة أعداد من السدم الكونية الهائلة، ومع استمرار عملية الاتساع والتبرد في الكون، بدأت أجزاء من تلك السدم في التكثف على ذاتها بفعل الجاذبية، وبالدوران حول نفسها بسرعات متزايدة بالتدريج، حتى تخلقت بداخلها كتل من الغازات المتكثفة، ومع استمرار دوران تلك الكتل الكثيفة في داخل السدم، بدأت كميات من غازي الإدروجين والهليوم الموجودة بداخلها في التكدس على ذاتها بمعدلات أكبر، مما أدى إلى مزيد من الارتفاع في درجات حرارتها، حتى وصلت إلى الدرجات اللازمة؛ لبدء عملية الاندماج النووي، فتكونت النجوم المنتجة للضوء والحرارة. وفي النجوم الكبيرة الكتلة استمرت عملية الاندماج النووي؛ لتخليق العناصر الأعلى في وزنها الذري بالتدرج مثل الكربون والأكسجين، وما يليهما حتى يتحول لب النجم بالكامل إلى الحديد، فينفجر هذا النجم المستعر على هيئة المستعر الأعظم، وتتناثر أشلاء المستعرات العظمى وما بها من عناصر ثقيلة في داخل المجرة؛ لتتكون منها الكواكب والكويكبات بينما يبقى منها في غازات المجرة ما يمكن أن يدخل في بناء نجم آخر بإذن الله. وتحتوي شمسنا اليوم على نحو 2 % من كتلتها للعناصر الأثقل في أوزانها الذرية، من غازي الإدروجين والهليوم، وهما المكونان الأساسيان لها، وهذه العناصر الثقيلة لم تتكون كلها بالقط في داخل الشمس، بل جاءت إليها من بقايا انفجار بعض من المستعرات العظمى. وعلى الرغم من تكدس كل من المادة والطاقة في أجرام السماء، مثل النجوم وتوابعها، فإن الكون المدرك يبدو لنا متجانسًا على نطاق واسع في كل الاتجاهات، وتحده خلفية إشعاعية متساوية حيثما نظر الراصد.

كذلك فإن توسع الكون لم يتجاوز بعد الحد الحرج الذي يمكن أن يؤدي إلى انهياره على ذاته، وتكدسه من جديد مما يؤكد أنه محكوم بضوابط بالغة الدقة والإحكام، ولا يزال الكون المدرك مستمرًّا في توسعه بعد أكثر من عشرة مليارات من السنين هي العمر الأدنى المقدر للكون، وذلك بنفس معدل التوسع الحرج، ولو تجاوزه بجزء من مئات البلايين من المعدل الحالي للتوسع لانهار الكون على الفور، فسبحان الذي حفظه من الانهيار، والنظرية النسبية لا يمكنها تفسير ذلك؛ لأن كل القوانين الفيزيائية، وكل الأبعاد المكانية والزمانية تنهار عند الجرم الابتدائي للكون قبل انفجار مرحلة الرتق بكتلته وكثافته وحرارته الفائقة، وانعدام حجمه إلى ما يقرب من الصفر. ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرًا لخلق هذا الكون بهذا المقدار من الإحكام غير الخالق سبحانه، الذي يصف هذا الأمر بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس: 82). فعلى سبيل المثال لا الحصر يذكر علماء الفيزياء، أنه إذا تغيرت الشحنة الكهربائية للإلكترون قليلًا ما استطاعت النجوم القيام بعملية الاندماج النووي، ولعجزت عن الانفجار على هيئة ما يسمى المستعر الأعظم، إذا تمكنت فرضًا من القيام بعملية الاندماج النووي. والمعدل المتوسط لعملية اتساع الكون لا بد وأنه قد اختير بحكمة بالغة؛ لأن معدله الحالي لا يزال قريبًا من الحد الحرج اللازم لمنع الكون من الانهيار على ذاته. ويقرر علماء الفيزياء النظرية والفلكية أن الدخان الكوني كان خليطًا من الغازات الحارة المعتمة التي تتخللها بعض الجسيمات الأولية للمادة وأضداد المادة، حتى

تشهد هذه الصورة من صور الزوجية السائدة في الكون لله بالتفرد بالوحدانية المطلقة فوق كافة خلقه. ولا توجد كلمة توفي هذه الحالة حقها من الوصف، مثل كلمة دخان، فسبحان الذي أنزلها في كتابه من قبل ألف وأربعمائه من السنين، وقد تكونت من تلك الجسيمات الأولية للمادة في الدخان الكوني الأولى نوى ذرات غازي الإدروجين والهليوم. وبعد ذلك وصلت إلى الحد الذي يسمح بتكوين ذرات ثابتة لعناصر أكبر وزنا، وذلك باتحاد نوى ذرات الإدروجين والهليوم، وظل هذا الدخان المعتم سائدًا ومحتويًا على ذرات العناصر، التي خلق منها بعد ذلك كل من الأرض والسماء. وتفيد الدراسات النظرية أن الكون في حالته الدخانية كان يتميز بقدر من التجانس مع تفاوت بسيط في كل من الكثافة ودرجات الحرارة بين منطقة وأخرى؛ وذلك نظرًا لبدء تحول أجزاء من ذلك الدخان بتقدير من الله تعالى إلى مناطق تتركز فيها كميات كبيرة من كل من المادة والطاقة على هيئة السد. ولما كانت الجاذبية في تلك المناطق تتناسب تناسبًا طرديًّا مع كم المادة والطاقة المتمركزة فيها، فقد أدى ذلك إلى مزيد من تكدس المادة والطاقة، والذي بواسطته بدأ تخلق النجوم، وبقية أجرام السماء في داخل تلك السد، وتكونت النجوم في مراحلها الأولى من العناصر الخفيفة مثل الإدروجين والهليوم، والتي أخذت في التحول إلى العناصر الأعلى وزنًا بالتدريج، مع بدء عملية الاندماج النووي في داخل تلك النجوم حسب كتلة كل منها.

تصوير الدخان الكوني.

تصوير الدخان الكوني في الثامن من نوفمبر سنة 1989م، أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية مركبة باسم مكتشف الخلفية الإشعاعية للكون، ارتفعت إلى مدار حول الأرض يبلغ ارتفاعه 600 كيلو متر فوق مستوى سطح البحر؛ وذلك لقياس درجة حرارة الخلفية الإشعاعية للكون، وقياس كل من الكثافة المادية والضوئية، والموجات الدقيقة في الكون المدرك بعيدًا عن تأثير كل من السحب والملوثات في النطق الدنيا من الغلاف الغازي للأرض. وقام هذا القمر الصنعي المستكشف بإرسال قدر هائل من المعلومات، وملايين الصور لآثار الدخان الكوني الأول، الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم للكون من على بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية. وأثبتت تلك الصور أن هذا الدخان الكوني في حالة معتمة تمامًا تمثل حالة الإظلام التي سادت الكون في مراحله الأولى، ويقدر العلماء كتلة هذا الدخان المعتم بحوالي 90% من كتلة المادة في الكون المنظور. وكتب جورج سموت أحد المسئولين عن رحلة المستكشف تقريرًا، نشره سنة 1992م بالنتائج المستقاة من هذا العدد الهائل من الصور الكونية، كان من أهمها الحالة الدخانية المتجانسة التي سادت الوجود عقب الانفجار الكوني العظيم. وكذلك درجة الحرارة المتبقية على هيئة خلفية إشعاعية أكدت حدوث ذلك الانفجار الكبير، وكان في تلك الكشوف أبلغ الرد على النظريات الخاطئة التي حاولت من منطلقات الكفر والإلحاد تجاوز الخلق، والجحود بالخالق، فنادت كذبًا بديمومة الكون بلا بداية ولا نهاية، من مثل نظرية الكون المستمر، التي سبق

انتشار مختلف صور الطاقة بالكون، ووحدة القوى في الكون.

أن أعلنها ودافع عنها مجموعة من الفلكيين العاملين في جماعة كامبوردج، وعلى رأسهم كل من هيرمن بوندي وتومس جولد، في سنة 1949م، ونظرية الكون المتذبذب التي نادى بها ريتشارد تولمان من قبل. فقد كان في إثبات وجود الدخان الكوني، والخلفية الإشعاعية للكون بعد إثبات توسع الكون ما يجزم بأن كوننا مخلوق له بداية، ولا بد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية، وقد أكدت الصور التي بثتها مركبة المستكشف للخلفية الإشعاعية، والتي نشرت في إبريل سنة 1992م كل تلك الحقائق. انتشار مختلف صور الطاقة بالكون، ووحدة القوى في الكون انتشار مختلف صور الطاقة بالكون: كان الجرم الابتدائي للكون مفعمًا بالمادة والطاقة المكدسة تكديسًا رهيبًا، يكاد ينعدم فيه الحجم إلى الصفر، وتتلاشى فيه كل أبعاد المكان والزمان، وتتوقف كل قوانين الفيزياء المعروفة لنا، كما سبق وأن أشرنا مرحلة الرتق. هكذا يقول الدكتور زغلول النجار في كتابه. وبعد انفجار هذا الجرم الأولي، وبدء ال كون في التوسع تمدد الإشعاع، وظل الكون مليئًا دومًا بالطاقة الكهرومغناطيسية على أنه كلما تمدد الكون قل تركيز الطاقة فيه، ونقصت كثافته، وانخفضت درجة حرارته. ويرى علماء الفيزياء الفلكية أن أول صورة من صور الطاقة في الكون كانت هي قوة الجاذبية، وهي قوى كونية بمعنى أن كل جسم في الكون يخضع لقوى الجاذبية حسب كتل ته، أو كمية الطاقة فيه، وهي قوة جاذبة تعمل عبر مسافات طويلة،

وتحفظ للجزء المدرك من الكون بناءه وأبعاده، ولعلها هي المقصودة بقول الحق سبحانه: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَاَ} (الرعد: 2) وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحج: 65)، وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (الروم: 25)، وقوله سبحانه: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (لقمان: 10)، وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (فاطر: 41). ويقسم ربنا -تبارك وتعالى- وهو الغني عن القسم في مطلع سورة الطور بالسقف المرفوع، وهذا القسم القرآني جاء بالسماء المرفوعة بغير عمد مرئية، والصورة الثانية من صور الطاقة المنتشرة في الكون هي القوى الكهربائية المغناطيسية، أو الكهرومغناطيسية، وهي قوة تعمل بين الجسيمات المشحونة بالكهرباء، وهي أقوى من الجاذبية بملايين المرات، وتتمثل في قوى التجاذب بين الجسيمات، التي تحمل شحنات كهربية مختلفة موجبة وسالبة، كما تتمثل في قوى التنافر بين الجسيمات الحاملة لشحنات كهربية متشابهة، وتكاد هذه القوى من التجاذب والتنافر أن يلغي بعضها بعضًا؛ لأن حاصل القوى المغناطيسية في الكون يكاد يكون صفرًا، ولكن على مستوى الجزيئات والذرات المكونة للمادة تبقى هي القوى السائدة. والقوى الكهرومغناطيسية بما لها من تجاذب وتنافر هي التي تضطر الإلكترونات في ذرات العناصر إلى الدوران حول النواة بنفس الصورة، التي تجبر فيها قوى الجاذبية، والقوى النابذة المركزية الأرض وغيرها من كواكب؛ يعني تجبر فيها قوى الجاذبية، والقوى النابذة المركزية الأرض إلى الدوران حول الشمس، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على وحدة البناء في الكون من أدق دقائقه إلى أكبر

وحداته، وهو ما يشهد للخالق بالوحدانية المطلقة فوق كافة خلقه بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع. - وحدة القوى في الكون: يوحد علماء الفيزياء النظرية بين كل من القوى الكهرومغناطيسية والقوى النووية القوية والضعيفة فيما يسمى بنظرية التوحد الكبرى، والتي تعتبر تمهيدًا لنظرية أكبر توحد بين كافة القوى الكونية في قوة عظمى واحدة، تشهد لله الخالق بالوحدانية المطلقة. وعن هذه القوة العظمى انبثقت القوى الكبرى الأربع المعروفة في الكون: قوة الجاذبية القوة الكهرومغناطيسية، وكل من القوتين النوويتين الشديدة والضعيفة مع عملية الانفجار الكوني الكبير مباشرة الفتق بعد الرتق. وباستثناء الجاذبية، فإن القوى الكونية الأخرى تصل إلى نفس المعدل عند مستويات عالية جدًّا من الطاقة تسمى باسم الطاقة العظمى للتوحد. ومن هنا فإن هذه الصور الثلاث للطاقة تعتبر ثلاثة أوجه لقوة واحدة لا يستبعد انضمام الجاذبية إليها، باعتبارها قوة ذات مدى طويل جدًّا تتحكم في أجرام الكون، وفي التجمعات الكبيرة للمادة. ومن ثم يمكن نظريًّا غض الطرف عنها من قبيل التبسيط عندما يكثر التعامل على الجسيمات الأولية للمادة، أو حتى مع ذرات العناصر. وهذه الصورة من وحدة البناء في الكون، ووحدة صور الطاقة فيه، مع شيوع الزوجية في الخلق هي شهادة الكون لخالقه للتفرد بالوحدانية المطلقة فوق كثافة خلقه بغير شبيه ولا شريك ولا منازع، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات: 49). وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 10 شرح قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ... }.

الدرس: 10 شرح قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ... }.

ذكر الآيات التي أجملت خلق السموات والأرض.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (شرح قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ... }) ذكر الآيات التي أجملت خلق السموات والأرض الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: سنشرح قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 29). تمهيد عن خلق السموات والأرض في القرآن الكريم: أجمل القرآن الكريم خلق السموات والأرض في ثلاثة مواضع: يقول الله سبحانه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47). ويقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30). ويقول سبحانه: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وبَارَكَ فِيهَا وقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا ولِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا وْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت: 9 - 12). ولقد ثبت علميًّا منذ الثلث الأول للقرن العشرين أن من صفات الكون، الذي نحيا فيه أنه كون دائم الاتساع إلى ما شاء الله؛ بمعنى أن المجرات فيه تتباعد عن مجرت هـ ا، وعن بعضها البعض بسرعات تقترب أحيانا من ثلاثة أرباع سرعة الضوء. وقد احتار العلماء والمفسرون في تحديد أيهما كان الأسبق للخلق الأرض أم السموات؟ أم أنهما قد خلقا في وقت واحد؟ وينسون أن الزمن من خلق الله، وأن القبلية والبعدية اصطلاحات بشرية، لا مدلول بالقياس إلى الله تعالى، الذي لا يحده الزمان ولا المكان.

المفسرون وقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ... }.

ففي تفسير الآية رقم 22 من سورة البقرة في قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا والسَّمَاءَ بِنَاءً} (البقرة: 22) رأى العديد من المفسرين أن معناها: أن الله تعالى قد خلق جميع النعم الموجودة في الأرض لمنفعة الناس، ثم توجهت إرادته تعالى إلى السماء، فجعل منها سبع سموات، وهو تعالى محيط بكل شيء عالم بتفاصيله، والاستواء الإلهي رمز للسيطرة الكلية، والقصد بإرادة الخالق الخلق والتكوين، والتسوية للكون لأرضه وسمائه. وهو تعالى خالق هذا الكون، ومدبره ربه ومليكه، ويأتي ذلك في معرض الاستنكار والاستهجان لكفر الكافرين من الناس بالخالق المبدع المهيمن المسيطر على الكون، الذي سخر لهم الأرض بكل ما فيها، وسخر لهم السموات بما يحفظ الحياة على الأرض ويحميها، ويجعل الأرض قرارًا لهم. المفسرون وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ... } بعد هذا التمهيد نأتي إلى أقوال المفسرين في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}. قال ابن جوزي في كتابه (التسهيل في علوم التنزيل) الجزء الأول ص43 ما نصه: وهذه الآية: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} تقتضي أنه خلق السماء بعد الأرض، وقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (النازعات: 30) ظاهره خلاف ذلك. والجواب من وجهين: أن الأرض خلقت قبل السماء ودحيت بعد ذلك، فلا تعارض، والآخر: تكون ثم لترتيب الأخبار.

وقال ابن كثير: الاستواء يتضمن معنى القصد والإقبال؛ لأنه عدي بإلى فسواهن؛ أي: فخلق السماء سبعًا، والسماء اسم جنس؛ فلهذا قال: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ}؛ أي: وعلمه محيط بجميع ما خلق، ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولًا، ثم خلق السموات سبعًا، وقد صرح المفسرون بذلك. فأما قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّا ها * وأَغْطَشَ لَيْلَهَا وأَخْرَجَ ضُحَاهَا * والْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (النازعات: 27 - 30) فقد قيل: إن ثم هنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر، لا لعطف الفعل على الفعل. وأضاف ابن كثير أن الدحي كان بعد خلق السموات والأرض، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وفي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} البقرة، قال مجاهد: خلق الله الأرض قبل السماء. فهذه دال ة على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء، إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض. وقد توقف في ذلك القرطبي في (تفسيره) لقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا ومَرْعَاهَا * والْجِبَالَ أَرْسَاهَا} (النازعات: 30 - 32)، قال: فذكر خلق السماء قبل الأرض. وفي (صحيح البخاري) أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه، فأجاب: بأن الأرض خلقت قبل السماء، وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا. وقال عدد من المفسرين المحدثين: إن لفظ خلق في هذه الآية الكريمة من سورة البقرة يعني: التقدير دون الإيجاد؛ بمعنى أن جميع مكونات الأرض من نوى

العناصر كانت جاهزة في الدخان الكوني، الناتج عن عملية فتق الرتق؛ ال ذ ي هو الانفجار العظيم، ولو أن كوكب الأرض لم يكن قد تم تشكيله بعد، ثم توجهت إرادة الله إلى السماء وهي دخان، فخلق منها سبع سماوات كما خلق الأرض. ويتضح ذلك من قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وبَارَكَ فِيهَا وقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا ولِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا وْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت: 9 - 12). ويستنتج من هذه الآيات الكريمة: أن الأرض قد خلقت من السماء الدخانية على مراحل أربع متتالية، بينما تم تشكيل السماء الدخانية على هيئة سبع سماوات على مرحلتين، وتم دحو الأرض بمعنى تكوين كل من أغلفتها الغازية، والمائية، والصخرية بعد ذلك؛ استنادًا إلى قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّا ها * وأَغْطَشَ لَيْلَهَا وأَخْرَجَ ضُحَاهَا * والْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أ َخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا ومَرْعَاهَ ا * والْجِبَالَ أَرْسَ اها * مَتَاعًا لَكُمْ ولِأَنْعَامِكُم} (النازعات: 27 - 3 3). وهذه الآيات الكريمة جاءت في مقام الاحتجاج على منكري البعث، فيسألهم ربنا سبحانه هل خلقكم أكبر من خلق السماء التي بنيناها بهذه السعة المبهرة، والنظام الدقيق، والانضباط في الحركة، والإحكام في العلاقات، والارتباط بتلك القوى الخفية، والإشعاعات غير المرئية التي تتحرك كأمر كوني واحد بسرعات كونية عظمى؛ لتربط بلايين النجوم والكواكب والكويكبات والأقمار والمذنبات في داخل المجرات، كما تربط مئات البلايين من المجرات مع بعضها البعض في ركن من السماء الدنيا، التي لا يستطيع العلم إدراك أبعادها، ولا تحديد ما فوقها.

علوم الكون وخلق السموات والأرض.

وأما قوله تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا} (النازعات: 28)، فمعناه: جعل ارتفاعها عظيمًا إشارة إلى أن المسافات الفلكية المذهلة، التي تقدر بعشرات البلايين من السنين الضوئية. وقوله تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وأَخْرَجَ ضُحَاهَا} (النازعات: 29)؛ أي: أَظْلَم ليلها، أو أُظْلم ليلها، أو أظلم الله ليلها، وجعله حالك السواد {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}؛ أي: أنار نهارها بخلق النجوم مثل شمسنا وسط ظلام السماء الحالك، فأرسلت بضيائها إلى أرضنا في وضح النهار، فقامت هباءات الغبار وبخار الماء في الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض بتشتيت ضوء الشمس، وإظهاره بهيئة النور الأبيض الذي نراه في نهار الأرض. وبعد ذلك تذكر الآيات الكريمة أنه قد تم دحو الأرض الابتدائية إلى شكلها الحالي بأغلفتها المختلفة، والدحو لغة: هو المد والبسط والإلقاء، وهي كناية عن الثورانات البركانية العنيفة، التي أخرج بها ربنا سبحانه من جوف الأرض كلًّا من غلافها الغازي، والمائي، والصخري. وهذه كلها مراحل متتالية في تهيئة الأرض لاستقبال الحياة، وقد تمت بعد بناء السموات السبع من الدخان الكوني الناتج عن عملية فتق الرتق والانفجار الكوني العظيم. علوم الكون وخلق السموات والأرض من بديع القدرة الإلهية، ومن الشهادات الناطقة لله تعالى بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع: أن يلتقي الكون في أكبر وحداته مع الكون في أدق دقائق، فيلتقي علم الكون الحديث بعلم الفيزياء الجزيئية، أو فيزياء الجسيمات الأولية للمادة في وحدة واحدة، فدراسات الجسيمات الأولية في داخل الذرة، بدأت تعطي أبعادًا مبهرة لتفهم عملية خلق الكون، ومراحله المختلفة.

ففي الثلث الأول من القرن العشرين تسائل علماء الفلك عن مصدر الطاقة في النجوم، واقترحوا إمكانية كونها عملية معاكسة للانشطار النووي، وأطلقوا عليها اسم عملية الاندماج النووي، وهي عملية يتم بها اندماج نوى العناصر الخفيفة مثل: ال إ يدروجين لتكوين عناصر أعلى في وزنها الذري، وفي الثلاثينيات اقترح هانز بيت عددًا من سلاسل التفاعلات النووية داخل النجوم، تتحد فيها أربع نوى لذرات ال إ يدروجين تكون نواة واحدة من نوى ذرات الهليوم وذلك في قلب نجم كشمسنا تصل درجة الحرارة فيه إلى أكثر من 15 مليون درجة مطلقة، أما في النجوم الأشد حرارة من ذلك، فإن نوى ذرات الهليوم تتحد؛ لتكون نوى ذرات أثقل وزنًا من مثل الكربون، وربما تستمر عملية الاندماج النووي لتخليق نوى ذرات أعلى وزنًا. وفي سنة 1957 تمت صياغة نظرية تخليط نوى العناصر المختلفة في داخل النجوم، بواسطة أربعة من الفلكيين المعاصرين هم: الزوجان مارجريت وجيفري وويليم وفيلد، وذلك في بحث قدموه إلى مجلة مراجعات في الفيزياء الحديث، وقد تمكن علماء الفلك من تفسير التوزيع النسبي للعناصر المختلفة في الجزء المدرك من الكون؛ بناءً على هذه النظرية، كما تمكنوا من تفسير تطور الكون الابتدائي من دخان يغلب على تركيبه غاز الإدروجين، مع قليل من ذرات الهليوم إلى الكون الحالي، الذي يضم في تركيبه أكثر من مائة من العناصر المعروفة، والتي تتدرج خواصها الطبيعية، والكيميائية بناء على ما تحتويه ذرة كلا منها من اللبنات الأولية للمادة، بحيث تم ترتيبها في جدول دوري حسب أعدادها الذرية بدءًا من أخفها وأبسطها بناءً، وهو غاز الإدروجيين إلى أثقلها وأعقدها بناءً، وهو اللورنسيوم، وفق نظام محكم دقيق ينبئ بخواص العنصر من موضعه في الجدول الدوري للعناصر.

تخليق العناصر في الكون الابتدائي.

تخليق العناصر في الكون الابتدائي من الملاحظات العلمية المتوفرة يبدو والله تعالى أعلم أن تخليق العناصر المختلفة لعملية الاندماج النووي لنظائر كل من غاز الإدروجيين، والهليوم قد بدأت منذ اللحظات الأولى للانفجار الكوني الكبير، أو فتق الرتق، وبدأت بتدرج يتفقوا مع ترتيب العناصر في الجدول الدوري الخاص بها؛ بمعنى أن العناصر الخفيفة بدأت في تخلقها قبل العناصر الثقيلة، وأن العناصر الثقيلة لا بد وأنها قد تكونت في داخل النجوم الشديدة الحرارة من مثل المستعرات، أو في أثناء انفجارها؛ أي: في مراحل ما يسمى باسم المستعرات العظمى. ومن الاكتشافات الحديثة أن المادة لها أضدادها، وأن كل جزيء جسيم من الجسيمات الأولية المكونة لذرات المواد له جسم مضاد بنفس الكتلة، ولكنه يحمل شحنة مضادة، وذلك من مثل البروتون، وأضداد البروتون، والنيترون، وأضداد النيترون، والإلكترون وضده، أو النيزترون وضده، وأن نوى الذرات تتكون من جسيمات دقيقة تسمى البريونات من مثل البروتونات، والنيترونات، وأن هذه أيضًا لها أضدادها وهكذا، وعند التقاء أي جسيم من جسيمات المادة وضده، فإنهما يسميان ويتحولان إلى طاقة على هيئة أشعة جاما، حسب القانون الطاقة الناتجة تساوي الكتلة في مربع سرعة الضوء. وقد ثبت علميًّا أن المادة وأضدادها على مختلف المستويات قد خلقت بكميات متساوية عقب عملية الانفجار الكوني، مما يؤكد حقيقة الخلق من العدم، وإمكان الإفناء إلى العدم. وفي سنة 1980 ميلادية منح كل من جيمس وكولونيل وزميله قال فيتش جائزة نوبل في الفيزياء لإثباتها بالتجربة القابلة للتكرار والإعادة أن إفناء بعض

مراحل خلق الكون عند كل من الفلكيين والفيزيائيين.

الجسيمات الأولية للمادة بواسطة أضدادها لا يتم بتماثل تام، ومن هنا كان بقاء المادة في الكون، وعدم فنائها بالكامل. وفي سنة 1983 ميلادية حصل ويليام فاولر على جائزة نوبل في الفيزياء مناصفة مع آخرين لجهوده في تفسير عملية تخليق نوى ذرات العناصر المختلفة بواسطة عملية الاندماج النووي. مراحل خلق الكون عند كل من الفلكيين والفيزيائيين مراحل خلق الكون عند كل من الفلكيين والفيزيائيين؛ باستخدام الحسابات التي وظفت فيها الحواسيب العملاقة تمكن كل من الفلكيين والفيزيائيين المعاصرين من وضع تصور لمراحل خلق الكون على النحو التالي: باستخدام الحسابات، وجد الأمور التالية: 1 - بعد لحظات من عملية الانفجار الكوني العظيم كان بالكون تساوٍ بين البريونات، وأضدادها من جهة، وبين فوتونات الضوء من جهة أخرى، وكانت البريونات وأضدادها يفني بعضها بعضًا منتجة الطاقة، التي يعاد منها تخليق الجسيمات الأولية للمادة وأضدادها. وهذه النظرية التي تشير إلى تساوي كميات المادة وأضدادها في الكون المدرك تؤكد أن اختلافًا في هذا التساوي لا تتعدى نسبته واحدًا في المائة مليون، يمكن أن يفسر غلبة نسبة المادة على نسبة أضدادها في الكون الراهن. وذلك بتحول نسبة من الفوتونات الناتجة عن إفناء الأضداد لبعضها البعض إلى بريونات، وتتم هذه العملية عن طريق إنتاج بريون واحد من كل مائة مليون فوتون، كما تؤكد ذلك الخلفية الإشعاعية الحالية للكون المنظور.

وبعد فناء أغلب البروتونات وأضدادها بدأ الكون في الاتساع، ويحتمل وجود كمية من النيترونات باقية في كوننا المدرك نظرًا لضعف تفاعلها مع أضدادها، فلم تُفْنَ بالكامل. 2 - بعد مضي ثانية واحدة على الانفجار الكوني العظيم، تقدر الحسابات النظرية أن كمية الطاقة المتوفرة في الكون أصبحت تسمح بتكون جسيمات، مثل الإليكترون الذي يحمل شحنة سالبة، وضده البزيترون الذي يحمل شحنة موجبة. وقد أفنت هذه الجسيمات بعضها بعضًا، تاركة وراءها محيطًا من الإشعاع الحار على هيئة فيونات الطاقة، التي انتشرت في كل الكون، والتي تدرك آثارها اليوم فيما يعرف باسم الخلفية الإشعاعية للكون، والتي تشير إلى تناقص كل من كثافة الكون، ودرجة حرارته باستمرار مع الزمن. 3 - بعد نحو خمس ثوان من عملية الانفجار الكوني، تشير الحسابات النظرية إلى أن درجة حرارة الكون انخفضت إلى عدة ملايين من الدرجات المطلقة، ولم يكن موجودًا بالكون سوى عدد من الجسيمات الأولية لكل من المادة والطاقة، من مثل: البروتونات، والنيترونات، والإلكترونات، والنتريونات، والفوتونات. 4 - بعد نحو مائة ثانية من الانفجار الكوني، الذي هو فتق الرتق تقدر الحسابات النظرية أن درجة حرارة الكون قد انخفضت إلى نحو البليون درجة مطلقة، فبدأت البروتونات، والنيترونات في الاتحاد بعملية الاندماج النووي لتكون نوى مجرات نظائر كل من النيتروجين، والهليوم، والليثيوم على التوالي، وتشير كل من الحسابات الرياضية، والتجارب المختبرية إلى أن أول النوى الذرية تكونًا كانت نوى ذرة نظير الإدروجين الثقيل المعروف باسم ديوتريون، ثم تلته نوى نظائر الهليوم.

دعوة قرآنية لإعادة التفكير.

5 - بعد دقائق من الانفجار الكوني العظيم، تشير الحسابات النظرية إلى أن درجة حرارة الكون قد انخفضت إلى مائة مليون درجة مطلقة، مما شجع على الاستمرار في عملية الاندماج النووي، حتى تم تحويل 25% من كتلة الكون إلى غاز الهليوم، وبقيت غالبية النسبة الباقية 75% مكونة من غاز الإدروجين، وينعكس ذلك على التركيب الحالي للكون المدرك، الذي لا يزال الإدروجين يشكل مكونه الأساسي بنسبة تزيد قليلًا على 74%، يليه الهيليوم بنسبة تبلغ 24%، وباقي المائة لخمسة من العناصر المعروفة تكون أقل من 2%، ولذلك يعتقد الفلكيون المعاصرون أن تخلق العناصر في كوننا المدرك قد تم على مرحلتين متتاليتين؛ في الأولى منهما تكونت العناصر الخفيفة عقب عملية الانفجار الكوني مباشرة، وفي المرحلة الثانية: تكونت العناصر الثقيلة بالإضافة إلى كميات جديدة من معظم العناصر الخفيفة، وذلك في داخل النجوم خاصة الشديدة الحرارة منها مثل المستعرات، أو في مراحل انفجارها على هيئة ما يعرف باسم المستعرات العظمى. دعوة قرآنية لإعادة التفكير يقول الدكتور زغلول النجار: لقد أشرنا في الأسطر السابقة إلى أن كلًّا من الحسابات النظرية في مجالات علمي الفلك والفيزياء الفلكية تدعو إلى الاعتناق بأن تخلق العناصر المعروفة لنا في الكون قد تم بعملية الاندماج النووي على مرحلتين كما يلي: المرحلة الأولى: وقد تكونت فيها العناصر الخفيفة عقب عملية الانفجار الكوني مباشرة. المرحلة الثانية: وقد تكونت فيها العناصر الثقيلة بالإضافة إلى كميات جديدة من العناصر الخفيفة، ولا تزالان تتكونان في داخل النجوم، وفي مراحل استعارها، وانفجارها المختلفة.

ولكن الآية الحادية والعشرين من سورة البقرة، التي هي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21) بعدها {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا والسَّمَاءَ بِنَاء} (البقرة: 22). هذه الآية تقرر أن الله خلق لنا ما في الأرض جميعًا قبل تسمية السماء الدخانية الأولى إلى سبع سماوات، ويؤيد ذلك ما جاء في الآيات 9 إلى 12 من سورة فصلت، ومعنى هذه الآيات مجتمعة أن كل العناصر اللازمة للحياة على الأرض، بل إن الأرض الابتدائية ذاتها كانت قد خلقت قبل تمايز السماء الدخانية الأولى إلى سبع سماوات، هل يمكن لكل من علماء الفلك والفيزياء الفلكية والنظرية، وعلماء الأرض المسلمين مراجعة الحسابات الحالية انطلاقًا من هذه الآيات القرآنية لإثبات ذلك، فيخلصون إلى سبق قرآني كوني معجز يثبت المؤمنين على إيمانهم، ويكون دعوة لغير المسلمين في زمن فتن الناس بالعلم، ومعطياته فتنة كبيرة. - بعد ذلك نأتي إلى نقطة أخرى، وهي ترتيب خلق السموات والأرض: إن عملية الخلق خلق الكون والحياة، وخلق الإنسان هي من الأمور الغيبية، التي لا تخضع مباشرة لإدراك الإنسان، كما قال ربنا في محكم كتابه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ ولَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ومَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (الكهف: 51). ولكن من رحمة الله تعالى بنا أنه قد أبقى لنا في صفحة السماء، وفي صخور الأرض من الشواهد الحسية ما يمكنه أن يعيننا على استقراء ذلك، كما أبقى لنا في محكم كتابه، وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله من الآيات، والأحاديث ما يمكن أن يدعم هذا الاستقراء، أو أن يهذبه. وفي ذكره لآيات خلق السموات والأرض يقدم القرآن الكريم يقدم السموات على الأرض في الغالبية العظمى، من الآيات التي تشير إليهما فيما عدى خمس آيات بما فيها ذكر الأرض على ذكر السماء.

وهي على التوالي قول الحق سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا والسَّمَاءَ بِنَاء} (البقرة: 22) الآية الثانية: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (البقرة: 29)، وقوله تعالى: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ والسَّمَاوَاتِ الْعُلَا} (طه: 4)، وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا والسَّمَاءَ بِنَاءً} (غافر: 64)، الآية الخامسة: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وبَارَكَ فِيهَا وقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا ولِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا وْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت: 9 - 12). ونحب أن ننوه أن الآية التي ذكرناها، وهي قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا والسَّمَاءَ بِنَاءً} هي سورة البقرة الآية رقم 22، أما الآية 29 من سورة البقرة هي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. والآيتان الأولى والرابعة التي هي آية البقرة الآية 22، وغافر 64 هما من الآيات الوصفية، التي لا تتعرض لترتيب الخلق، والآية الثالثة طه 14 جاء الترتيب فيها لموافقة النظم في السورة، التي ذكرت فيها السماء بعد الأرض بعد آية واحدة. أما الآية الثانية سورة البقرة آية 29، فواضحة الدلالة على خلق جميع العناصر اللازمة للأرض قبل تمايز السماء الدخانية إلى السموات السبعة؛ وذلك لأنه من الثابت علميًّا، والراجح منطقيًّا أن خلق العناصر سابق على خلق الأرض،

وخلق جميع أجرام السماء، وأن خلق الوحدات الكونية الكبرى كالسند، والمجرات سابق على ما يتعلق بداخلها من نجوم، وتوابع تلك النجوم من الكواكب والكويكبات والأقمار. وأما الآيات في سورة فصلت 9 إلى 12 تشير إلى أن خلق الأرض الابتدائية كان سابقًا على تمايز السماء الدخانية الأولى إلى سبع سماوات، وأن دحو الأرض الابتدائية؛ بمعنى تكون أغلفتها الغازية، والمائية، والصخرية جاء بعد ذلك، ويدعم هذا الاستنتاج ما جاء في سورة النازعات من قول الحق سبحانه: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّا ها * وأَغْطَشَ لَيْلَهَا وأَخْرَجَ ضُحَاهَا * والْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أ َخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا ومَرْعَاهَ ا * والْجِبَالَ أَرْسَ اها * مَتَاعًا لَكُمْ ولِأَنْعَامِكُم}. وفي الآيات من 9 إلى 12 من سورة فصلت يخبرنا ربنا سبحانه بأنه قد خلق الأرض في يومين، وجعل لها رواسي، وبارك فيها، وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام؛ أي: أربع مراحل، ثم خلق السموات في يومين؛ أي: مرحلتين. وهو القادر على أن يقول للشيء: كن فيكون، ولكن هذا التدرج كان لحكمة مؤداها أن يفهم الإنسان سنن الله في الخلق، فقد يلتبس على القارئ لأول وهلة أن خلق الأرض وحدها قد استغرق ستة أيام؛ أي: ستة مراحل، وأن خلق السماء قد استغرق يومين؛ أي: مرحلتين، فيكون خلق السموات والأرض قد استغرق ثمانية مراحل، والآيات القرآنية التي تؤكد خلق السموات والأرض في ستة أيام؛ أي: ستة مراحل آيات عديدة، لكن الآيات في سورة فصلت تشير إلى أن يومي خلق الأرض هما يوم خلق السموات السبع؛ وذلك لأن الأمر الإلهي كان للسماء والأرض معًا؛ لقول الحق: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا ولِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 11 الإعجاز في ضرب المثل بالذباب.

الدرس: 11 الإعجاز في ضرب المثل بالذباب.

عرض موجز لسورة الحج التي ذكرت فيها الآية

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (الإعجاز في ضرب المَثَل بالذباب) عرض موجز لسورة الحج التي ذكرت فيها الآية الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: سنشرح قول الله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج: 73). هذا النص القرآني المعجز جاء في خواتيم سورة الحج، وهي سورة مدنية، ومجموع آياتها ثمان وسبعون بعد البسملة، وهي ال س ورة الوحيدة من بين س ور القرآن الكريم التي جمعت بين سجدتين من سجدات التلاوة، وقد سميت بهذا الاسم من ورود الإشارة فيها إلى الأمر الإلهي الصادر إلى أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه من الله السلام بالأذان في الناس بالحج، ويدور المحور الرئيسي لل س ورة حول عدد من التشريعات الإسلامية بأحكام كل من الحج والطعام والإذن بالقتال والجهاد في سبيل الله؛ دفاع ً اعن النفس وعن الدين وشعائره ومقدساته، وعن أعراض وأموال وممتلكات وأراضي المسلمين؛ دفع ً الظلم الظالمين ولبغي الباغين المتجبرين في الأرض بغير الحق. ويصحب هذه التكاليف وعد قاطع من الله تعالى بنصر المجاهدين في سبيله، وبالتمكين لعباده المؤمنين الذين ينهضون في غير تردد لدفع كل عدوان باغ على المسلمين، أو على غيرهم من البشر المسالمين مع تأكيد قوة الله البالغة وضعف الشركاء المزعومين، والإشارة إلى مصارع الغابرين من الكفار والمشركين والبغاة الظالمين، وإلى سنن الله تعالى في ذلك، وهي سنن لا تتوقف ولا تتبدل ولا تتخ لف. تبدأ سورة الحج بدعوة الناس جميعا إلى تقوى الله، وتحذرهم من هول الساعة وما يصاحبها من أحداث جسام، ومن اتباع الشيطان؛ لأنه يضل من يتبعه ويهديه إلى عذاب السعير.

وتحذر كذلك من الخوض في الذات الإلهية بغير علم، وتؤكد حقيقة البعث مستشهدة على حتميته ب خلق الإنسان من تراب، وذلك بإنبات الأرض بعد إنزال الماء عليها واتخاذه دليلا على إحياء الموتى مؤكدة أن الله تعالى على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وتعاود السورة الكريمة الحديث عن من يضلهم الشيطان ويجادلون في الذات الإلهية بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير؛ ليضلوا غيرهم عن سبيل الله، وهؤلاء لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب شديد، وتشير السورة إلى أن من الناس من يعبد الله؛ طمع ً افي كريم عطائه فقط ف إن أصابه خير اطمأن به، وإن ابتلي بفتنة انقلب على عقبيه فخسر الدنيا والآخرة؛ وذلك هو الخسران المبين. وتحذ ر سورة الحج من الشرك بالله واصفة إياه بالضلال البعيد، ومؤكدة عجز الشركاء المزعومين عن نفع أو ضر من أشركوهم مع الله تعالى، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وتؤكد السورة الكريمة جزاء العمل الصالح بقول ربنا -تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (الحج: 14). وتضيف السورة مؤكدة أن الله -تعالى- قد تعهد بنصر خاتم أنبيائه ورسله وبنصر أتباعه في الدنيا والآخرة رغم كيد الكائدين وحقد الحاقدين، وفي الإشارة إلى القرآن الكريم يقول ربنا -تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} (الحج: 16) وفوضت الآيات الأمر إلى الله تعالى في الفصل بين أصحاب الملل والنحل المختلفة في يوم القيامة، مؤكدة أن جميع ما في هذا الوجود ومن فيه يسجدوا لله - سبحانه - في عبودية كاملة وخضوع تام يمثلان قيمة التكريم للمخلوقات؛ لأن من يعرض عن ذلك من أصحاب الإرادة الحرة فليس له من مكرم.

ومايزت سورة الحج بين عذاب الكافرين في الآخرة ونعيم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأشارت إلى أن من الكفر بالله الصد عن سبيله وعن المسجد الحرام والظلم والإلحاد فيه، وأكدت أن الله تعالى قد هدى إبراهيم -عليه السلام- إلى التوحيد الخالص، وإلى مكان البيت الحرام وأمره برفع قواعده وإعادة بنائه، والعمل على تطهيره للطائفين والقائمين والركع السجود، وأن يؤذن في الناس بالحج يأتوه من كل فج عميق، وبذلك أقامت فريضة الحج وما فيها من تعظيم لشعائر الله، وحذرت من انتهاك حرمات الله، وأمرت بالحلال من الطعام، وباجتناب الرجس من الأوثان واجتناب قول الزور. كما أمرت بالحنيفية السمحة، ونهت عن الشرك بالله وحذرت من عقاب المشركين في يوم الدين، وأكدت أن تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب، وأشارت إلى أن الله -سبحانه- قد جعل على كل أمة قربانا تقدمه لله شكرا على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وتكرر سورة الحج تأكيد وحدانية الله وضرورة الخضوع الكامل لجلاله ل لإسلام له، وتأمر خاتم الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليه وسلم - أن يبشر بخيري الدنيا والآخرة كلا من المتواضعين لله تعالى والمطمئنين إلى حكمه والذين تخشع قلوبهم لذكره، والصابرين على قضا ئ هـ، والمقيمين للصلاة خالصة له، والمنفقين مما رزقهم الله طلبا لمرضاته. وأكدت أن من شعائر الحج النحر لله فإذا ذبحت البدن بعد ذكر اسم الله عليها أكل منها مقدمها وأطعم السائل وغير السائل ممن يتعرضون له، ولذلك سخرها الله تعالى لهم من قبيل الشكر لله على وه ب تلك الأنعام، وعلى هدايته - سبحانه - لهؤلاء المحسنين الذين قدموها قربانا إلى الله بشرهم الله تعالى بالقبول فيقول - سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (الحج: 37، 38).

