الإشراف على نكت مسائل الخلاف

القاضي عبد الوهاب

باب الطهارة

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد باب الطهارة [المياه] [1] مسألة: وصف الماء وغيره بأنه طهور، يفيد أنه طاهر مطهر، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنه يفيد كونه طاهرا، ولا يفيد كونه مطهرا، لقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} فوصف أنه طهور، ثم قال تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به}. فكان ذلك تفسيرا لكونه طهورا، فدل على أن معناه أنه طاهر مطهر، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)، وقد علم أنه لم يخص بكونها طاهرة، لأنها كانت طاهرة قبله فدل أنه خص بكونها مطهرة، وقوله عليه السلام وقد سئل عن الوضوء بماء البحر فقال: (هو الطهور ماؤه)،

فلو كان الطهور معناه الطاهر لم يكن مجيبا لهم. ومثله قوله عليه السلام: (دباغ الأديم طهوره) معناه يطهره، ولأن أهل اللغة والشرع قصروا هذا الاسم على الماء دون سائر المائعات، فلم يصفوا الخل واللبن ولا غيرهما أنه طهور، ووصفوا الماء بذلك فدل على اختصاصه بمعناه، ولا يصح ذلك في الطهارة وحدها، لأن سائر المائعات شركة فيها فتزول فائدة تخصيصه فصح أنها الطهارة والتطهير، لأن هذه الصيغة مبنية للمبالغة، ومفيدة للتكرار، كقولهم: سيف قطوع، ورجل صبور وشكور، وذلك لا يتصور في الطهارة دون التطهير. [2] (فصل) وهذا الذي ذكرناه من تضمنه للتكرار، خلافاً للشافعي، في قوله: إنه لا يتكرر التطهير به، لما ذكرناه من أن هذه الصيغة مبنية للمبالغة، وأنها لا تستعمل إلا فيما يتكرر منه الفعل المبالغ فيه، كقولهم: رجل صبور وشكور وضروب وسيف قطوع وما أشبه ذلك، وفي القول سبب يمنع التكرار استعماله فيما لم يستعملوه فيه، وإبطال معنى المبالغة في الصيغة. [3] مسألة: يقال ما أصل الطهارة؟ وما حدها؟ وما أركانها؟ وما شروطها؟ وما حكمها؟ وما نواقضها؟ [4] مسألة: لا يزال حكم النجس على الأبدان والثياب بمائع غير الماء، خلافاً لأبي حنيفة. لقوله عليه السلام في دم الحيض: (حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء) والمعين لا يقع الامتثال إلا به. ولأن التعيين

يمنع التخير، ولأنها طهارة شرعية فلم تصح باللبن والخل كطهارة الحدث، ولأنها مائع لا يرفع الحدث، فلم يطهر المحل بغسله به أصله المائع النجس. ولأن المائع لما لم يرفع النجاسة عن نفسه لم يرفعها عن غيره عكسه الماء. [5] مسألة: ماء البحر طاهر مطهر خلافاً لمن منع. لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} فعم، وقوله عليه السلام وقد سئل عن المتوضيء بمائه: (هو الطهور ماؤه). ولأنه نوع من المياه فأشبه سائرها. [6] مسألة: لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر، لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، فلم يجعل بين الماء والصعيد واسطة، ولأنه مائع لا يجوز الوضوء به حضرا فلم يجز به سفرا كاللبن ولأنه مائع لا يرفع الحدث كسائر المائعات، ولأنه على أصلنا نجس. [7] مسألة: إذا تغير أحد أوصاف الماء بزعفران أو عصفر أو غيره مما ينفك منه غالبا فلا يجوز الوضوء به، خلافاً لأبي حنيفة، لأن كل ما لو تغير الماء به عن طبخ منع الوضوء به، فكذلك إذا تغير من غير طبخ، أصله ماء الباقلاء، ولأنه تغير بما ليس بقرار له، وبما ينفك عنه غالبا، فأشبه إذا أغلي فيه.

إزالة النجاسة

[إزالة النجاسة] [8] مسألة: السيف إذا أصابه دم أجزأ مسحه عن غسله، خلافاً للشافعي، لأنه صقيل متكاتف الأجزاء لا يتخلله النجاسة، ولأن الضرورة تدعو إلى ذلك، لئلا يفسد متى تكرر غسله. [9] (فصل) وفي غسل الخف من أرواث الدواب روايتان: إحداهما: أنه يغسل اعتبارا بالثياب. والأخرى: يمسح، لأن غسله فساد له مع كون الأرواث مكروهة غير نجسة. [10] مسألة: في جلود الميتة إذا دبغت روايتان: إحداهما: أنها باقية على النجاسة لا تطهر بالدباغ، وهو قول أحمد بن حنبل، والأخرى: أنها تطهر، وهو قول ابن وهب، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وهذه الرواية تخرج. فوجه الأولى وهو عدم الطهارة قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة}، وقوله عليه السلام: (لا تنتفعوا من الميتة بشيء). وفي حديث ابن عكيم قال: (أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا أتاكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب). ولأنه جزء من الميتة، نجس بالموت، فوجب أن تتأبد نجاسته كاللحم؛ ولأنه لو قطع حال حياتها كان نجسا فوجب أن لا يطهر بعد

الموت بحال كالعظم؛ ولأنه حيوان فارقته الروح فكان حكم جلده كحكم لحمه كالمذكى والخنزير. ولأنه نجس بالموت وجب بقاء الحكم لبقاء وصفه بالعلة الموجبة له، كما أن الخمرة لما نجست للشدة استحال تحليلها مع بقاء الشدة. ووجه الثانية: قوله عليه السلام: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) وقوله: (دباغها طهورها) وقوله: (ذكاة الأديم دباغه). وقوله: (يحل الدباغ الجلد كما يحل الخل الخمر). ولأنه جلد بهيمة يجوز الانتفاع به حال الحياة، فجاز أن ترتفع النجاسة عنه، أصله المذكى إذا تلوث بالدم. [11] (فصل) إذا ثبت أن الدباغ لا يزيل نجاسته وأنه يؤثر فيه، فيجوز استعماله في اليابسات دون المائعات، خلافاً لأحمد بن حنبل. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، وقوله: (ما على أهل هذه الشاة لو أخذوا جلدها فدبغوه فانتفعوا به؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها)،

وقالت عائشة رضي الله عنها: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت). [12] (فصل) والدباغ يؤثر في جلد الكلب على سبيل ما يؤثر في غيره، خلافاً للشافعي للظواهر الواردة بإباحة الانتفاع بجلود الميتة إذا دبغت، وهي عامة غير خاصة، ولأن الذكاة تعمل فيه على وجه، فجاز أن يطهر جلده بالدباغ كالسباع، ولأنه حيوان يجوز الانتفاع به من غير ضرورة كالفهد. [13] (فصل) لا يؤثر الدباغ في جلد الخنزير بحال، خلافاً لأبي يوسف وداود. للظواهر الواردة بالمنع، ولأنه جزء من الخنزير كانت فيه حياة فأشبه اللحم، ولأن الدباغ يخالف الذكاة وينوب عنها، فلم يجز أن يكون أقوى منها، فلما كانت الذكاة لا تعمل في الخنزير كان الدباغ أولى. [14] (فصل) لا فرق بين ما أكل لحمه وما لم يؤكل، خلافاً لأبي ثور، لقوله عليه السلام: (أيما إهاب دبغ فقد طهر). ولأنه جلد بهيمة يجوز الانتفاع بها فجاز أن يؤثر فيه الدباغ، أصله ما يؤكل لحمه. وهذا الفرع لا يتخرج على قولنا على التحقيق إلا في الكراهة دون التحريم لأن السباع وما أشبهها يكره أكل لحومها من غير تحريم. [15] (فصل) لا يجوز الانتفاع بجلد الميتة قبل الدباغ، خلافاً للزهري. للظواهر في المنع، ولقوله عليه السلام: (هلا أخذتم جلدها فدبغتموه فانتفعتم به) فشرط في إباحة الانتفاع به أن يدبغ، ولأنه جزء

منها كان حياً فوجب أن ينجس بالموت أصله اللحم. [16] (فصل) جلود الميتة التي يؤثر الدباغ فيها لا يجوز بيعها قبل الدباغ، خلافاً لمن أجازه لقوله عليه السلام: (إن الله تعالى إذا حرم شيئا حرم ثمنه)، ولأنه جزء من الميتة نجاسته بالموت باقية، فلم يجز بيعه كاللحم، وأكثر هذه التفريعات على الرواية المخرجة في طهارة جلد الميتة بالدباغ. [17] (فصل) شعر الميتة وصوفها طاهر خلافاً للشافعي لقوله تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاث ومتاعا إلى حين}، فذكر ذلك على وجه الامتنان، ولم يخص حال الحياة من حال الموت. وقوله عليه السلام: (لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وبصوفها وشعرها إذا غسل) ولأن ما ينجس بموت الحيوان من أجزائه ينجس إذا بان منه حال حياته، كالجلد واللحم، ثم وجدنا الشعر إذا أخذ من الشاة حال الحياة لم يكن نجسا فعلم أنه ليس مما ينجس بالموت، ولأن الشعر ليس فيه الروح بدليل عدم الإدراك به وأن الحي لا يتألم بقطعه، وإذا لم يكن فيه روح لم ينجس بالموت. [18] (فصل) عظم الميتة وقرنها نجس، خلافاً لأبي حنيفة، لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة}، وقوله تعالى: {قال من يحي العظام

استعمال أواني الذهب والفضة

وهي رميم* قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} فدل أن في العظم روحاً، لأن إعادة الحياة لا تكون إلا فيما كان حيا ثم مات، ولقوله: (لا تنتفعوا من الميتة بشيء) ولأنه جزء منها إذا انفصل حال حياتها كان نجسا فأشبه اللحم. [استعمال أواني الذهب والفضة] [19] مسألة: لا يجوز استعمال أواني الذهب والفضة، لا في وضوء، ولا في أكل، ولا في شرب، ولا غير ذلك. خلافاً لداود حين منعها في الشرب، فأباحها في غيره لنهيه عليه السلام عن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة وقوله: (إن الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم) وهذا تنبيه على منع الأكل وغيره ولأن المنع من ذلك لأجل الخيلاء والسرف بأنه من أخلاق فارس والروم، وزي ملوكهم، وهذا يستوي فيه الأكل والشرب. [20] (فصل) واتخاذها غير جائز، خلافاً لأحد قولي الشافعي، لأن اتخاذها إنما يراد للاستعمال، وإذا حرم الاستعمال حرم الاتخاذ، ولأنه

استعمال أواني وثياب أهل الكتاب

المقصود بالفعل اعتبارا بالخمر أنها لما حرم شربها حرم اتخاذها. [استعمال أواني وثياب أهل الكتاب] [21] مسألة: يكره استعمال أواني أهل الكتاب ولبس ثيابهم التي لبسوها من غير تحريم خلافاً لمن حكي عنه تحريم ذلك، لقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} فأطلق، ولأنه عليه السلام توضأ من مزادة مشركة وقيل نصرانية، ولأن أصل الطهارة محمول على أصله وظاهره. [الوضوء] [22] مسألة: السواك مستحب، خلافاً لمن حكي عنه وجوبه، لقوله: (كتب عليّ السواك ولم يكتب عليكم) ولأن المقصود منه النظافة وإزالة الرائحة عن الفم، فكان ندبا كغسل الغمر من الفم.

[23] مسألة: النية شرط في طهارة الأحداث كلها، خلافاً لأبي حنيفة حين قال: ليست بشرط في وضوء ولا في غسل، ولزفر في قوله: ليست بواجبة في التيمم أيضا، لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} مفهومه للصلاة ولقوله: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ولأنها طهارة من حدث كالتيمم، ولأنها عبادة منفردة بها كالصلاة والصوم. [24] مسألة: التسمية على الوضوء غير واجبة، خلافاً لأحمد بن حنبل لقوله تعالى: {فاغسلوا} ولم يذكرها. وقوله: (لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه) ولم يذكر التسمية، ولأنها عبادة, وليس في آخرها نطق واجب، فلم يجب في أولها كالصوم عكسه الصلاة، ولأنها قول باللسان، فلم تلزم في الوضوء كالتسبيح. [25] مسألة: غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء مستحب غير واجب. خلافاً لأحمد بن حنبل، وداود، للظاهر، والخبر، ولأنه غسل يفعله المكلف

في نفسه لا من حدث ولا نجس، فلم يكن واجباً كسائر الأغسال المستحبة. [26] (فصل) المضمضة والاستنشاق سنتان في الوضوء، خلافاً لأحمد، ولداود للظاهر، والخبر، ولأنها طهارة من حدث كالتيمم ولأنها باطن في أصل خلقة الوجه كداخل العينين. [27] (فصل) وهما سنتان في الغسل خلافاً، لأبي حنيفة. لقوله عليه السلام لأم سلمة: (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات وتفيضي الماء عليك فإذا أنت قد طهرت) ولأنها طهارة من حدث كالتيمم، ولأن كل موضع من الوجه لم يلزم إيصال الماء إليه في الوضوء لم يلزم في الغسل كداخل العينين. [28] (فصل) الأفضل إفراد كل واحد منهما بغرفة خلافاً للشافعي في أحد قوليه: إن الأفضل الجمع بينهما في غرفة لأنهما عضوان مغسولان كاليدين والرجلين. [29] مسألة: إمرار الماء على المسترسل من شعر اللحية واجب على الظاهر من المذهب، لقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم}. فالاسم للعضو

وما اتصل به من الخلقة، ولأنها شعر نابت على عضو يلزم تطهيره، فأشبه ما لم يسترسل. [30] (فصل) ولا يلزم إيصال الماء للبشرة فيما تحت اللحية في الوضوء، خلافاً لأبي ثور، لأنه ببطونه خرج عن المواجهة فلم يلزم غسله، ولأنه شعر يستر ما تحته في العادة فوجب أن ينتقل الفرض إليه، أصله شعر الرأس. [31] (فصل) وفي لزومه في الجنابة روايتان: فوجه نفيه ما ذكرناه من أنه في حيز الباطن فلم يجب كطهارة الحدث، ووجه الوجوب أنه ليس بباطن في أصل الخلقة وإنما هو باطن بحائل، فلم يكن كالباطن الأصلي وإيصال الماء إلى بشرة الرأس في الجنابة يتخرج على هذا الخلاف. [32] (فصل) وما خلف العذار إلى الأذن ليس من الوجه، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي، لأن المواجهة لا تقع به في الغالب، ولأنه من غضاريف الأذنين وتوابعها ولأنه لا يلزم المرأة فدية إذا غطته في الإحرام. [33] (فصل) إذا كان شعر العارضين من الخفة بحيث لا يستر البشرة لزم إيصال الماء إلى البشرة، خلافاً لأبي حنيفة، أو بعض أصحابه لقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} وما لم يستره الشعر داخل في الاسم، ويروى أنه عليه السلام (كان إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك).ولأنها

بشرة ظاهرة من الوجه كالتي لا شعر لها. [34] مسألة: وإدخال المرفقين في غسل اليدين واجب، خلافاً لزفر وغيره لأنه عليه السلام (كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه)، ولأنه حد لعضو مغسول كالعينين. [35] مسألة: تكرار مسح الرأس بماء جديد غير مسنون، خلافاً للشافعي، لما روي عنه عليه السلام (توضأ فغسل أعضاءه كلها ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه مرة)، ولأنه مسح في طهارة الحدث كالخفين في التيمم، ولأن موضوع المسح التخفيف، فلا يجوز أن يكون من سنته ما ينافي موضوعه، والتكرار تغليظ فلم يكن من سنته. [36] مسألة: والفرض من الرأس ايعابه، خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي لقوله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} والحكم إذا علق باسم وجب استيفاء ما يناوله كقوله: كل رغيفا وأعط درهما، ولأن الصيغة عموم بدليل حسن تقدير الاستثناء فيه، ودخول التخصيص عليه، وتأكيده بألفاظ العموم، ولأنه عضو ورد الظاهر به مطلقا من غير تحديد فأشبه الوجه، ولأنه عضو من أعضاء الوضوء، فلم يتعلق فرضه بأقل ما يقع عليه الاسم، أو بالربع كسائر الأعضاء، ولأنه لو كان له أصل في الوضوء لكان التيمم أولى به، ولأنه عضو

يعتد بمباشرته في المسح، فوجب ايعابه كالوجه في التيمم. [37] مسألة: ومن مسح برأسه ثم حلق شعره لم يعد، خلافاً لعبد العزيز بن أبي سلمة لقوله تعالى: {وامسحوا برءوسكم}، وهذا قد فعل، ولأنه عضو زال عنه حكم الحدث بتطهيره، فزوال ما بوشر بالتطهير منه لا يوجب إعادته كسائر الأعضاء. [38] مسألة: ولا يجزئ مسح العمامة عن مسح الرأس خلافاً لأحمد وداود. لقوله: {وامسحوا برءوسكم} والعمامة لا تسمى رأساً وكذلك الخُمُر. ولأنه عضو فرض مسحه لأجل الحدث، فلم يجز مسح الحائل دونه كالوجه في التيمم. ولأنه عضو لا تلحق المشقة في إيصال المال إليه غالباً كالقدمين. [39] مسألة: وطهارة الأذنين المسح. خلافاً لمن قال: إنهما من الوجه يغسلان معه. ولمن قال: إن باطنهما يغسل مع الوجه، وظاهرهما يمسح مع الرأس. لأن الصحابة وصفوا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برواية وحكاية فلم يذكروا إلا المسح دون الغسل. وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه،

عن جده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: كيف الطهور؟ فذكر إلى أن قال: (ثم يمسح أذنيه ثم قال: هكذا الوضوء من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم). وقوله: (الأذنان من الرأس) وأقل ما يفيده هذا أن طهارتهما كطهارته. [40] (فصل) واختلف في حكمهما فمن أصحابنا من يقول: إن مسحهما واجب لكونهما من الرأس، ومنهم من يقول: إنه مسنون. فوجه الوجوب قوله: (الأذنان من الرأس) وذلك يفيد كونهما بعضاً منه. وقوله: (فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من أشفار عينيه فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه) فأضافهما إلى الرأس كإضافة العينين إلى الوجه فوجب أن تفيد إحدى الإضافتين ما تفيده الأخرى، ولأنهما عضوان جعلا في الشرع مخرجا لخطايا عضو، فوجب أن يكون حكمهما حكم العينين. ووجه نفيه أنه من سنتهما تجديد الماء لهما بخلاف سائر أبعاض الرأس. ولأن إطلاق اسم الرأس لا يتناولهما لأن أهل اللغة قد ذكروا أبعاض الرأس ولم يعدوهما منه. ولأنه لا

خلاف أن مسحهما مرتب بعد مسح الرأس، إما من طريق الإيجاب أو الندب، وذلك يفيد أنهما ليستا منه، وإذا ثبت ذلك بطل القول بوجوبه، لأن من يوجبه على أنهما منه. ولأنه أحد نوعي تطهير الوضوء أعني المسح فوجب أن يكون منه عضو مسنون كالغسل. [41] (فصل) وتجديد الماء لهما أفضل. خلافاً لأبي حنيفة. لأنه عليه السلام كان يجدد الماء لهما. لأن المغسولات نفلا تنفرد عن المغسولات فرضاً فيجب أن تنفرد الممسوحات نفلاً عن الممسوحات فرضاً. ولأن المسح نوع من الطهارة، فوجب أن يكون من مسنونه ما ينفرد عن فرضه كالغسل. [42] مسألة: وفرض الرجلين الغسل. خلافاً لمن ذهب إلى أنه المسح أو التخيير بينهما. لقوله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين} بالنصب وذلك عطف على الوجه واليدين. ولأنه عليه السلام توضأ وقال: (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به). وكل من نقل وضوءه نقل أنه غسل رجليه وقوله: (إذا توضأ المؤمن فغسل وجهه، إلى قوله فمسح برأسه، ثم قال: فإذا غسل رجليه) فبين ما يغسل من الأعضاء

مما يمسح، وجعل الرجلين في حيز ما يغسل فدل على أن ذلك فرضهما وفي حديث عمرو بن عبسه قال: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء، قال: (ما أحد يعرف وضوءه إلى أن قال: فيغسل قدميه إلى الكعبين كما أمر الله). لأنه عضو منصوص على حدِّه كاليدين، ولأن بدليهما المسح على الخف، وحكم البدل يخالف حكم المبدل. [43] (فصل) واختلف عنه في الكعبين، فروي عنه أنهما اللذان في ظهر القدمين عند معقد الشراك عند حد العقب، وروي أنهما النابتان في جنبي الساقين. فوجه الأول أن في كل رجل كعبا واحدا، وذلك لا يكون إلا على هذا الوجه، لأن الكعب المعهود هو الذي يكون عند الشراك وذلك مستفيض بينهم. ووجه الآخر قوله: {إلى الكعبين}. فدل على أن في كل رجل كعبين لأنه أوردهما بلفظ التثنية، ولو أراد الجمع لقال إلى الكعاب، كما لما كان في كل يد مرفق واحد قال: {إلى المرافق}. ولأن الكعب ما نتأ وظهر لأنه مأخوذ من التكعيب والنتوء وذلك لا يوجد إلا فيما قلناه. [44] مسألة: وترتيب الوضوء مستحب غير مستحق خلافاً للشافعي. لقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} وواو النسق

للجمع دون الترتيب. ولأنها طهارة شرعية كالغسل. ولأن اليدين عضو من أعضاء الوضوء فصحت الطهارة مع التبدية به كالوجه. ولأنه تقديم وتأخير في الوضوء فلم يمنع صحة الطهارة كتقديم اليسرى على اليمنى. ولأنها عبادة يجوز تفريق النيات على أبعاضهما فلم يكن الترتيب من شرطها، أصله الزكاة عكسه الصلاة. [45] مسألة: وإذا فرق وضوءه أو غسله تفريقاً متفاحشاً لم يجزه خلافاً لأبي حنيفة والشافعي. لقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم}؛ لأنه أمر والأمر المطلق على الفور. ولأن الخطاب بصيغة الشرط والجزاء، ومن حق الجزاء أن لا يتأخر عن جملة الشرط، وجملة الأعضاء جزاء للشرط الذي هو القيام إلى الصلاة، فوجب أن لا يتغير شيء منها عنه كقوله: إذا دخلت الدار فلك درهم وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توضأ، وبقي على رجله قطعة لم يصبها الماء فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء. ولأنها عبادة ينافيها الحدث فكان للتفريق تأثير في إبطالها كالصلاة. ولأنها عبادة يتقرب بها لفعل الصلاة فجاز أن تبطل بالتفريق كالأذان. [46] مسألة: ولا بأس بمسح ما يبقى من بلل الوضوء. خلافاً لأصحاب الشافعي. لما روى معاذ أنه (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه). وروى عروة عن عائشة (أنه صلى الله عليه وعلى آله كانت له خرقة يتنشف بها بعد

الغسل

الوضوء). ولأنه تنشف عضو من غسل فأشبه سائر الاغتسال. [الغسل] [47] مسألة: ولا يجزئ مجرد الاغتماس أو صب الماء على البدن دون إمرار اليد في الوضوء والغسل. خلافاً لأبي حنيفة والشافعي. لقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم}. وقوله: {حتى تغتسلوا} والغسل في اللغة يظهر صفة زائدة على إيصال الماء إلى المحل وليس ذلك إلا إمرار اليد. ولأنهم يفرقون بينه وبين الاغتماس فيقولون: اغتسل واغتمس، واغتماس واغتسال فدل على اختلاف حكميهما. وروي عن عائشة (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها في غسل الجنابة فقال: (أفرغي الماء على رأسك ثم ادلكي جسدك). وعن عمر - رضي الله عنه - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن غسل الجنابة فقال: (ثم تدلك بكفيك في كل مرة). وقوله عليه السلام: (بلغوا الشعر وأنقوا البشرة). والانقاء صفة زائدة على إيصال الماء.

ما يمنع الحدث

ولأنه أحد نوعي الطهارة فوجب أن يلزم فيه إمرار اليد كالمسح. [ما يمنع الحدث] [48] مسألة: لا يجوز للجنب ولا للمحدث مس المصحف خلافاً لداود. لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون}، وفي حديث عمرو بن حزم: (لا يمس القرآن والمصحف إلا طاهر). ولأنه ممن لا تصح الصلاة له في هذه الحال كالكافر. ولأن كل عضو يمسه به فيستحق عليه غسله كالمغمور بالنجاسة. [49] (فصل) ولا يجوز أن يحمله بعلاقته. خلافاً لأبي حنيفة. لأنه محدث قاصد لحمل المصحف كالمباشر. [50] مسألة: ولا يجوز للجنب أن يقرأ الكثير من القرآن. خلافاً لداود لقوله عليه السلام: (لا يقرأ جنب ولا حائض شيئاً من القرآن). وقول علي: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس إلا الجنابة).

وقوله: (أنا آكل وأشرب وأنا جنب ولا أقرأ وأنا جنب). وفي حديث ابن رواحة أن امرأته عاتبته لما رأته مع أمته فجحدها ثم قال: ألست علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب؟ قالت: بلى. فإن كنت صادقاً فاقرأ فأنشدها: "شهدت بأن وعد الله حق" ... الأبيات. فقالت: آمنت بالله، وكذبت بالبصر، ثم أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فضحك، وقال: (امرأتك أفقه منك).ففيه أدلة: أحدها: أنه أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وأنه روى عنه منع القراءة للجنب، فلم ينكر عليه، ولا قال له: وما الذي دعاك إلى هذه الحيلة؟ والقراءة جائزة لك والثاني: أنه قال له: امرأتك أفقه منك لما أمرتك بفعل ما أنت ممنوع منه مع الجنابة. ولأنه لما منع من دخول المسجد كان أن يمنع من القرآن أولى. [51] (فصل) ويجوز أن يقرأ الآيات اليسيرة على وجه التعوذ. خلافاً لأبي حنيفة والشافعي. لأن الغالب من أحوال المسلمين ذكر الله والتعوذ، فكانت به ضرورة إلى ذلك للمشقة في منعه فاستثني من المنع كما استثني المحدث. ولأن ما تعلق بالمنع لحرمه القرآن يجوز أن يخالف منه اليسير

الكثير للحاجة، كما (نهى عليه السلام أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو). ثم كتب إليهم {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم}. [52] مسألة: وعنه في قراءة الحائض من غير مس المصحف روايتان: إحداهما: المنع، والأخرى الجواز. فوجه المنع قوله عليه السلام: (ولا يقرأ جنب ولا حائض شيئاً من القرآن). ولأن حدثهما موجب للغسل كالجنابة. ولأنها لما منعت من دخول المسجد ومس المصحف لحرمة القرآن، كانت بالمنع من القراءة أولى. ولأن الحيض أغلظ حكماً من الجنابة؛ لأنه يمنع مالا تمنع الجنابة فإذا كان أخف الأمرين يمنع حكما كان أغلظهما أولى. ولأن كل معنى منعت منه الجنابة منع منه الحيض كالصلاة.

المسح على الخفين

ووجه الجواز قوله عليه السلام: (اقرءوا القرآن). وأقل أحوال هذا اللفظ الإباحة. ولأنه حدث لا يؤمر معه بالوضوء عند النوم كالحدث الأصغر. ولأن بها ضرورة إلى ذلك كضرورة المحدث، لأن الحيض عادة مألوفة تدوم بها الأيام، ولا يقدر على رفعه فيشق عليها الامتناع من القراءة أياماً تباعاً فجاز لهذه الضرورة أن يعفى لها عن المنع كما جاز ذلك للمحدث. [المسح على الخفين] [53] مسألة: المسح على الخفين جائز. خلافاً لمن منعه. لثبوت الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً، وقد ادعي في ثبوته العلم الضروري، كما ادعي ذلك في غسل الجمعة، ولأنه حائل يلحق في خلعه مشقة غالبة، وتدعو إليه ضرورة شديدة فأشبه الجبائر والعصائب. ولا يدخل عليه الجورب والطرباخ. لأن الغرض إلحاق أحد النوعين بالآخر. [54] مسألة: لا يجوز المسح إلا لمن لبسهما بعد كمال الوضوء. خلافاً لمطرف من أصحابنا ولأبي حنيفة، في قولهما: إن من غسل إحدى رجليه فأدخلهما في الخف ثم غسل الأخرى وأدخلها في الخف جاز

له المسح. لقوله عزَّ وجلَّ: {وأرجلكم إلى الكعبين} فعم كل حال, وروى أبو بكرة (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص للمسافر والمقيم في المسح على الخفين إذا تطهر فلبس خفيه). وهذا يقتضي لبساً يتعقب كمال الطهارة. وفي حديث عمر وأنس أنه عليه السلام قال: (إذا أدخلت

رجليك في الخفين وأنت طاهر فامسح عليهما). ولا يكون طاهراً إلا إذا كملت طهارته. ولقوله في حديث المغيرة: (دعهما فأنا أدخلتهما وهما طاهرتان).ولأنه لبس ابتدئ قبل كمال طهارته فأشبه أن يدخلهما غير مغسولتين. ولأن كل ما كانت الطهارة من شرطه لم يصح تقدمه على بعضها كالصلاة. [55] (فصل) وعنه في جوازه للمقيم روايتان: فوجه الجواز قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يمسح المسافر والمقيم على خفيه). وقوله: (إذا أدخلت رجليك في الخفين وأنت طاهر فامسح عليهما ما لم تنزعهما). ولم يشترط كونه مسافراً ولأنه عليه السلام مسح على خفيه في الحضر. ولأنه مسح رخص فيه للضرورة فاستوى فيه الحاضر والمسافر كالجبائر والعصائب. ولأنه مسح نائب مناب غسلهما كالاستجمار ووجه المنع هو أن المسح جوز لضرورة السفر بانقطاع المسافر عن صحابته ورفقته بتشاغله بخلع خفيه كل وقت أراد الطهارة، وهذا معدوم في

الحضر. ولأن السفر يختص بأشياء من الرخص لا توجد في الحضر كالقصر والفطر وغير ذلك. [56] مسألة: وليس فيه توقيت بمدة من الزمان معلومة. خلافاً لأبي حنيفة والشافعي. لما روي أنه عليه السلام أرخص في المسح على الخفين فأطلق وفي حديث عمر وأنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أدخلت رجليك في الخفين وأنت طاهر فامسح عليهما، وصلِّ فيهما ما لم تنزعهما أو تصبكجنابة). وفي حديث أُبيَ بن عمارة أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: نعم، قال يوماً قال نعم ويومين حتى تبلغ سبعاً قال نعم وما بدا لك) وروي (ماشئت) ففيه دليلان: أحدهما: أنه جوز المسح فيما زاد على الثلاثة على الحد الذي جوزه في الثلاثة بعد المسألة عنها على حد واحد, والآخر قوله (ما شئت وما بدا

لك) وهذا نص في سقوط التوقيت. وروى عطاء بن يسار عن ميمونة قالت: قلت يا رسول الله أفي كل ساعة يمسح الإنسان على خفيه ولا ينزعهما؟ قال: (نعم) وهذا عام في الثلاثة وما زاد عليها وفي حديث عقبة بن عامر قال: (قدمت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بفتح الشام وعلي خفان فنظر إليهما وقال: كم لك منذ لم تنزعهما؟ قلت لبستهما يوم الجمعة واليوم الجمعة. قال: أصبت).وفي حديث آخر (أصبت السُنة). ولأنها رخصة فلم تتعلق بمدة من الزمان معلومة كالقصر والفطر. ولأن طهارات الأحداث لا تتعلق بتوقيت زمان كالوضوء والغسل ولأن كل طهارة جاز أن تستدام ثلاثة أيام جاز استدامتها فيما زاد عليها على حد استدامتها في الثلاثة أصله المسح على الجبائر والعصائب. ولأنه لا

يخلو أن يعتبر بالأصول أو الإبدال، وبأيهما اعتبر لم يكن فيه توقيت زمان كسائر الأعضاء والمسح على الجبائر. ولأن كل مدة لبس فيها الخفين بعد كمال الطهارة لم يتخللها بخلع ولا جنابة فإن استدامة المسح فيها جائز كالثلاثة. ولأن الثلاثة مدة يجوز المسح فيها للمسافر فجاز للحاضر كاليوم والليلة. ولأن طهارة الأحداث لا يجوز اختلاف حكم المقيم والمسافر فيما يرجع إلى قدرها وتوقيتها أصله الوضوء والغسل. [57] مسألة: والاختيار مسح أعلا الخف وأسفله خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن باطنه ليس بمحل للمسح لما رواه المغيرة قال: (وضأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فمسح أعلا الخف وأسفله). ولأنه موضع من الخف يحاذي المغسول من القدم فكان محلا للمسح أصله أعلا الخف. [58] (فصل) إن اقتصر على باطنه فلا يجزيه. خلافاً لبعض الشافعية. لقول علي: (لو كان المسح يؤخذ قياساً لكان باطن الخف أولى من ظاهره ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظاهره). ولأن باطن الخف في حكم النعل وظاهره في حكم الخف بدليل أن المحرم تلزمه الفدية بلبس الخف، ولا تلزمه بلبس النعل، وقد ثبت أنه لو لبس خفاً ليس له ظاهر قدم وله أسفل قدم أنه لا فدية عليه، ولو كان له ظاهر قدم ولم يكن له أسفل قدم لزمته الفدية وإذا ثبت ذلك كان الموضع الذي هو في حكم الخف هو الذي يتعلق به حكم الجواز دون الموضع الذي هو في حكم النعل والله أعلم.

[59] مسألة: إذا كان خرق الخف يسيراً غير متفاحش ولا مانع متابعة المشي فيه جاز المسح عليه. خلافاً للشافعي. لما روي أنه عليه السلام أرخص في المسح على الخفين فأطلق. وقوله: (إذا لبست خفيك وأنت طاهر فأمسح عليهما وصل فيهما) ولم يفرق. ولأن الضرورة تدعو إلى ذلك لاختلاف الناس في لبس الخفاف لأن منها الخلق واللبيس وما فيه فتق يسير فلو منع المسح إلا على خف لم ينخرق منه شيء يسير للحق في ذلك ضرورة شديدة، وأدى إلى أن يختص به قوم دون قوم، وزال موضع الرخصة العامة فيه. [60] مسألة: وفي المسح على الجرموقين روايتان: إحداهما: الجواز، والأخرى: المنع. فوجه الجواز ما يروى (أنه عليه السلام أرخص في المسح على الموق وهو الجرموق). ولأن الخف الأسفل حائل بين الخف والرجل فلم يمنع المسح كالجورب. ولأن ما يجوز المسح عليه لا يختلف حكمه بأن يكون مباشراً للعضو أو يكون بينه وبينه حائل كالجبائر والعصائبووجه المنع قوله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين} فعم كل حال. ولأن المسح على الخف رخصة ولا يقاس عليها. ولأن المسح على الخف أجيز للضرورة وهي معدومة في الجرموقين لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسهما فصارا كالقفازين والجوربين والأولى أقيس. [61] مسألة: إذا خلع الخف بطل المسح ولزمه غسل رجليه.

آداب قضاء الحاجة وحكم إزالة النجاسة

خلافاً لداود. لقوله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين} وقوله عليه السلام: (وإذا أدخلت رجليك في الخفين وأنت طاهر فأمسح عليهما وصلِّ فيهما ما لم تنزعهما أو تصبك جنابة). ولأنه مسح على حائل دون عضو من أعضاء الوضوء على وجه البدل، وكان بخلعه مبطلاً لحكمه كالعصائب والجبائر. [62] (فصل) وإذا خلع أحد خفيه بطل المسح على الآخر ولزمه غسل رجليه خلافاً لأصبغ. لقوله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين}. ولأن الرجلين في حكم العضو الواحد فظهور إحداهما كظهور كليهما. ولأن ظهور بعض الرجلين يمنع حكم المسح فيما لم يظهر، أصله إذا ظهر بعض الرجل أنه لا يمسح على ما لم يظهر ويغسل ما ظهر. [63] مسألة: لا يجوز المسح على جوربين غير مجلدين. خلافاً لأحمد. لقوله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين}. ولقوله عليه السلام: (يمسح المسافر والمقيم على خفيه). ففيه الرخصة فدل على الاختصاص بما وردت فيه. ولأنه حائل لا يمكن متابعة المشي فيه كالخرقة يلفها على رجليه. [آداب قضاء الحاجة وحكم إزالة النجاسة]: [64] مسألة: ولا يجوز استقبال القبلة واستدبارها بحدث في الصحاري والفلوات ويجوز ذلك في البنيان والبيوت. ومنعه أبو حنيفة في الموضعين. وأجازه داود في الموضعين. بدليل قوله عليه السلام: (لا تستقبلوا بمقعدتي القبلة). وروى جابر قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن

نستقبل القبلة بفروجنا، ثم رأيته قبل أن يقبض بعام مستقبل القبلة). وروى ابن عمر: (أنه رآه عليه السلام في بيت حفصة. مستدبر الكعبة مستقبل بيت المقدس). ولأن الصحاري لا تخلو غالباً من مصل، أو مجتاز فحيث خيف أن تنظر إليه، وهذا معدوم في البنيان. ولأن الأبنية قد تضيق فلا يمكن البناء إلا على هذا الوجه، فلو تكلف تغييره عنه لشق ذلك، ولحق به ضرورة، وفي الصحاري يمكنه القعود على اختياره وعلى داود عموم النهي. وقوله عليه السلام: (لكن شرقوا أو غربوا) وهذا يدل على الوجوب. [65] مسألة: اختلف أصحابنا في إزالة النجاسة: فمنهم من يقول: إنها فرض بشرط الذكر والقدرة فإن صلى بها ناسياً أو عالماً لا يقدر على

إزالتها أجزاه. وإن صلى بها عالماً قادراً على إزالتها وإبدال ثوبه فلا يجزيه. ومنهم من يقول: إنها سُنة، فإن تعمد الصلاة بها عصى وأثم، وفي الحكم أنه يجزيه. فوجه القول بأنها فرض قوله عليه السلام في صاحبي القبر: (إنهما ليعذبان أما أحدهما: كان لا يستنزه من البول). والتعذيب لا يكون إلا في ترك مستحق. وقوله: (إذا رأيت المني رطباً فاغسله). وقوله: (لا يكتفين أحدكم بدون ثلاثة أحجار). ولأنه لا خلاف أنه إذا صلى بها عامداً فقد أتى بالصلاة على خلاف الوجه المأمور به، وذلك يفيد عدم الإجزاء، ولأن اسم النجس مأخوذ من الاجتناب والابتعاد فيجب لزوم المعنى فيه. ووجه القول الآخر قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا}. فبين ما يلزم القائم إلى الصلاة أن يفعله ولم يذكر ما تنازعناه. ولأن كل معنى لا يوجب التطهير يسيره بنفسه لا يوجبه كثيره، أصله سائر

الأعيان عكسه الحدث. ولأنها عين حاصلة في الثوب أو البدن فصح انعقاد الصلاة معها أصله غير النجاسة. ولأنها عبادة على البدن فصح انعقادها مع النجاسة كالطهارة والصوم، ولأنها طهارة لم يوجبها حدث يفعلها المكلف لنفسه لا بغيره فكانت مسنونة غير مفروضة كغسل الجمعة والإحرام ولأنها طهارة ليس من شرطها النية كالتنظف. [66] (فصل) ودليلنا على أنه إذا صلى بها ساهياً أو مع عدم العلم أجزأه خلافاً للشافعي. ما روي أنه عليه السلام (صلى ثم وجد في ثوبه لمعة من دم فَصَرَّهُ وأنفذه ليغسل) ولم ينقل أنه أعاد، ولا أنه أمرهم بالإعادة. ويروى أنه عليه السلام خلع نعليه في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما فرغ قال: ما بالكم خلعتم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: إن جبريل أخبرني أن فيهما قذرا) ويروى (نجسا) موضع الدليل أنه بنى. ولم يقطع مع العلم بها, وإذا ثبت جواز الصلاة بها مع عدم العلم والسهو قلنا لأن الطهارة

المستحقة للصلاة لا يقف وجوبها على الذكر والعلم ولا تنعقد الصلاة مع عدمها على وجه السهو كالطهارة من الحدث. ولأن كل طهارة صح انعقاد الصلاة مع تركها سهواً لم تكن مستحقة كغسل الجمعة عكسه الحدث. ولأن كل عين لم تفسد الصلاة بتركها في الثوب أو البدن سهواً لم تفسد بتركها عمداً أصله غير النجاسة. ولأنها طهارة شرعية فوجب تساوي الحكم في انعقاد الصلاة مع تركها عمداً أو سهواً أصله طهارة الحدث فوجب أن لا تنعقد الصلاة مع تركها عمداً لم يؤثر في طهارة الحدث. والقول في الاستنجاء يخرج على هذا الخلاف فلا حاجة لنا إلى إفراده. [67] (فصل) إذا أنقى بحجر واحد أجزأه. خلافاً للشافعي. لقوله عليه السلام: (من استجمر فليوتر). وأقله مرة. وقوله: (من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج). وهذا نص. ولأنه مسح زائد على الانقاء كالرابعة. ولأنها طهارة فلم يستحق فيه التكرار كطهارة الحدث ولأنه نوع مما يستنجى به كالماء. ولأنه مسح حصل به الانقاء كالثلاثة. ولأنه نوع من النجاسات فأشبه سائرها. ولأنها نجاسة فلم تستحق في إزالتها تكراراً أصله إذا كانت في غير ذلك الموضع. ولأن الاستنجاء مأخوذ من إزالة النجو فإذا حصل الإنقاء فالمسح بعده لا يستحق الاسم فلم يجب. ولأن المعتبر الانقاء. بدليل وجوب الزيادة على الثلاثة إذا لم يحصل فوجب أن يقع الإجزاء بدونها إذا حصل. [68] مسألة: يجوز الاستجمار بالخرق والخزف والخشب وغير ذلك

مما في معناه. خلافاً لزفر. لقوله: (بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع)،. ففيه دليلان: أحدهما: أن الرجيع ليس من الأحجار فدل استثناؤه إياه منها على أنه أرادها أو ما يقوم مقامها. والثاني: مفهومه أن غير الأحجار يقوم مقامها وإلا لم يكن لتخصيص الرجيع معنى. ولأنه طاهر منق غير مطعوم ولا ذي حرمة كالأحجار. [69] مسألة: ويكره الاستنجاء بالعظم والروث فإن فعل أجزأه. خلافاً للشافعي. لهذا المعنى الذي ذكرناه. ولأن الانقاء قد حصل فأشبه الأحجار. [70] مسألة: يجوز الاستنجاء مما يخرج من السبلين نادراً كالحصا والدود والدم وغيره بالأحجار. خلافاً لأحد وجهي الشافعية. لأنه استنجاء فأشبه كونه من الغائط والبول. ولأن الاستجمار من الغائط والبول آكد منه في مسألتنا. لأن الوضوء من ذلك واجب بإجماع، ومن هذا مختلف فيه فإذا ثبت ذلك وجاز في الموضع في المجتمع عليه كان في الأضعف أولى. ولأن الاستنجاء منه في الأصل غير واجب عندنا. وهذا مبني عليه. [71] مسألة: إذا انتشر الحدث عن موضع المخرج، وما لا بد منه من حواليه في الغالب إلى ما بعد عنه لا يجوز فيه إلا الماء. خلافاً للشافعي في أحد قوليه لأنها نجاسة على غير المخرج وما لا بد منه فلم

باب في نواقض الوضوء وموجبات الغسل

يجز إزالتها إلا بالماء كما لو جرت إلى الفخذ والساق. ولأن المخرج مخصوص لتكرار الخروج منه. [72] مسألة: لا يستنجى من الريح. خلافاً لقوم. لقوله عليه السلام: (ليقم صاحب هذا الريح فليتوضأ). ولم يأمره بالاستنجاء منها. وقوله: (ليس منَّا من استنجى من الريح). ولأن الاستنجاء مأخوذ من إزالة النجو فإذا لم يكن أثر لم يكن غسله استنجاء. ولأنه مرور ريح على موضع من البدن فلم يستحق إزالته كغير ذلك الموضع. [باب [في نواقض الوضوء وموجبات الغسل]]: [73] مسألة: ولا وضوء من السلس والاستحاضة خلافاً لأبي حنيفة والشافعي. لما روي أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن بي الباسور يسيل مني فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا توضأت فسال من قرنك إلى قدمك فلا وضوء عليك). ولأنه خارج على وجه السلس كما لو خرج في الصلاة ولأن كل خارج من البدن إذا خرج في الصلاة لم يمنع المضي فيها، ولم يوجب فسادها، فإن خروجه خارجها لا ينقض الوضوء أصله الدموع والعرق عكسه البول والمذي إذا خرجا على السلامة. ولأن ما يوجب الطهر إذا خرج على السلامة فإنه إذا خرج على وجه السلس لا يجب ما كان يجب بخروجه على السلامة أصله دم الاستحاضة،

هذا قياس سلس البول والمذي على الاستحاضة. [74] مسألة: ولا وضوء مما يخرج من السبيلين نادراً كالحصا والدود والدم. خلافاً لأبي حنيفةوالشافعي. لقوله عليه السلام: (لا وضوء إلا من صوت أو ريح) وقوله: (لكنمن غائط أو بول أو نوم). ولأنه خارج غير معتاد فأشبه أن يخرج من غير مخرج الحدث. [75] مسألة: النوم في الجملة مؤثر في وجوب الوضوء. خلافاً لبعض التابعين لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم}. الآية نزلت على سبب وهو القيام من النوم، فلا بد أن يتناول سببها. وقوله عليه السلام: (العينان وكاء السّه فمن نام فليتوضأ). وروي: (فإذا نامت العينان استطلق الوكاء). وقوله: (من

نام مضطجعاً فليتوضأ).وقوله: (إلا من غائط وبول ونوم). وفيه أخبار كثيرة، ولأنه لما كان الأغلب منه خروج الحدث وجب بناؤه على غالبه. [76] مسألة: إذا نام ساجداً توضأ، خلافاً لأبي حنيفة، لقوله: (فمن نام فليتوضأ). وقوله: (ومن استجمع نوماً فليتوضأ). ولأنه متمكن من النوم على حال يسرع معها خروج الحدث فأشبه المضطجع. [77] مسألة: الراكع عند مالك كالساجد. وقال ابن حبيب كالجالس. ولمالك قوله: (فمن نام فليتوضأ). ولأنه لا حائل بين موضع الحدث وبين خروجه كالساجد. ولأنه أشد نوما من الساجد لما قاله مالك من التفرج ولابن حبيب أنها حال يقل الثبوت معها، لأن فيها ضرباً من التحرز والتماسك فلا يوجد فيها الاستثقال الذي يوجد في السجود والاضطجاع فكان في معنى الجالس. [78] مسألة: القائم والجالس إذا طال نومهما لزمهما الوضوء. خلافاً

للشافعي وقوله لا وضوء على الجالس أصلا. لقوله: (من نام فليتوضأ). وقوله: (من استجمع النوم فعليه الوضوء). وهذه عبارة عن الاستغراق وشدة التمكين. ولأنه إذا طال نومه استثقل وزال تماسكه وأسرع إليه خروج الحدث فكان كالمضطجع. [79] (فصل) وأما المستند فقال مالك هو كالجالس. وقال ابن حبيب هو كالمضطجع وأشار إليه أشهب عن مالك فوجه القول أنه كالجالس قوله عليه السلام: (ليس على من نام جالساً وضوء حتى يضع جنبه) وهذا يعم المستند وغيره. وروى أنس أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون) ولابد أن تختلف أحوالهم في انتظارهم الصلاة فيكون منهم المائل والمستند ثم لم يجد خلافاً في ذلك. ولأنه متمكن في الجلوس كغير المستند. ووجه القول بأنه كالمضطجع أنه مائل عن مستوى الجلوس كالساجد. [80] مسألة: وذهب قوم إلى أن النوم حدث ينقض قليله وكثيره

الوضوء على أي هيئة كان النائم وهذا غلط لقوله عليه السلام في حديث حذيفة وسأله أمن هذا وضوء؟ فقال: (لا حتى تضع جنبك). وروي (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً). فلو كان جميع النوم حدثاً لم يكن لهذا التخصيص فائدة. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كان ينام حتى ينفخ ثم يصلي ولا يتوضأ) وكذلك الصحابة. ولأن تعليله عليه السلام بقوله: (فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله). وقوله: (فإذا نامت العينان استطلق الوكاء). يدل على أن النوم ليس بحدث في نفسه وأن الوضوء إنما يجب منه بكونه مؤدياً إلى خروج الحدث. [81] مسألة: المغمى عليه إذا فاق فلا غسل عليه. خلافاً لبعض المتقدمين. وسواء طال به ذلك أو قصر خلافاً لابن حبيب. لأنه معنى يزيل العقل فلم يوجب الغسل كالنوم والسكر. [82] مسألة: اللمس باليد والقبلة مؤثران في نقض الوضوء. خلافاً

لأبي حنيفة لقوله تعالى: {أو لامستم النساء}. وقرئ (أو لمستم النساء). ولأنه لمس يحرم الربيبة كالإيلاج. ولأن اللمس ضربان أعلى وأدنى والطهر نوعان: أعلى وأدنى. فلما وجب بالأعلى وهو التقاء الختانين أعلى الطهرين, وجب أن يجب بالأدنى, وهو ما دونه, أدناهما وهو الوضوء. [83] مسألة: والاعتبار في ذلك للذة. خلافاً للشافعي. (لظاهر) {أو لامستم النساء} واختلف أصحابنا في المراد بالظاهر على مذهبين. فمنهم من قال: هو الجماع، ومنهم من قال: ما دونه ولم يكن فيهم حامل له على وجه ثالث. ولأنه - صلى الله عليه وسلم - (كان يقبل ويلمس ثم يصلي ولا يتوضأ). وقالت عائشة: (فقدته ليلة فوقعت يدي على أخمصقدميه وهو ساجد)، ولم ينقل أنه توضأ، ولأنه لمس لم تقارنه لذة، فأشبه لمس الرجل ولأن أسباب الأحداث إنما تؤثر في نقض الوضوء، وإذا حصلت على صفة تفضي إلى حدث كالنوم الذي يجب منه الوضوء في المستغرق المؤدي إلى الحدث، دون يسيره واللمس إنما يؤدي إلى خروج المذي إذا كان للذة؛ لأنها هي التي تهيجه وهذا معدوم فيه إذا لم تقارنه لذة فلم ينقض الوضوء.

[84] مسألة: ولا فرق بين وجود الحائل وعدمه إذا لم يكن من الصفاقة بحيث يمنع اللذة كما لو لم يكن حائل. [85] مسألة: إذا التذ الملموس فعليه الوضوء. خلافاً للشافعي في أحد قوليه. لأنه ملتذ بلمس له تأثير في نقض الوضوء فأشبه اللامس. ولأنه نوع من اللمس اشتركا في موجبه وهو الالتذاذ فوجب أن يشتركا في انتقاض الطهر به، أصله التقاء الختانين ولأنه ما به انتقض وضوء اللامس هو أنه إذا التذ باللمس أدى إلى الحدث وهو المذي وهذا المعنى موجود في الملموس. [86] مسألة: وإذا مس الشعر فالتذ به فعليه الوضوء. خلافاً للشافعي. لقوله تعالى: {أو لامستم النساء}. ولأنه جزء من البدن متصل به اتصال خلقة فأشبه اللحم ولأنه جزء من البدن يلحقه طلاقه فأشبه ما ذكرناه. [87] مسألة: وإذا وجد اللامس اللذة فلا فرق بين ذوات المحارم والأجنبية. خلافاً للشافعي. لقوله تعالى: {أو لامستم النساء} فعم ولأنه معنى يؤثر في نقض الوضوء ولا فرق فيه بين ذوات المحارم والأجنبيات كالإيلاج. [88] مسألة: مس الذكر يؤثر في نقض الوضوء خلافاً لأبي حنيفةسحنونولابن القاسمفي أحد قوليه. لقوله عليه السلام: (من مس ذكره فليتوضأ). ولأنه مس قارنته اللذة كمس النساء. ولأنه لمس يفضي إلى المذي كمس الفرج بالفرج. [89] مسألة: في اعتبار الوجه الذي إذا حصل عليه نقض الطهر وجهان: أحدهما: أن يكون بباطن الكف. والآخر أن يكون بلذة.

فوجه القول بأن الاعتبار فيه بباطن الكف. قوله عليه السلام: (إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فليتوضأ). والإفضاء لا يكون غالباً إلا بباطن الكف. وروي أنه عليه السلام أعاد الوضوء وقال: (إني حككت ذكري) وذلك يفيد أنه لا يعتبر باللذة، ووجه اعتبار اللذة أنه لمس يؤثر في نقض الطهر، فوجب أن تعتبر فيه اللذة كمس النساء. ولأن اللمس سبب للحدث فوجب أن يكون وجوب الوضوء منه معلقاً على الوصف الذي يؤدي إلى الحدث، وليس ذلك إلا اللذة. ولأن كل معنى تعلق بالذكر أوجب الطهارة العليا فمن جنسه ما يوجب الطهارة الدنيا، وليس ذلك إلا اللمس للذة. [90] (فصل) في مسه على وجه الخطأ والسهو روايتان: إحداهما: وجوب الوضوء، والأخرى سقوطه. فوجه الوجوب عموم قوله: (من مس ذكره فليتوضأ). ولأنه ماس لذكره ملتذ به بباطن كفه فأشبه العامد. ولأنه لمس يؤثر في نقض الطهر فاستوى عمده وسهوه أصله مس النساء. ولأن كل معنى نقض الطهر مع العمد نقضه مع السهو كالحدث ووجه نفيه ما روي أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أكون في الصلاة فتقع يدي على فرجي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (وأنا ربما كان ذلك مني امض في صلاتك).

ولأن هذا مما لا يمكن الاحتراز والتحفظ منه فكان معفوا عنه. [91] (فصل) ولا وضوء من مس الانثيين. خلافاً لعروة بن الزبير. لأنه عضو لا لذة في لمسه فأشبه سائر الأعضاء. ولأنه لمس لا يفضي إلى خروج الحدث فأشبه مس الرجل. [92] (فصل) ولا وضوء على من مس الدبر. خلافاً للشافعي. لقوله: (من مس ذكره فليتوضأ) فدل على أن ما عداه بخلافه ولأنه عضو لا لذة في مسه فأشبه سائر الأعضاء ولأن ما يخرج منه لا يوجب الغسل فأشبه العين وغيرها. ولأنه لمس لا لذة فيه فأشبه مس الرجل. [93] (فصل) في مس المرأة فرجها روايتان: إحداهما: وجوب الوضوء على صفة وهي الإلطاف واللذة على حسب الاختلاف. والأخرى: نفي الوجوب. فوجه نفي الوجوب. لأنه عضو منها فأشبه سائر بدنها. ولأنه لمس لا يفضي إلى نقض الطهر فأشبه مس غيره من الأعضاء. ووجه الوجوب [قوله صلى الله عليه وسلم]: (من مس فرجه فليتوضأ). وروى

هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ). ولأنه شخص ملتذ بلمس فرجه كالرجل. ولأنه فرج يلتذ بلمسه كالذكر. ولأنه مكلف مس من بدنه ما يخرج الحدث الموجب للبلوغ كالرجل. [94] (فصل) ومن لمس فرج بهيمة فلا وضوء عليه. خلافاً للشافعي في أحد قوليه. لأنه لمس بهيمة فأشبه سائر بدنها؛ ولأنه لمس لا لذة فيه فأشبه مس الجماد. [95] مسألة: وما يخرج من البدن من غير السبيلين كالقيء والحجامة والفصاد وما أشبه ذلك لا ينقض الوضوء. خلافاً لأبي حنيفة. لقوله: (لا وضوء إلا من صوت أو ريح). وروى أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم فلم يزد على أن غسل محاجمه وصلى). ومنه حديث ثوبان (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قاء فأفطر قال: ثوبان أنا سكبت له وضوء وقلت يا رسول الله الوضوء واجب من القيء، قال: (لو كان واجباً لوجدته في كتاب الله). ولأنه خارج من غير السبيلين كالدموع، ومن غير المخرج المعتاد كالدود والدم من المخرج. ولأنه خارج من البدن لا ينقض الوضوء قليله، فلم ينقضه كثيره، أصله العرق، عكسه البول. ولأنه طهارة عن حدث فلم يجب بخارج من غير السبيلين كالغسل، وقياساً عليه إذا لم يملأ الفم بعلة الجنس. [96] مسألة: وإذا قهقه في صلاته فلا وضوء عليه. خلافاً لأبي حنيفة. لقوله: (الضاحك في صلاته، والمفقع أصابعه، والملتفت بمنزلة واحدة). ولأن كل ما لم ينقض الوضوء في غير صلاة لم ينقض في الصلاة كالكلام، عكسه الحدث. ولأن كل معنى لا ينقض الوضوء إذا حصل في صلاة الجنازة، لم ينقض في غيرها كالتبسم والكلام. ولأنها صلاة شرعية فلم تنتقض الطهارة بالقهقهة فيها كصلاة الجنائز. ولأنها طهارة شرعية فلم يؤثر الضحك في بطلانها كالغسل؛ ولأنه معنى لا تأثير له في إيجاب التيمم فلم يكن له تأثير في إيجاب الوضوء كالكلام. ولأن الضحك من

جنس الكلام، وقد ثبت أن قذف المحصنات بالزنى الذي هو أبلغ في المعصية من الضحك لا ينقض الوضوء والضحك أولى. ولأن الدخول في الصلاة له تأثير في انتفاء بطلان الطهارة بما كانت تبطل به قبل الدخول فيها كالاستحاضة ومن به سلس البول عندهم، ورؤية الماء للمتيمم عندنا. ولأن كل ما نقض الطهر بنفسه، ثم لم ينقضه قليله لم ينقضه كثيرة كالكلام، وقوله بنفسه احترازاً من النوم. ولأنها حال لا ينتقض الطهر فيها بالكلام فلم ينتقض بالقهقهة أصله خارج الصلاة. [97] مسألة: لا وضوء مما مست النار. خلافاً لبعض الصحابة. لقوله عليه السلام: (لا يتوضأ من طعام أحله الله). وروي (أنه أكل من كتف شاة وصلى ولم يتوضأ). وروي (أن آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار). وهذا نسخ لما تقدمه. ولأن أحدا لم يوجب الوضوء من أكل الخبز وغيره مقيس عليه. [98] (فصل) ولا وضوء من أكل لحوم الإبل. خلافاً لداود وأحمد. لقوله: (لا وضوء من طعام أحله الله). ولأنه مأكول فأشبه الخبز. ولأنه حيوان فلم يجب بأكله الوضوء كالبقر والغنم. ولأن الأكل نوع من الانتفاع

به، فلم يجب به وضوء أصله البيع وغيره. [99] مسألة: إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث ولم يكن ممن يعتريه ذلك كثيراً ففيها روايتان: إحداهما: وجوب الوضوء، والأخرى: استحبابه. فوجه نفي الوجوب أنه شك طرأ على يقين ولم يزل به اليقين أصله إذا تيقن الحدث، وشك في الطهارة. ولأنها طهارة مستحقة للصلاة، فإذا تيقن حصولها لم يلزم فعلها بالشك في حدوث ما يوجبها، أصله إزالة النجاسة ولأن هذا الشك لو وجد في الصلاة لم يعتبر به فكذلك إذا كان خارجها. ووجه الوجوب لأنه غير متيقن في هذه الحالة كونه طاهراً فلزمه الوضوء أصله إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة. ولأن الشك في الحدث له مدخل في وجوب الوضوء كالنوم. [100] مسألة: ويجب الغسل بالإيلاج وإن لم ينزل، خلافاً لداود. لقوله تعالى: {ولا جنبا إلا عابري سبيل} والجنابة مقارفة الجماع. وقوله: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل). وقوله: (إذا لاقى الختان الختان وغابت الحشفة فقد وجب الغسل). ولأن كل حكم تعلق بالإنزال

تعلق بالإيلاج كالحدود وكمال الصداق والإحصان. [101] مسألة: إذا اغتسل الجنب ثم خرج منه بقية الماء فلا غسل عليه، ولا فرق بين أن يخرج قبل البول أو بعده. خلافاً للشافعي حين أوجب إعادة الغسل ولغيره حين فرق بين الأمرين. لما روي أن أم سلمة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة تحتلم هل عليها غسل؟ فقال: أتجد شهوة؟ قالت: نعم. قال: فتغتسل) فهذا تنبيه على العلة وهي اللذة. ولأنه مائع خارج من القبل لم تقترن به الشهوة المخصوصة فلم يكن جنابة كالبول. ولأن كل مائع يوجب الغسل إذا خرج على وجه السلامة. وإذا خرج على خلافها لم يوجبه، أصله دم الاستحاضة سلامته أن يكونحيضاً فيوجب الغسل ومرضهأن يكون استحاضة فلا يوجبه، كذلك المني فإن نوزعنا في هذا أدللنا عليه بأن من عادة السليم الصحيح أن يلتذ بخروج المني كما أن عادته وجود الالتذاذ بكل ما يلتذ بتناوله من المآكل وغيرها، وإذا كان على خلاف ذلك علم أنه لمفارقته حال الصحة. [102] (فصل) اختلف أصحابنا في الوضوء منه على وجهين: أحدهما: الوجوب، والآخر الاستحباب. فوجه الوجوب أن ابتداء خروجه كان على السلامة لأنه يلتذ به وإنما

بقيت في الفرج منه بقية، فلما سقط الغسل منه لعدم اللذة كان أقل أحواله أن يكون كالبول ووجه سقوطه فلأن كل حدث موجبه لا يختلف باختلاف أحوال خروجه كسائر الأحداث. [103] مسألة: إذا أسلم الكافر فعليه الغسل. خلافاً لأكثرهم. (لأمره لقيس بن عاصم لما أسلم بالاغتسال). وروي (أن نصرانيا أسلم وأمره بالاغتسال) وهذا نقل الحكم بسببه. ولأن الكافر جنب لأن جنابته لا تزال عنه حال كفره إذ هو ممن لا تصح منه النية فإذا أسلم لزمه الغسل. [104] مسألة: ومن أحدث ثم أجنب أجزأه الغسل من الوضوء خلافاً للشافعي في بعض أقاويله. لأن الطهارة الصغرى تدخل في الكبرى إذا اجتمعتا أصله إذا سبقت الكبرى. ولأن الطهارتين المتساويتين تتداخلان فكانت الصغرى بأن تدخل في الكبرى أولى.

[105] مسألة: ويجوز أن يتوضأ بفضل المرأة جنباً كانت أو حائضاً خلافاً لأحمد بن حنبل في منعه ذلك إلا إذا كان مشاهداً. لما روي (أن النساء والرجال كانوا يتوضئون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد). وفي حديث ميمونة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من فضل غسلها من الجنابة). وقالت عائشة: (كنت أتوضأ أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد فأقول دع لي). ولأنه ماء فضل عن متوضئ أو مغتسل فأشبه ما يفضل عن الرجل واعتباراً به إذا كان غير مشاهد لها. تم الجزء الأول من كتاب الإشراف *****

باب التيمم

بسم الله الرحمن الرحيم استعنت بالله باب التيمم [106] مسألة: اختلف أصحابنا في حد فرض اليدين في التيمم عند مالك، فمنهم من قال: إلى المرفقين، وهو قول ابن نافع ومذهب أبي حنيفة والشافعي. ومنهم من قال إلى الكوعين وهو قول ابن حبيب. فوجه القول بأنه إلى المرفقين قوله: {وأيديكم إلى المرافق}. والإطلاق يتناول إلى الإبط. ولأنه تعالى لما قيدهما في الوضوء وأطلق في التيمم وجب بناء المطلق على المقيد. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين) فأخبر عن صفة التيمم الشرعي فانتفى بذلك أن يكون ما دونه تيمماً شرعياً. ولأنه ممسوح في التيمم

فوجب أن يكون على حده في الوضوء كالوجه. ولأنهما طهارة عن حدث فوجب دخول المرفقين فيها كالوضوء ووجه القول بأنه إلى الكوعين قوله: (أيديكم) ففيه دليلان: أحدهما: أن الأخذ بأوائل الأسماء واجب كما فعلنا ذلك في الشفقين والأبوين واللمسين والقرءين ومن مسح إلى الكوعين سمي ماسحاً بيديه. والآخر: أنه تعالى فرق بينهما فقيدهما في الوضوء، وأطلقهما في التيمم مكرراً فوجب أن يكون لهذا التكرير فائدة ولا فائدة إلا ما قلناه. وقول عمار: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التيمم وأمرني بضربة للوجه والكفين). وروي أنه عليه السلام قال: (إنما يكفيك ضربة لوجهك وكفيك). وروى القاسم عن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (التيمم ضربة للوجه وضربة للكفين). ولأنه حكم علق على مطلق اسم اليد فلم يتحدد بالمرفقين

أصله القطع. ولأنه عضو نص على حده في الوضوء فوجب أن يكون محل فرضه في بدله المرتب ناقصاً عن محل فرضه في الأصلي دليله الرجلان؛ لأن بدلهما الخفاف ومحل الفرض أعلاهما دون أسفلهما، وقولنا المرتب احترازاً من الجبائر ونص على حده احترازاً من الوجه ونقيس التيمم على الوضوء وعلى التيمم عن الغسل فنقول من حق التيمم أن يكون محل فرض اليدين فيه ناقصاً عن محل فرضهما ومبدله أصله التيمم عن الغسل. [107] مسألة: التيمم جائز بكل ما صعد على الأرض من جنسها من تراب أو جص أو نورة أو رمل أو غير ذلك. خلافاً للشافعي في قوله: لا يجوز إلا بالتراب. لقوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} والصعيد هو الأرض نفسها كان عليها تراب أو لم يكن. قال الزجاج: (لا أعلم اختلافاً بين أهل اللغة في ذلك). وقوله عليه السلام: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا). فأخبر أن نفس ما جعل له مسجدا جعل له طهورا، وذلك ما قلناه. ولأنه من جنس الأرض كالتراب. ولأن الطهر من الحدث يتعلق بمائع وجامد، فالمائع الماء والجامد الأرض، وقد ثبت أن المائع لا يختص التطهير بنوع منه دون نوع بل كل أنواع المياه، فكذلك الأرض. [108] (فصل): وليس من شرط التيمم علوق شيء بالكف. خلافاً

للشافعي. وفائدة هذا: جواز التيمم على الحصى والصخر الذي لا غبار عليه. لقوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} والاسم يتناول الصخر والجبال والأرض التي لا تراب عليها؛ ولأنه لو كان من شرطه تعلق شيء بالكف للزم ذلك في جميع العضو كالماء. [109] (فصل): التيمم جائز على السباخ. خلافاً لمن منعه لعموم الظاهر؛ ولأن اسم الصعيد يقع عليه كالعذب. ولأنه نوع يتطهر به فاستوى عذبه وملحه كالمائع. [110] (فصل):قال ابن القاسم: ومن تيمم على الأرض النجسة أعاد في الوقت. وقال محمد ابن عبدالحكم والشيخ أبوبكر لا يجزيه ويعيد أبدا. ووجه قول ابن القاسم أن الغرض منه الضرب وليس من شرطه علوق شيء بالكف، فالطاهر والنجس يستويان فيه ولأنه يسمى صعيدا كالطاهر. ولأنه لا بد أن يخالطه أجزاء من التراب طاهرة، لأن التراب نفسه طاهر وإنما يتفرق أجزاء النجاسة فيه، وكان المسح المتعبد به هو بالطاهر دون النجس ووجه المنع قوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا}. والطيب هاهنا الطاهر. ولأنها طهارة يستباح بها الصلاة فلم تجز بالنجس كطهارة الماء. ولأنه نوع يتطهر به كالمائع، وابن القاسم بناه على قول مالك من توضأ بماء غير طاهر أنه يعيد في الوقت. قال الأبهري: فتشبيهه غير مستقيم. لأن

الذي قال فيه مالك يعيد في الوقت هو طاهر ليس بنجس، وإنما يستكره استعماله مع وجود غيره. [111] مسألة: إذا عدم الجنب الماء يتيمم كالمحدث. خلافاً لما روي عن عمر وابن مسعود من منع ذلك. لقوله: {أو لامستم النساء} فعم. وقوله عليه السلام: (الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج). وفي حديث عمار أنه أجنب فتمعك في الصعيد ثم أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنما يكفيك هكذا وهكذا) ووصف له التيمم. ولأنه منتقض الطهر عادم للماء كالمحدث. ولأنها طهارة عن حدث فوجب انتقال فرضها عند تعذرها إلى التيمم كالوضوء.

