الإصابة في الذب عن الصحابة - رضي الله عنهم -

مازن بن محمد بن عيسى

المقدمة

المقدمة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إله الأولين والآخرين، الملك الحق المبين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، من بعثه الله رحمة للعالمين، وهداية للخلق أجمعين، عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته الأكرمين، أنوار الهدى، ومصابيح الدجى، واحشرنا تحت لواء سيد المرسلين، وأدخلنا الجنة معهم أجمعين. أما بعد: فإن سنة الاصطفاء والاختيار، سنة جارية، ومنّة باقية، يقول جل شأنه: [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] الحج 75. [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ] القصص 68، والاختيار هنا: الاجتباء والاصطفاء (¬1). ¬

(¬1) ابن القيم: محمد: الإمام: زاد المعاد في هدي خير العباد: ط 13 1406هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. (1/ 39)

[إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ] آل عمران33. [وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ] ص 45 - 47. يقول الإمام ابن القيم: وإذا تأملت أحوال هذا الخلق، رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه، دالا على ربوبيته تعالى ووحدانيته، وكمال حكمته وعلمه وقدرته، وأنه الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره، فهذا الاختيار والتدبير، والتخصيص المشهود أثره في هذا العالم، من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته، وصفات كماله، وصدق رسله (¬1). فاصطفى الله جل وعلا من البشر: الأنبياء والرسل، واختار منهم صفوتهم، وهم: أولوا العزم منهم (¬2) قال سبحانه وتعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ ¬

(¬1) ابن القيم: زاد المعاد: 1/ 42 (¬2) أولو العزم: أي أولو الجد من الرسل، وهم من حفظ له شدة مع قومه ومجاهدة. قال ابن الأثير: واختلف العلماء في تعيينهم على أقوال أشهرها: أ- أنهم أصحاب الشرائع وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وهو قول مجاهد، وعليه فإن (من) في الآية تكون للتبعيض، وهو قول عطاء الخراساني. ب- أنهم جميع الرسل، ويكون الرسل كلهم أولو العزم، وهو قول ابن عباس، وعليه، فإن (من) في الآية تكون لبيان الجنس، وهو قول علي بن مهدي الطبري وابن زيد، والقول الأول أشهر. ابن الأثير: المبارك: الإمام: النهاية في غريب الحديث والأثر، بيت الأفكار الدولية، دون ذكر رقم الطبعة وتاريخها (600). أبو حيان: محمد: الإمام، البحر المحيط في التفسير، دار الفكر، بيروت 1421هـ: 9/ 451. القرطبي: محمد: الإمام: الجامع لأحكام القرآن: دار الكتاب العربي بيروت 1427هـ: 16/ 188 ابن كثير: إسماعيل: الإمام: تفسير القرآن العظيم: دار المعرفة، بيروت ط 5، 1412: 4/ 185

أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ] الأحقاف 35 واصطفى منهم الرسول الأكرم، والنبي الأعظم، فعن واثلة بن الأسقع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (2276). وأخرجه الترمذي في جامعه (باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم (3615).وأخرجه أحمد في مسنده، انظر: البنا، أحمد، الشيخ: الفتح الرباني، لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتاريخها 20/ 175. *قوله " اصطفى " أي اختار، " كنانة ": بكسر الكاف، وهي عدة قبائل أبوهم، كنانة بن خزيمة من ولد إسماعيل، و "قريش" وهم أولاد نضر بن كنانة كانوا تفرقوا في البلاد، فجمعهم قصي بن كلاب في مكة، فسموا: قريشا، لأنه قرشهم، أي جمعهم، " بني هاشم ": هاشم بن عبد مناف. " واصطفاني من بني هاشم ": أي النبي الكريم، وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. قال النووي: وإلى هنا إجماع الأمة، وأما ما بعده إلى آدم فيختلف الناس فيه أشد اختلاف، قال العلماء: ولا يصح فيه شيء يعتمد. البنا: الفتح الرباني 20/ 176، المباركفوري، محمد: العلامة، تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: دار إحياء التراث العربي، بيروت ط 3/ 1422هـ (10/ 75). النووي: يحيى: الإمام: تهذيب الأسماء واللغات: دار الكتب العلمية، بيروت، ط، 1/ 1418هـ (1/ 29).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع) (¬1). واصطفى الله جل وعلا من جملة الأمم، أمة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فجعلها خاتمة الأمم وخيرها، قال سبحانه [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] آل عمران 110. وعن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنتم ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (في باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق (2278)

توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل) (¬1). قال الإمام ابن كثير: وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم، لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل، فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه (¬2). ومن فضل الله تعالى على هذه الأمة، أن جعلها نصف أهل الجنة، أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في قبة، فقال: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: والذي نفسي محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما في أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ومن سورة آل عمران (3001)، وقال الإمام الترمذي: هذا حديث حسن (¬2) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 1/ 399 (¬3) البخاري: محمد: الإمام: صحيح البخاري، دار الفكر ط 1/ 1411هـ، باب كيف الحشر 6528، (7/ 249).

قال الحافظ ابن حجر: ولمسلم من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق " فكبرنا في الموضعين " ومثله في حديث أبي سعيد، وزاد " فحمدنا " وفي حديث ابن عباس " ففرحوا " وفي ذلك كله دلالة على أنهم استبشروا بما بشرهم به، فحمدوا الله على نعمته العظمى، وكبروه استعظاما لنعمته بعد استعظامهم لنقمته (¬1). وقال العلامة ابن عماد الأقفهسي: وفي رواية، ثم قال: (إن الجنة عشرون ومائة صف منها ثمانون من هذه الأمة) وحينئذ فيكونون ثلثي أهل الجنة، وقد وقع التصريح به في الرواية الأخرى " إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة". ثم قال: قال بعض أهل المعاني: وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى [أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ] فإن الوارث له الثلثان، لأن المريض ممنوع من التصرف فيما زاد على الثلث إلا برضى الوارث (¬2). قلت: ولكن الحافظ ابن حجر، ضعف رواية الكلبي: " إني لأرجو أن ¬

(¬1) ابن حجر: أحمد: الحافظ: فتح الباري بشرح صحيح البخاري: دار الريان للتراث، القاهرة، ط 2/ 1409هـ (11/ 395) (¬2) الأقفهسي: محمد: العلامة: الإرشاد إلى ما وقع في الفقه وغيره من الأعداد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1/ 1412هـ (1/ 40)

تكونوا ثلثي أهل الجنة" وقال: لا تصح هذه الزيادة، لأن الكلبي واه (¬1). ثم ذكر رحمه الله حديث بريدة السابق، وقال: وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث بريدة رفعه: أهل الجنة عشرون ومائة صف، أمتي منها ثمانون صفا، وله شاهد من حديث ابن مسعود بنحوه، وأتم منه أخر الطبراني، وهذا يوافق رواية الكلبي، فكأنه صلى الله عليه وسلم لما رجا رحمة ربه أن تكون أمته نصف أهل الجنة، أعطاه ما ارتجاه وزاده (¬2). واصطفى سبحانه وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: خير الصحب، وأفضل الركب، قال جل شأنه: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] الفتح 29. ¬

(¬1) ابن حجر: أحمد: الحافظ: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار الريان للتراث، القاهرة ط2/ 1409هـ (11/ 395) (¬2) مرجع سابق، وانظر: العيني: محمود: العلامة: عمدة القاري شرح صحيح البخاري: دار الفكر 1425هـ (15/ 602)

وقال النبي صلى الله عليه وسلم مثنيا عليهم ومبينا فضلهم ومكانتهم ومنزلتهم (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ... ) (¬1). وهذه الخيرية تقتضي رفعة مكانتهم، وجلالة قدرهم، وعظيم منزلتهم، وكذا تقتضي اتصافهم بأكمل الأخلاق، وأزكى الآداب، وأعلى المكارم. إن بحثت عن أصدق الناس حديثا، وأوفاهم وعداً وعهداً، وأتقاهم لله تعالى، وأطوعهم لرسول صلى الله عليه وسلم، فهم، ولن تجد خيرا منهم. فهم أعرف الناس - بعد الأنبياء - بالله تعالى وأشدهم خشية منه، وأعظهم امتثالاً لأمره، واجتناباً لنهيه. ويصدق عليهم قوله سبحانه وتعالى [إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ] المؤمنون 57 - 60 قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " إن الله نظر إلى قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير القلوب فاصطفاه لنفسه، فابتعثه الله برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم). (3650)

حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء. وقال: من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا. اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه. فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وقال غيره: عليكم بآثار من سلف، فإنهم جاؤوا بما يكفي ويشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه (¬1). ولذا قال حبر الأمة وترجمان القرآن في قوله تعالى: [قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى] قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. قال الإمام ابن كثير: الصحابة كانوا خير الخلق بعد الأنبياء وهم خير قرون هذه الأمة التي هي أشرف الأمم بنص القرآن وإجماع السلف والخلف في الدنيا والآخرة (¬2). واختار الله تعالى لنبيه خيرة النساء طهرة وعفافا، وكمالا وجمالا، يكن ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند، انظر: الفتح الرباني: 22/ 170، أبواب مناقب الصحابة، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 1/ 96، ابن تيمية: مجموع الفتاوى 4/ 158. (¬2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 381، ابن كثير: البداية والنهاية: 7/ 213

أنيسات نبيه، مقتبسات جميل وكريم خلقه، ملتمسات أنوار شرعته، شاهدات مكنون سره. قال الإمام ابن القيم: وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين، واختار منهم السابقين الأولين واختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، واختار لهم من الدين أكمله، ومن الشرائع أفضلها، ومن الأخلاق أزكاها وأطهرها (¬1). ¬

(¬1) ابن القيم: زاد المعاد: 1/ 44

أهمية الموضوع

أهمية الموضوع تظهر أهمية الكتابة في موضوع الصحابة في نظري القاصر من جهتين: الأولى: حاجة الناس الملحة - وهم أحفاد الصحابة رضي الله عنهم - إلى بيان هدي قويم يسيرون عليه، ومنهج حكيم سليم يتجهون إليه، ولا هدي أقوم، ولا منهج أحكم وأسلم من هدي الصحابة رضي الله عنهم إذ هم خير من مشى على البسيطة بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقد صاحبوا النبي صلي الله عليه وسلم ونهلوا من علمه، واقتبسوا من حكمته وحلمه، وتخلقوا بأخلاقه، وساروا على منهجه وطريقته. فحاجة الناس ماسة - خاصة في مثل هذه الأزمان التي ضاعت فيها كثير من القيم والأخلاق - إلى الرجوع لعلم وأخلاق وجهاد السلف الصالح، لالتماس جليل علومهم واقتباس كريم أخلاقهم. الثانية: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فكما أن بيان السنة وفضائل الصحابة، وتقديمهم الصديق والفاروق من أعظم أمور الدين عند ظهور بدع الرافضة ونحوهم، فكذلك بيان السنة ومذاهب أهل المدينة، وترجيح ذلك على غيرها من مذاهب أهل الأمصار أعظم أمور الدين عند ظهور بدع الجهال المتبعين للظن وما تهوى الأنفس (¬1). فإذا لم يكن هذا الزمن الذي نعيشه هو أولى الأزمان ببيان فضائل الصحابة، وبثها ونشرها، ودحض ¬

(¬1) ابن تيمية: أحمد: شيخ الإسلام: مجموع الفتاوى: مكتبة العبيكان ط 1/ 1419هـ (20/ 396)

كذب المفترين، فمتى يكون. ومع انتشار وسائل التقنية، سهل الحصول على المعلومة، صدقا كانت أم كذبا، ولما انتشر القول في الصحابة في هذه الوسائل، تارة بالطعن فيهم وازدرائهم، وتارة بسبهم وانتقاصهم وتشويه صورتهم خاصة فيما وقع بينهم من الحروب والفتن، كان حريا على كل صاحب علم وفكر أن ينهض جادا ويأخذ بحبل من القضية ينافح عنها، ويجادل لأجلها، ليبين وجه الصواب فيها، ويذب عن أصحابها. ولست هنا محققا لما جرى من الفتن بين الصحابة رضي الله عنهم فهذه لها أهلها، ولكن أبادر مبادرة متواضعة، لصنع صفاء ذاك التاريخ، وتلك الحقبة، وبيان جمال أيامهم، وكمال أعوامهم، فأشدت بفضائلهم وميزت خصائصهم، وأفضت في ذكر مناقبهم، وأزحت بعض الشبه التي ألزقت بهم، خاصة أن القوم - الرافضة - معروفون بالكذب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما أهل الكوفة، فلم يكن الكذب في أهل بلد أكثر منه فيهم، ففي زمن التابعين كان بها خلق كثيرون منهم معروفون بالكذب، لاسيما الشيعة، فإنهم أكثر الطوائف كذباً باتفاق أهل العلم (¬1). وبيّن رحمه الله أن هذه الطائفة هي أكثر الطوائف قدحاً في سلف الأمة وأئمتها، فقال: فالمقصود هنا أن المشهورين من الطوائف - بين أهل السنة والجماعة - العامة بالبدعة ليسوا منتحلين للسلف، بل أشهر الطوائف بالبدعة: الرافضة، حتى إن العامة لا تعرف من شعار البدع إلا الرفض، ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 20/ 316

والسني في اصطلاحهم: من لا يكون رافضيا، وذلك لأنهم أكثر مخالفة للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثر قدحاً في سلف الأمة وأئمتها، وطعناً في جمهور الأمة من جميع الطوائف، فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة (¬1). وقال عنهم أيضا: وهؤلاء لا يرجعون إلى شيء بل إلى معدوم لا حقيقة له، ثم إنما يتمسكون بما ينقل لهم عن بعض الموتى فيتمسكون بنقل غير مصدق عن قائل غير معصوم، ولهذا كانوا أكذب الطوائف ... وحديث الشيعة من أكذب الحديث (¬2). ويضاف لما ذكر من أهمية الحديث في هذا الموضوع، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الافتراق فقال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة). قال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح (¬3). وجاء في رواية (وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في ¬

(¬1) مرجع سابق: 4/ 155 (¬2) مرجع سابق: 13/ 209 (¬3) أخرجه الترمذي في باب ما جاء في افتراق هذه الأمة (2640)

النار إلا واحدة، فقالوا: ومن هي يا رسول الله قال: ما أنا عليه وأصحابي). قال الترمذي: حديث حسن غريب مفسر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه (¬1). فوصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفرقة الناجية بأنها على ما كان عليه هو عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، فكان لزاما معرفة منهجهم وفقههم وسيرة حياتهم، لأنهم كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيار المؤمنين (¬2). وقال في موضع آخر: ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف أن خير قرون ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في باب ما جاء في افتراق هذه الأمة (2641)، انظر: المباركفوري: تحفة الأحوذي، 7/ 434: العظيم آبادي: محمد: العلامة: عون المعبود شرح سنن أبي داود: دار الحديث 1423هـ (8/ 5) وجاء في التحفة: قوله: هذا حديث حسن غريب في سنده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وهو ضعيف، فتحسين الترمذي له لاعتضاده بأحاديث الباب. المباركفوري: تحفة الأحوذي: 7/ 436 وقد صححه الإمام ابن تيمية فقال: الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم. ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 3/ 345 وقال رحمه الله: مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين، وقد ضعفه ابن حزم وغيره، لكن حسنه غيره أو صححه، كما صححه الحاكم وغيره، وقد رواه أهل السنن وروي من طرق. ابن تيمية: منهاج السنة: 5/ 48، انظر: عواجي: غالب: دكتور: فرق معاصرة: مكتبة لينة للنشر والتوزيع ط 1/ 1414هـ (1/ 30). (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 35/ 59

هذه الأمة في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة، أن خيرها - القرن الأول - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة، من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان وعبادة، وأنّهم أولى بالبيان لكل مشكل، وهذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام وأضله الله على علم، ثم قال: وما أحسن ما قال الشافعي في رسالته: " هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا " (¬1). دوافع كتابة الموضوع: ومما دفعني لكتابة مثل هذا الموضوع المهم عدة أمور: 1 - الغيرة على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، واللحاق بركب المنافحين والمدافعين عن جنابهم الطاهر. فمجريات الأحداث الحاضرة، وسوالف الأخبار الماضية، تؤكد استهداف المنافقين، النيل من رموز هذه الأمة المباركة المرحومة، والحط من أقدارهم وغايتهم هدم معالم الدين الحنيف، وليس أمامهم إلا الثقات العدول النقلة، فإذا سقطت عدالتهم، واهتزت مكانتهم، فلا وثوق بما يحملونه وينقلونه، وحسبي في الرد عليهم وعلى أمثالهم، قول الحبيب المصطفى والنبي المجتبى عليه أفضل الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 157

مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) (¬1). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وفي هذا دعاء منه لمن بلغ حديثه وإن لم يكن فقيهاً، ودعاء لمن بلغه وإن كان المستمع أفقه من المبلغ، لما أعطي المبلغون من النضرة، ولهذا قال سفيان بن عيينة: لا تجد أحدا من أهل الحديث إلا وفي وجهه نضرة، لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، يقال: نَضُر، ونَضَر، والفتح أفصح، ولم يزل أهل العلم في القديم والحديث يعظمون نقلة الحديث، حتى قال الشافعي رضي الله عنه: " إذا رأيت رجلاً من أهل الحديث فكأني رأيت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ". وإنما قال الشافعي هذا، لأنه في مقام الصحابة من تبليغ حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الشافعي أيضاً: أهل الحديث حفظوا، فلهم الفضل علينا لأنهم حفظوا لنا (¬2). ويقول رحمه الله في موضع آخر: وبكل حال، فهم أعلم الأمة بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته ومقاصده وأحواله (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في كتاب العلم باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2656)، وأخرجه أبو داود في كتاب العلم باب فضل نشر العلم (3657) (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى 1/ 11 (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى 4/ 95

وفي هذا يقول المولى جل وعلا: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} الإسراء: (71)، قال بعض السلف: هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث؛ لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم. (¬1) ويقول الإمام ابن القيم: التلقي نوعان: بوساطة وبغير وساطة، وكان التلقي بلا وساطة حظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين حازوا قصبات السباق، واستولوا على الأمر، فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المبرز، من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم، والمتخاذل من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال، فأي خصلة خير من لم يسبقوا إليها، وأي خطة رشد لم يستولوا عليها، تالله لقد رووا رأس الماء من عين الحياة عذبًا صافياً زلالاً وأيدوا قواعد الإسلام (¬2). 2 - إثبات عدالتهم المطلقة، وبيان أن ما جرى بينهم رضي الله عنهم وأرضاهم من أحداث وفتن لا تسقط عدالتهم ولا تنقص مكانتهم، بل كانوا أئمة مجتهدين متأولين، فهم بين الأجر والأجرين كما نص عليه علماء وفضلاء الأمة. ونقل الإمام النووي في شرحه صحيح الإمام مسلم كلام بعض الأئمة، فيما جرى بين الصحابة وذكر عنهم قولهم: فكلهم معذورون رضي الله عنهم، ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 56 (¬2) ابن القيم: إعلام الموقعين: 1/ 5

ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهادتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين (¬1). 3 - رد بعض الأكاذيب المختلقة من وجود انفصام بين آل البيت الطاهرين والصحابة المكرمين رضي الله عنهم أجمعين. 4 - بيان المعتقد الصحيح، والمنهج القويم في الصحابة رضي الله عنهم. 5 - وضع الأمور في نصابها الصحيح، والتحاكم إلى نصوص الوحيين حين الاختلاف. 6 - إشهار وإظهار مواقف أهل السنة والجماعة في غيرتهم على الصحابة رضي الله عنهم، وبيان وجوه دفاعهم وذبهم عن أعراض الصحابة الأجلاء المكرمين رضي الله عنهم. 7 - بيان إجماع أهل السنة والجماعة القولي والفعلي على وجوب احترام الصحابة وتوقيرهم وإجلالهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها رضي الله عنهم أجمعين. 8 - بيان خطورة وجريمة التعدي على جناب الصحابة الأطهار، وأن سبهم والطعن فيهم، جناية عظيمة، ومصيبة كبيرة، موجبة للكفر والقتل حيناً، والتعزير والحبس والجلد حيناً آخر. 9 - محاولة دفع ورفع اللبس الذي ربما اشتبه على البعض من الآيات والأحاديث التي ظاهرها الطعن في الصحابة رضي الله عنهم وهي مبثوثة في ثنايا هذا ¬

(¬1) النووي: يحي: الإمام: شرح صحيح الإمام مسلم: دار القلم، بيروت ط 1 (15/ 159)

البحث. 10 - بيان منهجنا وعقيدتنا في الصحابة رضي الله عنهم والتي لا يمكن أن نتنازل عنها بحال من الأحوال، لا بدعوى تقارب ولا غيرها. 11 - بيان أن بشرية الصحابة وعدم عصمتهم، ليست سببا للوقوع في أعراضهم، وتتبع زلاتهم، بل هم أشرف الخلق وأكرمهم، فالوحي يقر صوابهم - وهم أتباع للشرع - ويصحح خطأهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

خطة البحث: قسمت البحث إلى مقدمة وبابين وخاتمة. المقدمة اشتملت على: - أهمية الموضوع. - ودوافع الكتابة فيه. - وخطة البحث ومنهج الكتابة فيه. الباب الأول: في فضائل الصحابة وخطورة سبهم: اشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: الحديث عن فضائل الصحابة من الكتاب والسنة. الفصل الثاني: حكم سب الصحابة رضي الله عنهم. الفصل الثالث: مسائل متممة (شبهات وردود) والباب الثاني: في الدفاع عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: اشتمل على أربعة فصول: الفصل الأول: دفاع الله تعالى عن الصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم. الفصل الثاني: دفاع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصحابة رضي الله عنهم. الفصل الثالث: دفاع الصحابة رضي الله عنهم عن أعراض بعضهم بعضاً. الفصل الرابع: دفاع بعض المخلوقات المسخرة عن الصحابة رضي الله عنهم. ثم الختام والتوصيات.

منهج البحث: اعتمدت في البحث على منهج أحسب أنه منهج وسط معتدل، يقوم على: 1 - إحسان الظن في الصحابة رضي الله عنهم، ودفع ما يناقض الأصول العامة التي تبنى عليها عقيدتنا في الصحابة رضي الله عنهم، مع عدم الغلو فيهم، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلو فيه وإطرائه، وهو خير البشرية فمن هو دونه من باب أولى، ولكن هم أقوام أحبهم الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، أفلا نحبهم ونجلهم ونكرمهم ونذب عن أعراضهم، بلى والله. 2 - ابتعدت قد المستطاع عن الروايات الموضوعة والضعيفة التي لا ينجبر ضعفها، واكتفيت بما صح من الروايات أو كان مقبولاً عن العلماء الموثوقين من أهل الحديث والتاريخ، وذكرت بعض الآثار عن السلف المتعلقة بالباب، وبعض الأخبار والرؤى استئناساً لا اعتمادا. 3 - اقتضى المقام مزج الكلام بالأسلوب الإنشائي، راجيا من الله تعالى أن يكون مستحسنا غير ممجوج. 4 - رجعت إلى المراجع الأصلية في الباب. 5 - خرجت الآيات، وعزوت الأحاديث لمصادرها. 6 - نسبت النقول لقائلها، كما قيل: من بركة العلم أن يضاف القول

إلى قائله (¬1).وأنبه إلى أن الإحالة إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، هو بالنسبة لما هو مشهور من طبعة الشيخ: ابن قاسم، مع أني ذكرت في المراجع طبعة العبيكان، وهي المتواجدة لدي، وميزتها: فهرسة الصفحات على طبعة الشيخ ابن قاسم. هذا وأشكر المولى جل وعلا على ما من به علي من نعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، ومنها: تيسيره لي إخراج هذا البحث المتواضع، ذابا فيه ومنافحاً ومبينا فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأشكر بعد شكر الله تعالى، كل من أعانني بقول أو فعل، ولهم مني خالص الدعاء. وهذا جهد بشري يعتريه النقص والخطأ والسهو والنسيان ولا بدّ، ويأبي الله تعالى إلا أن يكون الكمال لكتابه ولكن حسبي أني بذلت وسعي وجهدت طاقتي لإبراز البحث في أحسن وأكمل صورة فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، فله الحمد والمنة، وأسأله سبحانه وتعالى أن يحشرني وكل منافح عن الصحابة مع هذه الزمرة المباركة الطاهرة، وما كان فيه من خطأ أو تقصير فمني والشيطان، والخطأ من طبيعة البشر " وخير الخطائين التوابون " ورحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي. مازن محمد بن عيسى [email protected] ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 29

الباب الأول فضائل الصحابة، وخطورة سبهم (رضي الله عنهم)

الباب الأول فضائل الصحابة، وخطورة سبهم (رضي الله عنهم)

الفصل الأول فضل الصحابة رضي الله عنهم

الفصل الأول فضل الصحابة رضي الله عنهم. تمهيد: ليس بدعا ًمن القول، أنه منذ أربعة عشر قرنا، والألسنة تلهج بذكر فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان منزلتهم ومكانتهم، وبيان مكانة أمهات المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين. وليس جيل يخلو، ولا عمر يصفو، دون بيان وتذكير، فهذه الكراريس مليء، والدواوين جمعى والصحاح والسنن والمسانيد تبعى، تصب كلها في معين واحد يشهد لها الإله الواحد: [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] الأنفال 74. إن الحديث في فضائل أولئك القوم حديث ذو شجون، فلا تملك العين دمعها ولا الأذن سمعها ولا النفس شوقها، حين تذكر كمالات تلك الأرواح، وصفاء تلك النفوس، إنها القلوب المؤمنة الموقنة الصادقة المصدقة، بذلت الغالي والنفيس، بذلت كل ما تملك حبا وكرامة ونصرة، ارخصت المهج الغالية لقاء الجنة الغالية، (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن

سلعة الله الجنة) (¬1). هانت عليها دنياها ففازت بأخراها " والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد (¬2) " نعم: وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام. يتسابقون لمرضاة الله، ويتسارعون إلى جنة الله تعالى، تهفوا نفوسهم للمعالي، ويقفون صموداً لنصرة دين الله ورسوله كالجبال، " والله لئن خصت بنا برك الغماد لخضناه معك، والله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى، اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك (¬3). أي نفوس هذه، تجردت من حظوظها، وانقادت لشرع ربها، ففازت بموعود خالقها [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى] الأعلى 15، 16 [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا] الليل 9. حينما تضع قلمك، وتجول بفكرك، تريد صنع تاريخ من تاريخ، ومجد ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، (2450)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر. (¬2) ابن القيم: زاد المعاد: 3/ 198، ابن كثير: إسماعيل، الإمام: البداية والنهاية: دار الحديث، القاهرة، ط 5/ 1418هـ (4/ 33). ابن حجر: فتح الباري: 7/ 411 (¬3) ابن القيم: زاد المعاد: 3/ 173، ابن كثير، البداية والنهاية: 3/ 298

من أمجاد، وعز من أجداد فإنك تقف مشدوهاً أمام تلك الحقبة، وذاك القرن، إذ فيه صنع التاريخ وبدا، وشيد المجد وارتقى. يا قلم عن أي تاريخ تكتب، وعن أي أمة عظيمة تسطر، يقيني لينتهين مدادك ولن تبلغ ودادك. أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع. هي أمة عاشت الماضي بالحاضر، ومزجت الحاضر بالمستقبل، امتدت رقاعها، وزادت شموسها، ونهل الناس من خيرها وبركتها وبرها. ألا شاهدت الوجوه، وخرست الألسن، وشلت الأركان، التي تطال تلك النفوس الزكية بالبهتان وتقع في أعراضها بغير حق ولا برهان، كيف سيقف اللسان، أو ينطق البنان حين يسأله الرحيم الرحمن الملك العلام [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ] النور24 - 25 فرحمة الله على أمة قالت وفعلت ووعدت وأوفت وتحدثت فصدقت: [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] الأحزاب23 فهم - رضي الله عنهم - أهل السابقة والفضل، أثنى الله تعالى عليهم فقال: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم} الجمعة 2 - 3. قال الإمام

السيوطي: قوله (وآخرين) عطف على الأميين، أي: الموجودين (منهم) والآتين منهم بعدهم (لما) لم (يلحقوا بهم) في السابقة والفضل (وهو العزيز الحكيم) في ملكه وصنعه، وهم التابعون، والاقتصار عليهم كاف في بيان فضل الصحابة المبعوث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم على من عداهم ممن بعث إليهم وآمنوا به من جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة؛ لأن كل قرن خير ممن يليه. (¬1) وبعد هذه المشاعر المنبثقة من قلب محب، نضع موازين الكتاب والسنة حاكمة على كل هوى مقومة لكل اعوجاج [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً] النساء 122. [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً] النساء 87، وقال تعالى عن نبيه [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] النجم 3 - 4 ففضائل الصحابة، وبيان مكانتهم ومنزلتهم بُينت في نصوص الوحيين خير بيان. ¬

(¬1) السيوطي: تفسير الجلالين: 741

المبحث الأول: فضائل الصحابة في القرآن الكريم

المبحث الأول: فضائل الصحابة في القرآن الكريم: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولو ذكرنا ما روى في حقوق القرآبة وحقوق الصحابة لطال الخطاب، فإن دلائل هذا كثير من الكتاب والسنة. قال العلامة محمد بن عمر بحرق: وقد ورد في فضلهم رضي الله عنهم من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية ما لا يحصى. وقال الإمام الغزالي: وقد ورد في الثناء على جميعهم آيات وأخبار كثيرة، وإنما يدرك دقائق الفضل والترتيب فيه، المشاهدون للوحي والتنزيل بقرائن الأحوال ودقائق التفصيل، فلولا فهمهم ذلك لما رتبوا الأمر كذلك، إذ كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عن الحق صارف (¬1). 1) إثبات الخيرية في أمة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وخير من يدخل تحت لوائها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] آل عمران 110. واختلف أهل العلم بالقرآن الكريم في توجه الخطاب في هذه الآية ¬

(¬1) بحرق: محمد: العلامة: حدائق الأنوار ومطالع الأٍسرار في سيرة النبي المختار: دار المنهاج ط 3/ 1424هـ (417)، ابن تيمية: مجموع الفتاوى 28/ 492، الغزالي: إحياء علوم الدين: 1/ 115

على رأيين: الأول: أن الخطاب في هذه الآية موجه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وهذا لا شك يدل على فضلهم ومكانتهم، قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] قال: هم الذي هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وشهدوا بدراً والحديبية (¬1). قال الإمام أبو حيان: والظاهر أن الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولا وهم: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون الإشارة بقوله: أمة - إلى أمة معينة وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالصحابة هم خيرها (¬2). ويقول رحمه الله: والمعنى: أن الأمم إذا فضلوا أمة أمة كانت هذه الأمة خيرها، وحكم عليهم بأنهم خير أمة، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ وهي: سبقهم إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدارهم إلى نصرته، ونقلهم عنه علم الشريعة، وافتتاحهم البلاد. وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل، وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل أجرها؛ لأنهم سبب في إيجادها، إذ هم الذين سنوها وأوضحوا طريقها (من سن في الإسلام سنة ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 166، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 399، المنصوري: مصطفى: العلامة: المقتطف من عيون التفاسير: دار القلم، دمشق ط 2/ 1417هـ، (1/ 357) (¬2) أبو حيان: محمد: الإمام: البحر المحيط في التفسير: دار الفكر 1412هـ (3/ 399)

حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا) (¬1). وقال الإمام القرطبي: وقيل: هذه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني): أي الذي بعثت فيهم (¬2). وقال الإمام ابن الصلاح: وقيل: اتفق المفسرون على أنه وارد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3). قلت: الخلاف وارد، ولكن هم أولى من يدخل في مضمون هذه الآية. الثاني: أن الخطاب في الآية عام، يشمل جميع الأمة، كل قرن بحسبه. قالوا: ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم). قال الإمام ابن كثير: تفرد به أحمد من هذا الوجه، وإسناده حسن (¬4). ¬

(¬1) أبو حيان: البحر المحيط: 3/ 301 (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 4/ 166 (¬3) العراقي: عبد الرحيم: الحافظ: التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح: مؤسسة الكتب العلمية ط 2/ 1413هـ، (286) (¬4) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 399 - 400، المنصوري: المقتطف: 1/ 398

قلت: فعلى كلا القولين، فإن الآية تدل دلالة واضحة على فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير أمتي قرني .. )، ولذا قال الإمام السيوطي: واستدل بهذه الآية على أن الصحابة أفضل الأمة؛ لأنهم المخاطبون بها حال النزول، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء؛ لأن شرف الأمة بشرف نبيها (¬1). 2) وأنهم رضي الله عنهم خير من يدخل في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] آل عمران 104، وأن (من) في الآية وإن كانت للتبعيض، وكون المقصود منها: أن الآمرين يجب أن يكونوا علماء، فإن الصحابة رضي الله عنهم في مقدمتهم، وعلى رأس هرمهم. قال الإمام الضحاك: هم خاصة الصحابة رضي الله عنهم، وخاصة الرواة، يعني: المجاهدين والعلماء (¬2). قال الإمام أبو حيان: والأمر يتوجه لمن يتوجه الخطاب عليهم، قيل: وهم الأوس والخزرج على ما ذكره الجمهور، وأمره لهم بذلك أمر لجميع المؤمنين، ومن تابعهم إلى يوم القيامة، قال: ويحتمل أن يكون الخطاب عاماً ¬

(¬1) السيوطي: عبد الرحمن " الإمام: الإكليل في استنباط التنزيل ":دار الأندلس الخضراء ط / 1422هـ (2/ 486) (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 162، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 398

فيدخل فيه الأوس والخزرج (¬1). 3) من القواعد المقررة في علم أصول التفسير: أن غالب ما يصح من الخلاف بين السلف في التفسير يرجع إلى اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد، وذلك إما: أ) أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند، فالسلف كثيرا ً ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه، وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر. ب) وإما أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل ما نقل في تفسير قوله تعالى: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ] (¬2) فاطر 32 وعليه فمن الآيات التي تبين فضل الصحابة رضي الله عنهمبناء على ما ذكر: وقال جل شأنه في سورة الفاتحة {اهدنا الصراط المستقيم} الفاتحة 5، قال الإمام ابن كثير: ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في ¬

(¬1) أبو حيان: البحر المحيط في التفسير: 3/ 289 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 13/ 333 - 337 " بتصرف ".

تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو: المتابعة لله وللرسول. فروي أنه (كتاب الله، وقيل: الإسلام). ثم قال: وعن عاصم الأحول عن أبي العالية (اهدنا الصراط المستقيم) قال: هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده، قال عاصم: فذكرنا ذلك للحسن فقال: صدق أبو العالية ونصح. وكل هذه الأقوال صحيحة، وهي متلازمة فإن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر فقد اتبع الحق، ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام، ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن وهو كتاب الله وحبله المتين وصراطه المستقيم، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضا ولله الحمد (¬1). وفي هذا يقول الإمام الهمام ابن القيم: وقال أبو العالية والحسن البصري، وهما من أجل التابعين: (الصراط المستقيم: رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه)، وقال أبو العالية أيضا في قوله (صراط الذين أنعمت عليهم: هم آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر) ,هذا حق. فإن ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 29، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 192.

آله وأبا بكر وعمر على طريق واحدة، ولا خلاف بينهم، وموالاة بعضهم بعضا، وثناؤهم عليهما، ومحاربة من حاربا، ومسالمة من سالما: معلومة عند الأمة، خاصها وعامها. وقال زيد بن أسلم: (الذين أنعم الله عليهم: هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر).ولا ريب أن المنعم عليهم: هم اتباعه، والمغضوب عليهم: هم الخارجون عن اتباعه. وأتبع الأمة له وأطوعهم: أصحابه وأهل بيته، وأتبع الصحابة له: السمع والبصر، أبو بكر وعمر، وأشد مخالفة له: هم الرافضة، فخلافهم له معلوم عند جميع فرق الأمة، ولهذا يبغضون السنة وأهلها، ويعادونها ويعادون أهلها. فهم أعداء سنته صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته وأتباعهم من بنيهم أكمل ميراثا؟ بل هم ورثته حقا (¬1). قوله سبحانه وتعالى [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ] آل عمران 106، والاستدلال من هذه الآية على وجهين: الأول: على وجه العموم، حيث قال الإمام ابن عباس رضي الله عنه في معنى الآية: يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه ¬

(¬1) ابن القيم: مدارج السالكين: 1/ 94

أهل البدعة والفرقة. من يشك أن أصحاب النبي رضي الله عنه هم أهل السنة والجماعة، فقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي .. ) (¬1). قال الإمام ابن قدامة: وأبو بكر هو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلمله في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله يجمعهم على ضلالة، ثم من بعده عمر رضي الله عنه لفضله، وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان رضي الله عنه، لتقديم أهل الشورى له، ثم علي رضي الله عنه، لفضله وإجماع أهل عصره عليه. وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) وقال: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) فكان أخرها خلافة علي رضي الله عنه (¬2). فالصحابة رضي الله عنهم خير من يطلق عليهم وصف السنة وإتباعها، والسير على منهاجها والشواهد على ذلك لا تعد ولا تحصى. ¬

(¬1) أخرج الترمذي في كتاب العلم: باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676)، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4596) (¬2) ابن قدامة: عبد الله: الإمام: لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد: مكتبة دار طبرية، الرياض ط 3، 1415هـ، (139).

وأما أنهم رأس الجماعة وهرمها فالله تعالى شهد لهم بذلك فقال: [وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً] آل عمران 103، وقال سبحانه: [هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] الأنفال 63. الثاني / على وجه الخصوص، حيث أُثر عن الإمام عطاء قوله: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسودّ وجوه بني قريظة والنضير. فأي شرف أعظم من هذا الشرف: [وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]،أي: في دار كرامته وجنته خالدون باقون (¬1). 4) أن الله تبارك وتعالى شهد لهم بالإيمان في مثل ضربه جل في علاه فقال: [وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] آل عمران 103 وذكر أهل التفسير أن هذه الآيات نزلت في شأن الأوس الخزرج، فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم، فلما جاء الإسلام فدخل فيه من ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 165، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 398، أبو حيان: البحر المحيط: 3/ 296

دخل منهم صاروا إخواناً متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى (¬1). وهذه نعمة الله عليهم في الدنيا، وأما نعمته عليهم في الآخرة ففي إنقاذهم من النار بعد أن كانوا أشفوا على دخولها فأي نعمة أفضل من هذه النعمة. قال المهدوي: وهذا تمثيل يراد به خروجهم من الكفر إلى الإيمان (¬2). وقد وصف الله سبحانه وتعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز المجيد بوصف الإيمان في أكثر من موضع منها قوله جل شأنه: [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] آل عمران 121، والجمهور على أنها غزو أحد (¬3). [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ] آل عمران 123 - 124. [وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] آل عمران ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 397 (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 162، أبو حيان: البحر المحيط: 3/ 287 (¬3) ابن كثير: مرجع سابق: 1/ 408، القرطبي: مرجع سابق: 4/ 180، أبو حيان: مرجع سابق: 3/ 126

139، قال الإمام ابن كثير: أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون (¬1). وقيل: إن معنى (إن) في الآية: إذ. وقيل: إن قوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] إما لها تعلق: أ. بالنهي في الآية، فيكون ذلك هزاً للنفوس بما يوجب قوة القلب، والثقة بصنع الله تعالى، وقلة المبالاة بالأعداء. ب. بالجملة الخبرية، فيكون المعنى، أي: إن صدقتم بما وعدكم وبشركم به من الغلبة (¬2). وقد وصف الله تعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بوصف الإيمان في موضع تحرج فيه الصحابة رضي الله عنهم، إذ نزل تحريم الخمر، ومات أناس من الصحابة رضي الله عنهم وهم يشربونها، فقالوا: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها فنزلت [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] المائدة 93. وقال الله سبحانه وتعالى في موضع آخر، واصفاً أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بوصف الإيمان أيضاً [هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ] الأنفال 62، قال الإمام ابن كثير: ذكر نعمته عليه مما أيده به من المؤمنين من المهاجرين ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق: 1/ 417 (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 213، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 417

والأنصار (¬1). قلت: والناظر في سورة الأنفال التي انفردت بالحديث عن غزوة بدر الكبرى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، والمتأمل في آياتها يجزم يقيناً لا ريب فيه، وصدقاً لا شك فيه إيمان القوم وصدقهم وإخلاصهم رضي الله عنهم، إذ ذكر المولى عز وجل وصف الإيمان في هذه السورة عشرون مرة. ووجه الربط - والله أعلم - أن هذه السورة نزلت في بدر، كما قال ابن عباس رضي الله عنه وأهل بدر من أهل الإيمان الصادق، بل هم خير المؤمنين، فقد سأل جبريل عليه السلام نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام عمن شهد بدرا من المسلمين؟ فقال: هم من خير المسلمين فقال جبريل: وكذلك من شهدها من الملائكة (¬2). وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة من النار، فقال: (لا يلج النار رجل شهد بدراً والحديبية) (¬3). [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ] آل عمران 185 ومن شواهد الإيمان وطلائع الإحسان عند الصحابة رضي الله عنهم ما قصه الله جل وعلا عنهم في سورة الأحزاب، إذ وصفهم بوصف الإيمان فقال ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق: 2/ 336، المنصوري: مرجع سابق: 2/ 352 (¬2) أخرج البخاري في صحيحه كتاب المغازي، باب شهود الملائكة (3992) (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أهل بدر (2495) - (2196)

سبحانه وتعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] الأحزاب 9 يقول الإمام ابن كثير: يقول الله تعالى مخبرا عن نعمته وفضله وإحسانه إلى عباده المؤمنين في صرفه أعداءهم وهزمه إياهم عام تألبوا عليهم وتحزبوا وذلك عام الخندق (¬1). وأعاد جل وعلا ووصفهم بوصف الإيمان فقال سبحانه [هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً] الأحزاب 11. فعوملوا معاملة من يُختبر، فظهر الراسخ من المتزلزل، وحينئذ ظهر النفاق وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم: [وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً] فهنا ظهر شاهد من شواهد الإيمان فقال سبحانه مخبراً عن عباده المؤمنين الصادقين بوعود الله لهم وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة فقال سبحانه [وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً] الأحزاب 22. قال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة رحمه الله: يعنون قوله تعالى في سورة البقرة [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] البقرة 214، أي: هذا ما وعدنا الله ورسوله، من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب، ولهذا قال تعالى [وَصَدَقَ اللَّهُ ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 478

وَرَسُولُهُ]: أي ظهر صدق خبر الله ورسوله (¬1). ولما ذكر الله جل شأنه حال المنافقين وأنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار، وصف سبحانه المؤمنين أنهم استمروا على العهد والميثاق فقال سبحانه [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] الأحزاب 23. قسمهم الله تعالى قسمين فقال [فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ] قال الإمام الشوكاني: ومعنى الآية: أن المؤمنين رجالاً أدركوا أمنيتهم وقضوا حاجتهم، ووفوا بنذرهم فقاتلوا حتى قتلوا، وذلك يوم أحد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر؛ [وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ] قضاء نحبه يحضر أجله كعثمان بن عفان وطلحة والزبير وأمثالهم، فإنّهم مستمرون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقتال لعدوه، ومنتظرون لقضاء حاجتهم، وحصول أمنيتهم بالقتل، وإدراك فضل الشهادة (¬2). وشهد الله تعالى لهم بالثبات وعدم التبديل فقال [وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] أي: وما غيروا عهد الله تعالى ولا نقضوه ولا بدلوه، لا المستشهدون الذين قضوا، ولا من ينتظر، بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وثبتوا ثبوتاً ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 143، أبو حيان: البحر المحيط: 8/ 468، الشوكاني: فتح القدير 3/ 422 (¬2) الشوكاني: فتح القدير: 3/ 421

مستمراً. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قرأ: " فمنهم من قضى نحبه ومنهم ينتظر ومنهم من بدل تبديلاً " ولكن قال أبو بكر الأنباري: وهذا الحديث عند أهل العلم مردود؛ لخلافه الإجماع؛ ولأن فيه طعناً على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله تعالى وشرفهم بالصدق والوفاء، فما يُعرف فيهم مغيّر، وما وجد من جماعتهم مبدل رضي الله عنهم (¬1). ومن أعظم الدلائل على فضائل القوم وكمال إيمانهم رضي الله عنهم، أن الله سبحانه وتعالى حبب إليهم الإيمان فقال سبحانه [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ] الحجرات7 أي: حببه إلى نفوسكم وحسّنة في قلوبكم حتى رسخ حبه فيها، وأصبح طبيعة وسجية. ثم قال سبحانه [وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ] أي: وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار، والعصيان: هي جميع المعاصي، وهذا تدريج لكمال النعمة (¬2). قال الإمام القرطبي: وهذا خطاب المؤمنين المخلصين الذين لا ¬

(¬1) مراجع سابقة، المنصوري: المقتطف: 4/ 258، السعدي: عبد الرحمن: العلامة: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: مؤسسة الرسالة بيروت ط 2/ 1417هـ (609)، الشنقيطي: محمد الأمين: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، دار الأندلس الخضراء ط 1/ 1423هـ (1500) (¬2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 225

يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخبرون بالباطل أي: جعل الإيمان أحب الأديان إليكم (¬1). ثم قال سبحانه [أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ]: أي: الموصوفون بما ذكرهم، هم الراشدون: الذين صلحت علومهم وأعمالهم، واستقاموا على الدين القويم والصراط المستقيم (¬2). ثم قال سبحانه [فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]: قال الإمام الشوكاني: أنه حبب إليكم ما حبب، وكره إليكم ما كرّه، لأجل فضله وإنعامه، أو جعلكم راشدين لأجل ذلك (¬3). ويكفي القوم شرفاً رضي الله عنهم أن الله جل وعلا أخبر عن شهدائهم بالمكانة العظيمة والفوز الكريم، فقال سبحانه: [وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] آل عمران 169 _ 170. وعلى كل الأقوال في تعيين الشهداء في هذه الآية، فهي فضيلة ومنقبة عظيمة لهم رضي الله عنهم فقد قيل: إن المراد من الشهداء في الآية: شهداء أحد، وقيل: شهداء بدر، وقيل: شهداء بئر معونة، وقيل: ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 266 (¬2) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 744 (¬3) الشوكاني: فتح القدير: 4/ 130، أبو حيان: البحر المحيط: 9/ 515

عامة في كل الشهداء (¬1). وأراد الله سبحانه وتعالى أن يتم لهم الأجر العظيم فقال: [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] آل عمران 172. فقيل: الاستجابة كانت إثر الانصراف من أحد، وكان يوم حمراء الأسد، فعن عروة قال قالت عائشة رضي الله عنها: يا ابن أختي كان أبواك _ تعني: الزبير وأبا بكر _ من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابَهم القرح. وقالت: لما انصرف المشركون من أحد، وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أصابَهم، خاف أن يرجعوا فقال: من ينتدب لهؤلاء حتى يعلموا أن بنا قوة، قال: فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين فخرجوا في أثار القوم، فسمعوا بهم، وانصرفوا بنعمة من الله وفضل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يذهب في إثرهم، فانتدب منهم سبعون رجلاً، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير، حتى بلغ حمراء الأسد، مرهباً للعدو، فربما كان فيهم المثقل بالجراح لا يستطيع المشي، ولا يجد مركوباً، فربما يحمل على الأعناق وكل ذلك امتثالاً لأمر رسول الله، ورغبة في الجهاد (¬2). ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 435، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 260، أبو حيان: البحر المحيط: 3/ 427 (¬2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 437، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 270، أبو حيان: البحر المحيط: 435، المنصوري: المقتطف: 1/ 391

بل حتى من آمن من أحبار أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وأسد بن عبيد، وثعلبة بن شعبة وغيرهم فمن اتصفوا بصفات المؤمنين من تلاوة القرآن والصلاة والإيمان بالله واليوم الآمر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسارعة إلى الخيرات، فقد شهد الله تعالى لهم بأنهم من الصالحين فقال سبحانه [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ] آل عمران 113، 114، 115. قال الإمام القرطبي: [وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ]: أي مع الصالحين، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة (¬1). وذكر الإمام سعيد بن منصور: أنهم هم المقصودون بقوله تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] الرعد 28. فأخرج في سننه عن سفيان، قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (¬2). قال الإمام ابن القيم: إن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها، فهم ¬

(¬1) القرطبي: مرجع سابق: 4/ 173، ابن كثير، مرجع سابق: 1/ 406، المنصوري: مرجع سابق: 1/ 359 (¬2) أخرجه سعد بن منصور في سننه: 5/ 435، ط1 1414هـ، متفقة مع طبعة دار الصميعي.

سادات المفتين العلماء، قال الليث عن مجاهد: العلماء: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال سعيد عن قتادة في قوله تعالى [وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ] سبأ 6، قال: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (¬1). 5) أن الله سبحانه وتعالى قسم المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قسمين وفريقين: الأول): وهم المهاجرون: الذي هجروا أوطانهم وأموالهم وفارقوها طلباً لما عند الله تعالى وإجابة لداعيه، وإقامة لدينه. قال الإمام أبو حيان: فبدأ بالمهاجرين؛ لأنهم أصل الإسلام، وأول من استجاب لله، فهاجر قوم إلى المدينة، وقوم إلى الحبشة، وقوم إلى ابن ذي يزن، ثم هاجروا إلى المدينة، وكانوا قدوة لغيرهم في الإيمان، وسبب تقوية الدين (ومن سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) (¬2). وقال الإمام ابن كثير: وأحسن ما قيل في قوله تعالى [وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] الحشر 9، أي: لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم، فإن ظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار، وهذا أمر مجمع عليه بين ¬

(¬1) ابن القيم: إعلام الموقعين: 1/ 14 (¬2) أبو حيان: البحر المحيط: 5/ 357

العلماء لا يختلفون في ذلك (¬1). الثاني): وهم الأنصار: المسلمون من أهل المدينة، الذي آووا إخوانهم المهاجرين، وأنزلوهم منازلهم، وبذلوا لهم أموالهم وأثروهم على أنفسهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم. قال الإمام أبو حيان: ثم ثنى بالأنصار؛ لأنهم ساووهم في الإيمان، وفي الجهاد بالنفس والمال، لكنه عادل الهجرة: الإيواء والنصر، وانفرد المهاجرون بالسبق (¬2). وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] الأنفال 72. قال أهل التفسير: وهذه الآية تضمنت ولاية بعضهم بعضاً، فهي واردة في إيجاب الولاية والنصرة. ولما ذكر سبحانه وتعالى حكم المؤمنين في الدنيا، عطف بذكر ما لهم في الآخرة فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] الأنفال 74. ففي هذه الآية الكريمة: تعظيم للمهاجرين والأنصار، وثناء عليهم ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 342 (¬2) مراجع سابقة، القرطبي الجامع لأحكام القرآن: 8/ 57، الشوكاني: فتح القدير: 2/ 211

وتشريف واختصاص لهم، حكم لهم بالإيمان الحق الكامل، مع ما آل إليه حالهم رضي الله عنهم من المغفرة والرزق الكريم. قال العلامة المنصوري: وهو كلام مسوق للثناء عليهم، والشهادة بفوزهم بالقدح المعلى من الإيمان (¬1). 6) في سورة الفاضحة والبحوث والمبعثرة والمخزية والمثيرة والحافرة والمنكلة والمدمدمة التي فضحت المنافقين، وبحثت عن أسرارهم وآثارتها ونكلت بهم ودمدمت عليهم، أنزل الله جل وعلا فيها توبته على المؤمنين، لتكون مخرسة لكل متكلم بالبهتان فاضح لسان النفاق فقال سبحانه: [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] التوبة 117 (¬2). وجاءت آيات هذه السورة في سياقاتِها فاضحة للمنافقين، وفي صحيح الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في أصحابي اثنا عشر منافقاً، لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة، سراج من نار تظهر بين أكتافهم حتى ينجم في صدورهم) (¬3). وبعد أن ذكر الله جل شأنه حال المنافقين في تخلفهم عن الجهاد مع ¬

(¬1) المنصوري: المقتطف: 2/ 359 (¬2) الشوكاني: فتح القدير: 2/ 214 (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (2779)

الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ذكر حال المؤمنين الصادقين في المثابرة على الجهاد، وأثنى عليهم فقال سبحانه [لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] التوبة 88 - 89. فأؤلئك المنعوتون بالنعوت الجليلة لهم الخيرات - وهي منافع الدين والدنيا والآخرة - وهم الفائزون المفلحون الذين ظفروا بأعلى المطالب وأكمل الرغائب (¬1). 7) إحلال رضى الله جل وعلا على أولئك القوم، ومن رضي الله عنه فقد فاز، قال سبحانه: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ] البينة 7 - 8. قال العلامة السعدي: ورضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة (¬2). وليس بعد الرضا سخط. قال الإمام ابن كثير: في قوله تعالى {يبتغون فضلا من الله ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 8/ 205، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 395، أبو حيان: البحر المحيط: 5/ 80، الشوكاني: فتح القدير: 2/ 266، المنصوري: المقتطف 2/ 419، السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 360 (¬2) السعدي: مرجع سابق: 308

ورضوانا}، وصفهم بكثرة العمل، وكثرة الصلاة، وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل وهو سعة الرزق عليهم، ورضاه تعالى عنهم وهو أكبر من الأول كما قال جل وعلا [وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ] (¬1). قال الله جل شأنه [وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] التوبة 100، وقال سبحانه [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] الفتح 18 أخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن أبي صخر حميد بن زياد، قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي، أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإنما أريد الفتن، قال: إن الله تعالى قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أي موضع أوجب الله تعالى لهم الجنة في كتابه؟ قال: ألا تقرؤون قوله تعالى [وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ..... ] الآية، أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً لم يشترطه فيهم، قلت: وما اشترط عليهم، قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان، يقول: يقتدون بهم في ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 218

أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك، قال أبو صخر: فوالله لكأني لم أقرأها قبل ذلك، وما عرفت تفسيرها حتى قرأها عليّ ابن كعب (¬1). يقول الإمام ابن كثير: فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولاسيما سيد الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وخيرهم وأفضلهم، أعني: الصديق الأكبر والخلفية الأعظم: أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونَهم ويسبونَهم عياذاً بالله من ذلك، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبَهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن، إذ يسبون من رضي الله عنهم، وأما أهل السنة فإنّهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله ويوالون من يوالي الله، ويعادون من عادى الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون، ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون (¬2). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل النار أحداً شهد بدراً والحديبية)، ولذا فقد رضي الله عنهم ووصفهم بوصف الإيمان، فقال سبحانه [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ .... ] الفتح 18. قال الإمام أبو حيان: والآية دالة على رضا الله تعالى عنهم، ولذا ¬

(¬1) الشوكاني: فتح القدير: 2/ 275، المنصوري: المقتطف: 2/ 426 (¬2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 398، وانظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 11/ 56

سميت بيعة الرضوان، وكانوا فيما روي: ألفاً وخمسمائة وعشرين. وقال ابن أبي أوفى: وثلاثمائة (¬1). 8) ومن الأدلة على فضل الصحابة رضي الله عنه: ما أثنى الله تعالى به عليهم في كتابه، وضرب بهم مثلاً في التوراة وفي الإنجيل، فقال سبحانه: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] الفتح 29 أخرج ابن جرير وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس: [ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ] يعني: نعتهم مكتوب في التوراة والإنجيل قبل أن يخلق الله تعالى السموات والأرض (¬2). واختلف المفسرون في هذه الآية، وكم مثل ضُرب فيها؟ فقيل: هما مثلان، وهو قول عبد الله بن عباس رضي الله عنه أحدهما في التوراة، والآخر في الإنجيل. ¬

(¬1) أبو حيان: البحر المحيط: 9/ 492، وانظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 737 (¬2) الشوكاني: فتح القدير: 4/ 127

وعليه فيوقف في القراءة على قوله: [التَّوْرَاةِ]. وقيل: هما مثل واحد، وهو قول مجاهد، يعني: أن هذه صفتهم في التوراة والإنجيل. ويكون الوقف على [الْأِنْجِيلِ]، ويبتدئ بقوله: [كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ] على معنى: وهم كزرع (¬1). وعلى كلا القولين هو شرف لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم. وقال الإمام مالك: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابةرضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا. قال الإمام ابن كثير: وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها وأفضلها، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوّه الله تعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة (¬2). فذكر الله تعالى وصفهم الذي وصفوا به في التوراة، بأنهم في أكمل الصفات، وأجل الأحوال " والأولى حمل قوله تعالى [وَالَّذِينَ مَعَهُ] على عموم الصحابة، لا على أصحاب الحديبية فقط" (¬3)، ولذا قال الإمام ¬

(¬1) مرجع سابق، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 16/ 250، أبو حيان: البحر المحيط: 9/ 501 (¬2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 219 (¬3) الشوكاني: مرجع سابق: 4/ 125

القرطبي: وكون الصفات في جملة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو الأشبه (¬1). فقال سبحانه وتعالى [أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ]: أي غلاظ عليهم، [رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ]: أي يرحم بعضهم بعضاً، فهم متوادون متعاطفون كالجسد الواحد، وهذا فيما يتعلق في معاملتهم مع الخلق. وفيما يتعلق في معاملتهم مع الخالق سبحانه وتعالى، يقول عنهم: [تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً] فوصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة، والحامل لهم على ذلك طلب الرضوان والاحتساب عند الله تعالى، فقال سبحانه [يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً] فوصفهم بالإخلاص في الأعمال لله تعالى، فكان مقصودهم بلوغ رضا الله تعالى والوصول إلى ثوابه. وقال سبحانه في وصفهم [سيماهم في وجوههم من أثر السجود]: فُسر بالخشوع وبالسمت الحسن. وقيل: تظهر علامتهم في جباههم من أثر السجود في الصلاة، وكثرة التعبد بالليل والنهار. وقيل: نور وبياض في وجوههم يوم القيامة من كثرة صلاتِهم وسجودهم (¬2). فتلك الأوصاف الجليلة، والأعمال العظيمة هي مثلهم في التوراة. وقال سبحانه وتعالى: [وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ] أي لهم وصف آخر، وذلك أنّهم في تعاونِهم وكمالهم: [كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ] أي فراخه، وقيل: ¬

(¬1) القرطبي: مرجع سابق: 16/ 248 (¬2) مراجع سابقة، البغوي: الحسين: الإمام: شرح السنة: (دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2/ 1424هـ، (7/ 171)

سنبله، فنبت في جوانبه، {فآزره} أي: فقواه وأعانه وشده في النبات والاستواء، {فاستغلظ} أي: صار ذلك الزرع غليظاً بعد أن كان رقيقاً، وشب وطال [فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ] أي: فاستتم وتكامل على سوقه، أي: على قصبه وأصوله وأعواده، {يعجب الزراع} أي: يعحب هذا الزرع زارعه، لقوته وحسن منظره، وكماله واستوائه وحسنه واعتداله، وكثافته وغلظه (¬1). قال أهل التفسير: وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أي: فكذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه، كالشطء مع الزرع (¬2). قال الإمام القرطبي: يعني: أنّهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون، فكان النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفاً، فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه، فكان هذه من أصح مثل وأقوى بيان (¬3). وقال العلامة المنصوري: المثل ضربه الله تعالى لأصحابه، كانوا قلة في بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم يوماً فيوماً بحيث أعجب الناس شأنَهم ودينهم وكامل قوتِهم. ¬

(¬1) مراجع سابقة. (¬2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 219 (¬3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 250

وجاء في الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (¬1). وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي: وما تضمنته الآية من المثل المذكور في الإنجيل المضروب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم يكونون في مبدأ أمرهم في قلة وضعف، ثم بعد ذلك يكثرون ويقوون، جاء موضحاً في آيات من كتاب الله تعالى كقوله: [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ] وقوله: [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] وقوله: [الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ] إلى غير ذلك من الآيات (¬2). ثم ذكر الله سبحانه وتعالى علة تكثيره لأصحابه وتقويته لهم، فقال سبحانه: [لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ] أي حين يرون اجتماعهم وشدتهم على أعداء دينهم (¬3). ثم ختم سبحانه وتعالى الآية بوعده لهم بالمغفرة والأجر العظيم، فقال سبحانه: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ] ومنهم هنا: لبيان الجنس، لا للتبعيض، [مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] أي ثواباً جزيلاً، ¬

(¬1) المنصوري: المقتطف: 5/ 54، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 126 (¬2) الشنقيطي: أضواء البيان: 1769 (¬3) السعدي: تيسير الكريم المنان: 740

ورزقاً كريماً، ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل (¬1). قال الإمام القرطبي: وقد يخصص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بوعد المغفرة، تفضيلاً لهم، وإن كان وعد الله جميع المؤمنين بالمغفرة (¬2). 9) قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاؤوا من بعدهم، فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل (¬3). وقد قسمهم الله تعالى في قوله سبحانه: [لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] الحشر 8 - 10 فذكر الله جل وعلا بعض خصائصهم ومناقبهم، وقد جعل سبحانه ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 219، أبو حيان: البحر المحيط: 9/ 503، السيوطي: الإكليل 3/ 1192 (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 251 (¬3) القرطبي: مرجع سابق: 18/ 30

الفيء خاصاً بهؤلاء الفقراء المهاجرين لحاجتهم واضطرارهم [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً] يبتغون رزقاً في الدنيا ورضواناً في الآخرة. قال العلامة المنصوري: وصفوا أولاً بما يدل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار والأموال. وثانياً: بما يوجب تفخيم شأنِهم ويؤكده، وهو أن خروجهم لم يكن للدنيا، وإنما كان نصرة للدين وطلباً لمرضاته (¬1). [أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] أي: في إيمانهم وجهدهم قولاً وفعلاً، وهؤلاء سادات المهاجرين (¬2). ثم امتدح الله جل علا الأنصار مبيناً فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حسدهم وإيثارهم مع الحاجة فقال سبحانه [وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم كرامتهم، وأوصية بالأنصار خيراً الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم (¬3). ¬

(¬1) المنصوري: المقتطف: 5/ 219 (¬2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 361، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 18/ 20، أبو حيان: البحر المحيط: 10/ 142 (¬3) ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 361

قال العلامة السعدي: فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان: هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام الذي حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين وسادات المسلمين، وقادات المتقين (¬1). ثم ذكر سبحانه وتعالى الصنف الثالث: وهم التابعون، ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة وهم التابعون لآثارهم الحسنة، وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية، فهم يدعون قائلين: [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] (¬2). قال الإمام القرطبي: قال بعضهم: كن شمساً، فإن لم تستطع فكن قمرا، فإن لم تستطع فكن كوكباً صغيرا، ومن جهة النور لا تنقطع، ومعنى هذا: كن مهاجرياً، فإن قلت لا أجد، فكن أنصارياً فإن لم تجد، فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع، فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله تعالى (¬3). ومن صفات التابعين أنهم يدعون الله تعالى ألا يجعل في قلوبهم غلاً ولا حسداً ولا بغضاً ولا غشاً للذين آمنوا. قال الإمام السيوطي: وفي قوله تعالى {والذين جاءوا من بعدهم} ¬

(¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 790 (¬2) ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 363 (¬3) القرطبي: مرجع سابق: 18/ 30

فيه: الحث على الدعاء والترضي عن الصحابة، وتصفية القلوب من بغض أحد منهم (¬1). وقال الإمام القرطبي: وهذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة، لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم ومولاتِهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحداً منهم أو اعتقد فيه شراً أنه لا حق له في الفيء. روي عن مالك وغيره (¬2). وما أجمل ما سطرته بنان الإمام الشوكاني حيث قال: أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار، أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبِهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أولياً لكونِهم أشرف المؤمنين ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم، ويطلب رضوان الله لهم، فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية. فإن وجد في قلبه غلاً لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان، وحلّ به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه، وخير أمة نبيه، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم، إن لم يتدارك نفسه باللجوء إلى الله سبحانه وتعالى والاستغاثة به، بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون، وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم ¬

(¬1) السيوطي: الإكليل: 3/ 1243 (¬2) القرطبي: مرجع سابق: 18/ 30

فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بِهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلقة، والأقاصيص المفتراة، والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسوله المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر، وما زال الشيطان ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي، ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر، والله من ورائهم محيط (¬1). 10) أن الله تعالى بفضله ورحمته، وعدهم الحسنى، وشهد لهم بِها، والله سبحانه لا يخلف الميعاد، فقال سبحانه: [وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] الحديد 10 قال العلامة السعدي: وهذا يدل على فضل الصحابة كلهم رضي الله عنهم حيث ¬

(¬1) الشوكاني: فتح القدير: 4/ 261

شهد الله لهم بالإيمان ووعدهم الجنة (¬1). فبيّن الله سبحانه في هذه الآية فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله، فقال: [لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ]. وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الناس كانت أكثر، لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق، والأجر على قدر النصب، وهؤلاء هم السابقون الأولون من المهاجرين (¬2). والأنصار الذي جاء في حقهم قوله عليه الصلاة والسلام: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) (¬3). ولما كان التفضيل بين الأمور قد يتوهم منه نقص وقدح في المفضول، احترز تعالى من هذا بقوله [وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى] أي الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده، والفتح على المشهور (فتح مكة)، وقيل: الحديبية، كلهم وعدهم الله تعالى الجنة مع تفاوت الدرجات. قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها. وقال الزجاج: لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم, ¬

(¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن 779 (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 18/ 205 (¬3) أبو حيان: البحر المحيط: 10/ 103

وكانت بصائرهم أيضاً أنفذ (¬1). ولذا فقد أثنى المولى جل وعلا عليهم جميعاً، وسوّى بين من مات في سبيل الله أو مات حتف أنفه، فقال: [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ] الحج 59،58. وقيل في سبب نزولها: أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة، قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه، فزلت هذه الآية مسوّية بينهم، وأن الله سبحانه يرزقهم جميعاً رزقاً حسناً (¬2). 11) أجزم أن كل أية شريفة في كتاب الله عز وجل فيها وصف حسن، وخُلق كريم، وفضل عظيم، فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أولى به وأسرع القوم إليه، والشواهد على ذلك كثيرة منها: أ): قوله سبحانه وتعالى: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 328، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 7/ 207،، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 231، السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 779،. (¬2) ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 242، القرطبي: مرجع سابق: 12/ 83، أبو حيان: مرجع سابق: 7/ 528

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] المجادلة 22 قال الإمام ابن كثير: قال سعيد بن عبد العزيز وغيره: أنزلت هذه الآية في أبي عبيدة عامر بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جعل الشورى بعده في أولئك الستة: ولو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته (¬1). وقيل: قوله سبحانه [وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ] نزلت في أبي عبيدة، قتل أباه يوم بدر. وقوله: [أَوْ أَبْنَاءَهُمْ] نزلت في الصديق، فإنه همّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن. وقوله: [أَوْ إِخْوَانَهُمْ] نزلت في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ. وقوله: [أَوْ عَشِيرَتَهُمْ] نزلت في عمر قتل قريباً له يومئذ، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة. ثم قال جل شأنه [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ] وفي هذا سر بديع، وهو أنه لما سخطوا على الغرائب والعشائر في الله، عوضهم الله تعالى بالرضا عنهم وأرضاهم ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 352

عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم والفضل العميم (¬1). ب) قال الله تعالى [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى] الليل 5 - 7، أي أعطي حقوق ماله، واتقى ربه، واجتنب محارمه. [وصَدَّقَ بِالْحُسْنَى]: قيل: صدق بالخلف من الله، وقيل: بلا إله إلا الله، وقيل: بالجنة، قال الإمام الشوكاني: وصدق بالخلف من الله تعالى أولى. [فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى] قيل: للخير، وقيل: للجنة. والشاهد: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فعن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر الصديق يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه: أي بني: أراك تعتق أناساً ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالاً جلداء يقومون معك، ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبت، إنما أريد - أظن قال - ما عند الله، قال: فحدثني بعض أهل بيتي: أن هذه الآية نزلت فيه (¬2). وعلى كل الأقوال والأحوال فإن الصحابة رضي الله عنهمأولى من يدخل في ¬

(¬1) القرطبي: مرجع سابق: 18/ 260، أبو حيان: مرجع سابق: 10/ 131، الشوكاني: مرجع سابق: 4/ 232، السعدي: مرجع سابق: 787 المنصوري: مرجع سابق: 5/ 214، الشنقيطي: أضواء البيان: 1849 (¬2) ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 555، أبو حيان: مرجع سابق: 10/ 492، الشوكاني: مرجع سابق: 4/ 505

معرض هذه الآيات لما ذكر. الثاني: في قوله سبحانه [ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ] الواقعة 13 - 14، وهو تقسيم للمقربين الذين قال الله جل وعلا عنهم [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ] وهم الذين وصفهم المولى سبحانه بقوله [إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ، وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ] المطففين 22 - 28 قال الإمام القرطبي: أي يشرب منها أهل جنة عدن، وهم أفاضل أهل الجنة (¬1). واختلف المفسرون في تعيين المراد من قوله تعالى [ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ] فقيل: المراد بالأولين: الأمم الماضية، وبالآخرين: هذه الأمة، وهذا اختيار الإمام ابن جرير الطبري. وقيل: المراد بالأولين: أي من صدر هذه الأمة، وبالآخرين: من هذه الأمة أيضاً، فالجميع من هذه الأمة. وهو اختيار الإمام ابن كثير، وقال: ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن تعم الآية جميع الأمم كل أمة بحسبها. وروي عن عائشة أنّها قالت: الفرقتان في كل أمة نبي، في ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 19/ 233

صدرها ثلة، وفي آخرها قليل (¬1). وعلى كلا القولين يظهر فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن القول الثاني أجلى وأظهر. يقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي: قال بعض أهل العلم: كل هؤلاء المذكورين من هذه الأمة، وأن المراد بالأولين منهم (الصحابة رضي الله عنهم)، ولكن الشيخ مال للرأي الأول رحمه الله تعالى (¬2). ج) قال الله جل شأنه: [وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ] اختلف أهل التفسير في تعيين المراد من هذه الآية: فقيل: الذي جاء بالصدق: جبريل عليه السلام، والذي صدق به: محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الذي جاء بالصدق: النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به: المؤمنون. وقيل: الذي جاء بالصدق: النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به: أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقيل: الذي جاء بالصدق: النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به: علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقيل: إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله تعالى، وأرشد إلى ما ¬

(¬1) القرطبي: مرجع سابق: 18/ 172، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 304، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 213، المنصوري: المقتطف: 5/ 167. (¬2) الشنقيطي: أضواء البيان: 1828

شرعه لعباده، واختار هذا الإمام ابن جرير، وقواه العلامة الشوكاني. وعليه فالأية دليل مؤكد واضح على فضل الصحابة رضي الله عنهم، إذ هم رأس وهرم المصدقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد الله تعالى لهم بأنهم أهل التقوى والإحسان [لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ] (¬1) الزمر 34. هـ) ومما يدل على فضلهم رضي الله عنهم على رأي بعض أهل التفسير، ما جاء في قوله سبحانه وتعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ] الحج 39 - 41 قال الإمام الحبر ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: المراد: المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان. وقال قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (¬2). ومن الآيات التي وصفتهم بوصف الإيمان قوله جل شأنه: {قل ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 58، القرطبي: مرجع سابق: 15/ 225، أبو حيان: مرجع سابق: 9/ 203، الشوكاني: مرجع سابق: 3/ 595، السعدي: مرجع سابق 670، المنصوري: مرجع سابق: 4/ 453 (¬2) القرطبي: مرجع سابق: 11/ 70، أبو حيان: مرجع سابق: 7/ 518.

للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} (الجاثية: 14) فقيل: نزلت في عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقيل: نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما كانوا في أذى شديد من أهل مكة قبل أن يؤمروا بالقتال؛ ليكون ذلك كالتأليف لهم، ثم لما أصروا على العناد شرع الله تعالى للمؤمنين الجلاد والجهاد. فهم -رضي الله عنهم - أهل الإيمان الخالص الصادق. (¬1) و) ومثله ما ورد عن بعض أهل التفسير في قوله سبحانه وتعالى [فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ]. فاختلف العلماء في المراد من قوله تعالى [بِأَيْدِي سَفَرَةٍ]: فالجماهير من أهل العلم: أنّهم الملائكة عليهم السلام. وقال وهب بن منبه: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال الإمام أبو حيان: لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير، والتعليم والعلم (¬2). ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 4/ 161، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 139، المحلى: تفسير الجلالين:662 (¬2) ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 502، القرطبي: مرجع سابق: 19/ 188، أبو حيان: مرجع سابق: 10/ 408، الشوكاني: مرجع سابق: 4/ 433، السعدي: مرجع سابق: 842، المنصوري: مرجع سابق: 5/ 430

قلت: ولاشك أن في هذا فضل ومزية، وإن كان القول الحق أن المراد: الملائكة: الذين هم سفراء بين الله وبين عباده، ولذا قال الإمام ابن العربي: لقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كراماً بررة، ولكن ليسوا بمرادين بِهذه الآية ولا قاربوا المرادين بها، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق، ولا يشاركهم فيها سواهم، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم (¬1). ز) وقال الله جل شأنه [قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى] النمل 59. أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحمده على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وعلل ما اتصف به سبحانه من الصفات العلى والأسماء الحسنى. واختلف المفسرون في الآية في موضعين: الأول: قوله سبحانه: [قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ] من المخاطب بِها؟ فقيل: المخاطب بِها لوط عليه السلام، والمعنى قل الحمد لله على هلاك كفار قومه، وعزا هذا القول الإمام ابن عطية للإمام الفراء. وقيل: المخاطب بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: قل الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية، قال الإمام النحاس: وهو أولى لأن القرآن منزّل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما فيه فهو مخاطب به، إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره. الثاني: قوله سبحانه [وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى]: وهي الشاهد فيما نحن بصدده، من بيان فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) ابن العربي: محمد: الإمام: أحكام القرآن: دار الكتب العلمية بيروت ط1 1424هـ (4/ 363).

فاختلف المفسرون في المسلّم عليهم الذي اصطفوا: فقيل: هم الأنبياء، وهو قول الإمام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقيل: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول حبر الأمة وترجمان القرآن: عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وهو قول سفيان الثوري والسدي. قال الإمام ابن كثير: ولا منافاة، فإنّهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى، فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى (¬1). ل) وقال سبحانه وتعالى [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ] البقرة 121. اختلف المفسرون في المراد من الآية: فقيل: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة، وحكي نحو هذا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والكتاب على هذا التأويل هو: القرآن الكريم. فوجه الفضل فيه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله جل وعلا شهد لهم بأنهم يؤمنون به، ويقيمونه على وجهه المطلوب. وقيل: هم من أسلم من بني إسرائيل، قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والكتاب على هذا التأويل: التوراة، قال الإمام القرطبي: والآية ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 381، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 13/ 196، أبو حيان: البحر المحيط: 8/ 256، الشوكاني: فتح القدير: 3/ 304، السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 556، البغوي: شرح السنة: 7/ 171

تعم (¬1). ص) وقال سبحانه وتعالى [إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا] التوبة 40. دلت هذه الآية على فضل الصديق، وعلو مكانته، وجليل صحبته، قال الإمام أبو حيان: وهذه الآية منوهة بقدر أبي بكر وتقدمه وسابقته في الإسلام (¬2)، ولذا نص العلماء: أن من أنكر صحبة عمر وعثمان أو غيرهما من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كذاب مبتدع، وأما من أنكر صحبة الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر، لأنه ورد نص القرآن (¬3). وما أجمل ما سطرته بنان الإمام الفذ القيِم شمس الدين ابن القيم فقال: كانت تحفة ثاني اثنين مدخرة للصديق دون الجميع، فهو الثاني في الإسلام، وفي بذل النفس، وفي الزهد، وفي الصحبة، وفي الخلافة، وفي العمر، وفي سبب الموت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مات عن أثر السم، وأبو بكر سُم ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق: 1/ 168، القرطبي: مرجع سابق: 2/ 93، الشوكاني: مرجع سابق: 1/ 121، المنصوري: المقتطف: 1/ 149 (¬2) أبو حيان: البحر المحيط: 5/ 421 (¬3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 8/ 133، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 372، الشوكاني: فتح القدير: 2/ 241، المنصوري: المقتطف: 2/ 389

فمات. أسلم على يديه من العشرة: عثمان وطلحة والزبير وابن عوف وسعد بن أبي وقاص، وكان عنده يوم أسلم أربعون ألف درهم فأنفقها أحوج ما كان الإسلام إليها، فلهذا جلبت نفقته عليه (ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر). فهو خير من مؤمن آل فرعون؛ لأن ذلك كان يكتم إيمانه، والصديق أعلن به، وخير من مؤمن آل ياسين؛ لأن ذلك جاهد ساعة، والصديق جاهد سنين. نطقت بفضله الآيات والأخبار، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، فيا مبغضه في قلوبكم من ذكره نار، كلما تليت فضائله علا عليها الصغار، أترى لم يسمع الروافض الكفار {ثاني اثنين إذ هما في الغار}. ثم قال: من كان قرين النبي صلى الله عليه وسلم في شبابه؟ من ذا الذي سبق إلى الإيمان من أصحابه؟ من الذي أفتى بحضرته سريعا في جوابه؟ من أول من صلى معه؟ من آخر من صلى به؟ من الذي ضاجعه بعد الموت في ترابه؟ فاعرفوا حق الجار. وقال: حُبه والله رأس الحنيفية، وبغضه يدل على سوء الطوية، فهو خير الصحابة والقرابة، والحجة على ذلك قوية، ولولا صحة إمامته ما قيل

ابن الحنفية، مهلا مهلا فإن دم الروافض قد فار. والله ما احببناه لهوانا، ولا نعتقد في غيره هدانا، ولكن أخذنا بقول علي وكفانا: رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا. تالله لقد أخذت من الروافض بالثأر، تالله لقد وجب حق الصديق علينا، فنحن نقضي بمدائحه، ونقر به بما نقر به من السنى - البرق - عينا، فمن كان رافضيا فلا يعد إلينا، وليقل لي أعذار. (¬1) ومن آيات الفضل والثناء قوله سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} (المائدة: 54). قال الحسن: هو والله أبوبكر وأصحابه، وقال السدي: نزلت في الأنصار، وقال أبوبكر بن عياش: هم أهل القادسية. وهذا كله يدل على الفضل إذ فيه إثبات المحبة، ومن أحبه الله تعالى فهو ولي الله، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم أولياء الله المتقين، والسادة المقربون. وقال الإمام ابن كثير: وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت حين تبرأ من حلف اليهود، ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين. ¬

(¬1) ابن القيم: محمد: الإمام: الفوائد: دار الكتاب العربي ط2 1406هـ (110)،انظر: ابن الجوزي: المدهش: 110.

وقال الإمام القرطبي: دلت الآية على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -؛ لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا المرتدين بعده، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي الله تعالى. (¬1) إذن: فوصف الإيمان في الكتاب ملازم لخيرة الصحاب رضي الله عنهم وأرضاهم، وحصر مثل ذلك من الأمور الصعاب، فأين ذلك من الشتائم والسباب. يقول رب الأرباب: [الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ] الروم 1 - 5 فقد وصف الله جل وعلا أصحاب نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام بوصف الإيمان، وهو من أعمال القلوب وهو سبحانه أعلم بصلاح بواطنهم وظواهرهم، ولذا قال في الآية الأخرى مثنّياً عليهم [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] الفتح 18. قال العلامة السعدي: فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال، التي هي من أكبر الطاعات، وأجل القربات. [فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ]: ¬

(¬1) لان كثير تفسير القرآن العظيم 2/ 74، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 6/ 260، الخلال: السنة 2/ 462

من الإيمان. {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ]: شكراً لهم على ما في قلوبِهم، وزادهم هدى (2). ومعلوم أن الإيمان قول وعمل، وهم رضي الله عنهم، حققوا الإيمان أكمل تحقيق، فالقول قولان: قول اللسان، وقول القلب، والعمل عملان: عمل القلب، وعمل الجوارح. (والإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا لله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان) (¬1). فأعلى ما تلهج به ألسنتهم شهادة التوحيد، فبها أسلموا، وبِها قاتلوا وجاهدوا، وبِها لقوا ربّهم، وهم أهل الإخلاص واليقين، وأهل المحبة والخوف من رب العالمين، هم الصادقون في أقوالهم، المصدقون ذلك بأفعالهم، مُلئت قلوبُهم إيماناً، وجوارحهم إحساناً، قال تعالى مثنّياً عليهم مخاطباً المنافقين: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ] البقرة 13. والمصدقون بشرعه: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (¬2). 12) ومن الآيات الكريمات الشريفات التي أثنت على آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وعطرتهم بالذكر الحسن قوله سبحانه وتعالى: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان باب أمور من الإيمان (9) (¬2) القرطبي: الجمع لأحكام القرآن: 1/ 251، أبو حيان: البحر المحيط: 1/ 111، الشوكاني: فتح القدير: 1/ 37

لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] الأحزاب 33، وهذه آية ضمن آيات في سورة الأحزاب تحدثت عن شأن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمهات المؤمنين، وهي تدل على الفضائل والمناقب من أوجه: أولاً: أن الله عز وجل أراد إذهاب الرجس عنهم، وهذا فضل منه سبحانه ومنة. وقال أهل التفسير: إن المراد بالرجس في الآية: الإثم. وقيل: الشرك، وقيل: الشيطان , وقيل: الأفعال الخبيثة، والأخلاق الذميمة (¬1). قالوا: وقوله جل شأنه: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ] هو تعليل لأمرهن ونَهيهنّ. قال الإمام أبو حيان: ثم بين أن أمرهن ونَهيهنّ ووعظهن إنما هو لإذهاب المأثم عنهن، وتصونهنّ بالتقوى، واستعار الرجس للذنوب، والطهر للتقوى؛ لأن عرض المقترف للمعاصي يتدنس بِها ويتلوث، كما يتلوث بدنه بالأرجاس. وأما الطاعات فالعرض معها مصون كالثوب الطاهر، وفي هذه الاستعارة تنفير عما نَهى الله تعالى عنه، وترغيب فيما أمر به، والرجس: يقع على الإثم والعذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص، فأذهب الله تعالى جميع ¬

(¬1) ابن العربي: أحكام القرآن: 3/ 571، النووي: شرح صحيح مسلم: 15/ 204

ذلك عن أهل البيت (¬1). ثم قال سبحانه [وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] قال الإمام الشوكاني: أي يطهركم من الأرجاس والأدران تطهيراً كاملاً. وقال العلامة الشنقيطي: وفي هذه الآية يعني: أنه يذهب الرجس عنهم، ويطهرهم بما يأمر به من طاعة الله تعالى، وينهى عنه من معصيته؛ لأن من أطاع الله تعالى أذهب عنه الرجس، وطهره من الذنوب تطهيرا (¬2). وأولى من يدخل في هذه الآية هم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته، فقرابته، أحق بِهذه التسمية (¬3). وقال الإمام أبو حيان: بل يظهر أنهن أحق بهذا الاسم؛ لملازمتهن بيته. ونقل عن الإمام ابن عطية قوله: والذي يظهر أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك البتة، فأهل البيت: زوجاته وبنته وبنوها وزوجها. ونقل عن الإمام الزمخشري قوله: وفي هذا دليل على أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته (¬4). وقال الإمام ابن كثير: ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] فإن سياق الكلام معهن، ولهذا قال بعد هذا كله: ¬

(¬1) أبو حيان: البحر المحيط: 8/ 478 (¬2) الشوكاني: فتح القدير: 3/ 427، الشنقيطي: أضواء البيان: 1502 (¬3) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 495 (¬4) أبو حيان: مرجع سابق: 8/ 479

[وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ] أي: واعملن بما ينزل الله تعالى على رسوله في بيوتكن من الكتاب والسنة (¬1). وبعد هذا التقرير المثبت أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في مسمى أهل البيت، نشير إلى خلاف العلماء في هذه المسألة: فقد اختلف العلماء في المراد بأهل البيت المنوّه عنهم في الآية الكريمة إلى أقوال: القول الأول: أن المراد بأهل البيت في الآية: هم خاصة نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول هو المروي عن ابن عباس رضي الله عنه، وروي كذا عن عكرمة وعطاء ومقاتل وسعيد بن جبير. واحتجوا بما يلي: - أن سياق الآيات في مساق واحد، وهو الحديث عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. - وأن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم هن سبب نزول هذه الآيات، روي ابن جرير عن عكرمة: أنه كان ينادي في السوق [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ... ] نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه كذا. - وقال عكرمة: من شاء باهلته أنّها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم. القول الثاني: أنّهم (علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة)، وهذا ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 494

القول مروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ومجاهد وقتادة وروي عن الكلبي. واحتجوا بما يلي: - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] (¬1). وروي ذلك عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو سعيد وأنس وأم سلمة وواثلة بن الأسقع وغيرهم. قالوا: الخطاب في الآية يصلح للذكور والإناث، والحديث خصصهم بأعيانهم. القول الثالث: أنّهم من حرمت عليهم الصدقة، وهم بنو هاشم: وهم آل علي، وآل عقيل وآل جعفر، وآل العباس. فقال أصحاب هذا القول: إن المراد من بهذه الآية: هم أهل البيت "بيت النسب". واحتجوا: بما ثبت في صحيح الإمام مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أذكركم الله في أهل بيتي - ثلاثا -)، فقيل لزيد: أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته. وكلن أهل بيته من حرم ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم (2424)

الصدقة بعده، قيل: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس فقيل: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم (¬1). القول الرابع: أن الآية تشمل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وآله المذكورون في حديث الكساء: (وهم علي وفاطمة والحسن والحسين). قالوا: أما الزوجات، فتشملهن هذه الآية: - لكونِهنّ المرادات في السياق. - ولكونِهنّ الساكنات في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، والنازلات في منازله. - مع ما سبق ذكره من أدله خاصة، تدل على دخولهن في الآية. وأما دخول أصحاب الكساء: - لكونِهم قرابته، وأهل بيته في النسب. - وما يؤيده أيضاً من الأدلة، بأنّهم سبب لنُزول الآية أيضاً. قال الإمام الشوكاني: فمن جعل الآية خاصة بأحد الفريقين، فقد أعمل بعض ما يجب إعماله وأهمل مالا يجوز إهماله (¬2). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل علي بن أبي طالب (2408) (¬2) الشوكاني: فتح القدير: 3/ 429، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 491، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 162، أبو حيان: البحر المحيط: 8/ 479، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 22/ 460، السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 612، الشنقيطي: أضواء البيان: 1502، العيني: عمدة القارئ: 11/ 453، البنا: الفتح الرباني: 18/ 238، ابن الملقن: عمر: الإمام: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام: دار العاصمة، الرياض " 1/ 1421هـ، (1/ 112)، الطبري: أحمد: الإمام: ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربي: مكتبة الصحابة جدة 1415هـ (57) ابن العربي: عارضة الأحوذي: 13/ 124

الترجيح: يترجح، والعلم عند الله تعالى، هذا القول الذي يجمع بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم وآله أصحاب الكساء: علي وفاطمة والحسن والحسين، وهذا القول رجحه جماهير أهل العلم، ورجحه الإمام القرطبي والإمام ابن كثير والإمام ابن العربي. ويجاب عن أدلة الأقوال الأخرى بما يلي: من قال: إن الآية نزلت في خاصة شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم فيُقال: إن كان المراد: أنّهنّ كنّ سبب النزول دون غيرهن فصحيح، وإن أريد أنّهم المراد فقط دون غيرهن، ففي هذا نظر، فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك قاله الإمام ابن كثير (¬1). وكذا فإن سبب النّزول قد يتعدد، قال الإمام الشوكاني: وأما دخول علي وفاطمة والحسن والحسين، فلكونِهم قرابته وأهل بيته في النسب، ويؤيد ذلك ما ذُكر من الأحاديث المصرحة بأنّهم سبب النزول. وأما ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فقد قال الإمام أبو حيان: فلعله لا يصح عنه (¬2). ومن خصص الآية، بعلي وفاطمة والحسن والحسين، دون غيرهم من ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 491 (¬2) الشوكاني: مرجع سابق: 3/ 429، أبو حيان: مرجع سابق: 8/ 479

نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أعمل بعض ما يجب إعماله، وأهمل مالا يجوز إهماله، كما أشار إليه الإمام الشوكاني. والمتأمل في الآية والأحاديث يجد أنه لا تعارض بينها، فزوجاته هن أهل بيته من حيث الزوجية وهؤلاء أهل بيته من حيث القرابة، بل إن أهل بيته أعم من هؤلاء الأربعة، لأن أهل البيت يشمل كل من تحرم عليه الصدقة من بني هاشم (¬1). قال الإمام القرطبي: ولا اعتبار لقول الكلبي وأشباهه، فإنه توجد له أشياء في التفسير ما لو كان في زمن السلف الصالح لمنعوه من ذلك وحجروا عليه. فالآيات كلها من قوله: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا] إلى قوله [إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً] منسوق بعضها على بعض، فكيف صار في الوسط كلاماً منفصلاً لغيرهن، وإنما هذا شيء جرى في الأخبار: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية، دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى كساء فلفها عليهم ثم ألوى بيده إلى السماء فقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً) فهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية، أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بِها الأزواج، فذهب الكلبي ومن وافقه فصيرّها لهم ¬

(¬1) الخليفي: حصة: دكتورة: قضايا نساء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنات في سورة الأحزاب: دار المسلم ط 1/ 1418هـ (141)

خاصة، وهي دعوة لهم خارجة من التنْزيل (¬1). ومن ذهب إلى أن المراد من الآية: أنّهم بنو هاشم، وهم من تحرم عليهم الصدقة، فقد استدل بحديث زيد بن أرقم، وهو دليل واضح على أن أهل بيته لفظ يدخل فيه قراباته وزوجاته عليه الصلاة والسلام. ولكن ورد من طريقة آخر وفيه، فقلت له: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده. قال الإمام النووي: وهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض، والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنه قال: ولسن من أهل بيته. فتتأول الرواية الأولى: على أن المراد أنّهن من أهل بيته الذين يساكنونه ويعولهم، وأمر باحترامهم وإكرامهم، وسماهم ثقلاً، ووعظ في حقوقهم وذكّر، فنساؤه داخلات في هذا كله، ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة، وقد أشار إلى هذا في الرواية الأولى بقوله: (نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة) فاتفقت الروايتان (¬2). وقال الإمام ابن كثير: والرواية الأولى أولى، والأخذ بها أحرى، وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه، إنما المراد بِهم: آله الذين حرموا الصدقة، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 162 (¬2) النووي: شرح صحيح مسلم: 15/ 190

فقط، بل هم مع آله. وهذا الاحتمال أرجح، جمعاً بينها وبين الرواية التي قبلها وجمعاً أيضاً بين القرآن الأحاديث المتقدمة إن صحت فإن في بعض أسانيدها نظراً (¬1). يُنبه إلى أن المقصود بالصدقة التي تحرم على أهل البيت هي: " الزكاة الواجبة "، للحديث الصحيح: (إنا لا تحل لنا الصدقة)، لأنها أوساخ الناس، كما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم (¬2). ولكن هل تحرم الزكاة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؟ ظاهر كلام الإمام النووي يُشير إلى عدم التحريم لقوله: (ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة). والعلماء لهم في هذه المسألة رأيان: الأول: ما ذكره الإمام النووي، وهو أنه لا يحرم أخذ الزكاة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كمواليهن، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، ونقل الإمام ابن بطال الاتفاق على ذلك. الثاني: أنه يحرم عليهن أخذ الزكاة لما روى الخلال أن خالد بن سعيد بن العاص أرسل إلى عائشة رضي الله عنها، بسفرة من الصدقة فردتْها، وقالت: إنا آل محمد، لا تحل لنا الصدقة. قال الحافظ ابن حجر: وإسناده إلى عائشة حسن، وأخرجه ابن أبي شيبة أيضاً. قالوا: فهذا يدل على تحريمها ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 494 (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة: باب ترك استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة (1072)

عليهن، فهن من أهل بيته في تحريم الصدقة. وهي رواية عند الحنابلة، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1). ومما استشكل على من أدخل نساء النبي صلى الله عليه وسلم في آل بيته ضمن آية الأحزاب: أنه لو كان كما قالوا لكان التركيب في الآية: عنكن، ويطهركن، فإن الخطاب في الآية جاء بما يصلح للذكور لا للإناث، ولو كن النساء داخلات ومرادات لقيل: ليذهب عنكن، ويطهركن؟ _ وانفصل عن هذا الإشكال بجوابين: 1 - أنا قلنا إن الآية تشمل نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأصحاب الكساء، وإنما جاء اللفظ القرآني بالتذكير دون التأنيث، لإجماع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجموع وغيرها، فمتى اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر، ولهذا قال [وَيُطَهِّرَكُمْ]؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلياً وحسناً وحسيناً رضي الله عنهم كانوا فيهم، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت. ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 3/ 416، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 22/ 460، ابن قدامة: عبد الله: الإمام: المغني: دار عالم الكتب ط5/ 1426، (4/ 112)، ابن مفلح: إبراهيم: الإمام: المبدع شرح المقنع: دار الكتب العلمية: بيروت، ط1/ 1418هـ (2/ 421)، الشوكاني: محمد: الإمام: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: مكتبة دار التراث دون رقم الطبعة وتاريخها (4/ 175)، ابن البهاء: علي: الإمام: فتح الملك العزيز بشرح الوجير، مكتبة النهضة مكة ط1/ 1423هـ (3/ 310)

2 - أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بِها القرآن الكريم، أن زوجة الرجل يطلق عليها اسم (الأهل) وباعتبار لفظ (الأهل) تعامل معاملة الجمع المذكر، كما قال تعالى [أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ] هود 73، وكما قال سبحانه في موسى [فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا] طه 10. وفي قوله [سَآتِيكُمْ] النمل7 وقوله [لَعَلِّي آتِيكُمْ] طه 10. والمخاطب امرأته كما قال غير واحد، وكما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ يريد زوجته أو زوجاته، فيقول: هم بخير. قال العلامة المنصوري: فالآية إنما تدل على كونهم من أهل البيت، لا على أن ما عداهم ليسوا كذلك، والنص في القرآن قاطع (¬1). وقال العلامة الشنقيطي: وبما ذكرنا تعلم أن قول من قال: إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لسن داخلات في الآية، يرد عليه صريح سياق القرآن، ومن قال: إن فاطمة وعلياً والحسن والحسين ليسوا داخلين فيها ترد عليه الأحاديث المشار إليها (¬2). وإتماماً للفائدة نذكر ما يتعلق بلفظ (آل) في النقاط التالية: 1) أصل هذا اللفظ: ¬

(¬1) المنصوري: المتقطف: 4/ 264 (¬2) الشنقيطي: أضواء البيان: 1502، ومراجع سابقة.

اختلف اللغويون في أصله على رأيين (¬1): الأول: أن أصله (أول)، الثاني: أن أصله (أهل). 2) قال أهل اللغة: آل الرجل: ذوو قرابته، وذريته: نسله (فكل ذرية آل، وليس كل آل ذرية). والآل أيضاً يختص بالأشراف وذوي الأقدار، بحسب الدين أو الدنيا، وأهل الرجل: من يجمعه وإياه مسكن واحد، ثم سمي به من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو صنعة (¬2). وذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه لا فرق بين الآل والأهل ولكن مدلوله عند كل منهم يختلف، قال الإمام ابن الملقن: وهذا يؤخذ منه أنه لا فرق بين الآل والأهل، وهو وجه للشافعية في الوصايا. وذهب الشافعية: إلى أن آل الرجل: أقاربه، وأهله: من تلزمه نفقتهم، وأهل بيته: أقاربه وزوجته (¬3). ¬

(¬1) يُنظر في بيانها وتفصيلاتها: ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 22/ 461، ابن الملقف: الإعلام: 1/ 111، الفاكهي: عمر: الإمام: رياض الأفهام في شرع عمدة الأحكام، دار النوادر، دمشق ط 1/ 1431هـ (2/ 495)، الراغب الأصفهاني: الحسين: الإمام: المفردات في غريب القرآن، دار المعرفة: بيروت ط 2/ 1420هـ (15)، عبد المنعم: محمود: دكتور: معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية: دار الفضيلة، دون ذكر رقم الطبعة وتاريخها (1/ 21). (¬2) ابن الأثير: المبارك: الإمام: النهاية في غريب الحديث والأثر: بيت الأفكار الدولية: (56) لامنس: هنريكوس: فرائد اللغة في الفروق: مكتبة الثقافة الدينية (1 (¬3) ابن الملقن: الإعلام: 1/ 113، عبد المنعم: معجم المصطلحات: 1/ 22

وآل في اللغة: تقع على جميع ما سيرد من معانيها اصطلاحاً في معنى (آل النبي صلى الله عليه وسلم) قال الإمام الراغب الأصفهاني: تعورف في أسرة النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً، إذا قيل: أهل البيت، لقوله تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ] (¬1). 3) اختلف العلماء في حقيقة (آل النبي صلى الله عليه وسلم) من هم، على أقوال: القول الأول: أنّهم ذوو قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول جمهور أهل العلم، واختلفوا في تعيينهم على ثلاثة آراء: الأول: أنّهم قريش كلها. وهو مروي عن بعض السلف، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد الصفا وجعل يهتف: يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب، يا بني كعب، يا بني مرة، يا بني عبد شمس: أنقذوا أنفسكم من النار (¬2). وعن سعيد المقبري: قال كتب نجدة إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما - يسأله عن ذوي القربى، فكتب إليه ابن عباس: كنا نقول: إنا هم، فأبى علينا ذلك قومنا، وقالوا: قريش كلهما ذوي قربى (¬3). ¬

(¬1) الراغب الأصفهاني: المفردات 32 (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (204). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير: باب النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يسهم (1812)، وأخرجه الترمذي في جامعه في كتاب السير باب من يعطى الفيء (1556).

قال الإمام ابن كثير: وهذا الحديث صحيح، رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد المقبري عن يزيد بن هرمز: أن نجدة كتب إلى ابن عباس ... ، فذكره، إلى: فأبى علينا قومنا. والزيادة من أفراد أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني وفيه ضعف (¬1). الثاني: أنهم بنو هاشم خاصة، وهو قول مجاهد وعلي بن الحسين، وقال به مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة. قال الإمام مجاهد: علم الله تعالى أن في بني هاشم فقراء، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة (¬2). الثالث: أنهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب، وهو قول الإمام الشافعي وأبي ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد، وهي رواية عن الإمام أحمد في المطلب. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لماّ قسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبد المطلب قال: (إنّهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه) قال الإمام البخاري: قال الليث حدثني يونس وزاد قال جبير: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 325. (¬2) ابن كثير: مرجع سابق، النووي: شرح مسلم: 7/ 182.

شمس ولا لبني نوفل (¬1). وقد مرّ معنا هل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته عليه الصلاة والسلام؟ أم لا؟ ولذا فإن من أهل العلم من ذهب إلى أن أهل بيته هم: أهل بيته وذريته (¬2). القول الثاني: أن المراد بآل البيت: هم أمته، أو الأتقياء منهم من أمته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا روي عن مالك إن صح، وقاله طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم (¬3). قلت: قال الإمام الحطاب: الذي عليه مالك وأكثر أصحابه أنّهم بنو هاشم فقط (¬4). وقال الإمام النووي: واختلف العلماء في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أقوال أظهرها، وهو اختيار الأزهري وغيره من المحققين: أنّهم جميع الأمة (¬5). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فرض الخمس باب ومن الدليل أن الخمس للإمام (3140). (¬2) النووي: شرح مسلم: 4/ 368، 7/ 182، ابن حجر: فتح الباري: 3/ 414. (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 22/ 460. (¬4) الحطاب: محمد: الإمام: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: دار عالم الكتب، طبعة خاصة 1423هـ (3/ 224). (¬5) النووي: مرجع سابق: 4/ 368.

وقال الراغب الأصفهاني: وقيل: آل النبي صلى الله عليه وسلم: المختصون به من حيث العلم، وذلك أن أهل الدين ضربان: ضرب متخصص بالعلم المتقن والعمل المحكم، فيقال لهم: آل النبي صلى الله عليه وسلم وأمته. وضرب يختصون بالعلم على سبيل التقليد، ويقال لهم: أمة محمد، ولا يقال لهم آله، فكل آل للنبي أمة، وليس كل أمة له آله. وقيل لجعفر الصادق: الناس يقولون: المسلمون كلهم آل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كذبوا وصدقوا: فقيل له: ما معنى بذلك؟ فقال: كذبوا في أن الأمة كافتهم آله، وصدقوا في أنّهم إذا قاموا بشرائط شريعته آله (¬1) وعلى هذا يكون معنى آله من أمته: أتباعه على دينه عليه الصلاة والسلام. وقيل: إن معنى آل النبي صلى الله عليه وسلم هو نفس النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان الحسن يقول: اللهم صل على آل محمد (¬2) 13) ومما يدل على فضل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم: ما شرفهن الله تعالى به، بأن جعلهن أمهات للمؤمنين فقال سبحانه: [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] الأحزاب 6 قال أهل التفسير: شرّف الله عز وجل لأزواج نبيه بأن جعلهن ¬

(¬1) الراغب الأصفهاني: المفردات: 15. (¬2) الفاكهي: رياض الأفهام: 2/ 494، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 325، ابن الملقن: الإعلام 1/ 112، 3/ 454، السفاريني: كشف اللثام: 2/ 594، ابن حجر: الفتح: 3/ 414، الشوكاني: نيل الأوطار: 4/ 172، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 22/ 460

أمهات للمؤمنين، أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال والتوقير والاحترام، وحرمة النكاح على الرجال، فهن مثل أمهاتهم في الحكم بالتحريم، ومنزلات منْزلتهن في استحقاق التعظيم. وقالوا: إنما شرفهن الله بِهذا الوصف لأمور ثلاثة: 1) لكمال شفقتهن وعطفهن على المؤمنين، فكن لهم بمنْزلة أمهاتِهم. قال الإمام القرطبي: وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات (¬1) 2) لوجوب برّهن وإجلالهن وتعظيمهن على المؤمنين، فكما يجب عليهم ذلك في حق أمهاتِهم اللائي ولدنّهم، ففي أمهات المؤمنين أحق وأوجب، اللائي شرفهن الله تعالى بالعيش في بيت النبوة. 3) لتحريم نكاحهن على أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمته، كما يحرم عليهن نكاح أمهاتِهم (¬2) واختلف العلماء فيمن يتعلق بِها هذا الوصف: - فقيل: من دخل بِها ثبتت حرمتها مطلقاً. - وقيل: كل من أطلق عليها أنها زوجة له عليه الصلاة والسلام من ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 112 (¬2) ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 476، القرطبي: مرجع سابق: 14/ 112، أبو حيان: البحر المحيط: 8/ 454، الشوكاني: فتح القدير: 3/ 412، ابن العربي: أحكام القرآن 3/ 541، المنصوري: المقتطف: 4/ 251، الشنقيطي: أضواء البيان: 1499، ابن الملقن: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم: 167

طلقها ومن لم يطلقها ثبتت حرمتها. - وقيل: لا يثبت هذا الحكم لمطلقه. قال الإمام ابن كثير: نساء النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: 1. صنف دخل بِهن ومات عنهن، وهن التسع، وهن حرام على الناس بعد موته عليه الصلاة والسلام بالإجماع المحقق المعلوم من الدين ضرورة، وعدتهن بانقضاء أعمارهن، قال سبحانه: [وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً] الأحزاب 35 2. وصنف دخل بِهن وطلقهن في حياته، فهل يحل لأحد أن يتزوجهن بعد انقضاء عدتِهن منه عليه الصلاة والسلام؟ قولان للعلماء: أحدهما: لا، لعموم الآية التي ذكرنا. والثاني: نعم بدليل آية التخيير، قالوا: فلو أنّها لا تحل لغيره أن يتزوجها بعد فراقه إياها لم يكن في تخييرها من الدنيا والآخرة فائدة، إذ لو كان فراقه لها لا يبيحها لغيره لم يكن فيه فائدة لها. وهذا قوي والله أعلم. 3. وصنف تزوجها وطلقها قبل أن يدخل بِها، فهذه تحل لغيره أن يتزوجها، ولا أعلم في هذا القسم نزاعاً (¬1). ¬

(¬1) ذكر الإمام ابن الملقن فيمن فارقها النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة كالمستعيذة، والتي وجد بكشها بياضاً ثلاثة أوجه: يحرمن، لا يحرمن، تحرم المدخول بها فقط. ابن الملقن: عمر: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم: دار الرسالة، القاهرة ط 1/ 1423هـ (149)

وأما من خطبها ولم يعقد عليها فأولى أن تتزوج (¬1). قال الإمام القرطبي: حرّم الله تعالى نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهنّ حكم الأمهات، وهذا من خصائصه تمييزاً لشرفه، وتنبيهاً على مرتبته. قال الإمام الشافعي: وأزواجه اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن، ومن استحل ذلك كان كافرا. وقد قيل: إنما منع من التزويج بزوجاته؛ لأنهن أزواجه في الجنة، وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها (¬2). قلت: واختلف العلماء في مارية القبطية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، هل هي من أمهات المؤمنين، أم لا؟ قال العلامة الحطاب: وقع بين طلبة العلم بحث في أم ولد النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم، هل هي من أمهات المؤمنين، أم لا؟ والذي يظهر لي: أنّها ليست من أمهات المؤمنين لما في صحيح البخاري: أنه لما بنى بصفية قال أصحابه: هل هي إحدى أمهات المؤمنين أو مما ملكت يمينه؟ ثم قالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه، لكن ربما يقال: هذا في حال حياته لما له من الرق، وبعد موته فهي حرة، فقد يقال: صارت من أمهات المؤمنين (¬3). ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 5/ 286، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 513، ابن العربي: أحكام القرآن: 3/ 617، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 203 (¬2) القرطبي: مرجع سابق: 14/ 203 (¬3) الحطاب: مواهب الجليل: 5/ 11

قلت: والصحيح - والعلم عند الله تعالى - أنّها ليست من أمهات المؤمنين، وقد نص الفقهاء على أنّها ليست منهن، قال الإمام الماوردي: إن مات عنها كمارية القبطية أم ولده إبراهيم حرم نكاحها وإن لم تصر أماً للمؤمنين كالزوجات لنقصها بالرق (¬1). وأجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية عن سؤال مفاده: هل تعتبر مارية من أمهات المؤمنين؟ فأجابت: لا تعتبر من زوجاته ولا من أمهات المؤمنين، بل هي سرية تسررها النبي صلى الله عليه وسلم وأنجبت له إبراهيم فصارت بذلك أم ولد (¬2). وهذا الشرف العظيم الذي نلنه - رضي الله عنهنّ وأرضاهنّ - لم يكن بمعزل عن التطبيق في حياتِهنّ، فكن يكنين أنفسهنّ بِهذا الوصف العظيم، ومما يدل على ذلك: روى الإمام محمد بن سعد في طبقاته عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها كانت تقول: أنا أم الرجال منكم والنساء. وروى الإمام أحمد في مسنده عن يزيد بن مرّة عن لميس أنّها قالت لعائشة: يا أمه، فقالت عائشة: إني لست بأمكن ولكن أختكنّ (¬3). ¬

(¬1) ابن الملقن: الخصائص: 151 (¬2) الدرويش: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، دار بلنسية ط 3/ 1421هـ (18/ 9) (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده: انظر: البنا: الفتح الرباني: 22/ 124

وروى مسروق أن امرأة قالت لعائشة - رضي الله عنها - يا أمه، فقالت: لست بأم، إنما أنا أم لرجالكم (¬1). وفي هذه الآثار دليل على تشرفهن وتعظيمهن لهذا الوصف الشريف، ويظهر من مجموع هذه الآثار وجه تعارض، ولذا ذهب بعض العلماء إلى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين من الرجل دون النساء استناداً لأثر عائشة رضي الله عنها، وعلله الإمام ابن العربي بقوله: لأن المقصود بذلك إنزالهن منْزلة أمهاتِهم في الحرمة حيث يتوقع الحل، والحل غير متوقع، فلا يحجب بينهن حرمة. وقال: وهو الصحيح. وقال الإمام ابن كثير: وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي. وقال الإمام الشوكاني: وتخصيص المؤمنين يدل على أنّهن لسن أمهات نساء المؤمنين. وقال الإمام البغوي: وكنّ أمهات المؤمنين من الرجل دون النساء. وقال أصحاب هذا القول: إن فائدة أمومتهن في حق الرجل مفقودة في حق النساء، فالأمومة إذاً ثلاثة وأحكامها مختلفة: - أمومة الولادة: وتثبت فيها جميع الأحكام للأمومة. - أمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ولا تثبت إلا تحريم النكاح. ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 112

- أمومة الرضاع: متوسطة بينهما (¬1). وذهب البعض الآخر من العلماء: إلى أن وصف الأمومة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم عام للرجال والنساء، واحتجوا بأثر أم سلمة رضي الله عنها. قال الإمام القرطبي: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء والذي يظهر لي: أنهن أمهات الرجال والنساء، تعظيماً لحقوقهن على الرجال والنساء، يدل عليه صدر الآية [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ] وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، فيكون قوله [وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] عائداً إلى الجميع (¬2). وقال الحافظ ابن حجر: وإنما قيل للواحدة منهن أم المؤمنين تغليباً، وإلا فلا مانع من أن يقال لها: أم المؤمنات على الراجح (¬3). قلت: والذي يترجح - والعلم عند الله - عموم أمومتهن للرجال والنساء، لما ذُكر من أدلة للقول الثاني، وأما حصر أصحاب القول الأول الأمومة في التحريم للرجال دون النساء، لتحريم نكاحهن، فهذه إحدى الحكم والخصائص، وإلا فلأمهات المؤمنين واختصاصهن بِهذا الاسم حكم أخرى كما مرّ، من شفقتهن على المؤمنين والمؤمنات، وكذا حقهن في ¬

(¬1) ابن العربي: أحكام القرآن: 3/ 542، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 477، الشوكاني: فتح القدير: 3/ 412، ابن الملقن: الخصائص 169، البنا: الفتح الرباني: 22/ 124 (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 112 (¬3) ابن حجر: فتح الباري: 1/ 26

الإجلال والتعظيم والإكرام. وأما ما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فيمكن الإجابة عنه بما يلي: ما روي عنها من طريق يزيد بن مرة عن لميس، في إسناده جابر بن يزيد الجعفي وهو متروك الحديث (¬1). وما روي عن مسروق عن عائشة، فهو أثر صحيح، ويجاب عنه من وجهين: ذكرها الإمام القرطبي خلاصتها: إما أن يكون أثر مسروق صحيحاً أم لا: 1. فإن كان صحيحاً، فقد عارضه ما جاء في مصحف أبي بن كعب (وأزواجه أمهاتُهم وهو أب لهم) وقرأ ابن عباس: (من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتُهم) وهذا يوهن ما رواه مسروق. 2. وإن لم يكن الأثر صحيحاً، سقط الاستدلال به في التخصيص، ونبقى على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم (¬2). وكان الصحابة ومن بعدهم ينادي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بِهذا الوصف الشريف. ¬

(¬1) ابن البنا: الفتح الرباني: 22/ 124 (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 112

ومن الشواهد على ذلك: ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى، قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة فأذن لي، فقلت لها: يا أماه - أو يا أم المؤمنين -: إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أستحييك، فقالت: لا تستحي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك، فإني أمك، قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل) (¬1). وما جاء في حديث الصحيحين، قال نافع: حدث ابن عمر أن أبا هريرة يقول: من تبع جنازة فله قيراط، فقال: أكثر علينا أبو هريرة، فصدقت - يعني عائشة - أبا هريرة، وقلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله .. (¬2). والشاهد: ما وقع في رواية الوليد بن عبد الرحمن عند سعيد بن ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحيض باب فسخ الماء من الماء (348): قال الإمام النووي: قولها (على الخبير سقطت): معناه صادفت خبيراً بحقيقة ما سألت عنه، عارفاً بخفية وجلية حاذقاً فيه. النووي: شرح مسلم: 4/ 281 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز، باب فضل إتباع الجنائز (1323)

منصور: فقام أبو هريرة فأخذ بيده فانطلقا حتى أتيا عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين: أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ... فذكره (¬1). وأخرج الإمام البخاري في صحيحه عن القاسم بن محمد: أن عائشة رضي الله عنها: اشتكت، فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين، تقدمين على فرط صدق، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر (¬2). وعن عبد الله بن لبيد سمع أبا سلمة قال: أتيت عائشة فقلت: أي أمه، أخبريني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كانت صلاته في شهر رمضان وغيره ثلاث عشرة ركعة بالليل منها ركعتا الفجر (¬3). وأخرج البخاري في صحيحه: وفيه: قال: وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين في الحجرة - أي حسن مرور السواك على أسنانها - فقال عروة: يا أماه، يا أم المؤمنين، ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قال يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات، إحداهن في رجب، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده، ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 3/ 232، الألباني: محمد: العلامة: أحكام الجنائز: المكتب الإسلامي: ط4/ 1406هـ (69) (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة: باب فضل عائشة رضي الله عنها: (3771)، ابن البنا: الفتح الرباني: 22/ 126 (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد الركعات (738).

وما اعتمر في رجب قط (¬1). قال الحافظ ابن حجر: وقول عروة لهذا بالمعنى الأخص، لكونِها خالته، وبالمعنى الأعم لكونِها أم المؤمنين. وقال الإمام العيني: فإن قلت: ما فائدة قوله (يا أم المؤمنين) بعد أن قال: يا أماه؟ قلت: أراد بقوله: يا أماه، المعنى الأخص لكون عائشة خالته، وأراد بقوله (يا أم المؤمنين) المعنى الأعم لكونِها أم المؤمنين (¬2). ودخل عبد الرحمن بن عوف على أم سلمة فقال: يا أم المؤمنين: إني أخشى أني أكون قد هلكت إني من أكثر قريش مالاً، بعت أرضا لي بأربعين ألف دينار، قالت: يا بني أنفق فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أصحابي من لن يراني بعد أن أفارقه)، فأتيت عمر فأخبرته، فأتاها فقال: بالله أنا منهم، قالت: اللهم لا، ولن أبرئ أحداً بعدك. قال الإمام الذهبي: ومن مناقب عبد الرحمن بن عوف: أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة، وأنه من أهل بدر الذي قيل لهم: (اعملوا ما شئتم) ومن أهل هذه الآية [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ]. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العمرة، باب كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟: (1776). (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 3/ 707، العين ي: عمدة القارئ: 7/ 406.

وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم وراءه، وبكل حال، فلو تأخر عبد الرحمن عن رفاقه للحساب، ودخل حبواً على سبيل الاستعارة، وضرب المثل، فإن منْزلته في الجنة ليست بدون منزلة علي والزبير - رضي الله عن الكل (¬1). قلت: والشواهد الدالة على منزله هذا الوصف - الأمومة للمؤمنين - ومناداة الصحابةرضي الله عنهم لهن بهذا الوصف الشريف: كثيرة لا تحصر، وما ذكر فيه كفاية، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق. 14) وأختم هذا المبحث بالآية العظيمة التي شهد المولى سبحانه وتعالى لأصحاب الشجرة بالرضا والرضوان، فقال سبحانه وتعالى: [لقد رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] الفتح 18. يخبر الله جل وعلا عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، ولذا سميت بيعة الرضوان؛ لرضا الله تعالى عن المؤمنين فيها. ويقال لها: بيعة أهل الشجرة، وهي شجرة كانت في الحديبية، قيل: شجرة سدرة، وقيل سمرة. قال الإمام أبو حيان: والآية دالة على رضا الله تعالى عنهم (¬2). وكانت البيعة على: أن يقاتلوا قريشا ولا يفرّوا. ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 34 - 35 (¬2) أبو حيان: البحر المحيط: 9/ 492

وروي أنه بايعهم على الموت، وكانت عدتهم: ألف وأربعمائة، وقيل: ألف وخمسمائة. فأخبر سبحانه عن رضاه عنهم في هذه البيعة، ثم بيّن أمراً غيبياً لا يعلمه إلا هو سبحانه، ولذا جازاهم عليه خير الجزاء فقال: [فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ] أي: من الصدق والوفاء والسمع والطاعة والإخلاص لله ورسوله، والإيمان. [فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ] شكراً لهم على ما في قلوبِهم، وزادهم هدى، والسكينة أيضاً: الطمأنينة وسكون النفس إلى صدق الوعد. [وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] وهو ما أجرى الله عز وجل على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم وما حصل بذلك من الخير العام والمستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العزّ والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال سبحانه وتعالى [وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً] (¬1). ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 205، القرطبي: 16/ 233، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 120، المنصوري: المقتطف: 5/ 47، السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 737

المبحث الثاني فضائل الصحابة رضي الله عنهم في السنة النبوية المطهرة

المبحث الثاني فضائل الصحابة رضي الله عنهم في السنة النبوية المطهرة قال الإمام الذهبي: وأما مناقب الصحابة رضي الله عنهم وفضائلهم فأكثر من تذكر (¬1). وقد تضافرت الأحاديث النبوية، والآثار المنيفة واشتهرت، موضحة ومبينة فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة، ومجموعها ينتظم في الأمور التالية: 1) إثبات خيرية قرنه عليه الصلاة والسلام، ففي الصحيحين عن عمران بن حصين يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونَهم)، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قوله: قرنين أو ثلاثاً .. وهذا لفظ البخاري (¬2). وعند مسلم بلفظ: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني ثم الثالث (¬3). ¬

(¬1) الذهبي: محمد: الإمام: الكبائر: دار إحياء الكتب العربية: (190) (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة: باب فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3650) (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة: باب فضل الصحابة (2533)

قال الإمام النووي: اتفق العلماء على أن خير القرون، قرنه عليه الصلاة والسلام، والمراد أصحابه (¬1). والمراد بالذين يلونَهم: التابعون، والذين يلونَهم: تابعو التابعين. قال الحافظ ابن حجر: واستدل بِهذا الحديث على تعديل أهل القرون الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهذا محمول على الغالب والأكثرية، فقد وجد فيمن بعد الصحابة من القرنين من وجدت فيه الصفات المذكورة المذمومة لكن بقلة، بخلاف من بعد القرون الثلاثة، فإن ذلك كثر فيهم واشتهر (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذه الأحاديث مستفيضة، بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم، وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون، فالقدح فيهم قدح في القرآن والسنة (¬3). وقال الحافظ ابن حجر في بيان مدد هذه القرون: وقد ظهر أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة مائة سنة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليل، على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته فيكون مائة سنة أو تسعين أو سبعاً وتسعين، وأما قرن التابعين: فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ¬

(¬1) النووي: شرح مسلم: 16/ 318، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 2/ 223، 3/ 126 - 406 (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 10 (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 430

ثمانين، وأما الذين من بعدهم: فإن اعتبر منها كان نحواً من خمسين فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان. واتفقوا أن آخر من كان من اتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين (¬1). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن الاعتبار في القرون الثلاثة بجمهور أهل القرن وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في أمارة ابن الزبير وعبد الملك، وجمهور تابعي التابعين انقرضوا في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية (¬2). قال بعض العلماء: وإنما كانوا خير القرون بشهادة الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لهم بكل فضيلة من الإخلاص والصدق والتقوى، والشدة في الدين، والرحمة على المؤمنين ونصرة الله ورسوله والجهاد في سبيل وبذل النفوس والأموال، وبيعها من الله تعالى، وإيثارهم على أنفسهم، وكونهم خير أمة أخرجت للناس، وقد رضي الله عنهم ورضوا ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 8 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 10/ 357

عنه والحائزين على الفوز والفلاح والبشارة بأعلى الجنان، وجوار الرحمن إلى غير ذلك. ومدح الله تعالى لا يتبدل، ووعده لا يُخلف ولا يتحول، إذ هو سبحانه المطلع على عواقب الأمور، والعالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، فلا يمدح عز وجل إلا من سبقت له منه الحسنى، وكان ممدوحاً في الآخرة والأولى (¬1) ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد اتفق المسلمون على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير طباق الأمة (¬2). 2) ومما يدل على فضلهم ما أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم (¬3). ¬

(¬1) بحرق: حدائق الأنوار: 418 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 24/ 329 (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3649)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة (2532)

قال الإمام النووي: وفي هذا الحديث فضل الصحابة والتابعين وتابعيهم. وقال الحافظ ابن حجر: ومثله حديث وائلة رفعه (لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني صاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني صاحبني) والحديث أخرجه ابن أبي شيبة، وإسناده حسن (¬1). فهذه الأحاديث تدل على فضلهم، وأن حسن الكمال في إتباعهم، ولذا فإن الأئمة يذكرون كثيرا من المحدثات، ويردونها، لأنها لم تكن في هذه القرون المفضلة، فمثلاً يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فأما سماع القاصدين لصلاح القلوب في الاجتماع على ذلك: إما نشيد مجرد، نظير الغبار، وإما بالتصفيق، ونحو ذلك، فهو السماع المحدث في الإسلام. فإنه أحدث بعد ذهاب القرون الثلاثة الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونَهم) وقد كرهه أعيان الأمة، ولم يحضره أكابر المشايخ (¬2). ثم ذكر شيخ الإسلام السماع الذي كان يجتمع عليه أصحاب القرون المفضلة، وهو سماع القرآن فقال: فمن المعلوم أن سماع القرآن، هو سماع النبيين والعارفين والمؤمنين .. ثم قال: وبِهذا السماع هدى الله العباد، ¬

(¬1) النووي: شرح مسلم: 16/ 317، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 7، العيني: عمدة القارئ: 10/ 218 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 11/ 591

وأصلح لهم المعاش والمعاد، وبه بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبه أمر المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وعليه يجتمع السلف .. ثم قال: وعلى هذا السماع كان يجتمع القرون الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونَهم) ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا (¬1). قال العلامة العيني: وفي الحديث معجزة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضيلة لأصحابه وتابعيه وذاك أن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ومن صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صحب صاحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هم ثلاثة: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين، حصلت لهم النصرة، لكونِهم ضعفاء فيما يتعلق بأمر الدنيا أقوياء فيما يتعلق بأمر الآخرة (¬2). ويقول الحافظ ابن حجر: قال ابن بطال: وهو كقوله في الحديث الآخر (خيركم قرني ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونَهم)، لأنه يُفتح للصحابة لفضلهم، ثم للتابعين لفضلهم، ثم لتابعيهم لفضلهم، قال: ولذلك كان الصلاح والفضل والنصر للطبقة الرابعة أقل، فكيف بمن بعدهم (¬3). ومن هنا يقول الإمام ابن تيمية: ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 10/ 77، 11/ 625، 627 (¬2) العيني: عمدة القارئ: 10/ 217 "بتصرف" (¬3) ابن حجر: فتح الباري: 6/ 105

ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، أن خير قرون هذه الأمة، في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها، القرن الأول، ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونَهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنّهم أفضل من الخلف في كل فضيلة من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة، وأنّهم أولى بالبيان من كل مشكل، هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام وأضله الله على علم. ثم قال: وما أحسن ما قال الشافعي في رسالته: هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا (¬1). وقال رحمه الله في معرض حديثه عن حديث (بدأ الإسلام غريباً) كذلك قوله تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ] النور 55، فهذا الوعد مناسب لكل من اتصف بِهذا الوصف، فلما اتصف به الأولون استخلفهم الله كما وعد، وقد اتصف بعدهم به قوم بحسب إيْمانِهم وعملهم الصالح، فمن كان أكمل إيمانًا وعمل صالحاً، كان استخلافه المذكور أتم، فإن كان فيه نقص وخلل كان تمكينه خلل ونقص، وذلك أن هذا جزاء هذا العمل، فمن قام بذلك العمل استحق ذلك الجزاء، لكن ما بقي قرن مثل القرن الأول، فلا جرم ما بقي ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 157

قرن يتمكن تمكن القرن الأول (¬1). 3) أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي بردة عن أبيه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، قال: فجلسنا حتى خرج علينا فقال: (ما زلتم هاهنا)، قلنا: يا رسول الله صلينا معك المغرب، وقلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال: (أحسنتم) أو (أصبتم)، قال: فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون (¬2). قال الإمام النووي: قوله: (وأصحابي أمنة لأمتي .. ) معناه: من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه وطلوع قرن الشيطان، وظهور الروم، وغيرهم عليهم وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك، وهذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم (¬3). 4) وأخرج الإمام الترمذي في جامعه عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تمسّ النار مسلماً رآني أو رأى من رآني) قال ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 18/ 302، ابن القيم: تهذيب السنن مع عون المعبود: 8/ 49 (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلمأمان لأصحابه (25.31) (¬3) النووي: شرح مسلم: 16/ 317

طلحة بن حراش: فقد رأينا جابر بن عبد الله، وقال موسى بن إبراهيم بن كثير: وقد رأيت طلحة بن حراش، قال يحيى بن حبيب بن عربي البصري وقال لي موسى: وقد رأيتني ونحن نرجو الله، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم الأنصاري (¬1). قال صاحب الدين الخالص: هذا ظاهر الحديث تخصيص الصحابة والتابعين بِهذه البشارة، وليس في لفظه ما يدل على شمول سائر المسلمين إلى يوم الدين، بل قصر تبع التابعين عن الدخول فيه، والحديث أفاد أن البشارة خاصة بمن رأى الصحابي فمن لم يره وكان في زمنه فالحديث لا يشمله. قال العلامة المباركفوري: الأمر كما قال صاحب الدين الخالص. واخرج عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة. قال الترمذي: وروي هذا الحديث عن عبد الله بن مسلم أبي طيبة عن أبي بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل وهو أصح. قال العلامة المباركفوري: قائداً أي: لأهل تلك الأرض إلى الجنة، ونوراً لهم: أي هاديا لهم (¬2). 5) وأخرج الإمام البغوي بسنده عن الحسن عن أنس قال: قال ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في جامعه في كتاب المناقب باب ما جاء في فضل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه (3867) (¬2) المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 337 - 331

رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام، لا يصلح الطعام إلا بالملح، قال: قال الحسن: فقد ذهب ملحنا، فكيف نصلح (¬1). 6) وأخرج الإمام الترمذي من حديث عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهَ الله في أصحابي، لا تتخذوهم عرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه) (¬2). قال العلامة المباركفوري: قوله (اللهَ الله) بالنصب فيهما: أي اتقوا الله، ثم اتقوا الله (في أصحابي): أي في حقهم، والمعنى: لا تنقصوا من حقهم ولا تسبوهم، أو التقدير: أذكركم الله، ثم أنشدكم في حق أصحابي، وتعظيمهم وتوقيرهم (¬3). 7) وأخرج الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) (¬4) قال الإمام الخطابي: والمعنى: أن جهد ¬

(¬1) البغوي: شرح السنة: 7/ 174 (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه في كتاب المناقب باب في من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3870)، وقال: هذا حديث حسن غريب لانعرفه إلا من هذا الوجه. (¬3) المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 335، ابن البنا: الفتح الرباني: 22/ 169 (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذا خليلاً "، (3673)

المقل منهم، واليسير من النفقة الذي أنفقوه في سبيل الله مع شدة العيش والضيق الذي كانوا فيه أوفى عند الله وأزكى من الكثير الذي ينفقه من بعدهم (¬1). وقال الإمام النووي: قال القاضي، ويؤيد هذا ما قدمناه في أول باب فضائل الصحابة عن الجمهور من تفضيل الصحابة كلهم على جميع من بعدهم. وسبب تفضيل نفقتهم: أنها كانت وقت الضرورة وضيق الحال، بخلاف غيرهم، ولأن إنفاقهم كان في نصرته عليه الصلاة والسلام وحمايته وذلك معدوم بعده، وكذا جهادهم، وسائر طاعتهم، هذا كله مع ما كان في أنفسهم من الشفقة والتودد والخشوع والتواضع والإيثار والجهاد في الله حق جهاده، وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل، ولا تنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (¬2). وقال الإمام العيني: وهذا الحديث لا يدل على فضل أبي بكر على الخصوص، وإنما يدل على فضل الصحابة كلهم على غيرهم (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال غير واحد من الأئمة: إن كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن لم يصحبه مطلقاً، وعينوا ذلك في مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز مع أنّهم معترفون بأن سيرة عمر بن عبد العزيز أعدل ¬

(¬1) الخطابي: معالم السنن: 4/ 284 (¬2) النووي: شرح مسلم: 16/ 327، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 42 (¬3) العيني: عمدة القاري: 11/ 406

من سيرة معاوية، قالوا: لكن ما حصل لهم بالصحبة من الدرجة أمر لا يساويه ما يحصل لغيرهم بعلمه، واحتجوا بما في الصحيحين من أنه قال: (لا تسبوا أصحابي .. ) قالوا: فإذا كان جبل أحد ذهباً لا يبلغ نصف مدّ أحدهم، كان في هذا من التفاضل ما يبيّن أنه لم يبلغ أحد مثل منازلهم التي أدركوها بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم (¬1). وقد قال بعضهم في معاوية وعمر بن عبد العزيز، ليوم شهده معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر وأهل بيته (¬2). وخلاصة ما يمكن قوله: أن هذا القرن وهذا الجيل الفذ العظيم، الذي لا يمكن أن يتكرر، هو من خير قرون الزمان في الأرض، علماً وعملاً وإيماناً ويقيناً وصدقاً وإخلاصاً وحكمةً وتوكلاً. ويكفيهم شرفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصي بِهم فقال: استوصوا بأصحابي خيراً، ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونَهم (¬3). فجملة الفضائل والمناقب لهم جاءت على الإجمال والتفصيل، وعلى المجموع والأفراد. قال الإمام الذهبي: وأجمعت علماء السنة أن أفضل الصحابة: العشرة المشهود لهم، وأفضل العشرة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، ولا يشك في ذلك إلا مبتدع منافق ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 527 (¬2) ابن كثير: الباعث الحثيث: 172 (¬3) أخرجه أحمد في مسنده، أنظر: ابن البنا: الفتح الرباني: 22/ 168

خبيث (¬1). وعلى جملة تلك الفضائل والمزايا والخصائص فإن الواجب تجاههم ما قاله الأئمة: قال الإمام الطحاوي: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من واحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الحق يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان (¬2). وقال الإمام ابن قدامة: أمته خير الأمم، وأصحابه خير أصحاب الأنبياء (¬3). وأخرج الإمام أحمد عن يوسف بن عبد الله بن سلام أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنحن خير أم من بعدنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدهم أحداً ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه) (¬4). وأخرج عن طارق بن أشيم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بحسب أصحابي القتل). قال ابن البنا: أي يكفي المخطئ منهم في قتاله في الفتن القتل، فإنه ¬

(¬1) الذهبي: الكبائر: 190 (¬2) الطحاوي: العقيدة الطحاوية "مع شرحها لابن أبي العز " 467 (¬3) ابن قدامة: لمعة الاعتقاد: " مع شرحها الإرشاد " 306 (¬4) أخرجهما أحمد في مسنده، انظر: الفتح الرباني 22/ 170

كفارة لجرمه وتمحيص لذنوبه وأما المصيب فهو شهيد (¬1). قلت: وقد اتفق أهل السنة والجماعة على عدم الطعن في الصحابة رضي الله عنهم فيما جرى بينهم من الفتن لأنهم مجتهدون متأولون. أما الحروب التي جرت فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب أنفسها بسببها، وكلهم عدول ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شئ من ذلك أحدا منهم عن العدالة؛ لأنهم مجتهدون، اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وآل الشر بين السلف إلى الاقتتال، مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعاً مؤمنتان، وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم؛ لأن المقاتل وإن كان باغياً فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق (¬2). ومن هنا قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ثم إن الله نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد عليه الصلاة والسلام، فوجد قلوب الصحابة خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه. قال العلامة السفاريني: وليس في الأمة كالصحابة ... في الفضل والمعروف والإصابة ... ¬

(¬1) أخرجهما أحمد في مسنده، انظر: الفتح الرباني 22/ 170 (¬2) النووي: شرح مسلم: 15/ 158، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 3/ 230

فإنّهم قد شاهدوا المختارا ... وعاينوا الأسرار والأنوارا ... وجاهدوا في الله حتى بانا ... دين الهدى وقد سما الأديانا ... وقد أتى في محكم التنزيل ... من فضلهم ما يشفي للغليل ... وفي الحديث وفي الآثار ... وفي كلام القوم والأشعار ... ما قد ربا من أن يحيط نظمي ... عن بعضه فاقنع وخذ من علم ... واحذر من الخوض الذي يزري ... بفضلهم مما جرى لو تدري ... فإنه عن اجتهاد قد صدر ... فاسلم أذل الله من لهم هجر ... وبعدهم فالتابعون أحرى ... بالفضل ثم تابعوهم طرا (¬1) قال الإمام أبو الليث السمرقندي: ينبغي للعاقل أن يحسن القول في الصحابة، ولا يذكر أحداً منهم بسوء ليسلم دينه. وقال محمد بن الفضل: أجمعوا أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فنحن نقول: ثم عثمان ثم علي ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم أخيار صالحون، لا نذكر أحداً منهم إلا بخير. وروي عن إبراهيم النخعي: أنه سئل عن القتال الذي وقع بين الصحابة فقال: تلك دماء قد سلمت منها أيدينا فلا نلطّخ بِها ألسنتنا. وري عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم قال: سألت أبا حنيفة فقلت: ¬

(¬1) السفاريني: محمد: الإمام: الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية، مدار الوطن ط 1/ 1426.