ويتكرر في سورة الحج ال إذ ن بالقتال الدفاعي للذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغي ر حق إلا أن يقولوا ربنا الله كما حدث، ولا يزال يحدث مع إخواننا المسلمين الذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. وتؤكد هذه السورة ال كر يمة أن الله تعالى سوف ينصر من ينصره، وهو القوي العزيز، وتصف سورة الحج أنصار الله بقول الله - سبحانه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 41). وتخاطب الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- في مواساة رقيقة من الله تعالى لتكذيب الكافرين والمشركين لبعثته الشريفة؛ فيقول له رب العالمين: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} (الحج: 42 - 48). وتطالب الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين - صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين - بأن يعلن للناس جميعا أنه نذير مبين لهم فتقول الآيات: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (الحج: 49 - 51).

وتؤكد سورة الحج أن الله العليم الحكيم قد أحكم آيات كتابه العزيز، وحفظها من كل تدخل شيطاني حتى يبقى كتاب الله في صفائه الرباني محتفظ ً ابالحق الذي أنزله ربنا -تبارك وتعالى- وفي ذلك يقول الله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} (الحج: 54، 55). وتكرر السورة الكريمة التفريق بين نعيم الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الآخرة وجحيم الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، مؤكدة ثواب المهاجرين في سبيل الله والمجاهدين من أجل إعلاء دينه وإقامة عدله على الأرض، وأن الله تعالى قد أخذ على ذاته العلية نصرة كل مظلوم، واستشهدت السورة الكريمة بعدد من الآيات الكونية على حقيقة الألوهية فيقول - سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هو الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (لقمان: 62). وركزت الآيات على زجر المعارضين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل الكتاب في زمانه وإلى زماننا وحتى قيام الساعة، وتحذرهم من مخالفته وعصيانه، مؤكدة خر وجهم على ما جاءهم من كتب وما أنزل له م فيها من الشرائع والعقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات، وفي ذلك ت ق ول الآيات: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الحج: 71، 72). وتختتم سورة الحج بقول الله - سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ

من أسس العقيدة الإسلامية في سورة الحج.

تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج: 75 - 78). من أسس العقيدة الإسلامية في سورة الحج 1 - الإيمان بالله رب ًّ اخالق ً اواحد ً اأحد ً ابغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صاحب ة ولا ولد ًا، وأنه تعالى هو الحق، وهو القوي العزيز السميع العليم البصير مالك الملك الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويفعل ما يشاء، وهو على كل شيء شهيد ووكيل، وهو - سبحانه - ي دافع عن الذين آمنوا، وقد أخذ على ذاته العلية العهد بنصرة من ينصر دينه، ومن يجاهد من أجل إعلاء كلمته وإقامة عدله على الأرض، وأن من يهن الله فما له من مكرم، وأن له يسجد كل من في السموات والأرض وأن إليه ترجع الأمور، وأنه تعالى يفصل بين أصحاب الملل المختلفة يوم القيامة. 2 - اليقين بأن الله تعالى يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله وبخاتمهم أجمعين، وبالكتاب الخاتم الذي أنزل إليه القرآن الكريم المهيمن على كل الكتب السابقة والناسخ له. 3 - التسليم بضرورة تقوى الله ومخافته وال اعتصام بحبله المتين وتعظيم شعائره وأولها المسجد الحرام الذي قال -تبارك وتعالى- فيه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25).

من العبادات المفروضة والإشارات الكونية في سورة الحج.

4 - التصديق بحقيقة البعث وحتميته وضرورته وبالحساب والجزاء وبالجنة والنار. 5 - التسليم بعدم جدوى الجدل في الأمور الغيبية غيبة مطلقة. من العبادات المفروضة والإشارات الكونية في سورة الحج من العبادات المفروضة في سورة الحج: 1 - إقامة الصلاة على وقتها. 2 - إيتاء الزكاة إلى مستحقيها وبقدرها. 3 - حج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا. 4 - الجهاد في سبيل الله دفعا ل ظلم الظالمين ولبغي الباغين. 5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 6 - التواصي بالحق والتواصي بالصبر. 7 - محاربة الشيطان وعدم اتباع خطواته. 8 - التخلص من الشرك بكل صوره وأشكاله ومراتبه. 9 - الامتناع التام عن قول الزور والعمل به. من الإشارات الكونية في سورة الحج: 1 - الإشارة إلى خلق الإنسان من تراب، ووصف مراحل الجنين المتتالية بدقة بالغة حتى يخرج إلى الحياة طفلا يحيا ما شاء الله تعالى له أن يحيا، ثم يتوفاه

الله -سبحانه- عند نهاية أجله، والذي يرد من البشر إلى أرذل العمر تضعف ذاكرته في أغلب الأحوال حتى لا يكاد أن يعلم من بعد علم شيئا. 2 - الإشارة إلى اهتزاز الأرض وارتفاعها وإنباتها من كل زوج بهيج بمجرد إنزال الماء عليها، وتشبيه خلق الإنسان من تراب الأرض وبعثه منها بعملية إنبات النبات. 3 - تأكيد حقيقة أن جميع من في السموات والأرض يسجد لله تعالى طوعا أو كرها. 4 - الإشارة إلى نسبية كل من المكان والزمان في منظور الإنسان، وإلى ضخامة أبعاد الكون، وذلك بقول الحق -تبارك وتعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47). 5 - التعبير اللطيف عن كروية الأرض وعن دورانها حول محورها أمام الشمس بولوج كل من الليل والنهار في الآخر. 6 - الإشارة إلى اخضرار الأرض بمجرد إنزال الماء عليها من السماء. 7 - تأكيد أن كل ما في الأرض مسخر للإنسان، وكذلك كل ما في البحر بما في ذلك جري الفلك بأمر الله تعالى. 8 - الإشارة إلى حقيقة أن الله تعالى يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. 9 - تأكيد عجز كل المخلوقين من الأصنام والأوثان والأشخاص منفردين ومجتمعين عن خلق ذ بابة واحدة، فضل ً اعن إمكانهم استنقاذ ما يسلب ال ذ باب منه م، مما يقدم لهم من قرابين أو مما يلطخون به من طيب أو مما يأكل الناس ويشربون بصفة عامة.

أقوال المفسرين في تفسير الآية، والدلالات العلمية فيها.

وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة، لكن حديثنا كما يقول الدكتور زغلول النجار سوف يقتصر على النقطة التاسعة؛ وهي قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج: 73). أقوال المفسرين في تفسير الآية، والدلالات العلمية فيها أ- أقوال المفسرين في تفسير الآية: ماذا قال المفسرون في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}؟ ذكر ابن كثير -رحمه الله- ما مختصره: يقول تعالى منبه ً اعلى حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها: يا أيها الناس ضرب مثل لما يعبده الجاهلون بالله والمشركون به فاستمعوا له؛ أي أنصتوا وتفهموا، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباب ًا ولو اجتمعوا له؛ أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك. ثم قال تعالى أيضا: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} أي هم عاجزون عن خلق ذباب واحد، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومت هـ والانتصار منه، ولو سلبها شيئا من الذي عليها من الطيب أو من الطعام ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك، هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها، ولهذا قال تعالى: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}.

قال ابن عباس: "الطالب الصنم والمطلوب الذباب ". واختاره ابن جرير وقال السدي وغيره: "الطالب العابد والمطلوب الصنم ". وجاء في (الظلال) رحم الله كاتبها برحمته الواسعة جزاء ما قدم ما مختصره يقول صاحب (الظلال): "إنه النداء العام والنفير البعيد الصدى يا أيها الناس، فإذا اجتمع الناس على النداء أعلنوا أنهم أمام مثل عام يضرب لا حالة خاصة ولا مناسبة حاضرة ". ضرب مثل فاستمعوا له، هذا المثل يضع قاعدة ويقرر حقيقة: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، كل من تدعون من دون الله من آلهة مدعاة من أصنام وأوثان ومن أشخاص وقيم وأوضاع، تستنصرون بها من دون الله وتستعينون بقوتها وتطلبون منها النصر والجاه كلهم لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، والذباب صغير حقير. ولكن هؤلاء الذين ي دعونه آلهة لا يقدرون ولو اجتمعوا وتساندوا على خلق هذا الذباب الصغير الحقير، وخلق الذباب مستحيل كخلق الجمل والفيل؛ لأن الذباب يحتوي على ذلك السر المعجز سر الحياة، فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل، لكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير؛ لأن العجز عن خلقه يلقي في هذا الحس ذل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير، وهذا من بدائع الأسلوب القرآني العجيب. ثم يخطو خطوة أوسع في إبراز الضعف المزري {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} والآلهة المدع اة لا تملك استنقاذ شيء من الذباب حين يسلبها إياه؛ سواء كانت أصناما أو أوثانا أو أشخاصا، وكم من عزيز يسلبه الذباب من الناس ف لا يملكون رده.

وقد اختير الذباب بالذات وهو ضعيف حقير وهو في الوقت نفسه يحمل أخطر الأمراض، ويسلب أغلى النفائس؛ يسلب العيون والجوارح، وقد يسلب الحياة والأرواح. إنه يحمل ميكروبات السل والتيفود والديسونتاريا والرمد، ويسلب ما لا سبيل إلى استنقاذه وهو الضعيف الحقير، وهذه حقيقة أخرى كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني المعجز ولو قال: وإن تسلبهم السباع شيئا لا يستنقذوه منها، لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف، والسباع لا تسلب شيئا أعظم مما يسلبه الذباب، لكنه الأسلوب القرآني العجيب. ويختم ذلك بالمثل المصور الموحى ب هذا التعقيب {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ليقرر ما ألقاه المثل من ظلال، وما أوحى به إلى المشاعر والقلوب. وذكر أصحاب (المنتخب في تفسير القرآن الكريم) جزاهم الله خيرا ما نصه: يا أيها الناس إنا نبرز أمامكم حقيقة عجيبة في شأنها فاستمعوا إليها وتدبروها. إن هذه الأصنام لن تستطيع أبدا خلق شيء مهما يكن حقيرا تافها كالذباب، وإن تضافروا جميعا على خلقه، بل إن هذا المخلوق التافه لو سلب من الأصنام شيئا من القرابين التي تقدم إليها؛ فإنها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تمنعه عنه أو تسترده منه، وما أضعف الذي يهزم أمام الذباب عن استرداد ما سلبه منه، وما أضعف الذباب نفسه كلاهما شديد الضعف، بل الأصنام كما ترون أشد ضعفا؛ فكيف يليق بإنسان عاقل أن يعبدها ويلتمس النفع منها. وجاء في (صفوة التفاسير) جزى الله كاتبها خيرا ما نصه: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له؛ أي يا معشر المشركين ضرب الله مثلا لما يعبد من دون الله من الأوثان والأصنام فتدبروه حق التدبر، واعقلوا ما يقال لكم. إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له؛ أي أن هذه الأصنام التي عبدتموها

من دون الله لن تقدر على خلق ذبابة على ضعفها، وإن اجتمعت على ذلك فكيف يليق بالعاقل جعلها آلهة وعبادتها من دون الله. قال القرطبي: "وخص الذباب لأربعة أمور؛ لمهانته وضعفه ولاستقذاره وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله على خلق مثله ودفع أذيته؛ فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين وأربابا مطاعين؟! وهذا من أقوى الحجج وأوضح البراهين؛ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه؛ أي لو اختطف الذباب وسلب شيئا من الطيب الذي كانوا يضعونه على الأصنام لما استطاعت تلك الآلهة استرجاعه منه رغم ضعفه وحقارته {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} أي ضعف العابد الذي يطلب الخير من الصنم، والمطلوب الذي هو الصنم؛ فكل منهما حقير ضعيف". ب- من الدلالات العلمية للنص الكريم: أولًا في قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} الاستلاب في اللغة هو الاختلاس، والسلب هو نزع الشيء من الغير على القهر، والسلب والسليب هو الشخص المسلوب والناقة التي سلب ولدها، والسلب أيض ً اهو الشيء المسلوب، ويقال للحاء الشجر المنزوع منه. وفي استخدام القرآن الكريم تعبير {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} ومضة معجزة؛ لأن الذباب يختلس ما يأخذه من أشربة وأطعمة الناس اختلاسا، وينزعها منهم نزعا على القهر لعجزهم عن مقاومته في أغلب الأحوال. فحركات الذبابة المنزلية على درجة عالية من التعقيد؛ إذ تبدأ في الاستعداد للطيران بتحديد العضلات التي سوف تستخدمها، ثم تأخذ وضع التأهب للطيران؛ وذلك

بتعديل وضع أعضاء التوازن في الجهة الأمامية من الجسم حسب زاوية الإقلاع واتجاه وسرعة الريح، وذلك بواسطة خلايا حسية خاصة موجودة على قرون الاستشعار في مقدمة الرأس. وهذه العمليات المعقدة لا تستغرق أكثر من 1 من مائة من الثانية، ومن الغريب أن الذبابة لها قدرة على الإقلاع عموديا من المكان الذي تقف عليه، كما أن لها القدرة على المناورة بالحركات الأمامية والخلفية والجانبية بسرعة فائقة لتغيير مواقعها، وبعد طيرانها تستطيع الذبابة زيادة سرعتها إلى عشرة كيلو مترات في الساعة، وهي تسلك في ذلك مسارا متعرجا، ثم تحط بكفاءة عالية على أي سطح بغض النظر عن شكله وارتفاعه واستقامته أو انحدا ر هـ وملائمته أو عدم ملائمته لنزول شيء عليه. ويساعد الذبابة على هذه القدرة الفائقة في المناورة جناحان مل ت صقان مباشرة بصدرها، بواسطة غشاء رقيق جدا مندمج مع الجناح، ويمكن لأي من هذين الجناحين أن يعمل بشكل مستقل عن الآخر، وإن كان ايعملان معا في أثناء الطيران على محور واحد إلى الأمام أو إلى الخلف، يدعمهما نظام معقد من العضلات، يعين هذين الجناحين ع لى أن يتم اإلى مائ تي خفقة في الثانية الواحدة كما هو الحال في الذباب الأزرق، وعليها أن تستمر على ذلك لمدة نصف الساعة وأن تتحرك لمسافة ميل كامل على هذه الحالة. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 12 تابع الإعجاز في ضرب المثل بالذباب - ضرب المثل بالبعوضة.

الدرس: 12 تابع الإعجاز في ضرب المثل بالذباب - ضرب المثل بالبعوضة.

تتمة الحديث عن الدلالات العلمية لآية سورة الحج.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (تابع الإعجاز في ضرب المَثَل بالذباب - ضرب المَثَل بالبعوضة) تتمة الحديث عن الدلالات العلمية لآية سورة الحج الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: سنتابع شرح قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} (الحج: 73) ونتابع الدلالات العلمية لهذا النص الكريم: تستمد الذبابة مهاراتها الفائقة في الإقلاع والطيران والهبوط من التصميم المثالي لجسدها ولأجنحتها؛ إذ إن النهايات السطحية للأوردة المنتشرة في تلك الأجنحة تحمل شعيرات حساسة جدا لقياس ضغط الهواء واتجاه الريح، كذلك فإن أجهزة الحس الموجودة تحت الأجنحة وخلف رأس الذبابة تقوم بنقل معلومات الطيران إلى دمائها باستمرار، ثم إلى رأسها الذي يرسل أوامر إلى العضلات باستمرار أيضا؛ لتوجيه الأجنحة في الاتجاه الصحيح، وبذلك يتم توجيه الذبابة في أثناء الطيران بدقة وإحكام فائقين، مما يعينها على إصابة الهدف وتجنب المخاطر بكفاءة عالية. ويعين الذباب في ذلك أيضا عينان مركبتان لا يزيد حجم الواحدة منها على نصف المليمتر مكعب، وتتكون كل عين منهما من ستة آلاف عيينة سداسية لها القدرة على الرؤية في جميع الاتجاهات، وكل واحدة من هذه العيينات مرتبطة مع ثمانية أعصاب مستقبلة للضوء؛ اثنان منها للألوان وستة متخصصة في ضبط تحركات الذبابة؛ لأنها تكشف كل شيء في المجال البصري لها، وبذلك يكون مجموع الخيوط العصبية في الواحدة من عيني الذبابة ما يقدر بثمانية وأربعين ألف خيط عصبي، يمكنها معالجة أكثر من مائة صورة في الثانية الواحدة. هذا بالإضافة إلى مليون خلية عصبية متخصصة بالتحكم في حركة الذبابة من أعلى إلى أسفل وبالعكس، ومن الأمام إلى الخلف وبالعكس، كل ذلك يعين

الذبابة على الانقضاض على الشراب أو الطعام، فتحمل منه بواسطة كل من فمها والزغب الكثيف المتداخل الذي يغطي جسمها ما تحمل، ثم تهرب مبتعدة في عملية استلاب حقيقية بمعنيها لاختلاس ونزع الشيء على القهر. ثانيًا: في قوله تعالى: {لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} يعرف العلماء اليوم من أنواع الذبابة الحقيقية المجموعة في رتبة ثنائيات الأجنحة حوالي مائة ألف نوع، وتنتشر هذه الأنواع من الذباب انتشارا هائلا في مختلف بيئات الأرض، وتسيطر على مساحات شاسعة من أماكن انتشارها سيطرة كاملة، لا تُمكِّن الإنسان من مجرد اجتيازها فضلا عن العيش فيها، ومن حيث الانتشار على الأرض تأتي الحشرات في المقام الأول بين مختلف مجموعات الحياة، ويأتي الذباب في المرتبة الثالثة بعد كل من النمل والبعوض. ولولا التوازن الدقيق الذي وضعه ربنا -تبارك وتعالى- بين مختلف مجموعات الحياة لغطت جيوش الذباب سطح الأرض بالكامل، وجعلت الحياة عليها مستحيلة وذلك لأن الذبابة تضع نحو أربعمائة بيضة في المرة الواحدة في المتوسط، وأن من أنواع الذباب ما يتكاثر بمعدلات أعلى من ذلك بكثير، بحيث لو قدر لجميع بيضها أن يفقس وأن يعيش كل ما يخرج منه ويتوالد لنتج عن الزوج الواحد من الذباب خلال فصل واحد من فصول السنة ما تعداده يفوق رقم 10 مسبوقا بستين صفرا، ولكن الله تعالى من عظيم حكمته يسلط من مخلوقاته مثل الطيور والنمل وغيرها ما يستهلك أغلب بيض الذباب كطعام له. والذباب يتغذى عادة على النفايات المختلفة، وإن كانت أشربة الناس وأطعمتهم لا تسلم من هجماته، والذباب المنزلي تتذوق الشراب أو الطعام بمجرد أن تحط عليه، وذلك بواسطة خلايا حسية منتشرة في كل من شفتها وأقدامها، فإن راقها

سلبت منه ما تستطيع وهربت بسرعة فائقة كما يفعل اللصوص، فإن كان ما سلبته شرابا امتصته بواسطة خرطومها ليصل إلى جهازها الهضمي، المزود بالقدرة على إفراز الخمائر القادرة على هضمه، وتمثيله تمثيلا كاملا في ثوان معدودة، وبذلك لا يمكن استنقاذه منها. أما إذا كان الطعام صلبا فإن الذباب المنزلي تفرز عليه من بطنها عددا من الإنزيمات والعصائر الهاضمة، بالإضافة إلى لعاب، وهذه تبدأ في إذابة ما تقع عليه من الطعام الصلب فورا، مما يمكن الذباب من امتصاصه بخرطومها وبأجزاء فمها ذات الطبيعة الإسفنجية، ومن ثم لا يمكن استرجاعه أبدا أو استنقاذه بأي حال من الأحوال. وحتى الذباب الذي يعيش على امتصاص بعض رحائق الأزهار، أو امتصاص دماء غيره من الحشرات فإنه يقوم بتحقيق ذلك بواسطة خرطوم الفم الماص وأجزائه الإسفنجية المهيأة لذلك. هذا بالإضافة إلى أن جسم الذبابة مغطى بزغب كثيف متداخل يغطي كلا من رأسها وصدرها وبطنها وأرجلها الست وأقدامها وجناحيها، فإذا غطت نفسها في سائل من السوائل أو مسحوق من المساحيق حمل هذا الزغب منه ما لا يمكن استنقاذه أبدا. ثانيا: في قوله تعالى: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج: 73) من الثابت علميًّا أن البشرية كلها عاجزة كل العجز عن خلق خلية واحدة في الزمن الراهن؛ زمن التقدم العلمي والتقني المذهل غير المسبوق في تاريخ البشرية كله، وهي بالتالي أعجز عن خلق ذبابة واحدة.

ونحن نعلم اليوم أن جسد الذبابة مكون من ملايين الخلايا المتخصصة الموزعة في أنسجة متخصصة، وفي أجهزة متعددة تعمل في توافق تام من أجل حياة هذه الحشرة الصغيرة التي ينقسم جسمها إلى رأس وصدر وبطن، ومكون من حلقات مغطاة بزعب كثيف، ومزودة بثلاثة أزواج من الأرجل وبأقدام مغطاة أيضا بزغب كثيف على هيئة الخف، تفرز مواد لاصقة تعين الذبابة على الالتصاق بأي سطح من الأسطح بهيئة معتدلة أو مقلوبة كالتصاقها بأسقف الغرف. وإذا علمنا أن بجسم الذبابة أكثر من مليون خلية عصبية متخصصة بتحركات تلك الحشرة الضعيفة، وأن هذه الخلايا العصبية مرتبطة بثمانية وثلاثين زوجا من العضلات؛ منها: سبعة عشر زوجا من هذه العضلات من حركة الجناحين وواحد وعشرون زوجا لحركات الرأس، وإذا علمنا أيضا أن للذبابة زوجا من العيون المركبة التي تتكون الواحدة منهما من ستة آلاف عيينة سداسية، يتصل بكل واحدة منها ثمانية خيوط عصبية مستقبلة للضوء، بمجموع ثمانية وأربعين ألف خيط عصبي للعين الواحدة، يمكنها معالجة مائة صورة في الثانية الواحدة. وإذا فهمنا غير ذلك من الأجهزة المتخصصة وتعقيداتها في جسم الذبابة لأدركنا مدى التحدي الذي أنزله ربنا -تبارك وتعالى- في سورة الحج بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج: 73). والطالب في هذه الآية الكريمة هو المسلوب الذي سلبه الذباب شيئا مما هو له، والمطلوب هو الذباب السالب، وسواء كان المسلوب هو المعبود من دون الله صنما كان أو بشرا أو نظاما أو قيما أو أوضاعا معينة، فإنهم جميعا عاجزون عن

خلق خلية حية واحدة، فضلا عن ذبابة واحدة؛ فما بالنا بمائة ألف نوع معروف من أنواع الذباب، ويمثل كل نوع منه بلايين البلايين من الأفراد، ويستمر القرآن الكريم في تحديه؛ لأن الإنسان الكافر أو المشرك وما يعبد من دون الله من وثن أو صنم أو بشر أو نظام لن يعجزوا فقط عن خلق الذباب، بل إنهم عاجزون عن استنقاذ ما يسلبه الذباب منهم من طعام أو شراب أو طيب أو دهون. فالذباب عندما يحط على شيء من ذلك فإن كان سائلا سلب قطرة منه، وأوصلها فورا إلى جهازه الهضمي الذي يمتصها ويحولها إلى جهازه الدوري ومنه إلى مختلف خلاياه، وإن كان مادة صلبة صب عليها لعابه وإنزيمات معدته وعصائرها الهاضمة، فيفككها فورا ويذيبها أي يهضمها قبل أن يمتصها ويوصلها مهضومة إلى جهازها الهضمي، ومنه إلى جهازها الدوري، ثم إلى مختلف خلايا جسم الذبابة حيث يتحول جزء من هذا الطعام إلى طاقة، ويتحول جزء آخر إلى مكونات الخلايا والأنسجة وإلى عدد من المركبات العضوية التي يستخدمها الجسم، ويتحول الباقي إلى فضلات تتخلص منها الذبابة ولا سبيل أبدا إلى استرجاع أي من ذلك. هذه الحقائق لم يصل إليها علم الإنسان إلا في القرن العشرين، وفي العقود المتأخرة منه وورودها في كتاب الله بهذه الإشارات الدقيقة المحكمة الموجزة لمما يشهد بأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده في لغة وحيه نفسها -اللغة العربية- على مدى أربعة عشر قرنًا أو يزيد، وتعهد بذلك الحفظ إلى قيام الساعة ليبقى هاديا للناس جميعا، وحجة على أهل العلم منهم خاصة، وذلك في قوله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 42).

عرض موجز لسورة البقرة التي ذكرت فيها آية البعوضة

عرض موجز لسورة البقرة التي ذكرت فيها آية البعوضة شرح قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} (البقرة: 26). سورة البقرة سورة مدنية وعدد آياتها 286 آية، وهي أطول سور القرآن الكريم على الإطلاق، وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى تلك المعجزة التي أجراها الله -سبحانه- على يد نبيه موسى -عليه السلام- حين تعرض شخص من بني إسرائيل في زمانه للقتل ولم يعرف قاتله، فأوحى الله تعالى إلى عبده موسى أن يأمر قومه بذبح بقرة، وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله ويخبرهم عن قاتله، ثم يموت إحقاقا للحق وشهادة لله بالقدرة على إحياء الموتى. ومن مزايا سورة البقرة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال فيها: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، وأن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان)) رواه الترمذي. وقال -صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)) رواه البخاري ورواه مسلم ورواه الترمذي. وقال -صلى الله عليه وسلم: ((يأتي القرآن وأهله الذين يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تأتيان كأنهما غيابتان، أو كأنهما غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظلة من طير صواف تجادلان عن صاحبهما)) أخرجه مسلم وأخرجه الترمذي. ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي قال -صلى الله عليه وسلم: ((اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة)).

ويدور المحور الرئيسي لسورة البقرة حول قضية التشريع الإسلامي في العبادات والأخلاق والمعاملات، وإن لم تغفل قضية العقيدة الإسلامية؛ لأنها صلب الدين، كذلك حددت السورة الكريمة صفات كل من المؤمنين والمنافقين والكافرين، وسجلت قصة خلق الإنسان بدءا بآدم وحواء -عليهما السلام- وأشارت السورة إلى عدد من أنبياء الله ورسله منهم إبراهيم وولده إسماعيل وحفيده يعقوب، ومن نسله موسى وداود وسليمان وعيسى بن مريم على نبينا وعليهم من الله السلام. وبتفصيل بلغ أكثر من ثلث السورة تناولت سورة البقرة قضية أهل الكتاب وموقفهم من الرسالة الخاتمة، ومن النبي والرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- وختمت بإقرار حقيقة الإيمان وبدعاء يهز القلب والروح والوجدان، على لسان العبد مناجيا ربه -سبحانه- بما يجب أن يقول فيقول: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 286). ويمكن إيجاز أهم معطيات سورة البقرة فيما يلي: من التشريعات الإسلامية في سورة البقرة؛ فصلت سورة البقرة أحكام الأسرة المسلمة من الخطبة إلى الزواج والإنجاب والطلاق في بعض الحالات والمتعة والرضاع والعدة وغيرها، وأمرت باعتزال النساء في المحيض، ونهت عن نكاح المشركات والمشركين حتى يؤمنوا، وعددت المحرمات من الطعام من مثل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه. كما حرمت كلا من الخمر والميسر.

وشرعت سورة البقرة القصاص في القتلى حماية للمجتمعات الإنسانية من إجرام المجرمين، وحضت على كتابة الوصية قبل الموت، وحرمت وجرمت تبديلها أو إخفاءها، وحرمت أكل أموال الناس بالباطل مهما صغرت القيمة، ووضعت ضوابط للتعامل بالدين؛ وكيفية كتابته والشهادة عليه وطبيعة شهوده، وحرمت التعامل بالربا تحريما قاطعا، وهددت الواقعين فيه بحرب من الله ورسوله، والغالبية الساحقة من بنوك العالمين العربي والإسلامي لا تتعامل اليوم إلا بالربا المعلن، والقليل من البنوك الإسلامية تحارب في كل أرض. وحضت السورة على رعاية اليتيم حتى يبلغ أجله، وحددت ضوابط الإنفاق في سبيل الله، وحرمت سورة البقرة إنكار أي معلوم من الدين بالضرورة. من قواعد العبادة في سورة البقرة: 1 - أمر ربنا -تبارك وتعالى- في سورة البقرة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصو م رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، وحدد آداب كل عبادة من تلك العبادات وضوابطها الشرعية، وشرعت السورة الإنفاق في سبيل الله والإحسان إلى الخلق بصفة عامة، وأكدت بأن ذلك كله كان من قواعد العبادة في كل الشرائع السماوية السابقة، وكلها كانت إسلامًا لله علمه ربنا -تبارك وتعالى- لأبينا آدم -عليه السلام- وأنزله على فترة من الأنبياء والمرسلين، وأكمله وأتمه في بعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم سيدنا محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم. 2 - الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله؛ ردعًا للمعتدين والغاصبين والمتجبرين في الأرض، ودفعًا للمعتدين على أراضي المسلمين وعلى دمائهم وأموالهم وأعراضهم ومقدساتهم، وللمعتدين على غيرهم من المستضعفين في الأرض من غير المسلمين؛ وذلك صونا لكرامة الإنسان وإقامة لعدل الله في الأرض.

3 - الدعوة إلى التوجه بالدعاء لله تعالى وحده دون سواه وتحديد الأوقات المفضلة لذلك وآدابه والتزام تقوى الله في كل حال. 4 - مراعاة الأشهر الحرم وتوقيرها وإقامة السنن التي سنها لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها. 5 - إكرام الوالدين والإحسان إليهما، وإلى كل من ذوي القربى واليتامى والمساكين، وإلى الناس جميعا دون مَنٍّ أو أذى. من ركائز العقيدة في سورة البقرة: 1 - الإيمان بالله تعالى ربا واحدا أحدا فردا صمدا بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صاحبة ولا ولد، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. 2 - التصديق بالقرآن الكريم آخر وأتم وأكمل الكتب السماوية التي أنزلها الله تعالى بالحق على فترة من الرسل، ثم جمعها في هذا الكتاب الخاتم الذي أنزله على خاتم أنبيائه ورسله، وأبقاه محفوظا بحفظه في نفس لغة وحيه هدى للمتقين إلى يوم الدين. 3 - التسليم بالغيب الذي أنزله ربنا في محكم كتابه وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله عليهم وسلم جميعا- انطلاقا من الإيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وانطلاقا من الإيمان بملائكته وبجميع كتبه وأنبيا ئ هـ ورسله بغير تمييز ولا تفريق، ومن الإيمان باليوم الآخر الذي ترجع فيه كل الخلائق إلى الله خالقها، ثم ترد إلى الخلود في الحياة الآخرة، إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا، وهذه كلها من الغيبيات التي يطالبنا الله -تعالى- بالإيمان بها ويصف المؤمنين بها بوصف المتقين، الذين يؤمنون بجميع رسالات الله دون أدنى تفريق ويؤمنون بالآخرة بيقين لا يتزعزع.

4 - اليقين بأن الله تعالى هو خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن من خلقه السموات السبع والأراضين السبع ومن فيهن، وأنه -سبحانه- قد خلق الخلق من العدم، وأنه سوف يميتهم فردا فردا ثم يحييهم بعثا واحدا ليعودوا إلى بارئهم الذي يعلم غيب السموات والأرض، ويعلم ما تكسب كل نفس فيحاسبهم ويجازيهم، وهو الرحمن الرحيم وهو شديد العقاب، وهو تعالى سريع الحساب. ولقد وصف الله ذاته بقوله -سبحانه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة: 255). 5 - الإيمان بوحدة الجنس البشري وبانتهاء نسبه إلى آدم وحواء - عليهما السلام - وانطلاقا من ذلك لابد من نبذ جميع أشكال العصبيات العرفية والاجتماعية والدينية، وغيرها من أشكال التمييز بين الناس على أي أساس غير تقوى الله. 6 - التسليم بأن الله تعالى قد علم آدم الأسماء كلها، وبذلك يكون الإنسان قد بدأ وجوده عالما عابدا وليس جاهل ًا أو كافر ً ا، كما يدع ي أصحاب الدراسات الوضعية في علم الإنسان. 7 - اليقين بوحدة رسالة السماء وبأخوة جميع الأنبياء والمرسلين، الذين أرسلهم الله تعالى بالإسلام الصافي والتوحيد الخالص لله - سبحانه - وقد تكاملت رسالاتهم جميعا في الرسالة الخاتمة التي بعث بها النبي الخاتم والرسول الخاتم، الذي أرسله الله تعالى بشيرا ونذيرا للعالمين إلى يوم الدين.

8 - التصديق بضرورة تنزيه الله تعالى عن كل وصف لا يليق بجلاله من أمثال الشريك والشبيه والمنازع والصاحبة والولد؛ لأن هذه كلها من صفات المخلوقين والله تعالى منزه عن جميع صفات خلقه، والإيمان ب أن الشرك من أبشع صور الاعتقاد وأبغضها إلى الله، وهو من صور الكفر بالله، وأ ن من هذا الكفر منع مساجد الله تعالى أن يذكر فيها اسمه أو السعي في خرابها، وكلها من الأعمال التي لا ي ر ضاها ربنا - تبارك وتعالى. 9 - الإيمان ب أن الشيطان للإنسان عدو مبين، وأنه يأمر بالسوء والفحشاء ويغري الضالين من العباد ب أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، ومن هنا فإن مخالفته واجبة على كل مسلم ومسلمة، وللنجاة من حبائل هذا اللعين لا بد من الاعتصام بحبل الله المتين. وتأكيدا على هذه الحقيقة عرضت السورة الكريمة لقصة الشيطان الرجيم مع آدم وحواء - عليهما السلام - حتى تم إخراجهما من الجنة بوسوسته وغوايته، ثم كانت توبتهما وقبول الله تعالى منهما تلك التوبة. وبذلك لا يمكن أن يكون أحدا من ذريتهما آثر من معصيتهما انطلاقا من عدل الله القائل: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ} (الأنعام: 164) وفي ذلك يقول الحق -تبارك وتعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 37). 10 - اليقين ب أن دين الله الإسلام قائم على السماحة واليسر وعلى رفع الحرج عن الخلق، وأن من أصوله الثابتة أنه لا إكراه في الدين. 11 - التصديق بحتمية الآخرة وبضرورتها وبا لخوف من فجائيتها وأهوالها، وفي ذلك يقول ربنا - سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (البقرة: 281).

من مكارم الأخلاق التي دعت إليها سورة البقرة.

من مكارم الأخلاق التي دعت إليها سورة البقرة لا شك أن سورة البقرة تدعو إ لى كثير من مكارم الأخلاق؛ من هذه ما يلي: 1 - الصبر في البأساء والضراء وحين البأس. 2 - الوفاء بالعهود والمواثيق. 3 - الشجاعة والإقدام وحب الاستشهاد في سبيل الله. 4 - الجرأة في مناصرة الحق وإ ع ل ان الرأي وعدم كتمان الشهادة. 5 - الجود والكرم والإنفاق في سبيل الله. 6 - الحرص على قول المعروف والعمل الصالح والعفو عن الناس. 7 - بر الوالدين الذي أمر به الله تعالى بعد الأمر للناس جميعا بأن لا يعبدوا إلا إياه. 8 - الإحسان إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين وإلى الناس كافة دون م َ ن ٍّ أو أذى. 9 - تجنب المال الحرام بكافة صوره وأشكاله، ومن أبرزها الربا والرشوة والسرقة والغش، وغير ذلك من صور التحايل الباطل على الكسب الحرام. من القصص القرآني في سورة البقرة جاء في سورة البقرة ذكر عدد من أنبياء الله ورسله، وذكر عدد من الحوادث التي تمت في حياته أو حدثت لعدد من الصالحين من بعده، وذلك للاعتبار بها وأخذ الدرس م ن ها، وهذه يم ك ن إيجازها فيما يلي: 1 - قصة آدم وحواء. 2 - قصة نبي الله موسى وقو م هـ مع فرعون مصر وخروجهم منها، وعبور موسى بهم البحر بمعجزة من الله -تعالى- ثم تفجير الأرض لهم بالماء الزلال بعد

العبور؛ يعني بعد عيون موسى وعصيانهم لله تعالى بعد كل هذه المعجزات التي رأوها رأى العين وارتدادهم عن التوحيد إلى الشرك وإلى عبادة العجل، ثم صعقهم عقابا على ذلك وإحيا ؤ هم ورفع الطور فوقهم وقصتهم مع القتيل، وأمر الله لهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها فيبعثه الله تعالى من موته حتى يخبر عن قاتله ثم يموت، ومسخ الذين اعتدوا منهم في السبت إلى قردة وخنازير. وتل اذلك كفرهم بآيات الله وتحريفهم للتوراة وقتلهم للأنبياء من بعد موسى بغير الحق وعصيانهم لأوامر الله وتعذيبهم لحدوده، وقصتهم مع كل من طالوت ملكهم من جهة ومع كل من جالوت وداود، ومن آمن معهما من جهة أخرى. 3 - قصص بعض أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا من بعد موسى، وذلك من أمثال كل من داود وسليمان. 4 - قصة نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل وتعاونهما في رفع قواعد الكعبة المشرفة، وإ ع اد ة بنائها ودعوتهما إلى الله تعالى أن يبعث خاتم الأنبياء والمرسلين في مكة المكرمة، وكذلك الإشارة إلى حوار إبراهيم - عليه السلام - مع نمرود بن كنعان أول من ادعى الألوهية كذبا وبهتانا. 5 - قصة نبي الله يعقوب مع بنيه إذ حضره الموت، وفي ذلك يقول الحق -تبارك وتعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 133).

6 - قصة الرجل الصالح عزير الذي مر على بيت المقدس بعد أن خربها بختنصر، وفي ذلك تقول سورة البقرة: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 259). 7 - قصة نبي الله عيسى بن مريم. 8 - تحديد القبلة بعد حوالي سبعة عشر شهرًا من مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وإنكار كل من اليهود والمشركين والكافرين ذلك على المسلمين، لجهلهم بأنه أمر من الله الذي يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 13 تابع: الإعجاز في ضرب المثل بالبعوضة.

الدرس: 13 تابع: الإعجاز في ضرب المثل بالبعوضة.

من الإشارات الكونية في سورة البقرة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (تابع: الإعجاز في ضرب المَثَل بالبعوضة) من الإشارات الكونية في سورة البقرة الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: سنكمل الإشارات الكونية في سورة البقرة: 1 - التفرقة الدقيقة بين كل من الضياء والنور والظلمات وهي من الحقائق العلمية التي لم تدرك إلا مؤخرًا. 2 - تقديم حاسة السمع على حاسة البصر في هذه السورة الكريمة، وفي كثير من غيرها من سور القرآن الكريم، وقد ثبت علمي ًّ اأن حاسة السمع تتطور جنيني ًّ اقبل حاسة البصر، وتتكامل وتنضج في الشهر الخامس من حياة الجنين، بينما لا يتكامل نضج حاسة البصر إلا عند السنة العاشرة في عمر الطفل. 3 - وصف التلازم الدقيق بين الظلمات والرعد والبرق والصواعق وهطول الأمطار الغزيرة، والإشارة إلى إمكانية خطف البصر بواسطة البرق. 4 - الإشارة إل ى المراحل المتتالية في إعداد الأرض لعمارتها بالإنسان، وذلك من قبيل تمهيد سطحها وإنزال الماء عليها وإحياء الأرض بعد موتها وبث من كل دابة فيها وإخراج الثمرات منها رزق ً اللعباد. 5 - ذكر معجزات فلق البحر لنبي الله موسى، ونجاته ومن كان معه من مطاردة فرعون وجنوده له وهلاك فرعون وجنده بالغرق في اليم، وكذلك تفجير اثنتي عشرة عينا بالماء بضربة من عصا موسى، ولا تزال واحدة من هذه العيون المائية موجودة حتى اليوم بالمنطقة الشرقية من خليج السويس المعروفة باسم عيون موسى. 6 - الإشارة إلى أمراض القلوب؛ ومنها: الخوف والقلق والوسوسة والشك والاكتئاب، وقد أثبتت الدراسات النفسية أنها حقائق علمية لم تكن معروفة

وقت تنزل القرآن الكريم، وتشبيه قسوة قلوب اليهود بأنها أشد من قسوة الحجارة؛ لأن من الحجارة ما يلين عند تفجرها بالأنهار أو عند تشققها وخروج الماء منها، أو عند هبوطها من خشية الله تعالى. وقسوة قلوب اليهود لا تلين أبد ً احسب ما أثبت التاريخ من جرائمهم التي جاوزت كل حدود الرحمة وكل حقوق الإنسان إذا كانت بأيديهم الغلبة، وما الذي يحدث على أرض فلسطين اليوم وفي كل من العراق وأفغانستان المحتلتين من جرائمهم الوحشية إلا صورة من تلك القسوة البالغة، التي وصفهم القرآن الكريم بها من قبل أربعة عشر قرنا أو يزيد، وقد كانوا كذلك عبر التاريخ، وسوف يظلون كذلك حتى يهلكهم الله تعالى بقدرته. 7 - الإشارة إلى خلق السموات والأرض، وإلى اختلاف الليل والنهار، وإلى الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وإلى المشرق والمغرب، وتأكيد أن ذلك كله لله 8 - الإشارة إلى تصريف الرياح، وإلى السحاب المسخر بين السماء والأرض وهي حقائق لم تكن معروفة في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعده. 9 - الإشارة إلى أذى المحيض، والنصيحة باعتزال النساء فيه، وقد أثبتت الدراسات الطبية صحة ذلك. 10 - التأكيد على ما في كل من الخمر والميسر من آثام تفوق أية منافع يمكن أن تجتلى من وراء الخوض في أي منهما، مما أثبتت صحته التجارب الإنسانية عبر التاريخ، وعلى الرغم من ذلك ف إ ن غالبية الدول المسلمة المعاصرة تقرهما وتسمح بهما.

أقوال المفسرين في توجيه الآية، والدلالات العلمية فيها.

