الإعجاز العلمي إلى أين

مساعد الطيار

الإعجاز العلمي إلى أين؟ مقالات تقويمية للإعجاز العلمي تأليف د. مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار الأستاذ المشارك بكلية المعلمين بالرياض دار ابن الجوزي بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

مقدمة الحمدُ لله نزَّل الكتاب، تحدَّى به الثقلين، فما وقع في تحدِّيه ريب، وأصلِّي وأسلِّم على خير البشر؛ محمد بن عبد الله طيِّب الذكر، وعلى آله الأحباب، وأصحابه الكرام أولي الألباب، أما بعد: فإني أسأل الله أن يقيني شرَّ نفسي، وأن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن يكون قصدي وهمِّي الذبُّ عن كتابه، وحمايته مما يلحقه من التحريف، وأن يُبعد عنِّي حظَّ النفس، ونزغ الشيطان. وإني أسأله أن يُبصِّرني بالحق أينما كان، ويرزقني اتِّباعه، ويجنبي الخطأ والباطل، ويرزقني اجتنابه. وبعد: فهذه مقالات كتبتها في أوقات متباعدة، وكان أولها عام 1423هـ، وآخرها عام 1427هـ، كتبتها في تصحيح مسار (الإعجاز العلمي)، وإني لأرجو أن أكون وُفِّقت فيها إلى الصواب. ولما طلب مني بعض الإخوة نشر هذه المقالات = رأيت أن أقدِّم لها بمقدمة تتعلق بمفهوم المعجزة على سبيل الاختصار؛ لتكون تمهيداً للحديث عن (الإعجاز العلمي)، فأقول ـ وبالله التوفيق ـ: إنه ما من نبي إلا وكانت له آية تدل على صدقه في كونه مرسلاً من ربَّ العالمين، ويدل على ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» رواه البخاري ومسلم.

لكن هذا لا يلزم منه أن تكون آيات الأنبياء عليهم السلام قد حُكيت لنا، فنحن لا نعرف آيات يونس عليه السلام، ولا سليمان عليه السلام، ولا يحيى عليه السلام، ولا إدريس عليه السلام، وعدم معرفتنا بها لا يعني عدم وجودها، بل نؤمن بوجودها بدلالة الحديث النبوي. والأنبياء عليهم السلام تكون لهم أكثر من آية، وتتمايز هذه الآيات في عظمتها، لذا لا يلزم أن تكون كل آية من آياتهم مما برع به أقوامهم، وإنما يقال: مما يدركه أقوامهم، فعيسى عليه الصلاة والسلام كان يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه بإذن الله (¬1)، وكذلك كان يخبر قومه بما يدَّخرونه في بيوتهم، فهل برع القوم في كل هذه الأمور؟! وكذا نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ كانت أعظم آياته القرآن الكريم، وكان من آياته انشقاق القمر، والإسراء إلى بيت المقدس، وغيرها كثيرٌ، فهل برع العرب بكل موضوع هذه الآيات؟! ¬

(¬1) يذكر بعض العلماء أن قوم عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد برعوا في الطبِّ، ولم أجد لهذه المعلومة أصلاً صحيحاً، فقومه هم اليهود، ولم يشتهر اليهود بالطبِّ، ولعل قولهم هذا كان نتيجة لمقدمة عقلية (أي: أن كل نبي يأتي بمعجزة من جنس ما برع به قومه)، وكانت معجزة عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ تتعلق بإبراء المرض وإحياء الموتى، فظنوا في قوم عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ معرفة الطبِّ والعناية به، وإلا فما الذي برع فيه قوم عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قال لهم إنه يُخبرهم بما يدَّخرون في بيوتهم؟! وأول من رأيته أشار إلى هذا الجاحظ (ت:255هـ)، قال: «وكذلك زمن عيسى عليه السلام كان الأغلب على أهله، وعلى خاصة علمائه الطب، وكانت عوامهم تعظِّم على ذلك خواصهم، فأرسله الله عزّ وجل بإحياء الموتى، إذ كانت غايتهم علاج المرضى، وإبراء الأكمه إذ كانت غايتهم علاج الرمد، مع ما أعطاه الله عزّ وجل من سائر العلامات، وضروب الآيات؛ لأن الخاصة إذا بُخعت بالطاعة، وقهرتها الحجة، وعرفت موضع العجز والقوة، وفصل ما بين الآية والحيلة، كان أنجع للعامة، وأجدر أن لا يبقى في أنفسهم بقية».

لذا فإن الأصوب أن يقال: إن مقام النظر أن تكون الآية مما يدركها قوم النبي عليه السلام؛ سواء برعوا فيها أو لم يبرعوا، تحدَّى بها النبي عليه السلام أو لم يتحدَّ بها، عارضها قومه أو لم يعارضوها، كانت ابتداءً أو كانت بطلب من القوم. وقد شاع تسمية آيات الأنبياء عليهم السلام بالمعجزات، حتى غلب لفظ المعجزة على لفظ الآية في آيات الأنبياء، والوارد في القرآن تسميتها بالآية والبرهان والسلطان والبيِّنة. ومنه قوله تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى}، وقوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}. وقوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَاتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ *قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأَتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وقوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَاكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَاخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. والآية: العلامة الدالة على صدق الرسول بأنه مُرسل من ربه، وهذا المصطلح هو الغالب في القرآن والسُّنَّة من بين المصطلحات الأخرى التي جاءت فيهما، وبقي هذا المصطلح في كلام الصحابة

والتابعين وأتباعهم (¬1)، حتى إذا برز أهل الجدل من المعتزلة، ودخلوا في جدالهم فيما بينهم (¬2) أو مع بعض الزنادقة الذين يطعنون في الإسلام، وقد ينتسبون إليهم أحياناً (¬3)؛ لما برز هؤلاء ظهر عندهم الحديث عن (المعجزة) (¬4)، وكانت كشأن غيرها من المصطلحات الحادثة البعيدة عن ¬

(¬1) يرد سؤال في محلِّه، وهو: لماذا لم يتكلم الصحابة والتابعون وأتباعهم عن (المعجزة وإعجاز القرآن = الآية) كما هو الحال عند من بعدهم؟ الذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أن الأمر مرتبط بالحاجة، فإعجاز القرآن كان مستقرّاً في أذهانهم، ولم يكن في عصرهم من يشكُّ في هذا أو يتكلم فيه؛ لذا لم تقع الحاجة إلى الكلام المسهب فيه، واقتصر الأمر على تفسير الآيات المتعلقة بالمعجزات من جهة بيان المعاني فحسب. (¬2) قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص: 64): «وسأل آخرٌ آخرَ عن العلم فقال له: أتقول إن سميعاً في معنى عليم؟ قال: نعم. قال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} هل سمعه حين قالوه؟ قال: نعم. قال: فهل سمعه قبل أن يقولوا؟ قال: لا. قال: فهل علِمه قبل أن يقولوه؟ قال: نعم. قال له: فأرى في سميع معنى غير معنى عليم. فلم يجب! قال أبو محمد: قلت له وللأول: قد لزمتكما الحجة، فلم لا تنتقلان عما تعتقدان إلى ما ألزمتكما الحجة؟ فقال أحدهما: لو فعلنا ذلك لانتقلنا في كل يوم مرات! وكفى بذلك حيرة! قلت: فإذا كان الحق إنما يعرف بالقياس والحجة وكنت لا تنقاد لها بالاتباع كما تنقاد بالانقطاع فما تصنع بهما؟ التقليد أربح لك، والمقام على أثر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أولى بك». (¬3) ومن هؤلاء ثمامة بن الأشرس، وهو منسوب للمعتزلة، قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: «ثم نصير إلى ثمامة فنجده من رقة الدين وتنقص الإسلام والاستهزاء به وإرساله لسانه على ما لا يكون على مثله رجل يعرف الله تعالى ويؤمن به. ومن المحفوظ عنه المشهور أنه رأى قوماً يتعادون يوم الجمعة إلى المسجد لخوفهم فوت الصلاة فقال: انظروا إلى البقر! انظروا إلى الحمير! ثم قال لرجل من إخوانه: ما صنع هذا العربي بالناس؟!». (¬4) لقد كنت أتأمل سبب ظهور الحديث عن المعجزة عند المعتزلة، فبان لي أمرٌ أرجو أن أكون قد وُفِّقت فيه، وهو أن المعتزلة كانوا بحاجة إلى القول بالإعجاز بشرطي خرق العادة والتحدي لضعف قولهم في القرآن، فالقرآن عندهم (مخلوق)، لذا فالإعجاز لن يكون ذاتياً فيه، بل سيكون مخلوقاً فيه أيضاً، فاضطروا إلى النظر في الإعجاز لأجل هذا، والله أعلم. =

مصطلحات الكتاب والسُّنّة، لكن قدَّر الله لها الشيوع والذيوع. لو وازنْتَ بين مصطلح القرآن والسُّنّة (الآية)، وهذا المصطلح الحادث (المعجزة) = لبان لك أن مصطلح القرآن والسُّنّة لا يحتاج إلى تلك الشروط التي عَرَّف بها هؤلاء مصطلح المعجزة؛ لأن الآية هي العلامة الدالة على صدق النبي، وهي مستلزمة لذلك إذا نطق بها، وعلى هذا جميع آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أما مصطلح المعجزة، فاحتاج من يقول بها إلى تقييدات لها سمَّوها (شروط المعجزة)، وقد بُنيت هذه الشروط شيئاً فشيئاً حتى تكاملت إلى سبعة شروط عند المتأخرين (¬1)، وما دعاهم لذلك إلا الحرص على عدم انخرام التعريف الذي اختاروه لآيات الأنبياء وسمَّوه بالمعجزات. ¬

= ثم إني نظرت في أقوالهم، فوجدت قول النَّظَّام بالصرفة هو أنسب وأليق بقول المعتزلة في (خلق القرآن)؛ لأن الإعجاز علي قوله سيكون خارجًا عن القرآن (المخلوق عن رأية). (¬1) قال الإيجي: (البحث الأول في شرائطها، وهي سبع: الأول: أن يكون فعل الله أو ما يقوم مقامه ... الثاني: أن يكون خارقاً للعادة إذ لا إعجاز دونه ... الثالث: أن يتعذر معارضته، فإن ذلك حقيقة الإعجاز. الرابع: أن يكون ظاهراً على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له ... الخامس: أن يكون موافقاً للدعوى ... السادس: ألا يكون ما ادعاه وأظهره مكذباً له ... السابع: أن لا يكون متقدماً على الدعوى بل مقارناً، لها لأن التصديق قبل الدعوى لا يعقل ...) المواقف للإيجي، تحقيق عبد الرحمن عميرة (3: 338 - 339). وبعض المتقدمين كان يكتفي بثلاثة منها، كما ذكر القرطبي: (فأما حقيقتها: فهو أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة). الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن الإسلام، للقرطبي المفسر، تحقيق أحمد حجازي السقا (ص: 239).

وكما وقع الخلل في تعريف المعجزة، وقع الخلل أيضاً في أمور متعلقة بها يأتي بيان بعضها بإيجاز إن شاء الله. وبما أن الأنبياء عليهم السلام ليست لهم معجزة واحدة، فإن ما يذكره بعض العلماء من شروطٍ للمعجزة فإنها لا تتناسب مع معجزات الأنبياء، ومن أهم الشروط التي ذكروها: أن المعجزة تكون مقرونة بالتحدي، وهذا الشرط لا يتناسب مع كثير من معجزاتهم، بل إنها كلها ـ إلا القرآن ـ لم يُتحدَّ بها، فبعضها عارضها الكفار ظنّاً منهم أنه بمقدورهم الغلبة على النبي عليه السلام كحال السحرة مع موسى، وبعضها طلبها المشركون آية للتصديق، ولم يتحدَّهم بها النبي عليه الصلاة والسلام؛ كانشقاق القمر، وبعضها حدث بين قوم مؤمنين؛ كانبجاس الماء لموسى عليه السلام، وما كان كذلك، فليس مقامه مقام التحدي، وبعضها حدث للنبي عليه الصلاة والسلام قبل نبوته؛ كشقِّ الصدر الذي كان له قبل بعثته (¬1). ومن هنا تعلم أن اشتراط التحدي في تسمية المعجزة ليس بسديد، وإنما الذي دعا إليه هو حصر الحديث عن آيات الأنبياء بالآية العظمى لنبينا صلّى الله عليه وسلّم، وهي القرآن الكريم الذي تحدى الله به الإنس والجن. وبمناسبة ذكر التحدي فإن بعض العلماء ذهب إلى التفريق بين المعجزة والكرامة بتفريقات منها: أن المعجزة يتحدى بها النبي عليه الصلاة والسلام، والكرامة تقع للولي ولا يتحدى بها. وهذا التفريق محض اصطلاح، بل يصح تسمية ما يظهر على يد ¬

(¬1) روى مسلم بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل صلّى الله عليه وسلّم وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج منه علقةً، فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طستٍ من ذهبٍ بماء زمزم، ثم لأمَهُ، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعني ظِئْرَهُ ـ فقالوا: إن محمداً قد قتل. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.

الولي معجزة، لكنها لا تكون كمعجزة النبي عليه الصلاة والسلام من حيث العظمة، ويمكن أن تظهر لوليٍّ غيرِه، أما معجزة النبي عليه الصلاة والسلام فلا تظهر ـ إن ظهرت ـ إلا لنبي مثله، لذا ورد التحدي في بعض معجزات الأولياء لإثبات صدق الدين الذي يتبعه، ومن ثَمَّ فإن التفريق بالتحدي ليس عليه دليل من واقع المعجزات التي ظهرت على يد نبي أو ولي. ومما وقع من شروط المعجزة، وليس موافقاً لواقع معجزات الأنبياء دعوى (أن تكون المعجزة مقارنةً لدعوى النبوة)، والحال أن هناك معجزات كانت قبل دعوى النبوة، وهناك معجزات حصلت بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن ذلك ما ظهر بعده من معجزات غيبية أخبر عنها القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فقد دخل غير العرب في دين الله أفواجاً بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم تصديقاً لهذا الخبر. ومما وقع في تعريف المعجزة من خلل ما يُذكر من كون المعجزة خارقة للعادة، وقد أوقع هذا الشرط فريقين في الخلل لكونهم لم يفرقوا بين خوارق العادات حيث جعلوها من جنس واحد، فمنع قوم خرق العادة لغير النبي عليه الصلاة والسلام فأنكروا الكرامات والسحر، واختلط على آخرين فجعلوا السحر من جنس ما يُخرق من العادة للأنبياء عليهم السلام، وذهبوا إلى أنه لا يمكن التفريق بين معجزة النبي عليه الصلاة والسلام وغيرها = إلا بالتحدي أو بدعواه أنه نبي من عند الله سبحانه. والحق في هذا أن خرق العادة الذي يكون للأنبياء لا يستطيعه أحد من الخلق مطلقاً؛ لأنه من عند الله تأييداً لنبيه وتصديقاً له، ولو استطاعه غيرهم لاختلط على الناس الأمر.

لذا يمكن القول بأن خرق العادة نوعان: الأول: الخرق المطلق الكلي، وذلك لا يكون إلا لنبي من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. الثاني: خرق نسبي، وهو ما يقع لغيرهم، وهذا الخرق يتفاضل فيه الناس، فالسحرة ـ مثلاً ـ بعضهم أقوى في خرق عادة السحرة من بعض لذا يمكن معارضته فيما بينهم، أما ما يأتيهم من جهة النبي عليه الصلاة والسلام فإنهم يقرون بأنه مما لا يمكنهم صنعه ـ إلا ادعاءً كاذباً ـ ولا معارضته، لذا آمن السحرة بموسى لِمَا علموا من كون ما أتى به لا يمكن أن يكون من جنس ما يأتي به المخلوق أبداً. كما أن مما يحسن التنبه له في موضوع (معجزات ـ آيات ـ الأنبياء) أنها ليست هي الطريق الوحيد لإثبات نبوة الأنبياء، لذا تجد أن أغلب الناس يؤمنون بدون أن يظهر لهم البرهان والحجة على معجزة من المعجزات، ومما يدلُّ على ذلك الأمثلة على ذلك ما وقع من أسئلة هرقل (ملك الروم) لأبي سفيان، فقد استدل هرقل على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم بأحواله، والأحوال من أعظم ما يمكن فيه معرفة الكاذب من الصادق. واليوم ترى ـ وقبله كذلك ـ فئاماً من الناس يؤمنون برسالة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن طريق إيمانهم به هو المعجزات، بل كان إيمانهم بأقل من ذلك بكثير، وهذا معروف مشتهر بين من يدعون الكفار إلى توحيد الله وتعبيد الناس له. ومما يحسن التنبه له في (إعجاز القرآن) أن هذا المصطلح أحدث بلبلة في التفريق بين ما تُحدِّي به العرب صراحة وبين (دلائل الصدق) الأخرى التي فيه التي سمَّاها العلماء (أنواع الإعجاز القرآني)؛ كالإخبار بالغيوب، فظنَّ بعض الناس أنها داخلة في التحدي، والصحيح أنها دلائل صدق، لكنها ليست مما تَحدى الله به الإنس والجن، وأوضح

الأدلة على ذلك أن الله قد نزل بالتحدي إلى سورة من مثل القرآن في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. وإذا جمعت الوجوه التي حُكيت في أنواع الإعجاز ـ سوى الصرفة ـ وجدت أنها لا تكون في كل سورة، بل تتخلف في كثير من السور، فمثلاً: ليس في كل السور إخبار بالغيب. أما الذي يوجد في كل سورة بلا استثناء فهو الوجه المتحدى به، وهو ما يتعلق بالنظم العربي لهذا القرآن (لغة وبلاغة وأسلوباً) بأي اصطلاح اصطلح عليه العلماء؛ كقول بعضهم: الإعجاز البلاغي، وقول آخرين: الإعجاز البياني ... إلخ، فإن مرجعها إلى النظم العربي المتميز لهذا القرآن الكريم. والتأمل في هذا النظر الذي ذكرته لك يُبينُ لك حقيقةً مهمة، وهي أن الوصف بالتحدي منطبق على هذا الوجه دون ما سواه، وأن المتحدى به هو المعجز إعجازاً تامّاً تامّاً، بحيث لو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بسورة من مثله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وإذا تأملت ما ورد في القرآن عن العرب من وصف القرآن بأوصاف = وجدت أن هذه الأوصاف مرتبطة بالكلام أكثر من ارتباطها بالمضمون الذي هو جديد عليهم، وليس من علومهم (¬1)، فقالوا: قول ساحر، وقالوا: قول كاهن، وقالوا: قول شاعر، قال تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ ¬

(¬1) هذا الموضوع، وهو تميز موضوعات (معلومات) القرآن وعلوَّها وجِدَّتَها على العرب من البحوث المهمة التي يحسن الكتابة فيها، والملاحظ أن العرب لم يستطيعوا أن يعترضوا على موضوعات القرآن سوى أنهم وصفوه بأساطير الأولين، وبأنه إفك، وبأنه مما درسه أو أخذه عن غيره، وكلها تخرصات ووهم وظنون قد ردَّ الله عليها في القرآن تفصيلاً، ثم ردَّ عليها إجمالاً بالتحدي بأن يأتوا بسور من مثله.

بِمَا تُبْصِرُونَ *وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ *إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ *ولاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقال تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَاتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ}. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ *قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ *أَمْ تَامُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ *أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاَ يُؤْمِنُونَ *فَلْيَاتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}. وقال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ نَظَرَ *ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ *ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ *إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ}. وكذا إذا أضفت ما ورد في السيرة من أوصاف الكفار لروعة هذا الكتاب، كالوصف الوارد عن الوليد بن المغيرة في سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ نَظَرَ *ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ *ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ *إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ}، وكان من خبره في هذا ما رواه العوفي، عن ابن عباس قال: دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال: يا عجباً لما يقول ابن أبي كبشة. فوالله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذْي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله. فلما سمع بذلك النفرُ من قريش ائتمروا فقالوا: والله لئن صبا الوليد لتصْبُوَنَّ قريش. فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال: أنا والله أكفيكم شأنه. فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال للوليد: ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألستُ أكثرهم مالاً وولداً. فقال له أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه. فقال

الوليد: أقد تحدث به عشيرتي؟! فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة، ولا عمر، ولا ابن أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر. فأنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] إلى قوله: {لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ} [المدثر: 28]. وقال قتادة: زعموا أنه قال: والله لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر. فأنزل الله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} الآية [المدثر: 19]، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 22] قبض ما بين عينيه وكلح. والمقصود أن الذي ينتظم ـ من وجوه الإعجاز المحكية ـ في كلِّ سورة، ولا يتخلف عن واحدةٍ منها = هو ما يتعلق بالنظم العربي، وهو المتحدَّى به، دون ما سواه من أنواع الأوجه المحكية في إعجاز القرآن. وإذا جاز لنا أن نعدل عن مصطلح (أنواع إعجاز القرآن) إلى (دلائل صدق القرآن)، فإنه يمكن القول بأن وجوه صدق هذا الكتاب تظهر في جوانب كثيرة جداً: منها ما دلَّ عليه الله بقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}. ومن وجوه صدقه حفظُه من التبديل والتغيير طيلة هذه القرون، ومن وجوه صدقه كونُه حقّاً في كل أموره كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ *لاَ يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، إلى غير ذلك من وجوه الصدق الكثيرة التي سمَّاها بعض العلماء (وجوه الإعجاز) كما فعل السيوطي (ت:911هـ) في كتابه (معترك الأقران في إعجاز القرآن). وبعض دلائل الصدق (أنواع الإعجاز) ليست مختصةً بالقرآن، بل هي مرتبطة بكلام الله سبحانه وتعالى، سواءٌ أكان كلامَ الله النازل على إبراهيم عليه

الصلاة والسلام (الصُّحف)، أو على موسى عليه الصلاة والسلام (التوراة)، أو على عيسى عليه الصلاة والسلام (الإنجيل)، أو على غيرهم من الأنبياء؛ لذا فإن ما يحكيه بعض المعاصرين من وجوه إعجاز جديدة؛ كإطلاق مصطلح (الإعجاز العقدي) أو (الإعجاز التشريعي) أو (الإعجاز العلمي) أو غيرها = فإنها غير مختصَّة بالقرآن وحده، بل هي عامَّةٌ في كلام الله النازل على رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام. وبعد .. فإن الحديث عن (المعجزة) طويل، وليس المراد في هذه المقدمة التفصيل، بل لقد أجملت كيما لا يتشعب الحديث ويطول. وأخيراً أقول: ليس المراد في نقدي لمصطلح (المعجزة) التخلي عن هذا المصطلح الذي توارد عليه العلماء جيلاً بعد جيل، وإنما المراد تصحيح بعض ما وقع في هذا الموضوع، والاجتهاد في ردِّ تعريف المعجزة إلى مصطلح الكتاب والسُّنّة قدر الطاقة. ويمكن تعريف المعجزة بالآتي: آية النبي المختصَّة به، الخارقة للعادة، التي لا يقدر الخلق على الإتيان بمثلها، الدالة على صدق النبي تارة، وعلى غير ذلك تارة. وإني لأسأل الله أن يغفر لي ولوالدي ولأهل بيتي، وأن يسددني ويبارك لي في وقتي، وأن يجعلني من خدم كتابه الكريم، إنه سميع مجيب. الدكتور مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار الأستاذ المشارك بقسم الدراسات القرآنية كلية المعلمين/جامعة الملك سعود [email protected] [email protected] WWW.TAFSIR.NET

المقالة الأولى الإعجاز العلمي في القرآن

المقالة الأولى: الإعجاز العلمي في القرآن

المقالة الأولى الإعجاز العلمي في القرآن (¬1) قال السائل: ما رأيكم بما يسمَّى الآن بالإعجاز العلمي للقرآن، وهل يدخل تحت علوم القرآن؟ (¬2) الجواب: إن هذه المسألة تعتبر من المسائل العلمية التي حدثت في هذا العصر، والموضوع أكبر من أن يجاب عنه في مثل هذا الموضع، لكن أستعين بالله، وأذكر من ما يفتح الله به عليَّ. 1 - إنَّ هذا الموضوع يدخل تحت التفسير بالرأي، فإن كان المفسر به ممن تأهل وعَلِمَ، كان تفسيره محموداً، وإن لم يكن من أهل العلم فإن تفسيره مذموم، وإن كان قد يصل إلى بعض الحقِّ. 2 - إنَّ الإعجاز العلمي يدخل في ما يسمَّى بالإعجاز الغيبيي، وهو فرع منه، إذ مآله الإخبار بما غاب عن الناس فترة من الزمن، ثمَّ علمه المعاصرون. وإذا تحقَّق ذلك، فليُعلم أنَّ هذا النوع من الإعجاز ليس مما يختص به القرآن وحده، بل هو موجود في كل كتب الله السابقة؛ لأنَّ ¬

(¬1) نشر في 10/ 3/1424هـ في مشاركة المؤلف في إجاباته على أسئلة أعضاء ملتقى أهل الحديث في الإنترنت، ثم نُشر في كتاب «مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير» للمؤلف، نشرته دار المحدث بالرياض. (¬2) إذا ثبت الإعجاز العلمي، فهو فرع عن الإعجاز القرآني، وبهذا يكون من علوم القرآن.

الإخبار في هذه الكتب عن الحقائق الكونية لا يمكن أن يختلف البتة. وعدم وجود ما يطابق علم القرآن في كتبهم التي بين يديهم إنما هو لتحريفهم لها، فلينتبه لذلك. ومن باب إيضاح هذه المسألة بالذات؛ يقال: إنَّ كُتب الله السابقة توافق القرآن في جميع ما يتعلق بوجوه الإعجاز المذكورة عدا ما وقع به التحدِّي، إذ لم يرد نصٌّ صريح يدل على أنه قد تُحدِّي الأقوام الذين نزل عليهم كتب، كما هو الحال بالنسبة للقرآن. 3 - إن قصارى الأمر في مسألة الإعجاز العلمي أنَّ الحقيقة الكونية التي خلقها الله، وافقت الحقيقة القرآنية التي تكلم بها الله، وهذا هو الأصل؛ لأنَّ المتكلم عن الحقيقة الكونية المخبر بها هو خالقها، فلا يمكن أن يختلفا البتة. وكل ما في الأمر أنَّ هذه الحقيقة الكونية كانت غائبة من جهة تفاصيلها عن السابقين، فمنَّ الله على اللاَّحقين بمعرفة هذه التفاصيل، فكشفوا عنها، وأثبتوا حقيقة ما جاء في القرآن من صدق، فكان اكتشاف ذلك من دلائل صدق القرآن الذي أخبر عنها بدقة بالغة، لم تظهر تفاصيلها إلا في هذا العصر الذي نبغ فيه سوق البحث التجريبي الذي صارت دولته إلى الكفار دون المسلمين، فصاروا إذا ما اكتشفوا أمراً جديداً عليهم سارع المعتنون بالإعجاز العلمي لإثبات وجوده في نصوص القرآن. 4 - إن كثيراً ممن كَتب في الإعجاز العلمي ليس ممن له قدم في العلم الشرعي فضلاً عن علم التفسير، وكان من أخطار ذلك أن جُعلت الأبحاث في العلوم التجريبية أصلاً يُحكم به القرآن، وتُؤوَّل آياته لتتناسب مع هذه النظريات والفرضيات. وكل من دخل إلى التفسير وله أصل، فإن أصله هذا سيؤثر عليه،

وسيقع في التحريف، كما وقع التحريف عند المعتزلة الذين جعلوا العقل المجرد أصلاً يحتكمون إليه، وكما وقع لغيرهم من الطوائف المنحرفة. والذي يدل على وقوع الانحراف في هذا الاتجاه الحرص الزائد على إثبات حديث القرآن عن كثير من القضايا التي ناقشها الباحثون التجريبيون. 5 - إن كتاب الله أعلى وأجلَّ من أن يُجعل عرضة لهذه العقول التي لم تتأصل في علم التفسير، فأين هم من قول مسروق: «اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله»؟ 6 - إنَّ في نسبة الإعجاز، أو التفسير إلى «العلمي» خلل كبير، وأثر من آثار التغريب الفكري، فهذه التسمية منطلقة من تقسيم العلوم إلى أدبية وعلمية، كما هو الحال في المدارس الثانوية سابقاً، وفي الجامعات حتى اليوم، وفي ذلك رفع من شأن العلوم التجريبية على غيرها من العلوم النظرية التي تدخل فيها علوم الشريعة. وإذا كان هذا يسمَّى بالإعجاز العلمي، فماذا يسمَّى الإعجاز اللغوي، أليس إعجازاً علمياً، أليست اللغة علماً، وقل مثل ذلك في وجوه الإعجاز المحكية. لا شكَّ أنها علوم، لكنها غير العلم الذي يريده الدنيويون الغربيون الذين أثَّروا في حياة الناس اليوم، وصارت السيادة لهم. ومما يؤسف عليه أن يتبعهم فضلاء من المسلمين في هذا المصطلح دون التنبه لما تحته من الخطر والخطأ (¬1). ¬

(¬1) يقول الشيخ عبد المجيد الزنداني: «ينقسم العلم البشري في المدارس والجامعات إلى نوعين من الدراسة: أـ دراسات حول علوم المادة (القسم العلمي)، وتعتني هذه الدراسات بدراسة المادة ومعرفة أحوالها، ثم استخدام هذه المادة لمصلحة الإنسان. =

7 - ومما يلاحظ في أصحاب الإعجاز العلمي عدم مراعاة مصطلحات اللغة والشريعة، ومحاولة تركيب ما ورد في البحوث التجريبية على ما ورد في القرآن، ومن الأمثلة على ذلك: أن القرآن يذكر عرشاً وكرسيّاً وقمراً وشمساً وكواكب ونجوماً وسموات سبع، ومن الأرض مثلهن ... إلخ. ومصطلحات العلم التجريبي المعاصر زادت على هذه، وذكرت لها تحديدات وتعريفات لا تُعرفُ في لغة القرآن ولا العرب، فحملوا ما جاء في القرآن عليها، وشطَّ بعضهم فتأوَّل ما في القرآن إلى ما لم يوافق ما عند الباحثين التجريبيين المعاصرين. فبعضهم جعل السموات السبع هي الكواكب السبع السيارة، وجعل الكرسي المجرات التي بعد هذه المنظومة الشمسية، والعرش هو كل الكون. وآخر يجعل ما تراه من نجوم السماء التي أقسم الله بها وأخبر عن عبوديتها، وجعلها علامات؛ يجعل ما تراه مواقع النجوم، وإلا فالنجوم قد ماتت منذ فترة. إلى غير ذلك من التفسيرات الغريبة التي تجيء مرة باسم الإعجاز العلمي، ومرة باسم التفسير العلمي .. إلخ من المسمَّيات. 8 - إنَّ بعض من نظَّر للإعجاز العلمي، وضع قاعدة، وهي: أن لا يفسَّر القرآن إلا بما ثبت حقيقة علمية لا تقبل الشكَّ، لئلا يتطرق الشك إلى القرآن إذا ثبت بطلان فرضية فسِّرت بها آية. وهذا القيد خارجٌ عن العمل التفسيري، ولا يتوافق مع أصول ¬

= ب ـ دراسات حول العلوم الإنسانية (القسم الأدبي)، وتعتني هذه الدراسة بالإنسان ودراسة أحواله. «توحيد الخالق» نشر المكتبة العصرية (2: 7). ثم عمل مقارنة بين الدراسات المادية (العلمية) والدراسات الإنسانية (الأدبية)، ويلاحظ أن علوم الشريعة ستدخل في الدراسات الإنسانية الأدبية؛ لأن القسمة ثنائية.

التفسير، وهو قيد يلتزم به مقيِّده ـ وإن لم يكن في الواقع قد التزمه كثيرون ممن بحث في هذا الموضوع ـ ولا يُلزمُ به المفسِّرَ؛ لأنَّ التفسير أوسع من الإعجاز. ومن عجيب الأمر أن بعضهم يؤكد على هذه القاعدة، ويجعل المقام في الإعجاز مقام تحدٍّ للكفار، ويقول: ... أن القرآن الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على النبي الأمي صلّى الله عليه وسلّم في أمة غالبيتها الساحقة من الأميين = يحوي من حقائق هذا الكون ما لم يستطع العلماء إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين. هذا السبق يستلزم توظيف الحقائق، ولا يجوز أن توظف فيه الفروض والنظريات إلا في قضية واحدة وهي قضية الخلق والإفناء ... لأن هذه القضايا لا تخضع للإدراك المباشر للإنسان، ومن هنا فإن العلم التجريبي لا يتجاوز فيها مرحلة التنظير، ويبقى للمسلم نور من كتاب ربه أو من سُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم يعينه على أن يرتقي بإحدى تلك النظريات إلى مقام الحقيقة، ونكون بذلك قد انتصرنا للعلم بالقرآن الكريم أو بالحديث النبوي الشريف، وليس العكس. انتهى كلامه. ولعلك ترى كيف أن هذا القائل ينقض قاعدته في نفس كلامه عنها، إذ يمكن أن يستخدم غيره هذا الضابط الذي خرم به القاعدة في الحديث عن الخلق والإفناء كما استخدمه هو، وبهذا فإنه لا يوجد قاعدة تخصُّ الإعجاز العلمي على هذا السبيل؛ إذ يمكن أن تكون كثير من فرضيات البحوث التجريبية مما لا تخضع للإدراك البشري، ثم نصحِّحها لورود ما يدل عليها من القرآن اجتهاداً أن هذه الآية تشهد لتلك النظرية. وهنا مسألة مهمة، وهي: من الذي يُثبتُ أنَّ هذه القضية صارت حقيقةً لا فرضية؟ أي: من هو المرجع في ذلك؟ أيكفي أن يُحدِّثَ بها مختصٌّ،

أتكفي فيها دراسةٌ بحثيةٌ، أتحتاج إلى إجماعٍ من المختصِّين؟ هذه المسألة من أولى ما يجب أن يعتني به من يريدون تفسير القرآن بالحقائق التي أثبتها البحث التجريبي المعاصر. وفي نظري أنَّ هذا هو أول ما يجب على الباحث تأصيله وتأكيد ثبوته من جهة البحث التجريبي، فإذا ثبت ذلك له، انتقل من يريد الحديث عن ما يسمى بالإعجاز العلمي إلى المرحلة الثانية، وهي تعلُّم التفسير وأصوله لئلا يشتطوا في تفسيراتهم، أو يلووا أعناق النصوص إلى ما يريدون. 9 - أما بالنسبة للمفسِّر، فإنه لا يمكنه أن ينكر ما يُحكمُ بثبوته من حقائق العلم التجريبي؛ لأنه لا يملك الأدوات التي يصل بها إلى أن يثبت أو ينكر، وهذه الأدوات متكاملة عند الباحثين التجريبيين، وإن من يأخذها عنهم، فإنما يأخذها ثقة منه فيهم لا غير. وعمل المفسِّر هنا أن يرى صحة انطباق تلك القضية على ما جاء في القرآن من جهة دلالة اللغة والسياق وغيرها؛ أي: أن عمله عمل تفسيري بحت، وهو يمتلك أدواته بخلاف كثير ممن كتب في الإعجاز العلمي الذين لا يملكون تلك الأدوات. فكما لا يرضى أهل الإعجاز العلمي بما عند المفسرين من تفسير كل ظواهر الكون التي أثبت البحث التجريبي المعاصر خطأها، فإن المفسرين لا يرضون لكل واحد من الباحثين التجريبيين أن يوافق بين البحث التجريبي وما ورد في القرآن. وإن كنت أرى أن المفسر أقدر في الربط من الباحث التجريبي. 10 - إن الربط بين ما يظهر في البحث التجريبي المعاصر وبين ما يرد في القرآن إنما هو من عمل المفسِّر به، كائناً من كان هذا المفسر، ومهمته في هذا بيان معاني القرآن، وإذا كانت هذه مهمته هنا، فإنَّ

المفسِّر يبيِّن معانيه بجملة من المعلومات التي قد يكون فيها الضعيف من جهة أفراده، كبعض الآثار الضعيفة مثلاً. فلو أن مفسِّراً اعتمد في تفسيره على نظريةٍ من النظريات التي ثبت بطلانها لاحقاً، فإنَّ النتيجة أن هذا تفسير ضعيف لا يصحُّ، ولا علاقة للقرآن به، فالخطأ خطأ المفسر، وليس الخطأ في القرآن قطعاً. وهذا يشبه ما لو فسّر مفسِّر بمعنًى شاذٍّ، فهل ينال القرآن خطأ منه، وهل يقال: إن الخطأ من القرآن؟ لا شكَّ أن الأمر ليس كذلك. لكن الأمر اختلف هنا لأنَّ بعض الباحثين في الإعجاز العلمي يريدون أن يلزموا الناس بما توصَّلوا إليه على أنَّ القرآن حقٌّ لا مرية فيه؛ لأنه أثبت هذه القضايا قبل أن يعرف الناس تفاصيلها، فألزموا أنفسهم من جهة التفسير بما لا يلزم، فأوقعوا أنفسهم في الضيق والحرج، وظهر عندهم الإلزام بتفسير القرآن بالحقائق، وذلك ما لم يطبقوه في تفسيراتهم، كما قلت. 11 - إن موضوع الإعجاز العلمي طويل جدّاً، ولست ممن يردُّه جملة وتفصيلاً، لكنني أدعو إلى تصحيح مساره، ووضعه في مكانه الطبيعي دون تزيُّدٍ وتضخيم كما هو الحاصل اليوم، حتى لقد جعله بعضهم الطريق الوحيد لدعوة الكفار، وأنَّى له ذلك؟ لقد أسلم كثير منهم في هذا العصر ـ ولا زالوا يسلمون بما يعرفه كثير ممن خبر إسلامهم ـ ولم يكن إسلامهم بسبب ما ورد في القرآن من حقائق وافقها البحث التجريبي. نعم لقد كان له أثر في إسلام بعض الكفار، لكنهم أقل بكثير ممن يسلم بسبب الاقتناع بالإسلام، وبما فيه مما يلائم فطرة البشر، وهذا الموضوع بذاته بحث يصلح للمتخصِّصين في قسم الدعوة، وهو يحتاج إلى عناية.

12 - إنَّ أي تفسير جاء بعد تفسير السلف، فإنه لا يقبل إلا بضوابط، وهذه الضوابط: 1 - أن لا يناقض (أي: يبطل) ما جاء عن السلف (أعني: الصحابة والتابعين وأتباع التابعين) (¬1). وذلك لأنَّ فهم السلف حجة يُحتكم إليه، ولا تجوز مناقضته البتة، فمن جاء بتفسير بعدهم، سواءً أكان مصدره لغة، أو بحثاً تجريبياً، فإنه لا يقبل إن كان يناقض قولهم. فإن قلت: إنه يرد عن السلف في تفسير الآية اختلاف، فكيف العمل؟ فالجواب: إنَّ الاختلاف الوارد عنهم أغلبه اختلاف تنوع، وليس بينه تضادٌّ إلا في القليل منه. والقاعدة في اختلاف التنوع: 1 - أن تقبل الأقوال الواردة عنهم على سبيل التنوع ما دام ليس في قَبولها جميعاً ما يمنع ذلك. 2 - أن يُرجَّح أحد أقوالهم على سبيل القول الأَولى والأرجح دون اطِّراح غيره وتركه بالكلية؛ لأنه قد يستفاد منه في موضع آخر. والقاعدة في اختلاف التضاد الوارد بينهم أن يرجَّح أحدها على سبيل التعيين لا التنوع؛ لأنه لا يمكن القول بها معاً، فلزم الترجيح، وهو هنا تصحيح لقول، وترك للآخر. واطراح ما جاء عنهم بالكلية في هذين النوعين من الاختلاف معناه مناقضة قولهم، وعدم الاعتبار به، وهذا واقع بعض ممن تعرض للتفسير ¬

(¬1) ملاحظة: السلف عند أصحاب الإعجاز العلمي كل المفسرين السابقين، وليس مقصوراً على هذه الطبقات الثلاث.

وجعل مصدره البحث التجريبي المعاصر، أما إذا اعتبر خلافهم وصحَّح منه ما صحَّح، ثم زاد عليه تفسيراً صحيحاً، فإن الأمر مختلف، ولا يكون مناقضاً لقول السلف في هذه الحال. 2 - أن يكون المعنى المفسَّر به صحيحاً. وهو على قسمين: الأول: أن يكون المعنى من جهة اللغة، وهذا لا بدَّ أن يثبت لغةً، وأي تفسير بمعنًى لم يثبت من جهة اللغة، فإنه مردود، كمن يفسِّر الذرة الواردة في القرآن بالذرة في علم الكيمياء، وهذا مصطلح حادث لا يثبت في اللغة. الثاني: أن يكون المعنى خارج إطار اللغة، كمن يفسِّر خلق الأطوار بأنها الأطوار الداروينية. وهذا مخالف لما جاء في الشريعة، وهو غير صحيح في نفسه؛ لذا لا يصحُّ التفسير به، وبما هو مثله البتة. 3 - أن يتناسب مع سياق الآية، وتحتمله الآية. وهذا قيد مهمٌّ، وفي كون الآية تحتمل هذا المعنى أو لا تحتمله مجال للاختلاف، لكن القول بأحدها لا يجب إلزام الآخر به، وكثيرٌ من التفسيرات بما وصل إليه البحث التجريبي تجري تحت هذا الضابط؛ إذ قد يكون المعنى غير مناقض لما ورد عن السلف، وهو معنى صحيح، لكن يكون وجه ردِّه عدم احتمال الآية له، والحكم باحتمال الآية له من عدمه محلُّ اجتهادٍ، وإذا كان الاجتهاد ـ في احتماله أو عدمه ـ عن علم فلا تثريب على الفريقين، بل في الأمر سعة، كما هو الحال في الاجتهاد الكائن في علماء أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. وسأضرب مثلاً أرجو أن يوضح هذا الأمر، وهو ما ورد في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ

يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]. تأمل السياق الذي وردت فيه هذه الآية، وانظر ـ تكرُّماً ـ إلى ما قبلها، يقول تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بَأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ *وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ *فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ *وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام: 122 - 126]. إن الحديث عن حال الكافر وحال المؤمن، ثم ضرب مثالاً بحال الأكابر من المجرمين الذين لا يمكن أن يدخل الإيمان قلوبهم لما فيهم من الكفر والإجرام، ثمَّ بيَّن ـ سبحانه ـ مشيئته في الهداية والإضلال، وذكر أن من أراد هدايته، فإنه يشرح صدره للإيمان به وييسره له، ومن أراد له الضلال، فإنه يجعل صدره في حال ضيق وحرج شديد، ولو أراد الإيمان فإنه لا يستطيعه، كما لا يستطيع الإنسان أن يصعد في السماء. قال الطبري: «القول في تأويل قوله تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}: وهذا مَثَلٌ من الله ـ تعالى ذكره ـ ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه؛ مثل امتناعه من الصعود إلى السماء، وعجزه عنه؛ لأن ذلك ليس في وسعه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ...».