[112] مسألة: إذا نسي أنه جنب فتيمم معتقداً أنه محدث ففيها روايتان:. فوجه الجواز أنهما حدثان موجبهما واحد، وهو التيمم، فوجب إذا نوى أحدهما أن يجزيه عن الآخر. أصله البول والغائط. ولأن المتعين بهذه الطهارة في الموضعين شيء واحد، فوجب إذا أخطأ في التعيين ألا يمنع صحتها، أصله إذا كان عليها غسل من جنابة فنسيت فنوت الحيض. ووجه نفي الأجزاء قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإنما لكل امرئ ما نوى). ولأنه طهر واجب بالجنابة فلم يجز بنية الحدث الأصغر كالغسل. ولأن التيمم أضعف من الغسل فلم تنب فيه نية الأضعف عن نية الأقوى. ولأنهما عبادتان مختلفتان في الأصل وهو الغسل والوضوء فلم تسقط العليا بنية الصغرى، كالصلوات والكفارات. [113] مسألة: إذا نوى بالتيمم استباحة فرض فقدم عليه نفلا لم يجز أن يصلي فرضاً بذلك التيمم في ظاهر قول مالك. ومن أصحابنا من يقول إن هذا على الكراهة وإن فعل أجزأه. فوجه هذا القول: بأن النفل يستباح بهذا التيمم؛ لأنه لو قدم الفرض كان له أن يتنفل به، فتقدمه عليه لا يمنعه، أصله طهارة الماء. ولأنها طهارة يستباح بها الصلاة فجاز أن يتقدم النفل على الفرض فيها كالماء. ولأنهما صلاتان لو قدم إحداهما على الأخرى لجاز أن يصلي الأخرى، فإذا أخر المقدمة أجزأه، أصله إذا نوى استباحة فرضين أو نفلين. ولأنه تيمم استبيح به فرض ونفل، فتقديم إحداهما لا يمنع الإجزاء، أصله إذا قدم الفرض. ووجه المنع أن الأصل في التيمم تعيين الجنس المستباح به من

فرض أو نفل، فإذا نوى به الفرض جاز أن يصلي النفل على طريق التبع، وكذلك يقتضي تقدم الفرض الذي هو المقصود فمتى قدم النفل خرج عن أن يكون تابعاً وصار الفرض تابعاً ولم يجزه. [114] مسألة: وإذا تيمم ثم رأى الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه إن لم يخف الفوات. خلافاً لأبي سلمة. لقوله عليه السلام: (التراب كافيك ما لم تجد الماء فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك). ولأنه معنى يريد لا يراد نفسه فإذا تعين له مبدله قبل التلبس بمقصوده لزمه الانتقال إليه كالحاكم إذا بان له النص قبل الحكم باجتهاده. [115] مسألة: وإذا رأى المتيمم الماء في الصلاة مضى فيها ولم تبطل عليه ولم يلزمه استعماله. خلافاً لأبي حنيفة. لأن حال التلبس للصلاة حال لا يلزمه فيها طلب الماء فلم يلزمه استعماله كما لو وجده بعد الفراغ. ولأنه واجد للماء قبل تقضي حكم الصلاة وبعد التلبس بها أصله إذا وجده بعد قعوده قدر التشهد. ولأن كل صلاة جاز له المضي فيها مع عدم الماء جاز له المضي فيها مع وجوده، أصله صلاة العيدين والجنازة. ولأنه ماء لو وجده قبل الدخول في الصلاة لزمه استعماله فلم يلزمه إذا وجده في الصلاة، أصله سؤر الحمار .. ولأنه ماء لو وجده المتيمم في صلاة العيدين لم يبطل تيممه فكذلك في غيرها، أصله ما ذكرناه. ولأنه دخل في صلاة بطهارة صحيحة له أن يدخل بها فكان وجود الماء وعدمه سواء؛ أصله المتوضئ. ولأنه متيمم دخل في الصلاة بتيمم جائز له فلم تبطل برؤية الماء، أصله إذا وجد دون كفايته. ولأن كل جنس لو وجد القليل منه لم تبطل صلاته فكذلك كثيره، أصله سائر المائعات.

[116] مسألة: وإذا وجده بعد الفراغ فأولى أن لا تبطل صلاته. خلافاً لطاووس. لما روي أن رجلين عدما الماء فتيمما فصليا ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فأتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال للذي لم يعد: أصبت السُنة، وقال للذي أعاد لك أجران). ولأنها صلاة أديت بطهر صحيح فلم يلزم إعادتها، أصله إذا أديت بالوضوء. ولأنه أداها على حسب ما لزمه فوجب إذا تغيرت حاله بعد الفراغ أن لا يلزمه إعادتها، أصله إذا قصر ثم تجددت له نية الإقامة بعد الفراغ، أو كان مريضاً فصلى جالساً، ثم صح بعد الفراغ. ولأن كل طهر لا يجوز إلا مع العذر، فإذا فعل مع العذر وأديت الصلاة لم تعد إذا زال العذر، أصله إذا مسح على الجبائر وصلى ثم صح العضو. [117] مسألة: يكره أن يؤم المتيمم المتوضئين وإن فعلوا أجزأهم. خلافاً لقوم. لما روي أن ابن عباس صلى بعمار وجماعة من الصحابة وهو متيمم وهم متوضئون ولم ينكر أحد من الصحابةولأن كل من جاز له

أن يؤم المتيممين جاز له أن يؤم المتوضئين، أصله المتوضئ. ولأنها طهارة من حدث فجازت الإمامة بها على الإطلاق كالوضوء. [118] مسألة: لا يجوز الجمع بين صلاتي فرض في تيمم واحد. خلافاً لأبي حنيفة. لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم}. والأمر إذا علق بشرط يتكرر بتكراره عند بعض أصحابنا. ولأن كل مكلف جاز له الصلاة بالتيمم لم يجزله أن يجمع بين صلاتي فرض كالمستحاضة. ولأن ذلك مبني على أصلين: أحدهما أن التيمم لا يجوز لصلاة قبل وقتها، والآخر: أن طلب الماء واجب لكل صلاة ولا يجوز التيمم إلا عند إعوازه، وإن ثبت لنا ذلك صح قولنا وإلا نقلنا الكلام. [119] (فصل) لا يجوز التيمم لصلاة قبل دخول وقتها. خلافاً لأبي حنيفة. لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} إلى قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} فأمر العادم للماء أن يتيمم إذا قام إلى الصلاة، والقيام إلى الصلاة لا يكون إلا بعد دخول الوقت، ولأنه تيمم في وقت لا يجوز له فيه فعل المقصود فأشبه المتيمم مع وجود الماء. ولأنه يتيمم للفرض في وقت هو مستغن عن التيمم فأشبه ما ذكرناه. ولأن كل رخصة أبيحت للضرورة والحاجة لم تستبح قبل وجودها كأكل الميتة وتزويج الأمة. [120] مسألة: لا يجوز التيمم إلا بعد طلب الماء وإعوازه،. خلافاً لأبي حنيفة. لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} إلى قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، ففيه دليلان: أحدهما: أن الأمر المطلق بالفعل أمر به وبما لا يتم إلا به، فإذا لم يمكنه غسل أعضائه إلا بعد الطلب لزمه ذلك. والثاني: أن المفهوم من اشتراط عدم الوجود بعد تقدم الأمر بالفعل وجوب الطلب. وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - (أنفذ عليًّا يطلب له الماء). ولأنه بدل عن مبدل

مرتب فوجب أن لا يجوز له الانتقال إلى البدل إلا بعد طلب المبدل، أصله الرقبة في الكفارة وكيفية الطلب تختلف إلا أنه ليس كلامنا فيه. لأن الطهارة بالماء شرط من شروط الصلاة متقدم عليها فإذا أعوزه لزمه الاجتهاد في طلبه كالقبلة إذا أشكلت عليه جهتها. [121] مسألة: يجوز التيمم في كل سفر عدم الماء فيه طال أو قصر. خلافاً لمن قال لا يجب إلا في قدر مسافة القصر. لقوله تعالى: {أو على سفر} فعم. ولأنه شرط في التيمم كالمرض. ولأنه أريد لحرمة الصلاة، وحراسة الوقت، وخوف الفوات وذلك يستوي فيه الطويل من السفر والقصير. [122] مسألة: التيمم لا يرفع الحدث. خلافاً لداود. لقوله عليه السلام لعمروبن العاص: (صليت بأصحابك وأنت جنب). ولأنه إذا وجد الماء توضأ واغتسل للحدث المتقدم ولأن كل ما لا يرفع الحدث مع وجود الماء فكذلك مع عدمه كسائر المائعات. [123] مسألة: المقيم إذا عدم الماء وخاف الفوات تيمم وصلى. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: لا يتيمم إلا أن يكون مريضاً أو محبوساً وتكون الصلاة في وقته. لقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} فعم. وقوله عليه السلام لأبي ذر (الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج) ففيه دليلان: أحدهما: العموم، والآخر:

أنه خرج على سبب، وهو أن أبا ذر كان انتقل إلى الربذة بأهله. ولأنه محدث عادم الماء لزمه فرض الصلاة فلزمه التيمم كالمريض والمسافر. [124] (فصل): ولا إعادة عليه خلافاً للشافعي. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (التراب كافيك) فعم الكفاية بأداء الفرض وبراءة الذمة. ولأنه ممن لزمه فرض التيمم فوجب أن يسقط عنه الفرض كالمسافر، ولأنها صلاة لزم أداؤها بالتيمم. فوجب أن يسقط به الفرض كالوضوء. [125] مسألة: إذا خاف زيادة المرض باستعمال الماء وتأخير البرء فإن له التيمم. خلافاً للشافعي في منعه ذلك فيما دون التلف. لقوله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى} فعم. ولأنه مرض يخاف الضرر باستعمال الماء كالذي يخاف معه التلف. ولأنه بدل في طهارة الحدث للمرض تأثير في جوازه فجاز مع خوف ضرورة بزيادة كالمسح على الجبائر. ولأنها رخصة أبيحت لأجل المرض فلم يعتبر فيها خوف التلف كالحلق في الإحرام، والقعود في غير الصلاة. ولأن حرمة النفس آكد من حرمة المال، وقد ثبت أنه إذا خاف الضرر بشراء الماء لغلاء ثمنه أنه يتيم ولا يلزمه شراؤه، فخوف الضرر في النفس أولى. ولأن حرمة الصلاة آكد من حرمة الطهارة، ثم يجوز له أن يرخص بالقعود خوف زيادة المرض فكانت الطهارة بذلك أولى. [126] مسألة: إذا وجد من الماء دون كفايته تيمم ولم يلزمه استعماله. خلافاً للشافعي. لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} إلى قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} فأمر بالوضوء ونقلنا عند تعذره

إلى التيمم ولم يلزمنا الجمع بينهما. ولأنه ممن يلزمه التيمم عن حدثه فلم يلزمه فعل آخر في أعضاء طهارته، أصله إذا لم يجد شيئاً أصلاً. ولأنه واجد لما لا يكون باستعماله متوضئاً فلم يلزمه استعماله أصله إذا وجد بعض المائعات. ولأن كل مالا يسقط وجوده التيمم فلا يلزم استعماله كسائر المائعات، عكسه قدر الكفاية. ولأن الحدث الواحد لا يوجب تطهير العضو للصلاة الواحدة مرتين، أصله في الطهارة الواحدة. ولأن كل من لزمته طهارة من حدث لم يلزمه فعل أخرى ولا شيء منها، أصله المتوضئ. ولأنهما طهارتان عن حدث فلزوم إحداهما ينفي لزوم الأخرى أصله الوضوء والغسل. ولأنها طهارة عن حدث فإذا عجز عما يفعل به جميعها لم يلزمه فعل بعضها، أصله التيمم. ولأنه فرض له بدل فعدم بعضه كعدم جميعه، أصله كفارة الظهار والقتل. ولأن البدل والمبدل لا يجتمعان في الأصول ولا في البعض كالواجد لبعض الرقبة وإذا لبس خفاً واحدة. [127] مسألة: إذا لم يجد ماء ولا صعيداً قال ابن القاسم: يصلي ويعيد. وقال أشهب لا يعيد وقال أصبغ: لا يصلي وإن خرج الوقت إلا بوضوء أو تيمم. ثم هل يقضي إن وجده؟ فمن أصحابنا من يقول يقضي ومنهم من يقول لا قضاء عليه. وعند أبي حنيفة أن الصلاة تحرم في الحال مثل قول أصبغ. وعند الشافعي أنه لا يصلي مثل قول أشهب، إلا أنه اختلف قوله في الصلاة في الحال هل هي استحباب؟ أم إيجاب؟ فوجه قول ابن القاسم وأشهب أنه يصلي لقوله تعالى: {أقيموا

الصلاة} فعم كل حال. ولأنه مكلف أدرك فرض الوقت فلم يجزله أن يخليه من إقامة فرضه كالواجد، ولا يدخل عليه الحائض لأنها أدركت وقت الفرض لا فرض الوقت. ولأن كل ما لو وجده لزمه أن يتطهر به فإذا عدمه جاز أن يصلي مع عدمه أصله الماء. ولأن الطهارة والصلاة عبادتان فالعجز عن إحداهما لا يسقط عنه الأخرى كالصوم والصلاة. ووجه القول بأنه لا تصح منه الصلاة قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة} إلى قوله: {حتى تغتسلوا} إلى قوله: {فتيمموا}. فمنع قربان الصلاة إلا بوضوء أو تيمم. وقوله عليه السلام: (لا يقبل الله الصلاة بغير طهر).وإذا لم يقبل لم يصح فعلها وقوله: (لا صلاة لمن لا وضوء له). ولأنه لم يفعل طهارة من حدث كالواجد. ولأنها مفعولة بغير طهارة كصلاة الحائض. ولأنه معنى شرط في كون الفعل صلاة على الإطلاق فعدم فعله مانع من شروطه؛ أصله الإسلام والنية، وإذا كان واجداً للماء ولا تلزم عليه القراءة؛ لأنها لا تلزم في حق المأموم ولا الأمي ونحن قلنا على الإطلاق. وأما وجوب القضاء فلأن العجز عن شرط من شروط الصلاة لا يمنع الوجوب، أصله العجز عن القراءة. ولأن تعذر الأداء لا ينفي الوجوب مع عدم المشقة، أصله الصوم للحائض، ووجه سقوط القضاء فلأن كل من سقط عنه تكليف فعل الصلاة سقط

عنه قضاؤها كالحائض والمغمى عليه. ولأن كل شرط كان عدمه مؤثراً في وجوب الأداء كان مؤثراً في سقوط القضاء كالحيض. ووجه قول ابن القاسم أن عليه الإعادة أنها صلاة أديت بغير طهور فلم تبرأ الذمة منها كالواجد. ولأن وجود الأداء لا يوجب سقوط المؤدى عن الذمة كترك بعض الصلاة مع الإمام أنه يتبعه ويعيد ما صلى معه. ووجه قول أشهب لا إعادة عليه فلأنها صلاة واجب أداؤها فأداها على حسب إمكانه فيسقط بها الفرض عنه أصله إذا أداها بطهارة. ولأن كل ما لو قدر عليه لم يجز له الصلاة بغيره فإذا عجز عنه ولزمه أداء الصلاة أجزأته منه أصله العجز عن استقبال القبلة في المسايفة. ولأن إيجاب القضاء مع الإتيان بالأصل يؤدي إلى إيجاب طهرين في يوم واحد وذلك ممنوع. [128] مسألة: الحاضر إذا خاف فوت الجنازة والعيدين لم يكن له أن يتيمم. خلافاً لأبي حنيفة. لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} فعم. وقوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}. وهذا واجد. ولأنه واجد للماء لا يخاف باستعمالهوشرابه ضرراً ولا فوات متعين عليه، فلم يجز له أن يصلي بالتيمم، أصله سائر الصلوات. ولأن كل ما لم يكن طهارة لغير الجنازة والعيدين لم يكن طهارة لهما كالتيمم مع وجود الماء وأمن الفوات. ولأن كل من لم يجز له أن يصلي على غير الجنازة والعيدين لم يجز له أن يصليها، أصله المحدث، عكسه المتطهر. ولأن كل ما لا يصح إلا بطهارة فلا يصح بالتيمم مع القدرة على الماء كسائر الصلوات. ولأن كل صلاة لم يجز التيمم لها مع وجود الماء والأمن من فواتها فلم يجز له ذلك مع خوف فواتها، أصله الجمعة. ولأن الجمعة آكد من

الجنازة؛ لأنها من فروض الأعيان والجنائز من فروض الكفايات ثم خوف فواتها لا يسوغ التيمم لها فالجنازة أولى. [129] مسألة: إذا لم يغلب على ظن المسافر الرجاء للماء ولا اليأس منه فالمستحب له أن يتيمم وسط الوقت. خلافاً لأبي حنيفة في قوله إن الأفضل تأخيره إلى آخر الوقت. وللشافعي إن الأفضل أول الوقت. لأن فضيلة أداء الصلاة بطهارة الماء أقوى وآكد من فضيلة تقديمها أول الوقت بالتيمم، لأن هذه الفضيلة شرط مع عدم القدرة يعصي بتركها، فكان آكد مما لا يعصي بتركها وهو أول الوقت فكان لذلك أولى بالتقديم ولأنه فضيلة لأول الوقت على آخره فيما يرجع إلى الأداء لأن الأداء على حد واحد، وفي الأداء بطهارة الوضوء فضيلة ترجع إلى نفس الصلاة، وهو أن الصلاة المفعولة مع ارتفاع الحدث أفضل فكان أداؤها على الوجه الكامل أولى. ولأن قوة الرجاء تقتضي التأخير، وقوة الإياس تقتضي التقديم فوجب أن يكون توسطها يقتضي وسط الوقت لأخذه قسطاً منها. [130] مسألة: إذا نسي الماء في رحله وتيمم فروى المصريون أنه يجزيه، وروى المدنيون أنه لا يجزيه. وإذا قلنا إنه يجزيه لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وهذا غير واجد. ولقوله عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان). ولأن النسيان عذر حال

المسح على الجبائر

بينه وبين استعمال الماء كما لو وجده ولم يصل إليه لخوف سبع أو عدو. وإذا قلنا لا يجزيه فلقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}. فأباح التيمم عند عدمه، وهذا واجد له. ولأنه أوجب الطلب، وجوز التيمم بعد العدم، وهذا لم يطلبه فوجب أن لا يجزيه. ولأنه بدل عن مبدل لو كان عالماً به قادراً على مبدله لم يعتد به فوجب إذا كان ناسياً ألا يعتد به، أصله إذا نسي أنه قادر على الرقبة فصام، وإذا برأ العضو فمسح على العصابة ولم يعلم. ولأنه أمر يتعلق بغير ما يتطهر به فوجب أن يكون الناسي والعامد فيه سواء، أصله إذا تطهر بماء نجس ناسياً فإنه لا يجزيه ولأنه كالحاكمالمنفذ للحكم باجتهاده مع نص قد نسيه ولأن النسيان ليس بعذر في انتقال عن طهارة حدث إلى طهارة أصله إذا مسح على الخفين ناسياً لإدخال رجليه طاهرة. [المسح على الجبائر]: [131] مسألة: ويمسح على الجبائر والعصائب إذا خيف الضرر بمباشرة العضو بالماء. خلافاً لمن منعه. لحديث علي قال: (انكسر أحد زندي فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: (امسح على الجبائر). ولأن خوف الضرر يجوز معه الانتقال إلى البدل في الطهارة كالتيمم. ولأن المسح على الخفين لما جاز لضرر من الضرورة، وكانت مسألتنا أشد وأبلغ كانت بالجواز أولى. [132] مسألة: ويلزم تعميم ما ستر منها من موضع الفرض من العضو. خلافاً للشافعية في قولهم يجزيه ما يقع عليه الاسم. لأنه بدل في الطهارة لا يجوز الانتقال إليه مع القدرة على مبدله فكان الفرض جميعه، أصله التيمم وبهذا فارق الخف.

تعمد إراقة الماء

[133] مسألة: وسواء شد العضو على طهر أو حدث. خلافاً للشافعي. لقوله عليه السلام: (وامسح على الجبائر) ولم يفرق. ولأنه يخاف الضرر بإيصال الماء إلى العضو دليله إذا شدها على طهر والخف بخلاف ذلك؛ لأنه لا يخاف منه من الضرر ما يخاف من الجبائر. ولأنه سبب جاز معه الانتقال إلى بدل في الطهارة لا يجوز مع عدمه فلم يكن من شرطه وجوبه على طهر، أصله المرض الذي يجوز معه التيمم. [134] مسألة: إذا خاف الضرر الذي هو التلف أو زيادة المرض غسل الصحيح من أعضاء وضوئه ومسح على العضو الكسير ولم يلزمه التيمم مع ذلك. خلافاً للشافعي. لقوله عليه السلام: (امسح على الجبائر) ولم يأمره بالتيمم وهذا كالنص لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ولأنه مسح على حائل دون عضو من أعضاء الوضوء فلم يجب التيمم معه، أصله المسح على الخف. ولأن المسح على الجبيرة بدل والتيمم بدل واجتماع بدلين في عضو خلاف الأصول. ولأنه حصل متوضئاً فأشبه أن يباشر الأعضاء بالماء. [135] مسألة: إذا مسح على العصائب وصلى ثم برأ العضو لم يعد. خلافاً للشافعي. لقوله عليه السلام: (امسح على الجبائر) ولم يأمره بالإعادة. ولأنه مسح على حائل دون عضو من أعضاء الوضوء فسقط به الوضوء، أصله المسح على الخف. ولأنها طهارة من حدث كالتيمم. ولأن التغليظ مع عدم الضرورة آكد منه في الضرورة اعتباراً بالأصول وقد ثبت أن المسح على الخف يسقط به الفرض مع نقصان ضرورته عن مسألتنا فكان في مسألتنا أولى. [تعمد إراقة الماء والتيمم]: [136] مسألة: إذا دخل عليه وقت الصلاة ومعه ما يكفيه لوضوئه

باب في أحكام المياه والأعيان

فأراقه ولم يجد غيره فإنه عاص بذلك، ويتيمم، ويصلي، ولا إعادة عليه واجبة. خلافاً لأحد وجهي أصحاب الشافعي. لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وهذا غير واجد. ولأنه يتيمم وهو غير قادر على استعمال الماء كما لو أراقه قبل دخول الوقت. باب [في أحكام المياه والأعيان]: [الماء المستعمل في الطهارة]: [137] مسألة: الماء المستعمل في طهارة الحدث طاهر مطهر إلا أنه يكره استعماله مع وجود غيره. وقال أصبغ: طاهر غير مطهر، وقيل إنها رواية عن مالك والمذهب هو الأول. وعند أبي حنيفة والشافعي أنه طاهر غير مطهر. وعند أبي حنيفة رواية أنه نجس وهو قول أبي يوسف. فدليلنا على طهارته قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} وقوله عليه السلام: (الماء لا ينجسه شيء). وقوله: (لا ينجس الماء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه). وحديث جابر قال: (دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب علي من وضوئه). وهذا من أوضح دليل على طهارته. ولأنه لم يلاق نجساً كالذي يُغْسَلُ به ثوبٌ. [138] (فصل): ودليلنا على أنه مطهر قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} فهذه من أبنية المبالغة، وقد بينا أنه يفيد تكرار ما وجدت منه المبالغة. وقوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} ولم يقيد. وروي أن بعض أزواجه - صلى الله عليه وسلم - اغتسلت في جفنة فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليغتسل منها أو ليتوضأ فقالت: إني كنت جنباً، فقال: (إن الماء لا يجنب) وروي (لا جنابة عليه). وهذا كالنص لأنه أخبرنا أن حكم الجنابة لا تلحقه. ولأن أوصافه باقية على ما كانت عليه كالذي لم يستعمل، ولأن كل استعمال لم ينقل الماء عن صفاته، فإنه لا يؤثر في تطهيره، أصله إذا غُسِلَ به ثوب. ولأنها عين استعمالها شرط في أداء فرض، فوجب أن لا يمنع استعمالها ثانية فيه كستر العورة ولا يدخل عليه العتق لأنه ليس باستعمال. ولأنه مطلق بدليل بقاء أوصافه فلا يؤثر في إطلاقه، كنقله من إناء إلى إناء، وإذا ثبت أنه مطلق جاز التطهير به.

طهارة عين الحيوان وسؤره

[طهارة عين الحيوان وسؤره]: [139] مسألة: كل الحيوان طاهر العين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه. خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في قولهما إن الكلب والخنزير نجسان، وفي قول أبي حنيفة: إن سائر السباع التي لا يؤكل لحمها نجسة، إلا أن الكلام يفرض في طهارة الكلب. [140] مسألة: ودليلنا عليه أنه حي والحياة ينافي التنجيس كسائر الحيوان. ويدل على طهارة سؤره قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} ولم يأمر بغسل موضع الإصابة. وقوله عليه السلام وقد سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها الكلاب والسباع (لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور) ولأنه سؤر حيوان كالشاة. ويدل على أن غسل الإناء من ولوغه، تعبد، فنقول لأنه غسل أمر به مقيداً بعدد فدل أنه للعبادة دون النجاسة كالوضوء. ولأن للتراب مدخلاً فيه، وكل معنى أمر فيه بالماء وحصل للتراب مدخلاً فيه، فإنه للعبادة لا للنجاسة؛ كطهارة الحدث وغسل. وينبني الكلام على صحة ملكه فنقول: لأنه حيوان يصح إجارته فصح ملكه كالفرس والشاة، ولا ينتقض بالحر وأم الولد، لأن جنس الآدميين يصح ملكهم. ولأن الوصية به عند الشافعي تصح وكل حيوان صحت الوصية به كان طاهراً، أصله ما ذكرناه. ولأن النجس لا تجوز الوصية به كالخمر وغيره.

[141] مسألة: يغسل الإناء من ولوغه سبعاً خلافاً لأبي حنيفة في قوله ثلاثاً. لقوله عليه السلام: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً). ولأنه قد ثبت بما ذكرناه أن غسله تعبد وهذا مبني عليه. [142] مسألة: يغسل الإناء من ولوغه في الماء، فأما في غيره من الأشربة والأطعمة ففيها روايتان. فوجه قوله أنه يغسل: عموم الخبر واعتباراً بالماء ووجه قوله: لا يغسل أن الخبر وارد في الماء، والعبادة التي لا يعقل معناها لا يجوز القياس عليها. ولأن ذلك لما لا يؤمن من إصابة النجس اللبن ولوغه. فاختص الماء بذلك لخفة أمره وأنه ليس فيه إضاعة المال وسائر المائعات خلافه. [143] مسألة: واختلف أصحابنا في غسل الإناء هل هو واجب أو مستحب؟ فوجه الوجوب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فاغسلوه سبعاً). والأمر على الوجوب. ووجه الاستحباب أنه طاهر وإنما أمر بذلك تغليظاً للمنع من اقتنائه. [144] مسألة: إذا أدخل يده في الإناء لم يغسل سبعا. خلافاً للشافعي لأن الخبر وارد في الولوغ على طريق العبادة ولا يقاس عليه غيره، واعتباراً بسائر الحيوان. [145] مسألة: إذا توضأ بماء ولغ فيه الكلب ففي استحباب إعادة الصلاة في الوقت روايتان: فوجه إثباته اعتباره بالماء القليل تقع فيه النجاسة فلا تغيره. ووجه نفيه أن نجاسة الكلب مختلف فيها فلم تجر مجرى ما يتفق على نجاسته.

[146] مسألة: في غسل الإناء من ولوغ الخنزير روايتان: فوجه إثباته اعتباره بالكلب بعلة منع اتخاذه. ولأن الخنزير في المنع أبلغ من الكلب؛ لأن الكلب ينتفع به على وجه، ويجوز اتخاذه على وجه في ذلك النوع. والخنزير لا يجوز اتخاذه بوجه، فكان أولى بذلك. ووجه نفيه أن الخبر ورد على سبيل التغليظ لينتهوا عن اقتنائه لاعتيادهم ذلك وإلفهم إياه ولم يكن من عادتهم اقتناء الخنازير فلم يحتاجوا إلى زجر على ذلك. [147] مسألة: ما لا نفس له سائلة كالعقرب، والخنفس، والصرار، وما أشبه ذلك لا ينجس بالموت، ولا ينجس ما مات فيه. من ماء أو مائع. خلافاً للشافعي. لقوله عليه السلام: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فاغمسوه فيه) ومعلوم أنه يموت بغمسه لا سيما إذا كان عسلاً أو طعاماً حاراً. وقوله: (يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها نفس سائلة فماتت فيه فهو الحلال أكله وشرابه والوضوء منه). وهذا نص. ولأنه حيوان لا دم له كالجراد. ولأن العسل لا يخلو من ذباب النحل الذي يموت فيه مع الإجماع على جواز أكله، وكذلك الباقلاء مجمع على طهارة مائه، مع العلم ضرورة والعادة بأنه لابد أن تموت فيه من دوابه، ولأنهم قد

وافقونا على أن ما تولد منه لم ينجسه إذا مات فيه كدود الخل. ونقول: لأنه حيوان لا دم له مات في مائع فلم ينجسه أصله إذا تولد منه. [148] مسألة: الوضوء بفضل الهر مباح غير مكروه. خلافاً لمن كرهه. لأنه - صلى الله عليه وسلم - أصغى لها الإناء حتى شربت منه). ولأنه روي عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ من إناء شربت منه هرة). ولأن ملاقاتها للنجاسات تقل بخلاف الكلب وغيره. [149] مسألة: أسآر السباع مكروهة غير نجسة كالسبع والذئب ونحوهما. وأما أسآر الحمير والبغال فطاهرة غير مكروهة. وقال أبو حنيفة أسآر السباع نجسة وسؤر البغال والحمير مشكوك فيه. وهذه المسألة لا تخرج على قولنا؛ لأنه فرع لأصلين غير مسلمين أحدهما: نجاسة بعض الحيوان، والآخر: إن الماء ينجس من غير تغير بالنجاسة، وذلك بخلاف أصولنا إلا أنا ندل بدليل تختص المسألة به، وهو ما روي أنه عليه السلام سئل أيتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال نعم وبما أفضلت السباع كلها). وروي أنه عليه السلام ورد على حوض فقيل له إن السباع تلغ فيه فقال: (لها ما أخذت في بطونها ولنا ما غبر شراب

الماء النجس

وطهور). ولأنه حيوان فكان سؤره طاهراً أصله ما يؤكل لحمه. [الماء النجس]: [150] مسألة: لا ينجس الماء إلا بتغير أحد صفاته من نجس يخالطه قليلاً كان أو كثيراً. خلافاً لأبي حنيفة في قوله إن كل ما حلته نجاسة فهو ينجس. تغير بها أو لم يتغير. وللشافعي في تحديده بالقلتين. لقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} وقوله: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} وقوله عليه السلام: (الماء لا ينجسه شيء). وقوله: (خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه). ولأنه خالطه ما لم يغيره ولم ينقله، أصله كالطهارات، ولأنه ماء لم يتغير من نجس فأشبه إذا لم يتحرك جنباته، ولأنا نعلم أن البحار والأنهار لا تخلو من نجاسة تقع فيها، وما قالوه يؤدي إلى أن تكون كل المياه نجسة حتى لا يوجد طاهر بوجه؛ لأنه إذا نجس الماء الذي وقعت فيه النجاسة فيجب نجاسة ما جاوره كذلك أبداً وهذا فاسد. ودليلنا على الشافعي ما قدمناه. ولأنه ماء لم تغيره النجاسة كالقلتين. ولأن كل عين اعتبر في تأثيرها في الماء يعتبرها لم يعتبر بمجرد مخالطتها له، أصله ما يسلبه حكم التطهير فقط كالزعفران والعصفر. ولأن النجس معنى يؤثر في سلب الماء التطهير به فوجب أن يراعى في ذلك تغيره به دون مجرد مخالطته، أصله ما ذكرناه ولأنها مخالطة نجاسة لم تغير الماء

ولم ينجس بها أصله ورود الماء على النجاسة. ولأن كل معنى لم ينجس به ورود الماء على النجاسة لم ينجس به الماء إذا وردت النجاسة عليه أصله اختلاف الأماكن والأواني. [151] مسألة: وغسالة النجاسة طاهرة إذا لم تتغير أوصاف الماء. وهو أحد قولي الشافعي، وفيه قول آخر أنها نجسة. ودليلنا: أنها لو كانت نجسة لكانت قبل انفصالها عن المحل نجسة؛ لأن بعد انفصالها لم يحدث فيها ما يقتضي تنجيساً ولو كانت قبل انفصالها نجسة لكان المحل بها نجساً فامتنع وقوع التطهير بها، وفي الاتفاق على أن المحل النجس يطهر بغسل الماء دليل على بطلان ذلك. ولأنه ماء ورد على مانع من الصلاة فلم ينقله عن حكمه مع بقاء أوصافه كالمستعمل في طهارة الحدث. [152] مسألة: إذا كان له ماءان: إناء أحدهما نجس، والآخر طاهر وهو شاك في عين النجس، ويتصور ذلك في أن يكونا متغيرين تغيراً واحداً من شيء طاهر والآخر من شيء نجس واختلف أصحاب مالك في ذلك على أربعة مذاهب: قال عبدالملك يتوضأ بأحدهما ويصلي ثم يتوضأ بالآخر ويصلي وقال محمد بن مسلمة يتوضأ بأحدهما ويصلي ثم يغسل أعضاءه من الآخر ثم يتوضأ منه ويصلي، وهذا يقرب من قول عبدالملك ولسحنون فيها قولان: أحدهما مثل قول عبدالملك والآخر أنه يتيمم ويدعهما. وزعم أصحاب الشافعي أنه قول المزني. وقال ابن المواز: يتحرى أحدهما ويتوضأ به ويجزيه، كما يتحرى القبلة إذا

خفيت عليه الدلائل، وكذلك ما زاد على الإناءين، وإلى هذا ذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجوز التحري في الإناءين، ويجوز فيما زاد عليهما. فأشبه مذاهب أصحابنا مذهب مالك، وأليقها بأصولها قول محمد بن مسلمة. وتجب البداية بالكلام في ثبوت التحري؛ لأن ما عداه فرع عليه، فإذا قلنا: إنه ثابت فوجهه أن الطهارة عبادة تؤدى تارة بيقين، وتارة بظاهر فجاز دخول التحري فيه عند الاشتباه. أصله الغاؤه اليقين عند كونه معايناً لها، والظاهر هو أن يكون في بعض البلدان أو القرى فيصلي إلى القبلة المرسومة هناك بالظاهر، فأما اليقين في أداء الطهارة بالماء: فمثل أن يتوضأ من دجلة نفسها أو البحر أو ماء المطر، والظاهر هو: أن يرى ماء متغيراً لا يدري مم تغيره، فإن الأصل الطهارة، ولأن في القول بنفي التحري إلزامه صلاتين والواجب عليه واحدة، ووجه القول بأنه لا يتحرى: أن التحري إنما يحتاج إليه في الموضع الذي لا يوصل إلى اليقين؛ لأنه إذا صلى متوضياً بكل واحد من الإناءين فقد أدى الصلاة بيقين؛ لأن أحدهما إن كان نجساً فالصلاة به ساقطة والمعتد به الإناء الآخر، ويفارق القبلة لأنه لا يصلي إلى اليقين فيها مع الغيبة بل إلى الظاهر والاجتهاد، ولأن عليها أمارات، وعلامات بخلاف الماء. ولأنه قد ثبت أن أحد الإناءين إذا كان نجساً نجاسة أصلية مثل أن يكون خمراً أو بولاً فإنه لا يتحرى والعلة فيه أنه تحر لإناء نجس من طاهر فكذلك في مسألتنا، هذا على قول أصحاب الشافعي، فأما على قول ابن المواز فيجوز أن يقال يتحرى، لأن البول والخمر وغيرهما من النجاسة الأصلية له دلائل وأمارات تعرف بها كالقبلة.

ووجه قول عبدالملك أنه يتوضأ بأحدهما ثم يصلي، ثم يتوضأ بالآخر، فيصلي، فلأن في ذلك ما يوصل إلى أداء الصلاة بيقين لأنه يتيقن أن أحدهما طاهر لا محالة، فلا يجوز له أن يصلي بأحدهما، لأنه يشك هل الذي توضأ به هو الطاهر، أو النجس، فإذا صلى بكل واحد منهما تيقن أنه صلى بالطاهر لا محالة، ولأنه أمر يتعلق بأداء الصلاة اشتبه عليه، وله طريق يوصله إلى اليقين فيه فلزمه، كما لو نسي صلاة واحدة لا يدري أي صلاة هي، فلزمه أن يصلي صلاة يوم وليلة ولم يلزمه أن يتحرى إذا كان مع التحري لا يصل إلى اليقين، وبأداء صلاة يوم وليلة يصل إلى اليقين كذلك في مسألتنا وقد بينا أن قول محمد ابن مسلمة مثل قول عبدالملك إلا أنه يزيد عليه بغسل أعضائه قبل وضوئه. ووجه ذلك أنه لما كان جائزاً أن يكون الأول هو النجس كان إذا توضأ من الثاني قبل غسل أعضائه من الأول يمكن أن تكون النجاسة باقية إلا أنه إن لم يفعل جاز له لأنه ليس بمتحقق. ووجه قول سحنون يتيمم، ولا يستعمل واحداً منهما أن التحري لا يؤدي إلى سقوط الفرض بيقين، وإن توضأ بغير تحر لزمه صلاتان، وذلك خلاف الواجب فلم يبق إلا العدول إلى التيمم، قال القاضي: وهذا أضعف الأقاويل لأنه يلزمه عليه إذا نسي صلاة وجهلها. ودليلنا على أبي حنيفة في منعه التحري فيما زاد على الإناءين اعتبارهما بالإناءين. ولأن كل عدد جاز التحري فيه من الثياب جاز في الأواني أصله الثلاثة ولأن التحري في الإناءين أمكن منه في الثلاثة وكان أولى. ولأن التحري في القبلة جائز بل واجب وإن كان الإشكال في وجهين أو ثلاث جهات، وكذلك الأواني، على أن الكلام في المسألة ضرب من التكلف؛ لأن النجاسة لا تؤثر في الماء إلا بالتغيير وإنما يتصور في الموضع الذي ذكرناه والله أعلم.

باب في الاغتسالات المسنونة

باب [في الاغتسالات المسنونة] [غسل الجمعة]: [153] مسألة: غسل الجمعة سنة مؤكدة. خلافاً لمن ذهب إلى وجوبه. لقوله عليه السلام: (من جاء إلى الجمعة فتوضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل). ولأنه غسل لأمر مستقبل كالإحرام. ولأنه غسل ليوم عيد فأشبه غسل العيد. ولأنه مقصود به التنظيف وإزالة الرائحة فأشبه التطيب. [154] مسألة: ومن شرط سنته أن يتعقبه الرواح ولا يتراخى ما بينهما تراخياً شديداً. وقال ابن وهب يجوز أن يغتسل عقيب طلوع الفجر الثاني؛ ويروح عند الزوال وهو قول أبي حنيفة والشافعي. فدليلنا قوله عليه السلام: (إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل). فعلقه بالرواح فوجب أن يتعلق به، لأنه أريد به التنظيف وإزالة الروائح وحضور الجمعة بذلك فينبغي أن يكون عند الرواح ليبقى عليه آثاره. [155] مسألة: إذا اغتسل فنوى الجمعة ناسياً لجنابته فقيل تجزيه وقيل لا تجزيه. فوجه الإجزاء: أن نيته به الجمعة يتضمن الجنابة؛ لأن

الغسل من تغسيل الميت

[غسل] الجمعة فضيلة فلا يثبت إلا بعد الإجزاء. ووجه نفيه: أنه نوى به ما ليس الغسل من سنته، كما لو نوى به كتبه العلم. ولأنه قصد به الفضيلة دون الإجزاء فأشبه أن يتوضأ مجدداً، ثم يذكر أنه كان محدثاً، وهذا أيضاً لأصحابنا فيه وجهان. [الغسل من تغسيل الميت]: [156] مسألة: الغسل من تغسيل الميت مستحب وليس بواجب. خلافاً لمن أوجبه. لقوله عليه السلام: (الماء من الماء). ولأنه تغسيل فلم يجب منه اغتسال كغسل الثوب. ولأنه لو غسل الحي لم يجب أن يغتسل مع تأكد حرمته على الميت فكان تغسيل الميت أولى. * باب الحيض [157] مسألة: ومن وطئ حائضاً أثم ولا كفارة عليه. خلافاً للشافعي في قوله القديم إن عليه نصف دينار ولغيره في قوله دينار. لأنه وطء منع منه لحرمة عبادة فلم تجب به كفارة كوطء المسبية قبل استبرائها. ولأنه وطء يمنع لأجل الأذى، كالوطء في الموضع المكروه. [158] مسألة: أقل الحيض دفعة من الدم. خلافاً لأبي حنيفة في قوله ثلاثة أيام. وللشافعي يوم وليلة. لقوله تعالى: {ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} ففيه دليلان: أحدهما: اقتصاره في الجواب على سؤالهم على الإخبار بأنه أذى وذلك

يقتضي أن كل أذى هو حيض إلا ما قام عليه الدليل. والآخر: أنه علق الأمر باعتزالهن بشرط كونهن حُيَّضاً فيجب أن يكون هناك طريق يعلم به كون الدم حيضاً قبل تقضي وقته ليصح لنا الاعتزال في جميعه، ولو كان لا يعلم إلا بعد مضي ثلاثة أيام أو يوم وليلة لكان الأمر باعتزالهن مشروطا بما لا طريق إلى العلم بحصوله إلا بعد مضي مدة أيام تقضيه وذلك باطل. وقوله عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش: (إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي) فجعل العلامة على كونه حيضاً أن يعرف بلونه ولم يعلقه بمدة محصورة. ولأنه لا خلاف أن المبتدأة تترك الصلاة عند رؤية أول دم تراه فلولا أن ذلك حيض لم يجز لها ترك الصلاة الثابتة عليها بيقين بشيء تشك هل هو المؤثر في ترك الصلاة أو غيره؛ لأن ذلك إضاعتها وترك الاحتياط لها. ولأنها دم يسقط به فرض الصلاة فلم يكن لأقله حد محصور كالنفاس. ولأنه مدة لو زاد الدم عليها لكان حيضاً فوجب أن يكون وجوده فيها حيضاً كالثلاثة أو اليوم والليلة. [159] مسألة: وأكثره خمسة عشر يوماً. خلافاً لأبي حنيفة في قوله عشرة أيام. لقوله تعالى: {قل هو أذى} وذلك يوجب أن كل دم إذا خرج من الفرج حيض إلا ما قام دليله. وقوله عليه السلام: (دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة) فأمرها بترك الصلاة عند

رؤية الدم الموصوف ولم يقيده بزمان فوجب مراعاة تلك الصفة أبداً ما لم يمنع دليل. وقوله: (إنكن ناقصات عقل ودين تمكث إحداكن شطر عمرها) وروي (نصف عمرها لا تصلي) فسوى بين ما يصلى فيه وبين ما لا يصلى فيه وجعله شطرين وذلك يقتضي ثبوته أكثر من عشرة أيام. ولأنه دم يمنع فرض الصلاة وفعل الصوم وجواز الوطء، فجاز أن يزيد على عشرة أيام كالنفاس، ونبني الكلام على أن أقل الطهر خمسة عشر يوماً فنقول: كل أيام من أيام الدم أبقت لأقل الطهر وقتاً من الشهر جاز أن يكون حيضاً، أصله العشرة فما دونها عكسه ما زاد على الخمسة عشر. [160] مسألة: لا حد لأقل النفاس. خلافاً لأبي يوسف في قوله أحد عشر يوماً. لأن المرجع في ذلك إلى العادة والوجود وقد وجد كثير من النساء ينفسن الدفعة والساعة، فوجب الحكم بكونه نفاساً. وروي أن امرأة ولدت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تر دماً فسميت ذات الجفاف. ولأنه دم خارج من الفرج في أيام النفاس فوجب أن يكون نفاساً، أصله إذا بلغ أحد عشر يوماً.

[161] مسألة: وفي أكثره روايتان: إحداهما: أنه لا حد له، وأنها تجلس أقصى ما يجلس النساء وترجع في ذلك إلى أهل العلم والخبرة منهن. والأخرى أن حده ستون يوما، خلافاً لأبي حنيفة في قوله أربعون يوماً، فوجه الأولى أن العادة في هذا الباب أصل يرجع إليه، ويعول عليه، والنساء يعرفن ذلك، ويفرقن بين ما هو منه وما ليس منه، فيرجع فيه إليهن يدل على هذه الجملة قوله عز وجل: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} فجعلهن مؤتمنات على ما يخبرن به من ذلك. وقوله عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش وقالت له: إن الدم قد غلبني فما أطهر أفأدع الصلاة؟ وذلك لخروجه عن عادتها وإنكارها دوامه بها، فقال عليه السلام: (إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغتسلي). فوكلها إلى علمها، ومعرفتها، ولم يعلقه بحد. وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رفع إليه أن امرأة تزوجها رجل بعد انقضاء عدتها من زوج كان لها، فولدت عنده لأربعة أشهر ونصف ولداً تاماً فأرسل عمر - رضي الله عنه - إلى نساء من نساء الجاهلية فسألهن عن أمرها). والحديث معروف وموضع التعلق رجوع عمر - رضي الله عنه - إلى استخبار النساء اللاتي لهن علم بهذا الشأن وخبرة بخصائصه وتقدم وتجربة فيه وحكم بما أخبرنه به.

وكذلك رجوع عليٍّ إلى ما أخبرن به لما قال شريح في المعتدة، تدعي أنها حاضت ثلاث حيض في شهر: إن شهد نساء من نساء قومها فَصَوبه عَلِيّ في ذلك. ووجه القول: بأنه ستون يوماً خلافاً لأبي حنيفة، لأن ذلك قد وجد فاعتيد وجوده بإخبار جماعة من النساء بأنهن يحسبنه فكانت مدة نفاس كالأربعين. ولأنه دم يمنع الصوم والصلاة والوطء فجاز أن يكون أكثره أكثر من عادته في النساء كدم الحيض. ولأن كل دم ثبت كونه نفاساً باتفاق جاز أن يزاد عليه مثل نصفه، أصله العشرون. [162] مسألة: واختلف في أقل الطهر الفاصل بين الحيضتين، فروى ابن القاسم نفي التحديد فيه وأنه أقل ما يكون مثله طهراً في العادة، وروى عبد الملك خمسة أيام، وقال سحنون ثمانية أيام، وقال غيره عشرة أيام. وقال محمد بن مسلمة خمسة عشر يوماً، وهو الذي يعول عليه أصحابنا البغداديون. فوجه الأول وهو نفي التحديد أنه لم يثبت في ذلك. حد بتوقيف فوجب الرجوع إلى عادة النساء. ووجه القول أنه خمسة أيام أن ذلك قد وجد عادة مستمرة، وذكر أحمد ابن المعذل عن عبد الملك بن الماجشون، أنه قد عرف بالتجربة من جمل من النساء كثيرة لا من واحدة ولا اثنتين، وأما الثمانية والعشرة فيضيق تحديد دليل فيها، وأقرب ما يدعى فيه الخمسة على ما قاله عبدالملك،

وإنما قلنا: إن النظر القول بأنه خمسة عشر يوماً، لأن أقل الطهر يجب أن يكون في مقابلة أكثر الحيض؛ لأن العادة جارية بأن الحيض إذا كثر قل الطهر، وأن الطهر إذا كثر قل الحيض، وبين ذلك قوله عليه السلام: (تمكث إحداكن شطر عمرها) وروي (نصف عمرها لا تصلي) فجعل نقصان دينهن في مقابلة ترك الصلاة شطر العمر بأكثر الحيض فوجب أن يكون كماله في مقابلة أقل الطهر في النصف الآخر لأن الزمان إذا انقسم نصفين وثبت أن نصفه أكثر الحيض فنصفه الآخر أقل الطهر؛ لأنه لا حد لأكثره لأن الله تعالى جعل عدة المطلقة التي تحيض ثلاثة قروء، وجعل عدتها إذا كانت يائسة ثلاثة أشهر، فأعلمنا بذلك أن بدل كل قرء شهر، وإذا صح هذا لم يخل الشهر أن يكون أقيم مقام أكثر الحيض وأكثر الطهر، أو مقام أحدهما، أو مقام أكثر الطهر وأقل الحيض، أو مقام أقل الطهر وأكثر الحيض، فتبطل هذه الأقسام إلا القول بأنه أقيم مقام أقل الطهر وأكثر الحيض وفي ذلك ثبوته على ما قلناه. [163] مسألة: وعنه في المبتدأة إذا تطاول الدم بها ثلاث روايات: إحداهن: أنها تجلس أيام لداتها فقط وهي رواية عن ابن زياد. والثانية: أنها تستظهر بثلاثة أيام ما لم تجاوز خمسة عشر يوماً وهي رواية ابن وهب وغيره. والثالثة: أنها تجلس إلى خمسة عشر يوماً ثم تكون مستحاضة وهي رواية ابن القاسم وغيره. فوجه الأول: أن أمر الحيض مجتهد فيه، فلما أمكن أن تكون حائضاً أقل الحيض وأكثره وما بينهما وجهل أمرها ولم يكن الحكم ببعض هذه

المقادير أولى من بعض كان أولى الأمور ردها إلى عادة لداتها؛ لأن العادة تناسب طباعهن وعادتهن، فوجب ردها إليهن إذا لم تكن لها عادة ولا غالب. ولأننا لما رددناها إلى لداتها في غالب وقت الحيض وزمانه وجب أن نردها إليهن في تحديده ومقداره. ووجه رواية الاستظهار قوله عليه السلام لأسماء بنت مرثد الحارثية (اقعدي أيامك التي كنت تقعدين واستظهري بثلاث ثم اغتسلي وصلي). ولأنه خارج من البدن أشكل أمره يطلب به التمييز بينه وبين غيره فجاز أن يعتبر بثلاثة أيام كلبن التصرية. ووجه الثالثة أن كل دم خرج من الفرج في زمن الحيض فالحيض أولى به، وليس ها هنا ما يمنع كون هذا الدم حيضاً؛ لأنه بصفته في وقت يمكن كونه فيه؛ ولأن الحيض لما أمكن أن ينتقل من زيادة إلى نقصان ومن النقصان إلى زيادة وجب أن يحكم فيه بما يحتمله، وكما لو كانت عادتها أن تحيض خمسة عشر يوماً فانقطع الدم في أقل من ذلك يحكم بنقصان حيضها وكذلك إذا زاد يجب أن يحكم بزيادته. [164] (فصل):وعلى هذه الرواية لا تكون مستحاضة قبل الخمسة عشر يوماً. خلافاً للشافعي في قوله إنها تكون مستحاضة فيما زاد على أقل مدة الحيض، وهي يوم وليلة عنده أو غالبه وهو الستة أو السبعة. ولأن حال خروج الدم منها كانت مأمورة بترك الصلاة فلم يجب عليها إعادتها، أصله

اليوم والليلة. ولأنه دم خارج في مدة الحيض تركت الصلاة فيه لأجله فلم يلزمها إعادتها، أصله إذا كان عادتها. [165] (فصل): وفي المعتادة إذا تطابق الدم بها زيادة على عادتها روايتان: إحداهما: الاستظهار، والأخرى: أنها تقعد خمسة عشر يوماً ووجه ذلك ما ذكرناه في المبتدأة. [166] مسألة: إذا اتصل الدم بالمستحاضة عملت على التمييز بعد مضي أقل الطهر. خلافاً لأبي حنيفة في قوله لا اعتبار بالتمييز ولا بتغير الدم. لقوله عليه السلام: (دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي). وذلك نص في اعتبار التمييز وتغير الدم. في بعض طرقه (إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا ذهبت فاغتسلي)، فأحالها على معرفتها دون اعتبار الأيام ولأنه مائع يرخيه الرحم يتعلق به الغسل فجاز أن يدخله التمييز حال الاستطابة، أصله المني. [167] (فصل): وإذا لم تكن من أهل التمييز صلت أبداً، إلا أن يتغير عليها الدم، ولم تقعد أيامها من كل شهر، خلافاً للشافعي؛ لقوله عليه السلام: " دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة".فردها إلى التمييز دون الأيام، ولأنها حال محكوم لها بالطهر فيها فأشبه ألاّ ترى دما أصلا، ولأن هذه الحال يمكن أن يكون حال حيض واستحاضة، وإذا احتملت الأمرين كان الحكم بالإستحاضة أولى لقوة أسبابها باتصال زمانها وصفة دمها، ولوجوب الاحتياط للصلاة وترك التغرير بها. [168] مسألة: الحامل تحيض، خلافا لأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، لقوله عليه الصلاة والسلام: (دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك

فأمسكي عن الصلاة). ولم يفرق؛ ولأنها رأت الدم في أيامها المعتادة كالحائل، ولأنه دم يمنع وجوب الصلاة، وجواز الوطء، فصح أن يوجد مع الحمل كالنفاس، ولأن العوارض التي ينقطع الحيض معها إذا لم يكن من أصل الخلقة لا تمنع وجوده كالمرض والرضاع، وذلك أن الشابة تحيض، وإنما تمنع الحيض على الصغيرة واليائسة لضعفها، ولا يمتنع على الشابة إلا لعارض من حمل أو مرض أو رضاع، وقد ثبت أن هذه العوارض ولا تحيل وجوده فكذلك الحمل، قال القاضي أبو بكر: ولأن الله عز وجل جعل عدة المطلقة ذات الإقراء ثلاثة قروء، وإنما الغرض من ذلك براءة الرحم، وقد علمنا أن الرحم يبرأ بحيضه واحدة ولا معنى للتكرار، إلا لأن الحمل قد يضعف عن حبس الدم فتحيض المرأة على حملها، فجعل الحيض مكررا لأن الحمل إذا قوي منع الدم أن يخرج، ولأنه إذا ثبت أن الحائض تحمل ثبت أن الحامل تحيض يدلك عليه حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وأسارير وجهه تبرق فقالت لأنت أحق بقول أبي كبير الهذلي: وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل ومبرأ من كل غُبّر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل

تريد أن الحمل بك لم يك حال حيض ولم ينكر عليها، ولأن رجلاً لو عقد على حائض أو نفساء فأتت بولد لستة أشهر من يوم العقد للحق به مع الإمكان أنها حملت به مع الحيض باقياً كان أو ميتاً، فعلم أن الحيض لا يمنع وجوده مع الحمل. [169] مسألة: الصفرة والكدرة إذا وجدا في أيام الحيض تكون حيضا كالدم خلافاً لأبي يوسف، لقول عائشة رضي الله عنها كنا نعد الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيضاً وروى مالك عن علقمة عن أمه أن النساء كن يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسففيها الصفرة فتقول لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء وعن أبي هريرة أن أول دم الحيض أسود خشن ثم يصير رقيقا ثم يصير أصفر ولأنه مائع إذا وجد في أيام العادة كان حيضا فوجب إذا وجد في أيام يجوز أن

تكون أيام حيض أن يكون حيضا كالدم. [170] مسألة: لا يجوز وطء الحائض فيما دون الفرج خلافا لأصبغ ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: (شدي عليك إزارك وعودي إلى مضجعك) وروي عنها أنها قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد من الحائض شيئا أمرها فاتزرت ثم صنع ما أراد وفائدة ذلك أن يحول المئزر بين موضع الحيض وما دونه. وروى عاصم بن عمرو عن عمر بن الخطاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (للرجل من امرأته ما فوق الإزار وليس له ما دونه) ولأنه معنى يحرم الوطء في الفرج، فوجب أن يحرمه فيما دونه، كالإحرام والصوم، ولأنه وطء مقصود في العادة كالوطء في الفرج، ولأنه لما منع الوطء في الفرج لأجل الأذى وجب أن يمنع مما يقاربه، لأن الأذى يصيبه غالبا إذا كان دم الحيض يسيل بنفسه من غير اختيار المرأة وبذلك فارق الدبر. [171] مسألة: ولا يجوز وطء الحائض بعد انقطاع دمها وقبل غسلها، وقال قوم: يجوز إذا غسلت فرجها، وقال أبو حنيفة: يجوز إذا كانت أيامها عشرة، فأما إن كانت دون ذلك فلا يجوز إلا أن يوجد معنى

ينافي الحيض، مثل أن يمر عليها آخر وقت الصلاة فيجب عليها الصلاة فيزول حكم الحيض ودليلنا قوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن} ففيه دليلان: أحدهما أنه قرئ حتى يطّهرن ويطَهرن بالتخفيف والتشديد، ومعنى التخفيف انقطاع الدم ومعنى التشديد الاغتسال بالماء، فكان تقديره حتى يطهرن ويتطهرن بالاغتسال، والثاني قوله تعالى: {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} فعلق جواز إتيانهن بأن يتطهرن، وذلك هو الاغتسال، ولأنهاحائض انقطع دمها لم يجز وطؤها من قبل الاغتسال كالتي أيامها دون العشرة ولم يمر عليها وقت الصلاة. وبالله التوفيق. آخر الجزء الثاني من الإشراف

كتاب الصلاة

بسم الله الرحمن الرحيم استعنت بالله وحده كتاب الصلاة باب [في أوقات الصلاة]: [172] مسألة: لا يجوز أن يصلي الظهر قبل الزوال، خلافا لما يحكى عن ابن عباس، أو غيره لقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} معناه حال الدلوك، وفي حديث إمامة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى به الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس، وفي اليوم الثاني حين كان الظل مثله، ثم قال: (الوقت بين هذين الوقتين)، فدل على أن ما قبله ليس بوقت، ولأنه وقت متقدم على الزوال فأشبه بعد طلوع الشمس. [173] مسألة: المراد بقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} ميلها للزوال، خلافا لمن يقول: إنه ميلها للغروب، لأن الدلوك هو الميل

فيحتمل أن يكون مراده ميلها للزوال، ويحتمل ميلها للغروب، فكان ما قلناه أولى، ولأنه أسبق كما قلنا في الشفقين، والأبوين، والملامسة والقرأين ولما رُوي أن بلالا كان يؤذن للظهر إذا دلكت الشمس، وروي أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين دلكت الشمس عن كبد السماء فقال له صل فقام وصلى الظهر. قال إسماعيل بن إسحاق: قال بعضهم: إن غسق الليل هو الغروب، فيمتنع على هذا أن يكون الدلوك ميلها للغروب، لأن قوله إلى غسق الليل يوجب أن يكون بينه وبين الدلوك تراخ ومهلة. [174] مسألة: يستحب لمساجد الجماعات أن يؤخروا إلى أن يصير الفيء ذراعا، خلافا للشافعي في قوله: إن أول الوقت أفضل من تأخيرها

هذا القدر، لأن ذلك مذهب عمر بن الخطاب ولا مخالف له كان يكتب إلى عماله بحضرة الصحابة أن صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعا، ولا مخالف له وقال القاسم: ما أدركت الناس -يعني الصحابة -يصلون الظهر إلا إذا كان الفيء ذراعا، ولأن تأكيد الجماعة يزيد على تأكيد أول الوقت، والزوال يصادف الناس غير متهيئين للصلاة لتشاغلهم بالمعاش والتصرف في أمورهم، فوجب التمهل ليدركوا فضيلة الجماعة وإلا فاتت أكثرهم ويبنى ذلك على استحباب الإبراد بها في شدة الحر فان لم يسلموا دللنا عليه بقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم). وفي حديث أبي ذر: أن المؤذن إذا أراد أن يؤذن الظهر فقال له - صلى الله عليه وسلم -: (أبرد) ثم أراد أن يؤذن فقال: (أبرد) مرتين أو ثلاثا حتى رأينا فيء التلول بان ثم قال: (إن شدة الحر من فيح جهنم فأبردوا بالصلاة)

فإذا ثبت لنا ذلك بنينا عليه مسألتنا بعلة أنه تأخير للرفق بهم فلم يكره كالإبراد، لأن الإبراد رخصة وإباحة، والجماعة سنة مؤكدة وفضيلة، فإذا لم يكره التأخير للرفق والإباحة كان بأن لا يكره لإحراز السنة والفضيلة أولى وحكى الاسفرائيني الشافعي عنا: أنا لا نُجَوّز أن نصلي الظهر عقيب الزوال حتى يصير الفيء ذراعا، ولا أعلم هذا قولا لأحد من المسلمين، وإذا قلنا لأصحابهم: هذا غلط علينا لا أصل له، قالوا: لا يحكي شيخنا إلا الصواب. [175] مسألة: إذا صار الظل مثله فهو آخر وقت الصلاة، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إن آخره أن يصير الظل مثليه، لحديث جبريل أنه صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر في اليوم الثاني حين كان ظله مثله لوقت العصر بالأمس، وقال: (الوقت بين هذين) ولأنها صلاة تجمع إلى ما بعدها، فوجب أن يكون وقتها أقصر من وقت الثانية كالمغرب. [176] مسألة: إذا كان الظل مثله فهو آخر وقت الظهر، وهو بعينه أول وقت العصر على سبيل الاشتراك، فإذا زاد على المثل زيادة بينه خرج وقت الظهر، وقال الشافعي: لا يدخل وقت العصر حتى يزيد على كون الظل مثله زيادة بينة، ولا يشترك عنده الوقتان، فدليلنا حديث جبريل وفيه فصلى الظهر حين كان كل شيء بقدر ظله لوقت العصر بالأمس، هذا تصريح بأن الصلاتين أوقعتا في وقت واحد، فدل أنه وقت لهما وروي أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كان ظل كل شيء مثله، فقال: قم فصل العصر، وروي: فصل الظهر وفي حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (آخر

وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثله). [177] مسألة: آخر وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثليه، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إن آخر وقتها اصفرار الشمس، لحديث جبريل صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - اليوم الأول حين صار الظل مثله وفي اليوم الثاني حين كان مثليه، ولأنهما صلاتان يتعاقبان يجمع بينهما بحق النسك، فوجب أن يكون أولاهما أقصرهما وقتا كالمغرب والعشاء ولأنها صلاة وقت أولها بالظل فكذلك آخرها كالظهر. [178] مسألة: المغرب عندنا وقت واحد في الاختيار، وقال ابن الجهم , وغيره: لها وقتان كسائر الصلوات، وهو قول أبي حنيفة، ودليلنا حديث جبريل أنه صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب حين أفطر الصائم، وقال في اليوم الثاني: ثم صلى بي المغرب للوقت الأول لم يؤخرها، وقال: الوقت بين هذين، ولأنها صلاة من الخمس، فوجب أن تكون جنس وقتها كجنس عددها من شفع ووتر كسائر الصلوات. [179] مسألة: الشفق الذي يدخل وقت العشاء بغيابه الحمرة، خلافا لأبي حنيفة، لحديث جبريل أنه صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء الأخيرة حين غاب الشفق، وهذا الاسم يتناول الحمرة والبياض، فيجب حمله على أسبقهما، وفي حديث عطاء عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالسائل له عن الأوقات

العشاء الأخيرة في اليوم الأول قبل مغيب الشفق، وقد ثبت أنه لم يرد قبل غياب الحمرة، فعلم أنه أراد قبل البياض وحديث النعمان بن بشير قال أنا أعلم بوقت صلاة العشاء الآخرة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليها لسقوط القمر لثلاث. ومعلوم أن سقوطه يكون قبل غروب البياض، والتعلق في ذلك بالأخبار أولى من الاعتلال وقد قيل: إن العشاء يتعلق بالغوارب كتعليق الصبح بالطوالع، والطوالع ثلاث، كما أن الغوارب ثلاث، والصبح يتعلق دخول وقتها بالأوسط، والطوالع الفجران والشمس والغوارب الشفقان والشمس. [180] مسألة: آخر وقتها إذا مضى ثلث الليل الأول، خلافا لأبي حنيفة وابن حبيب في قولهما نصفه، لحديث جبريل أنه صلى بالنبي عليهما السلام العشاء الآخرة في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل وقال الوقت بين هذين، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأخرت هذه الصلاة إلى

ثلث الليل). [181] مسألة: ويستحب تأخيرها عن أول وقتها في مساجد الجماعات، خلافا للشافعي لقوله عليه السلام: (لولا أن أشق على أمتي لأخرت هذه الصلاة إلى ثلث الليل) وروي (شطر الليل). وروي أنه عليه السلام أخرها ليلة حتى نام الناس ونودي فخرج وقال: (لولا سقم السقيم وضعف الضعيف لأخرت العشاء إلى هذا الوقت). [182] مسألة: تعجيل العصر أفضل إلا بقدر ما يؤخر للجماعات، خلافا لأبي حنيفة أن الاستحباب تأخيرها ما لم تصفر الشمس، لقوله عليه السلام وقد سئل عن أفضل الأعمال فقال: (أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها). وقال أنس: ما كان أحد أشد تعجيلا للعصر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروت عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن

تظهر، وروى أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة ويذهب الذاهب إلى العوالي والشمس مرتفعة، ولأنها صلاة مكتوبة، فكان تقديمها أفضل مالم يكن عذر كالظهر والمغرب، ولا تدخل عليه مساجد الجماعات، لأن انتظار الجماعة عذر في الصلوات المفروضة. [183] مسألة: التغليس بالفجر أفضل من الإسفار، خلافاً لأبي حنيفة، لقوله عليه السلام وقد سئل عن أفضل الأعمال فقال: (الصلاة لأول وقتها). وقالت عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الصبح فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس، وروى بشير ابن أبي مسعود، عن أبيه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات،