11 - الإشارة إلى أن الأشجار تذبل وتزدهر وتجود بعطائها من الثمار في الرُبا المرتفعة سواء كثر عليها المطر أو قل، وهو مما أثبته الدراسات العلمية مؤخرا. 12 - الإشارة إلى البعوضة وما فوقها من الخلق؛ وهي من أبسط الحشرات، لكنها تبلغ في روعة بنائها ودقة خلقها ما تعجز البشرية كلها عن الإتيان بش يء من مثلها، كما تبلغ في خطرها على حياة الإنسان أنها تعد اليوم واحدة من أخطر الآفات الحشرية على الإطلاق. وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها، ولذلك ف إ ن الحديث سيقتصر على البعوضة؛ لأنها هي الأساس في درسنا. أقوال المفسرين في توجيه الآية، والدلالات العلمية فيها من أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} (البقرة: 26). ذكر صاحب (صفوة البيان بمعاني القرآن) ما نصه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا}؛ أي ليس الحياء بمانع لله تعالى من ضرب الأمثال بهذه المخلوقات الحقيرة والصغيرة في نظركم؛ كالبعوض والذباب والعنكبوت ف إ ن فيها من دلائل القدرة وبدائع الصنعة ما تحار فيه العقول ويشهد بحكمة الخالق، وقد جعلوا ضرب المثل بها ذريعة إلى إنكار كون القرآن من عند الله تعالى. وفي الآية الكريمة إشعار بصحة نسبة الحياء إليه تعالى، ومذهب السلف إمرار هذا وأمثاله على ما ورد، وتفويض علم كنهه وكيفيته إلى الله تعالى، مع وجوب

تنزيهه عما لا يليق بجلاله من صفات المحْدَثات واختاره الألوسي، وذهب جمع من المفسرين إلى تأويله بإرادة أو لإرادة لازمة وهو ترك ض رب الأمثال بها؛ لأن الاستحياء من الحياء، وهو تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب ويذم به، أو هو انقباض النفس عن القبائح، وهذا المعنى محال في حقه تعالى؛ فيصرف اللفظ إلى لازم معناه؛ وهو الترك. قوله: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} البعوض ضرب من الذباب، ويطلق على البق المعروف وعلى الناموس {فَمَا فَوْقَهَا} أي في الحجم أو في المعنى الذي وقع التمثيل فيه وهو الصغر والحقارة. قوله: {ومَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} الفسق الخروج عن الطاعة، ويقع بالقليل والكثير من الذنوب، ولكن ت ُع ُو ر ِ ف َ فيما كان كثيرا وهو أعم من الكفر. وكلام المفسرين الباقين لم يخرج عن ذلك. من الدلالات العلمية للنص الكريم: أول ً ا: النص الكريم يشمل ما فوق البعوضة حجما، وما هو أقل منها، وما هو أشد منها خطرا، وما هو أهون منها، من معاني هذا النص الكريم أن قدرة الله المبدعة في الخلق تتجلى في أدق المخلوقات حجما، كما تظهر في أضخمها بناء، وتجليها في الكائنات المتناهية الضآلة في الحجم قد يكون أبلغ من وضوحها في الكائنات العملاقة، وكان الجهل بأخطار البعوض وبوجود كائنات أدق منه بكثير من وراء استنكار كل من الكفار والمشركين والمنافقين ضرب المثل في القرآن الكريم ببعض الحشرات؛ من مثل البعوض والذباب والنحل والنمل الأبيض والفراش والجراد والقمل والمن وببعض العناكب الصغيرة مثل العنكبوت.

ولما لم يكن في زمن الوحي من يدرك من الكائنات الحية ما هو أدق من البعوضة؛ وذلك من مثل الفيروسات، البكتريا، الطحالب، وغيرها من البدائيات والأوليات والفطريات؛ وغير ذلك من الكائنات الدقيقة، ومنها المتطفل وغير المتطفل، ف قد جاءت الصياغة القرآنية المعجزة بقول الحق -تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} وتعبير {فَمَا فَوْقَهَا} يشمل المعنيين المتضادين معًا؛ أي ما يفوقها ضآلة في الحجم حتى لا يُرى بالعين المجردة، وما يفوقها ضخامة في البنيان. وكذلك يشمل هذا التعبير القرآني أخطار البعوضة، كما يشمل أخطار غيرها من الكائنات الدقيقة التي لم تكن معروفة في زمن الوحي في القرآن الكريم، والكائنات التي تفوقها حجما؛ لأن الفوقية في اللغة تعني الزيادة والعلو في صفة يوضحها السياق، وقد استهان الناس في القديم بالبعوضة لضآلة حجمها، فاستنكر القرآن الكريم عليهم ذلك واتخذها مثلا يتحدى به الكفار والمشركين، قبل أن يعرف دورها في نقل العديد من الأمراض الفتاكة بكل من الإنسان والحيوان، بل من قبل أن يعرف الإنسان من ناقلات الأمراض ما هو دونها حجما بما يزيد على اثني عشر قرنًا من الزمان. ثانيا: من الدلالات العلمية للنص الكريم: النص القرآني يشير إلى خطر البعوضة، والبعوضة هي حشرة ضئيلة الحجم من ثنائيات الأجنحة تتبع عائلة ضخمة من الحشرات، وتضم ما بين الألفين والثلاثة آلاف نوع من البعوض، وتأتي في المرتبة الثانية إعدادا بعد النمل، ويتراوح طول البعوضة بين الثلاثة والتسعة مليمترات. وهي مع ضآلة حجمها فإن جسمها يتكون كما تتكون أجساد غيرها من الحشرات من رأس وصدر وبطن، ولها ثلاثة أزواج من الأرجل الطويلة النحيلة، وزوج

من الأجنحة الدقيقة القوية والقادرة على الخفق المتواصل السريع، الذي يصل إلى ستمائة خفقة في الثانية الواحدة، ولها قرنا استشعار في قمة الحساسية والكفاءة، وعين البعوضة عين مركبة تتألف من مئات العيينات المستقلة تشريحا والمتكاملة وظيفيا، مما يعطيها قدرة هائلة على الرؤية بالليل وبالنهار في كل أطياف الضوء، ولها جميع الأجهزة الحيوانية كاملة على الرغم من ضآلة حجمها. وأنثى البعوض تتغذى على دماء ذوي الدماء الحارة؛ ولذلك فإن لها فمًا ثاقبًا ماصًّا تستخدمه في امتصاص الدم من الإنسان، ومن كل حيوان ذي دم حار، وعندما تغرس مثقابها في جلد الإنسان أو الحيوان فإنها تفرز لعابها الذي يحمل مركبات عضوية تؤدي إلى احتقان الجلد، وأخرى تمنع الدم من التجلط حتى يسهل امتصاصه. بينما يتغذى ذكر البعوض على رحائق الأزهار فقط، وتضع أنثى البعوض البالغة ما بين مائة وأربعمائة بيضة في المرة الواحدة، والذي ينجو من افتراس الحيوانات الأخرى من بيض البعوضة قد يفقس بعد يوم أو يومين، أو يبقى في فترة قد تمتد إلى الأسبوعين، ويعتمد ذلك على عوامل كثيرة منها وفرة الماء؛ لأنه ضروري لفقس البيض ولحياة كل من اليرقات والعذارى. ومع ضآلة حجم البعوضة فإنها تمثل خطرا لا يستهان به على صحة كل من الإنسان والحيوان؛ فالبعوض الأنثى التي تتغذى على دماء الإنسان وعلى دماء غيره من الحيوانات ذوات الدم الحار تصبح وسيلة خطيرة لنقل العديد من مسببات الأمراض؛ من مثل الفيروسات البكتريا الطحالب وغيرها من البدائيات والأوليات، ومن مثل الفطريات وغير ذلك من الكائنات الدقيقة التي تصيب كلا من الإنسان والحيوان.

ومن الأمراض التي تنقلها البعوضة الملاريا، الملاريا الخبيثة، داء الفيل، الحمى الصفراء، الحمى الدماغية، الحمى الشوكية، الحمى النازفة، مرض حمى أبي الركب، أو حمى تكسير العظام، أو حمى الركب النازفة، حمى الوادي المتصدع، مرض دودة القلب، الالتهاب السحائي، الالتهاب المخي، الالتهاب المخي الشوكي، وأمراض ضعف المناعة ومنها الإيدز. ومن أخطر ما تحمله البعوضة فيروسات تغزو الجهاز العصبي للإنسان مما قد يصيبه بعدد من الأمراض فائقة الخطورة؛ من مثل مرض التهاب الدماغ والسحايا ومرض التهاب الدماغ والنخاع، والأمراض التي تنقلها البعوضة قد أدت إلى هلاك الملايين من البشر منذ بدء الخليقة وإلى يومنا الراهن؛ حيث لا تزال تصيب الملايين في كل عام إلى أن يشاء الله، ولذلك تعد هذه الحشرة الضئيلة الحجم واحدة من أخطر الآفات الحشرية المعروفة. ومن هنا كان ضرب المثل بها في القرآن على شدة خطرها مع ضآلة حجمها، وعلى وجود ما هو أخطر وأدق منها، وما هو أعظم منها حجما وخطرا من مخلوقات الله الأخرى، ومن هنا أيضا كان تحدي الله -سبحانه: قل للكافرين والمنافقين والمشركين من أهل الجزيرة العربية وغيرهم من أهل الأرض إلى قيام الساعة بهذه الحشرة المتناهية الصغر في الحجم، وفي زمن الوحي لم يكن أحد من الناس يدرك حقيقة خطر البعوضة فكانوا يستهينون بها، وفي زماننا زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه تقف البشرية عاجزة أمام أخطار هذه الحشرة الصغيرة، على الرغم من كل مستويات التقدم التي حققها إنسان هذا العصر.

والبعوض يتراوح عدد أنواعه بين ألفين وثلاثة آلاف نوع، من أخطرها الأنواع الثلاثة التالية: 1 - بعوضة الإنفيل؛ التي تنقل طفيل مرض الملاريا، مرض البرداء، وهذا الطفيل خطير، كما تنقل طفيليات العديد من الأمراض الأخرى؛ مثل: طفيل مرض الفلاريا الذي يسبب داء الفيل، وتنقل فيروس حمى التهاب الدماغ المعروف باسم الحمى الدماغية. 2 - بعوضة الكيولكس؛ التي تنقل كلا من طفيل مرض الفلاريا وفيروس الحمى الدماغية. 3 - البعوضة الزاعجة؛ التي تنقل فيروسات الحمى الصفراء والحمى الدماغية، وحمى الضنك المعروفة باسم حمى داء الركب أو حمى الركب النازفة أو حمى تكسير العظام. وتتم دورة طفيل مرض الملاريا البرداء بين بعوضة الإنفيل والإنسان، حيث تنفذ البعوضة مسببات المرض إلى مجرى دم الإنسان عند قرصه، فتحملها مجاري الدم إلى الكبد حيث يبدأ الطفيل في التكاثر لا جنسيًّا، وفي مهاجمة خلايا الدم الحمراء التي تنفجر لتملأ مجرى الدم بجراثيم المرض التي تبدأ في التكاثر جنسيًّا بعد عدد من الأجيال فتؤدي إلى الحمى وإلى تضخم الطحال. وإذا تعرض هذا المريض لقرصة أخرى من ناموسة الإنفيل؛ فإن هذا الطور الجنسي من الطفيليات ينتقل إلى معدة البعوضة حيث يتم تكاثره لا جنسيًّا، وانتقاله إلى غددها اللعابية فيصبح جاهزًا لإصابة إنسان آخر تهاجمه هذه البعوضة؛ ولذلك يصاب أكثر من 270 مليون إنسان بالملاريا سنويا في كل أنحاء

الأرض، ويتوفى منهم قرابة المليونين من الأفراد؛ مما يجعل الملاريا من أكثر الأمراض انتشارا في كوكبنا الأرضي. وقد عجزت أكثر دول العالم تقدمًا في مجال العلوم البحتة والتطبيقية عن مقاومة أخطار البعوضة، ففي أغسطس من سنة 1995 ميلادية انتشرت في مدينة منجيرسي في شرق الولايات المتحدة الأمريكية أسراب من البعوضة الزاعجة، وكانت تهاجم الناس بشراسة بقرصاتها المؤلمة حتى في وضح النهار، وقد عرفت باسم النمر الأسيوي؛ لأصولها الأسيوية ولشراستها في الهجوم. وكانت هذه الحشرة قد ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1985 ميلادية، بعد أن غزت كلا من جزر هاواي ومناطق من المحيط الهادي عقب الحرب العالمية الثانية، ولا تزال هذه الحشرة الصغيرة تجتاح آلاف الأنفس من أبناء القوة العسكرية الكبرى في العالم، دون أن تنفعها أسلحتها في الدفاع عنها، قال تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (الفتح: 4). ثالثا: النص القرآني يفيد أن أنثى البعوض وحدها هي الناقلة للأمراض، ومن ثم كانت مناط التحدي، إن إفراد لفظ بعوضة وتأنيثه في هذا النص القرآني المعجز يشير إلى عيشة البعوض عيشه فردية سوى في حالة التزاوج، وإلى تمايز الأنثى عن الذكر في هذه الحشرة الخطيرة، وإلى تفرد الأنثى وحدها دون الذكر بهذا الخطر الداهم، وهي حقيقة لم يعرفها الإنسان إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. كذلك ف إ ن تنكير لفظ البعوضة وإيراد اسم الموصول " ما " مكررا مرتين يشير إلى تعدد أنواع البعوض؛ فضل ً اعن شمول كل مما هو دونها حجما وما هو أكثر منها ضخامة، وكل ما هو دونها أو أكثر منها ضررا من مخلوقات الله الأخرى، وهذه

حقائق لم تصل إلى علم الإنسان إلا بعد مجاهدة، استغرقت جهود آلاف من العلماء منذ نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ولا تزال مستمرة إلى اليوم وإلى أن يشاء الله. وورودها بهذه الصياغة العلمية الشاملة والدقيقة في كتاب الله، الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على نبي أمي، عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وفي أمة كانت غالبيتها ال س اح قة من الأميين، لمما يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق، ويشهد للنبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة والرسالة، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين. هذه الدلالات العلمية للبعوضة تؤكد أن القرآن كلام الله الخالق، وتؤكد صدق النبوة والرسالة لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا النص الكريم يشير إلى قدرة الله المبدعة في الخلق التي تتجلى في أدق المخلوقات حجما وهي البعوضة، وهذا ليؤكد أن كل مخلوق في الوجود له دور في هذا الوجود كبير صغير، وهذا يدل على أن القرآن من عند الله، وليس من عند بشر كما اعتقد الكافرون. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 14 شرح قوله تعالى: {والبحر المسجور}.

الدرس: 14 شرح قوله تعالى: {والبحر المسجور}.

عرض موجز لسورة الطور التي ذكرت فيها الآية

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (شرح قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}) عرض موجز لسورة الطور التي ذكرت فيها الآية الحمد لله، والصلاة والسلام عل ى سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: سنشرح قول الله تعالي: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (الطور: 6). هذا القسم بالبحر المسجور ضمن قسم لخمس من آيات الله في الخلق على حتمية وقوع العذاب بالمكذبين بالدين الخاتم، وعل ى أنه لا دافع أبدا لهذا العذاب عنهم، جاء هذا القسم القرآني العجيب في مطلع سورة الطور، وسورة الطور مكية وعدد آياتها 49 آية، ويدور محورها الرئيسي حول قضية العقيدة بأبعادها المختلفة من الإيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، وبملائكته وكتبه ورسله، وبالبعث والجزاء، وبالخلود في الآخرة إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا؛ شأنها في ذلك شأن كل السور التي أنزلت بمكة المكرمة. وتبدأ السورة بعد هذا القسم بمشهد من مشاهد الآخرة فيه استعراض لحال المكذبين برسالة خاتم الأنبياء والمرسلين -صل ى الله عليه وسلم- وهم يدفعون من ظهورهم إ لى نار جهنم دفعا، وقد كانوا من المكذبين بها، ثم تنتقل الآيات إ لى استعراض حال المتقين وهم يتنعمون في جنات النعيم ثوابا لهم على الإيمان بالله وتقواه. وتنتهي السورة بخطاب إلى النبي الخاتم والرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- يحثه على المضي في دعوته إلى عبادة الله الخالق وحده بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صا حبة ولا ولد، مهما ل اقاه في ذلك من مصاعب في مواجهة الكم الهائل من مؤامرات المتآمرين وكيد المكذبين وعنتهم، الذين يتهددهم الله تعالى بما سوف يلقونه من صنوف العذ اب يوم القيامة بل وبعذاب قبل ذلك في الحياة الدنيا. ويأتي مسك الختام بمواساة وتعضيد لرسول الله - صل ى الله عليه وسلم - في صورة تكريم لم يسبق لنبي من الأنبياء ولا لرسول من الرسل أن نال من الله تكريما مثله، وذلك بقول

الحق - سبحانه - موجها الخطاب إليه -صلى الله عليه وسلم- يقول تعالي: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} (الطور: 48، 49). والآيات الست التي سبق بها القسم في مطلع سورة الطور هي على التوالي، {وَالطُّورِ} (الطور: 1)؛ وهو الجبل المكسو بالأشجار، والجبل غير المكسو بالخضرة لا يقال له طور، وإنما يقال له: جبل إذا كان شاهق الارتفاع بالنسبة للتضاريس حوله، ويسمى تل ًّ اإذا كان دون ذلك، وتليه الأَكْ ن ة أو الربوة أو النتوء الأرضي، ويلي هـ النجد أو الهضبة، ويلي ذلك السهل من تضاريس الأرض. والمقصود بالقسم القرآني بالطور هنا هو على الرأي الأرجح طور سيناء الذي كلم الله تعالى عنده موسى - عليه السلام - والذي نزلت عليه الألواح، وأقسم الله بطور سيناء هذا؛ تكريم ً اله، وتذكيرا للناس بما فيه من الآيات والأنوار والتجليات والفيوضات الإلهية مما جعله بقعة مشرفة من بقاع الأرض لاختيار الله تعالى له وتجليه عليه. والآية الثانية التي جاء بها القسم؛ هي قول الله تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} (الطور: 2) وقيل فيه: إ نه اللوح المحفوظ، وقيل: إنه القرآن الكريم الذي ختم الله - سبحانه - به وحي السماء، وقيل: هو التوراة التي تلقاها نبي الله موسي - عليه السلام - في الألواح التي أنزلت على جبل الطور، وقيل: هو إشارة إلى جميع الكتب التي أنزلها ربنا - سبحانه - على فترة من الرسل بلغ عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر، كما أخبرنا المصطفى - عليه السلام -؛ لأن أصلها واحد ورسالتها واحدة. كذلك قيل في قول ربنا - تبارك وتعالى -: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} (الطور: 2) إنه صحائف أعمال العباد. والقَسم الثالث جاء بالصيغة {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} (الطور: 3)، والرق هو جلد رقيق يكتب فيه، وقد يشير إلى الورق الذي يكتب عليه وإلى الألواح التي ينقش فيه؛

لأن الرق هو كل ما يكتب فيه، والمنشور؛ أي المبسوط غير المطوي وغير المختوم عليه؛ بمعنى أنه مفتوح أمام الجميع يستطيعون قراءته، أو الاستماع إليه بغير حجر أو منع؛ مما يؤكد أن المقصود بقول ربنا - تبارك وتعالى -: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} (الطور: 2) هو القرآن الكريم؛ لأن القرآن الكريم يقر ؤ هـ الخلق جميع هم، ويستمعون إليه بغير قيود أو حدود من أي نوع. وهكذا كانت الكتب السماوية التي سبقته بالنزول قبل ضياعها، وتعرض ما بقي منها من ذكريات إلى التحريف والتبديل والتغيير، وفي النشر إشارة إلى سلامة القرآن الكريم من كل نقص وعيب. وجاء القسم الرابع بصياغة {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} (الطور: 4) وهو بيت في السماء السابعة حيال الكعبة؛ أي في مقابلتها إلى أعل ى وعل ى استقامتها تماما، وهو أيضا حيال العرش إلى أسفل منه وعلى استقامته، تعمره الملائكة يصلي فيه كل يوم سبعون ألفًا منهم، ثم لا يعودون إليه؛ كما روى ابن عباس - رضي الله عنه - عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو لأهل السماء كالكعبة المشرفة لأهل الأرض. ويروى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال يوما لأصحابه: ((هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال -صلى الله عليه وسلم-: فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم)). ويروى عنه وصفا مشابها للبيت المعمور في حديث الإسراء والمعراج، كما جاء في الصحيحين في حديث أخرجه البخاري الحديث رقم3207 والحديث 3886 ومسلم في الحديث 415 وجاء القسم الخامس بصياغة {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} (الطور: 5) وفيه قيل: هو السماء القائمة بغير عمد مرئية؛ كما جاء على لسان الإمام علي -رضي الله عنه- ووافقه

على ذلك كثير من المفسرين، وإن قال الربيع بن أنس: " إنه العرش الذي هو سقف لجميع المخلوقات". أما القسم السادس وهو موضوع درسنا، والذي جاء بصياغة {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (الطور: 6) فقد تعددت آراء المفسرين فيه، وقبل أن نتعرض لآراء المفسرين يحسن أن نستعرض الدلالة اللغوية للفظي البحر، والمسجور؛ المدلول اللغوي للبحر المسجور؛ البحر في اللغة ضد البر، وقيل: إنه سمي بهذا الاسم لعمقه واتساعه، والجمع أبحر وبحار وبحور، وكل نهر عظيم يسمى بحرًا؛ لأن أصل البحر هو كل مكان واسع جامع للماء الكثير، وإن كانت لفظة البحر تطلق في الأصل على الماء المالح دون العذب. كذلك سمت العرب كل متوسع في شيء بحرا حتى قالوا للمتوسِع في علمه: بحرًا، وللتوسع في العلم: تبحر، وقالوا: فرس بحر؛ أي واسع الخطا سريع الجري، وقيل: ماء بحر؛ أي مالح، وأبحر الماء؛ أي ملح، وأبحر الرجل؛ أي ركب البحر، وبحر أذن الناقة؛ أي شقها شقا واسعا فشبهها بسعة البحر على وجه المجاز والمبالغة، ومن هنا سميت البحيرة وهي الناقة إذا ولدت عشرة أبطن شقوا أذنها، وتطلق فلا تركب ولا يحمل عليها، والبحيرة ابنة السائبة، وحكمها حكم أمها عند العرب في الجاهلية. أما وصف البحر بصفة المسجور؛ فالصفة مستمدة من الفعل سجر، والسجر تهييج النار، يقال: سجر التنور؛ أي أوقَد عليه حتى أحماه، والسجور ماء يسجر به التنور من أنواع الوقود، وكذلك يقال: سجر الماء النهر؛ أي ملأه، ومنه البحر المسجور؛ أي المملوء بالماء المكفوف عن اليابسة، والساجور خشبة تجعل في عنق الكلب فيقال له: كلب مُسَوْجَر؛ أي محكوم، والمسوجر المغلق المحكم الإغلاق من كل شيء.

من شروح المفسرين لقوله تعالى: {والبحر المسجور}.

من شروح المفسرين لقوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} من شروح المفسرين لقول الله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (الطور: 6): في تفسير القسم القرآني بالبحر المسجور أشار ابن كثير -رحمه الله- إلى قول الربيع بن أنس أنه هو الماء الذي تحت العرش، الذي ينزل الله منه المطر الذي تحيا به الأجساد في قبورها يوم معادها؛ أي أنه بحر من ماء خاص محبوس عند رب العالمين ينزله -سبحانه- يوم البعث فينبت كل مخلوق بواسطة هذا الماء من عجب ذنبه كما تنبت البقلة من حبتها على ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قبل. وأضاف ابن كثير: "وقال الجمهور: هو هذا البحر". واختلف في معنى المسجور؛ فقال بعضهم: المراد أنه يوقد يوم القيامة نارًا كقوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} (التكوير: 6)؛ أي أضرمت، فتصير نارا تتأجج محيطة بأهل الموقف، كما روي عن علي وابن عباس. وقال العلاء بن بدر: "إنما سمي البحر المسجور؛ لأنه لا يشرب منه ماء ولا يسقى به زرع، وكذلك البحار يوم القيامة". وعن سعيد بن جبير: " {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} يعني المرسل". وقال قتادة: "المسجور؛ المملوء". واختاره ابن جرير. وقيل: المراد بالمسجور الممنوع المكفوف عن الأرض لئلا يغمرها فيغرق أهلها؛ قاله ابن عباس، وبه يقول السدي وغيره؛ وعليه يدل الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات يستأذن الله أن ينفضح عليهم؛ فيكفه الله عز وجل)). وذكر صاحب (تفسير الجلالين) -رحمهما الله- في شرح دلالة القسم القرآني {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}؛ أي المملوء وذكر أنه قول قتادة وقال: "قال مجاهد: الموقد الذي سيسجر يوم القيامة؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} (التكوير: 6) ". وقال صاحب (الظلال) -رحمه الله رحمة واسعة- كلامًا مشابهًا يشير إلى أن البحر المسجور هو المملوء بالماء في الدنيا، أو المتقد بالنار في الآخرة، أو أن هذا التعبير يشير إلى خلق آخر كالبيت المعمور يعلمه الله. وذكر صاحب (صفوة البيان لمعاني القرآن) غفر الله له في تفسير قول الحق -سبحانه-: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} ما نصه: أي

المملوء ماء، يقال: سجر النهر؛ أي ملأه وهو البحر المحيط والمراد الجنس، وقيل: الموقد نارا عند قيام الساعة، كما قال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} (التكوير: 6)؛ أي أوقدت نارا، ووصف البحر بذلك؛ إعلامًا بأن البحار عند فناء الدنيا تحمى بنار من تحتها فتبخر مياهها وتندلع النار في تجاويفها وتصير كلها حمما. وذكر صاحب (صفوة التفاسير) بارك الله في عمره في قوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ فجِّرَتْ}؛ أي أنه الموقد نارا يوم القيامة لقوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} (التكوير: 6)؛ أي أضرمت حتى تصير نارا ملتهبة تتأجج وتحيط بأهل النار. البحر المسجور في منظور العلوم الحديثة: من المعاني اللغوية للبحر المسجور هو المملوء بالماء والمكفوف عن اليابسة، وهو معنى صحيح من الناحية العلمية صحة كاملة كما أثبتته الدراسات العلمية في القرن العشرين، ومن المعاني اللغوية لهذا القسم القرآني المبهر أيضا يعني أن البحر قد أوقد عليه حتى حمي قاعه فأصبح مسجورا، وهو كذلك من الحقائق العلمية التي اكتشفها الإنسان في العقود المتأخرة من القرن العشرين، والتي لم يكن لبشر إلمام بها قبل ذلك أبدا.

أولًا: والبحر المسجور بمعنى المملوء بالماء والمكفوف عن اليابسة، الأرض هي أغنى كواكب المجموعة الشمسية بالماء الذي تقدر كميته بحوالي 1360 إلى 1385 مليون كيلو مترا مكعبا، وهذا الماء قد أخرجه ربنا -سبحانه- كله من داخل الأرض على هيئة بخار ماء اندفع من فوهات البراكين، وعبر صدوع الأرض العميقة ليلاقي الطبقات العليا الباردة من نطاق التغييرات الجوية، والذي يمتد من سطح البحر إلى ارتفاع حوالي ستة عشر كيلو مترا فوق خط الاستواء، وحوالي عشرة كيلو مترات فوق قطبي الأرض. وتنخفض درجة الحرارة في هذا النطاق باستمرار مع الارتفاع حتى تصل إلى ستين درجة مئوية تحت الصفر في قمته فوق خط الاستواء، وهذا النطاق يحوي حوالي ثلثي كتلة الغلاف الغازي للأرض 66% والمقدرة بأكثر قليلًَا من خمسة آلاف مليون مليون طن، وهو النطاق الذي يتكثف فيه بخار الماء الصاعد من الأرض، والذي تتكون فيه السحب، وينزل منه كل من المطر والبرَد والثلج، وتتم فيه ظواهر الرعد والبرق، وتتكون العواصف والدوامات الهوائية وغير ذلك من الظواهر الجوية. ولولا تبرد هذا النطاق مع الارتفاع ما عاد إلينا بخار الماء الصاعد من الأرض أبدا، وحينما عاد إلينا بخار الماء مطرا وثلجا وبردا انحدر على سطح الأرض؛ ليشق له عددًا من المجاري المائية، ثم فاض إلى منخفضات الأرض الواسعة؛ ليكون البحار والمحيطات، وبتكرار عملية التبخر من أسطح تلك البحار والمحيطات ومن أسطح اليابسة بما عليها من مختلف صور التجمعات المائية والكائنات الحية بدأت دورة الماء حول الأرض من أجل التنقية المستمرة لهذا الماء، وتلطيف الجو وتفتيت الصخور وتسوية سطح الأرض وتكوين التربة وتركيز عدد من الثروات المعدنية.

وغير ذلك من المهام التي أوكلها الخالق لتلك الدورة المعجزة التي تحمل 280 ألف كيلو مترا مكعبا من ماء الأرض إلى غلافها الجوي سنويا؛ لتردها إلى الأرض ماء طهورًا منها 230 ألف كيلو مترا مكعبا تتبخر من أسطح البحار والمحيطات 60 ألف كيلو مترا مكعبًا من أسطح اليابسة يعود منها 238 ألف كيلو مترا مكعبا إلى البحار والمحيطات، و96 ألف كيلو مترا مكعبا إلى اليابسة التي يفيض منها، و36 ألف كيلو مترا مكعبا من الماء إلى البحار والمحيطات، وهو نفس مقدار الفارق بين التبخر من البحار والمحيطات والمطر. هذه الدورة المحكَمة للماء حول الأرض أدت إلى خزن أغلب ماء الأرض في بحارها ومحيطاتها حوالي 97.02 وإبقاء أقله على اليابسة، وبهذه الدورة للماء حول الأرض تملح ماء البحار والمحيطات، وبقيت نسبة ضئيلة من مجموع ماء الأرض على هيئة ماء عذب على اليابسة، وحتى هذه النسبة الضئيلة من ماء الأرض العذب قد حبس أغلبها على هيئة سمك هائل من الجليد فوق قطبي الأرض وفي قمم الجبال، والباقي مختزن في الطبقات المسامية والمنتجة من صخور القشرة الأرضية على هيئة ماء تحت سطحه، وفي بحيرات الماء العذب والأنهار والجداول، وعلى هيئة رطوبة في تربة الأرض، والباقي يتوزع بين حجرات الماء العذب ورطوبة الغلاف الغازي للأرض. وتوزيع ماء الأرض بهذه النسب التي اقتضتها حكمة الله الخالق قد تم بدقة بالغة بين البيئات المختلفة بالقدر الكافي لمتطلبات الحياة في كل بيئة من تلك البيئات، وبالأقدار الموزونة التي لو اختلت قليلا بزيادة أو نقص لغمرت الأرض وغطت سطحها بالكامل أو انحسرت تاركة مساحات هائلة من اليابسة، ولقصرت دون متطلبات الحياة عليها.

ومن هذا القبيل يحسب العلماء أن الجليد المتجمع فوق قطبي الأرض وفي قمم الجبال المرتفعة فوق سطحها إذا انصهر، وهذا لا يحتاج إلى مجرد الارتفاع في درجة حرارة صيف تلك المناطق بحوالي خمس درجات مئوية، وإذا حدث ذلك فإن كم الماء الناتج سوف يؤدي إلى رفع منسوب الماء في البحار والمحيطات إلى أكثر من مائة متر فيغرق أغلب المناطق الآهلة بالسكان، والممتدة حول شواطئ تلك البحار والمحيطات إلى عمق لا يكاد يتجاوز الخمسمائة كيلو مترا في أغلب الأحيان. وليس هذا من قبيل الخيال عميقا لا يكاد يتجاوز نسبة الخمسمائة أو العدد الخمسمائة كيلو مترا في أغلب الأحيان، وليس هذا من قبيل الخيال العلمي؛ فقد مرت بالأرض فترات كانت مياه البحار فيها أكثر غمرًا لليابسة من حدود شواطئها الحالية. كما مرت فترات أخرى كان منسوب الماء في البحار والمحيطات أكثر انخفاضًا من منسوبها الحالي؛ مما أدى إلى انحصار مساحة البحار والمحيطات وزيادة مساحة اليابسة، والضابط في الحالين كان كم الجليد المتجمع فوق قطبي الأرض، وفي قمم الجبال، وفوق بعض الأجزاء الأخرى من اليابسة؛ فكلما زاد كم الجليد انخفض منسوب الماء في البحار والمحيطات؛ فانحصرت عن اليابسة التي تزيد مساحتها زيادة ملحوظة، وكلما قل كم الجليد ارتفع منسوب المياه في البحار والمحيطات وطغت على اليابسة التي تتضاءل مساحتها تضاؤلًا ملحوظًا. من هنا كان تفسير القسم القرآني بـ {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} بأن الله تعالى يمن علينا، وهو صاحب الفضل والمنة بأنه ملأ منخفضات الأرض بماء البحار والمحيطات، وحجز هذا الماء عن مزيد من الطغيان على اليابسة؛ وذلك بحبس كميات من هذا

الماء في هيئات متعددة؛ أهمها ذلك السمك الهائل من الجليد المتجمع فوق قطبي الأرض، وعلى قمم الجبال، والذي يصل إلى أربعة كيلو مترات في قطب الأرض الجنوبي، وإلى ثلاثة آلاف وثمانمائة من الأمتار في القطب الشمالي. ولولا ذلك لغطى ماء الأرض أغلب سطحها، ولما بقيت مساحة كافية من اليابسة للحياة بمختلف أشكالها الإنسانية والحيوانية والنباتية، وهي إحدى آيات الله البالغة في الأرض، ووذلك من أجل إعدادها لتكون صالحة للعمران. من هنا كان تفسير القسم بـ {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} بمعنى المملوء بالماء المكفوف عن اليابسة ينطبق مع عدد من الحقائق العلمية الثابتة التي تشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق، وتشهد لسيدنا محمد بن عبد الله بالنبوة وبالرسالة عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. وهذا التفسير واحد من التفسيرات الأخرى لقوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}. وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.

الدرس: 15 تابع: شرح قوله تعالى: {والبحر المسجور} - قوله: {ألم نجعل الأرض مهادا ... }.

الدرس: 15 تابع: شرح قوله تعالى: {والبحر المسجور} - قوله: {ألم نجعل الأرض مهادا ... }.

تتمة الحديث عن شرح المفسرين لقوله تعالى: {والبحر المسجور}.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (تابع: شرح قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} - قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ... }) تتمة الحديث عن شرح المفسرين لقوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وص حبه ومن والاه، أما بعد: سنواصل الحديث عن قول الله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (الطور: 6): بينا أن البحر المسجور بمعنى المملوء بالماء والمكفوف عن اليابسة، هذا هو إحدى التفسيرات لكلمة {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}. ثاني ً ا: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} بمعنى القائم على قاع أحمته الصهارة الصخرية المندفعة من داخل الأرض؛ فجعلته شديد الحرارة، في العقود المتأخرة من القرن العشرين تم اكتشاف حقيقة تمزق الغلاف الصخري للأرض بشبكة هائلة من الصدوع العملاقة المزدوجة، والتي ت كون فيما بينها ما يعرف باسم أودية الخسف أو الأغوار، وأ ن هذه الأغوار العميقة تحيط بالكرة الأرضية إحاطة كاملة، ويشبهها العلماء باللحام على كرة التنس مع فارق التشبيه، وتمتد هذه الأغوار في كافة الاتجاهات لعشرات الآلاف من الكيلو مترات، ولكنها تنتشر أكثر ما تنتشر في قيعان محيطات الأرض، وفي قيعان عدد من بحارها، ويتراوح عمق الصدوع المشكِّلة لتلك الأغوار بين 65 و75 كيلو متر ً اتحت قيعان البحار والمحيطات وبين 100 و150 كيلو متر ً اعلى اليابسة؛ أي في صخور القارات. وتعمل هذه الصدوع على تمزيق الغلاف الصخري للأرض بالكامل وتقطيعه إلى عدد من الألواح الصخرية التي تطفو فوق نطاق من الصخور شبه المنصهرة، يسميه العلماء باسم نطاق الضعف الأرضي، وهو نطاق لدن عالي الكثافة واللزوجة تتحرك بداخله تيارات الحم ل من أسف ل إلى أعلى حيث تتبرد وتعاود النزول إلى أسفل، وهي بتلك الحركة الدائبة تدفع بكل لوح من ألواح الغلاف

الصخري للأرض إلى التباعد عن اللوح المجاور في أحد جوانبه في ظاهرة تسمى ظاهرة اتساع قيعان البحار والمحيطات، ومصطدم ً افي الجانب المقابل باللوح الصخري المجاور ل ليكون سلسلة من السلاسل الجبلية، ومنزلق ً اعن الألواح المجاورة في الجانبين الآخرين، وباستمرار تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض تتسع قيعان البحار والمحيطات باستمرار عند خطوط التباعد بينها، وتندفع الصهارة الصخرية بملايين الأطنان في درجات حرارة تتعدى الألف درجة مئوية؛ لتساعد على دفع جانبي المحيط يمنة ويسرة، وتملأ المسافات الناتجة عن عملية توسيع قيعان البحار والمحيطات بهذه الملايين من أطنان الصهارة الصخرية المندفعة من باطن الأرض على هيئة ثورات بركانية عارمة تحت الماء تسجر قيعان جميع محيطات الأرض، وقيعان أعداد من بحارها مثل البحر الأحمر، وتجدد مادتها الصخرية باستمرار. وقد أدى هذا النشاط البركاني فوق قيعان كل المحيطات، وفوق قيعان عدد من البحار النشطة إلى تكون سلاسل من الحيود المرتفعة في أواسط تلك المحيطات والبحار تتكون في غالبيتها من الصخور البركانية، وقد ترتفع قممها في بعض الأماكن على هيئة أعداد من الجزر البركانية؛ من مثل: جزر كل من إندونيسيا ماليزيا الفلبين اليابان هاواي وغيرها، وفي المقابل تصطدم ألواح الغلاف الصخري عند حدودها المقابلة لمناطق اتساع قيعان البحار والمحيطات، ويؤدي هذا التصادم إلى اندفاع قيعان المحيطات تحت كتل القارات وانصهارها بالتدريج مما يؤدي إلى تكون جيوب عميقة عند التقاء قاع المحيط بالكتلة القارية تتجمع فيها كميات هائلة من الصخور الرسوبية والنارية والمتحولة التي تطوى وتتكسر؛ لترتفع على هيئة السلاسل الجبلية على حواف القارات؛ من مثل: سلسلة جبال الإمبيز في غربي أمريكا الجنوبية.

وهنا يستهلك قاع المحيط بالتدريج تحت الكتلة القارية، وإذا توقفت عملية توسع قاع المحيط؛ ف إ ن هذا القاع قد يستهلك بأكمله تحت القارة مما يؤدي إلى تصادم قارتين ببعضهما، وينش أعن هذا التصادم أعلى السلاسل الجبلية؛ من مثل: جبال الهمالايا التي نتجت عن اصطدام الهند بالقارة الآسيوية بعد استهلاك قاع المحيط الذي كان يفصل بينهما بالكامل في أزمنة أرضية سحيقة، ويصاحب كل من عمليتي توسع قاع المحيط في محوره الوسطى واصطدامه عند أطرافه بعدد من الهزات الأرضية والثورات والطفوح البركانية التي تبلغ أشدها عند خطوط التصادم، وتبلغ جبال أواسط المحيطات أكثر من أربعة وستين ألف ً امن الكيلو مترات في الطول، بينما يبلغ طول الصدوع العميقة التي اندفعت منها الطفوح البركانية لتكون تلك السلاسل الجبلية في أواسط المحيطات أضعاف هذا الرقم، وتتكون هذه السلاسل أساس ً امن الصخور البركانية المختلطة بالقليل من الرسوبيات البحرية، وتحيط كل سلسلة من هذه السلاسل المندفعة من قاع المحيط بواد خسيف مكون بفعل الصدوع العملاقة التي تمزق الغلاف الصخري للأرض بعمق يتراوح بين خمسة وستين كيلو متر ً اوسبعين كيلو متر ً اليخترق الغلاف الصخري للأرض بالكامل، ويصل إلى نطاق الضعف الأرضي الذي تندفع منه الصهارة الصخرية بملايين الأطنان في درجة حرارة تزيد عن الألف درجة مئوية لتسجر قيعان كل محيطات الأرض، وقيعان عدد من بحارها النشطة باستمرار. ومع تجدد اندفاع الصهارة الصخرية عبر مستويات هذه الصدوع العملاقة يتسع قاع المحيط باستمرار، وتتجدد مادته بدفع الصخور القديمة في اتجاه شاطئ المحيط يمنة ويسرة ليحل محلها أحزمة أحدث عمر ً اتتكون من تجمد تلك الصهارة الجديدة، وتترتب بصورة متوازية على جانب ي أغوار المحيطات والبحار، ويهبط كل جانب من جانبي قاع المحيط المتسع بنصف معدل اتساعه الكلي في وسطه،

وذلك تحت كل قارة من القارتين أو القارات المحيطة بشاطئيه، وب ذلك يمتلئ محور المحيط بالصهارة الصخرية الحديثة المندفعة عبر مستويات الصدوع الممزقة لقاعه فتسجره، بينما تندفع الصخور الأقدم بالتدريج في اتجاه الشاطئين حيث توجد أقدم صخور ذلك القاع، والتي تستهلك باستمرار تحت القارات المحيطة. وهذه الصدوع العملاقة التي تمزق قيعان كل محيطات الأرض، وقيعان عدد من بحارها؛ مثل: البحر الأحمر؛ توجد أيضا على اليابسة، ولكن بنسب أقل منها فوق قيعان البحار والمحيطات، وتعمل على تكوين عدد من الأغوار والبحار الطولية؛ من مثل: أغوار شرقي إ فريقيا والبحر الأحمر التي تعمل على تفتيت الكتل القارية باتساعها التدريجي؛ لتتحول تلك البحار الطويلة إلى بحار أكبر، ثم إلى محيطات تفصل بين الكتل القارية التي كانت متصلة على هيئة قارة واحدة، وتحاط تلك الخسوف القارية العملاقة بعدد من القمم البركانية السا م قة؛ ب ذلك ثبت ل كل من علماء الأرض والبحر بالأدلة المادية الملموسة أن كل محيطات الأرض بما في ذلك المحيطان المتجمدان الشمالي والجنوبي، وأن أعداد ًا من بحارها؛ من مثل: البحر الأحمر قيعانها مسجرة بالصهارة الصخرية المندفعة بملايين الأطنان من داخل النطاق الضعيف في الأرض عبر شبكة الصدوع العملاقة التي تمزق الغلاف الصخري للأرض بالكامل، وتصل إلى نطاق الضعف الأرضي. وتتركز هذه الشبكة من الصدوع العملاقة أساسًا في قيعان البحار والمحيطات، وأ ن كم المياه في تلك الأحواض العملاقة على ضخامته لا يستطيع أن يطفئ جذوة تلك الطفوح من الصهارة الصخرية المندفعة من داخل الأرض إطفاء كاملًا، وأن

هذه الجذوة على شدة حرارتها أكثر من ألف درجة مئوية لا تستطيع أن تبخر هذا الماء بالكامل؛ وذلك لأنه عندما يتبخر الماء باندفاع الصهارة فيه فإنه يرتفع إلى أعلى ليلامس ماء أبرد فيتك ث ف ويعود إلى قاع البحر مرة أخرى؛ ليعاود الكرة من جديد، وهكذا ليبقى هذا الاتزان الدقيق بين الأضداد من الماء والحرارة العالية هو من أكثر ظواهر الأرض إبهارا للعلماء في زماننا، وهي حقيقة لم يتمكن الإنسان من اكتشافها إلا في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين. ومن الغريب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا النبي الأمي الذي لم يركب البحر في حياته الشريفة مرة واحدة، فضل ً اعن الغوص إلى أعماق البحار قال في حديث شريف أخرجه كل من الأئمة أبو داود في (سننه) والبيهقي في (سننه) وابن شيبة في (مصنفه) عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - ما نصه: ((لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله؛ فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا)) وجاء الحديث في (مصنف ابن شيبة) بالنص: ((إن تحت البحر نارا ثم ماء ثم نارا)). ويعجب الإنسان المتبصر لهذا السبق في كل من القران الكريم والأحاديث النبوية الشريفة بالإشارة إلى حقيقة من حقائق الأرض التي لم يتوصل الإنسان إلى إدراكها إلا في نهايات القرن العشرين، هذا السبق الذي لا يمكن لعاقل أن يتصور له مصدر ً اغير الله الخالق الذي أنزل هذا القرآن الكريم بعلمه على خاتم أنبيا ئ هـ ورسله، وعلم هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم من حقائق هذا الكون ما لم يكن لأحد من الخلق إلمام به قبل العقود الثلاثة المتأخرة من القرن العشرين؛ لكي تبقى هذه الومضات النورانية في كتاب الله وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- شهادات مادية ملموسة

على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي حفظه تعالى على مدى أربعة عشر قرن ً اأو يزيد، وتعهد بذلك إلى قيام الساعة وحفظه بنفس لغة الوحي اللغة العربية كلمة كلمة وحرف ً احرف ً ابصفائه الرباني وإشراقاته النورانية دون أدنى تغيير أو تبديل أو تحريف. وأ ن هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- كان موصول ً ابالوحي، ومعلَّم ً امن ق بل خالق السموات والأرض، ف سبحان الذي أنزل في محكم كتابه من قبل ألف وأربعمائة من السنين هذا القسم القرآني بالبحر المسجور، وسبحان الذي علم خاتم أنبيا ئ هـ ورسله بهذه الحقيقة فقال قولته الصادقة: ((إن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا)) وسبحان الذي أكد على صدق القرآن الكريم وعلى صدق هذا النبي الخاتم في كل ما رواه عن ربه، فأنزل في محكم كتابه قوله الحق: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النساء: 166)، وقوله - سبحانه - مخاطب ً اخاتم أنبيا ئ هـ ورسله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (الفرقان: 6)، وقوله - سبحانه -: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل: 93)، وقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سبأ: 6)، وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (يوسف: 104)، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88)، وقوله - سبحانه -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41، 42)، وقوله - سبحانه -: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53).