ثم ذكر الرواية عن عطاء الخراساني، قال: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء. وعن ابن جريج: يجعل صدره ضيقاً حرجاً بلا إله إلا الله حتى لا يستطيع أن تدخله، كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه. وعن السدي: كأنما يصعد في السماء من ضيق صدره. وتقدير المعنى عندهم: إن عدم قدرة الكافر على الإيمان كعدم قدرة الإنسان على الصعود إلى السماء، ويكون الضيق والحرج عندهم بسبب عدم قدرته على الإيمان لا بسبب التصعد في السماء. وتفسيرهم لا يعيد التشبيه إلى الضيق والحرج، وإنما إلى الامتناع من الإيمان وعدم القدرة عليه. وانشراح النفس للإيمان سابقة له، فمن يشاء الله له الهداية يشرح نفسه له، كما أن من أراد الله له الكفر فإنه يجعل صدره ضيقاً حرجاً، فلا يستطيع أن يؤمن بالله، وهو ممتنع عليه الإيمان كامتناع الصعود إلى السماء على الإنسان. وهذا التفسير من دقائق فهم السلف، وتفسيرهم يرجع إلى لازم معنى الجملة الثانية، وهي جعل الضيق والحرج في صدر الكافر، إذ من لازمه أنه لو أراد الإيمان فإنه لا يستطيعه، كما لا يستطيع الإنسان الصعود للسماء، فنبهوا على هذا اللازم الذي قد يخفى على كثير ممن يقرأ الآية. وفي تفسيرهم إثبات القَدَرِ، وأن الله يفعل ما يشاء، فمن أراد الله هدايته شرح صدره، ومن أراد ضلاله ضيَّق صدره وجعله حرجاً لا يدخله خير، وفي هذا ردٌّ على القدرية الذين يزعمون أن العبد يخلق فعله. أما البحث التجريبي المعاصر، فقد كشف عن قضية تتعلق بالصعود إلى الأجواء العليا، حيث وُجِد أن الإنسان تتناقص قدرته على التنفس

الطبيعي درجة بعد درجة كلما تصاعد إلى السماء، وسبب ذلك انخفاض الضغط الجزئي للأكسجين في طبقات الجو العليا، وقد جعل أصحاب الإعجاز العلمي هذه الظاهرة الكونية تفسيراً للحرج الذي يصيب الكافر بسبب عدم قدرته على الإيمان. وجعلوا التشبيه يعود إلى الضيق والحرج، والمعنى عندهم: إن حال ضيق صدر الكافر المعرض عن الحق وعن قَبول الإيمان كحال الذي يتصعد في السماء. وذكروا وجه الشبه، وهو الصفة المشتركة بينهما: ضيقاً وحرجاً، وجاء بأداة التشبيه (كأن) ليقع بعدها المشبه في صورة حسية واضحة ... وإذا تأملت هذين التفسيرين وعرضتهما على سياق القرآن ومقاصده، فأي القولين أولى وأقوى؟ لا شكَّ أن ما ذكره السلف أولى وأقوى، والثاني ـ وإن كان محتملاً ـ لا يرقى إلى قوته، وإن قُبِلَ هذا القول المعاصر على سبيل التنوع، فالأول هو المقدَّم بلا ريب. ووجه قوته كائن في أمور: الأول: أن ما قاله السلف مُدرَكٌ في كل حين، منذ أن نزل الوحي بها إلى اليوم، أما ما ذكره المعاصرون، فكان خفيّاً على الناس حتى ظهر لهم أمر هذا المعنى هذا اليوم. الثاني: أن التنبيه على امتناع الإيمان عنهم بامتناع صعود الإنسان إلى السماء أقوى وأولى من التنبيه على تشبيه الحرج والضيق الذي يجده الكافر في نفسه بما يجده من صعِدَ طبقات السماء. فالحرج والضيق مدرك منه بخلاف امتناع الإيمان الذي يخفى سبيله، وهو الذي جاء التنبيه عليه في الآية، وذلك من دقيق مسلك قدر الله سبحانه.

4 - أن لا يُقصَر معنى الآيةِ على هذا المعنى المأخوذ من البحوث التجريبية. وهذا الضابط كثيراً ما ينتقضُ عند بعض أصحاب الإعجاز العلمي، وقد وجدت حال بعضهم مع تفسير السلف على مراتب: 1 - فمنهم من لا يعرف تفسير السلف (الصحابة والتابعين وأتباعهم) أصلاً ولا يرجع إليه، وكأنه لا يعتد به ولا يراه شيئاً. وهؤلاء صنفٌ يكثر فيهم الشطط، ولا يرتضيهم جمهورٌ ممن يتعاطى الإعجاز العلمي. 2 - ومنهم من يقرأ تفسير السلف، لكنه لا يفهمه، وإذا عرضه فإنه يعرضه عرضاً باهتاً، لا يدل على مقصودهم، ولا يُعرف به غور علمهم، ودقيق فهمهم. 3 - ومنهم من يخطئ في فهم كلام السلف، ويحمل كلامهم على غير مرادهم، وقد يعترض عليه وينتقده، وهو في الحقيقة إنما ينتقد ما فَهِمَه هو، وليس ينتقد تفسيرهم؛ لأنه أخطأ في فهمه. ومما يظهر من طريقة عرض أصحاب هذا الاتجاه لما توصلوا إليه من معانٍ جديدة أنهم يقصرون معنى الآية على ما فهموه، دون أن ينصُّوا على ذلك صراحة، وهذا مزلق خطير لا ينتبه إليه كثير من الفضلاء الذين دخلوا في هذا الميدان. بل إنهم يتفوهون بكلام يلزم منه تجهيل الصحابة وتصغير عقولهم، وإني لأجزم أن هؤلاء الفضلاء لو تنبهوا لهذا اللازم لعدَّلوا عباراتهم، لكن طريقة البحث التي سلكوها جعلتهم لا ينتبهون إلى هذا المزلق الخطير. ومن ذلك أن بعضهم يقول: «... وهناك آيات وألفاظ قرآنية لم تكن لتفهم حقيقتها حتى جاء التقدم العلمي يكشف عن دقة تلك المعاني والألفاظ القرآنية، مما يوحي إلى كل عاقل بأن كلام الكتاب الكريم

كلام الله المحيط علماً بكل شيء، وإن كان قد حدث جهلٌ بفهم بعض ألفاظه ومعانيه، فإن زيادة علوم الإنسان قد جاءت لتُعرِّف الإنسان بما جهل من كلام ربه». ألا يلزم من هذا الكلام أن الصحابة قد خفي عليهم شيء من معانيه، وكذا خفي على التابعين وأتباعهم، وبقي بعض القرآن غامضاً لا يُعرف حتى جاء (التقدم العلمي!) فكشف عن هذه المعاني. ولو كان يعتقد هذا اللازم، فالأمر خطير جدّاً. لكني لا أشكُّ ـ محسناً الظن بقائله ـ أنه لم يتنبه لهذا اللازم الخطير، وأُراه لو انتبه له لعدَّل عبارته. ولقد كان من نتيجة هذا التقعيد أن لا تُذكر أقوال السلف بل يذكر ما وصل إليه البحث التجريبي المعاصر، وتفسير الآية به، وهذا فيه قصر لمعنى الآية على ذلك التفسير الحادث، وهذا خطأ محضٌ. وقد سئل آخر: لماذا لم يبيِّن الرسول هذه الوجوه للصحابة؟ فكانت إجابته أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لو أخبرهم بهذه الحقائق العلمية لما أدركوها، وقد يقع منهم شك أو تكذيب. وهذا الجواب من أعجب العجب، فكيف يقال هذا في قوم آمنوا بما هو أعظم من هذه الحقائق الكونية، وأرى أن خطأ هذا أوضح من أن يوضَّح، وإني أخشى أن يكون هؤلاء ممن فرح بما أوتي من العلم، فنسب الجهل للصحابة الذين آمنوا بما هو أعظم من هذه الأمور. ألم يؤمنوا بأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أسري به، ثم عُرج به في جزء من الليل، ورأى ما رأى من آيات ربه الكبرى؟ أليس هذا أعجب مما يذكره الباحثون التجريبيون؟ وقل مثله في غير ذلك مما آمنوا به وصدَّقوا ولم يعترضوا. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإني قد رأيت لأحد الفضلاء كتاباً

في مناهج المفسِّرين، وأجاب عن سبب عدم تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم القرآن كاملاً، وكان مما أجاب به، فقال: «لضعف المستوى العلمي عند الصحابة، ولو فسَّره لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما حوت آياته من علوم ومعارف فقد لا يستوعبونها، وقد تكون محل استغراب بعضهم، والعلماء الذين جاؤوا بعد الصحابة قدموا بعض المضامين العلمية للآيات، ولذلك قيل: خيرُ مفسِّرٍ للقرآن هو الزمن». وهذا القول من ذلك الفاضل من أعجب العجب، إذ كيف يكون خِيَرَةُ الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم ضعيفي المستوى العلمي، وما المراد بالعلم الذي ضعفوا فيه؟! أليسوا أعلم الأمة، والأمة عالة عليهم في هذا؟! ألم يخبرهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بما هو كائن إلى يوم القيامة؟! حفظه منهم من حفظه، ونسيه من نسيه. إن مثل هذا القول خطير، وإني لأحسن الظن بأن قائله لم يتنبه لما يتبطنه هذا الكلام من خطأ محضٍ، وأن الأمر يحتاج إلى تعديل أسلوب وعبارات، والله المستعان. وبعد، فإن هذين النقلين اللذين نقلتهما فيما يتعلق بالإعجاز العلمي إنما هما عن أفاضل ممن تكلموا في الإعجاز العلمي دون غيرهم ممن تخبط في هذا المجال. وهنا يجب أن يُفرَّق بين فضلهم، وما لهم من قدم في الدعوة إلى الله، والحرص على هداية الناس، وبين ما وقعوا فيه من الخطأ، فالأول يشكر لهم ويُذكر ولا يُنكر، ولكن هذا الفضل ليس حجاباً حاجزاً عن التنبيه على ما وقعوا فيه من الخطأ. كما أن التنبيه على خطئهم لا يعني نبذهم وعدم الاعتداد بهم، وإنما المقصود هنا تصحيح المسار في هذه القضية التي رُبِطت بكتاب الله،

وجُعلت من أهم ما توصل إليه المعاصرون، بل جعله بعضهم هو طريق الدعوة للكفار. وأختم هذا البحث بمسائل متفرقة في هذا الموضوع، وهي الآتي: أولاً: قضايا العلم التجريبي بين القرآن والعلم الحديث: • العلم بالسُّنَّة الكونية لا يرتبط بالمعتقد، ولا بالأفكار؛ لأنه نتيجة البحث والتأمل، ومعرفة السُّنَّة الكونية من العلوم التي وكلها الله لعباده، فعلى قدر ما يكون الجهد في البحث يصل البشر بإذن الله إلى نتائجه المرجوة، ولما كان الوصول إلى هذه العلوم التجريبية مرتبطاً بالقدرة على البحث ووجود المناخ المناسب له، وكان الغرب الكافر قد حرص عليه، فإنهم قد سبقوا المسلمين في ذلك. • إن وجد إشارةٌ في القرآن لبعض هذه المسائل المرتبطة بالعلوم التجريبية فإنها لم تكن هي المقصد الأول، ولم ينْزل القرآن من أجلها، وإذا وازنت بين المعلومات العقدية والشرعية، ظهر لك أنَّ المعلومات العقدية والشرعية ـ أي: كيف يعرفون ربهم، وكيف يعبدونه ـ هي الأصل المراد بإنزال القرآن، وهي التي تكفَّل الله ببيانها للناس، أما المعلومات الدنيوية بما فيها العلوم التجريبية فهي موكولة للناس كما سبق، وإن جاءت فإنها تجيء مرتبطة بالدلالة على حكم عقدي أو شرعي، فهي جاءت تبعاً وليس أصالةً؛ أي: أن القرآن لم يقصد أن يذكرها على أنها حقيقة علمية مجردة، بل ليستدل بها على توحيد الله وأحقيته بالعبادة، أو على حكم تشريعي، أو على إثبات اليوم الآخر. • القضايا العلمية التي يفسر بها من يبحث في الإعجاز أو التفسير العلمي لا يدركها إلا الخواص من الناس، ولا يوصل إليها إلا بالمِراس. • الفرق بين القرآن والعلم التجريبي في تقرير القضية العلمية:

1 - أن القرآن يقررها حقيقة حيث كانت وانتهت، والعلم التجريبي يبدأ في البحث عنها من الصفر حتى يصل إلى الحقيقة العلمية. 2 - القرآن يذكر القضية العلمية مجملة غير مفصلة، أما العلم التجريبي فينحو إلى تفصيل المسألة العلمية. • علم البشر قاصر غير شمولي، ونظره من زاوية معينة، لذا قد يغفل عن جوانب في القضية، فيختلَّ بذلك الحكم ونتيجة البحث. وقد يكتشف ما لم يحتسب له عن طريق الصدفة لا الممارسة العملية. • القرآن طرح القضايا العلمية بعيداً عن الخيالات التي كانت إبان نزوله، سواءً أكانت هذه العلوم عند العرب أم عند غيرهم، وهذه الخيالات بان خطئوها في القرون المتأخرةِ، ولا يزال هناك غيرها مما سيكشفه العلمُ التجريبي، وكل ذلك مما لا يمكن أن يخالف حقائق القرآن إن صحَّت تلك العلوم. • قد تكون بعض القضايا العلمية صحيحة في ذاتها، لكن الخطأ يقع في كون الآية تدلُّ عليها، وتفسَّر بها. ثانياً: موقف المسلم من قضايا العلوم التجريبية المذكورة في القرآن: • الإيمان بالقضية الكونية التي ذكرها القرآن لا يحتاج إلى إدراك الحسِّ، بل يكفي ورودها في القرآن، بخلاف القضايا العلمية التي يحتاج الإيمان بها إلى الحسِّ، سواءً أكانت هذه القضايا مذكورة في القرآن أم لم تكن مذكورة. • المسلم مطالب بالأخذ بظواهر القرآن، وأخذه بها يجعله يسلم من التحريف أو التكذيب بها، ولو كانت مخالفة لقضايا العلم التجريبي المعاصر. فإذا عارضت النظريات العلمية، ولو سُميت حقائق علمية فإنه لا يلزم الإيمان بها، بل يقف المسلم عند ظواهر القرآن؛ لأن المؤمن مطالب بالإيمان بنصوص القرآن لا غير.

• يجب الحذر من حمل مصطلحات العلوم المعاصرة على ألفاظ القرآن وتفسيره بها. • البحوث العلمية الناتجة عن الدراسات لا يلزم مصداقيتها، وهي درجات من حيث المصداقية، لذا ترى دراسة علمية تذكر فوائد شيء، وتأتي دراسة تناقضها في هذه الفوائد. وأسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأرجو أن يبعد عني وعنكم الشطط والتحامل في هذه القضية وفي غيرها، وإن هذه القضية بالذات حسَّاسة، وتدخلها العواطف، ويبرز في الردِّ على من يعترض عليها الكتابة الخطابية، فتخرج عن كونها قضية علمية تحتاج إلى تجلية وإيضاح إلى قضية دفاع عن مواقف وشخصيات. ثالثاً: هل نحن بحاجة إلى التفسير العلمي، أو الإعجاز العلمي؟ إن نتيجة ما يتوصل إليه الباحث في الإعجاز العلمي هي إثبات أن الحقيقة أو النظرية الكونية أو التجريبية قد ورد ذكرها في القرآن صراحة أو إشارة، وهذا فيه دليل على صدق القرآن وأنه من عند الله. وهذه النتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد البحث المجرد في الحقائق الكونية والمواد التجريبية، ولا شكَّ أن الباحث إذا كان ممن يؤمن بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فإنه لن يأتي بشيء مخالف لما في القرآن والسُّنَّة، أما إذا كان الباحث كافراً فقد يقع منه مخالفات للشرع، ويكون ذلك دليلاً على خطئه في مسار بحثه. ومن ثمَّ فإنَّ عندنا أمرين: الأول: العناية بالبحث التجريبي والنظر في هذا الكون والتدبر فيه لننافس بذلك أعداء الله الذين تقدموا علينا في هذا المجال. الثاني: العناية بما يسمى بالإعجاز العلمي لإثبات صحة هذا الدين لأولئك الذين لا يؤمنون إلا بالحقائق المادية، ودعوتهم إلى الإسلام،

وذلك أنه لما كان هذا العصر عصر ثورة العلوم التجريبية الدنيوية، فإنَّ تقديم هذه التفسيرات الموافقة لما ثبت في هذه العلوم للناس دعوة لهم لهذا الدين الحقِّ. وهذا والدعوة بهذه القضايا ـ إن ثبتت ثبوتاً يقينياً ـ حقٌّ لكن الأمر يحتاج إلى ضبط مدى الحاجة للدعوة بهذه التفسيرات العلمية للقرآن، وهل أثبتت نجاحها وتميُّزها؟ إنَّ الذي يُخشى منه أن تكون الدعوة بهذه التفسيرات الموافقة للعلوم التجريبية قد أخذت أكبر من حجمها، وأنَّ عدد المتأثرين بها قليلٌ لا يكاد أن يوازوا بعددهم ما يقوم به داعية أو مركز إسلامي يبيِّن للناس هذا الدين الحقَّ. ومن المعلوم أن الأفواج الكثيرة التي دخلت في الإسلام أسلمت بأبسط من هذا الطرح العلمي، فأغلبهم أسلم لما يجد في الإسلام من موافقته لفطرته التي فطره الله عليها دون أن يصل إلى الإيمان بالله بهذا العلم الذي لا يدركه إلا القليل من الناس. ونقول: إننا نفرح بإسلام علماء وباحثين من الغرب والشرق، لكننا بحاجة إلى التنبُّه لأمور؛ منها: 1 - أن مثل هؤلاء يحتاجون إلى تعزيز الإيمان في قلوبهم، ومتابعة أحوالهم بعد إسلامهم، والحرص على تثقيفهم في دينهم الجديد؛ لأن المقصود من الدعوة إلى الله تعبيد الناس لله، وليس مجرد إقناعهم بأن الإسلام دين حق. 2 - أن هؤلاء قد يحارَبون من أقوامهم ويُسفَّهون، وهم بحاجة إلى رعاية خاصة، فلو وُكِل لبعض الدعاة العناية بشؤونهم ومتابعة أحوالهم. وبعد، فإن بعض من يستسلم لهذه الحقائق المذكورة في القرآن أو السُّنَّة، يأخذها بنظره العلمي التجريبي، ولا يدرك حقيقة الوحي، وأنَّ

هذا القرآن من عند الله، فبينه وبين ذلك حجاب مستور، والله أعلم. ومن ثمَّ، فإن العناية بالأمر الأول ـ وهو البحث التجريبي والنظر في هذا الكون والتدبر فيه ـ يجب أن تكون أكبر وأكثر من العناية بالأمر الثاني ـ وهو ما يسمى بالإعجاز العلمي ـ لوجهين: الوجه الأول: أنه هو المجال الوحيد الذي سبقنا فيه أعداؤنا، ولا بد لنا من منافستهم في ذلك، والسعي للتقدم عليهم فيه. الوجه الثاني: أنه عندما يقوم الباحثون المسلمون بتلك البحوث نضمن أنهم لن يصلوا إلى نتائج خاطئة مخالفة للكتاب والسُّنَّة، بل إنهم سوف يعيدون النظر في بعض النتائج المخالفة للكتاب والسُّنَّة التي وصل إليها الباحث غير المسلم من الشرق أو الغرب؛ لأنه يوجد حدود للممنوع أو لمعرفة ما يمكن معرفته مما لا يمكن كما هو عند من يهتدي بهُدى الوحي. وإذا بقي همُّنا منصبّاً على العناية بما يسمى بالإعجاز العلمي لإثبات صحة هذا الدين لأولئك الذين لا يؤمنون إلا بالحقائق المادية، فإننا سنبقى عالة على الغرب ننتظر منه كل جديد في العلوم، ثمَّ نبحث ما يوافقه في شرعنا، ولا يخفاك ما دخل علينا من هذه العلوم مما هو مخالف لشرعنا، وما ذاك إلا بسبب أنَّ موقفنا نحن المسلمين موقف التلميذ الضعيف المتلقي الذي يشعر أنه لا شيء عنده يمكن أن يقدمه. والبحث العلمي بلا قوة تحميه لا يمكن أن ينفعل في الواقع، لذا لا بدَّ من أن يواكب العلم قوةٌ تكون في الأمة كي تدعم هذا العلم وتحافظ عليه، وإلا صار ما تراه من هجرة العلماءِ عن ديار المسلمين إلى ديار الغرب الكافرة. وأقول أخيراً: إنَّ في الموضوع قضايا كثيرة تحتاج إلى تجلية وإيضاح، ولولا ضيق المقام لأشرت إليها، وإني أسأل الله أن يوفقني ويعينني على الكتابة فيه على منهجٍ عدل وسط لا شطط فيه.

المقالة الثانية تقويم المفاهيم في مصطلح الإعجاز العلمي

المقالة الثانية: تقويم المفاهيم في مصطلح الإعجاز العلمي

المقالة الثانية تقويم المفاهيم في مصطلح الإعجاز العلمي (¬1) الحمدُ لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وصلَّى وسلَّم على رسوله المجتبى، خير خلقه قاطبة، وأفضل من نزل عليه وحي الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد سبق أن أشرت إلى (مفهوم المعجزة)، وذكرت بعض ما يتعلق بنقد هذا المصطلح الذي نما ونشأ بين أحضان أهل الكلام من المعتزلة. وفي هذه المقالة أتابع موضوع المعجزة عند المعاصرين، وكيف صار الإعجاز غالباً على ما يسمونه (الإعجاز العلمي)، فأبدأ بهذا الموضوع مستعيناً بالله، فهو الموفق في كل الأمور، وإني لأسأله التوفيق في كل أموري. أولاً: المراد بالإعجاز العلمي، وعلاقته بمفهوم المعجزة: إن ممَّا يلاحظ على من كتب في الإعجاز العلمي أنه لم يبيِّن علاقته بمفهوم المعجزة كما استقرَّ عند العلماء السابقين الذين كتبوا فيها، بل راح بعضهم يتلمَّس مفهوماً جديداً يتناسب مع مفهوم الإعجاز العلمي عنده، فراح يورد معاني مادة عجز في اللغة، حتى إذا ما ظَفِرَ بمعنى (السَّبق) عضَّ عليه، واتكأ عليه، وجعله هو المعنى المراد في مفهوم ¬

(¬1) ألقي هذا البحث في المؤتمر السابع (إعجاز القرآن الكريم) الذي عُقد في جامعة الزرقاء الأهلية بالأردن خلال الفترة 18 - 20 رجب 1426هـ، الموافق 23 - 25/ 8/2005م.

الإعجاز العلمي، فأغفل ما قرَّره من مفهوم المعجزة عند السابقين (¬1). وهذا الأسلوب في تقرير المصطلحات الجديدة تجده عند بعض من يريد أن يضيف ـ على مصطلح قد استقرَّ وشاع ـ جديداً، أو يُحدِّد مفهوماً جديداً بسبب ما استجد في هذا العصر؛ تجده لا يحرص على ربط مفهومه الجديد بالمفهوم السابق؛ إما لغفلته عن ذلك، وإما لعدم الارتباط بينهما، مما يبين أن مصطلحه الجديد خاصٌّ كل الخصوصية، وليس منطلقاً مما استقرَّ وثبت عند السابقين. وهذا تجده عند بعض من قرَّر مفهوم الإعجاز العلمي حيث يمرُّ مرور الكرام مقرِّراً مصطلح السابقين دون أن يعتني ببيان علاقة ما هو فيه من موضوع (الإعجاز العلمي) بما تقرَّر عند السابقين، وهذا يُشعر بانفصالٍ بين موضوع الإعجاز العلمي في نظر المُحْدَثين وبين مفهوم الإعجاز عند السابقين. فمفهوم المعجزة كما نقله بعض من كتب في الإعجاز العلمي: «الأمر الخارق للعادة، السالم من المعارضة، المقرون بالتحدي؛ لعجز البشر عن الإتيان بمثله» (¬2). أما الإعجاز العلمي، فيقول الأستاذ الدكتور زغلول النجار في تعريفه له: «والقرآن معجز كذلك في استعراضه التاريخي لعدد من الأمم السابقة ... وفي أنباء غيبه، وفي إشاراته العديدة إلى الكون ومكوِّناته وظواهره. وهذا الجانب الأخير من جوانب الإعجاز في كتاب الله هو ¬

(¬1) ينظر على سبيل المثال: تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسُّنَّة الصادر عن هيئة الإعجاز العلمي برابطة العالم الإسلامي (ص: 14). (¬2) من آيات الإعجاز العلمي/السماء في القرآن الكريم، للأستاذ الدكتور زغلول النجار (ص: 66)، وينظر: تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسُّنَّة، الصادر عن هيئة الإعجاز العلمي برابطة العالم الإسلامي (ص: 14).

المقصود بتعبير «الإعجاز العلمي في القرآن الكريم»، ويُقصد به: سبق هذا الكتاب العزيز بالإشارة إلى عدد من حقائق الكون وظواهره التي لم يتمكن العلم الكسبي من الوصول إلى فهم شيء منها إلا بعد قرون متطاولة من تنَزُّل القرآن الكريم ... وفي إثبات ذلك تأكيد أن القرآن الكريم هو كلام هذا الإله الخالق، وتصديق للنبي والرسول الخاتم صلّى الله عليه وسلّم في نبوته ورسالته، وفي تبليغه عن ربه» (¬1). وعرَّفه غيره (¬2) فقال: «هو إخبار القرآن الكريم أو السُّنَّة بحقيقة أثبتها العلم التجريبي، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وهذا مما يُظهر صدق الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما أخبر عن ربه سبحانه» (¬3). وهذان التعريفان من متخصِّصَين في مجال الإعجاز العلمي قد عاشا معه ردحاً من الزمن، وهما ـ عند كثيرين ـ حجةٌ في هذا الباب، فحرصت على نقل قوليهما لئلا يُعترضَ بأن غيرهما غير معروف في هذا الباب. وهذا التعريف عليه مآخذ أُجملها فيما يأتي: 1 - أنه لا تظهر علاقة تعريف الإعجاز العلمي ـ الذي هو عندهم نوع من أنواع إعجاز القرآن الكريم ـ بتعريف المعجزة كما نقلوه عن العلماء السابقين نقل تقريرٍ وقَبول. فيمكن لسائل أن يسأل الأسئلة الآتية: ¬

(¬1) من آيات الإعجاز العلمي/السماء في القرآن الكريم، للأستاذ الدكتور زغلول النجار (ص: 67). (¬2) هو الشيخ عبد المجيد الزنداني. (¬3) ينظر على سبيل المثال: تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسُّنَّة، الصادر عن هيئة الإعجاز العلمي برابطة العالم الإسلامي (ص: 14).

1 - أين وجه التحدِّي في قضايا الإعجاز العلمي؟ 2 - هل كان مراداً ممن تُحدُّوا بالقرآن أن يعارضوا هذه القضايا العلمية فيأتوا بمثلها؟! 3 - ما وجه خرق العادة في مثل هذا الأمر؟! 4 - ما وجه التحدِّي بالسُّنَّة النبوية، حتى يُنسب الإعجاز إليها؟! 5 - ما وجه الإخبار بأمر من أمور الكون في مسألة الإعجاز؟ وهذا الأسلوب الذي انتهجه هؤلاء ـ وفقهم الله ـ راجعٌ إلى أنهم قد قرَّروا مفهوماً خاصّاً للإعجاز عندهم، فأرادوه ولم يريدوا ما ذكره العلماء السابقين، لكنهم لم يكلِّفوا أنفسهم في تحرير هذا المفهوم الجديد، ولا في علاقته بتعريف المعجزة عند العلماء السابقين، فأعرضوا صفحاً عن ذلك، ودخلوا إلى قضايا الإعجاز العلمي على أنَّ ما قرَّروه من مفهومه لا مشكل فيه حتى يحتاج إلى تحرير. والأمر ليس كذلك، بل فيه المشكلات السابقة التي ذكرت لك، وأفصل في بعضها فأقول: 1 - إن من تكلم عن الإعجاز العلمي يحرص على جعله نوعاً جديداً مستقلاًّ، وتراه يجعله خاصّاً ـ في معظمه ـ بالآيات الكونية، والعلوم التجريبية، ويُظْهِرُ أن عدم معرفةِ تلك الحقيقة الكونية على الوجه الذي عرفها به المعاصرون، وكونها جاءت موافقة لما في القرآن = إعجازٌ. وإذا تأمَّلت هذا النوع المحكيَّ من الإعجاز وجدته جزءاً من أنواع الإعجاز الذي حكاه العلماء السابقون، وهو (الإعجاز الغيبي)، فالإخبار بهذه الأمور التي لم تكن معروفة معرفة تامَّة بتفاصيلها آنذاك، ثمَّ ظهور معرفتها التفصيلية إنما هو من هذا الباب، فما الذي أوجب تخصيص هذه الآيات دون غيرها من آيات الغيبيات بهذا المصطلح؟!

إنه ضغط الحاضرِ، واستعلاء هذه العلوم، والشعور بالحاجة إلى التعريف بما عند المسلمين من سبق إلى هذه القضايا، فصرنا نتلمس ما وصل إليه علمهم، ثمَّ نبحث عما يصدِّقه من كتابنا، ولم ننطلق من المعامل لنثبت صحة ما عندنا من كتابنا، والفرق بين الأسلوبين واضح. 2 - إنَّ جَعْلَ مَرَدِّ الإعجاز إلى السبق بالإخبار عن هذه الأمور التي لم يظهر أمرها إلا في هذا العصر فيه نظر من وجوه: الأول: أنَّه تخصيص متحكِّمٌ لمعنى الإعجاز، وهو مخالفٌ لما عرَّفه العلماء السابقون، فأين وجه خرقِ العادة؟ وأين وجه التحدِّي الذي ذكره هؤلاء في تعريف المعجزة ذكرَ مقرٍّ بتعريف العلماء السابقين؟ الثاني: أنَّ هذه الخصِّيصة ـ وهي الإخبار عن الآيات الكونية ـ ليست من خصوصيات القرآن، بل هي في كل كتب الله التي تحدَّثت عن كونِه لا محالة في ذلك، فالمتكلِّم بهذا الوحي للأنبياء هو خالق الكون، والحقيقة الكونية لا يمكن أن تختلف في هذا الوحي، سواءً أكان نازلاً على موسى عليه السلام، أم كان نازلاً على محمد صلّى الله عليه وسلّم. ولا شكَّ ـ أيضاً ـ أن الفرق بين القرآن وغيره من الكتب هو حفظه سليماً من التحريف والتبديل الذي طال ما بقي من كتب الله ـ سبحانه ـ إلى أنبيائه. كما يلاحظُ أيضاً أن بعض ما وُجِدَ من تراث السابقين من تلك العلوم كان صحيحاً، ولا زالت لا تُعرفُ طريقة وصولهم إليه ـ مع صحة نتائجهم ـ فهل يُعدُّ سبقهم إلى هذا من الإعجاز؟ وكذا تجدُ في التراث الشعري لأميَّة بن أبي الصلت الثقفي (ت:8) إخباراً بقضايا كونية، وهي صحيحة أيضاً، فهل يُعدُّ هذا السبق والإخبار إعجازاً؟!

3 - إنَّ إقحام السُّنَّة في مسألة الإعجاز مما لم يُسبق إليه، وليس للسُّنَّة مدخل في الإعجاز، وإنما سهل إدخالها في هذا الباب لأن من أدخلها قد تخلَّص من تعريف السابقين واخترع تعريفاً جديداً يناسب معه دخول السُّنَّة في الإعجاز. ولو تخلَّص هؤلاء من سلطان مصطلح (المعجزة والإعجاز) لوجدوا بديلاً ينطبق على بحوثهم بدون تكلُّفٍ ـ كما هو ظاهر في تعريفاتهم ـ فلو جعلوا حديثهم منصبّاً على (دلائل صدق أخبار القرآن والسُّنَّة) لكان هذا أولى وأنفع من الارتباط بمفهوم الإعجاز الذي يصعب تطبيقه على مباحثهم. ولعلك تلاحظ أنَّ (دلائل صدق القرآن والسُّنَّة) هي نتيجة أبحاثهم هذه، وهو ما عبَّروا عنه في نهاية تعريفهم للإعجاز. وهذا المصطلح (دلائل صدق القرآن والسُّنَّة) أدلُّ على مقصودهم، وألصق ببحوثهم من مصطلح الإعجاز الذي لم يبيِّنوه بياناً شافياً. 4 - إن من بحث في موضوع الإعجاز العلمي يظهر عنده تضخيم جانب الآيات التي تتحدث عن الكون، حتى لقد كرَّر بعضهم في أكثر من مقام أن في القرآن أكثر من ألف آية تتحدث عن الكون، وهو في حديثه هذا يُحيل على العلماء دون أن ينصَّ عليهم بعينهم (¬1)، وهي ـ في هذا المقام ـ إحالة على غير مليء. بل إن بعضهم من كثرة ما يردِّد بعض الآيات يُشعِرك أنها إنما نزلت بشأن الإعجاز العلمي، كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]، ¬

(¬1) ينظر: من آيات الإعجاز العلمي في القرآن، لزغلول النجار، تقديم: أحمد فرج (1: 25، 35)، (3: 9) وهو بعنوان: المفهوم العلمي للجبال في القرآن الكريم.

والآية لا تتناسب مع ما يستدلُّ به أصحاب الإعجاز العلمي (¬1). ¬

(¬1) يقول الشيخ عبد المجيد الزنداني: «... فما إن دخل الناس في عصر العلوم الكونية حتى وجدوا في كتاب الله نبأً بأن الله سيريهم آياته في الآفاق، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}، وإذا بالوعد متحقق، فهناك آيات كثيرة ظهرت لعلماء الكون في الآفاق، وكان ما أخبر بها رسوله أو بنى عليها حكماً أو أشار إليها» «توحيد الخالق» ط. المكتبة العصرية (2: 89 - 90). إن قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} لا يناسب تنزيله على موضوع الإعجاز العلمي لأمور: الأول: أن الآية في مقام التهديد والوعيد، وليست في مقام الوعد بحصول شيء مما يتكلم عنه أصحاب الإعجاز العلمي، والسياق شاهد بذلك، فكيف يمكن إخراج آية الوعيد إلى الوعد بإظهار هذه الاكتشافات على يد الكفار؟! الثاني: أن المراد بالآية كفار مكة، والآية وإن كانت عامةٌ في التلاوة إلا أنها خاصة في التفسير، فهي من قسم العموم الذي أريد به الخصوص، فلا يصلح الاعتبار بعموم اللفظ هنا. أما كونها في أهل مكة، فهذا لا نزاع فيه ألبتة، ويكون المعنى كما رجح الطبري، قال: «وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الأول، وهو ما قاله السديّ، وذلك أن الله عزّ وجل وعد نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يُري هؤلاء المشركين الذين كانوا به مكذبين آياتٍ في الآفاق، وغير معقول أن يكون تهدّدهم بأن يريهم ما هم رأوه، بل الواجب أن يكون ذلك وعداً منه لهم أن يريهم ما لم يكونوا رأوه من قبل ظهور نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم على أطراف بلدهم وعلى بلدهم، فأما النجوم والشمس والقمر، فقد كانوا يرونها كثيراً قبل وبعد، ولا وجه لتهددهم بأنه يريهم ذلك». تفسير الطبري، ط. دار هجر (20: 462). الثالث: أن قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} قد وقع عياناً لكفار مكة لمَّا فتح الله مكة لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، وظهر لازم هذا الخبر، وهو إيمان من كان كافراً من أهل مكة، وقد نبَّه الطاهر بن عاشور على هذا فقال: «أعقب الله أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول للمشركين ما فيه تخويفهم من عواقب الشقاق على تقدير أن يكون القرآن من عند الله وهم قد كفروا به إلى آخر ما قرر آنفاً، بأن وَعَدَ رسوله صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التسلية والبشارة بأن الله سيغمر المشركين بطائفة من آياته ما يتبينون به أن القرآن من عند الله حقاً فلا يسعهم إلا الإيمان به؛ أي: أن القرآن حقّ بَيِّنٌ غير محتاج إلى اعترافهم بحقيته، وستظهر دلائل حقّيّته في الآفاق البعيدة عنهم وفي قبيلتهم وأنفسهم، فتتظاهر الدلائل على أنه الحق فلا يجدوا إلى إنكارها سبيلاً، والمراد: أنهم يؤمنون به يومئذٍ مع جميع من يؤمن به، وفي هذا الوعد للرسول صلّى الله عليه وسلّم تعريض بهم إذْ يسمعونه على طريقة: فاسمعي يا جارة. =

5 - إنَّ هاهنا مسألة خفيَّة، تحتاج إلى تأمُّلٍ، وهي: هل الإعجاز القرآني لازم بهذه القضايا؟ بمعنى: لو كان القرآن نزل بأمورٍ أخرى، ولم يذكر هذه القضايا فإنه يبقى معجزاً، ولا يزول عنه الإعجاز؟ وإذا صحَّ هذا الاستنتاج، فإنه يمكن القول بأنَّ الإعجاز (بمعنى: تحديّ الخلق بأن يأتوا بمثل هذا القرآن) راجع إلى لفظ القرآن ونظمه وبيانه، وليس راجعاً إلى شيء خارج عن ذلك، فما هو بتحدٍّ بالإخبار بالغيب المكنون، ولا بالغيب الذي يأتي تصديقه بعد دهر من تنْزيله، ولا بعلمٍ ما لم يدركه علمُ المخاطبين به من العرب، ولا بشيء من المعاني مما لا يتصل بالنظم والبيان (¬1). ¬

= فموقع هذه الجملة بصريحها وتعريضها من الجملة التي قبلها موقع التعليل لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن يقول لهم ما أمر به، والتعليل راجع إلى إحالتهم على تشكيكهم في موقفهم للطعن في القرآن. وقد سكت عما يترتب على ظهور الآيات في الآفاق وفي أنفسهم المبينة أن القرآن حقّ لأن ما قبله من قوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} ينبئ عن تقديره؛ أي: لا يسعهم إلا الإيمان بأنه حق فمن كان منهم شاكّاً من قبلُ عن قلة تبصُّر حصل له العلم بعد ذلك، ومن كان إنما يكفر عناداً واحتفاظاً بالسيادة افتضح بهتانه وسفَّهه جيرانه» التحرير والتنوير (25: 18). الرابع: إذا كانت الآية عامةٌ، ويصلح تنزيلها على الإعجاز العلمي، فيقع سؤال في هذا العموم، وهو: لماذا لا يدخل في العموم غير الباحثين في الأمور الكونية والتجريبية؟ وإذا كانت الآية عامة، فأين هي الآيات في الآفاق والأنفس التي أريها من يعيشون في أدغال إفريقيا، والأسكيمو وأهل الصين وغيرهم من البلدان في أطراف الأرض. وإذا كانت الآية عامة، فأين هي الآيات التي أُريها الكفار منذ فجر الإسلام، أين ما رآه أهل فارس، والروم، وأهل مصر، والأندلس، وغيرها من بلدان الكفار آنذاك، وهل تبين لهؤلاء المعاصرين أو أولئك السابقين أن دين الإسلام هو الحق؟! (¬1) ينظر في تقرير هذه المسألة: مداخل إعجاز القرآن، للأستاذ المحقق محمود محمد شاكر (ص: 153 - 154)، وهو مقدمته لكتاب الظاهرة القرآنية (ص: 25).