من أهل السنة؟ فقال: من فضل أبا بكر وعمر وأحب عثمان وعلياً (¬1). وقال الإمام الغزالي: وأن يعتقد فضل الصحابة على ترتيبهم، وأن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وأن يحسن الظن بهم، وبجميع الصحابة بجملتهم، ويثني عليهم كما أثنى الله عز وجل ورسوله عليهم، فكل ذلك مما وردت به الأخبار، وشهدت به الآثار، فمن اعتقد ذلك موقنا به، كان من أهل الحق، وعصابة السنة، وفارق رهط الضلالة وحزب البدعة. ولذا يقول الإمام الفضيل بن عياض: أوثق عملي في نفسي: حب أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، وحب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جميعا، وكان يترحم على معاوية ويقول: وكان من العلماء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام حماد بن زيد: تذاكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كي تأتلف عليهم قلوب الناس، ولا تذكروا مساوئهم، فتحرشوا الناس عليهم. ولذا لما سئل الإمام أحمد وقيل له: ما تقول فيمن زعم أنه مباح له أن يتكلم في مساوئ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هذا كلام سوء رديء، يجانبون هؤلاء القوم، ولا يجالسون، ويبين أمرهم للناس. (¬2) ¬

(¬1) أبو الليث السمرقندي: نصر: الإمام: بستان العارفين: المكتبة العصرية، بيروت: 1424هـ (103) " بتصرف ". (¬2) الغزالي: بداية الهداية: 286، الخلال: السنة: 2/ 438، 3، 512 - 513 (2) الأزهري: صالح: العلامة: الثمر الداني لتقريب المعاني: دار الفكر (23) الدويش: فتاوى اللجنة الدائمة: 3/ 393

فهم خير القرون الذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، قد أشرقت عليهم شموس نبوته، فحازوا فخار الاجتماع، وفضيلة الصحبة، فكان قرنهم أفضل القرون (2)

الفصل الثاني سب الصحابة رضي الله عنهم

الفصل الثاني سبّ الصحابة رضي الله عنهم تمهيد: إن للصحابة رضي الله عنهم من المكانة والمنزلة ما يجعل المرء عاجزاً عن وصفهم وبيان حالهم، فضلاً عن أن يمسهم بسوء أو يتعدى على أعراضهم الطاهرة الشريفة، وقد نص الأئمة على فضلهم ومنزلتهم ومكانتهم ووجوب احترامهم وعدم التعرض لهم بسوء. قال الإمام الحميدي: إن من السنة الترحم عليهم كلهم: فإن الله عز وجل قال: [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا] فلم نؤمر إلا بالاستغفار لهم، فمن سبهم أو تنقصهم أو أحداً منهم فليس على السنة، وليس له في الفيء حق، أخبرنا بذلك غير واحد عن مالك بن أنس (¬1). وقال الإمام ابن بطة: ويشهد لجميع المهاجرين والأنصار بالجنة والرضوان والرحمة من الله تعالى ويستقر علمك، وتؤمن بقلبك، أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم وشاهده وآمن به واتبعه، ولو ساعة من نَهار أفضل ممن لم يره، ولم يشاهده ولو أتى بأعمال الجنة أجمعين. ثم الترحم على جميع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم صغيرهم وكبيرهم وأولهم وآخرهم، وذكر محاسنهم، ونشر ¬

(¬1) الحميدي: أصول السنة: 2/ 546، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان 406

فضائلهم، والاقتداء بِهديهم، والاقتفاء لآثارهم (¬1). وقال الإمام ابن الصلاح: للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي: أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل أمر مفروغ منه، لكونِهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة (¬2). وقال الإمام ابن كثير: والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة، لما أثنى الله تعالى عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغبة فيما عند الله تعالى من الثواب الجزيل، والجزاء الجميل (¬3). قلت: وقد عقد الأئمة في مصنفاتِهم أبواباً وفصولاً في بيان جرم سبّ الصحابة رضي الله عنهم، والتعرض لهم بسوء، وجاءت الأحاديث والآثار - كما مرّ - حافظة لأعراضهم رافعة لأقدارهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهَ الله في أصحابي ... ). وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سبّ أصحابي فعليه لعنة الله ¬

(¬1) ابن بطة: الإبانة الصغرى: 263 آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان 406 (¬2) العراقي: التقييد والإيضاح: 286 (¬3) ابن كثير: الباعث الحثيث: 172

والملائكة والناس أجمعين) (¬1). وعن جابر قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: إن ناساً يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر، فقالت: وما تعجبون من هذا! انقطع عنهم العمل، فأحب الله تعالى أن لا يقطع عنهم الأجر. وروى ابن بطة بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة، يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة (¬2). وقال ابن عباس أيضاً: لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل قد أمر بالاستغفار لهم، وهو يعلم أنّهم سيقتتلون. وقال عبد الله بن عمر: لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإن مقام أحدهم خير من عمل أحدكم عمره كله. وعن ميمون بن مهران قال: قال لي عبد الله بن عباس: يا ميمون لا تسب السلف وادخل الجنة بسلام (¬3). وسئل الإمام أبو حنيفة: من أي الأصناف أنت؟ قال: ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحداً بالذنوب. ¬

(¬1) انظر الذهبي: الكبائر: 189، اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1320 (¬2) انظر: ابن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية: 469 (¬3) انظر اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة 71319 - 1323 - 1325

وكان يقول: مقام أحدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة خير من عمل أحدنا جميع عمره وإن طال (¬1). وقال الإمام أحمد بن حنبل: ما لهم ولنا - أسأل الله العافية - وقال: إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتّهمه على الإسلام (¬2). فهذه الأحاديث والآثار وغيرها، تدل على حرمة أعراض الصحابة، ووجوب حفظها، والاعتراف بمكانتهم العظيمة ومنزلتهم الجليلة. ومن هنا نخلص إلى حكم سبهم وتنقصهم، لكن ينبغي أن يفرق في هذا المقام في حكم السبّ بحسب الأشخاص، ونوع القدح: فقد يكون السب على جهة العموم، وقد يكون على جهة الخصوص، وقد يكون السب قذفاً وقدحاً، يوجب القول به سقوط عدالة الصحابة، وقد يكون سبا وقدحاً لا يوجب قدحاً في دينهم ولا سقوطاً لعدالتهم، وقد يكون السب له تعلق بالاعتقاد، وقد يكون منشأه الغيظ، وإن كان أصل السب هو الغيظ والحنق على المسبوب، ولذا فيفصل القول في حكم سبهم ونتقصهم حسب المباحث التالية: ¬

(¬1) الخميس: أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة: 451 - 553 (¬2) اللالكائي: مرجع سابق: 7/ 1326

المبحث الأول حكم سب أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين

المبحث الأول حكم سب أمهات المؤمنين رضي الله عنهنّ أجمعين ينقسم حكم سب أمهات المؤمنين إلى قسمين: 1. حكم سبّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها. 2. حكم سبّ بقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن. 1 - حكم سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: تمهيد: عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم معلوم فضلها ومكانتها ومنزلتها عند رسول الله صلي الله عليه وسلم وعند عامة المسلمين، يكفيها شرفاً وفضلاً أن جبرائيل عليه السلام جاء إليها يقرئها السلام (¬1). وأن النبي صلي الله عليه وسلم قال في شأنِها: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة رضي الله عنها (3768) (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة رضي الله عنها (3769)

وقال عمار بن ياسر رضي الله عنه: إني لأعلم أنّها زوجته في الدنيا والآخرة (¬1). وقال أسيد بن حضير رضي الله عنه: جزاكِ الله خيراً، فو الله ما نزل بكِ أمر قط إلا جعل الله لكِ منه مخرجاً وجعل فيه للمسلمين بركة (¬2). فهي رضي الله عنها وعاء من أوعية العلم والفقه والديانة والزهد والورع والتقى، الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلي الله عليه وسلم، المبرأة من فوق سبع سموات. حكم سب الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما: فصّل فيه العلماء على النحو التالي: " على وجه العموم ": 1 - أنّها من جملة الصحابة رضي الله عنهم الذين نُهي عن سبهم وتنقصهم والحط من قدرهم. قال الإمام النووي: اعلم أن سبّ الصحابة من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتنة منهم وغيره، لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون، وسب أحدهم من المعاصي الكبائر (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة رضي الله عنها (3772) (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة رضي الله عنها (3773) (¬3) النووي: شرح صحيح مسلم: 16/ 326

وقال الإمام القاضي عياض: سبّ آل النبي صلي الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه ونتقصهم حرام ملعون فاعله (¬1) وقال الإمام الذهبي: فمن طعن فيهم أو سبهم، فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين، لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساوئهم وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من الثناء عليهم، وما لرسول الله صلي الله عليه وسلم من ثنائه عليهم، وفضائلهم ومناقبهم وحبهم ولأنّهم أرضى الوسائل من المأثور، والوسائط من المنقول، والطعن في الوسائط طعن في الأصل، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول، وهذا ظاهر لمن تدبره، وسلم من النفاق والزندقة والإلحاد في عقيدته، وحسبك ما جاء في الأخبار والآثار، ومن ذلك كقول النبي صلي الله عليه وسلم (إن الله اختارني واختار لي أصحاباً، فجعل لي منهم وزراء وأنصاراً وأصهاراً، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) (¬2). وقال الإمام الآجري: لقد خاب وخسر من أصبح وأمسى وفي قلبه بغض لعائشة أو لأحد من أصحاب الرسول صلي الله عليه وسلم، أو لأحد من أهل بيت الرسول صلي الله عليه وسلم، فرضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم (¬3). ¬

(¬1) الحطاب: مواهب الجليل مع حاشية المواق 8/ 386 (¬2) الذهبي: الكبائر: 189 (¬3) الآجري: الشريعة: 5/ 2428، الهلالي: سليم: حديث الإفك: غراس للنشر والتوزيع ط 1/ 1426هـ (75).

2 - على وجه الخصوص: أن سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على قسمين: الأول: أن يقذفها بما برأها الله تعالى منه، على ما جرت أحداث قصتها في غزوة المريسيع. الحكم: نص العلماء على أن من قذفها بذلك فإنه: أيكفر بالاتفاق. ب يجب قتله. أ: أما كفر قاذفها - بما برأها الله منه - فنصوص العلماء متوافرة متضافرة، في ذلك ومنها: قال الإمام ابن العربي: قال هشام بن عمار: سمعت مالكاً يقول: من سبّ أبا بكر وعمر أدب، ومن سبّ عائشة قتل، لأن الله تعالى يقول: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قُتل. قال ابن العربي: إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى، فكل من سبها بما برأها الله تعالى منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر، فهذا هو طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر (¬1). ¬

(¬1) ابن العربي: أحكام القرآن: 3/ 366، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 212/ 184

وقال الإمام ابن حزم: قول مالك ههنا صحيح، وهي ردة تامة، وتكذيب لله تعالى، في قطعه ببراءتِها (¬1). وقال الإمام ابن بطال: من سب عائشة رضي الله عنها، بما برأها الله تعالى منه، أنه يقتل لتكذيبه الله تعالى ورسوله صلي الله عليه وسلم (¬2). وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية الإجماع، وذكر عن جماعة حكاية الإجماع على هذا الحكم، فنقل عن القاضي أبي يعلى قوله " من قذف عائشة بما برأها الله منه، كفر بلا خلاف " (¬3). وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وذكر غير واحد من العلماء اتفاق الناس على أن من قذفها بما برأها الله منه، فقد كفر، لأنه مكذب للقرآن (¬4). وقال الإمام ابن قدامة: ومن السنة الترضي عن أزواج النبي صلي الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء، أفضلهن خديجة بنت خويلد، وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه، زوج النبي صلي الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها - بما برأها الله منه - فقد كفر بالله العظيم (¬5). ¬

(¬1) ابن حزم: المحلى: 13/ 238 (¬2) العيني: عمدة القارئ: 9/ 530 (¬3) ابن تيمية: الصارم المسلول على شاتم الرسول: 3/ 1050، الهلالي: حديث الإفك: 91 (¬4) ابن تيمية: الرد على البكري: 340، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان: 44 (¬5) ابن قدامة: لمعة الاعتقاد: 152

وقال الإمام النووي: براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك، وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز، فلو تشكك فيها إنسان - والعياذ بالله - صار كافراً مرتداً بإجماع المسلمين. قال ابن عباس: لم تزن امرأة نبي من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - وهذا إكرام من الله تعالى لهم (¬1). وقال الإمام ابن القيم: واتفقت الأمة على كفر قاذفها (¬2). وقال الإمام ابن كثير: وقد أجمع العلماء قاطبة: على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في الآية، فإنه كافر، لأنه معاند للقرآن (¬3). وقال العلامة بحرق الحضرمي: إن من يشكك في براءة عائشة، كافر بالإجماع (¬4). وقال العلامة العيني: وفيه براءة عائشة من الإفك، وهي براءة قطعية بنص القرآن، فلو شكك فيها إنسان صار كافراً مرتدا بإجماع المسلمين. ¬

(¬1) النووي: شرح صحيح مسلم: 17/ 122 (¬2) ابن القيم: زاد المعاد: 1/ 106 (¬3) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 287 (¬4) بحرق: حدائق الأنوار: 305

وقال الإمام الزركشي: من قذفها فقد كفر، لتصريح القرآن الكريم براءتها. وقال الإمام السيوطي: قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْك]: نزلت في براءة عائشة مما قذفت به، فاستدل الفقهاء على أن قاذفها يقتل، لتكذيبه لنص القرآن. قال العلماء: قذف عائشة كفر، لأن الله سبح نفسه عند ذكره، فقال (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد (¬1). وقد نص فقهاء الإسلام على مرّ العصور على هذا الحكم، وعليه الفتوى والعمل عند أئمة المذاهب وأتباعهم: 1 - عند فقهاء الحنفية: قد نصوا على أن من قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالزنا فإنه يكفر. قال الإمام ابن نجيم: ويكفر بقذفه عائشة (¬2). وقال الإمام ابن عابدين: لا شك في تكفير من قذف السيدة عائشة (¬3). ¬

(¬1) الزركشي: الإجابة: لا يراد ما استدركته عائشة على الصحابة: 45، الهلالي: حديث الإفك: 92، السيوطي: الإكليل: 3/ 1012، وانظر، العمري: السيرة النبوية الصحيحة 2/ 415 (¬2) ابن نجيم: البحر الرائق: 5/ 196 (¬3) ابن عابدين: حاشية ابن عابدين: 6/ 378، وانظر: الفتاوى الهندية: 2/ 26

وقال إمام المذهب: ويحبهم كل مؤمن تقي، ويبغضهم كل منافق شقي (¬1). 2 - ونص فقهاء المالكية على ذات الحكم: قال الإمام القرطبي: ما خلا عائشة فإن قاذفها يُقتل، لأنه مكذب للكتاب والسنة من براءتِها، قاله مالك وغيره. وفي الإكمال: وأما اليوم فمن قال ذلك في عائشة قتل لتكذيب القرآن، وكفره بذلك (¬2). وقال العلامة الخرشي: يؤدب ويشدد على من سب صحابياً، وهذا ليس على عمومه، فإن من رمى جميع عائشة بما برأها الله منه بأن قال: زنت، أو أنكر صحبة أبي بكر أو إسلام العشرة، أو إسلام جميع الصحابة أو كفر الأربعة أو واحداً منهم كفر (¬3). وقال العلامة الدسوقي: من سب صحابيا إلا عائشة فإنه يقتل لردته. وقال: وعائشة لو قذفها فإنه يقتل لردته لتكذيب القرآن (¬4). والمنصوص عن إمام المذهب أنه قال: من سب عائشة قتل، قيل له: ¬

(¬1) الخميس: أصول الدين عند أبي حنيفة: 533 (¬2) انظر: الحطاب: مواهب الجليل 8/ 380 (¬3) الخرشي: حاشية الخرشي: 8/ 174 (¬4) الدسوقي: حاشية الدسوقي: 4/ 469

لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن (¬1). 3 - وكذا نصوص أئمة المذهب الشافعي مستفيضة في ثبوت حكم الردة والقتل، فيمن اتّهم أم المؤمنون عائشة رضي الله عنها ورماها بما برأها الله منه. قال الإمام الرملي: ومن أنكر صحبة أبي بكر، أو رمى ابنته، بما برأها الله منه، كفر (¬2). وقال الإمام السبكي: وأما الوقيعة في عائشة - والعياذ بالله - فموجبة للقتل لأمرين: أحدهما: أن القرآن الكريم يشهد ببراءتِها، فتكذيبه كفر، والوقيعة فيها، تكذيب له. الثاني: أنّها فراش النبي صلى الله عليه وسلم، والوقيعة فيها تنقيص له، وتنقيصه كفر (¬3). وقال الحافظ ابن حجر: ومن فوائد الحديث: تحريم الشك في براءة عائشة رضي الله عنها (¬4). وقال العلامة البكري: يكفر من قذف عائشة؛ لأن القرآن نزل ¬

(¬1) آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان: 423، الفضيلات: جبر: دكتور: أحكام الردة والمرتدين: الدار العربية: 1987م (226) (¬2) الرملي: نهاية المحتاج: 7/ 416، الشربيني: مغني المحتاج: 4/ 168 (¬3) السبكي: فتاوى السبكي: 2/ 592، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان 423 (¬4) ابن حجر: فتح الباري: 8/ 339

ببراءتها، ففي قذفها - حماها الله - تكذيب للقرآن (¬1). وقال إمام المذهب: هم فوقنا في كل علم، وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال من علم، أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا (¬2). 4 - ونصوص أئمة الحنابلة كثيرة متضافرة في الباب: قال الإمام الحجاوي: ومن قذف عائشة - بما برأها الله منه - كفر بلا خلاف (¬3). وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب: من قذف عائشة بالفاحشة، فقد جاء بكذب ظاهر، واكتسب الإثم واستحق العذاب، وظن بالمؤمنين سوءا، وهو كاذب، وأتى بأمر ظنه هيناً، وهو عند الله عظيم، وأتهم أهل بيت النبوة بالسوء، ومن هذا الاتّهام يلزم نقص النبي صلى الله عليه وسلم (¬4). وأما إمام المذهب فالمشهور عنه قوله: إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتّهمه على الإسلام. ولذا قال الإمام الذهبي: وإياك يا رافضي أن تلوّح بقذف أم المؤمنين بعد نزول النص في براءتِها فتجب ¬

(¬1) البكري: حاشية البكري: 4/ 210، القليوبي: حاشية القليوبي: 4/ 268 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 157 (¬3) الحجاوي: الإقناع: 2/ 289، المرداوي: الإنصاف: 10/ 282، البهوتي: كشاف القناع: 6/ 170، ابن مفلح: المبدع: 7/ 478، ابن عثيمين: الشرح الممتع: 14/ 437 (¬4) محمد بن عبد الوهاب: الرد على الرافضة: 24، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان: 424

لك النار (¬1). هذا مجمل الحكم فيمن اتهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، بما برأها الله منه. ويجدر بنا أن ننقل في هذا الموضع كلام الإمام ابن العربي فيما ذكره عن جماعة من الشافعية فقال: قال أصحاب الشافعي: من سب عائشة أدّب، كما في سائر المؤمنين، وليس قوله (إن كنتم مؤمنين) في عائشة، لأن ذلك كفر، وإنما هو كما قال: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) ولو كان سلب الإيمان في سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) حقيقة. قلنا - ابن العربي -: ليس كما زعمتم، إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر، فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر، ولو أن رجلاً سبها بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب (¬2). قلت: المشهور عن أصحاب الإمام الشافعي - ما نقلته عن بعضهم - هو تكفيرهم من طعن في أم المؤمنين عائشة بما برأها الله منه. وسبق الحكم: في أن من رمى أم المؤمنين عائشة وقذفها - بما برأها الله ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1326، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 78 (¬2) ابن العربي: أحكام القرآن: 3/ 366

منه، أنه يكفر بالاتفاق، ويقتل، لكن نفى الإمام ابن القطان علمه أن أحداً أوجب قتل من سب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولا أعلم أحداً يوجب قتل من سب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). وذكر قريباً من هذا الكلام الإمام ابن حزم فذكر عن أبي برزة قال: أغلظ رجل لأبي بكر الصديق قلت: ألا أقتله؟ فقال أبو بكر: ليس هذا إلا لمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حزم: وقد علمنا أن دم المسلمين حرام إلا بما أباحه الله تعالى به، ولم يبحه الله تعالى قط إلا في الكفر بعد الإيمان، أو زنى المحصن أو قود نفس مؤمنة، أو في المحاربة، وقطع الطريق، أو في المدافعة عن الظلمة أو في الممانعة من حق، أو فيمن حد في الخمر ثلاث مرات ثم شربها الرابعة فقط، وقد علمنا أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقين ندري أنه لم يزن، ولا شرب الخمر ولا قصد ظلم مسلم، ولا قطع طريقاً، فلم يبق إلا أنه عند أبي بكر كافر (¬2). قلت: قد نص العلماء على أن من قذف عائشة رضي الله عنها فإنه مع كفره، فهو مستحق للقتل لكونه مكذباً لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وسبق قول الإمام مالك: أن من سب عائشة رضي الله عنها يقتل مطلقاً، وحمله أصحابه على السب بالقذف. وقد سئل الإمام إسماعيل بن إسحاق عمن سب عائشة رضي الله ¬

(¬1) ابن القطان: الإقناع في مسائل الإجماع: 2/ 353 (¬2) ابن حزم: المحلى: 13/ 235

عنها فأفتى بقتله. وقتل الحسن ومحمد ابنا زيد الداعي الطبرستاني اللذان وليا ديار طبرستان، رجلين مما قذفا عائشة رضي الله عنها (¬1). وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل بن إسحاق: أتى المأمون بالرقة برجلين: شتم أحدهما فاطمة، والآخر عائشة، فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الآخر: فقال إسماعيل: ما حكمها إلا أن يقتلا، لأن الذي شتم عائشة رد القرآن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم من أهل البيت وغيرهم (¬2). وقال أبو السائب عتبة بن عبد الله الهمداني: كنت يوماً بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطبرستان وكان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه في كل سنة بعشرين ألف دينار إلى مدينة السلام، تفرق على صغائر ولد الصحابة، وكان بحضرته رجل، ذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فقال: يا غلام اضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله، هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى [الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ] فإن كانت عائشة خبيثة ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1338 (¬2) اللالكائي: مرجع سابق: 7/ 1343، ابن تيمية: الصارم المسلول: 3/ 1050، الهلالي: حديث الإفك: (93)

فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث، فهو كافر فاضربوا عنقه، فضربوا عنقه وأنا حاضر. وروي عن محمد بن زيد - أخي الحسن بن زيد - أنه قدم عليه رجل من العراق، فذكر عائشة بسوء، فقام إليه بعمود فضرب به دماغه، فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا ومن بني الأباء، فقال: هذا سمي جدي قرنان أي الديوث لا غيرة له - ومن سمي جدي قرنان، استحق القتل، فقتله (¬1). الثاني: أن يسب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بغير ما برأها الله منه، مما لا يقدح في عدالتها ولا دينها. حكمه: من جنى هذه الجناية العظيمة، استحق التأديب والتعزير، ولكنه لا يكفر. فقد سئل الإمام أحمد عمن شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرى أن يضرب وما أراه إلا على الإسلام. وقال الإمام العربي: ولو أن رجلاً سب عائشة بغير ما برأها الله منه، لكان جزاؤه الأدب (¬2). وقال الإمام القرطبي: ومن سب الصحابة بغير القذف، يجلد الجلد الموجع، وينكل التنكيل الشديد، وقال الإمام ابن حبيب: ويخلد في السجن ¬

(¬1) اللالكائي: مرجع سابق: 7/ 1345، 1270، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان: 432 (¬2) الحجاوي: الإقناع: 4/ 278، ابن العربي: أحكام القرآن: 3/ 366

إلى أن يموت (¬1). وقد أخرج الإمام اللالكائي بسنده عن عائشة: أنّها ذكرت عند رجل فسبها، فقيل: أتسب أمك؟ فقال: ما هي أمي. فبلغها، فقالت: صدق أنا أم المؤمنين، وأما الكافرين فلست لهم بأم. وعنها قالت: لا ينتقصني أحد في الدنيا إلا تبرأت منه في الآخرة (¬2). وقال الإمام الآجري: وبلغني عن بعض الفقهاء من المتقدمين: أنه سئل عن رجلين حلفا بالطلاق، أحدهما: أن عائشة أمه، وحلف الآخر: أنها ليست أمه؟ فقال: إن كلاهما لم يحنث، فقيل له: كيف هذا؟ لا بد أن يحنث أحدهما، فقال: إن الذي حلف أنّها أمه هو مؤمن لم يحنث، والذي حلف أنّها ليست أمه، هو منافق لم يحنث. وذكر الإمام ضياء الدين المقدسي: أن رجلاً نال من عائشة، فقام عمار بن ياسر يتخطى الناس فقال: اجلس مقبوحاً منبوحاً، أنت الذي تقع في حبيبة رسول الله، فوالله إنّها لزوجته في الدنيا والآخرة (¬3). فرضي الله تعالى عن الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سماوات، فإنها لما اشتكت - أي ضعفت - جاء ابن عباس فقال: يا أم ¬

(¬1) انظر: الحطاب: مواهب الجليل: 8/ 380 (¬2) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1523، الآجري: الشريعة: 5/ 3932 (¬3) الآجري: الشريعة: 5/ 2393، الهلالي: حديث الإفك: 87، المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 18

المؤمنين، تقدمين على فرط صدق، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر (¬1). قال الإمام العيني: إن ابن عباس قطع لعائشة رضي الله عنها، بدخول الجنة، إذ لا يقال ذلك إلا بتوقيف، وهذه فضيلة عظيمة، وقال، وحاصل المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قد سبقاك وأنت تلحقينهما، وهما قد هيئا لك المنزل في الجنة، فلا تحملي الهم، وأفرحي بذلك (¬2) وكان مسروق إذا حدث عنها قال: حدثتني الصادقة بنت الصادق البرة المبرأة، بكذا وكذا .. (¬3). وقد سأل بعض الأساقفة الإمام محمد بن الطيب أبو بكر الباقلاني بحضرة ملكهم فقال: ما فعلت زوجة نبيكم؟ وما كان من أمرها بما رميت به من الإفك؟ فقال الباقلاني: مجيباً على البديهة: هما امرأتان ذكرتا بسوء: مريم وعائشة، فبرأهما الله عز وجل، وكانت عائشة ذات زوج، ولم تأت بولد، وأتت مريم بولد ولم يكن لها زوج - يعني أن عائشة أولى بالبراءة من مريم - وكلاهما بريئة مما قيل فيها، فإن تطرق في الذهن الفاسد احتمال ربية إلى هذه فهو إلى تلك أسرع، وهما بحمد الله منزّهتان مبرأتان من السماء بوحي الله عز وجل (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة، في باب فضل عائشة رضي الله عنها (3771) (¬2) العيني: عمدة القارئ: 11/ 491 (¬3) الفاكهاني: رياض الأفهام: 1/ 51 (¬4) ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 376

2 - حكم سب بقية أمهات المؤمنين: زوجات النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، الطاهرات المطهرات أمهات المؤمنين وهن: {خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية - سودة بنت زمعة القرشية - عائشة بنت أبي بكر الصديق - حفصة بنت عمر بن الخطاب - زينب بنت خزيمة بن الحارث القيسية - أم سلمة هند بنت أبي أمية القرشية المخزومية - زينب بنت جحش الأسدية - جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية - أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان القرشية - صفية بنت حيي بن أخطب - ميمونة بنت الحارث الهلالية} قال الإمام ابن القيم: فهؤلاء نساؤه المعروفات اللاتي دخل بِهنّ (¬1). اختلف العلماء فيمن قذف إحدى أمهات المؤمنين - غير عائشة - هل هو كقذف عائشة؟ أو كسب واحد من الصحابة، على قولين: القول الأول: أن قذف إحدى أمهات المؤمنين هو كقذف عائشة رضي الله عنهن أجمعين. وهو قول جمهور أهل العلم وهو الصحيح من مذهب الحنابلة ورواية للمالكية، ورجحه جماعة من المحققين من أهل العلم منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير، وابن حزم الظاهري، والسبكي، ¬

(¬1) ابن القيم: زاد المعاد: 1/ 105 - 113

والمهلب، وجماعة غيرهم (¬1). واحتجوا بما يلي: - قال الله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] النور 23. قالوا: هذه الآية تشمل أمهات المؤمنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما، والضحاك وغيرهما: هذه الآية في عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا تنفع التوبة ومن قذف غيرهن من المحصنات فقد جعل الله له التوبة، لأن الله تعالى يقول: [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ... ] النور 3. فجعل لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك توبة (¬2) قال الإمام ابن كثير: هذا وعيد للذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، خرج مخرج الغالب، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة. ¬

(¬1) ابن تيمية: الصارم المسلول: 567، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 287، النووي: شرح صحيح مسلم: 16/ 326، ابن حجر: فتح الباري: 4/ 44، الحطاب: مواهب الجليل: 8/ 380، الحجاوي: الإقناع: 4/ 289، العيني: عمدة القارئ: 9/ 530، ابن حزم: المحلى: 13/ 238، ابن عثيمين: الشرح الممتع: 14/ 437، الفضيلات: أحكام الردة: 227، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان 424 (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 12/ 188

ثم قال: وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما: أنّهن كهي (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والأصح أن من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة لأن هذا منه عار وغضاضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن (¬2). فالرسول صلى الله عليه وسلم واجب الاحترام حياً وميتاً، بل جرم من تنقصه بعد موته أعظم من جرم من تنقصه في حياته، إذ يمكن في حياته العفو عمن فرط منه ذلك، وأما بعد وفاته، فالعفو متعذر، ولا ريب أن أذاه بقذف نساءه الطاهرات أعظم من أذاه بنكاحهن بعده (¬3). - وقال الله تعالى [وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ] النور26. قال الإمام ابن حزم: وكذلك القول في سائر أمهات المؤمنين ولا فرق، فكلهن مبراءات من قول إفك. - أن في سب إحدى أمهات المؤمنين، قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، لاسيما فيما يعود على دنس الفراش وفساد الأخلاق، فإن هذا من أكبر الجرائم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. القول الثاني: أن قذف إحدى أمهات المؤمنين لا يوجب الكفر ولا القتل، وإنما يستحق صاحبه اللعن والحد، وهو قول فقهاء الأحناف ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 287 (¬2) ابن تيمية: الصارم المسلول: 567 (¬3) الحطاب: مواهب الجليل: 8/ 381، الفضيلات: أحكام الردة: 227

والمالكية ورواية عن أحمد والشافعية. واحتجوا بما يلي: - لا يوجد نص في تكفير من قذقهم كما وجد في أم المؤمنين رضي الله عن الجميع. - وقالوا: يفرق في وقوع ذلك القذف في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وقالوا: ويتجه أن محل كون قذف إحدى نسائه الطاهرات غير عائشة في حياته خاصة، لتنقيصه عليه الصلاة والسلام، ولما فيه من الغضاضة والعار عليه الصلاة والسلام، وهذا مفقود بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. قال القاضي عياض: سبّ آل النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه، وتنقصهم حرام ملعون فاعله، مشهور مذهب مالك في هذا، الاجتهاد والأدب الموجع (¬1). وقال الإمام النووي: وسب أحدهم من المعاصي الكبائر، ومذهبنا مذهب الجمهور، أنه يعزر ولا يقتل (¬2). وقال الإمام ابن نجيم: ويكفر بقذفه عائشة من نسائه فقط (¬3). والراجح - والعلم عند الله - القول الأول: وهو أن قذف إحدى أمهات المؤمنين كقذف عائشة: ¬

(¬1) المواق: حاشية المواق مع مواهب الجليل: 8/ 385، 380 (¬2) النووي: شرح مسلم: 16/ 236، الشوكاني: فتح القدير: 3/ 168 (¬3) ابن نجيم: البحر الرائق: 5/ 196

وذلك أن المقذوفة زوج النبي صلى الله عليه وسلم والله جل وعلا إنما غضب لها؛ لأنّها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي وغيرها منهن سواء. وكما أن جميع أمهات المؤمنين فراش للنبي صلى الله عليه وسلم والوقيعة في أعراضهن تنقص ومسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ومن المعلوم أن سب المصطفى عليه الصلاة والسلام كفر وخروج من الملة بالإجماع (¬1). وهذا فيما يتعلق بقذفهن، أما ما يتعلق بسبهنّ من غير جنس القذف، الذي لا يوجب الطعن في دينهن وعدالتهن، فالقول فيه كالقول في عائشة رضي الله عن الجميع. مبحث في سب فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم: أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني) (¬2). قال الإمام العيني: واستدل به البيهقي على أن: من سبها فإنه يكفر (¬3). وقال الحافظ ابن حجر: استدل به السهيلي على أن من سبها فإنه يكفر، وتوجيهه: أنّها تغضب ممن سبها، وقد سوّى بين غضبها وغضبه، ¬

(¬1) مراجع سابقة، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان: 425، الفضيلات: أحكام الردة: 228 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة في باب مناقب فاطمة عليها السلام (3767) (¬3) العيني: عدة القارئ: 11/ 489

ومن أغضبه صلى الله عليه وسلم يكفر وفي هذا التوجيه نظر لا يخفى (¬1). قلت: والصحيح - والعلم عند الله تعالى - دخول فاطمة رضي الله عنها في جملة القول فيمن سبّ بقية الصحابة رضي الله عنهم غير أمهات المؤمنين. جاء في حاشية الدسوقي: ومن قال قبيحا ًلأحد ذريته شدد عليه بالضرب والسجن والقيود ولم يقتل. قيل: وانحصرت ذريته في أولاد فاطمة الزهراء، وأما آل البيت من غيرها مع العلم بِهم، فالظاهر أنه كذلك (¬2). ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 132 (¬2) الدسوقي: حاشية الدسوقي: 4/ 482

المبحث الثاني سب بقية الصحابة رضي الله عنهم

المبحث الثاني سبّ بقية الصحابة رضي الله عنهم وينقسم هذا المبحث إلى قسمين: 1. في سبّ الشيخين: وهما أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. 2. في سبّ بقية الصحابة رضي الله عنهم. [1] في سب الشيخين: تمهيد: أي أمة هذه الأمة التي لا تعرف للشيخين فضلهما ومنزلتهما ومكانتهما، فحبهما ومعرفة فضلهما من السنة، بل فريضة ومن جهل فضلهما فقد جهل السنة، ولذا قال الإمام عبد الله بن المبارك لما سئل عن الجماعة قال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن هنا قال الإمام مالك: كان السلف يعلّمون أولادهم حب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كما يعلّمون السورة من القرآن (¬1). فهما من أفضل الصحابة رضي الله عنهم وأجلهم قدراً، وأعظمهم منزلة، مع أن حب الصحابة رضي الله عنهم كلهم من السنة. ¬

(¬1) انظر: اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1312

قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم (¬1). قال الإمام الشافعي: أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي (¬2) ولفضلهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم في تصديق أمر الغيب في قصة الراعي في غنمه مع الذئب: فإني أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب (¬3). قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما اطلع عليه من غلبة صدق إيمانهما وقوة يقينهما، وهذا أليق بدخوله في مناقبهما (¬4). وعن أنس بن مالك حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بِهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدان) (¬5). وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه كثيراً ما يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ذهبت أنا ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في صحيحه في كتاب فضائل باب فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم (3655) (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 21 (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم" لو كنت متخذا خليلاً " (3663) (¬4) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 33 (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الفضائل باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذاً خليلاً " (3675)

وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر) (¬1). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا) (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وفي السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) ولم يجعل هذا لغيرهما، بل ثبت عنه أنه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي .. ) فأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين، وهذا يتناول الأئمة الأربعة، وخص أبو بكر وعمر بالاقتداء بِهما، ومرتبة المقتدي به في أفعاله وفيما سنه للمسلمين، فوق سنة المتبع فيما سنه فقط، وفي صحيح مسلم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا معه في سفر فقال: (إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا)، وقد ثبت عن ابن عباس أنه كان يفتي من كتاب الله، فإن لم يجد فبما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد أفتى بقول أبي بكر وعمر، ولم يكن يفعل ذلك بعثمان وعلي رضي الله عنهم، ويقول: وأيضاً فأبو بكر وعمر كان اختصاصهما بالنبي صلى الله عليه وسلم فوق اختصاص غيرهما، وأبو بكر كان أكثر اختصاصاً. ثم قال: وفي الصحيحين وغيرهما: أنه لما كان يوم أحد، قال أبو سفيان: - لما أصيب المسلمون - أفي القوم محمد ..... ، قال: فهذا أمير الكفار في تلك الحال إنما سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر دون غيرهم، لعلمه بأنّهم رؤوس ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الفضائل باب مناقب عمر بن الخطاب (3685) (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب المساجد باب قضاء الصلاة الفائتة (681)

المسلمين: النبي صلى الله عليه وسلم ووزيراه ولهذا لما سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فقال: منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته. وكثرة الاختصاص والصحبة مع كمال المودة والائتلاف والمحبة والمشاركة في العلم والدين، تقتضي أنهما أحق بذلك من غيرهما، وهذا ظاهر بيّن لمن له خبرة بأحوال القوم (¬1). وقد سئل الإمام مالك: أي الناس أفضل بعد نبيهم؟ فقال: أبو بكر وعمر ثم قال: أفي ذلك شك (¬2). وقال عبد الله بن أحمد، سألت أبي عن الشهادة لأبي بكر وعمر أنّهما في الجنة؟ فقال: نعم، اذهب إلى حديث سعيد بن زيد (¬3). ولذا قال طلحة بن مصرف: كان يقال: بغض بني هاشم نفاق، وبغض أبي بكر وعمر نفاق، والشاك في أبي بكر كالشاك في السنة. وقال جعفر بن محمد: برئ الله ممن برئ من أبي بكر وعمر. وأخرج الإمام اللالكائي: أنه ما سب أبا بكر وعمر أحد إلا مات قتلاً أو فقراً. فإذا كان هذا هو شأن الشيخين؛ وهذه منزلتهما ومكانتهما، فلا قدست أمة تطعن فيهما، وتحط من أقدارهما، وتنتقص مقامهما، وتزدري ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى:4/ 399 - 403، ابن تيمية: مختصر منهاج السنة: 1/ 363 (¬2) المازري: المعلم بفوائد مسلم: 3/ 138 (¬3) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 57

سيرهما. ونقول فيهما ما قاله أئمة أهل البيت، فقد سُئل عنهما عبد الله بن الحسن فقال: صلى الله عليهما، ولا صلى الله على من لا يصلي عليهما (¬1). وبعد هذا التطواف مع العمرين يرد السؤال: ما حكم سب الشيخين: اختلف العلماء في حكم سب الشيخين على رأيين: الأول: أن من طعن في الشيخين فإنه يكفر، وهو قول جماهير أهل العلم. قال العلامة ابن نجيم: والردة لسب الشيخين أبي وعمر، وقد صرح في الخلاصة والبزازية، بأن الرافضي إذا سب الشيخين وطعن فيهما كفروا، ولعنهما كافر (¬2) وذهب سحنون - الإمام العلامة - إلى ردة من طعن في الشيخين (¬3) وكذا ذهب الإمام السبكي إلى كفر من سبّ الشيخين، قال الحافظ ابن حجر: اختلف في ساب الصحابة ... ، وقال: وخص بعض الشافعية ذلك بالشيخين والحسنين فحكى القاضي حسين في ذلك وجهين، وقواه ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1337 - 1342 - 1343 - 1344، المقدسي: النهي عن سب الأصحاب:15 (¬2) ابن نجيم: البحر الرائق: 5/ 203 (¬3) الدسوقي: حاشية الدسوقي: 4/ 482

السبكي في حق من كفر الشيخين (¬1) وقال العلامة الخرشي: ومن أنكر صحبة أبي بكر أو إسلام العشرة أو إسلام جميع الصحابة، أو كفر الأربعة أو واحداً منهم كفر (¬2) وقال ابن حجر الهيثمي: من استحل لعن الشيخين وعثمان فقد استحل ما حرم الله، ومن استحل ما حرم الله تعالى كفر (¬3) الثاني: أن ساب الشيخين لا يكفر: وهو قول بعض فقهاء الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة. قال العلامة ابن عابدين: وأما الرافضي ساب الشيخين بدون قذف للسيدة عائشة، ولا إنكار لصحبة الصديق، ونحو ذلك فليس بكفر، فضلاً عن عدم قبول التوبة، بل هو ضلالة وبدعة (¬4) وفي حاشية الدسوقي: كلام السيوطي في شرح مسلم يفيد: عدم كفر من كفّر الأربعة، وأنه المعتمد، فيؤدب فقط (¬5) ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 11/ 42 - 12/ 313 (¬2) الخرشي: حاشية الخرشي: 8/ 274 (¬3) ابن حجر الهيثمي: الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة: 1/ 137 (¬4) ابن عابدين: حاشية ابن عابدين: 6/ 378 (¬5) الدسوقي: حاشية الدسوقي: 4/ 482

وقال العلامة الرملي: ولا يكفر بسب الشيخين أو الحسن والحسين (¬1) وقال العلامة العدوي: من كفر بعضهم ولو الخلفاء الأربعة، فالراجح عدم كفره (¬2) الترجيح: نستخلص من مجموع النصوص السابقة ما يلي: 1) أن من أن أنكر صحبة الصديق رضي الله عنه خاصة، فإنه يكفر باتفاق أهل العلم. وقد نقل الإمام ابن القطان الاتفاق، فقال: من أنكر صحبة أبي بكر فإنه يكفر؛ لأنه تكذيب للقرآن (¬3) وقد تواردت وتواترت نصوص الأئمة على بيان هذا الحكم. وهل يلحق بالصديق في إنكار الصحبة بقية الأربعة (عمر وعثمان وعلي)؟ ذهب بعض العلماء إلى أن إنكار صحبة غير أبي بكر الصديق لا يكفر به؛ لأن صحبتهم لم تثبت بالنص، كما ثبتت لأبي بكر الصديق (¬4). ¬

(¬1) الرملي: نهاية المحتاج: 7/ 416، القليوبي: حاشية القليوبي: 4/ 268، النووي: شرح مسلم: 16/ 326 (¬2) انظر: العدوي: حاشية العدوي مع شرح الجزشي: 8/ 247، الحطاب: مواهب الجليل: 8/ 386 (¬3) ابن القطان: الإقناع في مسائل الإجماع: 2/ 353 (¬4) الرملي: نهاية المحتاج مع حاشية البراملي: 7/ 416

قلت: الحكم في التكفير، وإلا فإن من جحد صحبتهم فإنه جاحد مكابر ضال مبتدع، مما ذكرنا من نصوص السنة المستفيضة في إثبات صحبتهم، بل نص بعض أهل العلم: على أن سب واحد منهم من حيث هو صحابي، أنه كفر، لأنه استخفاف بالصحبة فيكون استخفافاً به (¬1). 2) أن سب الشيخين فيه تفصيل، وهو جمع بين الأقوال، فيقال: أ. أن من سبّهم سباً يقدح في عدالتهم ودينهم، فهذا يعد كفراً مخرجاً من الملة، لأنه يتضمن تكذيب للأحاديث الشريفة الدالة على فضلهم ومكانتهم وتزكيتهم، ولذا يقول شيخ الإسلام بان تيمية: ومن ظن أن هذا السب لا يعد كفرا فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع (¬2). وعلى هذا الوجه يُحمل قول الإمام مالك حينما قال: من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال: كانوا على ضلال وكفر قتل، إن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً (¬3). وقال الإمام ابن كثير: [لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ]: ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه الله في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون ¬

(¬1) الهيثمي: الصواعق المحرقة: 1/ 137 (¬2) ابن تيمية: الصارم المسلول: 571 - 589، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان: 420 (¬3) القاضي عياض: الشغال بتعريف حقوق المصطفى: 2/ 1108، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان: 421

الصحابة رضي الله عنهم، قال: لأنّهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك (¬1). وذكر عند الإمام مالك بن أنس رجل ينتقص الصحابة، فقرأ مالك هذه الآية وقال: من أصبح بين الناس في قلبه غيظ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية (¬2). وكذا يحمل ما روي عن الإمام أحمد حينما سئل عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة، فقال: ما أراه على الإسلام. وسئل عمن يشتم عثمان، فقال: هذه زندقة، بأن هذا محمول على ما إذا طعن في عدالتهم ودينهم أو استحل سبهم (¬3) ب. أن يسبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ودينهم، كمن وصفهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم، فهذا يستحق التأديب والتعزير، ولا يحكم بكفره، وعلى هذا الوجه يحمل كلام الأئمة الذين ذهبوا إلى عدم تكفيرهم. وعليه يُحمل كلام الإمام مالك حينما قال: من سب الصديق جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: ولم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن. فهذا القول منه رحمه الله يحمل على من سب الصديق سباً لا يقدح في عدالته ودينه. ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 219 (¬2) أبو حيان: البحر المحيط: 9/ 503، السيوطي: الإكليل: 3/ 1243 (¬3) آل عبد اللطيف: مرجع سابق: 416

وكذا يحمل كلام الإمام أحمد حينما سئل عمن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرى أن يضرب، وقال: ما أراه إلا على الإسلام (¬1) قلت: ومع ذلك فإن شواهد التاريخ وكلام الأئمة يدل على تسليط سيف الحق على ساب الشيخين: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر وعمر لا في فقه ولا علم ولا غيرهما، بل كل شيعته الذين قاتلوا معه عدوه كانوا مع سائر المسلمين يقدمون أبا بكر، طائفة غلت فيه كالتي ادعت فيه الإلهية، وهؤلاء حرقهم علي بالنار، وطائفة كانت تسب أبا بكر، وكان على رأسهم عبد الله بن سبأ، فلما بلغ ذلك طلب قتله فهرب، وطائفة كانت تفضله على أبي بكر وعمر، قال: لا يبلغني من أحد منكم أنه فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري (¬2). وكذا فإن الإمام المقدام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلغه أن ابن السوداء تنقص أبا بكر وعمر، فدعا به وبالسيف، فهمّ بقتله، فكلم فيه فقال: لا يساكني بلداً أنا فيه، فنفاه إلى الشام. وأن ابن عبد الرحمن بن أبزى سأل أباه عبد الرحمن فيمن سب أبا بكر ما كنت تصنع به؟ قال: كنت أضرب عنقه، قلت: فعمر، ¬

(¬1) الفضيلات: أحكام الردة: 234 (¬2) ابن تيمية: الفتاوى الكبرى: 4/ 436

قال: أضرب عنقه (¬1). وقد بلغ علياً أن رجلاً سب أبا بكر وعمر، فبعث إليه فأتاه، قال: فجعل يعرض له بعيبهما ففطن فقال أما والذي بعث محمداً بالحق، لو سمعت منك بلغني أو ثبتت عليك بينه، لألقيت أكثرك (¬2). وقيل لمحمد بن يوسف الفريابي: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: قد فضلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبرني رجل من قريش أن بعض الخلفاء أخذ رجلين من الرافضة فقال لهما: والله لئن لم تخبراني بالذي يحملكما على تنقص أبي بكر وعمر لأقتلنكما فأبيا، فقدم أحدهم فضرب عنقه، ثم قال للآخر: والله لأن لم تخبرني لألحقنك بصاحبك، قال: فتؤمني؟ قال له: نعم، قال: فإنا أردنا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: لا يتابعنا الناس عليه فقصدنا قصد هذين الرجلين فتابعنا الناس على ذلك. قال محمد بن يوسف: ما أرى الرافضة والجهمية إلا زنادقة (¬3). قال الإمام ابن كثير: وفي صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين منه قتل بسوق الخليل: حسن ابن الشيخ السكاكيني على ما ظهر منه من الرفض الدال على الكفر المحض، شهد عليه عند القاضي شرف الدين المالكي بشهادات كثيرة، تدل على كفره، وأنه رافضي جلد، فمن ذلك تكفير ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1336، المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 9 (¬2) المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 9 (¬3) اللالكائي: مرجع سابق: 8/ 1544

الشيخين، رضي الله عنها، وقذفه أمّي المؤمنين عائشة وحفصة، رضي الله عنهما، وزعم أن جبريل غلط فأوحى إلى محمد، وإنما كان مرسلاً إلى علي، وغير ذلك من الأقوال الباطلة القبيحة قبحه الله، وقد فعل (¬1). وقال رحمه الله تعالى: في يوم الاثنين عشر من جمادي الأولى، اجتاز رجل من الروافض من أهل الحلة بجامع دمشق، وهو يسبّ أول من ظلم آل محمد، ويكرر ذلك لا يفتر، ولم يصل مع الناس، ولا صلى على الجنازة الحاضرة، على أن الناس في الصلاة، وهو يكرر ذلك ويرفع صوته به، فلما فرغنا من الصلاة نبهت عليه الناس فأخذوه، وإذا قاضي القضاة الشافعي في تلك الجنازة حاضر مع الناس، فجئت إليه واستنطقته، من الذي ظلم آل محمد؟ فقال: أبو بكر الصديق ثم قال جهرة والناس يسمعون: لعن الله أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية ويزيد، فأعاد ذلك مرتين، فأمر به الحاكم إلى السجن، ثم استحضره المالكي، وجلده بالسياط، وهو مع ذلك يصرخ بالسب واللعن، والكلام الذي لا يصدر إلا عن شقي، واسم هذا اللعين: علي بن أبي الفضل بن محمد بن حسين بن كثير، قبحه الله وأخزاه، ثم لما كان يوم الخميس سابع عشرة عقد له مجلس بدار السعادة، وحضر القضاة الأربعة وطلب إلى هنالك، فقدر الله أن حكم نائب المالكي بقتله، فأخذ سريعاً فضرب عنقه تحت القلعة، وحرقه العامة، وطافوا برأسه البلد، ونادوا عليه، هذا جزاء من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 14/ 228

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج كالحرورية والروافض ونحوهم فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أنه يجوز قتل الواحد فيهم، كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد، ثم قال: فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا، ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول، أو كان في قتله مفسدة راجحة. وقال رحمه الله: فالرافضة لما كانت تسب الصحابة صار العلماء يأمرون بعقوبة من سب الصحابة (¬1). قال الفريابي: سمعت رجلا يسأل أحمد عمن شتم أبابكر قال: كافر، قال: فيصلى عليه؟ قال: لا، وسألته، كيف يصنع به وهو يقول (لا إله إلا الله) قال: لا تمسوه بأيديكم، ارفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته. وقد سأله بعض الناس عن جار رافضي يسلم علي، أرد عليه؟ قال: لا. قلت: كيف لا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم صل على أبي بكر، فإنه يحبك ويحب رسولك) أخرجه الخلال في السنة بسند صحيح. (¬2) أضف إلى هذا أن جماعة من أهل العلم نصوا على أنه لا يصلى خلف من بسب الشيخين، فسئل الإمام الثوري: يصلى خلف من يسب الشيخين ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 14/ 268، مجموع الفتاوى: 3/ 409، 28/ 499. (¬2) الخلال: السنة:2/ 309، 3/ 494، 499.

أبا بكر وعمر؟ قال: لا. وسئل الإمام أبو إسحاق السبيعي: ما ترى في الصلاة خلف من يسب أبا بكر وعمر؟ قال: ألست تجد غيرهم؟ قلت: بلى، قال: لا تصلي خلفهم (¬1). فالشواهد أكثر من أن تحصر، فلو لم يكن سبهما موجباً للقتل، فلا أقل من حكم تعزير يقاربه ويصل إليه. [2] في سب بقية الصحابة رضي الله عنهم: يتلخص حكم هذه المسألة في النقاط التالية: أ/ أن من كفّر الصحابة كلهم، فإنه يكفر، لأنه أنكر معلوماً من دين الله بالضرورة، وكذب الله ورسوله. (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما من جاوز ذلك، كمن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب أيضاً في كفر قائل ذلك بل من شك في كفره فهو كافر (¬3). ب/ وكذا من سب صحابيا مستحلا سبهم كفر. قال الإمام القرطبي: ولا يختلف في أن من قال: إنّهم كانوا على كفر ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1545 (¬2) الخرشي: حاشية العدوي مع شرح الخرشي: 8/ 274 (¬3) ابن مفلح: المبدع: 4/ 470

وضلال، كافر يقتل؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين فقد كذب الله ورسوله (¬1). وقال الإمام النووي: وحديث: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) تعلقت به الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة، في أن الخلافة كانت حقاً لعلي، وأنه وصي له بِها، ثم اختلف هؤلاء: فكفرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره، وزاد بعضهم نكفر عليا، لأنه لم يقم في طلب حقه بزعمهم، وهؤلاء أسخف مذهباً، وأفسد عقلاً من أن يرد قولهم، أو يناظر. وقال القاضي: ولا شك في كفر من قال هذا، لأن من كفر الأمة كلها، والصدر الأول فقد أبطل نقل الشريعة، وهدم الإسلام (¬2). وقال الإمام ابن حجر الهيثمي: سب جميعهم لا يشك أنه كفر، وكذا سب واحد منهم من حيث هو صحابي، لأنه استخفاف بالصحبة، فيكون استخفافاً به (¬3). ج/ أن يسبهم بما لا يقتضي كفرهم، ولا قدحاً في عدالتهم ودينهم، فهذا على قسمين: (1) أن يكون سبهم قذفاً لهم، فإن كان سبهم قذفاً، يوجب الحد، حد حدة ثم ينكل به التنكيل الشديد من الحبس والتخليد فيه والإهانة. ¬

(¬1) انظر: الحطاب: مواهب الجيل: 8/ 380 (¬2) النووي: شرح مسلم: 15/ 183 (¬3) ابن تيمية: الصارم المسلول: 573، ابن عثيمين: مجموع فتاوى ورسائل: 5/ 84

قال الإمام أحمد: لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب أو نقص، فمن فعل ذلك، أدب، فإن تاب وإلا جلد في الحبس حتى يموت أو يرجع (¬1). (2) أن يكون سبهم بغير القذف، كأن يصفهم بالجبن أو البخل أو قلة العلم أو عدم الزهد، فهذا يعزر بما يردعه عن ذلك، فيجلد الجلد الموجع، وينكل التنكيل الشديد. قال ابن حبيب: يخلد في السجن إلى أن يموت (¬2). د/ أن يسبهم باللعن والتقبيح: فهذا مما اختلف العلماء في كفره أو فسقه: فتوقف الإمام أحمد في كفره وقتله، وقال: يعاقب ويجلد ويحبس حتى يموت أو يرجع عن ذلك، وهو المشهور من مذهب الإمام مالك. وقيل: يكفر إن استحله. وهو خلاصة كلام الإمام العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3). قلت: وعلى هذا التفصيل يحمل ما ورد عن السلف رضي الله عنهم وأهل العلم في التعامل مع ساب ومنتقص الصحابة: ¬

(¬1) ابن تيمية: الصارم المسلول: 573، ابن عثيمين: مجموع فتاوى ورسائل: 5/ 84 (¬2) الحطاب: مواهب الجليل: 8/ 380 (¬3) الحجاوي: الإقناع: 4/ 289، ابن عثيمين: مرجع سابق: 5/ 84، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 35/ 58

فقد يكون التعزير هجراً، كما فعل جرير بن عبد الله، وحنظلة، وعدي بن حاتم، فانتقلوا من الكوفة إلى قرقيسيا، وقالوا: لا نقيم ببلدة يشتم فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه (¬1). قال الإمام مالك: لا ينبغي الإقامة بأرض يكون العمل فيها بغير الحق، والسب للسلف، وقد انتقل العالم المالكي محمد بن نظيف البزار حيث خرج من إفريقية هرباً إلى المشرق لما ظهر فيها من سب السلف (¬2). قال ابن كثير: وقد كان الخرقي هذا من سادات الفقهاء والعباد، كثير الفضائل والعبادة خرج من بغداد مهاجراً لما كثر بِها الشر، والسب للصحابة رضي الله عنهم (¬3). ولما بلغ علياً أن عبد الله بن الأسود ينتقص أبا بكر وعمر، فهمّ بقتله، فقيل له: أتقتل رجلاً يدعو إلى حبكم أهل البيت، فقال: لا يساكني في دار أبداً. وفي لفظ: لا يساكني ببلد أنا فيه، فنفاه إلى الشام (¬4). وقد يكون التعزير ضرباً: كما ضرب الإمام عمر بن عبد العزيز من ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1337 (¬2) الشتري: الله أكبر في الذب عن الصديق الأكبر: 7 - 8 (¬3) ابن كثر: البداية والنهاية: 11/ 227 (¬4) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1336

شتم عثمان ثلاثين سوطاً، وضرب من سبّ معاوية أسواطاً (¬1) وهو محمول على ما لا يوجب قدحاً في عدالة الصحابة أو دينهم - على ما سبق -. وقد أفتى الإمام مالك: بأن من سب الصحابة رضي الله عنهم أنه لا سهم له من الفيء مع المسلمين (¬2). وروي أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ] حتى بلغ [لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ]، فقال مالك: من أصبح من الناس وفي قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. قال الإمام القرطبي: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله، فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين. ثم قال: وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم، ومآل أمرهم، ثم قال: فهو - عقبة بن عامر الجهني - ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجراً عظيماً، فمن نسبه أو واحداً من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة مبطل للقرآن، طاعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ألحق واحد منهم تكذيباً فقد سب، لأنه عار، ولا عيب بعد الكفر بالله أعظم من ¬

(¬1) اللالكائي: مرجع سابق: 7/ 1337 (¬2) اللالكائي: مرجع سابق: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 18/ 31

الكذب، وقد لعن رسول الله من سب أصحابه، فالمكذب لأصغرهم - ولا صغير فيهم - داخل في لعنة الله التي شهد بِها رسول الله صلى الله عليه وسلم وألزمها كل من سب واحدا ًمن الصحابة أو طعن عليه (¬1). وقال رحمه لله في موضع آخر: وهذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحداً منهم أو اعتقد فيه شراً إنه لا حق له في الفيء روي ذلك عن مالك وغيره (¬2). وقال الإمام ابن كثير: وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة: أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب، لعدم اتصافه فيما مدح الله به هؤلاء قولهم [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] (¬3). قلت: ومع كون هذا السب للصحابة الكرام رضي الله عنهم تكذيب صريح للقرآن الكريم وللسنة النبوية المطهرة، وتنقص لجناب المولى سبحانه وتعالى، وتنقيص من حق المصطفى بل وطعن فيه، وهدم للشريعة، مع ذلك فإن القوم مافتئوا يسبون ويلعنون سراً وجهاراً حتى وقعت بسببه فتن ¬

(¬1) القرطبي: مرجع سابق: 16/ 252 (¬2) القرطبي: مرجع سابق: 18/ 30 (¬3) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 363.