عرض موجز لسورة النبأ التي ذكرت فيها الآية

عرض موجز لسورة النبأ التي ذكرت فيها الآية نأتي بعد ذلك إلى قول الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (النبأ: 6، 7): هاتان الآيتان الكريمتان جاءتا في مقدمات سورة النبأ، وهي سورة مكية، وعدد آياتها أربعون آية، ويدور محورها حول قضية العقيدة، والعقيدة هي تلك القضية الغيبية التي لا يمكن للإنسان أن يصل فيها إلى تصور صحيح بغير هداية ربانية، ومن هنا كانت من قواعد الدين الذي من لوازم صحته أن يكون وحي ً ارباني ًّ اخالص ً الا يداخله أدنى قدر من التصورات البشرية. ومن أصول العقيدة الإسلامية الإيمان بالبعث وبالحساب والجزاء وبالخلود في حياة قادمة إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا، والإيمان بالبعث هو موضوع سورة النبأ ومحورها الأساسي، وذلك لأن إنكار البعث كان حجة كفار قريش كما كان حجة الكفار والمتشككين عبر التاريخ في نبذهم للدين كفرا برب العالمين، وجهلا بطلاقة قدرته التي لا تحدها حدود، أو قياس ً اللقدرة الإلهية بقدرات البشر المحدودة ظلما وعدوانا وجهلا بمدلول الألوهية الحقة، ومن ثم عجز الكافرون عن تصور إمكانية البعث أو تعاجزوا عنه؛ انصياع ً الشهواتهم التي يرون ممارستها دون أدنى مسئولية أو مساءلة، فانطلقوا في إنكار البعث وما يستتبعه من الحساب والجزاء، وفي التشكيك في كل ذلك، وهو من صلب الدين الذي جاء به آلاف من الأنبياء ومئات من المرسلين، وتكامل في بعثة النبي والرسول الخاتم - صلى الله وسلم وبارك عليه. ومن أجل التأكيد على حقيقة البعث بعد الموت، وما يستتبعه من حساب وجزاء ابتدأت سورة النبأ باستنكار تساؤل الكافرين عنه تساؤل المنكر له أوالمتشكك في

إمكانية وقوعه، وألمحت بالتهديد القاطع لكل منكر أو متشكك في تلك الحقيقة الربانية الحاسمة، ثم أوردت عدد ً امن الآيات الكونية الدالة على طلاقة القدرة الإلهية في إبداع الخلق لتكون شاهدة على أن الخالق المبدع قادر على إفناء خلقه وعلى إعادة بعثه، ولذلك أكدت السورة على حقيقة يوم البعث وأهواله وسمته باسم يوم الفصل؛ لأنه يوم قد وقته ربنا - سبحانه - للفصل بين العباد حيث سيجمع له كافة الخلق من الأولين والآخرين بعد فنائهم أجمعين، وفناء الكون كله من حولهم؛ وذلك لحسابهم على ما قد قدموا في حياتهم الدنيا، ولجزائهم الجزاء الأوفى على ذلك. ثم تعرج بنا السورة على بعض صور العقاب الذي أعده ربنا - سبحانه - للطاغين من الكفار والمشركين والمتجبرين في الأرض من المنكرين لدين الله والمكذبين بآياته والغافلين عن حسابه، وذلك بإدخالهم إلى جهنم وبئس المصير التي تترصد بهم وتستعد لاستقبالهم، وفيها من صور العذاب المهين ما نسال الله تعالى أن يجيرنا منه. وللمقارنة بين مصير هؤلاء الطاغين المكذبين ومصير عباد الله الصالحين تحدثت السورة عن شيء من جزاء المتقين الذي تضمن جنات ونعيم مقيم فضل ً اورحمة من رب العالمين. وختمت السورة الكريمة بتصوير شيء من أهوال يوم القيامة، وبدعوة الناس كافة إلى الاستعداد لهذا اليوم الذي سوف يعود الخلق فيه إلى الله؛ ليقفوا جميع ً ابين يديه للحساب، وأن يأخذوا حذرهم حتى تحسن عودتهم ويهون حسابهم فينجوا من العذاب المهين ويتنعموا في جنات النعيم المقيم. وتضمن ختام سورة النبأ التحذير من عذاب يوم القيامة حيث ينظر كل إنسان صحيفة أعماله في هذه الحياة، وفيها كل ما قد قدمت يداه فيحمد المتقون الله

على حسن هدايته وتوفيقه، ويتمنى كل كافر لو يستحيل ترابا؛ أملا في تحاشي هول هذا اليوم وهول المصير الأسود من بعده، ولكن هيهات هيهات أن يفر أحد من حساب الله وجزائه العادل. ومن الآيات الكونية التي قدمها ربنا بين يدي سورة النبأ شاهدة له - سبحانه - بطلاقة القدرة في إبداعه لخلقه ومؤكدة إمكانية البعث بل حتميته وحقيقته قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} وهاتان الآيتان يمر عليهما الإنسان دون إدراك حقيقي لفضل الله تعالى في الإنعام بهما ولا بعمق الدلالة العلمية في كل منهما، لأن حقيقة ذلك لم يدركها العلماء المتخصصون إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين، وهذا السبق القرآني صورة من صور الإعجاز العلمي في كتاب الله، لكن سنبدأ أولا في شرح الدلالة اللغوية لألفاظ الآيتين الكريمتين، واستعراض سريع لأقوال المفسرين فيهما. الدلالة اللغوية: أول ً ا: المهاد والمهد في اللغة العربية الممهد الم وطأ من كل شيء، ويطلق على الفراش لبسطه وسهولة وطئه، يقال: م َ هـ َ د َ الفراش، ويقال: م َ هـ َّ د َ الفراش؛ أي بسطه ووطأه، وا لمهد ما يهيأ للصبي من فراش وث ير، وتمهيد الأمور إصلاحها وتسويتها يقال: مهدت لك كذا؛ أي هيئته وسويته، وتمهيد العذر هو بسطه وقبوله، وقد جاء ذكر لفظ المهد بتصريفاتها في القرآن الكريم خمس مرات على النحو التالي: 1 - {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران: 46). 2 - وقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} (طه: 53).

3 - قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} (الروم: 44). 4 - وقوله تعالى: {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} (المدثر: 14). 5 - وقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} (الذاريات: 48). ثاني ً ا: الجبال، والأجبال جمع جبل وهو المرتفع عما حوله من الأرض ارتفاعا ملحوظا يجعله يعظم ويطول، ودونه التل، ودون التل الربوة والأك ن ة، ودون الأك ن ة النجد أو الهضبة، ودون الهضبة السهل، ويقال: أجبل القوم؛ أي صاروا إلى الجبال بمعنى وصلوا إليها أو دخلوها وسكنوا فيها، ويقال للحية: ابنة الجبل وأن الجبل مأواها، كما يقال لصدى الصوت: ابن الجبل؛ لأن الجبل يردده، ويقال للداهية: ابنة الجبل؛ لأنها تدخل على النفس كأنها الجبل، والجُبلة والجَبلة والجِب ْ لة والجِبِلة القوة البدنية أو صلابة الأرض، والجبال البدن يقال: فلان مجبول؛ أي خطير أو خ طير الجبال؛ أي عظيم البُدن أو عظيم الب َ دن تشبيها بالجبل، وتجبل ما عنده؛ أي استنظف، والجبل أيضا ساح ة البيت، أو الكثير من كل شيء يقال: مال جبل وحي جبل؛ أي كثير، والجبل الجبلة الجماعة من الناس وفيها قراءات قر ئ بها قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا} (يس: 62) بكسر الجيم والباء وتشديد اللام كما قرئ بضم أو فتح الجيم أو تسكين الباء جبْلا جَبْلا وهكذا، والجبلة الخلقة أو الفطرة وأصله الوجه وما استقبلك منه. والأوتاد جمع وَتَد أو وتِد والكسر أولى، وفعله وتد والأمر منه تد بالكسر، والأوتاد قطع من خشب أو حديد غليظة الرأس مدببة النهاية تثبت بها أركان الخيمة في الأرض بدكها حتى يدفن أغلبها في الأرض ويبقى أقلها ظاهرا فوق السطح، تشد بذلك العمق أركان الخيمة إلى الأرض فتثبتها وتجعلها قادرة على مقاومة فعل الرياح والعواصف الهوجاء. ويأتي التعبير بـ {ذِي الْأَوْتَادِ} (الفجر: 10)

أقوال المفسرين في هذه الآية.

استعارة مجازية بمعنى كثير الجنود والعساكر الذين يشدون الملك ويثبتونه، كما تشد الأوتاد أركان الخيام إلى الأرض فتثبتها نظر ً الكثرة خيامهم التي يضربون أوتادها في أرض معسكراتهم، كما قد تأتي في معنى صاحب الأبنية العظيمة الشاهقة التي تشبه في عمق أساساتها أوتاد الجبال وفي ارتفاعها علو الجبال؛ وذلك من مثل قول الحق: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} (الفجر: 10). أقوال المفسرين في هذه الآية ذكر ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قول الحق: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا}؛ أي ممهدة للخلائق ذلول ً الهم قارة ساكنة ثابتة، وفي قوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}؛ أي جعل لها أوتادا أرساها بها وثبتها وقررها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها. وذكر صاحب ا (تفسير الجلالين) غفر الله له ما كلاما متشابها؛ إذ قال ا: " {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} أي فراشا كالممهد صالح ً اللحياة عليها، {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}؛ أي تثبت بها الأرض كما تثبت الخيام بالأوتاد؛ لئلا تميد بكم، والاستفهام للتقرير ". وقال صاحب (الظلال) - رحمه الله رحمة واسعة -: "والمهاد الممهد للسير، والمهاد اللين كالمهد، وكلاهما متقارب، وهي حقيقة محسوسة للإنسان في أي طور من أطوار الحضارة ومعرفتها، فلا تحتاج إلى علم غزير لإدراكها في صورتها الواقعية، وكون الجبال أوتاد ً اظاهرة تراها العين كذلك حتى من الإنسان البدائي، وهذه وتلك ذات وقع في الحس حين توجه إليها النفس، غير أن هذه الحقيقة أكبر وأوسع مدى مما يحسه الإنسان البدائي لأول وهلة بالحس المجرد، وكلما ارتقت معارف الإنسان وازدادت معرفته لطبيعة هذا الكون وأطواره كبرت

هذه الحقيقة في نفسه وأدرك من ورائها التقدير الإلهي العظيم، والتدبير الدقيق المحكم، والتنسيق بين أفراد هذا الوجود وحاجاتهم، وإعداد هذه الأرض لتلقى الحياة الإنسانية وحضانتها، وإعداد هذا الإنسان للملائمة مع البيئة والتفاهم معها، وجعل الأرض مهادا للحياة، وللحياة الإنسانية بوجه خاص شاهد لا يمارى في شهادته لوجود العقل المدبر من وراء هذا الوجود الظاهر، فاختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الأرض هكذا بجميع ظروفها، أو اختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الحياة لتعيش في الأرض؛ الاختلال هنا أو هناك لا يجعل الأرض مهادا، ولا يبقى هذه الحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم هذه الإشارة المجملة ليدركها كل إنسان وفق درجة معرفته ومداركه. وجعل الجبال أوتاد ً ايدركه الإنسان من الناحية الشكلية بنظره المجرد، فهي أشبه شيء بأوتاد الخيمة التي تشد إليها، أما حقيقتها فنتلقاها من القر آن وندرك منه أنها تثبت الأرض وتحفظ توازنها، وقد يكون هذا لأنها تعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال، وقد يكون لأنها تعادل بين التقلصات الجوفية للأرض والتقلصات السطحية، وقد يكون لأنها تثقل الأرض في نقط معينة فلا تميد بفعل الزلازل والبراكين والاهتزازات الجوفية، وقد يكون لسبب آخر لم يكشف عنه بعد، وكم من قوانين وحقائق أشار إليها القرآن الكريم ثم عرف البشر طرف ًا منها بعد مئات السنين ". وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 16 تابع: شرح قوله تعالى: {ألم نجعل الأرض مهادا ... } - قوله: {والجبال أرساها ... }.

الدرس: 16 تابع: شرح قوله تعالى: {ألم نجعل الأرض مهادا ... } - قوله: {والجبال أرساها ... }.

تتمة أقوال المفسرين في هذه الآية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (تابع: شرح قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ... } - قوله: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ... }) تتمة أقوال المفسرين في هذه الآية الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وص حبه ومن والاه، أما بعد: سنكمل -إن شاء الله- أقوال بعض المفسرين الآخرين، ونتحدث عن الدلالة العلمية لقول الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}. ل قد ذكر صاحب (صفوة البيان لمعاني القرآن) -رحمه الله- ما نصه: مهاد ً ا؛ أي فراشا موط أكالمهد لتمكينكم من الاستقرار عليها، والتقلب في أنحائها والانتفاع بما أودعناه لكم فيها، والمهاد مصدر بمعنى ما يمهد، وجعلت به الأرض مهادا مبالغة في جعلها موطئ ًا للناس والدواب يقيمون عليها أو بتقدير مضاف؛ أي ذات مهاد. قوله: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (النبأ: 7)؛ أي كالأوتاد للأرض؛ أي أرسيناها بالجبال لئلا تميد وتضطرب كما يرسى البيت بالأوتاد لئلا تعصف به الرياح، والأوتاد جمع و َ ت َ د أو و َ ت ِ د ووفعله كوعد. وذكر أصحاب (المنتخب في تفسير القرآن الكريم) ما نصه: ألم يروا من آيات قدرتنا أنا جعلنا الأرض ممهدة للاستقرار عليها

من الدلالات العلمية للآيتين الكريمتين.

والتقلب في أنحائها وجعلنا الجبال أوتادا للأرض تثبتها، وفي تعليق هامش أضافوا ما نصه: يبلغ سمك الجزء الصلب من القشرة الأرضية نحو 60 كيلو متر ً ا، وتكثر فيه التجاعيد فيرتفع حيث الجبال وينخفض ليكون بطون البحار وقيعان المحيطات، وهو في حالة من التوازن بسبب الضغوط الناتجة من الجبال، ولا يختل هذا التوازن إلا بعوامل التعرية فقشرة الأرض اليابسة ترسيها الجبال كما ترسي الأوتاد الخيم ة. وذكر صاحب (صفوة التفسير) - بارك الله فيه - ما نصه: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا}؛ أي ألم نجعل هذه الأرض التي تسكنونها ممهدة للاستقرار عليها والتقلب في أنحائها، وجعلناها لكم كالفراش والبساط لتستقروا على ظهرها وتستفيدوا من سهولها الواسعة بأنواع المزروعات، {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}؛ أي وجعلنا الجبال كالأوتاد للأرض تثبتها لئلا تميد بكم كما يثبت البيت بالأوتاد، فالله - سبحانه وتعالى - شبه الجبال بالأوتاد؛ لأنها تمسك الأرض أن تميد. من الدلالات العلمية للآيتين الكريمتين من الدلالات العلمية للآيتين الكريمتين، وهما: قول الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}. أول ًَ ا: في قول الحق - تبارك وتعالى -: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} استضاءة ب مفهوم ت حرك ألواح الغلاف الصخري للأرض، وصلت الدراسات الحديثة في هذا المجال إلى أن الأرض بدأت بمحيط غامر، ثم بتصدع قاع ذلك المحيط واندفاع ملايين الأطنان من الصهارة الصخرية عبر تلك الصدوع بدأ تحرك الألواح الصخرية المكونة لذلك القاع متباعدة عن بعضها البعض في أحد أطرافها، ومصطدمة في الأطراف المقابلة، ومنزلقة عبر بقية الأطراف، ونتج عن ذلك تكون أعداد من أقواس الجزر البركانية عند الأطراف المتصادمة، ثم نمت تلك الجزر البركانية بالتدريج إلى القارة الأم أو أم القارات التي تفتت بشبكة هائلة من الصدوع إلى القارات السبع التي نعرفها اليوم. وظلت هذه القارات في الاندفاع متباعدة عن بعضها البعض حتى وصلت إلى أوضاعها الحالية التي لا تزال تتزحزح عنها إلى اليوم، وباستمرار هذه العملية تمايزت ألواح الغلاف الصخري للأرض إلى الألواح المحيطية وتلك القارية، وبتصادم ألواح قيعان المحيطات بكتل القارات تكونت سلاسل الجبال الشبيهة

بجبال الأنديز على الحافة الغربية لأمريكا الجنوبية، وبتصادم ألواح القارات مع بعضها تكونت أعلى السلاسل الجبلية على سطح الأرض؛ من مثل: سلاسل جبال الهمالايا التي نتجت عن اصطدام كتلة الهند بكتلة قارتي آسيا وأوروبا. ومع تكون الأطراف والمنظومات والسلاسل والأحزمة الجبلية ومجموعاتها المعقدة أصبح سطح الأرض على درجة من وعورة التضاريس لا تسمح بعمرانها، ثم بدأت عمليات التجوية والتحات والتعرية في بر ي تلك المجموعات الجبلية والأخذ من ارتفاعاتها باستمرار، وبنقل الفتات الصخري الناتج عن تلك العمليات إلى أحواض المحيطات والبحار، وبتحرك هذه العمليات بدأت دورة الصخور التي لا تزال تتكرر إلى يومنا الراهن لتكسو منخفضات الأرض بالتربة اللازمة للإنبات والزراعة، ول تركز العديد من الثروات المعدنية ولتزيد من ملوحة البحار والمحيطات بالتدريج حتى تجعلها صالحة لحياة البلايين من الكائنات الحية، ولتحفظ هذا الماء من الفساد ولتركز معادن المتبخرات في صخور الأرض. ولما كانت عمليات التجوية والتحات والتعرية تزيل كميات كبيرة من الصخور المكونة لمرتفعات سطح الأرض كان من ضرورات الاتزان الأرضي أن تتحرك الصهارة الصخرية تحت الغلاف الصخري للأرض لتعوض فقدان الكتل التي تمت تعريتها، ولتحقق الاتزان الأرضي بتعديل الضغوط في داخل الأرض، ويؤدي ذلك إلى رفع الجبال بطريقة تدريجية، وباستمرار تفاعل تلك القوى المتصارعة من عمليات التجوية والتعرية المقترنة بعمليات تحرك الصهارة الصخرية تحت الغلاف الصخري للأرض وفي داخله، وعمليات رفع الجبال لتحقيق التوازن الأرضي لفترات زمنية طويلة؛ فإنها تنتهي بإنقاص سمك سلسلة الجبال إلى متوسط سمك لوح الغلاف الصخري الذي تتواجد عليه؛ وذلك بسحب جذور الجبال من نطاق الضعف الأرضي ورفعها حتى تظهر على سطح الأرض.

وبخروج جذور الجبال من نطاق الضعف الأرضي الذي كانت طافية فيه كما تطفو جبال الجليد في مياه المحيطات؛ فإن الجبال تفقد القدرة على الارتفاع إلى أعلى، وتظل عوامل التعرية في بريها حتى تسويها بسطح الأرض تقريبا، وحينئذ تنكشف جذور الجبال وبها من الثروات المعدنية ما لا يمكن أن يوجد إلا تحت مثل ظروف أوتاد الجبال التي تتميز بقدر هائل من الضغط والحرارة. وعلى هذا النحو ف إن الجبال قد لعبت ولا تزال تلعب دورا مهما في بناء قارات الأرض، وفي الزيادة المستمرة لمساحة تلك القارات بإضافة الكتل الجبلية إلى حواف تلك القارات بطريقة مستمرة، ومعنى ذلك أن كل قارات الأرض بدأت بسلاسل من أقواس الجزر البركانية في وسط المحيط الغامر، وأنه باصطدام تلك الجزر كونت القارة الأم التي تفتت بشبكة هائلة من الصدوع إلى القارات السبع التي نعرفها اليوم، والتي ظلت تنزاح متباعدة عن بعضها البعض حتى وصلت إلى أماكنها الحالية، والتي لا تزال تتزحزح عنها وبقيت القارات على هيئة أطواف ومنظومات وسلاسل وأحزمة جبلية معقدة، وأن تلك المرتفعات جعلت سطح الأرض على درجة من وعورة التضاريس لا تسمح بعمرانها، ثم بدأت سلسلة من الصراع بين العمليات الأرضية الداخلية البانية للجبال والرافعة لها، والعمليات الهدمية الخارجية التي تعريها، وفي نهاية هذا الصراع تنتصر العوامل الهدمية الخارجية فتسوى الجبال وتخفض من ارتفاعاتها بالتدريج في محاولة للوصول بها إلى مستوى سطح البحر. ولذلك فإن كل سهول ومنخفضات اليابسة الحالية كانت في يوم من الأيام جبالا شاهقة، ثم عرتها عوامل التجوية والتحات والتعرية حتى أوصلتها إلى مستوياتها الحالية، وأن الكتل الصخرية القديمة التي تعرف باسم الرواسخ أو المجن وهي

كتل مستقرة نسبيا موجودة في أواسط القارات ما هي في الحقيقة إلا جذور السلاسل الجبلية القديمة التي تم تعريتها. هذه العمليات المعقدة من الصراع بين القوى البانية في داخل الأرض والقوى الهدمية من خارجها؛ هي التي أدت بأمر من الخالق - سبحانه - إلى بناء القارات ورفعها فوق مستوى البحار والمحيطات على هيئة مجموعات من أطواف ومنظومات وسلاسل وأحزمة جبلية شاهقة ظلت تضاف إلى بعضها البعض بانتظام وبطء لتزيد من مساحة القارات التي كانت في بادئ الأمر جبلية وعرة لا تسمح وعورتها بعمرانها، ثم بدأت عوامل التعرية في الأخذ من تلك الجبال الشاهقة بالتدريج حتى حولتها إلى السهول الواسعة والهضاب والنجود المنخفضة والأودية المحفورة والرواسخ الثابتة التي تشكل أواسط القارات اليوم حتى وصلت الأرض إلى صورتها المناسبة للعمران، ولذلك يمن علينا ربنا - سبحانه - بتمهيد الأرض ويلوم المنكرين للبعث بتوجيه هذا اللوم من الاستفهام التقريري التوبيخي التقريعي الذي يقول فيه الحق: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا}؛ أي ألم نجعل لكم الأرض فراش ً اموط أكالمهد؛ لتمكينكم من الاستقرار عليها والتقلب في أنحائها، والانتفاع بما أودعناه لكم فيها؛ لأن الأرض لو بقيت جبالا شاهقة الارتفاع متشابكة التضاريس معدومة الممرات والمسالك لما أمكن العيش على سطحها، فسبحان الذي أنزل هذه اللفتة القرآنية المبهرة في محكم كتاب هـ من قبل ألف وأربعمائة من السنين، وهي حقيقة لم يدركها الإنسان إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ثاني ً ا: في قول الحق - تبارك وتعالى -: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} من الأمور المشاهدة أن سطح الأرض ليس تام الاستواء، وذلك بسبب اختلاف التركيب الكيمائي والمعدني للصخور المكونة له، وبالتالي اختلاف كثافة الصخور المكونة لمختلف

أجزاء الغلاف الصخري للأرض؛ فهناك قمم عالية للسلاسل الجبلية، وتنخفض تلك القمم السامقة إلى التلال ثم الرواب ي أو الربى جمع ربوة أو رابية أو الآكا م جمع أك م ة أوالنتوءات الأرضية، ثم الهضاب أو النجود، ثم السهول، ثم المنخفضات الأرضية والبحرية، ويختلف مع ذلك متوسط كثافة الصخور المكونة لكل شكل من هذه الأشكال الأرضية، ويبلغ ارتفاع أعلى قمة على سطح الأرض؛ وهي قمة جبل إفرست في سلسلة جبال الهمالايا 8840 متر ً اتقريب ً افوق مستوى سطح البحر، بينما يقدر منسوب أخفض نقطة على سطح اليابسة، وهي حوض البحر الميت بحوالي 395 متر ً المستوى م ائة تحت مستوى سطح البحر، بينما يصل منسوب قاعه إلى 800 متر تحت المستوى العادي لسطح البحر، ويقدر متوسط منسوب سطح اليابسة بنحو 840 متر ً افوق مستوى سطح البحر، ويبلغ منسوب أكثر أغوار المحيطات عمق ً ا 11020 متر ً افي قاع المحيط الهادي بالقرب من جزر الفلبين، بينما يبلغ متوسط أعماق المحيطات نحو أربعة كيلو مترات تحت مستوى سطح البحر، ويبلغ الفارق بين أعلى قمة على اليابسة وأخفض نقطة في قيعان المحيطات؛ أي أقل قليلا من 20 كيلو متر ً ا. وهذا الفارق بين أعلى قمة على سطح اليابسة وأخفض نقطة في أغوار قيعان البحار العميقة والمحيطات إذا قورن بمتوسط نصف قطر الأرض والمقدر بنحو 6371 كيلو متر ً ا؛ فإن النسبة لا تكاد تتعدى 30%، وهذه النسبة الضئيلة تلعب دورا مهما في معاونة عوامل التعرية المختلفة على بر ي صخور مرتفعات الأرض، وإلقاء الفتات الناتج عنها في المنخفضات في دورات متعاقبة تعمل على تسوية سطح الأرض، وتكوين التربة، وتركيز الخامات المعدنية، وجعل الأرض صالحة للعمران.

كذلك فإن الأدلة العلمية التي تراكمت على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين تشير إلى أن الغلاف الصخري للأرض في حالة توازن تام، وإذا تعرض هذا التوازن إلى الاختلال في أية نقطة على سطح الأرض؛ ف إ ن تعديله يتم مباشرة بتحرك القدر المناسب من الصهارة في نقاط الضعف الأرضي تحت نقطة الاختلال مباشرة منها أو إليها، ومن هذه الأدلة أن القشرة الأرضية تنخفض إلى أسفل على هيئة منخفضات أرضية عند تعرضها لأحمال زائدة، وترتفع إلى أعلى على هيئة نتوءات أرضية عند إزالة تلك الأحمال عنها، ويتم ذلك بما يسمى التضاغط والارتداد التضاغطي المرتد الذي يتم من أجل المحافظة على الاتزان الأرضي؛ ومن أمثلة ذلك ما ينتج عن تجمع الجليد بسمك كبير على اليابسة، ثم انصهار هـ، أو عند تخزين الماء بملايين الأمتار المكعبة أمام السدود ثم تصريفه، أو بتراكم ملايين الأطنان من الترسيبات أمام السدود ثم إزالتها، أو بتساقط نواتج الثورات البركانية العنيفة حول عدد من فوهات البراكين ثم تعريتها. ففي العهد الحديث من عمر الأرض بدأت في الانصهار تراكمات الجليد السميكة التي كانت قد تجمعت على بعض أجزاء اليابسة من نصف الكرة الشمالي منذ نحو مليوني سنة، ونتيجة لذلك بدأت الأرض بالارتفاع التدريجي في مناطق الانصهار التدريجي للجليد؛ لتحقيق التوازن التضاغطي المرن للأرض؛ وهو من سنن الله فيها، وقد بلغ ارتفاع الأرض بذلك 330 متر ً افي منطقة خليج هتسون في شمال أمريكا الشمالية، ونحو مائ ة من الأمطار حول بحر البلطيق حيث لا يزال ارتفاع الأرض مستمرا، وأمام كثير من السدود التي أقيمت على مجاري الأنهار تسببت بلايين الأمتار المكعبة من المياه وملايين الأطنان من الرسوبيات التي تجمعت أمام تلك السدود في حدوث انخفاضات عامة في مناسيب المنطقة وزيادة ملحوظة في نشاطها الزلزالي، ويؤيد ذلك بأن ألواح الغلاف الصخري المكونة للقارات والتي

يتراوح سمك كل ٍّ منها بين المائة والمائة وخمسين كيلو مترا يغلب على تركيبها صخور ذات كثافة منخفضة نسبيا، بينما يغلب على تركيب ألواح الغلاف الصخري المكونة لقيعان البحار والمحيطات صخور ذات كثافة عالية نسبيا؛ ولذلك لا يتجاوز سمك الواحد منها سبعين كيلو مترا فقط. وكل من ألواح الغلاف الصخري القارية والمحيطية يطفو فوق نقاط الضعف الأرضي الأعلى كثافة، وهو نطاق مرن شبه منصهر عالي اللزوجة؛ ولذلك فهو يتأثر بالضغوط فوقه ويتحرك استجابة لها. وفي المقابل فإن قشرة الأرض المكونة لكتل القارات يتراوح سمكها بين 30 و40 كيلو مترا تقريبا، ويغلب على تركيبها الصخور الجرانيتية والتي تغطى أحيانا بتتابعات رقيقة ومتفاوتة السمك من الصخور الرسوبية، ومتوسط كثافة الصخور الجرانيتية يبلغ 2.7 جرام للسنتيمتر المكعب، بينما يتراوح سمك قشرة الأرض المكونة لقيعان البحار والمحيطات بين ثمانية وخمسة كيلو مترات فقط، ويغلب على تركيبها الصخور البازلتية التي قد تتبادل مع الصخور الرسوبية، أو تتغطى بطبقات رقيقة منها، ويبلغ متوسط كثافة الصخور البازلتية 2.9 جرام للسنتيمتر المكعب؛ ولذلك تطفو كتل القارات فوق قيعان البحار والمحيطات. وبنفس هذا التصور يمكن تفسير الاختلاف في تضاريس سطح الأرض على أساس من التباين في كثافة الصخور المكونة لكل شكل من أشكال تلك التضاريس؛ فالمرتفعات على سطح اليابسة لا بد وأن يغلب على تكوينها صخور أقل كثافة من الصخور المحيطة بها، ومن ثم فلا بد وأن يكون لها امتدادات من صخورها الخفيفة نسبيا في داخل الصخور الأعلى كثافة المحيطة بها، ومن هنا كان الاستنتاج بأن الجبال لا بد وأن لها جذورا عميقة تخترق الغلاف الصخري

للأرض بالكامل لتطفو في نطاق الضعف الأرضي، وهنا تحكمها قوانين الطفو كما تحكم جبال الجليد الطافية في مياه المحيطات، وقد أيدت قياسات عجلة الجاذبية الأرضية هذا الاستنتاج بإشارتها إلى ق م م أقل من المفرو ض نظري ًّ افي المناطق الجبلية، وإلى ق م م أعلى من المفروض في المنخفضات الأرضية وفوق قيعان البحار والمحيطات، وانكشاف جذور الجبال القديمة في أواسط القارات يعتبر من الشواهد المادية التي تثبت حدوث عمليات إعادة التعليل التضاغطي في الغلاف الصخري للأرض؛ وذلك لأنه مع بري عوامل التعرية لقمم تلك الجبال ظلت ترتفع إلى أعلى حتى ظهرت جذورها على سطح الأرض، وبفهم دورة حياة الجبال ثبت أن كل نتوء أرضي فوق مستوى سطح البحر له امتداد في داخل الغلاف الصخري للأرض يتراوح طوله بين 10 و15 ضعف ارتفاعه الخارجي. وكلما كان الارتفاع فوق مستوى سطح البحر كبيرا تضاعف طول الجزء الغائر في الأرض امتدادا إ لى الداخل، وعلى ذلك فإن قم ة مثل: إفرست لا يكاد ارتفاعها فوق مستوى سطح البحر يصل إلى تسعة كيلو مترات لها امتداد في داخل الغلاف الصخري للأرض يزيد عن المائة والثلاثين كيلو مترًا، ويختلق هذا الامتداد الداخلي لتلك السلسلة الجبلية الغلاف الصخري للأرض بالكامل ليطفو في نطاق الضعف الأرضي، وهو نطاق شبه منصهر؛ أي مرن عالي الكثافة واللزوجة تحكمه في ذلك قوانين الطفو تمامًا كما تحكم جبال الجليد الطافية في مياه المحيطات، فكلما برت عوامل التعرية قمم الجبال ارتفعت تلك الجبال إلى أعلى، وتظل عملية الارتفاع تلك حتى يخرج جذر الجبل من نطاق الضعف الأرضي بالكامل؛ وحينئذ يتوقف الجبل عن الحركة، ويتم بريه حتى يصل سمكه إلى سمك اللوح الأرضي الذي يحمله؛ وبذلك يظهر جذر الجبل على سطح الأرض، وبه من الثروات الأرضية ما لا يمكن أن يتكون إلا تحت ظروف استثنائية من الضغط والحرارة لا تتوفر إلا تحت ظروف

مشابهة للبيئة في جذور الجبال. فسبحان الذي وصف الجبال من قبل ألف وأربعمائة سنة بالأوتاد، وهي لفظة واحدة تصف كلا من الشكل الخارجي للجبل وامتداده الداخلي ووظيفته؛ لأن الوتد أغلبه يدفن في الأرض وأقله يظهر على السطح، ووظيفته التثبيت، وقد جاءت علوم الأرض في العقود المتأخرة من القرن العشرين بالأدلة المادية التي تثبت أنه هكذا الجبال بعد أن ظل وصف الجبال إلى مشارف التسعينات من القرن العشرين قاصرًا على أنها مجرد نتوءات فوق سطح الأرض، واختلفوا في تحديد حد أدنى لارتفاع تلك النتوءات الأرضية اختلافا كبيرا بين 310 مترا و620 مترا، وبين اعتباره تعبيرا محددا أو نسبيا يعتمد على تضاريس المنطقة. وفي السبق القرآني بوصف الجبال بأنها أوتاد تأكيد قاطع على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وأن النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولًا بالوحي، ومعلمًا من قِبل خالق السموات والأرض؛ حيث لم يكن لأحد من البشر أدنى إلمام بإمكانية وجود امتدادات داخلية للجبال، أو حتى مجرد التفكير في ذلك الأمر، ولا بدور الجبال في تثبيت الأرض إلا بعد نزول القران الكريم بأكثر من اثني عشر قرنًا، ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرًا لهذا العلم غير الله الخالق -سبحانه- الذي أنزله على نبي أمي في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين من قبل ألف وأربعمائة سنة فصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. أيضا هناك آية أخرى في القرآن الكريم تقول:} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ {(النازعات: 32، 33) الجبل في اللغة هو المرتفع من الأرض ارتفاعا

ملحوظا يجعله يعظم ويطول على ما حوله من الأرض، وجمعه جبال وأجبال، ودونه في الارتفاع التل، ودون التل الربوة أو الرابية أو الأكمة وجمعها آكام، ودون الأكمة الهضبة، ودون الهضبة السهل، ودون السهل المنخفض. أما أرساها الفعل رسا يرسو فمعناه ثبت وقر، ويستخدم الفعل أرسى مجازا بمعنى تهدئة الأمور، وجاءت لفظة رواسي بهذا المعنى في القرآن الكريم؛ مثل قوله تعالى:} وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ {(المرسلات: 27) يعني جبال عالية مرتفعة. فإذا تتبعنا أقوال المفسرين في تفسير قول الحق -سبحانه-:} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ {نجد أن ابن كثير -يرحمه الله- ذكر ما مختصره؛ أي قرها وأثبتها في أماكنها، وهو الحكيم العليم الرءوف بخلقه الرحيم، وثبت جبالها لتستقر بأهلها ويقر قرارها كل ذلك متاعا لخلقه، ولما يحتاجون إليه من الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدة احتياجهم إليها في هذه الدار إلى أن ينتهي الأمد وينقضي الأجل. وجاء في تفسير (الجلالين) ما نصه: أثبتها على وجه الأرض لتثبت، متاعا مفعول له لمقدر؛ أي فعل ذلك متعة أو مصدر؛ أي تمتيعًا لكم ولأنعامكم جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم. وجاء في (الظلال) ما مختصره: وإرساء جبالها متاعا للإنسان وأنعامه، وهي إشارة توحي بحقيقة التدبير والتقدير في بعض مظاهرها المكشوفة للجميع. وجاء في (صفوة البيان لمعاني القرآن) ما نصه:} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا {؛ أي أرسى الجبال؛ أي أثبتها في الأرض؛ كي لا تميد وتضطرب، وقوله َ:} أَرْسَاهَا {تفسير للفعل المضمر قبله} مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ {؛ أي تمتيعا لكم ولأنعامكم. والآية تقريع لكفار مكة المنكرين للبعث زاعمين صعوبته بعد أن بين الله كمال سهولته بالنسبة إلى قدرته. وجاء في (المنتخب): والجبال ثبتها متاعا

من الدلالات العلمية لقوله تعالى:} والجبال أرساها ... }.

لكم ولأنعامكم. وجاء في (صفوة التفسير) ما نصه:} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا {؛ أي والجبال أثبتها في الأرض، وجعلها كالأوتاد لتستقر وتسكن بأهلها متاعا لكم ولأنعامكم؛ أي فعل ذلك كله منفعة للعباد، وتحقيقا لمصالحهم ومصالح أنعامهم ومواشيهم. من الدلالات العلمية لقوله تعالى:} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ... } من الدلالات العلمية لقوله تعالى:} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ { فهم المفسرون السابقون من قول الحق -تبارك وتعالى-:} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا {أن الضمير في أرساها يعود على الجبال، ومن هنا قالوا: إن عملية الإرساء تتعلق بالجبال على أساس من أن الضمير في العربية يعود على أقرب اسم إليه، وانطلاقا من ذلك فقد فهموا من الآية الكريمة معنى تثبيت الجبال في الأرض وجعلها كالأوتاد لتستقر وتسكن بمن عليها فلا تميد ولا تضطرب. وهذا الكلام يحمل في طياته أيضا تثبيت الأرض؛ لأن ضمير الغائب في الآيتين السابقتين، والذي جاء أربع مرات يعود على الأرض، ولا يستبعد أن يكون كذلك في آية الجبال؛ حيث يقول ربنا -سبحانه-:} وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ {(النازعات: 30 - 33) والصياغة هنا تحتمل معنى وبالجبال أرساها؛ فيكون المعنى إرساء الأرض بواسطة الجبال، بينما المعنى الأول يتعلق بإرساء الجبال على سطح الأرض، والمعنيان صحيحان صحة كاملة حسب معطيات علوم الأرض الحديثة؛ فالجبال مثبتة في الغلاف الصخري للأرض، وهي أيضا مثبتة لهذا الغلاف الصخري. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 17 تابع: شرح قوله تعالى: {والجبال أرساها ... } - قوله: {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل}.

الدرس: 17 تابع: شرح قوله تعالى: {والجبال أرساها ... } - قوله: {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل}.

تتمة الحديث عن الدلالات العلمية لقوله تعالى: {والجبال أرساها ... }.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (تابع: شرح قوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ... } - قوله: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ}) تتمة الحديث عن الدلالات العلمية لقوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ... } الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: كنا قد بدأنا في الدلالات العلمية للآيتين الكريمتين، أول ً ا: في فهم معنى {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} (النازعات: 32) لمفهوم إرساء الجبال على سطح الأرض: في خلال القرنين الماضيين تراكمت الأدلة العلمية التي تُشير إلى أن الغلاف الصخري للأرض في حالة توازن تام، على الرغم من التباين الواضح في تضاريس سطحه، ومعنى ذلك أن كتلة المادة متساوية عبر كل أنصاف أقطار الأرض الممتدة من مركزها إلى مختلف النقاط على سطحها مهما تباينت تضاريس السطح؛ سواء كانت النقطة التي انتهى إليها نصف القطر أعلى قمة جبلية أو أخفض نقطة في أغوار المحيطات، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بتباين كثافة الصخور المكونة للأجزاء المختلفة من الغلاف الصخري للأرض، فالسلاسل الجبلية العالية تتكون من صخور أقل كثافة من الصخور المحيطة بها، والمناطق المنخفضة تتكون من صخور أعلى كثافة من صخور المناطق المرتفعة. وقد أكد ذلك أن الجزء العلوي من الغلاف الصخري للأرض المعروف باسم قشرة الأرض يتباين كلٌّ من سمكه وكثافته في القارات عنها في قيعان البحار والمحيطات، فيتراوح سمك قشرة القارية بين 30 و40 كيلو متر ًا، ويبلغ على تركيبها الصخور الجرانيتية؛ بينما يتراوح سمك قشرة قاع المحيط بين 8.5 كيلو متر، ويبلغ على تركيبها الصخور البازلتية بمتوسط كثافته 2.9 جرام وسنتمتر مكعب. وبذلك تطفوا كتل القارات فوق قيعان البحار والمحيطات، وبالمثل فإن ألواح الغلاف الصخري الحاملة للقارات يتراوح سمكها بين 1000 و150 كيلو متر، ويغلب على تكوينها صخور ذات كثافة أقل نسبيًّا من الصخور المكونة لألواح قيعان البحار والمحيطات، والتي لا يتعدى سمكها 70 كيلو مترًا.