والذي يدل على ذلك أمورٌ، منها: الأول: أنَّ الله سبحانه وتعالى قد تحدَّاهم بأن يأتوا بسورة، والذي ينتظم في السورة ولا ينخرم هو التحدي بالنظم والبيان دون سائر الأنواع المُقحمة في الإعجاز القرآني. فأنت لا تجد إعجازاً (غيبيّاً) في كل سورة، ولا تجد إعجازاً (علميّاً) في كل سورة، ولا تجد إعجازاً (تشريعيّاً) في كل سورة، لكن لا يمكن أن تخلو سورة من الإعجاز الكائن في النظم والبيان العربي. الثاني: أن سياق الآيات في غير ما موطن يشير إلى أنَّ المراد النظم والبيان العربي دون ما سواه، والذي يدلُّ على ذلك أنَّ العرب فهموا ذلك، فلما أرادوا وصف ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم = راحوا يذكرون أصناف أصحاب القول والبيان عندهم، فزعموا أنه قول شاعر، وزعموا أنه قول كاهن، وزعموا أنه قول ساحر، حتى إذا أعياهم ذلك، وصارت حجتهم ضعيفة زعموا أنه قول مجنون، وهذا يدلُّ على أنه قد أسقِط في أيديهم فصاروا يتشبَّثون بأي شيءٍ، ولو كان ضعيفاً كما هي عادة أصحاب الضلال والخطأ، حين لا يمكنهم أن تقوم لهم حجة. وهؤلاء الذين نَسَبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهم إنما يجمعهم القول والبيان، فالشاعر صاحب بيان، والساحر والكاهن كانوا يسجعون في أقوالهم، ويتخيَّرون الألفاظ المناسبة لكل مقام، ومن قرأ في تراث العرب أخبار سطيح وغيره ظهر له عنايتهم باختيار ألفاظهم، وحرصهم على نظمها وبيانها، والمجنون يهذي بما لا يدري. ومن تأمَّل سياق قوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ *أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ *قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ *أَمْ تَامُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ *أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاَ يُؤْمِنُونَ *فَلْيَاتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 29 - 34]،

يجد أنَّه يتوجه إلى القول دون ما سواه من المضمون، ثمَّ جاء الردُّ عليهم بأن يأتوا بحديث مثله في النظم والبيان دون غيره من المعاني المنسوبة للإعجاز. وقد نفى الله تعالى عنه في غير ما موضع أن يكون من قول أحدٍ من البشر، فقال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ *ولاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 41 - 42]، وقال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25]. كما يدلُّ عليه حال العرب الذين نزل عليهم القرآن، فقد تحيَّروا في وصفه لأجل ردِّه، وليس لأنهم لم يقفوا على كنهه، فهم مقرُّون بأنه ليس من جنس كلام البشر، وإن لم ينطقوا بهذا، فلما أرادوا أن يتفقوا على كلمة في القول الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم = قالوا: كاهن، أو شاعر، أو ساحر، أو مجنون، وقال الوليد بن المغيرة واصفاً للقرآن: «والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فَرْعَه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عُرِف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر؛ جاء بقول يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته» (¬1). فهذا البيان من الوليد يُشعِرك بأنهم كانوا يدركون سرَّ هذا التحدي الذي ألزمهم الله به، ولم يستطيعوا أن يجابهوه، فراحوا يتلمسون له شبيهاً يطلقونه عليه لأجل أن لا يؤمن به أحد من العرب إذا سمعه، ولعلك على خُبْرٍ من خبر الطفيل بن عمرو الدوسي (¬2)، فلما سمع القرآن ¬

(¬1) ينظر: الدر المنثور (5: 98). (¬2) قال ابن كثير: «... فذكر قصة الطفيل بن عمرو الدوسي مرسلة. وكان سيداً مطاعاً شريفاً في دوس، وكان قد قدم مكة فاجتمع به أشراف قريش وحذروه من رسول الله ونهوه أن يجتمع به أو يسمع كلامه. قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوت =

آمن به، وعلم أنه من عند الله، لم يكن إيمانه من أجل تلك القضايا التي يذكرونها من أنواع الإعجاز، وإنما كان مجرد سماعه لتلاوة القرآن مبينة له عن مباينته لكلام المخلوقين، وتقرير ذلك بالأمثلة عن الذين أسلموا وأقروا بصدق القرآن يطول، وفيما ذكرته تذكرة وغُنية. الثالث: إن هناك نظراً قد يخفى على بعض من يبحث في الإعجاز، وهو أن التحدي الحقيقي يقوم على من يملك أدوات التحدِّي دون من يفقدها، وهي بالنسبة له من العدم. فالعرب قد بلغوا حدّاً من الفصاحة والبيان، وحدّاً من العلم بفارق ما عندهم عما جاء به القرآن من النظم والفصاحة والبيان، وكان عندهم من القدرة على التفنن في ضروب القول، والتذوق للكلام البليغ القدر الكبير الذي لا يُضاهَى، فجاء التحدي لهم بما يملكون أداته، وعندهم أصُولُه، ولهم فيه جولة وصَولَةٌ، فلما تحداهم الله به عرفوا عجزهم عن الإتيان بمثله، فاتجهوا إلى محاربته بأنفسهم وأموالهم، مع أنه قد طُلِبَ منهم ما هو أقلُّ من ذلك، وهو معارضة هذا القرآن (¬1)، فلما لم يعارضوه ثبتَ وقوع التحدِّي إلى يوم القيامة، فمن كان أقدر على المعارضة أبان ¬

= أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفاً فرَقاً من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه. قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يصلي عند الكعبة. قال: فقمت منه قريباً، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله. قال: فسمعت كلاماً حسناً، قال: فقلت في نفسي: واثكل أمي! والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته ... هكذا ذكر محمد بن إسحاق قصة الطفيل بن عمرو مرسلة بلا إسناد، ولخبره شاهد في الصحيح» السيرة النبوية لابن كثير (2: 72 - 76). (¬1) انظر هذا المعنى في: بيان إعجاز القرآن للخطابي (ص: 19) ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن.

عن عجزه، وأظهر عدم قدرته، فمن كان بعدهم ممن بَعُدَ عن تلك اللغة الشريفة أولى بالعجز وعدم القدرة. وإذا كان هذا بيِّناً، فإنه يظهر أنَّ التحدي لم يكن بغير ما كانوا بارعين فيه، عارفين له، ومالكين لأزمَّة أمره، وهو جانب النظم والبيان، أما غيره مما انسبك في هذا النظم من أمور تشريعية وتاريخية وغيبية وغيرها، فهي مما لم يُطالبوا بالإتيان بمثله؛ لأنهم غير قادرين عليه أصلاً، بل إنه من المحال أن يكون ذلك مما طُولبوا به، ولو كان، لجاز لهم أن يعترضوا بأنهم لو طولبوا بما أداته عندهم لجاءوا به، فلما لم يقع منهم ذلك دلَّ على أنَّ هذه الأمور بمعزلٍ عن التحدي والإعجاز. ولو طولبوا بهذا لكان كمن يتحدَّى قوماً بأن يفعلوا شيئاً، وهم عاجزون عن أصل الفعل، بخلاف من يتحدى قوماً يملكون أداة ما يتحدَّاهم به، ويريهم عجزهم عن الإتيان بما أتاهم به، وهذا أبلغ في التحدي، وأدلُّ على القدرة. ثانياً: ما المراد بالعلم الذي نُسب إليه الإعجاز: يقول الشيخ عبد المجيد الزنداني: «وصف الإعجاز هنا بأنه علمي نسبة إلى العلم. والعلم: إدراك الأشياء على حقائقها. أو هو صفة ينكشف بها المطلوب انكشافاً تامّاً. والمقصود بالعلم في هذا المقام: العلم التجريبي، وعليه فيعرَّف الإعجاز العلمي بما يلي ...» (¬1). ثم ذكر التعريف المنقول عنه سابقاً. وهذا الذي صرَّح به الشيخ الزنداني لا خلاف فيه عند كل من كتب ¬

(¬1) تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسُّنَّة، الصادر عن هيئة الإعجاز العلمي برابطة العالم الإسلامي (ص: 14).

في الإعجاز العلمي، فالعلم الذي ينسبون إليه الإعجاز هو العلم التجريبي، فهل هذه النسبةُ سديدة؟! هنا عدد من المسائل فيما يتعلق بمصطلح (العلمي). المسألة الأولى: هل العلم منحصرٌ في العلم التجريبي بحيث يكون هو العلم دون غيره؟ إنَّ نسبة العلم المطلق وتخصيصها بالعلم التجريبي ظاهرة البطلان، لكن من أين جاءت؟ لقد كان وصف العلوم التجريبية بأنها العلم مطلقاً من آثار الاستعمار البريطاني لمصر، وهناك قسَّم الإنجليز الدراسة إلى قسمين: القسم العلمي، ويعنون به دراسة العلوم التجريبية، والقسم الأدبي ويعنون به دراسة الشرعيات والاجتماعيات واللغات. وهذا التمييز فيه مكر ودهاء ممن وضع هذه المصطلحات التي سارت في الأمة الإسلامية حتى وصلت لهؤلاء الأفاضل فنسبوا الإعجاز إلى العلم التجريبي، فسمَّوه: الإعجاز العلمي. وإذا كان هذا هو العلم، فهل الإعجاز اللغوي الذي يحكيه من يذكر أنواع الإعجاز ليس علميّاً؟! أليس في ترك وصف أنواع الإعجاز الأخرى التي يحكيها الذين كتبوا في الإعجاز العلمي شيء من التنقص لهذه الأنواع؟! قد يقول قائل: إن هذا اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح. والجواب: إن هذه القاعدة ليست على إطلاقها، فالاصطلاح إذا حمل معنًى باطلاً أو فاسداً فإنَّ فيه مشاحة بلا ريب، وهذا هو الحال هنا.

وهذا العلم (وهو العلم التجريبي) جزء من العلوم، وليس هو كل العلوم، ولا هو أفضل العلوم حتى يُنسب إليه إعجاز خاصٌّ. كما أن حقيقة العلم في الإسلام هي العلم بالله والعلم بشرعه، فمن كان عالماً بذلك قيل له: عالم، وهذا هو العلم الحقيقي الذي امتدحه الله، ففي ترك وصف هذا بالعلم، ونسبه إلى العلوم التجريبية تجنٍّ على علوم الشريعة، وإبعادٌ لوصف العلم عنها من حيث لا يشعر هؤلاء. والعلم الممدوح في القرآن هو العلم بالله والعلم بشرعه، وهو الذي جاءت الآيات مادحة له ولمن حمله من العلماء؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وكل علم بعده فهو تبعٌ له، وليس أصلاً، وهذا مقرَّرٌ في كلام أهل العلم. ولا يعني هذا تنقُّص أصحاب العلوم التجريبية أو التقليل من شأنهم وشأن علمهم، لكن المراد معرفة مرتبتهم ومرتبة علمهم من علوم الشريعة وعلمائها. وليس المقام هنا مقام احتجاج لأسرد لك ذلك، وإن كانت ضغطة الحاضر لها أثر لا يخفى، والله المستعان. وإذا تأملت الإضافات الكائنة لأنواع الإعجاز عند من كتب في الإعجاز العلمي ظهر لك أنَّ نسبته إلى العلم فيها نظر وإشكال، فهم يقولون: الإعجاز اللغوي، وهذا يعني أنه منسوب إلى اللغة، والإعجاز التشريعي، فهو منسوب إلى الشريعة، والإعجاز البلاغي، فهو منسوب إلى البلاغة، وهكذا فإذا كانت هذه تُنسبُ إلى نوع العلم، فما بال ما يتعلق بالعلوم التجريبية نُسِب إلى العلم المطلق، حتى كأنه لا علم إلا العلم التجريبي؟!

المسألة الثانية: قضايا العلوم التجريبية المنسوبة للقرآن في الإعجاز العلمي: يُجمِع من بحث في موضوع الإعجاز العلمي أن القرآن ليس كتاب طبٍّ أو جيولوجيا أو فلك أو غيرها من العلوم التجريبية والطبيعية، وإنما جاء ذكر ما يتعلق بهذه العلوم على سبيل تقرير الحقيقة كما هي، أو على سبيل الإشارة إليها إشارة خفية أو ظاهرة. ومن الطبيعي أن يكون الحديث عنها في القرآن موافقاً للواقع، فخالق الحقيقة الكونية هو المتكلم عنها. وإذا نظرت إلى موضوعات تلك العلوم التي تحدَّث عنها القرآن وجدت من خصائص حديث القرآن عنها ما يأتي: 1 - أن قضايا الكون تأتي في القرآن على ما استقرَّت عليه من حيث هي حقيقة كونية. 2 - أن حديث القرآن عما هو خفيٌّ عنَّا من قضايا الكون كحديثه عما هو معلوم مشاهد كشروق الشمس من مشرقها. 3 - أن الحديث عنها يأتي مجملاً دون الدخول في تفاصيل، بخلاف الحديث عنها في كتب التخصُّص التي تبحث مثل هذه القضايا، لذا ترى من يبحث موضوعاً من الموضوعات التي طرقها القرآن يأتي بتفاصيل الموضوع مما لا يفهمه إلا من كان متخصصاً فيه، وحكاية هذه التفاصيل أشبه بحكاية تفاصيل الروايات الإسرائيلية بحيث لا يستفيد منها ولا يعقلها إلا أهل الاختصاص في تلك العلوم. 4 - أن تلك القضايا في القرآن تبقى كما هي لا تتغير، وإنما يتغير فهم الناس لتفسيرها.

المسألة الثالثة: قصور العلم البشري في إدراك حقائق الكون: 1 - أن جملة من الكون الغائب مما لا يمكن الإنسان الوصول إليه بوسائله البشرية مهما ارتقى بها. 2 - تغيُّر فهم هذه العلوم، وترقِّي الإنسان في فهمها جيلاً بعد جيل، فما كان في زمن حقيقة ينقلب في الزمن الذي بعده إلى أن يكون ضدَّها. 3 - أن الاكتشافات لحقائق الخلق لا تأتي إلا بعد دراسة، وبعضها قد يأتي مصادفة؛ كأن يكون البحث في قضية من قضايا الخلق فيظهر أمر آخر لم يكن بحسبان الباحث. * * *

حقيقة الإعجاز العلمي ومؤداه

حقيقة الإعجاز العلمي ومؤداه إن النتيجة التي سيصل إليها من يريد البحث في هذا المجال هي صدق القرآن وأنه وحي منَزَّل من عند الله. وهذه النتيجة هي حقيقة هذه البحوث المتكاثرة في أنواع الإعجاز التي ظهرت في هذا الوقت المعاصر، كما أنها هي النتيجة الكبرى لأنواع الإعجاز التي ذكرها العلماء السابقون، خصوصاً ما هو أصل هذه المسألة (أي: الإعجاز)، وهو التحدي بالقرآن، فعدم وقوع المعارضة، بعد التحدي به، والإخبار بعدم وقوعه أيضاً بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23 - 24] = دليل على صدق القرآن، كما أنَّ عدم القدرة على الإتيان بمثله دليل على صدق القرآن. والمقصود أنَّ نهاية البحث في هذا الموضوع هو التنبيه على صدق القرآن إذ أخبر عمَّا كان خافياً عن البشر إبَّان نزوله، فظهر بتقدم العلم التجريبي صحة ما أخبر به القرآن. وإذا انطلقت من هذا المنطلق، جاز لك أن تنسب صحة دلائل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى ما أورده من أخبار في سُنَّته المطهرة. وهذه النتيجة لا تكون هي أصل المسألة، فيُطلَق عليها اسم الإعجاز. فإن قلت: أيعني هذا أن لا يتحدث متحدثٌ عن الإعجاز العلمي في القرآن؟

فالجواب: لا، بل الحديث في ذلك نافع، لكن يُنتبه لأمور: الأول: أن لا يُسمى البحث في قضايا العلم التجريبي بهذا الاسم (الإعجاز العلمي). الثاني: أن لا يُنطلق في الحديث من القرآن لأجل إثبات أن القرآن قد تحدث عن هذه القضية أو تلك. الثالث: أن يُنطلق في الحديث عن هذه الأمور من باب بيان عظمة الله في خلقه، وإن جاءت الآيات في البحث عن عظمة الله في خلقه فمجيئها على سبيل الاستشهاد لا على سبيل تقرير ما فيها من أمور متعلقة بالبحوث التجريبية. وسيظهر الفرق جليّاً بين الطريقتين في البحث: فالانطلاق من بيان عظمة الخلق سيجعل الباحث غير مقيَّد بموضوع معيَّنٍ يريد إثباته، بل سيكون حديثه عامّاً، فيتحدث عن عموم القضية الكونية؛ كالحديث عن النجوم على سبيل العموم، فتأتي القضايا التي ذكرها القرآن في معرض الحديث عنها، دون أن يكون القصد إلى إثبات مطابقة العلم التجريبي لما فيها من معانٍ ودلالات. أما لو انطلق من الآيات لتقرير مسألة الإعجاز العلمي، فإنه سيكون مقيَّداً بإثبات دلالة القرآن دلالة واضحة لا لبس فيها على تلك القضية التي يذكرها، وسيدخل في أمرين: الأول: لزوم ما لا يلزم، حيث يُلزم نفسه بما ليس لازماً أصلاً في البحث والتقرير. الثاني: أنه يدخل إلى القرآن بمقررات سابقة تجعله يلوي عنق النصِّ إلى هذه المقررات من حيث لا يشعر. بل إن بعضهم قد يشعر لكنه يتكلف الربط، ولو على سبيل المجاز الذي حذَّر منه بعضُ منظري

الإعجاز العلمي (¬1)، وذلك كثير في هذا الباب. وسأذكر مثالين في هذه المسألة: الأول: في تفسير قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16]. ذهب الأستاذ الدكتور زغلول النجار في تفسير هاتين الآيتين إلى مذهب جديد لم يُسبق إليه، وهذا المذهب الذي ذهب إليه إنما كان بسبب ما ظهر عنده من العلم الجديد في دراسة النجوم. وقد فصَّل المعنى اللغوي للفظتين (الخنس والكنس)، وجعل الخُنوس بمعنى الاختفاء الكامل. وليس من شكٍّ أن أصل الخنوس الاختفاء، كما نقله عن ابن فارس، لكن زيادة قيد (الكامل) في قوله: «ولكن الوصف القرآني بالخنس يعني الاختفاء الكامل، ولا يعني الظهور ثم الاختفاء» (¬2)، لا دليل عليه من نقل ولا عقل ولا لغة، وإنما هو بسبب هيمنة تلك القضية الفلكية على ذهنه أثناء تفسيره لهذه الآية. وجعل الكنوس من مادة كَنَس يَكْنِسُ، ومنها المِكْنَسَةُ، ولم يجعله من كناس الظَّبي (أي: بيته) كما ذهب إليه بعض مفسري السلف وغيرهم. ¬

(¬1) يقول زغلول النجار: «عدم التكلف، أو محاولة لَي أعناق الآيات من أجل موافقتها للحقيقة العلمية، وذلك لأن القرآن أعز وأكرم عندنا من ذلك؛ لأنه كلام الله الخالق، وعلم الخالق بخلقه هو الحق المطلق الكامل الشامل المحيط بكل علم آخر، وهو لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه» من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 70 - 71). وجاء في مجلة الإعجاز العلمي الصادرة عن رابطة العالم الإسلامي (ع1: 16): «أن تراعى القواعد البلاغية ودلالاتها، خصوصاً قاعدة أن لا يُخرج اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة كافية». (¬2) من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 216).

والمعنى الذي ذهب إليه في معنى الكنوس حادث، وإنما قاده إليه تلك القضية الفلكية التي لا يتناسب معها جعل الكنوس من الكِناس، وإنما يناسبها جعله من الكَنْسِ. وهذا الاختيار لهذين المعنيين ما كان ليكون لو لم يكن له معرفة بما يُسمى بالثقوب السود التي هي حالة من حالات النجوم ذكرها الفلكيون المعاصرون. فلو لم يعرف هذا ما كان ليطرأ عليه هذا المعنى البتة، وهذا يَدُلَّك على أن هذا أسلوب الاعتقاد المُسبق، ثم الاستدلال له. يقول الأستاذ الدكتور زغلول النجار بعد حديثه عن تكوُّن الثقوب السوداء: «... فسبحان الذي خلق النجوم وقدَّر لها مراحل حياتها، وسبحان الذي أوصلها إلى مرحلة الثُّقب الأسود، وجعله من أسرار الكون المبهرة، وسبحان الذي أقسم بتلك النجوم المستترة الحالكة السواد الغارقة بالظلمة، وجعل لها من الظواهر ما يعين الإنسان على إدراك وجودها على الرغم من تسترها واختفائها، وسبحان الذي مكَّنها من كنس مادة السماء وابتلاعها وتكديسها، ثم وصفها لنا قبل أن نكتشفها بقرون متطاولة بهذا الوصف القرآني المعجز، فقال عزّ وجل: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16]، ولا أجد وصفاً لتلك المرحلة من حياة النجوم المعروفة باسم الثقوب السود أبلغ من وصف الخالق سبحانه وتعالى لها بالخنس الكنس، فهي خانسة؛ أي: دائمة الاختفاء والاستتار بذاتها، وهي كانسة لصفحة السماء، تبتلع كل ما تمر به من المادة المنتشرة بين النجوم، وكل ما يدخل في نطاق جاذبيتها من أجرام السماء، وهي جارية في أفلاكها المحدَّدة لها، فهي خُنَّس جوار كُنَّس، وهو تعبير أبلغ بكثير من تعبير الثقوب السود الذي اشتهر وذاع بين المشتغلين بعلم الفلك، ُ ٌ ً ي ى و ِ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122].

ومن العجيب أن العلماء الغربيين يسمون هذه الثقوب السود تسمية مجازية عجيبة تنطبق انطباقاً دقيقاً على الوصف القرآني: «الخنس الجوار الكنس» كما فصَّلناه آنفاً، وذلك حين يسمونها بالمكانس الشافطة العملاقة التي تبتلع (أو تشفط) كل شيء يقترب منها إلى داخلها ...» (¬1). مناقشة هذا التفسير: أولاً: إن تلك القضية الفلكية لا يمكن لمثلي أن يرفضها، فلست أمتلك أدوات البحث التي تؤهلني أن أوافق أو أرفض، لكني ـ وأمثالي كثيرون ـ لا يملكون إلا قبول مثل هذه القضية إذا جاءت من متخصص بهذا العلم، وهذا يعني أنه ليس مجالي مجال إسقاط هذه القضية، ولا يمكن أن يسقطها إلا متخصص يظهر له خلافها، ويُثبِتَ بالبراهين خطأها. وهذا يعني عندي أن قضية الثقوب السود وما فيها من تحليلات مقبولة من حيث النظر الفلكي، مع أنه يقع في نفسي أن الأيام حُبلى بما قد يُظهر خلاف ما هو موجود الآن من معلومات لدى الفلكيين عن هذه الثقوب السود، وأنه قد يظهر ما يخالف ما استقر العلم عليه الآن، والتغير سمةٌ بارزة في العلوم التجريبية والكونية حتى تصل إلى مطابقة الحقيقة. ثانياً: إن الأستاذ الدكتور زغلول النجار قد وضع ضابطاً في تفسير القرآن بالإعجاز العلمي، وهو أن يفسر بالقضايا التي لا رجعة فيها (¬2). ويفرق بين تفسير القرآن من جهة الإعجاز العلمي، ومن جهة التفسير العلمي، فيقول: «فالإعجاز العلمي يُقصد به هنا: إثبات سبق ¬

(¬1) من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 227 - 228). (¬2) من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 71).

القرآن الكريم بالإشارة إلى حقيقة من حقائق الكون أو تفسير ظاهرة من ظواهره قبل وصول العلم المكتسب إليها بعدد متطاول من القرون، أما التفسير فهو محاولة بشرية لحسن فهم دلالة الآية القرآنية؛ إن أصاب فيها المفسر فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، والمعول عليه في ذلك هو نِيَّتُه، وهنا يجب التأكيد على أن الخطأ في التفسير ينسحب على المفسر ولا يمس جلال القرآن» (¬1). وقد أشار إلى قضية أخرى في سبب تفريقه بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي، فقال: «أما موضوع الإعجاز العلمي: فهو موقف من مواقف التحدي الذي نريد أن نثبت به للناس كافة أن هذا القرآن ـ الذي أنزل قبل ألف وأربعمائة سنة على النبي الأمي صلّى الله عليه وسلّم في أمة كان غالبيتها الساحقة من الأميين ـ يحوي من حقائق هذا الكون ما لم يستطع العلماء إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين» (¬2). وهنا وقفات: الأولى: هل وجه التفريق بين هذين المصطلحين صحيحٌ؟ إن الذي دعا إلى هذا التفريق أمر خارجٌ عن حدِّ التفسير، مما يعطيك أنَّ هذه البحوث التي تراعي هذا التفريق ـ إن وجدت هذه المراعاة ـ لا تخرج مخرجاً صحيحاً من باب تفسير القرآن، بل هي دخيلة عليه. فمن الذي اشترط مقام التحدي في الإعجاز العلمي دون التفسير العلمي؟! إنَّ ذلك تحكُّمٌ، والتحكم لا يعجز عنه أحدٌ، كما أنه من باب لزوم ¬

(¬1) من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 72). (¬2) من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، تقديم أحمد فراج (ص: 36).

ما لا يلزم، إذ المفسر للقرآن لا ينظر إلى هذا الفرق المذكور، ولا ينتظر ثبوت تلك النظرية ثبوتاً يقينيّاً يوصلها إلى درجة الحقيقة التي لا مرجع عنها، فبيان كلام الله أوسع من تحجيره بهذه التحجيرات. ولا حرج على المفسر الذي يمتلك أدوات التفسير أن يفسر القرآن بهذه النظريات إذا كان فيها بيان لمعنى تحتمله الآية، وإن وقع في خطأ في ربط الآية بنظرية من النظريات، فهو كمن وقع في خطأ في وجه من وجوه التفسير، فما دام عالماً فلا تثريب على طريقته العلمية، لكن لا يعني هذا قبول تفسيره بهذه النظرية التي قد يُخالَف حملها على الآية، وهذا هو مهيع التفسير في تاريخه الممتد من جيل الصحابة الكرام إلى عصرنا الحاضر. الثانية: من الذي يمكنه أن يُثبت أن ما توصل إليه العلم البشري هو الحقيقة التي لا رجعة فيها؟! إنَّ هذه القضية من الأهمية بمكان، وإنها أول ما يجب تقريره عند الذين يبحثون في الإعجاز العلمي. فإذا كان هناك فرضيات ونظريات وحقائق، فمن الذي يمكنه أن يُفرّق بينها؟ وما هي شروط ارتقاء الفرضيات والنظريات إلى حقائق؟ لقد فسَّر بعض المسلمين في القرن الرابع عشر الهجري بعض آيات القرآن على نظريات كانت تُعدُّ من الحقائق في وقتهم، ثمَّ تبدَّلت تلك الحقائق، وظهر أنها ليست كذلك، فهل كان سيقال لهذا آنذاك: إن هذه ليست حقيقة، بل هي نظرية؟ إن قصور العلم البشري، وطريقة وصوله إلى حقائق هذا الكون الفسيح مما لا يخفى على الباحثين في العلم التجريبي. وأعود فأقول: هل قضية الثقوب السود مما لا رجعة فيه عند الباحثين في الفلك؟

هل يمكن الجزم بذلك، بحيث تَصِحُّ القضية العلمية من هذه الجهة أوَّلاً؟ إنَّ الملاحظ في أصحاب الإعجاز العلمي أنهم يأتون بهذه القضايا على أنها مما لا يقع فيه خلاف، وأنها محسومة لا يمكن أن يُرجع عنها، ونحن غير المتخصصين ـ كما قلت سابقاً ـ لا يمكن الواحد منَّا رفض هذا أو ذاك، فلسنا ممن يمتلك أدوات الرفض، بل ترانا على القبول والتسليم ثقةً بمن نقل لنا تلك العلوم، ونراه قد فهمها فهماً سليماً. الثالثة: هل انطبقت الضوابط اللازمة للتعامل مع قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم التي نظَّرها الأستاذ زغلول النجار في كتابه (¬1)، أو أنَّ التنظير غير التطبيق؟ وسآخذ هذا في جانب (اللغة والسياق وتفسير السابقين للآية) في وقفات: الوقفة الأولى: هل ما ذهب إليه من تفسير الخنوس والكنوس صحيح؟ إنَّ مادة خنس كما أشار في نقله من ابن فارس تدلُّ على الاختفاء، لكن من أين جاء بدلالة الاختفاء الكامل، كما سبق ملاحظة ذلك، فهذا القيد ليس من جهة اللغة قطعاً. أما مادة كنس ففيها المعنيان اللغويان اللذان ذكرهما، وهما: الكنس؛ بمعنى إزالة شيء عن شيء، والكنوس، وهو الدخول في البيت، وقد اختار الأول بسبب تلك القضية الفلكية التي سيطرت عليه، ¬

(¬1) تُنظر هذه الضوابط في كتابه: من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 68 - 72).

وزاد الأمر أن جعل مادة (الكُنَّس) صيغة منتهى الجموع، فقال: «وعندي أن الكُنَّس هي صيغة منتهى الجموع للفظة كانس؛ أي: قائم بعملية الكنس وجمعها (كانسون)، أو (كَنَّاس) وجمعها (كَنَّاسون)، والكانس والكَنَّاس هو الذي يقوم بعملية الكنس؛ أي: سفر شيء عن وجه شيء آخر وإزالته» (¬1). ولست أدري من أين جاء بصيغة منتهى الجموع هذه؟! وهو قد اشترط «حسن فهم نص القرآن الكريم وفق دلالة الألفاظ في اللغة العربية، ووفق قواعد تلك اللغة العربية، وأساليب التعبير فيها، وذلك لأن القرآن الكريم قد أنزل بلسان عربي مبين» (¬2). فها هو لسان العرب، فأين وجد صيغة منتهى الجموع، وإنما ظهرت له ـ فيما يبدو ـ من أجل أنه يقول بأنها تلك النجوم التي تكنس صفحة السماء فلا تُبقي شيئاً خلفها، فكأنه أخذ من هذا المعنى صيغة منتهى الجموع، وهذا مأخذ غير لغوي، والله أعلم. الوقفة الثانية: النظر في السياق: أليس في السياق ما يشير إلى النجوم بعمومها؟ فهي التي تتصف بالخنوس؛ أي: التأخر عند ظهورها في أول الليل بسبب اختفائها في ضوء النهار، ثم هي دائمة الجريان في فلكها، ثمَّ هي تكنس في آخر الليل؛ أي: تدخل في كناسها، وهو ضوء النهار المشرق، فهذه النجوم تتناسب مع الآيات الكونية المرئية للناس أجمعين، وهي ما جاء في الآيات بعدها: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ *وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 17 - 18]، بخلاف تلك النجوم الشافطة التي لا يراها إلا أقلُّ الناس، بل أندرُهم، ¬

(¬1) من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 214). (¬2) من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 70).

والقَسَمُ في غالب القرآن يأتي بشيء ظاهر للناس، أو بشيء له أثر ظاهر، أو بشيءٍ قد عُلم من طريق السمع؛ كالملائكة. الوقفة الثالثة: تفسير السلف لهذه الآيات: لقد ذهب السلف في تفسير هذه الأوصاف إلى مذهبين: الأول: أنها النجوم والكواكب، ويكون خنوسها بتأخرها عن الظهور أول الليل، وكنوسها بدخولها في ضوء الصباح بعد آخر الليل، وجريانها كائن في كل أحوالها. الثاني: أنها بقر الوحش والظباء، ويكون خنوسها بتأخرها إذا رأت إنسياً، وكنوسها بدخولها في كِناسها؛ أي: بيتها، وجريانها في الغيطان والحقول. ويلاحظ على هذين التفسيرين أنهما ذكرا أمراً يعرفه من نزل عليهم الخطاب، ولا يحتاجون فيه إلى أدوات وآلات ليظهر لهم ذلك الأمر الخفي في هذه الأوصاف، وهذا الاختلاف بينهم من قبيل اختلاف التنوع، وجائزٌ أن يراد به هذا أو ذاك، وسببُ الاختلاف الاشتراكُ في الوصف بين النجم والكواكب من جهة، والبقر الوحش والظباء من جهة أخرى. وإن كان التفسير الأول أنسب لمقام ذكر الآيات الكونية بعدها، غير أن الثاني محتمل أيضاً. أما الأستاذ الدكتور زغلول النجار، ففهم تفسير السلف على النحو الآتي: «ولا يُعقل أن يكون المقصود في الآية الكريمة للفظ الكنس هي المنْزوية المختفية، فقد استوفى هذا المعنى باللفظ (الخنس)، ولكن أخذ اللفظتين بنفس المعنى دفع بجمهور المفسرين إلى القول بأن معنى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16]: أقسم قسماً مؤكداً

بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار وتظهر بالليل، وهو معنى الخنس، والتي تجري في أفلاكها لتختفي وتستتر وقت غروبها كما تستتر الظباء وبقر الوحش؛ أي: في مغاراتها، وهذا معنى الجوار الكنس» (¬1). وهذا الذي ذكره هنا هو أحد أوجه التفسير كما ترى، وهو لم ينتبه إلى الفرق الذي ذكره المفسرون بين حالة الخنوس وحالة الكنوس، فهم لم يقولوا بالتأكيد ولا ترادف المعنى بين الخنوس والكنوس كما فهمه هو من كلامهم (¬2). وكلامهم واضح في التفريق بين الحالتين، فالخنوس يتحدث عن أول ظهور النجوم في الليل، والكنوس يتحدث عن آخر وقت النجوم في الليل عند دخولها في ضوء الصباح، فالحديث إذاً عن مرحلتين مختلفتين، وليس عن مرحلة واحدة فيكون من باب التأكيد كما فهمه الأستاذ الدكتور زغلول من كلامهم، وكلامهم واضح وضوحاً لا لبس فيه، فقد نقل قول القرطبي (ت:661هـ) الآتي: «هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل، وتكنس وقت غروبها؛ أي: تستتر كما تكنس الظباء في المغارة، وهو الكِناس». الوقفة الرابعة: هل هناك تفسير معاصر معتمد على العلم التجريبي غير ما ذهب إليه الأستاذ الدكتور زغلول؟ لقد ذكر الأستاذ الدكتور تفسيراً آخر معتمداً على ظاهرة فلكية أخرى، وأنَّ الوصف في الآية للمذنبات، وهي أجرام سماوية ضئيلة الكتلة وتتحرك في مدارات بيضاوية حول الشمس، وهي تُرى كلما اقتربت من الشمس، وهي تظهر وتختفي بصورة دورية على فترات تطول ¬

(¬1) من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 214). (¬2) هذه مشكلة نقع فيها ـ نحن المتأخرين ـ فقد نفهم كلام بعض السلف على غير وجهه، ثم نردُّ على فهمنا، ونحن نحسب أننا نردُّ على قولٍ خطأٍ عندهم.

وتقصر، ثمَّ ذكر بعد ذلك كيفية تَكوُّن هذه الظاهرة الفلكية ومم تَتَكَوَّن، ثمَّ قال: «ووجه الشبه الذي استند إليه هذا النفر من الفلكيين المسلمين المعاصرين بين المذنبات والوصف القرآني (الخنس الجوار الكنس) هو أن المذنَّب يقضي فترة تتراوح بين عدة أيام وعدة شهور مجاوراً للشمس في زيارة خاطفة، فيظهر لنا بوضوح وجلاء، ولكنه يقضي معظم وقته فترة دورانه بعيداً عن الشمس فيختفي عنا تماماً ويستتر، فإذا ما اقترب من الشمس ظهر لنا وبان، ولكن سرعان ما يقفل راجعاً حتى يختفي تماماً عن الأنظار، واعتبروا ذلك هو الخنوس. ولكن الوصف القرآني بالخنس يعني الاختفاء الكامل، ولا يعني الظهور ثم الاختفاء» (¬1). وإذا تأملت هذا الردَّ الذي ذكره رأيت أنه ردٌّ مجملٌ غيرُ قويٍّ، ولا هو مقنعٌ، وهو مبني على فهم خاصٍّ لمعنى الخنوس ـ كما سبق بيانه ـ، وليس لمعنى الخنوس في اللغة، وإذا كان ذلك كذلك، فما المانع ـ عنده ـ من وصف هذه المذنبات بالخنوس والكنوس؟! ما الذي يجعل هذه المذنبات لا تدخل في معنى الخنوس والكنوس ما دامت تتصف بهذين الوصفين، وما دام الأمر يرجع إلى تقرير قضية فلكية مبهرة، ثمَّ إلى ربطها بالقرآن؟! أي فرق بين ما ذهب إليه هؤلاء الفلكيون، وما ذهب إليه هو من جهة الاعتماد على العلم الفلكي وطريق الاحتجاج به في تفسير الآية؟! فيما يظهر لي أنه لا فرق بينهم في هذا، وإذا كان ذلك كذلك، فمن ذا الذي يمكنه الفصل بالصواب بين الفريقين؟ فمن ذهب في تفسير الأوصاف إلى المذنبات أظهر احتجاجه في ¬

(¬1) من آيات الإعجاز العلمي، السماء في القرآن الكريم (ص: 216).

معنى وصفها بالخنوس والكنوس، ومن ذهب في تفسيرها إلى الثقوب السود أظهر احتجاجه في وصفها بالخنوس والكنوس، فمن المرجع هنا؟ إن علم الفلك ليس هو المرجع بلا ريب، فهو عندهم صحيح في هاتين القضيتين، فالمذنبات حقيقة فلكية مبهرة، والثقوب السود حقيقة فلكية مبهرة، وما دام الأمر كذلك من جهة علم الفلك، وهو أنه يُصحِّح تلك الحقيقتين ولا يرفضهما صار الأمر إلى شيء آخر، وهو صحة انطباق الأوصاف على القضيتين الفلكيتين، وبالرجوع إلى المعاني فإنه يجوز فيهما معنى الخنوس والكنوس على تجوز في معنى الكنوس الذي ذهب إليه الأستاذ الدكتور زغلول، فصار الأمر يحتاج إلى نظر آخر لمعرفة صحة إرادة هاتين القضيتين أو إحداهما (¬1)، وليس هناك ما يُرجِّح إحداهما على الأخرى، والمفسر الذي يمتلك أدوات التفسير هو الأقدر على الترجيح في هذه الأمور، وليس الفلكي. المثال الثاني: في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]. يقول الدكتور المهندس فائق العبيدي: «يقول الله تعالى في سورة العنكبوت: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]، ويخبرنا العلم الحديث أن الوهن هنا لم يُقصد به وهن المادة المكونة لبيت العنكبوت (الشبكة العنكبوتية)، ولكنه وَهَن الصلات الاجتماعية والتفكك الأسري لبيت العنكبوت حيث سيطرة الأنثى على الذكر. ¬

(¬1) يلاحظ أنَّ كلا الفريقين ذهب في تفسيره للخنس والكنس إلى أمور لا يراها عموم الناس بادية لهم، فهل يا تُرى يذهب القَسَمُ إلى مثل هذا الخفيِّ، ويُترك القَسَم بما هو ظاهر لكثير من الناس، أو لجميعهم؟!

ومن الحقائق المتعلقة بهذا الأمر: أن العلم قد أثبت بالقياس أنَّ خيط العنكبوت أقوى من مثيله من الصُّلب بثلاث مرات، وأقوى من خيط الحرير وأكثر مرونة، وهذا الخيط يحمل أوزاناً أكبر منه بعشرات المرات، فيكون نسيج العنكبوت بالنسبة لاحتياجه وافياً بالغرض وزيادة، وهو بالنسبة إليه قلعة آمنة، وهذا من نتائج تصنيف العلم الحديث للمواد؛ إذ يضع نسيج العنكبوت ضمن مجموعة البوليمرات أو اللدائن الطبيعية، وقد ذكر القرآن بعض المواد مثل المعادن؛ الحديد والذهب والفضة والنحاس، وكذلك الفخاريات؛ كالصخر والجبال والصلصال والطين وغيرها، بالإضافة إلى مجموعة اللدائن، ومن ضمنها خيط العنكبوت وبيوت النحل وغيرها ... الحقيقة الثانية: هي أن العلم كشف مؤخراً أن أنثى العنكبوت هي التي تنسج البيت وليس الذكر، وهي حقيقة بيولوجية لم تكن معلومة أيام نزول القرآن، وإذا ما لاحظنا الآية الكريمة: {اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت: 41]، وتاء التأنيث الساكنة دلالة على الأنثوية؛ أي: هي المسؤولة عن اتخاذ البيت وإدارة شؤونه. الحقيقة الثالثة: هي أن الضعف والوهن هنا دلالة اجتماعية وليست مادية، ثمَّ إن الآية خُتمت بالقول: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]؛ أي: أنهم لا يعلمون هذا، وسيعلمونه مستقبلاً بعد تقدم العلم التطبيقي والتجريبي. والواقع أن هنا سرّاً بيولوجيّاً كشف عنه العلم، فحقيقة أن بيت العنكبوت هو أبعد البيوت عن وصفه، بالأمان والسكينة والطمأنينة، فالأنثى تقتل ذكرها بعد التلقيح وتأكله، والأبناء يأكلون بعضهم بعد الخروج من البيض. ولهذا يعمد الذكر إلى الفرار بجلده بعد أن يلقح أنثاه، ولا يحاول أن يضع قدمه في بيتها، وتغزل أنثى العنكبوت بيتها ليكون فخّاً وكميناً ومقتلاً لكل حشرة تفكر أن تقترب منه، أو تدخله زائراً

كانت أم سائلاً فإنها تقتل وتلتهم، وهذا سر هذه المذبحة، والوهن كلمة عربية تعبر عن غاية الجهد والمشقة والمعاناة، وهذا شأن من يلجأ لغير الله ليتخذ منه معيناً ونصيراً» (¬1). مدارسة هذا التفسير: أولاً: يلاحظ أن الباحث لم يرجع إلى المفسرين ولا إلى اللغويين لتقرير ما يحتاج إلى تقرير، ولمعرفة مدى قرب تفسيره من تفسير هؤلاء السالفين، فهل يا تُرى نحن في غِنى عن تفسيرهم وفهمهم للقرآن؟! ثانياً: يلاحظ انطلاق الباحث من العلم التطبيقي أو التجريبي إلى القرآن، فهو يريد التوفيق بين ما جاء في العلم التجريبي مع ما جاء في القرآن، وهذا ظاهر جدّاً في مقالته هذه، وهو لم يذكر غير رأيه المبني على العلم التجريبي المعاصر. ثالثاً: نَفْيُ علم السابقين بكون أنثى العنكبوت هي التي تنسج البيت = غيرُ سديد، فإنَّ عدم علمنا برأيهم لا يعني العدم، فلو ورد منهم إثباتُ خلافِ ذلك أو نفيُه لصحَّ ما ذكره الباحث هنا. وليُعلم أن الذين نزل عليهم الخطاب عربٌ يفهمون تعبيراته وخطاباته، فإن كان التعبير بتاء التأنيث دلالة على الأنثوية ـ كما قال الباحث ـ فذلك مما يدركه العربي بلا ريب، فهذا لسانه، وهو أدرى به، وسيفهم أن المتَّخِذَ للبيت هو الأنثى؛ لأن الله نسب إليها الاتخاذ، وكون هذه القضية لم يدركها المعاصرون إلا بالملاحظة والتجربة لا يعني أن السابقين لا يعرفونها. رابعاً: إن هذا التفسير خروج عن المتبادر للذهن، والمعروف من حال بيت العنكبوت، فهو ضعيفٌ لا محالة، وما كشفه العلم الحديث لا ¬

(¬1) مجلة آيات (ع7/ 1425هـ/ص: 26 - 27).