عظيمة. قال الإمام ابن كثير: وقعت فتنة عظيمة بين أهل أصبهان وأهل قم، بسبب سبّ الصحابة من أهل قم، فثاروا عليهم أهل أصبهان وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ونهبوا أموال التجار، فغضب ركن الدولة لأهل قم، لأنه كان شيعياً، فصادروا أهل أصبهان بأموال كثيرة (¬1). وكان هذا في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، وتوالت بعدها سنين الفتن بسبب سب الصحابة الكرام والوقوع في أعراضهم، فقال رحمه الله: ودخلت سنة ست وأربعين وثلاثمائة وفيها: وقعت فتن بين أهل الكرخ وأهل السنة، بسبب السب (¬2). ودخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة وفيها: كانت فتن بين الرافضة وأهل السنة، وقتل فيها خلق كثير (¬3) وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة: وقعت فيها فتن عظيمة بين أهل البصرة، بسبب السب أيضاً. (¬4). بل وصل الأمر لأشد من ذلك، فقد كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد: لعنة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وكتبوا أيضاً: لعن الله من ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 244 (¬2) ابن كثير: مرجع سابق: 11/ 246 (¬3) ابن كثير: مرجع سابق: 11/ 248 (¬4) ابن كثير: مرجع سابق: 11/ 257

غصب فاطمة حقها. وكانوا يلعنون أبا بكر، ومن أخرج العباس من الشورى، يعنون عمر ومن نفى أبا ذر، يعنون عثمان رضي الله عنهم. وكذا كتب لعن الشيخين على أبواب الجوامع والمساجد، ولم تزل كذلك، حتى أزالت ذلك دولة الأتراك والأكراد نور الدين الشهيد صلاح الدين بن أيوب (¬1). هذا كله، مع ما يحصل في أيام أعيادهم وأحزانِهم من بدع وسب وشتم ولعن، فهذا كله جعل بعض أهل السنة محبي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يهبون وينهضون للذب عنهم، والدفاع عن جنابهم الطاهر. فهذا الخليفة القادر بالله: من خيار الخلفاء: وسادات العلماء في ذلك الزمان، صنف قصيدة فيها فضائل الصحابة وغير ذلك، فكانت تقرأ في حلق أصحاب الحديث كل جمعة في جامع المهدي، وتجتمع الناس لسماعها مدة خلافته (¬2). ولما ألف بعض الباحثين كتاباً سماه "البلاغ الأعظم والناموس الأكبر" وجعله ست عشرة درجة، أول درجة يدعو من يجتمع به أولاً، إن كان من أهل السنة، إلى القول بتفضيل علي على عثمان بن عفان، ثم ينتقل به إذا وافقه على ذلك إلى تفضيل علي على الشيخين أبي بكر وعمر، ثم يترقى به إلى سبهما؛ لأنّهما ظلما علياً وأهل البيت، ثم يترقى به إلى تجهيل الأمة ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 256 - 284 (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 331

وتخطئتها في موافقة أكثرهم على ذلك، ثم يشرع في القدح في دين الإسلام من حيث هو. لذا تصدى لهم علماء ذلك الزمان، فرد عليه الإمام أبو بكر الباقلاني المتكلم المشهور في كتابه ... " هتك الأستار وكشف الأسرار " في الرد على الباطنية، وكذا بين مذهبهم وبسطه الإمام ابن الجوزي (¬1). قال الإمام ابن كثير: وقد صنف القاضي الباقلاني كتابًا في الرد على هؤلاء وسماه " كشف الأسرار وهتك الأستار" بين فيه فضائحهم وقبائحهم ووضح أمرهم لكل أحد، ووضوح أمرهم ينبئ عن مطاوي أفعالهم وأقوالهم، وقد كان الباقلاني يقول في عبارته عنهم: هو قوم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض (¬2). وكان من جملة ما صدر عن المناهضين للذب عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم: أن وصل الحال ببعضهم إلى الدعاء إلى الجهاد في سبيل الله على من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: ولكن هذا مما يختص به الإمام الأعظم، فليس لأحد أن ينفرد عن جماعة المسلمين بإقامة الحدود بنفسه دون إذن الإمام أو نائبه. ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 66 - 371 (¬2) ابن كثير: مرجع سابق: 12/ 101 - 11/ 277

وكان من نتائج السباب واللعن لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ما ذكره الإمام ابن كثير: أنه في سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، خرج التوقيع بكفر من سب الصحابة وأظهر البدع. وكان أيضا من نتائج هذا السباب: فرح بعض أهل السنة بموت أهل البدع المشهورين بسب الصحابة. وفيه يقول الإمام ابن كثير: كان ابن النقيب من أئمة السنة، وحين بلغه موت ابن المعلم -فقيه الشيعة - سجد لله شكراً، وجلس للتهنئة وقال: ما أبالي أي وقت مت بعد أن شاهدت ابن المعلم (¬1). ومما يجدر التنبيه عليه في ختام المبحث الإشارة إلى ماذكره الإمام القرطبي في قوله: وأما من أبغض - والعياذ بالله - أحداً منهم من تلك الجهة، لأمر طارئ من حدث وقع لمخالفة غرض، أو لضرر ونحوه لم يصر بذلك منافقاً ولا كافراً فقد وقع بينهم حروب ومخالفات ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه - أيضاً - للعلماء قولان مشهوران: هما روايتان عن أحمد، والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، والصحيح: أن هذه الأقوال التي يقولونها يعلم أنّها مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كفر، وكذلك ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق: 12/ 20 - 11/ 363

أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضاً، لكن تكفير الواحد المعين منهم، والحكم بتخليده في النار، موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد، والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له (¬1). والخلاصة أن القوم بين عمر والرازي: فأما عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لما شتم ابنه عبيد الله، المقداد همّ عمر بقطع لسانه، فكلمة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ذروني أقطع لسان ابني، حتى لا يجترئ أحد من بعدي، فيسب أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبداً (¬2). وأما الإمام أبو زرعة الرازي فقد قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بِهم أولى، وهم زنادقة (¬3). (تتمة): بعد خوض غمار السباب واللعن نشير إلى مسألتين تحتاج إلى ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 28/ 500 (¬2) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1336 (¬3) الخطيب: الكفاية: 49

بيان: 1 - تكفير الخوارج للصحابة، وبيان حكمهم. 2 - توبة ساب الصحابة. 1 - فيما يتعلق بتكفير الخوارج للصحابة: فقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، واستحلال دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربّهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكذلك الخوارج، قد كفّروا عثمان وعلياً، وجمهور المسلمين من الصحابة والتابعين، فكيف يزعمون أنّهم على مذهب السلف؟ (¬1). وقال رحمه الله: كما ذكرنا أن هؤلاء الرافضة المحاربين شر من الخوارج، وكل من الطائفتين انتحلت إحدى الثقلين لكن القرآن أعظم، فلهذا كانت الخوارج أقل ضلالاً من الروافض مع أن كل واحدة من الطائفتين مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ومخالفة لصحابته وقرابته، ومخالفون لسنة خلفائه الراشدين، ولعترته أهل بيته (¬2). ومن ثم قال: فإن الأئمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم، وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين في مذهب مالك وأحمد، وفي ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 153 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى:28/ 493

مذهب الشافعي، أيضاً نزاع في كفرهم (¬1). وقال رحمه الله: والخوارج هم أول من كفر المسلمين، يكفرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله (¬2). وقال: وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بذمهم. خرّج مسلم في صحيحه حديثهم من عشرة أوجه، وخرجه البخاري من عدة أوجه، وخرجه أصحاب السنن والمسانيد أكثر من ذلك (¬3). وقد اختلف العلماء في تكفير الخوارج على قولين: القول الأول: أنّهم بغاة فساق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم؛ لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفير المسلمين، مستندين إلى تأويل فاسد جرهم إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك، وهو قول الأكثر من أهل العلم. القول الثاني: أنّهم كفار كالمرتدين، يجوز قتلهم ابتداءً، وقتل أسيرهم، وإتباع مدبرهم، ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد، فإن تاب وإلا قتل، ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى:28/ 518 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى:3/ 279 (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 500

واحتجوا بالأحاديث الواردة فيهم (¬1). والراجح - والعلم عند الله تعالى -: القول الأول، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين على أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي وسعد وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، لا لأنّهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم (¬2). وقال في موضع آخر: فكلام علي وغيره في الخوارج يقتضي أنّهم ليسوا كفاراً كالمرتدين عند أهل الإسلام، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره، وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين، بل هم نوع ثالث، وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم (¬3). (2): في توبة ساب الصحابة رضي الله عنهم: هل لمن سب الصحابة رضي الله عنهم ووقع في أعراضهم من توبة؟ اختلف الفقهاء في قبول توبة ساب الشيخين: ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 3/ 282، اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1303، ابن قدامة: المغني: 12/ 276، ابن حجر: فتح الباري: فتح الباري: 12/ 276، ابن عابدين: 7/ 1303، 6/ 377، عواجي: فرق معاصرة: 1/ 121 (¬2) ابن تيمية: مرجع سابق: 3/ 282 (¬3) ابن تيمية: مرجع سابق: 28/ 518

فقال بعضهم: لا تقبل توبته، وهذا مروي عن أبي الليث والدبوسي من فقهاء الأحناف، قالوا: حيث لا تقبل توبته علم أن سب الشيخين كسب النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يفيد الإنكار مع البينة (¬1). وقال الآخرون: تقبل توبته، وهو قول الجماهير، وهو الصواب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب الذي عليه أئمة المسلمين أن كل من تاب، تاب الله عليه .. وليس سب بعض الصحابة بأعظم من سب الأنبياء، أو سب الله تعالى، واليهود والنصارى الذي يسبون نبينا سراً بينهم، إذا تابوا وأسلموا قُبل ذلك منهم، باتفاق المسلمين، والحديث الذي يروى: " سب أصحابي ذنب لا يغفر " كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والشرك الذي لا يغفره الله، يغفره لمن تاب باتفاق المسلمين، وما يقال إن في ذلك حق لآدمي، يجاب عنه من وجهين: 1 - أن الله تعالى قد أمر بتوبة السارق والملقب ونحوهما من الذنوب التي تعلق بِها حقوق العباد .. ومن توبة مثل هذا: أن يعوض المظلوم من الإحسان إليه بقدر إساءته إليه. 2 - أن هؤلاء متأولون، فإذا تاب الرافضي من ذلك، واعتقد فضل الصحابة، وأحبهم ودعا لهم، فقد بدل الله السيئة بالحسنة كغيره من المذنبين (¬2). ¬

(¬1) ابن نجيم: البحر الرائق: 5/ 196، ابن عابدين: حاشية ابن عابدين: 6/ 376 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 258 - 541

ويقول في موضع آخر: فإذا كان الرجل قد سب الصحابة وتاب، فإنه يحسن إليهم بالدعاء لهم، والثناء عليهم بقدر ما أساء إليهم، والحسنات يذهبن السيئات، كما أن الكافر الذي كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إنه كذاب، إذا تاب وشهد أن محمدا ًرسول الله الصادق المصدوق وصار يحبه ويثني عليه ويصلي عليه كانت حسناته ماحية لسيئاته، والله تعالى [يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ] (¬1). قلت: فهذه دعوة صادقة من قلب مشفق، محب للخير أن يسود الغير، دعوة للتوبة الصادقة، لكل من يقع في أعراض الصحابة رضي الله عنهم، أقول: إن كان الوقوع في أعراض المسلمين عموماً، والطعن واللمز فيهم محرم وكبيرة وجريمة فإنّها في حق أكرم الخلق وأفضلهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبشع وأشنع، ولو لم يكن في الوقوع في أعراضهم إلا غيبة أو بُهتان، والله تعالى نهي عنهما، وزجر الواقع فيهما، لوجب اجتنابه والبعد عنه، كيف وهو يهدف لإسقاط سلاسل السند الذهبية، التي نقلت الشريعة المطهرة، والقدح في عدالتهم وديانتهم. فباب التوبة مفتوح: والله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أو تطلع الشمس من مغربِها، فأولى الناس برعاية حقوقهم هم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة، وتبرؤوا من الناصبة الذي يكفرون علي بن أبي ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 3/ 291

طالب ويفسقونه، وينتقصون بحرمة أهل البيت، مثل من كان يعاديهم على الملك، أو يعرض عن حقوقهم الواجبة، أو يغلو في تعظيم يزيد بن معاوية بغير الحق، وتبرؤوا من الرافضة الذين يطعنون على الصحابة وجمهور المؤمنين، ويكفرون عامة صالحي أهل القبلة، وهم يعلمون أن هؤلاء أعظم ذنباً وضلالاً من أولئك (¬1). وفي التاريخ صفحات مشرقة، ووجوه مسفرة، تابت وأنابت، فذكر الشريف محمد بن علي العلوي: أن أبا طالب بن عمر العلوي: كان على سب الصحابة رضي الله عنهم رافضياً، وتاب وأناب مما سبق وقال: عشت أربعين سنة أسب الصحابة أشتهي أن أعيش مثلها حتى أذكرهم بخير (¬2). وقال الإمام ابن كثير: وكان الشيخ محمد السكاكيني يعرف مذهب الرافضة جيداً، وكانت له أسئلة على مذهب أهل الخير، ونظم في ذلك قصيدة، أجابه فيها شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذكر غير واحد من أصحاب الشيخ، أن السكاكيني ما مات حتى رجع عن مذهبه، وصار إلى قول أهل السنة فالله أعلم، وأخبرت أن ولده حسناً هذا القبيح كان قد أراد قتل أبيه لما أظهر السنة. (¬3) ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 28/ 493 (¬2) انظر: أغلو في بعض القرابة وجفاء في الأنبياء والصحابة: عبد المحسن البدر: 9 (¬3) ابن كثير: البداية والنهاية: 14/ 228

الفصل الثالث مسائل متممة (شبهات وردود)

الفصل الثالث مسائل متممة (شبهات وردود) المبحث الأول: في حقيقة مسمى الصحبة: لبعض من يطعن في بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أوجها مشبوهة يستمسك بِها، ويبني عليها حكمه زوراً وبهتاناً، ومن هذه الأوجه قول بعضهم: أن وصف ومسمى الصحبة لا يثبت إلا لمن صحب النبي صلى الله عليه وسلم صحبة طويلة، وغزا معه عدة غزوات، معتمداً على قول بعض العلماء:، ويبني عليه: أن مسلمة الفتح وهم الطلقاء لا يصدق عليهم وصف الصحبة ومسماها، ولذا تجدهم يجردون بعض الصحابة كمعاوية وأبيه وغيرهما من هذا المسمى بناء على هذا الوجه، وعليه يقولون: إن الطعن فيهما وأمثالهما ليس هو طعن في الصحابة رضي الله عنهم الموجب للوعيد الشديد الوارد في السنة المطهرة. ويجاب عن هذه الشبهة في النقاط التالية: أولا: من الإنصاف القول أن مسمى الصحبة قد اختلف فيه العلماء: فذهب البعض إلى أنه لا يُعد في الصحابة إلا من صحب الصحبة العرفية، كما هو رأي عاصم الأحول، ولذا لم يعد عبد الله بن سرجس من الصحابة. وكذا روي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد من الصحابة إلا

من أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة فصاعداً أو غزا معه غزوة فصاعداً (¬1). وذهب الجاحظ كما ذكر منه: اشتراطه مع طول الصحبة، الأخذ عنه عليه الصلاة والسلام. ومنهم من اشترط البلوغ حين اجتماعه به (¬2). وقد أجاب المحققون من أهل العلم والحديث عن هذا الآراء: فقال الحافظ ابن حجر: والعمل على خلاف هذا القول؛ لأنّهم اتفقوا على عد جمع جم من الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع، ومن اشترط الصحبة العرفية أخرج من له رؤية، أو من اجتمع به لكن فارقه عن قرب، ومنهم من اشترط في ذلك أن يكون حين اجتماعه بالغاً، وهو مردود أيضاً؛ لأنه يخرج مثل الحسين بن علي ونحوه من أحداث الصحابة (¬3). وقال رحمه الله أيضاً: لا خفاء برجحان رتبة من لازمه صلى الله عليه وسلم، وقاتل معه، أو قتل تحت رايته، على من لم يلازمه، أو لم يحضر معه مشهداً، وعلى من كلمه يسيراً أو ماشاه قليلاً، أو رآه على بعد، أو في حال الطفولة، وإن كان شرف الصحبة حاصلاً للجميع، ومن ليس له سماع منه فحديثه مرسل من حيث الرواية، وهم مع ذلك معدودون في الصحابة، لما نالوه ¬

(¬1) العيني: عمدة القارئ: 11/ 381 (¬2) مرجع سابق. (¬3) ابن حجر: فتح الباري: 4/ 6

من شرف الرؤية (¬1). وقال الإمام ابن كثير: وروى شعبة عن موسى السبلاني، وأثنى عليه خيراً، قال: قلت لأنس بن مالك: هل بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد غيرك؟ قال: ناس من الأعراب رأوه، فأما من صحبه فلا. رواه بحضرة أبي زرعة. قال الحافظ ابن حجر: مع أنه كان في ذلك الوقت عدد كثير ممن لقيه من الأعراب. وقال الإمام ابن كثير: وهذا إنما نفى فيه الصحبة الخاصة، ولا ينفي ما اصطلح عليه الجمهور: أن مجرد الرؤية كان في إطلاق الصحبة، لشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلاله قدره، وقدر من رآه من المسلمين (¬2). وقال الإمام العيني: وفي كلام أبي زرعة وأبي داود، ما يقتضي أن الصحبة أخص من الرؤية، فإنّهما قالا في طارق بن شهاب: له رؤية وليست له صحبة (¬3). وقد ردّ العلماء ما ذكر عن ابن المسيب على وجهة الخصوص بما يلي: 1. إن صح عنه ما ذكر، فإنه يرد عليه باتفاق العلماء في عد جماعة من الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع. ¬

(¬1) ابن حجر: النكت على نزهة النظر: 151 (¬2) ابن كثير: الباعث الحثيث:1717، ابن حجر: فتح الباري: فتح الباري: 7/ 6 (¬3) العيني: عمدة القارئ: 11/ 381

2. أن هذا الأثر لا يصح عن ابن المسيب، لأن في الإسناد إليه محمد بن عمر الواقدي، وهو ضعيف الحديث (¬1). وبيّن الإمام الجوزي فصل الخطاب في هذا المسألة فقال: وفصل الخطاب في هذا الباب: بأن الصحبة إذا أطلقت فهي في المتعارف تنقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون الصاحب معاشراً مخالطً كثير الصحبة، فيقال: هذا صاحب فلان، كما يقال: خادمه، لكن تكررت خدمته، لا لمن خدمه يوماً أو ساعة. والثاني: أن يكون صاحباً في مجالسة، أو مماشاة ولو ساعة، فحقيقة الصحبة موجودة في حقه، وإن لم يشتهر بِها. فسعيد بن المسيب: إنما عني القسم الأول، وغيره يريد هذا القسم الثاني، وعموم العلماء على خلاف قول ابن المسيب، فإنهم عدوا جرير بن عبد الله من الصحابة، وإنما أسلم سنة عشر، وعدوا في الصحابة من لم يغزو معه، ومن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير السن، فأما من رآه ولم يجالسه ولم يماشه فألحقوه بالصحابة إلحاقاً، وإن كانت حقيقة الصحبة لم توجد في حقه (¬2). ¬

(¬1) العيني: مرجع سابق، ابن حجر، مرجع سابق، العراقي: التقييد والإيضاح: 283 (¬2) ابن الجوزي: تلقيح مفهوم أهل الأثر: 72

وما روي عن الجاحظ: وهو اشتراط الأخذ مع طول الصحبة، فقد قال العلامة ثعلب: إنه غير ثقة ولا مأمون، ولا يوجد هذا القول لغيره (¬1). ومع كونه كذلك فلا دليل لقوله: إذ فيه إخراج لكثير من المعدودين في الصحابة ممن لقوا النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنين به، وخاصة ممن أسلم يوم الفتح أو وفد عليه وبايعه (¬2). نخلص من هذا إلى أن الصحابي: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين. وقال الإمام ابن كثير: هو من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال إسلام الراوي، وإن لم تطل صحبته، وإن لم يرو عنه شيئاً وهذا قول جمهور العلماء سلفاً وخلفاً. وقال الحافظ ابن حجر: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام ولو تخللت ردة على الأصح (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وحديث أبي سعيد هذا يدل على شيئين: على أن صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: هو من رآه مؤمناً به وإن قلت صحبته، كما قد نص على ذلك الأئمة أحمد وغيره. قال مالك: من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) العيني: عمدة القارئ: 11/ 381 (¬2) انظر: عبد الرحمن الدويش، الصحابي ومؤلف العلماء من الاحتجاج بقوله: 20 (¬3) ابن حجر: فتح الباري: 4/ 6، ابن حجر: النكت على نزهة النظر: 149

سنة أو شهراً أو يوماً أو رآه مؤمناً به، فهو من أصحابه، له من الصحبة بقدر ذلك، وذلك أن لفظ الصحبة جنس تحته أنواع، يقال صحبه شهراً أو ساعة (¬1). فمن هنا: يتبيّن أن كل من ثبتت له الصحبة ولو بالرؤية ومات على ذلك، فهو صحابي له ما للصحابة من الإجلال والإكرام والتعظيم، وعليه فمسلمة الفتح، ومن أسلم من الوفود كلهم ينالهم شرف الصحبة، وتشريف الرؤية رضي الله عنهم أجمعين. قال الإمام ابن العربي: وفائدة صحبته في الدنيا الفتح، وفي الآخرة النجاة من النار. وقال رحمه الله: وشرف الصحبة في أبواب أمهاتِها ست: (الأولى): في الخلطة، وما ظنك بدرجة صاحبك فيها الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بالإتباع والإيمان. (الثانية): بالهجرة، وقد ذكر الله فضلها وأثنى عليها، وذلك مشهور، ومن ترك أهله وولده وماله في الله، فذلك ولي الله، وثاني رسول الله. (الثالثة): بالنصرة، وإنما ذكرناها معها، وإن كان البخاري قد أخرها للوجه الذي قدمناه؛ لأنا رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، وقال: الأنصار: كرشي - يعني: جماعتي - وعيبتي: يعني: موضع ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 465، 20/ 298، 35، 59 وما بعده.

سري وارفع ما عندي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حسنا): اللهم اغفر للأنصار ولأبنائهم وأبناء أبنائهم ولنسائهم. (الرابعة) القرابة: قال الله تعالى [قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] قال ابن عباس: يعني: قريشاً، وهم بنو النضر، وقال أبو بكر الصديق في الصحيح: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي. وقال أبو بكر: ارقبوا محمداً في أهل بيته " وهم آل علي وأزواجه صلى الله عليه وسلم ". (الخامسة) البدرية: لقوله في أهل بدر (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). (السادسة) الرضوانية: لما قال الله فيهم [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ] (السابعة) الزوجية: لأن مبرتهم والإحسان إليهم، كالإحسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكمبرته. قال تعالى [وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ]، وحرمته باقية عليهم لبقاء زوجيته فيهم (¬1). قلت: ولقد تكلم العلماء عن طرق ثبوت مسمى الصحبة، وذكرا لذلك عدة أوجه: ¬

(¬1) ابن العربي: عارضة الأحوذي: 13/ 123

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والطريق التي تعلم بِها صحبته، هي الطريق التي يعلم بِها صحبة أمثاله (¬1). فطرق معرفة الصحبة: 1 - التواتر كأبي بكر وعمر وبقية العشرة، وخلق منهم. 2 - الاستفاضة والشهرة القاصرة عن التواتر كعكاشة بن محصن، وضمام بن ثعلبة وغيرهما. 3 - إخبار بعض الصحابة عن فلان أنه صحابي، كحميمة بن أبي حميمة الدوسي، الذي مات بأصبهان مبطوناً، فشهد له أبو موسى الأشعري بأنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم له بالشهادة. 4 - إخباره عن نفسه بأنه صحابي، بعد ثبوت عدالته قبل إخباره بذلك (¬2). وسبق أن ذكرنا أن للصحابة رضي الله عنهم مراتب ودرجات، دل عليها قوله سبحانه: [لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى] الحديد 10 قال الإمام ابن العربي: وفيه دليل على أن الصحابة مراتب، وأن ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 466 (¬2) انظر: ابن كثير: الباعث الحثيث: 180، ابن كثير: النكت على نزهة النظر: 151، العراقي: التقييد والإيضاح: 15، الجديع: تحرير علوم الحديث: 1/ 116

المبحث الثاني: عدالة الصحابة

الفضل للسابق، وعلى تنزيل الناس منازلهم (¬1). المبحث الثاني: عدالة الصحابة: وهي من المسائل المهمة التي تحتاج لبيان، مع شدة وضوحها وسطوعها، ولكن لما أن طعن الطاعنون في عدالتهم لشبه واهية، كان لزاماً بيان اتفاق أهل السنة ومن يعتد بِهم في عدالة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. قال الإمام ابن الصلاح: ثم إن الأمة مجمعة على تعديل الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بِهم في الإجماع، إحساناً للظن بِهم، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله تعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونِهم نقله الشريعة (¬2). وقال الإمام ابن كثير: والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة، كما أثنى الله تعالى عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل والجزاء الجميل (¬3). وقال الإمام النووي: ولهذا اتفق أهل الحق ومن يُعتد به في الإجماع ¬

(¬1) ابن العربي: أحكام القرآن: 4/ 178، السيوطي: الإكليل: 3/ 1232 (¬2) لعراقي: التقييد والإيضاح: 287 (¬3) ابن كثير: الباعث الحثيث: 172

على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين (¬1). وقال الإمام ابن عبد البر: قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنّهم كلهم عدول (¬2). وقال الإمام الخطيب: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله تعالى لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم. وقال الإمام ابن حجر: اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة (¬3). وقال الإمام ابن حزم: وهم أئمة الإسلام حقا، والمقطوع على فضلهم وعلى أكثرهم بأنهم في الجنة، وهذا لا يخيل إلا على مخذول، وكل من ذكرنا مصيب أو مخطئ، فمأجور على اجتهاده إما أجرين وإما أجراً، وكل ذلك غير مسقط عدالتهم. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم مع ذلك فهم متفقون على أن مثل طلحة والزبير ونحوهما من الصحابة من أهل العدالة، ولا يجوز أن يحكم عليه بكفر ولا فسق، بل مجتهدون، إما مصيبون وإما مخطئون، وذنوبهم مغفرة لهم. ويقول: ولكن أهل السنة متفقون على عدالة الصحابة. ¬

(¬1) النووي: شرح مسلم: 15/ 159 (¬2) العراقي: مرجع سابق: 2870 (¬3) الدرويش: الصحابي: 31

وقال العلامة: السخاوي: في بيان مرتبتهم: وهم رضي الله عنهم باتفاق أهل السنة عدول كلهم مطلقاً صغيرهم وكبيرهم لابس الفتنة أم لا وجوباً، لحسن الظن، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر، من امتثال أوامره بعده عليه الصلاة والسلام، وفتحهم الأقاليم، وتبليغهم عنه الكتاب والسنة، وهدايتهم الناس، ومواظبتهم على الصلاة والزكاة وأنواع القربات مع الشجاعة والبراعة والكرم والإيثار والأخلاق الحميدة التي لم يكن في أمة من الأمم المتقدمة. وقال العلامة الشوكاني: اعلم أن ما ذكرناه في وجوب تقديم البحث عن عدالة الراوي إنما هو في غير الصحابي، فأما فيهم فلا؛ لأن الأصل فيهم العدالة، فنقبل روايتهم من غير بحث عن أحوالهم، حكاه ابن الحاجب عن الأكثرين، قال القاضي: هو قول السلف وجمهور الخلف، وقال الجويني بالإجماع. وقال العلامة بدر الدين الزركشي: وقال إمام الحرمين بالإجماع. قال: ولعل السبب فيه أنّهم نقلة الشريعة، ولو ثبت وقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ولما استرسلت سائر الأعصار. وقال إلكيا الطبري: وعليه كافة أصحابنا. وقال الإبياري: وليس المراد بعدالتهم: ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، إلا من ثبت عليه ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك - ولله

الحمد - فنحن على استصحاب ما كانوا عليه زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير فإنه لا يصح. وما صح فله تأويل صحيح (¬1). قلت: وهذا القول هو الصحيح الذي لا معدل عنه، ولا ينظر لمخالف الإجماع لشذوذه. وقد تعقب الإمام العراقي، الإمام ابن الصلاح في حكايته الإجماع في تعديل الصحابة، فقال: وفي حكاية الإجماع نظر، لكنه قول الجمهور، كما حكاه ابن الحاجب والآمدي، وقال: إنه المختار، وحكيا معه قولاً آخر: أنّهم كغيرهم في لزوم البحث عن عدالتهم مطلقا، وقولاً آخر: أنّهم عدول إلى وقوع الفتن، وأما ما بعد ذلك فلا بد من البحث عمن ليس ظاهر العدالة (¬2). وقد كفانا مؤونة الرد على خلاف الإجماع المحكي الإمام القرطبي، فقال: فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه وخيرته من خلقه ¬

(¬1) ابن حزم: الإحكام: 10/ 220، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 54/ 35، السخاوي: فتح المغيث شرح ألفية الحديث: دار الكتب العلمية، لبنان ط 1/ 1403هـ (3/ 108)، الشوكاني: إرشاد الفحول: دار الكتاب العربي ط 1/ 1419هـ (1/ 185)، الزركشي: البحر المحيط في أصول الفقه: دار الكتب العلمية بيروت، 1421هـ (3/ 357) ابن أمير محمد: التقرير والتحرير في علم الأصول: دار الفكر، بيروت 1417هـ (2/ 346)، المحلى: شرح جمع الجوامع للسبكي: 02/ 62، العلائي: تحقيق منيف الرتبة لمن يثبت له شرف الصحبة: 1/ 37 (¬2) العراقي: التقييد والإيضاح: 288

بعد أنبيائه ورسله هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذا الأمة، وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم، ومنهم من فرق بين حالهم في بُداءة الأمر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء، فلا بد من البحث وهذا مردود، فإن خيار الصحابة وفضلاؤهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم بالجنة، فقال: (مغفرة وأجراً عظيما) وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخبارهم لهم بذلك وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب (¬1) قلت: ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل قد أمرنا بالاستغفار لهم وهو يعلم أنّهم سيقتلون (¬2) وقال العلماء: إن عدالة الصحابة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد (¬3) قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] البقرة 143، أخرج سعيد بن ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 254 (¬2) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1324 (¬3) الألوسي: روح المعاني: دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ (8/ 23)، القاسمي: قواعد التحديث: 1/ 167، العجلي: معرفة الثقات: 1/ 94

منصور وأحمد والترمذي والنسائي وصححه وابن جرير وابن حبان والإسماعيلي في صحيحه والحاكم وصححه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً]: أي: عدلاً. والأمة الجماعة، والوسط العدل، قاله ابن عباس وأبو سعيد ومجاهد وقتادة، وقال ابن قتيبة: الوسط العدل الخيار (¬1) قال الإمام ابن العربي: وهذا دليل على أنّه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ على الغير قول الغير إلا أن يكون عدلاً (¬2). وقال جل شأنه [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وأولو العلم قَائِماً بِالْقِسْطِ] آل عمران 18. قال الإمام البغوي: [وَأُولُو الْعِلْمِ]: يعني الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقال ابن كيسان: هم المهاجرون والأنصار. وقوله [قَائِماً بِالْقِسْطِ]: أي بالعدل (¬3). ويقول الإمام ابن القيم: وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه أحدها: استشهادهم دون غيرهم من البشر، والثاني: اقتران شهادتهم بشهادته، والثالث: اقترانها بشهادة الملائكة، والرابع: أن في ضمن هذا ¬

(¬1) السيوطي: الدرر المنثور في التفسير بالمأثور: 20/ 17، ابن الجوزي: زاد المعاد: المسير في علم التفسير: 1/ 134 (¬2) ابن العربي: أحكام القرآن: 1/ 61، ابن حجر: فتح الباري: 13/ 329 (¬3) البغوي: معالم التنزيل: 2/ 18

تزكيتهم وتعديلهم، فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول (¬1). ولذا قال الإمام الغزالي: فأي تعدل أصح من تعديل علام الغيوب سبحانه، وتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والأموال وقتل الأبرياء والأهل في موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته كفاية في القطع بعدالتهم (¬2). وما جرى من فتن فهم فيها معذورون، وهي غير مخلة بعدالتهم بإجماع - كما سبق - فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جلسنا مع عمر فقال: هل سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أمر به المسلم إذا سها في صلاته كيف يصنع؟ فقلت: لا والله، فبينا نحن في ذلك، أتى عبد الرحمن بن عوف فقال: فيم أنتما، فقال عمر: سألته فأخبره، فقال له عبد الرحمن بن عوف: لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في ذلك، فقال له عمر: فأنت عندنا عدل، فماذا سمعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا سها أحدكم في صلاته حتى لا يدري أزاد أم نقص، فإن كان شك في الواحدة والثنتين فليجعلها واحدة، وإذا شك في الثنتين أو الثلاث، فليجعلها ثنتين، وإن شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثاً حتى يكون الوهم في الزيادة، ثم يسجد ¬

(¬1) ابن القيم: مفتاح دار السعادة: 1/ 48 (¬2) الغزالي: المستصف في أصول الفقه: مؤسسة الرسالة بيروت ط 1/ 1417هـ (1/ 370)، الغزالي: المنحول: دار الفكر دمشق ط 2/ 1419هـ (1/ 356)، المسعودي: مروج الذهب: 1/ 370

سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم ثم يسلم). قال الإمام الذهبي: هذا حديث حسن، صححه الترمذي، ورواه الحافظ ابن عساكر في صدر ترجمة ابن عوف وفيه: فقال: فحدِّثنا فأنت عندنا العدل الرضا. قال فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا عدولاً، فبعضهم أعدل من بعض وأثبت، فهنا عمر قنع بخبر عبد الرحمن، وفي قصة الاستئذان يقول: ائت بمن يشهد معك، وعلي بن أبي طالب يقول: كان إذا حدثني رجل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلفته، وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، فلم يحتج عليّ أن يستحلف الصديق (¬1). ولما تحدث رحمه الله عن سيرة العشرة المبشرين قال: فهذا ما تيسر من سيرة العشرة، وهم أفضل قريش، وأفضل السابقين المهاجرين، وأفضل البدريين وأفضل أصحاب الشجرة، وسادة هذه الأمة في الأمة في الدنيا والآخرة، فأبعد الله الرافضة ما أغواهم، وأشد هواهم، كيف اعترفوا بفضل واحد منهم، وبخسوا التسعة حقهم، وافتروا عليهم بأنهم كتموا النص في علي أنه الخليفة؟ فو الله ما جرى من ذلك شيء، وأنهم زوروا الأمر عنه بزعمهم وخالفوا نبيهم، وبادروا إلى بيعة رجل من بني تيم، يتجر ويتكسب، لا لرغبة في أمواله، ولا لرهبة من عشيرته ورجاله، ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 32

المبحث الثالث: التفضيل بين الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم

ويحك أيفعل هذا من له مسكة عقل؟ ولو جاز هذا على واحد لما جاز على جماعة ولو جاز وقوعه من جماعة لاستحال وقوعه والحالة هذه من ألوف سادة المهاجرين والأنصار وفرسان الأمة وأبطال الإسلام، لكن لا حيلة في برء الرفض، فإنه داء مزمن، والهدى نور يقذفه الله في قلب من يشاء، فلا قوة إلا بالله (¬1). والعشرة المبشرون: هم الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ومات وهو راض عنهم: (أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن نفيل، وأبو عبيدة بن الجراح) (¬2). المبحث الثالث: التفضيل بين الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم: أولا ً: ما يتعلق بالتفضيل بين الصحابة أمر مشتهر، وفيه نزاع مشهور. قال الحافظ ابن حجر: واستدل بحديث (خير القرون قرني .. ) على ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 58 (¬2) الأقفهسي: الإرشاد إلى ما وقع في الفقه وغيره من الأعداد: 2/ 191، انظر: الجديع: تحرير علوم الحديث: 1/ 339

جواز المفاضلة بين الصحابة قاله المازري (¬1). وأهل السنة والجماعة: يفضلون من أنفق من قبل الفتح وقاتل، على من أنفق من بعد الفتح وقاتل ويقدمون المهاجرين على الأنصار، وأن المستقر عندهم، تقديم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ويعرفون لأهل بدر والرضوان فضلهم (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن أفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأمثالهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة (¬3). وقال: أما تفضيل أبي بكر ثم عمر على عثمان وعلي، فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين، من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهو مذهب مالك وأهل المدينة , والليث بن سعد وأهل مصر، والأوزاعي وأهل الشام، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهم من أهل العراق، وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام الذي لهم لسان صدق في الأمة. ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 10، انظر: النووي: شرح مسلم: 15/ 157، انظر: ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل: 3/ 32. (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 3/ 152. (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 2/ 223.

وحكى الإمام مالك إجماع أهل المدينة على ذلك فقال: ما أدركت أحداً ممن اقتدي به يشك في تقديم أبي بكر وعمر (¬1) وقال: فأبو بكر وعمر كان اختصاصهما بالنبي صلى الله عليه وسلم فوق اختصاص غيرهما، وأبو بكر كان أكثر اختصاصاً (¬2). وذهب إلى أن أبا بكر وعمر أفضل من الخضر، على القول بأن الخضر ليس بنبي وهو قول الأكثر من العلماء (¬3). ثم إن أبا بكر أفضل الأمة بعد نبيها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن التفضيل إذا ثبت للفاضل من الخصائص فلا يوجد مثله للمفضول، فإذا استويا وانفرد أحدهما بخصائص كان أفضل، وأما الأمور المشتركة فلا توجب تفضيله على غيره، وإن كان كذلك ففضائل الصديق التي تميز بِها لم يشركه فيها أحد (¬4). وذهب الإمام محمد بن حزم إلى تفضيل نساء النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة فقال: والذي نقول به، وندين الله تعالى عليه، ونقطع على أنه الحق عند الله عز وجل، أن أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام، نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 421 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 400 (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 398 (¬4) ابن تيمية: مجموع الفتاوى:4/ 414

ثم أبو بكر رضي الله عنه (¬1) ثم أفاض رحمه الله بذكر أوجه التفضيل، وقد تعقبه العلماء، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقل: إنّهن أفضل من العشرة إلا أبو محمد، ونصوص الكتاب والسنة تبطل هذا القول، وحجته التي احتج بِها فاسدة. ثم قال: وبالجملة فهذا قول شاذ لم يسبق ِإليه أحد من السلف (¬2). وأما موضوع المبحث: فقد اختلف العلماء: هل كل فرد من أفراد الصحابة رضي الله عنهم أفضل ممن جاء بعده على الإطلاق، أم لا؟ وتحرير محل النزاع في المسألة هو أن يقال: إن مجموع الصحابة رضي الله عنهم أفضل من مجموع من بعدهم. وأن السابقين للإسلام وأهل الفضل منهم من أصحاب بدر والشجرة، أفضل بأفرادهم ممن جاء بعدهم. يقول الحافظ ابن حجر: والذي يظهر: أن من قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم أو في زمانه بأمره، أو أنفق شيئاً من ماله بسببه، لا يعدله في الفضل أحد بعده كائناً من كان، وأما من لم يقع له ذلك، فهو محل البحث (¬3). تحرير المسألة: اختلف العلماء فيه في هذه المسألة على قولين: ¬

(¬1) ابن حزم: الفصل: 3/ 33 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى:4/ 395 (¬3) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 8

القول الأول: أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدهم، وأن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه، ولو مرة في عمره فهو أفضل ممن يأتي بعده، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، وهو قول معظم العلماء وأكثرهم اختاره من المحققين شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن حجر وغيرهما. واحتجوا بما يلي: بحديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم .. ) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وبالجملة فقد اتفقت طوائف السنة والشيعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها، واحد من الخلفاء، ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة. وأفضل أولياء الله أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعاً له، كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به، وعملاً به، فهذا أفضل أولياء الله، إذ كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم، وأفضلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وأفضل أبو بكر (¬1). وقال في موضع آخر: ومنهم من يفرضها في مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز، فإن معاوية له مزية الصحبة والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم وعمر له مزية فضيلته من العدل والزهد والخوف من الله تعالى (¬2). ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 11/ 223 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 13/ 66

وقال: وأما الصحابة والتابعون فقال غير واحد من الأئمة: أن كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن لم يصحبه مطلقاً، وعينوا ذلك في مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز مع أنهم معترفون بأن سيرة عمر أعدل من سيرة معاوية، قالوا: لكن ما حصل لهم بالصحبة من الدرجة أمر لا يساويه ما يحصل لغيرهم بعلمه (¬1). وقال: والواحد من بعد الصحابة لا يكون مثل الصحابة في أعمال مأمور بِها واجبة، كالحج والجهاد والصلوات الخمس والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين (¬2). ولفضل وشرف الصحبة: قال بعض العلماء في مثل معاوية وعمر بن العزيز: ليوم شهده معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز وأهل بيته (¬3). ويقول الإمام عبد الله بن المبارك: تراب في أنف معاوية أفضل من عمر بن العزيز. وسئل عن معاوية رضي الله عنه فقال: ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمع الله لمن حمده، فقال: خلفه: ربنا ولك الحمد، فقيل: أيهما أفضل أهو أم عمر بن عبد العزيز، فقال: التراب في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 527 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 1/ 234 (¬3) ابن كثير: الباعث الحثيث: 172

خير وأفضل من عمر (¬1). واحتجوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفة). وجه الدلالة منه: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا كان جبل أحد ذهباً لا يبلغ نصف مدّ أحدهم، كان في هذا التفاضل ما يبين أنه لم يبلغ أحد مثل منازلهم التي أدركوها بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم (¬2). القول الثاني: أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة. وهو قول الإمام ابن عبد البر، ومال إليه الإمام القرطبي (¬3). واحتجوا بما يلي: عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره) (¬4). قال الحافظ ابن حجر: وهو حديث حسن، له طرق قد يرتقي بِها إلى ¬

(¬1) ابن كثر: البداية والنهاية: 8/ 132 (¬2) مرجع سابق: 4/ 527 (¬3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 168، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 8 (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه في كتاب الأمثال: (2869)

الصحة (¬1). وروى ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير، أحد التابعين بإسناد حسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليدركن المسيح أقواماً إنهم لمثلكم أو خير - ثلاثاً - ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها) (¬2). وروى أبو ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أمامكم أياماً الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين رجلاً يعمل مثل عمله) قيل: يا رسول الله: منهم؟ قال: (بل منكم) (¬3). وأخرج أبو داود الطيالسي وغيره عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الخلق إيماناً قوم في أصلاب الرجال، يؤمنون بي ولم يروني، يجدون ورقاً فيعملون بما فيها فهم أفضل الخلق إيماناً) (¬4). وروى صالح بن جبير عن أبي جمعة قال: قلنا يا رسول الله: هل أحد خير منا؟ قال: (نعم قوم يجيئون من بعدكم فيجدون كتاباً بين لوحين فيؤمنون بما فيه، ويؤمنون بي ولم يروني) (¬5) قال الحافظ ابن حجر: إسناده ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 8 (¬2) انظر: ابن حجر: مرجع سابق: 7/ 9 (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ومن سورة المائدة (3058) (¬4) انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 168، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 9 (¬5) مراجع سابقة.

حسن، وقد صححه الحاكم (¬1). وعن عبد الله بن بسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله) (¬2). وروى عن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبد الله أن اكتب إليّ بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بِها، فكتب إليه سالم: إن عملت بسيرة عمر، فأنت أفضل من عمر؛ لأن زمانك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر. وكتب إلى فقهاء زمانه، فكلهم كتب إليه بمثل قول سالم (¬3). قال الإمام القرطبي: قال الإمام ابن عبد البر: فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها، التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها، والمعنى في ذلك ما تقدم ذكره: من الإيمان والعمل الصالح في الزمان الفاسد الذي يرفع فيه من أهل العلم والدين، ويكثر فيه الفسق والهرج، ويذل المؤمن، ويعز الفاجر، ويعود الدين غريباً كما بدأ غريباً، ويكون القائم فيه كالقابض على الجمر، فيستوي حينئذ أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية (¬4). ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري:7/ 9 (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب الزهد باب في طول العمر للمؤمن (2329) (¬3) القرطبي: مرجع سابق: 4/ 170 (¬4) القرطبي: مرجع سابق.

وقد تأول الإمام ابن عبد البر وغيره حديث (خير القرون قرني) بأن قرنه إنما فُضّل؛ لأنّهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار، وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، وأن آخر هذه الأمة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به، وصبروا على طاعة الله في حين ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر كانوا عند ذلك أيضاً غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الوقت كما زكت أعمال أوائلهم، ويشهد له حديث مسلم عن أبي هريرة رفعه (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) (¬1). قلت: والراجح - والعلم عند الله تعالى -: القول الأول: وهو تفضيل الصحابة مطلقاً على من جاء بعدهم، لأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما من اتفق له الذب عنه، والسبق إليه بالهجرة، أو النصرة، وضبط الشرع المتلقى عنه، وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده، لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا والذي سبق بِها مثل أجر من عمل بِها من بعده، فظهر فضلهم (¬2). وأجاب العلماء عن أدلة القول الثاني بما يلي: قالوا: حديث (أمتي مثل المطر .. ) إن المراد منه: من يشتبه عليه الحال في ذلك من أهل الزمان الذين يدركون عيسى بن مريم، ويرون في زمانه من الخير والبركة وانتظام كلمة الإسلام، ودحض كلمة الكفر، فيشتبه الحال على من شاهد ذلك، أي ¬

(¬1) مراجع سابقة. (¬2) ابن حجر: مرجع سابق.

الزمانين خير، وهذا الاشتباه مندفع بقوله عليه الصلاة والسلام: (خير القرون قرني) قاله الإمام النووي (¬1). وقال الإمام العيني في حديث ابن أبي شيبة: إنه لا يقاوم المسند الصحيح. قلت: ويمكن الإجابة عنه، وعن حديث (للعامل منهم أجر خمسين) بم ذكره الحافظ ابن حجر، بأنها لا تدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة. وأيضاً فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في العمل، فأما ما فاز به من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم من زيادة فضيلة المشاهدة، فلا يعدله فيها أحد. وقال أيضاً: وأما حديث أبي جمعة، فلم تتفق الرواة على لفظ، فقد رواه بعضهم بلفظ: الخيرية، ورواه بعضهم بلفظ: قلنا يا رسول الله: هل من قوم أعظم منا أجراً " الحديث أخرجه الطبراني وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة، وهي توافق حديث أبي ثعلبة عند أبي شيبة، وقد تقدم الجواب عنه (¬2). وأما حديث عمر عند أبي داود الطيالسي، فإسناده ضعيف فلا حجة فيه (¬3) وعليه: فلا قول لأحد بعد قول النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام: ¬

(¬1) انظر: ابن حجر: فتح الباري:7/ 9 (¬2) العيني: عمدة القارئ: 11/ 373، ابن حجر: مرجع سابق. (¬3) العيني: مرجع سابق

المبحث الرابع: حكم الأحاديث الواردة التي في ظاهرها دخل على صحابي، أو قدح في عدالته، أو مضيفة إليه ما لا يليق

(خير القرون قرني). وأما ما قيل عنه: بأنه ليس على عمومه بدليل: ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول، وبأنه قد جمع قرنه جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان، وأهل الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الحدود (¬1) أجيب عنه: بأن هذا الحديث أصل في تعديل أهل القرون الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهو محمول على الغالب والأكثرية (¬2) إذ لا يخلو قرن ومجتمع من مثل هذه الأفعال ولكنها قليلة بالنسبة لغيرها من القرون. المبحث الرابع: حكم الأحاديث الواردة التي في ظاهرها دخل على صحابي، أو قدح في عدالته، أو مضيفة إليه ما لا يليق: مما يتمسك به المنتقصون والطاعنون في جناب الصحابة الكرام رضي الله عنهم ظواهر بعض الأحاديث التي يفهم منها ما لا يليق بهم رضي الله عنهم ولذا فإن مذهب الأئمة في هذا الباب ما يلي: قال الإمام المازري: مذهب أفاضل العلماء أن ما وقع من الأحاديث القادحة في عدالة بعض الصحابة والمضيفة إليهم ما لا يليق بهم، فإنها ترد ولا تقبل إذا كان ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 170 (¬2) ابن حجر: مرجع سابق: 7/ 10

رواتها غير ثقات، فإن أحب بعض العلماء تأويلها قطعاً للشغب ترك ورأيه، وإن رواها الثقات تأولت على الوجه اللائق بهم إذا أمكن التأويل، ولا يقع في روايات الثقات إلا ما يمكن تأويله، ولا بدّ أن نتأول قول معاوية حينما قال لسعد كما في صحيح مسلم (ما منعك أن تسب أبا تراب) فنقول: ليس فيه تصريح بأنه أمره بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب، وقد يسأل عن مثل هذا السؤال من يستجيز سب المسؤول عنه، ويسأل عنه من لا يستجيزه، وقد يكون معاوية رأى سعداً بين قوم يسبونه ولا يمكن الإنكار عليهم فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب، لتستخرج منه مثل ما استخرج مما حكاه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون له حجة على من يسب، حتى ينضاف إليه من غوغاء عنده فيحصل على المراد على لسان غيره من الصحابة، ولو لم نسلك هذا المسلك وحملنا عليه أنه قصد ضد هذا مما تثيره الموجدة، ويقع في حين الحنق، لأمكن أن يريد السب الذي هو بمعنى التفنيد للمذهب والرأي، وقد يسمى ذلك في العرف سباً، وقال: فمن الممكن أن يريد معاوية من سعد بقوله (ما منعك أن تسب أبا تراب) أي تظهر للناس خطأه في رأيه، وأن رأينا وما نحن عليه أسد وأصوب، هذا مما لا يمكن أحد أن يمنع من احتمال قوله له، وقد ذكرنا ما يمكن أن يحمل عليه قوله ورأيه فيه جميل أو غير جميل في هذين الجوابين بمثل هذا المعنى ينبغي أن يسلك فيما وقع من أمثال هذا (¬1) ¬

(¬1) المازري: المعلم بفوائد مسلم: 3/ 141

وقال الإمام النووي: قال العلماء: الأحاديث الواردة التي ظاهرها دخل على صحابي، يجب تأويلها، قالوا: ولا يقع في روايات الثقات إلا ما يمكن تأويله، فقول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السبّ، كأنه يقول له: هل امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك، فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر. ولعل سعداً قد كان في طائفة يسبونه فلم يسب معهم وعجز عن الإنكار، وأنكر عليهم فسأله هذا لسؤال. قالوا: ويحتمل تأويلاً آخر: أن معناه ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه خطأ (¬1) قلت: وعلى هذا يجب تنزيل الأحاديث التي ظاهرها قدح في الصحابة رضي الله عنهم حتى تتوافق مع ما زكاهم به ربهم جل وعلا. وقد أشار الإمام أبو نعيم الأصبهاني إلى دفع شبهة فقال: عن عياض الأنصاري - وله صحبه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احفظوني في أصحابي وأصهاري، فمن حفظني فيهم حفظه الله في الدنيا والآخرة، ومن لم يحفظني في أصحابي وأصهاري تخلى الله عنه، ومن تخلى الله عنه أو شك أن يأخذه). قال: فإن قال قائل: فقد نازع علياً غير طلحة والزبير وعائشة، فما ¬

(¬1) النووي: شرح مسلم: 15/ 186، ابن حجر: فتح الباري:7/ 92

الذي دعاه لمنازعته ولم يكن له من السوابق ما لطلحة والزبير، ولم يكن من أهل الشورى والمناقب الشريفة؟ قيل له: كل من صحب الرسول صلى الله عليه وسلم أو نزل منه منزلة قرب أو سبب، ولو كان دون أولئك في السابقة والهجرة والمناقب الشريفة، فالأسلم أن نحفظ فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم (أوصيكم في أصحابي خيراً) لاسيما إذا كان متأولاً، وإن كان في تأويله غير مصيب، فاقتدي بذلك بكبار الصحابة الذين شاهدوا حربهم، فكفوا وقعدوا لاشكال ذلك عليهم، فإذا كان لهم في قربهم منهم ومشاهدتهم لهم أن يكفوا ويقعدوا فنحن في تأخرنا منهم، وتباعدنا عنهم أولى أن نسكت عنهم، ونكف المسبة التي تعرض لهم في ذلك. وقال في موضع آخر: وسب الصحابة بعضهم لبعض، فإن ذلك على حد غضب وموجدة، قد عفا الله عنهم أكثر من ذلك، أخذهم بالفداء يوم بدر، وتوليهم عن الرسول يوم أحد، وأمر الرسول بالعفو عنهم (¬1) علماً: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنزه الناس ألسناً، وأطيبهم قولاً، وأحسنهم منطقاً. قال الشيخ صالح آل الشيخ: ما سب صحابي صحابيا مطلقاً، وإنما قد يتسابون يعني مثل ما يحصل للبشر، يترادون في موقف، لكن لا يسبهم ¬

(¬1) أبو نعيم الأصبهاني: الإمامة والرد على الرافضة: 380 - 378

مطلقاً أو يذم صحابياً مطلقاً، لكن يكون بينهم تراد في مجلس لأجل ما يحصل بين البشر مقاتلة مؤقتة تحصل بينهم، لكن سب الساب المطلق وانتقاص قدر فلان من الصحابة مطلقاً هذا لم يحصل عند الصحابة (¬1) ومما يجب التنبيه عليه في هذا المقام: ما وقع للصحابي الجليل: معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه خصوصاً من ازدراء وتنقص بل وحتى تشكيك في إسلامه، أو حسن إسلامه. وها هي أقوال العلماء في معاوية رضي الله عنه: هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان، صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي، الصحابي ابن الصحابي، رضي الله عنهما. أسلم هو وأبوه - أبو سفيان - وأخوه يزيد بن أبي سفيان، وأمه - هند بنت عتبة بن ربيعة، في فتح مكة (¬2) ومعاوية ممن أسلم عام الفتح، وقيل: إنه أسلم قبل أبيه، وقت عمرة القضاء، وبقي يخاف من اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أبيه، ولكن ما ظهر إسلامه إلا يوم الفتح (¬3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد روي أن معاوية أسلم قبل ذلك ¬

(¬1) صالح آل الشيخ: شرح العقيدة الطحاوي (قسم الأسئلة): 2/ 1601 (¬2) النووي: تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 494 (¬3) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 4/ 63

وهاجر قبل فتح مكة، وهاجر إلى المدينة، فإن كان هذا صحيحاً فهذا من المهاجرين (¬1) وقال رحمه الله: فالطلقاء الذين أسلموا عام الفتح مثل: معاوية وأخيه يزيد وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أميه والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو، وقد ثبت بالتواتر عند الخاصة إسلامهم وبقاؤهم على الإسلام إلى حين الموت، ومعاوية أظهر إسلاماً من غيره. وقال: فلما أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بالإصلاح وترك القتال، دل على أن الإصلاح بين تلك الطائفتين كان أحب إلى الله تعالى من فعله، فدل على أن الاقتتال لم يكن مأموراً به، ولو كان معاوية كافراً لم تكن تولية كافر، وتسليم الأمر إليه مما يحبه الله ورسوله، بل دل الحديث على أن معاوية وأصحابه كانوا مؤمنين كما كان الحسن وأصحابه مؤمنين، وأن الذي فعله الحسن كان محموداً عند الله تعالى محبوباً مرضيا له ولرسوله (¬2) وقال: ومعاوية خير من أبيه وأحسن إسلاماً من أبيه باتفاق المسلمين، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ولّى أباه فلأن تجوز ولايته بطريق الأولى والأحرى، ولم يكن من أهل الردة قط، ولا نسبه أحد من أهل العلم إلى الردة، فالذين ينسبون هؤلاء إلى الردة، هم الذي ينسبون أبا بكر وعمر وعثمان، وعامة أهل بدر وأهل بيعة الرضوان وغيرهم من السابقين الأولين ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 453 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 467

من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى مالا يليق بهم، والذين نسبوا هؤلاء إلى الردة يقول بعضهم: أنه مات ووجهه إلى الشرق، والصليب على وجهه، وهذا مما يعلم كل عاقل أنه من أعظم الكذب والفرية عليه (¬1) وقال أيضاً: وأما إسلام معاوية، وولايته على المسلمين والإمارة والخلافة فأمر يعرفه جماهير الخلق. وأما قول القائل: إيمان معاوية كان نفاقاً، فهو أيضاً من الكذب المختلق، فإنه ليس في علماء المسلمين من اتهم معاوية بالنفاق، بل العلماء متفقون على حسن إسلامه (¬2) ثم قال: واتفق العلماء على أن معاوية: أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة كانوا قبله خلفاء نبوة وهو أول الملوك، وكان ملكه ملكاً ورحمة، وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ما يعلم أنه كان خيراً من ملك غيره (¬3) ولذا قد أخذ الإمام الحبر ابن عباس - رضي الله عنهما - من عموم قوله تعالى {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 472 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 476 (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 478

إنه كان منصورا} (الإسراء: 33) ولاية معاوية، وأنه سيملك؛ لأنه كان ولي عثمان، وقد قتل مظلوما. وكان معاوية يطلب عليا أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم؛ لأنه أموي، وكان علي يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك، ويطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام فيأبى معاوية وذلك حتى يسلمه القتلة، وأبى أن يبايع عليا هو وأهل الشام، ثم مع المطاولة تمكن معاوية وصار الأمر إليه، كما قال ابن عباس، استنبطه من هذه الآية الكريمة. (1) والخلاصة: فإن إيمان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ثابت بالنقل المتواتر، وإجماع أهل العلم على ذلك (¬1) ومما يدل على فضله: قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (اللهم اجعله هاديا مهتديا ً، واهده واهد به) (3) وقال عبد الله بن عمر: ما رأيت رجلا ًبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أسود من معاوية، فقال له رجل: ولا عمر؟ فقال: عمر كان خيراً منه، وكان هو ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 42 (2) انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 478، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 4/ 80، ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 112، ابن الجوزي: تلقيح فهوم أهل الأثر: 112 (3) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب مناقب معاوية: (3851) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

أسود منه. وكان الحسن والحسين رضي الله عنهما يقبلان جوائزه رضي الله عنه. قال الدراوردي: رأيت جعفر بن محمد، جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انثنى فسلم على أبي بكر وعمر، فرآني كأني تعجبت أو قال: سرني، قال: فقال: والله إن هذا الدين الذي أدين الله به، والله ما يسرني أني قلت لمعاوية: أخزاه الله أو فعل الله به وإن لي الدنيا. وعن رباح الموصلي قال: سمعت رجلاً يسأل المعافا بن عمران، فقال: يا أبا مسعود: أين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان؟ فغضب من ذلك غضباً شديداً، وقال: لا يقاس بأصحاب رسول الله أحد، معاوية صاحبه وصهره وكاتبه، وأمينه على وحي الله تعالى (¬1) ويقول الإمام عبد الله بن المبارك: تراب في أنف معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز. وسئل عن معاوية فقال: ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمع الله لمن حمده، فقال خلفه: ربنا ولك الحمد، فقيل له: أيهما أفضل هو أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لتراب في منخري معاوية مع رسول الله خير وأفضل من عمر. وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله أيما أفضل: معاوية أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: معاوية أفضل، لسنا نقيس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1524 وما بعده.