وكلا الصنفين من الألواح المكونة لغلاف الأرض الصخري القارية والمحيطية يطفوا فوق نطاق أعلى كثافة، وهو نطاق شبه منصهر مرن يُعرف باسم نطاق الضعف الأرضي، وهذا النطاق يتأثر بالضغوط فوقه؛ نظرا لمرونته، فيتحرك إلى أسفل كلما زادت عليه الضغوط، وإلى أعلى كلما قلَّت. ويتم ذلك بعمليتين متعاكستين تُسمى الأولى منهما باسم التضاغط المرتد، وتُسمى الثانية باسم الارتداد التضاغطي المرتد، وتتمَّان للمحافظة على الاتزان الأرضي، فإذا ارتفع الجبل بصخوره الخفيفة نسبيًّا إلى قمم سابقة؛ فلا بد من إزاحة كمٍّ مساوٍ لكتلته من المادة شبه المنصهرة في نطاق الضعف الأرضي الموجود أسفل الجبل مباشرة، مما يساعد الصخور المكونة للجبل على الاندفاع إلى أسفل بارتدادات عميقة تُسمى تجاوزًا باسم جذور الجبال، وهذه الجذور الجبلية تخترق الغلاف الصخري للأرض بالكامل؛ لتطفوا في نطاق الضعف الأرضي، كما تطفوا جبال الجليد في مياه المحيطات يحكمها في الحالين قوانين الطفو. وبناء على كثافة الصخور المكونة للجبال بالنسبة إلى كثافة صخور نطاق الضعف الأرضي وكتلة الجبل نفسه يكون عمق الامتدادات الداخلية لصخور الجبل؛ أي: جذوره، وقد ثبت أن كل نتوءٍ على سطح الأرض له امتداد في داخلها يتراوح بين 10 و15 ضعف ارتفاع هذا النتوء فوق مستوى سطح البحر، وكلما زاد هذا الارتفاع الخارجي للتضاريس سطح الأرض زادت امتداداته الداخلية أضعافًا كثيرة، وهكذا تثبت الجبال على سطح الأرض بانغراسها في غلافها الصخري، وطفوها في نطاق الضعف الأرضي، كما تعين هي على تثبيت الأرض فتقلِّل من ترنحها في دورانها حول محورها، وتثبت ألواح الغلاف الصخري للأرض مع بعضها البعض بأوتاد الجبال، فتربط القارة بقاع المحيط.

فإذا استهلك قاع محيط فاصل بين قارتين، ارتطمت ال قارت ان ببعضهما، ونتج عن ذلك أعلى السلاسل الجبلية التي تربط بأوتادها القارتين المصطدمتين، فتقلل من حركة الألواح الصخرية الحاملة لهما، وبذلك تصبح الحياة على سطحي القارتين المرتطمتين أكثر استقرارًا، وكلما مرت عوامل التجوية واتحاد والتعرية قمة الجبل دفعته قوانين الطفو إلى أعلى؛ حتى يتم خروج جذور؛ يعني أوتاد الجبل من نطاق الضعف في الأرض بالكامل، وحينئذ يتوقف الجبل عن الارتفاع، وتستمر العوامل الخارجية في تعريته حتى يصل سمكه إلى سمك لوح الغلاف الصخري الذي يحمله، فيضم إلى باقي صخور القارة الموجودة في الموجود فيها على هيئة راسخ من رواسخ الأرض. ثانيًا: قوله {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} بمفهوم إرساء ألواح الغلاف الصخري للأرض بواسطة الجبال؛ اختلف العلماء في فهم دور الجبال في إرساء الأرض اختلافًا كبيرًا، وذلك لأن كتل الجبال على سطح الأرض على الرغم من ضخامتها تتضاءل أمام كتلة الأرض المقدرة بحوالي ستة ألاف مليون مليون طن، وكذلك فإن ارتفاع أعلى قمم الأرض، وهو أقل قليلًا من تسعة كيلو مترات لا يكاد يُذكر بجوار متوسط نصف قطر الأرض، فإذا جُمع ارتفاع أعلى قمم الأرض إلى أعمق أغوار المحيطات أكثر قليلًا من أحد عشر كيلو مترًا، فإنه لا يكاد يصل إلى كيلو متر، ونسبته إلى متوسط قطر الأرض لا تتعدى 3%. من هنا يبرز التساؤل كيف يمكن للجبال أن تثبت الأرض بكتلتها الهائلة، وأبعادها الشاسعة في الوقت الذي لا تكاد كتلة وأبعاد الجبال أن تبلغ من ذلك شيئًا. في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين تمت بلورة مفهوم تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض، فقد اتضح أن هذا الغلاف ممزق بشبكة

هائلة من الصدوع، تمتد إلى عشرات الآلاف من الكيلو مترات؛ لتحيط بالكرة الأرضية إحاطة كاملة بعمق يتراوح بين 65 و150 كيلو مترًا، فتقسمه إلى عدد من الألواح الصخرية التي تطفوا فوق نطاق الضعف الأرضي، وتتحرك في هذا النطاق من نطاق الأرض التيارات الحرارية على هيئة دوَّامات عاتية من تيارات الحمل تُدفع، أو تدفع بألواح الغلاف الصخري؛ لتباعد بينها عند أحد أطرافها، وتصدمها ببعض عند حوافها المقابلة لحواف التباعد، وتجعلها تنزلق عبر بعضها البعض عند الحافتين الأخرتين. ويعين على تسارع حركة ألواح الصخري للأرض دوران الأرض حول محورها أمام الشمس، كما يعين على ذلك اندفاع الصهارى الصخرية لملايين الأطنان عبر الصدوع الفاصلة بين حدود الألواح المتباعدة عن بعضها البعض، فيتكون باستمرار أحزمة متوازية من الصخور البركانية التي تتوزَّع بانتظام حول مستويات الصدوع الفاصلة بين الألواح المتباعدة، في ظاهرة تُعرف باسم ظاهرة اتساع قيعان البحار والمحيطات. وتتكون الصخور الأحدث عمرًا حول مستويات التصدع المتباعدة باستمرار، وتدفع الصخور الأقدم عمرًا في اتجاه اللوح المقابل عند خط الاصطدام، وهنا يهبط قاع المحيط تحت القارة إذا كان اللوح المقابل يحمل قارة، ويتم ذلك بنفس معدل اتساع قاع المحيط في كل جهة من جهتي الاتساع حول مستوى تصدع وسط المحيط، الذي تتكوَّن حوله سلاسل من الجروف البركانية تمتدُّ فوق قاع المحيط بعشرات الآلاف من الكيلو مترات، وتُعرف باسم حواف أواسط المحيطات. وينتج عن هبوط قاع المحيط تحت اللوح الصخري الحامل للقارة تكوُّنُ أعمق أجزاء هذا المحيط على هيئة جب عميق يُعرف باسم الجب البحري، ونظرًا لعمقه

يتجمَّع في هذا الجب كم هائل من الرسوبات البحرية التي تتضاغط وتتلاحم، مكونة تتابعات سميكة جدًّا من الصخور الرسوبية، ويتبادل مع هذه الصخور الرسوبية ويتداخل فيها كمٌّ هائل من الصخور النارية التي تعمل على تحوُّل أجزاء منها إلى صهور متحولة. وتنتج الصخور البركانية عن الانصهار الجزئي لقاع المحيطات المندفع هابطًا تحت القارة، وتنتج الصخور المتداخلة عن كل من الصهارى الناتجة عن هذا الهبوط، وعن الإزاحة من نطاق الضعف الأراضي بدخول اللوح الهابط فيه. هذا الخليط من الصخور الرسوبية والنارية والمتحولة يُكشط باستمرار من فوق قاعِ المحيط الهابط بحركته المستمرة تحت اللوح الصخري الحامل للقارة، فيُطوى، ويتكسر هذا السمك الهائل من الصخور الرسوبية والنارية والمتحولة، ويضاف إلى حافة القارة مكونًا سلسلة، أو عددًا من السلاسل الجبلية ذات الجذور العميقة التي تربط كتلة القارة بقاع المحيط؛ فتهدّئ من حركة اللوحين، وتعين على استقرار اللوح الصخري الحامل للقارة استقرارًا، ولو جزئيًّا يسمح بإعماره، وتتوقف حركة ألواح الغلاف الصخري للأرض بالكامل عندما تصل دورة ب ناء الجبال إلى نهايتها حين تتحرك قارتان مفصولتان بمحيط كبير في اتجاه بعضهما البعض حتى يستهلك قاع المحيط كاملًا بدخوله تحت إحدى القارتين حتى تصطدما، فيتكون بذلك أعلى السلاسل الجبلية ارتفاعًا، كما حدث عند ارتطام اللوح القاري الحامل للهند للوح القاري الحامل لقارتي آسيا وأوروبا، ونتج عن ذلك الارتطام تكون سلسلة جبال هملايا. من هنا اتضح دور الجبال في إرساء ألواح الغلاف الصخري للأرض وتثبيتها، ولولا ذلك ما استقامت الحياة على سطح الأرض أبدًا؛ لأن حركة هذه الألواح

تثبيت الحبال لكوكب الأرض.

كانت في بدء خلق الأرض على درجة من السرعة والعنف لا تسمح لتربة أن تتجمَّع، ولا لنبتة أن تنبت، ولا لحيوان أو إنسان أن يعيش، خاصة وأن سرعة دوران الأرض حول محورها كانت في القديم أعلى من معدلاتها الحالية بكثير، لدرجة أن طول الليل والنهار معًا عند بدئ خلق الأرض كان يُقدر بأربع ساعات فقط، وأن عدد الأيام في السنة كان أكثر من ألفين ومائتين يوم، وهذه السرعة الفائقة لدوران الأرض حول محورها كانت بلا شكّ تزيد من سرعة انزلاق ألواح الغلاف الصخري للأرض فوق نطاق الضعف الأرض، وهي تُدفع أساسًا ب ظاهرة اتساع قيعان البحار، والمحيطات، وبملايين الأطنان من الصهارى الصخرية والحمم البركانية المندفعة عبر صدوع تلك القيعان، وبتسارع حركة ألواح الغلاف الصخري للأرض تسارعت الحركات البانية للجبال، وبتسارع بنائها هدأت حركة هذه الألواح وهيئت الأرض لاستقبال الحياة. وقبل مقدم الإنسان كانت غالبية ألواح الغلاف الصخري للأرض قد استقرت؛ لكثرة تكون السلاسل والمنظومات الجبلية، وأخذت الأرض هيئتها لاستقبال هذا المخلوق المقرر الذي حمَّله الله تعالى أمانة ومسئولية الاستخلاف في الأرض. تثبيت الحبال لكوكب الأرض بعد ذلك نأتي إلى عنصر آخر؛ وهو تثبيت الحبال لكوكب الأرض: تسائل العلماء عن إمكانية وجود دور الجبال في اتزان حركة الأرض ككوكب، وجعلها قرارًا صالحًا للحياة، وجاء الرد بالإيجاب؛ لأنه نتيجة لدوران الأرض حول محورها فإن القوة الطاردة المركزية الناشئة عن هذا الدوران تبلغ ذروتها عند خط استواء الأرض، مما يؤدِّي إلى التقليل من دور الجاذبية والعكس تمامًا يتم عند القطبين، ولذلك فإن الأرض انبعجت قليلًا عند خط الاستواء؛ حيث تقلُّ

قوة الجاذبية، وتطغى القوة الطاردة المركزية، وتفلطحت قليلًا عند القطبين؛ حيث تطغى قوة الجاذبية، وتتضاءل القوة الطاردة المركزية. ونتيجة لاستمرار هذه العمليات، فإن طول قُطر الأرض الاستوائي يزداد باستمرار، بينما يقلُّ طول قطرها القطبي، وإن كان ذلك يتم بمعدلات بطيئة جدًّا إلا أنه قد أخرج الأرض عن شكلها الكروي إلى شبه كروي، وشبه الكره لا يمكن لها أن تكون منتظمة في دورانها حول محورها؛ لأن الانبعاج الاستوائي للأرض يجعل محور دورانها يغيِّر اتجاهه رويدًا رويدًا في حركة معقدة مردُّها إلى تأثير جاذبية أجرام المجموعة الشمسية، وبخاصة الشمس والقمر على الأرض، وتُعرف هذه الحركة باسم الحركة البدارية، أو حركة الترن ح والبدارية، وتنشأ هذه الحركة عن ترنّح الأرض في حركة بطيئة تتمايل فيها من اليمين إلى اليسار بالنسبة إلى محورها العمودي الذي يكون لولبيًّا دون أن يُشير طرفاه الشمالي والجنوبي إلى نقطة ثابتة في الشمال أو في الجنوب. ونتيجة للتقدم أو التقهقر فإن محور دوران الأرض يرسم بنهايته دائرة حول قطب البروج تتمّ في فترة زمنية قدرها حوالي 62 ألف سنة من سنيننا ومن السنين التي نعرفهويتبع ترنُّح الأرض حول مدارها مسارًا متعرجًا بسبب جذب كلٍّ من الشمس والقمر للأرض، وتبعًا للمتغيرات المستمرة في مقدار واتجاه القوة البدارية لكل منهما، ويؤدي ذلك إلى ابتعاد الدائرة الوهمية التي يرسمها محور الأرض أثناء دورانها وترنحها، فتتحول إلى دائرة مؤلفة من أعداد من الأقواس المتساوية التي يبلغ عددها في الدورة الكاملة 1400 ذبذبة، ويستغرق رسم القوس الواحد 18.6 سنة أي: أن هذه الدائرة تتمُّ في حوالي 62 ألف سنة وتسمى باسم حركة الميثان.

وقد أثبتت الدراسات الفلكية أن لمحور دوران الأرض عددًا من الحركات الترنحية التي تستغرق أوقاتًا مختلفة يبلغ أقصرها عشرة أيام، ويبلغ أطولها 18.6 من سنيننا التي نعرفها، ووجود الجبال ذات الجذور الغائرة في الغلاف الصخري للأرض يُقلِّل من شدة ترنح الأرض في دورانها حول محورها، ويجعل حركتها أكثر انتظامًا وسلاسة تمامًا، كما تفعل قطع الرصاص التي توضع حول إطار السيارة لانتظام حركتها، وقلة رجرجتها، وبذلك أصبحت الأرض مؤهلة للعمران. وهنا يتضح وجه من أوجه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم الذي أُنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على نبي أمي، وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين، وذلك في قول الله: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا}، وقد تكرر هذا المعنى في تسعة مواضع أخرى من كتاب الله وصفت فيها الجبال بأنها رواسي، وهذه الآيات الكريمة يقول فيها ربنا - تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الرعد: 3)، وقوله تعالى {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} (الحجر: 19)، وقوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (النحل: 15)، وقوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (النمل: 62)، وقوله تعال ى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (لقمان: 10)، وقوله تعالى {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (فصلت: 10)، وقوله تعال ى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا

عرض موجز لسورة الزمر التي ذكرت فيها الآية.

فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (ق: 7)، وقوله تعال ى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} (المرسلات: 27). وهذه حقائق لم يتوصل الإنسان إلى إدراك شيء منها إلا في القرنين الماضيين بصفة عامة، وفي أواخر القرن العشرين بصفة خاصة، ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرًا لهذا السبق العلمي غير الخالق سبحانه، وفي هذا من التأكيد القاطع والحزم الجازم ما فيه؛ لأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العليَّة على مدى أربعة عشر قرنًا، أو يزيد، وإلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وأن خاتم الأنبياء والمرسلين تلقَّى هذا القرآن عن ربه بواسطة الوحي الذي بقي موصولًا به حتى أتاه اليقين، وأنه -عليه أفضل السلام وأزكى التسليم- كان كما يصفه القرآن الكريم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3، 4). عرض موجز لسورة الزمر التي ذكرت فيها الآية نأتي بعد ذلك إلىشرح قول الله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5) هذه الآية تُبيِّن لنا كروية الأرض، هذا النص القرآني الكريم جاء في مقدمة سورة الزمر والتي سُمِّيت بهذا الاسم لحديثها عن زمر المتقين السعداء المكرمين من أهل الجنة، وزمر العصاة الأشقياء المهانين من أهل النار، وحال كل منهم في يوم الحساب. وسورة الزمر مكية، وعدد آياتها خمس وسبعون آية، ويدور محورها الرئيسي حول قضية العقيدة، شأنها في ذلك شأن كل السور المكية، ولذلك فهي تركز على عقيدة التوحيد الخالصة لله بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع، ولا

صاحبة، ولا ولد، واستهلَّت السورة بالحديث عن القرآن الكريم الذي أنزله ربنا سبحانه بالحق على خاتم الأنبياء والمرسلين، هداية للناس كافة، وإنذارًا من رب العالمين، وجعله معجزة خالدة إلى يوم القيامة، وملأه بالأنوار الإلهية، والإشراقات النورانية التي منها الأمر إلى الناس كافة بالتبعية لهذا النبي الخاتم والرسول الخاتم، وبإخلاص الدين لله، وتنزيهه جلَّ في علاه عن كل وصف لا يليق بجلاله. ذكرت السورة عددًا كبيرًا من الأدلة المادية الملموسة التي تشهد للخالق سبحانه بطلاقة القدرة وببديع الصنعة، وبإحكام الخلق، وبالتالي تشهد له سبحانه بالألوهية، والربوبية، والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه، ومن هذه الأدلة المادية خلق السماوات والأرض بالحق، وخلق كل شيء حسب ما يشاء سبحانه: تكوير الأرض، وتبادل الليل والنهار عليها، تسخير كلٍّ من الشمس والقمر، وخلق البشر كلهم من نفس واحدة، وخلق زوجها منها، وكذلك الزوجية في كل خلق، وإنزال ثمانية أزواج من الأنعام، ووصف مراحل الجنين التي يمرُّ بها الإنسان وخلقه في ظلمات ثلاث، إنزال الماء من السماء خزن بعضه في صخور الأرض إخراج الزرع ودورة حياته، حتمية الموت على كل مخلوف، تكافؤ النوم مع الوفاة، واليقظة من النوم على البعث بعد الموت، وقبض الأرض، وطيّ السماوات يوم القيامة. وتحدثت السورة الكريمة كذلك عن الإيمان الذي يرتضيه ربنا من عباده، والكفر الذي لا يرضاه، وعن علم الله تعالى بكلِّ ما في الصدور، وعن قدرته سبحانه على محاسبة كل مخلوق بعمله، وعن طبائع النفس البشرية في السراء والضراء، وعن الفروق بين كلٍّ من الإيمان والكفر، وبين المؤمن والكافر في مواقفهما في

الدنيا والآخرة، وبين الإخلاص في العبادة وبين الإغراق في المعاصي، وبين كلٍّ من التوحيد والشرك، وبين الذي يعملون والذين لا يعلمون. وتحدثت السورة الكريمة كذلك عن العديد من مشاهد القيامة وأهوالها، كما تحدثت عن نفختي الصعق والبعث، وما يعقبُهُما من أحداث مروَّعة، وعن يوم الحشر حين يُساق المتقون إلى الجنة زمرًا، ويساق المجرمون إلى جهنم زمرًا، ولكن شتان بين سَوْقِ التكريم وسوق الإهانة، والإذلال، والتجريم. ويتمُّ ذلك كله في حضرة الأنبياء والشهداء، والملائكة حافين من حول العرش والوجود كله خاضع لربه، متجه إليه بالحمد والثناء، راجٍ رحمته مُشفق من عذابه، راضٍ بحكمه، حامد لقضائه. ومن الأدلة المادية المطروحة في سورة الزمر للاستدلال على طلاقة القدرة الإلهية على الخلق، وبالتالي على الشهادة للخالق سبحانه بالألوهية، والربوبية، والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (الزمر: 5). هذه الآية آية جامعة، وسوف نوضح بمشيئة الله الإشارة القرآنية الكريمة إلى كُروية الأرض، وإلى دورانها حول محورها أمام الشمس، وذلك من قبل ألف وأربعمائة سنة في زمن ساد الاعتقاد بالاستواء التام للأرض، بلا أدنى انحناء، وبثباتها الدائم دون أدنى حركة، وتمت الإشارة إلى تلك الحقيقة الأرضية في كتاب الله بأسلوب لا يوزع العقلية البدوية في زمن تنزُّل الوحي، فجاء التكوير صفة لكل من الليل والنهار، وكلاهما من الفترات الزمنية التي تعتري الأرض، فإذا تكور كان ذلك إشارة ضمنية رقيقة إلى كروية الأرض، وإذا تكور أحدهما

الإشارات الكونية في سورة الزمر.

على الآخر كان في ذلك إشارة إلى تبادلهما، وهي إشارة ضمنية رائعة إلى دوران الأرض حول محورها أمام الشمس دون أن تثير بلبلة في زمن لم تكن من مجتمعات الإنسانية بصفة عامة، والمجتمعات في جزيرة العرب بصفة خاصة أي حظ من الثقافة العلمية. الإشارات الكونية في سورة الزمر في سياق الاستشهاد على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق، والاستدلال من ذلك على وحدانية الخالق سبحانه، وعلى حتمية البعث وضرورته، جاء في سورة الزمر عدد من الإشارات إلى الكون وبعض مكوناته وظواهره، يمكن إيجازها فيما يلي: 1 - وصف عملية خلق السماوات والأرض بأنها تمَّت بالحق؛ أي: حسب قوانين وسنن منضبطة تشهد لخالقها بأنه الحق سبحانه. 2 - الإشارة الضمنية الرقيقة إلى كُروية الأرض، وإلى دورانها حول محورها أمام الشمس، وإلى جريها في مدارها، وجري كلٍّ من الشمس والقمر، وبالتالي كل أجرام السماء إلى أجل مسمى. 3 - التأكيد على خلق البشر كلهم من نفس واحدة. 4 - ذكر عملية إنزال ثمانية أزواج من الأنعام، والإنزال هنا قد يُشير إلى إنزال الشيفرة الوراثية الخاصة بكل منها. 5 - الإشارة إلى خلق جنين الإنسان في ظُلمات ثلاث، وهو ما أثبته علم الأجنة مؤخرًا. 6 - التأكيد على عدم المساواة بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وأن الذين يتدبَّرون، ويفهمون، ويتذكرون هم أولو الألباب والنهى.

الدلالة اللغوية لقوله تعالى: {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل}.

7 - الإشارة إلى أن أصل الماء تحت سطح الأرض هو ماء المطر الذي يسلكه ربنا -تبارك وتعالى- ينابيع في الأرض، ثم يُخرج به زرعًا مختلفة الأنواع والألوان والثمار، ثم بعد النضج يلبث الزرع ويجف بعد نضارته، ويصفرّ لونه، ثم يتحطَّم ويصبح فتاتًا متكسرًا. 8 - المقارنة بين النوم والموت وبين اليقظة من النوم والبعث في الآخرة، مما يشير إلى مفارقة الروح للجسد في حالتي النوم والممات، ثم يُعاد إرسالها للنائم لحظة يقظته، وإمساكها عن جسد الميت لحظة وفاته، ثم إعادتها إليه في لحظة البعث. 9 - التأكيد على أن الله تعالى هو خالق كل شيء، وأنه على كل شيء وكيل. 10 - الإشارة إلى أن الأرض سوف تكون في قبضة الخالق سبحانه في يوم القيامة، وأن السماوات سوف تكون مطويات بيمينه، وهذا من أمور الغيب المطلق، ولكنه حديث الخالق الباعث الشهيد. 11 - الإشارة إلى أن الأرض في الآخرة سوف تشرق بنور ربها، كما أشرقت أرض الدنيا بنوره، والعلوم المكتسبة تؤكِّد أن الأصل في الكون الحالي هو الظلام، وأن نور النهار هو نعمة يمنُّ بها الله على عباده. الدلالة اللغوية لقوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} يقال في اللغة العربية: كار الشيء يكوّره كورًا، وكرورا، يكوره تكويرًا؛ أي: أداره، وضم بعضه إلى بعض، ككور العمامة؛ أي: جعلها كالكرة. ويقال: ضمنه فكوره: إذا ألقاه مجتمعًا، كما يقال: اكتار الفرس إذا أدار ذنبه في عدوِه؛

من شروح المفسرين في تفسير الآية.

أي: في جريه، وقيل الإبل الكثيرة كور وكوارة وكوارة النحل معروفة، إلى غير ذلك. وقوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (التكوير: 1) أي: جعلت كالكرة بانسحاب ألسنة اللهب المن د فعة منها إلى آلاف الكيلو مترات فوق سطحها، إلى داخلها؛ كناية عن بدء انطفاء جذوتها، كما أن الشمس كجرم سماوي يدور حول محوره ويجري في مداره قد فقد شيئًا من تكوُّره، ومع تباطؤ حركة الشمس قد تستعيد شيئًا من ذلك التكوُّر. من شروح المفسرين في تفسير الآية من شروح المفسرين في تفسير قوله تعالى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (الزمر: 5). ذكر ابن كثير -يرحمه الله- ما مختصره يُخبر تعالى أنه الخالق لما في السموات والأرض، وما بين ذلك من الأشياء، وبأنه مالك الملك المتصرف فيه يُقلب ليله ونهاره، يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل؛ أي: سخرهما يجريان متعاقبين ولا يفترقان، كل منهما يطلب الآخر طلبًا، ويضيف: وقوله - عز وجل: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (لقمان: 29) إلى مدة؛ أي: إلى مدة معلومة عند الله، ثم ينقضي يوم القيامة ألا هو العزيز الغفار؛ أي: مع عزته وعظمته وكبريائه هو غفار لمن عصاه، ثم تاب وأناب إليه. وذكر صاحب (تفسير الجلالين) ما نصه: " ولحكمة لا عبثًا باطلًا، متعلق بخلق يكور؛ أي: يدخل الليل في النهار فيزيد، ويكور النهار يدخله على الليل

فيزيد"، وجاء في هامش التعليق؛ التعليق التالي من أحد المحققين قوله تعالى: {يكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} ما ذكره المؤلف الجلال المحلي في معنى التكوير هو معنى الإيلاج الوارد في مثل قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} (الحج: 61). هذا تفسير غير موافق لمعنى اللغة لأن التكوير والإيلاج ليس بمعنًى واحد، إلا فما معنى قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} قال في (القاموس): التكوير في اللغة طرح الشيء بعضه على بعض، ومنه كور العمامة، فيكون معنى الآية: أن الله تعالى سخر الليل على النهار يتعاقبان، يذهب أحدهما فيعقبه الآخر إلى يوم القيامة، وفي الآية إشارة واضحة إلى أن الأرض لا تخلوا من ليل في مكان ونهار في آخر، على مدار الساعة. وذكر صاحب (الظلال) -رحمه الله رحمة واسعة- ما نصه: خلق السماوات والأرض بالحق، وأنزل معهم، وهو قوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} (البقرة: 213) في سورة البقرة، فهو الحق الواحد في ذلك الكون، وفي هذا الكتاب، وكلاهما صادر من مصدر واحد، وكلاهما آية على وحدة المبدع العزيز الحكيم، يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، وهو تعبير عجيب يقصر الناظر فيه قصرًا على الالتفات إلى ما كشف حديثًا عن كروية الأرضية، فهو يصوِّر حقيقة مادية ملحوظة على وجه الأرض، فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس، فالجزء الذي يُواجه الشمس من سطحها المكوَّر يغمره الضوء ويكون نهارًا، ولكن هذا الجزء لا يثبت؛ لأن الأرض تدور، وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه

النهار، وهذا السطح مكور، فالنهار كان عليه مكورًا، والليل يتبعه مكورًا كذلك. وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل، وهكذا في حركة دائمة، يكور الليل على النهار ويكور النهار على، الليل واللفظ يرسم الشكل، ويحدد الوضع، ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها، وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير تفسيرًا أدق من أي تفسير آخر. وذكر صاحب (صفوة البيان) -رحمه الله- ما نصه: يكور الليل على النهار تكوير الشيء إدارته، وضمّ بعضه إلى بعض، ككور العمامة؛ أي: أن هذا يكرّ على هذا، وهذا يكرّ على هذا، كرورًا متتابعًا كتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض، إلا أن أطوار العمامة مجتمعة، وفيما نحن فيه متعاورة، وقيل: المعنى يزيد الليل على النهار، ويضمه إليه بأن يجعل بعض أجزاء الليل نهارًا، فيطول النهار عن الليل، ويزيد النهار عن الليل ويضمه إليه بأن يجعل بعض أجزاء النهر ليلًا فيطول الليل عن النهار، وكقوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}. وذكر أصحاب (المنتخب في تفسير القرآن) ما نصه: "خلق السماوات والأرض ملتبسًا بالحق، والصواب على ناموس ثابت يلفُّ الليل على النهار، ويلف النهار على الليل على صورة الكرة، وذلَّل الشمس والقمر لإرادته ومصلحة عباده، كل منهما يسير في فلكه إلى وقت محدد عنده، وهو يوم القيامة، إلا هو دون غيره الغالب على كل شيء، فلا يخرج شيء عن إرادته التي بلغ الغاية في الصفح عن المذنبين من عباده ".

وجاء في هامش هذا التعليق: تشير هذه الآية الكريمة إلى أن الأرض كروية تدور حول نفسها؛ لأن مادة التكوير معناها لفُّ الشيء على الشيء على سبيل التتابع، ولو كانت الأرض غير كروية مسطحة مثلًا؛ لخيَّم الليل، أو طلع النهار على جميع أجزائها دفعة واحدة {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ}. وذكر صاحب (صفوة التفاسير): " {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}؛ أي: خلقها على أكمل الوجوه، وأبدع الصفات بالحق الواضح، والبرهان الساطع، {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ}؛ أي: يغشى الليل على النهار، ويغشى النهار على الليل، وكأنه يلفُّ عليه لفَّ اللباس على اللابس". قال القرطبي: "وتكوير الليل على النهار تغشيته إيَّاه حتى يظهر ضوءه، ويغشى النهار على الليل، فيُذهب ظلمته". وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 18 تابع: شرح قوله تعالى: {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل} - قوله: {وأوحى ربك إلى النحل ... }.

الدرس: 18 تابع: شرح قوله تعالى: {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل} - قوله: {وأوحى ربك إلى النحل ... }.

أول من قال بكروية الأرض.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (تابع: ش رح قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} - قوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ... }) أول من قال بكروية الأرض الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: كنا تحدثنا عن قول الله تعالى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} وذكرنا المفردات اللغوية وذكرنا أقوال المفسرين في هذه الآية. نأتي إلى: كروية الأرض في المعارف المكتسبة. كان أول من قال بكروية الأرض فلاسفة الحضارة العراقية القديمة المعروفة باسم حضارة ما بين النهرين في حدود سنة 2000 قبل الميلاد، وعنهم أخذ فلاسفة اليونان، ومنهم فيثاغورث الذي نادى بها في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، مؤكدًا أن الشكل الكروي هو أكثر الأشكال الهندسية انتظامًا؛ لكمال انتظام جميع أجزاء الكرة بالنسبة إلى مركزها، وعلى ذلك فإن الأرض وجميع أجرام السماء لا بد أن تكون كروية الشكل. وبقي هذا الرأي شائعًا في الحضارة اليونانية القديمة حتى القرن الرابع قبل الميلاد، إلى أن عارضه أرسطو، أشاع بين الناس الاعتقاد باستواء الأرض ب ل اأدنى انحناء. وفي عهد الخليفتين العباسيين الرشيد والمأمون في القرن الهجري الثاني، وأوائل القرن الثالث نادى عددٌ من علماء المسلمين، ومنهم البيروني، وابن سينا والكندي، والرازي، وغيرهم بكروية الأرض التي استدلوا عليها بعدد من الظواهر الطبيعية التي منها ما يلي: 1 - استدارة حدّ ظل الأرض حتى يقع على سطح القمر في أوقات كسوفه. 2 - اختلاف ارتفاع النجم القطبي بتغير مكان الراصد له قربًا من خطِّ الاستواء، أو بعدًا عنه. 3 - تغيير شكل قُبَّة السماء من حيث مواقع النجوم، وتوزيعها فيها باقتراب الراصد لها من أحد القطبين.

كروية الأرض في القرآن الكريم.

4 - رؤية الأفق دومًا على هيئة دائرة تامَّة الاستدارة، واتَّساع دائرته بارتفاع الرَّائي فوق سطح الأرض. 5 - ظهور قمم الجبال البعيدة قبل سفوحها بتحرك الرائي إليها، واختفاء أسافل السفن قبل أعاليها في تحركها بعيدًا عن الناظر إليها. وقام علماء المسلمين في هذا العصر الذهبي بقياس محيط الأرض بدقة فائقة، وبتقدير مسافة درجة الطول في صحراء العراق، وعلى طول ساحل البحر الأحمر، وكانوا في ذلك سابقين للحضارة الغربية بتسعة قرون على الأقل؛ فقد أعلن الخليفة المأمون لأول مرة في تاريخ العلم ب منهجية استقرائية دقيقة أن الأرض كروية، لكنها ليست كاملة الاستدارة. ثم جاء نيوتن في القرن السابع عشر الميلادي يتحدث عن نقص تكوُّر الأرض من منطلق آخر؛ إذ ذكر أن مادة الأرض خاضعة لقوَّتين متعارضتين: قوة الجاذبية التي تشدُّ مادة الأرض إلى مركزها، والقوة الطاردة المركزية الناشئة عن دوران الأرض حول محورها، والتي تدفعها إلى الخارج، والقوة الأخيرة تبلغ ذروتها عند خط استواء الأرض، فتؤدِّي إلى انبعاجها قليلًا بينما تنقص إلى أقل قدر لها عند القطبين فيتفلطحان قليلًا، ثم جاء تصوير الأرض من الفضاء في أواخر القرن العشرين ليؤكد كلًّا من كروية الأرض، وانبعاجها قليلًا عند خط الاستواء. كروية الأرض في القرآن الكريم من الحقائق الثابتة عن الأرض أنها مكورة؛ كرة أو شبه كرة، ولكن نظرًا لضخامة أبعادها فإن الإنسان يراها مسطَّحة ب غير أدنى انحناء، وهكذا ساد الاعتقاد بين الناس بهذا التصوُّر للأرض إلى زمن الوحي للقرآن الكريم، وإلى قرون متطاولة من بعد ذلك بين العوام إلى يومنا هذا، على الرغم من وجود عدد من الملاحظات القديمة التي تُشير إلى كرويتها.

ولذلك فإن القرآن الكريم يتحدَّث عن هذه الحقيقة بطريقة غير مباشرة، وبصياغة ضمنيّة لطيفة، ولكنها في نفس الوقت بالغة الشمول، والدقة، والإحكام، وجاء ذلك في عدد من آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن تكور كل من الليل والنهار على الآخر، وولوجه فيه، وانسلاخه منه، وعن مدِّ الأرض وبسطها، وج حوها، وعن كسرة المشارق والمغارب فيها مع بقاء قمة عُظمى، ونهايتين لكل منهما، ومن تلك الآيات قوله تعال ى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (الزمر: 5). ومعنى {اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ}؛ أي: يغشى كل واحد منهما الآخر، كأنه يلفّه عليه، وهو وصف واضح الدلالة على كروية الأرض، وعلى دورانها حول محورها أمام الشمس، وذلك لأن كلًّا من الليل والنهار عبارة عن فترة زمنية تعتري نصف الأرض في تبادل مستمر، ولو لم تكن الأرض مكورة لما تكوَّر أيٌّ منهما، ولو لم تكن الأرض تدور حول محورها أمام الشمس ما تبادل الليل والنهار، وكلاهما ظرف زمان وليسا جسمًا ماديًّا يمكن أن يكور، بل يتشكَّل بشكل نصف الأرض الذي يعتريه. ولما كان القرآن الكريم يُثبت أن الله تعالى يكوِّر الليل على النهار ويكور النهار على الليل، وهما فترتان زمنيتان تعتريان الأرض؛ فلا بد للأرض من أن تكون مكورة، ولا بد لها من الدوران حول محورها أمام الشمس، ومن هنا كان التعبير القرآني بتكوير كل من الليل والنهار فيه إعلام صادق عن كروية الأرض، وعن دورانها حول محورها أمام الشمس بأسلوب رقيق لا يُفزع العقلية السائدة في ذلك الزمان التي لم تكن مستعدَّة لقبول تلك الحقيقة؛ فضلًا عن استيعابها، تلك

الحقيقة التي أصبحت من البديهيات في زماننا، وإن بقي بعض الجُهَّال على إنكارها إلى يومنا هذا، وسوف يبقون على ذلك إلى قيام الساعة، والتكوير يعني: جعلُ الشيء على هيئة مكورة، هيئة الكرة أو شبه الكرة، إما مباشرة أو عن طريق لفِّ شيء على شيء آخر في اتجاه دائري شامل؛ أي: في اتجاه كروي. وعلى ذلك فإن من معاني {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ}؛ أي: أن الله تعالى ينشر بالتدريج ظلمة الليل على مكان النهار من سطح الأرض المكوَّر، فيحوِّله إلى ليل مكور كما ينشر نور النهار على مكان ظلمة الليل من سطح الأرض المكور، فيحوله نهارًا مكورًا، وبذلك يتتابع كل من الليل والنهار على سطح الأرض الكروي بطريقة دورية مما يؤكِّد حقيقتي كروية الأرض ودورانها حول محورها أمام الشمس بأسلوب لا يفزع الأفراد، ولا يصدم المجتمعات التي بدأ القرآن الكريم يتنزَّل في زمانها، والتي لم يكن لها حظّ من المعرفة بالكون وحقائقه. والإشارات القرآنية الضمنية إلى حقيقة كروية الأرض ليست مقصورة على الآية الخامسة من سورة الزمر وحدها، وذلك لأن الله تعالى يؤكِّد في عدد من آيات القرآن الكريم على مد الأرض؛ أي: على بسطها بغير حافَّة تنتهي إليها، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت الأرض كروية الشكل؛ لأن الشكل الوحيد لا نهاية لبسطه هو الشكل الكروي، وفي ذلك يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا} (الرعد: 3)، ويقول سبحانه {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} (الحجر: 19)، ويقول سبحانه {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (ق: 7).

كذلك يؤكد القرآن الكريم كروية الأرض في آيات التطابق؛ أي: تطابق كل من السماوات والأراضين، ولا يكون التطابق بغير انحناء وتكوير، وفي ذلك يقول ربنا: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} (الملك: 3)؛ أي: متطابقة يغلِّف الخارج منها الداخل فيها، ويشير القرآن الكريم إلى اتفاق لأرض في ذلك بقول الله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12)؛ أي: سبع أراضين متطابقة حول مركز واحد، يُغلِّف الخارج منها الداخل فيها. كذلك تشير آيات المشرق والمغرب التي ذكرت بالإفراد والتثنية والجمع إلى حقيقة كروية الأرض، وإلى دورانها حول محورها أمام الشمس، وإلى اتجاه هذا الدوران، وفي ذلك يقول الحق سبحانه: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (الشعراء: 28)، ويقول {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} (الرحمن: 17)، ويقول سبحانه {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (المعارج: 40، 41) فالمشرق هو جهة طلوع الشمس والمغرب جهة غيابها، ووجود كلٍّ من المشرق والمغرب يؤيِّد كروية الأرض، وتبادلهما يؤكد دورانها حول محورها أمام الشمس من الغرب إلى الشرق، والأرض لها مشرق حقيقي واحد، ومغرب حقيقي واحد عموديان على اتجاه الشمال الحقيقي الذي حدَّده لنا الخالق سبحانه بالنجم القطبي، وفي الوقت الذي تشرق فيه الشمس على جهة ما من الأرض تكون قد غربت في نفس اللحظة عن جهة أخرى. ولما كانت الأرض منبعجة قليلًا عند خط الاستواء كانت هناك قمَّة عُظمى للشروق وأخرى للغروب {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (المزمل: 9)، ولما كانت الشمس تُشرق على الأرض في الفصول المختلفة من نقاط المختلفة، كما تغرب عنها من نقاط مختلفة، وذلك يُسبب ميل محور دوران الأرض بزاوية مقدارها 23.5 درجة على مستوى فلك دورانها حول الشمس؛ كانت هناك مشارق

عديدة ومغارب عديدة {رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}، وكانت هناك نهايتان عظميان لكل من الشروق والغروب تتبادلان، فيصبح المشرق مغربًا، ثم يصبح المغرب مشرقًا، قال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} وينتشر بين هاتين النهاتين العظميين نقاط متعددة لكل من الشروق والغروب على كلٍّ من خطوط الطول وخطوط العرض، وعلى مدار السنة؛ لأن دوران الأرض حول محورها أمام الشمس يجعل النور المنبثق عن ضوء هذا النجم ينتقل على سطح الأرض الكروي باستمرار من خطِّ عرض إلى آخر، ومن خط طول إلى آخر محدثًا عددًا غير نهائي من المشارق والمغارب المتعاقبة في كل يوم، كما يقول {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}. ووجود كلٍّ من جهتي المشرق والمغرب والنهايات العظمى لكل منهما وتبادلهما، فيصبح المشرق مغربًا، والمغرب مشرقًا، وما بينهما من مشارق ومغارب عديدة، وتتابع تلك المشارق والمغارب على سطح الأرض يؤكد كلًّا من كروية الأرض، ودورانها حول محورها أمام الشمس، وميل محور دورانها على مستوى فلك دورانها، وكل ما ينتج عن ذلك من تعاقب الليل والنهار، وتبادل الفصول المناخية، واختلاف مطالع الشمس ومغاربها على مدار السنة، وكل ذلك من الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة وقت تنزُّل القرآن الكريم، ولا لقرون متطاولة من بعده إلا بصورة بدائية، ولنفر محدودين جدًّا من أبناء الحضارات السابقة التي لم تصل كتاباتهم إلى شبه الجزيرة العربية، إلا بعد حركة الترجمة التي بدأت في منتصف القرن الهجري الثاني؛ أي: منتصف القرن الثامن الميلادي في عهد الدولة العباسية. وورود مثل هذه الحقائق الكونية في ثنايا الآيات القرآنية الكريمة بهذه الإشارات اللطيفة، والدقيقة في نفس الوقت لمِّمَّا يؤكِّد أن القرآن الكريم هو كلام الله

الخالق، وأن النبي الخاتم، والرسول الخاتم الذي تلقَّاه كان موصولًا بالوحي ومُعَلَّمًا من قبل خالق السماوات والأرض، وهذه من الحقائق الاعتقادية التي يحتاجها إنسان اليوم التي توفِّر له من أسباب التقدم العلمي والتقني مما لم يتوفَّر لجيل من البشر من قبل، ولكنه في ظل هذا التقدم فَقَدَ الصلة بخالقه، ففقد الكثير من القيم الأخلاقية النبيلة، والضوابط السلوكية الصحيحة التي تدعوا إلى الارتقاء بالإنسان إلى مراتب التكريم التي رفعه إليها رب العالمين، وتعينه على إقامة عدل الله في الأرض بدلًا من المظالم العديدة التي تجتاحها في كثير من أجزائها اليوم، وبدلًا من الخراب والدمار الذي يصيبها، والدماء التي تغرقها في ظل غَلَبة أهل الباطل على أهل الحق، وفقدان هؤلاء الكفار والمشركين لأدنى علم بالدين الذي يرتضيه رب العالمين من عباده. ولعل في الإشارة إلى مثل هذا السبق القرآني بالعديد من حقائق الكون ومظاهره ما يمكنه أن يمهِّد الطريق إلى الدعوة لهذا الدين، وإلى تصحيح فهم الآخرين لحقيقته من أجل تحديد هذا الكم الهائل من الكراهية للإسلام والمسلمين، والتي غرسها، ولا يزال يغرسها شياطين الإنس والجن في قلوب الأبرياء والمساكين من بني البشر، فبدءوا بالصراخ بصراع الحضارات وبنهاية العالم، وبضرورة إشعال حرب عالمية ثالثة بين الغرب والإسلام، والغرب في قمة من التوحُّد على الباطل، والتقدم العلمي والتقني، والتفوق الاقتصادي والعسكري مع غيبة كاملة للدين، وانحصار للأخلاق الكريمة والقيم النبيلة، وغيبة كاملة لخشية الله، وللإيمان بوحي السماء، وبالبعث والحساب، ولمعنى الأخوة الإنسانية. والعالم الإسلامي اليوم يمر بأكثر فترات تاريخه فرقة وتمزقًا وانحصارًا ماديًّا وعلميًّا وتقنيًّا، وتخلفًا عسكريًّا، والمعركة التي يتوهمونها تُدعى معركة أرمجدون، وهي معركة وهمية جاء ذكرها في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي، وهو رجل مجهول الهوية

إعجاز القرآن في آية تكو ن الشراب الذي يخرج من بطون النحل.