يغيِّر من واقع وهن بيت العنكبوت الذي يمكن إزالته بقشَّة فضلاً عن عودٍ، فأي وهن بعد هذا؟ وهذا المعنى هو الذي فهمه المفسرون، ولم يعرِّجوا على هذا المعنى الذي ذكره الباحث. خامساً: إن هذا التفسير الحادث ينبو عنه السياق، والسياق يدل على عدم إرادته، فالآية سيقت للدلالة على ضعف الكفار في اتخاذهم أولياء من دون الله، وأنهم كمثل العنكبوت الذي يعتمد على بيته الذي لا يقف أمام قشةٍ ولا هبة ريحٍ، وليس المجال مجال تشبيه بالوهن الاجتماعي الذي ذهب إليه الباحث، فما وجه الربط بينه وبين اتخاذ الأولياء من دون الله، وتخصيص الوهن بالدلالة الاجتماعية ونفي المادية تحكُّمٌ، وإنما صدر منه لأجل هذه المعلومات الحديثة عن العنكبوت. سادساً: نفي العلم في قوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] يعود إلى قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت: 41] فيكون: لو كانوا يعلمون هذا المثل المضروب لهم في أنهم اتخذوا أولياء لا يُعتمدُ عليهم. ويحتمل أن يعود إلى أوهن البيوت، ويكون المعنى: لو كانوا يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت. وعلى كلا الاحتمالين نَفَى عنهم العلم، وهذا ظاهر النصِّ، لكن قول الباحث: «وسيعلمونه بعد تقدم العلمي التطبيقي والتجريبي» فمما لا يدلُّ عليه نظم الجملة لا من قريب ولا من بعيد أبداً. وإنما قال ما قال بتأثير هذه المعلومات العنكبوتية التي ظهرت في هذا العصر، فهو قد اعتقد بهذه المعلومات، ثمَّ استدل لها.

مسألة: هل لهؤلاء المعتنين بربط الآيات بالعلوم الحديثة سلف؟ لقد فُتِنَ أقوام بالتقدم المادي في العلوم التجريبية والتطبيقية، وظهر في حياتهم المختلفة آثار هذا الافتتان، وصار بعض المسلمين أسيراً لما يصدر من الغرب؛ كأي أمة منهزمة تنظر إلى ما عند هازمها، فتزدري ما عندها من العلم، سواءً شعر هؤلاء أم لم يشعروا. ولقد فُتن جماعة من المسلمين قبل هذا العصر بعلومٍ من نتاج أقوام سابقين كعلوم اليونان، ووصل الحال بتطبيق علومهم على علوم المسلمين، وتحكيمها عليها، بل بالغ بعضهم فرأى أن الفلسفة والشريعة لا تتناقضان، وراح يحمل الشريعة على معاني الفلسفة، فكتب في ذلك (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال). وإذا تأمَّلت عمل هؤلاء وجدت أنهم رأوا علوماً لا غبار عليها في نظرهم، ونظروا في الشريعة فوجدوا أنها تتوافق مع هذه العلوم ـ في نظرهم ـ فحملوا هذه على تلك، وجعلوا المشكاة التي تصدر عنها هذه وتلك واحدةً. وإذا تأملت عملهم هذا وجدت ـ قطعاً ـ أنهم يضطرون إلى تأويل النصوص الشرعية ـ بل تحريفها بعض الأحيان ـ لتوافق ما في الفلسفة من معلومات، فالأصل عندهم العلوم الفلسفية، والشريعة تُعرض عليها ليُعرف منها ما هو موافق لها وإلاَّ أُوِّلَ ليوافق الفلسفة. وإذا تأملت ما يقوم به بعض من خاض غمار الإعجاز العلمي وجدت أن حاله كهذا الحال، فهو يدخل إلى تفسير آيات القرآن وفي ذهنه معلومات سابقة قد ملأت فكره وعقله، فيرى من النصوص ما يظن أنه يوافق ما عنده من معلومات في العلم الذي يتخصص به، فيحملها على ما عنده من هذه المعلومات، وقد يصيب في بعضها، كما قد يخطئ في بعضها الآخر.

وقد يكون الفرق بين العلمين أن الأمور التي تُدرس في العلم المعاصر يوصل فيها إلى حقائق ملموسة، قد تصل إلى حدِّ اليقين فيها، بخلاف أمور الفلسفة التي تعتمد على العقل في تقدير صحة قضاياه. ولا يخفى على الباحث أن المدرسة العقلية قديمها وحديثها تدخل في هذا الإطار، فهم يجتمع فيهم أنهم قوم اعتقدوا معاني، ثمَّ أوَّلوا النصَّ القرآني على وِفقِ ما يعتقدون. وأذكر على سبيل التذكير أن الأمر يجب أن ينطلق من الأمور الآتية: 1 - أن يكون المنطلق من القرآن الكريم إلى تقرير هذه القضايا. 2 - الأخذ بمأثور السلف في التفسير، وفهم مرادهم فيه، ومعرفة وجوه التفسير التي ذكروها. 3 - إتقان اللغة من جهة المفردات ومن جهة الأساليب، لمعرفة كيفية استنباط علاقة القضايا المذكورة في العلم التجريبي أو غيره بالآية وبتفسير السلف، إذ قد تكون القضية المستدل لها مناقضة لسياق الآية ومعناها، أو مناقضة لتفسير السلف أو مندرجة تحت قول عندهم، أو تكون محدثة لقول جديد مغاير غير مناقض. مسألة: هل يلزم أن يظهر لكل جيل معجزة قرآنية؟ من الطريف أن غلبة موضوع الإعجاز العلمي أفرزت دعوَى مفادها ما ذكره مثل الدكتور محمد حسن هيتو، قال: «والقرآن أُنزل معجزة لكل زمان وجيل ومكان، ولم يكن إعجازه قاصراً على الجيل الأول ـ كما بينا سابقاً ـ ولذلك كان لا بد لهذا الجيل المعاصر أن يجد في القرآن المعجزة، ولئن فاته الوقوف عليها عن طريق اللغة، فلن يفوته الوقوف عليها عن طريق العلوم المعاصرة.

كما أن أهل الأجيال القادمة سوف يجدون فيه الإعجاز، ولكن لا ندري كيف سيكون ذلك. ربما كان عن بعض الطرق التي نعرفها اليوم، وربما كان عن بعض الطرق التي سيعرفها إنسان المستقبل، وهي خافية علينا الآن. ولا يجوز لأي إنسان أن يمنع مثل هذا ما دام خاضعاً للضوابط العلمية السابقة التي ذكرناها من قوانين الشرع وقواعد اللغة» (¬1). وهذا الذي ذكره من كون المعجزات متعددة للقرآن، وكونها تظهر للأجيال فيه نظر من عدة وجوه: الأول: أنه غير لازمٍ تَنَوُّعُ الإعجازِ في القرآن على حسب العصور، فما زال المسلمون جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن، لم يظهر لهم وجوه إعجاز جديدة، بل بقوا على ما ذكره السابقون من وجوه الإعجاز، ولم تظهر الأنواع الحادثة ـ كالإعجاز العلمي والتاريخي والنفسي وغيرها ـ إلا في هذا العصر، فدعوى أن يظهر للقرآن في كل قرن وجيل وجه من الإعجاز دعوى لا يوافقها تاريخ المسلمين. أما دعوى أنه سيظهر له أنواع أخرى من الإعجاز تتناسب مع الأجيال القادمة، فتلك في علم الغيب، والله أعلم بغيبه. الثاني: أن التقليل من فهم المعاصرين لوجه الإعجاز الذي وقع به التحدي، وهو ما كان طريقه لغة العرب فيه تنقُّصٌ لأهل هذا العصر، فإن كان المتكلم لا يدرك ذلك، فليس يعني هذا أن غيره لا يدركه. كما أن هذه الوجوه الإعجازية التي يذكرونها لا يدركها إلا قلة من الناس، فالباحثون في ذلك العلم الذي يُدَّعى للقرآن الإعجاز فيه هم الذين يدركونه ويعرفونه تمام المعرفة، أما غيرهم، فهم يسلمون لأصحابه المتكلمين فيه، خصوصاً إذا أوتوا حسن بيان وعرض. ¬

(¬1) المعجزة القرآنية .. الإعجاز العلمي والغيبي، للدكتور محمد حسن هيتو (ص: 154).

والعجيب أنَّ بعض من تحدث عن الإعجاز العلمي تراه يقلل من وجه التحدي، وهو ما كان مرتبطاً باللغة، وهو وجه النظم والبيان، يقول الأستاذ الدكتور زغلول النجار: «... ومع تسليمنا بالإعجاز البياني للقرآن الكريم، وبأنه المجال الذي نزل كتاب الله يتحدى به العرب ـ وهم في قمة من أعلى الفصاحة والبلاغة والقدرة على البيان ـ أن يأتوا بشيء من مثله، إلا أن البيان يبقى إطاراً لمحتوى، والمحتوى أهم من الإطار» (¬1). ومقابل ذلك تراه يرفع من شأن الإعجاز العلمي، فيقول: «... ووسيلتنا في تحسين صورة الإسلام في العالم هي حسن الدعوة إليه بالكلمة الطيبة والحجة الواضحة والمنطق السوي، وخير ما نقدمه في ذلك المضمار مما يتناسب مع طبيعة العصر ولغته هو الإعجاز العلمي للقرآن الكريم؛ لأننا نعيش في زمن أدار غالبية الناس ظهورهم فيه للدين، ولم تعد قضايا الغيب المطلق من بعث بعد الموت، وعرض أكبر أمام الله الخالق، وخلود في حياة قادمة؛ إما في الجنة أبداً، وإما في النار أبداً، وغيرها من قضايا الدين؛ لم تعد تحرك فيهم ساكناً، ولكنهم في نفس الوقت فتنوا بالعلم ومعطياته فتنة كبيرة، فإذا أشرنا إلى سبق القرآن الكريم في الإشارة إلى عدد من حقائق الكون قبل أن يصل الإنسان إلى شيء منها بعشرات المئات من السنين، وهو الذي أنزل على ¬

(¬1) المفهوم العلمي للجبال في القرآن الكريم، للأستاذ الدكتور زغلول النجار (ص: 8). وهذا الكلام فيه خلل من جهتين: الأولى: أنه يمكن أن يُؤدى المحتوى بدون هذا الإطار، وهذا فيه فقدان للجانب الأكبر من التحدي الذي تحدى الله به العرب. الثانية: أن هذا الإطار لو جاء بغير هذا المحتوى لما كان معجزاً. وهذه اللوازم الفاسدة لهذا القول تجعل القائل به يتريث في إطلاق مثل هذه العبارات التي تحتمل معانٍ فاسدة.

نبي أمي صلّى الله عليه وسلّم في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين، فإن ذلك سوف يحرك عقولهم وقلوبهم، وسوف يحضهم على قراءة كتاب الله الذي ما اطلع عليه عاقل إلا وشهد أنه لا يمكن أن يكون إلا كلام الله الخالق سبحانه وتعالى ...» (¬1). وفي هذا التقليل من شأن التحدي القائم إلى يوم الدين ورفع ما يُسمَّى بالإعجاز العلمي = نظرٌ بيِّن، وهو كلام إنشائي خطابي لم يُقم عليه دليلاً علمياً موثَّقاً، فدعوى أن قضايا الغيب لم يَعد الناس يعتنون بها يُكذِّبه واقع الناس في الشرق والغرب من عنايتهم بالخرافة والسحر والتنجيم والشعوذة، كما أن دعوى أن الناس فتنوا بالعلم ومعطياته مما يكذبه واقع عموم الناس الذين يحرصون على الاستفادة من المنتجات الحضارية دون البحث عن كيفية تركيبها أو طلب تعلُّم ذلك، ولَهَثَ الناس خَلْف رغباتهم، وطلب إشباعها يدلُّ على بُعدهم عن التأثر بالعلم. بل إن الأقدر في الكلام ـ حتى ولو كان مبطلاً ـ هو الذي يستطيع إقناع الناس، وهذا ظاهر من صور حياة الناس اليوم، فهل كان العلم هو الوسيلة التي سَطَى بها الغرب علينا؟! أو كانت القوة؛ وإن خالفت العلم؟! أما ما يتعلق بإدراك البيان القرآني عند المسلمين، فإنه وإن كان في حقِّ جمهورهم ضعيفاً، إلا أنه لا يزال في أعيانهم من يدركُ ذلك الفرق البين الواضح بالعلم والتحقيق دون ذلك التذوق النفسي الذي يهجم عليها دون مقدمات فتحسُّ بشيءٍ غامضٍ لا تستطيع التعبير عنه مما تجده من روعة القرآن. كما أنَّ دعوى أن الإعجاز العلميَّ هو الكفيل بدعوة هؤلاء، فيها تزيُّدٌ ومجازفةٌ في تقدير الأمور، فإن كان الحديث عن الإعجاز العلمي ¬

(¬1) مجلة الإعجاز العلمي.

موجهاً للمسلمين، فسبيله في تقوية الإيمان، وإن كان موجَّهاً للكفار فهم ـ عندي ـ على طبقات ثلاث: الأولى: طبقة الساسة والمنظرين لهم، وهؤلاء يناصبون الإسلام العداء ظاهراً، ولا يُقرُّون به. الطبقة الثانية: طبقة الباحثين في العلوم من أعضاء هيئة التدريس وغيرهم من المفكرين والمثقفين، وواقع الدعوة بالإعجاز العلمي أنه موجَّه لهؤلاء، وما آمن منهم إلا قليل. الطبقة الثالثة: عامة الناس، وهم الأغلب في العدد، وهؤلاء ليس لهم شأن بالعلم والجدل، بل همُّهم وعنايتهم بلقمة عيشهم واتباع رغباتهم، ومن عاش في الغرب أو الشرق ظهر له ذلك، من ثمَّ، فإن تضخيم جانب العلم عند الغرب، ـ وأنهم لا يقتنعون إلا بالعلم ـ فيه نظرٌ، بل هو شرفٌ لا يدَّعونه، فكيف ننسبهم إليه، والحضارة الغربية أو الشرقية تقوم على أفراد قلائل، بل إن الغرب عنده قدرة على استقطاب الباحثين من الشرق ليرفعوا لواء حضارتهم، والموضوع في هذا يطول. ثم إنه لم يكن شأن الإسلام في دعوة الناس بهذا الأسلوب، ولا أراه مما تقوم به الدعوة، فهل المقصود بيان الحقِّ الذي في الإسلام فقط؟! إن كثيراً من المعرضين عنه اليوم، بل كبار محاربيه يعلمون بأنه حقٌّ، ويصدق فيهم قول الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]. ومقام الإعجاز في الدعوة إلى الله مما يحتاج إلى بحث وتقويم نقدي غير مندفع بالعواطف الجياشة التي قد تغلب على طبيعة البحث العلمي، فتخرج نتائجه مرضية للعواطف لا للعلم الحقِّ.

مسألة: أنواع التفاسير المرتبطة بالعلوم التجريبية: إن النظر في علاقة قضايا الإعجاز العلمي بالتفسير مهمة جدّاً، وهي تعطي صورة واضحة للقرب أو البُعد الدلالي من الآية، ويمكن تقسيم الآيات التي تعرَّضوا لها إلى قسمين: القسم الأول: آيات معانيها ظاهرة لا تحتاج إلى تفسير. القسم الثاني: آيات تحتاج معانيها إلى تفسير، سواءً أكانت ألفاظها مما هو معروف الدلالة، أم كان مما هو غامض الدلالة. أما في القسم الأول، فإن الأمر لا يعدو أن يكون بيان المعتني بإظهار الإعجاز أنه وصل إلى هذه الحقيقة الكونية التي تحدثت عنها الحقيقة القرآنية، فيلتقي في هذا كلام المتكلم عما خلقه، هذا منتهى الأمر، ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74]. في مقالة بعنوان (الحجارة بين الوصف القرآني والتصنيف الميكانيكي) كتب الجيولوجي محمد بن جابر محمود كلاماً حول هذه الآية، واختصرت منه آخر كلامه، وهو التعليق على هذه الآية ـ مع ما فيه من طول ـ إلا أن المقام يقتضيه، قال: «النواحي العلمية الإعجازية في القرآن الكريم: عندما ذكر الله تعالى في الآية السابقة قسوة قلوب بني إسرائيل شبَّهها بإحدى الأشياء المحسوسة لدى البشر وهي الحجارة، ثم في إشارة لكون قلوبهم أقسى من الحجارة ذكر أن الحجارة تتفاوت في قسوتها ليعلم أن قلوبهم أقسى من أقسى الحجارة. ثم برزت بعض النواحي الإعجازية عند الحديث عن هذه الأشياء المحسوسة لتكون ذات

دلالة على السبق القرآني لهذه الظاهرة العلمية لمن يتفكر ويبحث فيها من المتقدمين والمتأخرين. وقد أتت هذه النواحي الإعجازية مجملة غير مفصَّلة لتبقي مجال التفكير مفتوحاً وفرص اكتشاف الحقيقة متساوية لجميع من أنزل إليهم هذا القرآن من الأولين والآخرين. الناحية الإعجازية الأولى: في هذه الآية: تتمثل في أنه عند ذكر قسوة الحجارة ذكر معها أحد الظروف التي لها تأثير كبير على التغير في هذه القسوة وهو وجود الماء والمقدار النسبي لضغطه داخل الحجارة ونفاذية الحجر. يذكر إدقر دبليو سبنسر (Edgar W. Spencer) في كتابه (مدخل إلى تركيب الأرض): (أنه كلما زاد ضغط الماء داخل الحجارة فإنها تكون أضعف وأكثر قابلية للتكسر (Brittle) ، ويشترط سبنسر لهذا التأثير (أن تكون الحجارة ذات نفاذية كبيرة نسبيّاً بحيث تسمح بتوزيع متماثل للضغط في الأجزاء المختلفة من الحجارة)، وهذا الشرط يعني أن يكون الحجر قابلاً لأن ينفذ الماء خلاله أو منه بسهولة بحيث يمكن أن يمر خلال الحجر أو يتدفق منه معدلات كبيرة نسبيّاً من الماء. فإذاً هنا ربط بين ضغط الماء ـ الحاصل من كميات الماء التي من الممكن أن تتدفق من الحجر ـ وقابلية الحجر للتكسر، وهذه الحقيقة التي دُرست وحُققت في المختبرات قد أثبتها القرآن الكريم ملخصة في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} [البقرة: 74] ففي لفظة {يَتَفَجَّرُ} إشارة إلى أمرين: الأول: هو وجود الماء تحت ضغط عالٍ داخل الحجر. والثاني: هو تعرض الحجر للتكسر وليس للتشقق، وذلك بسبب هذا الضغط العالي، حيث إن كلمة التفجر بالنسبة للتحجر تعني التفكك القوي المفاجئ، أما (لفظة الأنهار) فتدل على غزارة المياه التي تخرج من هذا النوع من الحجر، وبالتالي إلى النفاذية الكبيرة لذلك الحجر،

وهذه الناحية الإعجازية فيها تبيين العلاقة الوثيقة بين قابلية الحجر للتكسّر والضغط العالي للماء في داخل الحجر وكذلك نفاذية الحجر. الناحية الإعجازية الثانية: هي في الوصف الدقيق للنوع الثاني من الحجارة في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [البقرة: 74] هذا الوصف مبني على أن تفاوت الحجارة في قسوتها إنما هو مرتبط بعوامل أخرى غير التركيب الكيمائي للحجارة، وفي هذه الحالة هناك ربط لقسوة الحجارة بالضغط القليل للماء الموجود في المسامات بين الحبيبات المكونة للحجارة. يذكر (إدقر دبليو سبنسر) وصف هذا الربط بأنه تحت ظروف الضغط القليل للماء داخل الحجارة فإن قوة الاحتكاك بين الحبيبات الصغيرة التي تتكون منها الحجارة تكون قليلة جدّاً فتبدأ الحجارة بالتشقق تدريجيّاً في المواضع التي يكون فيها ارتباط الحبيبات ببعضها ضعيفاً فتنفصل الحبيبات وتتباعد عن بعضها البعض دون أن تتكسر الحبيبات نفسها، ومع هذا التشقق تحدث زيادة دائمة في حجم الحجارة مما يجعلها في هذه الحالة من النوع اللدائني (Ductile Rock) ، ويتدفق الماء من خلال التشققات بشكل غير عنيف لأن ضغط الماء داخل الحجارة ليس قوياً، ويكون هذا التدفق بكميات قليلة نسبياً لكون الشقوق ليست كبيرة. وهذا الوصف العلمي لقسوة الحجارة وعلاقتها بالمقادير النسبية لضغط الماء ومعدل تدفقه من الحجارة قد أورده الله تعالى بشكل دقيق في بضع كلمات في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} فيبدأ بقوله {وَإِنَّ مِنْهَا} أي: وإن من الحجارة نوع آخر في قسوته غير النوع الذي ذكر في الجزء الأول من الآية، {لَمَا يَشَّقَّقُ} أي: لما يتصدع أو يتكون فيه شقوق، وصيغة يشقق هنا فيها دلالة على المطاوعة؛ أي: أن الحجارة شققت بسبب ضغط الماء فتشقق استجابة لهذا الضغط {فَيَخْرُجُ} أي: يسيل ويتدفق من غير اندفاع لأن كلمة يخرج في هذا الجزء من الآية ذكرت في مقابلة {يَتَفَجَّرُ} [البقرة: 74] في الجزء

السابق من الآية والتي تدل على الاندفاع بقوة، ثم قوله {الْمَاءُ} [البقرة: 74] للدلالة على أن الماء الذي يخرج من هذا النوع من الصخر إنما يكون بكميات قليلة، وهذا يأتي من كون كلمة {الْمَاءُ} أتت في مقابلة كلمة {الأَنْهَارُ} [البقرة: 74] في الجزء السابق من الآية، والأنهار جمع نهر وهو اسم دال على هيئة معينة من الماء الكثير. الناحية الإعجازية الثالثة: وهي ناحية علمية وفيها لمحة إعجازية لغوية في نفس الوقت تتجلى هذه الناحية الإعجازية في قوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} [البقرة: 74] وفي قوله: {وَإِنَّ مِنْهَا} [البقرة: 74]، حيث يدل اللفظ في هذين المقطعين من الآية على التبعيض؛ أي: أن هذين النوعين من الحجارة هما على سبيل المثال لا الحصر. ومن ذلك يمكن الاستنباط أن الحجارة قد تكون أنواعاً كثيرة من حيث قسوتها باعتبار الظروف المختلفة التي تكون فيها الحجارة عندما تتعرض للإجهاد وغيرها. واستكمالاً للتدبر في الآية نلاحظ أن الجزء المتبقي من الآية هو قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] يتحدث عن نوع آخر من الحجارة يهبط من خشية الله، وقد ذكر كثير من المفسرين أن معنى {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} أي: يتردى من أعلى الجبل، كما ورد عند بعضهم أن الهبوط مجاز على الخشوع منها والتواضع الكائن فيها انقياداً لله عزّ وجل. قلت والله أعلم: المراد بالهبوط رغم أن ظاهر المعنى لا يدل على علاقته بقسوة الحجارة من الناحية الميكانيكية إلا أنها تنفعل من خشية الله بالهبوط كما تنفعل الحجارة الأخرى لما تتعرض له من ضغط الماء سواء كان الضغط قليلاً أو كثيراً. ولعل العلم يكشف يوماً ما عن المعنى المراد بالهبوط في هذه الآية إن لم يكن مجازيّاً» (¬1). ¬

(¬1) الإعجاز العلمي (مجلة تصدر عن هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسُّنَّة ـ رابطة العالم الإسلامي ـ العدد السابع/جمادى الأولى: 1421هـ).

ويمكن القول بعد هذا النقل الذي لا بدَّ منه ـ مع طوله ـ أنَّ ما قدَّمه الباحث لا يعدو التنبيه على وجود هذه الأنواع من الحجارة في الأرض، فوافق الخُبر الخَبر، وذلك أمر لا محالة منه لأن خالق الحقيقة الكونية هو قائل الحقيقة القرآنية، فلا يمكن أن يتخلف خبره عن خلقِه. ولعلك تلاحظ أن الوصول إلى ما قرَّره القرآن بعبارة موجزة سهلة من أمر هذه الحقيقة = استغرق أبحاثاً حتى وصلوا إليها. كما أنَّ الباحث لم يُجنِّب نفسه ما نهى عنه منظِّرو الإعجاز من البعد عن المجاز والقول به، فذهب إلى ما لم يدركه من هبوط بعض الحجارة إلى احتمال المجاز، وذلك التخريج فيه نظر، فهو قد وصل إلى إدراك الحقيقة في التمثيل بالحجارة من النوعين الأولين، فهلاَّ سلَّم الأمر لله، وترك احتمال المجاز، فقد يصل غيره فيما بعد إلى ما لم يصل له، وإن لم يصل فليس علينا أن نعدو ظاهر القرآن إلى القول بالمجاز لأجل شبهة عارضة، ونحن نعلم أن الله قادر على كل شيء، وقد قال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]. وأما القسم الثاني، وهو الآيات التي تحتاج معانيها إلى تفسير، فمن أمثلته ما ورد في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]. وهذه الآية للسلف فيها قولان: الأول: وإنا لقادرون، مأخوذ من الوُسْعِ، وهو القدرة والطاقة. الثاني: جاعلوها ذات سعة، فهو من السَّعةِ والانفساح. وهذا على حكاية حالها بعد خلقها، وأنها خُلِقت واسعة فسيحة. وجاء في علم الفلك ما يدل على أنَّ الكون يتمدد، وبنى عليه بعضهم أنَّ هذا التمدد الذي توصل إليه علماء الفلك هو المقصود بقوله:

{وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 74]، وفي حمل الآية على هذا الكشف إشكال. وهذا المعنى المذكور فيه زيادة في التفسير من جهة المعنى، فصار في الآية ثلاثة معانٍ. وقد يقع التفسير المعاصر في تحديد مبهم خلاف ما حدَّده السلف، والأمر المذكور عند السلف وعند المعاصرين يدخل في معنى هذا الإجمال المحتمل، وذلك في مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]، والمقصود بذلك الأمر المجمل هو: ما المسلوب الذي لا يُمكنهم أن يستنقذوه من الذباب؟ فالسلف يقولون بأن الذباب يقع على الطعام أو الطيب الموضوع للآلهة، ولا تستطيع هذه الآلهة أو من يعبدها أن تسترجع منه ما يعلق بأطراف الذباب، لضآلة ما يأخذه من هذا الطعام أو الطيب، فلا هم يستطيعون ردَّه ولا آلهتهم تستطيع ذلك، وهذا المعنى حقٌّ بلا ريب. وقد ورد في الإعجاز العلمي ما يأتي: «إن الله سبحانه ضرب لنا مثلاً أن الذين تعبدون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإذا سلبهم الذباب شيئاً، لا يستطيعون أن يسترجعونه منه، ولقد أثبت العلم الحديث الإعجاز العلمي لهذه الآية، فلو وقف الذباب على قطعة بطيخ مثلاً يبدأ في إفرازاته التي تمكنه من امتصاص أو لعق المواد الكربوهيدراتية وغيرها مما تحتويه البطيخة وعندئذ تبدأ هذه المواد بالتحلل إلى مواد بسيطة التركيب، وذلك من أجل امتصاصها، فالذباب لا يملك جهاز هضمي معقد لذلك يلجئ إلى الهضم الخارجي وذلك من خلال إفراز عصارات هاضمة على المادة المراد التغذية عليها، ثم تدخل هذه المواد المهضومة خارج الجسم إلى الأنبوب الهضمي حتى يتم

امتصاصها لتسير في الدورة الدموية إلى خلاياه ويتحول جزء منها إلى طاقة تمكنه من الطيران وجزء آخر إلى خلايا وأنسجة ومكونات عضوية وجزء أخير إلى مخلفات يتخلص منها جسم الذباب، فأين قطعة البطيخ؟ وما السبيل إلى استرجاعها، ومن يستطيع أن يجمع الأجزاء التي تبدو في طاقة طيران الذباب والأجزاء التي تحولت إلى أنسجة» (¬1). وإذا كانت هذه المعلومة حقيقة ثابتة، فهي وجه آخر من وجوه ما يسلبه الذباب ولا يستطيعون ردَّه، وليس هذا الوجه هو المقدَّم في التفسير، فالأولى في التفسير ما يدركه الناس بما يعرفونه من واقعهم اليومي، أما هذا الذي اكتُشِف حديثاً، فهو مما لا يُدرك إلا بالمعامل والمختبرات، وليس لنا ـ عموم الناس ـ إلا التصديق بصحة تلك الدراسات، أما وقوع الذباب وأخذه من الطعام فالمرء يشاهده في أحيانٍ كثيرة. وقد يكون التفسير المبني على العلوم التجريبية والكونية مقوٍّ لما ورد عن السلف، فالسلف ذهبوا إلى معنى في تفسير قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4]، فقد ورد في التفسير عنهم قولان: الأول: أن نجعل يده مستوية بلا تفاريق في الأصابع كخفِّ البعير، وهذا قول جمهور السلف. وهذا يجعل الفائدة من الأصابع في القبض والبسط والإمساك منعدمة، فلا يكون لها فائدة إذا كانت مجتمعة. ووجه هذا التوعُّد: إنَّا قادرين على أن نجمع عظامه بعد موته كقدرتنا في هذه الدنيا على تسوية بنانه كخف البعير، هذا توجيه هذا القول. ¬

(¬1) آيات قرآنية في مشكاة العلم، يحيى المجري، نقلاً عن موقع: (http://www.55a.net/105.htm#_ftn1)

الثاني: نعيد أطراف أصابعه كما كانت بعد أن تبلى ويبلى جسده كله. وفي هذا إشارة إلى قدرة الله على إعادة ما هو دقيق لطيف من جسم الإنسان، وكأن المعنى: بلى إنا قادرين على جمع ما هو أدقُّ من العظام، وهي تلك الأطراف اللطيفة. وقد جاء في العلم المعاصر ما يفيد بعلمٍ خاصٍّ بالبنان، وهو ما يسمى بالبصمة، ووجدوا أنَّ كل إنسانٍ له بصمة تخصُّه لا يمكن أن يشاركه فيها أحدٌ، وحملوا سبب ذكر البنان على هذا المعنى الذي ذكروه. وإذا تأمَّلت هذا القول، والقول الذي قبله لا تجدُ بينهما اختلافاً، فالأولون نظروا ـ بما وصلهم من علم ـ إلى ما في البنان من دقة ولطافة وحسن تفاريق، فحملوا سبب ذكرها على هذا المعنى. والمعاصرون زاد عندهم تفصيل أدقُّ في البنان، فذكروه، ولا يعني هذا أنَّ ما ذكره الأولون غير صحيح، لكن ما قاله السلف له وجه صحيح، وما ذكره المعاصرون قولٌ محتملٌ، والله أعلم. مسألة: هل يلزم تجهيل السلف بما في القرآن من هذه الوجوه الجديدة؟ إن المجال لا يتسع لمقدمة لا بدَّ منها، فأكتفي بالإشارة إليها، وهي منْزلة علم السلف وتفسيره، وقيمته بالنسبة لتفسيرات المتأخرين، وتلك قضية مهمة غفل عنها كثيرٌ ممن دخل في الإعجاز العلمي، ففرح بما أوتي من العلم، وظنَّ ـ جهلاً منه ـ أنَّ تفسيرات السلف تفسيرات ساذجة، وليس فيها قيمة علمية، وتلك بلية بلا ريب. وأقول: إنَّ المقام الذي يجب علينا أن نقومه أمام تفسير السلف يتمثَّل في أمور:

الأول: معرفة ما منَّ الله عليهم به من التقدم في الإسلام، والإحاطة بعلم الشريعة، والإدراك لمعاني كلام الله مما نحتاج ـ نحن المتأخرين ـ إلى أن ندرك مرامي تفسيراتهم، ودقة أقوالهم في ذلك. الثاني: أن نفهم كلام السلف ونعرفه، لكي لا نتعجَّل في ردِّه. الثالث: أن نبني عليه ولا ننقضه. الرابع: أن نعلم أن اختلافهم ـ في الغالب ـ اختلاف تنوع، وقد يكون راجعاً إلى قولٍ، وقد يكون راجعاً إلى قولين أو أكثر. فإن كان راجعاً إلى قولٍ، فقد يكون القول المعاصر داخلاً في أحد أقوالهم، وقد يكون معنًى جديداً. فإن كان معنًى جديداً فضابط قبوله أن لا ينقض قولهم، ويردَّه. وإن كان راجعاً إلى أكثر من قولٍ، فإما أن نختار من أقوالهم، وإما أن نأتي برأي جديد يكون مع أقوالهم على سبيل التنوع لا المناقضة. وهذا المقام، فيه سعة في اختيار قول والإعراض عن الأقوال الأخرى، لكن لا يكون الاختيار والترك إلا بعلم؛ لأنه قد يكون المتروك هو القول الصحيح. الخامس: أنَّ عدم قولهم بهذا مبني على مسألة مهمة، وهي التفريق بين أمرين: الأمر الأول: أنه لا يوجد في القرآن ما لم يعرف له السلف معنى صحيحاً، وهذا يعني أنهم ـ بجمهورهم ـ فسروا القرآن كله، ولم يفت عليهم شيءٌ من معانيه. الأمر الثاني: أنَّ للقرآن وجوهاً غير التي ذكرها السلف، وأنه يجوز تفسير القرآن بالوجوه الصحيحة التي تحتملها الآية، وهذا يعني أنه قد يرد عند المتأخرين من وجوه القرآن ما لم تكن دواعيه موجودة عند السلف،

فيفسره المعاصرون على ما ظهر عندهم من الدواعي، ويكون تفسيرهم مقبولاً إذا كان جارياً على أصول التفسير الصحيحة. وهذه المسألة من الأهمية بمكان، وأكتفي هنا لضيق المقام بدليل واحد فقط، وهو أنَّ بعض السلف نزَّل بعض الآيات على أقوام ممن جاءوا بعد التَّنْزيل، مع أن الآيات نزلت في أناس معاصرين له، ولم يُنكر ذلك من صنيعهم، وهذا الذي يعمل به المعاصرون من هذا الباب، والله أعلم. ومن أمثلة ما ورد عنهم: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمُ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5]. قال الطبري: «وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} يقول: فلما عدلوا وجاروا عن قصد السبيل {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} يقول: أمال الله قلوبهم عنه. وقد حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوَّام، قال: ثنا أبو غالب عن أبي أمامة في قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} قال: هم الخوارج». وإذا فُهِمت هذه المسألة ظهر أنه لا داعي للتهييج بكون السلف لا يعرفون هذه الوجوه، وإنما يكون ذلك لو أن السلف عرفوا هذه الوجوه واستنكروها، والمقام في مثل هذا الحال أن يُوقف عند ما استنكروه، ولا يُقال به. أما المقام هنا، فإنه من باب حدوث أمر جديد يحتمل تنزيل الآية عليه، وإدخاله في معناها، وهذا يحتاج إلى ضوابط يُضبط بها ما يمكن قَبوله وما لا يمكن قَبوله من هذه الأقوال الحادثة.

مسألة: في ضوابط قبول التفسيرات المبنية على العلوم الكونية والتجريبية: بعد هذا المطاف في هذا المقال أقف عند نقطته الأخيرة، وهي ضوابط قبول التفسيرات المبنية على هذه العلوم المعاصرة، فأقول: إنَّ من المهم جدّاً لدارس علم التفسير أن يعرف الصحيح من الضعيف في التفسير، ولا يمكنه ذلك إلا إذا كانت هناك ضوابط وقواعد واضحة يعمل بها. وقد اطلعت على ما كتبه بعض المعتنين بالإعجاز من الضوابط فألفيتها تحتاج إلى ضبط وتدقيق، وأنَّ هناك ضوابط لم تُذكر، وإليك ما ظهر لي مما أراه في ضوابط قبول هذه التفسيرات: أولاً: أن تكون القضية المفسَّرُ بها صحيحةً في ذاتها، فإن كانت باطلة فلا يصحُّ أن يُحمل القرآن عليها: وتظهر صحتها من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: صحتها من جهة الوقوع. الوجه الثاني: دلالة اللغة عليها. الوجه الثالث: عدم مناقضتها للشرع. أما الوجه الأول: فلا يمكن أن يدركه إلا المتخصص بتلك الواقعة من فلكي أو طبيب، أو جيولوجي، أو غيرهم؛ كلٌّ في تخصصه. وما ذلك إلا لأنَّ العالم بالتفسير، أو بالشريعة لم يدرس هذه العلوم ليدرك صحة الواقعة من خلافها، لذا فإنه يعتمد على ما يذكره العالم بتلك الواقعة ثقةً به في علمه، فإذا أخبر الطبيب عن الظلمات الثلاث بحسب ما وصل إليه علم الطب الآن، فإنه لا سبيل للمفسر إلى إنكار ذلك، بل شأنه التصديق ثقة بالمخبر عن ذلك.

أما الوجه الثاني والثالث: فإن المفسر أقدر فيهما من العالم بالواقعة الكونية أو التجريبية، ويمكنه معرفة صحة دلالة اللغة على تلك الواقعة، أو عدم مناقضتها للشرع، وأضرب على ذلك مثالين موجزين لضيق المقام: الأول: من فسَّر الذرة في مثل قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. بأنها الذرَّة الإلكترونية، وذلك غير معروف في لغة العرب، فلا يصح التفسير بها. الثاني: من فسَّر قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14] بأنها الأطوار الداروينية في نظرية النشوء والارتقاء، وتلك النظرية مصادمة للشرع، وهي باطلة مردودة. ثانياً: أن لا تناقض قول السلف (الصحابة والتابعين وأتباعهم): وقد مضت الإشارة إلى تفصيل القول في ذلك، وأنَّ المناقضة إنما تكون في ردِّ ما اتفقوا عليه، أو ردِّ جميع تفسيراتهم؛ لأنَّ من لوازم ذلك أن يكون في القرآن شيء من معانيه جهِله المسلمون منذ عهد الصحابة إلى وقت ظهورِ هذه القضية العلمية، واكتشافِ وجه ارتباطها بمعنى الآية، وهذا لازم باطل بلا ريب، والقول بجهل السابقين بمعنى الآية مطلقاً يدل على وجود خلل في تنظير القضية. والصواب في ذلك: أن يُقبل ما قاله السلف، ويضاف إلى أقوالهم ما تحتمله الآية من المعاني الصحيحة التي يحتملها السياق. ثالثاً: أن تحتمل الآية القضية المفسَّر بها: إن الملاحظ أنَّ من يتوجه إلى بيان القرآن بالمكتشفات المعاصرة يحرص على ربط بعض تلك المكتشَفات بالقرآن، ويقع الخلل عنده في الربط.