وروى مغيث بن سمي، قال: صلى بنا ابن الزبير بغلس، وابن عمر إلى جنبي، فقال ابن عمر: هذه كانت صلاتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر وعمر، فلما قتل عمر، أسفر بها عثمان، وقوله عليه السلام: (أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله). وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: رضوان الله أحب إلينا من عفوه فلم ينكر - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وعن جماعة من الصحابة أنهم قالوا: كنا نصلي الصبح مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر بعضنا إلى بعض فما نتعارف، ولأنها صلاة لا تقصر فوجب فضل تقديمها عند دخول وقتها كالمغرب، ولأن من أصلنا أنه يؤذن لها قبل وقتها وفائدة ذلك إدراك فضيلة التغليس بها، ولا معنى له سواه. [184] مسألة: ولا تفوت إلا بطلوع الشمس. خلافا لبعض الشافعية ممن خرق الإجماع، سابق الخرق هذا القائل فكان محجوجا به. وفي حديث جبريل أنه صلاها بالنبي عليه السلام في اليوم الثاني حين كادت

الشمس تطلع، وفي حديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وقت الفجر ما لم تطلع الشمس)،لأن مابين طلوع الفجر والشمس وقت لصلاة الفجر، أصله ابتداء الإسفار. [185] مسألة: الصلاة الوسطى صلاة الفجر، وقال بعض أصحاب أبي حنيفة الظهر، وقال بعضهم العصر، لقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} وسنة القنوت عندنا في الصبح، فعلم أنها هي المرادة، ولأن كل صلاة غيرها تجمع إلى غيرها وهي منفردة، لا تجمع إلى غيرها ولا يجمع غيرها إليها، فوجب أن تكون بهذا الاسم أولى ولأن ما عداها من الصلوات تشارك في وقتها، والصبح وقتها مختص لا يشاركها غيرها فيه فكانت الوسطى. [186] مسألة: قد بينا أوقات التوسعة والاختيار، فأما أوقات الضرورة والأعذار، فهي للحائض تطهر، والمغمى عليه يفيق، والصبي يبلغ، والكافر يسلم، فإذا زالت موانع هؤلاء وقد بقي من النهار إلى الغروب قدر خمس ركعات فأكثر بعد فراغهن من طهارتهن وما يصلح لهن من شروط الصلاة فقد أدركوا صلاة العصر، وفاتهم الظهر، والنكتة المراعاة أن

يدركوا قدر ركعة من وقت الصلاة فيدركوا بها الصلاة، فإن أدركوا أقل من ذلك فقد فاتتهم الصلاة، وقال أبو حنيفة والشافعي في بعض أقاويله، إذا أدرك من ذكرناه من النهار قدر تكبيرة الإحرام فقد أدرك الظهر والعصر، فدليلنا قوله عليه الصلاةوالسلام: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح). وعلق كونه مدركا للصلاة بادراك ركعة، فدل أنه لا يكون مدركا بأقل من ذلك، ولأنه أدرك مقدار أقل من ركعة كالجمعة، ودليلنا على فوات الظهر خلافا للشافعي، ما روى عبدالرحمن بن غنم , أنه سأل معاذاً عن الحائض تطهر قبل غروب الشمس، فقال: تصلي العصر، هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نعلم نساءنا، ولأن ما قبل غروب الشمس بقدر أربع ركعات وقت يختص بالعصر لا يشركها الظهر فيه بوجه للحاضرة فإن سلموا ذلك، وإلا دللنا عليه بالاتفاق على أن ذلك لها وقت يختص به، وأقل ذلك ما يستغرق فعلها، فإذا ثبت أن ذلك وقتها ثبت أن الظهر يفوت من لم يدرك إلا وقت العصر لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تفوت صلاة حتى تدخل الأخرى). ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وقت الظهر ما لم يدخل وقت

العصر)، ولأنه لو كان بإدراكه ركعة مدركا لهما لوجب إذا أغمي عليه بعد الزوال بقدر ركعة أن يلزمه قضاؤها على أصلهم. [187] مسألة: إذا مضى بعد الزوال قدر أربع ركعات فحاضت أو أغمي عليه فلا قضاء عليهما إذا زال العذر، خلافا للشافعي، لأنها حاضت في وقت لا تأثم بتأخير الصلاة فيه، فلم يلزمها قضاؤها كما لو مضى من الوقت أقل من ركعة. [188] مسألة: لا يقضي مغمى عليه ما فاته من الصلاة وقت إغمائه، خلافا لأبي حنيفة في إيجابه القضاء في الخمس فما دون، لقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاث) فذكر (المغمى عليه حتى يفيق) واعتبارا بالخمس، ولأنه عذر يسقط قضاء ما زاد على الخمس فكذلك فيما دونها كالحيض، ولأنه زوال عقل من غير سكر ولا نوم كالجنون. [189] مسألة: الصلاة تجب بأول الوقت، وجوبا موسعا يمتد إلى

آخره، وبيان ذلك أن صلاة الفجر أمر بها من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فالوجوب عندنا متعلق بجميع أجزاء الوقت، وهو الوجوب الموسع، فأي وقت أتى بها المكلف من جميع أجزاء الوقت فقد فعلها واجبة، وإنما ضرب آخره ليكون المكلف مخيرا في إيقاع الصلاة في أي أجزائه شاء. هذا قولنا، وقول أصحاب الشافعي، واختلف الذاهبون إلى هذا القول هل يلزم المكلف إذا ترك الفعل في أول الوقت أو وسطه أن يتركه إلى بدل أو لا يلزمه بدل، فمنهم من قال: له تركه إلى أن يبقى من الوقت ما يستغرقه من غير بدل يفعله، ومنهم من يقول: ليس له تركه إلا إلى بدل هو العزم على أدائه في بقية الوقت، وهذا هو الذي يقتضيه أصول أصحابنا ومن الناس من يوجب العزم، ويقول: لا أسميه بدلا. هذا جملة قولنا وفروعه، وذهب قوم من أصحاب أبي حنيفة إلى أن الوجوب يتعلق بأول الوقت الموسع دون آخره، وأن آخره إنما ضرب ليكون إيقاع الفعل فيه أداء وبعده قضاء، وقال آخرون منهم: إن الفعل لا يجب بأول الوقت وإنما يجب بآخره، وهو وقت التضييق الذي يلحق الإثم بتركه فيه، وتأخيره عنه، وإن تقديمه في أول وقته جائز، ثم اختلفوا في حكم الفعل إذا قدم في أوله فمنهم من يقول: إنه نفل ويجزئ عن الواجب، ومنهم من يقول: إنه واجب موقوف فإن دخل آخر الوقت والمكلف بصفة من يلزمه الفعل كان ما قدمه في أوله واجبا، وإن كان بخلاف من يلزمه كان نفلا. يحكى هذا كله عن الكرخي من أصحاب أبي حنيفة. فدليلنا على أن الوجوب يتعلق بجميع أجزاء الوقت، أن الأمر جعل جميع أجزائه وقتا للوجوب، لأنه جعلها وقتا لاقتضاء الفعل يبين ذلك أنه تعالى قال: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} فجعل جميع ذلك وقتا يقتضي به الصلاة ولم يخصص بعضها منه دون بعض، فلو أراد تعلق الوجوب ببعضها لبينه كما بين آخر الوقت، وعلى نحو ذلك حديث

جبريل وإمامته بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الحديث أنه صلى به الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس، وفي اليوم الثاني حين كان الظل مثله، ثم قال الوقت بين هذين، وذلك إشارة إلى وقت الوجوب، ودليلنا على فساد قول من يدعي أن الوجوب متعلق بأول الوقت دون آخره، اتفاقنا فيه على أنه من بلغ أو أسلم في وسط الوقت أو آخره، فان الصلاة واجبة عليه كوجوبها على مدرك أوله، وأن ما يفعله من ذلك يفعله واجبا يكون مؤديا لا قاضيا وجوبا مبتدأ بنية، مثل الذي يلزم مدرك أوله، ولو كان الوجوب متعلقا بأول الوقت دون آخره لكان حكم من بلغ أو أسلم بعد خروج أوله في جميع ما ذكرناه حكم خروج جميع أجزاء الوقت، ولأن الأمر الموقت بوقت إذا فات الوقت لم يجب إلا بأمر مستأنف، فلو كان الوجوب متعلقا بأول الوقت لكان ساقطا عمن لم يدرك أوله، وان أدرك وسطه وآخره، ولا يجب عليه ذلك الفعل إلا بأمر مستأنف وفي الاتفاق على أن من بلغ بعد الزوال بأجزاء كثيرة مأمور بصلاة الظهر بما أمر به مدرك أوله دليل على فساد ما قالوه، ولأن آخر الوقت لما كان مضروبا للفعل كان كأوله، ولأن آخر الوقت كأوله ووجب تعلق الوجوب به كتعلقه بأوله، ولأن مؤخر الصلاة عن أول وقتها الذي هو الزوال لا يخلو عند هذا القائل أن يستحق الذم واللوم أو لا يستحق ذلك، وقد اتفق على أنه لا يستحق ذلك لأنه يلحقه بالوجوب المضيق وتزول فائدة ضرب وقت موسع، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه لا يستحق الذم فيصير الخلاف في عبارة. ويدل على فساد قول من زعم أن الوجوب متعلق بآخر الوقت دون أوله، الاتفاق على أن الظهر إذا أتي بها قبل الزوال فإنها لا تجزئ ولا

تنوب مناب الفرض، لأنها مفعولة قبل وقت الوجوب، فلو كان ما يؤدى قبل آخر الوقت وفي أوله وقت التوسعة مفعولا قبل وقت الوجوب لوجب أن لا يجزئ عن الفرض كما لو تقدم على أول الوقت، وفي الإجماع على خلاف ذلك دليل على فساد ما قالوه ودليلنا على بطلان قول من يقول من هؤلاء: إن فعله في أول الوقت يكون نفلا حصول الإجماع على أن الظهر لا يفعلها المكلف إلا فرضا، وأنه لا يجوز أن يكون في حق بعض المكلفين فرضا وفي حق بعضهم نفلا، وما قالوه يؤدي إلى ذلك، فوجب بطلانه، ولأن حكم الصلاتين المفعولة إحداهما أول الوقت، والأخرى آخره حكم الصلاة الواحدة التي يفعل ركعة منها قبل وقت التضييق، وما قالوه يوجب أن يكون ما صادف وقت التوسعة منها نفلا وما صادف وقت التضييق منها فرضا، وذلك أدخل في خرق الإجماع، مما قبله، ولأنه إذا ثبت أن من شرط الصلاة النية وأن أداءها في أول الوقت لا يصح ولا تكون ظهرا إلا أن ينوي أنه فرضه الذي عليه مثل النية لو أتى بها آخر الوقت، وأنه لو نوى بها نفلا لم تكن فرضا على وجه ثبت بذلك بطلان قولهم: إنها تكون نفلا إذا أديت أول الوقت، لأنه لو كان كذلك لكانت النية المطابقة لها أولى بها من النية المخالفة لها، ولأنها لو كان ما يفعل في أول الوقت نفلا لوجب أن يفصل بين فرضها ونفلها بالنية، فيقال للمكلف افصل بين التقرب بالنفل وبين التقرب بالفرض بالنية وإلا التبس أحدهما بالآخر ودخلت فيما يمنع في التكليف، وذلك يوجب أن ينوي بالظهر إذا أتى بها أول الوقت أنها نفل وذلك خلاف الإجماع، ولأن الأمة متفقة على إطلاق الاسم لأهل المساجد الجماعات، ومقدمي صلاة الظهر في أول الوقت بأنهم قد أدوا ما أوجب الله عليهم وصلوا الظهر التي لزمتهم، وعلى ما يقولون يمتنع ذلك، ويجب أن يكون من لم يصل الظهر طول عمره إلا في أول وقتها أنه لم يكن قط مؤديا لواجب وإنما كان متنفلا متطوعا

وذلك باطل ولأنا وجدنا للنفل أحكاما تختص به لا توجد في الفرض كما أن للفرض أحكاما تختص به لا توجد في النفل، فمن أحكام النفل أنه لا يؤذن لها ولا يقام وهذا منتف عن هذه الصلاة، لأنها تفعل بأذان وإقامة ومنها أنه لا يزاد فيه على ركعتين، ولأنه لا تفاضل بين الفرض والنفل بالاتفاق، وقد اختلف في التغليس بالفجر في المفاضلة بينه وبين الإصباح، وكل ذلك يمنع ما قالوه، ودليلنا على فساد قول من يقول: إنه يكون واجبا موقوفا، أنه قد ثبت أن المكلف يلزمه التمييز بين صلاة النفل والفرض بالنية، وليس يخلو مصلي الظهر عقب الزوال من أن ينوي بالصلاة النفل أو الفرض ولا يجوز أن ينوي نفلا بالاتفاق، ولا يصح أن ينوي بها فرضا وهو يعتقدها نفلا، لأن اعتقاده ذلك يمنعه أن ينوي بها الوجوب، ولا أن ينوي بها الوقوف لاستحالة قصد ذلك وتناول النية له، ولأن الفعل المعتد به لا بد من حصوله على وجه يقع عليه، ولا يجوز أن يقع على وجه يترقب بعد وقوعه، إلا أن يقف حكمه على شرط يأتي بعده فامتنع ما قالوه. [190] مسألة: إذا صلى صبي في أول الوقت ثم بلغ في آخره لزمه فعل الصلاة، ولم يسقط فرضها بما تقدم من صلاته قبل البلوغ، وكذلك لو ابتدأها ثم بلغ في أثنائها للزمه فعلها فلا يجزيه عن فرض الوقت في آخر الوقت، خلافا للشافعي، لأن الصلاة لا تصح إلا بنية الوجوب وذلك لا يصح إلا ممن هو من أهل الوجوب، والصبي ليس هو من أهله، فلو أجزأته لأدى إلى جواز الفرض بنية النفل، ولأنها صلاة ابتدئت نفلا، فلم تنقلب فرضا كتنفل البالغ، ولأنها صلاة فعلت نفلا فلم يسقط بها الفرض فيما بعد، أو فلم يمنع الوجوب فيما بعد كما لو فعلت قبل الوقت أو كصلاة البالغ.

باب في الأذان

باب في الأذان [191] مسألة: يجوز أن يؤذن للفجر قبل وقتها، خلافا لأبي حنيفة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - (إن بلالا ينادي بليل) ويروى (يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) وروي (لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)،ولأن من أصلنا استحباب التغليس بها، وهي صلاة تدرك الناس نياما غير متهيئين لها، فاحتيج إلى الأذان لها قبل وقتها، ليتأهب الناس لها في تلك المهلة، فيدركوا فضيلة التغليس، وبهذا فارقت سائر الصلوات، ولأن ذلك إجماع أهل المدينة وعملهم المتصل فهو حجة، ولأنها صلاة فرض يجهر في جميعها من غير نقصان عددها، فجاز الأذان لها في وقت لا يجوز فيه فعلها كالجمعة. [192] مسألة: التكبير أول الأذان وآخره سواء، خلافا لأبي حنيفة، والشافعي في قولهما: إنه في أوله أربع، لأن ذلك مروي في حديث أبي محذورة

وبلال وسعد القرظ، ولأنه إجماع أهل المدينة نقلا، ولأن التكبير في النداء في الصلاة لا يزيد على مرتين كالإقامة وآخر الأذان ولأن ما يربع في الأذان من حقه أن يوحد في الإقامة اعتبارا بالتشهدين، فلما وجدنا التكبير يثنى في الإقامة دل على أنه لا يربع في الأذان. [193] مسألة: الترجيع في الأذان مسنون، خلافا لأبي حنيفة، لأنه عليه السلام علم أبا محذورة الأذان إلى أن قال: (ثم ترجع فتمُدُّ من صوتك)، ويروى: (فترفع فتقول: أشهد أن لا اله إلا الله) إلى آخر التشهدين، وهذا

نص، وكذلك في حديث بلال، ولأن ذلك إجماع أهل المدينة وعملهم المتصل. [194] مسألة: التثويب بالأذان في الفجر سنة، خلافا لأبي حنيفة والشافعي، لما روي في حديث بلال أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: الصلاة خير من النوم، فقال (اجعلها في أذانك) وفي حديث أبي محذورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان وقال له (فإذا كنت في صلاة الصبح فقل الصلاة خير من النوم) ولأنه نقل أهل المدينة المتصل. [195] مسألة: الإقامة فرادى خلافا لأبي حنيفة، لحديث أنس، أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، ومن طريق ابن وهب أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وقال ابن عمر: كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثنى مثنى والإقامة فرادى، وروي: مرة، وفي حديث سعد القرظ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، علم بلالا الأذان مثنى مثنى والإقامة واحدة واحدة، ولأنه نقل أهل المدينة خلف عن سلف. [196] مسألة: وتقول قد قامت الصلاة مرة واحدة، خلافا لأبي حنيفة، والشافعي. لما روى عمار ابن سعد القرظ عن أبيه أنه سمعه يقول: هذا الأذان أذان بلال الذي أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإقامته فذكر له الأذان وقال: الإقامة واحدة واحدة، ويقال: قد قامت الصلاة مرة واحدة، وهذا نص، وروى الحميدي عن إبراهيم بن عبد العزيز بن أبي محذورة قال أدركت أبي وجدي وأهلي يقيمون الصلاة فيقولون إلى أن ذكر قد قامت

الصلاة الله أكبر الله أكبر. ولأنه نقل أهل المدينة المتصل، ولأنه لفظ يختص الإقامة، فوجب أن يكون على أصلها في الإيتار، كما أن الصلاة خير من النوم لما كان لفظا يختص الأذان كان على أصله في الاشفاع. [197] مسألة: الأذان مسنون وليس بمفروض، خلافا لداود في قوله: إنه واجب في الجماعة، لأنه نداء بالصلاة كالإقامة، ولأنها صلاة تؤدى، فلم يكن الأذان واجبا فيها كالمؤداة في الانفراد ولأن الجماعة تؤثر في إسقاط النطق الواجب في الصلاة، وهو القراءة فكانت عن أن يوجب غيره أبعد، اعتبارا بأدائها في السفر، ولأنها صلاة شرعية كالفوائت. [198] (فصل): ولا فرق بين أذان الجمعة وغيرها، خلافا لبعض الشافعية، لما بيناه، ولأن كل نداء لم يجب لغير الجمعة، لم يجب للجمعة كالإقامة، واعتبارا بغيرها من الصلوات. [199] مسألة: يجوز أن يؤذن واحد ويقيم آخر، خلافا للشافعي في كراهية ذلك، لحديث عبد الله بن زيد أنه أري الأذان في النوم، فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: (القه على بلال) فألقاه عليه، فأذن بلال، فقال عبد الله: أنا رأيته وأنا كنت أريده، فقال: (فأقم أنت) وروي أن ابن أم مكتوم كان يؤذن، وأن بلالا كان يقيم، ولأن الأذان والإقامة قد ينفردان بدليل

الفوائت والانفراد، فجاز أن يتولاهما اثنان كالصلاتين. [200] مسألة: يجوز أن يتخذ لمسجد خمسة مؤذنين وأكثر، خلافا للشافعي في قوله: لا يتخذ أكثر من أربعة، لأنه عدد لا يتفاحش فأشبه الأربعة. [201] مسألة: الفوائت يقام لها ولا يؤذن، خلافا لأبي حنيفة، والشافعي، لقوله عليه الصلاة والسلام (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) ولم يأمر أن يؤذن لها، وفي حديث أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حبس يوم الخندق عن الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، صلاها بإقامة لكل صلاة، ولم يؤذن لها، ولأن الأذان دعاء إلى الصلاة وإيذان بوجوبها وسنته الجماعة الراتبة، وكل ذلك معدوم في الفوائت، ولأن الأذان علم على الوقت فسقط بفواته، ولأنه لو أذن لها لالتبس بصلاة الوقت، ولأنه لما لم يكن من سنتها أن يؤذن لها على المنابر وإنما يفعل عندهم كما يفعل الإقامة دل على أنه ليس بسنتها بوجه، واعتبارا بالثانية والثالثة. [202] مسألة: يجوز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة خلافا لأبي

حنيفة، لأنه إجماع الصحابة، لأن عمر أرزق المؤذنين، ولا مخالف له، ولأن كل ما جاز أن يتبرع به عن الغير جاز أخذ الأجرة عليه كبناء المساجد، ولأن الإمام الأعلى يأخذ رزقه من بيت المال ونيابته أفضل من نيابة المؤذنين. [203] مسألة: ليس من شرط الأذان الطهارة خلافا لإسحاق إن صح عنه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما). ولم يشترط الطهارة ولأنه ذكر في غير الصلاة كالدعاء ولأن قراءة القرآن أفضل من الأذان، ثم هي جائزة مع الحدث، والأذان أولى، ولأن المقصود منه الإعلام بالصلاة وذلك يحصل مع الحدث كمن هو من أهله. [204] مسألة: يجيء على قولنا: إن المرأة لا تؤذن للرجال، لأن مالكا، قال: لا يؤذن إلا من يؤم، وقال أبو حنيفة يجوز فنقول: كل من لم تجز إمامته لم يعتد بأذانه كالكافر والمجنون.

باب في استقبال القبلة

[باب في استقبال القبلة] [205] مسألة: إذا عميت عليه الدلائل فاجتهد في طلب القبلة وصلى إلى ما غلب على ظنه أنها جهتها ثم بان له الخطأ فيها فلا تلزمه الإعادة، خلافا للشافعيومحمد بن مسلمة والمغيرة لقوله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} مفهومه: حصول الأجزاء على أي وجه وقع الاستقبال، وروى عامر بن ربيعة قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر في ليلة ظلماء ذات ريح ومطر فحضرت الصلاة فصلى كل رجل منا على حيال وجهه لغير القبلة فلما أصبحنا سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال (مضت صلاتكم) وأنزلت هذه الآية: {فأينما تولوا فثم وجه الله} وفي حديث عطاء، عن جابر قال: صلينا ليلة في غيم وخفيت علينا القبلة، وَعَلَّمْنَا عَلَمَاً، فلما أصبحنا نظرنا، فإذا نحن قد صلينا

إلى غير القبلة، فذكرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال (قد أحسنتم) ولم يأمرنا بالإعادة. وقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان). وقوله: (ما بين المشرق والمغرب قبلة).ولأنها جهة يسقط فرض الصلاة بالتوجه إليها مع العلم بها، فجاز أن يسقط فرض الصلاة بالتوجه إليها مع العلم بالاجتهاد، أصله جهة القبلة ونريد بما قلناه حيال المسايفة، ولأنه صلى إلى جهة هو مأمور بالصلاة إليها، فوجب أن يسقط عنه الفرض كالمسايف إذا صلى إلى غير القبلة، ولأنها عبادة مرتبة مختلفة الأركان، أو عبادة ذات أركان، فجاز أن تصح مع الخطأ في بعض شرائطها حال الاجتهاد كالحج إذا أخطأ الناس الوقوف بعرفة فوقفوا يوم النحر ولأن فرض التوجه مبني على الاجتهاد بدلالة أن من غاب عن الكعبة لا يتوصل إلى فرضه يقينا، وإنما يصل إليه باجتهاده، فإذا أخطأ فقد انتقل من اجتهاد إلى اجتهاد، فلا يفسخ عليه الأول كالحاكم إذا حكم باجتهاده، ثم بان له اجتهاد آخر، ولأن القضاء يسقط عن تارك القبلة مع العلم بها لعذر، وهي المسايفة والتنفل في السفر، ولأن يسقط مع الجهل بها لعذر الاجتهاد أولى. [206] مسألة: اختلف متأخرو أصحابنا، هل يلزمه أن يجتهد في إصابة الجهة أو العين، فمنهم من قال: إلى الجهة، ومنهم من يقول: إلى العين، فوجه اعتبار الجهة قوله تعالى: {فولوا وجوهكم شطره} والشطر النحو، ولأنه لا خلاف أن للناس أن يمدوا صفوفا، وإن كنا نعلم أن من خرج من قدر مقابلتها غير متوجه إلى عينها، وإنما هو متوجه إلى الجهة،

فإن قيل إنهم يصيبون عينها لكونهم بالبعد عنها، وكلما بعد كان إلى الإصابة أقرب، قلنا: هذا غلط لأنا لو تصورنا امتدادهم على حد سواء إلى البيت لم يقابل عينها إلا بعضهم دون من خرج عن قدر مساحته. [207] مسألة: إذا اجتهد رجلان في طلب قبلة فأدى أحدهما اجتهاده إلى جهة والآخر إلى غيرها، لم يجز لأحدهما إلا أن يصلي إلى جهة اجتهاد نفسه، فإن صلى إليها مؤتما بصاحبه فصلاته باطلة، خلافا لما يحكى عن أبي ثور من صحة صلاته، لأن كل واحد منهما معتقد أن الآخر متوجه إلى غير القبلة، وأنه في غير صلاة، فلم يجز أن يأتم به كما لو علم أنه جنب. [208] مسألة: التنفل على الراحلة في السفر حيث توجهت به راحلته يجوز في سفر القصر دون ما قصر عنه، خلافا لأبي حنيفة، والشافعي، في إجازتهما ذلك في طويل السفر وقصيره، لقوله تعالى: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} فعم، ولأنه معنى يؤثر في تعيين بنية الصلاة يختص بالسفر، فوجب أن يتعلق بطويله دون قصيره كالقصر. [209] مسألة: قوله لا يجوز ذلك في الحضر على وجه، خلافا لبعض الشافعية في قوله يجوز ذلك للحاضر الذي معيشته على الراحلة كالجمالين ومن أشبههم، للظاهر، ولأنه لاضرورة به إلى ذلك كضرورة المسافر، ولأن من السفر ما لا يجوز ذلك فيه فالحضر أبعدهم اجتهاداً. [210] مسألة: إذا اجتهد فأداه اجتهاده إلى أن القبلة في جهة فصلى، ثم أراد أن يصلي صلاة ثانية، فلا أحفظ نصا في هذا الوقت، وعندي أنه يلزمه إعادة الاجتهاد، خلافا لمن قال يجتزئ بالأول، لأنه قد يتبين له، ولأنه مريد للصلاة غائب عن القبلة، فأشبه من لم يتقدم له اجتهاد ولأنه

حكم من طلعت عليه الشمس وهو يصلي الصبح

كالحاكم إذا اجتهد فحكم في حادثة بما أداه اجتهاده إليه، ثم اختصم إليه في مثلها ثانية فإنه يلزمه الاجتهاد ثانية كذلك في مسألتنا. [حكم من طلعت عليه الشمس وهو يصلي الصبح] [211] مسألة: إذا صلى من الصبح ركعة ثم طلعت الشمس، فقد أدركها، ولم تبطل صلاته خلافا لأبي حنيفة، لقوله عليه الصلاة والسلام (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها) ولأنها صلاة صح الإحرام بها في وقتها، فلم تبطل بخروجه، كسائر الصلوات، ولأنه معنى عرف به خروج الوقت، فلم يبطل الصلاة كغروب الشمس في العصر. [باب في صفة الصلاة] [النية] [212] مسألة: يجب في نية الصلاة أن تكون مقارنة لتكبيرة الإحرام، سواء ابتدأها مع التكبير أو سبق بها واستصحبها ذاكرا إلى أن كبر فأما إن نوى ثم نسي حتى كبر فلا يجزيه، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إن عزبت نيته عن قرب من التكبير أجزأه، لأنها تكبيرة عزبت عن مقارنة النية كالتي تعزب عن بعد وتفارق الوضوء لأنها في الصلاة أضيق. [تكبيرة الإحرام] [213] مسألة: لفظ الإحرام متعين، وهو أن يقول: الله أكبر لا يجزئ غيره، خلافا لأبي حنيفة في قوله: يجوز أن يحرم بقوله: "الله" فقط أو "أجل" أو "أعظم " وللشافعي في قوله: "الله الأكبر" فدليلنا على أبي

حنيفة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تحريمها التكبير). ففيه أدلة أحدها: أنه بيان لمجمل قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} فاقتضى تعيينه كما أن قوله: (في خمس من الإبل شاة) لما كان بيانا لمجمل قوله: {وآتوا الزكاة} وجب تعيينه. والثاني: أنه أشار إلى جنس التحريم، فلم يبق تحريم سواه. والثالث: أنه شرط التكبير في التحريم فانتفى أن يكون تحريما بغير تكبير، وعلى قولهم إنه يحرم بقوله: "الله" فقط قوله - صلى الله عليه وسلم - (صلوا كما رأيتموني أصلي) ولم نره أحرم إلا بقوله: "الله أكبر" وقوله: (لا تتم صلاة أحدكم حتى يتوضأ) إلى أن قال: (ثم يستقبل القبلة فيقول الله أكبر). ولأنه لفظ عار

تربص الإمام قبل الإحرام حتى تعتدل الصفوف

من التكبير مع القدرة عليه، فلم يصح انعقاد الصلاة به، كقوله يا مالك يوم الحساب، ولأنه ركن من أركان الصلاة، فوجب أن يكون متعينا كالركوع والسجود، ودليلنا على الشافعي ما رويناه ولأنها زيادة غيرت بنية قوله "الله أكبر" كقوله الله الكبير. [214] (فصل): تكبيرة الإحرام من نفس الصلاة وركن من أركانها، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إنه يدخل بها في الصلاة وليس منها، وأصحابه يقولون: هذا ليس بمنصوص عنه ولكنه قول الكرخيودليلنا قوله عليه الصلاة والسلام: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هو تكبير وتسبيح) وظاهره أن كل تكبير يتعلق بالصلاة فإنه منها، ولأنه ذكر من شرط صحة كل صلاة فوجب أن يكون منها، أصله القراءة، ولأنه ذكر من شرط صحة الصلاة فكان من الصلاة كالتشهد، ولأن كل ما افتقر إلى استقبال القبلة كان من الصلاة كالركوع والسجود ولأن كل ما افتقر إليه أفعال الصلاة من ستر العورة واستقبال القبلة وطهارة، ثبت أنه منها. [تربص الإمام قبل الإحرام حتى تعتدل الصفوف] [215] مسألة: وينبغي أن يقف الإمام بعد فراغ الإقامة حتى تعتدل

تكبيرة الإحرام بالفارسية

الصفوف، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إنه يكبر حين يقول المؤذن: قد قامت الصلاة، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام (كان يقف بعد الإقامة حتى تعتدل الصفوف) وكان يقول (سووا بين صفوفكم وتراصوا).وروي أنه عليه الصلاة والسلام (كان يكلم في الحاجة بعد إقامة الصلاة ثم يكبر بعد أن يأمر فيها بأمره).ولقوله (فإذا كبر فكبروا) وهذا يشتمل الإمام وغيره، فإذا كبر الإمام قبل فراغه من الإقامة احتاج أن يتشاغل المؤذن بتمامها ثم يكبر، وهذا خلاف الخبر، ولأنه لم يفرغ من الإقامة، أصله إذا لم ينته إلى قوله قد قامت الصلاة. [تكبيرة الإحرام بالفارسية] [216] مسألة: إذا كان يحسن بالعربية فلا يجزيه الإحرام بالفارسية، خلافا لأبي حنيفة لقوله عليه الصلاة والسلام: (يقول: الله أكبر) وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي).

رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام

[217] (فصل): فأما إذا كان لا يحسن العربية، فعندي أنه يعتقد الدخول في الصلاة بقلبه، ولا يحرم بالفارسية، وأظن أن من أصحابنا من يقول: إنه يحرم بلسانه، وهو قول الشافعي فنقول: إنه ذكر من شرط صحة الصلاة، فوجب أن لا تصح إذا أتى به بغير العربية كالقراءة، ولأنه لا يخلو أن يكون المطلوب لفظ التكبير أو معناه، فأي ذلك كان وجب استواء القادر وغير القادر فيه. [رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام] [218] مسألة: ويرفع يديه عند تكبيرة الإحرام. خلافا لقوم، لما رواه جماعة من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه). [219] مسألة: وعنه في رفعها عند الركوع والرفع منه روايتان، فوجه إثباته ما رواه ابن عمر قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه حين يركع وحين يرفع رأسه من الركوع. وروى ابن أبي رافع عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه في الافتتاح والركوع ورفع الرأس منه. وروى

وائل بن حجر وأبو حميد. ولأنها تكبيرة حال القيام في الركعة الأولى كتكبير الإحرام ووجه نفيه ما رواه ابن مسعود ..........

القراءة في الصلاة

والبراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يرفع يديه مع تكبيرة الإحرام ثم لا يعود لرفعهما).وقال ابن مسعود أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى ولم يرفع يديه إلا مرة، ولأنه رفع بعد الافتتاح فلم يكن من هيئة الصلاة كالرفع من السجود، ولأنه تكبير موضوع للانتقال من ركن إلى ركن كتكبيرات السجود. [220] مسألة: والاختيار رفعهما إلى المنكبين، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إلى الأذنين، لما روى ابن عمر وأبو حميد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه. [القراءة في الصلاة] [221] مسألة: المستحب أن يقرأ الفاتحة عقيب الإحرام، خلافا للشافعي، في استحبابه التوجيه والتسبيح، لما روى أبو حميد في وصفه صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرفع يديه ويكبر ثم يقرأ وقوله للذي

علمه الصلاة: (كبر ثم اقرأ) وقوله: (تكبر ثم تقرأ) وفي حديث أُبيّ كيف تقرا إذا فتحت الصلاة؟ قال: (الله أكبر) (الحمد لله رب العالمين). [222] مسألة: القراءة واجبة في الصلاة، خلافا للأصم وغيره من المبتدعة، لقوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر منه} وقوله عليه الصلاة والسلام (لا صلاة لمن لم يقرا بفاتحة الكتاب).وقوله (كبر ثم اقرا) وقوله عليه السلام (صلوا كما رأيتموني أصلي). [223] مسألة: وهي متعينة لا إنه أي شيء قرأ من القرآن أجزاه،

لقوله عليه الصلاة والسلام (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). وقوله (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن).وذكر الدارقطني أنه ُروي (لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب)، وذكر أن إسناده صحيح، وقوله: (كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ثلاثا)، وقوله (صلوا كما رأيتموني أصلي) ورأيناه قد قرأ بها، وذلك بيان لمجمل قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} وفي حديث رفاعة قال: (دخل رجل المسجد فصلى قريبا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أعد صلاتك

فإنك لم تصل. فقام فصلى نحوا من صلاته الأولى، فقال له: أعد صلاتك، فقال: علمني كيف أصلي، فقال له: إذا توجهت إلى القبلة، فكبر ثم اقرأ بفاتحة الكتاب).ولأنه ركن في الصلاة، فوجب أن يتعين بنوع بعينه زائد على تعيين الجنس، أصله الركوع والسجود. [224] مسألة: المستحب أن يبتدئ بالفاتحة من غير تعوذ قبلها خلافا لأبي حنيفة، والشافعي لقوله - صلى الله عليه وسلم - للذي علمه: (كبر ثم اقرأ) وقال لأُبيّ كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ فقال: "الله أكبر" "الحمد لله رب العالمين"، ولأنه قول فاصل بين التحريم والفاتحة، فلم يكن مستحبا في الفرض كسائر الدعاء. [225] مسألة: (بسم الله الرحمن الرحيم) ليست من الفاتحة ولا من أول كل سورة خلافاً للشافعي: لأنه لا طريق إلى إثبات القرآن إلا بنقل متواتر يوجب العلم ويقطع العذر، أو بإجماع الأمة ولا يثبت بنقل أحاد ولا بقياس ولا ما يؤدي إلى غلبة الظن، وليس هاهنا إجماع ولا نقل تقوم الحجة به فلم يجز إثباتها من الفاتحة. وإن تعلقوا بإجماع ناقلي مصحف عثمان على أنها ثابتة في أول كل سورة، وأنهم قد وافقونا على أن جميع ما في المصحف بخطه قرآن في موضعه، قلنا: الناقلون للمصحف لم يجمعوا

على أنها من كل سورة، بل أكثرهم يقول إنها ليست منها، وإنما جعلت فصلاً بين السورتين. فإن قيل: حدوث الاختلاف لا ينفي الإجماع، قلنا: ووجود الاختلاف يمنع إدعاء الإجماع، ولأن الاتفاق حاصل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين القرآن بياناً واحداً متساوياً على وجه تقوم به الحجة وينقطع به العذر، وإن عادته في البيان لم تكن مختلفة بأن يبين بعضه على هذا الوجه وبعضه بياناً خفيفاً يلقيه إلى الواحد والاثنين وبهذا قطعنا بمنع تجويز أن يكون قد بقي شيء من القرآن لم ينقل إلينا أو يكون بعض أحاد الصحابة أثبت ما لم يثبت في المصحف وقطعنا ببطلان إدعاء الرافضية الطاعنين على المصحف المجمع عليه بأن القرآن حمل جمل وأنه عند الإمام الذي هو عندهم إمام الزمان. وإذا ثبت ذلك فلو كانت من الحمد لكان بينها بياناً شائعاً متواتراً ولو كان فعل ذلك لم يقع خلاف كما لم يقع الخلاف في أن ما في السورة منها هذا هو العمدة مع الذي قبله من الاستدلال. فأما من طريق أخبار الآحاد فيما يتعلق بإجزاء الصلاة مع عدم قراءتها فيما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الله عز وجل يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين يقول: الله حمدني عبدني إلى أن قال فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} يقول الله عز وجل: هذه الآية نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل) ففي هذا دليلان: أحدهما: أنه قال: يقول العبد: الحمد لله رب العالمين ولو كانت منها لكان يقول فإذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم. والآخر: إخباره بأنها نصفان، وهذا لا يمكن إلا أن تكون أولها الحمد لله رب العالمين وإلا كان أكثر من نصفها وقال

عليه السلام: (لأُعلمنك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل مثلها) فذكر إلى أن قال: (كيف تقول إذا افتتحت الصلاة؟ فقرأت الحمد لله رب العالمين حتى أتيت على آخرها) موضع الدليل أنه لم يذكر التسمية ولم ينكر ذلك عليه فدل على أنها ليست منها. [226] (فصل): قد بينا أن المستحب ترك قراءتها فإن قرأها لم يجهر بها. خلافاً للشافعي: لما روى أنس قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فكانوا لا يجهرون بها، وروي مثلها عن ابن مسعود وعائشة. وروي عن عبدالله بن مغفل أنه قال لابنه ورآه يجهر بها إياك والحدث فإني صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فلم أسمع أحداً منهم يقرؤها. إذا قرأت فقل الحمد لله رب العالمين.

[227] مسألة: الصحيح من المذهب وجوب قراءة (الحمد لله) في كل ركعة. خلافاً لأبي حنيفة أوجبها في ركعتين: والدليل عليه قوله للذي علمه الصلاة ثم اقرأ بفاتحة الكتاب ثم اصنع كذلك في كل ركعة كالركوع والسجود. [228] مسألة: في تأمين الإمام روايتان فوجه إثباته. قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أمن الإمام فأمنوا). وروى وائل ابن حجر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول آمين يرفع بها صوته. ولأنه ذكر سن للمأموم فكان مسنوناً للإمام كسائر الأذكار المسنونة؛ لأنه مصل فأشبه المأموم والمنفرد ولأن الإمام في باب الأذكار أبلغ من المأموم؛ لأنه يأتي بما لا يأتي المأموم من القراءة والجهر، وإذا سن له ما كره للمأموم كان بأن يسن له ما يسن للمأموم أولى واعتباراً بإسرار القراءة.

ووجه نفيه قوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) إلى قوله: (فإذا قال: ولا الضالين فقولوا: آمين) ففيه دليلان: أحدهما: أنه لو كان من سنة الإمام التأمين لكان يقول: فإذا قال: آمين فقولوا: آمين. والآخر: أن بنية أمر المأموم على أن تقع أفعاله عقيب أفعال الإمام، وفي الخبر أنه يقول: آمين عند فراغه من قوله: {ولا الضالين} وذلك يوجب مشاركتنا له في الزمان الذي يقول فيه: آمين. ولأن الإمام داع والمأموم مستمع، ومن حق الدعاء أن يكون المؤمن غير الداعي. [229] مسألة: المستحب إخفاء التأمين خلافاً للشافعي: لأنه دعاء في مقابلة دعاء فكان من سنته الإخفاء، أصله قولهم: اللهم ربنا ولك الحمد. ولأنه دعاء حال القيام كدعاء الاستفتاح. [230] مسألة: ولا تجوز القراءة بالفارسية لا لمن يحسن العربية ولا لمن لا يحسنها خلافاً لأبي حنيفة: لأن قراءة القرآن مستحقة في الصلاة باتفاق، ولا يخلو المخالف أن يقول: القراءة بالفارسية قرآن أو ترجمة للقرآن وليست بقرآن فإن قال: إنها قرآن فذلك باطل لأن الله وصف القرآن بأنه عربي فقال تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا} وقال: {ولو جعلناه قرآنا أعجميا}، فدل على أنه لم يجعله كذلك، وقال راداً على من زعم أن سلمان كان يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم -: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} فأخبر أن القرآن هو

باللسان العربي فانتفى أن يكون بغيره وإن قال إنها ترجمة للقرآن وهو مثل له فذلك باطل؛ لأن الله تعالى يقول: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} وهذا ينفي أن تكون الترجمة مثلا له، ولأن ترجمة الشيء غيره كما أن ترجمة الشعر غيره وليست بمثله. ولأن في ذلك إبطالاً للإعجاز ولفائدة التحدي؛ لأن الله تعالى أخبر أن أحداً لا يأتي بمثله، وتحدى العرب أن يأتوا بمثله وعجزهم عن ذلك، وقد علمنا أن العرب تعجز عن لغة العجم ولم يكن في الحجاز لغة العجم، وإذا بطل أن يكون ذلك قرآناً لم يجز أن يعتض به عن القرآن. ولأن الصحابة لما اجتمعت على كتابة المصحف، وعدلوا عن كتب التابوت لما أن كتب بالتاء وقالوا: إن القرآن نزل بلغة قريش مع العلم بأن معنى اللغتين واحد ولما راعوا اللفظ علم أن ذلك شرط في كونه قرآناً. ولأن ما بين ألفاظ العربية من التناسب والتشاكل أقرب مما بين العربية والعجمية، وقد ثبت أن الترجمة عن معنى القرآن ليست بقرآن فالفارسية أبعد. ولأن كفار قريش كانوا في غاية الحرص على تكذيبه والذم عليه فلو كان إيراد معنى القرآن بغير لفظه ونظمه مثلاً له لكانوا يحجونه به وفي هذه الجملة إبطال ما قالوه. [231] مسألة: فرض القراءة ساقط عن المأموم خلافاً للشافعي: لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}

وفي وجوب الإنصات منع كل شاغل عنه، وقوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا) ففيه أدلة: أحدها: أمره بالإنصات وذلك ينفي وجوب القراءة. الثاني: أنه قصد تعليم ما يلزمه أن يفعله خلف الإمام ولم يذكر القراءة. والثالث: أنه بين ما يفعل المأموم فيه مثل فعل الإمام وما من حقه أن يفعل فيه بخلاف فعله. وفي القول بأن على المأموم أن يقرأ إبطال لموضع التفرقة. وقوله: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة). وروى عبدالله بن شداد (أن رجلاً قرأ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآخر ينهاه فلما انصرف قال له إن قراءة الإمام لك قراءة). وروى أبو الدرداء قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفي كل صلاة

قراءة؟ قال: نعم فقال رجل من الأنصار وجبت هذه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (ما أرى الإمام إذا أم قوماً إلا قد كفاهم).وروى أبو قلابة أنه عليه السلام قال: (هل تقرؤون خلف إمامكم؟ قال بعضهم: نعم وقال بعضهم: لا، فقال إن كنتم لابد فاعلين فليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه). ففيه أدلة: أحدها: لم ينكر على من قال لا. والثاني: أنه قال إن كنتم لابد فاعلين وهذا لا يقال في الواجب وإنما يقال فيما تركه أولى من فعله. والثالث: أنه أمره أن يقرأ الحمد لله في نفسه وهو يتضمن النهي عن التلفظ بها. وقوله: (كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج إلا وراء الإمام). ولأنها حال ائتمام كما لو أدركه راكعاً.

وضع اليمنى على اليسرى

ولأن ذلك لو كان واجباً على المأموم لم يسقط عنه بحال كالإمام والمنفرد فلما سقطت عنه حال الركوع دل على أنها غير واجبة. [232] (فصل): إذا قرأ حال جهر الإمام كره ذلك ولم تبطل صلاته. خلافاً لبعضهم. لأن القراءة خلف الإمام لا تبطل صلاة المأموم كحال الإسرار. [وضع اليمنى على اليسرى] [233] مسألة: في وضع اليمنى على اليسرى روايتان: إحداهما: الاستحباب والأخرى: الإباحة، وأما الكراهة ففي غير موضع الخلاف، وهي إذا قصد بها الاعتماد والاتكاء فوجه الاستحباب قوله عليه السلام: (ثلاث من أخلاق النبوة فذكر وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة). وقيل في تأويل قوله عز وجل: {فصل لربك وانحر} في الصلاة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة. ولأنه أزيد وأدخل في الخشوع ووقار الصلاة. ووجه نفيه: كفوا أيديكم في الصلاة، ولأنه عليه السلام علم الأعرابي الصلاة مفروضها وسنتها ولم يذكر ذلك فيها، والأول أظهر.

القراءة في الركعتين الأخيرتين

[234] (فصل): وصفة وضع إحداهما على الأخرى أن تكون تحت صدره وفوق سرته. خلافاً لأبي حنيفة في قوله إن السنة أن يضعهما تحت السرة لأنه موضع محكوم له من العورة فلم يكن محلاً لموضع اليمنى على اليسرى كالفخذ. [القراءة في الركعتين الأخيرتين] [235] مسألة: الاختيار في الركعتين الأخيرتين قراءة الفاتحة وحدها خلافاً للشافعي: في قوله: إن السنة أن يقرأ سورة معها في كل الركعات. لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأولتين بالفاتحة والسورة، وفي الأخيرتين بفاتحة الكتاب وروي أن عمر قال لسعد شكاك الناس في كل شيء حتى في الصلاة فقال أما أنا فأركد في الأولتين وأحذف في الأخيرتين وما آلو ما اقتديت إلا بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ذلك الظن بك. ولأن الأوليين لما اختصتا في الزيادة بالجهر فيما يجهر فيه اختصتا بزيادة القراءة، والأخيرتين لما نقصتا عنهما في الصفة وهي الجهر نقصتا في زيادة القراءة. [التكبير عند الركوع والسجود] [236] مسألة: تكبير الركوع والسجود سنة خلافاً لمن حكي عنه أنه لا يكبر للركوع. لما روي أنه عليه السلام: (كان يكبر في كل ما يخفض

الركوع والرفع منه

ويرفع وأنه لم تزل هذه صلاته حتى فارق الدنيا). [237] مسألة: وليس في الصلاة تكبير واجب إلا تكبيرة الإحرام خلافاً لابن حنبل في قوله إن باقي التكبير واجب. لأن كل نطق وجب في الصلاة غير القراءة لم يتكرر وجوبه كالسلام. [الركوع والرفع منه] [238] مسألة: وإذا ركع وضع يديه على ركبتيه لقوله عليه السلام للذي علمه الصلاة (ثم اركع وضع يديك على ركبتيك وفرق بين أصابعك). وما ذكره ابن مسعود منسوخ لقول سعد (إنا كنا نفعل ذلك

فنهينا عنه). [239] مسألة: التسبيح في الركوع والسجود غير واجب خلافاً لأحمد وداود. لقوله عليه السلام: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً واسجد حتى تطمئن ساجداً) ولم يأمره بذكر فيهما. وقوله: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء) ولم يأمره بالتسبيح، والآخر أنه فصل بينهما فيما يقال فيهما فدل على ما قلناه. ولأنه ركن في الصلاة فلم يجب فيه تسبيح كالقيام. [240] مسألة: في الرفع من الركوع يقول الإمام: سمع الله لمن حمده، ولا يقول: ربنا لك الحمد، ويقول المأموم: ربنا لك الحمد، ولا يقول: سمع الله لمن حمده. خلافاً للشافعي في قوله: إن الإمام والمأموم يقول: ربنا لك الحمد لقوله: (وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد) فدل على أن الإمام لا يقولها. ولأنه

ذكر يقع على وجه المقابلة لكلام الغير فلم يشارك فيه التابع المتبوع كتشميت العاطس. ودليلنا على أن المأموم لا يقول سمع الله لمن حمده قوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا ركع فاركعوا ..) إلى قوله (وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد) ففيه دليلان: أحدهما: أنه لم يقل فقولوا: سمع الله لمن حمده. والآخر: أنه قصد بيان وجه الائتمام به وكيفيته وميز ما يفعل فيه مثل فعله وبما يفعل فيه بخلاف فعله. ولأنه أضاف إلى كل واحد لفظاً غير ما أضافه إلى صاحبه فالظاهر أنهما لا يشتركان فيه. [241] مسألة: الطمأنينة في الركوع واجبة خلافاً لأبي حنيفة: لحديث أبي حميد أنه عليه السلام: (كان يركع فيضع راحتيه على ركبتيه ويعتدل). وقال للذي علمه الصلاة (واركع حتى تطمئن راكعاً). وقال: (لا تتم صلاة أحد حتى يتوضأ) إلى أن قال: (ثم يركع حتى تطمئن مفاصله). ولأنه ركن مستحق فكان من شرطه الطمأنينة كالقيام. [242] مسألة: الاعتدال في الرفع من الركوع غير مستحق عند مالك ومن شيوخنا من يزعم أنه مستحق على قوله وهو قول الشافعي والذي رأيت منصوصاً لابن القاسم وعلي بن زياد عنه أنه إن انحط قبل الاعتدال

السجود

فلا شيء والدليل عليه أن الاعتدال قيام فلو كان فرضاً لكان عقيبه ركوع كالقيام الأول. ولأن القيام ركن قبل الركوع فوجب أن لا يتكرر فرضه في الركعة كالقراءة ولأن هذا الرفع أريد لفصل بين الركوع والسجود، فوجب أن يكتفي منه بما دون الاعتدال؛ لأن الفصل يقع به وكل ما أريد به فعل فصل فإنه إذا حصل ذلك الفصل كفى في وجوبه ولأنه فعل من الرفع ما خرج به عن أن يكون راكعاً أو مقارباً للركوع كما لو اعتدل. [243] مسألة: والرفع من الركوع واجب وإن كان الاعتدال الذي فيه غير واجب فإن انحط ساجداً وهو راكع فلا يجزيه على الظاهر من المذهب. ورأيت في بعض الكتب عن مالك أو عن بعض أصحابه إنه يجزيه وليس بشيء يعول عليه. ودليلنا على أنه لا يجزيه خلافاً لأبي حنيفة قوله عليه السلام: (لا يجزئ الرجل صلاة لا يقيم فيها صلبه في الركوع والسجود) وقوله: (ثم أرفع حتى تعتدل قائماً). ولأن الركوع ركن من الفعل وجب الفصل بينهما اعتباراً بالرفع من السجود. [السجود] [244] مسألة: إذا هوى إلى السجود فواسع أن يضع يديه قبل ركبتيه أو ركبتيه قبل يديه إلا أن الأحسن أن يضع يديه قبل ركبتيه خلافاً لأبي حنيفة والشافعي لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا سجد أحدكم

فليضع يديه قبل ركبتيه). ولأنه أَزْينَ في وقار الصلاة وأبعد عن الشبه بجلوس العوام ومن لا وقار له, فكان أولى به. [245] مسألة: إذا سجد على جبهته دون أنفه أجزأه واستحببنا له الإعادة في الوقت، وقال ابن حبيب لا يجزيه وحكي مثله عن ابن عباس وغيره. ودليلنا قوله عليه السلام: (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء) فذكر الجبهة ولم يذكر الأنف. ولأن ما سوى الجبهة من الوجه لا يلزمه السجود عليه كالذقن ولأن الوجه عضو للسجود فوجب أن يجزئ منه جزء واحد كاليدين. [246] مسألة: وإذا سجد على أنفه دون جبهته مع القدرة عليه فلا يجزيه خلافاً لأبي حنيفة. لقوله عليه السلام: (ثم يسجد فيمكن وجهه)

ويروى (جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله). ولأنه موضع من الوجه فلم ينب السجود عليه عن الجبهة أصله الذقن ولأن كل عضو جاز ترك السجود عليه من غير عذر لم يجز الاقتصار عليه كسائر أعضاء السجود. [247] مسألة: يجوز أن يسجد على طاقات العمامة من غير أن يكشف عن جبهته خلافاً للشافعي. لقوله (واسجد حتى تطمئن ساجداً) ولم يفصل ولأنه عضو من أعضاء السجود فوجود الحائل بينه وبين الأرض لا ينفي الاسم حقيقة، أصله الركبتان. ولأنه مكن جبهته من الأرض فأشبه إذا باشرها به. [248] مسألة: لا يلزمه كشف يديه في السجود خلافاً لأحد قولي الشافعي. لأنه يسمى ساجداً متمكناً فأشبه إذا كشف. [249] مسألة: الطمأنينة واجبة في السجود خلافاً لأبي حنيفة. لقوله: (اعتدلوا في السجود). وقوله: (أتموا الركوع والسجود). وقوله: (ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله من الأرض). وروي أنه عليه السلام نهى عن نقرة الغراب. ولأنه ركن من أركان الصلاة مقصود

لنفسه فترك الاعتدال فيه يفسد الصلاة كالقيام الأول. [250] (فصل): الاعتدال في الجلسة بين السجدتين يخرج على الاعتدال في الرفع من الركوع وقد ذكرناه. [251] مسألة: إذا أراد القيام من السجود نهض قائماً ولم يجلس. خلافاً للشافعي في قوله يجلس جلسة الاستراحة. لما روي أنه عليه السلام (كان إذا رفع رأسه من السجود رفع يديه قبل ركبتيه ونهض قائماً ولا يجلس). وفي حديث أبي حميد أنه عليه السلام (سجد ثم كبر فقام ولم يتورك). ولأن نهوض إلى القيام فلم يكن من سنته أن يفصل بينهما بفعل غيره، أصله النهوض من الجلوس إلى الركعة الثالثة ولأنه انتقال من ركن إلى ركن يخالفه فلم يسن فيه جلسة يفصل بينهما كالانتقال من القيام إلى السجود. [252] مسألة: إذا نهض إلى القيام فله أن يعتمد على يديه وهو الأحسن عندنا خلافاً لأبي حنيفة في قوله يعتمد على صدور قدميه. لما روى مالك بن الحويرث (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهض معتمداً على الأرض). ولأن

الجلوس في الصلاة

ذلك أزين في أدب الصلاة ووقارها فكان أولى. [الجلوس في الصلاة] [253] مسألة: الجلوس في الصلاة كلها متوركاً. خلافاً لأبي حنيفة في قوله أنه يكون في جميعه مفترشاً وللشافعي في قوله أنه يكون في الجلسة الأخيرة للأرض متوركا وفيما قبله مفترشاً. فدليلنا على أبي حنيفة حديث ابن عمر أنه قال: (إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى). وقول الصحابي السنة يفيد أنها سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عبدالله بن الزبير قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه) وهذا لا يكون إلا مع الإفضاء بوركه إلى الأرض على ما قلنا ولأن ذلك أبلغ في التمكين وأحسن في وقار الصلاة. [254] (فصل): ودليلنا على الشافعي. ما رويناه، ولأنه جلوس في الصلاة فأشبه الأخير. ولأنه فعل يتكرر في الصلاة يستوي فيه الإمام والمأموم فكان على صفة واحدة كالركوع ولأنها صفة مسنونة حال القعود

التشهد والسلام

فلم يختلف صفتها كوضع اليدين على الفخذين. [التشهد والسلام] [255] مسألة: التشهدان جميعاً مسنونان غير مفروضين. خلافاً للشافعي في إيجابه الأخير ولغيره في إيجابه إياهما لقوله عليه السلام للأعرابي لما علمه الصلاة: (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك) ففيه دليلان: أحدهما: أن التشهد لو كان مفروضاً لعلمه إياه مع علمه بأنه لا يحسن الصلاة. والآخر: قوله (فقد تمت صلاتك) فحكم بتمامها مع عدم هذا ولأنه ذكر يختص بالجلوس فلم يكن فرضاً كالأول، ولا يدخل عليه السلام؛ لأنه لا يختص بالجلوس؛ لأنه يؤتى به في الجنازة، وإن شئت قلت قبل التحليل. ولأنه ذكر يتكرر في الصلاة إذا لم يكن الأول واجباً فكذلك الثاني كالتعظيم في الركوع، والدعاء في السجود، وقراءة ما عدا الفاتحة. ولأنه ذكر لا يجهر به في الصلاة على حال كالتوجيه على أصلهم والدعاء على أصل الجميع. ولأنه جملة ذكر من شرطه الشهادتان فأشبه الأذان والإقامة، ولأنه ذكر في تضاعيف الصلاة ليس من المعجز كسائر الأذكار، ولأن ألفاظه وردت مختلفة غير متعينة فدل أنه غير واجب، لأن الأذكار المفروضة متعينة كالتحريم والتسليم والقراءة، ودليلنا على من أوجبهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام من اثنتين فمضى ثم سجد للسهو وسجود السهو لا ينوب عن مفروض

ولأن كل ذكر صحت الصلاة بتركه سهواً صحت بتركه عمداً، أصله التسبيح عكسه التحريم والسلام. [256] مسألة: والاختيار من ألفاظه تشهد عمر بن الخطاب. خلافاً لأبي حنيفة في اختياره تشهد ابن مسعود وللشافعي في اختياره تشهد ابن عباس. ولأن عمر علم الناس التشهد على المنبر بهذه الألفاظ فلم ينكر عليه ولا قيل له إن تشهد النبي عليه السلام بخلافه. [257] مسألة: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنونة وليست بشرط في صحة الصلاة خلافاً للشافعي وابن المواز في قولهما إنها واجبة في التشهد الأخير. لقوله في حديث ابن مسعود لما ذكر التشهد: (فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك) ولأن الجلوس لم يكن من أركان الصلاة فلم تكن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مستحقة فيه كالقيام والسجود. ولأن الصلاة على الأنبياء ليس بشرط في صحة الصلاة اعتباراً بسائر الأنبياء. ولأنه ذكر آدمي في تضاعيف الصلاة منفصل عن القرآن فلم يكن شرطاً أصله قولنا: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات. [258] مسألة: التسليم فرض من شرط صحة الصلاة. خلافاً لأبي حنيفة في قول إنه يتحلل بأي شيء شاء مما يقصد به الخروج من الصلاة.

لقوله عليه السلام: (وتحليلها التسليم) وذلك يمنع أن يكون لها تحليل سواه من وجهين: أحدهما: دليل الخطاب، والآخر: خروجه مخرج البيان عن جنس التحليل فمفهومه أنه ليس له تحليل سواه. وقوله عليه السلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي). ولأنه أحد طرفي الصلاة فلم يصح إلا بنطق معين كالدخول، وقد حكى أصحابنا عنهم أن الفرض التحليل من الصلاة، وهم في هذا العصر ينكرون ذلك فيدل عليه بأنه لو أقام عليها حتى يخرج وقتها من غير خروج منها أو إحداث قبل السلام لا يقصد بذلك الخروج ساهياً لبطلت صلاته، فثبت افتقارها إلى معنى يخرج به منها، فإذا ثبت ذلك وجب أن يكون معيناً كسائر الأركان. [259] (فصل): ويفرض الكلام في أن السلام من الصلاة يقع فيها خلافاً لأبي حنيفة في قوله إن ابتداء ألفاظه يقع في الصلاة فإذا أكمله وقع كله خارج الصلاة. لأن ما قالوه يقتضي إحالة؛ لأنهم يزعمون أن ابتداء حروف السلام يقع في الصلاة، ثم بفراغه من الميم يقع السلام كله خارج الصلاة وهذا لا يتصور لأنه إذا وقع ابتداؤه في الصلاة، فالفراغ منه لا يخرج أوله عن الوجه الذي وقع عليه ولأنه ذكر مشروع في موضع يجوز أن يرد عليه ما يفسد الصلاة، فوجب أن يكون من الصلاة اعتباراً بما قبله. ولأنها عبادة لها تحليل وتحريم فوجب أن يكون التحليل منها جزءاً من أجزائها كالرمي والطواف في الحج. ولأنه تطوع مشروع في الصلاة يصادف جزءاً من أجزائها فوجب أن يكون منها كالقراءة، وإذا ثبت أن السلام جزء من الصلاة ثبت أنه من شرط صحتها لأن أحداً لا يفرق. [260] مسألة: لفظه أن يقول السلام عليكم فإن نكر ونون فلا

يجزيه. خلافاً لبعض الشافعية. لقوله عليه السلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ولأنه نطق في أحد طرفي الصلاة فكان متعيناً كالتحريم. [261] مسألة: الفرض منه واحدة وبها يقع التحليل. خلافاً لأحمد بن حنبل وغيره ممن يقول: إن الفرض تسليمتان،. لقوله: (تحليلها التسليم) وذلك يقتضي أقل ما يتناوله الاسم، وروي أنه - عليه السلام - كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه) ولأنه لو أحدث بعد الأولى وقبل الثانية لم تفسد صلاته فدل أن التحليل لا يقع بالثانية وإذا لم يقع بها تحليل لم تكن واجبة كالثالثة. ولأنه ذكر في أحد طرفي الصلاة فكان الفرض منه واحد كالإحرام. [262] مسألة: الاختيار للإمام والمنفرد الاقتصار على واحدة خلافاً للشافعي. لما روت عائشة وأنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يسلمون تسليمة واحدة. ولأن السلام يراد لأحد أمرين إما التحليل وإما الرد وذلك معدوم في الثانية في حق الإمام والمنفرد.

التكبير عند القيام من ركعتين

[263] مسألة: إذا سلم ساهياً لا يعتقد به التحليل فيجب أن لا يجزيه خلافاً لبعض الشافعية. لأنه نطق في أحد طرفي الصلاة فاحتاج إلى نية يصحبها ذكر كالتحريم. [التكبير عند القيام من ركعتين] [264] مسألة: والاستحباب في القيام من اثنتين أن يكبر إذا اعتدل قائماً خلافاً لأبي حنيفة والشافعي. لما روي في حديث أبي حميد (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كبر من اثنتين حتى اعتدل قائماً) ذكره بعض أصحابنا. ولأن هذا القيام مشبه بابتداء الصلاة والتكبير فيه مشبه بتكبيرة الافتتاح فكان القيام إلى الثالثة كالمستأنفة. [الدعاء والقنوت في الصلاة] [265] مسألة: يجوز أن يدعو في الصلاة بكل دعاء يجوز له بخارجها. خلافاً لأبي حنيفة في قوله إنه لا يجوز أن يدعو إلا بألفاظ القرآن وما يقاربها. لقوله عليه السلام: (لا تقولوا السلام على الله ولكن قولوا التحيات لله) إلى أن قال: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به).وقوله: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بالحمد لله والثناء عليه ثم يصلي علي ثم يدعو بما شاء). ولأنه دعاء مباح في غير الصلاة فكان مباحاً في الصلاة كألفاظ القرآن.

[266] مسألة: يقنت في صلاة الصبح خلافاً لأبي حنيفة. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت فيما رواه أبوهريرة وخفاف بن إيماء والبراء وأنس بن مالك وقال أنس: (مازال يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا). [267] مسألة: يجوز القنوت قبل الركوع وبعده. خلافاً للشافعي في قوله إن محله بعد الركوع. ولإجماع الصحابة عليه. وروي عن أبي رجاء

الترتيب في قضاء الفوائت

العطاردي قال: (كان القنوت بعد الركوع فصيره عمر قبله ليدرك المدرك). وروي أن المهاجرين والأنصار سألوا عثمان فجعله قبل الركوع. ولأن في ذلك فائدة لا توجد فيما بعده وهو أن القيام يمتد فيلحق المفاوت. ولأن في القنوت ضرباً من تطويل القيام وما قبل الركوع أولى بذلك لا سيما في الفجر. [الترتيب في قضاء الفوائت] [268] مسألة: الترتيب مستحق في قضاء الفوائت في الخمس فما دونها. خلافاً للشافعي في قوله إنه يسقط بالفوات ويبدأ بالحاضرة على الفائتة. لقوله عليه السلام: (لا صلاة لمن عليه صلاة) فعم. وقوله: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة له إلا ذلك فإن ذلك وقتها). ولأنه عليه السلام ترك أربع صلوات يوم الخندق فقضاهن

التسبيح لتنبيه الإمام

على الترتيب. ولأنه ترتيب في الصلاة مستحق مع بقاء الوقت فلم تسقط بفواته وكون الصلاة في الذمة، أصله ترتيب الركوع والسجود. ولأنهما صلاتان مختلفتان اجتمعتا في وقت فجاز تعليق الوجوب فيها بالفعل أصله العشاء والوتر. [269] (فصل): وهو يستحق مع ضيق وقت الحاضرة وسعته فيبدأ بالفائتة وإن فاتت الحاضرة خلافاً لأبي حنيفة وابن وهب للأخبار التي رويناها، واعتباراً بسعة الوقت بعلة وجوب فوائت في ذمته للترتيب تأثير فيها. ولان كل ترتيب وجب مع سعة الوقت وجب مع ضيقه كالأركان. [التسبيح لتنبيه الإمام] [270] مسألة: الاستحباب لمن نابه شيء في صلاته أن يسبح رجلا كان أو امرأة. خلافاً للشافعي في قوله تصفق المرأة. لقوله عليه السلام: (من نابه شيء في صلاته فليسبح) واعتباراً بالرجل، والمروي في التصفيق فإن العمل المتصل وجد على خلافه فهو أولى من الخبر.