أحدا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني الذي بعثت فيه). ولما قيل له: هل يقاس أحد بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ معاذ الله، قيل: فمعاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز؟ قال: أي لعمري قال النبي صلى الله عليه وسلم (خير الناس قرني). وقال بشر الحافي: سئل المعافى وأنا أسمع أو سألته: معاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: كان معاوية أفضل من ستمائة مثل عمر بن عبد العزيز. ولذا قال أحمد: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدانيهم أحد، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاربهم أحد. ولو كان عمر بن عبد العزيز مشتهرا بفضله وعدله، فمعاوية - رضي الله عنه - أكثر شهرة بفضله وعدله وقربه وعلمه، قال الإمام الزهري: عمل معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخرم منها شيئا. وكان قوم عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله، فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية؟ قال يا أبا محمد: يعني في حلمه؟ قال: لا والله، ألا بل في عدله. ولذا لما سأل رجل الإمام أحمد عن خال له كان ينتقص معاوية فقال: وربما أكلت معه؟ فقال أبو عبد الله مبادرا: لا تأكل معه. (¬1) وقال الفضل بن زياد: سمعت أحمد يسأل عن رجل تنقص معاوية ¬

(¬1) الخلال: السنة 2/ 434، 436/ 437، 444/ 448

وعمرو بن العاص أيقال له رافضي؟ فقال: إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحداً من الصحابة إلا وله داخلة سوء (¬1) قال الإمام المازري: ومعاوية من عدول الصحابة وأفاضلهم، وما وقع من الحروب بينه وبين علي، وما جرى بين الصحابة من الدماء، فعلى التأويل والاجتهاد، وكل يعتقد أن فعله صواب وسداد (¬2) وقال الإمام النووي: وأما معاوية فهو من العدول الفضلاء، والصحابة النجباء، وأما الحروب التي جرت، فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب أنفسها لسببها، وكلهم عدول ومتأولون في حروبهم وغيرها ولم يخرج شيء من ذلك أحداً منهم عن العدالة (¬3) وقد أثنى عليه الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: فقال لما قيل له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ ما أوتر إلا واحدة: أصاب، إنه فقيه. وأخرج المروزي عن طريق علي بن عبد الله بن عباس قال: بت مع أبي عند معاوية، فرأيته أوتر بركعة، فذكرت ذلك لأبي، فقال: يا بني: هو أعلم. وفي البخاري: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 2/ 132 (¬2) المازري: المعلم بفوائد مسلم: 3/ 139 (¬3) النووي: شرح مسلم: 15/ 158

عباس، فأتى ابن عباس فقال: دعه - أي اترك القول فيه والإنكار عليه - فإنه صحب رسول لله صلى الله عليه وسلم. أي: فلم يفعل شيئاً إلا بمستند (¬1) قلت: ومر بنا منهج العلماء العاملين في التعامل مع الأحاديث التي ظاهرها دخل على صحابي، ومن الأحاديث التي يحتج بِها الطاعنون في معاوية رضي الله عنه وهي ليست كذلك: ما أخرجه الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت ألعب مع الصبيان فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب، قال: فجاء فحطأني حطأة وقال: اذهب وادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: اذهب فادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل فقال: لا أشبع الله بطنه. قال ابن المثنى: قلت لأمية: ما حطأني، قال: قفدني قفدة (¬2) قال الإمام النووي: وهو الضرب باليد مبسوطة بين الكتفين، وإنما فعل هذا بابن عباس ملاطفة وتأنيساً (¬3) ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب ذكر معاوية (1764 - 3765)، وانظر: ابن حجر: فتح الباري: 7/ 130، العيني: عمدة القارئ: 11/ 487، النووي: تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 495. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه: في كتاب البر والصلة والآداب، باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه. (2604) (¬3) النووي شرح مسلم: 16/ 393

وقد بيّن العلماء وجه قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية (لا أشبع الله بطنه): وأنه إما: - أن يكون من باب القول السابق على اللسان من غير قصد إلى وقوعه، ولا رغبة إلى الله سبحانه في استجابته، فيكون مما جرى على اللسان بلا قصد، كقوله: تربت يمينك، وعقرى , وحلقى، ومثله: لا أشبع الله بطنك. - وإما أن تكون عقوبة له لتأخره عن الاستجابة. قال الإمام النووي: وقد فهم مسلم من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه، فلهذا أدخله في هذا الباب، وفيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (اللهم إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة). - وبعض العلماء جعل هذا الحديث من مناقب معاوية رضي الله عنه؛ لأنه في الحقيقة يصير دعاء له (¬1) قال الإمام الذهبي: وفسره بعض المحبين قال: (لا أشبع الله بطنه)، حتى لا يكون ممن يجوع يوم القيامة؛ لأن الخبر عنه أنه قال: (أطول الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة) لكن رده الذهبي رحمه الله (¬2) فمعاوية رضي الله عنه من فقهاء الصحابة وفضلاؤهم، وقد شهد له ابن عم ¬

(¬1) النووي: مرجع سابق، المازري: المعلم بفوائد مسلم: 3/ 168 (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 4/ 65

رسول الله صلى الله عليه وسلم حبر الأمة وترجمان القرآن بذلك، ولكن لا يلزم من ذلك موافقة رأيه رأي جميع الصحابة أو بعضهم، فقد يجتهد في أمر، ويكون الصواب معه أو مع غيره فيكون بين الأجر والأجرين، كما جاء عنه رضي الله عنه أنه كان يستلم أركان البيت الأربعة. وكان ينهى عن التلبية بعرفة، إلى غير ذلك من مسائل الاجتهاد، فهو كغيره من المجتهدين رضي الله عنه وأرضاه (¬1) وأختم هذا المبحث بما يبين فضل علم السلف: مما يدل على فضل علم السلف، وأخص منهم الصحابة رضي الله عنهم أنه لم يُعرف فيهم من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: والكذب كان قليلاً في السلف، أما الصحابة فلم يعرف فيهم - ولله الحمد - من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، كما لم يعرف فيهم من كان من أهل البدع المعروفة كبدع الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، فلم يعرف فيهم أحد من هؤلاء الفرق. ثم قال: وأما الغلط فلم يسلم منه أكثر الناس، بل في الصحابة من قد يغلط أحياناً وفيمن بعدهم (¬2) ولهذا قال رحمه الله: ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيراً وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين، وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله، كالتفسير وأصول الدين، وفروعه، والزهد ¬

(¬1) انظر: أبو الضياء الحنفي: البحر العميق: 3/ 1540، ابن كثير: البداية والنهاية: والنهاية: 8/ 124، 132 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 1/ 250

والعبادة، والأخلاق والجهاد وغير ذلك. فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم، وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوماً، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه. وقال رحمه الله: في معرض حديثه عن تحليل النكاح: وبكل حال فالصحابة أفضل هذه الأمة وبعدهم التابعون، كما ثبت فيهم .. فنكاح تنازع السلف في جوازه أقرب من نكاح أجمع السلف على تحريمه، وإذا تنازع فيه الخلف فإن أولئك أعظم علماً وديناً، وما أجمعوا على تعظيم تحريمه كان أمره أحق مما اتفقوا على تحريمه، وإن اشتبه تحريمه على من بعدهم (¬1) وقال رحمه الله: وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا - مع أنّهم أكمل الناس علماً نافعاً وعملاً صالحاً - أقل الناس تكلفاً، يصدر عن أحدهم الكلمة والكلمتان من الحكمة أو من المعارف، ما يهدي به الله بِها أمة وهذا من منن الله على هذه الأمة، ثم قال: فهذا الكلام تنبيه على ما يظن أهل الجهالة والضلالة من نقص الصحابة في العلم والبيان، أو اليد والسنان (¬2) وقال الإمام ابن الوزير لما تحدث عن مراتب المفسرين: فخيرهم ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 32/ 97 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 138 - 140

الصحابة رضي الله عنهم لما ثبت من الثناء عليهم في الكتاب والسنة؛ لأن القرآن أنزل على لغتهم، فالغلط أبعد عنهم من غيرهم؛ ولأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أشكل عليهم , وأكثرهم تفسيراً، حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس. ثم ذكر خمسة أوجه لتقديم ما صح من تفسير ابن عباس على غيره (¬1). وقال الإمام ابن القيم: ولهذا كان الصحابة أعرف الأمة بالإسلام وتفاصيله وأبوابه وطرقه، وأرشد الناس رغبة فيه، ومحبة له، وجهاداً لأعدائه، وتكلماً بأعلامه بالأمة، وتحذيراً من خلافه لكمال علمهم بضده، فجاءهم الإسلام وكل خصلة منه مضادة لكل خصلة مما كانوا عليه فازدادوا له معرفة وحباً وفيه جهاداً بمعرفتهم بضده، وقال: والصحابة أفضل الناس في الرأي، والمقصود أن أحداً ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم، وكيف يساويهم وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته، ففهمهم أولى من فهم غيرهم (¬2) قلت: ولقد تعامل العلماء العاملون بما جرى من الفتن بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمنهج المعتدل، الذي يزن الأمور بميزان الشرع، ويضع الأمور في نصابها. يقول الإمام الطحاوي: ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) ابن الوزير: إيثار الحق على الخلق: 370 (¬2) ابن القيم: مفتاح دار السعادة: 1/ 295، ابن القيم: إعلام الموقعين: 1/ 81، ابن حجر: فتح الباري: 2/ 40

وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس، فقد برئ من النفاق، وعلماء السلف السابقين ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل (¬1) ويقول الإمام ابن تيمية: وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم، ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب، وهم كانوا مجتهدين، إما مصيبة لهم أجران، أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم، وما كان لهم من السيئات ... - وقد سبق لهم من الله الحسنى - فإن الله يغفرها لهم، إما بتوبة أو بحسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو غير ذلك فإنّهم خير قرون هذه الأمة (¬2) ويقول: ومن أصول السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: ويتبرؤون من طريق الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، ومن طريقة النواصب، الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة (¬3). ¬

(¬1) الطحاوي: العقيدة الطحاوي: من شرح ابن أبي العز: 490 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى:3/ 406 - 432 (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 3/ 152

الباب الثاني الدفاع عن الصحابة (رضي الله عنهم)

الباب الثاني الدفاع عن الصحابة (رضي الله عنهم)

تمهيد

تمهيد جرت السنن الكونية في دفاع الله جل شأنه، وعظم سلطانه، عن المؤمنين، وأوليائه المتقين، قال سبحانه [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا] الحج 28. وقال سبحانه في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) وذكر جل شأنه عقوبة المعتدين والمؤذين فقال سبحانه: [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً] الأحزاب 58. فأي أذية أعظم من أذية الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتعرض لهم بسوء، يقول الله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] قال أهل التفسير: يخبر الله تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه، وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم كما قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] الزمر 36 فهي بشارة للمؤمنين بأن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم، وصيغة المفاعلة للمبالغة، أي: يدافع عنهم مرة بعد أخرى حسبما تجدد منهم الإضرار بالمسلمين، كما قال سبحانه وتعالى [كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ] المائدة 64 وقال بعضهم: والمعنى: يدفع عن المؤمنين غوائل المشركين. وقيل: يُعلي حجتهم.

المبحث الأول: دفاع الله سبحانه وتعالى عن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم

وقيل: يوفقهم. قال الإمام الشوكاني: والجملة مستأنفة؛ لبيان هذه المزية الحاصلة للمؤمنين من رب العالمين، وأنه المتولي للمدافعة عنهم (¬1) وللدفاع عن الصحابة أوجه متعددة، منتظمة في المباحث التالية: المبحث الأول: دفاع الله سبحانه وتعالى عن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم. تمهيد: الله جل وعلا، هو الولي الناصر، استنصر به الأولون والسابقون، والآخرون واللاحقون والأنبياء والصالحون، فجاء نصره، وأُنجز وعده، وصُدّق عبده، قال عن نبيه نوح عليه السلام: [فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ] القمر 10 - 14 [قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ، فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ] المؤمنون 26 - 27 [وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ ¬

(¬1) الشوكاني: فتح القدير: 3/ 131، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 235، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 12/ 65، أبو حيان: البحر المحيط: 7/ 514، المنصوري: المقتطف: 3/ 436، الشنقيطي: أضواء البيان: 1232

الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ] يونس 88 - 89، وكان سبحانه وتعالى معهما الناصر والمؤيد، فقال لهما [لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى] طه 46، وقال سبحانه: [إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ] غافر 51. فنصرة الله تعالى للمؤمنين سنة جارية، ومنة باقية [ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المؤمنين، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ] الصافات 171 - 173. [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ] الأنبياء 105 - 106. [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] آل عمران 123. [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] التوبة 25 - 26. ومتى انتهك حق أولياء الله تعالى جاء النصر من عند الله [وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] آل عمران 126. [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] البقرة 214. [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا

وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ] الأنعام 34. [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ] يوسف 110. وهذا النبي الكريم الأكرم ينادي ربه يوم بدر: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك) (¬1) فقال سبحانه [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ] الأنفال 9. فهو سبحانه [نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] الأنفال 40. ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 3/ 308

المبحث الأول دفاع الله تعالى عن الصحابة رضي الله عنهم أ / الدفاع العام عن الصحابة رضي الله عنهم: ما فتئ المنافقون والمغرضون يكيلون التهم، ويسددون سهام الطعن والازدراء، لأشرف الخلق بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، الصحابة الكرام العظام رضي الله عنهم، ولكن الله تعالى لهم بالمرصاد [إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً، وَأَكِيدُ كَيْداً] الطارق 16،15. [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] الأنفال 30. قال المنافقون المغرضون: نافق الصحابة رضي الله عنهم. قلنا: لكن الله جل وعلا يقول: [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ] الأحزاب 23. قال المنافقون المغرضون: بدّل الصحابة رضي الله عنهم. قلنا: لكن الله جل وعلا يقول: [وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] الأحزاب 23. قال المنافقون المغرضون: ارتد الصحابة رضي الله عنهم. قلنا: لكن الله جل وعلا يقول: [وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] التوبة 100.

قال المنافقون المغرضون: الصحابة أهل دنيا. قلنا: لكن الله جل وعلا يقول: [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] التوبة 111. وقال سبحانه وتعالى [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ] البقرة 207. قال أنس - رضي الله عنه -: نزلت في صهيب رضي الله عنه. وقال قتادة: هم المهاجرون والأنصار (¬1) قال المنافقون المغرضون: الصحابة في النار. قلنا: ولكن الله جل وعلا يقول: [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ] الأنبياء 101،102. قال النعمان بن بشير رضي الله عنه: قرأ على بن أبي طالب رضي الله عنه [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ] ثم قال: أنا منهم، وعمر منهم، وعثمان منهم، والزبير منهم، وطلحة منهم، وعبد الرحمن منهم، أو قال: وسعد منهم. وروي عنه أنه قال في الآية: عثمان وأصحابة (¬2) ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 254، الشوكاني: فتح القدير: 1/ 186 (¬2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 206، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 11/ 302، أبو حيان: البحر المحيط: 7/ 470

قال المنافقون المغرضون: كذب الصحابة رضي الله عنهم. قلنا: ولكن الله جل وعلا يقول: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] الحجرات 15. وقال سبحانه وتعالى [لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] وقال سبحانه وتعالى [ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] التوبة 119. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في قوله [اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] قال: مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقال الضحاك: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما رضي الله عنهم (¬1) قال المنافقون المغرضون: الصحابة خاسرون. قلنا: ولكن الله جل وعلا يقول: [لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] التوبة 88 - 89. قال المنافقون المغرضون: الصحابة كفار، غير مؤمنين. قلنا: ولكن الله جل وعلا يقول: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 414

لا يَعْلَمُونَ] البقرة 13. قال أهل التفسير: المقصود بالناس: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (¬1) فقد شهد الله لهم بالإيمان، وهم أهله وخاصته. ب / الدفاع الخاص عن الصحابة رضي الله عنهم. 1 - دفاع الله سبحانه وتعالى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: اتهمت الطاهرة العفيفة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في عرضها الشريف، فجرت أحداث شهر كامل لم ينزل فيها الوحي من السماء، خاض فيها الخائضون، وسرت مقولة المنافقين، فتألم قلب النبي الأمين، وانفطر فؤاد أم المؤمنين، وبعدها نزل كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين [إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لكم .. ] النور - 29. قال الإمام ابن كثير: هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله عز وجل لها ولنبيه صلوات الله وسلامه عليه فأنزل الله براءتها صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2) ومن مجموع آيات البراءة نستخلص بعض أوجه الدفاع من الله ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 52، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 251، أبو حيان: البحر المحيط: 1/ 111، الشوكاني: فتح القدير: 1/ 37 (¬2) ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 279

سبحانه وتعالى لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (1) التشديد على من رمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه، فقال سبحانه: [وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ] والمقصود به: رأس المنافقين: عبد الله بن أبي بن سلول، قالته عائشة وابن عباس رضي الله عنهم. [وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ]: قيل: ابتدأ به، وقيل: الذي كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه. وقيل: الذي تولى إثمه [لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ]: على ذلك، وقيل: العذاب العظيم، عذاب يوم القيامة (¬1) ومعنى الآية: [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ]: أي تفشوا، وهذا فيه إشارة إلى عبد الله بن أبي ومن أشبهه [فِي الَّذِينَ آمَنُوا]: أي المحصنين والمحصنات، والمراد بهذا اللفظ العام: عائشة وصفوان رضي الله عنهما. والفاحشة: هي القول السيئ. [لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا]: بالحد [وَالْآخِرَةِ]: عذاب النار، أي: للمنافقين، وأن الحد للمؤمنين كفارة (¬2) وقال سبحانه وتعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] النور 23. يقول أهل التفسير: الآية وإن كانت عامة في كل محصن إلا أن أولاها ¬

(¬1) ابن: تفسير القرآن العظيم: 3/ 283، ابن حجر: فتح الباري: 8/ 319 (¬2) ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 285، ابن حجر: مرجع سابق: 8/ 346، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 12/ 184، أبو حيان: البحر المحيط: 8/ 23

بالدخول أمهات المؤمنين، وأولاها منهن عائشة التي كانت سبباً لنزول هذه الآيات. قالوا: إن كان المراد بهذه الآية، من قذف عائشة رضي الله عنها خاصة، كانت هذه الأمور في جانب عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين، وإن كان المراد بهم: المؤمنون من القذفة، فالمراد باللعنة: الإبعاد وضرب الحد، وهجر سائر المؤمنين لهم، وزوالهم عن رتبة العدالة، والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين. وسئل سعيد بن جبير عمن قذف مؤمنة، هل يلعنه الله في الدنيا والآخرة؟ قال: ذاك لعائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة (¬1) وقال سبحانه وتعالى: [الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] النور 26 قال أهل التفسير: ومعنى الآية: لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجل والنساء، ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيبات من الرجل النساء. قال ابن عباس: نزلت في عائشة وأهل الإفك (¬2) (2) أن الله جل وعلا شدد على المؤمنين في التعجل لرميهم أم المؤمنين ¬

(¬1) القرطبي: مرجع سابق: 12/ 188، الشوكاني: فتح القدير: 3/ 186، المنصوري: المقتطف: 3/ 507 (¬2) ابن كثير: مرجع سابق: سابق: 3/ 288

عائشة، رضي الله عنها، فقال: [لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ] النور 12. أي: لولا: - وهذه التحضيضية تأكيداً للتوبيخ والتقريع، ومبالغة في عتابهم، أي: كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الإفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد منهم، فهو في أم المؤمنين أبعد، فعائشة أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى. وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته، وذلك: أنه دخل عليها فقالت: يا أبا أيوب أسمعت ما قيل؟ فقال: نعم، وذلك الكذب، أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك؟ قالت: لا والله، فقال: عائشة والله أفضل منك، قالت: أم أيوب نعم. قال ابن الزبير: ذلك معاتبة للمؤمنين، إذ المؤمن لا يفجر بأمه؛ وعائشة أم المؤمنين فكيف بالصديقة بنت الصديق حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. [وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ] أي: قال المؤمنون عند سماع الإفك، هذا إفك ظاهر مكشوف، فيقولون بألسنتهم أن ما جاء به أهل الإفك مما رموا به أم المؤمنين هو الكذب البحت والقول الزور، والرعونة الفاحشة الفاجرة، والصفقة الخاسرة (¬1) ثم قال المولى سبحانه وتعالى في حق الخائضين: [لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ] وهذا توبيخ لأهل الإفك، ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 284، القرطبي: مرجع سابق: 12/ 181، أبو حيان: مرجع سابق: 8/ 21، الشوكاني: مرجع سابق: 3/ 182، المنصوري: مرجع سابق: 3/ 105

أي: هلاّ جاءوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء. [فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ]: أي في حكم الله كاذبون فاجرون، قال الإمام أبو حيان: جعل الله فصلاً بين الرمي الكاذب والرمي الصادق ثبوت أربعة شهداء وانتفاؤها. [فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا]: فهم في حكم الله وشريعته كاذبون، وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك، ولم يجدوا في دفعه وإنكاره، واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بيّنة والتنكيل (¬1) وكذا فإن استحقاق العذاب الأليم قد تعلق بآثام حادثة الإفك: تلقي الإفك بألسنتهم، والتحدث به من غير تحقق، واستصغارهم لذلك وهو عند الله عظيم، ولكن ما سبق من فضل الله عليهم ورحمته في الدنيا والآخرة، بأن قبل توبتهم في الدنيا وعفا عنهم لإيمانهم في الآخرة. [لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (¬2) ثم عاتب جل وعلا المؤمنين فقال: [وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ] النور 16: أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، فلولا إذ سمعتموه من المخترعين المشيعين للإفك قلتم تكذيباً للخائضين فيه، والمفترين له: ما ينبغي لنا، ولا يمكننا أن نتكلم بهذا ¬

(¬1) أبو حيان: مرجع سابق: 8/ 22 (¬2) مراجع سابقة.

الحديث. [سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ]: تعجب ممن تفوه به، وتنزيه له تعالى من أن يقع هذا من زوج نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأن تحكوا على هذه المقالة بأنها بهتان، وهو الكذب العظيم، لكونه قيل في أم المؤمنين عائشة، وصدوره مستحيل شرعاً من مثلها (¬1) (3) إظهار البراءة للطاهرة المطهرة العفيفة صراحة، فقال جل شأنه: [إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ] فسماه الله تعالى إفكاً، وهو أسوأ الحديث وأقبحه. قال الإمام الشوكاني: للإفك: هو الحديث المقلوب، وقيل: هو البهتان. وإنما وصفه الله بأنه إفك؛ لأن المعروف من حالها خلاف ذلك. قال الواحدي: ومعنى القلب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك النفر: أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة وشرف النسب والسبب لا القذف فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه، فهو إفك قبيح وكذب ظاهر (¬2) وقال سبحانه وتعالى [وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] قال أهل التفسير: الإشارة فيه إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: الإشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعائشة وصفوان. وقيل: عائشة وصفوان (¬3) ¬

(¬1) مراجع سابقة. (¬2) الشوكاني: فتح القدير: 3/ 181 (¬3) الشوكاني: فتح القدير: 3/ 187

أولئك: إشارة إلى الطيبين والطيبات، مبرءون مما يقول الخبيث من خبيثات الكلم أو القاذفون الرامون المحصنات. قال الإمام ابن كثير: فما نسبة أهل النفاق إلى عائشة من كلام هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم، ولهذا قال: [أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ] (¬1) وقال الإمام القرطبي: قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رُميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى عليه السلام، وإن عائشة لما رُميت بالفاحشة برأها الله بالقرآن، فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برأها الله تعالى بكلامه من القذف والبهتان (¬2) [لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] لهم مغفرة بسبب ما قيل فيهم من الكذب، ورزق كريم: أي عند الله في جنات النعيم. 2. في مسيرة الجهاد، وفي آخر غزوات النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، انطلقت ألسنة المنافقين في الطعن واللمز في أهل اليقين فيقول قائلهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، لا أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء. قال الإمام القرطبي: كانوا ثلاثة نفر، هزئ اثنان وضحك واحد (¬3) ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 289 (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 12/ 189 (¬3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 8/ 181

إنّها كلمات تهز الوجدان، أغضبت الرحيم الرحمن، كيف لا، وقد جاء في لفظ أنه قال: يا معشر القراء، ما بالكم أجبن منا، وأبخل إذا سئلتم، وأعظم لفحاً إذا أكلتم؟ نعم، إنه النفاق، فهنا يدفع الله سبحانه ويدافع عن عباده المؤمنين المخلصين فيقول سبحانه: [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ] التوبة 65 - 66. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه، وهو يقول: يارسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وبين يديه ناس من المنافقين فقالوا: أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات، فاطلع الله نبيه على ذلك، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: احبسوا على هؤلاء الركب، فأتاهم فقال: قلتم كذا، قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله تعالى فيهم ما تسمعون. قال الإمام الشوكاني: وقد روي نحو هذا من طرق عن جماعة من

الصحابة رضي الله عنهم. 3 - وفي أحداث هذه الغزوة وثنايا هذه السورة العظيمة المباركة: يحث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، ويقول: تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً، فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله: عندي أربعة آلاف: ألفين أقرضهما ربي، وألفين لعيالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت. وبات رجل من الأنصار، فأصاب صاعين من تمر، فقال يارسول الله: أصبت صاعين من تمر، صاع أقرضه لربي، وصاع لعيالي، فلمزه المنافقون وقالوا: ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياءً، وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا. يقول الإمام ابن كثير: وهذه من صفات المنافقين، لا يسلم أحد من عيبهم، ولمن هم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مراء، وإن جاء بشيء يسير قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا (¬1) فأنزل المولى سبحانه وتعالى دفاعاً عنهم قوله تعالى: [الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ والذين لا يجدون إلا جهدهم فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] التوبة 79. ومعني يلمزون: أي يعيبون، والمطوعين: أي المتطوعون، والتطوع: ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 389

التبرع في الصدقات أي: يعيبوهم في شأنها، [وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ]: أي إلا وسعهم وطاقتهم، فإن المنافقين كانوا يعيبون فقراء المؤمنين الذين كانوا يتصدقون بما فضل من كفايتهم. فجاءت العاقبة المخزية، والعقاب المهلك. [فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ]: وهذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فعاملهم معاملة من سخر منهم، انتصاراً للمؤمنين في الدنيا وأعد للمنافقين في الآخرة عذاباً أليما؛ لأن الجزاء من جنس العمل (¬1). 4 - ومن أوجه الدفاع: ما جاء في سورة الأحزاب في قوله جل شأنه: [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً] 58. قال الإمام القرطبي: نزلت فيمن أذى عمر باللسان، وقيل: في علي، كان المنافقون يؤذونه ويكذبون عليه. وقال الإمام أبو حيان: وقيل نزلت في الذي أفكوا على عائشة. وقال الإمام ابن كثير: [بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا]: أي ينسبون إليهم ما هم براء منه لم يعملوه ولم يفعلوه. وقال الإمام أبو حيان: ومعنى [بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا]: أي بغير جناية ¬

(¬1) مراجع سابقة: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 8/ 196، أبو حيان: البحر المحيط: 5/ 486، الشوكاني: فتح القدير: 2/ 262، المنصوري: المقتطف: 2/ 413 ابن حجر: فتح الباري: 8/ 181

واستحقاق أذى. وها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوماً لأُبَيّ: قرأت البارحة [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ] ففزعت منها، وإني لأضربهم وأنهرهم، فقال له: لست منهم، إنما أنت معلم ومقوّم. وقال الإمام أبو حيان: وأطلق إيذاء الله ورسوله على إيذاء المؤمنين بقوله [بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا]: لأن إيذاءهما لا يكون إلا بغير حق، بخلاف إيذاء المؤمن فقد يكون بحق (¬1) فقال سبحانه وتعالى لمن آذى المؤمنين وعلى رأسهم الصحابة الأطهار الكرام: [فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً] وهذا هو البهت الكبير أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله ثم الرافضة الذي ينتقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم، فإن الله عز وجل قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم وينتقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن، ولا فعلوه أبداً، فهم في الحقيقة منكسو القلوب، ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 525، القرطبي: مرجع سابق: 14/ 215، أبو حيان: مرجع سابق: 8/ 503، الشوكاني: مرجع سابق: 3/ 449، المنصوري: مرجع سابق: 04/ 280

يذمون الممدوحين، ويمدحون المذمومين (¬1) 5 - والله جل وعلا، في أكثر من موضع يبين فضل الصحابة ومكانتهم، ويعاتب فيهم نبيه عليه الصلاة والسلام: فيقول في شأن ابن أم مكتوم، وكان ممن أسلم قديماً، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله ويلح عليه، فعبس النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وأعرض عنه، وأقبل إلى من كان يخاطبه من عظماء قريش ممن قد طمع في إسلامه فقال المولى جل شأنه [عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى] عبس 1 - 10. قال الإمام القرطبي: الآية عتاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في إعراضه وتوليه عن عبد الله بن أم مكتوم، وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين. وقيل: إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل، ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إني لأصل الرجل وغيره أحب إليّ منه، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه). قال ابن زيد: إنما عبس النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم وأعرض عنه؛ لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ابن أم مكتوم، وأبى إلا أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمه، فكان في هذا نوع جفاء منه، ومع هذا أنزل الله في حقه ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 525

على نبيه صلى الله عليه وسلم {عَبَسَ وَتوَلّى .. }. قال الإمام ابن كثير: ومن ههنا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يخص بالإنذار أحداً، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف والفقير والغني والسادة والعبيد والرجال والنساء والصغار والكبار. قال الإمام الثوري: فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول: مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي، ويقول: هل لك من حاجة؟ (¬1). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحترمه، ويستخلفه على المدينة، فيصلي ببقايا الناس (¬2). 6 - وهنا يقول الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام: [وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ] الأنعام 52. يقول سعد بن أبي وقاص: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست اسميهما، فوقع في ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 501، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 19/ 185، أبو حيان: البحر المحيط: 10/ 407، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 432، المنصوري: المقتطف: 5/ 427. (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 159

نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل [وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ] (¬1) وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يصبر نفسه معهم كما أمره الله تعالى في قوله [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ] الكهف 28. فكان لا يقوم حتى يكونوا هم الذين يبتدئون القيام. فقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: [مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ] أي: ما عليك من جزائهم ولا كفاية أرزاقهم، فجزاؤهم ورزقهم على الله، وجزاؤك ورزقك على الله لا على غيره، فإذا كان الأمر كذلك فأقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل. [فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ] والمعنى: أن أولئك الفقراء يستحقون من التقريب، فبطردهم تضع الشيء في غير موضعه، فتكون من الظالمين، وحاشاه عن وقوع ذلك منه، وإنما هذا بيان للأحكام، وهو من باب التعريض؛ لئلا يفعل ذلك غيره صلى الله عليه وسلم من أهل الإسلام، وهذا مثل قوله تعالى [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ] الزمر 65. وقد علم الله منه أنه لا ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل سعد بن أبي وقاص (2413)

يشرك ولا يحبط عمله (¬1) 7 - قال سبحانه وتعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] الحجرات 6. قال الإمام ابن كثير: ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ويزيد بن رومان والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم في هذه الآية أنّها نزلت في الوليد بن عقبة. قال الإمام الشوكاني: وقد رويت روايات كثيرة متفقة على أنه سبب نزول الآية، وأنه المراد بِها وإن اختلفت القصص. وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقاً - يجبي الصدقات - إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنّهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً، فبعث عيونه فلما جاءوا وأخبروا خالداً أنّهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت الآية، فكان يقول نبي الله صلى الله عليه وسلم التأني من الله والعجلة من ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم القرآن العظيم: 2/ 139، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 6/ 394، أبو حيان: البحر المحيط: 4/ 520، الشوكاني: فتح القدير: 2/ 25، المنصوري: المقتطف: 2/ 121، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 159.

الشيطان. قال الإمام ابن كثير: وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده (¬1) وهذه أمثلة ونماذج في دفاع المولى سبحانه وتعالى ودفعه عن المؤمنين، والمتأمل والناظر يجد الكثير والكثير، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أولياء الله تعالى، بل أفضل الأولياء والأصفياء الأتقياء، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والواقع في أعراضهم والطاعن فيهم المعادي لهم قد آذنه الله بحرب (ومن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب). ولذا لما خاصمت أروى سعيد بن زيد بن نفيل في أرض، وقالت: إنه بنى ضيغرة في حقي، فلئن لم ينزع، لأصحين به في مسجد رسول الله فقيل لها: لا تؤذي صاحب رسول الله، ما كان ليظلمك وما كان ليأخذ لك حقاً، فلما كلم فيها قال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها واجعل قبرها في دارها. قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، بينما هي تمشي في الدار خرت في بئر الدار فوقعت فيها فكانت قبرها (¬2) ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 223، القرطبي: مرجع سابق: 16/ 264، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 131 (¬2) انظر: اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1328، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 45 - 57

المبحث الثاني دفاع النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحابه رضي الله عنهم

المبحث الثاني دفاع النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحابه رضي الله عنهم خير من تمثل مبدأ النصرة والانتصار، والدفاع عن حقوق الإنسان، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي أقام مبدأ النصرة والعدل فقال: (انصر أخالك ظالماً أو مظلوماً) (¬1) وقال: (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) (¬2) وهو عليه الصلاة والسلام مع كمال شفقته ورحمته بأمته، حيث قال جل شأنه: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] التوبة 128، وقال سبحانه [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] الأنبياء 107. إلا أنه أشد الناس غضباً إذا انتهكت محارم الله، وطعن في دينه، وانتقص حملته - وعلى رأسهم - صحابته الكرام، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا أصحابي ... ) دفاعاً عنهم، وقال: (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي .. ) دفاعاً عنهم، وقال: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) دفاعًا عنهم. وشواهد السيرة أكثر من أن تحصر في دفاع النبي صلى الله عليه وسلم عن صحابته رضي الله عنهم ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم بابن انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً (2444) (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب الحدود باب كراهية أن يشفع في الحدود (1430)

والذب عن أفضل وخير أمته. ومن الشواهد: [1] في صحيح الإمام البخاري: أن النبي صعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أوصيكم بالأنصار، فإنّهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم)، وقال: الأنصار كرشي وعيبتي، والناس سيكثرون ويقلون، فاقبلوا من محسنهم واعفوا عن مسيئهم). (¬1) قال الإمام النووي: الأنصار كرشي وعيبتي: قال العلماء معناه: جماعتي وخاصتي الذي أثق بهم، وأعتمدهم في أموري. قال الخطابي: ضرب مثلاً بالكرش؛ لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون به بقاؤه، والعيبة: وعاء معروف أكبر من المخلاة، يحفظ الإنسان فيها ثيابه وفاخر متاعه ويصونها، ضربها مثلاً؛ لأنّهم أهل سره، وخفي أحواله (¬2) ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله) (¬3) قال العلامة التوربشتي: الكرش لكل مجتر بمنزلة المعدة للإنسان، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب مناقب الأنصار باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " اقبلوا من محسنهم " (3799) (¬2) النووي: شرح مسلم: 16/ 302 (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار من الإيمان (3783)

والعرب تستعمل الكرش في كلامهم موضع البطن والبطن مستودع مكتوم السر، والعيبة: مستودع مكنون المتاع، والأول أمر باطن، والثاني أمر ظاهر، ويحتمل أنه ضرب المثل بهما إرادة اختصاصهم به في أموره الظاهرة والباطنة (¬1). قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أبغضهم أبغضه الله): قال ابن التين: يريد حب جميعهم وبغض جميعهم، لأن ذلك إنما يكون للدين، ومن أبغض بعضهم لمعنى يسوغ له البغض فليس داخلاً في ذلك. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وهو تقرير حسن (¬2) وتعقبه الإمام العيني وقال: وقال غيره: هذا مما لا يجوز، فهو إثم، قال الدراوردي: هو من الكبائر وليس من النفاق (¬3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاقبلوا من محسنهم وتجاوزا عن مسيئهم): فاقبلوا من محسنهم: أي إن أتوا بعذر مما صدر منهم. وتجاوزوا عن مسيئهم: أي إن عجزوا عن عذر، والتجاوز عن المسيء مخصوص بغير الحدود وحقوق الناس (¬4) قال الإمام ابن حزم: وكيف يتجاوز عن مسيء الأنصار، وقد قال ¬

(¬1) المباركفوي: تحفة الأحوذي: 10/ 375 (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 142 (¬3) العيني: عمدة القاري: 11/ 501 (¬4) المباركفوري: مرجع سابق: 10/ 375

النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره .. )؟ قال: إن جميعها كلها حق ممكن ظاهر، وذلك ما كان من إساءة لا تبلغ منكراً وجب أن يتجاوز فيها عن الأنصار في التعزير، ولم يخفف عن غيرهم، وما كان من حد خفف أيضاً عن الأنصار، ما لا يخفف عن غيرهم، مثل أن يجلد الأنصاري في الخمر بطرف الثوب، وغيره باليد أو بالجريد والنعال (¬1) [2] أخرج البخاري في صحيحه عن أبي الدرداء قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر، فسلم وقال: يا رسول الله، إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى عليّ، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر (ثلاثاً) ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله: والله أنا كنت أظلم (مرتين) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي (مرتين) فما أوذي بعدها (¬2) ¬

(¬1) ابن حزم: المحلى: 13/ 232 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة بابن قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذاً خليلاً" (3661).

قال الحافظ ابن حجر: قوله (فما أوذي بعدها): أي لما أظهره النبي صلى الله عليه وسلم لهم من تعظيمه. ويظهر من سياق هذه القصة ظهوراً واضحاً دفاع النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه - والكل أصحابه - ولذا جاء في بعض الروايات: فجلس عمر فأعرض عنه، ثم تحول فجلس إلى الجانب الآخر، فأعرض عنه، ثم قام فجلس بين يديه فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله ما أدرى إعراضك إلا لشيء بلغك عني، فما خير حياتي وأنت معرض عني؟ فقال: أنت الذي اعتذر أبو بكر فلم تقبل منه. وقال الحافظ ابن حجر: ووقع في حديث ابن عمر عند الطبراني في نحو هذه القصة: يسألك أخوك أن تستغفر له فلا تفعل، فقال: والذي بعثك بالحق ما من مرة يسألني إلا وأنا استغفر له، وما خلق الله من أحد أحب إليّ منه بعدك، فقال أبو بكر: وأنا والذي بعثك بالحق كذلك (¬1) فالشيخان لهما منزلة عظيمة في قلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا أدل على ذلك لما سأله عمرو بن العاص: أي الناس أحب إليك؟ فقال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها، قلت ثم من؟ فقال: عمر بن الخطاب (¬2) فهما كعيني الرأس، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه رضي الله عنهم على حفظ ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 31، العيني: عمدة القاري: 11/ 397. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذا خليلاً " (3662)

حقوق بعضهم بعضاً، وعلى بيان منزلة كل واحد منهم، وخاصة أهل السبق والإيمان منهم. ولأبي بكر الصديق رضي الله عنه السبق، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: هل قلت في أبي بكر؟ قال: نعم، قال: قل وأنا أسمع، فقال حسان: وثاني اثنين في الغار وقد ... طاف العدو بهم إذا صعدوا الجبلا ... وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: صدقت يا حسان. وروي عن أبي الدرداء قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشي أمام أبي بكر، فقال: يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة، ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر (¬1) وقال أبو بكر محمد بن عبد الخالق: هما ضجيعاه معاً في حضرته ... وخير من قام له في قبلته ... وصليا من بعده لأمته ... ووفيا من بعده بذمته ... ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1356، 1358

وسلكا في الحكم قصد سيرته (¬1) وقال حسان رضي الله عنه في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: ثلاثة برزوا بفضلهم ... نضرهم ربهم إذا نشروا ... فليس من مؤمن له بصر ... ينكر تفضيلهم إذا ذكروا ... عاشوا بلافرقة ثلاثتهم ... واجتمعوا في الممات إذ قبروا ولذا استفاد عمر رضي الله عنه من هذا الدرس، فها هو يبلغه الخبر على رد رجل على الحبر عالم القرآن والسنة ابن مسعود رضي الله عنه، فيضربه عمر إجلالاً وإعظاماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال الإمام الذهبي: حدثنا سيار عن أبي وائل: أن ابن مسعود رأى رجلاً قد أسبل فقال: ارفع إزارك، فقال: وأنت يا ابن مسعود فارفع إزارك، قال: إن بساقي حموشة، وأنا أؤم الناس، فبلغ ذلك عمر، فجعل يضرب الرجل ويقول: أترد على ابن مسعود (¬2) وهذا هو ما استفاده وتعلمه الصحابة رضي الله عنهم: فكان حذيفة رضي الله عنه يذكر أشياء قالها النبي صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب فينطلق ناس ممن سمع ذلك فيأتون سلمان رضي الله عنه فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان: حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون لحذيفة فيقولون له: قد ذكرنا قولك لسلمان فما صدقك ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1454 - 7/ 1408 (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 216

ولا كذبك فأتي حذيفة سلمان فقال: يا سلمان ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سلمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب فيقول في الغضب لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضا لناس من أصحابه، أما تنتهي حتى تورث رجالاً حب رجال، ورجالاً بغض رجال، وحتى توقع اختلافاً وفرقه، ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: (أيما رجل من أمتي سببته سبة، أو لعنته لعنة في غضبي، فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة العالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة)، والله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر. قال العلامة السندي: والحاصل: أن سلمان ما رضي بإظهار ما صدر في شأن الصحابة: لأنه ربما يخل بالتعظيم الواجب في شأنهم بما لهم من الصحبة. يُنبه إلى أنه قد ورد في الدفاع ما لا يصح، كما روي: أنه قدمت جنازة رجل فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: فقال: إن كان يبغض عثمان فأبغضه الله. أخرجه الترمذي في جامعه، وفي سنده محمد بن زياد وهو ضعيف جداً (¬1) وفي الصحيح غنية عن الضعيف. [4] ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك خلف علياً بالمدينة، فقالوا: كره صحبته، فبلغ ذلك علياً فشق عليه، قال: فتبع النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحقه فقال: يا رسول الله خلفتني مع الذراري والنساء حتى قالوا: ملّه وكره ¬

(¬1) المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 194

صحبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة موسى من هارون، إلا أنه لا نبي بعدي فقال على: رضيت رضيت (¬1) فهنا رد النبي صلى الله عليه وسلم عن علي وطيّب خاطرة وبيّن منزلته ومكانته وفضله رضي الله عنه، ومعنى قوله: أن تكون مني بمنزله موسى من هارون: أي نازلاً مني منزله هارون من موسى. قال الحافظ ابن حجر: وقد استدل بهذا الحديث على استحقاق علي للخلافة دون غيره من الصحابة، فإن هارون كان خليفة موسى. وأجيب: بأن هارون لم يكن خليفة موسى إلا في حياته لا بعد موته؛ لأنه مات قبل موسى باتفاق، أشار إلى ذلك الخطاّبي (¬2) وكذا جرت للإمام علي رضي الله عنه حادثة، فدفع عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً واستعمل عليهم علي بن أبي طالب، فمضى في السرية فأصاب جارية، فأنكروا عليه، وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إذا لقينا رسول الله أخبرناه بما صنع علي، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مناقب علي بن أبي طالب (3706)، وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب فضائل النبي الصحابة باب من فضائل علي بن أبي طالب (2404)، وانظر: اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 4156، النووي: شرح مسلم: 15/ 184، العيني: عمدة القاري: 11/ 441، المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 220. (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 93

وكان المسلمون إذا رجعوا من سفر بدءوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه ثم انصرفوا إلى رحالهم، فلما قدمت السرية سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله ألم تر إلى ما صنع علي صنع كذا وكذا، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام الثاني فقال مثل مقالته فأعرض عنه، ثم قام الثالث فقال مثل مقالته فأعرض عنه ثم قام الرابع فقال مثل ما قالوا، فأقبل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم والغضب يُعرف في وجهه فقال: ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ إن علياً مني وأنا منه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان (¬1) ومعنى قوله: علي مني وأنا منه: أي في النسب والصهر والمسابقة والمحبة، وغير ذلك من المزايا، ولم يرد محض القرابة، وإلا فجعفر شريكه فيها (¬2). يُنبه إلى أنه جاء في هذا الحديث زيادة لا تصح وهي قوله (وهو ولى كل مؤمن من بعدي) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو في حياته وبعد مماته ولي كل مؤمن، وكل مؤمن وليه في المحيا والممات. ثم قال: وقول القائل: علي ولي كل مؤمن بعدي كلام يمتنع نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب في مناقب علي بن أبي طالب (3721) (¬2) المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 198

إن أراد الموالاة لم يحتج أن يقول: بعدي، وإن أراد الإمارة كان ينبغي أن يقول: وال على كل مؤمن (¬1) وعن البراء قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشين، وأمر على أحدهما علي وعلى الآخر خالد بن الوليد، وقال: إذا كان القتال فعليّ، قال: فافتتح علي حصناً فأخذ منه جارية، فكتب معي خالد كتاباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشي به، قال: فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ الكتاب فتغير لونه ثم قال: ما ترى في رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله؟ قال: قلت أعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، إنما أنا رسول فسكت. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه (¬2) وهنا حديث يحتاج إلى نوع بيان: أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً إلى خالد ليقبض الخمس، - خمس الغنيمة - وكنت أبغض علياً، وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: يا بريدة أتبغض علياً؟ قلت: نعم. قال: لا ¬

(¬1) المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 200 (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب مناقب علي بن أبي طالب (3734)، اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: مرجع سابق: 8/ 1458

تبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك (¬1) وفي رواية عند الإمام أحمد: قلت يا أبا الحسن ما هذا؟ فقال: ألم تر إلى هذه الوصيفة، فإنّها صارت في الخمس، ثم صارت في آل محمد، ثم صارت في آل علي فوقعت بِها. وفي رواية: فإذا النبي قد أحمر وجهه يقول: (من كنت وليه فعلي وليه). وهنا لماذا أبغض بريدة علياً؟ قال الحافظ ابن حجر: قال أبو ذر الهروي: إنما أبغض الصحابي علياً لأنه رآه أخذ من المغنم، فظن أنه غلّ، فلما أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أنّه أخذ أقل من حقه أحبه. قال الحافظ: وهو تأويل حسن، ولكن يبعده صدر الحديث الذي أخرج أحمد، فلعل سبب البغض كان لمعنى آخر، وزال بنهي النبي صلى الله عليه وسلم لهم عن بغضه (¬2) وأخرج الإمام اللالكائي بسنده: أنه وقع بين أسامة بن زيد وعلي تنازع قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكرت ذلك له فقال: يا علي: - يقول هذا لأسامة - فو الله إني لأحبه، وقال لأسامة: - يقول هذا لعلي - فمن كنت ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب بعث علي بن أبي طالب (3734)، اللالكائي: مرجع سابق: 8/ 1458 (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 665، العيني: عمدة القاري: 12/ 319، انظر: القرطبي: ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 122

مولاه فعلي مولاه (¬1) وكذا أخرج الإمام أحمد شيئاً من هذا. قلت: وهذا كله يدل على تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، لحفظ حقوق بعضهم بعضاً، وأن الصحابة رضي الله عنهم مع جلالة قدرهم، بشر غير معصومين، وما جرى منهم من سيئات فهي مغمورة في بحار حسناتهم. [4] ومن إنصاف النبي صلى الله عليه وسلم وعدله، ودفعه عن أصحابه رضي الله عنهم وإعطاء كل ذي حق حقه: ما ورد أنه كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) (¬2) والسب الذي ورد في الحديث هو قول خالد رضي الله عنه لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بِها، فلما بلغ النبي ذلك، قال ما قال عليه الصلاة والسلام (¬3) كلاهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له من الفضل والمنزلة والمكانة ماله، ولكن لما كان عبد الرحمن بن عوف له السبق بالهجرة، الذين قال الله تعالى عنهم [لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى] الحديد 10. كان ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: شرح 8/ 1453 (¬2) انظر: النووي: شرح مسلم: 16/ 327، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 42 (¬3) انظر: الشوكاني: فتح القدير: 4/ 232

وجه الدفع عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أسبق، ولذا جاء في رواية: كان بين خالد وابن عوف شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوا لي أصحابي أو أصيحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً لم يدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه). وعن ابن أبي أوفى قال: شكا عبد الرحمن بن عوف خالداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا خالد لا تؤذ رجلاً من أهل بدر فلو أنفقت مثل أحد ذهباً لم تدرك عمله، فقال: يقعون فيّ فأرد عليهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تؤذوا خالداً، فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار) (¬1) والخطاب في الحديث للجماعة فقال: (لا تسبوا أصحابي .. ) ولذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحديث لا يدل على أن المخاطب خالد، ولا يبعد أن يكون الخطاب لغير الصحابة، ويدخل فيه خالد، لأنه ممن سب (¬2) قال الحافظ ابن حجر معقباً: وغفل من قال: إن الخطاب بذلك لغير (من) الصحابة، وإنما المراد من سيوجد من المسلمين المفروضين في العقل تنزيلاً لمن سيوجد، منزلة الموجود للقطع بوقوعه، ووجه التعقب عليه: وقوع التصريح في نفس الخبر بأن المخاطب بذلك خالد بن الوليد، وهو من الصحابة الموجودين إذ ذاك بالاتفاق. وقال: ومع ذلك فنهي بعض من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وخاطبه بذلك عن ¬

(¬1) انظر: ابن كثير: البداية والنهاية: 77/ 154، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 127، العيني: عمدة القاري: 11/ 406 (¬2) العيني: مرجع سابق: 11/ 406

سب من سبقه، يقتضي زجر من لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخاطبه عن سب من سبقه من باب أولى (¬1) ومن أوجه الدفاع عن خالد: ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما ينتقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، قد احتبس أدراعه واعتده في سبيل الله، وأما العباس بن عبد المطلب، فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ومثلها معها (¬2). قال العلامة العيني: ومن فوائد الحديث: الاعتذار بما يسوغ الاعتذار به (¬3). ففي الحديث ذكر بعض من منع الصدقة وهم (ابن جميل وخالد بن الوليد، والعباس بن عبد المطلب). واختلف العلماء في المقصود والمراد من الصدقة: فقيل: هي الصدقة الواجبة، وقيل: هي صدقة التطوع، وهذا رجحه جماعة من العلماء؛ تحسيناً للظن بالصحابة رضي الله عنهم إذ لا يظن بهم منع الواجب. ¬

(¬1) ابن حجر: مرجع سابق: 7/ 42 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الزكاة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله (1468) (¬3) العيني: عمدة القاري: 6/ 492

فعلى هذا القول: فعذر خالد ظاهر؛ لأنه أخرج ماله في سبيل الله، فما بقي له مال يحتمل المواساة. والعباس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هي علي " وفيه تنبيه على سبب ذلك وهو قوله (إن العم صنو أبيه) تفضيلاً وتشريفاً. وقيل: معنى: (علي): أي هي عند قرض؛ لأنني استسلفت منه صدقة عامين. وأما ابن جميل: فقيل: كان منافقاً ثم تاب بعد ذلك، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله ورسوله). قال الحافظ ابن حجر: وإنما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه؛ لأنه كان سبباً لدخوله في الإسلام فأصبح غنياً بعد فقره، بما أفاء الله على رسوله وأباح لأمته الغنائم (¬1). ولذا فالمعنى: أنه لم يكن له عذر في منعها. وأما على القول الأول: وهو الذي رجحه المحققون من أهل العلم: أن المقصود بالصدقة في الحديث، هي الصدقة الواجبة، ويدل عليها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لها السعاة ولم يكن يبعث السعاة إلا في الصدقة الواجبة. ومن هنا يتبين وجه الدفاع من النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحابه وهو بيّن في ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 3/ 390

قوله: (فإنكم تظلمون خالداً) أي: بنسبتكم إياه للمنع، إذ كيف يمنع الفرض وقد تطوع بتحبيس سلاحه وخيله في سبيل الله تعالى. وقد بيّن العلماء وأفاضوا في سبب منع خالد، واعتذروا له رضي الله عنه وأرضاه (¬1). [5] ومن شواهد دفاع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ودفعه عن أصحابه وأهل بيته، دفعه عن زوجه وحبيبته أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق الطاهرة العفيفة المبرأة من فوق سبع سماوات، ووجوه الدفاع والدفع متعددة: أ/ أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن هشام عن أبيه قال: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان، أو حيث ما دار، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأعرض عني، فلما عاد إليّ ذكرت له ذلك فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل عليّ ¬

(¬1) انظر: مراجع سابقة: النووي: شرح مسلم: 7/ 61، الفاكهاني: رياض الأفهام: 3/ 330، ابن الملقن: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام: 5/ 78، ابن دقيق: إحكام الإحكام: 2/ 193، السفاريني: كشف اللثام: 3/ 434، العثيمين: تنبيه الأفهام: 3/ 398، البسام: تيسير العلام: 1/ 388

الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها (¬1) وفي رواية: فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة، فقلت: أتوب إلى الله تعالى. وفي المسند: فقالت أم سلمة: أعوذ بالله أن أسوءك في عائشة. قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا منقبة عظيمة لعائشة رضي الله عنها (¬2) وفي روايات هذا الحديث في الصحيح: ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: إن نساءك ينشدنك العدل في بنت أبي بكر، فكلمته فقال: يا بُنية: ألا تحبين من أحب؟ قالت: بلى، فرجعت إليهن فأخبرتهن، فقلن: ارجعي إليه، فأبت أن ترجع، فأرسلن زينب بنت جحش، فأتته فأغلظت، وقالت: إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت أبي قحافة، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبتها، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة هل تكلمه، قال: فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها، قالت: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة وقال: إنّها بنت أبي بكر (¬3) والمقصود من قولهن رضي الله عنهن: ينشدنك العدل: أي يسألنك ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة (3775) (¬2) أخرجه أحمد في المسند: انظر: البنا: الفتح الرباني: 22/ 115، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 136 (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الهبة باب من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض (2581)

العدل، والمراد به: التسوية بينهن في كل شيء من المحبة وغيرها (¬1) قال العلماء: يستفاد من الحديث، أنه لا حرج على المرء في إيثار بعض نسائه بالتحف، وإنما اللازم العدل في المبيت والنفقة، ونحو ذلك من الأمور اللازمة، كذا قرره ابن بطال عن المهلب، وتعقبه ابن المنير، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك وإنما فعله الذين أهدوا له، وهم باختيارهم في ذلك، وإنما لم يمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس من كمال الأخلاق التعرض لمثل هذا، على أن حال النبي صلى الله عليه وسلم يشعر بأنه كان يشركهن في ذلك، ولم تقع المنافسة إلا لكون العطية تصل إليهن من بيت عائشة (¬2) وفي رواية الإمام مسلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة: فأحبي هذه، فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم في عائشة (إنّها ابنة أبي بكر) فيه الإشارة إلى كمال فهمها، وحسن نظرها. وقيل: أي إنّها شريفة عاقلة عارفة كأبيها. وقيل: هي أجود فهماً وأدق نظراً منها. ¬

(¬1) قال الإمام النووي: وأما محبة القلب فكان يحب عائشة أكثر منهن، وأجمع المسلمون على أن محبتهن لا تكلف فيها، ولا يلزمه التسوية فيها، لأنه لا قدرة لأحد عليها إلا الله وإنما يؤمر بالعدل في الأفعال. النووي: شرح مسلم: 15/ 216 (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 5/ 246، العيني: عمدة القاري: 9/ 396 (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة (2442)، انظر: اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1512

وفي الحديث (فسبتها) تقول عائشة: وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها، قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن انتصر (¬1). قال الإمام النووي: اعلم أنه ليس فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة ولا أشار بعينه، ولا غيرها، ولا يحل اعتقاد ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم تحرم عليه خائنة الأعين، وإنما فيه أنّها انتصرت لنفسها (¬2). قال الحافظ ابن حجر: لكن روى النسائي وابن ماجه مختصراً من طريق عبد الله البهي عن عروة عن عائشة قالت: دخلت علي زينب بنت جحش فسبتني، فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فأبت، فقال: سبيها فسببتها حتى جف ريقها في فمها. قال: فيمكن أن يحمل على التعدد. وقال العلامة العيني: يحتمل أن تكون هذه قضية أخرى (¬3). وروى الإمام أحمد في مسنده: قالت عائشة: ما علمت حتى دخلت عليّ زينب بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسبك إذا أقلبت لك بنية أبي بكر ذريعتيها، ثم أقبلت إليّ فأعرضت عنها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: دونك فانتصري فأقبلت عليها حتى رأيتها قد يبس ريقها في فمها ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة (2442). (¬2) النووي: شرح مسلم: 15/ 218، ابن حجر: فتح الباري: 5/ 246 (¬3) ابن حجر: فتح الباري: 5/ 246، العيني: عمدة القاري: 9/ 395

ما ترد علىّ شيئاً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه (¬1). ومعنى قولها: أحسبك إذا أقلبت لك ذريعتيها، أي ساعديها، والمعنى: أنك تسمع لقولها، وتعمل بإشارتها. قال العلماء: وإنما أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بالانتصار من زينب لكونه رآها زادت في الاعتداء، وعائشة ساكنة لا ترد عليها (¬2). وقال الإمام الخطابي: في حديث أبي داود (فنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبت فقال لعائشة: سبيها فسبتها فغلبتها: فيه من العلم إباحة الانتصار، بالقول ممن سبك من غير عدوان في الجواب (¬3). ومع كل مجريات القصة فإن عائشة أنصفت أم المؤمنين زينب رضي الله عنهن، فقالت مظهرة مزيتها وفضلها: ولم أر امرأة خيرا منها، وأكثر صدقة، وأوصل للرحم، وأبذل لنفسها في كل شيء يتقرب به إلى الله عز وجل من زينب، ما عدا سورة من غرب حد كان فيها توشك منها الفيئة. والغرب: الحدة، والمعنى: أن جميع خصالها محمودة ما عدا سورة من غرب، والسورة: الثوران وعجلة الغضب، وأما الحدة: فهي شدة الخلق وثورانه، والمعنى: أنّها كانت كاملة الأوصاف إلا أن فيها شدة خلق وسرعة غضب تسرع منها الفيئة، أي الرجوع، أي: إذا وقع منها ذلك رجعت منه ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند، انظر: البنا: الفتح الرباني: 22/ 114 (¬2) البنا: الفتح الرباني: 22/ 114 (¬3) الخطابي: معالم السنن: 4/ 113

سريعاً ولا تصرُّ عليه (¬1). ب: ومن أعلى أوجه الدفع والدفاع عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من الحبيب المصطفى والنبي المجتبى صلى الله عليه وسلم: ما وقع في حادثة الإفك، وأنه لما خاض في عرضها الخائضون، قام النبي صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر، فقال: (يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما يدخل على أهلي إلا معي) (¬2). وجاء في رواية: (أشيروا علىّ في أناس أبنوا أهلي). ومعناه: عابوا أهلي، أو اتّهموا أهلي. قال الإمام ابن الجوزي: أي رموا أهلي بالقبيح. وقال في رواية: (في قوم يسبون أهلي)، وزاد: (ما علمت عليهم من سوء قط). يقول الحافظ ابن حجر: ومن فوائد الحديث: استصحاب حال من اتّهم بسوء، إذا كان قبل ذلك معروفاً بالخير، إذا لم يظهر عنه بالبحث ما يخالف ذلك (¬3). ولاشك أن في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حق عائشة: (ما علمت عن أهلي إلا خيراً)، أن فيه تزكية لعائشة. ¬

(¬1) البنا: الفتح الرباني: 22/ 114 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي: باب حديث الإفك (4141) (¬3) ابن حجر: فتح الباري:7/ 498، 8/ 327 - 337

قال الحافظ ابن حجر: وفيه استعمال (لا نعلم إلا خيراً) في التزكية (¬1) فالخيرية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) (¬2)، تقتضي الوقوف في وجه من يطعن في عرض أهله، والذب والدفاع، وبذل الطاقة والوسع لتبرئتهم. ولذا تجد في ثنايا قصة الإفك، أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار وسأل، فاستشار علياً وأسامة، وسأل الجارية وسأل زينب: فأما أسامة فقال: أهلك ولا نعلم إلا خيراً. وأما علي فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك فقالت الجارية لما سئلت، ما رأيت عليها أمراً قط أغمصه غير أنّها جارية حديثة السن تنام من عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله. وفي رواية قالت: ما علمت عنها إلا ما يعلم الصائغ على الذهب الأحمر، أي: كما لا يعلم الصائغ من الذهب الأحمر إلا الخلوص من العيب. وفي رواية قالت: والله لعائشة أطيب من الذهب، ولئن كانت صنعت ليخبرنك الله. يا لها من جارية، أنوار الحكمة فيها سارية، وأقوال الحق والصدق ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 8/ 337 (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب فضائل الصحابة المناقب باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (3904)

على لسانها جارية رضي الله عنك إذ قلت ما قلت ورفع الله قدرك إذ لأم المؤمنين نصرت، ولكرب النبي صلى الله عليه وسلم فرجت، ولقلوب أبنائها بعده أرحت. وأما زينب بنت جحش فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً (¬1) قال الإمام ابن القيم: فإن قيل: فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها، وسأل عنها وبحث واستشار، وهو أعرف بالله، وبمنْزلته عنده، وبما يليق به، وهلاّ قال: سبحانك هذا بُهتان عظيم، كما قال فضلاء الصحابة؟ فالجواب: أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سبباً لها، وامتحاناً وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولجميع الأمة إلى يوم القيامة، ليرفع بِهذه القصة أقواماً ويضع بِها آخرين، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيماناً، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً، واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي شهراً في شأنها، لا يوحى إليه في ذلك شيء، لتتم حكمته التي قدرها وقضاها، وتظهر على أكمل الوجوه، ويزداد المؤمنون الصادقون إيماناً وثباتاً على العدل والصدق، وحسن الظن بالله ورسوله، وأهل بيته والصديقين من عباده، ويزداد المنافقون إفكاً ونفاقاً، ويظهر لرسوله وللمؤمنين سرائرهم منها ومن أبويها، والافتقار إلى الله والذلة له، وحسن الظن به، والرجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين، وتيأس من ¬

(¬1) انظر: ابن حجر: فتح الباري: 7/ 498، 8327 وما بعده، العيني: عمدة القاري: 9/ 396، النووي: شرح مسلم: 15/ 218 وما بعده.

حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق، ولهذا وفت هذا المقام حقه، لما قال لها أبويها: قومي إليه، وقد أنزل الله عليه براءتها، فقالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي. وقال رحمه الله: وأيضاً فكان من حكمة حبس الوحي شهراً، أن القضية محّصت وتمحضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها، وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع، فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والصديق وأهله وأصحابه والمؤمنون، فورد عليهم ورود الغيث على الأرض أحوج ما كانت إليه، فوقع منهم أعظم موقع وألطفه، وسروا به أتم السرور، وحصل لهم به غاية الهناء. وأيضاً فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى، والتي رميت زوجته، فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه، أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها، ولم يظن بِها سوءاً قط، وحاشاه وحاشاها فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين، ولكن لكمال صبره وثباته وحسن ظنه بربه وثقته به وفى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه، حتى جاء الوحي بما أقر عينه، وسر قلبه، وعظم قدره، وظهر لأمته احتفال ربه به، واعتناؤه بشأنه (¬1). وما جاء عن علي رضي الله عنه حينما استشاره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لم يضيق الله ¬

(¬1) ابن القيم: زاد المعاد: 3/ 261 - 263

عليك والنساء سواها كثير، لم يكن هذا عداوة ولا بغضاء، ولكن لما رأى انزعاج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، وتعلقه به، أراد إراحة خاطره، وتسهيل الأمر عليه. قاله العلامة العيني (¬1). وقال الإمام ابن أبي جمرة: ولم يقل ذلك علي كراهية في عائشة، وإنما قصد الأخذ بخاطره صلى الله عليه وسلم فإنه كان شديد الغيرة واعتراه من القلق ماأوجبه أن يشير عليه براحته عنه إما بالطلاق، وإما بالبحث، حتى تتحقق البراءة، ولعلمه أن بريرة لا تعلم من عائشة إلا البراءة المحضة أحال عليها بقوله (وأسال) وفي رواية: وسل الجارية تصدقك: أي: تخبرك بالصدق (¬2) وقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن الزهري قال: قال لي الوليد بن عبد الملك، أبلغك أن علياً كان فيمن قذف عائشة؟ قلت: لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك - أبو سلمة بن عبد الرحمن , وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث - أن عائشة قالت لهما: كان علي مسلماً في شأنها فراجعوه فلم يرجع، وقال: مسلماً بلا شك، وعليه كان في أصل العتيق كذلك (¬3) روي قول أم المؤمنين عائشة: " كان علي مسلماً في شأنها " على ثلاثة أوجه: ¬

(¬1) عمدة القاري: 12/ 177 (¬2) ابن أبي جمرة: مختصر صحيح البخاري ِ: 158 (¬3) أخرجه البخاري في صحيح كتاب المغازي باب حديث الإفك (4142)

1 - مسلِّما: بالكسر. 2 - مسلَّما: بالفتح. قال الإمام العيني: والمعنى متقارب، وتعقبه الحافظ ابن حجر وقال: وفيه نظر، فرواية الفتح، تقتضي سلامته من ذلك، وراية الكسر، تقتضي تسليمه لذلك (¬1). 3 - مسيئاً: يعني من الإساءة: قال الإمام ابن التين: وفيه بُعد. قال الحافظ ابن حجر: بل هو الأقرب من حيث نقل الرواية. وقال: ويقويه ما رواه ابن مردويه المذكورة بلفظ: " إن علياً أساء في شأني والله يغفر له "، وإنما نسبته إلى الإساءة؛ لأنه لم يقل كما قال أسامة (أهلك ولا نعلم إلا خيراً). وقال رحمه الله: وقد حرّف بعض من لا خير فيه من الناصبة قول عائشة، تقرباً لبني أمية فبيّن الزهري أن الحق خلاف ذلك، فأخرج يعقوب بن شيبة في مسندة عن الحسن بن علي الحلواني عن الشافعي قال: حدثنا عمي قال: دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له يا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال: عبد الله بن أبي، قال: كذبت هو علي، قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟ قال: ابن أبي، قال: كذبت هو علي، فقال: أنا أكذب لا أبا لك، والله لو نادى مناد من السماء أن الله أحل الكذب ما كذبت، حدثني عروة وسعيد وعبيد الله وعلقمة عن عائشة: أن الذي تولى كبره: عبد الله بن أبي، ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 501

فقال: نحن هيجنا الشيخ (¬1). قال الإمام البخاري: فراجعوه فلم يرجع وقال: مسلما بلا شك فيه. قيل: المراجعة في ذلك وقعت من هشام بن يوسف، وهو الذي أملى من حفظه، ورجحه الحافظ ابن حجر. وقيل: المراجعة وقعت من الزهري، أي: فراجعوا الزهري، في هذه المسألة فلم يرجع، أي فلم يجب بغير ذلك، وهو قول الكرماني، رجحه العلامة العنيني. وقول الإمام الزهري، مسلماً لا فيه: أي قال الزهري: قالت عائشة: قال علي بلفظ مسلماً، لا بلفظ مسيئاً (¬2) ومع أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، هي المتهمة إلا أن أحداث القصة أظهرت أوجهاً عظيمة لأم المؤمنين في الذب والدفع عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك: قالت رضي الله عنها: فانطلقت أنا وأم مسطح فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت: أتسبين رجلاً شهد بدراً. وفي رواية: أن أم مسطح عثرت ثلاث مرات كل ذلك تقول: تعس ¬

(¬1) ابن حجر: مرجع سابق: 7/ 502 (¬2) مراجع سابقة.