فقد تكون القضية التي ثبتت في المكتشفات صحيحة لا ريب فيها، ولكن الآية لها دلالة عند السلف لا توافق تلك القضية المكتشفة، فيأتي من يعتني بهذا الأسلوب، فيجعل الآية تدلُّ على ما ثبت في الاكتشاف المعاصر، وقد تكون الآية لا تدلُّ عليه، فهل يدلُّ قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] على ما اكتُشِف حديثاً من أنَّ الإنسان إذا صعد في طبقات الجو العليا يضيق تنفسه بسبب قِلَّة الأكسجين؟ ذلك ما يحتاج إلى تحرير، لأنَّ القضية التي اكتُشِفت قضية كونية صحيحة، والآية لها دلالة، فهل من دلالاتها هذه القضية؟ وأقول: إنَّ كثيراً من القضايا التي رُبِطت بالقرآن تكون قد ثبتت علميّاً، لكن الأمر هنا في صحة دلالة القرآن عليها، والله أعلم. والنتيجة في مثل هذه: أن تكون القضية المكتشفة صحيحة، ولا تناقض تفسير السلف، لكن الآية لا تحتملها ولا تدل عليها. وهذه المسألة ـ وهي صحة دلالة الآية على المكتشفات العلمية ـ هي محور الخلاف، ومحل النِّزاع الذي يحتاج إلى تحرير؛ إذ الأقوال الباطلة المبنية على علم باطل لا يدلُّ عليها القرآن قطعاً. رابعاً: أن لا يُقصر معنى الآية على هذا التفسير المعاصر: هذا الضابط يتداخل مع الضابط الثاني، وهو أن لا يناقض قول السلف، وإنما أُفردَ للتنبيه على أنه قد يُفهم من عرض المكتشفات العلمية دون الأقوال الأخرى المحتملة؛ أن الآية لا تدلُّ إلا على هذا التفسير الحادث دون ما سواه، وعلى هذا فهو ضابطٌ احترازيٌّ يحسن بمن يتعرَّض للتفسير أن يتنبَّه له، وأن يذكر ـ ولو على سبيل الإجمال دون

التفصيل ـ أن في الآية أقوالاً أخرى صحيحة، حتى يزول عند السامع احتمال أن التفسير المعاصر هو المراد دون غيره. وبعد: فإنني لا زلت أدعو إلى التؤدة والتريُّث في إثبات كون القرآن دلَّ على هذه المكتشفات المعاصرة، لأنه يُبنى على ذلك أمورٌ هي من الأهمية بمكان، ومنها: 1 - القول على الله بأنَّ هذه القضية المكتشفة أحد مراداته في كلامه، وإذا كان هذا القول بلا علم، فإنه من المحرمات التي ذكرها الله في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} 2 - الاعتماد على ربط هذه القضية في إثبات صحة الرسالة، مع أن صحتها تثبت بما هو دون ذلك. 3 - أنَّ كثرة الاستدلال بهذه القضايا على صحة الرسالة تجعل الإسلام ديناً عقليّاً بحتاً، فالداخل فيه لا يمكن أن يقتنع به إلا بهذا الأسلوب، وذلك مخالف لطبيعة الإسلام، فكثيرٌ ممن ربطوا الإسلام بهذا العقل دون العقل الفطري وقعوا في الضلال؛ ككثير من المتكلمين والفلاسفة الذين عاشوا في ظل الإسلام؛ كابن سينا وابن رشد وغيرهم. 4 - أنه مما لا يخفى على الباحثين في الأمور الكونية والتجريبية أن العلم البشري ناقص، وأنه يتطور مرة بعد مرة، ولا يأمنون أنَّ ما يعدونه اليوم حقيقة يكون غدّاً تاريخاً علميّاً لقضية أخرى، ولا يكون الفهم السابق هو الصواب. والدعوى بأنه لا يُفسَّر القرآن إلا بما ثبت يقيناً دعوى فقط، والواقع الذي يمارسه من يربط القرآن بالمكتشفات المعاصرة يخالفه، فما

إن تظهر قضية يحس الباحث أن القرآن دلَّ عليها إلا وانصرف ذهنه من حيث لا يشعر إلى إثبات الربط بينها وبين القرآن، وقد مضى التعليق على قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16]. وأخيراً، فإن بعض من يستسلم لهذه الحقائق المذكورة في القرآن أو السُّنَّة، يأخذها بنظره العلمي التجريبي، ولا يدرك حقيقة الوحي، وأنَّ هذا القرآن من عند الله، فبينه وبين ذلك حجاب مستور، والله أعلم. ومن ثمَّ، فإن العناية بالأمر الأول ـ وهو البحث التجريبي والنظر في هذا الكون والتدبر فيه ـ يجب أن تكون أكبر وأكثر من العناية بالأمر الثاني ـ وهو ما يسمى بالإعجاز العلمي ـ لوجهين: الوجه الأول: أنه هو المجال الوحيد الذي سبقنا فيه أعداؤنا، ولا بد لنا من منافستهم في ذلك، والسعي للتقدم عليهم فيه. الوجه الثاني: أنه عندما يقوم الباحثون المسلمون بتلك البحوث نضمن أنهم لن يصلوا إلى نتائج خاطئة مخالفة للكتاب والسُّنَّة، بل إنهم سوف يعيدون النظر في بعض النتائج المخالفة للكتاب والسُّنَّة التي وصل إليها البحث الغربي الكافر. وإذا بقي همُّنا منصبّاً على العناية بما يسمى بالإعجاز العلمي لإثبات صحة هذا الدين لأولئك الذين لا يؤمنون إلا بالحقائق المادية، فإننا سنبقى عالة على الغرب ننتظر منه كل جديد في العلوم، ثمَّ نبحث ما يوافقه في شرعنا، ولا يخفاك ما دخل علينا من هذه العلوم مما هو مخالف لشرعنا، وما ذاك إلا بسبب أنَّ موقفنا نحن المسلمين موقف التلميذ الضعيف المتلقي الذي يشعر أنه لا شيء عنده يمكن أن يقدمه. والبحث العلمي بلا قوة تحميه لا يمكن أن ينفعل في الواقع، لذا لا بدَّ من أن يواكب العلم قوةٌ تكون في الأمة كي تدعم هذا العلم

وتحافظ عليه، وإلا صار ما تراه من هجرة العلماءِ عن ديار المسلمين إلى ديار الغرب الكافرة. وأختم هذه المقالة فأقول: إنَّ في الموضوع قضايا كثيرة تحتاج إلى تجلية وإيضاح، ولولا ضيق المقام لأشرت إليها، وإني أسأل الله أن يوفقني ويعينني على الكتابة فيه على منهجٍ عدل وسط لا شطط فيه. * * *

المقالة الثالثة الإعجاز العلمي

المقالة الثالثة: الإعجاز العلمي

المقالة الثالثة الإعجاز العلمي الحديث عن الإعجاز القرآني ـ فضلاً عما يُسمَّى بالإعجاز العلمي ـ ذو شجون. لكن مما يحسن التنبيه عليه في بدء هذا الموضوع أن يعلم أن أهل التفسير ليسوا ضد المخترعات الحديثة والعلم التجريبي، ولكن الإشكالية بينهم وبين المعتنين بالإعجاز في الربط بين هذه المخترعات والمكتشفات وبين النصوص القرآنية، وطريقة ذلك، فهذا الربط فيه محاذير، من أهمها: أن ما يتوصل إليه الباحثون عُرضة للنقض في حالة اكتشاف ما يناقضه، ولا يمكن لأحد من البشر أن يدَّعي العصمة لأحد من الناس إلا مَن عصمه الله. لا سيما وأن كثيراً من المكتشفات التي تذكر في الإعجاز العلمي هي أمور غير محسوسة، وإنما هي مبنية على استنتاجات ودراسات الله أعلم بصحتها، إذ لا زالت الدراسات إلى اليوم تنقض ما كان يقال بأنه حقيقة لا رجعة فيه، وذلك معروف وواضح من قصور العلم البشري الذي يتطور شيئاً فشيئاً. ولا يفهم من هذا أنني أدعو إلى عدم دراسة هذه الأمور المفيدة للناس في حياتهم الدنيا وإنما التحفظ على ربطها بالنصوص الشرعية والطريقة المتبعة في ذلك. لكن لما كان الحديث منصبّاً على مسألة الإعجاز العلمي، فإني

سأطرح بعض القضايا المتعلقة به على سبيل الاختصار، فأقول: 1 - إن الأصل أن تتفق الحقيقة الكونية مع النص القرآني لأن مصدرهما واحد، ولا يقع الاختلاف إلا في نظر الناظر، فقد يكون النقص في علمه، إما من جهة الحقيقة الكونية وإما من جهة الحقيقة القرآنية، وفي كلا الحالين لا يمس هذا النقص قدسية القرآن؛ لأن التفسير شيء، وثبوت النص القرآني كلاماً لله شيء آخر. 2 - إن قُصارى الأمر في صحة دلالة النص القرآني على الحقيقة الكونية أنها دليل على صدق القرآن، وبهذا يكون مجال الإعجاز العلمي ومآله إلى هذا، وهو ـ في هذه الحيثية ـ لا يختلف عن الدلائل الأخرى التي تدلُّ على صدق القرآن أو النبوة. فإذا ثبتت الموافقة قلنا: هذا دليل صدق القرآن وأنه جاء من عند الله وليس من قول البشر، وإذا صحَّت هذه الدعوى طالبنا الناس بالإيمان بها، لكن لا يلزم أنهم سيصدقون، فممن شهِد تنَزُّل القرآن على الرسول صلّى الله عليه وسلّم كفر به، فما بالك بمن جاء بعده. ومما يحسن التنبيه عليه هنا أن دلائل صدق القرآن لا يمكن أن تحصر، فكل آية من آياته دليل على صدقه، فالجهل بالاستدلال بها اليوم من قِبَلِ بعض الناس لا يعني عدم وجودها، أو أنها لا توجد إلا في الإعجاز العلمي. كما أن مما يحسن ملاحظته هنا أن ما يسمى بالإعجاز العلمي ليس مختصّاً بالقرآن وحده بل هو مخصوص بكلام الله سواءً أكان نازلاً على إبراهيم أم على موسى أم على محمد صلوات الله وسلامه عليهم؛ لأن كلامه لا يتغير ولا يتبدل، فلا يمكن أن تجد في كتابٍ من كتبه أن السموات ستٌّ أو ثماني سموات، مع ملاحظة أن غير القرآن قد دخله التحريف والنقص، فقد لا يوجد فيه ما يوافق القرآن في بعض هذه القضايا بسبب التحريف، والله أعلم.

3 - لا شكَّ أن الدعوة بالإعجاز العلمي هي أحد طرق الدعوة، وليس هو طريقها الوحيد في هذا العصر، بل ليس هو أنجعها وأنفعها، وكون بعضهم يزعم أن الإعجاز العلمي أهم الأسباب التي سوف تنقذ هذه الأمة من تخلفها وعجزها غير دقيق، بل إن الرجوع إلى كتاب ربنا والعمل بما فيه من الآيات التي تدعونا إلى عمارة الأرض والجد والاجتهاد فيما يعود على الإنسان وأمته والناس بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة هو الطريق الأمثل في هذا الموضوع. وأيضاً، فإن طلب قيادة البشرية لا يكفي فيه العلم وحده، بل لا بد له من قوة تحميه، فإذا وُجِد العلم ولم توجد له قوة تحميه فإنه يهاجر إلى هذه القوة؛ كما هو الحال في هجرة كثير من علماء المسلمين وغيرهم إلى الدول التي تحميهم في كل المجالات. ومما يحسن التنبه له في مجال بيان الحق للناس ودعوتهم إليه بالإعجاز العلمي= أن تصديق القرآن مرتبط بالاستعداد النفسي والتجرد للحق، فكم من العلماء الغربيين قد سمعوا ما يذكره الباحثون في الإعجاز ومع ذلك لم يُسْلِموا ولم تهتزَّ لهم شعرة. 4 - إن بعض المعتنين بالإعجاز دخلوا في هذا المجال بسبب ردود الفعل؛ إما بما رأوا من تنقص بعض الملحدين للمسلمين ودينهم، وإما بسبب ما يَرَونَه من الهجمة الشرسة على الإسلام والدعوى بأنه دين جامد يحارب العلم، ولقد كان لرَدَّةِ الفعل هذه أثرٌ في طريقة تفكيرهم وتناولهم لتفسير الآيات تفسيراً يتناسب مع ما أُوتوه من علم بشري تجريبي أو كوني. ولقد بلغ الحدُّ ببعضهم أن أعطى هذا الموضوع أكبر من حجمه حتى أصبح يدعو إلى وضع مادة مستقلة للإعجاز العلمي تدرس في المدارس لعامة الطلاب، وأن تخصص في الجامعات أقسام خاصة له،

بل وصل الأمر ببعضهم إلى انتقاص علماء الشريعة الذين لا معرفة لهم بالإعجاز العلمي. ولو أن هذه العناية التي يدعو إليها هؤلاء صُرِفت إلى فهم كتاب الله وما فيه من حِكَمٍ ومقاصد أُنزل من أجلها، لكان في ذلك من الخير والنتائج أضعاف ما يحصل من العناية بالإعجاز العلمي. 5 - إن الله قد بيَّن لنا المقاصد والغايات التي أنزل القرآن من أجلها، وقد بين لنا سبحانه الدلائل الواضحة والبينة على صدق هذا الكتاب وصدق هذا النبي صلّى الله عليه وسلّم من حين نزل القرآن، فلماذا نهمل كل هذه الأمور ونتَّجه إلى جزئية صغيرة اعتورها كثير من المحاذير، فالعدل والإنصاف يقتضي أن يعطى كل شيء قدره، وأن ينزل كل أمر في منزلته، وما لم نفعل فسوف نصرف جهودنا في أمورٍ غيرُها أولى منها، ونشتغل بما هو أدنى عما هو خير. 6 - إن ما يقوم به المعتنون بالإعجاز، إما أن يكون بحثاً محضاً في العلوم الطبيعية، وإما أن يكون تفسيراً لكلام الله، فإن كان بحثهم في مجال تخصُّصهم فلهم أن يبينوا قدرة الله ولطفه في كونه لا يردُّهم في هذا الأمر أحدٌ، بل تلك طريقهم التي يحسن بهم أن يسلكوها ويدرِّسوا الطلاب على هذا السبيل لكي لا ينفك الطلاب عن النظر والتفكر في قدرة الخالق سبحانه وتعالى. وإن كان بحثهم في مجال التفسير، فإن تفسير كلام الله عزّ وجل باب خطير لا يحق للإنسان أن يلجه إلا بعد أن يتأهل لذلك، وقد قرر العلماء أن من فسر القرآن بمجرد رأيه، فإنه يكون مخطئاً ولو أصاب في تفسيره، فكيف بمن يدخل في باب التفسير ببضاعة مزجاة ويتجرأ على تفسير كلام الله عزّ وجل ويتهجم على أهل التفسير الذين أفنوا أعمارهم في تعلُّم هذا العلم وتعلُّم أدواته، فللتفسير شروط وطرائق لا بدَّ من الإتيان بها

ومعرفتها، ومن نقص في معرفتها نقص في وصوله إلى التفسير الصحيح، وطرح هذه الأمور لا تحتمله مثل هذه المقالة (¬1)، لكن الملاحظ أنَّ كثيراً ممن دخل في هذا المجال لا يحسن منهج التفسير، ولست أقول ذلك من فراغ حين وصفتهم بالكثرة، بل هذا هو الواقع، والله المستعان. 7 - إنَّه مما يظهر على بعض من يعتنون بالإعجاز فرحُهم بما أوتوه من العلم، حتى إنَّ بعضهم ليخطِّئ كل من سبقه، ويزعم أنهم لم يعرفوا تفسير الآية ولم يأتوا في معناها بما يُقنِع، وهذا الأمر يظهر عند بعضهم صريحاً، ويظهر عند بعضهم بلازم قوله، كمن يزعم (أنَّ الآيات الكونية لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً في إطار اللغة وحدها)، ولازم هذا الكلام أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يفهم هذه الآيات، فضلاً عمن عاصره من الصحابة أو من جاء بعدهم، ولم تُفهم هذه الآيات حتى ظهرت هذه العلوم الكونية والتجريبية. وظنِّي بكثيرٍ ممن صدر منه هذا الكلام حسنٌ جدّاً، وإنما أُتِي ودُخِلَ عليه هذا الفهم بسبب عدم فهمه لطبيعة التفسير ولمنهجه الصحيح، ولو علِمه لأثبت أن ما فهمه السالفون من الصحابة والتابعين وأتباعهم حقٌّ لا مرية فيه، وأنه لا يوجد آية لم يُفهم معناها وحُجِب حتى يأتي هو فيبيِّنها، وإنما الأمر أنه أضاف وجهاً آخر قد يكون صحيحاً في فهم الآية فحسب. وكل من أتى على تفسير السالفين بالإبطال فليحذر، وليخش على نفسه أن يكون ممن فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وتنقَّصوا علم السالفين. 8 - ليس سبيل هذه المقال سبيل الوعظ ولا سبيل إثبات سلامة فهم الصحابة والتابعين ومن تبعهم للقرآن، لكن ألا يدل الدليل العقلي ¬

(¬1) سيأتي في المقالة الرابعة شيء من ذلك.

على أنَّ من ألَّف كتاباً لطلابه فهم أدرى به من غيرهم ممن يجيء بعدهم، وأنه لو وقع اختلاف في الفهم بين طالب من طلاب الأستاذ ورجل جاء بعده بقرون فإن العقل يدلُّ على قبول قول الطالب وتقديمه لأنه أدرى بكتاب أستاذه وبملابساته. وهذه الصورة شبيهة بحال من نزل القرآن بين ظهرانيهم، وتعلموا على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلَّموا أتباعهم هذا الكتاب، فهم أدرى به وبملابساته من غيرهم، فلا يقع في ظنِّ أحدنا أنه فاتهم شيء من فهم هذا القرآن. 9 - فإن قلت: ما ظهر لنا في هذا الزمان من تصديق لما في كتاب ربنا مما اكتشفه الباحثون في الأرض والسماء، كيف نعمل به مع ما ذكرتَ؟ فالجواب: إن ثبوت فهم السلف لجميع معاني القرآن لا يعني انتهاء هذا الفهم عندهم فقط، لكنه يعني أنه لم يبقَ عندهم ما يحتاجون إليه ولم يفهموه؛ هذا أولاً. وثانياً: إنهم قد ظهر عندهم أفهام جديدة بسبب بعض الحوادث التي حدثت في عصرهم، ونزَّلوها على الآيات، وعملوا بها، فدل ذلك على أصل المسألة، وهو جواز إحداث قول جديد؛ لأن القول بغير ذلك يلزم منه وقوف التفسير، فأين تقف به؟ أتقف به على الصحابة، أم على التابعين، أم على أتباع التابعين، وما الحجة في ذلك، وأين تضع ما صح من تفسيرات للعلماء الذين جاءوا بعدهم؟ ثالثاً: إن ما صح دلالة القرآن عليه من قضايا العلوم المعاصرة لا يُعترضُ عليه بعدم معرفة السلف له، وإنما يُرفضُ لو كانوا عَلِموه فأبطلوه، أو عُلِمَ أنهم علِموه فتركوه، فتركهم مع علمهم به يدل على وجود إشكال في ذلك، وذلك ما لم يقع منهم.

رابعاً: إن تفسير القرآن بما صح واحتملته الآيات من هذه العلوم المعاصرة لا يدل على جهل السلف، بل ليس من باب الأدب أن يُنسبوا إلى ذلك؛ لأن المسألة لا تدخل من هذا الباب، بل هي تدخل في باب تطور العلم البشري، وليس يلزم أن يكون جمهور الصحابة يعلمون كل شيء كان في عصرهم فضلاً عما سيجيء بعدهم. 10 - إن منهج التفسير الذي سار عليه العلماء، ونصَّ عليه بعضهم أنَّ القول الذي قيل بعد جيل السلف في طبقاتهم الثلاث (الصحابة والتابعون وأتباعهم) يُقبل بضوابط، وهي: أن يكون القول صحيحاً في ذاته، وأن تحتمله الآية، وأن لا يكون في القول به إبطالٌ لتفسير السلف، وأن لا يُقتصر على هذا القول حتى لا يُفهم أن غيره غير صحيح، فإذا وافقَ قولٌ هذه الضوابط فهو قول يدخل في محتملات الآية، ولا يلزم أن يكون هو القول الصحيح الوحيد، والله أعلم. 11 - إن بعض من كتب في الإعجاز العلمي وكذا بعض مجلاَّت الإعجاز العلمي يشترطون شروطاً صحيحة في ذاتها، لكنها قد تكون مطاطةً غير محددة، فيقع الإخلال بشيء منها عند بعض من يكتبون في الإعجاز العلمي من حيث يدري أو لا يدري، فأحدهم يفسر قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ *وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ *ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9 - 12] فيقول: «والاستواء الإلهي رمز للسيطرة الكلية، والقصد بإرادة الخلق والتكوين، والتسوية للكون بأرضه وسمائه ...»، ويقول في موطن بعد هذا: «والدحو لغة: هو المد والبسط والإلقاء، وهو كناية عن الثورات

البركانية العنيفة التي أخرج بها ربنا سبحانه وتعالى من جوف الأرض كلاًّ من غلافها الغازي والمائي والصخري»، وقال في موطن آخر يتكلم فيه عن أيام الخلق الستة: «وإن كان غالبية المفسرين ترى خلاف ذلك لاعتبارهم يومي خلق الأرض داخلين في الأيام الأربعة لجعل الرواسي والمباركة وتقدير الأقوات، إلا أنهم مجمعون على أن حرف العطف «ثم» لا يدل هنا على الترتيب مع التراخي، لكنه يدل على بَعد عملية الاستواء والتسوية للسموات السبع من السماء الدخانية الأولى؛ لأن من معاني ثمَّ هنا أنها إشارة إلى البعيد بمعنى هناك في مقابل هنا للقريب ...». وقائل هذه التفسيرات من فضلاء من تكلم في الإعجاز العلمي، وهو قد ذكر شروطاً؛ منها: 1 - أن الظاهر مقدم على التأويل، فمن أين ظهر له مفهوم الاستواء، ومفهوم الدحو الذي هو تأويل مجازي وليس حقيقة؟ 2 - أنه اشترط حسن فهم النص من القرآن الكريم وفق دلالات ألفاظ اللغة العربية، فأين وجد في اللغة أن الدحو بمعنى الإلقاء، وأين وجد فيها أن ثمَّ (بضم الثاء) بمعنى الإشارة إلى البعيد؟! 3 - أنه اشترط البعد عن القضايا الغيبية، وهل ما يتحدث فيه من القضايا المشاهدة أم من القضايا الغيبية؟ فمن أين له أن الدحو هو الثورات البركانية العنيفة التي خرجت من جوف الأرض؟! أليس هذا مخالفاً لما يشترطه؟ وأخيراً أقول: إن صِدقَ كثيرين ممن ولج في هذا الباب لا يُنكر، وقيامهم بالدعوة إلى الله من هذا السبيل جهد يُذكر ويُشكر، لكن كتاب ربنا ـ تبارك وتعالى ـ أغلى وأعلى من أن نسمح لمن لا يحسن التفسير أن يجعل نفسه هو المبيِّن لكلام الله بما يخالف ما جاءت به الشريعة، أو أن نربط به

هذه العلوم المعاصرة من أجل أن نُثبت للعالم أننا نملك من العلم ما لم يصلوا إليه. وإن كان هؤلاء جادِّين في هذه الدعوى، فإن الدعوة بالعلم إنما تكون بمثل ما سار عليه أهل الغرب والشرق فنجاريهم بالأبحاث والمكتشفات لا أن نقول لهم ما توصلتم إليه فإنه في كتابنا، وهذا يدل على صدقه فآمنوا، فإن هذه الدعوى لا يقبلها كثير من المفكرين من علماء الغرب، بل لقد كانت موضع الاستهجان من بعضهم، فقال: إذا كان هذا عندكم فلم لم تكتشفوه قبلنا؟! وأقول: لا يأخذنا الحماس العاطفي لا يَمنة ولا يَسرة، وليكن بيننا أدب الخلاف، وأن نتعلم من بعضنا، وأن نتأمل قول من يعترض علينا، فقد يكون الحق معه ونحن لم نصل إلى ما علِمه، لكن لا بدَّ أن يكون لنا مرجعاً نرجع إليه حال الاختلاف، ومن ذلك ما اشترطه المعتنون بالإعجاز العلمي من شروط صحيحة.

المقالة الرابعة تصحيح طريقة معالجة تفسير السلف في بحوث الإعجاز العلمي

المقالة الرابعة: تصحيح طريقة معالجة تفسير السلف في بحوث الإعجاز العلمي

المقالة الرابعة تصحيح طريقة معالجة تفسير السلف في بحوث الإعجاز العلمي (¬1) الحمدُ لله الذي جعل كتابه الكريم لا يَخْلَقُ من كثرة الردِّ، وأصلِّي وأسلِّم على أفضل الخلق محمد بن عبد الله، أرسله الله رحمة للعالمين، ومبلّغاً للدين، فأتمَّ الله به النعمة على العالمين، ثمَّ أثني بالصلاة والسلام على آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحبه الغرِّ الميامين، وعلى من تبعهم، وسار على نهجهم إلى يوم الدين، اللهم احشرنا في زمرتهم، واجعلنا ممن قلت فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. أما بعد: فإن كتاب الله تعالى نزل بلسان عربي مبين، وعَلِمَهُ جيل السلف مجتمعين، فلا يمكن أن يقال: إن آية منه لم يقع لهم فيها الفهم الصحيح، ومن قال: إن آية لم يفهمها هؤلاء، فإنه قد زعم النقص في البيان الرباني والنبوي على حدٍّ سواء، فالله سبحانه وتعالى يقول {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، ويقول: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]، ويقول: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 242]، ويقول: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 17]، ويقول: ¬

(¬1) بحث علمي محكم نُشِرَ في مجلة معهد الإمام الشاطبي للدراسات القرآنية، العدد الثاني/ذو الحجة/1427هـ ديسمبر/ك1 2006م.

{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، ويقول: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، ويقول: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَاتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، ويقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص: 29]، وغيرها من الآيات التي تدل على أن الله قد بيَّن كلامه بياناً واضحاً لا لبس فيه ولا إلغاز، وأنه يسَّر للناس فهمَه كما قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 22]، وهذا التيسير لا يمكن أن يكون لجيل متأخر دون الجيل المتقدم من السلف. مشكلة البحث: 1 - إنه من خلال قراءتي فيما سطَّره بعض المعاصرين ممن اعتنوا بإبراز (الإعجاز العلمي) في كتاب الله سبحانه وتعالى؛ رأيت أن اعتمادهم على المأثور عن السلف قليلٌ جداً، وجُلُّ اعتمادهم على كتب التفسير المتأخرة، فتراهم ينسبون القول إلى القرطبي وأبي حيان والشوكاني على أنهم هم السلف. وهؤلاء العلماء الكرام وغيرهم لا شكَّ أنهم سلف لنا، لكن مصطلح السلف عند علماء الشريعة لهم زمن محدود، وليس كالإطلاق اللغوي الذي يشمل كل من سبقك، وقد كان في فعل بعضهم قطع لسلسلة التفسير، ولعدم الرجوع إلى أقوال السلف في الآية. وإن الراصد لحركة التفسير يعرف أن الذين لا يعتمدون قول السلف (الصحابة والتابعين وأتباعهم) هم أهل البدع الذين أصَّلوا أصولاً عقلية، ثم حاكموا آيات القرآن عليها، فما وافق أصولهم من ظواهر القرآن قالوا به، وما خالف أصولهم أوَّلوه لكي يوافقها. وحاشا المخلصين من المعتنين بالإعجاز العلمي أن يكونوا

كأولئك، لذا كان يحسن بالمتخصِّصين في علوم القرآن تنبيههم على هذا الأمر، لئلا يقعوا في محذور وهم لا يشعرون. 2 - في هذا العصر الذي برز فيه سلطان العلوم الكونية والتجريبية سعى نفر من المسلمين إلى إبراز سبق القرآن إلى كثير من هذه المكتشفات المعاصرة، لكنَّ بعضهم تنقصه الآلة التي يستطيع بها معرفة صحة مطابقة تلك القضية في تلك العلوم للآية التي يحمل عليها ذلك التفسير الحادث، كما أن الملاحظ على هؤلاء أنهم لا يعرفون قول السلف في الآية لكي لا يناقضوه، وإن ذكروه فإنهم لا يعرفون وجهه، ولا تراهم يفقهون مدلول قولهم؛ لأنهم لا يعرفون طرائق هؤلاء السلف الكرام في التعبير عن التفسير، وفي اختلافات التنوع عندهم، فإذا رأوا خلاف عبارة ظنوا أنهم مختلفون، ولا تراهم يعرفون كيف يوفِّقون بين أقوالهم. كما تجدهم يحرصون على الرجوع إلى معاجم اللغة لبيان بعض المدلولات التي يحتاجونها، ولا تراهم يرجعون إلى تحريرات السلف في هذه الأمور، وهم أهل اللغة، ولهم فيها السبق. ولما كان الأمر كذلك، أردت أن أكتب في هذه الحيثية، لأبيِّن لإخواني الكرام ممن يسلكون بيان إعجاز القرآن الكريم على هذه الطريقة؛ أبيِّن لهم كيف يمكنهم التعامل مع أقوال السلف أثناء بحوثهم العلمية التي يربطون بها المكتشفات المعاصرة بآيات القرآن، لكي لا يقع عندهم ردٌّ لأقوال السلف أو نقض لأقوالهم بلا علم. وقد سمَّيته: (تصحيح طريقة معالجة تفسير السلف في بحوث الإعجاز العلمي).

مصطلحات البحث (¬1): التفسير: إن القرآن يحتوي على عدد من العلوم، منها التفسير، وقد وقع خلاف في تعريف التفسير، وأوضحها ـ والله أعلم ـ: بيان معاني القرآن الكريم. لأن مدلول التفسير من جهة اللغة هو البيان، والمراد من المفسر بيان المعاني، أما العلوم الأخرى التي يحتوي عليها القرآن فإنها ليست من التفسير؛ فعدُّ الآي ـ مثلاً ـ من علوم القرآن، لكنه ليس من التفسير؛ لأنه لا يُبنى على معرفة عدِّ الآي فهم لمعنى آية من الآيات، والمقصود أنه يحسن أن ننتبه إلى الفرق بين علوم القرآن المرتبطة بسوره وآياته، وعلم التفسير الذي هو بيان معانيه، فكل ما له أثر في بيان معانيه، فهو من العلوم التي ينبغي للمفسر الاعتناء بها ليستطيع بيان معاني القرآن على الوجه المَرضيِّ. السلف: الأصل اللغوي لكلمة السلف يدل على السبق والتقدم، فكل ما تقدمك فهو سلف، وهذا الإطلاق اللغوي يشمل كل من سبقك من الناس، لذا إذا قلت: المفسر القرطبي من السلف، فإن ذلك قول صحيح من حيث اللغة. غير أن للعلماء اصطلاحاً خاصًّا في المراد بالسلف، وقد اختلفوا في تحديد الفترة الزمنية التي يقف عندها هذا المصطلح، والغالب في ذلك أنهم الصحابة والتابعون وأتباعهم ممن التزم الكتاب والسُّنَّة. والسلف في مصطلح المفسرين لا يخرج عن هذه الطبقات الثلاث بدلالة أنك إذا رجعت إلى التفاسير التي جمعت مأثور السلف ـ كتفسير الطبري وابن أبي حاتم ـ تجدها تعتمد على ما نُقِل عن هذه الطبقات الثلاث، وتراها تقف عند طبقة أتباع التابعين. ¬

(¬1) سأسلك سبيل الاختصار والتقرير هنا؛ لأن هذا المقال ليس مجالاً لتفصيل الاختلاف في تعريف هذه المصطلحات.

ومِن ثَمَّ، فإن مصطلح السلف عند الباحث هم أهل هذه الطبقات الثلاث. أصول التفسير: هي الأسس العلمية التي يرجع إليها المفسر حال تفسيره لكلام الله وتحريره للاختلاف في التفسير. وإن من أهم مسائل هذا العلم ثلاثة أمور كلية: الأول: مصادر التفسير (النقل والرأي)، وطرقه (القرآن والسُّنَّة وأقوال السلف واللغة). الثاني: الإجماع في التفسير، والاختلاف فيه (أنواعه، وأسبابه، وطرق المفسرين في التعبير عنه). الثالث: كيفية التعامل مع اختلاف المفسرين (قواعد الترجيح). وتفصيل هذا يؤخذ من كتب هذا العلم (¬1)، وليس هذا مجال تقرير ¬

(¬1) من الكتب المتخصصة في هذا العلم: 1 - مقدمة في أصول التفسير، لشيخ الإسلام ابن تيمية. 2 - الفوز الكبير في أصول التفسير، للعلامة ولي الله الدهلوي. 3 - التكميل لأصول التأويل، للمعلم المحقق عبد الحميد الفراهي. وقد شارك المعاصرون في الكتابة تحت هذا العنوان، ومن هذه الكتب في هذا العلم: 1 - أصول التفسير وقواعده، لخالد العك. 2 - أصول التفسير ومناهجه، للأستاذ الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي. 3 - فصول في أصول التفسير، للدكتور مساعد بن سليمان الطيار. 4 - التفسير أصوله وضوابطه، للأستاذ الدكتور علي بن سليمان العبيد. كما أن هناك كتابة في موضوع من موضوعاته، ومن ذلك: 1 - اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره، للأستاذ الدكتور سعود الفنيسان. 2 - قواعد الترجيح، للدكتور حسين الحربي. 3 - أسباب اختلاف المفسرين، للأستاذ الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشايع. 4 - قواعد التفسير، للدكتور خالد السبت.

هذه المسائل برمَّتها، وإن كانت ستأتي إشارات موجزة لبعض مسائل هذا العلم. الإعجاز العلمي: تكاد تتفق كلمة الباحثين في الإعجاز العلمي على أن المراد به: سبق القرآن إلى الإخبار بأمور كانت غير معلومة للجيل الذين نزل عليهم القرآن، وظهرت معرفتها في هذا العصر المتأخر. وبعد، فإني قسمت هذا البحث إلى مقدمة، وثلاثة فصول، وخاتمة: المقدمة، وذكرت فيها مشكلة البحث ومصطلحاته. الفصل الأول: أهمية تفسير السلف وكيفية التعامل معه. المبحث الأول: أهمية تفسير السلف. المبحث الثاني: كيفية التعامل مع تفسير السلف. المبحث الثالث: احتمال الآية القرآنية للمعاني المتعددة. الفصل الثاني: ضوابط القول بالتفسير المعاصر. الضابط الأول: أن يكون القول الحادث صحيحاً في ذاته. الضابط الثاني: أن تحتمل الآية القول الحادث. الضابط الثالث: أن لا يبطل قول السلف. الضابط الرابع: أن لا يقصر معنى الآية على التفسير الحادث. الفصل الثالث: اعتراضات على تفسير السلف. المبحث الأول: وجود الخطأ في تفسير آحاد السلف. المبحث الثاني: الإسرائيليات ومخالفتها للقضايا العلمية المعاصرة. الخاتمة، وفيها ذكر أهم النتائج والتوصيات.

الفصل الأول: أهمية تفسير السلف وكيفية التعامل معه

الفصل الأول أهمية تفسير السلف وكيفية التعامل معه المبحث الأول أهمية تفسير السلف إن معرفة تفسير السلف أصل أصيل من أصول التفسير، ومن ترك أقوالهم، أو ضعف نظره فيها، فإنه سيصاب بنقص في العلم، وقصور في الوصول إلى الحق في كثير من آيات القرآن (¬1). وإن من استقرأ تاريخ السلف مع كتاب الله؛ وجد تمام عنايتهم بكتاب الله حفظاً وتفسيراً وتدبراً واستنباطاً، كيف لا؟! وكتاب الله هو العصمة والنجاة، لذا لا تراه خفي على الصحابة شيء من معانيه ولم يستفصلوا من الرسول صلّى الله عليه وسلّم فبقي عليهم منه شيء غامضٌ لا يعرفونه. وكذا الحال بالتابعين، الذين هم أكثر طبقات السلف في التفسير، وعددهم فيه كثير، لقد سألوا عن التفسير، واستفصلوا فيما غمُض عليهم، ولهم في ذلك أقوال، ومن أشهرها ما رواه الطبري بسنده عن الشعبي، قال: «والله ما من آية إلا سألت عنها، لكنها الرواية عن الله تعالى» (¬2). وروى بسنده عن مجاهد، قال: «عرضت المصحف على ابن عباس ¬

(¬1) قد أشار بعض العلماء إلى أهمية معرفة علم السلف وما لهم فيه من الفضل، ومن أنفس ما كُتِب في ذلك كتاب (فضل علم السلف) لابن رجب الحنبلي. (¬2) تفسير الطبري، تحقيق معالي الدكتور عبد الله التركي (1: 81).

ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية وأسأله عنها» (¬1). وبقي الحال كذلك في أتباع التابعين الذين كانوا أكثر طبقات السلف تدويناً للتفسير، وجمعاً لما روي عن الصحابة والتابعين، وفي عصرهم ظهر أول مدوَّن كاملٍ في التفسير (¬2)، وكان لهم أقوال في التفسير، كما كان لهم اختيارات من أقوال من سبقهم، وهذا يعني أن من استقرأ تفسير السلف وجد أنهم قلَّما يتركون آية لا يتكلمون عنها، ويبينون ما فيها من المعاني، سواءٌ اتفقوا في تفسيرهم أم كان اختلافهم فيه اختلاف تنوع (¬3)، أو اختلاف تضادٍّ (¬4)، والتضاد في تفسيرهم قليل. كما سيظهر للمستقرئ أن ما تركوه إنما هو واضح ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وأنَّ كثيراً مما بحثه المتأخرون إنما يتعلق بمسائل علمية خارجة عن حدِّ التفسير الذي هو بيان معاني القرآن، وبحث بعض هذه المسائل موجود في تفاسير السلف، لكنه توسع وزاد في تفاسير المتأخرين. لكن مما يحسن ذكره هنا أن يعرف المفسر المعاصر أن اجتهاده في التفسير سيكون في أمرين: الأمر الأول: الاختيار من أقوال المفسرين السابقين. الأمر الثاني: الإضافة على ما قاله السلف، ولكن يحرص على أن يكون مضيفاً لا ناقضاً ومبطلاً لأقوالهم. ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق معالي الدكتور عبد الله التركي (1: 85). (¬2) أعني: تفسير مقاتل بن سليمان. (¬3) التنوع: ما تحتمله الآية من أقوال؛ كتفسيرهم للصراط المستقيم بأنه القرآن أو الإسلام، وهو يحتمل هذين الأمرين احتمالاً متنوعاً لا متناقضاً متضادّاً، فلو قيل بهما معاً لأمكن ذلك. (¬4) هما القولان اللذان إذا قيل بأحدهما في الآية سقط الآخر؛ كتفسير القرء بالطهر والحيض، فإذا قيل بالطهر سقط الحيض، وإذا قيل بالحيض سقط الطهر، إذ لا يمكن اجتماعهما في زمن واحدٍ بحيث يُطلب من المرأة أن تتربص بالأطهار والحيض معاً.

ومثال هذه المسألة في جملة: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]، فهذه الجملة واضحة المعنى من حيث التفسير، لكن المراد بيانه هو ذلك المسلوب، ما هو؟ والمتقدمون يقولون: وإن يسلب الذباب الآلهة والأوثان شيئاً مما عليها من طيب أو طعام وما أشبهه لا تقدر الآلهة أن تستنقذ ذلك منه، وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من السلف؛ منهم: عبد الله بن عباس (¬1)، والسدي الكبير (¬2)، وابن جريج (¬3)، وعلى هذا المعنى سار المفسرون خلفاً، ولم يغفلوا عن بيان المثل المضروب الذي هو المقصود بضرب المثل، ومن ذلك ما قاله الطبري (ت:310): «... وإنما أخبر ـ جَلَّ ثناؤه ـ عن الآلهة بما أخبر عنها في هذه الآية من ضعفها ومهانتها = تقريعاً منه بذلك عَبَدَتَها من مشركي قريش؛ يقول تعالى ذكره: كيف يُجعل لي مِثْلٌ في العبادة ويُشرَك فيها معي ما لا قدرة له على خلق ذباب = وإن استذلَّه الذباب فسلبه شيئاً عليه لم يقدر أن يمتنع منه ولا ينتصر، وأنا الخالق ما في السماوات والأرض، ومالكٌ جميعَ ذلك، والمحيي من أردت، والمغني ما أردت ومن أردت؟! إنَّ فاعل ذلك لا شك أنه في غاية الجهل» (¬4). وفي هذا العصر ظهر اكتشاف غريب في الذباب، وهو أنه إذا ابتلع شيئاً من الطعام، فإنه يتحول في جوفه إلى مواد أخرى لا يمكن ¬

(¬1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير، تحقيق محمد عبد الرحمن عبد الله (5: 308 - 309). (¬2) ذكره السيوطي في الدر المنثور، ونسبه إلى ابن أبي حاتم (10: 540). (¬3) زاد المسير (5: 308). (¬4) تفسير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (16: 636 - 637).

استرجاعها إلى مادتها الأولية (¬1). وهذا المعنى المذكور ينطبق على الوصف المذكور في الآية، وهو قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73]، لكن من الذي لا يستطيع استنقاذه عند من يذهب إلى هذا التفسير؟ سواءً أقال: لا تستطيع الآلهة، أو قال: لا يستطيع الناس، فإن الوصف صحيح منطبق على معنى الجملة، لكن السياق في الآلهة وليس في الناس كما ترى. وهذا القول إذا قيل به على أنه احتمال ثانٍ مما تحتمله الآية، فإنه يصح تفسير الآية به على أنه مثال آخر من أمثلة ما لا يستطيعون استنقاذه مما يأخذه الذباب، وليس بمبطل لقول السلف. وتفسير السلف أولى لأن ما قالوه ظاهر لجميع الناس يدركونه بلا حاجة إلى مختبرات، بخلاف القول المعاصر الذي لم يره إلا النادر من الناس، ولا يدركه تمام الإدراك إلا القلة منهم، فليس كل الناس عندهم مختبرات يمكنهم أن يروا تحوُّل مادة الطعام التي يأكلها الذباب. ومع هذا الترجيح يبقى ما قاله المعاصرون قولاً صحيحاً محتملاً يمكن القول به، لكن القاعدة السليمة في ذلك: أن تثق بمعرفة السلف وتفسيرهم لجميع القرآن، وأنهم لم يخرجوا عن الفهم الصحيح في تفسيرهم، ثم تعرف ما يمكن لمن جاء بعدهم عمله من الاختيار أو الزيادة المقبولة. وهذا المثال التطبيقي هو المنهج لمن أراد أن يزيد على تفسير السلف، وأن يأتي بجديد من المعاني أو الاستنباطات، فهو لا يترك ما قالوه، ولا يجمد عنده فلا يأتي بجديد. ¬

(¬1) ينظر على سبيل المثال: موسوعة الإعجاز العلمي، ليوسف الحاج أحمد، نشر مكتبة ابن حجر بدمشق (ص: 514).

المبحث الثاني: كيفية التعامل مع تفسير السلف

المبحث الثاني كيفية التعامل مع تفسير السلف إن من يُعنى بدراسة (الإعجاز العلمي) يلزمه أن يكون مدركاً لكيفية التعامل مع أقوال السلف المتفقة والمختلفة، ويكون عنده الأداة القادرة على التمييز بين الأقوال، والقادرة على الترجيح بينها إذا دعا إلى ذلك الحال. وهذا الأصل يرتبط بأصول أخرى هي بالنسبة له مقدمات مهمة، وإلى أصول لاحقة هي كالتتمة، وبالجملة، فلا بدَّ لمن أراد أن يحمل اكتشافاً من تلك الاكتشافات المعاصرة على آية من الآيات؛ أن يكون ملمّاً بأصول التفسير، وإلا فإنه قد يحصل عنده خلل أو نقص في بيانه. وإذا كان أهل الطب لا يرضون لأي واحد أن يكون طبيباً حتى يلم بأصول الطب ويدرسه دراسة وافية، وكذا أهل العلوم الأخرى؛ إذا كان ذلك كذلك، فأصول معرفة تفسير كلام الله أولى بذلك، فلا يحق لأي مسلم أن يتعرض للتفسير، وهو لا يملك أدواته، وهذه المسألة من الخطورة بمكان، وهي ـ أيضاً ـ من الغياب بمكان عند بعض من يكتبون في الإعجاز العلمي، فتراهم يلوون أعناق النصوص، ويحرفون كلام الله ليوافق ما يعرفونه من علومهم الدنيوية، والآية لا تدل على ما ذهبوا إليه. وأعود بعد ذلك إلى أصل المسألة فأقول: إن أي مفسر ـ كائناً من كان ـ إذا أقدم على التفسير وهو غير عالم بطريقة التعامل مع تفسير السلف حال الاتفاق وحال الاختلاف، فإنه سيقع في تفسيره خلل بسبب نقص علمه في هذا المجال، إلا أن يكون ناقلاً لا رأي له، وبهذا يكون خارجاً عن أن يكون مفسراً. وسأذكر مثالاً يُحتذى في هذه المسألة من خلال ما ذكره بعض المعاصرين في بعض أمثلة الإعجاز العلمي.