في آخر العهد الجديد من كتاب (نصارى اليوم) يشعلونها من أجل القضاء على دين الله الحق {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21) بهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن كروية الأرض. إعجاز القرآن في آية تكو ن الشراب الذي يخرج من بطون النحل إعجاز القرآن الكريم في آية تكون الشراب الذي يخرج من بطون النحل؛ قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل 68، 69). أقوال المفسرين في هذه الآية: قال البغوي والبيضاوي في تفسير الآية: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}؛ أي: ألهمها، وقذف في أنفسها ففهمته، أو جعل في غرائزها ذلك، كما قال السمعاني؛ أي: اتخذي من الجبال بيوتًا، ومن الشجر ومما يعرشون؛ أي يبنون، من الجبال بيوتًا؛ أي: أوكارًا مع ما فيها من الخلايا. قوله {وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}؛ أي: يرفعه الناس من سقف، وقيل: المراد به ما يرفعه الناس ويبنونه للنحل، والمعنى: اتخذي أيتها النحل لنفسك بيوتًا من الجبال والشجر إذا لم يكن لك أرباب، وإلا فاتخذي ما يعرشونه لك، وقد جرت العادة أن أهلها يبنون لها الأماكن، فهي تأوي إليها. قوله: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}؛ أي: من كل ثمرة تشتهينها حلوها ومرها. قوله: {فَاسْلُكِي} ما أكلت منها {سُبُلَ رَبِّكِ}؛ أي: مسالكه التي برأها بحيث يحين فيها بقدرته القاهرة الثمرة المرة عسلًا من أجوافك، أو فاسلكي الطرق

التحقيق العلمي.

التي ألهمك في عمل العسل، أو فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك لا تتوعَّر عليك. قوله: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} قيل: هي نعت الطرق، يقال: هي مذللة للنحل سهلة المسالك. قال مجاهد: "لا يتوعر عليها مكان سلكته". وقال آخرون: الذلل نعت النحل يقول: أي مطيعة منقادة بالتسفير. قوله: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ} يعني: العسل مختلف ألوانه أبيض، وأحمر، وأصفر. {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}؛ أي: في العسل. عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إن أخي استطلق بطنه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: اسقه عسلًا، فسقاه، ثم جاء فقال: إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة، فقال: اسقه عسلًا. قال: فقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلًا، فسقاه فبرأ)). قال عبد الله بن مسعود: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، وروي عنه أنه قال: عليكم بالشفاءين: القرآن والعسل. التحقيق العلمي أثبت العلماء بإعجاب ودهشة أن النحل أمة منظمة حقَّ ة، وأنها مأمورة وميسرة إلى نظام من المعلومات يُعينها على اجتياز الآفاق من حولها، والعودة إلى خليتها وبيتها دونما خطأ، وترتَّب على هذه الملاحظة أن عكف العلماء على دراسة لهذا النظام المعلوماتي للنحل، فوجدوا ما يتفق مع القرآن الكريم بعد بحوث طويلة على النحو الآتي:

فتجد النحل الشغالة المختصة بجمع الرحيق بهدف الاستطلاع والبحث عن أماكن الرحيق الجيد، حتى تعثر عليه، وعلى مسافات تصل إلى عدة أميال، تعود النحلة إلى خليتها، وتدخل فتجتمع حولها وخلفها جمهور الشغالات، كأنها دعتهم إلى مؤتمر هام يتحلَّق الجميع على قرص الشمع حول النحلة الشغالة الداعية، وتشرع هي في الدوران حول نفسها عددًا محدد من الدورات، وهي تميل بزاوية محددة من ناحية قرص الشمس. واصل العلماء البحث مع النحل، فوضعوا خلاياه على مسافات محددة من مصدر الرحيق الواحد في مكان البحث؛ فلاحظوا أن تغير مكان الرحيق يترتب عليه تغيرًا في عدد دوران النحلة حول نفسها تغيرًا في سرعة الدوران، وتغيرًا في ميل جناحها على ناحية الشمس. فالنحل ينطلق بزاوية ارتفاع محددة إلى مسافة في السماء، تُحدد بعدد من الدورات، ثم ينطلق موازيًا للأرض مسافة محددة، ثم يهبط كأنه قذيفة موجهة إلى حيث يوجد الأزهار، وقد ثبت أن النحل يُوظِّف عدَّة حواس لأداء مهمته تلك، فهو يشمُّ ويتذوَّق ويبصق، وحتى يُصدر أصواتًا إنه يشم، فما هي أعضاء الشم التي يمتلكها: إنها خلايا متخصصة تنتشر على قرون استشعار، وهي الخلايا؛ أي: الأعضاء التي يستطيع بها النحل تمييز رائحة الزهرة في الحقل، وكذلك يستطيع بها أن يميِّز رائحة الخلية التي ينتمي إليها. إن الرائحة الأسرية، أو رائحة المستعمرة عبارة عن مادة تسمى فرمون، تفرزه ملكة الخلية من غُددها الفكية، وهي المادة التي تجذب بها الذكور التي تلاحقها في طيران الزفاف الملكي، وهي المادة نفسها التي تنثُرها الملكة في الخلية على الشغالات، فتصيبها بالعقم، فلا يكون لهنَّ عمل في الإنجاب، وهي المادة نفسها التي تشيع في أرجاء الخلية، ويعرفها كل فرد يعيش في هذه الخلية.

هكذا تعمل هذه الرائحة المميزة بمثابة كلمة السر، أو بطاقة الهوية لهذه الخلية، فإذا دخلت نحلة غريبة عن الخلية كان من السهل على العاملات المسئولات عن الحراسة أن يكتشفن وجودها، وعلى التوِّ يهاجمنها ويطردنها. وللنحل قدرات واضحة على تذوُّق الرحيق والمواد السائلة الأخرى، ولديه القدرة على الإبصار ويميز بين البياض والسواد وبين بعض الألوان، وخصوصًا بين اللونين الأزرق والأصفر، ويستطيع أن يبصر ما لا يبصره الإنسان مثل بصر الأشعة فوق البنفسجية، وهكذا بالشم والتذوق والإبصار تستطيع شغالات النحل أن تُزاول أعمالها النشطة بين عالم الأزهار الذي تعشقه وتحبه، فتزوره مرات ومرات كل يوم في الأيام الدفيئة الوادعة. لكن ماذا يجري للنحلة الشغالة عندما تخرج من بيتها للمرة الأولى في حياتها، حيث تخرج للبحث عن الرزق؛ إنها قبل أن تُغادر موقع البيت في الخلية تستدير إليه، وتقف، وتحلّق أمامه فترة، وكأنها تُشعر نفسها بأنها سوف لا تستطيع أن تعود إلى هذا البيت، فهي تقف وتستدير وتُحلق أمامه حتى ينطبع في ذاكرتها، ثم هي بعد ذلك تطير من حوله في دوائر تأخذ في الاتساع شيئًا فشيئًا، وإضافة إلى هذه الحيطة، فإنها لا تبتعد كثيرًا عن بيتها في هذه الرحلة الأولى، بل تعمد إلى الطيران القريب من المنطقة المتاخمة للخلية. ولقد أثارت معرفة الطرق التي تسلكها شغالات النحل في رحلات الذهاب والإياب عقول الناس منذ سنوات بعيدة، وحاول العلماء أن يفسِّروا هذا الأمر، ويقترحوا له الاقتراحات، وكان من أشهر العلماء كارلثون فريتش الذي قضى كل عمره أو معظم عمره يجري تجارب وبحوثًا لفك ألغاز، وأسرار مسارات النحل، ومعرفة اللغات التي تتفهَّم أفراده مع بعضها بواسطتها، ومن أجل ذلك

نال جائزة نوبل عام 1973، وقد اكتشف فريتش وتلامذته خلال بحوثهم، ومحاولاتهم، وتجاربهم أن شغالات النحل الاستكشافية تستطيع أن تُخبر زميلاتها في الخلية بالأخبار الآتية: 1 - وجود أزهار مرغوبة في حقل محدد. 2 - تحديد المسافة بين موقع الخلية وموضع هذه الأزهار. 3 - نوع الأزهار المقصودة. 4 - اتجاه الطيران للوصول إلى ذلك الموقع. واستخلص فريتش ومساعدوه أن هناك نوعين من الحركات تؤديهما الشغالات بعد عودتهنَّ من الرحلات الاستكشافية، هما: الرقص الدائري، والرقص الاهتزازي، هذا كان فريتش في بحوثه الأولى في العشرينات، يعتقد بأهمية الروائح في اهتداء النحل إلى غذائه في رحلات جني الرحيق، وهي الروائح التي يشمها من شقيقاته المستكشفات، لكنه عدل عن هذا الرأي في الأربعينات إلى أهمية لغة الرقص، وتقوم الشغالات بأداء الرقص الدائري في الخلية إذا كانت المسافة بين موضع الرحيق، وبين موضع الخلية لا يتجاوز خمسين مترًا، تدخل الشغالات الخلية، فتفرغ حمولتها من حبوب اللقاح، ثم تقف على أحد الأقراص الشمعية، وتبدأ في الدوران حول نفسها في دائرة ضيقة مغيرة اتجاهها بثبات، فتدور إلى اليمين تارة، وتارة أخرى إلى اليسار راقصة في اتجاه عقرب الساعة، وفي اتجاه معاكس في تتابع سريع، فترسم بذلك دائرة، أو دائرتين في كل اتجاه، وذلك وسط ضجيج صاخب في الخلية حيث يتراص النحل وراءها، محاولًا أن يلمس بطنها بقرون استشعاره، آخذًا في أداء حركات الرقص معها،

فتبدو هذه النحلة الراقصة الأولى كما لو كانت تجرُّ خلفها ذيلًا طويلًا من النحل المتحرك حركة مستمرة. ويدوم هذا الرقص الجماعي ثوانٍ، أو قد يصل إلى دقيقة كاملة، وأخيرًا تنسلُّ من أخواتها وتصل إلى فتحة الخلية؛ لتخرج وتذهب في رحلة جديدة بحثًا عن الغذاء. وفي لحظات تقوم الشغالات اللاتي كنَّ يُتابعن أختهنَّ الراقصة تلك بالتوجه نحو فتحة الدخول، ومغادرة الخلية جميعًا نحو موضع الغذاء المحدد. وهناك نوع آخر من الرقص رصده فريتش ومساعدوه، وهو الرقص الاهتزازي، واستخلصوا في نتائج تجاربهم أنه النوع الذي به تبلغ النحلة الشغالة عن تقدير المسافة بين الخلية ومصدر الغذاء، وخصوصًا المسافات البعيدة التي تزيد عن خمسين مترًا، فتدخل الشغالة من فتحة الخلية وتقف وسط أخواتها على قرص الشمع، وتسير مسافة قصيرة في خطٍّ مستقيم، وتحرك بطنها بسرعة من جانب لآخر، ثم تتحرك في قوس إلى اليسار، ثم في خط مستقيم ثانية، ثم تتحرك في قوس إلى اليمين. ولقد اكتشف الباحثون أن هنالك ارتباط بين عدد اللفات الكاملة أثناء هذا الرقص الاهتزازي، وبين تحديد المسافة المطلوبة، فإذا كانت المسافة 100 متر كان عدد الرقصات من 9 إلى 10 لفات كل 15 ثانية، وإذا كانت 200 متر كان عدد الرقصات 7 لفات كل 15 ثانية، وإذا كانت المسافة كيلو مترًا واحدًا يتناقص عدد اللفات إلى 4.5 لفات كل 15 ثانية، وإذا كانت المسافة 6 كيلو مترات يكون عدد اللفات لفتين فقط.

ولاحظ فريتش ومساعدوه خلال مراقبة الرقص الاهتزازي لشغالات النحل أن الواحدة منهنَّ تُغيِّر اتجاه الجزء المستقيم من الرقص مع تقدم النهار، فاستدلوا بذلك أن موضع الشمس في السماء له أثر في هذا السلوك على النحو التالي: إذا كان موضع الغذاء في اتجاه الشمس بالنسبة لبيت النحل كان اتجاه مسار الجزء المستقيم من الرقصة إلى أعلى، وإذا كان موضع الغذاء في الاتجاه المضادّ للشمس لبيت النحل؛ كان اتجاه مسار الجزء المستقيم من الرقصة إلى أسفل، وإذا كان موضع الغذاء منحرفًا عن اتجاه الشمس بالنسبة لبيت النحل؛ فإن النحلة تنحرف من الجزء المستقيم في رقصتها عن الخط العمودي بزاوية تساوي الزاوية الواقعة بين خط مرسوم بين الخلية والشمس، وخط آخر بين الخلية والغذاء، وأما الخلط بين الخلية والشمس فيُعبَّر عنه خط الجاذبية الأرضية. وإذا كان اليوم غائمًا والشمس محتجبة، أو أن شغالات النحل تسرح في الفترة المتأخرة من النهار حيث الضوء الضعيف؛ فإن النحل يستطيع أن يهتدي بالمساحات الصافية من السماء في هذا الموضوع، وذلك لأن عين النحلة قادرة على تحديد مواضع الأجسام المضيئة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 19 تابع: شرح قوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل ... }.

الدرس: 19 تابع: شرح قوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل ... }.

عسل النحل، وغذاء الملكات، وشمع النحل، والعكبر أو صمغ النحل.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (تابع: شرح قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ... }) عسل النحل، وغذاء الملكات، وشمع النحل، والعَكْبَر أو صمغ النحل الحمد الله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: شرحنا بعض أجزاء من قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 68، 69). إ ن أهم أنواع الشراب الخارج من بطون النحل هو عسل النحل، والعسل سائل يدخل في تركيبه أكثر من سبعين مادة مختلفة، ويعتبر مصدرًا للمواد السكرية على مدى آلاف السنين، ونظير العسل يخرج من بطن النحلة سوائل أخرى يصدق عليها الوصف أنها شراب وذات قيمة غذ ائية وطبية ترجع لنوع النبات أساسًا، وتتباين خواص العسل تبعًا لما يلي: أنواع الأزهار والأشجار التي يجمع النحل منها الرحيق، الإقليم من الأرض الذي تقع فيه هذه النباتات، سلالة النحل، الظروف الجوية السائدة أيام جمع الرحيق، ويختلف لون العسل تبعًا لنوع الأزهار التي أخذت النحلة منها الرحيق، وينسب العسل في هذه الحالة إلى اسم النبات فيقال مثلًا: عسل البرسيم الحجازي، وقد يكون عديم اللون، وقد يكون أحمر مصفر، أو عنبري اللون، فعسل التفاح لونه أصفر باهت، وعسل الأقرطيون لونه زيتوني غامق، وعسل كرمب السلجم لونه أخضر مصفر، وعسل الهندباء لونه أصفر ذهبي، وعسل الخلنج لونه أصفر داكن أو أحمر بني، وعسل الحنطة السوداء لونه أصفر داكن مع صبغات حمراء إلى بني داكن، وعسل الزيزفون لونه شفاف أو أسمر أو أصفر أو أصفر فاتح أو أخضر، وعسل شجرة الغبيراء لونه أحمر.

غذاء الملكات: سائل أبيض اللون يسمى أيضًا لبن النحل؛ لأنه يشبه اللبن الكثيف أو القشدة، وتنتجه فتيات النحل؛ أي الشغالات الشاب ة من أجل إطعام الملكة وبعض اليرقات الصغيرة، وإذا غذيت به اليرقة طيلة عمرها ستة أيام نشأت ملكة طويلة الجسد رشيقة القوام ومبايضها خصيبة كاملة، أما إذا غذيت اليرقة به ثلاثة أيام فقط وغذيت في الأيام الثلاثة الباقية بخبز النحل الذي هو حبوب اللقاح المعجونة بالعسل؛ فإنها تنشأ شغالات عقيمة مبايضها ضامرة، ويحدث هذا كذلك بالنسبة للذكور، ولكن الذكور تنشأ من بيض غير ملقح، فهي تنال نظامًا غذائي ًّ اكالشغالات قبل تحولها إلى حشرات يافعة. والغذاء الملكي سريع التلف، ويتأثر بدرجة الحرارة والضوء والهواء، ويتدهور بسرعة في درجة الحرارة العادية، وبعد عدة أسابيع يصبح لونه مصفرًا أو بني ًّ ابرائحة قوية نتيجة لتحلل البروتين الذي يحتويه، وتزيد سرعة التحلل بزيادة الرطوبة الجوية التي تساعد على تكاثر جراثيم العسل. شمع النحل: شمع النحل سائل قبل أن يتعرض للهواء؛ فإذا تعرض له جف، وهو المادة المعروفة منذ القدم، واستعملها الناس في أغراض شتى؛ سواء كانت أغراضًا عقائدية أو أغراضًا معيشية. أما بالنسبة للنحل؛ فالشمع هو المادة الأساسية لاستقرار مجتمع النحل بالخلية، إضافة إلى عناصر أخرى كضرورة وجود الملكة ووجود الشغالات؛ فطالما توجد أقراص الشمع في الخلية ت ظ ل هذه الخلية تزاول حياتها دون اضطراب أو هرج.

العَكْبَر أو صمغ النحل: العكبر أحد منتجات النحل تجمعه من صمغ الأشجار، وتقوم بمزجه بلعابها وبشيء من الشمع، فتخرج مادة فيها دواء وشفاء، ويجمع النحل هذا العكبر من لحاء القشور والبراعم الزهرية لعدة نباتات؛ منها: أشجار البلوط والحور والصنوبر وغيرها. أما تركيبه الكيميائي فهو معقد جد ًّ ا؛ إذ يحتوي على أكثر من 300 مركب اكتشف حتى الآن، ويتكون العكبر إجمالًا من 55 % من المواد الراتنجية، 30 % من الشمع، 10 % من مركبات متنوعة زيوت عطرية، 5%من حبوب التمر. العكبر مضاد للجراثيم: أظهرت الدراسات العلمية بجلاء خواص العكبر الفعالة المثبطة لجرثوم المكورات العنقودية؛ وهي من الجراثيم الشائعة التي تصيب الإنسان، كما أكدت أن استعماله مع المضادات الحيوية الأخرى يزيد من نشاط وفعالية تلك المضادات الحيوية، كما أثبتت الأبحاث أيضًا أنه مضاد للفطور حيث يحتوي العكبر على مواد لا يقل تأثيرها الفعال في مقاومة الفطور عن أحدث الأدوية المتوفرة لدى الأطباء حاليًا. كما تبين أن للعكبر تأثيرًا مضادًا على مرض السرطان؛ وقاية ً وعلاجًا إذ يحتوي على الفلافيو مويدات والأحماض الدهنية والأحماض العطرية، وإسترات هذه الأحماض، ويعزو لهذه الفلافيو مويدات التأثير المثبط للخلايا السرطانية، كما وجد أن له تأثيرًا في الوقاية من العقم وأمراض العيون. ويعزو الباحثون تلك الفوائد إلى خواص العكبر المضادة للأكسدة، والمعروف أن مضادات الأكسدة تقوم بفعل يمكن أن يقي الجسم من تصلب الشرايين والسرطان والهرم؛ يعني الشيخوخة وغيرها.

وجه الإعجاز في الآيتين الكريمتين.

ويدخل العكبر الآن في كثير من المستحضرات الجلدية؛ مثل: مستحضرات التجميل والدهونات والمراهم والشامبو ومعاجين الأسنان وغيرها. وبعد؛ أليس عجيبًا أن يخرج من بطون النحل خمس مواد مختلفة فيها شفاء للإنسان؛ إنه صنع الله الذي أتقن كل شيء. وجه الإعجاز في الآيتين الكريمتين وجه الإعجاز: لفت القرآن الكريم بهذا نظر البشرية إلى قدرة النحل على معرفة الطريق نحو الغذاء بوسائل تفاهم جماعي، ومما عرفناه من ذلك وسيلة رقص النحلة لتتحرك بزوايا خاصة يدرك بها من حولها موضع الغذاء، ويتفق الخطاب بالتأنيث {اتَّخِذِي} {كُلِي} {فَاسْلُكِي} {بُطُونِهَا} مع المعرفة الحديثة؛ ل أن الذي يقوم بالبحث وجلب الغذاء هي الشغالة وليس الذكر، والسائد عند الناس أنها تتغذى على رحيق الأزهار، ولكن القرآن الكريم لم يقل: اشربي، بل يخالف السائد ويعبر بتعبير معجز يتفق مع الحقيقة التي كشفها العلم الحديث من تغذي النحل على حبوب اللقاح أساسًا بلفظ {كُلِي}، وجعل ما تتغذى عليه أساسًا لصنع الثمار فعبر عنه كأصل للثمار بعبارة {كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}. ويرجع القرآن الكريم كافة أنواع ذلك العسل الذي اعتاد الناس منذ القدم اتخاذه علاجًا لأمراض وأحوال طبية مختلفة إلى أنواع النبات أساسًا بتعبير {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}.

الإعجاز في النص الكريم ذو مناح عديدة؛ وأهم مسألتين هما: المسألة الأولى: قوله - جل وعلا -: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} فقد سبق القرآن العلم في لفت أنظار البشرية إلى قدرة النحل على سلوك الطرق، وحث العلماء على البحث في ذلك، فاكتشفوا تفرد النحل بالنظام المعلوماتي الذي ييسر له شق الطرق البعيدة بسهولة ويسر، وهكذا تأكد للكافة أن كلمة القرآن هي الحق {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا}؛ أي ميسرة سهلة على النحل بما زوده الله من نظام دقيق للمعلومات، وقدرة فائقة على تحديد المكان المطلوب الوصول إليه، وربما لا يتوفر لأنواع أخرى من الحشرات. المسألة الثانية: قوله - جل وعلا -: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} ظل كثير من الناس لا يعرف من منتجات النحل سوى العسل فقط؛ لذلك انصرف فهمهم من الآية إلى العسل وقالوا: بأن الشراب المقصود هنا هو العسل، ولكن العلم الحديث يوضح أن هناك أنواع ًا وأنماطًا من الشراب بالإضافة إلى العسل، والقارئ للآية القرآنية بلغتها العربية يعرف أن لفظة شراب جاءت نكرة؛ أي غير معرفة ب ـ" أل " ويدل هذا على إطلاق المعنى على كل ما هو شراب أو سائل يخرج من النحل. إذًا فاللفظة الواردة في هذه الآية ذات مدلولات كثيرة وليس مدلولًا واحدًا، وشراب النحل يخرج من منطقة البطن التي توجد بها حوصلة العسل وغدد إنتاج مواد أخرى، وأما التعبير {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} فيعني أن هذا الشراب له ألوان مختلفة، وقد فهم الناس قديمًا أن الألوان المختلفة تعني ألوان العسل وهذا فهم صائب، لكن اللغة العربية غنية بمكوناتها، ومن هذه المكونات المعاني المجازية للفظ فالألوان في اللغة العربية قد تعني الأنماط والأشكال، وذلك إضافة إلى معناها الصريح المباشر.

أهم ال نتائج: تمكن العلماء في العصر الحديث من اكتشاف أن النحل مختلف الأنماط والأشكال، وأشار القرآن في حديثه عن النحل أنها تسلك سبلا م ع ينة حيث قال: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} وقد أثبت العلماء بإعجاب ودهشة أن النحل أمة منظمة، كما أنها مسيرة إلى نظام من المعلومات يعينها على اجتياز الآفاق من حولها، ثم العودة ثانيًا إلى خليتها وفق أنظمة محكمة وقوانين دقيقة تؤدى في مهارة ودقة مما يتوافق مع إشارة القرآن الكريم المعجزة. لقد عبر القرآن في حديثه عن غذاء النحل بقوله: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ولم يقل: اشربي وهذا يخالف السائد؛ وهو أن النحل يتغذى على رحيق الأزهار، وقد تجلت دقة التعبير القرآني في العصر الحديث حيث ثبت أن النحل يتغذى على حبوب اللقاح التي هي أصل لكل الثمار. أيضًا يتجلى الإعجاز القرآني في حديثه عن النحل في قوله أيضًا: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} في نقطتين: الأول: أن شراب النحل يخرج من منطقة البطن التي توجد بها حويصلة العسل وغدد إنتاج مواد أخرى. الثانية: أن النحل يخرج أشربة أخرى غير عسل النحل، وهذا ما يشير إليه لفظ {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} وقد اكتشف العلماء أهم أنواع الشراب الخارجي من بطون النحل وهي: 1 - غذاء الملكات. 2 - الشمع. 3 - العكبر. 4 - عسل النحل.

أهم مكونات النحل هو العسل؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- يقول: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا} فإن الذي يخرج من النحل الذي أهم شيء هو العسل، لكن الحقيقة أن منتجات النحلة ليس فقط العسل، صحيح أن العسل أهمها قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} العسل، الشمع، شمع العسل، الكعبر، ثم الرحيق، رحيق اللقاح، ثم أيضًا سم النحل، كل هذه لها فوائد طبية ثبتت في العلم التجريبي الحالي. حتى سم النحل؛ نعم سم النحل يفيد لعلاج التهاب المفاصل المزمن، وهناك دراسات كثيرة في فائدته في كثير من أمراض الروماتيزم، والذي يهمنا العسل؛ فإذًا هو شفاء للناس، وللآن لم تكتشف بعض أسرار العسل؛ فهو إضافة لكونه غذاء فهو شفاء، فالباري - عز وجل - قال: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} يعني هو كدواء فيه شفاء. ولقد ذكر القرآن الكريم كلمة الشفاء في القرآن عدة مرات في مواضع كثيرة؛ {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء: 82)، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (فصلت: 44)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} (يونس: 57)، هذه شفاء نفسي إيماني روحاني قد يتحول إلى مادي أيضًا، ولكن في قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} في قوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} هذه الآية صريحة كعلاج ودواء إضافة إلى أنه ك غذ اء. قال ابن القيم - رحمه الله -: "والعسل فيه منافع عظيمة؛ فإنه جلاء للأوساخ التي في العرو ق والأمعاء وغيرها، محلل للرطوبات أكلًا وطلاءً، نافعًا للمشايخ وأصحاب البلغم، ومن كان مزاجه باردًا رطبًا هو مغذ ملين للطبيعة، حافظ لقوى المعاجين ولما استودع فيه، مذهب لكيفيات الأدوية الكريهة، منق للكبد

والصدر، مدر للبول، موافق للسعال الكائن عن البلغم، وإذا شرب حارًا بدهن الورد نفع من نهش الهوام وشرب الأفيون، وإن شرب وحده ممزوجًا بماء نقع من عضة الكلب وأكل الفطر القتال، وإذا جعل فيه اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر، وكذلك إن جعل فيه القثاء والخيار والقرع والباذنجان، ويحفظ كثيرًا من الفاكهة ستة أشهر، ويحفظ جثة الموتى، ويسمى الحافظ الأمين. وإذا لط خ به البدن المقمل والشعر قتل قمله وصيبانه وطول الشعر ويحسِّن الشعر، وإن اكتحل به جلى ظلمة البصر، وإن استن به بيض الأسنان وصقلها وحفظ صحتها وصحة اللثة، ويفتح أفواه العروق ويدر الطمث، ولعقه على الريق يذهب البلغم ويغسل خمل المعدة، ويدفع الفضلات عنها، ويسخنها تسخينًا معتدلًا، ويفتح سددها، ويفعل ذلك بالكبد والكلى والمثانة، وهو أقل ضررًا لسدد الكبد والطحال من كل حلو، وهو مع هذا كله مأمون الغائلة قليل المضار مضر بالعرض للصفراويين ودفعها بالخل ونحوه فيعود حينئذٍ نافعًا له جيدًا. العسل شفاء للناس: الله - سبحانه وتعالى - يقول في كتابه العزيز: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} وقد أكدت الأبحاث العلمية الحديثة فوائد العسل في عدد من المجلات، ومن أحدث هذه الأبحاث تلك التي قام بها أستاذ جامعي في جامعة نيوزيلندا يدعى البروفيسور " بيتر م ولان " وقد قضى وزملا ؤ هـ في مخابر البحث ثمانية عشر عامًا في تجاربهم العملية على العسل، وخرجوا بأكثر من خمسة عشر بحثًا علمي ًّ انشرت في أشهر المجلات الطبية في العالم، ونشر آخرها في شهر أبريل سنة 2001. هذا عالم غير مسلم، وربما لم يعلم بما جاء في القرآن الكريم يقضي ثمانية عشر عامًا في البحث العلمي ليثبث فوائد العسل في علاج الجروح والقروح وغيرها،

وتسخر له الإمكانيات المادية للخروج بتلك الأبحاث، وهي على ما أعتقد من أكثر الأبحاث العلمية التي أجريت على العسل دقة وموضوعية، وهو الآن يحاضر في الجامعات الأمر ي كية حول العسل، ويستمع إليه المتخصصون بدهشة بعد أن كانت أمر ي كا وأوروبا الغربية تتجاهل البحث في العسل، فكانت خلال العشرين سنة الماضية أبحاث قليلة متفرقة هنا وهناك؛ إلا أن هذا البحث النيوزيلندي قام بخدمات جليلة، وبخدمات ربما من حيث لا يدري لإظهار الإعجاز القرآني في موضوع العسل، يقول البروفيسور "مولان": " إ ن كل أنواع العسل تعمل في قتل الجراثيم رغم أن بعضها قد يكون أكثر فعالية من غيرها، وإن العسل يقضي على تلك الجراثيم الموجودة في الجروح". وفي دراسة أخرى قدمت في شهر نوفمبر في مجلة في أورلاندو في 4/ 4/2001 استخدم العسل كمصدر للسكريات أثناء التمارين الرياضية في مسابقة ركوب الدراجات، وقد زاد تناول العسل من قدرة التحمل على ركوب الدراجات بنسبة 6%، وبالطبع فإن هذه الفروق البسيطة لها أهمية كبرى في السباقات الرياضية. وهناك حديث رواه البخاري ومسلم، فقد جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إن أخي استطلق بطنه - يعني عنده إسهال - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اسقه عسلًا فسقاه ثم جاءه فقال: إني سقيته عسلًا فلم يزده إلا استطلاقًا، فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال -صلى الله عليه وسلم-: اسقه عسلًا فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرأ)). فقد نشرت مجلة بي إن جي الإنجليزية الشهيرة دراسة على 169 طفلًا مصابًا بالتهاب المعدة والأمعاء، وجد الباحثون أن الإسهال الناجم عن التهاب المعدة والأمعاء استمر 93 ساعة عند الذين لم يشربوا العسل، في حين شفى الله الذين

أعطوا العسل في وقت أقصر. وهناك أيضًا دراسات تشير إلى فائدة العسل في شفاء تخريشات المعدة عند الفئران حيث أعطى الخمر للفئران لإحداث تخريشات في معدة الفئران، وتبين أن الفئة التي أعطيت العسل قلت عندها نسبة حدوث التخريشات. أيضًا في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} بالنسبة لعسل النحل معظم الناس يعرفون أن العسل الذي يصنعه النحل هو من مادة غذائية أساسية ومهمة لجسم الإنسان، ولكن هناك القليل من الناس الذين يعرفون المميزات ال استثنائية لهذه الحشرة النحل ال ت ي تقوم بصنع هذه المادة المهمة، إن المادة الغذائية الأساسية للنحل - كما تعرفون - هي رحيق الأزهار، ولكن من المعروف في فصل الشتاء لا يمكن الحصول على رحيق الأزهار، ولهذا السبب فإن ما يجمعونه من رحيق الزهر وبمساعدة إنزيم خاص داخل جسمه يستطيعون تحويل رحيق الزهر إلى العسل ويقومون بخزنها. وهنا يمكن أن نلاحظ شيئًا، وهو أن النحل تقوم بخزن عسل أكثر مما تحتاج إليه، ومن الطبيعي أن أول سؤال يتبادر إلى الذهن بالنسبة إلى النحل هو إضاعة الزمن والطاقة في إنتاجها للعسل بدون أن تحتاج إليها، لماذا لا تقلع عن صنع العسل الزائد عن حاجتها؟ وجواب هذا السؤال هو التعليم الوحي المخفي الذي وراءه كل ذلك، إن سبب خلق النحل ليس فقط هو صناعة العسل لذاته م، بل تصنعه للإنسان؛ يعني أن النحل أيضًا مثل سائر المخلوقات التي تعيش على الأرض خلقت ليستفيد الإنسان منه؛ مثلًا لو أخذنا الدجاج ف إنها لا تفيد نفسها، بل إنها

كل يوم تقوم بوضع البيض، والبقرة التي تعطي الحليب الزائد عن حاجة صغارها. النظام الكامل داخل الخلية: معيشة النحل وصناعتها للعسل داخل الخلية تحتوي على معلومات في غاية العجب؛ إن الإنسان الخاص ة للنحل من حيث معيشتهم الاجتماعية ودون أن ندخل في التفاصيل الدقيقة؛ أنه يجب على كل نحلة أن تقوم ب أداء أكثر من عمل واحد، وهذه الأعمال التي تستطيع أن تقوم بها بشكل منتظم؛ هي التهوية وتنظيم درجة الرطوبة، إن خاصية المقاومة الموجودة في العسل جاءت من بقايا درجة الرطوبة ثابتة داخل الخلية، وفي حال التخلل هذه الدرجة فإن العسل تفقد ميزة مقاومتها وكونها مادة غذائية؛ أي بمعنى آخر أنها تفسد، وكذلك بالنسبة لدرجة الحرارة؛ فإ نها يجب أن تكون 320 درجة، وتبقى هكذا لمدة عشرة شهور، ول بقاء درجة الحرارة والرطوبة ثابتة في الخلية؛ فإن هناك مجموعة من النحل تقوم بعمل كمراوح؛ ففي الأيام الحارة نستطيع أن نلاحظ ذلك بسهولة؛ ففي مدخل الخلية ت وجد عدد كبير من النحل التي تقوم عادة بتهوية الخلية بواسطة أجنحتها، وبالإضافة إلى ذلك ففي داخل الخلية أيضا ت وجد نحل ت قوم بنفس العمل وغايتها هو توزيع الهواء الداخل في الخلية، وهناك فائدة أخرى للتهوية وهي للمحافظة على نقاء هواء الخلية من الدخان والهواء الفاسد غير النظيف. النظام الصحي: إن عمل النحل ليس ت مقتصرًا على المحافظة على درجة الحرارة والرطوبة وتهوية الخلية من أجل المحافظة على نقاء العسل ولعدم فسادها؛ فإنها تقوم بأخذ كافة

مسببات تكاثر البكتيريا تحت سيطرتها فتقوم بعملها كوحدة صحية متكاملة، إن أول هدفها هو محو كافة هذه المسببات التي من المحتمل أن يتكون منها البكتيريا، فالنظام الصحي مبد ؤ ها الأساسي هو عدم السماح بدخول الأجسام الغريبة أو إبعادها من الخلية، ولهذا السبب يوجد دائمًا حراس خارج الخلية لأداء هذه المهمة، وبالرغم من هذه الحراسة الشديدة فقد يمكن أن تدخل إلى الخلية أجسام غريبة مثلًا بعوضة أو أي حشرة أخرى، وفي هذه الحالة فإن النحل يكون بحالة نفير عام حتى ت رمي هذا الجسم الغريب خارج الخلية؛ قال تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} (يس: 72، 73). وفي حالة عدم استطاعتهم رمي الجسم الغريب الذي دخل الخلية لكبر حجمها تقوم بتحنيط الجسم الغريب وجعلها كمومياء؛ فالنحل لهذه الحالة تقوم بصنع مادة شمع راتينج النحل التي تستعملها في عملية التحنيط، تقوم النحل بجمع مادة راتينج من أشجار الصنوبر أقاصيا والحور وبإضافة بعض إفرازات الخاصة عليها وتستعمل هذه المادة في بناء جدران الخلية المردومة، وعند تماس هذه المادة بالهواء فإنها تتصلب، وبهذه الطريقة فإن جميع المؤثرات الخارجية لا تستطيع أن تصل الخلية، وتستعمل النحل هذه المادة في كثير من أعمالها. في هذه النقطة هناك الكثير من الأسئلة يتبادر إلى الذهن منها خاصية شمع العسل التي لا تأوي فيها البكتيريا، ولهذا السبب فهذه مادة مثالية في عملية التحنيط التي تقوم بها، لكن كيف تعرف أن هذه المادة مثالية في عملية التحنيط لصناعة هذه المادة، يجب أن تكون ذات مستوى معين في علم الكيمياء والنحلة ليست إلا حشرة ذات طول يتراوح ما بين 1 و2 سم، وليس لها علم في أي موضوع، وأن جسمها لا يحتوي على مختبر ك ي مياوي، بل إ نها تقوم فقط بفعل ما تعلمته من علم ربها، وهذا واضح جدًّا.

امتيازات حجرات أقراص العسل الأخرى: إ ن نحل العسل أثناء قيامها بصنع قرص العسل تأخذ بنظر الاعتبار بعض النقاط ميل الحجرات، والحجرات حينما تبنى يجب أن تكون طرفاها على ارتفاع 13 درجة؛ أي لا تكون موازية للأرض؛ أي في هذه الحالة يمنع تسرب العسل إلى الخارج. النحلة العاملة تعمل فإنها تكون حلقات متعلقة الواحدة بالأخرى مجتمعة بشكل عنقود، وغايتها من هذا العمل هو المحافظة على درجة الحرارة اللازمة لصنع شمع العسل. إن عملية إنشاء الخلية تبدأ من نقاط مختلفة، وفي نهاية العمل لا تبقى هناك فتوحات، وجميع الحجرات التي تكون بشكل سداسي متساوية الأبعاد بدون شك أنه يجب أن يكون هناك سيل من الرسالات التي يجب أن تصل إلى الغريزة الداخلية، قال تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: 4). تقوم النحلة بالطيران في مساحة كبيرة؛ وذلك للبحث عن غذائها وهي خلاصة الأزهار؛ فقد تصل بعد هذه المسافة إلى 800 متر فتقوم بجمع رحيق الزهور فعندما تجد النحل الزهور ترجع إلى الخلية؛ ل تعطي خيرًا من ذلك. إن النحلة تعرف مباشرة حينما تأتي إلى الزهرة تعرف إذا ما كان فيها الرحيق قد أخذت منها أو لا، ولهذا تقوم بترك الزهرة التي ليست فيها الرحيق؛ فالنحلة من أين لها أن تعرف دون أن تقوم بفحص وتدقيق؟ إ ن النحل ة التي تقوم بأخذ رحيق الأزهار تقوم بوضع رائحة خاصة على الزهرة من قبلها حتى إذا جاءت أخرى عن طريق شمها لهذه الرائحة تعرف أن ليست فيها رحيق. ومن هنا أصبح واضحًا أن النحلة لا تقوم بإضاعة زمانها بالتدقيق والفحص؛ فإنها عندما تأخذ هذه الرائحة الموجودة عليها والموضوعة من قبل نحلة أخرى تعرف بأن ليس فيها رحيق، ومن هنا اقتصدت في زمانها ولم تبذرها في البحث. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 20 شرح قوله تعالى: {ألم تر أن الله يزجي سحابا ... }.

الدرس: 20 شرح قوله تعالى: {ألم تر أن الله يزجي سحابا ... }.

المعاني اللغوية وأقوال المفسرين حول الآية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (شرح قول هـ تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ... }) المعاني اللغوية وأقوال المفسرين حول الآية الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} (النور: 43). المعاني اللغوية وأقوال المفسرين. {يُزْجِي سَحَابًا}، جاء في معجم (مقاييس اللغة) مادة زجى والريح تزجي السحاب تسوقه سوقًا رفيقًا، وب مثله قال ابن منظور في (لسان العرب)، قال الجوهري: "زجيت الشيء تزجيه إذا دفعته برفق ". وهذا ما فهمه المفسرون من الآية؛ فقد قال ابن كثير: "يذكر تعالى أنه يسوق السحب بقدرته أول ما ينش ئ ها، وهي ضعيفة وهو الإزجاء". وقال أبو السعود: "الإزجاء سوق الشيء برفق وسهولة"، وقال أبو حيان: "ومعنى يزجي؛ أي يسوق قليلًا ويستعمل في سوق الثقيل برفق". قوله: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} يبين علماء اللغة أن التأليف هو الجمع مع الترتيب والملائمة، قال الأصفهاني في (غريب القرآن): "والإلف اجتماع مع التئام، والمؤلف ما جمع من أجزاء مختلفة، ورتب ترتيبًا قدم فيه ما حقه أن يقدم، وأخر فيه ما حقه أن يؤخر". وقال ابن فارس في (المقاييس): "الهمزة واللام والفاء أصل واحد يدل على انضمام الشيء إلى الشيء، والأشياء الكثيرة أيضًا "، ومن المفسرين قال القرطبي: "أي يجمعه عند انتشائه ليقوى ويتصل"، وقال الزمخشري: "ومعنى تأليف الواحد أنه يكون قزعًا فيضم بعضه إلى بعض وجاز بينه وهو واحد؛ لأن

المعنى بين أجزائه"، وقال ابن الجوزي: "أي يضم بعضه إلى بعض فيجعل القطع ال متفرقة قطعة واحدة "، ولكي تتم هذه الخطوة وهي الانتقال من مرحلة الإزجاء لقطع السحب إلى مرحلة التأليف يحتاج الأمر إلى وقت؛ ولذلك نرى أن الحرف الذي استعمل في القرآن للدلالة على هذه العملية هو حرف العطف " ثم " الذي يدل على الترتيب مع التراخي في الزمن ثم يؤلف بينه. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا}، الركم في اللغة: يأتي بمعنى إلقاء الشيء بعضه فوق بعض كما قال ابن فارس، وكذا ابن منظور: "الركم جمعك شيئًا فوق شيء حتى تجعله ركامًا مركومًا كركام الرمل والسحاب ونحو ذلك من الشيء المرتكم بعضه على بعض"، وقال الأصفهاني: "والركام ما يلقى بعضه على بعض"، وقال الجوهري: "ركم الشيء يركمه إذا جمعه وألقى بعضه على بعض"، ومن المفسرين قال الطبري: "يعني متراكما بعضه على بعض"، وقال ابن كثير: "أي يركب بعضه بعضًا"، وبمثلهما قال القرطبي والزمخشري وأبو السعود وابن الجوزي والشوكاني والبيضاوي والخازن والنسفي. وهذه المرحلة الثالثة من مراحل تكوين السحاب الركامي المذكور في الآية الكريمة تبين أن الانتقال إليها من المرحلة السابقة يحتاج كذلك إلى زمن؛ لذلك كان استعمال حرف العط ف الدال على الترتيب مع التراخي في الزمن وهو حرف العطف " ثم ". قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} الودق هو المطر عند جمهور المفسرين كما قال الشوكاني والقرطبي، {خِلَالِهِ}؛ أي من فتوقه ومخارجه، قال بهذا التفسير الزمخشري وأبو حيان والشوكاني والبيضاوي وأبو السعود والنسفي. وقال القرطبي: "خلال جمع خلل مثل جبال وجبل، وهي فرجه ومخارجه ومخارج القطر منه". {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} قال أبو السعود: "وينزل من السماء من الغمام فإن كل ما علاك سماء"، قوله: {مِنْ جِبَالٍ فِيهَا}؛ أي من

التحقيق العلمي للآية.