مسائل مختلفة تتعلق بالصلاة

[271] مسألة: يجوز أن يسبح في أي شيء نابه مثل أعمى يقع في بئر أو نفرت دابة يخاف أن ترفسه أو حية أو ما أشبه ذلك. خلافاً لأبي حنيفة في قوله إنه لا يسبح إلا فيما فيه تنبيه إمامه فإن قصد تنبيه غير إمامه بطلت صلاته. لعموم الخبر، ولأنه تسبيح لأمر نابه يجوز له التنبيه عليه كتنبيه إمامه. [مسائل مختلفة تتعلق بالصلاة] [ستر العورة] [272] مسألة: اختلف أصحابنا في ستر العورة في الصلاة، فمنهم من يقول: إنها من شرط صحتها مع الذكر والقدرة، فإن لم يقدر عليها صلى عرياناً وأجزأته، وكذلك إن نسي، وإن صلى مكشوف العورة عالماً بأن له ما يسترها، قادراً على ذلك، فإن صلاته باطلة. ومنهم من يقول: إنها واجبة مفترضة وليست من شرط الصحة، فإن صلى مكشوف العورة عالماً عامداً كان عاصياً آثماً، إلا أن الفرض قد سقط عنه. فوجه الأول قوله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}، قيل: اللباس في الصلاة والطواف. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ورأيناه يصلي بالسترة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار). والاتفاق على أنه مأمور بستر العورة محظور عليه كشفها في

غير الصلاة ومتأكد وجوبها في الصلاة، والقول بأنه ليس من شروط الصحة ينفي ذلك. ووجه الثاني قوله عليه السلام: (لا تتم صلاة أحدكم حتى يتوضأ كما أمره الله) إلى أن قال (ثم يستقبل القبلة فيكبر) فأخبر عما تتم به الصلاة، ولم يذكر ما تنازعناه. ولأن صفة الشيء بأنه شرط في بعض العبادات أو فرض من فروضها يفيد اختصاصه به وأنه يجب بوجوبها، ويسقط وجوبه بسقوط وجوب ما أضيف إليه كالوضوء للصلاة والتيمم والنية. وكالصوم في الاعتكاف والإحرام في الحج وسائر فروض العبادات، ووجدنا ستر العورة لا يختص وجوبه بالصلاة؛ لأنه يلزمه سترها في غيرها فعلم أنه ليس من شرطها. ولأن كل ما كان من فروض الصلاة، فلابد عند عدمه من بدل يقوم مقامه عند العجز عنه في أداء العبادات كالوضوء وغيره، وفي الاتفاق على أن من لم يجد ما يستر عورته، وخاف ذهاب الوقت أن يصلي عرياناً؛ دليل على أن السترة ليست من شروط الصلاة، ولا يدخل عليه التيمم؛ لأنه إذا عجز عنه لم يصل إلا في الوقت؛ لأن منه بدلاً يقوم مقامه وهو الوقت الذي يقتضى فيه. [273] مسألة: عورة الرجل ما بين السرة والركبة. خلافاً لداود وقوله في الفخذ وما قاربه: ليس بعورة، وإن العورة السوءتان فقط. لقوله عليه السلام: (ما بين السرة والركبة عورة).وقوله لعلي - رضي الله عنه -: (لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت). وروى

محمد بن جحش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بمعمر وهو مكشوف الفخذ فقال: (غط فخذك فإن الفخذ من العورة). وروى مالك عن أبي النضر عن ابن جرهد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (غط فخذك فإن الفخذ عورة).

[274] مسألة: وجميع بدن المرأة عورة إلا وجهها وكفيها. خلافاً لمن قال لا يجوز لها كشف الوجه واليدين وهو أحمد بن حنبل لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} قيل الوجه والكفان. ولأن كشف ذلك يلزمها في الإحرام، فلو كان عورة لم يجز لها كشفه كباقي بدنها. [275] مسألة: ولا يجوز لها كشف ما عدا ذلك من بدنها ولا يجزيها الصلاة مع كشفها على أحد المذهبين. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن العورة مخففة ومغلظة، فالمغلظة القبل والدبر، فإن انكشف منهما أكثر من قدر الدرهم بطلت الصلاة، والمخففة ما عداهما فإن انكشف منها أقل من الربع جاز. لقوله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}، ولقوله: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}. وحديث أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله تصلي المرأة بخمار ودرع إذا لم يكن عليها إزار فقال: (نعم إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها). ولأن كل عضو انكشف ربعه منع صحة الصلاة، فكذلك إذا انكشف أقل من ربعه كالعورة المغلظة. ولأنه كشف من عورته ما قدر على سترته كالربع. ولأن تقديرهم ذلك بالربع وبقدر الدرهم دعوى لا ينفصلون فيمن زاد فيها أو نقص عنها. [276] مسألة: العري لا يسقط عن العريان شيئاً يلزمه من أركان الصلاة، ولا يجوز له أن يصلي قاعداً مع القدرة على القيام. خلافاً لأبي

مبطلات الصلاة

حنيفة في قوله: إنه يجزيه أن يصلي قاعداً مع القدرة على القيام،. لأن القيام ركن من أركان الصلاة، فلم يسقط عند العجز عن الكسوة، كالقراءة. ولأن فرائض الصلاة مبنية على أن العجز عن بعض أركانها لا يسقط ما يقدر عليه منها، ألا ترى أن من عجز عن القراءة لم يسقط عنه الركوع والسجود. ومن عجز عن الركوع لم يسقط عنه القيام، وقد ثبت أن من عجز عن القيام لم تسقط عنه السترة فكذلك يجب أن يكون من عجز عن السترة أن لا يسقط عنه القيام. [مبطلات الصلاة] [277] مسألة: الكلام سهواً لا يبطل الصلاة. خلافاً لأبي حنيفة في قوله إنه يبطلها إلا لفظ التسليم. لقوله عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)، وحديث ذي اليدين أنه قال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال: (كل ذلك لم يكن) موضع الدليل أنه عليه السلام تكلم ساهياً وعنده أنه قد فرغ من الصلاة ثم لما ذكر بنى على صلاته وسجد للسهو. ولأنه كلام على وجه السهو فأشبه لفظ السلام. [278] مسألة: إذا تكلم عامداً لإصلاح الصلاة، مثل أن ينبه الإمام

إذا لم يفهم فإنه لا يفسدها خلافاً لأبي حنيفة والشافعي لحديث ذي اليدين لما قال: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: (كل ذلك لم يكن) ثم التفت إلى أبي بكر وعمر فقال لهما: (أحق ما يقول ذو اليدين؟ قالا نعم فبنى ولم يستأنف) موضع الدليل، أنه سألهما وهو يجوز أن يكون في صلاة لأنه استثبتهما. ولأنه كلام أتى به قصداً للتنبيه وإصلاح الصلاة، فلم تبطل به كالتسبيح، ولأنه كلام لم يقصد به التعمد الممنوع كالسهو. ولأن التنبيه على مصلحة الصلاة قد يقع بما لا يكون مباحاً لغيره، أصله التصفيق للنساء. [279] مسألة: إذا قرأ في المصحف وهو في الصلاة لم تبطل صلاته. خلافاً لأبي حنيفة. لأنها لو بطلت لم يخل أن يكون لأجل القراءة في المصحف، وذلك باطل؛ لأنه لو قرأ فيه وهو بين يديه لم تبطل، أو لتصفحه الورق ولا يجوز ذلك، لأنه ليس بعمل متوال، ولأنه من مصلحة الصلاة. [280] مسألة: إذا سبقه الحدث في الصلاة استأنفها ولم يجز له البناء. خلافاً لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي. لقوله عليه السلام: (إذا صلى أحدكم فظن أنه أحدث فلا يخرجن من صلاته) وروي (فلا

ينصرفن حتى يسمع صوتاً أو يشم ريحاً)، وروى الحكم بن عتيبة عن ابن هانيء عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا توضأ الرجل فهو في صلاة حتى يحدث). ولأنه حصل محدثا في الصلاة كالعامد. [281] مسألة: إذا دفع المار يين يديه لم تبطل صلاته. وحكى عن أبي حنيفة أنها تبطل. وذكر الإسفرائيني أنه حكي عن الشافعي في القديم. ودليلنا قوله عليه السلام: (إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع) وهذا نص في استباحة فعل ذلك، فيبطل القول بأنه يفسدها. [282] مسألة: لا يقطع الصلاة مرور شيء بين يدي المصلي. خلافاً لمن قال: يقطعها الحائض والحمار والكلب الأسود. لقوله عليه السلام: (لا

قضاء الصلاة بعد سلام الإمام

يقطع صلاة المسلم شيء) واعتباراً بمرور من سوى هؤلاء. [قضاء الصلاة بعد سلام الإمام] [283] مسألة: ما أدرك مع الإمام آخر صلاته، وما يقضيه أولها، هذا هو المشهور من قوله. وهو قول أبي حنيفة. وروى عنه ابن نافع أن ما أدرك أول صلاته، وما يقضي آخرها. وهو قول الشافعي. فوجه الأول، أن ما أدرك آخر صلاته، قوله عليه السلام: (وما فاتكم فاقضوا) والذي فاته أول صلاته والقضاء هو أن يأتي بمثل المقضي. ولأنه لو أدرك أول صلاة الإمام لكانت أول صلاته، فإذا أدرك آخرها وجب أن يكون آخر صلاته. ولأنه يعمل مع الإمام آخر صلاة الإمام فوجب أن يكون آخر صلاته نفسه، كما لو أدرك جميع الصلاة. ووجه الآخر، قوله عليه السلام: (وما فاتكم فأتموا)، والإتمام أن يأتي ببقية الشيء واعتباراً بالمنفرد. ولأنه لو كان ما يقضيه صلاته لوجب إذا أدرك الإمام في الركعة الأخيرة من المغرب أن لا يقعد في التشهد في الركعتين التين يقضيهما.

إعادة الصلاة في جماعة

[إعادة الصلاة في جماعة] [284] مسألة: من صلى وحده ثم أدركها في جماعة استحب له أن يعيدها إلا المغرب. وقال أبو حنيفة يعيد الظهر والعشاء الأخيرة فقط وقال المغيرة والشافعي يعيد المغرب وغيرها. فدليلنا على أبي حنيفة ما روى مالك عن زيد بن أسلم عن بشر بن محجن عن أبيه قال: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى ثم رجع ومحجن في مجلسه وقال: إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت) فعم ولم يخص. وروي أنه عليه السلام صلى الصبح بمنى وإذا برجلين لم يصليا فدعاهما فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا، قالا: إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: وإن كنتما قد صليتما في رحالكما إذا أتيتما الإمام فصليا معه فإنها لكما نافلة) ففيه دليلان: أحدهما: أن السبب كان الصبح، والسبب لا يخرج عن الحكم بحال. والثاني: أنه عام. ولأنها صلاة شفع فاستحب إعادتها أصله الظهر عكسه المغرب. [285] (فصل): ودليلنا على أن المغرب لا تعاد, قوله عليه السلام: (لا

العجز عن القيام في الصلاة

تصلى صلاة في يوم مرتين) فعم. ولأنها وتر فإذا أعادها حصل وتران في ليلة من جنس، وذلك ممنوع. ولأن إحدى الصلاتين تكون متنفلاً بها والتنفل لا يكون إلا بثلاث ركعات. [286] مسألة: إذا صلى في جماعة لم يعدها في جماعة أخرى خلافاً للشافعي. لأن إحدى الجماعتين لا فضيلة لها على الأخرى. ولأنه لو استحب إعادتها لم يكن لذلك حد يقف عنده. [العجز عن القيام في الصلاة] [287] مسألة: إذا عجز عن القيام صلى قاعداً متربعاً. خلافاً للشافعي في قوله يصلي مفترشاً. لأن ذلك مروي عن ابن عمر وابن عباس وأنس. ولأن ذلك أيسر في التمكين وأتم في وقار الصلاة وليفصل بين قعوده الأصلي وبين قعوده البدل. ولأن ذلك أبلغ في حفظ صلاته وأبعد عن التشويش عليه وشكه. [مكان وقوف المرأة في صلاة الجماعة] [288] مسألة: إذا ائتمت المرأة بالرجل قامت خلفه. وإذا قامت إلى

سجود التلاوة

جنبه أو بين يديه لم تبطل صلاة واحد منهما. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن صلاتهما تبطل في غير الجنازة؛ لقوله عليه السلام: (لا يقطع صلاة المرء شيء). ولأنها صلاة شرعية كالجنازة. ولأن كل من تصح صلاة الرجل معه إذا وقف إلى جنبه في الصلاة على الجنازة فكذلك في سائر الصلوات، كالرجل والصبي. ولأنه موقف لو وقفه في الجنازة لم تبطل صلاته، فكذلك في غير الجنازة كوقوفه إلى جنب الصبي. ولأن اختلاف موقف الإمام لا يوجب بطلان صلاة واحد منهما، كوقوف المأموم عن يسار الإمام. ولأن مجاورة المرأة لا تفسد صلاة من جاورته كقيامها في صلاة أخرى أو في غير صلاة. [سجود التلاوة] [289] مسألة: سجود التلاوة مستحب غير واجب، لا على القارئ ولا على المستمع. خلافاً لأبي حنيفة. لأنه إجماع الصحابة. روي عن عمر أنه قرأ سجدة على المنبر يوم الجمعة فنزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان في الجمعة الأخرى قرأها، فتهيأ الناس للسجود فقال: (على رسلكم، إن الله تعالى لم يكتبها علينا إلا أن نشاء). وفي طريق آخر (من سجد فقد أحسن ومن لم يسجد فلا إثم عليه) وذلك بمحضر من المهاجرين والأنصار فلم ينكر ذلك أحد ولا حكي فيه خلاف. وفي حديث أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ (ص) على المنبر فنزل فسجد ثم قرأ في الجمعة الأخرى فنزل فسجد ثم قال: (ما أردت أن أسجد ولكني رأيتكم تيسرتم

للسجود). وذلك يدل على أنها غير واجبة. ولأنه سجود في غير صلاة، ولا في حكمها، فلم يكن واجباً بأصل الشرع كسجود الشكر. ولأنه يجوز فعله على الراحلة في السفر من غير خوف ولا مرض، فلم يكن واجباً كالتطوع. [290] مسألة: إذا ركع بدلاً عن سجود التلاوة لم ينب ذلك عن السجود. خلافاً لما يحكى عن أبي حنيفة أنه بالخيار إن شاء سجد وإن شاء ركع. لأنه سجود شرع لسبب اقتضاه، فلم ينب عنه الركوع أصله سجود السهو؛ لأن كل سجود شرع في الشريعة لم ينب عنه غيره، أصله السجود من صلب الصلاة. [291] مسألة: في عزائم القرآن روايتان: إحداهما: إحدى عشر وهي المشهورة. والأخرى: أربعة عشر باقيها في المفصل وهو قول أبي حنيفة والشافعي. فوجه الأول: ما روي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في النجم فلما هاجر إلى المدينة تركها. وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة. [292] مسألة: في الحج سجدة واحدة وهي الأولى، والثانية ليس بعزيمة خلافاً للشافعي. لأنه سجود مقرون بالركوع، فلم تقتض سجدة تلاوة أصله قوله تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين}. [293] مسألة: سجدة (ص) عزيمة خلافاً للشافعي. لما روى ابن

الصلاة داخل الكعبة

عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في (ص)،. وروي أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (رأيت كأني اقرأ (ص) فلما أن بلغت إلى السجدة سجد الدواء والقلم فسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في (ص). [294] مسألة: السجود عند بشارة أو مسرة مكروه والأولى أن يقتصر على الشكر والحمد باللسان. خلافاً للشافعي في قوله يسجد. لقوله عليه السلام: (إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية) فأمر بالدعاء ولم يأمر بالسجود. ولأنه لا نعمة أعظم من نعمة الإسلام، وقد أسلم كثير من الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يأمر أحداً منهم بالسجود، ولو كان مستحباً لأمر بذلك، وقد كانت له ولأصحابه فتوح كثيرة عظيمة، فلم ينقل أنهم سجدوا لها مع عظيم المن فيها وزوال الأذى عنهم بها. وكذلك روي أنه استسقى النبي - صلى الله عليه وسلم - في عام جدب فسقي فلم ينقل عنه أنه سجد بل نقل عنه أنه كان يلجأ عند الشدائد إلى الدعاء وعند زوالها إلى الحمد والشكر بلسانه. [الصلاة داخل الكعبة] [295] مسألة: مذهب مالك في صلاة الفرض داخل الكعبة أنها تكره

وتجزئ. وقال أصبغ لا تجزيه، وهو المشهور عند المحققين من أهل مذهبنا. فوجه الأول قوله تعالى: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} وهذا قد فعل. وروى بلال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة فصلى بها. ولأنه مستقبل بجميع بدنه من البيت كالخارج، ولأن كل بقعة صحت فيها النافلة على الإطلاق صحت فيها الفريضة كسائر المواضع. ووجه المنع قوله تعالى: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}، والمراد بالشطر القبالة والنحو ففيه أدلة: أحدها: أنه يوجب استقبال جملته وذلك ينفي استدبارها ومن كان داخلها فلابد أن يستدير شيئاً منها. والثاني: أن الأمر إنما يتوجه إلينا إذا كنا على صفة يصح فيها فعل المأمور وتركه؛ لأن المأمور إنما يكلف ليفعل أو يترك، وما لا يُفعل إلا على وجه فلا يصح أن يؤمر بفعله، ومعلوم أن من كان داخل الكعبة لو أراد أن لا يولي وجهه شطره لم يمكنه فعلم أنه مأمور بأن يحصل على صفة يصح منه الفعل والترك وهو الخروج عنه. والثالث: أن الأمر بالشيء نهي عن ضده من حيث المعنى؛ لأن أمره إيانا أن نولي وجوهنا شطره يتضمن منع استدبار بعضه في معنى استدبار كله لا ينفي كونه مستقبلاً لها ولا يجوز أن يقابل بأن يقال إن استقبال بعضه كاستقبال

الصلاة عند نقض البيت -والعياذ بالله-

جميعه لما بينا أن الاستقبال المأمور به لا يتصور إلا بحيث يمكن الاستدبار بدلاً منه. [الصلاة عند نقض البيت -والعياذ بالله-] [296] مسألة: ولو نقض البيت ليبنى جازت الصلاة إلى جهته وإن لم يكن هناك شخص يستر. خلافاً للشافعي. لقوله تعالى: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}. ولأن الاعتبار بالبقعة والسمت دون البناء دلالة أن البناء لو نقل إلى مكان آخر لم يجز الصلاة إليه، والبقعة حاصلة وإن لم يتسن بناء؛ لأن الكعبة موضع البيت نفسه فلا معتبر بالبناء، ولأنه لا خلاف أن البناء لو نقض كانت صلاة أهل الأفاق جائزة وإن لم يحدث بدلاً له بناء آخر فعلم أن الحرمة للبيت دون البناء. ولأنه مستقبل جهة الكعبة كما لو كان البيت مبنياً، ولأنه لو كان ما قالوه شرطاً لم يجز الصلاة على أبي قبيس؛ لأنه ليس بشيء يستقبله المصلي، ولا يلغى بناء البيت لأن ذلك في حق من هو نازل عنه. [قضاء المرتد الصلاة إذا أسلم] [297] مسألة: إذا أسلم المرتد لم يلزمه قضاء ما ترك من الصلاة والصوم في حال ردته خلافاً للشافعي. لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}. وقوله عليه السلام: (الإسلام يجب ما قبله). ولأنها حال كفر فلم يقض ما ترك فيها من الصلاة كالكفر الأصلي، ولأن كل معنى أثر في سقوط قضاء الفوائت فإنه إذا زال ثم عاد

الشك في عدد ركعات الصلاة

فإن زواله ثانية يسقط قضاء الفوائت معه، أصله الحيض، وهذا يتصور فيمن كان كافراً ثم أسلم ثم أرتد ثم أسلم. ولأنه معنى يؤثر في سقوط الفوائت، فلم يفترق فيه حكم الطارئ والأصلي كالجنون. [298] مسألة: وعليه استئناف الحج خلافاً للشافعي. لأن عمله حبط بالكفر بدليل قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} ولأنه لو كان عمله مراعى غير محبط بالكفر لوجب أن تصح أنكحته وحقوقه المفتقرة إلى الإسلام كإنكاحه لوليته، وإذا ثبت أن عمله قد انحبط صار كالإسلام المبتدأ. ولأنه إسلام عقيب كفر، فوجب أن يلزم معه الحج كالمسلم ابتداء. [الشك في عدد ركعات الصلاة] [299] مسألة: إذا شك في عدد الركعات بنى على يقينه، كان شكه نادراً أو معتاداً، ما لم يكن استنكاحاً. خلافاً لأبي حنفية في قوله: إن كان أول شك لم يتكرر منه تحرى وبنى على غالب الظن. لقوله عليه السلام: (إذا شك أحدكم في صلاته فليلغ الشك وليبن على اليقين، فإذا استيقن التمام سجد سجدتي السهو، فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة والسجدتان، وإن كانت ناقصة كانت الركعة تمام الصلاة، وكانت السجدتان ترغيماً للشيطان). ولأنه شاك في عدد ركعات صلاة هو مشتغل بها، فوجب أن يبني على اليقين، أصله إذا تحرى فلم يغلب على ظنه شيء أو غلب على ظنه النقصان. ولأن أمر الصلاة مبني على الاحتياط وهو ههنا البناء على اليقين؛ لأنه يتيقن معه إتمام الصلاة ويصير شاكا في الزيادة، وإذا بنى على غالب الظن والتحري صار شاكا في تمام الصلاة ومجوزا لنقصانها وذلك ضد الاحتياط. ولأنه إذا تحرى وبنى على اليقين، فإنه يسجد للسهو،

سجود السهو

والسجود إنما يجبر ما لم يكن شرطا في الصلاة، فلو قلنا إنه يتحرى ويسجد للسهو جاز أن يكون قد ترك الركعة فيصير سجود السهو نائباً عن ركن وذلك غير جائز، وإذا بنى على اليقين كان سجود السهو جبراً للزيادة أو مرغماً للشيطان فكان أولى؛ لأنه لا يخرج السجود عن موضعه. ودليلنا على أن الصلاة لا تبطل بأول مرة لخبره الذي رويناه، ولأنه شك في عدد ركعاتها كالمعتادة. [سجود السهو] [300] مسألة: سجود السهو في النقصان قبل السلام، وفي الزيادة بعد السلام. خلافاً لأبي حنيفة في قوله إن جميعه بعد السلام. وللشافعي في قوله إن جميعه قبل السلام. فدليلنا على أبي حنيفة حديث عبدالله بن بحينة أنه قال: (صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه فلما قضى صلاته وانتظرنا تسليمه كبر وسجد سجدتين وهو جالس قبل السلام ثم سلم). ولأن سجود النقص جبران للنقص الواقع في الصلاة، فوجب أن يكون في الصلاة، كما كان هدي المتعة والقرآن في الحج؛ لكونه جبراناً للنقص الواقع فيه. ولأنه سجود لسبب وقع في الصلاة يتعلق بها، فجاز أن يكون قبل السلام كسجود التلاوة. ودليلنا على الشافعي ما روى ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لكل سهو سجدتان بعد ما يسلم). وحديث ذي اليدين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

صلى ركعتين أخريين ثم سلم ثم سجد سجدتين. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، وإذا سلم فليسجد سجدتين).ولأن هذا السهو قد اقتضى زيادة لأجل الصلاة، فلو قلنا إنه يكون فيها لكان زيادتين في الصلاة وذلك لا يجوز. [301] مسألة: إذا أسر موضع الجهر، أو جهر في موضع الإسرار سجد سجدتين. خلافاً للشافعي في قوله لا يسجد في ذلك. لقوله عليه السلام: (لكل سهو سجدتان). ولأنه ترك مسموعاً في الصلاة أو زاد مسموعاً يتعلق به السجود كما لو ترك أصل الذكر. [302] مسألة: لا يسجد للسهو أكثر من سجدتين كثر أو قل. خلافاً لمن حكي عنه لكل سهو سجدتان إن صحت الحكاية عنهم لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ذي اليدين أنه سجد سجدتين. وقد اجتمع عليه أشياء من السهو، منها سلامه من اثنتين، وكلامه واستثباته ومشيه. ولأن الأصل في السجود الذي يعرض لسبب أن يكون عقب سببه، كسجود التلاوة ويتكرر بتكرره، وفي مسألتنا: أخره إلى آخر الصلاة، وفائدة ذلك تجويز أن يحدث شيء آخر من بابه فيكون السجود للجميع. [303] مسألة: الذي يقتضيه مذهبنا أن سجود السهو للنقصان واجب في الصلاة. لأن مالكاً اختلف قوله فيه. قال: فإن تركه حتى طال أو انتقض وضوءه أعاد الصلاة، وكان الشيخ أبو بكر الأبهري يمتنع من إطلاق

العجز عن قراءة القرآن

الوجوب، ويقول: إن الصلاة تعاد بتركه. وعندي أن ذلك خلاف عبارة؛ لأن الغرض حاصل، وهو فساد الصلاة بتركه وهذا فائدة الوجوب. وقال أبو حنيفة: هما واجبتان وليستا من شرط صحة الصلاة، فلا يتصور خلاف معه؛ لأن عنده أن السجود للنقصان بعد السلام. وقال الشافعي: هو مستحب وليس بواجب. ودليلنا حديث ابن بحينة، وفيه (فلما قضى صلاته وانتظرنا تسليمه سجد سجدتين ثم سلم) وأفعاله على الوجوب وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي). ولأنه جبران وقع في عبادة فكان واجباً فيها كالدم في الحج ولأنه سجود يفعل في الصلاة لإصلاحها. [304] مسألة: إذا لم يسجد الإمام لسهو سجد المأموم. خلافاً لأبي حنيفة. لأن صلاة المأموم متعلقة بصلاة إمامه، فإذا دخل على صلاة الإمام نقصٌ دخل على صلاة المأموم، فوجب أن يجبره بسجود السهو؛ ولأنه سجود لزم الإمام فإذا لم يأت به أتى به المأموم كالسجود الأصلي. [305] مسألة: وإذا كان سهو الإمام قبل دخول المأموم معه في الصلاة لزم المأموم أن يسجد معه. خلافاً لأحد قولي الشافعي. لأن حكم اتباعه قد لزمه، ألا ترى أنه يتبعه في الجلوس ويتبعه في القيام، وإن لم يكن في نظام صلاته، واعتباراً بما يدركه معه. [العجز عن قراءة القرآن] [306] مسألة: إذا كان لا يحسن شيئاً من القرآن أصلاً لزمه أن يكبر للإحرام، ولم يلزمه من طريق الوجوب تسبيح ولا تحميد ولا غيره، ويستحب له أن يقف وقوفاً ما فإن لم يفعل وركع أجزأه. وعند الشافعي يلزمه أن يذكر الله عز وجل بالتكبير والتحميد، فدليلنا أنه ذكر بدل عن القراءة فلم يلزمه للعجز عنها كسائر الأذكار. ولأنه ذكر غير مقدر كالدعاء. ولأن الأذكار في الصلاة إذا عجز عن شيء منها وانتقل الوجوب إلى غيرها،

لم ينتقل إلا إلى معين كالركوع والسجود، فلما كان الذكر الذي ينتقل إليه عند العجز عن القراءة غير متعين دل أنه لا يلزمه. [307] مسألة: إذا كان يحسن من الفاتحة آية أو آيتين أتى بما يحسنه، ولم يلزمه تكراره ولا قراءة غيره من القرآن. ولأصحاب الشافعي وجهان: أحدهما: أنه يكرر ما يحسنه منها سبع مرات. والآخر: أنه يأتي بتلك الآية وست آيات من القرآن. ودليلنا على أنه لا يلزمه التكرار، أنه قد قرأه فلم يلزمه تكراره في الركعة التي قرأه فيها، كما لو كان يحسن جميعها. ولأن وجوب التكرار لا يخلو أن يكون ليقوم مقام الحمد لله بعدد آياتها أو لأن عليه أن يأتي بهذا العدد جملة، فإن كان ليقوم مقام الحمد، فذلك باطل؛ لأن القراءة ركن والعجز عن بعض الركن لا يوجب تكرار البعض المقدور عليه منه، ولا يقوم ذلك مقام جملته كالركوع والسجود. ولأنه نطق من شرط صحته الصلاة، فوجب إذا عجز عن بعضه أن لا يلزمه تكرار ما يحسنه، أصله تكبيرة الإحرام إذا كان يحسن أن يقول: (الله) ولا يحسن أن يقول: (أكبر) فإنه لا يلزمه أن يكرر قوله الله وإن كان عليه أن يأتي بذلك العدد من القرآن، فلا يصح؛ لأن ذلك عليه من موضع معين. فإذا لم يكن، لم يلزمه غيره، ودليلنا على أنه لا يلزمه غير الفاتحة من سائر الأذكار أو القرآن، أنه ذكر مقدر معين، فإذا عجز عن بعضه لم يلزمه الإتيان ببقية من جنسه، أصله إذا كان يحسن (الله) ولا يحسن أن يقول: (أكبر) فإنه لا يلزمه أن يقول: أعظم وأجل. ولأن قراءة غير أم القرآن لا تلزم في الصلاة، أصله إذا كان يحسن الفاتحة كاملة وكذلك إن لم يكن يحسنها أو بعضها وكذلك ما زاد على الست آيات.

إمامة الجنب أو المحدث

[إمامة الجنب أو المحدث] [308] مسألة: الجنب أو المحدث إذا أم بقوم، فإن كان عامداً فصلاتهم باطلة علموا أو لم يعلموا وإن كان ناسياً، فصلاة من علم منهم باطلة، ومن لم يعلم به فصلاته ماضية، فأما صلاته في نفسه، فإنها باطلة على كل وجه ولا خلاف فيه. وقال أبو حنيفة: صلاة من خلفه باطلة علموا أو لم يعلموا ناسياً كان أو ذاكراً. وقال الشافعي: صلاة من علم به باطلة، وصلاة من لم يعلم به ماضية ناسياً كان أو ذاكراً. فدليلنا على أبي حنيفة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار بيده أن امكثوا، ثم رجع وعلى جلده أثر الماء. وفي حديث آخر: (إنما أنا بشر وإني كنت جنباً وأنسيت). ولأن بطلان طهارة الإمام على غير وجه العمد لا توجب بطلان صلاة المأموم إذا لم يتابعه مع العلم، ولا ينسب إلى تفريط، أصله من سبقه الحدث، ولا يلزم عليه إذا تعمد بهم لأن بطلان صلاتهم هناك لفسقه. ولأنه فساد اتصل بحكم الصلاة من جهة الإمام في طهارته عن غير قصد منه فلم يتعد إلى صلاة المأموم، أصله إذا غلبه الحدث. ولأن من خلف الإمام لا يجب عليه العلم بحال إمامه هل هو متطهر أو

الصلاة في الثوب النجس

لا؛ لأن ذلك لا يصل إليه ولا يؤثر علمه في فساد صلاته ولا يدخل عليه التعمد؛ لأن البطلان للفسوق عليه في الجملة أمارة. [309] (فصل): دليلنا على الشافعي أنه قاصد لإفساد صلاتهم، واستهزاء بالدين فبطلت صلاتهم خلف من هذه صفته كالكافر. ولأنه يصير بهذا الفعل فاسقا وإمامة الفاسق لا تجزئ عندنا وتجزئ عند أبي حنيفة والشافعي. ودليلنا قوله: (يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقومهم قراءة، فإن كانوا في القراءة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا سواء فأكبرهم سنا) فبين - صلى الله عليه وسلم - أن المقصد المطلوب في الإمامة كمال حال الإمام في الفضل، وأمر بتقديم كل من زادت حيازته لها، وذلك ينفي الائتمام بالفاسق الموصوف بضد هذه الصفة. ومثله قوله (أئمتكم شفعاؤكم، فانظروا بمن تستشفعون). ولأن الإمامة تتضمن حمل ركن من أركان الصلاة عن المأموم وهو القراءة، والفاسق لا يؤمن منه تركها، وليست هناك إمارة ولا غالب ظن يؤمّننا من ذلك فيه، فيكون المؤتم به مغرراً بصلاته خلفه ويصير كمن صلى وحده وشك هل قرأ أم لا فنقول له أعد صلاتك؛ لأنك على غير يقين من سقوط فرض القراءة عنك، كذلك الائتمام بالفاسق. [الصلاة في الثوب النجس] [310] مسألة: إذا لم يجد إلا ثوباً نجساً ولم يجد ماء يغسله به فإنه يصلي به ولا يصلي عرياناً، ثم إن وجد ثوباً طاهراً بعد أن صلى استحببنا له الإعادة في الوقت والصلاة تجزيه. وقال أبو حنيفة إن كان النجس في بعضه لزمه أن يصلي فيه، ولا قضاء عليه وإن كان جميعه

نجساً كان بالخيار بين أن يصلي فيه ولا قضاء عليه، وبين أن يصلي عرياناً ولا قضاء عليه. وعند الشافعي لزمه أن يصلي عرياناً ولا إعادة عليه، فإن صلى به فعليه القضاء. ودليلنا عليهما أن ستر العورة أكد في ذلك حالاً من إزالة النجاسة، بدليل أنه إذا لم يرد الصلاة جاز له لبس الثوب النجس، ولم يلزمه إزالته وكان عليه ستر عورته عن أعين الناس في الصلاة وغيرها، فإذا تقابلا كان الأوكد أولى ولا يصح اعتبارهم بالتطهير بالماء النجس؛ لأنه لم تنتقض بالمكان. ولأن الطهارة شرط في الصحة على الإطلاق بخلاف الستر. [311] مسألة: قليل النجاسة وكثيرها سواء في منع الصلاة بجنسها سوى الدم، فإنه تجزئ الصلاة بيسيره، وإن كثر وتفاحش لم يجزه. وقال أبو حنيفة: تجوز الصلاة بيسير النجاسة أي نوع كانت وهي ما قصر عن مقدار الدرهم البغلي وما بلغ أكثر من ذلك لم يجز. وقال الشافعي: كل نجاسة فلا تجوز الصلاة بقليل منها ولا بكثير، من الدم وغيره، إلا دم البراغيث، فإنه نجس معفو عنه. هذا في غير الضرورات، وأما في الضرر كدم الاستحاضة والجرح. لا يرقأ، وسلس البول فإنه غير داخل في هذا. فدليلنا أوّلاً على أن ما عدا الدم يجب غسله قليله وكثيره. قوله عليه السلام: (إنما يغسل الثوب من المني والبول). ولأنها نجاسة لا يجوز أكل شيء مما خالطها، فلم تجز الصلاة بشيء منها، عكسه الدم لما جاز أكل ما أصابه اليسير منه، جازت الصلاة بيسيره. ولأنها نجاسة بموضع يلحقه حكم التطهير ممكن الاحتراز منها غالباً غير متكررة فوجب

مسائل في النجاسة

إزالتها، أصله ما زاد على قدر الدرهم. [312] (فصل): ودليلنا على أن الدم بخلاف سائر النجاسات، أن يسيره لا يمكن الاحتراز منه ولا التحفظ إلا بمشقة وكلفة؛ لأن الإنسان لا يخلو في الغالب من دم بثرة أو بعوضة أو برغوث أو سن أو أنف. ولأن الذبائح لا تخلو من بقية دم في العروق فعفي عن يسيره للضرورة ولأجل المشقة. ولأن الله تعالى لما أفرد تحريمه بأن يكون على صفة وهو أن يكون مسفوحاً عُلم أن ما قصر من ذلك مخفف. ولذلك قالت عائشة: (لولا أن الله تعالى قال: {أو دما مسفوحا} لتتبع الناس ما في العروق من الدم) واعتباراً بدم البراغيث. [مسائل في النجاسة] [313] مسألة: بول الصبي إذا لم يأكل الطعام يغسل. خلافاً للشافعي في قوله يكفي أن يرش عليه. لقوله عليه السلام: (إنما يغسل الثوب من المني والبول). ولأنه بول آدمي كالأنثى، واعتباراً به بعد أكل الطعام. والحديث المروي في رشه قال مالك: ليس بالمتفق عليه. [314] مسألة: أبوال ما يؤكل لحمه وأرواثه طاهرة. خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي. لقوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} الآية، (ولما روي أنه عليه السلام أباح للعرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها). وقوله:

(ما أكل لحمه فلا بأس ببوله). وقوله: (ليس بشرب بول كل ذي كربأس). وقوله: (جنبوا صبيانكم ومجانينكم مساجدكم)، ومعلوم أن ذلك لتوقي النجاسات؛ لأنه لا يؤمن وقوعه من صبي ومجنون. ثم روي أنه عليه السلام طاف بالبيت على بعيره) فدل أن بوله طاهر، وإلا كان ذلك مناقضة؛ لأن فيه تعريض المسجد لما أمر بتنزيهه عنه. ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أباح الصلاة في مرابض الغنم مع العلم بأنها لا تخلو من أبوالها غالباً. ولأنه مائع ورد الشرع بإباحة شربه على الإطلاق كاللبن، أو بإباحة التداوي به. ولأن البول يجب أن يكون في الإباحة والحظر معتبراً بلحم ذلك الحيوان، أصله بول الآدمي والخنزير، وتحريره أنه بول، فوجب أن يكون تابعاً للحمه كأبوال الآدميين. وعلى أبي حنيفة أنه رجيع حيوان مأكول اللحم من غذاء طاهر كذرق الحمام .. [تم الجزء الرابع من كتاب الإشراف، والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم]

بسم الله الرحمن الرحيم [315] مسألة: المني نجس خلافاً للشافعي لأنه مائع خارج من السبيل كالبول. ولأنه مائع ينقض خروجه الطهر، وأشبه المذي والبول. ولأنه مائع يوجب البلوغ، كدم الحيض. ولأنه مائع يجري في مجرى النجس، فلو كان طاهراً في الأصل لوجب أن ينجس لذلك. [316] (فصل) ويغسل رطبه ويابسه، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن يابسه يفرك ولا يغسل لقوله عليه السلام: (إنما يغسل الثوب من المني والبول). ولأنه مائع نجس كالدم والبول، واعتباراً بسائر النجاسات وبرطبه. [317] مسألة: إذا انكسر عظمه فجبر بعظم نجس، وخاف التلف بقلعه لم يلزمه ولم يجز له قلعه. خلافاً لبعض الشافعية في قوله يقلعه وإن تلف لقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} ولأنه ليس في ذلك أكثر من أن يصلي بالنجاسة، وذلك جائز مع الضرورة. ولأنه لو لم يجز له ذلك لم يكن لإباحة أكل الميتة خوف التلف معنى، قال بعض الشافعية: يقلعه وإن تلف. [318] مسألة: إذا أصاب الأرض بول أو دم، لم يطهر بمرور الزمان وطلوع الشمس عليها خلافاً لأبي حنيفة. اعتباراً بالبساط النجس والثوب.

الصلاة في المقبرة

ولأنه لو كان قد طهر لجاز التيمم بذلك التراب. [319] مسألة: دم السمك نجسخلافاً لأبي حنيفة. لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} واعتباراً بسائر الدماء. [320] مسألة: الخمر نجس خلافاً لمن لا يعتد بقوله. لأنه مائع محرم تناوله من غير خوف على النفس كالدم. ولأنه مائع محرم إمساكه واجب إراقته كالبول والدم. [321] مسألة: النار لا تطهر شيئاً خلافاً لأبي حنيفة. لقوله تبارك وتعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} فخص الماء بذلك. ولأنه عين نجسة، فلم يطهر بالنار كلحم الخنزير. [الصلاة في المقبرة] [322] مسألة: الصلاة في المقبرة جائزة في الجملة ما لم تكن فيها نجاسة تعلم،. لأنها موضع طاهر كسائر المواضع. [دخول الكافر والجنب المسجد] [323] مسألة: لا يجوز للجنب اللبث في المسجد خلافاً لداود. لقوله عليه السلام: (لا أحل المسجد لحائض ولا جنب). ولأنه شخص يلزمه الغسل كالكافر. [324] مسألة: ولا يجوز له المرور فيه خلافاً للشافعي للخبر أيضاً (لا أحل المسجد لحائض ولا جنب). ولأنه نوع من الكون فيه

باب في الصلوات غير الفرائض

كاللبث. ولأن كل من منع اللبث في المسجد منع المرور فيه، كالذي على جميع جسده نجاسة. ولأن المحدث الحدث الأصغر لما جاز له الاجتياز فيه جاز له اللبث فيه، والجنب لما لم يجز له اللبث فيه لم يجز له الاجتياز فيه، وتحريره أن يقال: إذا ثبت للبث في المسجد حكم ثبت مثله للمرور واعتباراً بالمحدث في الظاهر. [325] مسألة: لا يجوز للكافر دخول المسجد أصلاً. خلافاً لأبي حنيفة في تجويزه ذلك في كل مسجد من المسجد الحرام وغيره. والشافعي في تجويزه في كل مسجد إلا المسجد الحرام. فدليلنا على أبي حنيفة قوله تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} ولأنه لما منع الجنب والحائض تعظيماً لحرمته وهما أقرب للطهارة. وأولى بالإباحة من الكافر، كان الكافر أن يمنع منه أولى، ودليلنا على الشافعي الاعتبار بالمسجد الحرام، ولأن كل من لا يجوز له قراءة القرآن لحرمة القرآن فلا يجوز له دخول المساجد كلها، أصله الجنب والحائض. [باب في الصلوات غير الفرائض] [النافلة بعد العصر] [326] مسألة: لا تصلى نافلة بعد العصر حتى تغرب الشمس لا تحية المسجد ولا غيرها. خلافاً للشافعي في قوله تصلى كل نافلة لها سبب. لقوله عليه السلام: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا بعد الفجر حتى تطلع الشمس). وروي (لا تتحروا بصلاتكم عند طلوع

قضاء الصلاة في الأوقات المنهي عنها

الشمس ولا غروبها). واعتباراً بما لا سبب به وبالاستسقاء. [قضاء الصلاة في الأوقات المنهي عنها] [327] مسألة: وتقضى الفوائت من الفرائض في الأوقات المنهي عنها، خلافاً لأبي حنيفة. لقوله عليه السلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فذلك وقتها لا كفارة غير ذلك) واعتباراً بعصر يومه. [قضاء السنن بعد خروج وقتها] [328] مسألة: السنن من الصلاة لا تقضى بعد انقضاء أوقاتها خلافاً لأحد قولي الشافعي لأنها صلاة نفل، فوجب أن تسقط بفوات وقتها كالكسوف؛ ولأنها سنة كالأضحى إذا انقضت أيام النحر، وكالتسمية إذا فرغ من الذبح. [صلاة الوتر] [329] مسألة: الوتر آكد من ركعتي الفجر خلافاً لأحد قولي الشافعي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يوتر فليس منا". وقول علي بن أبي

طالب: (نهاني خليلي أن أنام إلا على وتر). ولأنه لم يختلف في نفي وجوب ركعتي الفجر وقد اختلف في وجوب الوتر فدل على تأكده عليها. [330] مسألة: الوتر سنة مؤكدة وليس بواجب. خلافاً لأبي حنيفة. لقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} فلو كانت الوتر واجبة لكانت الصلوات ستاً ولا وسطى لست، وحديث الأعرابي لما سأل عن الإسلام فقال عليه السلام: (خمس صلوات في اليوم والليلة قال هل علي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوّع) ففيه أدلة: منها: أنه لما بين له الواجبات ذكر الخمس ولم يذكر الوتر. والثاني: أنه لما سأل هل علي غيرهن؟ قال: لا، فالوتر غيرهن، فدل أنه غير واجب وأنه ليس عليه. والثالث: أنه قال: والله لا زدت عليهن ولا نقصت منهن، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أفلح إن صدق) وعند المخالف أنه عاص بذلك؛ لأنه إذا لم يزد عليهن فقد ترك واجباً وروى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أمرت بالوتر وهو لكم سنة).وقالت عائشة: إنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث كتبت عليّ فريضة وهي لكم سنة) فذكر الوتر

ووصفه إياه بأنه سنة، ينفي وجوبه. ولأنه عليه السلام صلاه على البعير، ولو كان واجباً لم يفعل ذلك؛ ولأنه صلاة ليس من سنتها الأذان على وجه، فلم يجب على الأعيان ابتداء كسائر النوافل. ولأنها صلاة ليست بفرض، فلم تكن واجبة بأصل الشرع كركعتي الفجر. ولأن المغرب لما كانت وتراً للصلوات المفروضات كانت فرضاً، والوتر لما كان وتراً للنفل وجب أن يكون نفلاً. وتحريره أن يقال لأنه وتر لجنس من الصلاة، فوجب أن يكون من جنس ما هو وتر له، أصله صلاة المغرب، ولأنها صلاة تفعل بين العشاء والصبح كقيام الليل، ولأنه يجوز فعله على الراحلة كالنافلة. [331] مسألة: صفة الوتر أن يأتي بركعة واحدة قبلها شفع منفصل، وليس لها قبلها من الشفع حد وأقله ركعتان. وقال أبو حنيفة: الوتر ثلاث ركعات متصلة بسلام واحد، فإن فصل بسلام لم يكن وتراً، ولا يكون عنده الركعة الواحدة بانفرادها وتراً على وجه. ودليلنا قوله عليه السلام: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) فنص على أن الركعة تكون وتراً. وروت عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة. ويروى أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل فقال بإصبعه: (هكذا مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل). وهذه إشارة إلى جنس وتر الليل. وقيل: لأن الصبح

عدد ركعات النوافل

صلاة مفروضة مشفوعة فجاز أن تكون قدر نصفها صلاة بانفرادها، أصله الظهر والاحتراز من المغرب، ولأن كل قدر من الصلاة أتى به بعد التشهد الأول فجائز أن يكون صلاة بانفراده كالركعتين. [332] مسألة: إذا أوتر وقام ثم بدا له أن يصلي فله ذلك، ولا يوتر ثانية خلافاً لمن قال ذلك. لقوله عليه السلام: (لا وتران في ليلة). وهذا نص. [333] مسألة: المستحب أن يقرأ في الشفع بـ {سبح اسم ربك الأعلى}، و {قل يا أيها الكافرون} وفي ركعة الوتر بالإخلاص والمعوذتين. وقال أبو حنيفة يقرأ في الثالثة بالإخلاص حسب، فدليلنا ما روي عن النبي عليه السلام قالت عائشة: كان يقرأ في الأولى (بسبح) وفي الثانية (بقل يا أيها الكافرون) وفي الثالثة (بقل هو الله أحد والمعوذتين). [عدد ركعات النوافل] [334] مسألة: النوافل كلها مثنى. وقال أبو حنيفة هو بالخيار في نوافل الليل بين ركعتين ركعتين، أو أربعاً أربعاً، أو ستاً ستاً، أو ثمانية ثمانية، لا يزيد على ذلك شيئاً بتسليمة واحدة، وفي النهار مخير بين ركعتين أو أربع بتسليمة واحدة. فدليلنا عليه قوله عليه السلام: (صلاة الليل مثنى مثنى). ولأنه عدد زائد على قدر الفرائض فلم تكن صلاة شرعية، كالزائد على النهار. ولأنها صلاة شرعية، فلم يختلف حكم عددها باختلاف الزمان في ليل أو نهار، أصله الفرض.

صلاة التراويح

[صلاة التراويح] [335] مسألة: صلاة التراويح للمنفرد في بيته أفضل: خلافاً لمن حكي عنه في المسجد والجماعة أفضل. لقوله عليه السلام: (صلاة الرجل في بيته أفضل إلا المكتوبة). [دعاء القنوت في الوتر] [336] مسألة: دعاء القنوت غير مسنون في الوتر، خلافاً لأبي حنيفة إلا في النصف الأخير من رمضان ففيه روايتان: إحداهما: مسنون، والأخرى: أنه ليس بمسنون فدليلنا على أبي حنيفة أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب فصلى بهم عشرين ليلة ولم يقنت في النصف الأول، وتخلف في منزله العشر الأخير فقدموا معاذاً فصلى بهم بقية الشهر فدل على أنه إجماع منهم أنه لا يقنت في النصف الأول من الشهر؛ لأنهم لم ينكروا على أبي ترك القنوت. [حكم صلاة الجماعة] [337] مسألة الجماعة في غير الجمعة سنة ليست من شرط صحة الصلاة على وجه ولا بفريضة أصلاً خلافاً لأحمد، وداود. لقوله عليه السلام: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين

حكم ائتمام القائم بالقاعد

درجة) فجعل حكمها الفضيلة وشرك بينها وبين صلاة الفذ؛ لأنه لا يقال أفضل إلا فيما يشتركان فيه، ويثبت لأحدهما مزية على الآخر فيه، فانتفى بذلك أن تكون فرضاً. ولأنها صلاة تفعل جماعة وفرادى، فلم تكن الجماعة من شرطها أصله النوافل. [حكم ائتمام القائم بالقاعد] [338] مسألة: في ائتمام القائم بالقاعد روايتان: إحداهما: الجواز، والأخرى: المنع وأنه لا تصح صلاة القائم خلفه، وهو قول عبدالملك ومطرف. فوجه الجواز ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مرض قدم أبابكر يصلي بالناس، ثم وجد خفة فخرج، وكان أبوبكر في الصلاة، فأراد أن يتأخر، فأشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن امكث مكانك ثم دخل في الصلاة، فقام أبوبكر الصديق - رضي الله عنه - على يمينه، فصلى بهم قاعداً وهم قيام ويدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإمام، أنه بنى على قراءة أبي بكر وقرأ في الموضع الذي كان بلغه، وأقامه عن يمينه، ولأن كل من جاز أن يكون إماماً

للقاعد صح أن يكون إماماً للقائم أصله القائم. ولأنه عاجز عن ركن تصح صلاته منفرداً مع القدرة على الائتمام، فجاز أن يكون إماماً لمن قدر على ذلك الركن أصله إمامة المتيمم بالمتوضئ. ووجه المنع قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه) وهذا على عمومه في الاعتقاد والفعل وقوله: (لا يؤمن أحد بعدي جالساً). ولأنه عاجز عن ركن من الصلاة، فلم يجز للقادر عليه أن يأتم به، أصله العاجز عن القراءة. ولأنه عاجز عن القيام فلم يجز أن يكون إماماً للقائم، أصله المومي إذا كان قادراً على القيام. [339] (فصل) ودليلنا إذا قلنا إن ائتمام القائم بالجالس يصح فإنه يصلي خلفه قائماً. خلافاً لمن حكي عنه أنه يصلي جالساً وهو قادر على القيام أن نقول لأنه قادر على القيام فلم يجز له تركه كالمنفرد. ولأن عجز الإمام لا يكون عذراً للمنفرد في ترك ذلك الركن؛ لأن فضل الجماعة لا ينتفي بنقصان الركن. [340] مسألة: لا يصح الائتمام بالمومي أصلاً خلافاً للشافعي لقوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا) فجعل من صفة الإمام أن يركع ويسجد وهذا لا يوجد في المومي؛ لأن الإيماء إلى الشيء غير فعله. ولأنه مؤتم بمن لا ركوع له ولا سجود، فلم تصح كالمصلوب.

حكم العاجز عن القيام والركوع

[حكم العاجز عن القيام والركوع] [341] مسألة: المريض إذا قدر على القيام وعجز عن الركوع، قام فأومى إلى الركوع، ولم يجز له ترك القيام بعد الركوع. خلافاً لأبي حنيفة في تخييره أن يصلي قائماً أو جالساً. فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - لمريض عاده: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً)، فعلق جواز القعود بالعجز عن القيام، فدل أنه لا يجوز مع القدرة عليه. ولأنه ركن من أركان الصلاة، فلم يجز تركه للعجز عنه، كالقراءة. ولأنه متمكن من القيام في الفرض، كالقادر على الركوع. ولأن البدل إنما يكون للعجز عن المبدل لا مع العجز عن غيره. [342] مسألة: العاجز عن القيام إذا ابتدأ الصلاة جالساً، ثم قدر على القيام، فإنه يلزمه أن يقوم ويبني على ما تقدم. خلافاً لمحمد بن الحسن في قوله: تبطل صلاته. لأنه قدر على القيام في موضع القيام فوجب أن يقوم ويبني، أصله القادر على القيام إذا جلس للتشهد الأول وفرغ منه، فإنه يقوم ويبني على صلاته. ولأن ما مضى من صلاته كان جائزاً على حسب قدرته، فوجب أن لا تبطل بتغير حاله، كما لو قدر على القيام ثم عجز عنه في بعض الصلاة فقعد. [343] مسألة: إذا صلى مضطجعاً ثم قدر على الجلوس في أثناء الصلاة، جلس وبنى كالتي قبلها سواء. ووافقنا أبو حنيفة في الأولى، وفرق بينها وبين مسألتنا. فقال في هذا: إن صلاته تبطل إذا قدر على الجلوس. فدليلنا أنه قدر على المبدل بعد دخوله في البدل، فوجب أن لا تبطل صلاته كما لو صلى جالساً ثم قدر على القيام. ولأن حدوث قدرته على ركن من أركان الصلاة كالقدرة على القراءة. ولأنه لو كان قائماً فعجز عن القيام لجلس وبنى، وإن كان انتقل من كمال إلى نقصان، فإذا صلى مضطجعاً ثم

ائتمام المفترض بالمتنفل

قدر على الجلوس فقد قدر على ركن كامل انتقل به عن نقص فكان بأن لا تبطل صلاته أولى. [ائتمام المفترض بالمتنفل] [344] مسألة: لا يصح ائتمام المفترض بالمتنفل ولا بمفترض غير فرضه خلافاً للشافعي. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه). وفيه دليلان: أحدهما: أن الائتمام به هو الاقتداء به في جميع تلك الصلاة وما تعلق بها من فعل ونية. والآخر: قوله (فلا تختلفوا عليه) وهو عام. ولأن كل من لو أدى صلاته بنية إمامه لم تصح، فإنه لا يجوز أن يأتم به فيها، أصله إذا صلى الجمعة خلف من يصلي ظهراً، ولأنها صلاة مفروضة فلم يصح أن تؤدى خلف متنفل كالجمعة. ولأن اختلاف المقصود بالصلاتين يمنع الائتمام بالأعلى منهما خلف الأنقص، أصله الجمعة لا تؤدى خلف المتنفل. ولأن الائتمام يوجب للمصلي أحكاماً لم تكن له في الانفراد من سقوط القراءة والسهو وسجوده في سهو الإمام، فوجب أن تعتبر نية الإمام في صلاة المأموم، فإذا اتفقا فيها صح حمل الإمام عنه هذه الأمور؛ لأن المأموم يصير كأنه قد نواها، فلما كان المأموم لو نوى النفل لم يجز له أن يصلي به الفرض كذلك إذا أدى فرضه خلف من ينوي النفل فأشبه المصلي خلف من ينوي كسوفاً أو جنازة. [إمامة الصبي] [345] مسألة: لا يصح الائتمام بالصبي في الفرض خلافاً للشافعي، لأنه متنفل بصلاته، وقد بينا أن صلاة المفترض خلف المتنفل لا تصح.

انتظار الإمام الداخل أثناء الركوع

[انتظار الإمام الداخل أثناء الركوع] [346] مسألة: إذا ركع الإمام فأحس بداخل يريد الصلاة فإنه يكره له التوقف لانتظاره، وللشافعي قولان: ودليلنا أنه فيه إضرار بمن خلفه بالتطويل عليهم، ومراعاة حقهم أولى للسبق. ولأن فيه تناقصا من خشوع الصلاة وبزيادته فيها عملاً وليس منها ولا متعلقاً بإصلاحها فكره، ولا يلزم عليه صلاة الخوف لأن موضوعها الانتظار. [إمامة المرأة] [347] مسألة: لا يصح الائتمام بالمرأة للرجال والنساء. وأجازه أبو ثور وغيره للرجال والنساء، وأجازه الشافعي للنساء ورأيت لابن أيمن مثله عن مالك والمذهب هو الأول. فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أخروهن حيث أخرهن الله). وفي الائتمام بهن خلاف ذلك. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها). وهذا ينفي تقديمهن. ولأن الأنوثية نقص لازم مؤثر في سقوط وجوب الصلاة. فكان مؤثراً في منع الإمامة كالرق والصغر. ولأن كل من لم يصح أن يكون إماماً للرجال لم يصح أن يكون إماماً للنساء كالمجنون والصبي. [إمامة الأمي] [348] مسألة: لا يصح أن يكون الأمي إماماً للقارئ. خلافاً لأحد

إمامة الكافر

قولي الشافعي والكلام فيه في فصلين: أحدهما: أن القارئ لا تنعقد له صلاة. الآخر: أن الأمي لا تنعقد له صلاة أيضاً مع وجود قارئ يمكنه أن يأتم به. ودليلنا على الفصل الأول قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الإمام ضامن). وذلك يقتضي أن يكون نائباً عن المأموم في القراءة، وذلك لا يصح في الأمي قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) وهذا ينفي إمامة الأمي. ولأن ذلك يؤدي إلى أحد أمرين ممنوعين: إما أن يسقط القراءة عن المأموم فيحصل فيه جواز صلاة بغير قراءة لا من المأموم ولا من الإمام، أو تلزمه فيحصل فيه أن الائتمام لا يؤثر في سقوط القراءة وذلك بخلاف مقتضى الإمامة. ودليلنا على بطلان صلاة الأمي مع وجود القارئ أن الأمي إذا علم بأن خلفه قارئاً فهو يمكنه أن يؤدي صلاته بقراءة بأن يأتم بهذا القارئ فيتحمل عنه القراءة، فإذا ترك الائتمام به سار بمنزلة القارئ إذا صلى بغير القراءة فلا يجوز. [إمامة الكافر] [349] مسألة: ومن صلى خلف من ظاهره الإسلام ثم باطنه الكفر أو كان لا يعرف حاله أصلاً ثم علم أنه كان كافراً فصلاته باطلة. خلافاً لبعض الشافعية. والكافر لا يصح كونه مصلياً؛ لأن من شرط الإمام أن يكون مصلياً. والكافر لا يصح كونه مصلياً مع الإقامة على كفره. ولأن من شروط الائتمام تحمل الإمام القراءة عن المأموم، ولا يصح تحمله لها إلا إذا كان في صلاة وهذا المعنى لا يوجد في الكافر. ولأنه إذا لم تصح

انتقال المنفرد إلى الجماعة أثناء الصلاة

إمامة الفاسق المسلم فالكافر من ذلك أبعد. ولأن إسرار الإمام الكفر لا يكون عذراً للمأموم في صحة صلاته، كما لو صلى خلف من ظاهره أنه رجل ثم بان له أنه أنثى قد تزيا بزي الرجال فإن صلاته غير صحيحة. [انتقال المنفرد إلى الجماعة أثناء الصلاة] [350] مسألة: إذا عقد صلاته منفرداً، ثم أراد الدخول في صلاة الإمام فلا يجوز، فإن فعل فالصلاة باطلة. خلافاً لأحد قولي الشافعي. لقوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا) ففيه دليلان: أحدهما: أن قوله (ليؤتم به) عام في جميع الصلاة، وهو أن تقع أفعالنا بعد أفعاله ولا نسبقه. والثاني: قوله (فإذا كبر فكبروا) فجعل من صفات المؤتم أن يكبر بعد، قد كبر قبله وأنه عقد صلاته قبل صلاة الإمام، فلم يصح الائتمام به، أصله إذا أراد الائتمام به فأحرم قبله. ولأن الائتمام يحتاج إلى نية؛ لأنه يتضمن أحكاماً لا يتضمنها الانفراد وتلك النية تراعى حال الدخول في الصلاة، فإذا دخل ينوي أحد الأمرين لم يصح نقله إلى الآخر، أصله إذا نوى الائتمام حال الدخول ثم أراد أن ينفرد بالصلاة، فإنها تبطل ولا تصح. [وقوف المأموم وراء الإمام] [351] مسألة: إذا كان مع الإمام رجل واحد فالمستحب أن يقوم عن يمينه وإن قام عن يساره كره وجوزه قوم فقالوا: يقف. لحديث ابن عباس قال: (بت عند خالتي ميمونة فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصلي فتوضأت وقمت عن يساره فأدارني عن يمينه). [352] مسألة: وإذا كانا رجلين قاما خلفه، خلافاً لما حكي عن

الصلاة خلف الصف

ابن مسعود إن صح، قوله: يقف الإمام بينهما لحديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمه ويتيماً وامرأة فقام أنس واليتيم خلفه وقامت العجوز خلفهم. [الصلاة خلف الصف] [353] مسألة: من صلى منفرداً خلف الصف أجزأته صلاته خلافاً لأحمد بن حنبل. لأن كل من صحت صلاته خلف الصف إذا كان مع غيره، صحت إذا كان منفرداً أصله المرأة، وإن لم يسلموا الأصل. دللنا عليه بحديث أنس الذي ذكرناه. ولأنه صف خلف الإمام فجاز أن يقف المأموم وحده، أصله إذا أم الرجل بامرأة وحدها فإنها تقف خلفه منفرده. ولأن اختلاف موقف المأموم لا يمنع صحة الصلاة، أصله إذا وقف على يسار الإمام. [354] (فصل) فإذا لم يجد مدخلاً في الصف وقف خلفه ولم يجذب إليه رجلاً في الصف، فإن فعل كره له ذلك. خلافاً للشافعي في استحباب ذلك. لأن الخلل في الصف ممنوع لقوله عليه السلام: (سوواصفوفكم). وقوله: (تراصواخلفي). وإذا جذب إليه رجلاً وقع الخلل

الصلاة قدام الإمام

في الصف وهو مكروه. ولأن الصف الأول أفضل من الثاني، فليس له أن ينحي رجلاً من موضع هو أفضل إلى موضع هو أدون. [الصلاة قدام الإمام] [355] مسألة: المأموم إذا وقف قدام إمامه كره له ذلك وأجزأه. خلافاً للشافعي. لأن اختلاف المقام لا تأثير له في فساد الصلاة من جهة المأموم، أصله إذا وقف عن يساره أو قامت امرأة إلى جنبه. ولأنه مساويه في النية متبع له في أفعاله مساويه في بسيط الأرض فلم يضر اختلاف المقام فيما سواه، أصله إذا كان وراءه. [وقوف الإمام في مكان مرتفع] [356] مسألة: إذا كان الإمام فوق سطح المسجد لم تجز صلاة المأموم في أرض المسجد بصلاة الإمام في أعلاه: خلافاً للشافعي. لما روي أن عماراً، وحذيفة تقدم أحدهما ليصلي بهم فصعد على دكان فجذبه الآخر، فرجع فلما فرغ مال إليه فقال له ما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلي الإمام على أرفع من موضع المأموم وروي (أما علمت أنا نهينا عن مثل هذا). وقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا

صلاة المأموم في الأماكن المحجورة

عليه). ولم يفرق بين النية والفعل والمكان. ولأن الإمام إذا كان أعلى من المأموم فإن المأموم يبني أمره على العمل في الصلاة والتعمّد إلى النظر إلى الإمام ليشاهد أفعاله؛ لأنه لا يقدر أن يكتفي في ذلك بسماع التكبير والقراءة فقط، فإذا بنى صلاته على هذا فقد افتتحها على أن يزيد فيها ما ليس منها وذلك غير جائز. [صلاة المأموم في الأماكن المحجورة] [357] مسألة: تجوز الصلاة في غير الجمعة في دور محجورة بصلاة الإمام إذا كانوا يرونه ويسمعون التكبير إمّا من بابها أو من كوّاها أو غير ذلك. خلافاً للشافعي في منعه ذلك إلا بشرط إتصال الصفوف من المسجد إلى الدار. لقوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). والائتمام به هو اتباع له في أفعاله وذلك ممكن مع الحاجز إذا شاهده وسمع صوته. ولأن هذا الحائل إذا لم يمنع لم يقدح في الائتمام به، كما لو اتصلت الصفوف. [الاقتداء بالإمام من وراء نهر] [358] مسألة: إذا صلوا بصلاة الإمام وبينهم نهر أو طريق قريب لا يمنعهم رؤية الصفوف وسماع التكبير جاز ولم يمنع ذلك الائتمام به. وقال أبو حنيفة لا يجوز ذلك إلا أن تكون الصفوف متصلة. وقال الشافعي إن كان بينهم وبين الإمام أو الصفوف ثلاثمائة ذراع جاز وإن كان أكثر لم يجز. فدليلنا على أبي حنيفة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه) فعلى أي وجه أمكن ذلك يجب أن يجوز. ولأن مسجد

مفارقة الإمام بعد الدخول معه

النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد ضاق على الناس حتى كانوا يصلون بالقرب منه وحيث يمكنهم معرفة أفعال الإمام ولا ينكر ذلك أحد، واستمر إلى أن زاد عمر - رضي الله عنه - فيه. ولأن التمكن من الائتمام به حاصل مع تساويهما على الأرض كالساقية الصغيرة. ولأن الطريق تصح الصلاة فيها فلم يكن كونها بين الإمام والمأموم مانعاً من الائتمام به كغير الطريق. فأما تقدير الشافعي فإنه دعوى لا فصل بينه وبين من عكسها فزاد فيها أو نقص منها. ولأن العبرة بسماعهم صوت المكبر وذلك يختلف بحسب قرب الموضع وبعده فلم يكن في ذلك حد أكثر من إمكانه وتعذره. [مفارقة الإمام بعد الدخول معه] [359] مسألة: إذا دخل مع الإمام في الصلاة ثم أراد أن يفارقه ويتمه منفرداً لم يجز ذلك وقد بطلت بتغير النية دون الفعل. وللشافعي تفصيل يجيزها مع العذر ومع غير العذر على قولين. فنقول لأنه داخل بنية الائتمام فإذا فارقه وجب أن تبطل صلاته، كما لو فارقه بغير عذر. ولأن للائتمام أحكاماً تخالف الانفراد، فإذا ابتدأها بنية الائتمام فقد لزمته تلك الأحكام، فإذا فارقها واختار الانفراد بطلت، كما لو بدأ بنية الانفراد ثم نوى الائتمام. [الاقتداء بمن يصلي منفرداً] [360] مسألة: إذا أحرم منفرداً ولم ينو أن يؤم أحداً فائتم به رجل وهو لا يعلم فصلاة المأموم صحيحة. وقال الأوزاعي لا تصح. وعن

باب في صلاة المسافر

أبي حنيفة فَصَّلَ: أن يأتم به رجل فتصح أو امرأة لم تصح صلاتها، فاعتبر أن ينوي إمامة المرأة. فدليلنا على الأوزاعي أن المأموم لا يحتاج في صحة الائتمام أن ينوي إمامة إمامه؛ لأن صلاة الإمام إماماً كصلاته منفرداً في حق نفسه ليس تؤثر فيها الإمامة شيئاً وبذلك فارق المأموم؛ لأن الائتمام يؤثر في صلاته ولا يؤثر في صلاة الإمام؛ ولأنه ائتم بمن لم ينو إمامته فلم يقدح ذلك في صلاته، أصله إذا دخل معه من لم يعلم به. ولأنه لو كان من شرط صحة صلاة المأموم أن ينوي الإمام إمامته لوجب إذا رفض النية في الصلاة أو اعتقد أنه قد خرج عن أن يكون إماماً له أن تبطل صلاة المأموم وذلك باطل. ودليلنا على أبي حنيفة أن كل من صح الائتمام به إذا نوى إمامته صح وإن لم ينوها كالرجل. [باب في صلاة المسافر] [قصر الصلاة في السفر وحكم المضطر للميتة فيه] [361] مسألة: القصر جائز في السفر الواجب والمباح، خلافاً لمن حكي عنه أنه لا يجوز إلا في واجب كالحج والعمرة والجهاد، لقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح}، فعم ولأنه سفر في غير معصية كالواجب.