مسطح، وإن عائشة تقول لها " أي أم تسبين ابنك " وأنها انتهرتها في الثالثة، فقالت: والله ما أسبه إلا فيك. وعند الطبراني: فقلت أتسبين ابنك وهو من المهاجرين الأولين. وفي رواية: فقلت: أتقولين هذا لابنك وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ففعلت مرتين، فاعدت عليها، فحدثتني بالخبر. وفي هذه المقطوعة بيان فضيلة أهل بدر وشرفهم، ووجوب الذب عنهم، كما فعلت أم المؤمنين، رضي الله عنها، في ذبّها عن مسطح، وهذا هو المنهج النبوي الذي كان قائماً على حسن الظن والذب عن المؤمنين. وكذا فإن أم مسطح لم تحاب ولدها في وقوعه في حق عائشة، بل تعمدت سبه على ذلك دفاعاً عن عائشة، وهي قالت ما قالته إما عمداً لتتوصل إلى إخبار عائشة بما قيل فيها، وهي غافلة، أو يكون قولها ذلك وقع اتفاقاً، أجراه الله تعالى على لسانِها، لتستيقظ عائشة من غفلتها عما قيل فيها، وهذا فيه فضيلة قوية لأم مسطح (¬1) قال الإمام الذهبي: إياك يا جري أن تنظر إلى هذا البدري شزراً؛ لهفوة بدت منه، فإنّها قد غُفرت، وهو من أهل الجنة، وإياك يا رافضي أن تلوّح بقذف أم المؤمنين بعد نزول النص في براءتِها فتجب لك النار (¬2) لكن ما جرى من أم مسطح مع ابنها كان فعلاً طبيعياً، وردة فعل عادية، تأثراً مع ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 8/ 322 - 338، العيني: عمدة القاري: 9/ 529 - 530 (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 78

مجريات الحدث. قال العلامة العيني: وفي الحديث كراهة الإنسان صاحبه وقريبه إذا كان آذى أهل الفضل، أو فعل غير ذلك من القبائح، كما فعلت أم مسطح في دعائها عليه (¬1). وأما بعد أم مسطح، فلا وألف لا؛ لأن النبي الأكرم قال: " وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم ". ومن أوجه دفاعها رضي الله عنها، ما قالته في شأن حسان بن ثابت رضي الله عنه الذي خاض مع الخائضين ثم حُدّ، والدليل على خوضه مع قالة الإفك، لما قال: " حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثي من لحوم الغوافل) فقالت عائشة: لست منهم. تعني: لم تصبح غرثان من لحوم الغوافل، أشارت إلى أنه خاض في الأفك ولم يسلم من أكل لحوم الغوافل. ومع ذلك كانت تنافح عنه وتذب عن عرضه: فعن هشام عن أبيه قال: ذهبت أسب حسان عند عائشة فقالت: لا تسبه فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عروة قال: ذهبت لأسب حسان عند عائشة فقالت: لا تسبه، فإنه كان ينافح عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعناها: يدافع أو يرامي. ¬

(¬1) العيني: عمدة القاري: 9/ 259

قال الحافظ ابن حجر: ووقع في رواية أبي سلمة المذكورة: قالت عائشة: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: (إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله) قالت وسمعته يقول: (هجاهم حسان فشفى وأشفى) (¬1). وقال عروة: كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول: إنه الذي قال: (فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم فداء)، وكانت تقول: كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2) - وأما صفوان بن المعطل السلمي الذكواني رضي الله عنه فكان صحابياً فاضلاً من سادات المسلمين، أسلم قبل المريسيع، وأول مشاهدة قيل: الخندق، وقيل: المريسيع، وقتل شهيداً، وكان شجاعاً خيراً شاعراً. روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقالت: فبلغ الأمر ذلك الرجل فقال: سبحان الله، والله ما كشفت كنف أنثى قط. والكنف: الثوب الساتر. واختلف العلماء في حاله: فقيل: كان حصوراً، لم يكشف كنف أنثى قط، ذكره الإمام ابن العربي، وقد سئل عنه فوجدوه لا يأتي النساء. ولكن قال الحافظ ابن حجر: ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 6/ 639 - 640 (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 8/ 344

ما جاء عن ابن إسحاق: أنه كان حصوراً، لم يثبت. وقيل: كان متزوجاً: كان له زوجة. أخرجه أبو داود والبزار، وقال البزار: هذا الحديث كلامه منكر، وليس للحديث عندي أصل. وخالفه الحافظ ابن حجر وذكر متابعة للحديث وقال: وهذه متابعة جيدة تؤذن بأن للحديث أصلاً. واختلف العلماء في الحديثين: فمنهم من ضعف حديث أبي داود والبزار، لأنه مخالف لحديث عائشة في قوله: " والله ما كشفت كنف أنثى قط ". ومنهم من أوّل قول صفوان " والله ما كشفت كنف أنثى قط " أي: بالزنا، ورد الحافظ ابن حجر وقال: وفي نظر؛ لأنه جاء في رواية: إن الرجل الذي قيل فيه ما قيل، لما بلغه الحديث، قال: والله ما أصبت امرأة قط حلالاً ولا حراماً. ومنهم من حمل النفي المذكور، على ما قبل قصة الإفك، وأنه لا مانع أن يتزوج بعد ذلك (¬1). ما أجملها من كلمات، وأشرفها من تزكيات:"ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عنه إلا خيرا ". ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 316، العيني: عمدة القاري: 9/ 251، الذهبي: سير أعلام النبلاء: أعلام النبلاء: 3/ 497، ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 139

وها هو النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام: يوصي عليا رضي الله عنه في حياته، بأم المؤمنين عائشة فيقول لعلي: إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر، فقال: أنا يا رسول الله، قال: نعم، قال: فأنا أشقاهم يا رسول الله، قال: لا، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها (¬1). وكان ما كان من أحداث معركة الجمل، ثم ردها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، إلى المدينة معززة مكرمة رضي الله عنها وأرضاها. [6] ومن أوجه الدفاع عن الصحابة من النبي الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام: ما أخرجه الإمام البخاري ومسلم عن علي، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير - وكلنا فارس - قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بِها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا الكتاب، فقالت: ما هنا كتاب، فأنخناها، فالتمسنا فلم نجد كتابا، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء فأخرجته، فانطلقنا بِها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني لأضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله مالي إلا أن أكون مؤمناً بالله ورسوله، أردت أن تكون لي عند القوم يد، يدفع الله بِها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته ما يدفع ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند: انظر: البنا: الفتح الرباني: 23/ 137

الله به عن أهله وماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق، ولا تقولوا له إلا خيراً) فقال: إنه قد خان الله ورسوله، فدعني لأضرب عنقه، فقال: أليس من أهل بدر؟ فقال: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم، فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم (¬1) وأخرج الإمام مسلم عن أبي الزبير عن جابر: أن عبداً لحاطب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية. فحاطب بن أبي بلتعة من مشاهير المهاجرين، شهدا بدراً والمشاهد، وكان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس صاحب مصر سنة ست من الهجرة فقال له المقوقس: أخبرني عن صاحبك، أليس هو نبياً؟ قال: بلى، قال: فما له لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلدته؟ قال له حاطب: فعيسى بن مريم رسول الله حين أراد قومه صلبه لم يدع عليهم حتى رفعه الله، قال: أحسنت أنت حكيم جئت من عند حكيم، وبعث معه هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها: مارية القبطية وأختها شيرين وجارية أخرى، توفي سنة ثلاثين بالمدينة، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنهم (¬2). أهل بدر، أهل الفضل والمنزلة والقدر، أهل بدر مفضلون كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، رفع الله تعالى قدرهم في الأرض ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب فضل من شهد بدراً (3983) (¬2) أخرجه مسلم (2495)، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 267، النووي: تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 163، ابن كثير: البداية والنهاية: والنهاية: 3/ 351 - 361، 7/ 147، بحرق: حدائق الأنوار 348

والسماء، وعظم شأنهم. لحقوا بركب الأصفياء، فكان لهم من الله سبحانه جزيل العطاء (لن يدخل النار أحد شهد بدراً) فما أعظم الجزاء. قال الإمام ابن حزم وهو يعتذر لبعض الصحابة رضي الله عنهم: وأما قدامة بن مظعون وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة وأبو بكرة رضي الله عنهم فأفاضل أئمة عدول. أما قدامة فبدري مغفور بيقين مرضي عنه، وكل من تيقنا أن الله عز وجل رضي عنه وأسقط عنه الملامة، ففرض علينا أن نرضى عنه، وأن لا نعدد عليه شيئاً، فهو عدل بضرورة البرهان القائم على عدالته من عند الله عز وجل، وعندنا وبقوله عليه الصلاة والسلام (إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وأما المغيرة بن شعبة: فمن أهل بيعة الرضوان، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام ألا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، فالقول فيه كالقول في قدامة. وأما سمرة بن جندب فأحدي وشهد المشاهد بعد أحد، وهلم جرا، والأمر فيه كالأمر في المغيرة بن شعبة (¬1) ¬

(¬1) ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام: 1/ 218

وهذا كله يدل على فضل أهل بدر، ومن هنا دفع النبي صلى الله عليه وسلم عن حاطب بقوله (صدق، ولا تقولوا له إلا خيرا) وأردفه بقوله: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فهذه السيئة العظيمة غفرها الله له بشهود بدر. فدل ذلك على أن الحسنة العظيمة يغفر الله بها السيئة العظيمة (¬1). قال الإمام ابن القيم: وما فعله حاطب في ظاهره خيانة لله والرسول والمؤمنين كما قال عمر: إلا أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بشهوده بدراً، فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة وتضمنته من محبة الله لها رضاه بِها وفرحه بِها ومباهاته للملائكة بفاعلها، أعظم مما اشتملت عليه سيئة الجس من المفسدة، وتضمنته من بغض الله لها، فغلب الأقوى على الأضعف فأزاله وأبطل مقتضاه، وهذه حكمة الله في الصحة والمرض الناشئين من الحسنات والسيئات الوحيين لصحة القلب ومرضه. ثم قال: فتأمل قوة إيمان حاطب التي حملته على شهود بدر، وبذله نفسه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثاره لله ورسوله على قومه وعشيرته وقرابته، وهم بين ظهراني العدو وفي بلدهم، ولم يثن ذلك عنان عزمه، ولا فلّ من حد ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 35/ 68

إيمانه ومواجهته للقتال لمن أهله وعشيرته وأقاربه عندهم، فلما جاء مرض الجس، برزت إليه هذه القوة، وكان البحران صالحاً، فاندفع المرض، وقام المريض كأن لم يكن به قَلَبَة، ولما رأى الطبيب قوة إيمانه قد استعلت على مرض جسه، وقهرته قال الله تعالى لمن أراد قصده، لا يحتاج هذا العارض إلى فصاد (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). وقد اختلف العلماء في توجيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم): قال الإمام ابن القيم: أشكل على كثير من الناس معناه، فإن ظاهره إباحة كل الأعمال لهم، وتخييرهم فيما شاءوا منها، وذلك ممتنع (¬1) تحرير محل النزاع: قال الحافظ ابن حجر: اتفقوا على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة، لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها (¬2). وقال الإمام النووي: قال العلماء: معناه الغفران لهم في الآخرة وإلا فإن توجه على أحد منهم حد أو غيره أقيم عليه في الدنيا، ونقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد، وأقامه عمر على بعضهم، قال: وضرب ¬

(¬1) ابن القيم: زاد المعاد: 3/ 423 - 426، ابن القيم: الفوائد: 34 (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 356

النبي صلى الله عليه وسلم مسطحاً الحد وكان بدرياً (¬1). وأما توجيه الحديث: فذهب البعض: إلى أن مراد الحديث هو: أن الذنوب تقع منهم، لكنها مقرونة بالمغفرة؛ تفضيلاً لهم على غيرهم، بسبب ذلك المشهد العظيم وهو يوم بدر. وذهب البعض الآخر: إلى أن الله تعالى عصمهم من الذنوب، فلا يقع منهم بعد بدر ذنباً. وقال البعض: إن المراد بقوله " اعملوا ": متعلق بالماضي، لا بالاستقبال، وتقديره: أي عمل كان لكم فقد غفرته، وضُعف هذا الوجه بقصة حاطب، فإن ذنبه واقع بعد بدر، لا قبلها، وهو مغفور له (¬2) والذي يترجح - والعلم عند الله تعالى -: ما قاله الإمام ابن القيم: فالذي نظن في ذلك - والله أعلم - أن هذا خطاب لقوم قد علم الله أنّهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإسلام، وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرين عليها، بل يوفقهم لتوبة نصوح واستغفار، وحسنات تمحو أثر ذلك، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم؛ لأنه قد تحقق ذلك فيهم، وأنهم مغفور لهم، ¬

(¬1) النووي: شرح مسلم: 16/ 289 (¬2) مراجع سابقة: العيني: عمدة القاري: 12/ 33

ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم، كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقاً بالمغفرة (¬1) [7] وفي بيان الفضائل ووجه من أوجه الدفاع: ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى قال: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي، أنا أصغرهما، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم، إما قال: بضعاً أو قال: ثلاثة وخمسين رجلاً من قومي، قال: فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده فقال جعفر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا ههنا وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا، فأسهم لنا أو قال: أعطانا منها، وقسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر أصحابه، قسم لهم معهم، فكان ناس من الناس يقولون لنا، يعني: لأهل السفينة: نحن سبقناكم بالهجرة. قال: فدخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه فدخل عمر على حفصة وأسماء فقال عمر حين رأى أسماء من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس قال عمر: الحبشية هذه البحرية هذه، فقالت أسماء: نعم، فقال عمر: نحن سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت وقالت ¬

(¬1) ابن القيم: الفوائد: 35

كلمة (كذبت يا عمر) (¬1) كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله، ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك، قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو بردة فقالت أسماء: فلقد، رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني (¬2) [8] ومن هذا الباب ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ ¬

(¬1) قال الإمام النووي: قولها عمر - رضي الله عنه - (كذبت أي أخطأت، وقد استعملوا كذب بمعنى أخطأ، قولها (وكنا في دار البعداء البغضاء) قال العلماء: البعداء في النسب، البغضاء في الدين، لأنّهم كفار إلا النجاشي، وكان يستخفي بإسلامه عن قومه، ويوري لهم .. النووي: شرح مسلم 16/ 298 (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل جعفر وأسماء وأهل سفينتهم (2502 - 2503)

قريش وسيدهم، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك، فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه: اغضبتكم، قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي (¬1) قال الإمام ابن تيمية: فمن أحب ما أحب الله وأبغض ما أبغض الله، ورضي بما رضي الله لما يرضي الله ويغضب لما يغضب، لكن هذا لا يكون للبشر على سبيل الدوام، بل لابد لأكمل الخلق أن يغضب أحياناً غضب البشر، ويرضى رضا البشر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر). وقال رحمه الله: وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك، في قضية معينة، لكون غضبه لأجل أبي سفيان، وهم كانوا يغضبون لله، وإلا فأبو بكر أفضل من ذلك (¬2) [9] ومن أوجه الدفع من النبي صلى الله عليه وسلم فرحه بدفع ما يسوء بعض أصحابه ومن ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال: (ألم تري أن مجززاً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد) فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل سلمان وصهيب وبلال (2504)، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 58 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 10/ 58، 11/ 517

وفي رواية: قالت عائشة: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو مسرور فقال: يا عائشة ألم تري أن مجززاً المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيداً وعليهما من قطيفة قد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض. كان مجزز قائفاً، وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد، والعرب تعترف لهم بذلك وليس ذلك خاصا بهم على الصحيح، فإن عمر بن الخطاب كان قائفاً، وعمر قرشي. وقال الإمام ابن قدامة: كان أياس بن معاوية قائفاً، وكذا قيل في شريح القاضي. وقال الزبير بن بكار: قيل له: مجزز؛ لأنه كان إذا أخذ أسيراً حلق لحيته، وقال غيره: جز ناصيته، ولم يكن اسمه مجززاً، وإنما غلب ذلك عليه. وأما القيافة أحد علوم العرب الثلاثة: السياقة والعيافة والقيافة. - فأما السياقة: فهي شم تراب الأرض فيعلم بها الاستقامة على الطريقة أو الخروج منها. - وأما العيافة: فهي زجر الطير، والطيرة والتفاؤل بها وما قارب ذلك، وفي الحديث: العيافة والطرق من الجبت: والطرق: الرمي بالحصى. - وأما القيافة: فهي اعتبار الاشباه لإلحاق الأنساب، فالقائف: هو الذي يعرف الشبه ويميز الأثر. وقد أطال الإمام الهمام ابن القيم في ذكر خلاف العلماء في العمل

بقول القائف في كتاب الزاد (¬1) والشاهد من إيراد الحديث: هو سرور النبي صلى الله عليه وسلم وسببه: أن العرب كانت تقدح في نسب أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسوءه منهم، لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيض من القطن، فلما قضى هذا القائف بإلحاق هذا النسب، سرّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لكونه كافاً لهم عن الطعن فيه؛ لاعتقادهم ذلك، أي أنّهم كانوا في الجاهلية يعتمدون قول القائف (¬2) قال الحافظ ابن حجر: وقد أخرج عبد الرزاق من طريق ابن سيرين: أن أم أسامة، وهي أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت سوداء، فلهذا جاء أسامة أسود، وقد تزوجت قبل زيد عبيد الحبيشي فولدت له أيمن فكنت به، واشتهرت بذلك. قال عياض: لو صح أن أم أيمن كانت سوداء لم ينكروا سواد ابنها أسامة؛ لأن السوداء قد تلد الأبيض والأسود. قلت - الحافظ -: يحتمل أنّها كانت صافية فجاء أسامة شديد السواد، فوقع الإنكار لذلك (¬3). قال الإمام الذهبي: كانت من المهاجرات الأول، اسمها بركة، وقد ¬

(¬1) ابن القيم: زاد المعاد: 5/ 418 - 423، ابن حجر: فتح الباري: 12/ 57،ابن الملقن: الإعلام: 8/ 482. (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 12/ 58، الفاكهي: رياض الأفهام: 5/ 175، النووي: شرح مسلم: 10/ 294. (¬3) ابن حجر: فتح الباري: 12/ 58.

تزوجها عبيد بن الحارث الخزرجي، ثم تزوجها زيد بن حارثة ليالي بعث النبي صلى الله عليه وسلم فولدت له أسامة. وقال: وكان أسامة شديد السواد، خفيف الروح شاطراً شجاعاً رباه النبي صلى الله عليه وسلم وأحبه كثيراً، وهو ابن حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم أم أيمن، وكان أبوه أبيض، وقد فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول مجزز المدلجي: إن هذه الأقدام بعضها من بعض (¬1). وقال الإمام النووي: قال العلماء: سبب سروره عليه الصلاة والسلام: أن أسامة كان لونه أسود وكان طويلاً، خرج لأمه، وكان أبوه زيد قصيراً أبيض. وقيل: بين البياض السواد، وكان بعض المنافقين قصد المغايظة والإيذاء، فدفع الله ذلك وله الحمد (¬2) [10] وثبت في الصحيح عن عمر: أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي قد جلده في الشراب، فأوتى به فأمر به فجلده، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تلعنوه، فو الله ما علمت إنه يحب الله ورسوله). وعن أبي هريرة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فأمر بضربه، فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بنعله ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 473 (¬2) النووي: تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 122

رجل: ماله أخزاه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) (¬1) وعن عقبة بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالنعيمان أو بابن نعيمان وهو سكران، فشق عليه وأمر من معه في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال، وكنت فيمن ضربه. وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم، جلده أربعاً أو خمساً، فقال رجل: اللهم العنه ما أكثر ما يشرب، وأكثر ما يجلد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله). وفي لفظ قال: (لا تقولوا للنعيمان إلا خيراً، فإنه يحب الله ورسوله) (¬2). فهذه الأحاديث تبيّن منافحة النبي صلى الله عليه وسلم عن النعيمان وابنه عبد الله، وأنه لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله، مع وجود ما صدر منه، وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله (¬3). ومع ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: بكّتوه، وهو أمر بالتبكيت، وهو: مواجهته بقبيح فعله، جاء في الخبر: أقبلوا عليه يقولون له: ما اتقيت ¬

(¬1) أخرجهما البخاري في صحيح كتاب الحدود باب ما يكره من لعن شارب الخمر: (6780 - 6781) (¬2) انظر: العيني: عمدة القاري: 16/ 56 (¬3) ابن حجر: فتح الباري: 12/ 80

الله، ما خشيت الله، ما استحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أرسلوه (¬1). قلت: عبد الله هذا كان يقلب بالحمار، وهو اسم الحيوان المشهور. قال العلامة العيني: لعله كان لا يكره ذلك اللقب، وكان قد اشتهر به (¬2). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، لما قال بعضهم: " أخزاه الله ": (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان) وفي رواية (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم). ووجه عونهم الشيطان بذلك: أن الشيطان يريد بتزيينه له المعصية أن يحصل له الخزي، فإذا دعوا عليه بالخزي فكأنهم قد حصلوا مقصود الشيطان. وقيل: ربما توهم أنه مستحق لذلك فيوقع الشيطان في قلبه وساوس (¬3). وجاء في الأثر: (ولكن قولوا اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) (¬4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فهذا رجل كثير الشرب للخمر، ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 12/ 68 (¬2) العيني: مرجع سابق: 16/ 60، وانظر كلام الأئمة عند تفسيرهم قول الله تعالى {ولا تنابزوا بالألقاب} الحجرات 11 (¬3) مراجع سابقة. (¬4) ابن حجر: مرجع سابق.

ونهى عن لعنه (¬1). [11] ومن أوجه الدفاع والتربية من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم: ما أخرجه الشيخان عن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذر بالربدة وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك قال: إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتوهم فأعينوهم (¬2). قال العلماء في الحديث النهي عن سب العبيد وتعييرهم بوالديهم، والحث على الإحسان إليهم، والرفق بهم، فلا يجوز لأحد تعيير أحد بشيء من المكروه يعرفه في آبائه وخاصة نفسه، كما نهى عن الفخر بالآباء، ويلحق بالعبيد في معناه من أجير وخادم وضعيف (¬3). في الحديث يقول أبو ذر: (ساببت رجلا) وفي رواية (شاتمت)، وفي رواية: (كان بيني وبين رجل كلام): وفي صحيح مسلم (من إخواني). قال الإمام النووي: والظاهر أنّه كان عبداً، وإنما قال (من إخواني)؛ ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 484، 11/ 473 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب المعصية من أمر الجاهلية (30). (¬3) العيني: عمدة القاري: 1/ 311

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إخوانكم خولكم فمن كان أخوه تحت يده) (¬1). قيل: الرجل المذكور هو بلال بن رباح (¬2). وقول أبي ذر " فعيرته بأمه ": أي نسبته إلى العار، والظاهر: أنّه وقع بينهما سباب وزاد عليه التعيير، وكان تعييره بأمه، أن قال: (يا ابن السوداء)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية). فإن قيل: كيف جوّز أبو ذر ذلك وهو حرام؟ قيل: الظاهر أن هذا كان منه قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من الخصال باقية عنده، فلهذا قال: قلت: على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال: نعم، كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنه فبين له كون هذه الخصلة مذمومة شرعاً، وكان بعد ذلك يساوي غلامه في الجلوس وغيره أخذاً بالأحوط (¬3). وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (أعيرته بأمه): استفهام لتوبيخ، ولذا وضع أبو ذر خده على الأرض فلم يرفع حتى وطئه بلال بقدمه (¬4). - ومن أوجه الدفاع في هذا الباب: ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: قال أبو مسعود البدري: كنت اضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم أبا مسعود، فلم أفهم الصوت من ¬

(¬1) النووي: شرح مسلم: 11/ 143 (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 1/ 108، العيني: مرجع سابق: 1/ 310 (¬3) مراجع سابقة. (¬4) الجيلاني: فتح الله الصمد: 1/ 291.

الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود، قال: فألقيت السوط من يدي فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك على هذا الغلام. قال: فقلت: لا أضرب مملوكاً بعدها أبداً. وفي لفظ: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله: هو حر لوجه الله، فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار. وفي لفظ: أنّه كان يضرب غلامه فجعل يقول: أعوذ بالله، قال: فجعل يضربه، فقال: أعوذ برسول الله، فتركه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: والله، لله أقدر عليك منك عليه. قال: فأعتقه (¬1). قال الإمام النووي: قال العلماء: لعله لم يسمع استعاذته الأولى، لشدة غضبه، كما لم يسمع نداء النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون لما استعاذ برسول الله صلى الله عليه وسلم تنبه لمكانه. وقال: وفي الحديث: الحث على الرفق بالمملوك، والوعظ والتنبيه على استعمال العفو وكظم الغيظ، والحكم كما يحكم الله عباده (¬2). قال الإمام الذهبي: أبو مسعود، ممن شهد بيعة العقبة، وكان شابً من أقران جابر في السن، ولم يشهد بدراً على الصحيح، وإنما نزل ماء ببدر فشهد بذلك. وقال الحكم: كان بدرياً (¬3). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب صحبته المماليك وكفارة من لطم عبده (1659). (¬2) النووي: شرح مسلم: 11/ 141 (¬3) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 470

[12] وأخرج الترمذي في جامعه عن أنس قال: بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: قالت لي حفصة: إني بنت يهودي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟ ثم قال: اتقي الله يا حفصة. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه (¬1). قوله (إنك لابنة نبي) أي هارون بن عمران. (وعمك نبي) أي موسى بن عمران (وإنك لتحت نبي) أي الآن. (ففيم تفخر): أي في أي شيء تفخر عليك حفصة. والشاهد: دفاع النبي صلى الله عليه وسلم ودفعه وتطيب خاطر صفية رضي الله عنهم. وتربيته لزوجته حفصة حينما قال: (اتقي الله يا حفصة) أي مخافته وعقابه، بترك مثل الكلام الذي هو من عادات الجاهلية (¬2). [13] وأخرج أبو داود عن عائشة رضي الله عنها، أنّها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية " كذا وكذا " يعني، قصيرة، قال: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) قالت: وحكيت له إنساناً فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (3903) (¬2) المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 362 (¬3) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب في الغيبة (4867)

وجاء عند الترمذي: قال: فقلت: يا رسول الله " إن صفية امرأة، وقالت بيدها هكذا أنّها تعني قصير، فقال: لقد مزجت بكلمة لو مزج بِها ماء البحر لمزج (¬1). قال العلماء: المعنى: أن هذه الغيبة لو كانت مما يمزج بالبحر لغيرته عن حاله مع كثرته وغزارته، فكيف بأعمال نزرة خلطت بها. وقال العلامة ابن المنير: وجاء في بعض الحديث عن عائشة في المرأة التي دخلت عليها، فأشارت بيدها أنها قصيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغتبتيها. وذلك أنها لم تفعل هذا بيانا، وإنما قصدت الإخبار عن صفتها فكان كالاغتياب. والشاهد: في دفع النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته وتعليمه ظاهر واضح، لذا لما حكت له إنساناً من المحاكاة: أي فعلت مثل فعله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحب أني حكيت إنساناً، وأن لي كذا وكذا، أي: إني ما أحب الجمع بين المحاكاة وحصول كذا وكذا من الدنيا، وما فيها بسبب المحاكاة، فإنها أمر مذموم (¬2) [14] ويستمر هذا النهج من الدفع عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خير الخلق وأكرمهم على الله سبحانه وتعالى النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2502) (¬2) المباركفوي: مرجع سابق: 7/ 248، ابن حجر: فتح الباري: 10/ 484

فأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً، وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمرته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقاً للإمرة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده. وقال في رواية: وأيم الله إن كان لأحبهم إليّ من بعده، فأوصيكم به فإنه من صالحيكم (¬1) فقوله: (لخليقاً للإمارة): أي لجديرًا أو حقيقاً لها؛ لفضله وسبقه وقربه مني (¬2). ما أجمله من دفع، وما أحلاها من كلمة (إنّه من صالحيكم). [15] وهذا سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي اهتز لموته عرش الرحمن، لما حملت جنازته، قال المنافقون: ما أخف جنازته، وذلك لحكمه في بني قريظة، فبلغ ذلك صلى الله عليه وسلم فقال: إن الملائكة كانت تحمله. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب (¬3). هذه الجنازة التي حملتها الملائكة، خفت على أيدي المشيعين، فقال المنافقون: ما أخف جنازته، وذلك، استخفافًا واستحقاراً لسعد بن معاذ، لحكمه في بني قريظة: بأن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم فنسبه المنافقون إلى ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه فضائل الصحابة باب فضائل زيد وأسامة (2426) (¬2) النووي: شرح مسلم: 15/ 205، المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 296 (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب مناقب سعد بن معاذ (3858)

الجور والعدوان، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإصابة في حكمه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كلامهم، فدفع عنه وقال: إن الملائكة كانت تحمله. ولذا كانت جنازته خفيفة على الناس (¬1). [16] وهذه المرأة الحبلى من الزنا، يشتعل الإيمان في قلبها، ويقوى اليقين في فؤادها، فتأتي الرسول الأكرم، وهي ترجو تطهير نفسها، وتزكية جسدها، ونيل رضا ومغفرة ربها - رضي الله عنها وأرضاها - وفي الحديث: (فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، فو الله إني لحبلى، قال: إما لا فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: اذهبي حتى تفطميه، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، قالت: هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بِها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال: مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، ثم أمر بِها فصلى ودفنت. ولما أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد على الجهنية، فرجمت ثم صلى عليها فقال له عمر: تصلى عليها يا نبي الله وقد زنت، فقال: لقد تابت توبة لو قسمت بين ¬

(¬1) المباركفوي: تحفة الأحوذي: 10/ 321

سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى (¬1). كلمة سارت بِها الآفاق، وجرت في النفوس والأعماق، (مهلاً لقد تابت)، فالرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، يخاطب خالداً موجها ًومربياً وناصحاً ومدافعاً، ونحن نخاطب من طعن في خالد وأمثاله: نقول مهلاً ومهلاً ومهلاً، لكل من تطاول على الذوات الطاهرة، لكل من طعن في النفوس الزاكية، مهلاً: أما علمت أن من تقع في أعراضهم قد حطوا رحالهم في الجنان، أما علمت أن من تزدريهم قد أرخصوا مهجهم في سبيل نصرة المنان، أما يكفيك فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم العدنان: (الله الله في أصحابي)! وأختم هذا المبحث بما أخرجه الإمام اللالكائي: وهو شاهد يستأنس به فيما نحن بصدده: قال: حدثنا أبو علي بن خليل العنزي، قال: كنت جالساً مع قوم من الكتاب فتناولوا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فقمت مغضباً فلما كان في الليلة رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، فقال لي: تعرف أم حبيبة مني؟ قلت: نعم يا رسول الله، فقال لي: من أغضبها في أخيها فقد أغضبني (¬2). ومما ورد أيضاً: أنّه كان في جيران أبي عبد الله أحمد بن حنبل رجل، وكان ممن يمارس المعاصي والقاذورات، فجاء يوماً مجلس أحمد حنبل، فسلم ¬

(¬1) أخرجهما مسلم في صحيحه كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى (1695 - 1696) (¬2) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1532

عليه فكأن أحمد لم يرد عليه رداً تاماً، وانقبض منه فقال له: يا أبا عبد الله لم تنقبض مني؟ إني قد انتقلت عما كنت تعهده مني برؤية رأيتها، قال: وأي شيء رأيت تقدم؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم كأنه على علو من الأرض، وناس كثير أسفل جلوس قال: فتقدم رجل رجل منهم إليه فيقولون: ادع لنا حتى لم يبق من القوم غيري قال: فأردت أن أقدم فاستحييت من قبح ما كنت عليه، قال: يا فلان لم لا تقوم وتسألني أدعو لك؟ فكأني قلت، يا رسول الله يقطعني الحياء من قبح ما أنا عليه، قال: إن كان يقطعك الحياء فقم فسلني أدعو لك، إنك لا تسب أحداً من أصحابي قال: فقمت فدعا لي قال: فانتبهت وقد بغّض الله إلى ما كنت عليه قال: فقال لنا: أبو عبد الله، يا جعفر يا فلان يا فلان حدثوا بهذا، واحفظوه فإنه ينفع (¬1). والشواهد في الدفاع كثيرة، والمتأمل والناظر يظهر له حرص النبي صلى الله عليه وسلم في الدفع عن أصحابه قولاً وفعلاً، ويكفي شاهدا على ذلك " بيعة الرضوان " إنما هي انتصار لعثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. قال العلامة السعدي: وكان سبب هذه البيعة التي يقال لها بيعة الرضوان، لرضا الله عن المؤمنين فيها، ويقال لها " بيعة أهل الشجرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار ع بينه وبين المشركين يوم الحديبية، في شأن مجيئه وأنه لم يجئ لقتال أحد، وإنما جاء زائراً هذا البيت معظماً له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه لمكة في ذلك، فجاء خبر غير صادق، أن عثمان قتله المشركون، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1333

من معه من المؤمنين، وكانوا نحواً من ألف وخمسمائة فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين، وأن لا يفروا حتى يموتوا، وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بيمينه على شماله لعثمان، فهو كمن شهدها رضي الله عنهم أجمعين (¬1) * وكان عليه الصلاة والسلام يدفع عنهم التهم المتوهمة، ومن ذلك: لما قال حنظلة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: نافق حنظلة، فقال: مه (¬2). قال القاضي: معناه: الاستفهام أي ما تقول: قال: ويحتمل أنّها للكف والزجر والتعظيم لذلك، ثم قال: وما ذاك؟ قال: يا رسول الله نكون عندك فتذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا ً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة [ثلاث مرات]. فخاف حنظلة أن يكون ذلك نفاقاً فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنّه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك، وساعة وساعة، أي ساعة كذا وساعة كذا (¬3). ¬

(¬1) ابن سعدي: تيسير الكريم الرحمن: 737، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 234، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 121، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 74. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب التوبة باب فضل دوام الفكر والذكر في أمور الآخرة: (2750) (¬3) النووي: شرح مسلم: 17/ 73

المبحث الثالث دفاع الصحابة عن أعراض بعضهم البعض

المبحث الثالث دفاع الصحابة عن أعراض بعضهم البعض انتصار الصحابة بعضهم لبعض، وذبّهم عن أعراض بعضهم بعضاً، مما عرف واشتهر، فما علم عن أحد منهم خذل مسلماً انتهكت حرمته أو انتقص عرضه، بل كانوا على خلاف ذلك، فشواهد التاريخ الكثيرة التي يطول نقلها - تشير إلى انتفاض الصحابة - رضي الله عنهم في الدفاع عن حمى الأصحاب، والذب عن أعراضهم، وحسن الظن بهم، والتماس أجمل الأعذار لهم رضي الله عنهم وأرضاهم، يكفي للدلالة على ذلك , وجود الحس المرهف تجاه أصحابهم "مات ناس من الصحابة وهم يشربون الخمر، فلما نزل التحريم قال ناس: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها، فنزلت [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] المائدة 93 (¬1). ومن شواهد الدفع والدفاع ما يلي: (1) عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين: أنّه جلد ثلاثين سوطاً من حرّج على أم سلمة. وقال أبو وائل: إن رجلاً حرّج على أم سلمة، فأمر عمر أن يجلد مائتي جلدة. ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 100، المنصوري: المقتطف: 2/ 73

وأن ابنه عبيد الله شتم المقداد، فهمّ بقطع لسانه، فكلمه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال ذروني أقطع لسان ابني، حتى لا يجترئ أحد من بعدي، فيسب أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (¬1) وقال: أبو وائل: إن ابن مسعود رأى رجلاً قد أسبل، فقال: ارفع إزارك فقال: وأنت يا ابن مسعود فارفع إزارك قال: إن بساقي حموشة، وأنا أؤم الناس، فبلغ ذلك عمر، فجعل يضرب الرجل ويقول: أترد على ابن مسعود. وعن علقمة قال: جاء رجل إلى عمر فقال: إني جئتك من عند رجل يملي المصاحف عن ظهر قلب، ففزع عمر، فقال: ويحك! انظر ما تقول: وغضب، فقال: ما جئتك إلا بالحق، قال: ومن هو؟ قال: عبد الله بن مسعود، فقال: ما أعلم أحدًا أحق بذلك منه، وسأحدثك عن عبد الله، إنا سمرنا ليلة في بيت أبي بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خرجنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين أبي بكر، فلما انتهينا إلى المسجد ' إذا رجل يقرأ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إليه، فقلت: يا رسول الله: اعتمت، فغمز لي بيده: اسكت، قال: فقرأ وركع وسجد وجلس يدعو ويستغفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (سل تعطه) ثم قال: من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل، فليقرأ قراءة ابن أم عبد، فعلمت أنا وصاحبي أنّه عبد الله، فلما أصبحت عدوت أبشره، ¬

(¬1) اللائكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1336 وما بعده.

فقال: سبقك بها أبو بكر، وما سابقته إلى خير قط إلا سبقني إليه (¬1) وعن جابر بن سمرة قال: شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر، فقالوا: إنّه لا يحسن أن يصلي، فقال سعد: أما أنا، فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتي العشي، لا أخرم منها، أركد في الأوليين واحذف في الآخرين، فقال عمر ذلك الظن بك يا أبا إسحاق، فبعث رجالاً يسألون عنه بالكوفة فكانوا لا يأتون مسجداً الكوفة إلا قالوا خيراً، حتى أتوا مسجداً لبني عبس، فقال رجل يقال له: أبو سعدة: أما إذا أنشدتمونا بالله، فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية، فقال: سعد: اللهم إن كان كاذباً فاعم بصره، وأطل عمره، واعرضه للفتن. قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد يتعرض للإماء في السكك، فإذا سئل كيف أنت؟ يقول: كبير مفتون أصابتني دعوة سعد (¬2) وجاء في البخاري: وكانوا وشوا به إلى عمر قالوا: لا يحسن يصلي (¬3) وشهد له عمر فقال لما عزله: إني لم انزعه - يعني - عن الكوفة من ضعف ولا خيانة (¬4) ومن هذا الوجه: ما عرف عن عمر رضي الله عنه من حرصه على التثبت في ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 219 (¬2) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1327، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 47 (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مناقب سعد بن أبي وقاص (3728) (¬4) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 49، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 69

حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه أبو موسى الأشعري فأستأذن عليه ثلاثاً ثم انصرف، فقال عمر: ردوا عليّ، ردوا علي، فجاء فقال: يا أبا موسى ما ردك كنا في شغل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع)، قال: لتأتيني على هذا بينة وإلا فعلت وفعلت، فذهب أبو موسى، قال عمر: إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية، وإن لم يجد بينة فلم تجدوه، فلما أن جاء بالعشي وجدوه، قال: يا أبا موسى ما تقول أقد وجدت؟ قال: نعم، أبي بن كعب، قال: عدل، قال يا أبا الطفيل ما يقول هذا، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، يا ابن الخطاب فلا تكونن عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سبحان الله: إنما سمعت شيئاً فأحببت أن أتثبت. وفي رواية قال عمر: خفي عليّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصفق بالأسواق. قال الإمام النووي: أي التجارة والمعاملة في الأسواق. قال الحافظ ابن حجر: وفيه أن العالم المتبحر قد يخفى عليه من العلم ما يعلمه من هو دونه ولا يقدح ذلك في وصفه بالعلم والتبحر فيه. قال ابن بطال: وإذا جاز ذلك على عمر فما ظنك بمن هو دونه. ويقول الإمام المازري: قول عمر: (سبحان الله، إنما سمعت شيئاً .. ) قيل: إنما ذلك لأنّه صار كالدافع عن نفسه والمعتذر عن فعله فطلب شهادة غيره. وقال ابن بطال: يؤخذ منه التثبت في خبر الواحد لما يجوز عليه من

السهو وغيره، وقد قبل عمر خبر الواحد بمفرده في توريث المرأة من دية زوجها وأخذ الجزية من المجوس إلى غير ذلك، لكنه كان يستثبت إذا وقع له ما يقتضي ذلك. وقال الإمام النووي: ليس معنى قول عمر: رد خبر الواحد من حيث هو خبر واحد، ولكن خاف عمر مسارعة الناس إلى القول على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقول عليه بعض المبتدعين أو الكاذبين أو المنافقين ونحوهم مالم يقل وأن كل من وقعت له قضية وضع فيها حديثا على النبي صلى الله عليه وسلم فأراد سد الباب خوفاً من غير أبي موسى لا شكا في رواية أبي موسى، فإنه عند عمر أجل من أن يظن به أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، بل أراد زجر غيره بطريقه (¬1). والشاهد من حديثنا هو قول أبي لعمر: يا ابن الخطاب لا تكون عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شك أن عمر ليس عذاباً، بل هو رحمة ولكنه رفع ودفع عن نفسه بما قال رضي الله عنهم أجمعين. (2) وهذا سعد بن أبي وقاص ينافح عن أصحابه رضي الله عنهم: فعن مصعب بن سعد: أن رجلاً نال من علي، فنهاه سعد فلم ينته، ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 48، ابن كثير: البداية والنهاية: 7/ 235،والحديث أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الآداب باب الاستئذان (2154)،وانظر: النووي: شرح مسلم: 14/ 380، المازري: العلم: 3/ 26، ابن حجر: فتح الباري: 11/ 32، العيني: عمدة القاري: 15/ 362

فدعا عليه، فما برح حتى جاء بعير ناد، فخبطه حتى مات، قال الإمام الذهبي: ولهذه الواقعة طرق جمة رواها بن أبي الدنيا في: (مجابي الدعوة). وقال ابن المسيب: أن رجلاً كان يقع في علي وطلحة والزبير، فجعل سعد ينهاه، ويقول: لا تقع في إخواني، فأبى فقام سعد، وصلى ركعتين ودعا، فجاء بختي يشق الناس، فأخذه بالبلاط، فوضعه في كركرته والبلاط حتى سحقه، فأنا رأيت الناس يتبعون سعدا ويقولون: هنيئاً لك يا أبا إسحاق، استجيب دعوتك. وجاء من وجه آخر: أقبل سعد من أرض له، فإذا الناس عكوفاً على رجل، فاطلع فإذا هو يسب طلحة والزبير وعليا، فنهاه فكأنما زاده إغراء، فقال: ويلك ما تريد إلى أن تسب أقواماً هم خير منك لتنتهين أو لادعون عليك، فقال: هيه فكأنما تخوفني نبيا من الأنبياء، فانطلق فدخل داراً فتوضأ ودخل المسجد ثم قال: اللهم إن كان هذا قد سب أقواماً قد سبق لهم منك خير أسخطك سبه إياهم فأرني اليوم به آية تكون آية للمؤمنين. قال: وتخرج بختية - الأنثى من الجمال - من دار بني فلان، نادّة لا يردها شيء حتى تنتهي إليه، ويتفرق الناس عنه، فتجعله بين قوائمها فتطأه حتى طفئ، قال: فأنا رأيته يتبعه الناس ويقولون: استجاب الله لك أبا إسحاق، استجاب الله لك أبا إسحاق (¬1). (3) أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن سعد بن عبيدة قال: جاء ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1328

رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر عن محاسن عمله، قال: لعل ذلك يسوؤك؟ قال: نعم: قال: فأرغم الله بأنفك، ثم سأله عن علي فذكر محاسن عمله قال: هو ذاك، بيته أوسط بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لعل ذاك يسوؤك؟ قال: أجل، قال: فأرغم الله بأنفك، انطلق فاجهد على جهدك (¬1). فابن عمر رضي الله عنهما ذكر محاسن عثمان وعلي، ثم قال له: "فأرغم الله بأنفك" أي أوقع الله بك السوء؛ لأن الرجل كان يسوؤه ذكر محاسن عثمان وعلي رضي الله عنهما، ثم قال له ابن عمر، "فاجهد عليّ جهدك": أي أبلغ غايتك في هذا الأمر، واعمل في حقي ما تستطيع وتقدر، فإن الذي قلته لك الحق، وقائل الحق لا يبالي بما قيل في حقه من الباطل. وجاء في رواية عطاء بن السائب عن سعد بن عبيد في هذا الحديث: فقال الرجل: فإني أبغضه، قال ابن عمر: أبغضك الله تعالى (¬2). - وها هو ابن عمر رضي الله عنهما يذب عن عثمان رضي الله عنه: فعن عثمان هو ابن موهب قال: جاء رجل من أهل مصر وحج البيت، فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش، قال فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر، قال يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني عنه: هل تعلم أن عثمان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم، فقال: تعلم أنّه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال الرجل: هل تعلم أنّه ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مناقب علي بن أبي طالب (3704) (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 91، العيني: عمدة القاري:11/ 445

تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: الله أكبر، قال ابن عمر: تعال أبيّن لك: - أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له. - وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهدا بدراً وسهمه. - وأما تغيبه عن بيعة الرضوان: فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان، فضرب بها على يده فقال: هذه لعثمان فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك (¬1). قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر من سياقه أن السائل كان ممن يتعصب على عثمان فأراد بالمسائل الثلاث أن يقرر معتقده فيه، ولذلك كبّر مستحسناً لما أجابه به ابن عمر. وقد عاب عثمان بثلاثة أشياء: فأظهر له ابن عمر العذر عن جميعها: أما الفرار فبالعفو، وأما التخلف فبالأمر، وأما البيعة فكان مأذوناً له في ذلك، ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لعثمان من يده، كما ثبت ذلك أيضاً عن عثمان نفسه فيما رواه البزار بإسناد جيد، أنّه عاتب عبد الرحمن بن عوف فقال له: لم ترفع صوتك علي؟ فذكر الأمور الثلاثة، فأجابه عثمان بمثل ما أجاب به ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مناقب عثمان بن عفان (3698)

ابن عمر، قال في هذه: فشمال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لي من يميني (¬1). فقال له ابن عمر: "اذهب بها الآن معك": أي اقرن هذا عذر بالجواب، حتى لا يبقى لك فيما أجبتك به حجة على ما كنت تعتقده من عيبة عثمان. وقال الطيبي: قال له ابن عمر تهكماً به، أي: توجه بما تمسكت به فإنه لا ينفعك بعد ما بينت لك (¬2). ولذا ذكر أهل العلم في انتقام الله وانتصاره ممن آذى عثمان عجبا منها: ما أخرجه الإمام اللالكائي بسنده عن محمد بن سيرين قال: كنت أطوف بالكعبة فإذا رجل يقول: اللهم اغفر لي، وما أظن أن تغفر لي، قلت: يا عبد الله ما سمعت أحداً يقول كما تقول؟ قال: إني كنت قد أعطيت الله عهداً إن قدرت أن ألطم وجه عثمان بن عفان لطمته، فلما قتل ووضع على سرير في البيت، والناس يصلون عليه، دخلت كأني أصلي فوجدت خلوة فرفعت الثوب عن وجهه فلطمته وتنحيت عنه وقد يبست يميني، فإذا هي يابسة سوداء كأنها عود شيز (¬3). وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان من الذين قال الله - عز وجل -: [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 73، العيني: عمدة القاري: 11/ 431 (¬2) ابن حجر: فتح الباري:7/ 73، العيني: عمدة القاري: 11/ 431 (¬3) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1329، ابن كثير: البداية والنهاية: 7/ 180

سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ]. وري عن علي أنّه لعن قتلة عثمان، بل قال مروان: ما كان في القوم ادفع عن صاحبنا من صاحبكم - يعني علياً - عن عثمان (¬1). ومن أوجه الدفاع التي اختلفت بها الأنظار والاجتهادات: هي مطالبة الزبير وطلحة وعائشة رضي الله عنهم بالقصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه. ثبت في الصحيح أن عثمان استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إنسان يحرك الباب، فقلت من هذا؟ فقال عثمان بن عفان فقلت: على رسلك، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فجئته قفلت له: ادخل، وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبك (¬2). وفي رواية أبي عثمان "فحمد الله ثم قال: الله المستعان"، وفي رواية عند أحمد: " فجعل يقول: اللهم صبراً حتى جلس". قال الحافظ ابن حجر: وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بالبلوى المذكورة إلى ما أصاب عثمان في أخر حياته من الشهادة يوم الدار، وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أصرح من هذا، فروى أحمد من طريق كليب بن وائل عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة، فمر رجل فقال: يقتل فيها هذا يومئذ ظلماً، ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1433، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 397 - 398 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذا خليلاً " (3674)

قال فنظرت فإذا هو عثمان. إسناده صحيح (¬1). فلما قتل عثمان رضي الله عنه بويع لعلي بن أبي طالب بالخلافة وهو أحق بها وأهلها، فقبلها حوطة على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل أو ينخرق أمرها إلى مالا يتحصل فربما تغير الدين وانقض عمود الإسلام فلما بويع له، طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان وأخذ القود منهم، فقال لهم علي رضي الله عنه: ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه، فقالوا: لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباحاً ومساءً، فكان علي في ذلك أسد رأيا وأصوب قيلاً؛ لأن علياً لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حرباً ثالثة، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر، وتنعقد البيعة، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم، فيجري القضاء بالحق. ولا خلاف بين الأمة أنّه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة، أو تشتيت الكلمة، وكذلك جرى لطلحة والزبير، فإنهما ما خلعا عليا من ولايته، ولا اعترضا عليه في ديانة، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى. قلت - القرطبي - فهذا قول في سبب الحرب بينهم، وقال جلة من أهل العلم: إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به، لأن الأمر كان قد انتظم بينهم، وتم الصلح ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 46

والتفرق على الرضا، فخاف قتلة عثمان رضي الله عنه من التمكن منهم والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا، ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين، ويبدؤوا بالحرب سحرة في العسكرين، وتختلف السهام بينهم ويصيح الفريق الذي في عسكر علي: غدر طلحة والزبير، والفريق الذي في عسكر طلحة والزبير: غدر علي، فتم لهم ذلك على ما دبروه، ونشبت الحرب، فكان كل فريق دافعاً لمكرته عند نفسه، ومانعاً من الإشاطة بدمه، وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى، إذ وقع القتال والامتناع منهما على هذا السبيل، وهو الصحيح المشهور والله أعلم (¬1). إذن: فجهد طلحة والزبير وعائشة على الأخذ بالقصاص من قتلة عثمان، حتى قال طلحة رضي الله عنه إنا داهنا في أمر عثمان فلا نجد اليوم أمثل من أن نبذل دماءنا فيه، اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضى. وكان الحسن بن علي مبادراً نصرة عثمان كثير الذب عنه. ومع ذلك لم يشارك في القتال لا لطلحة ولا الزبير. لكن قُتل طلحة والزبير، فقال علي رضي الله عنه لما قُتل طلحة وأجلسه ومسح الغبار عن وجهه ولحيته، وهو يترحم عليه، وقال: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. قال الإمام الذهبي: مرسل. ثم قال: بشروا قاتل طلحة بالنار (¬2). ولما جيء برأس الزبير إلى علي بكى وقال: تبوأ يا أعرابي مقعدك من النار، حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن قاتل ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 270 (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 16، 4/ 134

الزبير في النار (¬1). وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قاتل عمار وسالبه في النار (¬2). ومع هذا الذي جرى من الفتن نص العلماء على حرمة الوقوع في أعراضهم، بل كان بعضهم يذب عن بعض: عن أبي حبيبة مولى لطلحة، قال: دخلت على عليّ مع عمران بن طلحة بعد وقعة الجمل، فرحب به وأدناه، ثم قال: إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك ممن قال فيهم [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ] فقال رجلان جالسان، أحدهما الحارث الأعور: الله أعدل من ذلك أن يقبلهم ويكونوا إخواناً في الجنة، قال: قوما أبعد أرض وأسحقها، فمن هو إذا لم أكن أنا وطلحة! يا ابن أخي إذا كانت لك حاجة فأتنا (¬3). ولذا قال الإمام الشعبي: أدركت خمس مائة أو أكثر من الصحابة يقولون: علي وعثمان وطلحة والزبير في الجنة. قال الإمام الذهبي: لأنهم من العشرة المبشرين المشهود لهم بالجنة، ومن البدريين، ومن أهل بيعة الرضوان، ومن السابقين الأوليين الذين أخبر تعالى أنّه رضي عنهم ورضوا عنه، ولأن الأربعة قتلوا ورزقوا ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 26 (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 187 (¬3) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 16

الشهادة، فنحن محبون لهم، باغضون للأربعة الذين قتلوا الأربعة (¬1). ومن جميل ما قاله رحمه الله: فمعاذ الله أن نشهد على اتباع الزبير، أو جند معاوية أو علي بأنهم في النار، بل نفوّض أمرهم إلى الله ونستغفر لهم، بل الخوارج كلاب النار، وشر قتلى تحت أديم السماء لأنهم مرقوا من الإسلام، ثم لا ندري مصيرهم إلى ماذا؟ ولا نحكم عليهم بخلود النار بل نقف (¬2). وقال الإمام القرطبي: لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر؛ لحرمة الصحبة، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، وأن الله غفر لهم وأخبر بالرضا عنهم. ثم قال: وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}. البقرة 134 وسئل بعضهم عنها أيضاً، فقال: تلك دماء قد طهر الله منها يدي، فلا أخضب بها لساني. يعني: في التحرز من الوقوع في خطأ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيباً فيه. ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء:3/ 26 (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء:3/ 27

وقال ابن فورك: ومن أصحابنا من قال: إن سبيل ما جرت بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين أخوة يوسف مع يوسف، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة فكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة. وقال المحاسبي: فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم، وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا. قال المحاسبي: فنحن نقول كما قال الحسن ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا، ونتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف عندما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأياً منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل، إذ كانوا غير متهمين في الدين (¬1) قلت: ونحن نقف حيث وقف القوم، ونسأل الله العظيم أن يرزقنا احترامهم وإجلالهم وإكرامهم وتوقيرهم والتماس الأعذار لهم، وأن يجمعنا بهم في جنات النعيم. ولكن الشاهد من حديثنا: الدفاع والمنافحة عن عثمان رضي الله عنه. قال الإمام ابن كثير: لما بلغ الزبير مقتل عثمان - وكان قد خرج من المدينة - قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم ترحم على عثمان، وبلغه أن الذين قتلوه ندموا فقال: تباً لهم، ثم تلا قوله تعالى [مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 274، ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 124

تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ] يس 49. وبلغ عليّاً قتله فترحم عليه، وسمع بندم الذين قتلوه فتلا قوله تعالى [كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ] الحشر 16 ولما بلغ سعد بن أبي وقاص قتل عثمان، استغفر له وترحم عليه، وتلا في حق الذين قتلوه [قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً] الكهف 103 - 104 ثم قال سعد: اللهم أندمهم ثم خذهم. وقد أقسم بعض السلف بالله: إنّه ما مات أحد من قتلة عثمان إلا مقتولاً، رواه ابن جرير. وهكذا ينبغي أن يكون لوجوه منها: دعوة سعد المستجابة كما ثبت في الحديث الصحيح. وقال بعضهم: ما مات أحد منهم حتى جن (¬1). وقال أبو عمر بن عبد البر: ولقد أحسن بعض السلف إذ يقول، وقد سئل عن عثمان: هو أمير البررة، وقتيل الفجرة، مخذول من خذله، منصور ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 13/ 178

من نصره (¬1). ومما يُكذب في هذا المقام: ما يُذكر من أن بعض الصحابة أسلم عثمان ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة، أنّه رضي بقتل عثمان رضي الله عنه بل كلهم كرهه ومقته وسب من فعله - أي قتل عثمان - رضي الله عنهم أجمعين (¬2) قال طلق بن حسان: قتل عثمان فتفرقنا في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نسألهم عن قتله، فسمعت عائشة تقول: قتل مظلوماً لعن الله قتلته. وقال جعفر الباقر: كان قتل عثمان على غير وجه الحق (¬3) وعن قيس بن عباد: قال سمعت علياً يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي، وجاءوا للبيعة، فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأستحي من رجل تستحي منه الملائكة). وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل لم يدفن بعد، فانصرفوا فلما دفن رجع الناس يسألوني البيعة فقلت: إني أشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزمة فبايعت، فلما قالوا: أمير المؤمنين كان صدع قلبي، وأسكت نفرة من ذلك. قال الحافظ ابن كثير: وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر بجمع الطرق الواردة عن علي أنّه تبرأ من دم عثمان، وكان يقسم على ذلك ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 13/ 188 (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية: 13/ 186 (¬3) ابن كثير: البداية والنهاية: 13/ 184

في خطبة، وغيرها: أنّه لم يقتله ولا أمر بقتله ولا مالأ ولا رضي به، ولقد نهى عنه فلم يسمعوا منه، ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث، ولله الحمد والمنة (¬1). قلت: ولم يكن بين الصحابة إلا الود والوفاء: ولذا لما كان اليوم الذي ارتحلت فيه أم المؤمنين عائشة من العراق إلى المدينة، جاء علي رضي الله عنه فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت من الدار في الهودج وودعت الناس ودعت لهم، وقالت: يا بني، لا يعتب بعضنا على بعض، إنّه والله ما كان بيني وبين علي في القوم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتي لمن الأخيار، فقال علي: صدقت والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وسار معها مودعاً ومشيعا أميالاً، وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم، وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنها (¬2). ولما ضربت لها القبة بعد الجمل، جاء إليها علي رضي الله عنه مسلماً فقال: كيف أنت يا أمه؟ قالت: بخير فقال: يغفر الله لك (¬3). وقد سأل بعض أصحابه أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 7/ 182 (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية: 7/ 233 (¬3) ابن كثير: البداية والنهاية: 7/ 231

والزبير، فأبى عليهم فطعن فيه السبائية، وقالوا: كيف يحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم؟ فبلغ ذلك عليا فقال: أيكم يحب أن تصير أم المؤمنين في سهمه؟ فسكت القوم، ولهذا لما دخل البصرة فرق في أصحابه أموال بيت المال، فنال كل رجل منهم خمسمائة، وقال: لكم مثلها في الشام، فتكلم فيه السبئية أيضاً ونالوا منه من وراء وراء (¬1). وقد انتقم الله تعالى ممن تنقص أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، يُقال إن أعين المجاشعي اطلع في الهودج فقالت: إليك لعنة الله، فقال: والله ما أرى إلا حميراء، فقالت: هتك الله سترك وقطع يدك وأبدى عورتك. فقتل بالبصرة وسلب وقطعت يده، ورمي عرياناً في خرابة من خرابات الأزد (¬2). 4 - وفي الدفاع عن الإمام علي بن أبي طالب: (قال علي رضي الله عنه): يهلك فيّ رجلان: مبغض نقر، ومحب مطر (¬3). عن شداد بن أبي عمار قال: إني لجالس عند واثلة بن الأسقع رضي الله عنه إذ ذكروا عليا رضي الله عنه فشتموه فلما قاموا قال: اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموه، إني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء علي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم، فألقى صلى الله عليه وسلم عليهم كساء له ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم اذهب ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 7/ 232 (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية: 7/ 231 (¬3) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 461

عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً) قلت: يا رسول الله وأنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: وأنت، قال فوالله إنّها لأوثق عمل عندي. وعن الحسن: أن رجلاً أتى الزبير وهو بالبصرة فقال: ألا أقتل علياً؟ قال: كيف تقتله ومعه الجنود؟ قال: ألحق به فأكون معه: ثم أفتك به، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن) هذا في المسند وفي الجعديات (¬1). وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن سهل بن سعد قال: استعمل على المدينة رجل من آل مروان قال: فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم علياً، قال: فأبى سهل، فقال له: أما إن أبيت فقل: لعن الله أبا التراب، فقال: ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب، وإن كان ليفرح إذا دعي بها، فقال له: أخبرنا عن قصته لم سمي أبا تراب؟ قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد عليا في البيت فقال: أين ابن عمك؟ فقالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج، فلم يقل عندي، فقال رسول لله صلى الله عليه وسلم لإنسان انظر أين هو؟ فجاء فقال يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه فأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب (¬2). قال الإمام النووي: وفيه: استحباب ملاطفة الغضبان وممازحته ¬

(¬1) انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 492، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 25 (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن أبي طالب (2409)

والمشي إليه لاسترضائه (¬1). وأخرج الإمام أبو داود في سننه عن رياح بن الحارث: قال كنت قاعداً عند فلان في مسجد الكوفة، وعنده أهل الكوفة، فجاء سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فرحب به وحياه، وأقعده عند رجله، على السرير، فجاء رجل من أهل الكوفة، يقال له: قيس بن علقمة، فاستقبله، فسب وسب، فقال سعيد: من يسب هذا الرجل؟ قال: يسب عليا، قال ألا أرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبون عندك ثم لا تنكر ولا تغير، أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وإني لغني أن أقول عليه ما لم يقل، فليسألني عنه غداً إذا لقيته، أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة .. وساق معناه، ثم قال: لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم عمره، ولو عُمِّر عُمْر نوح (¬2). والعشرة قد ساقهم في حديث، وذلك أن رجلاً ذكر عليا عليه السلام فقام سعيد بن زيد فقال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أني سمعته وهو يقول: عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، ولو شئت لسميت ¬

(¬1) النووي: شرح مسلم: 15/ 191 (¬2) أخرجه أبو داود في سننه كتاب السنة باب في الخلفاء (4638)، انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء: أعلام النبلاء: 3/ 44

العاشر، قال: فقالوا: من هو؟ فسكت قال: فقالوا: من هو؟ فقال: هو سعيد بن زيد (¬1). وكذا أنكر رضي الله عنه على الخطيب الظالم الذي عرض بعلي رضي الله عنه فقال: ألا ترى إلى هذا الظالم، فأشهد على التسعة إنهم في الجنة، ولو شهدت على العاشر لم أيثم، وجاء عند الترمذي: أن منهم أبو عبيدة بن الجراح (¬2). قال العلامة المناوي: تبشير العشرة لا ينافي تبشير غيرهم أيضاً في غير ما خبر، لأن العدد لا ينافي الزائد. وقال سويد بن غفلة: كانت الخثعمية تحت الحسن، فلما قتل علي وبويع الحسن، دخل عليها، فقالت: لتهنك الخلافة، فقال: أظهرت الشماتة بقتل علي، أنت طالق ثلاثاً، فقالت: والله ما أردت هذا، ثم بعث إليها بعشرين ألفاً فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق (¬3). ولما كان ما كان بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من الحروب والفتن تطول عليهما بعض الجهلة وبعض من لا علم عنده، وإلا فإن معاوية رضي الله عنه كان يعترف بالفضل لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وذلك أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: والله إني لأعلم أنّه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني، ولكن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب السنة باب في الخلفاء: (4637) (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب مناقب عبد الرحمن بن عوف (3756) (¬3) المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 233، الذهبيِ: سير أعلام النبلاء: 4/ 135

ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما وأنا ابن عمه وأنا أطلب بدمه وأمره إلي؟ فقولوا له: فليسلم إليّ قتلة عثمان وأن أسلم له أمره، فأتوا علياً فكلموه في ذلك، فلم يدفع إليهم أحداً، فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية (¬1) ولذا قال رجل لأبي زرعة الرازي: إني أبغض معاوية، فقال له: ولم؟ قال: لأنه قاتل علياً، فقال أبو زرعة: ويحك إن رب معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فإيش دخولك أنت بينهما؟ رضي الله عنهما. فقد رأى عمر بن عبد العزيز رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبو بكر وعمر جالسان عنده: قال: فسلمت عليه وجلست، فبينما أنا جالس إذ أتى بعلي ومعاوية، فأدخلا بيتاً وأجيف الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول: قضى لي ورب الكعبة، ثم ما كان بأسرع من أخرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة. ولذا لما سئل الإمام أحمد عما جرى بين علي ومعاوية قرأ {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} البقرة 134. قال ابن كثير: وكذا قال غير واحد من السلف. ولما جاء خبر قتل علي رضي الله عنه إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم (¬2). ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 123 (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 142 - 125

قال ابن وهب عن مالك عن الزهري قال: سألت سعيد بن المسيب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: اسمع يا زهري، من مات محباً لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وشهد للعشرة بالجنة، وترحم على معاوية كان حقاً على الله أن لا يناقشه الحساب. وقال أبو توبة الربيع نافع الحلبي، معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه (¬1). 5 - ومن النماذج الشريفة التي تدل على الدفاع والمنافحة وحسن الظن بالصحابة رضي الله عنهم: ما أخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث كعب بن مالك وفيه: وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة - تبوك - حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أعدو لكي أتجهز معهم، فارجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئاً ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 132 - 133

مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً من عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك، ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه، نظره في عطفه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). قوله "حبسه برداه نظره في عطفه": أي وحبسه النظر في عطفيه، أي جانبيه، وهو إشارة إلى أعجابه بنفسه ولباسه، وقيل: كنى بذلك عن حسنه وبهجته، والعرب تصف الرداء بصفة الحسن وتسميه عطفاً لوقوعه على عطفي الرجل. "برداه ": بضم الباء، يعني: الرداء والإزار، أو الرداء والقميص، وسماهما بردين؛ لأن الإزار والقميص قد يكونان من برد، والبرود: ثياب من اليمن فيها خطوط، ويحتمل أن أحدهما كان برداً، وتسميتهما بردين على طريقة العمرية والقمرين (¬2). وفي الحديث: رد الغيبة: وفيه: جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد وهم الطاعن أو غلطه (¬3). نسب كعب بن مالك رضي الله عنه إلى الزهو والكبر، وكانت نسبةً باطلة، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب حديث كعب بن مالك (4418) (¬2) العيني: عمدة القاري: 12/ 375، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 723، النووي: شرح مسلم: 17/ 95، بن علان: دليل الفالحين: 1/ 96 (¬3) ابن حجر: مرجع سابق: 7/ 730، النووي: شرح مسلم: 17/ 105،

بدليل رد العدل الفاضل معاذ بن جبل عليه كما قال "بئس ما قلت ": أي بئس هو قولاً قلت والله يا رسول الله ما علمت عليه إلا خيراً، وفيه جواز ذم المتكلم بالعيب والقبيح في حق المسلم ونصرة المسلم في غيبته والرد على عرضه، وما زعم من احتمال نافق القائل فيه نظر، لأن عبد الله أنيس لم يتهم بذلك، والأولى حمله على أنّه صدر منه ذلك من غير فكر وروية وقصد إلى معايبة القبيحة الردية، والله أعلم بحقيقة الحال (¬1). (6) ومن شواهد الدفاع: عن أبي قزعة قال: بينما عبد الملك يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين - فذكر الحديث - وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين باباً شرقياً وباباً غربياً فبلغت به أساس إبراهيم (¬2) فقال له الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث بهذا، فقال: لو كنت سمعته قبل أن هدمه لتركته على بناء ابن الزبير (¬3). - وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها صدقت أبا هريرة رضي الله عنه فيما بلغه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: من تبع الجنازة فله قيراط، فقال ابن ¬

(¬1) ابن علان: دليل الفالحين: 1/ 97، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 486 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الحج باب فضل مكة وبنيانها (1586) (¬3) ابن حجر: فتح الباري: 3/ 522

عمر رضي الله عنهما: أكثر أبو هريرة علينا (¬1). ابن عمر لم يتهمه، بل خشي عليه السهو، ولذا لما بلغه ذلك تعاظمه، وقال لأبي هريرة: انظر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى عائشة يسألها فصدقت أبا هريرة. وقالت في رواية " صدق أبو هريرة ". وفي رواية: فقام أبو هريرة فأخذ بيده فانطلقا حتى أتيا عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " فذكره " فقالت: اللهم نعم. قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بينهما: بأن الرسول لما رجع إلى ابن عمر بخبر عائشة بلغ ذلك أبا هريرة فمشى إلى ابن عمر فأسمعه ذلك من عائشة مشافهة (¬2). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درساً، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ، وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفه إلى التفقة والاستنباط، وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها (¬3). ولذا جاء في رواية الوليد، فقال أبو هريرة: لم يشغلني عن رسول الله ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز باب فضل إتباع الجنائز 3/ 233 (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 3/ 232 (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 94

صلى الله عليه وسلم غرس الودي ولا صفق الأسواق، وإنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلة يطعمنيها أو كلمة يعلمنيها، قال ابن عمر: كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمنا بحديثه (¬1). ولقد شغب كثير من المتأخرين على الصحابي الجليل - أبي هريرة رضي الله عنه - وذموه واتهموه؛ لأنه من حملة الحديث وحفاظه، بل هو أعظمهم. فقد كان رضي الله عنه يجلس إلى حجرة عائشة فيحدث، ثم يقول: يا صاحبة الحجرة أتنكرين شيئاً مما أقول؟ فلما قضت صلاتها لم تنكر ما رواه لكن قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث سردكم. وكذلك قيل لابن عمر: هل تنكر بما يحدث به أبو هريرة شيئاً؟ فقال: لا، ولكنه اجترأ وجبنا، فقال أبو هريرة: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا (¬2). ولما قال يزيد بن هارون: سمعت الشعبي يقول: كان أبو هريرة يدلس، قال الإمام الذهبي: تدليس الصحابة كثير، ولا عيب فيه، فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم، والصحابة كلهم عدول (¬3). وقال العلامة محمد أبو شهبة: إن الكثرة الكاثرة من العلماء على خلاف هذا، وأن أبا هريرة بريء من وصمة التدليس بجميع أنواعه، وإنما قال هذا فئة قليلة جداً منهم: شعبة، والذين ذهبوا إلى هذا لم يريدوا ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 3/ 233 (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 252 (¬3) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 252

التدليس بالمعنى عند المحدثين، وهو المذموم، وإنما أرادوا معنى آخر، وإليك مقالة شعبة، قال يزيد بن هارون سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس، أي يروي ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يميز بين هذا وهذا (¬1). وقال إبراهيم النخعي: كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة، وقال: ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة وقال: كانوا يرون في حديث أبي هريرة شيئاً، وما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار، أو حث على عمل صالح، أو نهي عن شر جاء القرآن به (¬2). وقد قال الإمام الذهبي: هذا لا شيء، بل احتج المسلمون قديماً وحديثاً بحديثه؛ لحفظه وجلالته وإتقانه، وفقهه وناهيك أن مثل ابن عباس يتأدب معه، ويقول: أفت يا أبا هريرة. وقال الإمام ابن كثير: وقد انتصر ابن عساكر لأبي هريرة، ورد هذا الذي قاله إبراهيم النخعي، وقد قال ما قاله إبراهيم لطائفة من الكوفيين والجمهور على خلافهم (¬3). قال أبو صالح: كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن بأفضلهم. ¬

(¬1) أبو شهبة: دفاع عن السنة: 110 (¬2) الذهبي: مرجع سابق: 3/ 525، ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 105 (¬3) مراجع سابقة.