المثال الأول: في قوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]. ورد عن السلف في تفسير هذه الآية قولان (¬1): الأول: بسطها، وهو مروي عن قتادة والسدي وسفيان الثوري. الثاني: إخراجه ماءها ومرعاها، وهو مروي عن ابن عباس وابن جريج وابن زيد. وهذان الاختلافان يعودان إلى قولين متغايرين غير متضادين، ويمكن اجتماعهما في معنى دحو الأرض؛ لأن بسطها لا يعارض إخراج مائها ومرعاها منها، فكلاهما محتمل، وإن كان الأول أشهر. وذهب بعض المعاصرين إلى أن الدحو هنا بمعنى جعل الأرض كُرَةً (¬2)، وهذا المعنى له أصل في اللغة، وهو حقيقة كونية دلَّت عليها آيات قرآنية غير هذه الآية، وبهذا يكون قد تحقق في هذه القضية صحتها من جهة اللغة، وصحتها من جهة الواقع. لكن هذا لا يلزم من كونها كذلك أن يكون المراد بالدحو كون الأرض كُرَةً، ويكون المعنى: (والأرض بعد ذلك كوَّرها)؛ أي: جعلها كُرَةً. ولو ذهب مفسر إلى هذا المعنى لكان له وجه، وكان معنًى ثالثاً ¬

(¬1) تنظر الأقوال في: تفسير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (24: 95 - 96)، والدر المنثور، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي (15: 234). (¬2) ينظر مقال في الشبكة العنكبوتية تحت عنوان الإعجاز العلمي (القرآن يتجلى في تكوين كوكب الأرض) لنزيه القميحا (www.ishraqa.com) والملاحظ أن كروية الأرض، بل كل الأفلاك ثابته عند علماء السلف والخلف من المسلمين، إلا النزر اليسير من الخلف ممن عارض في هذه المسألة، وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في عدد من كتبه، منها: الفتاوى (5: 150)، (6: 565 - 586)، بيان تلبيس الجهمية (2: 212)، الرد على المنطقيين (ص: 137، 260).

غير مناقض للأوَّلين، وإن غايرهما (¬1). وبهذا تكون لفظة (دحاها) قد دلَّت على هذه المعاني الثلاثة، فالله سبحانه كوَّر الأرض، وجعلها منبسطةً لكِبَرِ تكويرها، وأخرج منها الماء والمرعى، فتجتمع هذه المعاني الثلاثة في وصف الأرض، وليس بينها أي تناقض كما ترى. وفي هذا المثال تلاحظ أنَّ اختلاف السلف كان على سبيل التنوع المتعدد المعاني، وأن بعض المعاصرين زادوا تفسيراً آخر يدخل في التنوع أيضاً، ولم يكن في اختلاف السلف ما يشكل على إضافة قول جديد. المثال الثاني: تفسير الرتق والفتق من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30]. ورد في تفسير السلف للرتق والفتق في هذه الآية عدة أقوال: القول الأول: كانتا ملتصقتين ففصل الأرض عن السماء، فجعل الأرض في الأسفل والسماء في العلو، وقد ذهب إلى هذا ابن عباس من رواية عطية العوفي وعلي بن أبي طلحة، وذهب إليه الحسن والضحاك وقتادة (¬2). القول الثاني: أن السماء كانت مرتتقة طبقة ففتقها الله فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة ففتقها فجعلها سبع أرضين، وذهب إلى هذا مجاهد، وأبو صالح، والسدي. ¬

(¬1) مما يحسن التنبيه عليه أن بعض المعاصرين ممن لهم عناية بالإعجاز العلمي لا يذهبون بهذه الآية إلى هذا المعنى، بل إن بعضهم يردُّ هذا المعنى، والأمر في ذلك واسع، وإنما أردت ضرب المثال، ولا يعني ذلك أني أتبنى هذا القول. (¬2) تنظر هذه الأقوال في: تفسير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (16: 255 - 258).

القول الثالث: أن السماوات كانت رتقاً لا تمطر، والأرض كذلك رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، وذهب إلى ذلك عكرمة وعطية العوفي وابن زيد. القول الرابع: أن السموات والأرض كانتا مظلمتين ففتقهما بالنهار، وهذه رواية عن ابن عباس، قال الطبري: حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال: خلق الليل قبل النهار، ثم قال: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30]. فهذه أقوال أربعة من أقوال السلف، وظاهر من اختلافهم ـ رحمهم الله ـ أنَّ كل واحد منهم قال باجتهاده، واعتمد على مدلول الرتق والفتق. والرتق في اللغة: التضامُّ والالتحام. والفتق: الانفصال والانفتاح بين شيئين. وقد بيَّن الطبري دلالة الرتق والفتق في اللغة، فقال: «... كانتا رتقاً: يقول: ليس فيهما ثقب بل كانتا ملتصقتين، يقال منه: رَتَقَ فلان الفَتْقَ: إذا شدَّه فهو يرتقُه رَتْقاً ورُتُوقاً، ومن ذلك قيل للمرأة التي فرجها ملتحم: رتقاء. ووحَّد الرتق، وهو من صفة السماء والأرض، وقد جاء بعد قوله: {كَانَتَا}؛ لأنه مصدر مثل: الزَّور، والصَّوم، والفَطْر. وقوله: {فَفَتَقْنَاهُمَا}، يقول: فصدعناهما وفرجناهما. ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله السماوات والأرض بالرتق، وكيف كان الرتق وبأي معنى فتق» (¬1). وإذا أجريت أقوال المفسرين على معنى الرتق والفتق وجدتَ ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (16: 254 - 255).

أقوالهم تخرج عنه، وتصدر منه، فما من قول إلا وفيه معنى الرتق والفتق سوى قول ابن عباس الأخير الذي هو تفسير بلازم لفظ الرتق والفتق، واستدلال على خلق الظلمة قبل النور؛ فكأنه ظهر له أن الالتصاق قرين الظلمة، والفتق قرين النور، وهو النهار، وعلى هذا لا يكون تفسيره هذا تفسيراً للمفردة بما يدلُّ عليها من لغة العرب، بل هو تفسير لها بلازمها في هذا السياق. وعند تأمل هذه الأقوال تجد أن الرؤية في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 30] تحتمل أمرين: الأول: أن الرؤية بمعنى العلم، وعلى هذا القول الأول والثاني والرابع، وهذا يعني أن الاعتبار بهذه الآية يأتي عن طريق العلم الاستدلالي. الثاني: أن الرؤية بصرية، وعليه القول الثالث الذي فسر الرتق بعدم إنزال المطر وبعدم إنبات النبات، والفتق بإنزال المطر، وبإنبات النبات، وهذا مشاهد لكل واحد من الناس، فهم يدركونه بأبصارهم، وعلى هذا يكون المراد العبرة بالآية عن طريق البصر. وهذا القول يعضده عدد من الأدلة، منها: 1 - كونه معلوماً مشاهداً لجميع الناس بخلاف غيره من الأقوال التي تحتاج إلى استدلال. 2 - أن هذا المعنى له نظير في القرآن، وذلك مثل قوله تعالى {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ *وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق: 11 - 12]، وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ *أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا *ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [عبس: 24 - 26]، ووجود النظير يعزز كون هذا المعنى أرجح، مع الأدلة الأخرى المذكورة. 3 - أن السياق بعده يشير إلى صحته، وهو قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا

مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وقد استدل على ترجيح هذا المعنى بالسياق عدد من العلماء، أذكر منهم عبد الرحمن بن زيد (ت:182)، قال: «كانت السماوات رتقاً لا ينْزل منها مطر، وكانت الأرض رتقاً لا يخرج منها نبات، ففتقهما الله، فأنزل مطر السماء، وشَقَّ الأرض، فأخرج نباتها، وقرأ: {فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30]». وقال الطبري (ت:310): «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث، والأرض بالنبات. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك؛ لدلالة قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} على ذلك وأنه ـ جل ثناؤه ـ لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه» (¬1). ومع رجحان هذا المعنى على ما سواه يبقى لغيره احتمال الصحة، فالأقوال غير متناقضة ـ كما ترى ـ بحيث لو قيل بأحدها سقط الآخر، وما دام الأمر كذلك، فإن هذه الأقوال تكون في مرتبة دون القول الأول. وقد ذهب بعض المعاصرين المعتنين بالإعجاز العلمي إلى تفسير هذه الآية بما يسمى بنظرية (الانفجار الكوني العظيم) وهي نظرية من بين عدَّة نظريات في نشأة هذا الكون (¬2)، ومع كونها نظرية لم تثبت صحتها إلى اليوم، فإنك تجد بعض المعاصرين يعتمدها فيقول: «وهذا السبق ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (16: 258). (¬2) كتب عن هذه النظريات عدد من الباحثين، ومن ذلك ما كتبته الدكتورة سارة بنت عبد المحسن بن جلوي آل سعود في كتابها: نشأة الكون وخلق الإنسان بين العلم والقرآن، ومن هذه النظريات ـ كما ذكرتها ـ: نظرية الانفجار الكوني الكبير، وفكرة الكون العملاق، وفكرة الكون الذكي.

القرآني بحقيقة الفتق بعد الرتق تجعلنا نرتقي بنظرية الانفجار الكوني العظيم إلى مقام الحقيقة، ونكون هنا قد انتصرنا بالقرآن للعلم المكتسب، وليس العكس، والسبب في لجوئنا إلى تلك النظرية لحسن فهم دلالة الآية القرآنية رقم (30) من سورة الأنبياء هو أن العلوم المكتسبة لا يمكن لها أن تتجاوز مرحلة التنظير في القضايا التي تخضع لحس الإنسان المباشر أو إدراكه المباشر من مثل قضايا الخلق والإفناء وإعادة الخلق ...» (¬1). وأقرب أقوال المفسرين لهذه النظرية القول الأول، وهو من قال بأن السموات والأرض كانتا ملتزقتين ففتقهما إلى سماء وأرض. وهذا يعني أن القول بهذه النظرية ـ على سبيل التفسير ـ إنما هو تفصيل لمجمل هذا القول، وليس قولاً حادثاً جديداً، وإنما الجديد فيه هذه التفاصيل التي لا زالت في طور النظرية. وإذا صحَّت هذه النظرية فصارت بمثابة الحقيقة التي لا خلاف فيها، فإنه لا يمتنع أن تكون أحد المعاني المرادة بهذه الجملة من الآية، مع بقاء احتمال الأقوال الأخرى في كونها مرادة كذلك، لكن لا زال أقوى الأقوال ما ذكرت ترجيحه. وهذا الأسلوب الذي ذكرت لك في التعامل مع الاختلاف ناشئٌ عن أصل مهم من أصول التفسير، وهو (احتمال الآية القرآنية لعدد من المعاني)، وهذا الأصل من الأصول التي يلزم تحريرها وبيانها ليستفيد ¬

(¬1) من آيات الإعجاز العلمي/السماء في القرآن الكريم (ص: 107 - 108). وتفسير هذه الآية بهذه النظرية يدخل في باب التفسير العلمي عند المعتنين بالإعجاز العلمي الذين يفرقون بين مصطلح (التفسير العلمي)، ومصطلح (الإعجاز العلمي)، خلافاً لما ذهب إليه مؤلف الكتاب الذي جعلها من آيات الإعجاز العلمي بالدعوى التي ذكرها، والتي يمكن لآخرين أن يستخدموها في غير هذه الآية من الآيات التي تذكر بعض الغيبيات.

المبحث الثالث: احتمال الآية القرآنية للمعاني المتعددة

منها من يروم البحث في الإعجاز العلمي، لكي يكون بحثه على أصول علمية صحيحة. فمعرفتهم له مهمٌّ للغاية، ولا يمكنهم الانفكاك عنه؛ لأنهم قد يقعون في تخطئة أقوال صحيحة، وهم لا يشعرون، ولو أدركوا هذا الأصل لما حصل منهم مثل هذه التخطئة لبعض أقوال المفسرين. المبحث الثالث احتمال الآية القرآنية للمعاني المتعددة ما دمت قد ذكرت لك بعض الأمثلة التفسيرية، وطريقة معالجتها من جهة التفسير، وكيفية احتمال الأقوال الحادثة، فيحسن أن أرجع بك إلى الأصل الذي تنبثق منه هذه التطبيقات، وهو أن الآية إذا احتملت أكثر من معنى صحيح ليس بينها تناقض جاز حمل الآية عليها، وقد نصَّ العلماء على هذه القاعدة في مواطن كثيرة، وسأذكر لك بعض نصوص العلماء في ذلك: 1 - قال محمد بن نصر المروزيُّ (ت:294) (¬1): «وسمعتُ إسحاقَ (¬2) يقولُ في قولِه: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]: قدْ يمكنُ أنْ يكونَ تفسيرُ الآيةِ على أولي العِلْمِ (¬3)، وعلى أمراءِ السَّرَايَا (¬4)؛ لأنَّ الآيةَ الواحدةَ ¬

(¬1) محمد بن نصر، أبو عبد الله المروزي، الإمام الفقيه، رحل في طلب العلم، واستوطن سمرقند، أخذ عن إسحاق بن راهويه وغيره، وأخذ عنه ابنه إسماعيل وغيره، توفي سنة (294هـ). تاريخ بغداد (3: 315 - 318)، سير أعلام النبلاء (14: 33 - 40). (¬2) هو إسحاق بن راهويه المروزي، الحافظ المحدث، له كتاب التفسير، توفي سنة (238هـ). تاريخ بغداد (6: 345 - 355)، معجم المفسرين لعادل نويهض (1: 85 - 86). (¬3) قال به: ابن عباس، وإبراهيم النخعي، وأبو العالية، ومجاهد، وبكر بن عبد الله المزني، والحسن، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن أبي نجيح،، وعطاء بن السائب، والحسن بن محمد بن علي. ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: الدكتور عبد الله التركي (7: 179 - 181)، وتفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد الطيب (3: 989). (¬4) قال به: أبو هريرة، وابن عباس، وميمون بن مهران، والسدي، وابن زيد. =

يفسِّرُها العلماءُ على أوجهٍ، وليس ذلك باختلافٍ. وقد قالَ سفيانُ بنُ عُيَينَةَ: ليسَ في تفسيرِ القرآنِ اختلافٌ إذا صَحَّ القولُ في ذلكَ (¬1). وقالَ: أيكونُ شَيءٌ أظهرَ خِلافاً في الظَّاهرِ منَ الخُنَّسِ؟ قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: هي بقرُ الوحشِ (¬2). وقالَ عليٌّ: هي النُّجومُ (¬3). قالَ سفيانُ: وكلاهما واحدٌ؛ لأنَّ النُّجومَ تَخْنُسُ بالنَّهارِ وتظهرُ باللَّيلِ، والوَحْشِيَّةُ إذا رأتْ إنسيّاً خَنَسَتْ في الغيطانِ (¬4) وغيرِها، وإذا لم ترَ إنسيّاً ظهرتْ. قالَ سفيانُ: فَكُلٌّ خُنَّسٌ. قالَ إسحاقُ: وتصديقُ ذلك ما جاءَ عنْ أصحابِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم في الماعونِ (¬5)، يعني أنَّ بعضَهم قالَ: الزَّكاةُ، وقال بعضُهم: عاريةُ المتاعِ. قالَ: وقالَ عكرمةُ: الماعونُ: أعلاه الزَّكاةُ، وعاريةُ المتاعِ منه (¬6). قالَ إسحاقُ: وجَهِلَ قومٌ هذه المعاني؛ فإذا لم توافقِ الكلمةُ الكلمةَ قالوا: هذا اختلافٌ. وقدْ قالَ الحسنُ ـ وذُكِرَ عنده الاختلافُ في ¬

= ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (7: 176 - 178). (¬1) أخرجه كذلك سعيد بن منصور عن سفيان، ينظر قسم التفسير من كتاب السنن، تحقيق: سعد الحميِّد (5: 312). (¬2) ينظر قوله في: تفسير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (24: 155)، ورواه كذلك عن: أبي ميسرة، وجابر بن زيد، ومجاهد، وعبد الله بن وهب، وإبراهيم النخعي. (¬3) ينظر قوله في: تفسير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (24: 152، 153)، ورواه كذلك عن: بكر بن عبد الله، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد. (¬4) الغيطان: المطمئن من الأرض. ينظر: القاموس المحيط، مادة (غوط). (¬5) في قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}. (¬6) ينظر في أقوال السلف في ذلك في تفسير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (24: 665 - 678).

نحوِ ما وصفْنا، فقالَ ـ: إنما أُتِيَ القومُ منْ قِبَلِ العُجْمَةِ (¬1)» (¬2). ولعلَّ في هذا المثالِ العزيزِ ما يدلُّ على ظهورِ هذه المسألةِ عندَ علماءِ السَّلَفِ، وأنهم كانوا يَعُونَهَا جيداً، حيثُ جعلوا هذه المحتملاتِ الصحيحة الواردةَ على النَّصِّ مقبولةً، ولم يَرُدُّوها. ولفهم السلف لهذه القاعدة وتعاملهم بها؛ تجد عن بعضهم قولين متغايرين غير متضادين في الآية، وقد يحملها ـ من لا يدرك هذه القاعدة، ولا يفقه أصول التفسير ـ على أنها أقوال متناقضة، وهي ليست كذلك، وليس المجال مجال عرض بعض هذه الأمثلة، لكن أكتفي بمثال عزيز عن حبر الأمة ابن عباس (ت:64هـ)، فقد ورد في تفسير قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] ما رواه ابن أبي حاتم، قال: حدثنا أبي، حدثنا النفيلي، حدثنا إسماعيل عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قال: «لها وجهان، قال: ذكر الله عندما حرمه، قال: وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه» (¬3)، فانظر، كيف نصَّ على وجهين متغايرين في معنى الجملة؟ وما ذاك إلا لإعمال هذه القاعدة الجليلة، وهي تعدد المحتملات الصحيحة للفظ القرآني. فإن قلت: ألا يفتح هذا باب الوقوع في التفسيرات الباطلة والمحتملات الفاسدة؟ فالجواب: إن هناك أصول علمية من سار عليها، واجتهد في تحقيقها، فإنه يكون قد سار على الطريقة المثلى المرجوَّة، فإن وصل إلى ¬

(¬1) أخرج البخاري هذا القول عن الحسن البصري بأخصر من ذلك، قال: «أهلكتهم العجمة»، ينظر: التاريخ الكبير (5: 93). (¬2) السُّنَّة، لمحمد بن نصر المروزي (ص: 7 - 8). (¬3) تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب (9: 3068).

الصواب، فذلك عين المطلوب، وإن لم يصل إلى الصواب كان مخطئاً مأجوراً، أما إذا لم يعتمد هذه الأصول، فإنه مخالف من بداية الطريق، لذا لا يمكن الالتقاء معه، فالخطان سيكونان متوازيان، وأنَّى لهما أن يلتقيا؟! واعلم أن كل من نقص علمه، أو نقص اعتماده على المصادر الصحيحة، فإنه سيقع في الخطأ لا محالة، وليس بمعذور إلا إذا لم يستطع التعلم، ولم يكن إليه سبيل، أما أن يكون بين علماء وطلاب علم، ولا يحرص على تعلم الأسلوب الصحيح للتفسير، فليس ذلك بمعذور، بل إن العتب عليه مضاعف، لعدم حرصه على سلوك السبيل الصحيح لتفسير كلام الله، مع حرصه على الكلام فيه. 2 - عندَ تفسيرِه قولَ اللهِ تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17] قالَ الشَّنقيطيُّ (¬1) (ت:1393هـ): «... فقوله رضي الله عنه: إلاَّ فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابِ اللهِ (¬2)، يدلُّ على أنَّ فَهْمَ كتابِ اللهِ تتجدَّدُ به العلومُ والمعارفُ التي لم تكنْ عند عامَّةِ الناسِ، ولا مانعَ من حمل الآيةِ على ما حملها المفسِّرونَ، وما ذكرْناه أيضاً أنَّه يُفْهَمُ منها، لِمَا تَقَرَّرَ عندَ العلماءِ مِنْ أنَّ الآيةَ إنْ كانت تحتملُ معانيَ كلُّها صحيحٌ، تَعَيَّنَ حَمْلُهَا على الجميعِ، كما حَقَّقَه بأدلتِهِ الشيخُ تَقِيُّ الدِّينِ أبو العباسِ بنُ تَيمِيَّةَ رحمه الله في رسالتِهِ في علومِ القرآنِ (¬3)». ¬

(¬1) أضواء البيان (3: 124). (¬2) هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬3) لعلَّه يريد الموضع الذي في مقدمة التفسير، وهو قوله: «ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين: إما لكونه مشتركاً في اللفظ؛ كلفظ قسورة الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد. ولفظ عسعس الذي يراد به إقبال الليل وإدباره. وإما لكونه متواطئاً في الأصل لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين كالضمائر في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8 - 9]، وكلفظ: {وَالْفَجْرِ *وَلَيَالٍ عَشْرٍ *وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1 - 3] وما أشبه ذلك. =

3 - جعلَ الطَّاهِرُ بنُ عاشورَ (ت:1393هـ) مقدمةً منْ مقدماتِ تفسيرِهِ خاصَّةً بهذه القاعدةِ، وعَنْوَنَ لها بقولِه: «المقدِّمَةُ التَّاسعةُ: في أنَّ المعاني التي تَتَحَمَّلُهَا جُمَلُ القرآنِ، تُعْتَبَرُ مُرادَةً بها» (¬1). ولو ذهبت إلى سرد نصوص العلماء وتطبيقاتهم في هذه المسألة لطال المقام، وما ذكرته ففيه الغنية لمن أراد أن يتذكر. وإذا جاز احتمال الآية لأكثر من معنى، فإنما ذلك لأن المفسر لا يستطيع الجزم ـ في حال الاحتمال ـ بأن هذا هو مراد الله دون ذاك؛ لأن أدلة الترجيح قد تستوي في نظره، أو قد يرى أحد الأقوال أقوى من الآخر من غير إبطاله، وإن أبطله فإنما يبطله بالدلائل العلمية، وليس لأنه يخالف قوله، أو أنه لا يدرك وجه هذا القول، فيردُّه، ويكون القصور والنقص في ردِّه وليس في القول. * * * ¬

= فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف وقد لا يجوز ذلك. فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين، فأريد بها هذا تارة، وهذا تارة، وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه، إذ قد جوَّز ذلك أكثر الفقهاء المالكية والشافعية والحنبلية وكثير من أهل الكلام. وإما لكون اللفظ متواطئاً فيكون عاماً إذا لم يكن لتخصيصه موجب، فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني». مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق الدكتور عدنان زرزور (ص: 39 - 51). (¬1) التحرير والتنوير (1: 93)، وقد تحدث عنها حتى (ص: 100).

الفصل الثاني: ضوابط قبول التفسير المعاصر

الفصل الثاني ضوابط قبول التفسير المعاصر لما سبق بيان جواز احتمال الآية لأقوال متعددة، فإن كل من يقول بقول جديد في تفسير الآية عموماً، وفي التفسير العلمي (أو الإعجاز العلمي) خصوصاً، فإنه يدخل من هذا الباب، وعليه أن يتبع الضوابط العلمية الصحيحة لمعرفة القول الصحيح من غيره، وستأتي هذه الضوابط. الضابط الأول: أن يكون القول المفسَّر به صحيحاً في ذاته: إن كل قول يقال في التفسير يمكن أن يُعلم صحيحه من خطئه، والقول الصحيح تُعلم صحتُه من وجوه: 1 - أن تدلَّ عليه لغة العرب، وذلك في تفسير الألفاظ أو الصيغ أو الأساليب. وهذا يعني أن تفسير ألفاظ القرآن بمصطلحات علمية سابقة له (¬1)، أو مصطلحات لاحقة لا يصحُّ البتة؛ لأن ألفاظه عربية، وتفسيرها يؤخذ من لسان العرب، ولغة القرآن، لا من هذه المصطلحات، كمن يفسر لفظ الأقطار في قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] بأنه القطر ¬

(¬1) ممن حرص على ربط الشريعة بالفلسفة ابن رشد الحفيد، ومن كتبه المتعلقة بذلك: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، وقد حمل جملة من مصطلحات الفلاسفة المتقدمين على الإسلام على ما جاء في القرآن والسُّنَّة.

الهندسي، وهو الخط الهندسي المنصِّف للدائرة أو الشكل البيضاوي (¬1). والأقطار في اللغة جمع القُطْرُ بالضم، وهو الناحية والجانب (¬2)، وهو المراد بآية سورة الرحمن، وكذا هو المراد في قوله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لأََتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا} [الأحزاب: 14]. ومن أوضح الأمثلة في أثر هذه المصطلحات على تفسير ألفاظ القرآن العربية بما اصطلح عليه علماء الفلك ما يَرِدُ من كون الشمس نجماً، والأرض كوكباً، وذلك لا تجده في آية قرآنية، ولا سُنَّة نبوية، ولا لغة عربية، فالشمس جرم غير النجم، والأرض جرم غير الكوكب، والقمر جرم غير هذه كلها، وإليك أدلة ذلك من القرآن. قال تعالى ـ في قصة مناظرة إبراهيم لقومه عبدة النجوم ـ: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76]، وقال فيها: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ} [الأنعام: 77]، وقال فيها: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78]، ففرق إبراهيم بين الكوكب والشمس والقمر. وقال تعالى ـ في قصة رؤيا يوسف ـ: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَِبِيه ياأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، ففرق يوسف بين الكواكب والشمس والقمر. ¬

(¬1) ينظر: وكان عرشه على الماء، للأستاذ الدكتور الطبيب عادل محمد عباس، نشر مركز الدراسات المعرفية (ص: 51)، وهذا الكتاب فيه تفسيرات كثيرة معتمدة على المصطلحات العلمية، مع إهمال المدلول اللغوي العربي، فضلاً عن تفسير السلف أو الاعتماد على السُّنَّة النبوية. (¬2) ينظر ـ على سبيل المثال ـ: مادة (قطر) من القاموس المحيط، للفيروزآبادي.

وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بَأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] ففرق بين الأرض والشمس والقمر والنجوم. وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]. والأحاديث وآثار السلف وأقوال علماء اللغة في التفريق بين هذه الأجرام أكثر من أن تُحصى، فإذا جاء مفسر معاصر إلى مثل هذه الآيات وزعم أن الشمس نجم، أو أن القمر والأرض كوكبان، فإنه يُعترض عليه بأنَّ القرآن فرق بينها، وأن لغة العرب فرقت بينها كذلك، ولم يرد في موطن واحد ما يدل على هذا التفسير لا من قريب ولا من بعيد، ومن ثَمَّ فالتفسير بهذه المصطلحات المعاصرة لهذه الأجرام لا يصلح. فإن قلت: هل يمتنع أن يصطلح علماء الفلك في علمهم على هذه الفروق التي لم تُجِز حملها على كتاب الله؟ فالجواب: لا، لا يمتنع، فاتفاقهم على هذا مصطلحاً بينهم لا غبار عليه، لكن أن يحملوا ألفاظ القرآن والسُّنَّة واللغة عليه فهذا هو المحذور؛ لأنه لم يرد فيها ما يدل على صحة هذه الإطلاقات الاصطلاحية في علم الفلك. 2 - أن لا يخالف مقطوعاً به في الشريعة. فإن ما لا يوافق الشريعة لا يمكن أن تدل عليه آيات القرآن بحال، وذلك كمن يفسر قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14]، بأنها

الضابط الثاني: أن تحتمل الآية هذا القول الحادث

الأطوار الداروينية (¬1)، ونظرية دارون ـ كما هو معلوم ـ مخالفة لجميع الشرائع السماوية التي تجعل أصل الإنسان أبانا آدم عليه السلام. وكذا من يفسر العرش أو الكرسي بأحد الكواكب السيارة (¬2)، وهذا مخالف أيضاً لما ثبت في الشريعة من كون هذه المخلوقات فوق السموات، وأنها أكبر منها بكثير. الضابط الثاني: أن تحتمل الآية هذا القول الحادث: ويمكن معرفة ذلك بطرق، منها أن تدلَّ عليه بأي وجهٍ من وجوه الدلالة: مطابقةً أو تضمُّناً أو لزوماً، أو مثالاً لمعنى لفظ عام في الآية، أو جزءاً من معنى لفظ من الألفاظ، أو غير ذلك من الدلالات التي يذكرها العلماء من أصوليين وبلاغيين ولغويين ومفسرين. وهذا الضابط مهمٌّ للغاية، إذ قد يصحُّ القول من جهة وجوده في الخارج، لكن يقع الخلل في صحة ربطه بالآية، وهذا مجال كبير للاختلاف، بل هو مجال تحقيق المناط في كثير من القضايا التي ثبتت صحتها من جهة الواقع، لكن يقع التنازع في كونها مُرادة في الآية، وهذا الاختلاف لا يصلح أن يكون محطّاً للانتقاص من الأطراف المختلفة، فإني رأيت بعض من يدعو إلى تفسير كثيرٍ من الآيات القرآنية بما ثبت من المكتشفات في بحوث العلوم التجريبية والكونية يتنقص الآراء التي في الآية، ويطالب علماء الشريعة بأن يُلِمُّوا بالعلوم المعاصرة لكي يتسنى لهم أن يقدموا التفسير المناسب لأهل هذا العصر، وتلك دعوى غير لازمة. ¬

(¬1) ينظر: جريدة الغد، على الشبكة العنكبويتة. (¬2) ينظر على سبيل المثال كتاب: أسرار الكون في القرآن، للدكتور داود سلمان السعدي (ص: 173 - 190)، وعلى هذا الكتاب ملاحظات في هذا الجانب وفي غيره من جوانب التفسير.

ولو وُعيت قضية احتمال تنازع الطرفين في صحة حمل القضية العلمية الحادثة على الآية القرآنية، وأنها مجال للاجتهاد، ولا يلزم التثريب ما دام الأمر لا يقع فيه تحريف في كلام الله؛ لو رُوعيت وصارت منهجاً لما حصل تدابر وتشاحٌّ بين المتنازعين، بل تبقى بينهم المحبة والتوادِّ والرحمة، وقديماً قيل: إن الاختلاف لا يفسد للودِّ قضية. وأضرب لك مثالاً في ذلك: قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] ورد فيها تفسيران للسلف: الأول: أن المراد بالنجوم نجوم القرآن، أنزل القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نجوماً متفرقة، وقد ورد ذلك عن ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد. الثاني: أن المراد بالنجوم نجوم السماء، واختلف القائلون بكون المراد بها نجوم السماء على عدة معاني: المعنى الأول: فلا أقسم بمساقط النجوم ومطالعها، والمراد مواقع طلوعها في أول الليل، ومواقع غروبها في آخر الليل، وقد ورد عن مجاهد، وقتادة. المعنى الثاني: بمنازل النجوم، والمراد بها المنازل المعروفة لهذه النجوم، كالثور والسرطان والجوزاء وغيرها، وقد ورد عن قتادة. المعنى الثالث: بانتثار النجوم عند قيام الساعة، وقد ورد عن الحسن البصري. وإذا تأملت هذه الأقوال وجدتها قد اختلفت في المراد بالنجوم، ثم اختلف القائلون بأنها نجوم السماء في المراد بمواقعها. فأصحاب القول الأول ذهبوا إلى موقع (مكان) طلوع النجم وغروبه، وكذا ذهب أصحاب القول الثاني، لكن تحديد الموقع اختلف، حيث ذهبوا إلى أماكنها في بروجها.

أما القول الثالث، فذهب إلى معنى السقوط، فجعل الموقع بمعنى الوقوع. وذهب بعض المعاصرين بمعنى الآية إلى قضية من قضايا العلوم الكونية المعاصرة، ومنه ما ذكره بعض الفضلاء، قال: «وهذا القَسَم القرآني العظيم بمواقع النجوم يشير إلى سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى إحدى حقائق الكون المبهرة، والتي مؤداها أنه نظراً للأبعاد الشاسعة التي تفصل نجوم السماء عن أرضنا، فإن الإنسان على هذه الأرض لا يرى النجوم أبداً، ولكنه يرى مواقع مرَّت بها النجوم ثمَّ غادرت، وفوق ذلك أن هذه المواقع نسبية، وليست مطلقة؛ لأن الضوء كأي صورة من صور المادة والطاقة لا يستطيع أن يتحرك في صفحة السماء إلا في خطوط منحنية، وعين الإنسان لا ترى إلا في خطوط مستقيمة، وعلى ذلك فإن الناظر إلى النجم من فوق سطح الأرض يراه على استقامة آخر نقطة انحنى ضوءه إليها، فيرى موقعاً وهميّاً للنجم غير الموقع الذي انبثق منه ضوءه، فنظراً لانحناء الضوء في صفحة السماء فإن النجوم تبدو لنا في مواقع ظاهرية غير مواقعها الحقيقية. ليس هذا فقط، بل إن الدراسات الفلكية الحديثة أثبتت أن نجوماً قديمة قد خبت أو تلاشت منذ أزمنة بعيدة، والضوء الذي ينبثق منها في عدد من المواقع التي مرَّت بها لا يزال يتلألأ في ظلمة السماء في كل ليلة من ليالي الأرض إلى اليوم الراهن، ومن هنا كان القسم القرآني بمواقع النجوم، وليس بالنجوم ذاتها ...» (¬1). وهذا القول يوافق من قال بأن النجوم هي نجوم السماء، لكن يفارقه بأن النجوم لم يقع عليها قسم، وإنما وقع على مواقعها الخالية منها، وبهذا يكون مخالفاً للقول السابق في هذه الحيثية، فالمتقدمون ¬

(¬1) من آيات الإعجاز العلمي/السماء في القرآن (ص: 196 - 197).

يذهبون بتفسير (مواقع النجوم) إلى أن القَسَم بالنجوم وبمواقعها، والذين نَحَو إلى التفسير المعاصر يذهبون إلى أن القَسَم بالمواقع دون النجوم، وعلى فرض صحة هذه القضية، فإن كونها هي المرادة بقوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] فيه نظر؛ لأمور: 1 - أن الأقوال الثلاثة قد ورد ما يشهد لها من القرآن، فمن ذهب إلى مطالع النجوم ومغاربها يشهد له مثل قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49]. ومن قال إن المراد منازل النجوم، فإنه يشهد له مثل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] على أحد الأقوال في تفسير الآية. ومن قال بأن المراد سقوطها عند قيام الساعة، فيشهد له مثل قوله تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير: 2]؛ أي: انصبت وسقطت، وهذا أحد معاني الانكدار في الآية. 2 - أن الله ذكر النجوم في غير ما آية، والمراد بها تلك النجوم المتلألئة في جوِّ السماء، ولم يشر في آية منها إلى هذه القضية، ولو كانت هذه القضية حقيقة، فإن إبراهيم ـ لما قال الله عنه ـ: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} [الصافات: 88] (¬1) يكون واهماً، فهو لم ينظر إلى النجوم إلا توهُّماً، وإنما نظر إلى مواقعها من حيث لا يدري! وإذا رجعت إلى السُّنَّة وآثار السلف وأقوال الناس، فإن النجوم عندهم هي ما يرونه فوقهم يتلألأ في جو السماء، ولا يمكن أن يدور في خلدهم أن ما يرونه إنما هو مواقع النجوم، والموجود فيها إنما هو صورة النجم لا حقيقته، فذلك محال أن يسلِّم به هؤلاء، ويبنون على ذلك ¬

(¬1) ورد تفسير السلف لهذه الآية بأنه رأى نجماً طالعاً في السماء، فقال: إني مطعون. وهو يوهم بهذا أنه قد أصابه النجم على حدِّ زعمهم بتأثير النجوم.

أحكامها العلمية والعملية، ومن ذلك ما رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن شقيق قال: «خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون الصلاة الصلاةَ، قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني الصلاة الصلاةَ. فقال ابن عباس: أتعلمني بالسُّنَّة؟ لا أمَّ لك، ثم قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة، فسألته، فصدَّق مقالته» (¬1). 3 - أن الله خاطب العرب بما يعقلون، والنجم عند العرب ما يشاهدونه، خلافاً لما قيل في هذا العلم المعاصر من كون ما نراه ليس نجوماً، وإنما مواقع النجوم، وبهذا يكون القول بها مخالفاً للمنقول والمعقول بين الناس، والناس مجمعون على أن ما يرونه يتلألأ في السماء إنما هي النجوم، بأي لفظ نطقوا به من لغاتهم، فهذه النجوم يرونها ويعرفونها بأسمائها ومواقعها ويهتدون بها؛ كما قال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}، وليس من المقبول إنكار ما اتفق عليه الناس بهذه السهولة. 4 - أن هذه القضية التي ذُكرت في التفسير المعاصر لا يدركها إلا القليل من الناس، وهم من كان عندهم من الآلات التي تقرِّب لهم ما بعُد في جَوِّ السماء فيدركون هذا بالنظر فيها، وفي مثل هذه الحال فإن العمدة في قبول مثل هذه القضية العلمية إنما هو العالم المسلم المطلع على ما اطلع عليه المكتشفون لها، وهم كذلك قليل جداً، وغير المتخصصين يقبلون منهم ما يطرحونه ثقة بهم في فهمهم وعلمهم بهذه القضايا فحسب، وليس عندهم إمكانية تصديق ذلك بالنظر كما هو ¬

(¬1) صحيح مسلم، برقم (705).

الضابط الثالث: أن لا يبطل قول السلف

الحال في كون المقسم به النجوم التي يرونها تتلألأ في السماء. وكثيرٌ من المسائل التي يطرحها المعتنون بالإعجاز العلمي تتصف بأن الاطلاع عليها محدود، وإدراكها لا يتأتَّى بسهولة، بل بمعالجة علمية معقَّدة من خلال الآلات والمعامل المتطورة. والمقصود أن القرآن الذي نزل للناس كافة لا يمكن أن يراد به بعض ما تدركه الخاصة فقط. وهذه الوجوه التي ذكرتها تجعل القول بهذا القول المعاصر محلَّ نظرٍ في أن يكون مراداً بالآية، فالاعتراض هنا على ربطه بالآية وليس في صحته في ذاته. الضابط الثالث: أن لا يبطل قول السلف: والمراد أن القول المعاصر المبني على العلوم الكونية أو التجريبية يُسقطُ قول السلف بالكلية، وقد سبقت الإشارة إلى هذا الموضوع، وذكرت لك الأصل الأصيل في هذا، وهو مبني على أمور: الأول: أن تعلم أن تفسير السلف شامل للقرآن كله، ولا يمكن أن يخرج الحق عنهم، أو يخفى عليهم فلا يدركونه، ويدركه المتأخرون. والمعنى أن كل القرآن كان معلوماً لهم بوجه من الوجوه الصحيحة، وأن ما زاده المتأخرون من الوجوه لا يعني نقص علمهم بالقرآن؛ لأن موجب ذلك القول الذي ظهر للمتأخرين لم يكن موجوداً في عصرهم كي يقال بجهلهم به. وعلى هذا فإنه لا يوجد في القرآن ما لم يعلم السلف معناه، ولا يمتنع أن يظهر للمتأخرين وجوه صحيحة من التفسير؛ يجوز القول بها واعتمادها ما دامت لا تناقض قول السلف. الثاني: أن العصمة لمجموعهم، وليست لفرد منهم، لذا يقع

الاستدراك في التفسير فيما بينهم، فترى بعضهم يخطِّئ فهم الآخر، ويرد عليه، ولو كان لقول الواحد منهم عصمة لما قُبِل تخطيئ من خطَّأ منهم، والعصمة للواحد منهم لم يَدَّعها أحد منهم. الثالث: أن إضافة الأقوال الجديدة الصحيحة التي تحتملها الآية ممكن، وقد سبق بيان هذه المسألة. لكن المشكلة هنا إذا كان القول المعاصر مسقطاً لقول السلف بالكلية؛ لأنه يلزم منه أن آية من الآيات لم يُفهم معناها على مرِّ القرون حتى ظهر هذا المكتشَف العلمي المعاصر، وهذا اللازم ظاهر البطلان، وقد سبق نقل قول بعض المعتنين بالإعجاز وبيان ما يؤول إليه قوله من هذا اللازم (¬1). ¬

(¬1) ومن ذلك ما يقوله الشيخ عبد المجيد الزنداني في كتابه توحيد الخالق، قال: «لكن الذي خلق الإنسان وعلمه، وأنزل القرآن وبينه أخبر في كتابه ووعد بأنه سيكشف للناس وللعلماء خاصة حقيقة ما في هذا القرآن من آيات بينة لتكون دليلاً لهم على صدق رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. وقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِيَ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}. وقال تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. الوعد يتحقق: وقد تحقق وعد الله، وكان مما تحقق في عصرنا هذا عصر العلوم الكونية أنه كلما تقدمت الكشوف العلمية في ميدان من الميادين، كشفت للناس عن آيات الخلق الباهرة التي تزيد الناس إيماناً بربهم وخالقهم، وكشفت أيضاً عن معنى من المعاني، فإن القرآن قد تحدث بصراحة أو أشار إليه؛ وبقيت تلك الآية تؤول أو تفسر على غير معناها لعدم معرفة السابقين بحقائق خلق الله، ودقائق ما أشارت إليه الآية، فكان هذا نوعاً من إعجاز القرآن يظهر في عصر العلم الكوني يشهد بأن القرآن: كلام الله بما حوى من حقائق جهلها البشر جميعاً طوال قرون متعددة وأثبتها القرآن في آياته قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، فكان ذلك شاهداً بأن هذا القرآن ليس من عند رجل أمي أو من عند جيل من الأجيال البشرية لا يزال يعيش في جهل كبير، إنما هو من عند الذي خلق الكون وأحاط بكل شيء علماً وصدق الله القائل لنبيه: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}» توحيد الخالق/المكتبة العصرية (3: 45).