[362] مسألة: ولا يجوز الترخيص في السفر في سفر المعصية، خلافا لأبي حنيفة. لأن الرخصة تابعة للحال التي وجبت الرخصة لأجلها، وإذا كانت تلك الحال ممنوعة امتنع ثبوت الرخصة فيها؛ لأن المعصية تنفي الرخصة والتخفيف، بل تقتضي العقوبة والتغليظ فإذا ثبت ذلك ثم كان القصر والفطر رخصة لأجل السفر فلم يتعلق بسفر المعصية؛ لأن المعصية منافية للرخصة على ما بيناه؛ لأن هذا السفر معصية فلم تتعلق به الرخصة والتخفيف قياسا على سائر المعاصي من الزنا، وشرب الخمر. [363] مسألة: إذا اضطر في سفر معصية لشدة الجوع إلى أكل الميتة أكلها، خلافا: للشافعي. لقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم}، وقوله: {غير باغ ولا عاد}. ولأن منعنا الترخيص بالفطر والقصر لئلا تعينه على المعصية اختلاف، ولو منعناه لذلك أكل الميتة لكان الزجر عن المعصية بمعصية هي أعظم مما أتاه. ولأن معصيته في سفر لما لم تبح له، قتل غيره لم يوجب عليه قتل نفسه؛ لأن حرمة نفسه كحرمة غيره؛ ولأن وجوب إحيائه نفسه لا يسقط بمعصية سفره؛ لأنه لو شرب دواء أضعفه وخاف على نفسه الموت جاز أن يفطر، وإن كان عاصياً بتناوله الدواء. [364] مسألة: سفر القصر محدود. خلافاً لداود في قوله يقصر في الطويل والقصير لقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح}، فإن كان مجملاً فقد أجمعت الصحابة على اعتبار حد فيه فروي

عن ابن عمر وابن عباس اعتبار اليوم التام. وروي عن ابن مسعود ثلاثة أيام، ولم يرو عن أحد سقوط الحد جملة وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقصروا يا أهل مكة في أقل من أربعة برد وذلك إلى عسفان والطائف)، وقيل صحيحه من قول ابن عباس. ولأن الفرسخين والثلاثة مسافة لا تلحق مشقة في قطعها غالبا فلم يجز القصر فيها كالعبور في بلد واحد إلى أحد جانبيه أو الطواف في أطراف المدينة وسككها. [365] (فصل): الظاهر من المذهب أن مقداره أربعة برد وهي ثمانية وأربعون ميلاً. خلافاً لأبي حنيفة في تحديد ثلاثة أيام بلياليهن، لقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض}، فعم. ولأنها مسافة تلحق المشقة في قطعها غالبا كالثلاثة. [366] مسألة: المذهب أن القصر سنة وليس بفريضة وأن فرض المسافر التخيير بين القصر والإتمام. ومن أصحابنا من يقول إنه فرض على المسافر، وهو قول أبي حنيفة.

فوجه الأول قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح} وهذا عبارة عن المباح دون الواجب. وروي عن عائشة (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر الصلاة في السفر ويتم). وعن أنس أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك ولا ينكر بعضهم على بعض، ولأنه تخفيف قد شرط بالسفر فكان رخصة لا عزيمة كالفطر، ولأن القصر لو كان فرض المسافر لم يجز تغييره إلى الإتمام في الجماعة؛ لأن الفرض المقدر لا تزيد عدد ركعاته بالجماعة فلما جاز للمسافر أن يتم خلف المقيم دل على أن فرضه التخيير بين الإتمام أو القصر. ولأن ما تعلق بالسفر من الأحكام المؤثرة في تخفيف الفعل لا تكون إلا رخصة وتخفيفا، كالصلاة على الراحلة. ووجه القول الآخر: {وأقيموا الصلاة}، وهذا مجمل بينه - صلى الله عليه وسلم - بفعله فروى جماعة من الصحابة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في السفر ركعتين لا يزيد عليهما. ولأن ذلك إجماع الصحابة؛ لأن عثمان لما أتم أنكرت الصحابة عليه فلم يرد إنكارهم واعتذر بضروب من

المعاذير تقضي تقبل إنكارهم. ولأنه لما كان مخيرا بين فعل الزيادة على الركعتين وبين تركها إلى غير بدل علم أنها نفل؛ لأن الواجب لا يترك إلا إلى الإبدال. [367] (فصل) إذا ثبت ما ذكرناه، فالقصر عندنا أفضل، خلافاً للشافعي. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في أكثر أسفاره ويداوم على ذلك ومن الصحابة من ينفي أنه أتم في السفر فدل على أن الفضيلة في القصر وقوله: (خيار عباد الله الذين إذا سافروا قصروا)، وقوله في حديث عمر لما سأل ما بالنا نقصر وقد أمنا؟ فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)، وأقل أحوال هذه الصيغة الندب. ولأن الناس يختلفون في الإتمام هل تفسد الصلاة أم لا، ولم يختلفوا في قصرها. [368] مسألة: لا يجوز القصر للمسافر إلا بعد مفارقة بلده، خلافاً لما يحكى عن عطاء أنه إذا نوى السفر جاز له أن يقصر وإن لم يفارق بلده. لقوله جل وعز: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح}، فعلقه بحصول الضرب، وحقيقة الضرب في ذلك لا يكون إلا بالفعل دون

النية. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد حجة الوداع صلى الظهر بالمدينة تامة وصلى العصر بذي الحُليفة مقصورة. ولأن النية وحدها لا تؤثر في ذلك كالفطر، ولأن الإقامة لا تكون إقامة بمجرد النية دون الفعل، كذلك السفر. [369] مسألة: إذا فارق بيوت قريته ثم حضرت الصلاة قصر، أي وقت كان. خلافاً لما يحكى عن مجاهد أنه إذا كان ليلاً لم يقصر حتى يصبح، وإذا كان نهاراً لم يقصر حتى يمسي. لقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} ولم يقيد، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد حجة الوداع صلى الظهر بالمدينة وصلى العصر بذي الحليفة فقصر, ولأنه فارق بيوت قريته فأشبه أن يدخل عليه الليل. [370] مسألة: إذا نوى المسافر الإقامة في بعض البلدان مدة، فالاعتبار في ذلك بأن ينوي الإقامة أربعة أيام بلياليهن، فإن نوى هذا القدر أتم وصار حكمه حكم مقيم، وإذا نوى دونها قصر. وقال أبو حنيفة الاعتبار بخمسة عشر يوماً. وقال غيره اثني عشر يوماً، ودليلنا قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض}، وهذا مع نية الإقامة غير ضارب. وقوله: - صلى الله عليه وسلم - (يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً)، وقد علم أن المقام بمكة

كان حراما على المهاجر، فلما استثنى الثلاث علم أنها ليست بإقامة فوجب أن يكون ما زاد عليها إقامة. ولأنه ليس له الجمع بين الصلاتين، فلم يكن له القصر، أصله إذا نوى إقامة خمسة عشر يوماً. ولأنه نوى إقامة أيام تزيد على أقل الجمع، فكان القصر غير جائز، أصله ما ذكرناه. [371] مسألة: فإن علق مدة الإقامة بانتجاز حاجته، فإنه يقصر سواء تمادت الإقامة إلى أربعة أيام أو أكثر، وللشافعي قولان: أحدهما: يقصر أربعة أيام فقط. والآخر: سبعة عشر يوما أو ثمانية عشر يوما، ودليلنا قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح}، وهذا ضارب فيها واعتباراً به إذا كان مقامه على الحرب بعلة عدم النية فيه واستقرار العزيمة على إقامة أربعة أيام. [372] مسألة: سرايا المسلمين إذا أقاموا في وجه العدو بعزيمة أكثر من أربعة أيام، لهم أن يقصروا. خلافاً لأحد قولي الشافعي أنهم لا يقصرون إلا ثمانية عشر يوماً. لقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح} وما لم يتقرر للمسافر عزم ثابت على إقامة ينتقل بها عن حكم السفر فالاسم يتناولهم. وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وأنس وعبد الرحمن بن سمرة ولا مخالف لهم. ولأن عزمهم لا يعول عليه؛

لأنهم لا يدرون متى يلقوا العدو ولا أي وقت يلقونهم فيه فكانوا على أصل السفر. [373] مسألة: إذا دخل وقت الصلاة وهو مقيم متمكن من فعلها فلم يصلها إلى آخر وقتها ثم سافر وقد بقي من وقتها ما يمكنه أداؤها فيه فله أن يقصر. خلافاً لمن حكي عنه من أصحاب الشافعي أنه ليس له قصرها، لقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة}، فعم، ولم يخص الضرب في أول الوقت ولا في آخره؛ ولأنه مسافر يحل لمثله القصر، فوجب إذا كان مؤديا للصلاة أن يجوز له قصرها، أصله إذا سافر قبل دخول الوقت ثم دخل عليه وقت الصلاة وهو مسافر. ولأنه مصادف لوقتها وهو مسافر فكان له قصرها، كما لو سافر أول الوقت. ولأنه لا اعتبار بوقت الأداء أول الوقت، دليله إذا دخل أول الوقت وهو قادر على القيام ثم عجز أنه يصلي قاعداً. [374] مسألة: إذا نسي صلاة في حضر ثم ذكرها في سفر بعد فوات وقتها قضاها تامة. خلافاً لما يحكى عن الحسن من قصرها. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)، وهذا إشارة إلى الصلاة المنسية. ولأنها تجب بأول الوقت ويستقر الأداء بخروج الوقت، فإذا استقر ذلك فقد لزمته في الذمة تامة، فوجب قضاؤها كذلك. [375] مسألة: إذا نسي صلاة في سفر ثم ذكرها في حضر، فالأولى أن يقصرها، فإذا أتمها كره له ذلك وجاز. ومن رأى من أصحابنا أن القصر فرض المسافر قال: يجب قصرها، وقال الشافعي يلزمه إتمامها.

فدليلنا على تخييره قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) وهذه الكناية عائدة على الصلاة المنسية، فكان مخيرا بين الإتمام والقصر، فوجب أن يكون قضاؤها كذلك. ولأنها صلاة مفروضة، فكان قضاؤها كأدائها، أصله إذا نسي صلاة في الحضر فذكرها في حضر أو سفر، وأما من قال: إن القصر فرض المسافر فإنه قد مر على أصله. ولأن كل صلاة فاتت كان فرض قضائها فرض أدائها، أصله صلاة الحضر إذا فاتت وذكرها في السفر. ودليلنا على الشافعي ما قدمناه. ولأنه نسي صلاة في حال فرضها فيها معلوم، فوجب إذا ذكرها في حال فرضها فيها بخلاف ذلك الفرض أن يقضيها على فرضها حال النسيان: أصله إذا نسي صلاة في حضر فذكرها في سفر. [376] مسألة: إذا نسي صلاة في سفر فذكرها في السفر قبل أن يصير مقيماً، فإنه يقضيها، سفرية. خلافاً لأحد قولي الشافعي إنه يلزمه الإتمام؛ لأنها صلاة تؤدى وتقضى، فوجب أن يكون قضاؤها كأدائها، أصله إذا فاتته في الحضر فذكرها في الحضر. ولأن الحضر أولى بالإتمام من السفر، ثم قد ثبت أنه لو نسي صلاة في سفر فذكرها في حضر أنه يقضيها سفرية فإذا ذكرها في السفر كان القصر أولى. ولأن لفرض الصلاة نوعان: إتمام، وتخيير بين الإتمام والقصر، وقد ثبت أن أحد النوعين يقضي على ما هو عليه في حاله وغير حاله وهو الإتمام، فيجب أن يكون كذلك النوع الآخر. [377] مسألة: إذا دخل المسافر في صلاة المقيم لزمه الإتمام إذا أدرك ركعة فصاعداً، خلافاً لمن قال لا يلزمه. لقوله: (إنما جعل الإمام

ليؤتم به فلا تختلفوا عليه)،ولأنه مؤتم بمن فرضه الإتمام فوجب أن يلزمه الإتمام كالمقيم. [378] (فصل): وإذا أدرك أقل من ركعة لم يلزمه، خلافاً للشافعي. لقوله: (من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها)، ولأنه مدرك لما دون الركعة فوجب أن لا يلزمه حكم تلك الصلاة، أصله الجمعة. [379] مسألة: لابد من النية في القصر، خلافاً للمزني، لأن الأصل الإتمام والقصر طارئ عليه فاحتاج إلى نية يختص به تنقله عن الأصل كالجمعة لما كانت طارئة على الظهر احتاجت إلى نية تخصها. [380] مسألة: إذا افتتحها بنية الإتمام لم يجز له قصرها، فإن فعل أعادها أبدا، خلافاً لبعضهم لأنه افتتح الصلاة بنية فرض فلم يجز له نقلها إلى غيره كالحاضر، ولأنه أحرم بنية الحضر فلم يكن له نقلها إلى نية السفر، أصله إذا كان مقيما ثم صار مسافر بعد الدخول فيها بأن اندفعت السفينة. [381] (فصل): إذا افتتحها بنية القصر فأتمها عامداً فلا تجزيه خلافاً لبعضهم؛ لأنه دخل فيها بنية قصر فلم يكن له نقلها إلى غيره، أصله إذا افتتحها بنية الإتمام. ولأنه إذا نوى القصر وقد انتظمت النية للعدد الذي نواه من الركعات، فإذا أتمها حصلت تلك الزيادة بغير نية، وغير جائز أن ينوي

ساعة فعلها فتفريق النية على الصلاة لا تصح ". [382] مسألة: فإن أتمها سهواً قال سحنون: لا تجزبه، وقال ابن المواز تجزبه؛ فوحه القول: بأنه لا تجزيه: أن هذه الزيادة غير معتد بها، فصارت كزيادة في صلاة الحضر سهواً، والصلاة إنما تصح مع السهو في العمل القليل دون الكثير، ووجه القول بأنها لا تبطل لأنها زيادة ليست كالمجمع على أنها سهو؛ لأن من الناس من يقول إنها معتد بها. ولأنه إن افتتح الصلاة بنيتها أجزأنه ولم تكن كالزيادة التي لا يعتد بها على وجه والله أعلم. [383] مسألة: إذا افتتح الصلاة بنية القصر ثم نوى الإقامة، فإن صلى ركعة سجد فيها أتمها اثنتين وكانت نفلاً ولم يجز له البناء عليها. وقال الشافعي: يبني على ما تقدم وتجزيه، وبه قال بعض متأخري أصحابنا. ودليلنا أنه لما نوى الإقامة صار حاضراً فلم يجز له أن يصلي بصلاة مسافر وهو حاضر، ولم يجز له البناء على ما مضى في صلاته؛ لأنه ليس له نقل الفرض الذي ابتدأ الصلاة به إلى غيره، وتحريره أن يقال لأنه صلاة ابتدئت بنية الفرض فلم يجز له نقلها إلى غيره، أصله إذا أراد الإتمام ولم ينو الإقامة. [384] مسألة: إذا كان في سفينة يقدر فيها على الصلاة قائماً لم يجزله ترك القيام، سواء كانت مربوطة في الشط أو سائرة، وقال أبو حنيفة: إن كانت سائرة جاز له أن يصلى الفرض جالسا وإن كانت مربوطة إلى الشط لم يجز له،.ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - (صل قائما فإن لم تستطع فجالسا)، وهذا مستطيع. ولأنه ركن من أركان الصلاة، فلم يسقط مع القدرة عليه كالقراءة والسجود. ولأن كل من لزمه فرض القيام في غير السفينة لزمه في

الجمع بين الصلاتين في السفر

السفينة، أصله إذا كانت مربوطة. ولأنه قادر على القيام فأشبه من ليس في سفينة. [الجمع بين الصلاتين في السفر] [385] مسألة: الجمع بين الصلاتين جائز في السفر وقت أيهما شاء إذا جد به السير، والاستحباب في آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية إن قدر هذا في الصلوات الأربع، وقال أبو حنيفة لا يجوز الجمع بين الصلاتين إلا بعرفة والمزدلفة. ودليلنا حديث معاذ (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك يجمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء). وروي أن ابن عمر استصرخ على صفيه وهو بمكة، فسار حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وقال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أعجله أمر في سفره يجمع بين الصلاتين، فسار حتى غاب الشفق، ثم نزل فجمع بينهما). وعن أنس قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ركب ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين

يغيب الشفق). وقريب منه حديث ابن عباس. ولأنه سفر فجاز أن يتعلق به الجمع كالحج. [386] (فصل): يجوز الجمع في طويل السفر وقصيره، خلافاً للشافعي في قوله لا يجوز إلا في سفر القصر. لأن الصحابة ذكروا أن ذلك كان فعله - صلى الله عليه وسلم - في السفر ولم يقيدوا. ولأن كل معنى جاز في الحضر لعذر، جاز في قصير السفر وطويله كسائر الرخص، ولا بد من الاحتراز من الفطر في رمضان. [387] مسألة: يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر لعذر المطر. خلافاً لأبي حنيفة. لحديث ابن عباس (أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع من غير خوف ولا سفر)، قال مالك أرى ذلك في مطر. [388] مسألة: لا يجمع في الحضر إلا بين المغرب والعشاء دون الظهر والعصر، خلافاً للشافعي. لأن الجمع رخصة لتعجيل الناس في انقلابهم إلى بيوتهم، وهذا في الليل؛ لأنهم في النهار لا بد لهم من

باب في صلاة الجمعة

الانتشار والتشاغل بالمعاش، والأمور التي لا ينقطعون عنها بالمطر وتزول فائدة الرخصة. [389] مسألة: يحوز الجمع إذا انقطع المطر وبقي الوحل، خلافاً للشافعي. لأن المشقة باقية وإن زال المطر ببقاء الوحل والطين، فكانت الرخصة باقية. [باب في صلاة الجمعة] [390] مسألة: يجب في صلاة الجمعة المجيء إلى الجمعة على من كان خارجاً من المصر بمسافة يسمع منها النداء، خلافاً لأبي حنيفة في قوله لا يجب على من كان خارج المصر السعي إليها أصلاً. لقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}، فعم وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الجمعة على من سمع النداء)، وروي (التأذين)، ففيه دليلان: أحدهما: عمومه على أهل المصر وغيرهم. والآخر: أنه جعل النداء علما على وجوب السعي، ولا يحتمل ذلك إلا من كان خارجاً عن المصر؛ لأن من كان فيه لا يراعى، فيه سماع النداء. وروى جابر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا مريضاً، أو مسافراً، أو امرأة، أو صبياً، أو مملوكا)، ولم يستثن ما تنازعناه فبقي في

عموم الإيجاب. ولأنه صحيح لو كان في المسجد لزمته الجمعة، فوجب إذا كان على مسافة من المصر بحيث يسمع النداء أن تلزمه الجمعة، أصله من كان في الربض. [391] (فصل): وإنما حددنا المسافة بثلاثة أميال أو بزيادة يسيرة، خلافاً لمن حُكِيَ عنه ستة. وللشافعي في نفيه التحديد جملة. لأن الاعتبار هو سماع النداء، وقد ذكر الناس فيما جرب وروعي في العادة أن الأصوات إذا كانت ساكنة والرياح معتدلة وكان المؤذن صيتاً ولا مانع يمنع السماع فإن الصوت ينتهي إلى ثلاثة أميال وما قاربها، ورأيت في بعض الحديث، مرفوعاً (الجمعة على من سمع النداء من ثلاثة أميال). [392] مسألة: تجب الجمعة على أهل القرى والسواد، خلافا: لأبي حنيفة. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الجمعة على كل مسلم). وقال ابن عباس: (إن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة مسجد رسو (¬1) الله - صلى الله عليه وسلم - لجمعة جمعت بجواثاء، قرية من قرى البحرين). وروى عبد الله بن بدر، قال:

كان طلق بن علي، يجمع بنا بفران، قرية من قرى اليمامة وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك. وهذا كالنص. وروت أم عبدالله الدوسية، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الجمعة واجبة في كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة). ولأنها إقامة صلاة فاستوى فيها أهل القرى والأمصار كسائر الصلوات. ولأن كل عبادة لزمت أهل المصر لزمت أهل القرى والسواد، كسائر العبادات واعتباراً بالمصر بعلة اتصال البنيان وأنه يستوطنه عدد معقود بهم الجمعة. [393] مسألة: إذا أخرت الجمعة إلى أي وقت تقام، فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال ابن القاسم: ما لم تغرب الشمس وإن صلى بعض العصر بعد الغروب. وقال الشيخ أبو بكر الأَبْهَرِي: ما لم يخرج وقت الظهر الضروري فيبقى قدر أربع ركعات إلى مغيب الشمس، فإن بَقيَ من النهار ما يخطب ويصلي ركعتين، ثم يبقى أربع ركعات للعصر أقيمت الجمعة هكذا ذكر ذلك فيما شرح من مسائل الأسدية، وفي تعليق بعض أصحابنا عنه ما لم يخرج وقت الظهر المختار، وقد بينت كل قول في شرح مختصر ابن أبي زيد، وإنما الغرض هاهنا إذا كان في الجمعة وخرج وقتها ودخل وقت العصر. وقال الشيخ أبو بكر: ينظر فإن كان قد صلى ركعة بسجديتها قبل دخول وقت العصر فإنه يتمها جمعة وإن كان قد صلى دون ذلك بنى وأتمها ظهراً. وقال الشافعي ظهراً،، ولم يفصل. وقال أبو حنيفة تبطل صلاته ويستأنف ظهراً. ودليلنا على أن الصلاة لا تبطل أنها صلاة صح افتتاحه لها ولم

تبطل بخروج وقتها كسائر الصلوات. ولأن إدراك الصلاة ركعة يعتبر في موضعين في الفعل والوقت، ثم ثبت أنه لو أدرك مع الإمام ركعة وسلم الإمام أنه يتمها ولا تبطل صلاته، فكذا إذا أدرك ركعة وخرج الوقت فيجب أن لا تبطل، وتحريره أن يقال لأنه معنى اعتبر إدراك الصلاة به بقدر ركعة فزواله لا يمنع صحتها كسلام الإمام. ودليلنا على جواز البناء أن الجمعة أقوى من الظهر فكانت نيتها مقام نية الظهر؛ لأنها إما أن تكون في معنى المقصورة أو بدلا عن الظهر فجاز أن يبني بنية الظهر عليها. [394] مسألة: ليس من شرط إدراك الجمعة إدراك الخطبة. خلافاً لما حُكِيَ عن طاووس. لقوله: (من أدرك من الجمة ركعة فقد أدركها). ولأنه ذكر قبل الصلاة فوجب أن لا يكون إدراكه شرطاً في إدراكها كالأذان والإقامة. [395] مسألة: إذا جاء بعد رفع الإمام رأسه من الركوع من الثانية فقد فاتته الجمعة. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنه يكون مدركاً لها بإدراك ما دون الركعة من السجود والتشهد. لقوله عليه السلام: (من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها). فعلق الإدراك بقدر ركعة فانتفى عما دونها. وروي (من أدرك من الجمعة ركعة، أضاف إليها أخرى، فإن أدركهم في

التشهد صلى أربعاً). ولأنه أدركه بعد رفع رأسه من ركوع الثانية كما لو أدركه بعد قعوده قدر التشهد. ولأنه لم يدرك معه بعد شروعه في الصلاة وما يعتد به من فرضه كما لو أدرك معه التسليمة الثانية. ولأن كل ما كان فرضاً في صلاة المنفرد لم تسقط عنه بغير إدراك ركوع الإمام، أصله إذا لحق الإمام قدر رفع رأسه من الركوع في سائر الصلوات. ولأن الجماعة شرط في الجمعة؛ لأنه لا تصح للمنفرد فعلها ومتى أجزنا له بإدراكه الإمام في التشهد أن يأتي بجمعة حصل منه أن يأتي بها منفردا لأنه لم يفعل مع الإمام شيئا يعتد به منها. ولأن إدراك الصلاة يكون بإدراك ركعة ليضيف الثانية إلى أصل تكون تابعة له ما دون الركعة ليس بأصل، فيكون متبوعاً لأنه لا حكم له في الإدراك كسائر الصلوات. ولأن إدراك الجمعة يتعلق بأمرين: بالفعل والوقت وقد ثبت أنه لو أدرك من الوقت أقل من مقدار ركعة لم يلزمه السعي إلى الجمعة فكذلك إذا أدرك من فعلها مثله. [396] مسألة: لا تفتقر إقامة الجمعة إلى سلطان خلافاً لأبي حنيفة، لقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}، ولم يشترط إذن السلطان. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الجمعة واجبة على كل مسلم). ولأن ذلك إجماع الصحابة؛ لأن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - صلى بالناس الجمعة وعثمان - رضي الله عنه - محصور، وكان الإمام عثمان

ولم يذكر أنه استأذنه، وقد كان قادراً على ذلك. وقد كان سعيد بن العاص أمير المدينة فأخرجوه منها وجاء أبو موسى الأشعري فصلى بالناس الجمعة. وروي أن الوليد كان أميراً بالكوفة فأخر الجمعة تأخيرا شديدا فصلى ابن مسعود بالناس. فكل ذلك أمر ظاهر مشهور لم يجر فيه

نكير، ولأنه صلاة فلم يكن من شرط إقامتها الإمام كسائر الصلوات ولأنها عبادة على البدل كالحج. [397] مسألة: العدد الذي تنعقد بهم الجمعة، لم يقدر أصحابنا فيه قدرا محصوراً أكثر من أن يكونوا عدداً تَتَقَرىّ بهم قرية، ويمكنهم الإقامة، ويكون بينهم الشراء والبيع. ومنعوا ذلك في الثلاثة والأربعة وشبههم، وقال أبو حنيفة: تنعقد بأربعة الإمام وثلاثة سواه، وقال أبو يوسف ثلاثة منهم الإمام. وقال الشافعي: لا تنعقد بأقل من أربعين سوى الإمام. ودليلنا قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}، وقوله: (الجمعة واجبة على كل مسلم)، وقوله: (الجمعة على من سمع النداء). وحديث جابر قال: (أقبلت عير بتجارة يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فانصرف الناس ينظرون، فما بقي غير أثني عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما}،. ولأن التحديد لا يصار إليه إلا بتوقيف وذلك معدوم واعتباراً بالأربعين لعلة حصول عدد تَتَقرى بهم القرية، ويمكن فيهم الإقامة. ودليلنا على أصحاب أبي حنيفة، أن الجمعة لما كان من شرطها الإقامة بدليل سقوطها على أهل البادية وجب أن يكون من شروط وجوبها من يمكنه الإقامة من الجمع ومعلوم أن ذلك لا يمكن في الاثنين والثلاثة والعدد القليل فوجب أن يراعى ما يمكن ذلك فيه. [398] مسألة: إذا انفضوا عنه بعد أن أحرم بهم، فإن كان قبل أن يتم ركعة بسجدتيها أتمها ظهرا أربعا، وإن كان بعد أن عقد ركعة بسجدتيها ضم إليها أخرى وكانت جمعة، وسواء بقي وحده أو بقي معه من لا

حكم السجود على ظهر إنسان من أجل الزحام

تنعقد بهم جمعة، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه راعى سجدة من الأولى. وللشافعي خمسة أقاويل، إلا أن الذي يناظرون عليه، وهو الصحيح عندهم أنه يتمها ظهراً. لأن العدد شرط الإستدامة من أول الصلاة إلى آخرها، كما أنه شرط في الإبتداء. ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أخرى) وهذا عام في الإمام والمأمومين. ولأنه حصل له إدراك ركعة من الجمعة، فجاز البناء عليها، لأنه يقدر على الجماعة كالمأموم. ولأن الخوف لو نزل في الحضر فصلى بهم الإمام الجمعة، لكان يصلي بالطائفة الأولى ركعة ثم يثبت قائما وحده ويتم هؤلاء بقيتها، ثم تأتي الطائفة الثانية، فيتم بهم الجمعة، وإن كان قد بقي وحده بعد أن صلى بالأولى ركعة كذلك في مسألتنا بل هو في مسألتنا أخف؛ لأن الإجماع موجود في صلاة الخوف، ومعدوم في مسألتنا، إلا أن ذلك أجزأ للضرورة. [حكم السجود على ظهر إنسان من أجل الزحام] [399] مسألة: إذا اشتد الزحام فلم يجد موضعا يسجد عليه لم يسجد على ظهر إنسان فإن فعل لم يجزه وأعاد أبدا. خلافاً للشافعي في قوله أنه يسجد على ظهر إنسان إذا أمكنه. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صلوا كما رأيتموني أصلي). وقوله: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، وانتفى بذلك جواز السجود على غيرها. ولأن ما ينتقل بنفسه لا يجزئ السجود عليه كالبهيمة؛ ولأن ضرورة الزحمة لا تبيح السجود على ما ليس بمحل له في غيرها كالموضع النجس. ولأن كل ما لم يكن محلاً للسجود في غير الزحمة لم يكن محلاً للسجود في وقوعها كالإيماء.

فوات المأموم السجود مع الإمام من أجل الزحمة

[فوات المأموم السجود مع الإمام من أجل الزحمة] [400] مسألة: إذا ركع مع الإمام في الأولى ثم ضُغِطَ فلم يتمكن من السجود حتى ركع الإمام في الثانية، فإنه يلغي الأولى ويتبعه في الثانية، وتصير الثانية أولاه , وقال أبو حنيفة: يتشاغل بما فاته وإن فاته الركوع في الثانية مع الإمام. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل هذا، والآخر: يتبعه ويلغي الركوع الأول كقولنا. ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه)، فإذا ركع الإمام في الثانية وتشاغل المأموم بالسجدة الأولى حصل مخالفاً عليه. ولأنه أدرك الإمام راكعاً فوجب أن يركع معه، أصله المسبوق إذا أدرك الإمام راكعاً. ولأنه مأمور بالمتابعة وفي تشاغله بصلاة نفسه قطع للمتابعة لإمامه فلم يجز ذلك اعتباراً بالمسبوق. ولأن المأموم قد يترك فرض نفسه ليتبع إمامه في فعله ألا ترى أن من أدرك الإمام ساجداً فكبر خلفه فإن عليه متابعته في فعله وإن كان فرض نفسه هو القيام والركوع، كذلك في مسألتنا, عليه إتباعه في فعله، وإن كان فرضه هو السجود واعتباراً به إذا لم يتخلص إلا بعد رفع الإمام رأسه من الركعة الثانية. [قطع الإمام الصلاة من أجل العذر وحكم الاستلاف] [401] مسألة: إذا ناب الإمام ما قطع عليه الصلاة أو احتاج معه إلى الخروج منها، كغلبة الحدث أو الرعاف، أو ذكر أن عليه صلاة أخرى - على إحدى الروايتين - فإنه يستخلف من يتم، خلافا للشافعي في منع ذلك. ولما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب ليصلح بين بني عمرو بن عوف فقدم الناس أبا بكر، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه الناس صفقوا، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثروا التفت، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأخر، فقال له:

"مكانك" فتأخر وتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه صلاة بإمامين. ولأنه شخص من شرط صحة الجماعة فجائز أن يبدل، كالمأموم ولأن طريق الجماعة الفضيلة وليست تختل بتبدل الإمام لأن الثاني يقوم مقام الأول. [تم الجزء الخامس من كتاب الإشراف]

متى يصلي الظهر من تلزمه الجمعة؟

بسم الله الرحمن الرحيم استعنت بالله [متى يصلي الظهر من تلزمه الجمعة؟] [402] مسألة: إذا صلى الظهر في بيته وهو ممن تلزمه الجمعة، فإن كان في وقت لو سعى إلى الجمعة لأدركها أو ركعةً منها فلا يجزيه، ويعيدها أبدا، وإن كان في وقت لو سعى إلى الجمعة لم يدرك ركعة منها أجزأه ,. وقال أبو حنيفة: يجزيه من غير تفصيل، إلا أنه قال: فإن سعى إلى الجمعة بعد أن صلى الظهر بطلت ظهره، فإن أدرك الجمعة صلاها، وإلا أعاد ظهراً، والكلام معه في فصلين: أحدهما: في فرض الوقت ما هو؟ فعندنا أنه الجمعة، وعندهم الظهر. والآخر: هل يجزيه الظهر أم لا؟. فدليلنا أن فرض الوقت الجمعة قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}، وإيجاب السعي إلى الصلاة بعينها يقتضي أن تكون هي الفرض، فإذا ثبت هذا انتفى أن يكون فرضه الظهر؛ لأن ذلك يوجب أن يكون عليه فرضان وذلك باطل، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (الجمعة على كل مؤمن)، وذلك يقتضى أن تكون فرضاً بنفسها. ولأنها صلاة يأثم بترك أدائها كالصبح، ولأنها صلاة مؤقتة يلزم أداؤها في وقتها، فكانت واجبة بنفسها كالعصر والمغرب. ولأن الفرض مأمور بفعله، ويحرج بتركه

صلاة الظهر عند فوات الجمعة

وهذه صفة الجمعة دون الظهر. ودليلنا على أنها صلاة محكوم بفسادها إذا سعى إلى غيرها فوجب أن يحكم بفسادها قبل السعي، أصله إذا صلى محدثا أو قبل وقتها. [صلاة الظهر عند فوات الجمعة] [403] مسألة: إذا فاتتهم الجمعة فالمستحب لهم أن يقضوها ظهراً منفردين. خلافاً للشافعي في استحبابه لهم أن يقضوها ظهراً في جماعة؛ لأن من أصلنا الحكم بالذرائع، وهي منع ظاهر الشيء المباح إذا كان فيه تطرق لأهل البدع إلى الشيء المحظور، وفي قضاء الظهر هاهنا جماعة ذريعة إلى المبتدعة في فوات الجمعة ليصلوا الظهر خلف من يعتقدون إمامته، ويظهرون فوات الجمعة فوجب كراهتها لذلك. [السفر يوم الجمعة] [404] مسألة: السفر يوم الجمعة قبل الزوال مكروه غير ممنوع، خلافاً لأحد قولي الشافعي أنه ممنوع. لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جهز جيش مؤتة يوم الجمعة، وفيه جعفر بن أبي طالب وعبدالله ابن رواحة، فخرج جعفر وأقام عبدالله حتى يصلي الجمعة فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما أخرك؟) قال الجمعة. فقال عليه السلام: (لروحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها فانطلق سائراً). ولأن وقت وجوبها لم يدخل فأشبه ما قبل الفجر.

تحية المسجد أثناء الخطبة

[405] (فصل): فأما إذا زالت الشمس فلا يجوز السفر لمن تلزمه الجمعة خلافاً لما يحكى عن بعض أصحاب أبي حنيفة. لقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا} والأمر بالفعل نهي عن ضده. ولأنه قد تعين عليه فعل الجمعة، فلم يجز له تركها بالسفر، أصله، إذا أحرم بها. ولأن هذا مبني على أصلنا أن الصلاة تجب بأول الوقت ولا يجوز أن يتشاغل عنها بما يسقطها من غير ضرورة. [تحية المسجد أثناء الخطبة] [406] مسألة: إذا دخل والإمام يخطب جلس ولم يركع تحيه المسجد، خلافاً للشافعي. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت فقد لغوت)، ومعلوم أن ذلك زجر عن ترك الإنصات، وإذا زجر عن هذا القدر فما زاد عليه أولى بالمنع ولأن القول: أنصت من مصالح الإنصات ودعاء إليه، فإذا كان ذلك منهياً عنه مع قلة خطره ويسارة التشاغل به، كان ما زاد عليه وما ليس من بابه أولى. وروي (إذا خطب الإمام فلا صلاة ولا كلام). ولأنه معنى يشغل عن استماع الخطبة كالكلام والأكل، ولأنها صلاة ابتدئت حال خطبة الإمام، كالتنفل المبتدأ، ولأن كل حال لو كان عليها وهو في المسجد لم يجز له ابتداء التنفل

حكم الخطبة وصفتها

معها، فكذلك إذا صادفها دخوله، أصله حال إقامة الإمام، أو حال تلبسه بالصلاة. ولأن كل صلاة لورامها من هو في المسجد لم يجز له، فلا يجوز للداخل، أصله ما ذكرناه. [حكم الخطبة وصفتها] [407] مسألة: الخطبة شرط في انعقاد الجمعة. خلافاً لعبد الملك،، وداود، لأنه - صلى الله عليه وسلم - خطب وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي). [408] مسألة: وفي صفتها روايتان: إحداهما: أنه لا يجزئ إلا ما له بال من الكلام، يسمي مثله العرب خطبة. والأخرى: أنه لو سبَّح أو هلل فقط، أعاد ما لم يصل، فإن صلى لم يعد. فدليلنا على ()، الأول قوله عليه السلام: (صلوا كما رأيتموني أصلى) ولم نره اقتصر على تسبيح أو تسبيحتين. ولأنه إذا وجب الاسم وجب الرجوع فيه إلى العادة والعرف، والعرب تفرق بين الخطبة وغيرها، ولا تسمي، من قال سبحان الله ولا إله إلا الله وإن كرره خاطباًفلم يجز. [409] مسألة: إذا أتى ببيان وكلام مؤقّت ممتد يجمع موعظة وحمد الله والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعض ذلك كفاه، خلافاً للشافعي في قوله: أقل ما يجزيه أن يحمد الله ويصلى على نبيه ويوصي فيقول: اتقوا الله، ويقرأ شيئا من القرآن؛ لأن اسم الخطبة يقع على الكلام المجتمع أو الوصف وإن لم يجمع ما اعتبروه؛ لأن ذلك لما لم يكن من شرطه في اللغة قبل الشرع؛ لأنهم كانوا لا يعرفون القرآن والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد شرع بنقل الاسم عما كان عليه، وجب أن يجزئ ما يقع عليه الاسم.

حكم الإنصات والكلام

[حكم الإنصات والكلام] [410] مسألة: الإنصات للخطبة واجب، خلافاً لأحد قولي الشافعي. لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} قيل ذلك في الخطبة. وقوله عليه السلام: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت)، مفهومه الإتيان بالأمر المنهي عنه وهو التشاغل عن الإنصات. وقوله عليه السلام: (إذا خطب الإمام فاستقبلوه بوجوهكم، واصغوا إليه بأسماعكم)، وهذا أمر وهو على وجوبه. وقوله عليه السلام: (من تكلم والإمام يخطب، فهو كالحمار يحمل أسفارا والذي يقول أنصت لا جمعة له) ففيه دليلان: أحدهما: تشبيهه إياه بالحمار، ومعلوم أن ذلك صفة ذم ونقص لا يوصف بها تارك الندب. والآخر: نفي أن يكون له جمعة، وقد علمنا أنها جمعة، فلما استعار له لفظ نفي الأجزاء وعدم الصحة، دل على تأكيد منعه وشدة تحريمه، ولأن الصلاة قربة وطاعة وقد حرمت لأجل الخطبة فبأن يحرم الكلام أولى. ولأن الإباحة للكلام وترك الإنصات استخفاف بالإمام، وإبطال لمعنى الخطبة، وإزالة لفائدة الخطب، وذلك من أولى ما وصف بأنه محرم. [411] مسألة: الحديث والكلام جائز وإن صعد الإمام على المنبر، ما لم يفرغ المؤذنون ويأخذ في الخطبة، خلافاً لأبي حنيفة في قوله يحرم بنفس صعوده. لقول - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام

الجلوس قبل الخطبة والقيام فيها

يخطب فقد لغوت) فعلق ذلك بحال الخطبة، ولأنه قبل الشروع في الخطبة فأشبه قبل صعوده، ولأن الكلام إنما منع للإنصات، فإذا لم يكن ما ينصت له لم يحرم. [الجلوس قبل الخطبة والقيام فيها] [412] مسألة: السنة في الخطبة أن يجلس في أولها ووسطها، فإن خطب ولم يجلس قال أصحابنا: قد أساء ويجزيه، خلافاً للشافعي في قوله: إن لم يفصل بينهما بجلسة فلا يجزيه. لأنهما ذكران يتقدمان الصلاة، فلم يكن الجلوس بينهما شرطا كالأذان والإقامة. ولأنه قعد على المنبر قبل خطبته فلم يكن شرطاً كالأول، ولأن الغرض بالقعود الفصل بين الخطبتين والإعلام بالفراغ من الأولى، وذلك لا يوجب كونه شرطا كقوله: (اذكروا الله يذكركم). [413] مسألة: الذي يقوله من أدركنا من شيوخنا: إن القيام في الخطبة واجب بالسنة، وإن خطب جالسا كره له ذلك وأجزأه. خلافاً للشافعي في قوله إن القيام شرط فيها، كما أنهشرط في الصلاة. لأنه ذكر يتقدم الصلاة لأجلها، فلم يكن من شرط صحته القيام، كالأذان والإقامة، ولأن الغرض به أن يشاهده الناس وينظروه ويتمكنوا من سماع الخطبة، فلم يؤثر الإخلال به كالصعود على المنبر. [سلام الإمام على الناس إذا رقى المنبر] [414] مسألة: ليس من السنة أن يسلم إذا رقى في المنبر، خلافاً للشافعي. لأن ذلك عمل أهل المدينة المتصل بينهم، فلو كان عندهم شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعدلوا عنه، ولأن صعوده على المنبر اشتغال بافتتاح عبادة، فلم يشترط فيه السلام كسائر العبادات، ولأنه ذكر يتقدم

الطهارة في الخطبة

الصلاة كالأذان والإقامة، ولأنه خطبة كالثانية. [الطهارة في الخطبة] [415] مسألة: الأفضل أن يخطب على طهر، فإن خطب محدثا كره ذلك وأجزأه. خلافاً لأحد قولي الشافعي: إنها لا تجزئ إلا بطهارة؛ لأنه ذكر يتقدم الصلاة، فلم يكن من شرطه الطهارة كالأذان، ولأنه ذكر ليس من شرطه استقبال القبلة كالتلبية والشهادتين. [اشتراط حضور العدد الذي تنعقد بهم الجمعة من أول الخطبة] [416] مسألة: لا نحفظ نصا عن مالك ولا عن أصحابه المتقدمين هل من شرط إجزاء الخطبة أن تكون بحضرة من تنعقد بهم الجمعة وشيوخنا يقولون: يجيء على المذهب أن ذلك شرط فيها، خلافاً لأبي حنيفة. لقوله - صلى الله عليه وسلم - (صلوا كما رأيتموني أصلى)، ولم نره يخطب وحده، وإنما خطب بحضرة العدد الذين تنعقد بهم الجمعة، ولأنه ذكر جعل شرطاً في صحة الجمعة وانعقادها، فوجب أن يكون من شرطه اجتماع العدد، كتكبيرة الإحرام. ولأنه الغرض بالخطبة الوعظ والتذكير، وذلك ينافي كونه وحده. [القراءة في صلاة الجمعة] [417] مسألة: المستحب أن يقرأ في الأولى بسورة الجمعة، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنها وغيرها سواء؛ لأنه عليه السلام كان يفعل ذلك ويداوم عليه هو ومن مضى من السلف بعده. ولأن فيها ذكرا بالجمعة والحض عليها، وكثيراً من أحكامها، من النداء لها، وتعليق السعي به، ومنع البيع بعده، وجواز الانتشار بعد الفراغ منه، ووجوب الخطبة

وقت صلاة الجمعة

والإنصات لها، فكان قراءتها أولى ليتجدد على استماع، الناس. [418] مسألة: المستحب في الثانية الغاشية فإن قرأ بسورة "المنافقون"،جاز، وقال الشافعي يستحب "المنافقون" خاصة. ودليلنا حديث النعمان، وسمرة، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الثانية بالغاشية واستحببنا ذلك للمداومة. [وقت صلاة الجمعة] [419] مسألة: لا يجوز أن تصلى الجمعة قبل الزوال، خلافاً لأحمد بن حنبل. لقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}، ودلوكها زوالها، وقال أنس: (كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة إذا زالت الشمس). وفي

إمامة المراهق والعبد

حديث سلمة بن الأكوع (إذا دلكت). ولأنها لا تخلو أن تكون ظهراً قصرت فوقتها لا يختلف أو بدلا من الظهر فكذلك أيضا؛ لأن البدل لا يجب وقته قبل وقت مبدله. ولأنها صلاة تليها العصر، فكان وقتها الزوال كالظهر. [إمامة المراهق والعبد] [420] مسألة: لا تجوز الجمعة خلف المراهق خلافاً: للشافعي، لأنه متنفل بصلاته والمتنفل لا يكون إماما للمفترض على ما بيناه. [421] مسألة: وفي إمامة العبد فيها خلاف، قال ابن القاسم: لا تجوز وقال أشهب: تجوز، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، والصحيح قول ابن القاسم. لأنه ممن لا تلزمه الجمعة لنقص فيه، فلم تجز إمامته فيها كالمرأة، ووجه قول أشهب أن كل من صحت إمامته للرجال في فرض غير الجمعة صح في الجمعة كالحر. [422] مسألة: لا جمعة على عبد، خلافا: لداود. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة، عبد مملوك أو امرأة، أو صبي، أو مريض). ولأنه ذو نقص في نفسه مؤثر في منع شهادته، فلم تلزمه الجمعة كالمرأة.

تعدد الجمعة في المصر الواحد

[تعدد الجمعة في المصر الواحد] [423] مسألة: لا تنعقد الجمعة في المصر الواحد إلا في موضع واحد، خلافاً لأبي حنيفة ومحمد. لقول تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا}، فكان هذا مجملا فبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله، فأقام الجمعة في موضع واحد، مفتتحاً لها مبتدئاً أقيمت في خمس مواضع وأكثر، ولأن السعي إلى الأولى قد وجب بالنداء إليها، والثانية يقع منهياً عنها؛ لأن على من يقيمها أن يسعى إلى الأولى ويترك ما هو فيه. ولأنها لو جازت في موضعين لكان من سمع النداء فيهما لا يخلو من أن يجيبهما، ولا يمكن ذلك، أو أن يكون مخيرا وليس في ذلك تخيير فلم يبق إلا المنع. ولأنها لا يخلو أن تكون كسائر الجماعات أو بخلافها، فإن كانت كسائر الجماعات جازت في كل مسجد، ولم يقف () على موضعين وثلاثة وإن كانت مختصة فذلك ما قلناه. [اجتماع جمعة وعيد] [424] مسألة: إذا اتفق عيد وجمعة لم يسقط أحدهما بالآخر، خلافاً لأحمد بن حنبل. لقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}. وقوله عليه السلام: (الجمعة على كل مسلم)، ولأن شرائطها موجودة فلزمت إقامتها، أصله إذا لم يكن عيد، ولأن صلاة العيد سنة لم تسقط فرض كصلاة الكسوف، ولأن الجمعة آكد؛ لأنها فرض فإذا كانت لا تسقط الأضعف كان الأضعف بأن لا يسقط الآكد أولى. [تحريم البيع عند الأذان] [425] مسألة: إذا جلس الإمام على المنبر وأخذ المؤذنون في

باب في صلاة الخوف

الأذان، حرم البيع وفسخ ما وقع منه في تلك الحال، لا فرق بين من تلزمهما الجمعة أو أحدهما. خلافاً لأبي حنيفة والشافعية. لقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} ففيه دليلان: أحدهما: قوله: {فاسعوا إلى ذكر الله} وذلك أمر بالسعي، والأمر بالشيء نهي عن ضده، فيجب أن يكون منهيا عما يشغله عنه، والنهي يقتضي الفساد. والآخر: قوله عز وجل: {وذروا البيع}، وهذا نص في تحريمه، وذلك يتضمن فساده إذا وقع، ولأنه عقد معاوضة نهي عنه لحق الله، لا يجوز التراضي بإباحته، فوجب فساده، أصله نكاح المحرم. باب في صلاة الخوف [426] مسألة: صلاة الخوف جائزة في وقتنا هذا خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن جوازها كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة. لقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة}، والأصل مساوتنا له في الأحكام، إلا ما قام الدليل على خصوصه، ولأنه إجماع الصحابة وروي عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وحذيفة .......

وزيد بن ثابت، وأبي موسى، وعبد الرحمن بن سمرة، فمنهم من روي عنه فعلها، ومنهم من روي عنه الفتوى بجوازها، ولم يذكر عن أحد منهم خلافه. ولأنه ضرب من العذر يُغيّر بنية الصلاة، فوجب أن يكون حكمنا فيه كحكمه، كالسفر والمرض، ولأن المعنى الذي له أمر بصلاة الخوف يُعْلَم بحراسة المسلمين وحفظهم والتحرز من عدوهم، وهذا المعنى يحتاج إليه في كل وقت، فلم يختص عليه السلام بذلك دون أمته. [427] مسألة: صفة صلاة الخوف في السفر عندنا أن يتقدم الإمام بطائفة، ويترك طائفة قائمة بإزاء العدو، فيصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يثبت قائماً، تم يصلون لأنفسهم ركعة، ثم يسلمون ويمضون، فيقومون مقام أصحابهم، ثم تأتي الطائفة الأخرى فيحرمون خلف الإمام، فيصلي بهم الركعة الثانية، ثم يتشهد ويسلم، ثم يصلون الركعة التي فاتتهم، هذا في غير المغرب، وقال أبو حنيفة: يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعة بسجدتيها، ثم تنصرف فتقف بإزاء العدو، ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الركعة الثانية ويتشهد ويسلم وحده، ثم تنصرف هذه الطائفة فتقف بإزاء العدو وتأتي الطائفة الأولى فتقضي لأنفسها ركعة بسجدتيها وحدانا بغير إمام وتتشهد وتسلم، ثم تنصرف وتقف بإزاء العدو، ثم تأتي الطائفة الأخرى فتقضي مثل ذلك. والكلام في هذه المسألة يقع في ترجيح بعض هذه

الأخبار على بعض لأن كلينا قد روى خبراً صار إليه، فصرنا إلى خبر صالح بن خوات، وسهل بن أبي حثمة، وهو أولى من أخبارهم لضروب من الترجيح، منها: أن رواة أخبارنا أكثر عدداً؛ لأنها رويت عن ثلاثة من الصحابة وسائر ما رووا في ذلك رواية واحدة فقط إلا حديث ابن مسعود وهو مختلف عليه فيه. ولأن ظاهر القرآن معنا، وهو قوله تعالى: {فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم}، فأفردهم بالسجود فاقتضى ذلك أن يسجدوا لأنفسهم سجوداً ينفردون به، لا يشركهم فيه الإمام في الصلاة، لقوله تعالى: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك}، وهذا لا يمكن إلا على ما نقوله: أن كل طائفة تصلي ما بقي عليها في حال صلاة الإمام، وعلى مذهب أبي حنيفة لا تصح؛ لأن القضاء عنده إنما يكون بعد فراغ الإمام من

الصلاة، وقال أحمد ابن المعذل. ولأن ما قلناه أحوط، ولأن انصراف الطائفة الأولى التي قد صلت مع الإمام ركعة إلى مكان الطائفة الواقفة بإزاء العدو إنما هو للحفظ والحراسة فيجب أن تقف في مكانها وهي فارغة لما وقفت له غير مشغولة بمراعاة ما سواه؛ لأن ذلك أمكن في التحفظ وأقوى في التحرز، وأشبه بالمعنى الذي له استدعيت لتقوم فيه، ولأنهم ربما احتاجوا في التحفظ إلى كلام وصياح، وغير ذلك مما إذا فعلوه بطلت صلاتهم بفعله، فيزال ما بني عليه أمر صلاة الخوف من الاحتياط للصلاة. [428] (فصل): اختلف قول مالك: هل يسلم الإمام قبلهم أم ينتظرهم حتى يقضوا ثم يسلم بهم؟ فوجه قولهم ينتظرهم، وهو قول الشافعي قوله تعالى: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك} وهذا يفيد جميع الصلاة. ولأنه تُؤَدّي إلى التسوية بين الطائفتين في الفضيلة، ولأن الخبر بذلك مسند والآخر موقوف. ووجه قوله يسلم قبلهم، هو أن تغيير الصلاة للخوف إنما جاز للضرورة، فإذا استوت الحال حملناها على الأصل، وهاهنا لا فصل بين سلام قبلهم وبين انتظاره إياهم في باب الضرورة، ولأن انتظاره إياهم زيادة عمل في الصلاة غير محتاج إليه في صلاة الخوف، ويفارق فيه قيامه بين الركعتين لانتظاره الطائفة الأخرى؛ لأن ذلك محتاج إليه، ولأن من خلفه لا

يقفون على وقت فراغه من تشهده ليقوموا لقضاء ما عليهم، إلا بأن يشير بيده، أو يلتفت أو يفعل ما يشعرهم به أنه قد فرغ، وذلك مكروه، فكان التسليم أولى، ولأنه قد لا يصل إلى العلم بفراغ جميعهم من تلك الركعة، لاختلاف أحوالهم في القضاء من السرعة والإبطاء، فلا يخلو أن يسلم على حسب ما يغلب على ظنه من فراغهم، فيؤدي إلى فوات الفضيلة لبعض الطائفة، ومراعاة الفضيلة للبعض، كمراعاتها للكل، وأن ينتظرهم الانتظار الذي يعلم في العادة أنه لم يبق منهم إلا من قد صلى فيؤدي ذلك إلى زيادة في الصلاة لا يحتاج إليها، ولأن الذي تفوته هو العدل بين الطائفتين؛ لأن الأولى لما كان ابتداء شروعها في القضاء بعد انفصاله عن الركعة الأولى، فيجب أن يكون كذلك على الأخرى، وهذا لا يمكن إلا بعد سلامه. [429] مسألة: وفي المغرب يصلي بالأولى ركعتين. خلافاً لبعض الشافعية في تخريجهم أنه يصلي بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين؛ لأنها مبنية على التخفيف والاحتياط، وما نقوله أقرب إلى ذلك؛ لأنه إذا صلى بالأولى ركعتين وقف منتظراً لقضاء ركعة فهو أولى من أن يقف لانتظار قضاء ركعتين، ولأنها لما لم تثبت على المساواة، فكانت الركعة لا تنقسم كان أول الصلاة أولى بالإكمال من أخرها، كما كان ذلك في القراءة بالسورة والجهر. [430] (فصل): إذا صلى بالأولى ركعتين، ففي وقت قضائهم وانتظار الأخرى روايتان. إحداهما: أنه إذا فرغ من تشهده أشار إليهم فقاموا، ثم تأتي الأخرى فيقوم فيصلي بهم الركعة، الثالثة. والأخرى أنه يقوم إلى الثالثة فتتم الأولى، ويثبت قائماً حتى تأتي الأخرى. فوجه الأولى: هو أن صلاة الخوف مبنية على المساواة. وانتظاره

إياهم في الجلوس أقرب إلى المساواة؛ لأنهم يدركونه في أول قيامه. ووجه الثانية: ما ذكرنا بأنهم لا يقفون على فراغه من تشهده إلا بأن يشير إليهم وذلك زيادة عمل في الصلاة مكروهمع استغنائه عنه. [431] مسألة: الخوف لا تأثير له في إسقاط بعض الركعات، فإن كان في الحضر صليت أربعاً وإن كان في السفر صليت ركعتين، والرخصة في تغيير الهيئة فقط. خلافاً لما يحكى عن جابر أنها ركعة للمأموم وركعتان للإمام، لما رويناه من صلاته - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف لهم على الصفة التي نقلوها وهو كالنص. ولأن المأموم إذا ساوى إمامه في صفته وحاله ساواه في قدر الصلاة وكيفيتها كما لو كانا حاضرين أو مسافرين. [432] مسألة: إذا اشتد خوفهم صلوا على حسب قدرتهم، مشاة وركبانا إلى القبلة وغيرها، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: لا تجوز حال المسايفة وتؤخر إلى وقت الأمن. لقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}، إلى قوله: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا}، فأمر بفعلها حال الخوف بحسب ما يقتضيه الحال. وروى الزهري عن سالم، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر صلاة الخوف وقال: (فإن كان الخوف أشد من ذلك صلوا رجالاً أو ركباناً مستقبلي القبلة ومستدبريها) وهذا نص. ولأن

باب في صلاة العيدين

كل من لم يجز له تأخير الصلاة عن وقتها في غير الخوف، لم يجز له ذلك حال الخوف، أصله في غير المسايفة، ولأنه من أهل الصلاة، فلم يجز له إخراجها عن وقتها كالراكب حال الخوف، وكالمريض الذي لا يقدر إلا على الإيماء، ولأن كل من لزمه قضاء صلاة بعد خروج وقتها لم يجز له تأخيرها عن وقتها كالمغمور بالنجاسة -والله أعلم-. باب في صلاة العيدين [433] مسألة: صلاة العيدين سنة مؤكدة. خلافاً لمن قال من الشافعية إنها من فروض الكفاية، لأنها صلاة تشتمل على ركوع وسجود ليس من سنتها الأذان بوجه فوجب أن تكون نافلة، غير فرض على الأعيان ولا الكفايات كسائر النوافل. ولأنها لا إقامة فيها أعني العيدين. [434] مسألة: التكبير مسنون مستحب في يوم العيد في الطريق والجلوس، خلافاً: لأبي حنيفة في كراهية ذلك يوم الفطر، لقوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم}، قال ابن عباس (حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا الله تعالى حتى يفرغوا من عيدهم). وروى الزهري قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم العيد فيكبر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى). ولأنه يوم يصلى فيه صلاة

العيد فوجب أن يكون التكبير مسنون فيه، أصله الأضحى. [435] مسألة: ينقطع التكبير بخروج الإمام للصلاة. خلافا للشافعي في أحد قوليه، أنه ينقطع إذا أحرم بالصلاة، لأن الإمام إذا خرج للصلاة وجب إتباعه فيما يفعله، فيكبر بتكبيره ويسكت بسكوته، اعتبارا بتكبيره في تضاعيف الخطبة. [436] مسألة: يكبر يوم الفطر دون ليله، خلافا للشافعي لأنه تكبير يختص استحبابه بالعيد، فوجب أن يكون يوم العيد دون ليله، كالتكبيرات الزوائد في الصلاة. [437] مسألة: زوائد التكبير ست في الأولى وخمس في الثانية، خلافا لأبي حنيفة في قوله إنها ست: ثلاث في الأولى، وثلاث في الثانية. وللشافعي في قوله سبع في الأولى، لما روى ابن عمر وعائشة، وأبو واقد الليثي، وعمرو بن عوف المزني، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في

العيدين سبعا في الأولى، وخمسا في الثانية، قبل القراءة، وروى عبد الله بن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة) , وهو إجماع أهل المدينة نقلاً. [438] مسألة: والتكبير في الركعتين جميعاً قبل القراءة , خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنه يأتي في الثانية بالقراءة ثم بالتكبيرات الزوائد, فيصلها بتكبيرة الركوع لحديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في الثانية خمساً قبل القراءة , وفي حديث ابن عمر أن التكبيرات في الركعتين معاً قبل القراءة, وفي حديث عبد الله بن عمرو القراءة بعدهما كلتيهما , ولأنهما تكبيرات زوائد في صلاة عيد, فكان قبل القراءة كالركعة الأولى. [439] مسألة: الظاهر أن اليدين ترفع في تكبيرة الإحرام

وحدها خلافاً لأبي حنيفة والشافعي لأن ما بعدها تكبير ليس بركن, كتكبيرات الركوع والسجود. [440] مسألة: إذا صعد المنبر ففي جلوسه قبل الخطبة روايتان: إحداهما: يفعله كالجمعة, والثانية أنه يخطب ولا يجلس , لأنه في الجمعة انتظار الفراغ من الآذان وذلك معدوم في العيد. [441] مسألة: الأفضل أن يصلي في المصلى خلافاً للشافعي في قوله: إنها في المسجد أفضل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها في المصلى ويداوم عليها، وروى أبو هريرة قال: (أصابنا مطر في يوم عيد فصلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - العيد في المسجد)، فهذا يدل على أنه للعذر عدل عن المصلى للمسجد، ولأن القصد من العيد إظهار الزينة والفخر، وإعلان جمال الإسلام وزينته وعساكره، وذلك إنما يتبين في الصحراء والفضاء والمواضع الواسعة، ولذلك اختير المصلى، ولأن المصلى تبنى لصلاة العيد، فكان أولى بها كالاستسقاء. [442] مسألة: لا يتنفل في المصلى قبل الصلاة ولا بعدها لا الإمام ولا غيره، وقال أبو حنيفة: يتنفل بعدها ولا يتنفل قبلها. وقال الشافعي: كره ذلك للإمام قبل الصلاة وبعدها ولا يكره للمأموم. فدليلنا على الشافعي، ما روى ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء يوم

الفطر وصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما)، وإذا ثبت ذلك فقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي). ولأنه تنفل في المصلى يوم العيد، فأشبه تنفل الإمام؛ ولأن كل تنفل كره للإمام كره للمأموم، أصله عند طلوع الشمس وغروبها. ودليلنا على أبي حنيفة الحديث الذي رويناه، ولأنه إجماع الصحابة؛ لأن أحدا من السلف لم يحفظ عنه تنفل قبل الصلاة ولا بعدها. وروي عن علي ابن أبي طالب أنه رأى رجلاً يصلي في المصلى يوم عيد فقال: (ما هذه البدعة التي أحدثتم ما كنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصلي في المصلى قبل الصلاة ولا بعدها). وروي مثله عن ابن عمر. وقال ابن شهاب: (ولم يبلغني عن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح يوم الفطر ولا يوم الأضحى قبل الصلاة ولا بعدها). ولأن المصلى موضع لا يتكرر فيه الصلاة فلم يكن موضعاً، لنافلة أصله عرفة عكسه المسجد. ولأنه تنفل في

المصلى وقت صلاة العيد فأشبه قبلها. [443] مسألة: فأما إذا صليت في المسجد فروايتان: إحداهما: يتنفل فيه قبل الجلوس، بخلاف المصلى وهي رواية ابن قاسم وابن عبد الحكم. والأخرى: أنه كالمصلى، لا يتنفل فيه، وهي رواية ابن نافع. فوجه الأولى قوله عليه السلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين)، فعم، واعتباراً بغير يوم العيد، ولأن المعنى الذي كره له ذلك في المصلى راجع إلى الوقت والبقعة، فكانت الكراهية مرتبطة باجتماعهما، فإذا زالا أو أحدهما زالت الكراهية. ووجه الثانية ما روي أنه عليه السلام كان لا يصلي قبلها ولا بعدها)، ولأنه ضم صلاة التنفل إلى صلاة العيد فأشبه المصلى. [444] مسألة: إذا قرأ قبل التكبير ساهياً، ثم ذكر قبل الركوع، أتى ببقية التكبير وأعاد القراءة. خلافاً للشافعي في الجديد إذ قال: يركع ولا يعود إلى التكبير، فدليلنا على أن محل التكبير باق مالم يركع ولا يمنعه ذلك قراءته، لأن محل القراءة في صلاة العيد بعد التكبير، وإذا أتى بها قبله لم يفت محل التكبير الذي هو القيام، فوجب أن يأتي به ألا ترى أن محل السورة هو بعد قراءة "الفاتحة"، فإذا أتى قبلها أتى بالفاتحة كذلك هاهنا. [445] مسألة: يبدأ بالتكبير عقيب الصلوات في صلاة الظهر، من يوم النحر إلى أن تصلى الصبح من رابعه، وهو الظاهر من قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يكبر عقب ثماني صلوات، تبدأ بالصبح من يوم عرفة إلى

باب فصل في صلاة الكسوف

بعد العصر من يوم النحر. فدليلنا قوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا}، وفي يوم عرفة لم يقض شيئاً منها، ولأن يوم عرفة يوم لم يسن فيه الرمي، فلم يسن فيه التكبير كيوم التروية عكسه يوم النحر؛ ولأن أيام التشريق أيام سُنّ فيها الرمْيُ، فكان التكبير مسنونا فيها، أصله يوم النحر، عكسه يوم عرفة ما بعد التشريق؛ ولأن الناس في ذلك تبع لأهل منى، بدليل أنهم لا يكبرون في غير هذه الأيام، فعلم أنهم كبروا فيها على طريق التبع لهم، ووجدنا أول صلاة يكبر الناس فيها صلاة الظهر يوم النحر؛ لأنهم يرمون جمرة العقبة ضَحْواً، فأول فريضة يصلون بعدها الظهر. [446] مسألة: التكبير خلف الصلوات لكل أحد من مسافر وحاضر، ورجل وامرأة، وحر وعبد، منفرد وفي جماعة، خلافاً لأبي حنيفة في المسافر والمرأة أنهم لا يكبرون، لقوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله}، وقوله: {واذكروا الله في أيام معدودات}، فعم، ولأنها سنة تفعل عقيب الصلاة فاستوى فيها جميع المسلمين، كسجود السهو بعد السلام، ولأنه من أهل الصلاة فكان التكبير مسنونا في حقه، أصله الرجل الحاضر. [447] مسألة: لا يكبر عقيب النوافل. خلافاً للشافعي؛ لأنها صلاة نفل كسجود القرآن، ولأنها تبع للفرائض، والصلوات التي يكبر عقيبها من الفرائض محصورة، فانتفى بذلك أن يكون للنوافل حظ في ذلك. [باب] فصل في صلاة الكسوف [448] مسألة: صلاة كسوف الشمس ركعتان، في كل ركعة ركوعان. خلافاً لأبي حنيفة في قوله إنها ركعتان على بُنْيَة سائر الصلوات، لحديث

عائشة، وابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى حين كسفت الشمس، فقام، فأطال القيام، ثم ركع، فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام، وهو دون القيام الأول، ثم ركع، فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك). وروى نحوه جابر، وأبو موسى، وأبو هريرة ولأنه إجماع الصحابة، وروي عن عثمان، وابن عباس ولا مخالف لهما، والمعتمد في ذلك الاستدلال بالأخبار دون القياس.

باب في صلاة خسوف القمر

[449] مسألة: القراءة فيها سراً خلافاً لأبي يوسف، ومحمد في قولهما: إنها جهر؛ لحديث ابن عباس إنه قام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة). ورويوكنت وراءه فلم أسمع منه حرفاً. وفي حديث سمرة بن جندب (فقام بنا أطول ما يقوم بنا في صلاة لا تسمع له صوتاً). [450] مسألة: وليس فيها خطبة مرتبة، خلافاً للشافعي؛ لأنها صلاة نفل ليس من سنتها الجهر. باب [في صلاة] خسوف القمر [451] مسألة: لا يجمع لخسوف القمر، خلافاً للشافعي؛ لأن القمر قد خسف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفعات كثيرة، فلم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها في جماعة، ولا أنه دعا إلى ذلك. ولأنها صلاة نفل في الليل تجوز قبل المكتوبة كسائر نوافل الليل.