وقال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره (¬1). وقد ذكر المفترون جملة من المطاعن على الصحابي الجليل أبي هريرة، تصدى لها العلماء في القديم والحديث، ففندوها وبينوا زيفها، (فإن أبا هريرة كان ثبتا راوياً حافظاً أميناً والذين تولوا كبر هذا الإثم لم يكونوا على شيء من العلم والإنصاف، وإنما يريدون من وراء ذلك الطعن في الإسلام من طريق تجريح رواة الحديث وحملته) (¬2). والطاعنون في أبي هريرة رضي الله عنه لم يسلموا غالباً من شر أقوالهم: قال القاضي أبو الطيب: كنا في مجلس النظر بجامع المنصور، فجاء شاب خراساني فسأل عن مسألة المصراة، فطالب بالدليل، حتى استدل بحديث أبي هريرة الوارد فيها، فقال - وكان حنفيا - أبو هريرة غير مقبول الحديث، فما استتم كلامه حتى سقط عليه حية عظيمة من سقف الجامع، فوثب الناس من أجلها، وهرب الشاب منها وهي تتبعه، فقل له: تب، تب، فقال: تبت، فغابت الحية فلم ير لها أثر. قال الإمام الذهبي: إسنادها أئمة، وأبو هريرة إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من الرسول عليه الصلاة والسلام، وأدائه بحروفه، وقد أدى حديث المصرّاة بألفاظه، فوجب علينا العمل به، وهو أصل برأسه (¬3). ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 102، النووي: تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 145 (¬2) انظر: البنا: الفتح الرباني: 22/ 412، أبو شهبة: دفاع عن السنة: 94 (¬3) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 529

وقد أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على من ادعى أن أبا هريرة لم يكن من فقهاء الصحابة (¬1). وقد ذكر الإمام ابن تيمية القصة السابقة وذكر فيها: فطعن في أبي هريرة، فوقعت حية من السقف وجاءت حتى دخلت الحلقة وذهبت إلى ذلك الأعجمي فضربته فقتلته. ثم قال: ونظير هذا ما ذكره الطبراني في كتاب السنة عن زكريا بن يحي الساجي قال: كنا نختلف إلى بعض الشيوخ لسماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسترعنا في المشي ومعنا شاب ماجن، فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة، لا تكسروها، قال: فما زال حتى جفت رجلاه، ولهذا نظائر (¬2). وعن عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه، وصرّحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة صحيح النقل، صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن غيره، فنظر إليّ الرشيد نظر مغضب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 532 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 538

صاحب البريد بالباب، فدخل فقال: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه، فسلّمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه بيده السيف وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما جاء به، إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله، وأمر لي بعشرة آلاف درهم. وعن مالك بن أبي عامر قال: جاء رجل إلى طلحة فقال: أرأيتك هذا اليماني: هو أعلم بحديث رسول الله منكم - يعني: أبا هريرة - نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم؟ قال: أما أن قد سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع فلا أشك وسأخبرك: إنا كنا أهل بيوت، وكنا إنما نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم غدوة وعشية، وكان مسكيناً لا مال له، إنما هو على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أشك أنّه قد سمع ما لم نسمع، وهل تجد أحداً فيه خير يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله (¬1). ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 253، الذهبي: سير أعلام النبلاء: أعلام النبلاء: 3/ 17

قلت: ولقد سمعت الشيخ العلامة: محمد بن محمد المختار الشنقيطي، في أحد دروسه بجدة، يحكي عن أحد العلماء المعاصرين، ذهب إلى بلد، كان فيها رجل قد سلط قلمه ولسانه في الطعن على أبي هريرة رضي الله عنه فذهب إليه كي ينصحه ويعظه ويحاوره، فلقيه وهو في ساعاته الأخيرة يحتضر، فقال: فبدأ وجهه بالتغير، ثم تلفظ وقال: آه آه أبو هريرة، أبو هريرة ثم مات على ذلك، نعوذ بالله من الخذلان. (7) ومن الشواهد: قال إسماعيل بن قيس: بلغ بلالاً رضي الله عنه أن ناساً يفضلونه على أبي بكر! فقال: كيف يفضلوني عليه، وإنما أنا حسنة من حسناته!. وعن سالم: أن شاعراً مدح بلال بن عبد الله بن عمر، فقال: وبلال عبد الله خير بلال، فقال ابن عمر: كذبت، بل وبلال رسول الله خير بلال (¬1). قال أبو عبد الرحمن الطائي: قدم أسامة على معاوية، فأجلسه معه، وألطفه، فمد رجله، فقال معاوية: يرحم الله أم أيمن، كأني أنظر إلى ظنبوب ساقها بمكة، كأنه ظنبوب نعامة خرجاء، فقال: فعل بك يا معاوية، هي - والله - خير منك، قال: يقول معاوية: اللهم غفراً، والظنبوب: هو العظم الظاهر، والخرجاء: فيها بياض وسواد (¬2). وسبق أن ذكرنا: أن رجلاً نال من عائشة رضي الله عنها عند عمار بن ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 158 - 155 (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 476

ياسر فقال: اغرب مقبوحاً منبوحاً، أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الترمذي: هذا حديث حسن (¬1). وقوله: " اغرب مقبوحاً منبوحاً ": أي: أبعد، كأنه أمره بالغروب والاختفاء، والمنبوح: من يطرد ويرد (¬2). وعن أبي قتادة قال: كنا مع عمران بن حصين وثَمّ بشير بن كعب، فحدث عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء كله خير) أو قال (الحياء كله خير) فقال بشير بن كعب: إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقاراً، ومنه ضعفاً فأعاد عمران الحديث، وعاد بشير الكلام، قال: فغضب عمران حتى احمرت عيناه، وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن كتبك، قال: قلنا: يا أبا نجيد، إيهٍ إيهٍ (¬3). وجاء في صحيح الإمام مسلم، قال: فما زلنا نقول فيه: إنّه منا يا أبا نجيد، إنّه لا بأس به (¬4). قال الإمام القرطبي: معنى قول بشير: أن من الحياء ما يحمل من حبه على الوقار، بأن يوقر غيره ويتوقر هو في نفسه، ومنه ما يحمله على أن يسكن ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب فضل عائشة رضي الله عنها (3897) (¬2) المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 357 (¬3) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب في الحياء (4788) (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب بيان عدد شعب الِإيمان (37)

عن كثير مما يتحرك الناس فيه من الأمور التي لا تليق بذوي المروءة (¬1). وقال الإمام النووي: وأما إنكار عمران رضي الله عنه فلكونه قال منه ضعف، بعد سماعه قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه خير كله، ومعنى: تعارض: تأتي بكلام في مقابلته وتعترض بما يخالفه (¬2). وقيل: إنما أنكره عليه من حيث أنّه ساقه في معرض من يعارض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام غيره (¬3). والشاهد من الحديث، قولهم: إنّه منا لا بأس: معناه: ليس هو ممن يتهم بنفاق أو زندقة، أو بدعة أو غيرها مما يخالف به أهل الاستقامة. ومعنى: " إيهٍ إيهٍ ": أي حسبك، والمعنى والله أعلم: يا أبا نجيد حسبك ما صدر منك من الغضب والإنكار على بشير، فإنه منا ولا بأس به، فاسكت ولا تزدد غضباً وإنكاراً (¬4). قلت: غضب عمران رضي الله عنه غضباً على السنة، ودفاع من كان معه عن بشير وهو تابعي جليل، دفاع إحسان ظن، وهو تابعي، فكيف إذا اتهم صحابي عندهم. ومن الشواهد: ¬

(¬1) انظر: العظيم آبادي: عون المعبود: 8/ 194 (¬2) النووي: شرح مسلم: 2/ 366 (¬3) العظيم أبادي: مرجع سابق (¬4) مراجع سابقة.

أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استخلف، فعزل خالد بن الوليد، وولي أبا عبيدة بن الجراح، فبلغ عمر أن أبا عبيدة حُصر بالشام، ونال منه العدو، قال زيد عن أبيه: بلغني أن معاذاً سمع رجلاً يقول: لو كان خالد بن الوليد، ما كان بالناس دونك، وذلك في حصر أبي عبيدة، فقال معاذ: فإلى أبي عبيدة تضطر المعجزة لا أبا لك، والله إنّه لخير من بقي على الأرض (¬1). ولما قالوا لعثمان استخلف، أي للحج؛ لأنه أصابه رعاف سنة الرعاف، حتى تخلف عن الحج وأوصى، فقالوا له: استخلف، فقال عثمان: قالوا: الزبير؟ قالوا: نعم، قال: أما والذي نفسي بيده إن كان لأخيرهم ما علمت، وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). وأختم بما أورده ضياء الدين المقدسي بسنده قال: بلغ ابن عمر أن رجلاً نال من عثمان، فدعاه فأقعده بين يديه فقرأ عليه [لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] قال: من هؤلاء أنت؟ قال: لا، ثم قال: [وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] أمن هؤلاء أنت؟ قال: لا، ثم قال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 7 (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 4/ 24

تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ... ] أمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو، قال: لا والله، ما يكون منهم من يتناولهم في قلبه الغل عليهم (¬1). ونحن نقول دعاء المؤمنين، ونسأل الله تعالى أن يحشرنا معهم أجمعين [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ... ]. ¬

(¬1) ضياء الدين المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 9

المبحث الرابع بعض المخلوقات المسخرة للدفاع عن الصحابة رضي الله عنهم

المبحث الرابع بعض المخلوقات المسخرة للدفاع عن الصحابة رضي الله عنهم وهذا مما يطول استقصاؤءه، ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، وذكر بعض الشواهد والنماذج التي تجلي المقصود وتبيّن المراد: 1 - أخرج الإمام اللالكائي بسنده قال: حدثنا علي بن زيد أن سعيد بن المسيب قال له: مرّ غلامك فلينظر إلى وجه هذا الرجل، قلت له: أنت تكفيني أخبرني عنه فقال: إن هذا الرجل قد سوّد الله وجهه، كان يقع في علي وطلحة والزبير، فجعلت أنْهاه، فجعل لا ينتهي، فقلت: اللهم إن كنت تعلم أنّه قد كانت لهم سوابق وقدم، فإن كان مسخطاً لك ما يقول: فأرني به آية، واجعله آية للناس، فسوّد الله وجهه (¬1) 2 - قال أبو الأحوص: لو أن الروم أقبلت من موضعها يعني: تقتل ما بين يديها، وتقبل حتى تبلغ النخيلة، ثم خرج رجل بسيفه، فاتنقذ ما في أيديها وردها إلى موضعها، ولقي الله تعالى، وفي قلبه شيء على بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما رأينا ذلك ينفعه (¬2) 3 - قال سفيان الثوري: كنت امرءاً أغدوا إلى الصلاة بغلس، ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة:: 7/ 1332 (¬2) ضياء الدين المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 19

فغدوت ذات يوم، وكان لنا جار، كان له كلب عقور، فقعدت حتى يتنحا فقال لي الكلب: جز يا أبا عبد الله، فإنما أمرت بمن يشتم أبا بكر وعمر (¬1) 4 - عن عبد الملك بن عمير قال: كان بالكوفة رجل يعطي الأكفان، فمات رجل، فقيل له: فأخذ كفناً وانطلق حتى دخل على الميت وهو مسجى، فتنفس، وألقى الثوب عن وجهه وقال: غروني، أهلكوني، النار النار، قلنا له: قل لا إله إلا الله، قال: لا أستطيع، قيل ولم؟ قال: بشتمي أبا بكر وعمر (¬2) 5 - قال أبو إسحاق صاحب الشاط: ذهبت إلى ميت لأغسله، فلما كشفت الثوب عن وجهه إذا بحية تطوقت علي حلقه، فذكر من غلظها، قال فخرجت فلم أغسله، فذكروا أنّه كان يسب الصحابة رضي الله عنهم (¬3) 6 - قال بعض السلف: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية، إذ جاء رجل فقال عمر: يا رسول الله: هذا ينتقصني، فكأنه انتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إني لا انتقص هؤلاء، ولكن هذا - يعني - معاوية، فقال: ويلك، أوليس هو من أصحابي؟ قالها ثلاثاً، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حربة فناولها معاوية فقال: ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1332 (¬2) ضياء الدين المقدسي: مرجع سابق: 22 (¬3) ابن القيم: الروح: 94

جابها في لبته فضربه بها، وانتبهت فبكرت إلى منزلي فإذا ذلك الرجل قد أصابته الذبحة من الليل ومات، وهو راشد الكندي (¬1) 7 - قال أحمد بن سليمان بن عبد السيد الخليلي: كنا بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً من أربعة فقراء، فكنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، فسمعنا رجل من أهل المدينة فدعانا إلى بيته فمضينا معه، ونحن نظن أنّه يطعمنا شيئاً، فلما دخلنا أغلق الباب وضربنا ضرباً كثيراً حتى كسر مرفقي، فخرجنا ومضينا إلى نخل حمزة فقعدنا هناك، فإذا شاب قد جاءنا فقال: يا فقراء هل يحسن أحد منكم يغسل الميت، فقلت له: نعم قال تعالوا، ثم جاء بنا إلى دار الرجل الذي ضربنا فقال: إن هذا أبي هو الذي ضربكم، وقد مات فغسلوه، وأعلمكم أني رجعت عن مذهبه، قال: فكشفنا عن وجهه فإذا هو وجه خنزير، قال فغسلته وكفنته (¬2) 8 - وذكر الإمام اللالكائي بسنده: أن رجلاً كان يسب أبا بكر وعمر، وكان قد صحبنا في سفر فنهيناه فلم ينته، فقلنا له: اجتنبنا، ففعل فلما أردنا الرجوع تذممنا فقلنا: لو صحبنا حتى نرجع، فلقينا غلامه فقلنا له: قل لمولاك يرجع إلينا فقال: إنه قد حدث بي أمر عظيم، فأخرج ذراعيه فإذا هما ذراعي خنزير، فتحول إلينا فكان معنا حتى انتهينا إلى قرية كثيرة ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 133 (¬2) ضياء الدين المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 35

الخنازير، فلما رآها صاح صياح الخنازير، فوثب من دابته فإذا هو خنزير، فاختلط مع الخنازير، فلم نعرفه، فجئنا بمتاعه وغلامه إلى الكوفة (¬1) 9 - وعن عمر بن الحكم عن عمه قال: خرجنا نريد مدان، ومعنا رجل يسب أبا بكر وعمر، قال: فنهيناه فلم ينته، وانطلق ليقضي حاجته فوقع عليه الدبر فلم يقلع عنه حتى قطعه (¬2) 10 - قال أبو الحباب: كنا في غزاة في البحر وقائدنا / موسى بن كعب، ومعنا في المركب، رجل من أهل الكوفة فأقبل يشتم أبا بكر وعمر، فزجرناه فلم ينزجر، ونهيناه فلم ينته، فأرسينا إلى جزيرة في البحر، فتفرقنا فيها نتأهب لصلاة الظهر، فأتانا صاحب لنا فقال: أدركوا أبا الحجاج فقد أكلته النحل، قال أبو الحباب: فحفرنا له لندفنه فاستوعرت علينا الأرض، قال: صليت فلم نقدر على أن نحفر له، فألقينا عليه ورق الشجر والحجارة وتركناه. وزاد ابن منيع في حديثه قال خلف: وكان صاحب لنا يبول فوقعت نحلة على ذكره فلم تضره فعلمنا، ها كانت مأمورة (¬3) 11 - قال عبد الواحد بن أحمد الملحي: دخلت على الحكم أي عمرو ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1331 (¬2) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1330 (¬3) ضياء الدين المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 29، اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1330

خليد بن الحسن بن سفيان النسوي بنيسابور، وكان معه شيخ يقال له: علان، فقال له الحاكم: اقصص حديثك على هذا فقال: كنت في بلد الري، وكنت أذكر فضائل الشيخين أبي بكر وعمر، فأنهى ذلك الصاحب فأمر بأخذي، ففرت إلى جرجان، فكنت يوماً في سوق وإذا بقوم جاءني وشدوني على جمازة فحملت إلى الري، فلما أدخلت على الصاحب، أمر بقطع لساني فقطع ذاك، وكنت على حالة من الضيق والألم، فلما أن دخل الليل رأيت فيما يرى النائم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وجماعة من أصحابه، فقالا: يا رسول الله، هذا الذي أصيب فينا، فدعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفث فمي، فانتبهت وليس بي شيء من وجع، ورد علي الكلام، وخرجت من ولايته إلى همذان، وكانوا أهل السنة، فقصصت عليهم قصتي فظهر لي هناك قبول، وكنت ثم مدة أنشر فضائل الشيخين. قال عبد الواحد: ففتح لنا فاه فما رأينا في فيه لساناً، فشاهدناه على ذلك، وكان يتكلم بكلام فصيح كما تكلم ذو اللسان (¬1). 12 - وأختم هذا المبحث في الدفاع عن الحسين بن علي رضي الله عنهما: أما فضائل السبطين "الحسن والحسين " فهي أشهر من أن تذكر، فهما ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما سيدا شباب أهل الجنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبهما ويكرمهما ويحنو عليهما. ¬

(¬1) ضياء الدين المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 24

ولكن كان ما كان من قدر الله تعالى في مقتل الحسين رضي الله عنه في سنة إحدى وستين، يوم الجمعة في يوم عاشوراء، وله أربع وخمسون سنة، وستة أشهر ونصف (¬1). قال الإمام ابن كثير: فكل مسلم ينبغي أن يحزنه قتله رضي الله عنه فإنه من سادات المسلمين، وعلماء الصحابة وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل بناته، وقد كان عابداً شجاعاً وسخياً، ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء، وقد كان أبوه أفضل منه فقتل، وهم لا يتخذون مقتله مأتماً كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة، وقد قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، وكذلك عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلي قُتل وهو يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، وكذلك الصديق كان أفضل منه، ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله، ولم يتخذ أحد يوم موتهم مأتماً يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين، ولا ذكر أحد أنّه ظهر يوم موتهم وقبلهم شيء ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 142 - 162

مما ادعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة، مثل كسوف الشمس والحمرة التي تطلع في السماء وغير ذلك. وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب وأمثالها ما رواه علي بن الحسين عن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها فيحدث لها استرجاعاً إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب منها) رواه الإمام أحمد وابن ماجه (¬1). وقال رحمه الله: ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذباً فاحشاً من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم، وما رفع يومئذ حجر إلا وتحته دم، وأن أرجاء السماء احمرت، وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه الدم، وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب خرب بعضها بعضاً، وأمطرت السماء دماً أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذ، ونحو ذلك. وروي ابن لهيعة عن أبي قبيل المعافري: أن الشمس كسفت يومئذ حتى النجوم وقت الظهر، وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دماً، وأن الأرض أظلت ثلاثة أيام، ولم يمس زغفران ولا ورس بما كان معه يومئذ إلا احترق من مسه، ولم يرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط، وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحماً مثل العلقة، إلى غير ذلك من الأكاذيب ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 191

والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء (¬1). وأما ما نحن بصدد الحديث عنه وهو الدفاع عن الصحابة رضي الله عنهم: فقد رويت أحاديث وفتن أصابت قتلة الحسين ومن تهكم به، قال الإمام ابن كثير: وأما ما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح، فإنه قلّ من نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة وعاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض، وأكثرهم أصابه الجنون، وللشيعة والرافضة في صفة مقتل الحسين كذب كثير وأخبار باطلة (¬2). أخرج الإمام الترمذي في جامعه عن عمارة بن عمير قال: لما جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه، نضّدت في المسجد في الرحبة، فانتهيت إليهم وهم يقولون: قد جاءت، قد جاءت: فإذا حية قد جاءت تخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت ثم قالوا: قد جاءت، قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (¬3). قوله " نضدت " أي جعل بعضها فوق بعض مرتبة، والرحبة: محلة بالكوفة. ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 190 (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 190 (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب مناقب الحسن والحسين (3789)، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 4/ 160

قال العلامة المباركفوري: وإنما أورد الترمذي هذا الحديث في مناقب الحسين؛ لأن فيه ذكر المجازاة، لما فعله عبيد الله بن زياد برأس الحسين رضي الله عنه (¬1) وذلك أنّه جيء برأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد فجعل يقول بقضيب له في أنفه ويقول: ما رأيت مثل هذا حسناً لم يذكر، فقال أنس بن مالك: أما إنّه كان من أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). قال أبو رجاء العطاردي: كان لنا جار من بلهجيم، فقدم الكوفة، فقال: ما ترون هذا الفاسق ابن الفاسق قتله الله - يعني الحسين بن علي رضي الله عنهما: فرماه الله بكوكبين من السماء، فطمس بصره (¬3). وقال السدي: أتيت كربلاء تاجراً، فعمل لنا شيخ من طي طعاماً، فتعشينا عنده، فذكرنا قتل الحسين، فقلت: ما شارك أحد في قتله إلا مات ميتة سوء، فقال: ما أكذبكم، أنا ممن شارك في ذلك فلم نبرح حتى دنا من السراج وهو يتقد بنفط فذهب يخرج الفتيلة بأصبعه، فأخذت النار فيها، فذهب يطفئها بريقه، فعلقت النار في لحيته، فعدا، فألقى نفسه في الماء فرأيته كأنه حممه (¬4). وعن الأعمش قال: تغوط رجل من بني أسد على قبر الحسين، ¬

(¬1) المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 263 (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب مناقب الحسن والحسين (3787) (¬3) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 4/ 159، الطبري: ذخائر العقبى: 248 (¬4) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 4/ 159، الطبري: دخائر العقبى: 428

فأصاب أهل ذلك البيت خبل وجنون وبرص وفقر وجذام (¬1). وأن قاتل الحسين لما جاء ابن زياد، وذكر له كيفية قتله، وما قال له الحسين، اسودّ وجهه (¬2). والأخبار في ذلك كثيرة، وهو جزاء كل من لطخ يده بدم الصديقين، أو استهزئ وازدرى أهل البيت الطاهرين. ولذا لما بلغ أم سلمة مقتل الحسين قالت: قد فعلوها، ملأ الله قبورهم - أو بيوتهم - ناراً، ووقعت مغشيا عليها (¬3). ولما تكلم ابن زياد بعد مقتل الحسين قام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي، فقال: ويحك يا ابن زياد، تقتلون أولاد النبيين، وتتكلمون بكلام الصديقين، فأمر به ابن زياد فقتل وصلب (¬4). ونقول ما قال جماعة أهل السنة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما من قتل الحسين ,أو أعان على قتله أو رضي بذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً (¬5). وقال رحمه الله: والحسين رضي الله عنه أكرمه الله تعالى بالشهادة في هذا اليوم، ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء:4/ 161 (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء:4/ 158 الطبري: ذخائر العقبي: 427 (¬3) ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 190 (¬4) ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 180 (¬5) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 487

وأهان بذلك من قتله، أو أعان من قتله أو رضي بقتله، وله أسوة حسنة ممن سبقه من الشهداء، فإنه وأخوه سيدا شباب أهل الجنة، وكانا قد تربيا في عز الإسلام، لم ينالا من الهجرة والجهاد والصبر على الأذى في الله ما نال أهل بيته؛ فأكرمهما الله تعالى بالشهادة؛ تكميلاً لكرامتهما، ورفعاً لدرجتهما. وقتله مصيبة عظيمة، والله سبحانه قد شرع الاسترجاع عند المصيبة بقوله تعالى [وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ] البقرة 55 - 57. ثم قال: ومن أحسن ما يذكر هنا: أنّه قد روى الإمام أحمد وابن ماجه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت، فيحدث عندها استرجاعاً، كتب الله له مثلها يوم أصيب. هذا حديث رواه عن الحسين ابنته فاطمة التي شهدت مصرعه. وقد علم أن المصيبة بالحسين تذكر مع تقادم العهد، فكان من محاسن الإسلام أن بلغ هو هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنّه كلما ذكرت هذه المصيبة يسترجع لها، فيكون للإنسان من الأجر مثل الأجر يوم أصيب بها المسلمون. وأما من فعل مع تقادم العهد بها، ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حدثان العهد بالمصيبة فعقوبته أشد مثل لطم الخدود وشق الجيوب والدعاء

بدعوى الجاهلية. ثم قال: فكيف إذا انضم إلى ذلك ظلم المؤمنين، ولعنهم وسبهم وإهانة أهل الشقاق والإلحاد على ما يقصدونه للدين من الفساد وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى (¬1). قال الإمام الذهبي: ولما استشار المسلمون عائشة -رضي الله عنها- في دفن الحسن رضي الله عنه في حجرتها لما مات فقالت: نعم وكرامة، فبلغ ذلك مروان فقال: كذب وكذبت، والله لا يدفن هناك أبداً، منعوا عثمان من دفنه في المقبرة، ويريدون دفن حسن في بيت عائشة، فلبس الحسين ومن معه السلاح، واستلأم مروان أيضاً في الحديد، ثم قام في إطفاء الفتنة أبو هريرة، أعاذنا الله من الفتن ورضي عن جميع الصحابة فترضى عنهم يا شيعي تفلح، ولا تدخل بينهم، فالله حكم عدل يفعل فيهم سابق علمه، ورحمته وسعت كل شيء، وهو القائل (إن رحمتي سبقت غضبي) و [لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] الأنبياء 23، فنسأل الله أن يعفو عنا وأن يثبتنا بالقول الثابت. آمين (¬2). وأخيراً: بعد ذكر هذه الوقائع والأحداث والقصص والشواهد، ليس المقصود من إيرادها وسردها إلا شفاء قلوب المؤمنين الصادقين المحبين للصحابة الكرام الأخيار، وآل البيت الأطهار رضي الله عنهم وأرضاهم، في ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 511 وما بعده. (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 4/ 142

بيان نصرتهم، وأوجه الدفاع عنهم، وأن الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لكل طاعن ومستهزئ بأفضل القرون، وأنه سبحانه يدفع عنهم، وينتصر ممن عادهم (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب). وكذا المنهج النبوي في المنافحة عن الصحابة الكرام، ومن بعده أخذوا هذا المنهج وساروا عليه، ولذا النماذج المذكورة شواهد على ما أقول. ولسنا هنا فقط في مقام من يسرد الشواهد والنماذج، ويتواكل عليها وعلى أمثالها ويؤثر الدعة والسكون والراحة، بل المقصود الأعظم هو استنهاض الهمم للقيام بالواجب تجاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما يجب ويلزم، ولنكن وجهاً من أوجه الدفاع طبعاً بالتي هي أحسن - عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين. والمحروم من حرم هذا الشرف العظيم وهو الذب عن الصحابة الأطهار، خاصة في الأزمان التي يحصل فيها التطاول عليهم ويكثر. ويكفي في هذا المقام أن نذكر القوم بقول الحبيب المصطفى والنبي المجتبى عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه، حسب ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب في الغيبة (4872)

امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أربى الربا: الاستطالة في عرض المسلم بغير حق) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدروهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) (¬2). وأي عرض أعظم من عرض أفاضل الخلق وسادات المسلمين وأولياء الله المتقين أصحاب النبي الأمين، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. ويكفيك أيها الذاب عن الأعراض الطاهرة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمى مؤمناً من منافق) أراه قال: (بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مسلما بشيء يريد شينه به، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال) (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب في الغيبة (4868) (¬2) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب في الغيبة (4870) (¬3) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب من رد مسلم غيبة (4875)

الخاتمة

الخاتمة والتوصيات في ختام هذا التطواف المبارك مع الثلة المباركة نخلص إلى النتائج التالية: [1] أن جيل الصحابة خير الأجيال، وقرنهم خير القرون، بلا خلاف، لنص المصطفى صلى الله عليه وسلم. وما ميزهم على غيرهم، صحبتهم للنبي الكريم، والتماسهم من جميل صفاته، وكريم أخلاقه، وكمال تعاملاته، وهذا ما مكنهم في الأرض وجعلهم الساسة السادة القادة. يقول الإمام الغزالي: وإنما فضل الصحابة لمشاهدتهم قرائن أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم واعتلاق قلوبهم أموراً أدركت بالقرائن فسددهم ذلك إلى الصواب، من حيث لا يدخل في الرواية والعبارة، إذ فاض عليهم من نور النبوة ما يحرسهم الأكثر عن الخطأ (¬1) فكان لهم من موجب التقدير والاحترام والإجلال ما ليس لغيرهم، حتى إن شاعراً مدح سالم بن عبد الله بن عمر فقال: (وبلال عبد الله خير بلال) فقال له ابن عمر: كذبت، بل (وبلال رسول الله خير بلال) (¬2). وروي أنّه جيء للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجل بدوي هجا الأنصار، فقال لهم: لولا أن له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري ما نال فيها ¬

(¬1) الغزالي: إحياء علوم الدين: 1/ 79 (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 155

لكفيتكموه، ولكن له صحبة منه. فها هو ذا عمر على صرامته في الحق قد توقف عن معاتبته فضلاً عن معاقبته؛ لكونه علم أنّه حظي بشرف الصحبة (¬1). فكانوا رضي الله عنهم أطوع الناس لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأسرعهم فيئة إلى الحق، وأكرمهم للحق، فما من خلق حسن إلا ولهم منه أكمله، وما من عمل بر إلا وهم أوله، حازوا قصب السبق في كل مجالات الحياة، فهم العلماء العاملون، والرواد المبدعون، وأهل الفكر والفهوم، وكانوا إذا جن عليهم الليل قليلاً ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم، فهم رهبان الليل وفرسان النهار. قال الله تعالى عنهم [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً] النساء 87، [أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] وقال سبحانه وتعالى عنهم [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً] النساء 122، [فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] الحشر 9. ولا يعني بحال من الأحوال، أن هذه الأعطيات والمنح الإلهية الربانية لأولئك القوم وذاك الجيل، كانت موجباً للكسل والتواني، بل كانوا أقوم الناس بالحق، وأقولهم للحق، وأشجعهم في نصرة الحق [وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ] الحشر 8. والصحابة رضي الله عنهم أعرف الناس للحق، واتبع له. يقول الإمام ابن القيم: كل من كان أعرف للحق واتبع ¬

(¬1) أبو شهبة: دفاع عن السنة: 93

له، كان أولى بالصراط المستقيم. ولا ريب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم: هم أولى بهذه الصفة من الروافض. فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم - جهلوا الحق وعرفه الروافض، أو رفضوه وتمسك به الروافض. ثم رأينا آثار الفريقين تدل على أهل الحق منهما. فرأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا البلاد، وقلبوها بلاد إسلام، وفتحوا القلوب بالقرآن والعلم والهدى. فآثارهم تدل على أنهم هم أهل الصراط المستقيم. ورأينا الرافضة بالعكس في كل زمان ومكان، فإنه قط ما قام للمسلمين عدو من غيرهم إلا كانوا أعوانهم على الإسلام، وكم جروا على الإسلام وأهله من بلية؟ وهل عاثت سيوف المشركين عباد الأصنام - من عسكر هولاكو وذويه من التتار- إلا من تحت رؤوسهم؟ وهل عطلت المساجد، وحرقت المصاحف، وقتل سروات المسلمين وعلماؤهم وعبادهم وخليفتهم إلا بسببهم ومن جرائهم؟ ومظاهرتهم للمشركين والنصارى معلومة عند الخاصة والعامة، وآثارهم في الدين معلومة. فأي الفريقين أحق بالصراط

المستقيم؟ وأيهم أحق بالغضب والضلال، إن كنتم تعلمون؟ ولهذا فسر السلف الصراط المستقيم وأهله: بأبي بكر وعمر، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم، وهو كما فسروه، فإنه صراطهم الذي كانوا عليه، وهو عين صراط نبيهم. وهم الذين أنعم الله عليهم، وغضب على أعدائهم، وحكم لأعدائهم بالضلال (¬1). وليست هذه المنح والأعطيات والهبات موجبة لعصمة القوم، لا! فهم بشر من جملة البشر، اصطفاهم الله تعالى واختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، والقتال عن دينه، فقاموا به حق قيام، وربما أخطأتهم الفطرة البشرية فجاء الدين مقوّما، والشرع مُهذّباً. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وسائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة ولا القرابة ولا السابقين ولا غيرهم بل ¬

(¬1) ابن القيم: مدارج السالكين: 1/ 94

يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم، والله تعالى يغفر لهم بالتوبة، ويرفع بها درجاتهم، ويغفر لهم بحسنات ماحية، أو بغير ذلك من الأسباب (¬1). وبعض من يتحدث عن بشرية الصحابة رضي الله عنهم يجعله مدخلاً أو يفتح باباً للآخرين للقدح في القوم والنيل فيهم، والطعن في أعراضهم، وتتبع زلاتهم، وقولهم: إنهم بشر ونحن بشر، وما يقع منا يقع منهم. قلت: لقد أبعدتم النجعة، فلو اتفقنا في البشرية فلن نتفق معهم في فضلهم ولا منزلتهم ولا مكانتهم ولا علمهم ولا أخلاقهم ولا تواضعهم ولا وفائهم ولا جهادهم ولا صدقهم (فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). لسنا نغلو في القوم، فالغلو مذموم، ولكن أن نجفو حقهم، أو نقصر في مقامهم، فهذا ما تتطلع إليه نفوس حاقديهم، وإلا فإن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (لا يبلغّني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) (¬2) فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم ما قال: تأديباً وتربية لهم وتفخيماً لشأنهم، والحذر من الوقوع في أعراضهم، فقال: (لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً) فشيء: نكرة في سياق النهي، فيعم كل شيء مما يسوؤه ويكرهه ويغضبه في أصحابه (فإني أحب أن أخرج إليكم) من ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 35/ 69 (¬2) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب في رفع الحديث من المجلس (4852)

البيت وألاقيكم، (وأنا سليم الصدر): من مساويكم، وهذا يشمل سلامة الصدر تجاههم في حياته عليه الصلاة والسلام وبعد مماته. قال الإمام ابن الملك: والمعنى أنّه صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يخرج من الدنيا وقلبه راض عن أصحابه من غير سخط على أحد منهم، وهذا تعليم للأمة أو من مقتضيات البشرية (¬1). وهاهم الصحابة رضي الله عنهم يعرفون لبعضهم فضل بعض، فأخرج الإمام الترمذي عن خيثمة بن أبي سبرة قال: أتيت المدينة فسألت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً فوفقت لي، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، جئت ألتمس الخير وأطلبه، قال: أليس فيكم سعد بن مالك: مجاب الدعوة، وابن مسعود: صاحب طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وبغلته، وحذيفة: صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمار: الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه، وسلمان صاحب الكتابين؟ قال قتادة: والكتابان: الإنجيل والفرقان، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب (¬2). وكذا أخرج الإمام البخاري في صحيحه قول أبي الدرداء لما سأل الرجل: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة، فقال: أليس فيكم - أو منكم - صاحب السر الذي لا يعلمه غيره - يعني حذيفة - قال: قلت: بلى، قال: أليس فيكم - أو منكم - الذي أجاره الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؟ يعني من الشيطان، يعني: عمار: قلت: بلى، قال: أليس فيكم - أو منكم - صاحب ¬

(¬1) العظيم آبادي: عون المعبود: 8/ 228، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 259 (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب مناقب عبد الله بن مسعود (3820)

السواك والوساد أو السرّار؟ قال: بلى ... ) (¬1) وهذا عبد الرحمن بن عوف لما أراد عمر بن الخطاب أن يقوم في منى ويحدث الناس عمن قال: لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلاناً، فقال: لأقومن العشية فاحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم، فقال عبد الرحمن: لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس يغلبون على مجلسك فأخاف أن لا ينزلوها على وجهها، فيطير بها كل مطير، فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة، دار السنة، فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فيحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها .. وفي لفظ: قال عبد الرحمن: فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغائهم فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة تطيرها عنك كل مطيّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها مواضعها، فأمهل حتى نقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها .. (¬2). وفي الحديث نفسه يقول عمر بن الخطاب مثنياً على الصديق رضي الله عنهما وعارفاً له فضله، لما أراد أن يحدث في السقيفة فقال: كنت قد زوّرت ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مناقب عمار وحذيفة (3743) (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7323)، وأخرجه في كتاب الحدود باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت (6830)

مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أدارى عن بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترى من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت. ومعنى زورت: أي هيأت وحسنت. وفي رواية (رويت) من الروية ضد البديهة (¬1) ثم قال عمر فيه: وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر. قال الإمام الخطابي: يريد أن السابق منكم الذي لا يلحق في الفضل لا يصل إلى منزلة أبي بكر، فلا يطمع أحد أن يقع له مثل ما وقع لأبي بكر من المبايعة له أولاً في الملأ اليسير، ثم اجتماع الناس عليه وعدم اختلافهم عليه، لما تحققوا من استحقاقه فلم يحتاجوا في أمره إلى النظر ولا إلى مشاورة أخرى، وليس غيره في ذلك مثله (¬2). بل إنهم رضي الله عنهم يغمطون من حقوق أنفسهم تجاه أصحابهم، يقول الإمام سعيد بن المسيب، كان بين طلحة وابن عوف تباعد، فمرض طلحة فجاء عبد الرحمن يعوده فقال طلحة: أنت - والله - يا أخي خير مني، قال: لا تفعل يا أخي، قال: بلى - والله - لأنك لو مرضت ما عدتك (¬3). وها هو النبي الأكرم والرسول الأعظم، عليه أفضل الصلاة ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 12/ 158 (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 12/ 155 (¬3) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 38

والسلام، متى وجد مناسبة أو موقفاً يحتاج للتذكير ببيان فضل القوم بيّن وفعل. عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: صعد ابن مسعود شجرة، فجعلوا يضحكون من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنهما في الميزان أثقل من أحد) (¬1). ولذا وجب أن نعرف للصحابة رضي الله عنهم حقهم وفضلهم، وهذا يتبين بما يلي: [2] فقد بوّب أهل السنة والجماعة في كتب العقائد أبواباً في فضائل الصحابة وآل البيت وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وحقهم علينا وواجبنا تجاههم، بل غالب المدونات والمصنفات والصحاح بوّبت لمثل هذا. وهذا يدل على أن هذه المكانة والمنزلة للصحابة رضي الله عنهم دين وإيمان وعقيدة. ومجمل الحقوق والواجبات التي ذكرها أهل السنة لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور: أ) وجوب محبتهم وإجلالهم وتعظيمهم، دون إفراط في حب أحد منهم، ولا تبرئ من أحد منهم. قال الإمام القرطبي: قال جل وعلا [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] الحشر 10. قال: هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء، ما أقاموا ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 212

على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحداً منهم، أو اعتقد فيه شراً، إنّه لا حق له في الفيء روي ذلك عن مالك وغيره (¬1) ب) قبول ما جاء في الكتاب والسنة في فضائلهم ومراتبهم رضي الله عنهم. ج) سلامة القلوب والألسنة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والترضي عنهم. قال العوام بن حوشب: أدركت صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم (¬2). وقال الإمام الشوكاني: وقد جرت عادة هذه الأمة والسواد الأعظم من سلفها وخلفها على الترضي عن الصحابة، والترحم على من بعدهم والدعاء لهم بمغفرة الله وعفوه (¬3). د) الشهادة لمن شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، فكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها، وعلى رأسهم العشرة، رضي الله عن الجميع. هـ) إحسان القول في الصحابة رضي الله عنهم وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات المطهرات من كل دنس، وذرّيّاته المقدسين، فمن أحسن القول فيهم برئ من النفاق. ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 18/ 30 (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 18/ 32 (¬3) الشوكاني: فتح القدير: 3/ 448

و) حب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وحفظ وصيته عليه الصلاة والسلام، فيهم: (اذكروا الله في أهل بيتي). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: محبتهم عندنا فرض واجب، يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يُدعى: خمّاً، بين مكة والمدينة فقال: يا أيها الناس: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله .. ) فذكر كتاب الله وحض عليه، ثم قال: (وعترتي أهل بيتي، اذكركم الله في أهل بيتي، اذكركم الله في أهل بيتي) ثم قال: ومن أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً (¬1). ز) ذكرهم بالجميل، فمن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل، وذكرهم بسوء يؤدي إلى بغضهم، وربما أدى إلى فجور وكفر، ذكر الشيخ شمس الدين خطيب مدينة بيروت، وإمامها عن السيد عمر الحضرمي من أهل بيروت، أنّه اجتمع برافض من أهل جبل عاملة، فقال له الرافضي: نحن نبغض أبا بكر لتقدمه في الخلافة على عليّ، ونبغض جبريل، لأنه نزل بالرسالة على محمد ولم ينزل على علي، ونبغض علياً لسكوته عن طلب حقه من أبي بكر وهو قادر عليه، ونبغض الله - عز وجل - لأنه أرسل محمدا ًولم يرسل علياً. وهذا من أقبح ما يكون من الكفر الذي ما سمع بمثله - والعياذ بالله -. ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 487

وذكر ابن بشكوال بسنده إلى محمد بن عمر بن يونس قال: كنت بصنعاء فرأيت رجلاً والناس حوله مجتمعون عليه فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا رجل كان يؤم بنا في شهر رمضان، وكان حسن الصوت بالقرآن، فلما بلغ [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] الأحزاب 56. قال: إن الله وملائكته يصلون على علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، فحرص وجذم وبرص وعمي وأقعد مكانه (¬1). ل) الإمساك عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم والتماس أحسن الأعذار لهم. - ولما جاء بعض رسل الخليفة إلى الإمام أحمد فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية فقال: ما أقول إلا الحسنى، رحمهم الله أجمعين. ولذا كان عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الزاهد يقول إذا سئل عن صفين والجمل: أمر أخرج الله يدي منه، لا أدخل لساني فيه. وهذا هو المنهج الصحيح للتعامل مع تلك الفتن، وإلا فجر اللسان فيها يؤدي إلى تنقصهم وازدرائهم وسبهم، وقد قال الإمام أحمد: من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نأمن أن يكون مرق من الدين. قلت: كيف لا، وقد قال معمر بن راشد: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أصابتهم نفحة النبوة. (¬2) ¬

(¬1) انظر: الحطاب: مواهب الجليل: 8/ 382 (¬2) الخلال: السنة 2/ 460، 462، 480،3/ 493

وخلاصة الأمر: أن حبّهم إيمان ودين وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان، فمن نظر في سيرهم بعلم وبصيرة، وما منّ الله تعالى به عليهم من الفضائل علم يقيناً أنّهم خير القرون بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنّهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم، وأكرمها على الله تعالى، وكان القرن الأول أكمل الناس في العلم النافع والعمل الصالح. (قاله شيخ الإسلام ابن تيمية). أنشد نصر بن منصور النميري لنفسه: أحب علياً والبتول وولدها ... ولا أجحد الشيخين فضل التقدم ... وأبرأ ممن نال عثمان بالأذى ... كما أتبرأ من ولاء ابن ملجم وذكر عن أبي العز محمد بن الحسن المقرئ الواسطي: إن من لم يقدم الصديقا ... لم يكن لي حتى يموت صديقا ... والذي لا يقول قولي في الفارو ... ق أنوي لشخصه تفريقا ... ولنار الجحيم باغض ذي النور ... ين يهوي منها مكاناً سحيقاً ... من يوالي عندي علياً وعادا ... هم طرا عددته زنديقاً (¬1) ¬

(¬1) انظر: ابن تيمية: مختصر منهاج السنة: 1/ 80، الطحاوي: العقيدة الطحاوية مع شرح ابن أبي العز 467، اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1310، ابن قدامة: لمعة الاعتقاد: 138.

ومن أوجه إكرام الله جل وعلا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحفظهم وإعلاء شأنهم ومقامهم: - أنّه لم يجعل فيهم موسوس، قال الإمام ابن القيم: وليعلم أن الصحابة لم يكن فيهم موسوس ولو كان فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته وهم خير الخلق وأفضلهم (¬1) - وأنه سبحانه وتعالى لم يبتل أحدهم بالطرش، يقول الإمام ابن القيم: لا يعرف في الصحابة أطرش (¬2) ويقول: لم يكن في الصحابة أطرش وكان فيهم أضراء، وقل أن يبتلي الله أولياءه بالطرش، ويبتلي كثيراً منهم بالعمى، فمضرة الطرش في الدين، ومضرة العمى في الدنيا والمعافى من عافاه الله منها. ثم يقول: والذي يليق بهذا الموضع أن يقال: عادم البصر أشدهما ضرراً وأسلمهما ديناً وأحمدهما عاقبة، وعادم السمع أقلهما ضرراً في دنياه، وأجهلهما بدينه، وأسوأ عاقبة، فإنه إذا عدم السمع عدم المواعظ والنصائح وانسدت عليه أبواب العلوم النافعة، وانفتحت له جزر الشهوات التي يدركها البصر ولا يناله من العلم ما يكفه عنها فضرره في دينه أكثر وضرر الأعمى في دنياه أكثر (¬3). ¬

(¬1) ابن القيم: إغاثة اللهفان: 1/ 136 (¬2) ابن القيم: بدائع الفوائد: 1/ 77 (¬3) ابن القيم: مفتاح دار السعادة: 1/ 365

وكانوا أزهد الناس مع ما بأيديهم من الأموال (¬1) ولذا كانت فراستهم أصدق الفراسة (¬2). [3] أن الصحابة رضي الله عنهم عاشوا زمن التشريع، ونزول الوحي، وكان كثير من الصحابة حدثاء عهد بجاهلية، فتعلق ببعضهم، بعض أوصافها، فيأتي الوحي مصححاً ومبيناً وموجهاً ومحذراً، ومن ذلك: ما قاله أبو ذر لبلال رضي الله عنهما: يا ابن السوداء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعيرته بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية (¬3). ومما علق في أذهانهم رضي الله عنهم وأرضاهم، الحلف على ما كان جارياً في الجاهلية، فكان بعد إسلام أحدهم يجري على لسانه حلف الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله - عز وجل - ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) قال عمر رضي الله عنه: فو الله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاكراً ولا أثراً (¬4) ومن هنا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) (¬5). ¬

(¬1) ابن القيم: مدارج السالكين: 1/ 465 (¬2) ابن القيم: مدارج السالكين: 2/ 486 (¬3) ابن حجر: فتح الباري: 10/ 480 (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى (1646) (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله (1647)

قال الإمام النووي: إنما أمر بقول: لا إله إلا الله؛ لأنه تعاطى تعظيم صورة الأصنام حين حلف بِها، ومذهب جماهير العلماء أن من قال ذلك أن يمينه لم تنعقد، بل عليه أن يستغفر الله، ويقول: لا إله إلا الله، ولا كفارة عليه سواء فعله أم لا (¬1). قلت: والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى الرجل لما سأله الوصية فقال: لا تغضب ثلاثاً. مما يدل على أن الغضب من الطبيعة البشرية، إلا أنّها تحتاج لتهذيب، ولذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أسباب الوقاية منه، وما يفعله المرء إذا غضب، ومن هنا نستطيع فهم واقع الصحابة رضي الله عنهم إذ هم من قبل هذه الطبيعة البشرية، ولكنها أنقى وأكمل طبيعة، إذ هي أسرع الطبائع للفيئة إلى الحق. ففي الحديث الصحيح: (استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمر عيناه، وتنتفخ أوداجه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال: هل ترى بي من جنون. وفي رواية الإمام البخاري: فانطلق إليه الرجل وقال: تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال: أترى بي بأس! أمجنون أنا؟ اذهب (¬2). قال الحافظ ابن حجر: واخلق بهذا المأمور أن يكون كافراً أو منافقاً، ¬

(¬1) النووي: شرح مسلم: 11/ 117 (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة والآداب باب فضل من يملك نفسه عند الغضب (2610)

أو كان غلب عليه الغضب حتى أخرجه من الاعتدال بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه وظن أنّه لا يستعيذ من الشيطان إلا من به جنون ولم يعلم أن الغضب نوع من شر الشيطان، ولهذا يخرج به عن صورته، ويزيد إفساد ماله، كتقطيع ثوبه، وكسر أنيته أو الإقدام على من أغضبه، ونحو ذلك مما يتعاطاه من يخرج عن الاعتدال (¬1). وهذا الصديق رضي الله عنه يقع فيه رجل فيؤذيه مرة وثانية وثالثة، فيقوم وينتصر لنفسه، فيقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينها فيقول الصديق للرسول صلى الله عليه وسلم: أو جدت عليّ يا رسول الله؟ قال: نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان. قال الإمام المنذري: هذا مرسل (¬2). قوله " فانتصر منه أبو بكر ": أي: عملاً بالرخصة المجوّزة للعوام، وتركاً للعزيمة المناسبة لمرتبة الخواص، وهو رضي الله عنه وإن كان جمع بين الانتقام عن بعض حقه، وبين الصبر عن بعض حقه، لكن لما كان المطلوب منه الكمال المناسب لمرتبته من الصديقية ما استحسنه النبي صلى الله عليه وسلم (¬3). وها هي الفطرة البشرية تبرز في موقف الضعف: فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 10/ 482، أنظر: العظيم آبادي: عون المعبود: 8/ 185 (¬2) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب في الانتصار (4888) (¬3) العظيم آبادي: عون المعبود: 8/ 250

فيقوم سعد بن معاذ ويقول: يا رسول الله، والله أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة - سيد الخزرج- واحتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم لسعد بن معاذ فقال: لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، والله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، وتساور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت (¬1). وعائشة رضي الله عنها تقول في سعد بن عبادة: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية: أي أنّه كامل الصلاح. وفي رواية: وكان صالحاً ولكن الغضب بلغ، ومع ذلك لم يغمص عليه في دينه. ولكن احتملته الحمية: أي: حملته على الجهل. قال العلماء: ومن الحمل الجيد لقوله: " كذبت لا تقتله ولا تقدر على قتله ": أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجعل حكمه إليك، فلذلك لا تقدر على قتله. قال الحافظ ابن حجر: وهو حمل جيد (¬2). وقد اعتذر الإمام المازري عن قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة: إنك منافق، أنّ ذلك وقع منه على جهة الغيظ والحنق والمبالغة في زجر سعد ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التفسير باب الولاء إذ سمعتموه (4750) (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 8/ 329

بن عبادة عن المجادلة عن ابن أبي وغيره، ولم يرد النفاق الذي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر، قال: ولعله صلى الله عليه وسلم إنما ترك الإنكار عليه لذلك (¬1). ومما يدل على كمالهم وفضلهم، رجوعهم إلى الحق مباشرة: في الحديث (لما قسّم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين فأعطى المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار، كأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فهم غضبوا، فخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلاّلاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ، ثم قال: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرؤ من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً لسلكت وادي الأنصار وشعبها الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض (¬2). وفي رواية: أما لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، أتيناك مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك، ثم قالوا: رضينا عن الله ورسوله. وفي راوية: قال اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، قال: فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً. ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 330 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب غزوة الطائف (4330)

قال الإمام ابن القيم: وأما قصة الأنصار وقول من قال منهم: فقد اعتذر رؤساؤهم بأن ذلك كان من بعض أتباعهم ولما شرح لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنع، رجعوا مذ عنين، ورأوا أن الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عود رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم. وقال الحافظ ابن حجر: وفيه حسن أدب الأنصار في تركهم المماراة والمبالغة في الحياء وبيان أن الذي نقل عنهم إنما كان عن شبانهم، لا عن شيوخهم وكهولهم (¬1). فرضي الله سبحانه وتعالى عنهم، ما أزكاها من نفوس، وأطهرها من قلوب، وأعلاها من أرواح، وأرضاها من جوارح، علت وسمت في سماء الإسلام. [4] أقوال أهل البيت وأفعالهم مع بقية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أظهر دليل، وأقوى حجة وأسطع برهان لدحض أقوال المفترين المغرضين الذين وسعوا الشقة، وأطالوا المفازة بين الفريقين، فمصاهرة الصحابة رضي الله عنهم لأل البيت، وتسمية أبناء آل البيت بأسماء كبار الصحابة، لهو أكبر دليل على كمال القرب بينهم. فعثمان بن عفان تزوج من بنتي الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، رقية ثم أم كلثوم رضي الله عنهما، وتوفين في حياته، حتى قال ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 66 - 467

النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كن عشراً لزوجتهن عثمان) (¬1). وبنات النبي صلى الله عليه وسلم أربع: زينب وهي أكبرهن سناً، وفاطمة وهي أصغرهن سناً - على المشهور - ثم اختلفوا في رقية وأم كلثوم؟ فقيل: إن رقية أكبر سنا من أم كلثوم، لأن عثمان تزوجها أولاً في أول إسلامه ثم أم كلثوم بعدها بعد وقعة بدر، والكبيرة تزوج أولاً، وإن جاء خلافه (¬2). وأشرف منهم وأكرم، سيد ولد آدم، إمام أهل البيت وسيدهم، تزوج من ابنتي أبي بكر وعمر {عائشة وحفصة} رضي الله عنهم. وهذا عمر بن الخطاب تزوج من أم كلثوم بنت علي وفاطمة رضي الله عن الجميع (¬3). وعلي تزوج من أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق بعد وفاته رضي الله عنهم (¬4). وكذا سلسلة النسب الشريف لأهل البيت، بينهم وبين غيرهم من غير آل البيت مصاهرات مشهورة معلومة. - وها هي أقوال أهل البيت رضي الله عنهم شامخة منيفة في إبراز مكانة الصحابة ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 256 (¬2) الذهبي: مرجع سابق: 3/ 254، الطبري: ذخائر العقبى: 262، ابن القيم: زاد المعاد: 1/ 103 (¬3) الطبري: ذخائر العقبى: 286 (¬4) الطبري: ذخائر العقبى: 204

صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم الشيخين: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر (¬1). وفي لفظ: (حدثني رجال أحبهم إلي عمر) وفي لفظ (حدثني ناس أعجبهم إلي عمر). قوله: شهد عندي: أي اعلمني وأخبرني وبين لي، قال الكرماني: المراد من الشهادة لازمها وهو الإعلام، أي: اعلمني رجال عدول. وقوله: مرضيون: أي لا شك في صدقهم ودينهم. قال الإمام ابن دقيق العيد: وفي الحديث رد على الروافض فيما يدعونه من المباينة بين أهل البيت وأكابر الصحابة رضي الله عنهم. قال الفاكهاني: صدق رحمه الله (¬2). قال يحيى بن شداد: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: أفضلنا أبو بكر (¬3). وعن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب مواقيت الصلاة باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس (581) (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 2/ 70، العيني: عمدة القاري: 4/ 108، ابن دقيق العيد: إحكام الأحكام: 1/ 150، الفاكهاني: رياض الأفهام: 1/ 593، ابن الملقن: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام 2/ 310، السفاريني: كشف اللثام 2/ 49 (¬3) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة:: 7/ 1375

قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويروي هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجهاً، وأنه كان يقول على منبر الكوفة، بل قال: لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. فمن فضله على أبي بكر وعمر جلد بمقتضى قوله رضي الله عنه ثمانين سوطاً. وقال رحمه الله: وهذا يقوله لابنه الذي لا يتقيه، ولخاصته، ويتقدم بعقوبة من يفضله عليهما، والمتواضع لا يجوز له أن يتقدم بعقوبة كل من قال الحق، ولا يجوز أن يسميه مفتريا (¬1). ومحمد بن الحنفية هو ابن علي بن أبي طالب، واسم الحنفية: خولة بنت جعفر. وفي رواية: قلت لأبي: يا أبتي: من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أو ما تعلم يا بني؟. قلت: لا، قال: أبو بكر. أخرجه الدارقطني (¬2). وعن النزال بن سبرة قال: وافقنا من علي ذات يوم طيب نفس ومزاج، فقلنا: يا أمير المؤمنين حدّثنا عن أصحابك خاصة، قال: كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابي، قالوا: حدثنا عن أبي بكر الصديق قال: ذاك امرؤ أسماه الله صديقاً على لسان جبريل ولسان محمد صلى الله عليه وسلم. كان خليفة رسول ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب قوله (لوكنت متخذا خليلا): (3671)، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 422 - 407 (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 40

الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة رضيه لديننا، ورضيناه لدنيانا (¬1). وأخرج الإمام البخاري عن ابن عباس قال: إني لواقف في قوم فدعوا لعمر بن الخطاب، وقد وضع على سريره، إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: رحمك الله: إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك، لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كنت وأبو بكر وعمر، دخلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجوا أن يجعلك الله معهما، فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب (¬2). وأخرج الإمام اللالكائي بسنده عن محمد بن علي بن حسن يذكر عن أبيه قال: قال فتى من بني هاشم لعلي بن أبي طالب حين انصرف، سمعتك تخطب يا أمير المؤمنين في الجمعة تقول: اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين فمن هم؟ قال: فاغرورقت عيناه، يعني: ثم انهملت على لحيته ثم قال: أبو بكر وعمر، إمامي الهدى وشيخي الإسلام والمقتدى بهما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من اتبعهما هدي إلى صراط مستقيم، ومن اقتدى بهما رشد، ومن تمسك بهما فهو من حزب الله، وحزب الله هم المفلحون (¬3). وروى البزار في مسنده من حديث محمد بن عقيل عن علي أنّه ¬

(¬1) اللالكائي: مرجع سابق: 7/ 1372 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً) (3671)، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 422 - 407 (¬3) اللالكائي: مرجع سابق: 7/ 1396

خطبهم فقال: يا أيها الناس من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، إنا جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً، فقلنا من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يهوي إليه المشركين، فو الله ما دنا أحد إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه، فهذا أشجع الناس. قال: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش فهذا يحاده، وهذا يتلتله ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلهاً واحداً، فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب ويجاهد هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم! أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟ فسكت القوم، فقال علي: فو الله لساعة من أبي بكر خير ملئ الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه. قال البزار: لا نعلمه يروي إلا من هذا الوجه. قال الإمام ابن كثير: فهذه خصوصية للصديق حيث هو مع رسول الله رضي الله عنه في العريش كما كان معه في الغار رضي الله عنه وأرضاه (¬1). وأخرج الإمام البخاري عن علي أنّه قال: اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي، ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 3/ 307

فكان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروى عن علي الكذب (¬1). قوله: (اقضوا كما كنتم تقضون): أي قبل، وذلك أن عليا لما قدم العراق قال: كنت رأيت مع عمر أن تعتق أمهات الأولاد، وقد رأيت الآن أن يسترققن. فقال عبيدة: رأيك يومئذ في الجماعة أحب إليّ من رأيك اليوم في الفرقة فقال: اقضوا كما كنتم تقضون. وقال: (إني أكره الاختلاف): أي المؤدي للنزاع، قال ابن التين: يعني: مخالفة أبي بكر وعمر. وكان ابن سيرين يرى - أي يعتقد - أن عامة (أي أكثر) ما يروى عن علي الكذب، والمراد بذلك: ما يرويه الرافضة عن علي من الأقوال المشتملة على مخالفة الشيخين، ولم يرد ما يتعلق بالأحكام الشرعية، فقد روى ابن سعد بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: إذا حدثنا ثقة عن علي بقينا لم نجاوزها. قاله الحافظ ابن حجر (¬2). وروي عن بقية أهل البيت رضي الله عنهم ما يدل على فضل الصحابة ومنها: قال عبد الله بن جعفر: ولينا أبو بكر خير خليفة، أرحمه بنا، واحناه علينا. وقيل لعلي بن الحسن: كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مناقب علي بن أبي طالب (3707) (¬2) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 91، العيني: عمدة القاري: 11/ 447

صلى الله عليه وسلم قال: كمنزلتهما اليوم وهما ضجيعاه (¬1). وقيل لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين: هل كان أحد منكم تبرأ من أبي بكر وعمر؟ قال: لا، ثم قال: أحبهما وأستغفر لهما وتولهما. وقال جعفر بن محمد: أبو بكر جدي، فيسب الرجل جده، لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم أكن أتولاهما وأبرأ من عدوهما. وقال: ما أرجو من شفاعة علي شيئاً إلا وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله، ولقد ولدني مرتين. قال الإمام اللالكائي: معنى هذا الكلام أن أبا بكر جده مرتين، وذلك أن أم جعفر بنت محمد هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهي زوجة أبيه محمد بن علي بن الحسين، وأم أم فروة هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، فأبو بكر جده من وجهين. وقال زيد بن علي: أبو بكر إمام الشاكرين، ثم قرأ [وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]. وقال: البراءة من أبي بكر وعمر براءة من علي. وسئل عبد الله بن الحسن عن أبي بكر وعمر، فقال: صل الله عليهما ولا صلى على من لا يصلي عليهما (¬2). ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1378 وما بعده. (¬2) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1378 - 1381

وقال جعفر بن محمد الصادق: أنا بريء ممن ذكر أبا بكر وعمر إلا بخير (¬1). وهذا الحسن بن داود بن علي بن عيسى بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي قال عنه الحاكم: أبو عبد الله كان شيخ آل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره بخراسان وسيد العلوم في زمانه، وكان من أكثر الناس صلاة وصدقة ومحبة للصحابة، وصحبته مدة فما سمعته ذكر عثمان إلا قال: الشهيد ويبكي، وما سمعته ذكر عائشة إلا قال: الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله ويبكي (¬2). وعن أبي جعفر قال: من لم يعرف فضل أبي بكر وعمر فقد جهل السنة. وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: جاء رجل إلى أبي فقال: أخبرني عن أبي بكر؟ قال: عن الصديق تسأل؟ قال: رحمك الله وتسميه الصديق، قال: ثكلتك أمك، قد سماه صديقاً من هو خير مني ومنك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار، فمن لم يسمه صديقاً لا صدق الله قوله في الدنيا والآخرة، اذهب فأحب أبا بكر وعمر، وتولهما فما كان من إثم ففي عنقي (¬3). وعن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه، أنّه ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 326 (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 278 (¬3) ضياء الدين المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 12 - 15

جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخي أنت من قوم قال الله فيهم [لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ] الآية، قال: لا، قال: فو الله لئن لم تكن من أهل هذه الآية فأنت من قوم قال الله فيهم [وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ] الآية، قال: لا. فو الله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام. وقيل: إن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه روى عن أبيه: أن نفراً من أهل العراق جاءوا إليه فسبوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ثم عثمان رضي الله عنه فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا: لا. فقال: أفمن الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم؟ فقالوا: لا، فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين! أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] قوموا فعل بكم وفعل (¬1). وعن أبي جعفر الباقر أنّه قال: إن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً ... ] الحجر 47 وأختم بما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر. ¬

(¬1) القرطبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 270

قال الإمام الذهبي: هذا والله العظيم قاله علي وهو متواتر عنه؛ لأنه قاله على منبر الكوفة، فقاتل الله الرافضة ما أجهلهم (¬1). ولما مات عمر ووضع بين القبر والمنبر، جاء علي حتى قام بين الصفوف فقال: رحمة الله عيك ما من خلق أحب إلي من أن ألقى الله بصحيفة بعد صحيفة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المسجى عليه ثوبه. قال الإمام الذهبي: وقد روي نحوه من عدة وجوه عن علي (¬2). فهذه أقوال أهل البيت، فأين المفترون على الصحابة عنها، ومعلوم مدح الصحابة لأهل البيت والأخذ فيهم بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل سبب ونسب وصهر منقطع إلى يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري) وقال: فأحببت أن يكون بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب ونسب (¬3). وقال ابن مسعود: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي. وعمر كان يقول: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن. وقالت عائشة: أما إنّه أعلم من بقي بالسنة (¬4). ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 270 (¬2) الطبري: ذخائر العقبى: 287/ 29 (¬3) الطبري: ذخائر العقبى: 287، 29 (¬4) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 462

وهذا أبو بكر الصديق وابنته الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما يجلون أهل البيت ويكرمونهم حتى قال أبو بكر: ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته (¬1). وعن عروة بن الزبير قال: ذهب عبد الله بن الزبير مع أناس من بني زهرة إلى عائشة، وكانت أرق شيء لقرباتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). وقول الصديق (ارقبوا محمداً في أهل بيته) يخاطب بذلك الناس، ويوصيهم به، والمراقبة للشيء المحافظة عليه، يقول: احفظوه فيهم فلا تؤذوهم ولا تسيئوا إليهم (¬3). وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله عنهما: والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم. قال الإمام ابن كثير: فحال الشيخين رضي الله عنهما هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين (¬4). ومما يشار إليه: أن أهل التفسير اختلفوا في تأويل قوله سبحانه وتعالى [قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] الشورى 23، والمعنى: ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3713) (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب باب مناقب قريش (3503) (¬3) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 98، العيني: عمدة القاري: 18/ 453 (¬4) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 122

قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم مالاً تعطو فيه، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي وإن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة (¬1). قال العلماء: الاستثناء في الآية يجوز أن يكون: أ - استثناء متصلا، ويكون المعنى: لا أسألكم أجراً إلا هذه، وهو ألا تؤذوا أهل قرابتي، ولم يكن هذا أجر في الحقيقة، لأن قرابته قرابتهم، وكانت صلتهم لازمة لهم في المودة. ب - ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً، ويكون المعنى: أي لا أسألكم أجراً قط، ولكن أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتك ولا تؤذوهم. واختلف العلماء في الآية على رأيين: الأول: أن الخطاب في الآية خاص بقريش، ويصير المعنى: أمرهم بأن يواددوا النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القرابة التي بينهم وبينه. وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. والثاني: أن الخطاب في الآية عام لجميع المكلفين، وتحمل الآية على أمر المخاطبين بأن يواددوا أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول علي بن الحسين وعمرو بن شعيب والسدي. ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 121

والذي عليه المحققون من أهل العلم في تفسيرها هو ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن طاووس قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه سئل عن قوله [إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: عجلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة (¬1). فيصر المعنى: إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم، فتكفوا عني أذاكم، وتمنعوني من أذى الناس، كما تمنعون كل من بينكم وبين مثل قرابتي منكم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم له في كل بطن من قريش رحم، فهذا الذي سألهم ليس بأجر على التبليغ، لأنه مبذول لكل أحد؛ لأن كل أحد يود أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس. والذي ذهب إليه سعيد بن جبير، هو ما حكاه عنه البخاري وهو قوله: قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم، ومعنى ذلك: أن تودوني في قرابتي، أي تحسنوا إليهم وتبروهم. قال الإمام ابن كثير: والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما رواه عنه البخاري، ولا ننكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن باب قوله تعالى (إلا المودة في القربى) (4818)

فخراً وحسباً ونسباً ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين (¬1). وقال الإمام الشوكاني: ولا يقوى ما روي من حملها على آل محمد صلى الله عليه وسلم على معارضة ما صح عن ابن عباس من تلك الطرق الكثيرة، قد أغنى الله آل محمد عن هذا بما لهم من الفضائل الجليلة والمزايا الجميلة. وقال: وكما لا يقوى هذا على المعارضة، فكذلك لا يقوى ما روي عنه أن المراد بالمودة في القربى: أن يودوا الله، وأن يتقربوا إليه بطاعته، ولكن يشد من هذا أنّه تفسير مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسناده عند أحمد في المسند (¬2) وضعف هذا المرفوع الحافظ ابن حجر وقال: وثبت عن الحسن البصري نحوه (¬3). والخلاصة: أن السبب الأقوى في نزول الآية: ما جاء عن قتادة: قال المشركون لعل محمداً صلى الله عليه وسلم فيما يتعاطاه يطلب أجراً، فنزلت هذه الآية ليحثهم على مودته ومودة أقربائه (¬4). وحاصل كلام ابن عباس رضي الله عنهما أن جميع قريش أقارب النبي ¬

(¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 122 (¬2) الشوكاني: فتح القدير: 4/ 35 (¬3) ابن حجر: فتح الباري: 8/ 427 (¬4) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 24، ابن حجر: فتح الباري: 8/ 427

صلى الله عليه وسلم وليس المراد من الآية بنو هاشم ونحوهم، كما يتبادر إلى قول سعيد بن جبير. قاله العلامة العيني (¬1). وقال العلامة الشنقيطي: وأما القول بأن قوله تعالى [إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] منسوخ بقوله [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ] فهو ضعيف، والعلم عند الله تعالى. وقال: والتحقيق - إن شاء الله - في معنى الآية: أي إلا أن تودوني في قرابتي فيكم، وتحفظوني فيها، فتكفوا عني أذاكم، وتمنعوني من أذى الناس، كما هو شأن أهل القرابات (¬2). قال الإمام السيوطي: في الآية: وجوب محبة قرابته صلى الله عليه وسلم، فمحبته أولى (¬3). ومن هنا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه. وقال: ومن أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً (¬4). ¬

(¬1) العيني: عمدة القاري: 13/ 293 (¬2) الشنقيطي: أضواء البيان: 1615 - 1616 (¬3) السيوطي: الإكليل: 3/ 1167، انظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 703، المباركفوري: تحفة الأحوذي: 9/ 121، العيني: عمدة القاري: 11/ 246، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 614 (¬4) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 487

[5] أن ما يشيعه البعض من وجوب نسيان أو تناسي التاريخ، ومحو آثار الماضي، وبدء صفحة جديدة، ومحاولة التعايش على أساس سلمي، دون السعي الجاد لتقريب الهوة، لهو أمر صعب المنال، ربما اتفقت النخب لمصالح عامة، لكن ما الذي يقنع العامة ويهدي الخاصة. مبدأ التعايش المقبول يقوم على أساس عدم المساس بأصل من أصول الدين، من قرآن وسنة ونقلة لهما، ويقوم على عدم المساس بأمهات المؤمنين الطاهرات المطهرات العفيفات النزيهات، مبدأ التعايش المقبول يكون بالبعد عن الكذب والخداع ومحو آثار السباب الممقوت. مع ما في الدعوة إلى نسيان الماضي، ومحو التاريخ من مخالفة صريحة للقرآن حيث يقول المولى جل شأنه: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] يوسف 111، ويقول سبحانه وتعالى: [وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ] هود120، ويقول سبحانه [أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ] الروم 9، وقال سبحانه: [أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً] فاطر 44.

والآيات في هذا المعنى كثيرة، فلا بد من قراءة التاريخ، وأخذ الدروس والعبر منه، مع وجوب تنقيته من كل ما دخله من دسائس، والتاريخ فيه دسائس كثيرة على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن: المظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تمييز عنده بين صحيح الأخبار وضعيفها ومستقيمها من سقيمها، ومبادها من قديمها (¬1). نعم، مقابلة البدعة لا تكون ببدعة مثلها، والسيئة بمثلها، بل لا بد من مقابلة الحجة بالحجة، والبرهان بمثله، والبدعة بالسنة الصحيحة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقوم من المتسننة رووا ورويت لهم أحاديث موضوعة، بنوا عليها ما جعلوه شعاراً في هذا اليوم (عاشوراء) يعارضون به شعار ذلك القوم، فقابلوا باطلاً بباطل، وردوا بدعة ببدعة، وإن كانت إحداهما أعظم في الفساد، وأعون لأهل الإلحاد (¬2). وفي بيان مثل هذا يقول الإمام ابن كثير: ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، فيها في عاشوراء عملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد، بين أهل السنة والرافضة، وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه بعيد عن السداد، وذلك أن جماعة من أهل السنة، اركبوا امرأة وسموها عائشة، وتسمي بعضهم بطلحة وبعضهم بالزبير وقالوا: ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية: 7/ 139 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 513

نقاتل أصحاب علي، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير (¬1). وقال رحمه الله: ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، وفيها أرادت الشيعة أن يصنعوا ما كانوا يصنعونه من الزينة يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة فيما يزعمونه، فقاتلهم جهلة آخرون من المنتسبين إلى السنة، فادعوا أن في مثل هذا اليوم حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار فامتنعوا من ذلك، وهذا أيضاً جهل من هؤلاء، فإن هذا إنما كان في أوائل ربيع الأول من أول سني الهجرة فإنهما أقاما فيه ثلاثاً، وحين خرجا منه قصدا المدينة، دخلاها بعد ثمانية أيام أو نحوها، كان دخولهما المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، وهذا أمر معلوم مقرر محرر. ولما كانت الشيعة يصنعون في يوم عاشوراء مأتماً يظهرون فيه الحزن على الحسين بن علي، قابلتهم طائفة أخرى من جهلة أهل السنة فادعوا أن في اليوم الثاني عشر من المحرم قتل مصعب بن الزبير، فعملوا له مأتماً كما تعمل الشيعة للحسين، وزاروا قبره، كما زاروا قبر الحسين، وهذا من باب مقابلة البدعة ببدعة مثلها، ولا يرفع البدعة إلا السنة الصحيحة (¬2). ولسنا هنا نذكر الماضي لشحن النفوس، بل لنقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، وها هو ذا التاريخ يعيد نفسه، وإلا فأين العقلاء المنصفون المصلحون. ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق: 11/ 294 (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 349

[6] أن سب الصحابة رضي الله عنهم ولعنهم مع ما فيه من غيبة وبهتان، واستطالة على عرض المسلم بغير حق، وأكل للحومهم، وتتبع لأعراضهم، لهو أمر شنيع وخطب جسيم، تشمئز منه النفوس، وتقشعر منه الجلود، إذ فيه تكذيب لله تعالى، وتنقص لرسوله عليه الصلاة والسلام وحط من دينه. أخرج الإمام اللالكائي بسنده: عن الشعبي قال: وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين: سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ قالوا: حواري عيسى. وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أمروا بالاستغفار فسبوهم (¬1). وكتب القوم القديمة والحديثة مليئة بالطعون في خير القرون رضي الله عنهم وأرضاهم (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن القدح في خير القرون الذي صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم قدح في الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين. وأيضاً: فهؤلاء الذين نقلوا القرآن والإسلام وشرائع النبي صلى الله عليه وسلم، هم ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1551 (¬2) انظر: ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 66، 371

الذين نقلوا فضائل علي وغيره فالقدح فيهم يوجب ألا يوثق بما نقلوه من الدين، وحينئذ فلا تثبت فضيلة لا لعلي ولا لغيره (¬1). وعن عبد الله بن مصعب قال: قال لي أمير المؤمنين: يا أبا بكر، ما تقول في الذين يشتمون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنما هم قوم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا أحداً من الأمة يتابعهم على ذلك فيه، فشتموا أصحابه، يا أمير المؤمنين، ما أقبح بالرجل أن يصحب صحابة السوء، فكأنهم قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم صحب صحابة السوء، فقال لي: ما أرى الأمر إلا كما قلت (¬2). قال الإمام ابن عقيل: الظاهر أن من وضع مذهب الرافضة قصد الطعن في أصل الدين والنبوة، وذلك أن الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر غائب عنا، وإنما نثق في ذلك بنقل السلف وجودة نظر الناظرين إلى ذلك منهم، فكأننا نظرنا إذ نظر لنا من نثق بدينه وعقله، فإذا قال قائل: إنهم أول ما بدءوا بعد موته بظلم أهل بيته في الخلافة وابنته في إرثها وما هذا إلا لسوء اعتقاد المتوفي، فإن الاعتقادات الصحيحة سيما في الأنبياء توجب حفظ قوانينهم بعدهم لا سيما في أهليهم وذريتهم فإذا قالت الرافضة: إن القوم استحلوا هذا بعده خابت آمالنا في الشرع، لأنه ليس بيننا وبينه إلا النقل عنهم والثقة بهم، فإذا كان هذا محصول ما حصل بعد موته خبنا في ¬

(¬1) ابن تيمية: الفتاوى الكبرى: 4/ 446 (¬2) ضياء الدين المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 19

المنقول، وزالت ثقتنا فيما عولنا عليه من إتباع ذوي العقول ولم نأمن أن يكون القوم لم يروا ما يوجب أتباعه فراعوه مدة الحياة وانقلبوا عن شريعته بعد الوفاة ولم يبق على دينه إلا الأقل من أهله فطاحت الاعتقادات وضعفت التقوى عن قبول الروايات في الأصل هو المعجزات فهذا من أعظم المحن على الشريعة (¬1). وقال عبد الله بن محمد بن أبي مريم: قيل لمحمد بن يوسف الفريابي: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: قد فضلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخبرني رجل من قريش: أن بعض الخلفاء أخذ رجلين من الرافضة فقال لهما: والله لئن لم تخبراني بالذي يحملكما على تنقص أبي بكر وعمر لأقتلنكما فأبيا. فقدم أحدهما فضرب عنقه، ثم قال للآخر: والله لئن لم تخبرني لألحقنك بصاحبك، قال: فتؤمّنيّ؟ قاله: نعم، قال: فإنا أردنا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: لأيتابعنا الناس عليه، فقصدنا قصد هذين الرجلين فتابعنا الناس على ذلك. قال محمد بن يوسف: ما أرى الرافضة والجهمية إلا زنادقة (¬2). وقد وصل بهم الأمر إلى حدٍّ مخز: قال رافضي اجتمع بالسيد عمر الحضري من أهل بيروت: نحن نبغض أبا بكر لتقدمه في الخلافة على علي، ونبغض بجبريل؛ لأنه نزل بالرسالة على محمد ولم ينزل على علي، ونبغض محمداً؛ لأنه قدم أبا بكر في النيابة عنه في الصلاة ولم يقدم علياً، ونبغض ¬

(¬1) ابن الجوزي: تلبيس إبليس: 113 (¬2) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1544

علياً؛ لسكوته عن طلب حقه من أبي بكر وهو قادر عليه، ونبغض الله؛ لأنه أرسل محمداً ولم يرسل علياً. وهذا أقبح ما يكون من الكفر الذي ما سمع بمثله، والعياذ بالله (¬1). وأخرج الإمام اللالكائي: عن أبي بشر هارون بن حاتم البزار الكوفي قال: سمعت محمد بن صبيح السماك بقول: علمت أن أصحاب موسى وأن النصارى لا يسبون أصحاب عيسى فما بالك يا جاهل تسب أصحاب محمد. قد علمت: من أين أتيت لم يشغلك ذنبك أما لو شغلك ذنبك لخفت ربك. لقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين، ورجوت لهم أرحم الراحمين، ولكنك من المسيئين، فمن ثم عبت الشهداء الصالحين. أيها العائب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لو نمت ليلك، وأفطرت نهارك، لكان خيراً لك من قيام ليلك وصيام نهارك، مع سوء قولك في أصحاب نبيك. ويحك: فلا قيام ليل وصيام نهار وأنت تتناول الأخيار وأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى. ويحك: هؤلاء تشرفوا في بدر، وهؤلاء تشرفوا في أحد، إذ إن هؤلاء وهؤلاء جاء عن الله العفو عنهم فقال: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى ¬

(¬1) الحطاب: مواهب الجليل: 8/ 382

الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] آل عمران 155، فما تقول فيمن عفا الله عنه؟ نحن نحتج لإبراهيم خليل الرحمن قال: [فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] إبراهيم 36. فقد عرض للعاصي بالغفران. ولو قال: فإنك عزيز حكيم، أو عذابك عذاب أليم، كان قد عرض للانتقام. فيمن تحتج أنت يا جاهل إلا بالجاهلين، لبئس الخلف خلف يشتمون السلف، لواحد من السلف خير من ألف من الخلف. وهؤلاء جاء العفو عنهم فقال: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] فما تقول فيمن عفا الله عنهم؟ فما تقول فيمن عفا الله عنهم؟ (¬1) ولكن نقول كما قال الإمام الشافعي: ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليزيدهم الله عزوجل بذلك ثواباً عند انقطاع عملهم (¬2). قلت: ولسنا ننازع في هذا المقام كثيراً في تلقيب الإمام علي رضي الله عنه بـ (كرم الله وجهه): أو تخصيصه بالسلام دون غيره، وإن كان التحقيق في هذه المسألة ما ذكره أهل العلم المحققون، قال الإمام ابن كثير: وقد غلب في هذا عبارة كثير من النُسّاخ للكتب أن يفرد علي رضي الله عنه بأن يقال: عليه السلام من ¬

(¬1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1548 (¬2) مرجع سابق

دون سائر الصحابة، أو كرم الله وجهه، وهذا وإن كان معناه صحيحاً، ولكن ينبغي أن يسوّي بين الصحابة في ذلك، فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه رضي الله عنهم أجمعين. ولكننا نُنازع في إضفاء صبغة الخصوصية المطلقة على ذات الإمام، ثم إيراد روايات مكذوبة عنه، وفي المقابل إضفاء صبغة الحقد والكراهية على بقية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أن التاريخ أثبت، والشواهد أكدت، حسن الصحبة بين أئمة أهل البيت، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ومن باب الامتثال لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته (¬1)، قمت بمحاولة للدفع عنهم، والانتصار لهم، والذب عن أعراضهم، رجاء أن يحشرني الله تعالى معهم يوم الدين. يقول الإمام ابن كثير: والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم والنهي عن التعرض بمساويهم كثيرة، ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم (¬2). وأخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب من رد عن مسلم غيبة (4876) (¬2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 219

شيء، إلا أني أحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنت مع من أحببت. قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم، أنت مع من أحببت. قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم (¬1). [7] كثرة الدس في كتب التاريخ، ظاهرة منتشرة عند القوم. فهي مشحونة بالروايات المكذوبة والضعيفة والمنكرة التي تذكر وفيها مطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وبما أن كتب التاريخ يغلب عليها النقل دون التمحيص في الرواية، فقد نقل جماعة من أهل السنة في مصنفاتهم كثيراً من روايات القوم، دون بيان حكم في الغالب، استناداً منهم على نقل الروايات بما سُمعت، وسردها سنداً، والخروج بذلك عن عهدة الملامة والعتب. ولذا ينبغي التنبه للروايات التاريخية، والحذر من المصادر غير الموثوقة. وفي كتب أهل السنة من الصحاح والسنن والمسانيد والمصنفات والأجزاء غنية، وكذا في كتب التاريخ الممحصة للروايات. وقد ظهر جماعة كانوا يتتبعون الأحاديث الرديئة التي كتبت وفيها تنقص لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ولذا كان الإمام أحمد ينهى عن كتابتها وتتبعها، وقال: لا أرى لأحد ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مناقب عمر بن الخطاب (3688)

أن يكتب شيئا، قيل له: فإذا رأينا الرجل يطلبها ويسأل عنها - فيها ذكر عثمان وعلي ومعاوية وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال: إذا رأيت الرجل يطلب هذه ويجمعها فأخاف أن يكون له خبيئة سوء. وقال مهنا: سألت أحمد عن عبيد الله بن موسى العبسي فقال: كوفي، فقلت: كيف هو؟ قال: كما شاء الله، قلت: كيف هو يا أبا عبد الله؟ قال: لا يعجبني أن أحدث عنه، قلت: لم؟ قال: يحدث بأحاديث فيها تنقص لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام أحمد: كان أبو عوانة وضع كتابا فيه معايب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفيه بلايا، فجاء إليه سلام بن أبي مطيع فقال: يا أبا عوانة، أعطني ذلك الكتاب فأعطاه فأخذه سلام فأحرقه. وقال أحمد الأبار: سألت سفيان بن وكيع فقلت: هذه الأحاديث الرديئة نكتبها؟ فقال: ما طلبها إنسان فأفلح. قال: وسألت همام فقال: لا تكتبها، وسألت مجاهد بن موسى فقال: لايش تكتبها؟ قلت: نعرفها، قال: تعرف الشر. ولذا لما جاء عبد الرحمن بن صالح إلى أبي معمر فذكر الأحاديث الرديئة فقال أبو معمر: خذوا برجله وجروه وأخرجوه من المسجد، فجر برجليه وأخرج من المسجد.

فرحم الله تعالى بشرا الحافي حين قال: أرجو أن أقدم على محمد صلى الله عليه وسلم ولا أخزى في أصحابه غدا. (¬1) ¬

(¬1) الخلال: السنة 3/ 504، 509، 510، 516، 2/ 480

التوصيات

التوصيات: 1. إظهار فضائل الصحابة، ومكانتهم ومنزلتهم، وإشهارها وبثها ونشرها في جميع قنوات الإعلام والمعرفة المسموع والمرئي، وطبع الكتب المتعلقة بالحديث عنهم وتوزيعها، وتسهيل الوصول إليها، وتسهيل محتواها ليعرفها الصغير والكبير. 2. ترجمتها إلى اللغات الأخرى، حتى يتسنى لغير الناطقين باللغة العربية معرفة أحوال الصحابة رضي الله عنهم واقتباس آثارهم. 3. إجراء مسابقات خاصة وعامة في التعريف بهم، وبيان فضلهم. 4. حفظ الأحاديث المتعلقة بفضائل الصحابة رضي الله عنهم وإقامة مسابقة للحفاظ، وكذا حفظ الأشعار المؤلفة في بيان فضلهم، والذب عنهم. 5. عمل بحوث ومطويات ونشرات للطلاب والطالبات في المدارس تتعلق بالصحابة وآل البيترضي الله عنهم أجمعين. 6. استغلال منبر الجمعة، وتخصيص مجموعة من الخطب لبيان قصص الصحابة رضي الله عنهم وأخذ الدروس والعبر والمستفادة منها. 7. التأكيد الدائم والمستمر على بيان عدالة الصحابة، وتزكية الله تعالى لهم، وأن هذا الدين القويم جاء عن طريقهم بالسماع من النبي الكريم والمعلم الحكيم صلى الله عليه وسلم. 8. نشر فتاواهم وعلمهم وهديهم ودلهم وسمتهم، فعلم الصحابة

رضي الله عنهم أسلم وأعلم وأحكم، فهم أهل الفقه والفهم والعلم والحكمة، ومما يدل على ذلك حديث البخاري: لما قال عبد الرحمن بن عوف لعمر: فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار فيحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها، وفي لفظ: فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس. قال الحافظ ابن حجر: واستدل به على أن أهل المدينة مخصوصون بالعلم والفهم لاتفاق عبد الرحمن وعمر على ذلك، كذا قال المهلب فيما حكاه ابن بطال وأقره، وهو صحيح في حق أهل ذلك العصر ويلتحق بهم من ضاهاهم في ذلك، ولا يلزم من ذلك أن يستمر ذلك في كل عصر بل ولا في كل فرد فرد (¬1). فهذا ابن عباس، رضي الله عنهما، يشهد لمعاوية رضي الله عنه بالفقه، والتزكية الصادرة من ابن عباس لها وقع ومكان، فقيل له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة، فقال: إنه فقيه. وفي رواية: أصاب إنه فقية (¬2). وعائشة، رضي الله عنها، تقول: من أفتاكم بصوم عاشوراء؟ قالوا: علي، قالت: أما إنه أعلم الناس بالسنة. ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 12/ 161، انظر: ابن القيم: بدائع الفوائد: 3/ 787 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب ذكر معاوية: (3765) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 131

وهذا عبد الرحمن بن الميسور يقول: خرجت مع أبي وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث عام أذرح، فوقع الوجع بالشام، فأقمنا بسرغ خمسين ليلة، ودخل علينا رمضان، فصام المسور وعبد الرحمن، وأفطر سعد وأبى أن يصوم. فقلت له: يا أبا إسحاق: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدت بدراً، وأنت تفطر وهما صائمان؟ قال: أنا أفقه منها. وقال عبد الرحمن بن الميسور أيضاً: كنا في قرية من قرى الشام يُقال لها: عمان ويصلي سعد ركعتين، نسألناه فقال: إنا نحن أعلم (¬1). يقول الإمام ابن الوزير: فقد علم تعظيم خلفهم لسلفهم، وعلم أن الإقتداء بسلفهم خير من الإقتداء بخلفهم بالنص في خير القرون. ويسعنا ما وسع السلف الصالح للإجماع على صلاحهم (¬2). 9. رد الروايات الباطلة والحكايات الكاذبة المتعلقة بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم التي يدل ظاهرها على تنقص وازدراء للصحابة رضي الله عنهم. ومن الأمثلة على ذلك: عن الأعمش عن شقيق قال: كنا مع حذيفة جلوساً، فدخل عبد الله، وأبو موسى المسجد، فقال: أحدهما منافق. ثم قال: إن أشبه الناس هدياً ودلاً وسمتاً برسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله. ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 41 (¬2) ابن الوزير: إيثار الحق على الخلق: 290

يقول الإمام الذهبي: ما أدري ما وجه هذا القول، سمعه عبد الله بن نمير منه، ثم يقول الأعمش: حدثناهم بغضب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فا تخذوه ديناً. قال عبد الله بن إدريس: كان الأعمش به ديانة من خشيته. قال الذهبي: رُمي الأعمش بيسير تشيع فما أدري. ولا ريب أن غلاة الشيعة يبغضون أبا موسىرضي الله عنه لكونه ما قاتل مع علي، ثم لما حكمه عليّ على نفسه عزله وعزل معاوية وأشار بابن عمر، فما انتظم من ذلك حال. ثم قال: قد كان أبو موسى صواماً، قواماً، ربانياً، زاهداً، عابداً، ممن جمع العلم والعمل والجهاد وسلامة الصدر، لم تغيّره الإمارة، ولا اغتر بالدنيا (¬1). قلت: على أن قصة التحكيم شابها ما شابها من التزوير والتحريف (¬2). وكذا من الروايات التي تذكر ولا تصح , بأن علياً كان يقنت ويلعن في قنوته معاوية وعمرو بن العاص وجماعة، ولما بلغ ذلك معاوية كذا قنت ولعن علياً والحسين وجماعة، وكل هذا من الكذب الظاهر (¬3) وكذا ما يروى عن ثعلبه بن حاطب الأنصاري البدري، وأنه نزل فيه قوله تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا ¬

(¬1) الذهبي: مرجع سابق: 3/ 424 (¬2) انظر: عبد الرحمن الشجاع: دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة: 431 - 444 (¬3) انظر: ابن كثير: البداية والنهاية: 7/ 269

آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ] التوبة 75، 77. وما روي عنه لا يصح: قال الإمام ابن حزم في جوامع السيرة: هذا باطل. وقال الإمام ابن عبد البر: ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح. وقال الإمام الضحاك: إنه الآية نزلت في رجال من المنافقين: نبتل بن الحارث، وجدّ بن قيس، ومُعَتّب بن قشير. وقال الإمام القرطبي: وثعلبة بدري أنصاري، وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان، فما روي عنه غير صحيح. وقال الحافظ ابن حجر: إسناده ضعيف جداً. وكذا ضعف الإمام السيوطي في أسباب النزول (¬1). ومما يُستفاد منه في هذا الباب، الحكم الجامع المانع لبعض أهل العلم في تتبعهم للأحاديث الضعيفة والموضوعة فمثلاً: يقول الإمام ابن القيم: وكل حديث في ذم عمرو بن العاص فهو كذب. ويقول: وحديث ذم أبي موسى من أقبح الكذب (¬2) وهكذا. وهذا الإمام ابن الجوزي يقول في كتابه الموضوعات: لما فرغت من كتابة جمهور المستبشع من الأحاديث الموضوعات من المرفوعات، رأيت أشياء قد وضعت على الصحابة، فذكرت منها المستهول القبيح الذي لا وجه له في ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 8/ 191، السيوطي: لباب النقول في أسباب النزول: 107، السيوطي: الإكليل: 2/ 825 انظر الحاشية، المنصوري: المقتطف: 2/ 418 انظر الحاشية. (¬2) ابن القيم: المنار المنيف: 117 - 118، وانظر: أبو زيد: التحديث بما قيل لا يصح فيه حديث: 143

الصحة ولا يحتمل مثله (¬1) وذكر - رحمه الله - جملة منها. 10. دفع ما يتوهم فيه نقص للصحابة من الأدلة الصحيحة، وذلك ببيان هذه الأدلة وتجليها، وإيضاح معناها الصحيح ومن تلك النصوص: قوله سبحانه وتعالى [وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً] الجمعة 11. أخرج الشيخان من حديث جابر بن عبد الله قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاماً، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً فنزلت هذه الآية [وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً] (¬2). وأخرج ابن جرير عن جابر أيضاً قال: كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرون بالكير والمزامير، ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر، وينفضون إليها، فنزلت. وفي مرسل عبد بن حميد وكان رجال يقومون إلى نواضحهم، وإلى السفر يقدمون يبتغون التجارة واللهو، فنزلت. ¬

(¬1) ابن الجوزي: الموضوعات: 2/ 438 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجمعة باب إذا نفر الإمام في صلاة الجمعة (936)، وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجمعة باب قوله تعالى (وإذا رأوا تجارة ... ) (863)

قال الحافظ ابن حجر: ولا بُعد في أن تنزل في الأمرين معاً وأكثر (¬1) وقال الحافظ السيوطي: وكأنها نزلت في الأمرين معاً، ثم رأيت ابن المنذر أخرجه عن جابر لقصة النكاح وقدوم العير معاً من طريق واحد، وأنها نزلت في الأمرين (¬2) والحديث فيه منقبة لأبي بكر وعمر وجابر، قاله الإمام النووي (¬3) قال الحافظ ابن حجر: وقد استشكل الأصيلي حديث الباب فقال: إن الله وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم [لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ] ثم أجاب: لاحتمال أن يكون هذا الحديث قبل نزول الآية. انتهى، وهذا الذي يتعين المصير إليه مع أنه ليس في آية النور التصريح بنزولها في الصحابة وعلى تقدير ذلك، فلم يكن تقدم نهي عن ذلك، فلما نزلت آية الجمعة، وفهموا منها ذم ذلك اجتنبوه، فوصفوا بعد ذلك بما في آية النور (¬4) وقال بعضهم: ترجح كون انفضاض القوم وقع في الخطبة لا في الصلاة، وهو اللائق بالصحابة تحسيناً للظن بهم (¬5). وقال القاضي: وذكر أبو داود في مراسيله: أن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم هذه التي انفضوا عنها إنما كانت بعد صلاة الجمعة، وظنوا أنه لا شيء عليهم في ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 2/ 492 (¬2) السيوطي: الباب النقول: 196 (¬3) النووي: شرح مسلم: 6/ 400 (¬4) ابن حجر: مرجع سابق: 2/ 493 (¬5) العيني: عمدة القاري: 5/ 126

الانفضاض عن الخطبة وأنه قبل هذه القضية إنما كان يصلي قبل الخطبة، قال: هذا أشبه بحال الصحابة والمظنون بهم أنّهم ما كانوا يدعون الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهم ظنوا جواز الانصراف بعد انقضاء الصلاة. وقد أنكر بعض العلماء كون النبي صلى الله عليه وسلم ما خطب قط بعد صلاة الجمعة لها (¬1) وبما ذُكر من كلام العلماء يندفع وجه الإشكال التي قد يتوهم به نقص في جناب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الآيات التي تحتاج لبيان دفع توهم القوم: [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا] التحريم 10. ومعنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى ضرب هذا المثل، تنبيهاً على أنه لا يُغني أحد في الآخرة عن قريب ولا نسيب، إذ فرق بينهما الدين، فمخالطتهم للمسلمين ومعاشرتهم لهم لا يُجدي عنهم شيئاً، ولا ينفعهم عند الله تعالى إن لم يكن الإيمان حاصلاً في قلوبهم (¬2). [كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ] وهما نوح ولوط عليهما السلام، فكانتا في عصمة نكاحهما في صحبتهما ليلاً ونهاراً، يؤاكلونهما، ويضاجعانهما، ويعاشرانهما أشدا لمعاشرة والاختلاط ومع ذلك لم ينفعهما ¬

(¬1) النووي: مرجع سابق: 6/ 401، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 392 (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 18/ 177، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 419، أبو حيان: البحر المحيط: 10/ 215

لحمة نسب ولا صلة صهر إذ الكفر قاطع العلائق بين الكافر والمؤمن، وإن كان المؤمن في أقصى درجات العلا. ولذا قال: [فَخَانَتَاهُمَا] أي: في الدين، وذلك بكفرهم فلم يوافقاهما على الإيمان، ولا صدقاهما في الرسالة، فلم يُجد ذلك كله شيئاً، ولا دفع عنهما محذوراً. [فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً] أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما -لما عصتا- شيئاً من عذاب الله، تنبيها إلى أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة. [وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ]: أي قيل للمرأتين في الآخرة أو عند موتهما، أدخلا النار مع الداخلين لها من أهل الكفر والمعاصي. وببيان معنى الآية، ينكشف الإشكال المتوهم في عقول البعض تجاه قوله سبحانه وتعالى: [فَخَانَتَاهُمَا] أي في الكفر وليس المراد: الخيانة الزوجية لأمور: 1 - إجماع المفسرين على هذا المعنى، وأنه لم تزن امرأة نبي قط. قال الإمام القرطبي: وعنه: ما بغت امرأة نبي قط. وهذا إجماع من المفسرين فيما ذكر القشيري (¬1). 2 - هو المروي عن السلف رضي الله عنهم: قال عبد الله بن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين. ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 18/ 178 ومراجع سابقة، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 310، 10/ 215

وقال الشعبي: ما زنت امرأة نبي قط. قال الإمام ابن كثير: وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم (¬1). 3 - ولأن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة؛ لحرمة الأنبياء. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما زنتا، أما خيانة امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه. قال العلامة الزمخشري: ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور؛ لأنه سمج في الطباع، نقيصة عند كل أحد، بخلاف الكفر، فإن الكفر يستسمجونه، ويسمونه حقاً (¬2). 4 - وفي الأضواء: وقد يستأنس لقول ابن عباس رضي الله عنهما، هذا بتحريم التزوج من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده، والتعليل له بأن ذلك يؤذيه، كما في قوله تعالى. [وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً] الأحزاب 53. فإذا كان تساؤلهن بدون حجاب يؤذيه، والزواج بهن من بعده عند الله عظيم، فكيف إذا كان بغير التساؤل وبغير الزواج؟ إن مكانة الأنبياء عند الله أعظم من ذلك (¬3). ومن الأحاديث التي توّهم المغرضون أن فيها ردة لأصحاب النبي ¬

(¬1) ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 419 (¬2) أبو حيان: مرجع سابق: 10/ 215 (¬3) الشنقيطي: أضواء البيان: (تكملة للشيخ عطية سالم): 1965، انظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 810

صلى الله عليه وسلم: ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: (وفيه) - وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يا رب أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح [وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] قال فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم (¬1). وللحديث روايات ذكرها الحافظ ابن حجر منها: (ليردّن عليّ ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني). (ليرون علىّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم). وعند مسلم (ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعيد الضال أناديهم: ألا هلم). (فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً لمن غيرّ بعدي). (ليردن عليّ الحوض رجال محمد صحبني ورآني) وسنده حسن. (عن أبي الدرداء وفيه (فقلت يا رسول الله ادع الله ألا يجعلني منها، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق باب الحشر (6526)

قال: لست منهم) وسنده حسن (¬1). وقد حمل العلماء ما ورد في الحديث على ما يلي: حمله بعضهم على من ارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عن أبي عبد الله البخاري عن قبيصة قال: هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر فقاتلهم أبو بكر، يعني: حتى قتلوا أو ماتوا على الكفر. ولذا قال الإمام الخطابي: لم يرتد من الصحابة أحد وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحاً في الصحابة المشهورين. وحمله البعض الآخر على المنافقين. قال الإمام النووي: قيل هم المنافقون والمرتدون. وقال الحافظ ابن حجر: ولا يبعد أن يدخل في ذلك أيضاً من كان في زمنه من المنافقين. وحُمل كذلك على العصاة من أصحاب البدع والكبائر، قال القاضي عياض: هؤلاء صنفان: إما العصاة وإما المرتدون على الكفر. وهذا استبعد من وجهين: (1) للتعبير في الحديث بقوله (أصحابي) وأصحاب البدع إنما حدثوا بعده. وأجيب عن هذا الوجه: بحمل الصحبة على المعنى الأعم، فيدخل فيه الصحابة ومن بعدهم. ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 11/ 393

(2) واستبعد أيضاً: لأنه لا يقال للمسلم ولو كان مبتدعاً سحقاً، كما ورد في الحديث. وأجيب عن هذا الوجه: بأنه لا يمتنع أن يُقال ذلك لمن علم أنه قضى عليه بالتعذيب على معصية ثم ينجو بالشفاعة، فيكون قوله (سحقاً) تسليماً لأمر الله مع بقاء الرجاء (¬1). والنصوص التي يوهم ظاهرها دخلاً على الصحابة، يجب تأويلها إلى الوجه الصحيح لها الموافق للنصوص الأخرى القاضية بعدالة الصحابة رضي الله عنهم. والقاعدة العامة في نصوص الوحيين: رد المتشابه (الخفي المشكل) إلى المحكم (البيّن الواضح)، والله جل وعلا يقول [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ] آل عمران 7. وأختم هذه الفقرة بما ذكره الإمام محمد بن عبد الوهاب في بيان المنهج الذي يتمسك به المسلم لرد شبهات القوم فقال: ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حجج الله وبيناته فلا تخف ولا تحزن [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] النساء 76، والعامي من الموحدين يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى [وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري: 11/ 393، العيني: عمدة القاري: 15/ 601

الْغَالِبُونَ] الصافات 173، فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان، وإنما الخوف على الموحد الذي بسلك الطريق وليس معه سلاح. وقد منّ الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله [تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] النحل 89، فلا يأتي صاحب باطل بحجه إلا وفي القرآن ما ينقضها ويُبيّن بطلانها، كما قال تعالى [وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً] الفرقان 33، قال بعض المفسرين هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة. ثم قال: جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل ومفصل، أما المجمل فهو الأمر العظيم، والفائدة الكبيرة لمن عقلها، وذلك قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ] وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأيتهم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فا حذروهم). ثم قال: مثال ذلك: إذا قال لك بعض المشركين [أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] يونس 63. أو إن الشفاعة حق، أو أن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلاماً للنبي صلى الله عليه وسلم يستدل به على شيء من باطله، وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره، فجاوبه بقولك: إن الله ذكر أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما ذكرته لك

من أن الله ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية، وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم [هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ] يونس 18، هذا أمر محكم بيّن لا يقدر أحد أن يغيرّ معناه، وما ذكرت لي، -أيّها المشرك - من القرآن أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا أعرف معناه، ولكن اقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله عزوجل. ثم قال: وهذا جواب سديد، ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى، فلا تستهن به فإنه كما قال تعالى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] فصلت 35. وهنا يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة شريفة وهي: {أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة الشرعية والعقلية إنما تدل على الحق، لا تدل على قول المبطل}. وهذا ظاهر يعرفه كل أحد، فإن الدليل الصحيح لا يدل إلا على حق، لا على باطل. ثم قال: والمقصود هنا شيء آخر، وهو: أن نفس الدليل الذي يحتج به المبطل هو بعينه إذا أعطى حقه، وتميز ما فيه من حق وباطل، وبيّن ما يدل عليه، تبين أنه يدل على فساد قول المبطل المحتج به في نفس ما احتج به عليه، وهذا عجيب: قد تأملته فيما شاء الله من الأدلة السمعية فوجدته كذلك. ثم ذكر رحمه الله نماذج من ذلك فقال:

وكذلك احتجاج الشيعة بقوله [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا] المائدة 55، وبقوله: (أما ترضى أن تكون مني بمنزله هارون من موسى) ونحو ذلك، هي دليل على نقيض مذهبهم، كما بسط هذا في كتاب - منهاج أهل السنة النبوية في الرد على الرافضة - ونظائر هذا متعددة. وقال: وأما الرافضة، فعمدتهم السمعيات، لكن كذّبوا أحاديث كثيرة جداً، راج كثير منها على أهل السنة، وروى خلق كثير منها أحاديث، حتى عسر تميز الصدق من الكذب على أكثر الناس إلا على أئمة الحديث العارفين بعلله متناً وسنداً (¬1). 11. إخراج موسوعة علمية عالمية بأسانيد صحيحة، تحقق القول فيما جرى من الفتن بين الصحابة رضي الله عنهم يمكن أن يرجع إليها كل طالب للحق، وهذا المطلب هو مطلب ملّح في هذا الزمن، إذ انتشرت بعض الفضائيات التي تبث الفتن والشبهات، وتروج للروايات الكاذبة، والقصص والحكايات الخرافية، فاقتضى الزمن الجد والاجتهاد، لإخراج موسوعة ميسرة تبين الروايات الصحيحة وموقف المسلم منها والمصادر الموثوقة التي يمكن أن يستقي منها فكره في هذا الموضوع الحسّاس. ومن الإنصاف القول بأن ثم جهد مشكور في هذا الباب، لكن لما كان الأمر يتعلق بأشرف أمة وأعظم جيل، لزم الأمر وجود جهد جماعي مشترك، ودعم أممي، أي من أمة الإسلام، لتحقيق وإنجاح مثل هذا ¬

(¬1) محمد بن عبد الوهاب: كشف الشبهات: 138، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 6/ 288

المشروع. مع أننا نوصي العامة بعدم متابعة البرامج التي تبث الشبهات وتروج لها، لتشكيكهم في الأصول، فربما علقت شبهة ولم تجد من يفندها، أو قد تستوعب الشبهة، ولا تستوعب أو تفهم ردها، ولذا قال بعض السلف: لا تصغ إلى ذي هوى بأذنيك فإنك لا تدري ما يوحي إليك. 12. أن المساهمة في الدفاع عن الصحابة رضي الله عنهم مسؤولية كل مسلم، كل بحسب جهده واستطاعته، فصاحب المال بالدعم، وصاحب القلم بالكتابة والبيان، وصاحب العلم بنشر العلم وكشف الشبهات وصاحب القرار بالسعي لمحاولة استصدار قوانين تجرم وتعاقب التجرؤ على الإسلام ورموزه، ولا يُعذر أحد في مثل هذا الباب، وأقل الإيمان، قراءة فضائلهم ونشرها، وبغض الواقعين في أعراضهم، والمنتهكين حرماتهم. وإشاعة الأجواء الإيمانية في المساجد والبيوت بذكر أخبارهم والاستئناس بأحوالهم وذلك أضعف الإيمان، ولذا فإن المحن والفتن التي تمر على الأمة تتمخص منها إيجابيات كثيرة، فالمحن الأخيرة أثبت: - تلاحم الأمة المسلمة على المشتركات، وعدم التنازل عنها، ولا السماح بالمساس بِها. - مدافعة قدر الله بقدر الله، فنحن نكره وننكر أن تنال رموز هذه الأمة وفضلائها وكبرائها بسوء، أو يطعن فيهم، وهذا قاد الأمة المسلمة إلى العمل الجاد الدؤوب المشترك؛ لنصرتهم والذب عنهم.

ومن هنا يتبيّن أن بذرة الخير الكامنة في النفوس تحتاج إن حث واستنهاض لتقوم بواجبها، ولذا كان من الواجب على العلماء والدعاة والمربين وأصحاب الفكر والقلم استنهاض هذه الهمم وسقي هذه البذور والمحافظة عليها، لأنّها أمل الأمة بعد الله تعالى. وأخيراً: فإن المقصود الأسمى هو الاستمرار في العمل النافع والجاد، لا أن تكون أعمالنا ردود فعل تنتهي وتضمحل (وخير الأعمال أدومه وإن قلّ). وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم موجباً للفوز في جنات النعيم، لي ولوالدي ولأهلي ولجميع المسلمين. مازن محمد بن عيسى [email protected]

المراجع

المراجع كتب التفسير: 1 - أحكام القرآن: أبو بكر محمد بن العربي (ت 534هـ) دار الكتب العلمية ط 3، 1424هـ ت: محمد عبد القادر عطا. 2 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي (ت 1393هـ) دار الأندلس الخضراء ط 1، 1423هـ. 3 - الإكليل في استنباط التنزيل: جلال الدين السيوطي (ت 911هـ) دار الأندلس الخضراء ط 1، 1422هـ، ت. عامر العرابي. 4 - البحر المحيط في التفسير: محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان (ت 754هـ) دار الفكر ط 1412هـ بعناية: صدقي محمد جميل. 5 - تفسير الجلالين: للمحلي والسيوطي، دار المعرفة، بيروت. 6 - تفسير القرآن العظيم: أبو الفداء إسماعيل بن كثير (ت 774هـ) دار المعرفة، بيروت ط 5 1412هـ، قدم له: يوسف المرعشلي. 7 - الجامع الأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (ت 671هـ) دار الكتاب العربي، بيروت 1427هـ، ت: عبد الرزاق المهدي. 8 - غرائب التفسير وعجائب التأويل: محمود حمزة الكرماني (ت 505هـ) دار القبلة، ت: شمران سركال. 9 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير: محمد بن علي الشوكاني (ت 1250هـ) مكتبة الرشد ط 3، 1424هـ.

10 - المقتطف من عيون التفاسير: مصطفى الخيري المنصوري (ت 1390هـ) دار القلم ط 2 1417هـ ت: محمد علي الصابوني. كتب الحديث وشروحاتها: 11 - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام: عمر بن علي المعروف بابن الملقن (ت 804هـ) دار العاصمة ط 1، 1417هـ ت: عبد العزيز المشيقح. 12 - تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي: محمد عبد الرحمن المباركفوري (ت 1353هـ) دار إحياء التراث العربي ط 3، 1422هـ، ت: علي معوض وعادل عبد الموجود. 13 - شرح صحيح مسلم: يحي بن شرف النووي (ت 676هـ) دار القلم، بيروت ط 1، راجع: خليل الميس. 14 - شرح السنة: محمد بن الحسين البغوي (ت 517هـ) دار الكتب العلمية ط 2، 1424هـ ت: على معوض وعادل عبد الموجود. 15 - صحيح البخاري: محمد إسماعيل البخاري (ت 256هـ) دار الفكر ط 1، 1411هـ ت، الشيخ عبد العزيز بن باز. 16 - عون المعبود شرح سنن أبي داود: محمد شمس الحق العظيم أبادي: دار الحديث القاهرة 1422هـ ت: عصام الدين الصبابطي. 17 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري: بدر الدين محمود العيني، دار الفكر 1425هـ. 18 - عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي: ابن العربي المالكي: مكتبة ابن تيمية القاهرة. 19 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري: أحمد بن حجر العسقلاني

(ت 825هـ) دار الريان للتراث ط 2/ 1409هـ، راجعه: قصي محب الدين الخطيب. 20 - الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني: أحمد البنا: دار إحياء التراث العربي بيروت. 21 - دليل الفالحين شرح رياض الصالحين: محمد بن علان الصديقي: دار الحديث القاهرة ط 1/ 1419هـ. 22 - فضل الله الصمد بشرح الأدب المفرد: فضل الله الجيلاني، مطبعة المدني، وقف الشيخ يوسف على رضا. 23 - نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار: محمد بن علي الشوكاني، مكتبة دار التراث، القاهرة. 24 - معالم السنن شرح سنن أبي داود: محمد الخطابي (ت 388هـ) دار الكتب العلمية 1416هـ 25 - المعلم بفوائد مسلم: محمد المازري: دار الغرب الإسلامي ط2، 1992م. 26 - مختصر صحيح البخاري: عبد الله بن أبي جمرة، دار قارة للنشر والتوزيع جدة ط 1، 1412هـ. 27 - النهاية في غريب الحديث والأثر: المبارك بن محمد ابن الأثير (ت 606هـ) بيت الأفكار أعتز به: رائد جري. 28 - لباب النقول في أسباب النزول: عبد الرحمن السيوطي، دار الكتب العلمية. 29 - حديث الإفك: عبد الغني المقدسي: ت: سليم الهلالي: غراس

لنشر ط 1، 1426هـ. 30 - الموضوعات: عبد الرحمن بن الجوزي: دار الكتب العلمية بيروت ط 1، 1415هـ. 31 - النكت على كتاب ابن الصلاح: ابن حجر العسقلاني: دار الكتب العلمية ط 1، 414هـ. 32 - التقييد والايضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح: عبد الرحيم العراقي: مؤسسة الكتب الثقافية ط 2، 1413هـ. 33 - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث: إسماعيل بن كثير: دار الفيحاء دمشق ط 1، 1414هـ. كتب العقيدة: 34 - أصول الدين عند أبي حنيفة: د. محمد الخميس: دار الصميعي ط 1، 1416هـ. 35 - إيثار الحق على الخلق: محمد إبراهيم الوزير: الدار اليمنية للنشر التوزيع: 1405هـ. 36 - تلبيس إبليس: عبد الرحمن بن الجوزي: دار الكتب العلمية ط 1، 1403هـ. 37 - الإمامة والرد على الرافضة: أبو نعيم الأصبهاني: مكتبة العلوم والحكم: 1415هـ. 38 - التوضيحات الكاشفة على كشف الشبهات: محمد الهبدان: دار

طيبة ط 1، 1422هـ 39 - 39 - جزء فيه امتحان السني من البدعي: عبد الواحد الشيرازي المقدسي: دار الإمام مالك، أبوظبي. 40 - الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية: ت: محمد محي الدين، الناشر: الحرس الوطني السعودي. 41 - الصحابة ومكانتهم عند المسلمين: محمود أمين الدليمي. 42 - الصحابي وموقف العلماء من الاجتماع بقوله: عبد الرحمن الدرويش: مكتبة الرشد ط 1، 1413هـ. 43 - شرح العقيدة الطحاوية: ابن أبي العز: المكتبة الإسلامي ط 8، 1404هـ. 44 - شرح العقيدة السفارينية: محمد العثيمين: دار الوطن ط 1، 1426هـ. 45 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: هبة الله بن الحسن اللالكائي: دار طيبة ط 4، 1416هـ ت: د: أحمد الغامدي. 46 - الفصل في الملل والأهواء والنحل: محمد بن حزم: دار الكتب العلمية ط 1، 1416هـ 47 - فرق معاصرة تنتسب للإسلام وموقف الإسلام منها: غالب عواجي، مكتبة لينة 1411هـ 48 - عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام: ناصر عائض الشيخ: مكتبة الرشد ط 3، 1421هـ. 49 - النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب: ضياء الدين محمد المقدسي، الدار الذهبي القاهرة.

50 - لمعة الاعتقاد: ابن قدامة المقدسي: مكتبة طبرية ط 3، 1415هـ. 51 - نواقض الإيمان القولية والعلمية: عبد العزيز العبد اللطيف: دار الوطن ط 2، 1415هـ 52 - مختصر منهاج السنة: أحمد بن عبد الحليم: دار الأرقم بريطانيا ط 1، 1411هـ. كتب الفقه: (المذهب الحنفي): 53 - حاشية ابن عابدين: محمد أمين بن عمر عابدين (ت 1252هـ) دار عالم الكتب طبعة خاصة 1423هـ. 54 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق: زين الدين بن إبراهيم بن نجيم (ت 970هـ) دار إحياء التراث العربي ط 1، 1422هـ. (المذهب المالكي): 55 - الثمر الداني في تقريب المعاني: صالح عبد السميع الأزهري: دار الفكر. 56 - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: محمد بن عرفة الدسوقي: دار الفكر 1425هـ. 57 - شرح الخرشي على مختصر خليل: خليل محمد الخرشي (ت 1101هـ) مع حاشية العدوي على بن أحمد (ت 1112هـ) على شرح الخرشي: المكتبة العصرية بيروت ط 1، 1427هـ. 58 - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: محمد بن محمد المغربي الشهير بالخطاب (954هـ) دار عالم الكتب، طيعة خاصة 1423هـ.

(المذهب الشافعي): 59 - حاشية إعانة الطالبين: محمد شطا الدمياطي، الشهير بالسيد البكري، على حل ألفاظ فتح المعين لشرح قرة العين بمهمات الدين، دار الفكر 1422هـ. 60 - مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج: محمد الخطيب الشربيني (ت977) دار الفكر ط 1، 1425هـ. 61 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: محمد بن أحمد الرملي (ت 1004) دار الكتب العلمية ط 3، 1424هـ. (المذهب الحنبلي): 62 - الإقناع لطالب الانتفاع: موسى بن أحمد الحجاوي (ت 968هـ) طبعة خاصة بدارة الملك عبد العزيز ط 3، 1423هـ. 63 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف؛ علي بن سليمان المرداوي (ت 885هـ) دار المكتبة العلمية ط 1، 1418هـ. 64 - الشرح الممتع على زاد المستقنع: محمد بن عثيمين، دار ابن الجوزي ط 1. 65 - فتح الملك العزيز بشرح الوجيز: علي بن البهاء البغدادي: مكتبة النهضة الحديثة ط 1، 1423هـ. 66 - المبدع شرح المقنع: إبراهيم بن محمد مفلح (ت 884هـ) مكتبة عباس الباز ط 1، 1418هـ. 67 - المغني: ابن قدامة المقدسي (ت 620هـ) دار عالم الكتب ط 5، 1426هـ.

(كتب الفتاوى): 68 - الفتاوى الكبرى: أحمد ابن تيمية؛ دار الريان ط 1، 1408هـ. 69 - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية ولإفتاء: جمع: أحمد الدرويش: دار بلنسية ط 3، 1421هـ. 70 - مجموعة الفتاوى: أحمد بن تيمية: مكتبة العيكان ط 1، 1419هـ. 71 - مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن عثيمين: دار الثريا ط 1، 1416هـ. (كتب السيرة التاريخ): 72 - البداية والنهاية: إسماعيل بن كثير: دار الحديث القاهرة ط 5، 1418هـ. 73 - تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير: عبد الرحمن بن الجوزي: دار الأرقم بن أبي الأرقم، ط 1، 1418هـ. 74 - تهذيب الأسماء واللفات: يحي بن شرف النووي: دار الكتب العلمية ط 1، 1428هـ. 75 - حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار: محمد عمر بحرق، دار المنهاج ط 2، 1424هـ. 76 - ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: أحمد بن محمد الطبري، مكتبة الصحابة ط 1، 1415هـ. 77 - زاد المعاد في هدي خير العباد: محمد بن أبي بكر بن قيم؛ مؤسسة الرسالة ط 14، 1410هـ

78 - سير أعلام النبلاء: محمد بن إبراهيم الذهبي (ت 748هـ) دار الكتب العلمية 1425هـ. 79 - دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة: عبد الرحمن الشجاع: دار الكفر المعاصر صنعاء ط 5، 2002هـ. (كتب أخرى): 80 - الإرشاد إلى ما وقع في الفقه وغيره من الأعداد: ابن عماد الأفقهسي (ت 867هـ) دار الكتب العلمية ط 1، 1412هـ. 81 - الإحكام في أصول الأحكام: محمد بن حزم (ت 456هـ) دار الكتب العلمية. 82 - التحديث بما قيل: لا يصح فيه حديث: بكر عبد الله أبو زيد، دار الهجرة، ط 1، 1412هـ. 83 - قضايا نساء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنات بسورة الأحزاب، حصة الخليفي: دار المسلم ط 1، 1418هـ. 84 - الكبائر: شمس الدين الذهبي: دار إحياء الكتب العربية. 85 - الفوائد محمد ابن القيم؛ دار الكتاب الإسلامي ط 2، 1406هـ. 86 - دفاع عن السنة: محمد أبو شهبة: مكتبة السنة ط 1، 1409هـ. 87 - معالم الثقافة الإسلامية: عبد الكريم عثمان: مؤسسة الأنوار ط 7، 1416هـ. 88 - معجم المصطلحات والألغاز الفقهية: محمد عبد الرحمن عبد

المنعم: دار الفضيلة. 89 - المحلى شرح المجلى: محمد بن حزم: دار إحياء التراث العربي ط 2، 1422هـ 90 - الروح: محمد بن أبي بكر ابن القيم: دار الحديث القاهرة 1424هـ. 91 - أحكام الردة والمرتدين: جبر محمود الفضيلات: الدار العربية عمان 1987م. 92 - بستان العارفين: أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي: المكتبة العصرية بيروت 1424هـ

§1/1