قطع عظام تشبه الجبال في العظم كائنة فيها، قوله: {مِنْ بَرَدٍ} مفعول ينزل على أن " من " تبعيضية والأوليان لابتداء الغاية؛ أي ي نزل مبتدئا من السماء من جبال فيها بعض برد وقال الشوكاني والبيضاوي بمثل ما قال أبو السعود إلا أنه اعتبر " من " الثالثة بيانية فقال: " من برد بيان للجبال والمفعول محذوف؛ أي ينزل مبتدئا من السماء من جبال فيها من برد". قوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} هذه الفقرة من الآية الكريمة تقرر أن نزول البرد مكان ً اوزمانًا مرهون بمشيئة الله - سبحانه وتعالى - ومع معرفتنا بأن الأمر متعلق بمشيئة الله التي لا نعلمها إلا أن الله قد جعل لكل شيء قدر ًا، فوقت نزول المطر بيده ونزول البرد بيده - سبحانه - ولكن ذلك كله يجري وفق سنن محكمة. قوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} يبين الله تعالى أن للبرد برقًا شديد اللمعان فالضمير في " برق هـ" يرجع إلى أقرب مذكور وهو البرد، و " سن االبرق " شدة بريق هـ وضوئه، " يذهب بالأبصار "؛ أي خطفه إياها من شدة الإضاءة، فنسبة البرق إلى البرد في كتاب الله. التحقيق العلمي للآية هناك أنواع كثيرة من السحب والقليل منها هو المطر، وقد صنف علماء الأرصاد السحب إلى أنواع متعددة تعتمد على ارتفاع قاعدتها وسمكها وطريقة تكوينها، وأحد أنواع هذه السحب يسمى بالسحب الركامية، وهي الوحيدة التي قد تتطور بإذن الله لتصبح ما يسمى بالركام المزني الذي يجود بالمطر الوفير، وهو النوع الوحيد الذي قد يصاحبه البرد والبرق والرعد، ويتميز هذا النوع بسمك كبير، وقد يصل إلى أكثر من 15 كيلو متر ًا، ويشبه الجبال، ويتطور علم الأرصاد

الجوية واستخدام الأجهزة الحديثة مثل: أجهزة الاستشعار عن بعد والطائرات والرادارات والأقمار الصناعية، وبمساعدة الحاسبات الإلكترونية استطاع علماء الأرصاد دراسة تفاصيل دقيقة عن مكونات السحب وتطورها، وما زال هنالك الكثير أمام هذا الفرع من العلوم والسحاب الركامي الذي تصف الآية الكريمة تكوينه هو ضمن ما درسه علماء الأرصاد، واهتموا به من حيث كيف يبدأ؟ وكيف يتطور؟ والظواهر الجلدية المصاحبة له، وقد أجاب القرآن الكريم على كل هذه التساؤلات قبل 1400 عام بدقة مذهلة. السحاب الركامي في علم الأرصاد: بداية التكوين: يبدأ السحاب الركامي بأن تسوق الرياح قطع ًا من السحب الصغيرة إلى مناطق تجميع، ويؤدي سوق قطع السحاب إلى زيادة كمية بخار الماء في مسارها؛ وخاصة أول منطقة التجمع، وهذا السوق ضروري لتطور السحب الركامية في مناطق التجمع، وبهذا نرى أن ال تراكم أو السحاب الركامي حينما يسوق الرياح يؤدي ذلك السوق إلى ازدياد كمية بخار الماء في مسارها. تطور السحب الركامية: 1 - التجميع: من المعلوم أن سرعة السحب تكون أبطأ من سرعة الرياح المسيرة لها، وكلما كبر حجم السحابة كانت سرعتها أبطأ؛ وذلك بسبب تأثير قوى الإعاقة، كذلك تقل سرعة الرياح عامة كلما اتجهنا إلى مناطق التجمع؛ وعلى ذلك يؤدي العاملان

السابق ذكرهما إلى أن قطع السحاب تقترب من بعضها ثم تتلاحم، وبالتالي ن لاحظ تكاثف السحب كلما اقتربنا من مناطق التجمع. 2 - الركم: إذا التحمت سحابتان أو أكثر فإن تيار الهواء الصاعد داخل السحابة يزداد بصف ة عامة، ويؤدي ذلك إلى جلب مزيد من بخار الماء من أسفل قاعدة السحابة، والذي بدوره يزيد من الطاقة الكامنة للتكثف، والتي تعمل على زيادة سرعة التيار الهوائي الصاعد دافعًا لمكونات السحابة إلى ارتفاعات أعلى، وتكون هذه التيارات أقوى م ايمكن في وسط السحابة وتقل على الأطراف مما يؤدي إلى ركم هذه المكونات على جانبي السحابة فتظهر كالنافورة أو البركان الثائر الذي تتراكم حممه على الجوانب، وقد أثبتت الشواهد أن التحام السحب يؤدي إلى زيادة كبيرة في الركم، وبالتالي إلى زيادة سمك السحاب، وأن تجمعًا من الدرجة الأولى يؤدي إلى عشرة أضعاف المطر المنتظر، وتجميعًا من الدرجة الثانية يؤدي إلى م ائة ضعف من كمي ة الأمطار المتوقعة بدون أي تجميع. وإجمالًا: فإن تجميع قطع السحب يؤدي إلى زيادة ركمه، وبالتالي إلى زيادة سمكه التي تدل على قوة هذا السحاب من ناحية أمطاره ورعده وبرقه، بل نجد أن السحاب الذي نحن بصدده يسمى سحابًا ركامي ًّ ا؛ لأن عملية الركم في هذا النوع أساسية وتفرقه عن باقي أنواع السحاب، ومن المعلوم أن عملية سوق السحاب قد تستغرق بضع ساعات، بينما تستغرق عملية التجميع والركم أقل من ذلك حوالي ساعة أو أقل. ومن المعلوم أيضًا أن من السحب الركامية ما يسمى بالركامي الساخن ذو سمك صغير نسبيًا، وأقل درجة حرارة داخل هذا السحاب أعلى من درجة التجمد، وهو بذلك السمك الصغير نسبيًا أقرب شبهًا

بالتلال لا الجبال، وحرارته لا تسمح بتكون البرد، وهذا النوع تتكون الأمطار فيه من قطرات الماء فقط، وليس به رعد وبرق، وهناك سحاب ركامي يصل إلى ارتفاعات شاهقة ويشتمل على قطرات ماء في القاعدة وخليط من ماء شديد البرودة وحبات برد في الوسط، أما القمة فتسودها بلورات الثلج، وهذا السحاب هو الذي تكون زخاته من الماء أو البرد أو كليهما ويحدث به برق ورعد وهو السحاب الركامي المزني الذي يكون في شكل الجبال. الظواهر الجوية المصاحبة: الهطول تتحرك السحب الركامية إلى ما شاء الله لها، وعامل الركم والبناء مستمر طالما كانت تيارات الهواء الصاعدة قادرة على حمل مكونات السحاب من قطرات ماء أو حبات برد، وعندما تصبح الرياح الرأسية غير قادرة على حمل هذه المكونات تتوقف عملية الركم، وتبدأ مكونات السحاب في الهبوط مباشرة إلى أسفل كمطر من ماء أو برد أو كليهما؛ وذلك حسب مكونات السحاب وتوزيع درجات الحرارة والرطوبة أسفل السحاب، وي تكون البرد داخل السحاب بين درجتي حرارة أقل من الصفر وحتى 40 درجة مئوية، وفي هذه المنطقة تكون هناك قطرات من ماء شديد البرودة أقل من الصفر المئوي؛ وذلك لعدم كفاية نوبات التثلج، وهذه القطرات غير مستقرة؛ بمعنى أنها تتجمد فور اصطدامها بأي جسم آخر، وفي حالة وجود تيار هوائي شديد صاعد داخل السحاب الركامي المزني، ونتيجة اختلاف سرعات القطرات شديدة البرودة تحدث تصادمات ينتج عنها تحول قطرات الماء شديد البرودة إلى ثلج يغطي حبات البرد فتكبر، وتستمر في الكبر حتى يثقل وزنها ولا يستطيع التيار الرئسي حملها فتهبط بردا، وقد شوهدت حبات برد يصل حجمها إلى حجم البرتقالة؛ وهذا يعني أنه

في مثل هذه الحالات التي تكون فيها حبات البرد كبيرة فإن هذه السحب تحمل في طياتها دمار ً اعام ًّ اللزراعة. ومن المعلوم كذلك أن نزول المطر من قاعدة السحاب يكون على شكل زخات خلال جزء من قاعدة السحاب في بداية الهطول، حيث يسود في نهاية حياة السحاب في نهاية الهطول ثم زخات من معظم قاعدة السحاب تيار هابط. إعجاز القرآن الكريم في وصف السحاب الطبقي: اعتبر العلماء الأوروبيون في العصور الوسطى أن العالم الطبيعي مظهر للكائنات الروحية، وأن السحب كائنات مقدسة أو أرواح بالرغم من أن ال إ غريق في أيام أرسطو كان لديهم بعض المعرفة العلمية عن أن المطر ينتج من البخار، ثم يتكثف البخار إلى ماء، ولم تعرف الأرصاد علمي ًّ اإلا في القرن السابع عشر تقريبًا حينما أتيحت أجهزة تمكن من قياسات علمية لخواص الغلاف الجوي، أما الفهم العلمي للعمليات التي يترتب عليها تكون السحب الممطرة بما فيها السحاب الطبقي ال ذ ي هو المزن فلم تتم حتى القرن التاسع عشر والعشرين، والعمليات التي تؤدي إلى تكوين السحاب الطبقي ال ذ ي هو المزن تضم دورة الرطوبة وانتقالها ورفع وتبريد الكتل الهوائية الرطبة ودور نويات تكثف السحب في عمل قطرات السحاب، وتكون السحب الطبقية وتكون الأمطار من قطرات السحب واحتمال وجود سحب حم ل مطورة. دورة الماء: دورة الماء وصف لدوران الرطوبة بين الأرض والمحيطات والغلاف الجوي، وتمثل المحيطات المصدر الرئيسي للرطوبة في الجو وانتقال الرطوبة على المستوى العالمي

والمستوى السينوبتكي، إ ن اجتماع الدورة الهوائية العامة للري اح في الغلاف الجوي مع المحيطات مصدر الرطوبة ينتج مناطق من العالم يرجح سقوط المطر. تكون قطرات السحب والمطر: يعد توفر نويات التكثف عنصر ًا إضافي ًّ اضروري ًّ التكون السحاب الطبقي، ونويات التكثيف هي جزيئات صغيرة تعد مواقع مفضلة للتكون الأولي لقطيرات السحب. ويكون لنوايات التكثف هذه جاذبية كيميائية للماء مما يساعد على التكوين المبدئي لقطرات السحاب وتمام ً اكما في نقل بخار الماء، فإن الرياح تلعب دورا مهم ًّ افي نقل هذه الجزئيات إلى أماكن تكون السحب. وتتضمن عملية تكون قطرات السحب ثلاثة عناصر رئيسية: 1 - اتحاد الرطوبة ال ذ ي هو بخار الماء. 2 - نويات تكثف السحب. 3 - قوى رفع واسعة الانتشار لتبريد الهواء. ويؤثر سطح أي جبهة ساخنة وسلسلة في الرفع الرقيق للهواء ل إ نتاج سحاب طبقي أو طبقي مزن، ويكون الرفع في حالة السحب الطبقية عامة خفيفًا وواسع الانتشار، وغالبًا ما يصاحب الجبهات الساخنة أو الجبال فيرتفع الهواء ببطء وتتكون السحب مع تراكم الماء حول نويات تكثف السحب لتتشكل قطيرات السحاب، والأرجح أن تكون السحب الأصلية من نوع الطبقي المتوسط، وقد يتكون السحاب الطبقي ال ذ ي هو المزن في حالة الرفع الجبهي ويكون قريبًا من الجبهة الساخنة، ومن الممكن أن يكون مطمورا في السحاب الطبقي المزن سحاب من الركام المزن، ومع بدء المطر فإن السحب يجب أن تكون من السمك بالقدر الذي تتعذر معه رؤية قرص الشمس.

وفي حالات وجود سحاب طبقي لا تكون قاعدته بعيدة عن الراصد على سطح الأرض يمكن تسجيل أمطار متفرقة؛ ونتيجة لهذا تتعرج قاعدة السحابة أو تصبح ليفية المظهر، وفي الحالات التي تكون فيها قاعدة السحاب أكثر ارتفاع ً اأو يوجد ضباب في قاعدتها فقد يكون لقاعدة السحاب مظهر رمادي منتظم بلا ملامح، والإظلام في قاعدة السحاب خلال المطر يعتمد على سمك السحابة وموضوع قرص الشمس منها، وعند بدء المطر أو نهايته فقد تظهر السحابة على شكل طبقي متوسط، وقد يظهر أحيانًا بعض الهشيم عند بداية سقوط المطر أو نهايته، ويؤدي ذلك في بداية المطر إلى السقوط المبدئي للمطر تحت قاعدة السحابة، أما الهشيم في نهاية الهطول فقد يؤدي إلى الهطول الأخير من مناطق منعزلة، وقد يتلو ذلك تفرق السحابة إلى أجزاء؛ إذ إ ن السحاب الطبقي يتفرق إلى سحاب طبقي متوسط؛ أي إلى أجزاء متناثرة من السحاب الطبقي المتوسط. وجه الإعجاز: ومنذ 1400 عام مضت وصف القرآن الكريم الأنواع المختلفة للسحاب وعمليات تكونه، وفيما يختص بسحب الطبق التي يطلق عليها طبقي أو منبسط يقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الروم: 48). وتشير هذه الآية الكريمة إلى ما يأتي: 1 - أن الرياح تبخر الماء وتنشط تكون وظهور السحب. 2 - ينتشر هذا النوع من السحاب على هيئة طبقة من السماء {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا}.

أصل الأنهار والينابيع وكيفية معالجة القرآن الكريم للموضوع: إن المياه الجوفية في حالة حركة دائمة وإن كانت بطيئة جد ًّ ا، وشبكات الأنهار تحصل على مائها عادة من سقوط الأمطار فوق منطقة كبيرة تعرف بمستجمع الأمطار، إن هذا الشرح لأصل الينابيع والأنهار أصبح معروفًا جدًّا ومفهومًا الآن، ولكنه مختلف عما كان في الماضي؛ فبينما كان الفلاسفة والدارسون للعلم يتفكرون في نظرياتهم المختلفة أنزل الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (المؤمنون: 18) فتخبرنا الآية أن مياه الأمطار تتسلل وتتخلل في التربة، ويمكنها أيضًا أن تصير مياهًا جوفية حيث يمكن أن تمكث بضعة أسابيع أو بضعة آلاف من السنين، وكلمة " سكن " تعني الهدوء والاستقرار وهو أفضل وصف للمياه الجوفية التي ت بدو مستقرة في الأعمال35:19 في الأعماق المظلمة للأرض دون حركة. وتعطي آية آخرى في القرآن الكريم بيانًا واضحًا جدًّا عن أصول الينابيع والأنهار، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} (الزمر: 21)، فالتعبير بقوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ} في الآية مأخوذ من سلك ونبع، ومعنى سلكه أدخله وجعله يمضي، ومعنى نبع تفجر، ولذلك سميت العين ينبوع ًا، والينابيع هي القنوات والممرات المائية في باطن الأرض، أو الثغرات التي يتفجر منها الماء ويخرج إلى سطح الأرض على شكل جداول وأنهار وعيون، وهكذا يصف القرآن بدقة أن الينابيع والأنهار تأتي من تساقط المطر الذي يتخلل الأرض أولًا. القدر الكافي من الماء للحيا ة: تبدو كمية مياه الأمطار التي تسقط على الأرض قليلة جدًّا إذا ما قورنت بكميات المياه المالحة غير القابلة للشرب؛ إلا أنه بعد دراسة موارد المياه العالمية اتضح أن

الإنسان لديه مياه تكفيه لاحتياجاته، وهذه هي إحدى آيات الله، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} (الحجر: 21، 22)، فالله تعالى يعلم حاجات عباده فيرسل إليهم مقادير كافية من رحمته، وإذا قل المطر أو زادت نسبته فإنه يذكرنا بأننا لا نستطيع لأنفسنا شيئًا، وأن الله تعالى هو القادر على كل شيء. الله هو الذي ينزل الأمطار: إ ن الدورة المائية كلها دقيقة جد ًّ اومتوازنة، وأي اختلاف بسيط يؤدي إلى اضطرابات رئيسية، والإنسان في الواقع هو سبب تلك الاضطرابات من خلال إدخال غاز ات ثاني أكسيد الكبريت في الجو التي تؤدي إلى سقوط الأمطار الحمضية الضارة، وإذا كان الإنسان بقوته المحدودة يمكن قلب موازن الأشياء فماذا عن الله وقوته؟! وليس من المستغرب أن يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} (الواقعة: 68 - 70). استنتاجات ومناقشات: لم يظهر الفهم الدقيق للدورة المائية إلا منذ أربعة قرون تقريبًا ب ينما تحدث القرآن عن العديد من النظريات عن الدورة المائية، وليس من الواضح مدى دراسة العرب أنفسهم للدورة المائية وما هي نظرياتهم تمامًا، والتي لا يمكن أن تكون أكثر تقدمًا من نظريات الفلاسفة اليونانيين والرومان، وإ نها حقًّا لمعجزة أن ترد في القرآن الكريم هذه الأوصاف الدقيقة منذ أربعة عشر قرنًا، والتي تعد اليوم من المعارف الحضارية والعلوم الضرورية في حياة الناس.

وأخيرًا فإن على البشر أن يدركوا دائمًا أن فهمهم للدورة المائية لا يعني أن لديهم القدرة على التحكم فيها، بل لا ينبغي أن يعتمدوا كلية على خالقهم قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} (الملك: 30)، والله - س ب حانه وتعالى - يقول: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} والتلقيح قد يكون بين ال عناصر الذكرية والأنثوية للزهرة الواحدة أو النبتة الواحدة، ويسمى عندئذٍ التلقيح الذاتي، وقد يكون بين نبتين منفصلتين، ويسمى حينئذٍ بالتلقيح المختلط، وتختلف طرق انتقال حبيبات اللقاح باختلاف نوع النبات، هناك فضلًا عن التلقيح بواسطة الإنسان كما في تأبير النخل مثلًا ثلاث طرق أخرى؛ وهي التلقيح بواسطة الحيوانات، إ ن للرياح كما تذكر الموسوعة العالمية دورًا هام ًّ افي عملية نقل اللقاح في النبات التي تفتقد الأزهار ذات الرائحة والرحيق والألوان الجاذبية للحشرات حيث تقوم الرياح بنشر اللقاح على مسافات واسعة؛ فوجه الإعجاز في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} إشارته إلى أن الرياح تقوم بعملية التلقيح الريحي للنبات؛ فقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} وهذا ما كشف عنه علماء النبات في القرون الأخيرة. الرؤية العلمية الحديثة لتكون البرق: وجد علماء الأرصاد بأن مصدر الشحنات السالبة للتفريغات المتتالية من السحاب إلى الأرض يوجد على ارتفاعات محصورة ما بين سطحين متاخمين درجة حرارتهما 15 و25 وتتطابق مع منطقة وجود أمطار أو ثلوج بين هذين المستويين؛ ومن هنا يظهر أنه رغم اختلاف أنواع السحب الركامية جغرافي ًّ اأو فصلي ًّ افإن حيز الحرارة الذي توجد بداخله مراكز الشحن السالبة ثابت لا

يختلف، وقرر العلماء أن هذه المشاهدة متفقة تمامًا مع الظواهر المخبرية، وبالتالي فإن باستطاعة البرد أن يولد مجالًا كهربائي ًّ اانهياريا في الفترة الزمنية المطلوبة مع أمطار معتدلة إذا وصل تركيز بلورات الثلج في منطقة الشحن إلى عشر بلورات في اللتر الواحد، وبما أن مركز الشحن يقع في الحيز المحصور ما بين 15 و25 فإنه من الواضح أن عدد نوبات التجمد الطبيعية غير كافٍ لتوليد البلورات الثلجية بالتركيز المطلوب، ولا شك أن هناك عاملًا ثانوي ًّ اوإن لم نقف عليه بعد لازدياد عدد البلورات. نبذة تاريخية عن علم الأرصاد السحاب والمطر: تطورت الأرصاد الجوية إلى علم في القرن التاسع عشر بينما يرجع تاريخ اعتبارها فرعًا من فروع المعرفة إلى العصور الأولى لحضارات الإنسان، وقد ظهرت الأرصاد الجوية وتطورت في الحضارات الأولى العظيمة في أفريقيا على يد قدماء المصريين، وفي آسيا على يد البابليين، وفي جنوب وسط آسيا على يد الهندوس والتتار، وفي شرق آسيا على يد أشخاص؛ مثل: هو نج هو وبانجتس، ولكن معظم معلوماتنا ترجع إلى قدماء المصريين والبابليين؛ ففي مصر 3500 قبل الميلاد أخذت الأرصاد الجوية الطابع الديني؛ ف قد اعتقد قدماء المصريين أن الظواهر الجلدية المختلفة تخضع لل ألهة، بينما ربط البابليون بين الظواهر الجوية وعلم الفلك بما عرف في ذلك الحين بالأرصاد الفلكية. وبالرغم من أن أول رصد للظواهر الجوية كان بواسطة اليونان القدماء 600 قبل الميلاد إ لا أنه لا يوجد دليل يدل على أنهم فهموا عملية تكوين السحب حتى بعد أن ظهر مؤلف أرسطو تحت عنوان (الأرصاد الجوية) والذي كان يمثل كل ما عرف في ذلك الحين عن الأرصاد الجوية، وفيه يصف الغلاف الجوي بأنه المنطقة

المشتركة للنار والهواء، وأن الشمس هي العامل الرئيسي والأول لتكون السحب؛ لأن عملية التبخر والتكاثف هما نتيجة قرب أو بعد الشمس عن الأرض، وهذا يسبب تكون أو تبدد السحب، وتعتمد نظريته على أنه لا يمكن أن تتكون السحب في علو يزيد عن قمة أكثر الجبال ارتفاعًا؛ لأن الهواء بعد قمة الجبل تحتوي نار ً انتيجة حركة الشمس الجغرافية، ولا تتكون السحب قريبًا من سطح الأرض بسبب الحرارة المنعكسة من الأرض. القرآن الكريم يصف السحاب الركامي وصفًا دقيقًا: إذا تأملت في الآية الكريمة ستراها ترتب مراحل تكوين السحاب الركامي خطوة خطوة، مشيرة إلى التدرج الزمني، وتتجلى أوجه الإعجاز المتعددة في هذه الآية الكريمة إذا طرحنا بين أيدينا هذه التساؤلات؛ من أخبر محمدا بأن أول خطوة في تكوين السحاب الركامي تكون بدفع الهواء للسحاب قليلًا قليلًا {يُزْجِي سَحَابًا} وهذا أمر لم يعرفه العلماء إلا بعد دراسة حركة الهواء عند كل طور من أطوار نمو السحاب؟ ومن بين له أن الخطوة الثانية هي التأليف بين قطع السحب؟ قوله: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} ومن أخبره بهذا الترتيب؟ ومن بين له أن ذلك يستغرق فترة زمنية حتى يعبر عنه بلفظ {ثُمَّ}؟ ومن أخبره أن عامل الركم للسحاب الواحد هو العامل المؤثر بعد عملية التأليف؟ ومن أخبره أن هذا الركم يكون لنفس السحاب وأن ذلك الانتقال من حالة التأليف يستغرق بعض الوقت {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا}؟ هذه المسائل لا يعرفها إلا من درس أجزاء السحاب، ورصد حركة تيارات الهواء بداخله؛ فهل كان يملك الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأجهزة والبلونات والطائرات؟ وكذلك من الذي أخبر محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن عملية الركم الناتجة عن عملية الرفع إذا توقفت

أعقبها نزول المطر مباشرة؛ وهو أمر لا يعرف إلا بدراسة ما يجري داخل السحب من تيارات وقطرات مائية، وهذا لا يقدر عليه إلا من امتلك الأجهزة والقياسات التي يحقق بها ذلك؛ فهل كان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - مثل هذه القدرة وتلك الأجهزة؟ ومن الذي أخبر محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن في السحاب مناطق خلل؛ وهي التي ينزل منها المطر، وهذا أمر لا يعرفه إلا من أحاط علمًا بدقائق تركيب السحاب المسخر بين السماء والأرض وبحركة الهواء داخل السحاب؟ ومن أخبر محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن الشكل الجبلي وصف للسحاب الذي ينزل منه البرد؛ فهل أحصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل أنواع السحاب حتى تبين له هذا الوصف الذي لا بد منه لتكوين البرد؟ ومن أنبأه عن نوبات البرد التي لا بد منها في السحاب الركامي لكي يتكون البرد؛ قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} (النور: 43). إن هذا السر لا يعرفه إلا من تمكن من مراقبة مراحل تكوين البرد داخل السحاب، ومن الذي أنبأه بأن للبرد برقًا، وأن البرد هو السبب في حصوله، وأنه يكون أشد أنواع البرق ضوءًا؟ إن ذلك لا يعرفه إلا من درس الشحنات الكهربائية داخل السحاب واختلاف توزيعها ودور البرد في ذلك؛ ولشدة خفاء هذا الأمر فقد نسب المفسرون البرق إلى السحاب وإن كان السحاب يشتمل على البرد في كلام المفسرين، ولم نجد من نسب هذا البرق إلى البرد مع أنه المعنى الظاهر لقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} (النور: 43). هذا؛ والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 21 شرح قول الله تعالى: {وهو الذي مرج البحرين ... }.

الدرس: 21 شرح قول الله تعالى: {وهو الذي مرج البحرين ... }.

المعاني اللغوية وأقوال المفسرين حول الآية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (شرح قو ل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ... }) المعاني اللغوية وأقوال المفسرين حول الآية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: سنتعرض لأسرار المصب والحاجز بين النهر والبحر في القرآن الكريم؛ قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} (الفرقان: 53). المعاني اللغوية وأقوال المفسرين في الآية. . {مَرَجَ} يأتي بمعنيين بارزين، الأول: الخلط: قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} (ق: 5)، وجاء في (لسان العرب) {أَمْرٍ مَرِيجٍ}؛ أي: مختلط، وقال الأصفهاني في (المفردات): "أصل المرج الخلط"، وقال الزبيدي: "ومرج الله البحرين العذب والمالح، خلطهما حتى انتقيا"، وقال الزجاج: " {مَرَجَ} خلط؛ يعني: البحر المالح، والبحر العذب". وقال ابن جرير الطبري: "والله الذي خلط البحرين فأمرج أحدهما في الآخر وأفاضه فيه، وأصل المرج الخلط، ومنه قول الله تعالى: {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}؛ أي: مختلط". وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}؛ يعني: خلع أحدهما على الآخر. وعن مجاهد: أفاض أحدهما على الآخر. وعن الضحاك بمثل قول ابن عباس، وذهب إلى هذا المعنى جمهور من المفسرين، منهم القرطبي، أبو حيان الألوسي، الخازن، الرازي، الشوكاني، الشنقيطي. المعنى الثاني: مجيء وذهاب واضطراب، قال ابن فارس في معجم (مقاييس اللغة): "الميم والراء والجيم أصل صحيح يدل على مجيء وذهاب واضطراب، وقال: مرج الخاتم في الأصبع يعني: قلق، وقياس الباب كله، ومنه حديث

((ومرجتْ أمانات القوم وعهودهم)) اضطربت واختلطت"، وجاء نفس المعنى في (الصحاح) للجوهري، و (لسان العرب)، وبذلك قال الزبيدي والأصفهاني. {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} نتكلم عن البحر العذب والملح الأجاج. البحر العذب هو النهر، وصفه القرآن الكريم بوصفين {عَذْبٌ} و {فُرَاتٌ}، ومعناهما أن ماء هذا البحر شديد العذوبة، ويدل عليه وصف {فُرَاتٌ}، وبهذا الوصف خرج ماء المصبّ، الذي يُمكن أن يقال: إن فيه عذوبة، ولكنه لا يُمكن أن يوصف بأنه فرات. وما كان من الماء ملحًا أجاجًا فهو ماء البحار، ووصفه القرآن الكريم بوصفين {مِلْحٌ} و {أُجَاجٌ}، {أُجَاجٌ} شديد الملوحة، وبهذا خرج ماء المصب؛ لأنه مزيج بين الملوحة والعذوبة، فلا ينطبق عليه وصف {مِلْحٌ أُجَاجٌ}. وبهذه الأوصاف الأربعة تحدَّدت حدود الكتل المائية الثلاث: 1 - {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} ماء النهر. 2 - {هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} ماء البحر. 3 - {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا}، البرزخ هو الحاجز المائي المحيط بالمصبّ. - نأتي إلى الحجر المحجور: الحِجر والحَجر هو المنع والتضييق، يُسمى العقل حجرًا؛ لأنه يمنع من إتيان ما لا ينبغي، قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (الفجر: 5)، والسفيه يحجُر عليه القاضي من التصرف في ماله، فهو في ح ِ جر؛ أي: في ح َ جر والكسر أفصح،

وجاء في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي ((لقد تحجَّرت واسعًا))، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد، قال ابن مندور ((لقد تحجَّرت واسعًا))؛ أي: ضيقت ما وسَّعه الله وخصصت به نفسك دون غيرك، ونستطيع أن نفهم الحجر هنا، بأن الكائنات الحية في منطقة اللقاء بين البحر والنهر، تعيش في حجر ضيق ممنوعة أن تخرج من هذا الحجر، ووصفت هذه المنطقة بأنها محجورة؛ أي: ممنوعة، ونفهم من هذا اللفظ معنى مستقلًّا عن الأول؛ أي: أنها أيضًا منقطعة ممنوعة على كائنات أخرى من أن تدخل إليها، فهي حجر حبس على الكائنات التي فيها، محجورة على الكائنات الحية بخارجها. ويكون المعنى عندئذٍ: وجعل بين البحر والنهر برزخًا مائيًّا، هو الحاجز المائي المحيط بماء المصبِّ، وجعل الماء بين النهر والبحر حبسًا على كائناته الحية، ممنوعة عن الكائنات الحية الخاصة بالبحر والنهر. ولم يتيسَّر للمفسرين الإحاطة بتفاصيل الأسرار التي ألمحت إليها الآية؛ لأنها كانت غائبة عن مشاهدتهم، وتعدَّدت أقوالهم في تفسير معانيها الخفية، فقال بعضهم في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}؛ أي: خلطهما فهما يلتقيان، ويستند هذا القول إلى المعنى اللغوي للفظ {مَرَجَ}، وقررت طائفة أخرى من المفسرين أن معنى {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}؛ أي: هو الذي أرسلهما في مجاريهما فلا يختلطان. قال ابن الجوزي: "قال المفسرون: والمعنى أنه أرسلهما في مجاريهما، فلا يلتقيان، ولا يختلط الملح بالعذب، ولا العذب بالملح". وقال أبو السعود: " {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}؛ أي: خلاهما متجاورين متلاصقين، بحيث لا يتمازجان، من مرج دابته؛ أي: أخلاها". وبمثله قال البيضاوي والشنقيطي في أحد قوليه،

وطنطاوي جوهري في تفسير الجواهر. والذين قرروا هذا المعنى، نظروا إلى قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا}، وتقرير اختلاط الماءين، يبدو متعارضًا مع وجود البرزخ، والحجر المحجور، ولذلك رجَّح بعض المفسرين معنى الخلط، ورجح الآخرون معنى المنع، وكذلك الحال في تفسير البرزخ، فقد قرَّر بعض المفسرين أن {بَرْزَخًا} يعني: حاجزًا من الأرض، وبمثله قال أبو حيان، والرازي، والألوسي، والشنقيطي. ولقد ردَّ ابن جرير الطبري هذا القول فقال: " لأن الله -تعالى ذكره- أخبر في أول الآية أنه {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} والمرج هو الخلط في كلام العرب، فلو كان البرزخ الذي بين العذب الفرات من البحرين والملح الأجاج أرضًا أو يبسًا؛ لم يكن هناك مرج للبحرين. وقد أخبر جل ثناؤه أنه مرجهما، وبيَّن البرزخ، فقال: " {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} حاجزًا لا يراه أحد". وقال ابن الجوزي عن هذا البرزخ: "مانع من قدرة الله لا يراه أحد"، وقال الزمخشري: "حائلًا من قدرته، كقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (لقمان: 10)، وبمثلهم قال الأكثرون منهم القرطبي والبقاعي. فتأمَّل كيف عجز علم البشر عن إدراك تفاصيل ما قرَّره القرآن الكريم، فمن المفسرين من ذكر أن البرزخ أرضًا أو يبسًا حاجزًا من الأرض، ومنهم من أعلن عجزه عن تحديده وتفصيله، فقال: هو حاجز لا يراه أحد، وهذا يُبيِّن لنا أن العلم الذي أوتيه محمد -صلى الله عليه وسلم- ما هو فوق إدراك العقل البشري في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم، وبعد عصره بقرون، وكذلك الأمر في الحجر المحجور، فقد ذهب بعض المفسرين إلى حملها على المجاز، وذلك بسبب نقص العلم البشري طوال القرون الماضية؛ قال الزمخشري: "فإن قلت {حِجْرًا مَحْجُورًا} ما معناه؟ قلت: هي الكلمة التي

التحقيق العلمي.

يقولها المتعوذ، وقد فسرناها، وهي واقعة على سبيل المجاز، كأن كل واحد من البحرين يتعوَّذ من صاحبه ويقول: {حِجْرًا مَحْجُورًا} "، وبمثل ما قال الزمخشري قال غيره من المفسرين، كأبي حيان، والرازي، والألوسي، والشنقيطي. التحقيق العلمي شاهد الإنسان منذ القديم النهر يصب في البحر، ولاحظ أن ماء النهر يفقد بالتدريج، لونه المميز وطعمه الخاص كلما تعمق في البحر، ففهم من هذه المشاهدة أن النهر يمتزج بالتدريج بماء البحر، ولولا ذلك لكان النهر بحرًا عذبًا، يتسع كل يوم حتى يطغى على البحر. ومع تقدم العلم وانطلاقه لاكتشاف أسرار الكون، أخذ يبحث عن كيفية اللقاء بين البحر والنهر، ودرس عيِّنات من الماء حيث يلتقي النهر بالبحر، ودرس درجات الملوحة والعذوبة بأجهزة دقيقة، وقاس درجات الحرارة، وحدد مقادير الكثافة، وجمع عينات من الكائنات الحية، وقام بتصنيفها، وحدد أماكن وجودها، ودرس قابليتها للعيش في البيئات النهرية والبحرية. وبعد مسح لعدد كبير من مناطق اللقاء بين الأنهار والبحار، اتضحت للعلماء بعض الأسرار التي كانت محجوبة عن الأنظار، واكتشف الباحثون أن المياه تنقسم إلى ثلاثة أنواع: 1 - مياه الأنهار: وهي شديدة العذوبة. 2 - مياه البحار: وهي شديدة الملوحة.

3 - مياه في منطقة المصبّ، مزيج من الملوحة والعذوبة، وهي منطقة فاصلة بين النهر والبحر، متحركة بينهما بحسب مدّ البحر وجزره، وفيضان النهر وجفافه، وتزداد الملوحة فيها كلما قربت من البحر، وتزداد درجة العذوبة كلما قربت من النهر. 4 - يوجد برزخ مائي يُحيط بمنطقة المصبّ، ويحافظ على هذه المنطقة بخصائصها المميزة لها، حتى ولو كان النهر يصب إلى البحر من مكان مرتفع في صورة شلال. 5 - عدم اللقاء المباشر بين ماء النهر وماء البحر في منطقة المصب، بالرغم من حركة المد والجزر وحالات الفيضان والانحسار، التي تُعتبر من أقوى عوامل المزج؛ لأن البرزخ المحيط بمنطقة المصب يفصل بينهما على الدوام. 6 - يمتزج ماء النهر بماء البحر بصورة بطيئة، مع جود المنطقة الفاصلة من مياه المصب، والبرزخ المائي الذي يُحيط بها، ويحافظ على جوِّدها. 7 - تختلف الكتل المائية الثلاث؛ ماء النهر، ماء البحر، ماء المصب؛ في الملوحة والعذوبة. وقد شاهد الباحثون الذين قاموا بتصنيف الكائنات الحية الموجودة فيها، ما يلي: أ- معظم الكائنات التي في البحر والنهر والمصب لا تستطيع أن تعيش في غير بيئتها، ويوجد بعض الأنواع القليلة مثل سمك السلامون وثعابين البحر، تستطيع أن تعيش في البيئات الثلاث، ولها قدرة على أن تتكيَّف مع كل بيئة، فعديدات الأشواك ومعديات الأرجل والسركانات توجد في المصبات، ولكنها يُمكن أن تعيش في المناطق البحرية عند مناسبة الظروف البيئية، أما النيريس وهي من عديدات الأشواك ومعديات الأرجل والقشريات فتعتبر حيوانات لمنطقة

المصب ولا توجد في البحر، ومعظم كائنات البيئات الثلاث تموت إذا خرجت من بيئتها الخاصة بها. ب- وبتصنيف البيئات الثلاث، باعتبار الكائنات التي تعيش فيها، تُعتبر منطقة المصب منطقة حجر على معظم الكائنات الحية التي تعيش فيها؛ لأن هذه الكائنات لا تستطيع أن تعيش إلا في نفس الوسط المائي المتناسب في ملوحته وعذوبته، مع درجة الضغط الأسموزي في تلك الكائنات، والضغط الأسموزي ظاهرة تتعلق بمقدار نفاذ الأملاح في الأغشية، وتموت إذا خرجت من المنطقة المناسبة لها، وهي منطقة المصب، وهي في نفس الوقت منطقة محجورة، على معظم الكائنات الحية التي تعيش في البحر والنهر؛ لأن هذه الكائنات تموت إذا دخلتها، بسبب اختلاف الضغط الأسموزي أيضًا. وبعدُ: فإن هذا النظام البديع، قد جعله الله تعالى لحفظ الكتل المائية الملتقية، من أن يفسد بعضها خصائص البعض الآخر؛ ليبقى ذلك الاختلاف رحمة للناس وسائر الكائنات، وإذا كانت العين المجردة لا تستطيع أن ترى هذا الحاجز الذي يحفظ الله تعالى به منطقة المصبِّ؛ فإن الأقمار الصناعية اليوم قد زوَّدتنا بصورة باهرة تُبيِّن لنا حدود هذه الكتل المائية الثلاث، التي تزداد وضوحًا كلما ازداد الفارق في حرارة الماء وما يحمله من مواد. وبالرغم من أن الماء العذب يمتزج مع ماء البحر، فإن هناك حدودًا على طرفي منطقة الامتزاج المحدودة، التي تفرض قيودًا على ما يدخلها أو يخرج منها، وهذا الوصف ينطبق تمامًا على نظام المصبِّ. ويوجد اليوم اختلاف حول التعريف الأساسي لهذا المصطلح، ولكن العلم الحديث أثبت وجود حدودٍ على طرفي منطقة الامتزاج. فانظر كيف حارت العقول الكبيرة عدَّة قرون بعد نزول القرآن الكريم في فهم الدقائق والأسرار، وكيف جاء العلم مبينًا لتلك الأسرار، وصدق الله القائل:

وصف الحاجز بين البحرين.