باب في صلاة الاستسقاء

باب [في] صلاة الاستسقاء [452] صلاة الاستسقاء سنة في الجماعة. خلافاً لأبي حنيفة في قوله إنها بدعة وليست بسنة لما رواه عباد بن تميم، عن عمه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة) ورواه ابن عباس، وأبو هريرة، ولأن الخطبة في الأصول لا تكون إلا مقارنة للصلاة كالعيدين والجمعة. [453] مسألة: يكبر للإحرام فقط. خلافاً للشافعي في قوله كتكبيرات العيد، لما روي أنه عليه السلام استسقى فصلى وكبر واحدة افتتح بها الصلاة، ولأنها صلاة غير عيد، فأشبهت النوافل كلها، ولأنها صلاة

حكم تارك الصلاة

ليس لإظهار نسك كسائر الصلوات. [454] مسألة: يحول فيها رداءه خلافاً لأبي حنيفة، لما رواه عبدالله بن زيد أن رسول - صلى الله عليه وسلم - استسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة). [حكم تارك الصلاة] [455] مسألة: إذا اعتقد وجوب الصلاة ثم تركها كسلا يقتل ولا يكفر، خلافاً لأبي حنيفة في قوله لا يقتل، ولأحمد في قوله قد كفر. فدليلنا على أبي حنيفة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)، وأقل ما يوجبه هذا اللفظ وجوب القتل. ولأن الأمر أحد نوعي التكليف فجاز أن يقتل في مخالفته كالنهي. ودليلنا على أحمد أنها من أفعال البدن فلم يكفر بتركها مع اعتقاد وجوبها كالحج.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز [456] مسألة: المستحب أن يغسل الميت مجرداً، خلافاً للشافعي؛ لأن الغرض تنظيفه وإزالة ما عليه من نجس أو درن، فكل ما أمكن في ذلك كان أولى. [457] مسألة: لا يُزالُ عن الميت شعر ولا ظفر، خلافاً للشافعي؛ لأنه قطع شيء من بدنه كالقلفة لأنه إذا قطع احتيج إلى دفنه معه، وما يدفن مع الميت إذا ترك عليه فلا يفرد عنه كسائر أعضائه. [458] مسألة: حكم الإحرام ينقطع بالموت، فيفعل بالميت المحرم ما يفعل بالحلال، خلافاً للشافعي. لقول - صلى الله عليه وسلم - (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث). ولم يذكر فيها الإحرام، ولأنه عبادة لها إحرام وإحلال وأُبيح له التحلل فيها فوجب أن يخرج منها بالموت كالصلاة، ولأنها عبادة يختص حكمها به دون غيره، فوجب أن يبطل حكمها بالموت كالصوم، ولأن حكم الإحرام لو كان باقيا لكان يجب أن يطاف به، ويوقف بعرفة، ويرمى عنه، كما يفعل بالمغمى عليه والمريض، وأن يلزم من يطيبه فديه، ولأن الموت سبب لسقوط كفارات الإحرام، فأوجب الخروج منه

كالتحلل. ولأنه معنى يمنع بقاء أفعال الإحرام عليه من غير مراعاة كالتحليل، ولأنها عبادة يتعلق بها تحريم الطيب، فوجب أن يخرج منها بالموت كالعدة. [459] مسألة: يغسل الرجل امرأته، خلافاً لأبي حنيفة في منعه ذلك، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: (إن مت قبلي غسلتك وكفتنك وصليت عليك). ولأنه إجماع الصحابة لأن علياً - رضي الله عنه - غسل فاطمة رضي الله عنها، ولم ينكر ذلك أحد، وقال ابن عباس: (الرجل أحق بغسل امرأته). ولأن الزوجية إذا زالت بالموت لم تمنع الغسل اعتباراً بموت الزوج، ولأن كل شخصين جاز أن يغسل كل واحد منهما في حياته، جاز ذلك بعد مماته، أصله الأختان والأخوان. ولأن كل شخصين جاز لأحدهما أن يغسل صاحبه بعد موته، فكذلك الآخر، أصله ما ذكرناه. ولأن كل حادث حدث بالزوج لم يمنع النظر، فكذلك إذا حدث بالمرأة كالمرض والجنون، ولأن كل حكم استفيد بالنكاح ولم يبطله موت الزوج، فإنه لا يبطله موت الزوجة كالتوارث. [460] مسألة: وعنه في المطلقة الرجعية روايتان: إحداهما: جوازه،

والأخرى منعه. فوجه المنع أنها قد حرمت عليه لمعنى فيها وإنما كان له أن يستحلها بالرجعة فقد بطلت بموتها فكانت على أصل التحريم، ووجه الجواز ثبوت الميراث لمّا كان باقيا بينهما، وكذلك باقي أحكام النكاح فكذلك الغسل. [461] مسألة: من مات له نسيب كافر لم يغسله، خلافاً للشافعي. لأن الغسل تابع للصلاة فلما لم يحصل عليه لعدم الولاية بينهما فيجب أن لا يغسله. ولأن الغسل طهارة للمسلم وإعظام له، وذلك منتف في حق الكافر. ولأن عليا - رضي الله عنه - لمّا أَعْلَم النبي - صلى الله عليه وسلم - بموت أبيه فقال: إن عمك قد مات قال: (اذهب فواره) ولم يأمر بغسله. [462] مسألة: إذا تحرك المولود ثم لم يستهل صارخا ولا طال مكثه طولاً يستدل منه على حياته فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه، خلافاً للشافعي. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مولود يولد إلا نخس الشيطان في جنبه فيستهل صارخاً، إلا ابن مريم وأمه ألا ترى أن الصبي إذا سقط من أمه كيف يصيح؟ وذلك حينَ يلكُزُه الشيطان).وروى سليمان بن بلال،

عن يحيى بن سعيد، عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يرث الصبي حتى يستهل صارخاً)، والاستهلال الصياح والبكاء، وليس يخلو هذا التفسير أن يكون من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو من عند هذا الصحابي، وأيهما كان فهو حجة. وروى عقيل، عن ابن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا استهل المولود صارخاً صُلّي عليه، ووجب ميراثه وديته). هذا وإن كان مرسلاً نص لا يحتمل. ولأنه قد ثبت أنه لا بد من علم يدل على حياته ولا يجوز أن تكون الحركة: لأنها قد تكون مستعارة كتحرك المذبوح ولأنه قد

كان متحركا في بطن أمه ولا حكم له بحياة فلم يبق إلا ما نقوله من الاستهلال أو طول المكث. [463] مسألة: الشهيد المقتول في المعركة لا يغسل ولا يصلى عليه. وقال أبو حنيفة: يصلى عليه ولا يغسل، وحكى عن الحسن وغيره: أنه يغسل ويصلى عليه، فد ليلتا ما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بدفن شهداء أحد بدمائهم، ولم يصل عليهم ولم يغسلهم وقال أنس (لم يغسل شهداء أحد ولم يصل عليهم). وروى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بحمزة وقد مثل به، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره. ولأن كل ميت لا يغسل إلا كان لا يصلي عليه، أصله السقط، ولأن الغسل متعلق بالصلاة اعتباراً بالمسلم والكافر وبالجنين المستهل وغير المستهل. [464] مسألة: لا ينزع عنه فرو ولا خف ولا محشو، خلافاً للشافعي في قوله: ينزع ذلك. لما روي أنه عليه السلام أمر بدفنهم بثيابهم فعم الفرو والمحشو، ولأنه من لباس لا من سلاح كالقميص. [465] مسألة: الظاهر من قوله أنه ليس للولي نزع ثيابه وتكفينه بغيرها، خلافاً للشافعي في قوله: إن له ذلك. لقوله عليه السلام: (زملوهم بدمائهم وثيابهم) وهذا ينفي التخيير، ولأنه شيء على جسده أمر بدفنه

فيه، فلم يكن للوارث إزالته عنه كالدم. [466] مسألة: المرأة والصبي إذا قتلا في المعركة فلا يغسلان،. خلافاً لأبي حنيفة. لقوله عليه السلام: (زملوهم بكلومهم ودمائهم، فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون دم والريح ريح المسك)، ففيه دليلان: أحدهما: قوله (زملوهم بدمائهم) ولم يفرق والأخر: التعليل وهو عام. ولأنه شهيد بالقتل في معركة المسلمين كالبالغ، ولأن موجبات الموت من العبادات لا تختلف بالصغير والكبير، أصله غير الشهداء. [467] مسألة: إذا استشهد جنباً فلا يغسل. خلافاً لأبي حنيفة. لقوله عليه السلام: (زملوهم بدمائهم)، الخبر، وهو عام؛ ولأنه شهيد في معركة الإسلام كالطاهر، ولأنها طهارة من حدث فوجب أن تسقط بالشهادة كالوضوء، ولأن غسل الجناية يجب للصلاة، وهي ساقطة عن القتيل فيسقط الغسل الواجب لها. [468] مسألة: إذا حمل من المعركة مثخناً بالجراح فعاش ثم مات، فإن كان في غمرة الجراح إلى أن مات فإنه لا يغسل، ولا يصلى عليه، وإن بقي يومين أو ثلاثة، وأكل أو شرب فهو كسائر الموتى، ولا اعتبار ببقاء الحرب أو انقطاعها. وقال الشافعي إن مات قبل تقضيّ الحرب فهو شهيد، لا يغسل، سواء، أوصى أو أكل أو شرب أو لم يفعل، وإن مات بعد تقضي الحرب فكغيره من الموتى، فالمراعاة عنده أن يموت قبل تقضي

الحرب. فدليلنا أن المعترك ليسب بعبارة عن بقاء الحرب أو تقضيها، وإنما عبارة عن الموضع الذي يكون فيه القتل فإذا جرح هناك ثم انصرف منه، ومات في غمرته تبيّنا أنه مات في المعترك، وبقاؤه في الغمرة لا حكم له، سواء بقيت الحرب أو انقضت، فإن عاش وأكل وشرب، ثم مات والحرب قائمة، علمنا أنه لم يمت في المعترك؛ لأنه يجوز أن يكون بغير ذلك الجرح، أو بسبب أخر، أو لمرض ثان أصابه، فلا اعتبار ببقاء الحرب ولا يتقضيها. [469] مسألة: سائر شهداء المسلمين سوى المقتول في المعترك يغسلون ويصلى عليهم، خلافاً لأبي حنيفة فيما حكي أنه إن قتل عمداً لم يغسل وإن قتل خطأ غسل؛ لأن ذلك إجماع الصحابة، لأن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلياً رضوان الله عليهم أجمعين قتلوا شهداء عمداً، فغسلوا وصلوا عليهم، ولأنه مسلم مقتول في غير معترك المسلمين، كالمقتول خطأ والهديم والغريق. [470] مسألة: المقتول من الفئة الباغية يغسل ويصلى عليه خلافاً لأبي حنيفة. لقوله عليه السلام: (صلوا على من قال لا إله إلا الله)، ولأنه

مسلم مقتول في غير معترك الكفار والمسلمين كسائر القتلى. ولأنه لا يخلو أن يكون مقتولاً بحق، أو بظلم فإن كان مقتولا بحق فهو كالزاني المحصن والمقتول قوداً، وإن كان بظلم كان كمن قتله اللصوص، والفريقان يغسلون ويصلى عليهم. [471] مسألة: المقتول من الفئة العادلة يغسل ويصلى عليه. خلافاً للشافعي في أحد قوليه. للخبر؛ لأنه مقتول في معترك المسلمين دون الكفار، كالمقتول من الفئة الباغية، وللتقسيم الذي قدمناه. [472] مسألة: إذا وجد عضو أو يسير من البدن فلا يصلى عليه. خلافاً للشافعي. لأنه يسير من البدن كالسن والظفر والشعر؛ ولأن هذا القدر لو انقطع منه حال الحياة لم يصل عليه كذلك بعد الموت. ولأن الصلاة على الميت لا تعاد عندنا، فلو قلنا: إن اليد والرجل يصلي عليهما لكان لا يخلو إذا وجد باقي البدن أن تعاد الصلاة أو لا تعاد، فإن لم تعد فإن ذلك يؤدي إلى أن الكثير تابع للقليل وذلك خلاف الأصول، وإن أعيدت حصل منه إعادة الصلاة على الميت وذلك ما منعاه. [473] مسألة: إذا اختلط المسلمون بالمشركين صلي على الكل ونوي بالصلاة المسلمين. وقال أبو حنيفة: يفعل ذلك إن كان المسلمون أكثر من المشركين، فإن كانوا مثل المشركين أو أقل فلا يصلي عليهم. ودليلنا أنه إذا اختلط من تجب الصلاة عليه بمن لا تجب لم يسقط ذلك الصلاة على من تجب عليه، اعتباراً بكون المسلمين أكثر؛ لأن الصلاة الواجبة إذا لم تتميز مما ليس بواجب أتى بالجميع ليسقط بعض الواجب، كمن نسي صلاة بعينها فإنه يصلي الخمس كلها. [474] مسألة: المشي أمام الجنازة أفضل. خلافاً لأبي حنيفة لما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة.

[475] مسألة: الوالي أولى بالصلاة على الميت من الولي. خلافاً للشافعي، لقوله عليه السلام: (لا يُؤم الرجل في سلطانه إلا بإذنه)، ولأن الحسين - رضي الله عنه - لما مات الحسن بالمدينة قدم سعيد بن العاص، وكان أميرها فصلى عليه وقال: (لولا أنها السنة ما قدمتك)، ولم يخالف عليه أحد. ولأنها صلاة سن لها الاجتماع فكان الإمام أولى بإقامتها كالجمعة والعيدين. ولأنه لما كانت للإمام في الصلاة ولاية في الأحياء كان بأن يكون له ذلك في الموتى أولى. [476] مسألة: الابن أولى بالصلاة من الأب والجد، خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي، لأن المراعى في ذلك التعصيب، بدليل أنّ ذوي الأرحام لا مدخل لهم فيه، وتعصيب الابن أقوى من كل إنسان من العصبة فكان أولى. ولأن ذلك مبني على أصلنا في أن الابن أولى بإنكاح أمه من الأب والجد. [477] مسألة: والأخ وابن الأخ أولى من الجد. خلافاً لأبي حنيفة. والشافعي. لأنهما أقوى تعصيبا منه؛ لأنهما يدليان ببنوة الأب، والجد يدلي بأبوة الأب، وتعصيب البنوة أقوى. [478] مسألة: ولا حق للزوج في الصلاة على الميتة، خلافاً، لما يحكى عن الحسن لأنه ليس بعصبة كالأجنبي، ويفارق الغسل لأن فيه اطلاعاً على البدن ومباشرة للعورة، والصلاة مستحقة بالولاية.

[479] مسألة: يجوز الجلوس قبل وضع الجنازة، خلافاً لأبي حنيفة لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يجلس حتى توضع في اللحد، فقال بعض اليهود: إنا هكذا نصنع، فجلس، وقال: اجلسوا وخالفوهم. [480] مسألة: ليس في الصلاة على الميت قراءة. خلافاً للشافعي في قوله: لابد من القراءة بالفاتحة. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)، ولم يأمر بالقراءة. ولأنها صلاة لا ركوع فيها، فلم يكن فيها قراءة، أصله سجود التلاوة، والطواف، ولأن من حق القراءة ألا تجب إلا مكررة في الصلوات الواجبة، فلما لم تتكرر في الجنازة دل على أنها ليست بواجبة فيها، ولأن القيام ركن من أركان الصلاة فإذا وجب منفرداً لم يجب له قراءة كسجود التلاوة، ولأنها قراءة فأشبه ما عدا الفاتحة. [481] مسألة: التكبير على الميت أربع، خلافاً لمن قال خمس، لأن المتواتر من الأخبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر على الجنائز أربعاً على النجاشي، وعلى قبر المسكينة، وغيرهما، وقال: ابن عباس

وابن أبي أوفى آخر ما كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعاً،. ولأن التكبير في الجنائز جعل بإزاء عدد الركعات، فلما كان أكثر ذلك أربعاً، فكذلك التكبيرات. [482] مسألة: من فاته بعض التكبير ففيه روايتان: إحداهما: ينتظر الإمام. والأخرى: يحرم ولا ينتظر. فوجه الأولى قوله عليه السلام: (وما فاتكم فاقضوا)، والقضاء إنما يكون بعد فراغ الإمام؛ لأن تكبيره قد أقيم مقام ركعة، فلما لم يجز للمأموم أن يتشاغل بقضاء الفوائت قبل دخوله في صلاة الإمام، كذلك في مسألتنا. ووجه الأخرى قوله: (فما أدركتم فصلوا)، وهذا قد أدرك فوجب أن يصلي، ولا طريق إلى ذلك إلا بأن يدخل معه في الصلاة. ولأنه لحق مع الإمام أثناء الصلاة فوجب أن يدخل معه فيها، كسائر الصلوات. [483] مسألة: إذا سبقه الإمام بالتكبير فإنه إذا سلم الإمام قضى ما فاته. خلافاً لما يحكى عن الأوزاعي أنه لا يقضيه. لقوله: (وما فاتكم فاقضوا).ولأن هذه التكبيرات بمنزلة الركعات التي هي أركان الصلاة، وثبت أن من فاته ركن مع الإمام قضاه فكذلك هاهنا. [484] مسألة: الاستحباب أن يقف الإمام من الرجل عند وسطه،

ومن المرأة عند منكبيها. وقال أبو حنيفة: يقف منها عند الصدر. وقال الشافعي: يقف من الرجل عند رأسه، ومن المرأة عند عجيزتها، فدليلنا ما روي عن ابن مسعود على الصفة التي ذكرناها ولأن ليس بعض جسده بأن يحاذيه، الإمام بأولى من بعض فكان الوسط أولى. فأما المرأة فوقوفه عند أعلاها أمثل وأسلم له لأن السنة سترها ما أمكن. [485] مسألة: إذا اجتمعت جنائز رجالا ونساء وصبيانا، جعل الرجال مما يلي الإمام ثم الصبيان ثم النساء. خلافا لما يحكى عن الحسن من عكسه، وهو أن النساء يلين الإمام ثم الصبيان ثم الرجال لأن ما قلناه إجماع الصحابة، وروي عن عمر، وعثمان وعلي، والحسن، والحسين وابن عمر، وابن عباس، وأبي قتادة وأبي هريرة،

رضي الله عنهم وقالوا: هي السنة ولا مخالف لهم،. ولأن كون النساء أبعد عن الرجال استر لهن، وهذا أمر معتبر في النساء. ولأن الحال التي يلي الأمام أشرف وأفضل، فكان الرجال أولى بها ولأن في الصلاة يكون الرجال مما يلي الإمام فكذلك في الصلاة عليهم مع النساء. [486] مسألة: إذا صلى ولي الميت على ميته سقط الفرض، ولا يعاد ثانية لا على الجنازة، ولا على القبر، خلافاً للشافعي؛ لأن الفرض قد سقط بالصلاة الأولى، فلو كان جائزاً أن تعاد عليه ثانية لكانت نفلاً، والنفل على الميت لا يجوز؛ لأنه لو جاز لكان أولى من يفعل ذلك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن في الصلاة على قبره من الفضيلة ما ليس في الصلاة على قبر غيره، واعتباراً بمن صلى عليه مرة أنه لا يعيدها ثانية؛ لأن ما يأتي به بعد المرة الأولى إنما هو تنفل على الميت، واعتباراً بإعادتها بعد البلى وانقضاء عمره. ولأن الفرض في حقه قد سقط فلم يعد، اعتباراً بالغسل. [487] مسألة: لا تصح الصلاة على الجنازة إلا بطهارة، خلافاً للشافعي، لظاهر الأخبار. ولأنها عبادة يدخل فيها بتكبير ويخرج منها بالتسليم، فكان من شرطها الطهارة، كسائر الصلوات. ولأنها مساوية لسائر الصلوات في وجوب النية والستر واستقبال القبلة فكذلك في الطهارة. [488] مسألة: يكره الصلاة على الجنازة في المسجد، خلافاً للشافعي، لقوله عليه السلام: (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له). وأقل ما في ذلك المنع. ولأنه يخاف أن يحدث من الميت حدث

فيؤدي إلى تنجيس المسجد وتدنيسه، وقد قال عليه السلام: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم) الحديث. [489] مسألة: لا يكره الدفن ليلاً خلافاً، لمن كرهه، لحديث المسكينة وقد دفنت ليلاً فبلغه ولم ينكره، ولأن جماعة من الصحابة قد دفنوا ليلاً واعتباراً بالنهار. [490] مسألة: يصنع بولد الزنا ما يصنع بولد الرشيدة خلافاً لما روى عن قتادة أنه لا يصلى عليه؛ لأنه قول ابن عمر ولا مخالف له

ولأنه مسلم مات في غير معترك كولد الرشدة، ولأن الموالاة ثابتة بيننا وبينه. [491] مسألة: يصلى على قاتل نفسه. خلافاً لما يحكى عن الأوزاعي، لقوله عليه السلام: (صلوا على من قال لا إله إلا الله). ولأنه ميت من أهل الإسلام مات في غير معترك، كمن مات حتف أنفه، ولأن أحدا لا تتأتى له محض الطاعات ولا يخلص من المعاصي، فلو منعنا الصلاة على مرتكب كبيرة أو مقترف معصية لأدى ذلك إلى أن لا يصلى على أكثر الناس من المسلمين ولأن الصلاة على الميت إنما هي دعاء وطلب الرحمة والمغفرة وأحوج أهل الملة إلى الدعاء والاستغفار هذا الميت. [492] مسألة: يصلى على المرجومة في الزنا خلافاً: لبعض التابعين. لقوله عليه السلام: (صلوا على من قال لا إله إلا الله). واعتباراً بسائر أموات المسلمين. ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على ماعز ولم ينه عن، ذلك ولأنه ليس في رجمها أكثر من أنها أصابت ذنبا تلفت بعقوبته، وذلك لا يمنع الصلاة عليها كمن قتل في القصاص. [493] مسألة: من قتله الإمام في حد لم يصل عليه الإمام خاصة خلافاً للشافعي. لما روى أبوبرزة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على ماعز ولم ينه عن الصلاة عليه. ولأن ذلك من فعل الأئمة، بعده ولم يحدوا أحداً

فيصلون عليه بأنفسهم. ولأن في امتناع الإمام من الصلاة ضرباً من إلحاق النقص بهم؛ لأن صلاة الإمام وأهل الفضل شرف لهم ورغبة في دعائه واستغفاره، فكان في منع ذلك ردع لأمثالهم ليقلعوا عما هم عليه، وبالله التوفيق. تم كتاب الصلاة والحمد لله رب العالمين.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة [زكاة الأنعام] [494] مسألة: في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض، ولا خلاف فيه، إلا شاذاً، عن علي - رضي الله عنه -، أن فيها خمس شياه، ودليلنا ما روى عمرو بن حزم، وابن عمر، وأنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (في خمس

وعشرين بنت مخاض). ولأنه ليس في أصول صدقة الماشية اتصال فرضين من غير وقص يتخللهما، فإثبات ذلك خلاف الأصول. [495] مسألة: يجوز أخذ ابن لبون في خمس وعشرين مع (عدم) وجود بنت مخاض في المال. خلافاً لأبي حنيفة، وإجازته ذلك بناء على أصله في جواز إخراج القيمة من الزكاة. والكلام في هذا يأتي، ولكن تختص هذه المسألة بأدلة تخصها، وذلك ما روي في حديث عمرو بن حزم (فإذا زادت واحدة على أربع وعشرين ففيها بنت مخاض، فإن لم توجد بنت مخاض فابن لبون ذكر). وكذلك في حديث أنس، وابن شهاب الذي انتسخه عمر بن عبد العزيز وفي هذه الأخبار دليلان: أحدهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - أوجب في خمس وعشرين بنت مخاض، وهي واجبة سواء أخرج ابن لبون أولا. والآخر: أنه شرط في إخراج ابن لبون عدم بنت مخاض في المال، فقال (فإن لم توجد فابن لبون) وهذا لفظ الشرط بلا خلاف، فيجب إذا أخرجه مع وجودها لا يجزيه؛ لعدم الشرط الذي جوز إخراجه معه. ولأن كل حق تعلق بمال لم يجز غيره مع وجوده، أصله الكفارات.

[496] مسألة: إذا لم يكن عنده بنت مخاض ولا ابن لبون أخذ الساعي بنت مخاض، خلافا للشافعي في قوله يأخذ بأيهما شاء. لما روي في الحديث (فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون)، ومعناه إذا كان فيها، فدل أنه إذا لم يكن فيها لم يخير، ولأنه لما وجب إذا كانا موجودين في المال أخذ بنت مخاض، فكذلك إذا عدمهما؛ لأنها حال تساويا فيها. [497] مسألة: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة أخذ منها على حساب كل خمسين حقة، وكل أربعين بنت لبون، ولم تعد فريضة الغنم على وجه. خلافاً لأبي حنيفة أن الغنم تؤخذ فيما دون خمس وعشرين، لما روي في حديث عمرو بن حزم، وأنس (فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون). وفي حديث ابن عمر (إلى عشرين ومائه، فإن كان الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون). ولأنه لا يخلو أن يكون أراد في كل أربعين وكل خمسين تزيد على المائة وعشرين دون المائة وعشرين، وهذا يوجب أن يكون في مائة وستين حقتان وبنت لبون، وفي مائة وسبعين ثلاث حقاق، وذلك خلاف الإجماع، أو يكون أراد في الجميع في الزيادة وفي المزيد عليه على معنى أن في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، فهذا ما نقوله. ولأن أبا حنيفة يقول في مائة وثلاثين حقتان وشاتان، والأخبار التي رويناها توجب أن يكون فيها حقة وبنتا لبون، وروى أبو داود قال: حدثنا محمد بن العلاء قال أخبرنا ابن المبارك عن

يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: (هذه نسخة كتاب رسول - صلى الله عليه وسلم - الذي كتبه في الصدقة، وهي عند آل عمر بن الخطاب أقرأنيها سالم بن عبدالله ابن عمر، فوعيتها على وجهها، وهي التي نسخها عمر بن عبدالعزيز من عبدالله بن عمر وسالم بن عبدالله فذكر الحديث وقال: (فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون، حتى تبلغ تسعاً وعشرين ومائة، فإذا كانت ثلاثين ومائة، ففيها بنتا لبون وحقة، حتى تبلغ تسعاً وثلاثين ومائة). وهذا نص في موضع الخلاف؛ ولأن ما قبل المائة والعشرين من النصاب أقرب إلى نصاب الغنم مما زاد على المائة والعشرين، فلما لم تُعدّ الشاة هناك كانت بأن لا تعد فيما بعده أولى، ولأن الأصول في الزكاة موضوعة على أخذ الجنس من الجنس وأنه لا يؤخذ من غيره إلا من ضرورة، فقضاؤنا بأخذ الغنم في أوائل صدقة الإبل إنما هو للضرورة، وهو قلّة المال عن المواساة بواحد من الخمس أو العشر، فلما كثرت الإبل، واحتملت أن يؤخذ منها زالت الضرورة بالزيادة، ثم لم يعد فيها بعد المائة وعشرين، فلم يعد أخذ غير الجنس لزوال المعنى الموجب له، ولأن المأخوذ من جنس الشيء آكد حكما من المأخوذ من غير جنسه؛ لأن الأخذ من الجنس هو الأصل ومن غيره ليس بأصل، وإنما هو لمعنى يعرض من ضرورة أو غيرها، فإذا ثبت ذلك ثم وجدنا الجذعة لا تعد مع المائة وعشرين، وهي من جنس الإبل، كانت الغنم التي ليست من الجنس بأن لا تعد أولى، ونقيس بنت مخاض على الجذعة فنقول: إنها سن من الإبل لا يتكرر قبل المائة فلم يتكرر بعدها كالجذعة. [498] مسألة: اختلف قول مالك في الزيادة على العشرين ومائة التي يتغير بها الفرض، فعنه في ذلك روايتان: إحداهما: أن الفرض يتغير بزيادة

الواحدة والأخرى: أنه لا يتغير إلا بزيادة عشرة، فوجه الأولى ما روي في حديث عمرو بن حزم، وأنس (أن في إحدى وتسعين حقتين إلى عشرين ومائة، فما زاد على ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون) فعم، وفي حديث ابن شهاب الذي ذكرناه (فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون)؛ ولأنه وقص حُدّ في الشرع بحد في جنس يتغير الفرض فيه بالزيادة في السن والعدد، فوجب أن يتغير فرضه بزيادة الواحدة كسائر الأوقاص؛ ولأن الوقص لا يلي وقصاً، فلو كنا اعتبرنا وقصاً بعد وقص، وهذا خلاف ما بنيت عليه أصول زكاة الإبل، ووجه الأخرى: ما روى في حديث ابن عمر (فإذا كثرت الإبل، ففي كل خمسين حقة) والكثرة لا تكون بواحدة على مائة وعشرين، وفي حديث عمر بن عبد العزيز المنسوخ له من كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكتاب عمر في الصدقات: (فإذا بلغت الإبل عشرين ومائة فليس فيما دون العشرة شيء)

وهذا نص، ولأن الأصول في الزكاة موضوعة على أن كل زيادة غيرت فرضاً كانت داخلة فيه، وذلك ممنوع فيما دون العشرة. [499] مسألة: إذا قلنا على رواية تغييرالفرض بواحدة أن الفرض يتغير بها، فإنما يتغير إلى تخيير الساعي بين حقتين وبين ثلاث بنات لبون. وقال ابن القاسم يتغير من الحقاق إلى انحتام بنات لبون ووجه الأول قوله - صلى الله عليه وسلم - في سائر الأخبار: (فما زاد على ذلك ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون) فالأمران متمكنان، ولم يقم دليل على الانحتام فلم يبق إلا التخيير، واعتباراً بالمائتين من الإبل، ووجه قول ابن القاسم حديث ابن شهاب وهو نص. [500] مسألة: إذا زادت على المائة والعشرين بعض بعير لم يتغير الفرض. خلافاً لبعض الشافعية لقوله عليه السلام: (فإذا كثرت الإبل) وفي حديث ابن شهاب (فإذا كانت إحدى وعشرون ومائة ففيها ثلاث بنات لبون)، ولأنها زيادة كسر في ماشية فلم يتغير بها فرض، كالبقر والغنم واعتباراً بسائر الأوقاص. [501] مسألة: ما زاد على الأربعين من البقر لا شيء فيه إلى ستين، فيكون فيها تبيعان، واختلف عن أبي حنيفة، فقيل عنه: ما زاد على الأربعين فبحسابه فيكون على هذا في إحدى وأربعين مسنة وربع عشر مسنة، وقيل عنه: لا شيء فيه إلى الخمسين، فتكون فيه مسنة وربع مسنة، ودليلنا ما روي (لا شيء في الأوقاص)؛ ولأنها زيادة على نصاب

في ماشية تجب في عينها الزكاة، فلم يتغير الفرض بها ككل كسر اعتباراً بالإبل والغنم؛ ولأنها زيادة على نصاب في صدقة البقر، فلم ينتقل منه إلى كسر كالعشرة الزائدة على الثلاثين؛ ولأن أصول الزكوات مبنية على أنه يؤخذ عن كل شيء من جنسه، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في خمس من الإبل غير جنسها؛ لأنها لا يحتمل أن يؤخذ منها واحدة، فلو كان للأجزاء والكسور مدخل في زكاة الماشية لأوجبته، ولم يعدل إلى غير الجنس؛ ولأن في ذلك ضررا على الفريقين فأدى إلى مخالفة الأصول، والشركة إن بقيت أضر برب المال والفقراء، وإن باع الساعي بقية تلك البهيمة أدى إلى إخراج القيمة في الزكاة وأن يشتري الرجل صدقته وذلك أيضا ممنوع؛ ولأن مخالفنا أولى الناس بالامتناع من إيجاب الكسر؛ لأنه منع من ذلك مالا ضرر فيه، وهو ما زاد على المائتي درهم وعشرين ديناراً، ففي الموضع الذي يدخل الضرر على الفريقين أولى بالمنع. [502] مسألة: اختلف أصحابنا في التسع من الإبل هل الشاة مأخوذة عن جميعها أو عن الخمس، والأربعة عفو، فخرجوها على روايتين فوجه القول إنها مأخوذة عن الجميع قوله - صلى الله عليه وسلم -: (في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم)، فعلق الوجوب بالنصاب والوقص، ولأن كل جملة لا تجب فيها أكثر من فريضة، فإذا تعلق جواز الأخذ بها وجب أن يتعلق الوجوب بها، أصله الأربعون من الغنم، ولأنها زيادة من جنس مال أجري عليه حكم الزكاة، فوجب أن يتعلق وجوب الأخذ بها، أصله إذا كانت له أربع من الإبل فزادت واحدة، ووجه القول بأن الزيادة عفو، وهو الظاهر من المذهب، ما روي (لا

شيء في الأوقاص) وفي حديث ابن عمر في زكاة الغنم: (فإذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه وليس فيها شيء حتى تبلغ المائة) ولأنها وقص قَصُرَ مقداره عن نصاب فلم يتعلق به الوجوب كالأربع من الإبل، ولأن الاعتبار بالنصاب، بدليل أنه إذا نقص منه لم يجب فيه شيء، فإذا زادت عليه زيادة لم تبلغ نصاباً لم يتغير من الفرض، فعلم بذلك أن هذه الزيادة غير مؤثرة، ولأن ذلك يؤدي إلى أن يكون في النصاب أقل من القدر المنصوص عليه، وإلى إيجاب الشاة في البعير الواحد. [503] مسألة: إذا كانت خمس من الإبل فأخرج واحدا منها فلا تجزيه خلافاً للشافعي، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم في كل خمس شاة)، فعين ما يجب فيها فانتفى جواز غيره؛ ولأن كل جنس جاز أخذه في الزكاة عن جنس لم يجز أخذ غيره، أصله إذا كان من جنس المأخوذ منه ولأنه جنس غير المنصوص على أخذه فأشبه البقر والذهب والورق. [504] مسألة: تجب الزكاة في السخال خلافاً لداود، لقوله عمر - رضي الله عنه -: (تعد عليهم السخلة يحملها الراعي على كتفه ولا نأخذها) ولا مخالف له، وقد روى مرفوعاً: (ويعد صغيرها وكبيرها) وفيه ضعف،

ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (في أربعين من الغنم شاة) ولم يفرق، والاسم عام، ولأنه نماء حادث عن مال تجب في جنسه الزكاة كربح المال. [505] مسألة: إذا كانت غنمه سخا لا كلها، أو إبله فصلانا كلها، أو بقرة عجاجيل كلها، لم يجز إخراجها، وكلف أن يخرج السن الوسط وهي الجذعة والثنية خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: يخرج منها، لحديث سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:" نهينا عن رواضع اللبن، وإنما حقنا في الجذعة والثنية"، وقوله في البقر (في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة) فعم، وفي حديث عمر: (تعد عليهم السخلة

يحملها الراعي ولا نأخذها) وفي حديث عمرو بن حزم: (لا تأخذ في الصدقة تيساً ولا هرماً ولا ذات عوار إلا أن يشاء المصدق) ولأن الزكاة موضوعة على العدل بين أرباب الأموال والفقراء، فإذا نظر لأحدهما من وجه نظر للآخر من وجه آخر مثله، وقد ثبت أن الماشية إن كانت كرائم كلها لم يؤخذ منها نظراً لأرباب الأموال، وبإزائه إن تكن كلها هرائم فلا يؤخذ منها نظراً للفقراء [506] مسألة: نسل الحيوان معدود مع أمهاته، وإن كانت الأمهات دون النصاب، خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي، لقوله: (في أربعين من الغنم شاة) ولحديث عمر، ولأنه نتاج حادث عن حيوان تجب في عينه الزكاة، أصله إذا حدث عن نصاب كامل. [507] مسألة: تجب الزكاة في السخال إذا كانت نصاباً وماتت أمهاتها، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن بقي من الأمهات واحدة لم ينقطع حول السخال، وإن مات جميعها انقطع؛ لأنه حَمْلٌ حادث في حول فإذا تلفت بعضها ولم ينقص الباقي عن نصاب لم ينقطع حكم الحول، أصله إذا بقي من الأمهات واحدة، أو إذا ماتت السخال وبقيت الأمهات، ولأن كل فرع إذا حكمنا له بحكم الأصل فبطل الأصل بتلف أو موت لم يبطل حكم الفرع، أصله ولد أم الولد إذا ماتت الأم قبل السيد؛ ولأنه ينتقص بقصورها

عن النصاب؛ لأن التعليل لكون تلف الأصل غير مؤثر. [508] مسألة: إذا وجب عليه سن فأعطى عنه كريمة من جنسه أجزأه، مثل أن يجب عليه بنت مخاض فيعطي حاملاً أو بنت لبون. خلافاً لداود في قوله لا يجزئ، لحديث أبي بن كعب لما بُعِثَ مُصَّدِّقاً فجاء إلى رجل عليه بنت مخاض، فقال: أدها، فقال: ذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ذلك الذي عليك فإن تبرعت بخير آجرك الله فيه، وقبلنا منك) فأمر بقبضها، ودعا بالبركة؛ ولأنه أخرج أفضل مما لزمه من جنسه فأجزأه، أصله إذا وجب عليه مهزولة فدفع سمينة. [509] مسألة: الواجب في زكاة الغنم من غالب غنم رب المال من الجذاع والثنايا، خلافاً لمن قال من غالب أغنام البلدة؛ لأن الزكاة متعلقة بعين المال، فالواجب منها معتبر به، كزكاة الإبل. [510] مسألة: تؤخذ في زكاة الغنم الجذعة والثنية من الضأن والمعز، وقال أبو حنيفة: لا يؤخذ الجذع أصلا ولا يؤخذ إلا الثني منهما جميعا. وقال الشافعي: الجذع من الضأن وحده والثني من المَعِز. فدليلنا على أبي حنيفة قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: (خذ الجذعة والثنية)، ولأن ما بلغ سن الجذع جاز أخذه كما لو جاوزه إلى الثني، ودليلنا على الشافعي: الخبر، وهو عام، ولأن كل شيء جاز أخذه

من الضان جاز أخذه من المعز، كالثني ولأنه جذع من الغنم كالجذع من الضأن، ولأن المعز أحد نوعي الغنم، فجاز أخذ الجذع منه كالضأن. [511] مسألة: إذا وجبت في البقرة مسنة وكانت كلها ذكوراً، لم يؤخذ إلا أنثى خلافاً لأحد قولي الشافعي، لقوله (في كل أربعين مسنة) وهذا اسم مؤنث، ولأنه نصاب وجبت فيه مسنة فلم يجز أخذها إلا أنثى كما لو كانت كلها إناثاً. [512] مسألة: وإذا كانت البقر كلها إناثاً لم يجز أخذ الذكر منها، وكذلك الإبل والغنم، خلافاً لأبي حنيفة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (في كل أربعين مسنة)، وذلك عام، وقد ثبت أن هذا الاسم مؤنث؛ ولأنه لما لم يجز أخذ الصغار عن الكبار لكونها أنقص منها، لم يجز أخذ الذكر عن الإناث لكونها أنقص منها. [513] مسألة: وإذا كانت الغنم ذكوراً وإناثاً، جذاعاً وثناياً، فالظاهر من المذهب أنه تؤخذ من الإناث خلافاً لأبي حنيفة لقوله عليه السلام: (خذ الجذعة والثنية)؛ ولأن الأنثى تراد للدر والنسل، ولو أخذنا الذكور مع وجودها، لكنا قد أخذنا رديء المال مع وجود السن الوسط، وذلك إضرار بالفقراء. [514] مسألة: في مائتي شاة من الغنم وشاة ثلاث شياه ثم لا يتغير الفرض إلى أن تبلغ أربعمائة، فيكون فيها أربع شياه وحكى أهل الخلاف عن الشعبي وغيره، أنها إذا زادت على ثلاثمائة واحدة، ففيها أربع شياه

ودليلنا قوله عليه السلام: (صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة ففيها شاة، وإذا زادت على عشرين ومائة إلى أن تبلغ مائتين، ففيها شاتان، وإذا زادت على مائتين إلى أن تبلغ ثلاثمائة، ففيها ثلاث شياة، فإن زادت على ذلك ففي كل مائة شاة شاه) وروي: (فإن زادت على ثلاثمائة فليس فيها شيء حتى تبلغ أربعمائة). [515] مسألة: تجب الزكاة على العوامل خلافاً لأبي حنيفة والشافعي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (في كل خمس ذود شاة)، وقوله: (في كل أربعين مسنة)، واعتبارا بالسوائم بعلة الجنس؛ ولأن النماء فيها يوجد من الدر والنسل كالسائمة. [516] مسألة: إذا استفاد ماشية بشراء أو ميراث أو غير ذلك، وعنده نصاب من جنسها ضمها إلى ما عنده، وزكى الفائدة لحول النصاب الذي عنده، خلافاً للشافعي؛ لأنها فائدة من حيوان تجب في عينه الزكاة فجائز أن يضم إلى ما تقدم من ملكه من جنسها، أصله النتاج، ولأنها زيادة في نوع من الحيوان يثبت بها حكم الملك الواحد، فجاز أن يتنوع حكمها إلى تخفيف وتثقيل، أصله الخلطة، ولأن في ذلك لطفا لأرباب الأموال والفقراء؛ لأنه إذا كان عنده أقل من نصاب لم يضم الفائدة إليه، فكان ذلك رفقا

تلف الزكاة قبل وصولها إلى الإمام

لأرباب الأموال، فوجب أن ينظر الفقراء بإزائه، فيضمها إليه إذا كان نصاباً؛ لأن الساعي لا يجيء في الحول إلا مرة، فلو لم يزكها مع الأصل لبقيت نحو الحولين غير مزكاة وفي ذلك إضرار بالفقراء فكان النظر ما قلناه. [تلف الزكاة قبل وصولها إلى الإمام] [517] مسألة: الزكاة تتعلق بالعين لا بالذمة، وإمكان الأداء إلى الإمام من شرط الوجوب في المواشي والثمار، فإن حال الحول ولم يمكن إيصالها إلى الإمام ثم تلفت أو أتلفها هو من غير قصد للفرار بالزكاة لم يضمن، ووافقنا أبو حنيفة في ذلك كله، إلا أنه قال: إن أتلفها هو ضمن، واختلف قول الشافعي في ذلك، فقال: إن مجيء الساعي من شرط الوجوب، وقال: من شرط الضمان واختلف قوله في تعلقها بالعين أو بالذمة، ودليلنا على أنها متعلقة بالعين، قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم}، وقوله: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}، وقوله: (في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم في كل خمس شاة) وذلك يوجب تعلقها بأعيان الأموال، ولأن الساعي يطلب بالزكاة من العين إلا أن يرضى بغيرها، وكذلك كان سعاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعدون على الناس مواشيهم، ويأخذون الزكاة منها، فلو كانت الزكاة في الذمة لم تتعلق المطالبة بأعيان الأموال كالديون، ولأنه حق طرأ على الأموال فلم يجز نقله إلى الذمة

ابتداء، كجناية العبد المتعلقة برقبته. ودليلنا على أن مجيء الساعي شرط في صحة الوجوب، قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم}، وقوله عليه السلام: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائهم، فأردها على فقرائهم)، ولأن أبابكر قاتل أهل الردة في منعهم أداء الزكاة إليه، ولم ينكر أحد ذلك، ولأن رب المال لو أخرجها بنفسه لم يجز، ولزمه إعادتها للساعي، فعلم أنه من شرطها كالحول. ولأنه معنى لو تلف المال قبل أن يضمنه لم يتعلق الوجوب به كالحول، ودليلنا على أنه لو أتلفها هو لا بقصد الفرار أنه لا يضمن، أنه أتلفها قبل مجيء شرط وجوبها فلا يضمن أصله قبل الحول. [518] مسألة: رب الأموال الباطنة، الذهب والورق وما إليه زكاته، إذا أخر إخراج الزكاة عن وقت وجوبها وإمكان إيصالها إلى الفقراء ضمن، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنها زكاة واجبة كملت بشرائط وجوبها، فإذا أخرها بعد القدرة على إخراجها ضمن، أصله إذا طالبه الإمام بزكاة الأموال الظاهرة فمنع. [519] مسألة: إذا ميز الزكاة عن ملكه، وأخرها عن أن يسلمها إلى الفقراء، فتلفت من غير تفريط لم يضمن. خلافاً للشافعي؛ لأن يده عليها يدُ أمانة، فإذا تلفت من غير تفريط لم يضمن كالساعي.

زكاة الدين

[زكاة الدين] [520] مسألة: الديون في حق غير المدير لا تجب فيها الزكاة، كالمهر وثمن سلع القُنْيَة والتجارة، فكل هذا لا زكاة فيه، ما دام دينا. خلافاً للشافعي؛ لأن الزكاة على المال لا تجب في غيره، والدليل عليه قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}، يريد فيها، فدل أنه لا يجب في مال عن غيره، وما دام في الذمة فليس بمال؛ ولأنه دين غير مدير، كمن ورث دينا على معسر، وقياساً على الدية ومال الكتابة؛ ولأن المهر بمنزلة مال الكتابة؛ لأنه قد يجوز أن يعجز العبد قيسقط ملك السيد عنها، ويجوز أن يؤدي فيستقر ملكه عليها، فكذلك يجوز أن ترتد، وتختار نفسها، ويبيعها السيد من زوجها، كل ذلك إذا وقع قبل الدخول سقط عن الزوج، ويجوز أن يقع بعد الدخول فيستقر ملك المرأة عليه؛ ولأنا قد اتفقنا على أنه لو أسلم في نصاب إبل لم تلزمه زكاة فيها، فكذلك في سائر الديون. [زكاة المال الضائع والمغصوب] [521] مسألة: إذا كان له مال فضاع أو غصب ثم عاد إليه بعد سنين زكاه لسنة واحدة، وكذلك ما يقتضيه من دينه الذي أصله عين، وللشافعي قولان: أحدهما: أنه يزكيه إذا قبضه لجميع السنين. والآخر لا زكاة فيه أصلا. ودليلنا على سقوط الزكاة فيما مضى ما قدمناه في الدين، ودليلنا على أن عليه زكاة سنة واحدة، أنه حصل في يده في طرفي الحول عين نصاب، فوجب عليه الزكاة، ولا يراعى تضاعيف الحول بدليل أنه لو كان معه في أول الحول نصاب فاشترى به سلعة ثم باعها في أخر الحول بنصاب لزمته الزكاة، لكونها عينا طرفي الحول من غير مراعاة لوسطه.

حكم من يكتم الساعي بعض ماله

[حكم من يكتم الساعي بعض ماله] [522] مسألة: إذا غل شيئا من زكاته بأن يكتم على الساعي بعض ماله، أخذ منه تمام الزكاة، ولم يؤخذ منه زائدا عليها، خلافاً لمن قال: يؤخذ منه شيء آخر من ماله، لقوله عليه السلام: (ليس في المال حق سوى الزكاة)؛ ولأنه لو دفعها إلى الساعي والمساكين وتميزت عن ملكه، واستقر ملك الفقراء عليها، ثم سرقها منهم، أو اختلسها، ثم لم يستحق أخذ شيء من ماله، فبأن لا يجب عليه بالغلول قبل حصولها في ملكهم أولى؛ ولأنه لو أظهره طوعاً لم يؤخذ منه زيادة على الزكاة فكذلك إذا ظهر عليه بعلة أنه غال لصدقته. [الظباء إذا ضربت في الغنم] [523] مسألة: إذا ضربت فحول الضبا في إناث الغنم فتوالدت، قال من أدركنا من شيوخنا: يجب في السخال الزكاة، خلافاً للشافعي في قوله: إنَّ التوالد من جنسين لا يجب في أحدهما الزكاة، فمنع أن يجب في الأولاد الزكاة؛ لأن حكم الزكاة إذا جرت في الأمهات كان الولد تابعاً لها فيها، اعتباراً أنه إذا ضربها فحول جنسها؛ ولأنها سخال متولدة عن إناث تجب في جنسها الزكاة فكانت كأمهاتها، أصله ما قلناه. [التنقيص من النصاب فرارًا من الزكاة] [524] مسألة: إذا نقص من النصاب قبل الحول قاصدا الفرار من الصدقة، وخالط غيره أو فارقه بعد الخلطة، فإن ذلك لا يسقط عنه الزكاة التي تجب عليه قبل ذلك. خلافاً للشافعي، لقوله عليه السلام: (لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة)، والنهي يقتضي فساد

تقديم إخراج الزكاة قبل الحول

المنهي عنه، وأن لا يكون في ذلك حكم؛ ولأن في ذلك ذريعة إلى سقوط الزكاة؛ لأنه لا يشاء أحد أن يسقط عنه الزكاة إلا فعل ذلك فوجب حسم الباب بإسقاط ما ينكر فعله، وقد نبه الله سبحانه على مثل ذلك بقوله: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين}، وذلك بأنهم قصدوا بقطع الثمار إسقاط حق المساكين، فعاقبهم الله بإتلاف ثمارهم؛ ولأنه لا يخلو أن يكون فعل ما له فعله فيجب أن لا يلحقه إثم؛ لأنه لا يجب عليه شيء فتركه، أو فعل ما هو محرم عليه فعله، فقد ثبت أن ذلك جائز، فيجب فعله بعد حصول الوجوب، أو فعل ما يكره له فعله من غير تحريم، فلا يصح؛ لأن الإثم لا يلحق بالكراهة، ولأن من قتل مورثه عمداً لم يرثه، فكذلك من تعمد إسقاط الواجب عنه، إذ لا فرق في ذلك بين ما يفعله لأخذ ما لم يجب، أو لإسقاط ما يجب. [525] مسألة: إذا أبدل غنماً بغنم أو إبلاً بإبل أو بقراً ببقر أو دراهم بدراهم أو دنانير. بدنانير بنى على حول الأولى، فإن أبدل جنسا من الماشية بخلافه ففيه روايتان، وخالفنا أبو حنيفة في الماشية، ووافقنا في العين، وخالفنا الشافعي في الجميع. فدليلنا على الشافعي أن من أصلنا الحكم بالذرائع، والتهمة تقوى في هذا الموضع، أن يكون قصد للفرار من الصدقة؛ لأن الجنس واحد، والفرض واحد، فلا يبقى ما يحمل عليه سوى ذلك، ودليلنا على أبي حنيفة، اعتباراً بالدراهم والدنانير بعلة أنه تجب في عينه الزكاة أبدله بمثله من نوعه. [تقديم إخراج الزكاة قبل الحول] [526] مسألة: لا يجوز تقديم الزكاة قبل الحول خلافاً لأبي حنيفة،

حكم الزكاة في أموال المكاتب واليتامى

والشافعي، لقوله عليه السلام: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)، ولأنها عبادة مختصة مؤقتة فلم يجز تقديمها قبل وقت وجوبها كالصلاة والصوم، ولأنها أحد الأركان الخمسة فلم يكن تقديمها قبل وقت وجوبها مسقطاً لها وقت الوجوب كالصلاة والصوم، واعتباراً بزكاة الثمار والزرع بعلة أن الماشية والزرع والعين نوع مال تجب الزكاة في عينه، واعتباراً به إذا قدمها لأحوال عدة، وفي هذا خلاف بينهم؛ فلم يجز إخراجه قبل حلول وقته كالأضحية؛ ولأنه شرط في وجوب الزكاة فلم يجز تقديمها عليه كالنصاب، ولأن الزكاة تتعلق بمستحق ومستحق عليه، ثم قد ثبت أنه لا يجوز صرفها إلى من يستحقها قبل وجود صفة الاستحقاق فيه، فكذلك في رب المال، والعلة أنه أحد طرفي محل الوجوب؛ ولأن تعجيل الزكاة يؤدي إلى إسقاطها؛ لأن الحول يحول عليه وماله ناقص عن النصاب، ولا يلزمه شيء، ولأن ذلك يؤدي إلى إخراجها ثانية، وهو إذا استغنى المدفوع إليه بغيرها وقت الحول، لأن من قولهم إنها لا تجزئ، ولا يخلو رب المال من أن يلزمه إخراجها ثانية، وفي ذلك إضرار به، أو لا يلزمه ففيه إتلافها على الفقراء، وتحريره قياساً، فنقول: لأنه تقديم الزكاة فلم يصح، أصله إذا استغنى المدفوع إليه قبل الحول. [حكم الزكاة في أموال المكاتب واليتامى] [527] مسألة: لا زكاة في مال المكاتب. خلافاً لأبي ثور؛ لأن ملكه

الزكاة في الخيل

ناقص لبقاء الرق عليه فأشبه العبد. [528] مسألة: تجب الزكاة في أموال الأيتام والأصاغر والمجانين. خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}، وقوله عليه السلام: (في الرقة ربع العشر) وسائر الأخبار، وقوله: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها على فقرائكم)، وروى المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة) وقيل: صحيحه من قول عمر وعائشة، ولأنه حر مسلم فجاز وجوب الزكاة في عين ماله وماشيته كالبالغ؛ ولأن كل من تؤدى عنه الفطرة جاز أن تجب الزكاة في ماله، ولأن كل من وجب العشر في زرعه، وجبت الزكاة في ماشيته وناضه كالبالغ؛ ولأنه حق الله في مال الصغير كزكاة الفطر. [الزكاة في الخيل] [529] مسألة: لا زكاة في الخيل. خلافاً لأبي حنيفة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:

افتقار الزكاة إلى النية

(عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق) وقوله: (ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا أن زكاة الفطر في الرقيق) وقوله: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) وفي كتاب أبي عبيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس في الجبهة ولا الكسعة ولا النخّة صدقة) والجبهة الخيل والكسعة الحمير، والنخَّة الرقيق؛ ولأنه حيوان يقتنى للزينة والركوب كالحمير؛ ولأنه حيوان لا يجزى جنسه في الضحايا والهدايا كالدجاج؛ ولأنه جنس لا تجب الزكاة في ذكوره، فلم تجب في إناثه كالرقيق والبغال؛ ولأنه حيوان يسهم له كذكوره. [افتقار الزكاة إلى النية] [530] مسألة: إخراج الزكاة يفتقر إلى نية. خلافاً لما يحكى عن

الامتناع من دفع الزكاة

الأوزاعي، لقوله عليه السلام: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ولأنها عبادة تتنوع فرضاً ونفلاً، فكانت النية من شرطها كالصلاة، ولا يدخل عليه العدة لأنها لا تكون إلا فرضاً، ولأنها أحد الأركان الخمسة كالصوم، والصلاة، والحج، ولأن من شرطها أن تقع قربة، ولابد للقربة من نية التقرب. [الامتناع من دفع الزكاة] [531] مسألة: من امتنع من أداء الزكاة أخذها منه الإمام جبرا. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: يلجئه إلى الأداء ويحبسه ولا يقهره على أخذها، لقوله عليه السلام: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها على فقرائكم)، وقوله لمعاذ: (خذ الحب من الحب والإبل من الإبل)، وقوله: (في كل سائمة إبل) إلى أن قال: (من أعطاها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزيمة من عزمات ربنا)؛ ولأنه حق في عين مال جعل إلى الإمام المطالبة به، فوجب أن يكون له إجبار من هو عليه إن امتنع من الأداء كالغصب والسرقة، ولأن ما جاز للإمام أخذه بالطلب والتضييق جاز أخذه قهراً كحقوق الآدميين؛ ولأنه حق من طريق المال المحض في أدائه النيابة مع العجز والقدرة، فوجب أن يؤخذ جبرا عند الامتناع من الأداء كالديون. [532] مسألة: وتقوم نية الإمام مقام نية المأخوذ منه في الإجزاء

إخراج القيمة في الزكاة

خلافاً لمن منعه؛ لأن النيابة تصح فيها، وللإمام ولاية عليه، فجاز أن تقوم نيته مقام نية من يلي عليه، أصله الأب في ابنه الصغير والوليّ على المجنون. [إخراج القيمة في الزكاة] [533] مسألة: لا يجوز إخراج القيمة في الزكاة. خلافاً لأبي حنيفة، لقوله عليه السلام: (في أربعين من الغنم شاة، وفي كل خمس ذود شاة)، فلا يجوز العدول عن ذلك إلا بدليل، وقوله عليه السلام لمعاذ: (خذ الحب من الحب والإبل من الإبل والشاة من الغنم)، ففيه دليلان: أحدهما: التعيين، والآخر سياق الكلام على أخذ كل جنس من جنسه، فدل أنه مستحق فانتفى جواز إخراج القيمة، وقوله: (في كل خمس وعشرين بنت مخاض، فإن لم توجد فإبن لبون ذكر)، ففيه أدلة: أحدها: التعيين، والآخر: أنه يجعل عدمها شرطا في اخذ ابن لبون، وعندهم ليس عدمها شرطا، والثالث: تعيّن ما يخرج عند عدمها، وفي تجويز القيمة إسقاط فائدة التعيين، والرابع: تعليله الجواز بإخراج ما يسمى ابن لبون، وعند المخالف أن المراعى أن تكون قيمته مثل قيمة بنت مخاض من غير اعتبار بالاسم؛ ولأنه عليه السلام فرض زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب)، ففيه دليلان: أحدهما: أن التعيين يفيد

إخراج الذهب عن الفضة والفضة عن الذهب

الإنحتام، والثاني: أنه نص على مسميات مختلفات وأقوات متباينة، فلو كان الاعتبار بالقيمة لم يكن لذلك معنى، ولكان يكفي النص على واحد دون غيره؛ ولأن إخراج القيمة تؤدي إلى إسقاط النصوص؛ لأنه نص على أن في خمس من الإبل شاة، وقد يرد في القيمة إلى نصف شاة؛ ولأنه عوض عن الواجب المنصوص في الزكاة على وجه القيمة، فلم يجز كسكنى داره، وخدمة عبده، ولأنه يخرج على وجه الطهارة، فلم يجز فيه القيمة كالرقبة في الكفارة؛ ولأنه إخراج قيمة في الزكاة، فلم يجز كما لو وجب عليه صاع من تمر رديء فأخرج قيمته نصف صاع من تمر جيد، أو شاة عن شاتين؛ ولأنه لا يخلو أن يكون الاعتبار فيما يخرج في الزكاة بالمنصوص عليه فقط، أو بما يقوم مقامه، فلما بطل هذا لما ذكرناه من الصاع، ثبت ما نقوله؛ ولأنه حق لله عز وجل تعلق بنوع من الحيوان فلم يجز إخراج قيمته كالضحايا [إخراج الذهب عن الفضة والفضة عن الذهب] [534] مسألة: يجوز إخراج الذهب عن الورق والورق عن الذهب بدلا لا قيمة. خلافاً لما يحكى عن الشافعي؛ لأن ذلك بدل، وليس بقيمة؛ ولأن أخذ أحد الجنسين يقوم مقام الآخر وينوب منابه في جميع الأغراض المقصودة منه، فكأنه إخراج من عين المخرج عنه فجاز؛ ولأنه أصل في الأثمان والقيم فجاز إخراجه عما يتناوله في هذا المعنى، كإخراج خلافه من نوعه؛ ولأنه يجمع بينهما في الزكاة فلم يكن أحدهما قيمة على الآخر كالنوع من الجنسين.

الخلطة في زكاة الماشية وتأثيرها

[الخلطة في زكاة الماشية وتأثيرها] [535] مسألة: للخلطة تأثير في زكاة المواشي. خلافاً لأبي حنيفة، لقوله عليه السلام: (لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)، وذلك يدل على تأثير الاجتماع والافتراق في تعيين الزكاة، وقوله: (وما كان من الخليطين فإنهما يترادان بالسوية)، فأثبت للخلطة حكما وهو التراجع، وعند المخالف لا يراجع في خلطة الأوصاف؛ ولأنه نوع مال تجب في عينه الزكاة للمؤونة تأثير فيه فوجب أن تختلف الزكاة بكثرتها وقلتها كاختلاف السقي في الزرع. [536] مسألة: وتأثيرها إذا كان لكل واحد من الخليطين نصاب، وقال الشافعي: إذا كان لهما أربعون فاختلطا فعليهما الزكاة، ودليلنا قوله عليه السلام: (ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة). وهذا نفي عام في كل ملك، وقوله في حديث أنس: (إن لم تبلغ سائمة الرجل أربعين فليس فيها شيء)، وفي هذا الحديث في صدقة الإبل: (ومن لم يكن عنده إلا أربع فليس فيها شيء)، ولأن قصور الملك عن النصاب مسقط للزكاة عنه كالمنفرد، ولأن كل من لو انفرد لم يكن من أهل الزكاة، فإذا خالط غيره كان حكمه كحكمه منفرداً، أصله إذا كان له عشر من الغنم فخالط بها عبداً أو ذمياً، ولأن الزكاة لما كانت موضوعة للمواساة، ووضع النصاب ليحتمل المواساة وكان من تملّك دونه لا يؤخذ منه شيء،

زكاة الحرث

استوى في ذلك حكم الانفراد والاجتماع، فكان من يملك جزءاً من شاة أولى بأن لا يؤخذ منه شيء، لكون ماله أقل احتمالاً للمواساة. [537] مسألة: وحول الخليطين واحد، وإن اختلطا قبل الحول بشهر. خلافاً للشافعي؛ لأن كل مالين ضُمَّ أحدهما إلى الآخر وزكيا زكاة واحدة كان حولهما واحداً لكمال المالك الواحد. [538] مسألة: لا تصح الخلطة فيما عدا الماشية. خلافاً للشافعي؛ لأنه عليه السلام ذكر زكاة الأموال وأفرد زكاة المواشي بالخلطة، فقال: (وما كان من خليطين تراجعا بالسوية)، وقال: (لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)، وقال: (الخليطان ما اجتمعا في الحوض والراعي والفحل) فدل، ذلك على اختصاص هذا النوع. [زكاة الحرث] [539] مسألة: النصاب معتبر في زكاة الزروع والثمار وهو خمسة أوسق. خلافاً لأبي حنيفة، لقوله عليه السلام: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وروي (زكاة). ولأنه مال تجب الزكاة في عينه، فوجب أن يعتبر فيه النصاب كالعين والماشية فوجب أن يعتبر في النصاب، أصله ما ذكرناه.

[540] مسألة: يخرص النخل والكرم ليعرف قدر الزكاة منه. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: لا يجوز الخرص، ولا يتعلق به حكم، لما روى عتاب بن أسيد قال أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب، كما يخرص النخل، ثم تؤدى زكاته زبيباً، كما تؤدى زكاة النخل تمراً)؛ ولأن الضرورة تدعو إلى ذلك؛ لأن الزكاة تجب في الثمرة ببدو صلاحها، وأداؤها يتأخر إلى حال التناهي، والعادة أن أرباب الأموال يأكلون ذلك رطباً، فلو تركناهم يتصرفون فيها من غير خرص لأضر ذلك بالفقراء، وإن منعناهم، أكلها والتصرف فيها أضر ذلك بهم فكان الوجه الخرص للضرورة ولأن فيها مراعاة للفريقين. [541] مسألة: يجوز أن يبعث الإمام بواحد للخرص. خلافاً لأحد قولي الشافعي، لما روي أنه عليه السلام (كان يبعث عبدالله بن رواحة للخرص على يهود) وذلك يفيد أنه كان وحده؛ ولأن الخارص كالحاكم؛ لأن الخرص اجتهاد، فيجب أن يجوز فيه الواحد كالحاكم، بخلاف المقوم؛ لأن المقوم ليس بحاكم، وإنما يخبر الحاكم ليحكم بتقويمه، والخارص كالحاكم؛ لأنه يحكم فيما يؤديه إليه اجتهاده دون الإمام. [542] مسألة: إذا تلفت الثمرة بعد الخرص بجائحة فلم يبق منها

قدر النصاب، فلا زكاة على أربابها. خلافاً لأصحاب الشافعي؛ لأن الخرص إنما يراد لمعرفة حق الفقراء لا لتعلق الزكاة بالذمة، ولأن التلف قبل إمكان الأداء فأشبه المواشي. [543] مسألة: يضم الشعير والسلت إلى الحنطة في الزكاة خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله عليه السلام: (فيما سقت السماء العشر)؛ ولأنها كالجنس الواحد؛ لأنهما يتفقان في المنبت، ولا يكاد أحدهما ينفك من الأخر كالعلس مع الحنطة. [544] مسألة: لا زكاة في الفواكه والخضر. خلافاً لأبي حنيفة، لأنه إجماع أهل المدينة نقلا؛ لأن الخضر قد كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأئمة بعده، فلم ينقل أنه طالبهم بزكاة عنها، ولو كان ذلك قد وقع لم يغفل نقله؛ ولأنه من الأمور العامة التي تمس الحاجة إلى علمها، وقد روي: (ليس في الخضروات صدقة)؛ ولأنه نبت لا يقتات مع الادخار كالحشيش؛ ولأنه جنس من المال لا يعتبر النصاب في ابتدائه فلم يجب فيه عشر كالحطب. [545] مسألة: تجب الزكاة في الزيتون. خلافاً للشافعي، لقوله عليه السلام: (فيما سقت السماء العشر)؛ ولأنه حب يقتات زيته غالباً كالسمسم؛ ولأن الزكاة لما وجبت في الحمص واللوبيا وكان الزيتون أعم

نفعا في باب الأقوات، كان بأن تجب فيه الزكاة أولى. [546] مسألة: لا زكاة في العسل. خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنه طعام يخرج من حيوان فأشبه اللبن. [547] مسألة: يؤخذ العشر من أرض الخراج وغيرها. خلافاً لأبي حنيفة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فيما سقت السماء العشر)؛ ولأنهما حقان مختلفان في القدر والسبب الموجب لهما، وفي التصرف الذي يصرفان فيه، فصح اجتماعهما كالجزاء والقيمة في إتلاف الصيد المملوك. [548] مسألة: لا يؤخذ العشر من أرض المكاتب والعبد المأذون. خلافاً لأبي حنيفة إذا كان مأذونا له؛ لأن العشر زكاة، للحديث الذي رويناه في الخرص، والزكاة لا تجب في مال المكاتب والعبد كزكاة الذهب والفضة؛ ولأنه حق مصروف إلى أهل السهمان، فلم يجب على المكاتب كسائر الزكوات. [549] مسألة: إذا استأجر أرضا فزرعها فالزكاة على المستأجر دون صاحب الأرض. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن الزكاة على صاحب الأرض، لقوله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده}، فخاطب أرباب الزرع بأداء الزكاة؛ ولأنه عشر وجب على الزرع لأجله، فكان على صاحب الزرع، أصله لو كانت الأرض عارية؛ ولأنه حق يصرف في الأصناف المسمين في الصدقات، فكان المخاطب به المالك دون غيره كزكاة المال؛ ولأنه حر مسلم خرج له نصاب زرع تجب في جنسه الزكاة، فوجب أن يلزمه العشر فيه كما لو كانت الأرض ملكا له.

زكاة العين

[زكاة العين] [550] مسألة: إذا كان معه عشرون ديناراً تنقص نقصاناً يسيراً تجوز به بجواز التامة ففيها الزكاة. خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأنه نقصان لا يؤثر في جوازها بجواز الوازنة فكانت كالتامة. [551] مسألة: وما زاد على العشرين وعلى المائتين ففيه بحسابه قل أو كثر. خلافاً لأبي حنيفة في قوله لا شيء فيما زاد على العشرين حتى تبلغ أربعة دنانير وفيما زاد على المائتين حتى تبلغ أربعين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (في الرقة ربع العشر)، وقوله: (ليس فيما دون خمسة أواق من الرقة صدقة) مفهومه إيجاب الصدقة فيما زاد عليها، وقوله (وليس عليك حتى يكون لك عشرون دينارا ففيها نصف دينار فما زاد فبحساب ذلك)؛ ولأنها زيادة على نصاب في ذهب أو ورق فوجب إخراج ربع عشرها، كالأربعة دنانير والأربعين درهماً، واعتباراً بالحبوب والثمار، بعلة أنه نوع مال تجب الزكاة في جنسه وعلى متلفه مثله، فلم يكن فيه عفو بعد الإيجاب، ولأنه مال يحتمل التجزئة والتبعيض، أو لأنه مال مستفاد من الأرض، فلم يعتبر فيه تقدير بعد تعلق الحق به أصله ما ذكرناه. [552] مسألة: يجمع بين الذهب والفضة في الزكاة. خلافاً للشافعي؛ لقوله عليه السلام: (في الرقة ربع العشر)؛ ولأنهما يتفقان في المعنى

المقصود بهما، وكل واحد منهما يسد مسد الآخر، وينوب منابه من كونه ثمناً للأشياء، وقيماً للمتلفات، فكان ملك أحدهما كملك الآخر، فجرى مجرى من ملك أنواعاً من الذهب من جيد ورديء وتبر ومضروب، ولأنا قد اتفقنا على أنه إذا كان معه مائة درهم وعرض للتجارة يساوي مائة درهم، أنه يضمه إلى الدراهم ويزكي الجميع، أو يكون كقيمة العرض فيجب ضمه إلى ما معه من الورق ويزكي الجميع، والمعنى فيه قيام الذهب مقام قيمة العرض؛ ولأن الوجوب زكاتهما ربع العشر في كل حال. [553] (فصل): والاعتبار في ذلك يقام المثقال بعشرة دراهم. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن الاعتبار بالقيمة؛ لأنه عليه السلام جعل نصاب الذهب عشرين دنياراً، ونصاب الفضة مائتي درهم، فكان في ذلك تنبيه على أن العشرين بإزاء المائتين، وأن هذا المقدار في جنسه في تعلق الحكم به، فإذا ثبت هذا وجب أن يراعى هذا المعنى في التفصيل أيضا؛ لأن التفصيل مفروض على الجملة، ألا ترى أن القيمة إنما تراد ليعلم أنها مع ضم أحدهما إلى الآخر في معنى النصاب من الجنس الذي يضم إليه، فكان اعتباره بأصله وجملته أولى من اعتباره بما لا يتعلق به، وتقيس حال الضم على الانفراد، فتقول: لأنه تقدير مطلوب لمعرفة وجوب الزكاة، فوجب أن يراعى فيه تقدير الشرع دون القيمة كحال الانفراد، ولأن كل تقدير وجب في جملة، وجب اعتباره في تفصيلها، أصله الدية.