الضابط الرابع: أن لا يقصد معنى الآية على ما ظهر له من التفسير الحادث

الضابط الرابع: أن لا يقصر معنى الآية على ما ظهر له من التفسير الحادث: وهذا الضابط يشير إلى الأسلوب التفسيري الذي يحسن بمن يريد بيان معنى جديد أن يسلكه؛ لأن الاقتصار على القول الجديد اقتصاراً يشعر بصحته وسقوط ما سبقه من الأقوال يعتبر خطأ في طريقة التفسير. وقد تأملت طريقة بعض الباحثين في الإعجاز العلمي، فألفيتها لا تخرج عن الأحوال الآتية: الأولى: أن يقتصر على ما ظهر له من ربط المكتشفات المعاصرة بآية من الآيات، دون تعرض لأقوال المفسرين، وهذا لا يبين من حاله القبول أو الرفض لأقوال العلماء السابقين. الثاني: أن ينص صراحة على رفضه لأقوال العلماء السابقين، ويفرض ما يراه من المكتشفات المعاصرة تفسيراً للآية، ولا يرتضي غيره. الثالث: أن يذكر أقوالهم على سبيل حشد الأقوال المذكورة في الآية، دون التعريج على إمكانية قبولها من عدمه، ثمَّ يستطرد في ذكر ما يراه تفسيراً للآية من المكتشفات المعاصرة. وبعض هؤلاء لا يحرص على تفسير السلف، ولا على تفهُّمه ودرايته، بل أحسنهم حالاً من يرجع إلى تفاسير المتأخرين وينقل أقوالهم، حتى إنه ينقل أقوال المعاصرين من المفسرين على أنها أقوال المفسرين. ولا شكَّ أن من يدرس التفسير على أصوله يعلم أن هذا الأسلوب فيه تقصير، لعدم الرجوع إلى تفسير الصحابة والتابعين وأتباعهم أولاً، ثم النظر في من وافقهم من المفسرين المتأخرين.

وإن التقصير في معرفة علومهم وأحوالهم كائن فينا نحن المسلمين في مجالات متعددة؛ كالتعبد والزهد والمتابعة وغيرها. فإن قلت: لمَ تُلزم بذكر أقوال السلف من المفسرين، وعمل الباحث المعاصر يقوم على إثبات ارتباط ذلك المكتشَف المعاصر بالآية؟ فالجواب: إني أطالب بأكثر من ذكر أقوالهم، وذلك بأن يتعرَّف المعاصر على أقوالهم ويفهمها على وجهها؛ لتتحصل له المعرفة بمرتبة القول الحادث على النحو الآتي: الأول: أن يكون قوله المعاصر مناقضاً لما اتفقوا عليه، فيتوقف في ربطه بين قوله والآية، ولا يتعجل حتى يسأل أهل العلم ليبينوا له صواب قوله من خطئه، فلا يجترئ على مخالفة الإجماع الذي هو أصل من أصول الدين، فالأمة لا يمكن أن تجمع منذ سالف دهرها على خطأ، ثم يظهر الصواب لشخص في الزمان المتأخر. الثاني: أن يعرف أقوالهم المختلفة، ويتأمل قوله بينها، هل يدخل في أحد الأقوال، فإن وجد قوله يندرج تحت قول من الأقوال أدرجه تحته، وبيَّن ما زاد على ذلك القول من تفاصيل عنده. الثالث: أن يكون قوله ـ مع اختلافهم ـ قولاً جديداً، لا يدخل في أحد هذه الأقوال، فينظر إلى صحته في الواقع، ومدى احتمال الآية له، فيقول به على سبيل الإضافة. فإن قلت: أرأيت إن أبطل قولُه أحد الأقوال المختلفة عن السلف؟ فالجواب: إن وصل إلى إبطال قول، فلا أرى أن يجترئ على إبطاله إلا بعد ظهور البينة التي لا لبس فيها بأن ما قاله صواب صحيح تدل عليه الآية، والقول الذي أبطله خطأ محض لا تدل عليه الآية. وههنا ملحظ مهم قد أشرت إليه، وهو أنه قد يكون القول الذي يقوله صحيح في ذاته، لكن الخطأ الذي يقع في صحة دلالة الآية عليه،

فتراه يتعسَّف في حمل الآية عليه، ويجعله تفسيراً لها، وهو ليس كذلك، إذ لا يلزم أن يكون كل قول صحيح في هذه المكتشفات المعاصرة أن يوجد ما يشهد لها من الآية، فتفسَّر به، وهذا أمر مهم للغاية. أما ما يقع من بعض الحريصين على ربط بعض المكتشفات العلمية بالآيات، وهذه المكتشفات ظَنِّية ظنّاً ضعيفاً، أو إنها خطأ محض = فإن هذا لا يختلف في رده ورفضه الباحثون الجادون في الإعجاز العلمي. * * *

الفصل الثالث: اعتراضات على تفسير السلف

الفصل الثالث اعتراضات على تفسير السلف قد يقع عند بعض المعتنين بالإعجاز اعتراض على هذه القضية من جهتين: الأولى: أن الواحد من السلف قد يخطئ، فكيف أكون ملزَماً بقوله. الثانية: أن في تفسير السلف إسرائيليات، وبعضها يتعلق بأمور كونية أو تجريبية قد ثبت خطؤها. وهاتان مسألتان من المهم دراستهما في هذا المقام، وإليك تفصيلهما في المبحثين الآتيين: المبحث الأول وجود الخطأ في تفسير آحاد السلف أقول: إن وقوع الخطأ من الواحد منهم غير بعيد، سواءً أكان في التفسير، أم في معرفة هذه القضايا كما هي في الواقع، إذ قد يتكلمون في ذلك باجتهادهم، أو بما وصلهم من العلم المعاصر لهم. لكن الحكم بالخطأ لا يتأتى لكل واحد، ولا بدَّ من التريث حال الحكم بالخطأ على تفسير ما، وليس هناك ما يمنع من التخطئة إذا ثبت وقوع الخطأ، لكن الذي يحسن التنبه له أن بعض أقوالهم قد يكون لها وجه يجهله المخطِّئ، ولو حمله على ذلك الوجه الذي ذكره الواحد من السلف لصحَّ عنده، وهذا باب في أصول التفسير مهم، وهو (توجيه

أقوال السلف) فمن تعلَّم طرائق توجيه أقوالهم وجد كثيراً منها له وجه معتبر، وإن كان غير راجح عند بعض العلماء، ولأذكر لك مثالاً تهتدي به في هذا المقام. ذكر الطبري (ت:310هـ) تفسير السلف لاستحياء النساء من قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيْسَتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، وذهب جمهورهم في التعبير عن ذلك بأنهم يبقونهنَّ على قيد الحياة، ثم ذكر قولاً لابن جريج يخالف تعبيره تعبيرَهم، قال: «وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج فقال بما: حدثنا به القاسم بن الحسن قال: حدثنا الحسين بن داود قال: حدثني حجاج عن ابن جريج قوله: {وَيْسَتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} قال: يسترقُّون نساءكم. فحاد ابن جريج بقوله هذا عما قاله من ذكرنا قوله في قوله: {وَيْسَتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}: إنه استحياء الصبايا الأطفال إذ لم يجدهن يلزمهن اسم نساء، ثم دخل فيما هو أعظم مما أنكر بتأويله: {وَيْسَتَحْيُونَ}: يسترقُّون، وذلك تأويل غير موجود في لغة عربية ولا أعجمية، وذلك أن الاستحياء استفعال من الحياة، نظير الاستبقاء من البقاء، والاستسقاء من السقي، وهو من معنى الاسترقاق بمعزل» (¬1). ولو التمست لتفسير ابن جريج (ت:150هـ) وجهاً في التأويل، وذهبت إلى أنه فسَّر جملة {وَيْسَتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} بلازمها، وهو كون هؤلاء الفتيات الصغيرات سيكنَّ رقيقات حال كِبَرِهنَّ واستطاعتهن للخدمة، لكان وجهاً حسناً مليحاً، فيكون تفسير الجمهور مبيناً عن معنى اللفظ من جهة ¬

(¬1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط: دار هجر (1: 651).

اللغة، وتفسير ابن جريج (ت:150هـ) مبينٌ عن لازم هذا الاستحياء، وهو الاسترقاق، فإذا ذهبت بقوله هذا المذهب صار القولان مقبولين، ولَمَا احتجت إلى ردِّ قول ابن جريج (ت:150هـ) كما ذهب إلى ذلك الإمام الطبري (ت:310هـ) الذي ذهب بقول ابن جريج (ت:150هـ) إلى التفسير اللفظي، فأنكره عليه. ولو سار من يبحث في الإعجاز العلمي على هذا النموذج، وحرص على تفهُّم قول السلف، واجتهد في تخريج أقوالهم، وتعرَّف على طريقتهم في التفسير لسَلِم من انتقاد أقوالهم، والتنقُّص لعلمهم، كما وقع في كتاب (من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم البحار) فقد جاء في هذا البحث عبارات ما كان لها أن تكون لو كان الباحث يتبع منهج الاعتداد بقول السلف، والحرص على تفهُّم أقوالهم، وتخريجها بحملها على المحمل العلمي المناسب لها، ومما جاء في هذا الكتاب ما يأتي: 1 - في تعليقه على أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 53]، قال: «ولم يتيسر للمفسرين الإحاطة بتفاصيل الأسرار التي ألمحت إليها الآية؛ لأنها كانت غائبة عن مشاهدتهم، وتعددت أقوالهم في تفسير معانيها الخفية» (¬1). ثم ذكر أقوال المفسرين: ابن الجوزي وأبي السعود والبيضاوي والشنقيطي وطنطاوي جوهري وغيرهم، ثم قال: «فتأمل كيف عجز البشر عن إدراك تفاصيل ما قرره القرآن الكريم، فمن المفسرين من ذكر أن البرزخ أرضاً أو يبساً (حاجز من الأرض). ¬

(¬1) من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم البحار، نشر هيئة الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والسُّنَّة/رابطة العالم الإسلامي (ص: 17).

ومنهم من أعلن عجزه عن تحديده وتفصيله، فقال: «هو حاجز لا يراه أحد»، وهذا يبين لنا أن العلم الذي أوتيه محمد صلّى الله عليه وسلّم فيه ما يفوق إدراك العقل البشري في عصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وبعد عصره بقرون. وكذا الأمر في الحجر المحجور، فقد ذهب بعض المفسرين إلى حملها على المجاز، وذلك بسبب نقص العلم البشري طوال القرون الماضية ...» (¬1). ثم ذكر ما توصل إليه الباحثون المعاصرون في عالم البحار في مسألة البرزخ والحجر المحجور، ثم قال: «فانظر كيف حارت العقول الكبيرة عدة قرون ـ بعد نزول القرآن الكريم ـ في فهم الدقائق والأسرار، وكيف جاء العلم مبيناً لتلك الأسرار، وصدق الله القائل: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [النمل: 93]، وانظر كيف استقر المعنى بعد أن كان قلقاً ...» (¬2). ومؤدى هذا الكلام أن المفسرين السابقين لم يهتدوا إلى معرفة معنى هذه الآية، وأن معناها لم يظهر إلا في هذا العصر. ولا يخفاك أن هذا من عدم فهم أصول التفسير، وتقرير صحة ما ذهب إليه المفسرون من السلف، ثم بناء علم آخر عليه، وليس الاعتراض عليه كما هو الحال في هذا المثال. والباحث الكريم الذي توصل إلى هذه النتيجة في فهم معنى الآية لم يبين للقارئ عدم تطابق ما ذكره المفسرون مع معنى الآية بأي وجه من الوجوه، بل راح يفند أقوالهم بالجملة، ثم يبيِّن أن ما توصل إليه ¬

(¬1) من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم البحار، نشر هيئة الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والسُّنَّة/رابطة العالم الإسلامي (ص: 20 - 21). (¬2) من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم البحار، نشر هيئة الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والسُّنَّة/رابطة العالم الإسلامي (ص: 31).

المبحث الثاني: الإسرائيليات ومخالفتها للقضايا العلمية المعاصرة

العلم الحديث هو التفسير الصحيح للآية، وما قاله المفسرون لا يخرج عن أن يكون نوعاً من البرزخ والحجر المحجور، لكن قناعتهم بما عندهم من العلم الحديث قد تردهم ـ من حيث لا يشعرون ـ عن تفهُّم قول المفسرين، وعن التنبه إلى مطابقة قولهم لمعنى الآية. والأسلوب الصحيح في مثل هذا المثال: 1 - أن يُفهم قول المفسرين على وجهه، ويُعرف وجهه الصحيح الذي قالوا به، وذلك بتطابق ما قالوه مع معنى البرزخ والحجر المحجور. 2 - أن يُتأدَّب في العبارات معهم، ولا يؤتى بعبارات تشعر بالتصغير لعلمهم وفهمهم. 3 - أن يُجعل ما فهموه صحيحاً ـ إن كان قولاً واحداً ـ أو يختار الباحث من أقوالهم المختلفة المعنى الذي يظهر له أنه صحيح، ولا يرمي كل ما عندهم من الأقوال ويتركها لأجل ما توصل إليه العلم الحديث. 4 - أن يجعل ما توصل إليه إضافة فحسب، وهي إضافة قابلة للصواب والخطأ، ولا يصلح الجزم بها كما هو الحال في مثل هذا المثال. المبحث الثاني الإسرائيليات ومخالفتها للقضايا العلمية المعاصرة إن معرفة كيفية تعامل السلف مع الإسرائيليات يعتبر أصلاً مهماً من أصول التفسير؛ لأن القارئ في التفسير سيمرُّ بها لا محالة، لكن هذا المقام ليس مقام التفصيل في هذه المسألة، لذا سأكتفي بذكر بعض الأمثلة ونقاشها نقاشاً علميّاً. لو سأل سائل: هل كل ما ورد من أخبار في أسفار بني إسرائيل خطأ محض؟

لا شك بأن الجواب من أي عاقل: لا، بل فيها ما هو صواب، وفيها ما هو خطأ. ولو سأل سائل: هل عندنا ميزان يرشدنا إلى معرفة الصواب من الخطأ في هذه الأخبار؟ فالجواب فيه تفصيل: أما بعض الأمور، فعندنا ميزان، وهو شرع الله، إذ لا يمكن أن يختلف الأنبياء في أصول الشرائع كتحريم الكذب، والسرقة، والزنى، وغيرها من الأصول التشريعية في الأوامر والنواهي، فإذا وجدناهم قد نسبوا إلى نبي من الأنبياء إباحة شيء من هذا أو استباحته علمنا أنه خطأ محض، وكذب مُفترى. والآثار النبوية قد دلت على شيء من الأمثلة في هذا، وهذه القضية معلومة لا تحتاج إلى تفصيل. وأما بعض الأمور من الأخبار فإنها تتأرجح بين الصدق والكذب، ولا يمكن الجزم بهذا أو بذاك، لذا جاء الإرشاد النبوي ناسخاً للنهي عن التحديث عن بني إسرائيل، ومن هذه الأحاديث: 1 - روى البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بلِّغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» (¬1). 2 - وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدِّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية [البقرة: 136]» (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري برقم (3274). (¬2) رواه البخاري برقم (4215)

3 - روى أحمد بسنده عن ابن أبي نملة أن أبا نملة الأنصاري رضي الله عنه أخبره أنه: بينا هو جالس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءه رجل من اليهود، فقال: يا محمد، هل تتكلم هذه الجنازة؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله أعلم». قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقاً لم تكذبوهم، وإن كان باطلاً لم تصدقوهم» (¬1). وهذه الأحاديث تبين بوضوح طريقة التعامل مع مرويات بني إسرائيل فيما لا يمكن الجزم بصحته أو كذبه. فإن قلت: لِمَ لَمْ تذكر ضابط العقل هنا؟ أليس العقل ضابطاً في معرفة الصدق من الكذب؟ فأقول: العقل قرينة في معرفة الصدق من الكذب، لكن هناك بعض الأمور التي تختلف فيها العقول من جهة القَبول وعدمه، كما أن هناك غرائب حكاها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولولا حكايته لها لما قبلتها العقول، فدلَّ على أن العقل ليس ضابطاً مطلقاً؛ لأنه قد يأتي في بعض هذه المرويات ما تستغربه العقول لا ما تحيله العقول، وليس من الصواب ردُّها لعدم ملاءمتها لعقلك؛ إذ قد تتخرَّج عند عقل غيرك على تخريج معقول مقبول، وسيأتي ذكر مثال لذلك. ولكي لا يخرج الموضوع عن مداره أقول: إن السلف لما حكوا هذه الإسرائيليات انطلقوا من هذه الأحاديث التي تجيز التحديث عن بني إسرائيل، وتأمر بالتوقف في التصديق والتكذيب؛ إلا إذا كان هناك بينة ظاهرة واضحة لا لبس فيها، ومن ثَمَّ، ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (4: 136).

فإنه لا يصلح التثريب عليهم بوجود إسرائيليات في تفاسيرهم، بعد التجويز النبوي للتحديث بأخبار بني إسرائيل، وهل سنكون أشفق من الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأمته، فنمنع ذلك؟! وسأذكر مثالاً من التفاسير التي نقلها السلف من بني إسرائيل، وأناقش إحالة العقل أو إمكانيته لمثل هذا الخبر. في تفسير قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] ورد عن بعض السلف في تفسير {ق} أنه جبل محيط بجميع الأرض يقال له: جبل قاف. وهذا الخبر غريب جدّاً، وقد استنكره بعض الأئمة؛ كابن كثير الدمشقي (¬1)، ولم يسنده الطبري كعادته، بل ذكره من دون ذكر قائله (¬2)، ومحله عندما تعرضه على عقلك كما ترى. ¬

(¬1) قال ابن كثير: «وكأن هذا ـ والله أعلم ـ من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس؛ لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افترى في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى وقلة الحفاظ النقاد فيهم وشربهم الخمور وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه وتبديل كتب الله وآياته، وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» فيما قد يجوزه العقل، فأما فيما تحيله العقول، ويحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل والله أعلم»، تفسير القرآن العظيم، تحقيق الدكتور محمد إبراهيم البنا (7: 3285). ولا ريب أن هذا الحرف المقطَّع من جنس الحروف الأخرى، والصحيح في تفسيرها أنها حروف لا معنى لها، ولها مغزى، وهو الإشارة إلى التحدي والإعجاز، وهذا الترجيح لا ينفي الخبر المذكور؛ لأنه يثبت وجود جبل، ثم يجعل هذا الجبل تفسيراً لقوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، فالأمران منفصلان، فالقول بثبوت الجبل ـ لو ثبت ـ لا يلزم منه أن يكون تفسيراً لقوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}. (¬2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط: دار هجر (21: 401).

لكن هل يستحيل عقلاً وجود مثل هذا الجبل؟ لو قال قائل ـ ممن سبقنا، ولم يدرك صور الأرض من الفضاء ـ: لا يلزم أن يكون الإنسان أدرك جميع التفاصيل المتعلقة بالأرض وأحوالها، وقد يكون هذا الجبل موجوداً لكن لم يدركه الإنسان، ولم يعرف كنهه، ويكون مما أخبرت به بعض الأنبياء، فبقي مكتوباً عند بني إسرائيل، فيبقى الأمر محتملاً للتصديق والتكذيب، وليس مما تحيله العقول. ومما يشهد لوجود أشياء في هذا الكون لا يدركها الإنسان، مع إخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم بها = ما رواه مسلم وغيره عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر. ووقت العصر ما لم تصفر الشمس. ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق. ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط. ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس، فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني شيطان» (¬1). وهذا الخبر صحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس كخبر جبل قاف من جهة القبول والتصديق، لكن المراد أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد أخبر بخبره الصادق عن أمر غريب لا يدركه الناس بأبصارهم، وعدم إدراكهم له لا ينقضه، فكذلك جبل قاف يحتمل أن يكون كقرني الشيطان. ولو استشهد بأمرين في هذه المسألة، فقال: الأول: أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم التي تأمر بأن لا نصدق مرويات بني إسرائيل ولا نكذبها، وأنا أراه من هذا الجنس. ¬

(¬1) رواه مسلم برقم (612). وهناك أمثلة كونية غيرها ذكرها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولا يمكن الاعتراض عليها بسبب عدم وقوف البحوث الكونية المعاصرة على كيفيتها، مثل سجود الشمس تحت العرش، وغيرها من الأخبار النبوية الصحيحة.

الثاني: وجود أحاديث صحيحة من جنس هذا الخبر من حيث الغرابة. = فإن (¬1) قوله ـ من جهة التحليل العلمي ـ قول صحيح، ولا يمكن أن يُخطَّأ بدعوى عدم قبول العقل لها. فإذا وُجِد من يقول بهذا من السابقين، فإننا اليوم ـ وقد جاب الباحثون الفضاء فلم يظهر لهم جبل قاف ـ يمكننا أن ننكره بالحس، لكن لا يجوز لنا أن نقول: لقد تابعوا حركة الشمس في السماء، فهل وقفوا على قرني الشيطان هذه؟ وعدم وقوف البحوث الكونية المعاصرة على قرني الشيطان لا يصلح لتكذيب الخبر الصادق عن المعصوم صلّى الله عليه وسلّم. والمقصود من ذلك: أن الاعتذار مطلب يحسن أن نتأدب به مع أسلافنا، وفيما بيننا، كما يحسن أن لا نُلْصِقَ بهم تهمة الأخذ من بني إسرائيل، ثم نبني على ذلك الإعراض عن تفسيرهم، أو بيان ضعف تفسيرهم، وليس هذا الاتهام لهم هو المنهج الصحيح، بل الصواب أن يُتعرَّف على مناهجهم في تلقُّف هذه الأخبار الإسرائيلية، وكيفية التعامل معها بناءً على المنهج النبوي الواضح من الأحاديث التي ذكرتها لك. فإن قلت: إن وجدنا بعض السلف يعتمدها، ويصحح التفسير بها؟ فأقول: على فرض ذلك، فنحن عندنا المنهج النبوي الصحيح، ولسنا ملزمين بغيره من أقوال كائن من كان قائلها، فلو وقع ذلك، فهنالك يقع الرد والاعتراض إذا كان له مجال. لكن الملاحظ على جمهور المعاصرين الذين درسوا الإسرائيليات أو كتبوا فيها المقالات أن الحكم عندهم سابقٌ، وهو ردُّ هذه ¬

(¬1) هذا جواب: فلو قال قائل ...

الإسرائيليات، والتشنيع على المفسرين الذين ذكروها، حتى صاروا يعدون ذكرها أو الإكثار منها من عيوب التفاسير، بل زعم بعضهم أنها من أسباب ضعف التفسير المأثور عن السلف، وذهب بعضهم إلى الدفاع عن التفسير بردِّ الدخيل منه، ومن هذا الدخيل عندهم الإسرائيليات، بل طالب بعضهم بطبع كتب التفسير من جديد بعد حذف الإسرائيليات منها، وهذا المنهج الذي سلكوه ليس بصواب، وليس هو السبيل الذي سار عليه العلماء سلفاً وخلفاً في هذا الموضوع، ونقاش ذلك ليس هذا محله، وهو أمر يطول تقريره. وبعد، فإنَّ ورود بعض التفاسير عنهم مما تلقفوه من بني إسرائيل لا مشاحة في ردِّه إذا ثبت ثبوتاً يقينيّاً خطؤه، وليس على من نقله منهم تثريب أو ملامة، فالإنسان يتكلم على حسب ما ورده من العلم. وإن رأى بعض من يطلع على مقالتي هذه تشديداً في مسألة الإعجاز العلمي، فإني أذكِّرهم بأن الأمر خطير، وإن وُجِدَ تشديد فإنه من باب الذبِّ عن كتاب الله تعالى، فلا يجوز لكل مسلم أن يقول في كلام الله وتفسيره ما يقول، وهو ليس من أهل العلم، ولا هو عارف بالتفسير وأصوله، فإن القول على الله بغير علم من الكبائر التي حرمها الله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، والتفسير قول على الله؛ لأن من فسَّر كلامه، فكأنه يقول: هذا ما قاله الله وأراده بكلامه، لذا عظَّم بعض السلف جانب التفسير، وتورَّعوا فيه، ومن ذلك قول مسروق (¬1): «اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله» (¬2)، وقد كان ذلك المذهب ـ وهو التورع في ¬

(¬1) مسروق الأجدع، تتلمذ على عائشة وصحب ابن مسعود، وأفاد منه، وهو أحد كبار تلاميذه. (¬2) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن.

التفسير ـ بارزاً في علماء التابعين من أهل المدينة والكوفة (¬1)، والذين يريدون تفسير كلام الله بحاجة إلى أن يدرسوا هذا المذهب، ويتأملونه قبل أن يلجوا إلى التفسير. وإن من العجيب أن يطالب بعضُ الجادِّين في بحث الإعجاز العلمي؛ يطالب المتكلمين فيه بأن لا يتكلموا فيما لا يحسنون من العلم، فلا يبيحون للطبيب أن يتكلم في الآيات التي تتحدث عن الفلك ليبين وجوه الإعجاز فيها، ولا يبيحون للمهندس أن يتكلم في آيات الطب ليبين الإعجاز فيها، ويأمرون باحترام التخصص، ولا ترى كثيراً منهم ـ مع كل أسف ـ يطالبون بالتعامل مع التفسير وأصوله بمثل هذه المطالبة، وكأن علم التفسير علم سهل ميسور يستطيعه كل مثقف، وكل متخصص في العلوم التجريبية والكونية، ونحن نرى كيف يقع الخلل في فهم بعض الآيات ممن هم متخصصون في علم الشريعة، وليسوا من أهل التفسير؟ فكيف الحال بهؤلاء؟! إن حقوق كتاب الله أن يشرع أحد في تفسير آياته وهو لم يتعلم أصول تفسيره، ولم يتقن التعامل مع اختلاف المفسرين، ولم يعرف كيف يقوم بتفسير الآيات بعد ذلك. وأخيراً أقول: أرجو أن لا يُفهم أني أدعو إلى إقفال باب الحديث عن الإعجاز العلمي، فملاحظاتي على ما هو مطروح لا يعني عدم قناعتي به جملة وتفصيلاً، بل في الساحة من الحديث عنه خير كثير، وأتمنى أن لا يعتب عليَّ إخواني من المعتنين بالإعجاز العلمي، وأن تتسع صدورهم لأظهر ما أرى أنه صوابٌ في هذه المسألة؛ لأني أدعو إلى تصحيح المسار في بحوث الإعجاز العلمي للتوافق مع المنهج ¬

(¬1) ينظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط: دار هجر (1: 78 - 81).

التفسيري الصحيح، فإن كان كذلك، فتلك منَّة وفضل من الله، وإن كان غير ذلك، فمن تقصيري، ومن نزغات الشيطان، أعيذ نفسي وإخواني من نزغاته. * * *

المقالة الخامسة هل يصح أن ينسب الإعجاز للسُّنَّة؟

المقالة الخامسة: هل يصح أن ينسب الإعجاز للسنة؟

المقالة الخامسة هل يصح أن ينسب الإعجاز للسُّنَّة؟ (¬1) إن أزمة المصطلحات لا تكاد تنفك عن علم من العلوم، ونحن بحاجة إلى النظر فيها لتحرير محلِّ النِّزاع، أو لما قد يترتب عليها من معلومات فيها خلل، لذا فإن ما يقال: إنه لا مشاحة في الاصطلاح = فإنه ليس على إطلاقه، نعم، لا مشاحة في الاصطلاح إذا كان لا يغيِّر حقائق الأمور، ولا يترتب عليه معلومات علمية خاطئة. وهنا مصطلح معاصر حادث، وهو (الإعجاز العلمي في السُّنَّة النبوية)، فهل يصح هذا الإطلاق؟ إذا رجعنا إلى تراثنا المتراكم عبر القرون، وجدنا علماءنا ـ رحمهم الله تعالى ـ قد كتبوا في هذا الأمر، لكن تحت مسمَّى (دلائل النبوة) أو (أعلام النبوة)، وهو أقلُّ في الاستعمال من (دلائل النبوة). ويذكرون في كتبهم هذه أموراً: الأول: معجزات نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم. الثاني: أحواله الدالة على صدقه. الثالث: إخباراته بالغيب، والإشارة إلى وقوع بعض ما أخبر به. لذا فدلائل النبوة فيها المعجزات، وفيها غيرها مما يدل على صدق نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم. وما دام هذا كان متحرِّراً عند علمائنا ـ رحمهم الله تعالى ـ فما ¬

(¬1) مقال نُشر في ملتقى أهل التفسير.

الداعي إلى ترك الاصطلاح الدقيق لعلمائنا السابقين، واستبداله بمصطلح يحمل مشكلات علمية؟ إن مصطلح الإعجاز منذ ظهر وهو مرتبط بأمرين: • بالقرآن الكريم. • وبالأمور الخارقة لعادة الخلق جميعاً، تلك العادة ـ كتسبيح الحصى ـ التي يجريها الله على يد نبيٍّ من أنبيائه لتكون دليل صدقٍ على نبوتهم، أو تأييداً لهم. ولقد قلَّبتُ الأمر في هذا المصطلح الحادث، فلم أر أننا بحاجة إليه ما دام في تراثنا ما يغني عنه، ويدلُّ على المراد به دون مشكلات علمية. والملاحظ أن من أحدث هذا المصطلح راح يُعرِّفه بتعريف خاصٍّ جدّاً ينطبق على ما يريد هو، دون الالتفات إلى تقرير العلماء السابقين في تعريف المعجزة، فصار نشازاً بعيداً عن مفهوم المعجزة كما عرفته القرون من قبلنا. وإذا تأملت تعريفهم للإعجاز العلمي بالسُّنَّة النبوية؛ ظهر لك يقيناً أن مدلول مصطلح (دلائل النبوة) أصدق وأدقُّ من مدلول (الإعجاز). ومن عرَّف الإعجاز العلمي يقول: «هو إخبار القرآن الكريم أو السُّنَّة بحقيقة أثبتها العلم التجريبي، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وهذا مما يُظهر صدق الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما أخبر عن ربه سبحانه». تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسُّنَّة الصادر عن هيئة الإعجاز العلمي برابطة العالم الإسلامي (ص: 14). والذي يُظهِر صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم إما أن يكون من قبيل المعجزات، وإما أن يكون من قبيل الأحوال النبوية الدالة على صدقه، وإما أن يكون من قبيل الإخبار بالغيب الذي يقع تحقيقه في المستقبل، وهذه كلها دلائل نبوة.

• أما المعجزات فهي من الأمور الخارقة التي لا يقدر عليها الخلق البتة، لذا فهي مختصَّة بالله تعالى يظهرها على يد نبي من أنبيائه، أو يظهرها على يد وليٍّ من أوليائه تدلُّ على صدق النبي، وتكون مؤيدة له. • وأما الأحوال النبوية، فإنها تدلُّ على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن أشهر الأمثلة في تاريخ الرسالة خبر هرقل مع أبي سفيان، فهرقل قد استدل على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسؤال عن أحواله. وفي الإصابة لابن حجر في ترجمة ملك عُمان، قال: «الجُلَنْدَى بضم أوله وفتح اللام وسكون النون وفتح الدال، ملك عمان ذكر وثيمة في الردة عن ابن إسحاق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: بعث إليه عمرو بن العاص يدعوه إلى الإسلام، فقال: لقد دلني على هذا النبي الأمي: إنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يَغلِب فلا يبطر، ويُغلَب فلا يَهجُر، وأنه يفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبيٌّ، ثم أنشد أبياتاً منها: أتاني عمرو بالتي ليس بعدها ... من الحق شيء والنصيح نصيح فقلت له ما زدت أن جئت بالتي ... جُلندى عُمان في عمان يصيح فيا عمرو قد أسلمت لله جهرة ... ينادي بها في الواد بين فصيح وسيأتي في ترجمة جيفر بن الجلندى في هذا الحرف أنه المرسل إليه عمرو فيحتمل أن يكون الأب وابنه كانا قد أرسل إليهما». ومن تأمل أحوال من ادَّعى النبوة من الكَذَبَةِ عرف أهمية الأحوال النبوية في الدلالة على الصدق. • وأما الإخبار بالغيب، فهو كثير في سُنَّته صلّى الله عليه وسلّم، وقد كتب العلماء في ذلك في كتبهم في الصحاح والسنن والمسانيد، ولبعضهم مؤلفات خاصة؛ ككتب (الفتن والملاحم)، وكتبوا ـ كذلك ـ في كتب (دلائل النبوة) وفي غيرها مما يتعلق بسيرته الشريفة؛ كتبوا كثيراً من أخبار الغيب

التي تنبَّأ بها، وقد وقع منها شيء كثيرٌ يدلُّ على صدقِه صلّى الله عليه وسلّم. وأما النوع الذي ينحو إليه من يكتب في (الإعجاز العلمي في السُّنَّة النبوية) فحقيقةُ أغلبِه أنه إخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأمر يطابق الواقع الذي كان بين يديه، وليس بأمر سيأتي بعده بعد حين. ومن باب الفائدة أقول: إن كانت تفاصيل بعض ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم غير مدرَكة للصحابة ـ كما يرى من عرَّف الإعجاز العلمي ـ فإن هذا لم يؤخِّر الصحابة ومن جاء بعدهم عن العمل بما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وإدراكُ ذلك ـ على سبيل التفصيل ـ بطرق بشرية بحتة توصِل إلى صدق ما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم = هو من دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم بلا ريب، لكن لا يصلح أن يقال عنه: إنه (معجزة)، فهو لا يتناسب مع تعريف المعجزة التي عرَّفها به العلماء على اختلافهم في تعريفاتهم لها. تنبيه: إن مما لا يخفى أن قضية الإخبار بالغيب قد تحصل لغير النبيِّ، لكن الفرق بين النبي ومدَّعي النبوة أن أخبار الأول كلها صادقة، أما الثاني فالأصل في أخباره الكذب، ولا يصدق منها إلا القليل جدّاً، وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم عن استراق الجنِّ لأخبار السماء، ولزيادتهم فيها حتى يكون الخبر الواحد معه مائة كذبة. • ويمكن القول بأن تميُّز الرسول صلّى الله عليه وسلّم في المعجزات والأحوال تميزٌ تامٌّ، بخلاف الإخبار بالغيب، إذ قد يقع فيه مشاركة من جهة، لكن ـ كما سبق ـ شتان بين الإخبار النبوي عن الغيوب وإخبار الدجالين عنها. أما أن يرد في أخباره صلّى الله عليه وسلّم خبر مجمل في قضية ما، ثم يأتي العِلمُ المعاصر مصدِّقاً لما قال، فهذا لا خلاف في وقوعه، بل هو الأصل عندنا نحن المسلمين؛ لأن كلام نبينا صلّى الله عليه وسلّم حقٌّ، لكن أين مجال السبق هنا؟

إن السبق يصحُّ لو كنا نحن الذين اكتشفنا بناءً على معطيات الخبر النبوي، ثم توصل الغرب أو الشرق إلى ما اكتشفناه، أما على أسلوب من يدَّعي الإعجاز في السُّنَّة النبوية، فلا يوجد سبق؛ لأن السبق في الكشف إنما هو لمن اكتشف، وليس لمن كان عنده الخبر ولا يدري ما تحته من التفاصيل (أعني: نحن المسلمين المعاصرين). ومصطلح (السبق) الذي يقوم عليه الإعجاز العلمي بحاجة إلى إعادة نظر وتقويم؛ إذ لا حاجة لنا بأن نقول بالسبق، وإنما يكفي أن ندلَّ على أن ما اكتشفه المعاصرون بالتجربة والتحليل والتفصيل هو معلوم عندنا على سبيل الإجمال من حديث نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وأننا مؤمنون بخبره، مطبِّقون له؛ سواءٌ علمنا هذه التفاصيل أو لم نعلمها، وما يزيدنا هذا الكشف الجديد إلا إيماناً وتسليماً. ومن وجوه الصدق التي يحسن أن نعرفها أنه لا يوجد في سُنَّة نبينا صلّى الله عليه وسلّم ما يمكن أن يخالف الفطرة السوية والصحة البدنية والنفسية، فربُّنا سبحانه وتعالى قد يسَّر لنبينا صلّى الله عليه وسلّم أمور دينه ودنياه، فللَّه الحمد والمنة على أن جعلنا من أتباع هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. * * *

المقالة السادسة تعريف الإعجاز العلمي بالسبق هل هو دقيق في التعبير عن مضمونه؟

المقالة السادسة: تعريف الإعجاز العلمي بالسبق هل هو دقيق في التعبير عن مضمونه؟

المقالة السادسة تعريف الإعجاز العلمي بالسبق هل هو دقيق في التعبير عن مضمونه؟ (¬1) لا يفتأ من يقرأ في تقريرات العلماء في التعريفات، أن يجد حرصهم على دفع الإشكالات عنها، وعلى جعل المصطلح منطبقاً على مضمون القضية التي يتحدثون عنها، وقد قامت سجالات علمية في تحرير مصطلحات العلوم، ولك أن تنظر في مصطلح (النحو) (أصول الفقه) (البلاغة) (التفسير) إلى غيرها من المصطلحات التي لا يخفى على طالب العلم ما دار حولها من النقاشات. ولا يخفى على طالب العلم ما في تحرير مصطلح جديد من العناء والتعب، حتى يرى أنه لا يكاد يُوفَّق فيه إلا بعد جهد جهيد، وعرض على كثير من العقول تختبره وتبلوه حتى يخرج حسناً مقبولاً. وطالب الحقِّ لا ينزعج من أن يُعترض عليه في تعريفه، بل أن يُنقض تعريفه؛ لأن الحقَّ مطلبُه وبغيته، ولا ينزعج من ذلك إلا قليل البضاعة في العلم، أو ضيق النفس الذي لا يحتمل الصولة في العلم. وإذا كان المطلوب من خُلقِه أن لا يكون كذلك، فمطلوب منه ـ أيضاً ـ أن لا ينزعج من عدم قبول انتقاده لأمر ما، وهذا هو ديدن طالب العلم في خُلقه، ديدنه أن يكون قولُه محاطاً بصفتي (العدل والعلم)، فالعدل يقيه من أن يُعرِض عن الحقِّ إذا كان الحقُّ مع غيره، ¬

(¬1) مقال نُشر في ملتقى أهل التفسير.

والعلم يقيه من الجهل الذي يُبعده عن معرفة الحق، وإن لم يتصف بهما كان كما قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}. وإذا أتينا إلى تعريف الإعجاز العلمي كما رضيه المعتنون به، فإننا سنجد من تعريفاتهم: 1 - تقول الأمانة العامة لهيئة الإعجاز العلمي في كتاب «الإعجاز العلمي تأصيلاً ومنهجاً»: «الإعجاز العلمي هو إخبار القرآن الكريم أو السُّنَّة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول مما يظهر صدقه فيما أخبر به عن ربه سبحانه وتعالى». 2 - يقول الأستاذ الدكتور زغلول النجار: إن تعبير «الإعجاز العلمي للقرآن الكريم يُقصد به سبق هذا الكتاب العزيز بالإشارة إلى عدد من حقائق الكون وظواهره التي لم تتمكن العلوم المكتسبة من الوصول إلى فهم شيء منها إلا بعد قرون متطاولة من تنزُّل القرآن الكريم ...» الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور زغلول النجار. وبين التعريفين تداخل، فإخبار القرآن نوع من السبق، وهو ما وقع التصريح به في التعريف الثاني، ومؤداهما واحد، فكلاهما يدَّعي وجود تلك القضايا من العلوم المكتسبة المعاصرة في القرآن (أو في السُّنَّة، حسب التعريف الأول)، والذين قرأوه من الصحابة ومن بعدهم لم تظهر لهم هذه الحقائق، ثم ظهرت للمعاصرين، فكان إخبار القرآن بها سبقاً عندهم. ويقع هاهنا سؤال: هل يُعدُّ هذا سبقاً، وهل هذا السبق ـ لو صحَّ ـ إعجاز؟! إننا بحاجة إلى تأمل هذا المعنى (السبق) الذي قام عليه تعريف الإعجاز العلمي، والنظر في دِقَّةِ مضمونه.