{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} (النمل: 93)، وانظر كيف استقر المعنى بعد أن كان قلقًا، قال تعالى: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: 67)، وقال تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88)، فمن أخبر النبي الأمي في الأمة الأمية في البيئة الصحراوية، حيث لا وجود لنهر ولا لمصبِّه عن هذه الأسرار الدقيقة، عن الكتل المائية المختلفة التركيب {عَذْبٌ فُرَاتٌ} {مِلْحٌ أُجَاجٌ} {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا}، والحجر المكان المحجور لكائنات حية تعيش في هذه البيئات المائية الثلاث، وكم استغرق الإنسان من الزمن، وكم استخدم من الآلات الدقيقة والأجهزة الحديثة حتى تمكن من الوصول غلى هذه الحقائق، التي جَرَت على لسان النبي الأمي قبل ألف وأربعمائة عام بأوجز تعبير وأوضح بيان، من أين جاء هذا العلم لسيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام، إن لم يكن من عند الله الذي {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطلاق: 12) وصف الحاجز بين البحرين قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن: 19 - 22)، وقال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} (النمل: 61). - المعاني اللغوية وأقوال المفسرين: قال ابن فارس: "الباء والحاء والراء هو البحر، قال الخليل: سُمي البحر بحرًا لاستبحاره، وهو انبساطه وسعته، ويقال: للماء إذا غلظ بعد عذوبة استبحر، وماء بحري؛ أي: ملح". وقال الأصفهاني: "وقال بعضهم: البحر يقال في

الأصل لماء الملح دون العذب". قال ابن منظور: "وقد غلب على الملح حتى قلَّ في العذب، فإذا أُطلق البحر دلَّ على البحر المالح، وإذا قُيِّد دلَّ على ما قيد به"، والقرآن الكريم يستعمل لفظ الأنهار؛ للدلالة على المياه العذبة، ويُطلق البحر ليدل على البحر الملح، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} (إبراهيم: 32)، وكذلك إذا أُطلق البحر في الحديث، ((إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء)) يقصد بذلك البحر الملح. - معنى كلمة البرزخ: البرزخ هو الحاجز، وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنه لا يُرى: بعد ذلك نأتي إلى قوله: {لَا يَبْغِيَانِ} البغي قال ابن منظور: وأصل البغي مجاوزة الحد، وبمثله قال الجوهري والأصفهاني، {الْمَرْجَانُ}، قال ابن الجوزي: وحكى القاضي أبو يعلى أن {الْمَرْجَانُ} ضرب من اللؤلؤ كالقضبان، وروي عن الزجاج قوله: {الْمَرْجَانُ} أبيض شديد البياض، وقال ابن مسعود: {الْمَرْجَانُ} الخرز الأحمر، وقال أبو حيان: وقال أبو عبد الله وأبو مالك: {الْمَرْجَانُ} الحجر الأحمر، وقال الزجاج: حجر شديد البياض، وحكى القاضي أبو يعلى أنه ضرب من اللؤلؤ كالقضبان، وقال القرطبي: وقيل {الْمَرْجَانُ} عظام اللؤلؤ وكباره، قاله علي وابن عباس -رضي الله عنهما، واللؤلؤ صغاره، وعنهما أيضًا بالعكس أن اللؤلؤ كبار اللؤلؤ، و {الْمَرْجَانُ} صغاره؛ قاله الضحاك وقتادة، وقال الألوسي: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ} صغار الدر و {الْمَرْجَانُ} كباره، وقد رووا ذلك عن علي ومجاهد وابن عباس، ورُوي أيضًا عن ابن عباس ومجاهد وقتادة العكس، وأظنّ أنه إن اعتبر في اللؤلؤ

معنى التلألؤ واللمعان، وفي {الْمَرْجَانُ} معنى المرج والاختلاط، فالأوفق لذلك ما قيل ثانيًا فيهما، ورُوي عن ابن مسعود أنه قال: المرجان الخرز الأحم ر. وحاصل ما سبق أن {الْمَرْجَانُ} نوع من الزينة يكون بألوان مختلفة؛ بيضاء وحمراء وكبيرًا وصغيرًا، وهو حجر يكون كالقضبان قد يكون صغيرًا كاللؤلؤ؛ أي: الخرز، وهو في الآية غير اللؤلؤ، وحرف العطف بينهما يقتضي المغايرة، والمرجان لا يوجد إلا في البحار المالحة. وهيا إلى النص القرآني لنرى دقائق الأسرار التي كشفت عنها اليوم علم البحار، قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} تصف الآيات اللقاء بين البحار المالحة، ودليل ذلك: أ- لقد أطلقت الآية {الْبَحْرَيْنِ}، فدلَّ ذلك على أن {الْبَحْرَيْنِ} ملحان. ب- بيَّنت الآية الأخيرة أن {الْبَحْرَيْنِ} {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}، وقد تبيَّن أن المرجان لا يكون إلا في البحار الملحة، فدل ذلك على أن الآية تتحدث عن بحرين ملحين. ج- عندما ذكرت منطقة اللقاء بين البحر والنهر في سورة الفرقان، بيَّنت الآية أن بينهما شيئين: 1 - البرزخ، 2 - الحجر المحجور، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا}، أما في هذه الآيات من سورة الرحمن فقد بيَّنت أن الفاصل هو البرزخ؛ فدل ذلك على أن اللقاء هنا بين بحرين لا عذب

وملح، بسبب اختلاف ما يحدث عند اللقاء في الحالتين، فمن الذي كان يعلم أن البحار الملحة تتمايز فيما بينها، رغم اتحادها في الأوصاف التي تدركها الأبصار والحواس، ملحة، زرقاء، ذات أمواج، وكيف تتمايز وهي تلتقي مع بعضها، والمعروف أن المياه إذا اختلطت في إناء واحد تجانست؛ فكيف وعوامل المزج في البحار كثيرة من مد وجزر، وأمواج، وتيارات، وأعاصير. والآية تذكر اللقاء بين بحرين ملحين، يختلف كل منهما عن الآخر؛ إذ لو كان البحران لا يختلف أحدهما عن الآخر؛ لكان بحرًا واحدًا، ولكن التفريق بينهما في اللفظ القرآني دال على اختلاف بينهما مع كونهما ملحين. و {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}؛ أي: أن البحرين مختلطان، وهما في حالة ذهاب وإياب، واختلاط، واضطراب، وهذا ما كشفه العلم من مدٍّ وجزر في البحار يجعلها مضطربة بأكملها في مناطق الالتقاء، لكن البحار المختلطة تختلط مع بعضها ببطء شديد. ومن يسمع هذه الآية فقط يتصور أن امتزاجًا واختلاطًا كبيرًا يحدث بين هذه البحار، يفقدها خصائصها المميزة بها، ولكن العليم الخبير يقرِّر في الآية بعدها {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ}، ومع حالة الاختلاط والاطراد هذه التي توجد في البحار، فإن حاجزًا يحجز بينهما، يمنع كلًّا منهما أن يطغى ويتجاوز حدَّه، وهذا ما شاهده الإنسان بعدما تقدَّم في علومه وأجهزته، فقد وُجد ماءٌ ثالث يختلف في خصائصه عن خصائص كلٍّ من البحرين، ويفصل كل من البحرين الملحين المتمايزين في خصائصهما من حيث الملوحة والحرارة، والكثافة، والأحياء المائية، وقابلية ذوبان الأكسجين، ووُجد أن هذا الحاجز المائي متحرك بين البحرين على اختلاف فصول السنة، وهذا المعنى يندرج أيضًا تحت قوله تعالى: {مَرَجَ} الذي يعني أيضًا الذهاب، والإياب، والاختلاط، والاضطراب.

ومع وجود البرزخ فإن ماء البحرين المتجاورين يختلط ببطء شديد، ولكن دون أن يبغي أحد البحرين على الآخر؛ لأن البرزخ منطقة قد تتقلَّب فيها المياه العابرة من بحر إلى آخر، لتكتسب المياه المتنقلة من بحر إلى بحر آخر، صفات البحر الذي ستدخل إليه، وتفقد صفات البحر الذي جاء منه، وبهذا يمتنع طغيان بحر بخصائصه على البحر الآخر، مع أنهما يختلطان أثناء اللقاء، وصدق الله القائل: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ}. ثم انظر كيف جاء الوصف القرآني في آية سورة الفرقان، مبينًا خصائص اللقاء بين البحر العذب والبحر المالح، وجاء الوصف الدقيق أيضًا في آيات سورة الرحمن، مبينًا خصائص اللقاء بين البحرين الملحين، فظهر في عصرنا اليوم سرُّ تلك الفوارق الدقيقة بين الوصفين. وهذا ما بيَّنه الدارسون فيما يُسمى بمصبَّات الأنهار، التي تحاط ببرزخ مائي، يفصلهما عن البحر والنهر، وتعتبر منطقة حجر للكائنات الحية الخاصة بها، ومنطقة محجورة عن الكائنات الحية الخاصة بالبحر والنهر. وبينت الآية الكريمة أن البحرين المذكورين فيها {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} والمرجان لا يكون إلا في البحار الملحة، ولذلك لا توجد بين البحرين الملحين، منطقة حجرًا محجورًا على الكائنات الحية؛ لأن الاختلاف في درجة الملوحة ليس شديدًا ليكون مانعًا لانتقال الكثير من الأحياء البحرية من بيئة إلى بيئة أخرى. ولقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا الحاجز الذي يفصل بين البحرين المذكورين، هو حاجز من قدرة الله لا يُرى، كما قال ابن الجوزي وغيره، وذلك بوضع عجز أكابر العلماء عن أن يُحيطوا بتفاصيل ودقائق ما ذكره القرآن، وصدق الله القائل: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255).

وعندما شاء المولى أن يُرِيَ الإنسان تفاصيل هذه الآية، كشف لهم قدرًا من العلوم ازدادوا به علمًا في هذا المجال، ومع كل كشف يتضح للإنسان حدود علمه، ولله درُّ المفسرين الذين يقولون بعد كل تفسير: والله أعلم. وقد أُشكل على المفسرين التوفيق بين وجود برزخ حاجز من طغيان بحر على آخر، وبين وجود حالة اختلاط بين البحرين، وهو ما يدل عليه لفظ {مَرَجَ}، لأن من قرر أن البحرين مختلطان، فقد أهمل دور البرزخ ووظيفته في منع البغي بين البحرين، ومن قرر وجود الحاجز المانع، اضطر إلى تأويل لفظ {مَرَجَ} إلى معنى غير معناه الأصلي، الدال على الاختلاط. - التحقيق العلمي: لقد توصَّل علماء البحار من بعد تقدم العلوم في هذا العصر، إلى اكتشاف الحاجز بين البحرين كما يلي: هناك برزخ بين البحرين يتحرك بينهما، يسميه علماء البحار الجبهة، تشبيهًا له بالجبهة التي تفصل بين الجبهتين، وبهذا يُحافظ كل بحر على خصائصه التي قدَّرها الله له، ويكون مناسبًا لما فيه من كائنات حية، تعيش في تلك البيئة، وهناك اختلاط بين البحرين رغم وجود هذا البرزخ، لكنه اختلاط بطيء يجعل القدر الذي يُعبر من بحر إلى بحر آخر، يتحول إلى خصائص البحر الذي يُنتقل إليه، دون أن يؤثر على تلك الخصائص. اكتشف علماء البحار سرَّ اختلاف تركيب البحار الملحة، على يد البعثة العلمية البحرية الإنجليزية في رحلة تشال تشالنجر، فعرف الإنسان أن المياه في البحار، تختلف في تركيبها عن بعضها، من حيث درجة الملوحة ودرجة الحرارة،

ومقادير الكثافة وأنواع الأحياء المائية، ولقد كانت هذه الأسرار ثمرة رحلة علمية، استمرت ثلاثة أعوام، وهي تجوب في جميع بحار العالم. وأقام الإنسان مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار المختلفة، فقرَّر العلماء أن الاختلاف في هذه الخصائص يفصل مياه البحار المختلفة بعضها عن بعض، لكن لماذا لا تمتزج البحار وتتجانس رغم تأثير قوتي المد والجزر، التي تحرك مياه البحر مرتين كل يوم، وتجعل البحار في حالة ذهاب وإياب واختلاط واضطراب إلى جوانب العوامل الأخرى التي تجعل مياه البحر متحركة مضطربة على الدوام، ولأول مرة يظهر الجواب على صفحات الكتب العلمية في عام 1361 هجرية 1942 ميلادية، فقد أسفرت الدراسات الواسعة لخصائص البحار عن وجود خواص مائية تفصل بين البحار الملتقية، وتُحافظ على الخصائص المميزة لكل بحر من حيث الكثافة والملوحة والأحياء المائية والحرارة، وقابلية ذوبان الأكسجين في الماء، ويكون الاختلاط بين ماء البحار عبر هذه الحواجز بطريقة بطيئة، يتحوَّل معها الماء الذي يعبُر الحاجز، إلى خصائص البحر الذي دخل فيه. وهكذا يحدث الاختلاط بين البحار الملحة، مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده المحددة، لوجود تلك الحواجز المائية بين البحرين. وأخيرًا تمكن الإنسان من تصوير هذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار العلمية عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الصناعية. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 22 تابع: شرح قوله تعالى: {وهو الذي مرج البحرين ... } - قوله: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}.

الدرس: 22 تابع: شرح قوله تعالى: {وهو الذي مرج البحرين ... } - قوله: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}.

ما جاء في بحث الظواهر البحرية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني والعشرون (تابع: شرح قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ... } - قوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}) ما جاء في بحث الظواهر البحرية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: كنا قد تكلمنا عن قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (الرحمن: 19)، وكنا وصلنا إلى التحقيق العلمي في هذه الآية، فنكمل بما جاء في بحث الظواهر البحرية، هذا البحث مقدم للمؤتمر العالمي الأول ل لإعجاز العلمي في القرآن والسنة، من الشيخ عبد المجيد الزنداني والدكتور برسادة رعو. جاء في هذا البحث ما يلي: إن مياه البحار بالرغم من أنها تبدو متجانسة، إلا أن هناك فروقًا كبيرة بين بعض الكتل المائية في بعض مناطق البحار العالمية، وتتحرَّك هذه الكُتل على شكل وحدات متفرقة، تفصلها عن بعضها البعض حدود واضحة، وتحتفظ بخواصّها رغم تحركها إلى مسافات بعيدة، دون أن تمتزج مع بعضها. وهناك نقطة مهمة أخرى، وهي الفرق الدقيق بين نوعي الحاجز، كما ظهر بالدراسات العلمية الحديثة ووُصف وصفًا دقيقًا؛ إذ لا توجد بين الكتل المائية في البحار، منطقة محدودة كتلك التي توجد في منطقة المصب. ومن المهم جدًّا أن نجد ذكرًا للؤلؤ والمرجان، في هذه المنطقة من البحار، وألَّا نجد مثل ذلك عند بحث التقاء المياه العذبة مع المياه المالحة، ويدلّ ذلك على أن اللؤلؤ والمرجان يتكونان في المناطق البحرية النقية، ولا يتكونان في مناطق امتزاج المياه العذبة مع مياه البحر، وتؤكّد الدراسات الحديثة على أن المرجان يوجد فقط في المناطق المدارية دون الاستوائية غير الممطرة أو قليلة المطر، ولا ينمو في مناطق المياه العذبة، ومن المدهش جدًّا أن نرى هذا التمييز بين المنطقتين، دون الحاجة إلى فحص مياه البحار بالأجهزة الحديثة المعقدة.

وللباحث محمد إبراهيم السمرة الأستاذ بكلية العلوم، قسم علوم البحار في جامعة قطر، دراسة ميدانية في خليج عمان، والخليج العربي، ذكر فيها نتائج دراسات كيميائية، قامت بها سفينة البحوث، مختبر البحار التابعة لجامعة قطر، في الخليج العربي وخليج عمان في الفترة 1404 و1406 هجرية، 1984 إلى 1986، وتضمن البحث مقارنة واقعية بين الخليجين بالأرقام والحسابات والرسومات والتحليل الكيميائي، وبين اختلاف خواص كل منهما عن الآخر، من الناحية الكيميائية والنباتات السائدة في كل منهما، ووضَّح البحث وجود منطقة بين الخليجين، تُسمى في علوم البحار منطقة المياه المختلطة وهي منطقة البرزخ. وبيَّنت النتائج أن عمود الماء في هذه المنطقة، يتكون من طبقتين من المياه، إحداهما سطحية أصلها من خليج عمان، والأخرى سفلية أصلها من الخليج العربي، أما في المناطق البعيدة والتي لا يصل إليها تأثير عملية الاختلاط بين الخليجين؛ فإن عمود الماء يتكون من طبقة واحدة متجانسة وليس من طبقتين، وأكَّدت النتائج أنه برغم هذا الاختلاط في المناطق التي بها مياه مختلطة، ووجود نوعين من المياه فوق بعضهم البعض، فإن حاجزًا ثابتًا له استقرار الجاذبية وقوتها، يقع بين طبقتي المياه، ويمنع مزجهما أو تجانسهما؛ حيث يتكون بذلك مخلوط غير متجانس. وأوضحت النتائج أن هذا الحاجز، إما أن يكون في الأعماق من عشرة إلى خمسين متر إذا كان اختلاط مياه الخليجين رأسيًّا؛ أي: أن أحدهما فوق الآخر، وإما أن يكون هذا الحاجز على السطح، إذا تجاورت المياه السطحية بكلٍّ من الخليجين.

أوجه الإعجاز في قوله تعالى: {مرج البحرين يلتقيان}.

أوجه الإعجاز في قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} أوجه الإعجاز في الآية السابقة. مما سبق يتبيَّن أن العلماء الدارسين لمناطق اللقاء بين الأنهار والبحار مناطق المصبَّات اكتشفوا أن ماء النهر والبحر في منطقة اللقاء بينهما، في حالة ذهاب وإياب واختلاط واضطراب، ويفصل بينهما ماء المصبّ، الذي يعتبر حجرًا على الكائنات الحية، التي فيه محجورًا على الكائنات الخاصة بالبحار والأنهار، وأن ماء المصب محاط ببرزخ مائي يفصل بين البحر والنهر، وذلك ما قرَّره القرآن الكريم قبل ألف وأربعمائة عام على لسان نبي أمي، عاش في أرض صحراوية ليس فيها نهر ولا مصب، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} (الفرقان: 53). فهل تيسَّر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زمنه من أبحاث وآلات ودراسات ما تيسر للعلماء الذين اكتشفوا تلك الأسرار بالبحث والدراسة، والواقع أن الذي تيسر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكبر من ذلك، فقد جاءه النبأ من العليم الخبير، الذي أنزل عليه {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الفرقان: 6). وقد دلَّ الوصف التاريخي في أول البحث عن تطور علوم البحار، على عدم وجود أيَّة معلومات علمية في هذا الموضوع، قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان عند نزول القرآن الكريم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كما أن علوم البحار لم تتقدم إلا في القرنين الأخيرين، وخاصة في النصف الأخير من القرن العشرين، وقبل ذلك كان البحر مجهولًا مخيفًا، تكثر عنه الأساطير والخرافات، وكل ما يهتم به راكبوه هو السلامة، والاهتداء إلى الطريق الصحيح أثناء رحلاتهم الطويلة.

وما عرف الإنسان أن البحار الملحة بحار مختلفة إلا في الأربعينات من هذا القرن، بعد أن أقام الدارسون آلاف المحطات البحرية لتحليل عينات من مياه البحار، وقاسوا في كل منها الفروق في درجات الحرارة، ونسبة الملوحة، ومقدار الكثافة، ومقدار ذوبان الأكسجين في مياه البحار في كل المحطات، فأدرك بعدئذٍ أن البحار متنوعة. وما عرف الإنسان البرزخ الذي يفصل بين البحار الملحة إلا بعد أن أقام محطات الدراسة البحرية المشار إليها، وبعد أن قضى وقتًا طويلًا في تتبُّع وجود هذه البرازخ المتعرجة المتحركة التي تتغير في موقعها الجغرافي بتغيّر فصول العام. وما عرف الإنسان أن ماء البحرين منفصلان عن بعضهما بالحاجز المائي ومختلطان في نفس الوقت إلا بعد عكف يدرس بأجهزته وسفنه حركة المياه في مناطق الالتقاء بين البحار، وقام بتحليل تلك الكتل المائية في تلك المناطق، وما قرر الإنسان هذه القاعدة على كل البحار التي تلتقي، إلا بعد استقصاء ومسح علمي واسع، لهذه الظاهرة التي تحدث بين كل بحرين. فهل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يملك تلك المحطات البحرية، وأجهزة تحليل كتل المياه، والقدرة على تتبع حركة الكتل المائية المتنوعة، وهل قام بعملية مسح شامل، وهو الذي لم يركب البحر قط، وعاش في زمن كانت الأساطير هي الغالبة على تفكير الإنسان، وخاصة في ميدان البحار، وصدق الله القائل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53).

شرح قوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}.

شرح قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} بعد ذلك نأتي إلى شرح قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36). أولًا: نأتي إلى كلام فضيلة الإمام الشيخ محمد متولي الشعراوي، في حكمة تقديم {السَّمْعَ} على َ {الْبَصَر} َ في القرآن الكريم. ينقل صاحب كتاب (الإعجاز العلمي في القرآن والسنة) جمع وتخريج المهندس نايف منير فارس، ينقل عن الشيخ الشعراوي هذه الحكمة، فيقول: الإنسان حين يفقد بصره يفقد كل شيء، يعيش في ظلام دائم، لا يرى شيئًا على وجه الإطلاق يصطدم بكل شيء، ولكن حين يفقد سمعه فإنه يرى، وحينئذٍ تكون المصيبة أهون، ولكن الله -سبحانه وتعالى- حين يذكر السمع يقدمه دائمًا على البصر، إن هذا من إعجاز القرآن الكريم، لقد فضل الله -سبحانه وتعالى- السمع على البصر؛ لأنه أول ما يؤدي وظيفته في الدنيا؛ لأنه أداة الاستعداد في الآخرة، فالأذن لا تنام أبدًا، إن السمع أول عضو يؤدي وظيفته في الدنيا، فالطفل ساعة الولادة يسمع عكس العين، فإنها لا تؤدِّي مهمتها لحظة مجيء الطفل إلى الدنيا. فكأنَّ الله -سبحانه وتعالى- يريد أن يقول لنا: إن السمع هو الذي يؤدي مهمته أولًا، فإذا جئت بجوار طفل ولد منذ ساعات وأحدثت صوتًا مزعجًا، فإنه ينزعج ويبكي، ولكن إذا قربت يدك من عين الطفل بعد الميلاد مباشرة، فإنه لا يتحرك ولا يحسّ بالخطر، هذه واحدة. وإذا نام الإنسان فإن كل شيء يسكن فيه إلا سمعه، إنك إذا أردت أن توقظ النائم، ووضعت يدك قرب عينه فإنه لا يحس، ولكنك إذا أحدثت ضجيجًا بجانب أذنه، فإنه يقوم من نومه فزعًا، هذه الثانية. أما الثالثة فهي أن الأذن هي الصلة بين الإنسان والدنيا، فالله سبحانه حين أراد أن يجعل أهل الكهف ينامون مئات السنين، قال: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ

سِنِينَ عَدَدًا} (الكهف: 11)، ومن هنا عندما تعطَّل السمع، استطاعوا النوم مئات السنين دون أي إزعاج، ذلك أن ضجيج الحركة في النهار، يمنع الإنسان النوم العميق، وسكونها بالليل يجعله ينام نومًا عميقًا، وهي لا تنام ولا تغفل أبدًا. على أن هناك شيئًا آخر نلاحظه، هو أن الله -سبحانه وتعالى- يأتي بكلمة {السَّمْعَ} مفردة دائمًا، وكلمة الأبصار مجموعة، يقول الله -سبحانه وتعالى- في سورة فصلت: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} (فصلت: 22)، لماذا تأتي كلمة {السَّمْعَ} مفردة وكلمة {وَالْبَصَرَ} مجموعة، مع أنه يمكن أن يقول أسماعكم وأبصاركم، وكان من المنطقي أن يكون هناك سمع وبصر أو أسماع وأبصار، ولكن الله -سبحانه وتعالى- بهذا التعبير الدقيق، أراد أن يكشف لنا دقة القرآن الكريم، فالبصر حاسَّة يتحكم فيها الإنسان بإرادته، فأنا أستطيع أن أ ُ بصر ولا أ ُ بصر، وأستطيع أن أُغمض عيني عما لا أريد أن أراه أو أدير وجهي، أو أدير عيني بعيدًا عن الشيء الذي أريد أن أتجاهله، ولكن الأذن ليس لها اختيار في أن تسمع أو لا تسمع، فأنت في حجرة يتكلم فيها عشرة أشخاص، تصل أصواتهم جميعًا إلى أذنيك، سواء أردت أو لم ترد، أنت تستطيع أن تدير بصرك، فترى منهم من تريد أن تراه، ولا ترى مَن لا تريد رؤيته، ولكنك لا تستطيع أن تسمع ما تريد أن تسمعه، ولا تسمع ما لا تريد، قد تتجاهله وتحاول أن تبدو وكأنك لم تسمعه، ولكنه يصل إلى أذنيك، سواء أردت أو لم ترد. إذًا فالأبصار تتعدد، أنا أرى هذا وأنت ترى هذا وثالث يرى هذا، إلى آخر تعدد الأبصار، وإنسان يغمض عينيه فلا يرى شيئًا، ولكن بالنسبة للسمع فنحن جميعًا، ما دمنا جالسين في مكان واحد، فكلنا نسمع نفس الشيء، ومن هنا اختلف البصر، ولكن توحَّد السمع؛ كل واحد له بصر ينظر به إلى المكان الذي

ذكر السمع قبل البصر في القرآن الكريم والحديث الشريف.

يريده، ولكننا كلنا نتوحَّد في السمع، حين نريد وما لا نريد أن نسمع، ومن هنا جاءت كلمة الأبصار، بينما توحَّدت كلمة السمع ولم تأت كلمة الأسماع، على أن الأذن مفضلة على العين؛ لأنها لا تنام، والشيء الذي لا ينام أرقى في الخلق من الشيء الذي ينام، فالأذن لا تنام أبدًا منذ ساعة الخلق؛ إنها تعمل منذ الدقيقة الأولى للحياة، بينما باقي أعضاء الجسم بعضها ينتظر أيامًا وبعضها ينتظر سنوات، والأذن لا تنام، فأنت حين تكون نائمًا تنام كل أعضاء جسمك، ولكن الأذن تبقى متيقظة، فإذا أحدث أحد صوتًا بجانبك وأنت نائم، قمت من النوم على الفور، ولكن إذا توقفت الأذن عن العمل؛ فإن ضجيج النهار وأصوات الناس، وكل ما يحدث في هذه الدنيا من ضجيج لا يوقظ النائم؛ لأن آلة الاستدعاء وهي الأذن معطلة. كما أن الأذن هي آلة الاستدعاء يوم القيامة حين يُنفخ في الصور، والعين تحتاج إلى نور حتى ترى،؛ تنعكس الأشعة على الأشياء ثم تدخل إلى العين فترى، فإذا كانت الدنيا ظلامًا فإن العين لا ترى، ولكن الأذن تؤدِّي مهمتها في الليل والنهار، في الضوء والظلام، والإنسان متيقظ والإنسان نائم، فهي لا تنام أبدًا ولا تتوقف أبدًا. ذكر السمع قبل البصر في القرآن الكريم والحديث الشريف ذكر السمع قبل البصر في آيات خلق الإنسان في القرآن الكريم والحديث. عظَّم الله -سبحانه وتعالى- حاسَّتي السمع والبصر، عندما وصف ذاته العليَّة في أول سورة الإسراء، فقال: {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء: 1)، وقد خصَّ الله تعالى هاتين الحاستين بالذكر، في العديد من آيات القرآن؛ لأنهما أدوات تلقي الإيمان وقبول الهداية، وقد تلقى كليم الله رسالته بحاسة السمع، وقد جاء ذكر السمع قبل البصر في العديد من آيات القرآن، ولكن في حالة سلب النعمة يوم الحساب - كما قال علماء الدين - يأتي ذكر البصر مقدمًا على السمع.

ومن هذا المنطق بدأت فكرة البحث، في مراحل النمو الجنيني، ولأن خلق السمع والبصر مقام إنشاء، فقد توقعت أن يرد ذكر السمع قبل البصر في آيات الخلق، وفعلًا جاء خلق السمع والبصر في خمس سور في القرآن الكريم، هي النحل آية 78، المؤمنون آية 78، السجدة من 7 إلى 9، الملك 23، الإنسان 2، وكلها جاء فيها ذكر السمع قبل البصر، وكذلك في الحديث الصحيح جاء ذكر السمع قبل البصر، وبالبحث في مراجع علم الأجنة، وجدنا أن المسميات التي وضعها العلماء الغربيون في القرن العشرين، ترجمتها الحرفية هي ما جاء في الحديث الصحيح، منذ أكثر من 1423 سنة، فقد جاءت كلمة شق سمعه وبصره فائقة الإعجاز؛ لأن شق البصر يوجد في الأنبوبة العصبية قبل انغلاقها، ثم تبرز من الشق حويصلة البصر، أما شق السمع فإن الأذن الخارجية، تتكون حول شقٍّ في العنق يُسمى الشق الأول، ثم تنمو لأعلى حتى تحاذي العينين. أما تصوير الوجه وتعديل وضع العينين، فجاء مصداقًا للحديث الشريف بعد اليوم الثاني والأربعين، لكي تتضح المعالم الآدمية ويتم نمو جهاز السمع؛ الأذن الخارجية والوسطى والداخلية في الحياة الجنينية، فتختفي السدادة الموجودة في قناة السمع الخارجية، وتتعظم العُظيمات الثلاثة الموجودة في الأذن الوسطى، وتتعظم قوقعة الأذن الداخلية، فتصبح كلها مثل عظام الشخص البالغ، وكذلك تتم إحاطة ألياف السمع العصبية إحاطة تامة، بغمد الميلين في الحياة الجنينية؛ وبذلك تصل حاسة السمع إلى تمام النضج الوظيفي قبل حاسة البصر؛ بحيث يسمع الجنين وهو في الرحم، ابتداء من الأسبوع الرابع والعشرين. أما الإبصار فلا يتم في الحياة الجنينية؛ لأن الجنين في ظلمات ثلاث؛ من ظلمة جدار البطن وجدار الرحم والأغشية المحيطة بالجنين، ويكون الوليد ضعيف البصر. ولا يتم نمو البقعة الصفراء المسئولة عن الإبصار المركزي إلا في وجود

الضوء، وتُحاط ألياف العصب البصري إحاطة تامة، بغمد الميلين بعد ثلاثة أو أربعة شهور من الولادة، وتزيد شدة الإبصار تدريجيًّا، حتى تصل إلى خمس أبصار البالغ في ستة شهور، ولكن حاسة السمع تسود على حاسة البصر حتى هذا العمر. أما ما يترتب على حاسة السمع فهو الكلام؛ لأن السمع نوع من الإحساس، يتم تحويله إلى لغة قبل أن يتم تخزينها في المخ، ولذلك فإن الطفل الذي لا يسمع لا يتكلم أبدًا، أما من يتكلم بلسان الأم، فمن السهل عليه بحاسة السمع أن يُحاكي لغات أخرى، وبدون أن يعلم كيف تكتب هذه اللغات. - تفسير علمي لقصة أهل الكهف: وافق مجلس جامعة عين شمس بالقاهرة، على ترشيح بحث يحاول فهم وبيان أوجه الإعجاز، في قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}، هذا البحث قام به الدكتور هشام محمد مهابة دكتوراه الصحة العامة، وأستاذ مشارك بكلية الطب جامعة عين شمس. يذكر الباحث في البداية، أن القرآن الكريم الذي لا تنقطع عجائبه، ذكر قصة أهل الكهف،؛ ردًّا على بعض المشركين الذين سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها، اختبارًا له لتأكيد نبوته، وقد قصَّ -سبحانه وتعالى- قصتهم، ثم اختتمها بقوله تعالى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (الكهف: 22)، وذلك لأن ما جاء الله به هو الحق، وأنه يغطي كل جوانب قصتهم، وأن ما يحاوله الباحث هو فهم حال أهل الكهف بعد لجوئهم إليه، وحتى بعثهم الله من رقودهم، وذلك من خلال تدبُّر قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}.

وتشير المراجع العلمية إلى أن التعرض للبرودة الشديدة، يؤدي إلى انخفاض كبير في درجة حرارة الإنسان، والشخص الذي انخفضت حرارته انخفاضًا كبيرًا، يصبح شبيهًا بالميت، إلا أنه يكون محميًّا إلى حدّ ما، من نقص الأكسجين وانخفاض ضغط الدم وفشل الدورة الدموية، وفي حالات عديدة فإن الشفاء التام، قد يحدث خاصة للشباب من هذه الحالات، ولهذا لا يجب اعتبار أي إنسان تعرض للبرودة الشديدة، وانخفضت درجة حرارته انخفاضًا شديدًا ميتًا، وذلك حتى يتم دفنه تمامًا، وإجراء الإسعافات اللازمة له، وقد أصبح اليوم لحفظ الأعضاء ضرورة كبيرة. ويذكر الباحث أن قصة أهل الكهف هي دليل على البعث، وهي أيضًا دليل على قدرته جل شأنه، على حماية أوليائه من أي مكروه، وقد بدأت بقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} (الكهف: 9)، وقد أجمعت كتب التفسير على أن معنى هذه الآية، لا تحسب أيها الرسول أن قصة أهل الكهف، هي أعجب آيات الله في خلقه، فهناك آيات من جنسها هي أعجب منها، فقد ذكر الله تعالى في سورة البقرة قصة مماثلة، هي قصة عزير -عليه السلام، الذي أماته الله -سبحانه وتعالى- مائة عام ثم بعثه، ومن الواضح أن بعث الله للعزير كان من الموت فالآيات صريحة. ولو أن أهل الكهف كانوا نيامًا فقط لاحتاجوا إلى الماء والغذاء، ولأيقظتهم الحاجة إلى التبول بعد بضع ساعات، ولكن الله -سبحانه وتعالى- قد أوقف جميع الوظائف الحيوية، وأبقى الأجسام في صورة حياة، كما يتم حفظ الأعضاء اليوم، مثل ضغط الدم، والقرنية، والكلى، والكبد، والقلب، وغيرها، لحين زراعتها في أشخاص آخرين، وكذلك ما نراه اليوم من إمكانية حفظ الأجنة، وإلى عودة

الإعجاز العلمي في القرآن الكريم في السمع والبصر والفؤاد.

الحياة لأشخاص دُفنوا تحت الجليد لعدة أيام، ثم عادت إليهم الحياة بعد تدفئتهم، خاصة لصغار السن، فيمكن بالتبريد وقف جميع عمليات الهدم، التي تتسبب في دمار الأنسجة. الإعجاز العلمي في القرآن الكريم في السمع والبصر والفؤاد قال الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} ذُكرت كلمة {السَّمْعَ} ومشتقاتها وتصاريفها في القرآن الكريم مائة وخمس وثمانون مرة، بينما وردت فيه كلمة {الْبَصَرَ} ومشتقاتها وتصاريفها مائة وثماني وأربعون مرة، وحيثما وردت كلمة السمع في القرآن الكريم، عنت دائمًا سماع الكلام والأصوات، وإدراك ما تنقله من معلومات؛ بينما لم تعنِ كلمة البصر رؤية الضوء والأجسام والصور بالعينين، إلا في ثماني وثمانين حالة فقط؛ إذ أنها دلت في باقي المرات، على التبصر العقلي والفكري في ظواهر الكون والحياة، أو فيما يتلقاه المرء ويسمعه من آيات وأقوال، وقد ترافقت كلمتا السمع والبصر في ثمانية وثلاثين آية كريمة. كما قال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (السجدة: 9)، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (المؤمنون: 78)، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} (الأحقاف: 26)، وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78)، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ

قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (الملك: 23)، وقال تعالى: {أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (يونس: 31)، وقال تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} (هود: 20)، وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (الإنسان: 2). وقد وردت كلمة الصمم مترافقة مع كلمة العمى في ثماني آيات، سبقت في معظمها كلمة الصمم كلمة العمى، كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (محمد: 23)، وقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171)، وقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (البقرة: 18)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} (الفرقان: 73). ومن الملاحظ في هذه الآيات الكونية أن كلم ة السمع قد سبقت كلم ة البصر، وبلا استثناء، فلا بد وأن نتساءل هل لهذا السبق من دلالة خاصة، قد تبدو الإجابة عن هذا السؤال وللوهلة الأولى، وعلى ضوء المعلومات الأولية التي نعرفها عن هذين الحسيين صعبة وعسيرة الفهم، فمن المعلوم فسيولوجيًّا وتشريحيًّا أن العصب البصري الواحد يحتوي على أكثر من مليون ليف عصبي، بينما لا يحتوي العصب السمعي إلا على ثلاثين ألف ليف فقط، كما أن من المعروف فسيولوجيًّا، أن ثُلثي عدد الأعصاب الحسية في الجسم هي أعصاب بصرية، ولا يرد إلى الجسم من مجموع المعلومات الحسية عن طريق الجهاز السمعي أكثر من 12%، بينما يرد إلى الجسم عن طريق الجهاز البصري، حوالي 70% من مجموع المعلومات الحسية.

إذًا لماذا هذا التقدم بحاسة السمع، وإراده قبل حس البصر في كل الآيات تقريبًا، فلا بد وأن هناك سبب لم نعرفه بعدُ، ولكننا لو تبصرنا بالحقائق العلمية، التي عُرفت حديثا في علوم الأجنة والتشريح والفسيولوجي والطب، لتمكنا من إيجاد الأجوبة، ولاتضح لنا الإعجاز العلمي في هذه الآيات الكريمة. فمما عرفناه حتى الآن من هذه الحقائق: 1 - تتطور آلتا حسي السمع والبصر في وقت متزامن تقريبًا في الحياة الجنينية الأولى؛ إذ تظهر الصحيفة السمعية في أواخر الأسبوع الثالث، وهي أول مكونات آلة السمع، بينما تظهر الصحيفة البصرية في أول الأسبوع الرابع من حياة الجنين، وتتطور الأذن الداخلية للجنين من هذه الصحيفة السمعية؛ فيظهر في الأسبوع الرابع الكيس الغشائي لحلزون الأذن الذي ينمو طوليًّا ويلتف لفتين ونصف مكونًا الحلزون الكامل في الأسبوع الثامن، ثم تتم إحاطة الحلزون بغلاف غضروفي في الأسبوع الثامن عشر، وينمو هذا حتى يصل حجمه الحجم الطبيعي له عند البالغين في نهاية الأسبوع الحادي والعشرين، عندما ينمو فيه عضو الكردي، وهو عضو حس السمع، وتظهر فيه الخلايا الشعرية الحسية، التي تحاط بنهايات العصب السمعي. وبذا تكون الأذن الداخلية قد نمت ونضجت، لتصل إلى حجمها الطبيعي عند البالغين، وأصبحت جاهزة للقيام بوظيفة السمع المخصصة لها، في الشهر الخامس من عمر الجنين، وهذا القسم من الأذن يتمكن منفردًا من التحسس للأصوات، ونقل إشاراتها إلى الدماغ؛ لإدراكها دون أية ضرورة لمساهمة الأذنين الوسطى والخارجية من الأديم الظاهر، والأذن الوسطى من الأديم المتوسط، فتتولَّد عُظيمات وعضلات الأذن الوسطى، وبوق وغشاء الطبلة

والصماغ السمعي الخارجي خلال الأسابيع من عشرة إلى عشرين، ثم يتم اتصالها بالأذن الداخلية في الأسبوع الحادي والعشرين. أما العين فلا يتمُّ تكامل طبقتها الشبكية الحساسة للضوء، إلا بعد الأسبوع الخامس والعشرين، ولا تتغطى ألياف العصب البصري بالطبقة النخاعية، لتتمكن من نقل الإشارات العصبية البصرية بكفاءة، إلا بعد عشرة أسابيع من ولادة الجنين، كما يبقى جفنا عيني الجنين مغلقين، حتى الأسبوع السادس والعشرين من الحياة الجنينية. يتضح مما تقدَّم أن الأذن الداخلية للجنين، تنضج وتصبح قادرة على السمع في الشهر الخامس، بينما لا تفتح العين ولا تتطور طبقاتها الحساسة للضوء إلا في الشهر السابع، وحتى عند ذلك لن يكون العصب البصري مكتملًا؛ لينقل الإشارات العصبية الضوئية بكفاءة، ولن تبصر العين؛ لأنها غارقة في ظلمات ثلاثة. السمع والبصر: لقد ثبت علميًّا أن الأذن الداخلية للجنين، تتحسس للأصوات في الشهر الخامس، ويسمع الجنين أصوات حركات أمعاء وقلب أمه، وتتولد نتيجة هذا السمع إشارات عصبية سمعية، في الأذن الداخلية، والعصب السمعي والمنطقة السمعية في المخ، يمكن تسجيلها بآلات التسجيل المختبرية، وهذا برهان علمي، يُثبت سماع الجنين للأصوات، في هذه المرحلة المبكرة من عمره، ولم تُسجل مثل هذه الإشارات العصبية، في الجهاز البصري للجنين إلا بعد ولادته.

كما أن من المهم أن نعرف، أن الأصوات تصل إلى الأذن الداخلية عادة عن طريقين، الطريق الأول: هو طريق الأذن الخارجية ثم الوسطى، والمملو ءا ن بالهواء في الإنسان الطبيعي. الطريق الثاني: هو طريق عظام الجمجمة، فالاهتزازات الصوتية تنتقل بالطريقة الأولى بواسطة الهواء، وتنتقل بالطريقة الثانية بواسطة عظام الجمجمة، وهي ناقلة جيدة للأصوات، ولكن الأذن الخارجية للجنين مملوءة ببعض الألياف وبسائل السلا، ولكن من السوائل هي الأخرى ناقلة جيدة للأصوات، فعند غمر رءوسنا بالماء عند السباحة، نتمكن من سماع الأصوات جيدًا. من ذلك يتضح أن الجنين يمكنه أن يسمع الأصوات، التي قد تصل إلى أذنيه الداخلية، إما عن طريق الجمجمة، أو عن طريق الأذن الخارجية المملوءة بسائل السلا والأنسجة من الناحية الأخرى، لا يتمكن الجنين من أن يُبصر خلال حياته الجنينية، لا لظلام محيطه فقط، بل لانسداد أجفانه، وعدم نضوج شبكية عينيه، وعدم اكتمال العصب البصري حتى وقت متأخر من حياته الجنينية. - اكتمال حاستي السمع والبصر: يمكن للجنين أن يسمع الأصوات بالطريقة الطبيعية بعد بضعة أيام من ولادته، بعد أن تمتصَّ كل السوائل وفضلات الأنسجة المتبقية في أذنه الوسطى والمحيطة بعظيماتها، ثم يصبح السمع حادًّا بعد أيام قلائل من ولادة الطفل. ومن الملاحظ أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يبدأ بسماع الأصوات وهو في رحم أمه، فجميع الحيوانات لا تبدأ بسماع الأصوات إلا بعد ولادتها بفترة، وفيما يلي بعض الأمثلة التي توضح ذلك:

فالإنسان يسمع الأصوات قبل ولادته، بأكثر من ست ة عشر أسبوعًا، وخنزير غينيا بعد ولادته بحوالي خمسة إلى ست ساعات، والقط يسمعها بعد ولادته بحوالي خمسة إلى ستة أيام، والأرنب يسمعها بعد ولادته بسبعة أيام، والكلب يسمعها بعد ولادته بعشرة أيام. أما حاسة البصر فهي ضعيفة جدًّا عند الولادة؛ إذ تكاد أن تكون معدومة، ويصعب على الوليد تمييز الضوء من الظلام، ولا يرى إلا صورًا مشوَّشة للمرئيات، وتتحرك عيناه دون أن يتمكن من تركيز بصره وتثبيته على الجسم المنظور، ولكنه يبدأ في الشهر الثالث أو الشهر الرابع، تمييز شكل أمه أو قنينة حليبه وتتبُّع حركاتهما، وعند الشهر السادس يتمكن من تفريق وجوه الأشخاص، إلا أن الوليد في هذا السن يكون بعيد البصر، ثم يستمر بصره على النمو والتطور حتى السنة العاشرة من عمره. - تطور المناطق السمعية والبصرية المخية: لقد ثبت الآن أن المنطقة السمعية المخية تتطور وتتكامل وظائفها قبل مثيلتها البصرية، وقد أمكن تسجيل إشارات عصبية سمعية من المنطقة السمعية لقشرة المخ عند تنبيه الجنين بمنبه صوتي في بداية الشهر الجنيني الخامس، وتحفز الأصوات التي يسمعها الجنين خلال النصف الثاني من حياته الجنينية، هذه المنطقة السمعية لتنمو وتتطور وتتكامل عضويًّا ووظائفيًّا، ومن الناحية الأخرى لا تنبه المنطقة البصرية للمخ، في هذه الفترة بأي منبهات، ولذلك فهي لا تتطور كثيرًا ولا تنضج ولا تتكامل، فمن المعلوم فسيولوجيا أن المنبهات النوعية التي ترد أيَّ طريق عصبي حسي، تحفزه على النمو والنضوج، وبهذه الطريقة يحفز

الجهاز العصبي على النمو منذ الشهر الخامس الجنيني، ولا يحفز الجهاز البصري بمثل ذلك إلا بعد ولادة الوليد. ولهذه الأسباب يتعلم الطفل المعلومات الصوتية في أوائل حياته قبل تعلُّمه المعلومات البصرية، ويتعلمها ويحفظها أسرع بكثير من تعلمه المعلومات المرئية، فهو مثلًا يفهم الكلام الذي يسمعه ويدركه ويعيه، أكثر من فهمه للرسوم والصور والكتابات التي يراها، ويحفظ الأغاني والأناشيد بسرعة، ويتمكَّن من تعلم النطق في وقت مبكر جدًّا، بالنسبة لتعلمه القراءة والكتابة، وكل ذلك لأن مناطق دماغه السمعية نضجت قبل مناطقه البصرية، قال تعالى: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} (الحاقة: 12). وإلى هنا وصلنا إلى نهاية دروس مادة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1