[554] مسألة: المصوغ الذي تجب فيه الزكاة يراعى وزنه دون قيمته. خلافاً للشافعي في قوله: إنه إذا كان مما يجوز اتخاذه وجبت الزكاة في قيمته دون وزنه؛ لأن الصنعة لا تراعى في زكاة الأعيان اعتباراً بالمواشي، ولأنه جنس يتعلق الزكاة بعينه كالذي يجوز اتخاذه. [555] مسألة: الورق المغشوش تجب الزكاة فيما يعلم فيه من الفضة المخلصة نصاباً، كان الغش قليلاً أو كثيراً، إلا أن يكون مما لا حكم له، كما يقول أهل الصنعة: أنه لا يتأتى الضرب إلا به كالدّانق في العشرة وما أشبهه مما لا يؤثر، وقال أبو حنيفة: إذا كان الغش أقل من الفضة سقط حكمه. فدليلنا اعتباره بكون العشر. [556] مسألة: الحلي المباح المتخذ للبس لا زكاة فيه. خلافاً لأبي حنيفة وأحد قولى الشافعي؛ لأن المعتبر في وجوب الزكاة في الأموال هو النماء دون غيره، فالزكاة تابعة له؛ لأنها تجب بوجوده وتسقط بعدمه، يبين ذلك أن الأموال على ضريين: منها ما تجب الزكاة في عينه، ومنها ما لا تجب الزكاة في عينه كالعروض، ثم قد ثبت أن ما لا تجب في عينه الزكاة إذا قصد به الثمن وطلب الفضل وجبت الزكاة فيه، فوجب أن تكون ما في عينه الزكاة إذا عدل به عن طلب النماء أن يؤثر ذلك في سقوط الزكاة عنه، ولا تحتاج أن تقول على وجه مباح؛ لأن التأثير إذا ثبت لم يبق إلا ما نقوله، وهذا يمكن أن يستدل به على أنه من قياس العكس، ويمكن أن يكون استدلالاً مبتدأ هذا هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه في المسألة، وقيل: لأنه ملك مقصود به الاقتناء وترك الثمن على وجه مباح كعروض القيمة، وهذا تأثيره في الفروع دون الأصل، وقيل: كل ما لو كان في ملك الصغير لم يكن فيه زكاة، فكذلك إذا كان في ملك الكبير كالعروض، وهذا

تمام النصاب أثناء الحول

من نوع القياس المركب، وما قدمناه هو المعتمد. -والله أعلم-. [557] مسألة: لا زكاة في حلي الكراء عند مالك، وقال محمد بن مسلمة: فيه الزكاة، ووجه قول مالك: إن عينه محبوسة عن طلب النماء والزيادة في العين كالمعد للبس، ووجه قول محمد: إنه مقصود به وجها من النماء كحلي التجارة. [558] مسألة: أواني الذهب والفضة المحرم استعمالها لا يجوز اتخاذها، وإن لم تستعمل. خلافاً لأحد قولي الشافعي؛ لأن ما لا يجوز استعماله من الأعيان المتخذة للاستعمال لا يجوز اتخاذه كالخمر والطبل والزمر؛ ولأنه إن لم يستعمله فيكون في ذلك معونة على ما لا يجوز، ولأنه إذا أراد بيعه، فلا يخلو أن يكسره، أو يبيعه على ما هو عليه، ففي ذلك معونة على استعماله، وذلك غير جائز، وقياساً عليه لو صاغه صنماً. [تمام النصاب أثناء الحول] [559] مسألة: إذا نقص النصاب عن المال الذي تجب الزكاة في عينه في بعض الحول، ثم نما في آخره لم تجب الزكاة فيه. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن المراعى كماله طرفي الحول دون أثنائه؛ ولأنه مال تجب الزكاة في عينه نقص عن النصاب في بعض الحول، كما لو نقص في أحد الطرفين. [زكاة التجارة] [560] مسألة: العروض إذا أديرت للتجارة وجبت الزكاة في قيمتها على شروط معتبرة فيها، وقال داود: لا زكاة في أموال التجارة. فدليلنا ما روى سمره قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نخرج الصدقة مما يعدُّ للبيع). وفي حديث أبي ذر قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: في الإبل

صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته). لا يقال تصحيف؛ لأنه نقل مضبوطا بالزاي؛ ولأنه مال مرصد للنماء والزيادة، فكان أولى بأن تجب الزكاة فيه كالأعيان الثلاث. [561] مسألة: لا تجب الزكاة في العروض إلا أن يشتريها بنية التجارة، فإن لم ينو ذلك عند الشراء ثم نواه من بعد، أو كان عنده عرض فنوى به التجارة، فلا تجب الزكاة فيه، وحكي عن أحمد بن حنبل وإسحاق، يصير للتجارة بمجرد النية وإن حدثت بعد الشراء. ودليلنا أن النية إذا لم تصادف الشراء فقد نقل الملك إلى مالا تجب الزكاة فيه، ولو أوجبنا الزكاة فيه بنية مستأنفة لكان ذلك إيجاب زكاة بنية مجردة، وذلك غير جائز؛ ولأن أصول الفقه مبنية على أن كل ما كان له أصل فإنه لا ينتقل عن أصله بمجرد النية، كالذهب والفضة إذا نوى أنه يجعلهما حليا للبس. [562] مسألة: إذا ابتاع العرض بنية التجارة، ثم نقله إلى نية القنية، ففيه روايتان: إحداهما: وجوب الزكاة، والأخرى سقوطها عنه، فوجه الوجوب أنها نية قارنت ملك العين، فلم ينتقل حكمها بنقلها إلى غيرها، اعتباراً به لو اشتراه للقنية ثم نقله إلى نية التجارة، ووجه سقوط الزكاة أن الأصل في العرض أنه لا زكاة فيه، وإنما تجب بالنية، فإذا زالت النية عادت إلى أصلها. [563] مسألة: إذا ابتاع العرض بعرض فلا زكاة فيه وإن نوى به التجارة، إلا أن يبتاعه بذهب أو فضة. خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي؛ لأن زكاة القيمة تابعة لزكاة العين، فإذا لم يكن أصل شراء العرض بعين يكون

تعلق الزكاة بقيمته تابعا له لم تجب فيه زكاة، ولأنا نتفق على أنه لو غنمه، أو ورثه، أو وهب له عرض، فنوى به التجارة لم يكن عليه زكاة إذا باعه؛ لأن أصله لم يكن عيناً، فكذلك شراؤه بعرض. [564] مسألة: إذا ابتاع العرض وهو غير مدير يتربص به النفاق والأسواق، لم يلزمه أن يزكيه كل سنة. خلافاً لأبي حنيفة والشافعي، لأن ذلك مبني على وجوب الاعتبار بأن يكون أصل العرض عيناً، فإذا ثبت ذلك قلنا: لأن آخر الحول أحد طرفيه، فوجب أن يكون إيجاب الزكاة فيه معتبراً بكونه عيناً فيه، أصله أوله، ولا يكون عكسه المدير؛ لأنه ليس له حول يتحصل. [565] مسألة: ربح المال حوله حول أصله، خلافاً للشافعي في قوله: يستأنف به الحول؛ لأنه نماء حادث عن أصل تجب في عينه الزكاة، فكان حوله حول أصله كالسخال؛ ولأنا قد اتفقنا على أن الحول لو حال والمال كله عرض قيمته زائدة على رأس المال، فإن الزيادة يعتبر بها حول الأصل، وذلك في المدير عندنا، وعلى أصلنا في كل أمور التجارات، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون كذلك إذا حال الحول على المال بزيادته بعلة حصول النماء من نفس المال في أثناء الحول؛ ولأنه قد ثبت أن الزكاة تجب في مال التجارة لأجل النماء ولا يجوز أن تجب في المال وتسقط عن الربح الذي هو علة وجوبه في الأصل. [566] مسألة: إذا اشترى عرضا بنصاب من الذهب، ثم باعه في آخر الحول بنصاب من الورق، فعليه زكاته بعد الحول، وكذلك لو ابتاع بنصاب من الذهب نصاباً من الورق، فجاء الحول وهو عنده فعليه الزكاة. وقال الشافعي في العرض إذا ابتاعه بفضه ثم باعه بذهب: إنه يقوم الذهب دراهم، ثم يزكيها، وأما إن ابتاع بنصاب ذهب نصاباً من الورق، فحال عليه الحول، فإن كان على غير وجه التجارة فلا زكاة عليه، وإن كان على وجه

التجارة فاختلفوا، فمنهم من يوجب الزكاة بناء على حول الأصل، ومنهم من لا يوجبها. وقال الإسفراييني حكي عن ابن شريح أنه قال: بشر الصيارفة بأن لا زكاة عليهم. فدليلنا على أن الأثمان تنوب بعضها مناب بعض؛ لأن الغرض بها واحد، وهو التعامل بها، وأن تكون أثماناً للأشياء وقيماً للمتلفات، وإذا ثبت ذلك، وجب أن يقوم أحد الجنسين منها مقام الآخر، اعتباراً به إذا نض ثمنه من الجنس الذي ابتاعه به، بعلة نضوضه بجنس من أصول الأثمان، فيجب أن يزكى زكاة عين، واعتباراً به لو ابتاع العرض بدنانير، فأشبه قبض ثمنه آخر الحول مطيعية، أنه يزكيه زكاة عين. [567] مسألة: إذا قوم العروض أخرج عنها دراهم أو دنانير، ولم يجز أن يخرج منها، خلافاً للشافعي، في قوله: إنه يخرج منها؛ لأن الزكاة تجب في القيمة بدليل أن النصاب معتبر، وكل مال وجبت الزكاة فيه، فإذا لم يكن في الإخراج منه ضرر وجب الإخراج منه، كالذهب والفضة؛ ولأن كل ما لو كان معينا وجب الإخراج منه فإذا كان مبهما وجب الإخراج منه، أصله إذا كان معه دراهم أو دنانير فأخرجها. [568] مسألة: الزكاة تجب في قيمة العروض التي تراد للتجارة لا في أعيانها، وقال أبو حنيفة: تجب في عين مال التجارة، كالماشية ولكن يعتبر قيمته، فإذا بلغت نصابا وجب أخذ ربع عشر العرض منه، فدليلنا أن كل ما اعتبر النصاب به وجبت الزكاة فيه كأعيان الذهب والفضة والماشية، ولأن الزكاة تزيد بزيادة القيمة وتنقص بنقصانها، ولا تزيد بزيادة العرض ولا تنقص بنقصانه، فثبت أن الزكاة تتعلق بالعين الذي يختلف باختلافها، دون العرض الذي لا يختلف باختلافه،

ولأن من قولهم أن المبادلة بالماشية يقطع الحول فكذلك يمنع تعلق الزكاة بأعيان العروض؛ لأنه يوجب أن ينقطع الحول فيها بالمبادلة كالماشية على أصلهم. [569] مسألة: إذا ابتاع أصول نخل للتجارة فأثمرت عنده، فإنه يزكي الثمرة زكاة العين، ثم إذا باع النخل بعد حول زكى قيمتها، خلافاً لأحد قولي الشافعي: أن الزكاة إذا وجبت في الثمر لم تجب في قيمة الأصل. لأن زكاة العين تتعلق بالثمرة والزرع، دون أصل النخل والأرض، وصار أصل النخل والأرض كعروض التجارة التي لا يتعلق بها زكاة العين على وجه، فوجب أن تتعلق الزكاة بقيمتها. [570] مسألة: من اشترى شيئا مما في عينه الزكاة، كالماشية للتجارة، فلا تجب فيها إلا زكاة العين فقط، وتسقط زكاة التجارة. خلافاً لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، أنه تجب فيها زكاة التجارة وتسقط زكاة العين؛ لقوله عليه السلام: (في خمس من الإبل شاة) ولم يفرق؛ ولأن زكاة العين ثبتت بالنص والإجماع، وزكاة التجارة ثبتت بالاجتهاد، وفيها خلاف، فإذا لم يكن بد من إيجاب أحدهما أو إسقاط الآخر، كان إيجاب الأقوى منهما أولى؛ ولأنا إذا أوجبنا زكاة العين رجعنا في معرفة النصاب، وقدر الواجب إلى المشاهدة والنص، ومعرفة قدر الزكاة في التجارة ترجع إلى الاجتهاد في التقويم، والرجوع إلى النص أولى كالحكم بالنص والقياس؛ ولأن في إيجاب زكاة العين رجوعا إلى نفس العين، واعتبارا بحكمها بها لا بغيرها، وفي إيجاب الزكاة في التجارة رجوعاً إلى غيرها، وهو القيمة، واعتبار الشيء بنفسه أولى من اعتباره بغيره. [571] مسألة: تجتمع زكاة التجارة والفطر في العبد الواحد. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: تسقط زكاة الفطر؛ لقوله عليه السلام: (عمن تمونون) وقال ابن عمر (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر، على كل

حر وعبد، وذكر وأنثى من المسلمين)، ولم يفرق، ولأن كل من لزمه نفقة شخص من أهل ملته، لزمه زكاة الفطر عنه عند القدرة عليه، أصله إذا كان للقنية، ولأنهما حقان في مال، سبب وجوبهما مختلف ولم يمنع اجتماعهما، أصله إذا قتل صيدا مملوكا وهو محرم. [572] مسألة: والنصاب في أموال التجارات معتبر في آخر الحول. خلافاً لأبي حنيفة، في قوله: يعتبر في الطرفين؛ لأنه مال تجب الزكاة في قيمته، وجد نصاباً في آخر الحول، فأشبه إذا وجد نصاباً في الطرفين. [573] مسألة: إذا كان عنده نصاب من الذهب أو الورق، ثم أفاد نصاباً من جنسه لم يضمه إلى ما معه، وزكى كل واحد من المالين حوله، بخلاف الماشية. وقال أبو حنيفة: يضمه إلى النصاب كالماشية. ودليلنا قوله عليه السلام: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)، ولأن الفائدة في الذهب والورق إذا كانت من غير المال لم يجب ضمها إليه في حوله، أصله إذا كان الأصل أقل من نصاب، ولأن الأصل أن كل مال فله حول نفسه لا يعتبر بغيره إلا لضرورة، ولا ضرورة إلى ذلك إلا لأحد ثلاثة أشياء: إما أن تكون الفائدة من نفس المال كالربح والنتاج، أو للرفق بالملاك، أو للرفق بالساعي؛ والنظر بين أرباب الأموال

والفقراء كما قلنا ذلك في الماشية، وكل ذلك معدوم في هذا الموضع، فلم يبق معنا ما يقتضي اعتباره بغيره في الحول، فوجب بقاؤه على الأصل. [574] مسألة: الدين يمنع الزكاة عن العين، ولا يمنعها عن الماشية والحبوب والحرث، وقال الشافعي: لا يمنع الدين زكاة أصلاً. ودليلنا ما روى عمير بن عمران، عن ابن جريح، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان للرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه)؛ ولأنه إذا اجتمع في المال حقان: أحدهما: قد أُخِذَ عوضه، والآخر: لم يؤخذ عوضه، كان ما قد أُخِذَ عوضه مقدما على ما لم يؤخذ عوضه، أصله الدَّين في الميراث، ولا تدخل عليه زكاة الماشية والحرث؛ لأن التعليل للجملة لا ينقض بالتفصيل. [575] مسألة: إذا كان عليه دين ومعه عين وعروض، جعل الدين في العروض وزكى عن العين، وقال أبو حنيفة: يجعل الدين في العين وتسقط الزكاة، ودليلنا، أنه حر مسلم مالك لنصاب قد حال عليه الحول أَخْذُ الصدقة منه لا يبخس حق غيره، فأشبه من في يده من العين أكثر مما عليه من الدين؛ ولأنه قادر على الجمع بين أداء الدين والزكاة، فوجب أن لا يسقط أحدهما بالآخر، أصله إذا كان معه من العين ما يقوم مقام الدين ويفضل عنه نصاب؛ ولأن العروض نوع من المال مأمون، فجاز أن يجعل في الدين ويزكى العين. [576] مسألة: يكره للرجل أن يبتاع صدقته، لئلا يكون ذريعة إلى إخراج القيمة في الزكاة، أو إلى الرجوع في الهبة، وإن فعل صح، وحكي عن أصحاب الشافعي، أنه لا يصح، واختلفوا في الحكاية. ودليلنا على جوازه، أن كل ما صح أن تملكه إرثاً، صح أن تملكه هبة وابتياعا كسائر الأموال.

باب زكاة المعادن

باب زكاة المعادن [577] مسألة: في المعادن الزكاة وليست بركاز، وقال أبو حنيفة: المعدن والركاز واحد وفيه الخمس, ودليلنا أنه ليس بركاز، قوله عليه السلام: (البئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس)، ففرق بينهما في الاسم، فدل على أن أحد هما غير الآخر؛ ولأن الركاز مأخوذ من إركاز الشيء في الأرض، إذا دفنه صاحبه وأخفاه، والمعادن عروق ينبتها الله عز وجل في الأرض من غير فعل آدمي. [578] (فصل): ودليلنا على أن الواجب فيه الزكاة ما روي (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية وأخذ منه الزكاة)، ولأنه مستفاد من الأرض بكلفة ومؤونة لم يملكه غيره، فوجب أن يكون فيه الزكاة، لا الخمس كالزرع؛ ولأن الخمس إنما يجب فيما أخذ من أموال الكفار على وجه الغنيمة، أو وجد دفينا من أموالهم.

[579] (فصل): واختلف في الندرة بلا تعب وكلفة، فقيل: فيها الزكاة وقيل الخمس، فوجه قولنا: إن فيها الزكاة، فلأنها عين خارجة من المعدن كالذي فيه تعب وكلفة، ووجه الآخر: بأن فيه الخمس، وبالله التوفيق، فلأنه مستفاد من الأرض تجب في نوعه الزكاة فوجب أن يكون لكثرة المؤونة وقلتها تأثير في زكاة ما يؤخذ ونقصانه، أصله الزرع، وإذا ثبت ذلك فليس إلا الخمس؛ لأن أحداً لا يوجب الفرق بغيره. [580] (فصل): ولا شيء فيما يخرج من المعدن سوى الذهب والفضة. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنه تجب في كل ما لا ينطبع؛ لأنه مُفَرّع مستفاد من المعدن، فوجب أن لا يتعلق به حكم حق، أصله ما لا ينطبع؛ ولأن كل ما لو ملكه بالإرث لم يُبتدأ له حول، فإذا ملكه من المعدن لم يتعلق به حق كالقيروالنفط. [581] (فصل): النصاب معتبر في المعدن. خلافاً لأبي حنيفة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - (ليس فيما دون مائتي درهم شيء)، ولأن كل ما وجبت فيه الزكاة وجب اعتبار النصاب فيه كغير المعدن. [582] (فصل): لا حول في زكاة المعدن. خلافاً لأحد قولي الشافعي؛ لأنه مستفاد من الأرض تجب فيه الزكاة كالزرع. وبالله التوفيق، ثم الجزء السابع من كتاب الإشراف.

باب في الركاز

باب في الركاز [583] مسألة: اختلف في الركاز من العروض، ففيه. روايتان: إحداهما: يخمس، والأخرى: لا يخمس، فوجه الأولى، اعتباره بالذهب والفضة بعلة أنه مأخوذ من كافر على وجه الغنيمة، فإذا خمس ذهبه خمس عرضه كالغنائم، ووجه قوله: لا يخمس، اعتباراً بالمعدن بعلة أنه مستفاد من الأرض، فلم يتعلق حق بعروضه. [584] مسألة: في الركاز الخمس كتمه واجده أو أظهره. خلافاً لأبي حنيفة إنه إن كتمه فلا شيء عليه، لقوله عليه السلام: (وفي الركاز الخمس) ولم يفرق؛ ولأن كل مال وجب فيه الخمس إذا أظهره، وجب فيه وإن كتمه كالغنائم؛ ولأنه لا يخلو أن يجري مجرى الصدقات أو الفيء أو الغنائم، وأيّ ذلك فلا يسقط الحق فيه بالكتمان. [585] مسألة: يجوز بيع تراب المعدن. خلافاً للشافعي؛ لقوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا}؛ ولأنه مرئيّ معلوم في العادة مقدر في غالب الحال، فجاز بيعه، وإن لم يعلم حقيقته ووزنه للرفق، كالجزاف؛ ولأن اختلاط الذهب بغيره لا يمنع بيعه، كالسيف المحلى.

دعاء الإمام لصاحب الصدقة

[586] مسألة: ما خرج من البحر من الجواهر واللؤلؤ والعنبر وغير ذلك مما لم يتقدم عليه ملك آدمي، فلا شيء عليه ولا زكاة ولا خمس، وقال أبو يوسف في اللؤلؤ، والعنبر، وكل ما يخرج من البحر الخمس. ودليلنا أن ما يخرج من البحر لم يتقدم عليه ملك ابن آدم فلم يكن فيه شيء كالمسك؛ ولأنه لا يخلو أن يجري مجرى الغنيمة والركاز، ولا يجوز أن تكون غنيمة؛ لأن من شرطها أن تكون مأخوذة عن كافر؛ لأنه لا زكاة في العروض المستفادة. [دعاء الإمام لصاحب الصدقة] [587] مسألة: لا يجب على الإمام، أو ساعيه، أن يدعو لصاحب الصدقة إذا أخذ الزكاة (). خلافاً لداود؛ لأن الصدقات قد كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحمل إليه، فلم ينقل أنه دعا لغير أبي أوفى؛ ولأنه أداء فرض فلم يستحق لأجله دعاء كقضاء الدين. باب زكاة الفطر [588] مسألة: زكاة الفطر فريضة. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنها واجبة ليست بفريضة على ما يقوله في الوتر، لما رواه ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر في رمضان) وقوله: (أدوا صدقة الفطر عمن تمونون)، ولأنها زكاة في المال كسائر الزكوات، فإن منعوا أن تكون زكاة، دلّلنا عليه بالخبر.

[589] مسألة: يجب على الرجل إخراجها عن عبده وولده الصغير الذي لا مال له. خلافاً لداود؛ لقوله - عليه السلام -: (أدوا عمن تمونون)، وروي عنه عليه السلام: (عفوت لكم عن صدقة الخيل، والرقيق، إلا صدقة الفطر في الرقيق)؛ ولأنها طهارة تجري مجرى المؤونة كالنفقة. [590] مسألة: إذا كان له ابن صغير موسر، لم يلزم الأب فطرته. خلافاً لمحمد بن الحسن لأن كل من كانت نفقته في ماله كانت فطرته في ماله كالولد الكبير. [591] مسألة: إذا بلغ الابن زمنا فقيراً، فعلى الأب نفقته وفطرته. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: لا تلزمه فطرته، لعموم قوله عليه السلام: (عمن تمونون)؛ ولأنه ممن تلزمه مؤونته، مع كونه من أهل الطهرة كالصغير، ولأن البلوغ لا يمنع وجوب فطرته على غيره، إذا كانت مؤونته لازمة لغيره؛ لأنه من أهل الطهارة في نصيبه اعتباراً بالعبد. [592] مسألة: يلزم الزوج فطرة امرأته المسلمة، وإن كانت موسرة. خلافاً لأبي حنيفة لقوله عليه السلام: في حديث ابن عمر (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون)؛ ولأن الزوجية سبب يجب به نفقة الغير، فجاز أن يجب به

فطرتها كالنسب والملك، ولأن الفطرة معنى يتحمل بالملك والنسب فجاز أن يتحمل بالزوجية كالنفقة؛ ولأن الفطرة تابعة للمؤونة فيمن هو من أهل الطهرة كالعبد. [593] مسألة: لا يلزم السيد إخراج الفطرة عن عبده الكافر. خلافاً لأبي حنيفة لما رواه مالك عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان، صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين؛ ولأنها طهارة فلا يخرج إلا عمن هو من أهلها؛ ولأنه ليس من أهل الطهارة أصله إذا كان للتجارة. [594] مسألة: إذا كان العبد بين شركاء لزمهم إخراج الفطرة عنه. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: لا يجب إخراج الفطرة عن العبد المشترك؛ لقوله عليه السلام: (عمن تمونون)، وهذا العبد داخل في العموم، ولأنه مملوك من أهل الطهرة، فوجب إخراج الفطرة عنه، كمن تلزمه نفقته، أصله إذا كان المالك واحداً. [595] مسألة: ومن بعضه حر، وبعضه رق، قد اختلف قوله فيه، فروي أن على السيد بقدر حصته، ولا شيء على العبد في حصته من الحرية، وروي أن على كل واحد منهما بقدر حصته، وهو قول محمد بن مسلمة والشافعي وقال عبدالملك: على السيد جميع الصاع، ولا شيء على العبد، وقال أبو حنيفة: لا يجب إخراج الفطرة عنه أصلاً. فدليلنا على أبي حنيفة، أنه حق يجب على المالك بحق الملك المنفرد، فوجب أن تجب عليه بحق الملك المشترك كالنفقة، ووجه قوله: إنه على السيد بقدر حصته ولا شيء على العبد؛ لأن أحكام الرق أغلب عليه؛ ولأن ملكه غير مستقر فلم يخاطب بإخراج الفطرة

عن نفسه، ولم يلزم سيده إخراجها عما لا يملكه، ووجه قوله: إن على كل واحد منهما بقدر حصته، أن كل من لو ملك عبداً كاملاً لزمته فطرته، فإذا ملك نصفه وجب أن يلزمه نصف فطرته كالعبد بين شريكين، ووجه قول عبدالملك: إن الفطرة لا تتبعض فإذا لزمت لزم جمعيها، كما لو انفرد بملكه، وعلته أن السيد سبب حبسه من الحرية. [596] مسألة: في وقت وجوب زكاة الفطر روايتان: إحداهما: بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان. والأخرى: بطلوع الفجر من يوم الفطر، وقال قوم من أصحابنا: بطلوع الشمس. فوجه القول بأنها تجب بغروب الشمس، وهو الظاهر من قول الشافعي، ما روى ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان)، فأضافها إلى الفطر من رمضان، وحقيقة ذلك بغروب الشمس؛ لأنه أول فطر يتعقب خروج رمضان، ولأن يوم الفطر زمان لا يتعقب زمان الصوم، فلا يتعلق به الوجوب كغيبوبة الشفق، ويعلل للشخص فنقول: لأنه لم يدرك شيئا من رمضان، فلم يلزمه إخراج الفطرة عنه، أصله إذا ولد بعد طلوع الفجر، ووجه القول: أنها بطلوع الفجر، وهو قول أبي حنيفة: ما روي أنه عليه السلام، فرض زكاة الفطر من رمضان، وإطلاق ذلك لا يفهم منه إلا بالنهار، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم)، فنّبه على تعلق الوجوب باليوم، ولأنه حق في مال يخرج يوم عيد على طريق المواساة،

فوجب أن يتعلق بطلوع الفجر، أصله الأضحية؛ ولأنه في طرفي ليل، فأشبه تضاعيف الشهر. ووجه اعتبار طلوع الشمس أنها عبادة مضافة إلى يوم فأشبهت الصلاة. [597] مسألة: من ملك زيادة على قوته وقوت من تلزمه نفقته قدر زكاة الفطر وجب عليه إخراجها. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: لا تجب إلا على من يملك نصاباً من الأموال، أو قيمته من غير الأموال كالزكاة، لما روى ثعلبة بن صعير، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال (صاعاً من بُرٍّ على كل صغير وكبير، وأنثى، وحر وعبد، غني أو فقير، فأما الغني فإنه يزكيه، وأما الفقير فيرد عليه أكثر مما أعطى)، ولأنه من أهل الطهارة يملك قدر الفطرة فضلا عن الكفاية، فوجب أن يلزمه الزكاة، أصله إذا ملك نصاباً؛ ولأنه حق مال لا يزيد بزيادة المال، فلم يعتبر فيه النصاب كجزاء الصيد وفدية الأذى. [598] مسألة: لا يجزئ في الأنواع المخرجة أقل من صاع، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: يجزئ من البر والزبيب نصف صاع، لما روى ابن عمر وأبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض صدقة الفطر صاعاً

من بر)، وفي حديث أبي سعيد: (كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعا من طعام)، ولأنه قوت يخرج في صدقة الفطر كالشعير والتمر. [599] مسألة: إذا كان معسرا حال الوجوب لم يلزمه بيسره من بعد، خلافاً لمن أوجبه، وحكاه من أهل الخلاف من الشافعية عنا، ولا أصل له. ودليلنا: أن وقت الوجوب صادفه وهو ممن لا تلزمه الزكاة لعسره فيما بعد، أصله إذا أيسر بعد يومين أو ثلاثة. [600] مسألة: إخراج البر جائز، خلافاً لمن خرق الإجماع من أصحاب داود وقال: لا يجزيه، سمعت الخرزيَّ يحكيه. لما روينا من حديث ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد، واعتباراً بالتمر والشعير. [601] مسألة: والاعتبار بغالب قوت أهل البلد، خلافاً للشافعي في قوله: إنه مخير، لقوله عليه السلام: (أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم)، وإذا أعطاهم ما ليس من قوتهم فلم يغنهم؛ ولأنه لما كان عليه إذا كان يقتات أعلى من قوتهم، وله أن يخرج من قوتهم الغالب، ولا يلزمه أن يخرج مما يقتاته، كذلك إذا كان يقتات دونه، فالواجب أن يخرج من غالب أقواتهم. [602] مسألة: يجوز إخراج الأقط لأهل البادية. خلافاً لأحد وجهي

مسائل مختلفة في الزكاة

الشافعي، لحديث أبي سعيد كنا نخرج فذكر صاعاً من أقط وروي أن رجالاً من أهل البادية قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنا أولو أموال فهل يجوز عنا من زكاة الفطر؟ فقال: (أخرجوها صاعاً من تمر أوصاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من شعير)؛ولأنه قوت يقتاتونه غالباً عاماً يجري فيه الصاع، فأشبه التمر. [603] مسألة: لا يجوز أن يخرج فيها الدقيق. خلافاً لابن حبيب، ولا القيمة خلافاً لأبي حنيفة، لأنها قيمة كسائر الزكوات. [مسائل مختلفة في الزكاة] [إعطاء الذمي من الزكاة] [604] مسألة: لا يجوز صرف زكاة الفطر ولا غيرها إلى ذمي، خلافاً لمن أجازه في الجميع، ولأبي حنيفة في قوله: بجواز ذلك في زكاة الفطر وفي الكفارات دون غيرها من الزكوات، لقوله عليه السلام لمعاذ: (فإن أجابوك فأعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، وذلك يضمن اشتراط الإسلام، ولأن من لم يجز صرف زكاة المال إليه لم يجز صرف زكاة الفطر إليه، كالغني، ولأنه حق في مال على وجه الطهارة، فلم يجز صرفه إلى كافر كزكاة المال.

الوصية بالزكاة

[الوصية بالزكاة] [506] مسألة: إذا لم يوص بإخراج الزكاة عنه، وقد علم ورثته بوجوبها، استحببنا لهم أن يخرجوها، فإن لم يفعلوا لم يلزمهم، وقال الشافعي تخرج من أصل ما له. فدليلنا: أن إخراج الزكاة موكل إلى أمانته، فإذا قال: قد أديتها قبل منه، وإن قال: هي عَلَيَّ لم يكن له مطالب لعينه ولا خصم معين، فإذا لم يوص بها جاز أن يكون قد أخرجها سراً، وإذا جاز ذلك لم يجز أن يلزم الورثة إخراج ما يشك هل هو عليه أم لا؟ [606] مسألة: وإذا أوصى بها، فهي في الثلث. خلافاً للشافعي؛ لأن التهمة تقوي أن يكون قصد الانتفاع بما له وإخراجه عن ورثته بعد موته بالوصية، فلو قبلنا قوله وجعلناها من رأس ماله، لما شاء أحد أن يؤذي ورثته إلا وصى بأن عليه زكاة. [607] مسألة: وتبدأ على غيرها من الوصايا إلا المدبر في الصحة. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنها كسائر الوصايا سواء؛ لأن التبدية بالأوجب فالأوجب، ولولا التهمة لكانت من رأس المال، فإذا لم يقبل ذلك فأقل ما في ذلك أن يبدأ على التطوع. [مصارف الزكاة] [608] مسألة: يجوز صرف الصدقات إلى صنف واحد من الأصناف، ويجوز تفضيل صنف على صنف، بقدر ما يجتهد فيه الإمام. خلافاً للشافعي في قوله: لا يجوز تخصيص بعض الأصناف بجميعها؛ لقوله عليه السلام: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائهم فأردها في فقرائهم)، وهذا يفيد جواز صرفها إلى نوع واحد، ولأنه قد ثبت أن للإمام أن يصرف صدقة الرجل الواحد إلى فقير واحد، والإمام يقوم مقام رب المال

في التفريق، فإذا جاز ذلك للإمام جاز للمالك؛ ولأنه لما لم يجب صرف صدقة المالك الواحد إلى جماعة الأصناف، لم يجب ذلك في جملة الصدقات؛ ولأنه لما جاز تخصيص بعض الأصناف؛ ولأنه لو كانت الصدقة واجبة للجميع، لكان إذا فقد صنف لا يجوز نقل نصيبه إلى بقية الأصناف الموجودين، كما قلنا فيمن أوصى بثلثه لجماعة، وفقد بعضهم أنه ينتقل قسطه إلى الورثة، دون من بقي من الموصى لهم، فلما أجمعنا على أنه إذا فقد صنف أن قسطه ينقل إلى باقي الأصناف، علم أن الكل محل لجواز صرف الصدقة إليهم. [609] مسألة: زكاة الأموال الظاهرة كالمواشي والحرث يجب دفعها للإمام، وإذا كان عدلا يبعث ساعيا لم يسع المالك أن يفرقها بنفسه، وإن فعل ضمن. خلافاً للشافعي في قوله الجديد: إن رب المال يخير بين أن يفرقها بنفسه، أو يدفعها إلى الإمام فيفرقها؛ لقول الله عزوجل: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم}. وقوله عليه السلام: (أمرت أن أخذ الصدقة من أغنيائهم) وقوله لمعاذ: (فإن أجابوك فأعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم)، وفي إيجاب الأخذ دليل على إيجاب الدفع، ولأنه مال ظاهر يصرف إلى أقوام بأوصاف، فوجب أن يتولى الإمام تفريقه كالخمس. [610] مسألة: إذا وجد المستحق للزكاة في البلد الذي هو فيه المال، لم يجز نقلها إلى بلد آخر، فإن فعل أساء، والنظر على أصول مالك يقتضي أن يجوز. وقال الشافعي لا يجوز وعليه الإعادة. ودليلنا قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين}، ولأنها صدقة صرفها إلى جنس المستحقين للزكاة، فوجب أن يسقط عنه الفرض، أصله إذا فرقها في فقراء البلدة.

[611] مسألة: إذا اجتهد فدفع الصدقة إلى من ظاهره الفقر، ثم بان له أنه غني، فالصحيح أن عليه الإعادة. خلافاً لأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، لقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين}، ففرضها لهم، فلم تسقط بالدفع إلى غيرهم؛ ولأنه دفعها إلى من ليس بمحل لأخذها، كما لو دفعها إلى من كان ظاهره الإسلام، فبان أنه كافر؛ ولأنه حق لآدمي يضمن بالعمد، فجاز أن يضمن بالخطأ، أصله الوديعة إذا دفعها إلى غير مستحقها. [612] مسألة: القوي بالاكتساب يجوز له أخذ الزكاة إذا كان فقيراً، هكذا قال شيوخنا وقال الشافعي: لا يجوز له، فدليلنا قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}، وهذا ما لم يكتسب فقير؛ ولأن ما جُوِّز للمكلف حال فقره، لم تَحرُم عليه لأجل قوته عليه في ثاني حال كالصوم في الكفارة، لما جوز ذلك له لعدم ماله، لم يعتبر في منعه كونه قويا قادراً على أن يكتسب ما يتوصل به إلى العتق. [613] مسألة: ليس في قدر الغنى الذي يحرم به أخذ الصدقة حد، إلا أن مالكاً قال: يعطى من له مسكن ودابة؛ لأنه لاغنى عنهما، ويعطى من له أربعون درهما، وقال أبو حنيفة: الغنى وجود نصاب الزكاة أو قيمته، وقال الثوري وأحمد: خمسون درهما، وقال الشافعي: هو ما تحصل به الكفاية مع الدوام فيدل على أن معه نصاب، لا يجوز له أخذ الصدقة. ودليلنا قوله عليه السلام: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائهم فأردها في فقرائهم)، فأخبر أن من يؤخذ منه غير من يدفع إليه، وهذا يؤخذ منه الصدقة، فلم يجز دفعها إليه؛ ولأن الغنى حاصل في الحال منه، فلا تعتبر

الحاجة في ثاني حال، كما لو كان معه قدر كفايته. [614] مسألة: نص مالك على أن المرأة لا تعطي زوجها زكاتها، وقال أصحابنا: هو على الكراهة دون التحريم، وقال أبو حنيفة لا يجوز. فدليلنا قوله عليه السلام: لامرأة ابن مسعود: (تصدقي عليه وعلى بنيه، فإنهما له موضع)؛ ولأنه كل من لا تجب نفقته بحال، جاز أن تدفع إليه الزكاة، كابن العم والأجنبي [615] مسألة: الفقير: الذي له بلغة لا تكفيه، والمسكين: الذي لا شيء له أصلاً، وقال الشافعي بالعكس من هذا. ودليلنا أن اسم المسكين في اللغة يتضمن الفقر وزيادة، وهو الإعدام جملة، الذي قد أورثه الاستكانة وهو الخضوع والذلة، وقال يونس، قيل لأعرابى: أفقير أنت؟ قال: لا، بل مسكين، وقال الفراء، وثعلب، وابن قتيبة مثل قولنا وأنشد ابن الأعرابى: أما الفقير الذي كانت حلوبته .... وفق العيال فلم يترك له سبد فسماه فقيراً وله شيء. [616] مسألة: تفسير قوله تعالى: {وفي الرقاب}، أن يبتاع الإمام من مال الصدقة رقابا يعتقهم عن المسلمين، ولا يعطى المكاتبون،، وقد قال

مالك: إذا أعطي مكاتب ما يتم به عتقه جاز، وقال أبو حنيفة، والشافعي، لا يشتري عبدا فيعتق أبدا. ودليلنا قوله تعالى: {وفي الرقاب}، وذلك جمع رقبة، وكل موضع ذكر الرقبة فالمراد عتقها كاملة، فلو أراد المكاتبين لكتبهم باسمهم الأخص؛ ولأن المكاتب بعض رقبة؛ ولأن ذلك يقتضي أن يكون مصروفة بجميع وجوهها إلى الصدقة، وإذا أعطي المكاتب فالولاء لسيده؛ ولأنه لو أراد المكاتبين لا كتفي بذكر الغارمين لأنهم منهم. [617] مسألة: معنى وفي سبيل الله الجهاد والغزو، خلافاً لأحمد وإسحاق في قولهما: إن المراد به الحج؛ لأن سبيل الله إذا أطلق لم يفهم منه إلا الجهاد، وكل موضع أطلق، كذلك هاهنا. [618] مسألة: يجوز للغازي أن يأخذ وإن كان غنياً. خلافاً لأبي حنيفة، لقوله: {وفي سبيل الله} فأطلق، وقوله: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) فذكر (الغازي)؛ ولأنه صنف من أهل الصدقات لحاجته إليه، فجاز الدفع إليهم مع الغنى كالعاملين. [619] مسألة: ابن السبيل الغريب المنقطع به، والمجتاز المقيم في الغربة، دون من ينشئ السفر من بلده. خلافاً للشافعي لا يفهم إلا الحاصل في الغربة دون من نشأ السفر من بلده، لأن إطلاق ابن السبيل لا يفهم منه إلا الحاصل في الغربة دون من هو في وطنه ولو بلغت الحاجة منه كل مبلغ، فوجب حمله على المتعارف.

كتاب الصيام

كتاب الصيام [النية] [620] مسألة: لا يصح الصيام إلا بنية. خلافاً لزفر في قوله: إن صوم رمضان يصح بغير نية، لقوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل)؛ ولأنه صوم شرعي، فأشبه ما عدا رمضان؛ ولأنه نوع من الصيام كالنذر والنفل. [621] مسألة: ولا يجزئ صوم إلا بنية قبل الفجر أو معه. خلافاً لأبي حنيفة، في تجويزه النية لرمضان، وكل صوم معين بعد الفجر، والشافعي، في تجويزه النية للنفل بعد الفجر. ودليلنا على أبي حنيفة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من

الليل). وقوله: (من لم يجمع على الصيام قبل الفجر فلا صوم له)، وقوله: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى)، وبعض هذا اليوم قد مضى عاريا من النية؛ فلا يجزئ، ولأنها نية ابتدئت بعد مضي جزء من النهار كبعد الزوال، ولأنه صوم شرعي كالنذر والقضاء؛ ولأن النية شرط في الصوم الشرعي، فيجب أن لا يجزئ الصوم متى مضى بعض اليوم عاريا منها، أصله الإمساك، ولأنها عبادة من شرطها النية، فلم تصح بنية بعد الدخول فيها كالصلاة والحج؛ ولأنها عبادة تؤدى وتقضى، فوجب أن يستوي فيها وقت النية في الأداء والقضاء كالصلاة. [622] (فصل): وما بيناه دلالة على الشافعي؛ ولأنه صوم شرعي كالفرض؛ ولأنها عبادة من شرط صحتها النية فوجب أن يستوي نفلها وفرضها في وقت النية كالصلاة والحج؛ ولأنها عبادة يفسد أولها بفساد آخرها، فوجب أن لا تتأخر النية عن وقت فعلها كالصلاة؛ ولأنها نية بعد الفجر كالنية بعد الزوال؛ ولأن النهار لو كان زمانا لنية النفل لصحت فيه نية الفرض كالليل؛ ولأنه كان يجب أن يستوي جميعه في الجواز كالليل؛ ولأنه شرط في الصوم الشرعي فيجب أن يختص بأحد نوعي الزمان كالإمساك. [623] مسألة: وإذا نوى لجميع الشهر من أول ليله أجزأه. خلافاً لأبي حنيفة والشافعي. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإنما لامرئ ما نوى)، فعم، ولأن النية وقعت لهذا الصوم في زمان يصلح جنسه لنية الصوم من غير أن يتخلل النية، وللصيام المنوي زمان يصلح جنسه لصوم سواه، فجاز ذلك،

اعتماد قول المنجمين لثبوت الشهر

أصله إذا نوى لليوم الأول من ليلته وإذا نوى لكل يوم من ليلته. [624] مسألة: تعيين النية واجب في صوم رمضان. خلافاً لأبي حنيفة، لقوله عليه السلام: (وإنما لامرئ ما نوى) وذلك موضوع لاستبقاء الحكم فيدل على أنه ليس له ما لم ينوه، ومن نوى رمضان أنه تطوع ولم ينو أداء فرضه فلم يكن له عن فرضه، ولأنه صوم واجب، فلم يجز بنية النفل كالقضاء والنذر، ولأنها عبادة يفتقر قضاؤها إلى تعيين النية، فكذلك أداؤها كالصلاة. [اعتماد قول المنجمين لثبوت الشهر] [625] مسألة: ولا يعتبر بقول المنجمين في دخول وقت الصوم، خلافاً لمن ذهب إلى ذلك، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من صدق كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد)، وأقل ما في هذا التغليظ منع الرجوع إلى قولهم في الشرع، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة)، فوجب أن لا يعتبر إلا بما ذكرناه. [صيام يوم الشك] [626] مسألة: يجوز أن يصام يوم الشك تطوعا، وقال محمد بن

أحكام في رؤية الهلال

مسلمة والشافعي يكره تعمد ذلك. ودليلنا قوله تعالى: {فمن تطوع خيرا فهو خير له}، واعتباراً به إذا كان شأنه سرد الصيام؛ لأن كل وقت صلح للنفل المعتاد، صلح للنفل المبتدأ كسائر الأيام. [627] مسألة: لا يجوز أن يصومه بنية الفرض على أنه إن كان من الشهر، وإلا كان تطوعاً، وإذا فعل ذلك، ثم ثبت أنه من رمضان أعاد. خلافاً لأبي حنيفة وغيره؛ لأن نية الفرض من شرطها أن تقع محققة لا مشكوكا فيها، ولا في أصل وجوبها من غير ضرورة، كما لو صلى شاكاً في زوال الشمس، ولأن كل نية لفرض تعلق بوقت إذا أتى بالعمل مع الشك في دخول وقته، فإن وقوع النية بدخول وقته لا تجزئ متى صادفت دخوله، أصله الصلاة. [628] مسألة: ذهب بعضهم إلى أنه لا يصح صوم يوم الشك على كل وجه وهذا غلط؛ لأنه يوم محكوم له بأنه من شعبان كما قبله، واعتباراً به إذا كانت السماء مصحية. [أحكام في رؤية الهلال] [629] مسألة: إذا رئي الهلال في يوم الشك فهو لليلة المقبلة، سواء رئي قبل الزوال أو بعده، وقال أبويوسف إن كان قبل الزوال فهو لليلة الماضية ورأيت نحوه لابن حبيب. ودليلنا قول عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -: (إن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهاراً فلا تصوموا ولا تفطروا إلا أن يشهد رجلان مسلمان أنهما أهلاه بالأمس) واعتبار به إذا رئي بعد الزوال.

[630] مسألة: ولا يقبل شهادة واحد على هلال رمضان. خلافاً للشافعي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا)، ولأنها شهادة على رؤية هلال أصله هلال شوال، ولأن شهادة الواحد غير مقبولة بانفرادها اعتبارا بسائر الأصول. ولأن ذلك يؤدي إلى أن يفطر بشهادة واحد، ونفرض الكلام في أن طريقه الشهادة دون الإخبار، خلافاً للشافعي لقوله عليه السلام: (فإن شهد ذوا عدل فصوموا) فثبت أنها شهادة؛ ولأنه حكم شرعي متعلق برؤية الهلال، فوجب أن يكون حكم الأخبار به، حكم الشهادات، أصله هلال شوال وذي الحجة. [631] (فصل): وسواء كانت السماء مصحية أو مغيمة. خلافاً لأبي حنيفة، في تفريقه بين الموضعين، وقوله: إنها إن كانت مغيمة قبل فيها قول الواحد، وإن كانت مصحية صحيحة لم يقبل إلا الاستفاضة دون الاثنين والثلاثة، فدليلنا الخبر، وهو عام؛ ولأنها شهادة على رؤية الهلال، فلم يحتج إلى الاستفاضة، كما لو غم الهلال. [632] مسألة: لا يقبل في آخره إلا الاثنان. خلافاً لأبي ثور لعموم الخبر؛ ولأنها شهادة على حكم يثبت في البدن، فلم يقبل فيه الواحد كسائر الأحكام. [633] مسألة: إذا رأى الهلال وحده لزمه الصوم. خلافاً لبعض التابعين في قولهم: إنه لا يلزمه إلا بحكم الإمام لقوله عز وجل: {فمن

شهد منكم الشهر فليصمه}، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، وهذا قد رآه، ولأنه لما لزمه الصوم بشهادة غيره وهي مظنونة له، كان بأن يلزم برؤيته المتحققة أولى. [634] مسألة: وإذا رآه وحده ثم تعمد الفطر فعليه القضاء والكفارة. خلافاً لأبي حنيفة في قوله لا كفارة عليه، لحديث الأعرابي الذي جاء وهو ينتف شعره، ويلطم وجهه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (ما شأنك؟) قال: وقعت على أهلي في رمضان فقال: (أعتق رقبة)، ولم يسأله أي يوم رأى هلال الشهر وحده أو فيما بعده؛ ولأنه يوم لزمه صومه على أنه من رمضان، فإذا تعمد الفطر فيه هاتكاً لحرمته لزمته الكفارة، كاليوم الثاني والثالث ولأن رؤيته معنى أوجب عليه صوم اليوم على أنه من رمضان، فكانت الكفارة متعلقة بالفطر فيه كشهادة الشهود؛ ولأن كل حكم لزمه في اليوم الذي يحكم الإمام بكونه من رمضان، فإنه يلزمه إذا انفرد برؤيته، أصله وجوب صومه والقضاء بالفطر فيه؛ ولأن الكفارة من أحكام الصوم وتابع له، فوجدنا الوجوب على صفة متساوية برؤية الهلال بنفسه وبحكم الحاكم به، فوجب أن يكون حكم الهتك متساويا، ولأن الفطر بالإثم يصحب الكفارة ولا ينفرد عنها، وقد ثبت أنه يأثم بهذا الفطر، فوجب أن تلزمه الكفارة؛ ولأن الفطر متعلق به شيئان: القضاء، والكفارة، ثم لا يخلو أن يكون على وجه العذر أو الهتك، ومع العذر لا كفارة، ومع الإثم الكفارة، فكان الإثم في باب ارتباطه بالكفارة،

الصائم يصبح جنبا

كالعذر في باب منافاته لها، فلو كان العذر منتفياً في هذا الموضع تعلق به الإثم فوجب أن يتعلق به الكفارة، ولأنه قد تيقن كون هذا اليوم من أي شهر هو، فوجب أن يكون ما يلزمه من حكمه معتبراً به في نفسه، دون حكم الحاكم به، أصله إذا رأى هلال شوال وحده فأفطره؛ لأن ما يتعلق بالشهر أو بالزمان المؤقت من الأحكام لا يفتقر إلى حكم حاكم فيما يختص الإنسان في نفسه، اعتباراً بمواقيت الصلاة والحج؛ ولأن رؤيته متيقنة وحكم الحاكم ظاهر عليه الظن، فإذا تعلق بذلك الكفارة فاليقين أولى. [الصائم يصبح جنباً] [635] مسألة: إذا أصبح جنباً لم يمنعه صوم ذلك اليوم إذا كان قد نواه من الليل، خلافاً لما يحكى عن أبي هريرة، والحسن بن صالح، لقوله عز وجل: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}، ومعلوم أنه إذا كان يجامع فنزعه، ثم طلع الفجر عقيبه، فإنه لا يمكنه أن يغتسل إلا بعد طلوعه، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنباً من جماع ثم يصوم ذلك اليوم)، وقال للذي سأله أنه يصبح جنبا، ويريد الصوم، فقال: (وأنا أصبح جنبا وأريد الصيام، فأغتسل وأصوم)؛

المرأة إذا طهرت ليلا ولم تغتسل

ولأن حدثه إذا انقطع لم يبق أكثر من وجوب الطهارة، وذلك لا يمنع الصوم كالمحدث. [المرأة إذا طهرت ليلاً ولم تغتسل] [636] مسألة: الحائض إذا رأت الطهر ليلاً، فنوت الصوم، ولم تغتسل حتى طلع الفجر، جاز لها صوم ذلك اليوم، سواء أخرته بتفريط، أو بغير تفريط، وقال عبد الملك، ومحمد بن مسلمة: إن أخرته بتفريط لم يجزها، وحكي عن قوم. أنه لا يجزيها الصوم على كل وجه، فدليلنا أنها محدثة زال حدثها قبل الفجر ولم يبق عليها سوى فعل التطهير، فوجب أن يصح صومها كالجنب والمحدث. [الخطأ في غروب الشمس] [637] مسألة: إذا أكل مجتهداً، ثم بان له أن الشمس لم تغرب، أو الفجر قد طلع فصومه فاسد وعليه القضاء في الفرض، خلافاً لداود في قوله: إن صومه صحيح، ولا قضاء عليه، لقوله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}، إلى قوله: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}، وهذا لم يتمه، ولأنه خَرَم الإمساك بما لو تعمده لأفسد صومه، فوجب أن يفسد مع الخطأ كالمريض؛ ولأنه حصل منه الأكل بعد الفجر في رمضان كالعامد؛ ولأنه لو اجتهد فصلى المغرب فبان له أن الشمس لم تغرب لزمته الإعادة، كذلك في مسألتنا، بعلة أنها عبادة على البدن مؤقتة بزمان يصل إليه يقيناً. [638] مسألة: إذا طلع الفجر وهو يولج لم ينعقد صيامه، خلافاً

التقيؤ عمدا

لأبي حنيفة والشافعي؛ لأنه حصل واطئا في جزء من النهار فأشبه إذا استدام. [639] مسألة: وإن نزع لوقته، فلا كفارة عليه، وإن استدام قال أصحابنا عليه الكفارة، وتخرَّج ذلك عندي على قول ابن القاسم: متى أكل ناسياً، ثم أكل بعده عامدا؛ لأنه إن كان متأولاً فلا كفارة عليه، وإن كان على وجه الجرأة وقصد الهتك فعليه الكفارة، والنظر أن لا كفارة عليه؛ لأن الكفارة بالفعل الذي حصل به الفطر وذلك بالجزء المصادف للإيلاج دون الاستدامة. [التقيؤ عمداً] [640] مسألة: اختلف أصحابنا في وجوب القضاء على المستقي عامداً، فمنهم من يقول: إنه واجب وهو قول ابن بكير، ومنهم من يقول استحبابا وهو قول أبي يعقوب الرازي، فوجه الوجوب قوله عليه السلام: (من استقاء فعليه القضاء)، وقوله: (من استقاء فليعد صومه)، ولأن الاستدعاء يخرج معه القيء بكلفة وشدة، فيعود إلى الحلق بعض ما يخرج بضعف الطبيعة دون دفعه، هذا هو الغالب، فوجب بناء الأمر على غالبه، ووجه نفي الوجوب قوله عليه السلام: (ثلاث لا يُفَطِّرُون الصائم: القيء، والاحتلام، والحجامة)؛ ولأنه لو كان يفطر لاستوى عمده وغلبته

الوطء في رمضان

كالأكل والشرب، ولأن مدخل الطعام والشراب إنما يفطر بما دخل فيهما لاما خرج منهما كالجشأ؛ ولأنه إحدى حالتي خروجه كالذرع؛ ولأنه خارج من البدن لا غسل فيه كالدموع والفصاد. [الوطء في رمضان] [641] مسألة: وإذا وطئ في رمضان عامدا فعليه القضاء والكفارة وحكي عن قوم من التابعين أنه لا كفارة عليه وأن الخبر خاص بمن ورد فيه. ودليلنا حديث الأعرابي لما قال وقعت على أهلي في رمضان فقال - صلى الله عليه وسلم - (أعتق رقبة)، وقد قال: (حكمي على الواحد كحكمي على الجماعة)، وقوله: (من أفطر يوماً في رمضان فعليه ما على المظاهر). [642] مسألة: ومن وطئ ناسيا فلا كفارة عليه، وقال عبد الملك عليه الكفارة، وهو قول أحمد ابن حنبل. فدليلنا قوله عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)، ولأنه أفطر ناسيا كالأكل، ولأن الكفارة الكبرى في الفطر تتبع الإثم، بدليل انتفائها مع عدمه. [643] مسألة: وإذا طاوعته بالجماع فعليها الكفارة، ولا يتحملها الواطئ. خلافاً للشافعي في قوله: إنه لا كفارة عليها بوجه، وإن عليها كفارة بتحملها الواطئ،

وجوب الكفارة والقضاء على متعمد الفطر

فدليلنا: أن عليها الكفارة ما روي أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعتق رقبة). وروي قال - صلى الله عليه وسلم -: (من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر) فعم، ولأنه شخص حصل مفطرا بجماع في نهار رمضان على وجه الهتك، فوجب أن تلزمه الكفارة كالرجل؛ ولأنه نوع يقع به الفطر، فإذا وجد على جهة الهتك، فمن لزمه القضاء لزمه الكفارة كوطء الرجل؛ ولأنه سبب موجب للكفارة، فوجب أن يشتركا فيما يلزم به إذا اشتركا فيه كالقتل، ولأن جميع الأحكام المتعلقة بالوطء لحق المحكوم بها في حق الواطئ محكوم بها في حق الموطوءة، من وجوب الغسل، والفطر والحد والإحصان والقضاء، فكذلك وجوب الكفارة. [وجوب الكفارة والقضاء على متعمد الفطر] [644] مسألة: تجب الكفارة بكل فطر على وجه الهتك، من أكل وشرب، وغير ذلك سوى الردة. خلافاً للشافعي في قوله: لا كفارة إلا في الجماع، لما روي أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكفر بعتق رقبة، وروي أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه أفطر يوماً في رمضان، فقال له: (أعتق رقبة)، وهذا نقل للحكم بسببه، ولأنه لو كان الحكم يختلف لا ستفصل وسأل عما أفطر به، وقوله: (من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر)؛ ولأنه أفطر نهار رمضان على وجه الهتك لحرمة الصوم، فوجب أن تلزمه الكفارة كالجماع؛ وإن شئت قلت: مع اعتقاد وجوبه احترازا من الردة، وإن كان غير محتاج إليه؛ لأن في العلة احترازاً منه بغير هذا الوجه؛ ولأنه نوع يقع به الفطر تارة بعذر وتارة بغير عذر فوجب إذا وقع مع العدم أن تجب الكفارة كالجماع؛ ولأن الاعتبار في وجوب الكفارة

في الصوم بحال المفطر لا بما يقع به الفطر اعتبار بالأصول كلها. [645] مسألة: على متعمد الفطر في رمضان القضاء مع الكفارة. خلافاً لأحد قولي الشافعي فيما حكاه الإسفرايينى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (خذ هذا فتصدق به) قال: ما أجد أحداً أحوج إليه مني فضحك - صلى الله عليه وسلم - وقال: (كله وصم يوما). وروي أنه قال للواطئ في رمضان (اقض يوماً مكانه) ولأن القضاء آكد من الكفارة بدليل وجوبه على المتعمد الذي لا تجب عليه كفارة فكان بأن تجب في الموضع الذي تجب فيه الكفارة أولى. ولأنها عبادة تجب بإفسادها الكفارة فلم يدخل القضاء في كفارتها كالحج. [646] مسألة: وكفارة الفطر في رمضان على التخيير دون الترتيب. خلافاً لأبي حنيفة والشافعي. لما روي أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكيناً)، ولفظ "أو" للتخيير، ولأنها كفارة لم تجب عن إتلاف ولا عذر، فدخلها التخيير، أصله كفارة اليمين. [647] مسألة: التتابع في صوم الشهرين واجب. خلافاً لما يحكى

الفطر نسيانا

عن ابن أبي ليلى، للخبر الذي رويناه. ولأنه صوم شهرين في كفارة كالظهار. [648] مسألة: إذا أفطر في يومين فعليه كفارتان، كفر عن الأول أولم يكفر. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن من وطئ في الثاني قبل أن يكفر عن الأول فلا كفارة عليه للثاني. لأنهما يومان لو أفسد صوم كل واحد منهما على الانفراد وجبت به الكفارة، فإذا جمع بينهما في الإفساد وجب أن تجب به كفارتان، أصله إذا أفسد صوم يومين من رمضان ولأنه أفسد صوم يومين من رمضان هاتكاً، فوجب أن يلزمه للثاني إخراج كفارة زائدة على كفارة الأول أصله إذا كان قد كفر عن الأول. ولأنهما عبادتان لا يلحق إحداهما فساد الأخرى كالحجتين والعمرتين. [الفطر نسياناً] [649] مسألة: إذا أكل أو جامع ناسيا أفسد صومه وعليه القضاء في الفرض. خلافاً لأبي حنيفة والشافعي، لقوله عز وجل: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} إلى قوله: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}. وهذا لم يتمه وقد خرم الإمساك فأشبه العامد، ولأن كل فعل لا يصح الصوم مع شيء من جنسه عمداً على وجه، فلا يصح مع سهوه، أصله ترك النية. ودليلنا على وجوب القضاء أنه مكلف حصل منه أكل في رمضان كالعامد. ولأنه أكل في صوم مفترض لا يسقط بالمرض كالمريض، ولأن

الفطر بسبب الإكراه

القضاء إذا وجب على المريض مع كونه أعذر من الناسي كان بأن يجب على الناسي أولى. [الفطر بسبب الإكراه] [650] مسألة: إذا أكره على الإفطار بأن أوجر الماء في حلقه، أو بأن هدد بالقتل والضرب فأكل بنفسه فقد أفطر في الموضعين، وكذلك إذا جومعت مكرهة أو نائمة. وقال الشافعي في كل ذلك: لا يفطر إلا الذي أكل بنفسه فله فيه قولان. فدليلنا أن خرم الإمساك قد حصل، فأشبه إذا كان بفعله وقصده. [الإنزال بسبب النظر] [651] مسألة: إذا نظر فأنزل فعليه القضاء ولا كفارة عليه، فإن استدام النظر حتى أنزل فعليه القضاء والكفارة. خلافاً للشافعي في قوله في الموضعين: إنه لا يفطر، لأنه أنزل في الموضعين ملتذّاً به كاللمس. ولأنه نوع من الاستمتاع يكون بالنظر كما يكون بالمباشرة. [الفطر قبل حصول العذر] [652] مسألة: إذا أفطر قبل حصول العذر المبيح للفطر متأولاً أنه سيطرأ العذر كان عليه الكفارة، وطريان العذر لا يسقطها، وذلك كالمرأة تفطر انتظارا لحيضها ثم تحيض في ذلك اليوم أو الرجل يفطر ابتداء ليمرض ثم يمرض، أو عازما على السفر ثم يسافر، وقال أبو حنيفة في ذلك كله: لا كفارة عليه إلا في السفر بعد الإفطار، فإنه قال: لا تسقط عليه الكفارة، وعكس عبد الملك بن الماجشون هذا فقال: في الحيض والمرض عليه الكفارة وفي العزم على السفر إن سافر فلا كفارة، وإن لم يسافر فعليه الكفارة. وللشافعي قولان أحدهما: أن عليه الكفارة، والآخر: أنه لا كفارة عليه. فدليلنا حديث الأعرابي لما قال له: (ما شأنك؟) قال: وقعت على

تعمد الفطر في غير رمضان

أهلي في رمضان قال: (أعتق رقبة). فأطلق ولم يستفصل. ولأنه هتك حرمة صوم رمضان بالإفطار فيه، فوجب أن تلزمه الكفارة، أصله لو لم يحدث مرض ولا حيض، ولا يقال حرمة يوم من رمضان؛ لأنهم لا يسلمونه، ولأن ما يطرأ من العذر بعد الفطر الموجب للكفارة لا تأثير له في سقوطها، أصله مع أبي حنيفة السفر، وقلنا من العذر احترازا من الردة. [تعمد الفطر في غير رمضان] [653] مسألة: لا كفارة على المفطر في غير رمضان. خلافاً لما يحكى عن قتادة أن عليه الكفارة إذا أفطر في قضائه، لأن الكفارة إنما وجبت في رمضان لهتك حرمة زمانه، وذلك معنى يختص به لا يوجد في غيره من الأزمنة واعتباراً بالتطوع. [سبق الماء إلى الحلق في المضمضة والاستنشاق] [654] مسألة: إذا سبق الماء إلى حلقه في مضمضة أو استنشاق، أفطر ولزمه القضاء في الفرض سواء كان في مبالغة أو غير مبالغة. وقال الشافعي في المبالغة: قد أفسد صومه إن لم يكن ساهيا، وفي غير المبالغة له قولان. فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، وقد علم أنه إنما منع ذلك في الصوم احتياطاً وتحرزاً من سبق الماء إلى الحلق، فدل ذلك على أنه متى حصل وقع به الفطر، واعتباراً به إذا كان عن مبالغة.

ما يحصل به الإفطار

[ما يحصل به الإفطار] [655] مسألة: الإفطار يحصل بكل ما يصل إلى الحلق، مما يقع به التغذي ومما لا يقع به، كالدرهم والحصاة، ومن أصحابنا من يقول: لا يحصل الفطر إلا بما يَنْماعُ ويغذي وهو قول قوم من المتقدمين. ودليلنا قوله عز وجل: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}، والصوم الإمساك، ولأنه حصل منه بلع شيئًا وصل إلى حلقه يمكن الاحتراز منه، فكان مفطراً به، أصله إذا كان مما يتأتىَّ أكله. ولأنه لما لم يعتبر بالعادة في صفة الأكل والتناول، مثل أن يبتلع الخبز الرطب أو اليابس ابتلاعا من غير مضغ فيقع الفطر به، فكذلك يجب أن لا يراعى نوع المتناول أن يكون معتادا الغذاء به، أو غير معتاد لذلك. [656] مسألة: ما وصل إلى الحلق من سائر المنافذ كالعين والأذن فإنه يفطر. خلافاً لمن قال: لا يفطر؛ لأنه وصل إلى حلقه ما هو ممنوع من تناوله بفيه حال الصوم، فوجب أن يفطر به أصله إذا دخل من مدخل الطعام والشراب. [657] مسألة: إذا استعط بدهن أو غيره ووصل إلى دماغه فلا يفطر إلا أن ينزل إلى حلقه. خلافاً للشافعي في قوله وإن لم ينزل إلى حلقه. لأنه ما لم يصل إلى الحلق لا يوجب الفطر أصله إذا لم يبلغ إلى الدماغ. [658] مسألة: مداواة الجراح في الجوف بدواء أو غيره، وما يقطر في الذكر والدبر واستدخال السيور وغير ذلك كل ذلك لا يفطر. فدليلنا أن داخل الذكر ليس بمنفذ إلى الجوف، فحصول الشيء فيه لا يوجب الإفطار كداخل الفم والأنف، ولأن داخل الدبر موضع حصول اللبن فيه لا يوجب الرضاع، فلم يوجب الفطر كداخل الفم.