أين وجه السبق الذي يدَّعيه متعاطي الإعجاز العلمي؟! إن حقيقة السبق تكمن في المجهود البشري البحت، وليس في ادِّعاء سبق القرآن للعلم المعاصر؛ لأن ادعاء السبق ظنِّي بلا ريب، ولا يمكن لأحد أن يجزم بأن هذه القضية المعاصرة تفسير وتأويل لآيةٍ ما. وإنما يصحُّ ادعاء السبق في حالين: الأولى: أن تكون الآية ظاهرة واضحة بلا نزاع في أن المراد منها ما اكتشفه العلم المعاصر، وفي هذه الحالة، فإن فهم السلف لها يُخرجها عن كونها لم تُكتشف إلا بالعلوم المعاصرة المكتسبة، ويبدو أنه إذا وُجد أمثلة من هذا النوع فإنها خارجةٌ عن كلام أهل الإعجاز العلمي. الثانية: إذا قام الباحث المسلم باكتشاف القضية المعاصرة، ثم اكتشفها الكافر بعده، فتلك حقيقة السبق. أما أن يُعلَّق السبق ـ وكذا دعوى الإخبار ـ على قضية ظنية «وهي الزعم بأن الآية تدل على هذا الاكتشاف المعاصر»، فتلك مشكلة علمية تحتاج إلى نظر وتأمُّل. هل هناك فرق بين دلالة الآيات القرآنية ودلالة الأحاديث على المكتشفات المعاصرة؟ إذا تأملت مجموعة من الأحاديث النبوية التي نُسب إليها (الإعجاز) ـ كما هو الحال في التعريف الأول ـ فإنك ستلاحظ أن دلالة الحديث النبوي على القضية المكتشفة المعاصرة أقوى من دلالة الآية التي تأتي مجملة ـ في كثير من الأحيان ـ غير محدَّدة الدلالة على القضية بعينها، ولأضرب لذلك مثالاً: فيما روى البخاري في صحيحه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم، فليغمسه، ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داء

والأخرى شفاء»، فهذا صريح في الدلالة، بخلاف كثير من الآيات التي يستدل بها أهل الإعجاز العلمي. ومثال ذلك: قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}، فتفسير لفظ {لَمُوسِعُونَ} عند السلف على وجهين: الأول: بنيناها واسعة الأرجاء، وهذا إخبار عن حال السماء في السعة. الثاني: بنيناها وإنا لقادرون على بنائها، من الوُسع؛ أي: القُدرة. ثم حمل بعض المعتنين بالإعجاز لفظ (لموسعون) على ما قالوا بأنه اكتُشف في هذا العصر من أن الكون يتمدد. فلو ثبت يقيناً أن الكون يتمدد، فإن السؤال الذي يقع هنا: هل دلالة الآية على تمدد الكون ظنية أو قطعية؟ لا شكَّ أن هذه الدلالة ظنية؛ لأن من يقول بهذا التفسير لا يمكنه أن يجزم في إثبات هذه الدلالة. وإذا كانت الدلالة ظنيةً، فإن دعوى السبق تبقى ظنية أيضاً. ومن المهم النظر والتدقيق في هذا الأصل الذي يقوم عليه الإعجاز العلمي، ثمَّ في الأمثلة التي حُملت عليه؛ لأن مقام بيان كتاب الله ليس بالأمر الهيِّن الذي يستطيعه كل مسلم مثقف أو متعلم، بل لا بدَّ من اعتماد أصول التفسير التي لا يقوم التفسير إلا بها، ولَمَّا لم يعتمد بعض متعاطي الإعجاز العلمي على هذه الأصول ظهر خلل كبير في الأمثلة التي يذكرونها في الإعجاز العلمي، وهذا ظاهر لمن قرأ في كتبهم أو بحوثهم. ويمكن لسائل أن يسأل: أين التفسير الصحيح للآية ما دامت الدلالة عندك ظنية؟

فأقول: إن الجواب عن هذا يحتاج إلى التذكير بقاعدة مهمة يغفل عنها بعض من يعتني بالإعجاز العلمي، وهي أن الأمة لا يمكن أن تجتمع على ضلالة، ومن ثَمَّ، فإنه لم يفُتْها فهمُ كلام ربها على وجهٍ صحيح معتبرٍ، وهذه القاعدة تبدأ بزمن الصحابة ثمَّ من بعدهم، فلا يصحُّ أن يقال: إن الصحابة لم يفهموا شيئاً من معاني القرآن، ولا أن يقال: إن من بعدهم ـ كذلك ـ قد وقع لهم ذلك. وإذا كانت هذه القاعدة معتبرةً عند المسلمين، فإن من لوازمها أن الحق قد وقع في فهم القرآن، وأنه لا يمكن أن توجد آية ضلَّ المسلمون عن فهمها على وجهٍ صحيح معتبرٍ. وإذا ركَّبت هذه المسألة مع المسألة السابقة ـ في كون دلالة الآية على القضية المعاصرة ظنية ـ فإنه سيظهر لك الآتي: 1 - أن من اعتمد تفسير السلف ومن قال بقولهم ـ ممن جاء بعدهم ـ فإنه قد قال بالقول الحقِّ والصواب، ولا يمكن أن يخرج عن الحقِّ. 2 - أن من اعتمد على المكتشفات المعاصرة، وأعرض عن قول السلف، فإنه قد أخطأ الصواب بلا ريب؛ لأن وجود التفسير الصحيح في كلام السلف متيقنٌ منه، وأما قوله المعاصر فإنه يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ؛ لأن دلالة الآية ـ كما قلتُ ـ ظنية. وإذا اعتمد قول السلف، وأضاف إليه ما ظهر من المكتشفات المعاصرة، فإنه لا يغير من الأمر شيء، فتفسير السلف قطعي في تضمُّنه للقول الصحيح في معنى الآية، والتفسير المعاصر ظَنِّي في ذلك. وينتج عن هذا مسألة مهمة جداً، وهي: هل ينقص فهمنا للقرآن إذا لم نقل بالإعجاز العلمي؟ والجواب مبنيٌّ على التفصيل السابق، فما دام أن السلف لم ينقص فهمهم للقرآن ـ وهم لا يعرفون هذا النوع من العلم ـ فمن باب أولى أن لا ينقص فهمنا نحن.

ومن هنا، فلو اقتصر المفسر على ما وصله من تفسير السلف، فإنه قد تمسَّك بالحق بلا ريب، وخرج من عُهدة المساءلة، بخلاف من تعرض للإعجاز العلمي (الظني الدلالة)، فإنه لا يسلم من ذلك بأن يقال له: من أين علمت أن هذا هو مراد الله؟ أما الأول فيقول: علمته من كون الأمة خلفاً عن سلف تناقلت هذه الأقوال بلا نكير، واعتمدتها في التفسير، ولم يجعلوا ما جاء عن سلفهم باطلاً، ولم يتركوه وراءهم ظهريّاً، وإن احتاج العلماء المحرِّرون في التفسير إلى بيان أقرب الأقوال أو أولاها بالصحة والصواب من الأقوال المختلفة في تفسير سلفهم اعتمدوا القواعد العلمية، وبينوا ذلك بالطرق المعتبرة عند أولي العلم بالتفسير. وهذا حقٌّ ظاهر بلا ريب، وإن كان قد يخفى عن بعض من يتكلم في الإعجاز العلمي لغلبة هذا الموضوع عليه، وتمكنه من نفسه، حتى يظنَّ أن ما جاء به فإنه حقٌّ لا شكَّ فيه. ولا يخفاك أن من ظنَّ هذا الظنَّ فإنه مخطئٌ. * * *

المقالة السابعة مصطلح الإعجاز العلمي عند الطاهر بن عاشور

المقالة السابعة: مصطلح الإعجاز العلمي عند الطاهر بن عاشور

المقالة السابعة مصطلح الإعجاز العلمي عند الطاهر بن عاشور كان من بركات اللقاء بالشيخ المفيد الدكتور محمد الحمد؛ اللقاء الذي عقدته الجمعية السعودية للقرآن الكريم وعلومه (مساء الأحد 28/ 12/1428هـ) كان من بركاته أن فتح الذهن على موضوع (الإعجاز العلمي) عند الطاهر بن عاشور، وقد فتح هذا الباب الدكتور عادل الشدي بسؤاله للشيخ الدكتور محمد الحمد: هل تحدث الطاهر بن عاشور عن الإعجاز العلمي؟ وقد توقف الشيخ محمد آنذاك في الإجابة نفياً أو إثباتاً، وصار بيني وبينه مباحثة سريعة حول الموضوع بعد اللقاء، وقررنا مراجعة التفسير، ولما ظفر بمواطن من تصريحه بذلك هاتفني بها، ثم تتبعت مواطن ورود هذا المصطلح عنده فرأيت أن أكتب في هذا الموضوع مقالة سريعة، وأملي أن أتبعها ببحث أكثر تقصِّياً إن شاء الله، ودونكم هذا الموضوع: لقد ذكر الطاهر بن عاشور (الإعجاز العلمي) في حديثه في المقدمة العاشرة في إعجاز القرآن، وقد نبَّه على نوعين من أنواع العلم، فقال: «إن العلم نوعان: علم اصطلاحي، وعلم حقيقي، فأما الاصطلاحي فهو ما تواضع الناس في عصر من الأعصار على أن صاحبه يعد في صف العلماء، وهذا قد يتغير بتغير العصور، ويختلف باختلاف الأمم والأقطار، وهذا النوع لا تخلو عنه أمة.

وأما العلم الحقيقي فهو معرفة ما بمعرفته كمال الإنسان، وما به يبلغ إلى ذروة المعارف وإدراك الحقائق النافعة عاجلاً وآجلاً. وكلا العلمين كمال إنساني ووسيلة لسيادة أصحابه على أهل زمانهم، وبين العلمين عموم وخصوص من وجه، وهذه الجهة خلا عنها كلام فصحاء العرب؛ لأن أغراض شعرهم كانت لا تعدو وصف المشاهدات والمتخيلات والافتراضات المختلفة، ولا تحوم حول تقرير الحقائق وفضائل الأخلاق التي هي أغراض القرآن، ولم يقل إلا صدقاً كما أشار إليه فخر الدين الرازي» (¬1). ثم ذكر اشتمال القرآن على النوعين، ومما ذكر في النوع الثاني: «وأما النوع الثاني من إعجازه العلمي فهو ينقسم إلى قسمين: قسم يكفي لإدراكه فهمه وسمعه، وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم فينبلج للناس شيئاً فشيئاً انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم، وكلا القسمين دليل على أنه من عند الله؛ لأنه جاء به أمي في موضع لم يعالج أهله دقائق العلوم، والجائي به ثاو بينهم لم يفارقهم. وقد أشار القرآن إلى هذه الجهة من الإعجاز بقوله تعالى في سورة القصص: {قُلْ فَاتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 49، 50]، ثم إنه ما كان قصاراه مشاركة أهل العلوم في علومهم الحاضرة، حتى ارتقى إلى ما لم يألفوه وتجاوز ما درسوه وألفوه ...» (¬2). ويلاحظ أن مدلول العلم عند الطاهر بن عاشور أوسع من مدلول المعتنين بالإعجاز العلمي الذين جعلوه في (العلوم التجريبية)، وقد ظهر ¬

(¬1) التحرير والتنوير (1: 126). (¬2) التحرير والتنوير (1: 127).

أثر توسع المدلول عنده في التطبيقات التي استخرجتها من كتابه، وهي قريبة من العشرين موضعاً، وسأذكر منها ما يدل على هذا المقال: أولاً: إطلاقه على ما يُسمى عند بعض المعاصرين بالإعجاز التاريخي: 1 - في قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَاكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]. قال: «هذا عطف جزء من قصة على جزء منها تكملة لوصف خلاص يوسف عليه السلام من السجن. والتعريف في {الْمَلِكُ} للعهد؛ أي: ملك مصر، وسماه القرآن هنا ملكاً ولم يسمه فرعونَ لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر القبط، وإنما كان ملكاً لمصر أيامَ حَكَمَها (الهِكسوس)، وهم العمالقة، وهم من الكنعانيين، أو من العرب، ويعبر عنهم مؤرِّخو الإغريق بملوك الرعاة؛ أي: البَدو، وقد ملكوا بمصر من عام 1900 إلى عام 1525 قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وكان عصرهم فيما بين مدة العائلة الثالثة عشرة والعائلة الثامنة عشرة من ملوك القبط، إذ كانت عائلات ملوك القبط قد بقي لها حكم في مصر العليا في مدينة (طِيبة) كما تقدم عند قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ} [يوسف: 21]، وكان ملكهم في تلك المدة ضعيفاً لأن السيادة كانت لملوك مصر السفلى، ويقدّر المؤرخون أن ملك مصر السفلى في زمن يوسف عليه السلام كان في مدة العائلة السابعة عشرة. فالتعبير عنه بالملك في القرآن دون التعبير بفرعون مع أنه عبّر عن ملك مصر في زمن موسى عليه السلام بلقب فرعون هو من دقائق إعجاز القرآن العلمي. وقد وقع في التوراة إذ عبر فيها عن ملك مصر في زمن يوسف عليه السلام

فرعون وما هو بفرعون؛ لأن أمته ما كانت تتكلم بالقبطية، وإنما كانت لغتهم كنعانية قريبَة من الآرامية والعربية، فيكون زمن يوسف عليه السلام في آخر أزمان حكم ملوك الرعاة على اختلاف شديد في ذلك». 2 - في قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]، قال: «ومن لطائف القرآن في اختيار لفظ العهد للاستعارة هنا لتكليف الله تعالى إياهم أن ذلك خطاب لهم باللفظ المعروف عندهم في كتبهم، فإن التوراة المنزلة على موسى عليه السلام تلقب عندهم بالعهد؛ لأنها وصايات الله تعالى لهم، ولذا عبر عنه في مواضع من القرآن بالميثاق، وهذا من طرق الإعجاز العلمي الذي لا يعرفه إلا علماؤهم وهم أشح به، منهم في كل شيء، بحيث لا يعرف ذلك إلا خاصة أهل الدين، فمجيئه على لسان النبي العربي الأمي دليل على أنه وحي من العلام بالغيوب». ثانياً: الإعجاز العلمي في اصطلاح المعاصرين: 1 - في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَانَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، قال: «وحرف (ثم) في قوله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} للترتيب الرتْبي إذ كان خلق النطفة علقة أعجبَ من خلق النطفة، إذ قد صُير الماء السائل دَماً جامداً فتغير بالكثافة وتبدل اللون من عواملَ أودعها الله في الرحم. ومن إعجاز القرآن العلمي تسمية هذا الكائن باسم (العلَقة) فإنه وضْع بديع لهذا الاسم، إذ قد ثبت في علم التشريح أن هذا الجزء الذي استحالت إليه النطفة هو كائن له قوة امتصاص القوة من دم الأم، بسبب التصاقه بعروق في الرحم تدفع إليه قوة الدم، والعلقة: قطعة من دم عاقد. والمضغة: القطعة الصغيرة من اللحم مقدار اللقمة التي تمضغ، وقد تقدم في أول سورة الحج كيفية تخلُّق الجنين.

وعطف (جَعل العَلقةِ مُضغةً) بالفاء لأن الانتقال من العلقة إلى المضغة يشبه تعقيب شيء عن شيء، إذ اللحم والدم الجامد متقاربان، فتطورهما قريب، وإن كان مكث كل طورٍ مدة طويلة». وانظر أيضاً: تفسيره لقوله تعالى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} في سورة العلق. 2 - في قوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ *يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 6 - 7]. قال: «وأُطنب في وصف هذا الماء الدافق لإِدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين ليستيقظ الجاهل الكافر ويزداد المؤمن علماً ويقيناً. ووُصف أنه يخرج من {بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} لأن الناس لا يتفطنون لذلك، والخروج مستعمل في ابتداء التنقل من مكان إلى مكان ولو بدون بروز، فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب والترائب. و {الصُّلْبِ}: العمود العظمي الكائن في وسط الظهر، وهو ذو الفقرات. {وَالتَّرَائِبِ}: جمع تريبة، ويقال: تَريب. ومحرّر أقوال اللغويين فيها أنها عظام الصدر التي بين الترقُوَتَيْن والثَّديين ووسموه بأنه موضع القلادة من المرأة. والترائب تضاف إلى الرجل وإلى المرأة، ولكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء لعدم احتياجهم إلى وصفها في الرجال. وقوله: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} الضمير عائد إلى {مَاءٍ دَافِقٍ} وهو المتبادر، فتكون جملة {يَخْرُجُ} حالاً من {مَاءٍ دَافِقٍ} أي: يمر ذلك الماء بعد أن يفرز من بين صلب الرجل وترائبه. وبهذا قال سفيان والحسن؛ أي: أن أصل تكَوُّن ذلك الماء وتنقله من بين الصلب والترائب، وليس المعنى أنه يمر بين الصلب والترائب،

إذ لا يتصور ممر بين الصلب والترائب؛ لأن الذي بينهما هو ما يحويه باطن الصدر والضلوع من قلب ورِئَتَيْن. فجعل الإِنسان مخلوقاً من ماء الرجل لأنه لا يتكوّن جسم الإنسان في رحم المرأة إلا بعد أن يخالطها ماء الرجل، فإذا اختلط ماء الرجل بما يُسمى ماء المرأة وهو شيء رطب كالماء يحتوي على بُوَيضات دقيقة يثبت منها ما يتكوّن منه الجنين ويُطرح ما عداه. وهذا مخاطبة للناس بما يعرفون يومئذ بكلام مجمل مع التنبيه على أن خلق الإِنسان من ماء الرجل وماءِ المرأة بذكر الترائب؛ لأن الأشهر أنها لا تطلق إلا على ما بين ثديي المرأة. ولا شك أن النسل يتكون من الرجل والمرأة، فيتكون من ماء الرجل وهو سائل فيه أجسام صغيرة تسمى في الطب: الحيوانات المنوية، وهي خيوط مستطيلة مؤلفة من طرف مسطح بيضوي الشكل وذَنب دقيق كخيط، وهذه الخيوط يكون منها تلقيح النسل في رحم المرأة، ومقرها الأنثيان وهما الخصيتان فيندفع إلى رحم المرأة. ومن ماء هو للمرأة كالمني للرجل ويسمى: ماء المرأة، وهو بويضات دقيقة كروية الشكل تكون في سائل مقره حُويصلة من حويصلات يشتمل عليها مَبيضان للمرأة وهما بمنزلة الأنثيين للرجل فهما غدتان تكونان في جانبي رحم المرأة، وكل مَبيض يشتمل على عدد من الحُويصلات يتراوح من عشر إلى عشرين، وخروج البيضة من الحُويصلة يكون عند انتهاء نمو الحويصلة فإذا انتهى نموها انفجرتْ فخرجت البَيضة في قناة تبلغ بها إلى تجويف الرحم، وإنما يتم بلوغ البيضة النموَّ وخروجُها من الحويصلة في وقت حيض المرأة، فلذلك يكثر العلوق إذا باشر الرجل المرأة بقرب انتهاء حيضها. وأصل مادة كِلا الماءين مادة دموية تنفصل عن الدماغ وتنزل في

عرقين خلف الأذنين، فأما في الرجل فيتصل العرقان بالنخاع، وهو الصلب، ثم ينتهي إلى عرق يسمى الحَبْل المَنَوي مؤلف من شرايين وأوْرِدَةٍ وأعصابٍ وينتهي إلى الأنثيين، وهما الغدتان اللتان تُفرزانِ المني، فيتكون هنالك بكيفية دُهنية وتبقى منتشرة في الأنثيين إلى أن تفرزها الأنْثيان مادةً دهنية شحمية، وذلك عند دغدغة ولَذع القضيب المتصل بالأنثيين فيندفق في رحم المرأة. وأما بالنسبة إلى المرأة، فالعرقان اللذان خلف الأذنين يمران بأعلى صدر المرأة وهو الترائب؛ لأن فيه موضع الثديين وهما من الأعضاء المتصلة بالعروق التي يسير فيها دم الحيض الحاملُ للبويضات التي منها النسل، والحيض يسيل من فَوهات عروق في الرحم، وهي عروق تنفتح عند حلول إبان المحيض وتنقبض عقب الطُّهر، والرحم يأتيها عصب من الدماغ. وهذا من الإِعجاز العلمي في القرآن الذي لم يكن علمٌ به للذين نزل بينهم، وهو إشارة مجملة وقد بيَّنها حديث مسلم عن أم سلمة وعائشة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن احتلام المرأة، فقال: تغتسل إذا أبصرت الماء. فقيل له: أترى المرأة ذلك؟ فقال: وهل يكون الشبه إلا من قِبَل ذلك؟! إذا علا ماءُ المرأة ماءَ الرجل أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءَها أشبه أعمامه». ثالثاً: موافقة العقل الحق: هذا النوع الذي ذكره لا يستريب فيه مسلم، إذ العقل الصحيح لا يناقضه النص الصريح مطلقاً، وكون العقل يتوصل إلى حدود وتقسيمات ومعلومات صحيحة فإنه لا يمكن أن يختلف ما يتوصل إليه الناس بعقولهم الصحيحة مع ما جاء في القرآن. في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ

وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]. قال: «ويندرج في التي هي أحسن ردّ تكذيبهم بكلام غير صريح في إبطال قولهم من الكلام الموجّه، مثل قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، وقوله: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ *اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج: 68، 69]. والآية تقتضي أن القرآن مشتمل على هذه الطرق الثلاثة من أساليب الدعوة، وأن الرسول إذا دعا الناس بغير القرآن من خطبه ومواعظه وإرشاده يسلك معهم هذه الطرق الثلاثة، وذلك كله بحسب ما يقتضيه المقام من معاني الكلام ومن أحوال المخاطبين من خاصّة وعامّة. وليس المقصود لزوم كون الكلام الواحد مشتملاً على هذه الأحوال الثلاثة؛ بل قد يكون الكلام حكمة مشتملاً على غِلظة ووعيد وخالياً عن المجادلة، وقد يكون مجادلة غير موعظة، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَاتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85]. وكقول النبي: «إنك لتأكل المِرباع، وهو حرام في دينك»، قاله لعديّ بن حاتم وهو نصراني قبلَ إسلامه. ومن الإعجاز العلمي في القرآن أن هذه الآية جمعت أصول الاستدلال العقلي الحقّ، وهي البرهان والخطابة والجَدل المعبّر عنها في علم المنطق بالصناعات، وهي المقبولة من الصناعات، وأما السفسطة والشعر فيَرْبَأُ عنهما الحكماء الصادقون بله الأنبياء والمرسلين. قال فخر الدين: إن الدعوة إلى المذهب والمقالةِ لا بدّ من أن تكون مبنيّة على حُجّة، والمقصود من ذكر الحجّة إما تقرير ذلك المذهب

وذلك الاعتقاد في قلوب السامعين، وإما إلزام الخصم وإفحامُه. أما القسم الأول فينقسم إلى قسمين؛ لأن تلك الحجّة: إما أن تكون حُجّة حقيقية يقينية مبرأة من احتمال النقيض، وإما أن لا تكون كذلك بل تكون مفيدة ظناً ظاهراً وإقناعاً، فظهر انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة: أولها: الحجّة المفيدة للعقائد اليقينية، وذلك هو المسمّى بالحكمة. وثانيها: الأمارات الظنّية، وهي الموعظة الحسنة. وثالثها: الدلائل التي القصد منها إفحام الخصم، وذلك هو الجَدل. وهو على قسمين؛ لأنه: إما أن يكون مركّباً من مقدّمات مسلّمة عند الجمهور، وهو الجدل الواقع على الوجه الأحسن، وإما أن يكون مركّباً من مقدّمات باطلة يحاول قائلها ترويجها على المستمعين بالحيل الباطلة، وهذا لا يليق بأهل الفضل. اهـ. وهذا هو المدعو في المنطق بالسفسطة، ومنه المقدمات الشعرية وهي سفسطة مزوّقة. والآية جامعة لأقسام الحجّة الحقّ جمعاً لمواقع أنواعها في طرق الدعوة، ولكن على وجه التّداخل، لا على وجه التباين والتقسيم كما هو مصطلح المنطقيين، فإن الحجج الاصطلاحية عندهم بعضها قسيم لبعض، فالنسبة بينها التبايُن، أما طرق الدعوة الإسلامية فالنسبة بينها العموم والخصوص المطلق أو الوجهي، وتفصيله يخرج بنا إلى تطويل، وذهنك في تفكيكها غير كليل. فإلى الحكمة ترجع صناعة البرهان؛ لأنه يتألف من المقدمات اليقينية وهي حقائق ثابتة تقتضي حصول معرفة الأشياء على ما هي عليه.

وإلى الموعظة ترجع صناعة الخطابة؛ لأن الخطابة تتألف من مقدّمات ظنّية لأنها مراعى فيها ما يغلب عند أهل العقول المعتادة، وكفى بالمقبولات العادية موعظة، ومثالها من القرآن قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً} [النساء: 22]، فقوله: {وَمَقْتًا} أشار إلى أنّهم كانوا إذا فعلوه في الجاهلية يُسمونه نكاح المَقت، فأجري عليه هذا الوصف لأنه مُقنع بأنه فاحشة، فهو استدلال خطابي. وأما الجدل فما يورد في المناظرات والحجاج من الأدلّة المسلّمة بين المتحاجَيْن أو من الأدلّة المشهورة، فأطلق اسم الجدل على الاستدلال الذي يروج في خصوص المجادلة ولا يلتحق بمرتبة الحكمة، وقد يكون مما يُقبل مثله في الموعظة لو ألقي في غير حال المجادلة، وسمّاه حكماء الإسلام: جدلاً تقريباً للمعنى الذي يطلق عليه في اللغة اليونانية». وقبل أن أختم هذا المقال أحبُّ أن أبين نظر الطاهر بن عاشور في مقام الإعجاز العلمي بأنواعه، قال: «وهذه الجهة من الإعجاز إنما تثبت للقرآن بمجموعه؛ أي: مجموع هذا الكتاب، إذ ليست كل آية من آياته ولا كل سورة من سوره بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز، ولذلك فهو إعجاز حاصل من القرآن وغير حاصل به التحدي إلا إشارة، نحو قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]» (¬1). وهذا يفيد في أن بيان الإعجاز في هذه القضية ـ عنده ـ إنما هو بالأمر الكلي، وليس بالتفاصيل، فالآية الواحدة المبينة للإعجاز العلمي لا يلزم أن تقوم مقام الحجة في الإعجاز، وإنما يكون مقام الحجة بمجموعها الذي نص عليه القرآن أو أشار إليه، وهذه مسألة مهمة تحتاج إلى بيان وإيضاح. ¬

(¬1) التحرير والتنوير (1: 129).

المقالة الثامنة: التفسير بالإعجاز العلمي قائم على الظن والاحتمال، وليس على اليقين

المقالة الثامنة التفسير بالإعجاز العلمي قائم على الظنِّ والاحتمال، وليس على اليقين

المقالة الثامنة التفسير بالإعجاز العلمي قائم على الظنِّ والاحتمال، وليس على اليقين لقد بقي تفسير القرآن بما ورد في كتب العلوم التجريبية والكونية يسمَّى بالتفسير العلمي، وهو اجتهاد في ربط بعض ظواهر الكون المكتشفة حديثاً بالقرآن، وإبراز أن القرآن قد دلَّ عليها، وهذه النتيجة لا تختلف عن الانتقال من تسمية هذه الظاهرة التفسيرية الجديدة باسم الإعجاز العلمي، فهذا يفسر، وذاك يفسر، وإنما الاختلاف في كون المفسَّر به نظرية أو حقيقة. وفي كلا الحالتين (أي: كونه تفسيراً علميّاً أو إعجازاً علميّاً) لا يختلف الحال في أن تفسير القرآن بهذا أو ذاك إنما هو تفسير احتمالي ظني. فلو وصلنا إلى ظاهرة كونية ما، إلى كونها حقيقة علمية ثابتة، فإنَّ رَبْطَنَا لها بالقرآن، وجعلنا لها تفسير لآية من الآية جهد بشري ظني احتمالي، وهو كأي تفسير اجتهادي آخر غيره لا يختلف عنه، ولا شكَّ أن مخرج هذا التفسير هو الرأي والاجتهاد. ومن ادعى في (الإعجاز العلمي) خلاف ذلك، فهذا يدلُّ على خلل علمي في فهم التفسير عند الجازم بالتفسير بالإعجاز العلمي. ولأضرب لكم مثالاً تتضح به المسألة: يقول الشيخ عبد الله المصلح: (إن الإعجاز العلمي هو الأمر

الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم من المعارضة الذي يتعلق ببحث قضية علمية وصل العلم فيها إلى سقف المعرفة، وكانت دلالة النص عليها دلالة ظاهرة، فاتفقت الحقيقة العلمية مع الدلالة الشرعية الظاهرة الواضحة في القرآن والسُّنَّة .. الله سبحانه وتعالى حدثنا في كتابه عن أخفض وأدنى بقعة في الأرض ذاكرا أنها البقعة التي وقعت فيها معركة بين الروم والفرس، فقال جلَّ ذكره: {الم *غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1، 2] أين غلبت؟ {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم: 3] في أدنى بقعة من الأرض تحت مستوى سطح البحر وهي المنطقة القريبة من بحيرة طبرية إحدى بقاع أغوار الأردن، والتي تنخفض عن سطح البحر 395م. {غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} أي: في تلك البقعة المنخفضة .. فكيف عرف محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن أخبره بذلك؟ إنه الله الذي خلق الأرض ويعلم حقائقها وأسرارها سبحانه وتعالى .. لقد فهم أكثر الأولين أن الأدنى هو الأقرب؛ لأن المعركة وقعت في منطقة متاخمة للجزيرة العربية، وهو فهم صحيح يحتمله النص لغةً وحدثاً إلاّ أن مكتسبات العلم الحديث أعطتنا معنى هو أكثر دقة في بيان دلالة اللفظ القرآني على موقع الحدث .. وهو ما لم يكن من الأولين أن يدركوه في ضوء إمكاناتهم ومعارفهم .. إن أدنى الأرض أخفضها وأدناها عن مستوى سطح البحر، وهذا المعنى لم يكن معروفاً أو مكتشفاً من الناحية الجيولوجية، وعُرف حديثاً بعد أن رُصدت بقاع الأرض وأجريت الدراسات لمعرفة أعلى بقعة في العالم عن مستوى سطح البحر، وهي قمم جبال الهملايا بشرق آسيا، وأدنى نقطة في منطقة البحر الميت. وفي ضوء هذا المعنى يكون القرآن قد أخبرنا عن أدنى بقعة في الأرض وهي الأرض التي دارت فيها تلك المعركة. ويؤكد ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما

فسَّرها بأرض الأردن وفلسطين، وهذه بعض شواهد الإعجاز في القرآن وهي كثيرة ومتجددة) (¬1). إن النتيجة التي يريد أن يصل إليها الشيخ الفاضل أن (أدنى) في الآية بمعنى (أخفض)، والسؤال القائم كالآتي: هل يمكن (الجزم) بأن هذا المعنى مرادٌ من الآية؟ إذا كان نعم، فما الدليل؟ وإذا كان لا، فإن معنى هذا أن دلالة الآية على هذا الاكتشاف الذي يُقال بأنه حقيقة علمية دلالة احتمالية ظنية، وما دام دلالة احتمالية ظنية فأين مقام الإعجاز؟! وأما قوله حفظه الله: (فاتفقت الحقيقة العلمية مع الدلالة الشرعية الظاهرة الواضحة في القرآن)، فإن دعوى الاتفاق ظنيٌّ وليس يقينيّاً، فهو في نظر بعض الناس فقط، وهذا محل نظر واجتهاد، فالحقيقة العلمية قد تكون صحيحة، والآية الشرعية لا خلاف فيها، لكن الخلاف في دعوى الاتفاق والربط بين هذه الحقيقة العلمية وتلك الحقيقة الشرعية، وهذا الاتفاق الظني هو مناط الإعجاز العلمي عند المعتنين به. ولا يخفى على من ينظر في كلام بعض المعتنين بالإعجاز من إيراد تفسيراتهم بالإعجاز العلمي على أنها حقٌّ مطلقٌ، ويعبِّرون بعبارات توهم هذا، ومن ذلك قول الشيخ الفاضل هنا: {غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم: 2 - 3] أي: في تلك البقعة المنخفضة .. فكيف عرف محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن أخبره بذلك؟ فقوله هذا يلزم منه أن محمداً صلّى الله عليه وسلّم عرف هذا المعنى، ولكننا لا نجد فيما بين يدينا من كتب التفسير أي إشارة لمعرفته صلّى الله عليه وسلّم بهذا المعنى. وإذا كان لا نجد أي إشارة في كتب التفسير لمعرفته صلّى الله عليه وسلّم بهذا المعنى، ¬

(¬1) ينظر كلامه على هذا الرابط: http://www.nooran.org/0/ 3/3 - 1.htm.

فإن هذا التعبير من الشيخ عبد الله ادِّعاءٌ على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا لا يجوز إلا ببرهان. ومما قد يقوله من يرى صحة هذا الادعاء أنه عرفه ولم يخبر به. وهذا يعني أن هذا المعنى الذي عرفه الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد ظهر لبعض المعاصرين فقط دون غيرنا من الصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا، فهل يُعقل مثل هذا؟! وأما إن قال قائل: إنك حملت كلام الشيخ عبد الله على غير محمله، وهو يريد أنه عرف اللفظ، وهو (أدنى) قراءة. فأقول: إن هذا لا يُتصوَّر فيه الاختلاف، فكلنا نقر ونجزم بذلك؛ لأنه بلغنا عنه صلّى الله عليه وسلّم، وإنما الخلاف في معنى (أدنى) فلينتبه لذلك. ومحصلة القول: أننا لو أجزنا تفسير (أدنى) بأنه (أخفض)، وليس هو كذلك عندي، فإن هذا التفسير رأي واجتهاد واحتمال وظنٌّ، وليس تفسيراً يقينيّاً بأن هذا المعنى مرادٌ من هذا اللفظ. وإذا أدركت هذا بان لك وظهر سقوط شطر من مصطلح الإعجاز العلمي الذي يقوم في تفسيراته على الظن والاحتمال.

الخاتمة

الخاتمة بعد هذه السطور التي أرجو أن أكون وُفِّقت فيها للقول الصواب، أقول: إن موضوع الإعجاز العلمي موضوع طويل، وهو بحاجة إلى مناقشات تأصيلية؛ لأنه يمسُّ بيان كلام الله، إذ من يحمل ما جدَّ من العلوم على كتاب الله، فإنه يقول: هذا مراد الله بهذه الآية، ولا شك أن هذا فيه خطر عظيم، يحسن بالمسلم الوقوف عنده طويلاً قبل الحكم بذلك. ومن النتائج والتوصيات التي يمكن تسجيلها: 1 - إنه من خلال قراءتي وحضوري أو سماعي لبعض مؤتمرات الإعجاز، أرى أن الحاجة ماسَّة لعقد لقاء تأصيلي لمسألة الإعجاز العلمي، تناقش فيها أقوال العلماء السابقين ـ كالشاطبي ـ وتحرر فيها آراء المعاصرين، ويكون بين يدينا بحوث تأصيلية لهذا الموضوع الذي شرَّق وغرَّب، وانتفع به فئام من الناس. 2 - إن حاجة من يتكلم في الإعجاز العلمي من غير المتخصِّصين في الشريعة؛ إن حاجتهم إلى تعلم أصول التفسير أهم من أن يتعلم المفسِّر هذه القضايا الموجودة في العلم المعاصر، ولا يعني هذا أن المفسر المعاصر لا يحتاجها، لكن المراد أن الموازنة في الأهمية تدل على حاجة من يريد بيان الإعجاز لا من يريد بيان معاني القرآن. 3 - أن نحرص على التوازن والواقعية في طرح الإعجاز العلمي والقضايا المتعلقة به، فلا نجعله كل شيء، وأنه السبيل الأمثل للدعوة،

ولا نخليه ـ كذلك ـ من أن يكون سبيلاً من سبل الدعوة إلى الله. وأختم قولي بالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الآل الطيبين، وعلى الصحابة الكرام الغرِّ الميامين، وعلى التابعين إلى يوم الدين. * * *

فهرس الفوائد العلمية

فهرس الفوائد العلمية الصفحة - الفائدة 6 - لا يلزم من عدم حكاية آيات الأنبياء عليهم السلام لنا عدم وجودها 6 - الآية مما يدركها قوم النبي عليه السلام سواء برعوا فيها أم لم يبرعوا 10 - اشتراط التحدي في تسمية المعجزة ليس بسديد 12 - آيات الأنبياء ليست هي الطريق الوحيد لإثبات نبوة الأنبياء 16 - تعريف المعجزة 19 - الإعجاز العلمي يدخل تحت التفسير بالرأي 23 - علم التفسير أوسع من الإعجاز 24 - المفسر أقدر في الربط بين ما ورد في القرآن وما يرد في البحث التجريبي المعاصر من الباحث التجريبي 26 - الاختلاف الوارد عن السلف أغلبه اختلاف تنوع 26 - اختلاف التضاد الوارد بين السلف يرجح أحدهما على سبيل التعيين لا التنوع 34 - العلم بالسُّنَّة الكونية لا يرتبط بالمعتقد ولا الأفكار 35 - القرآن يذكر القضية العلمية مجملة غير مفصلة بخلاف التجريبي الذي ينحو إلى التفصيل 36 - يجب الحذر من حمل مصطلحات العلوم على ألفاظ القرآن 51 - التحدي الحقيقي يقوم على من يملك أدوات التحدي دون من يفقدها 53 - الاصطلاح إذا حمل معنى باطلاً أو فاسداً فإن فيه مشاحة بلا ريب 69 - المفسر الذي يملك أدوات التفسير هو الأقدر على الترجيح في هذه الأمور وليس الفلكي 74 - إتقان اللغة من جهة المفردات ومن جهة الأساليب لمعرفة كيفية استنباط علاقة القضايا المذكورة في العلم التجريبي أو غيره بالآية وبتفسير السلف 87 - لا يوجد في القرآن ما لم يعرف السلف له معنى صحيحاً 98 - دلائل صدق القرآن لا يمكن أن تحصر

99 - الدعوة بالإعجاز العلمي هي أحد طرق الدعوة وليس هو طريقها الوحيد في هذا العصر 100 - تفسير كلام الله عزّ وجل باب خطير لا يحق للإنسان أن يلجه إلا بعد أن يتأهل لذلك 103 - تفسير القرآن بما صح واحتملته الآيات من هذه العلوم المعاصرة لا يدل على جهل السلف 115 - 116 - الوثوق بمعرفة السلف وتفسيرهم لجميع القرآن وأنهم لم يخرجوا عن الفهم الصحيح في تفسيرهم 130 - إذا جاز احتمال الآية لأكثر من معنى فإنما ذلك لأن المفسر لا يستطيع الجزم في حال الاحتمال بأن هذا هو مراد الله دون ذاك؛ لأن أدلة الترجيح قد تستوي في نظره 139 - كثير من المسائل التي يطرحها المعتنون بالإعجاز العلمي تتصف بأن الاطلاع عليها محدود وإدراكها لا يتأتى بسهولة 139 - العصمة لمجموعهم وليست لفرد منهم 148 - معرفة كيفية تعامل السلف مع الإسرائيليات يعتبر أصلاً مهماً من أصول التفسير 154 - اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله 155 - الدعوة إلى تصحيح المسار في بحوث الإعجاز العلمي للتوافق مع المنهج التفسيري الصحيح 159 - لا مشاحة في الاصطلاح إذا كان لا يغير حقائق الأمور ولا يترتب عليه معلومات علمية خاطئة 162 - إن كانت تفاصيل بعض ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم غير مدركة للصحابة كما يرى من عرَّف الإعجاز العلمي، فإن هذا لم يؤخر الصحابة ومن بعدهم عن العمل بما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم 168 - مصطلح السبق الذي يقوم عليه الإعجاز العلمي بحاجة إلى إعادة نظر وتقويم 167 - تحرير مصطلح جديد من العناء والتعب 171 - الأمة لا يمكن أن تجتمع على ضلالة 171 - من اعتمد على المكتشفات المعاصرة وأعرض عن قول السلف فإنه قد أخطأ الصواب بلا ريب

مراجع البحث

مراجع البحث 1 - أسرار الكون في القرآن، للدكتور داود سليمان السعدي، نشر دار الحرف العربي ببيروت، الطبعة الأولى 1417هـ/1997م. 2 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، نشر دار الإفتاء بالسعودية، 1403هـ. 3 - تاريخ بغداد، لأبي بكر أحمد بن ثابت، الخطيب البغدادي، نشر دار الكتاب العربي ببيروت. 4 - التاريخ الكبير، للبخاري، نشر دار الباز. 5 - التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، نشر الدار التونسية، 1984م. 6 - تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم الرازي، تحقيق أسعد محمد الطيب، نشر مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1417هـ/1997م. 7 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير، تحقيق الدكتور محمد إبراهيم البنا، نشر دار القبلة ومؤسسة علوم القرآن ودار ابن حزم، الطبعة الأولى 1419هـ/1998م. 8 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لإمام المفسرين محمد بن جرير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي بالتعاون مع مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية، الطبعة الأولى 1422هـ/2001م. 9 - الدر المنثور في التفسير المأثور، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي بالتعاون مع مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية، الطبعة الأولى 1424هـ/2003م. 10 - زاد المسير في علم التفسير، لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي، تحقيق محمد بن عبد الرحمن عبد الله، نشر دار الفكر، الطبعة الأولى 1407هـ/1987م. 11 - سنن سعيد بن منصور (قسم التفسير) تحقيق: سعد الحميِّد، نشر دار الصميعي، ط1، 1414هـ.

12 - السُّنَّة، لمحمد بن نصر المروزي، تحقيق سالم بن أحمد السلفي، نشر مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى 1408هـ. 13 - سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق جماعة، نشر مؤسسة الرسالة، ط2، 1402هـ. 14 - صحيح البخاري، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، نشر دار ابن كثير، اليمامة ببيروت الطبعة الثالثة، 1407هـ 1987م. 15 - صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي ببيروت. 16 - فضائل القرآن، لأبي عبيد، تحقيق: وهبي سليمان غاوجي، دار الكتب العلمية ببيروت، ط 1، 1411هـ. 17 - القاموس المحيط، للفيروزآبادي، نشر مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1407هـ/1978م. 18 - مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد بن حنبل، نشر المكتب الإسلامي ببيروت، الطبعة الرابعة 1403هـ. 19 - معجم المفسرين، لعادل نويهض، نشر مؤسسة نويهض للثقافة، ط3، 1409هـ. 20 - مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق الدكتور عدنان زرزور، نشر دار القرآن الكريم ببيروت، الطبعة الثالثة 1399هـ/1979م. 21 - من آيات الإعجاز العلمي/السماء في القرآن الكريم، للأستاذ الدكتور زغلول النجار، دار المعرفة ببيروت، الطبعة الأولى 1425هـ/2004م. 22 - من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم البحار، شارك في إعداده الشيخ عبد المجيد الزنداني والأستاذ محمد إبراهيم السمرة والدكتور دركا برسادا راو، نشر هيئة الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والسُّنَّة التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة 23 - نشأة الكون وخلق الإنسان بين العلم والقرآن، للدكتورة سارة بنت عبد المحسن ابن جلوي آل سعود، الطبعة الأولى 1419هـ/1998م. 24 - وكان عرشه على الماء، للأستاذ الدكتور عادل محمد عباس، نشر مركز الدراسات المعرفية، الطبعة الأولى 1420هـ/1999م.

§1/1