حكم الحامل والمرضع والشيخ الهرم

[حكم الحامل والمرضع والشيخ الهرم] [659] مسألة: الحامل إذا خافت على حملها فلها أن تفطر ولا إطعام عليها، وقال عبد الملك: تطعم وهو قول الشافعي. ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع). وذلك ينفي وجوب شيء لسبب تتركه، ولأنها مفطرة بعذر كالحائض، ولأن التكفير بالفطر إنما يجب على وجه الهتك، فإذا لم يكن هتك لم يجب، اعتباراً بالحامل والمريض. [660] مسألة: وفي المرضع روايتان. فوجه الوجوب أن العذر ليس بموجود بها، وإنما هو لأجل غيرها، فضعف أمرها عن الحامل والمريض. ووجه النفي ما ذكرناه في الحامل. [661] مسألة: لا إطعام على الشيخ الهرم.، خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي؛ لأنه مفطر بعذر، فلم يلزمه إطعام كالمريض والمكره، ولأنه مفطر لا يلزمه القضاء، فلم يلزمه إطعام كالطفل، ولأن القضاء إذا لم يكن لاتصال العذر فلا يجب بفواته إطعام، كالمريض والمسافر إذا اتصل به المرض إلى أن مات، ولأن الإطعام في الأصول يجب في الصيام لتأخر الصوم أو القضاء، فأما لسقوطه جملة فليس في الأصول كالطفل. [حكم القبلة] [662] مسألة: القبلة للذة تكره للصائم. خلافاً لمن قال: لا تكره. وللشافعي في تفريقه بين من تحرك القبلة شهوته ومن لا تحركها؛ لأن القبلة

حكم المغمى عليه

والمباشرة من دواعي الوطء، فلا بد من أن تثير الشهوة، فتدعو إلى الازدياد والإكثار ويَجُرُّ ذلك إلى فساد الصوم، ولأنها عبادة حرم فيها الوطء، فجاز أن يتعلق المنع بالقبلة كالحج. [حكم المغمى عليه] [663] مسألة: إذا أغمي عليه قبل الفجر وكان قد نوى الصوم ثم دام به إلى أن طلع الفجر، فإن صيامه لا ينعقد على وجه، سواء أفاق بعد الفجر بيسير أو كثير أو دام به فلم يفق أصلا. وعند أبي حنيفة: أنه يجزيه، وللشافعي فيه أقاويل كثيرة، وبين أصحابه خلاف في حصرها. فدليلنا أن الإغماء معنى يسقط فرض الصلاة، فوجب إذا طرأ قبل الفجر ودام به إلى أن طلع أن يمنع انعقاد الصوم كالحيض والنفاس، ولأنه يوم طلع فجره وهو مغمى عليه، فمنع انعقاد صومه، أصله الثاني والثالث، ولأن الصوم لا بد له من نية، ولا تصح النية إلا من مكلف، واستدامتها من طريق الحكم واجبة، فوجب أن يكون الناوي حال الدخول في الصوم ممن تصح منه النية ليكون بمنزلة من ابتدأها، والإغماء يمنع التكليف فلا تصح النية معه، ولا يلزم عليه النوم لأنه معتاد. [664] مسألة: إذا أغمي عليه بعد الفجر لم يفسد صومه، وقال الشافعي في بعض أقاويله: إن الإغماء يضادّ الصوم كالحيض وإليه ذهب القاضي إسماعيل، فدليلنا أن الإغماء مرض، فإذا طرأ على الصوم لم يفسده، كسائر الأمراض. [665] مسألة: الإغماء والجنون لا يمنعان وجوب الصوم، وإنما يمنعان أداءه، فإذا أفاق لزمه قضاؤه، سواء كان قبل البلوغ أو بعده، أفاق قبل انقضاء الشهر أو بعده. وقال أبو حنيفة، إن أفاق في بعض رمضان قضاه كله، وإن أفاق بعد انقضاء الشهر فلا قضاء عليه وقال الشافعي: إن

الأكل مع الشك في طلوع الفجر

أفاق بعد انقضاء الشهر فلا قضاء عليه وإن أفاق في بعضه صام ما أدرك ولم يقض ما فات، وعنده أن المجنون لا يقضي صوماً فاته على وجه، فدليلنا قوله عز وجل: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}، وهذا شاهد الشهر مريضاً، فلزمه عدة من أيام أخر، ولأن الجنون لا ينافي وجوب الصوم؛ لأنه معنى يزيل العقل حال الحياة، فلم يمنع وجوب الصوم كحال الإغماء والنوم والسكر. [الأكل مع الشك في طلوع الفجر] [666] مسألة: إذا أكل شاكا في طلوع الفجر، ثم لم يتبين له هل أكل قبل الفجر أو بعده، قال شيوخنا: يجيء على أصل مالك أن يلزمه القضاء واجبا. وقال أبو حنيفة، والشافعي لا قضاء عليه، فدليلنا أن الاتفاق على أنه إذا أكل شاكا في غروب الشمس أن عليه القضاء، فكذلك شكه في طلوع الفجر بعلة حصول الأكل في وقت شك هو ليل أو نهار. [السواك والحجامة] [667] مسألة: لا يكره السواك للصائم في جميع اليوم. خلافاً للشافعي في قوله: إنه يكره بعد الزوال، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (خير خصال الصائم السواك)، ولم يفرق، ولأن مالا يكره للصائم قبل الزوال لا يكره له بعده، كالمضمضة، وعكسه القبلة، ولأنه وقت للصوم كأول النهار، ولأن ما يقصد به تبقية الشعث ومنع رفعه، لا يختص ببعض أوقات العبادات كالإحرام بالحج.

الفطر من أجل السفر

[668] مسألة: الحجامة لا تفسد الصوم. خلافاً لأحمد بن حنبل وغيره، لأنه - صلى الله عليه وسلم - (احتجم وهو صائم)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث لا يفطرن الصائم)، فذكر (الحجامة) وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - مر بجعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - يحتجم في رمضان فقال: (أفطر هذان)، ثم أرخص بعد ذلك في الحجامة للصائم). ولأنه دم لا يوجب الغسل كالرعاف، ولأنه لو خرج من موضع الجراحة لم يفطر والحجامة جراحة. [669] مسألة: يكره أن يستاك بعود رطب له طعم، خلافاً للشافعي لأنه إذا كان له طعم لم يؤمن أن ينزل إلى حلقه فيفسد صومه فكان مكروها له كذوق القدر. [الفطر من أجل السفر] [670] مسألة: إذا سافر سفراً يجوز له قصر الصلاة فيه، كان بالخيار بين أن يصوم أو يفطر. خلافاً لمن قال: لا يصح صوم رمضان في السفر، وهو داود وبعض أهل مذهبه. لقوله عز وجل: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان حتى بلغ الكديد ثم أفطر). وقال أنس: (سافرنا معه - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على

الصائم) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من كانت له حمولة ويأوي إلى شعب فليصم رمضان حيث أدركه). ولأنها حال يصح فيهاصوم غير رمضان، فصح فيها صوم رمضان كالحضر؛ ولأنه مكلف يصح صومه في رمضان، فوجب أن يجزيه عنه كالحاضر؛ ولأن الفطر رخصة بدليل أنه لا يجوز إلا لعذر، والرخص تأثيرها الإباحة دون منع الأصل كالصلاة قاعداً. [671] مسألة: الصوم للمسافر أفضل من الفطر. خلافاً للشافعي لقوله عز وجل: {فعدة من أيام أخر} ثم قال: {وأن تصوموا خير لكم} وقوله: (فليصم رمضان حيث أدركه) ولأنه إذا أفطر فقد أخّر الصوم عن وقته، والإتيان بالفروض في أوقاتها أفضل؛ ولأنه يأمن الفوات ويحوز الثواب وتبرأ ذمته؛ ولأن الصوم عزيمة والفطر رخصة، والعزيمة أفضل من الرخصة ما لم تَعْدُ بضرر. [672] مسألة: لا يصح أن يصام رمضان عن غيره بوجه، من نذر أو قضاء أو تنفل، أو أي شيء كان، وقال أبو حنيفة: يجوز في السفر أن يصومه قضاء ونذراً وتطوعاً. فدليلنا أنه يصوم رمضان عن غيره فلم يصح، أصله إذا كان حاضراً. [673] مسألة: المسافر إذا قدم في بعض اليوم مفطراً، والحائض

تطهر، لا يلزمهما الإمساك بقية اليوم، ولا يكره لهما الأكل. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: يلزمهما الإمساك، والشافعي في كراهته الأكل؛ لأن كل من أكل بعذر يبيح له رمضان ظاهراً وباطناً، فإن حكم الإباحة لا يزال في بقية اليوم، أصله لو استدام السفر، ولأنه يوم جاز له الأكل في أوله بغير شبهة، فجاز له الأكل في آخره كسائر الأيام. ولأن صوم اليوم الواحد عبادة واحدة، بدليل أن أوله يفسد بفساد آخره، فلا يجوز أن يكون آخرها واجباً. وأولها غير واجب، كالصلاة الواحدة. [674] مسألة: إذا نوى الصوم في الحضر، ثم سافر، لم يجز له الفطر. خلافاً لأحمد بن حنبل، لقوله عز وجل: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}، ولأنها عبادة تختلف بالسفر والحضر، وإذا تلبس بها حاضراً، ثم سافر، وجب أن يغلب حكم الحضر، كما لوا فتتح الصلاة في سفينة ثم اندفعت به الريح؛ ولأن موضوع الأصول أن للتلبس بالعبادة تأثير الانحتام وإن لم يكن ذلك قبل التلبس، اعتباراً بالحج والعمرة، وليس في الأصول سقوط الانحتام بالتلبس إلى التخيير المعلق بمشيئة الفاعل. [675] مسألة: إذا أنشأ المسافر الصوم في رمضان ثم أفطر متعمدا ففيها روايتان: إحداهما: وجوب الكفارة. والأخرى: نفيها، وكذلك إذا صام في الحضر ثم سافر، فوجه الوجوب وهو قول الشافعي، قوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي لما قال له وقعت على أهلي في رمضان فقال (أعتق رقبة) ولم يستفصل؛ ولأنه أفطر في يوم من رمضان لزمه صومه على وجه الهتك، فلزمته الكفارة كالحاضر، ووجه نفيها، وهو النظر قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وضع عن المسافر الصوم وشطر

تأخير القضاء حتى دخل رمضان آخر

الصلاة) وهذا ينفي الكفارة؛ ولأن حال السفر حال إباحة الفطر ينتفي الانحتام معها، وذلك مانع من وجوب الكفارات؛ ولأن من شرط وجوبها انتفاء سبب الإباحة وإلا كانت مناقضة. [تأخير القضاء حتى دخل رمضان آخر] [676] مسألة: إذا أخر قضاء رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر، صام هذا الداخل ثم قضى ما عليه، وأطعم عن كل يوم مداً. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: ليس للقضاء وقت محصور، ولا فديه عليه؛ لأنها عبادة يدخل في جبرانها المال، وإذا أخرها بتفريط حتى فات وقتها لزمته كفارة كالحج. ويدل على ذلك أن وقت القضاء محصور، لقول عائشة: (إنه كان ليكون علي قضاء من رمضان فما أستطيع أن أقضيه حتى يدخل شعبان)، ولم ينكر ذلك عليها أحد، ولأنها عبادة وجبت على البدن فتكرر وجوبها، من شرطها النية، فإذا أخرها حتى دخل وقت عبادة أخرى من جنسها كان مفرطا عاصيا كالصلاة. [677] مسألة: فإن مات وقد دخل رمضان آخر، ولم يقض الأول فأوصى بأن يطعم عنه، فإنه يطعم عنه لكل يوم مدا، وحكى الإسفراييني عن أصحابهم أنه يطعم عن كل يوم مدين، مداً للتأخير ومدا للفوات، فدليلنا: أن عبادات الأبدان إذامات قبل أدائها لم تجب عليه لفواتها بالفوت إطعام كسائر العبادات. [678] مسألة: إذا مات وعليه صوم واجب لم يلزم ورثته الإطعام إلا أن يوصي بذلك. خلافاً للشافعي، لأنها عبادة عن البدن، فإذا مات لم يلزم بفواتها الإطعام كالصلاة والحج.

الصوم عن الغير

[الصوم عن الغير] [679] مسألة: ولا يصوم أحد عن أحد. خلافاً للشافعي في قوله: إن مات وعليه صوم واجب صام وليه عنه، لقوله عز وجل: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} فتقديره فليصم عدة، فأوجب على المكلف أن يصومه، وأن يصوم قضاءه بنفسه، فانتفى بذلك أن يصوم عنه غيره؛ ولأنها عبادة لا يدخلها النيابة حال الحياة، فلم يدخلها بعد الوفاة كالصلاة؛ ولأنها عبادة على البدن فلم يصح أن يفعلها أحد عن غيره كالصلاة. [التتابع في صوم كفارة اليمين وقضاء رمضان] [680] مسألة: لا يلزم التتابع في صوم كفارة اليمين، وذلك يرد في كتاب الأيمان، ولا يلزم في قضاء رمضان، خلافاً لداود، لقوله عز وجل: {فعدة من أيام أخر} ولم يشترط التتابع؛ ولأنه صوم يقصر عن شهرين فلم يجب فيه التتابع كفدية الأذى. [التباس الشهور على أحد في بلد العدو] [681] مسألة: إذا التبست الشهور على أسير أو تاجر في بلد العدو أو غيرهما، اجتهد، فإن وافق صومه رمضان أجزأه، وكذلك إن وافق ما بعده، وإن وافق شعبان لم يجزه، وفي كل ذلك خلاف أما إذا بان له أنه وافق رمضان فإنه يجزيه. خلافاً للحسن بن صالح في قوله لا يجزيه، لقوله عز وجل: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهذا قد شهد وصامه؛ ولأنه أدى العبادة باجتهاد لا يصل إلى أدائها إلا به، فإذا بان له إصابتها أجزأ كالاجتهاد في القبلة.

نذر صوم يومي النحر والفطر

[682] (فصل): وإذا بان له أنه قبله فلا يجزيه، خلافاً للشافعي، لقوله عز وجل: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهذا شاهد للشهر فلزمه صومه، ولأنها عبادة محضة مؤقتة بوقت معلوم، فإذا اجتهد فبان له أنه أداها قبل وقتها لم يجزه كالصلاة؛ ولأنه صادف اجتهاده وقتا لو صامه عن تلك العبادة في تلك السنة ذاكراً لم يجزه، فوجب أن لا يجزيه مع الاجتهاد، أصله زمن الليل ويوم العيدين. [نذر صوم يومي النحر والفطر] [683] مسألة: إذا نذر صوم يوم النحر أو الفطر لم ينعقد نذره، ولم يلزمه قضاؤه، وقال أبو حنيفة: ينعقد نذره ويقضي يومين سواهما، وحكي عنه أنه إن خالف وصام انعقد صومه وأجزأه عن نذره، فدليلنا ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن صوم يومين يوم الأضحى ويوم الفطر)، والنهي يقتضي الفساد؛ ولأنه صوم في وقت منهي عنه لِحقِّ الله عز وجل، فلم يصح كأيام الحيض، فإذا ثبت أن صومهما لا يصح ثبت أنه معصية، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا نذر في معصية)؛ ولأنه وقت لا يصح صومه لحق الله عز وجل، فلم ينعقد صومه كالليل. [صوم أيام التشريق للمتمتع] [684] مسألة: للمتمتع إذا عدم الهدي أن يصوم أيام التشريق. خلافاً

وجوب إتمام صوم التطوع

لأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، لقوله عز وجل: {فصيام ثلاثة أيام في الحج}، وروي أن عمر قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم أيام العشر أن يصوم أيام التشريق، ولأن كل يوم لا يصلى فيه صلاة العيد فإنه يصح صومه مع سلامة الصائم، أصله سائر الأيام. [وجوب إتمام صوم التطوع] [685] مسألة: إذا دخل في صوم التطوع فقد لزمه إتمامه، فإن أفطره بغير عذر فعليه القضاء، وإن أفطره لعذر فلا قضاءعليه، وقال الشافعي: هو بالخيار إن شاء أتمه وإن شاء أفطره، ولا قضاء عليه، وقال أبو حنيفة: يلزمه إتمامه، وعليه القضاء إذا أفطره بعذر وغير عذر، فدليلنا على الشافعي في وجوب الإتمام قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وقوله عز وجل: {ولا تبطلوا أعمالكم}، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تصم المرأة يوما من غير رمضان وزوجها شاهد إلا بإذنه) فلو كان لها أن تفطر لكان للزوج أن يفطرها للحق الذي له في

إلغاء النية أثناء الصوم

وطئها، ولأن الدخول في العبادة سبب يجب به حج التطوع، فوجب أن يجب به صوم التطوع كالنذر، ولأنها عبادة مقصودة لنفسها فوجب إذا دخل في نفلها أن يلزمه إتمامها كالحج والعمرة، ودليلنا على وجوب القضاء حديث عائشة وحفصة أنهما، أصبحتا صائمتين متطوعتين فأهديت لهما هدية، فأفطرتا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (اقضيا يوماً مكانه)؛ ولأنها عبادة مقصودة في نفسها، فجاز أن يجب القضاء على مفسد نفلها كالحج والعمرة، ولأنا قد اتفقنا على أنه لو تصدق بصدقة وقبضها المتصدق عليه، ثم ارتجعها فإن عليه ردها، كذلك الصوم؛ لأن كل واحد منهما يلزم بالنذر وإذا دخل فيه بنية النفل لزمه. [686] (فصل): ودليلنا على أبي حنيفة قوله - صلى الله عليه وسلم - لأم هانئ: (وإن كان من تطوع فلا قضاء عليك)، وقد ثبت أن هذا لا يكون مع عدم العذر، فصح أنه مع العذر، ولأنه لابد أن يكون للفرض مزية على النفل في الإيجاب، فلو ألزمناه القضاء مع العذر وغيره لاستوى النفل والفرض، ولأن الحج والعمرة آكد من سائر العبادات، وقد ثبت أن له أن يتحلل متى صده العدو عن البيت ولا قضاء عليه في التطوع، فكان الصلاة والصيام بمثابتها. [إلغاء النية أثناء الصوم] [687] مسألة: وإذا رفض الصوم، واعتقد الخروج منه، بطل صومه، قاله الشيخ أبو بكر. وقال سحنون: من نوى أن يفطر في نهار رمضان فإنما يقضي استحباباً، وهذا يدل على أنه لا يفطر عنده حقيقة، فدليلنا أن النية

صوم يوم الجمعة وحده

أحد ركني الصوم فلزمه استدامتها مع الإمساك، ونيته قطع الصوم رفع لها، فهو كالأكل في أنه يفسد الصوم. [صوم يوم الجمعة وحده] [688] مسألة: صوم يوم الجمعة وحده جائز غير مكروه. خلافاً للشافعي؛ لأنه يوم في الأسبوع كغيره من الأيام؛ ولأن كل يوم لم يكره صومه مع ضم غيره إليه لم يكره بانفراده، أصله سائر الأيام. -وبالله التوفيق-.

كتاب الاعتكاف

كتاب الاعتكاف [ليلة القدر] [689] مسألة: ليلة القدر في العشر الأواخر، وليس فيها تعيين ثابت. خلافاً لمن عين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (التمسوها في العشر الأواخر)، وروي: (من كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)، وهذا ينفي التعيين [690] مسألة: وهي باقية غير مرتفعة بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -. خلافاً لمن قال إنها زائلة، لقوله: (التمسوها في العشر الأواخر)، فعم كل وقت، ولأنها من شعائر الإسلام كسائر الشعائر. [حكم الاعتكاف] [691] مسألة: الاعتكاف جائز في كل مسجد. خلافاً لما يحكى عن حذيفة أنه لا يجوز إلا في المساجد الثلاثة، وعن غيره أنه لا يجوز

اعتكاف المرأة في المسجد

إلا في الجامع، لقوله عز وجل: {وأنتم عاكفون في المساجد}، فعم الثلاثة وغيرها، ولأنه مسجد بني للصلاة والجماعة كالمساجد الثلاثة. [اعتكاف المرأة في المسجد] [692] مسألة: لا يصح اعتكاف المرأة إلا في المسجد. خلافاً لأبي حنيفة في إجازته أن تعتكف في مسجد بيتها؛ لأن كل من أراد الاعتكاف لم يجز له في غير المسجد، أصله الرجل، ولأن كل موضع لم يجز للرجل أن يعتكف فيه، لم يجز للمرأة كالحمام وسائر الطرقات، ولأن كل ما كان شرطا في الاعتكاف للرجل، كان شرطا في اعتكاف المرأة، أصله الصوم؛ ولأنه موضع يجوز لها اللبث فيه مع الجنابة والحيض كسائر المواضع. [اشتراط الصوم للاعتكاف] [693] مسألة: لا يصح الاعتكاف بغير صوم. خلافاً للشافعي، لقوله عز وجل: {وأنتم عاكفون في المساجد} فقصر الخطاب على الصائم، فلو لم يكن الصوم من شرط الاعتكاف لم يكن لذلك معنى. ولأنّ أكثر ما فيه أن يكون مجملاً وقد بينّه النّبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله فروي أنه اعتكف صائماً ولم ينقل أنّه اعتكف مفطراً وروي أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية يوماً وليلة عند الكعبة، فسأل النّبي - صلى الله عليه وسلم -، عن ذلك فقال: "اعتكف وصم"

الاعتكاف إذا تخلله يوم الجمعة

ولأنّ النذور محمولة على أصولها في الفروض، فما لا أصل له في الفروض لا يصير واجباً بالنذر، وقد اتفق على لزوم الاعتكاف بصوم مع النذر، فدلّ ذلك على أنّه إنّما لزمه لأنّه يتضمّن الصوم الذي له أصل في الوجوب، ولأنّه لبث في مكان مخصوص فلم يكن قربة في نفسه إلا بانضمام معنى آخر إليه هو قربة أصله الوقوف بعرفة. [الاعتكاف إذا تخلله يوم الجمعة] [694] مسألة: إذا نذر اعتكاف أيام يتخلّلها يوم الجمعة لم يعتكف إلا في الجامع، فإن اعتكف في غيره ثم خرج إلى الجمعة انتقض اعتكافه، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله عزّ وجل: {وأنتم عاكفون في المساجد}، وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اعتكف لا يخرج إلاّ لحاجة الإنسان، ولأنّه كان يمكنه الاحتراز من ذلك بأن يعتكف في المسجد الجامع، فإذا لم يفعل فقد قطع التتابع باختياره من غير عذر، فصار كما لو خرج لحاجة هو مستغن عنها. [الخروج من المسجد أثناء الاعتكاف] [695] مسألة: إذا خرج من المسجد لغير حاجة بطل اعتكافه، أقام قليلاً أو كثيراً، وقال أبو يوسف ومحمد: إن أقام خارج المسجد أكثر النهار بطل اعتكافه، وإن أقام أقل النهار لم يبطل، فدليلنا ما قدّمناه، ولأنّه خرج من المسجد مع عدم الحاجة فأشبه إذا قام أكثر النهار. [696] مسألة: فإن خرج من المسجد لأكل طعام بطل اعتكافه،

التتابع في الاعتكاف

خلافاً لبعض الشافعية؛ لأنّه قد فعل فعلاً غير جائز لا ضرورة به إلى الخروج لأجله، فأشبه سائر ما يستغنى عنه. [التتابع في الاعتكاف] [697] مسألة: إذا نذر أن يعتكف شهراً، ولم يقل متتابعاً ولا مفترقاً فيلزمه، بإطلاق النذر التتابع، خلافاً للشافعي؛ لأنّ اسم الشهر يقع للّيل والنهّار، فإذا نذر اعتكاف شهر، وأطلق الاعتكاف، يصحّ في جميع أزمنة الشهر، يلزمه أن يوالي التتابع اعتباراً بالسكنى وترك الكلام، ولأنّه حكم علق على مطلق اسم الشهر، ويصحّ في جميعه متوالياً، فكان إطلاقه يقتضي التتابع أصله العدّة والإيلاء. [الوطء عمداً أثناء الاعتكاف] [698] مسألة: الوطء عمداً يفسد الاعتكاف، لا خلاف أعلمه، ولا كفارة فيه، خلافاً لبعض التابعين؛ لأنّها عبادة لا يدخل في جبرانها المال فلم يجب بإفسادها الكفارة كالصلاة. [القبلة واللمس أثناء الاعتكاف] [699] مسألة: القبلة واللّمس للّذة يفسد الاعتكاف أنزل أو لم ينزل، خلافاً للشافعي في قوله: لا يفسده على وجه، ولأبي حنيفة في قوله: إن أنزل أفسد وإن لم ينزل لم يفسد، فدليلنا على الشافعي قوله عزّ وجل: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}، فعمّ، ولأنّها مباشرة للّذة كالإيلاج، ودليلنا على أبي حنيفة، ما قدمناه، ولأنّ كلّ مباشرة لو قارنها الإنزال لم يصحّ الاعتكاف معها، فكذلك إذا عريت منه كالإيلاج.

الوطء نسيانا أثناء الاعتكاف

[الوطء نسياناً أثناء الاعتكاف] [700] مسألة: إذا وطئ ناسياً أفسد اعتكافه، خلافاً للشافعي؛ لقوله عز وجل: {ولا تباشروهن}، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولأنّه حصل واطئاً في الاعتكاف كالعامد. [اعتكاف الزوجة بعد إذن زوجها] [701] مسألة: إذا أذن لزوجته أو لعبده في الاعتكاف لم يكن له إخراجهما منه بعد التلبّس به، خلافاً للشافعي في قوله: له ذلك في الزوجة، ولأبي حنيفة، إنّ له ذلك في العبد والأمة وليس له في الزوجة. فدليلنا على الشافعي أنّه لمّا أذن لهما في فعل هذه العبادة فقد ترك لهما حقّه من الوطء والخدمة، فلم يكن له أن يرجع، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: (لا تعد في صدقتك)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحلّ لواهب أن يرجع في هبته)، ولأنّه عقد على نفسه تمليك منافع كان يملكها بحق الله عز وجل، فلم يكن له الرجوع فيها، أصله إذا أذن له في صلاة الجمعة، وشرع فيها، ولأنّه أذن لهما في التلبس بعمل قربة مقصودة، فلم يكن له فسخها عليهما أصله الحجّ. وعلى أبي حنيفة، لأنّه يملك منعهما، وكلّ من ملك منع شخص من فعل عبادة، لم يكن له فسخها عليه إذا أذن له فيها أصله الزوجة. [الاشتراط في الاعتكاف] [702] مسألة: ولا يجوز أن يشترط في الاعتكاف ما ينافيه من

وقت الدخول إلى المعتكف

الخروج لعيادة مريض أو لشغل يعرض له أو ما أشبه ذلك، خلافاً للشافعي؛ لأنه شرط في العبادة ما ينافيها فلم يصح، أصله إذا اشترط في الصلاة أن يأكل إذا احتاج أو يتكلم. [وقت الدخول إلى المعتكف] [703] مسألة: ويدخل إلى معتكفه قبل غروب الشمس، لأنّ الليلة تابعة ليومها في حكمه، ألا ترى أنّ ليلة رمضان تابعة له وليلة الفطر تابعة له، فإن لم يفعل، ودخل قبل الفجر، قال شيوخنا: أجزأه، لأنّ الاعتكاف الحقيقي يكونبالنهار، وإنّما يكون معتكفاً في الليل الذي قد سبقه نهار ثان بعده نهار فيكون متخللاً بين يومي اعتكاف. [704] مسألة: وإذا نوى نذر اعتكاف يومين متتابعين لزمه اعتكاف ليلة اليوم الأول من طريق الاستحباب، والليلة بين اليومين إيجاب، وقال أبو حنيفة: يلزمه اعتكاف الليلتين، فدليلنا، أنّ الليل يكون معتكفاً فيه بحكم التبع، ولا يصح وجود التبع قبل حصول المتبوع، فأما الليلة المتخللة بينهما فيلزمه اعتكافها بحكم التتابع، بحصول الصوم قبلها وبعدها. [أقل ما يجزىء في الاعتكاف] [705] مسألة: لا يصح الاعتكاف أقل من يوم، خلافاً لبعض أصحاب أبي حنيفة أنّه قد يكون ساعة؛ لأنّ الصوم لمّا كان شرطاً في صحّة الاعتكاف وجب أن يكون أقل زمانه ما يصح فيه شرطه، ألا ترى أن الوقت إذا ضرب لإيقاع الصلاة فيه كان أقلهّ ما يستغرق فعلها وبالله التوفيق. تم كتاب الجزء الأول من الإشراف يتلوه المناسك

كتاب المناسك في الحج

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليماً كتاب المناسك في الحج [الاستطاعة] [706] مسألة: والاستطاعة معتبرة بحال المستطيع، فمن قدر على المشي ببدنه لزمه الحج، ولم يقف وجوبه عليه على راحلة، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله عز وجل: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}، فعم، ولأنّه قادر على الحج من غير خروج عن عادته، ولا بد له كالواجد للرّاحلة، واعتباراً بأهل الحرم، بعلّة تمكنه من الوصول إلى البيت وفعل المناسك من غير مشقّة فادحة. [707] مسألة: المعضوب الذي لا يمْتسك على الراحلة لا يلزمه أن يحجّ غيره من ماله، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله عزّ وجل: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}، معناه أن يحجّوا البيت، فأخبر عن صفة التكليف، وهي أن يفعل الحجّ بنفسه فانتفى بذلك وجوبه على خلاف هذه الصفة، ولأنّ كلّ عبادة تعلّق فرضها بالبدن مع القدرة، لا تنتقل إلى غيره مع العجز كالصلاة والصوم.

الحج عن الميت

[الحج عن الميت] [708] مسألة: إذا مات قبل أن يحجّ لم يلزم الحجّ عنه من رأس ماله ولا من ثلثه إلاّ أن يوصي بذلك فيكون ذلك في ثلثه، وقال الشافعي يلزم الحجّ عنه من رأس ماله، أوصى أو لم يوص، ودليلنا قوله عزّ وجلّ: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}، معناه أن يحجّوا وذلك يمتنع مع الموت، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً) ولو لزم أن يحجّ عنه من ماله لم يغلّظ هذا التغليظ، ولأنّها عبادة على البدن فلم يلزم أداؤها عنه في المال كالصلاة، ولأنّها عبادة تدخلها الكفارتان فلم تلزم بعد الموت كالصلاة. [حج المرأة التي لا محرم لها] [709] مسألة: إذا وجدت المرأة صحبة مأمونة ولا محرم لها لزمها الحجّ، خلافاً لأبي حنيفة في قوله إن المَحْرَم من الاستطاعة، لأنه سفر مفروض كالهجرة، ولأن وجود من تأمنه يقوم مقام المَحْرم. [الحج عن النفس قبل الحج عن الغير] [710] مسألة: يكره لمن لم يحجّ عن نفسه أن يحجّ عن غيره، فإن فعل انعقد إحرامه وصحّ ولم ينقلب عنه، خلافاً للشافعي في قوله لا يصحّ وأنّه ينقلب عنه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإنّما لامرئ ما نوى) وقوله: (أرأيت لو

النيابة والإجارة على الحج

كان على أبيك دين فقضيتيه أكان ينفعه؟) قالت: نعم، قال: (فدين الله أحق) ولم يشترط أن تكون حجّت عن نفسها، ولأنّ كلّ من صحّ منه أن يحج عن نفسه صحّ منه في تلك الحال أن يحجّ عن غيره، أصله من أسقط الفرض عن نفسه، ولأنّ كل ما جاز أن يفعله عن غيره إذا لم يكن عليه فرض مثله، جاز أن يفعله عنه إن كان عليه فرض مثله، أصله قضاء الدين ولأنّه أحرم بالحجّ عن شخص لا ينقلب عن غيره، أصله إذا أحرم عن نفسه أنّها لا تنقلب عن غيره، لأنّ بقاء فرض عليه لا يمنعه أن يفعل ما ليس بفرض من جنسه، أصله الصوم والصلاة. [النيابة والإجارة على الحج] [711] مسألة: تصحّ النّيابة والإجارة على الحجّ، خلافاً لأبي حنيفة، لأنّها عبادة تتعلّق بالمال تصحّ النيابة فيها، فصحّ أخذ الأجرة عليها كأداء الصدقة وتفريقها، ولَسْنَا نعني بصحّة النّيابة أنّ الفرض يسقط عنه بحجّ الغير وإنّما نريد التطوّع، ولأنّ النيابة لمّا صحّت فيها بغير أجرة جازت بالأجرة كالكفارة والديون. [الحج على الفور] [712] مسألة: الحجّ على الفور، لا يجوز تأخيره للقادر عليه، المتمكن من فعله إلاّ من عذر، وقال الشافعي، على التراخي إن شاء أداه وبرئت ذمته، وإن شاء تركه ما عاش، فشرط العزم على أدائه في المستقبل من غير وقت يتعيّن عليه يأثم بتأخيره عنه، فإذا مات قبل أن يحجّ فالظّاهر من مذاهب القائلين بالتراخي أن لا إثم عليه. فالكلام في هذه المسالة في

موضعين، أحدهما في حكم الأوامر المطلقة هل هي على الفور أو التراخي، والآخر الكلام عن عين المسألة. فدليلنا على أنّ الأمر على الفور أنّ الأمر يقتضي إيقاع الفعل، ولا بد للفعل من زمان يقع فيه، وليس في اللّفظ ذكر لزمان معيّن، ووجدنا الأفعال تختلف أحكامها باختلاف أوقاتها، فيكون الفعل في وقت طاعة، وفي غيره معصية، وفي وقت قربة، وفي آخر مأثماً، لم يثبت له وقت إلاّ بدليل، واتفق على أنّ الوقت الأوْل بعد الأمر وقت له فسلّمناه للدليل، ولم يثبت ما عداه وقتاً إلا بدليل، ولأنّ العزيز إذا أمر عبده بشيء فلم يفعل حسن منه لومه وذمّه، والاعتذار إلى من يلومه بأنّه أمر فلم يفعل، ولا يحسن الردّ عليه بأن يقال له سيفعل في ثاني حال، فدلّ ذلك على أنّ الإطلاق يفيد التقديم ويمنع التأخير، ولا يمكن منع ذلك بأن يقال إنّه لا يحسن إلا فيما قارنته قرينة تفيد التعجيل، لأن ذلك يمنع التعلق بظاهر صيغته منه وموضوع بنية الأمر أو عموم أن وجوب أو أيّ شيء كان، وما أدّى إلى ذلك فباطل. ولأنّ الأمر لمّا اقتضى الإيقاع وكان الترك منافياً له، وجب فعله عقيب الأمر، ولأنّ تأخيره لو كان جائزاً لم يخل أن يكون إلى غاية، أوْ لا إلى غاية، وفي إثبات الغاية توقيت، وذلك خلاف مسألتنا، لأنّ كلامنا في العمل المطلق دون المؤقت، وفي نفي الغاية إحالة، لأنّ المكلّف إذا مات قبل الفعل فلا يخلو أن يكون مات آثماً أو غير آثم، وفي تأثيمه وجوب الجمع بين جواز الترك، والمعصية به، وأن يحظر الله على المكلف ترك الفعل في

أشهر الحج

وقت لا يبنّينه له، وذلك غير صحيح، وفي نفسي التأثيم إخراج الفعل عن الوجوب إلى الندب، لأنّ النفل هو الذي يكون للمكلّف تركه إلى غير إثبات غاية ولا يأثم إذا مات ولم يفعله، ولا يعصمهم من هذا إثبات العزم على إيقاعه في المستقبل؛ لأنّ في ذلك إيجاب ما لم يوجبه الأمر وإسقاط ما أوجبه من الفعل، فثبت بهذه الجملة ما قلناه. [713] فصل: وإذا ثبت ما قدّمناه أنّ الأوامر المطلقة تقتضي الفور فكذلك الإيجاب المطلق وقد قال الله عز وجل: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}، فيجب أن يكون ذلك على الفور، ويدلّ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (حجّوا قبل أن لا تحجّوا)، وهذا تأكيد يدلّ على وجوب الفور واعتباره، وقوله: (من لم يمنعه من الحجّ حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً) وهذا مقرون من الوعيد المتأكد بأبلغ ما يكون، وقوله: (من أراد الحجّ فليتعجّل)، وهذا تصريح في الفور، ولأنّ إيجاب الحجّ معلّق بشرط، والأصل فيما علّق بالشروط لزومه عقيب الشرط بلا فصل، كقوله: من دخل الدار فأعطه درهماً، ولأنّها عبادة متعلّقة بالبدن فلم يعتبر في تقديمها خشية العجز أصله الصلاة، ولأنّها عبادة لها تحريم وتحليل فلم يعتبر فعلها بحال خوف فواتها كالصلاة. [أشهر الحج] [714] مسألة: أشهر الحجّ ثلاثة، شوال وذو القعدة وذو الحجّة،

الإحرام بالحج قبل أشهره

وقال أبو حنيفة عشرة أيام من ذي الحجّة، وقال الشافعي تسعة أيام، فالخلاف بينهما ومعهما في يوم النحر، فدليلنا قوله عز وجل: {الحج أشهر معلومات}، وأقلّها ثلاثة كاملة، ولأنّ كلّ شهر كان أوّله من شهور الحجّ فكذلك آخره، أصله شوّال، وفائدة ذلك تعلّق الدم بتأخير طواف الإفاضة بخروجه. [الإحرام بالحج قبل أشهره] [715] مسألة: يكره أن يحرم بالحج قبل أشهره، فإن فعل لزمه، خلافاً للشافعي في قوله: إنه ينعقد عمرة. لقوله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله}. قالت الصحابة: (إتمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك) ولم يفرقوا وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أراد الحج فليتعجل). ولأن كل زمان جاز الإحرام فيه بالعمرة جاز الإحرام فيه بالحج، أصله أشهر الحج، ولأنه أحد الميقاتين فجاز الإحرام قبله، أصله ميقات المكان، ولأن الدخول سبب لإيجابه فلم يختص بوقت كالنذر ويدل على أنه لا ينقلب عمرة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإنما لامرئ ما نوى)، وهذا نوى الحج ولم ينو العمرة، ولأن الدخول سبب الإيجاب كالنذر، وقد ثبت أن من نذر حجة لا تلزمه عمرة، كذلك إذا دخل فيها، ولأنها عبادة تشتمل على طواف وسعي لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}، ولأن الصحابة تمتعوا وقرنوا وأفردوا، واختلف في حج النبي - صلى الله عليه وسلم -

قران المكي

وإن كان الظاهر أنه أفرد. [قران المكي] [716] مسألة: ويصح من المكي القران، ولا دم عليه، خلافاً لعبد الملك؛ لأنه لا يلزمه في الأصل سفران فسقط أحدهما، وهذا هو الأصل في وجوب الدم، فوجه قول عبدالملك أنه قد أسقط أحد العملين فلزم الدم لذلك. [التمتع] [717] مسألة: ليس من شرط التمتع أن يبتدئ العمرة في أشهر الحج، خلافاً للشافعي في أحد قوليه؛ لأن الغرض ليس هو استيفاء جميع عملها، وإنما هو عمل غير الحج في أشهر الحج، سواء كان جميع العبادة أو بعضها، ولأن فعل العمرة في أشهر الحج حاصل منه، كما لو ابتدأ الإحرام بها في أشهر الحج. [718] مسألة: لا يجوز صوم التمتع قبل الفراغ من العمرة خلافاً لأبي حنيفة، لقوله عز وجل: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج}. ومن لم يحرم بالحج فليس بمتمتع، ولا يلزمه الهدي، فأحرى أن لا يجوز له الصوم الذي هو بدل عنه، ولأن قوله: (في الحج) يقتضي أن يكون بعد التلبس به، وما لم يحرم به فليس بمتلبس، ولا هو في الحج، ولأنه صوم علق وجوبه بشرط، فلم يجز تقديمه على شرطه، أصله الكفارة، ولأنه صوم عن التمتع فلم يجز قبل التلبس بالحج أصله السبعة، ولأنه صوم جعل بدلاً عن إخراج

جبران كالصوم في الظهار والقتل، ولأنه جبران للتمتع فلم يجز قبل الإحرام بالحج كالهدي. [719] مسألة: لا يجوز نحر الهدي بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج، خلافاً للشافعي. لأنه لما لم يحرم بالحج فليس بمتمتع، ولا يجوز قبل دخول الصفة الموجبة له، أصله قبل أن يحرم بالعمرة. [720] مسألة: ولا يجوز نحر هديه بعد الإحرام بالحج وقبل يوم النحر، خلافاً للشافعي؛ لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله}. وقد ثبت أن الحلاق لا يجوز قبل يوم النحر، فدل على أن الهدي لا يبلغ محله إلا يوم النحر والظاهر أن لا لاستغراق الجنس، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة)، ولو كان النحر جائزاً قبل يوم النحر لم يتأسف - صلى الله عليه وسلم -. ولأنه وقت لا يتحلل فيه فأشبه قبل الإحرام. [721] مسألة: إذا شرع المتمتع في الصوم بعد عدم الهدي ثم وجده، مضى على صومه، ولم يلزمه إخراجه، وقال أبو حنيفة: إن وجده وهو في صوم الثلاثة لزمه إخراجه، وإن وجده وهو في صوم السبعة لم يلزمه، فدليلنا أنه صوم يجزيه عند تعذر الهدي، فإذا تلبس به، ثم وجد الهدي لم يلزمه العود إليه كصوم السبعة، ولأنه بدل تلبس به عند عدم المبدل، مقصود في نفسه، فلم يلزمه الخروج منه بوجود المبدل، أصله بعد الشروع في السبعة، ولأنه تلبس بصوم المتعة بعد عدم أصله، فلم يلزمه الرجوع إلى الأصل عند وجود

أصله إذا وجده بعد الثلاثة والتحلل. [722] مسألة: إذا فاته صوم الثلاثة إلى يوم النحر صام أيام منى. وإن فاتته أيام منى، وقد ذكرناه صام بعدها قضاء، وقال أبو حنيفة: لا يصومها ويستقر الهدي في ذمته وقد فات عنده الصوم بدخول يوم النحر، فدليلنا أنه صوم لزمه عند عدم الهدي فجاز فعله بعد يوم النحر كالسبعة، ولأنه جبران للتمتع فلم يسقط بفوات وقته كالهدي ولأنه صوم واجب فجاز أن يفعل أداء وقضاء كصوم رمضان. [723] مسألة: العشرة أيام التي تلزم المتمتع كلها بدل من الهدي، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن الثلاثة بدل والسبعة ليست ببدل؛ لأنه صوم لزم عند عدم الهدي فكان بدلاً منه كالثلاثة. [724] مسألة: يصوم السبعة إذا رجع إلى أهله، فإن صامها في الطريق أجزأه خلافاً للشافعي في أحد قوليه، لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}، فوجب تعلقه بأول الرجوعين، لأن إضمار الرجوع إلى الحج أولى لأنه منطوق به، ولأنه قد فرغ من أفعال الحج كما لو رجع إلى أهله. [725] مسألة: وحاضرو المسجد الحرام أهل مكة نفسها، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنهم من كان دون الميقات إلى مكة، وللشافعي في قوله: إنهم من كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، ولآخرين في قولهم إنهم أهل الحرم. لقوله عز وجل: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}، فحاضري الشيء من لا يحتاج إلى تكليف مسير إليه بقطع مسافة للحصول فيه، وذلك مقصور على أهل مكة فقط لأن كل موضع ليس بمكة، فأهله لا يوصفون بأنهم حاضرو المسجد الحرام كالمدينة والعراق.

العمرة

[726] مسألة: المتمتع إذا فرغ من العمرة حل، سواء ساق الهدي أو لم يسقه، وقال أبو حنيفة لا يحل بل يحرم بالحج، ثم يحل منه ومن العمرة يوم النحر، فدليلنا أنه متمتع أكمل أفعال العمرة، فيجب أن يحل، أصله إذا لم يسق الهدي، ولأن كل زمان كان وقتاً للتحلل من النسك إذا لم يكن ساق الهدي كان وقتاً له إذا ساقه، أصله القارن من نسكه. [727] مسألة: إذا رجع إلى بلده أو إلى مثله في البعد فليس بمتمتع إن حج من عامه، خلافاً لما يحكى عن الحسن، ولأن ما قلنا مروي عن ابن عمر، ولا مخالف له. ولأن المتمتع من تمتع بإسقاط أحد السفرين وجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد، وهذا لم يفعل ذلك بل أتى بالسفرين على ما كان عليه في الأصل. [728] مسألة: الرجوع الذي يسقط عنه حكم المتمتع أن يكون إلى بلده أو بقدر مسافته في البعد، خلافاً للشافعي في قوله: إنه إن خرج إلى ميقاته فأحرم بالحج لم يكن متمتعاً. لأن التمتّع هو الترفه بإسقاط أحد السفرين، فوجب أن يعتبر موضع السفر فإن وجد مترفهاً فيه بإسقاط أحدهما فقد وجد فيه معنى التمتّع. وقد علم أن البغدادي إذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج وحل منها، ثم جاء إلى ذات عرق أو الطائف وما قاربهما، ثم أحرم بالحج، فلم يزل عنه الترفه والتمتع؛ لأنه قد جمع بين الحج والعمرة في سفر واحد، فإنّ هذا القدر لا تأثير له في المشقة عند ما كان عليه في الأصل فكان متمتعاً. [العمرة] [729] مسألة: العمرة تشتمل على طواف وسعي، فإذا أحرم بها لم

يصح انعقادها على أجزاء كالحج. [730] مسألة: الإحرام في العمرة جائز في السنة كلها، خلافاً لبعضهم، لأنها عبادة تتعلق بطواف وسعي كالحج لأنه أحد الميقاتين كالمكان. [731] مسألة: لا تكره العمرة في وقت من السنة خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنها تكره في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق؛ لأن كل وقت لم يكره إتمام العمرة فيه لم يكره إنشاؤها فيه، أصله ما عدا الأيام الخمسة، ولأن الإحرام بالعمرة عمل من أعمال العمرة فلم يختص به زمان دون زمان كالطواف والسعي. [732] مسألة: يكره أن يعتمر في السنة مرتين؛ خلافاً لأبي حنيفة والشافعي. لأنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر في ذي القعدة ثم أقام حتى دخل المحرم فاعتمر، ولأنها عبادة تشتمل على طواف وإحرام وسعي، فاقتصر حكمها في الشرع أن تفعل مرة في السنة كالحج. [733] مسألة: العمرة سنة مؤكدة. خلافاً للشافعي في قوله: إنها فريضة. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الحج فرض والعمرة تطوع). وقوله لمن سأله عن الحج أواجب هو؟ قال: نعم، قيل فالعمرة؟ قال: لا، ولأن تعتمر خير لك) ففيه أدلة: أحدها: أنه فرق بينها وبين الحج في الوجوب. والثاني:

دم القران

نصه على أنها غير واجبة. الثالث: أنه قال له: ولأن تعتمر خير لك لئلا تترك فلا تفعل، ولم يقل هذا في الحج، لأن الوجوب يتضمن تحريم الترك، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة). ومفهوم هذه الصيغة سقوط وجوبها بفعل الحج، وقوله: (من مشى إلى مكتوبة كمن مشى إلى حجه ومن مشى إلى نافلة فهي كعمرة تامة). ولأنها نسك ليس له وقعت معين، فلم يكن بانفراده فرضا، أصله الطواف، ولأن كل نسك يكون تارة منفرداً بنفسه ويكون تارة فعله بعضاً لغيره لم يكن واجباً، كالطواف المنفرد، ولأنها عبادة لا تتعلق بمكان مخصوص، ولا تتعلق بزمان معين فلم تكن واجبة بأصل الشرع كالاعتكاف. [دم القران] [734] مسألة: على القارن دم، خلافاً لمن قال: لا دم عليه، لما روت عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى عن أزواجه البقر وكن قارنات. [تفضيل الإفراد] [735] مسألة: الإفراد أفضل من التمتع والقران، خلافاً لأبي حنيفة،

حكم التمتع

وأحد قولي الشافعي؛ لأن الثابت من حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان مفرداً روته عائشة، وابن عمر، وابن عباس، وجابر. ولأن المفرد يأتي بالحج في أشهره على الكمال، ثم يأتي بالعمرة في غير أشهر الحج على الكمال، فكان أفضل من القران؛ لأن المفرد يقتصر على عمل نسك واحد فكان أفضل من التمتع والقران؛ لأن المتمتع والقارن يأتيان بالعمرة في أشهر الحج وذلك رخصة. ولأن الدم الواجب بالقران والتمتع جبران للنقص، لأنه دم متعلق بالإحرام أو يختص وجوبه بالإحرام، فأشبه الجزاء ونسك الأذى. ولأنه دم يجب بترك الميقات، فكان الواجب أنه للجبران كالدم بمجاوزة الميقات، وإذا ثبت أنه دم نقص وجبران فالإتيان بالعبادة على وجه ليس له نقص ولا جبران أفضل. [حكم التمتع] [736] مسألة: التمتع جائز، خلافاً لمن منعه، لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}.

الإحرام بعد مجاوزة الميقات

[الإحرام بعد مجاوزة الميقات] [737] مسألة: إذا جاز الميقات وهو يريد الإحرام فأحرم بعده وجب عليه الدم، ولا يسقط عنه برجوعه إلى الميقات، خلافاً للشافعي في قوله: إنه يسقط إذا رجع قبل تلبسه .... بالطواف، لأن الدم إنما لزمه بهتك حرمة الميقات وإحرامه بعده، وهذا لا ينتفع برجوعه؛ لأنه لا يقدر على أن يبتدئ الإحرام فلم يسقط الدم عنه، ولأنه معنى لا يزيل النقص الواقع في إحرامه، فلم يسقط الدم عنه، أصله سائر الأفعال، ولأنه أحرم بعد أن جاوز الميقات مريداً للإحرام، فلم يسقط الدم عنه بعوده إلى الميقات، أصله إذا تلبس بشيء من أفعال الحج؛ ولأنه قد ترك الإحرام إلى ما بعد الميقات مريداً له فأشبه إذا تمادى ولم يرجع، ولأن كل فعل من أفعال الحج لزم في موضع يؤثر الدم في تركه، فإن العود إليه بعد فواته لا يسقط الدم كالمبيت بالمزدلفة. [الإحرام قبل الميقات] [738] مسألة: المستحب أن يُحْرِم من الميقات، فإن أحرم قبله أجزأه. وقال الشافعي في أحد قوليه: يستحب له أن يحرم من دويرة أهله. فدليلنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج فأحرم من الميقات ولم يحج إلا واحدة، ولو كان الإحرام من منزله أفضل لبينه بفعله، ولأنه أحد نوعي المواقيت، فكره التقدم بالإحرام عليه، أصله ميقات الزمان. [الإحرام عند استواء الراحلة] [739] مسألة: يُحرِم إذا استوت به راحلته، خلافاً للشافعي في قوله:

انعقاد الإحرام بمجرد النية

إذا انبعثت به راحلته وأشرف على البيداء. لأن في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - (أهل حين استوت به راحلته) ولأن الاستواء على الراحلة قد حصل منه فأشبه إذا انبعثت به. [انعقاد الإحرام بمجرد النية] [740] مسألة: يدخل في الإحرام بمجرد النية، وقال أبو حنيفة: إن ساق الهدي دخل فيه بالنية وسوق الهدي، وإن لم يسق فلابد من التلبية مع النية، فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات)، ولأن كل عبادة لم يكن في آخرها نطق واجب لم يفتقر الدخول فيها إلى نطق، كالصوم، عكسه الصلاة. [استحباب تأخير الإحرام حتى تستوي به الراحلة] [741] مسألة: يستحب تأخير الإحرام بعد الركوع حتى تستوي به الراحلة. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: يحرم عقيب الركوع لما رويناه ولأن العبادة يجب أن يكون الدخول فيها عند الشروع في فعلها لا قبله. [ممنوعات الإحرام والفدية في ارتكابها] [742] مسألة: لا يجوز للمحرمة أن تلبس القفازين، خلافاً لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي. لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن لبس القفازين في الإحرام. ولأنه عضو ليس بعورة منها، فوجب أن يتعلق به حكم الإحرام في باب التغطية، أصله الوجه.

[743] مسألة: لا يغطي المحرم وجهه، وإن غطاه فلا فدية عليه، ومن متأخري أصحابنا من يقول هو على روايتين، وتحصيل المذهب أنا إذا قلنا بتحريم التغطية تعلقت الفدية، وإن قلنا بكراهيتها دون الحظر فلا فدية. [744] مسألة: إذا عدم المحرم النعلين قطع الخفين أسفل من الكعبين ولبسهما، فإن لبسهما تامين افتدى، خلافاً لأحمد بن حنبل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا أن لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين)، ففيه دليلان، أحدهما: أن الأمر بالقطع على الوجوب. والآخر: أنه استثنى من حظْرٍ لبساً على صفة وهو القطع، فما عداه على الأصل. ولأنها حال إحرام للرجل فلم يجز فيها ليس الخف التام مع القدرة على قطعه، أصله وجود النعلين. [745] مسألة: إذا لم يجد المئزر لبس السراويل وعليه الفدية، وقال الشافعي: لا فدية عليه، ودليلنا، أنه محرم ممنوع من لبس المخيط، فوجب إذا لبس السراويل أن تلزمه الفدية، أصله إذا لبسه في حال القدرة على الإزار، ولأن كل ما لو لبسه مع وجود الإزار لغير عذر لزمته الفدية، فإذا لبسه مع عدمه لا تسقط عنه كالقميص، ولأن كل ما يمنع المحرم من فعله في نفسه مما طريقه الترفه والتنعم، فإنه لا يختلف حكمه في الفدية بين العذر وعدمه، أصله التطيب وحلق الشعر. [746] مسألة: إذا تطيب ناسياً افتدى، وكذلك لو لبس فانتفع به. خلافاً للشافعي في قوله: لا فدية عليه، لأنه حصل متطيباً في إحرام أو منتفعاً باللبس، فوجب أن تلزمه الفدية، ولأن النسيان ضرب من العذر، والأعذار لا تؤثر في سقوط الفدية المتعلقة بمحظورات الإحرام كالمرض، ولأن كل ما لو فعله عامداً لزمه به الكفارة فكذلك مع السهو، أصله الوطء وقتل الصيد.

[747] مسألة: لا فدية في الرياحين إذا شمه المحرم وليس بطيب، خلافاً للشافعي؛ لأنه نبات يزرع لا يسمى طيباً فلم يتعلق به فدية كالحناء والعصفر. [748] مسألة: إذا أدخل كتفيه في القباء لزمته الكفارة، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنه لبس مخيطاً على الوجه الذي يلبس مثله في العادة كالقميص. [749] مسألة: لا يستظل المحرم على المحمل، فإن فعل افتدى، وقال أبو حنيفة، والشافعي: له أن يفعل ذلك ولا شيء عليه، فدليلنا ما روي أن عمر رأى محرماً قد استظل في محمله فمنعه، وقال: أضح لما خرجت له، وقد روي مرفوعاً، ولأنه تعمّده ليُكِنّ رأسه من حر أو برد فأشبه إذا ماسه بثوب. [750] مسألة: لا يقرد المحرم بعيره، خلافاً للشافعي، لأن ابن عمر نهى عن ذلك ولا مخالف له، ولأنه من ذوات أبدان الحيوان يسير الضرر في كل أحواله، فأشبه دواب بدن الإنسان. [751] مسألة: يكره أن يتطيب قبل الإحرام بما يبقى ريحه بعده، وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا يكره. فدليلنا أنه لما منع من الطيب في الإحرام لئلا يدعوه إلى الوطء، كان التطيب قبله بما يبقى ريحه يجعله في

معنى المتطيب حال الإحرام؛ لأن الغرض الذي يراد له الطيب هو الاستمتاع بريحه، فكره له ذلك مع عدم الضرورة إليه، ويفارق التزويج؛ لأن به ضرورة إليه، وقد نبه الله تعالى على هذا المعنى بقوله: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر}. [752] مسألة: إذا مس طيباً فعلق بيده ريحه: ولم يتلف شيئاً منه لم تلزم الفدية، وللشافعي فيه قولان، وهذا ربما بَعُد في العادة بأنه ليس تكاد تعلق الرائحة إلا مع إتلاف البعض منه، فإن صح أن الرائحة تعلق من غير إتلاف فلا فدية؛ لأنها رائحة لم يتلف معها شيء من أجزاء الطيب فلم تتعلق الفدية عليه، أصله إذا شمه من غير أن يمسه بيده. [753] مسألة: إذا حلق المحرم شعر حلال، وسلم من قتل الدواب فلا فدية عليه. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: عليه الفدية. لأنه شعر لا يختلف حكمه باختلاف المكان، فإذا لم يضمنه الحلال لم يضمنه المحرم، أصله شعر البهائم، ولأنه لو ألبسه قميصاً لم يلزمه فدية فكذلك إذا حلق شعره. [754] مسألة: والفدية تلزم في نتف الشعر، أو حلقه بمقدار ما يماط به الأذى من غير تقدير بثلاث شعرات. وقال أبو حنيفة: تجب الفدية بحلق ربع الرأس فأكثر، وقال الشافعي بثلاث شعرات، فدليلنا على أبي حنيفة أنه أزال من شعره ما أماط به الأذى عنه أو ترفه به فأشبه الربع، وعلى الشافعي أنه قدر لا يؤثر في الترفه، وإماطة الأذى كالشعرة والشعرتين. [755] مسألة: إذا حلق المحرم شعر شاربه أو غيره من بدنه فعليه الفدية، خلافاً لداود؛ لأنه محرم ترفه بإزالة الشعر عنه كما لو حلق رأسه. [756] مسألة: الحلال أو الحرام إذا حلق شعر محرم أو قلم أظفاره مكرهاً أو نائماً فالفدية على الفاعل، خلافاً لأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي أن الفدية على المفعول به؛ لأنه شعر زال عنه بغير صُنْعِه كالمرض وحرق النار.

الطواف

[757] مسألة: يلبس المحرم المنطقة ويربطها على بطنه، خلافاً لقوم؛ لأن به ضرورة إلى ذلك لا مندوحة عنه، فكان مستثنى من سائر العقود. [758] مسألة: النسك والإطعام في فدية الأذى يكون حيث شاء بمكة وغيرها. خلافاً للشافعي في قوله: لا يجزيان إلا بمكة. ولأبي حنيفة في تفريقه بين الإطعام والنسك، وشرطه في النسك أن يكون بمكة، لقوله عز وجل: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}، فأطلق، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لكعب بن عجرة: (أيؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم قال: احلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين أو أنسك بشاة) ولم يقيد، ولأنه نوع من فدية الأذى فأشبه الصيام. [الطواف] [759] مسألة: إذا لم يقدر على تقبيل الحجر وضع يده عليه، ثم وضعها على فيه من غير تقبيل خلافاً للشافعي؛ لأن الغرض أن يمس بفيه ما مس الحجر فأما التقبيل فإنه مسنون في الحجر دون غيره. [760] مسألة: الطهارة شرط في صحة الطواف، خلافاً لأبي حنيفة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الطواف بالبيت صلاة) وذلك يوجب له أحكام الصلاة إلا فيما استثناه الدليل، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - طاف متطهراً، وقال: (خذوا عني

مناسككم)، وروي عن عائشة، قالت: قدمت مكة، وأنا حائض، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري). ولأنها عبادة لها تعلق بالبيت تختص به، فكانت الطهارة من شرطها كالصلاة. [761] مسألة: إذا نكس الطواف بأن يطوف والبيت عن يمينه فلا يجزيه، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - طاف والبيت عن يساره) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (خذوا عني مناسككم). ولأنها عبادة تتعلق بالبيت فلم يجز تنكيسها كالصلاة. [762] مسألة: إذا ترك من أشواط الطواف شيئاً لم يعتد به ولم ينب عنه الدم، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن ترك الأقل أجزأه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت سبعة أشواط، وقال: (خذوا عني مناسككم). ولأنه لم يأت

بأشواط الطواف على عددها، فأشبه إذا اقتصر على الثلاثة، واعتباراً به إذا كان بمكة. [763] مسألة: ركعتا الطواف سنة مؤكدة، خلافاً لأحد قولي الشافعي: إنها مستحبة وليست بسنة؛ لأن الطواف من أركان الحج فوجب أن يكون من توابعه ما هو واجب وجوب سنة كالوقوف بعرفة؛ لأن من توابعه المبيت بالمزدلفة. [764] مسألة: إذا طاف راكباً لغير عذر كره ذلك وأجزأه وعليه الدم، وقال الشافعي لا دم عليه، فدليلنا أن الوجوب تعلق عليه أن يفعله بنفسه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - طاف ماشيا، ً وقال: (خذوا عني مناسككم) ولأنه فعل قربة يفتقر إلى مشاهدة، فوجب أن لا يفعل راكباً مع القدرة على النزول كالصلاة، فإذا ثبت ذلك ثبت أنه إذا تركه فقد ترك نسكاً واجباً فكان عليه دم. [765] مسألة: إذا طاف داخل الحِجْر لا يجزيه، خلافاً لأبي حنيفة، لقوله عز وجل: {وليطوفوا بالبيت العتيق} فالحِجْر من البيت، ومن طاف داخله فلم يطف به، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف خارجه وقال: (خذوا عني مناسككم)، ولأنه إذا طاف داخل الحِجْرِ فأشبه إذا دخل البيت نفسه.

السعي بين الصفا والمروة

[السعي بين الصفا والمروة] [766] مسألة: السعي ركن من أركان الحج لا ينوب عنه الدم، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنه واجب وليس بركن وينوب عنه الدم، لما روت حبيبة بنت أبي ثابت قالت: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بين الصفا، والمروة وهو يقول: اسعوا فإن الله عز وجل قد كتب عليكم السعي) ففيه أدلة: أحدها: فعله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (اسعوا) والأمر على الوجوب، والثالث: قوله: (فإن الله قد كتب عليكم السعي) وهذا إخبار عن وجوبه بأبلغ ألفاظ الوجوب وآكدها، وهو كونه مكتوباً، ولأنه مشي ذو عدد سبع، فوجب أن يكون ركناً في الحج كالطواف، ولأنه نسك هو ركن في العمرة، فكان ركناً في الحج كالإحرام. [الحلاق والتقصير] [767] مسألة: لا يكفي من الحلاق والتقصير في التحلل إلا جميع الرأس أو أكثره، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: الربع، وللشافعي في قوله يكفيه ثلاث شعرات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر على ذلك. وروى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رمى جمرة العقبة أتى بنسكه فنحره ثم دعا الحلاق وقال: (فبدأ بالشق الأيمن فحلقه ثم الشق الأيسر فحلقه)، وروى ابن عمر

قطع التلبية

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عقص أو لبّد فعليه الحلاق) وفائدة ذلك أن يستوعب الرأس ولا يمكنه ذلك من العقص ولأنه حلق أو قصر بعض رأسه أو اليسير منه كالشعرتين أو الواحدة. [768] مسألة: الحلاق نسك يثاب فاعله، وللشافعي قولان أحدهما أنه إباحة محظور وليس بنسك ودليلنا قوله عز وجل: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين} فامتن عليهم بدخولهم على هذه الصفة فوعدهم بحصولها، فدل على أن الفضيلة تحصل بها، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (رحم الله المحلقين ثلاثاً قيل يا رسول الله: والمقصرين؟ فقال في الثالثة: و"المقصرين"، ففيه دليلان، أحدهما: أنه دعا لهم وبالغ بالتكرار، فدل على تعلق الفضيلة بذلك، والآخر: أنه فضلهم على المقصرين، والتفضيل بهما فكل ما كان أكثر ثواباً كان أفضل، ولأنه يقع به التحلل فأشبه الرمي والطواف. [قطع التلبية] [769] مسألة: يقطع الحاج التلبية إذا زالت الشمس يوم عرفة، وعنه رواية أخرى أنه لا يقطعها إلا إذا رمى جمرة العقبة، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي. والأولى أظهر ووجهها أنه إجماع السلف، وروي عن عمر،

عمل القارن

وعثمان، وعلي، وابن عمر، وعائشة وسعد، وجابر، وابن الزبير وذكر مالك أنه إجماع أهل المدينة، ولأن التلبية إجابة النداء بالحج الذي دُعيْ إليه، فإذا انتهى إلى الموضع الذي دُعي إليه فقد فعل ما وجب عليه وانتهى إلى غاية ما أمر به، ولا معنى لاستدامتها فيما زاد على ذلك. [عمل القارن] [770] مسألة: عمل القارن عمل المفرد يكفيه طواف واحد وسعي واحد ولا يزيد على المفرد إلا بالنية فقط، وقال أبو حنيفة: لا يدخل أفعال العمرة في أفعال الحج، ويلزمه أن يأتي بأفعال العمرة أولا، ثم يأتي بالوقوف، والطواف، والسعي للحج، فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يجزيك لحجتك وعمرتك). فروى القاضي

جزاء القارن إذا قتل صيدا

إسماعيل "يجزيك" وهذا نص؛ لأن عند الله حقيقة لا يتعلق إجزاءً ولا كفاية، وروى عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن عبدالله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من جمع بين الحج والعمرة كفاه، لهما طواف واحد، ولا يحل من كل واحد منهما حتى يحل منهما). ولأنه نسك يؤتى به في الحج والعمرة معاً، فوجب أن يكتفي القارن منه بواحد؛ أصله الحلاق، ولأنه نسك يكتفي بحلاق واحد، فوجب أن يكتفي بطواف واحد وسعي واحد كالمفرد، ولأن العمرة لو كانت لا تدخل في أفعال الحج لم يجز الجمع بينهما؛ لأن كل عبادتين لا يتداخلان، فإن الجمع بينهما لا يجوز، كالصلاتين والصيامين فلما جاز الجمع بينهما علم أنهما يتداخلان كالطهارتين. [جزاء القارن إذا قتل صيداً] [771] مسألة: إذا قتل القارن صيداً فعليه جزاء واحد،، خلافاً لأبي حنيفة في قوله جزاءان، لقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} فوجب على قاتل الصيد جزاء واحد، ولم يفرق بين أن يكون مفرداً أو قارناً؛ ولأنهما حرمتان لو انفردت كل واحدة منهما بقتل الصيد فيها للزمه الجزاءان لها، فوجب إذا اجتمعا أن يكتفي بجزاء واحد، أصله المحرم إذا قتل صيداً في الحرم، ولأنه محرم قتل صيداً فيلزمه جزاء واحد كالمفرد.

الوقوف بعرفة

[الوقوف بعرفة] [772] مسألة: الاعتماد في الوقوف بعرفة على جزء من الليل، فإذا لم يقف جزءاً من الليل فقد فاته الحج، وقال أبو حنيفة، والشافعي إذا وقف جزءاً من النهار بعد الزوال أجزأه، فدليلنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفع بعد غروب الشمس، رواه علي، وجابر، وأسامة، وغيرهم وقد قال: (خذوا عني مناسككم). وروى مسور بن مخرمة قال خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية عرفة، فقال: (وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل غروب الشمس حين يغتّم بها رؤوس الجبال، وإنا ندفع بعد غروبها فلا تعجلوننا). وروى عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أفاض من عرفات قبل الصبح فقد تم حجه، ومن فاته فقد فاته الحج).

الجمع بين الصلاتين بمزدلفة

وروي عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من وقف بعرفة بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج فليهلّ بعمرة وعليه حج قابل). ولأنه لم يقف بعرفة جزءاً من الليل فلم يجزه، أصله إذا وقف قبل الزوال، ولأن كل يوم لم يجز الوقوف في أوله لم يجزه في آخره كسائر الأيام. [الجمع بين الصلاتين بمزدلفة] [773] مسألة: الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة سنة مؤكدة، فإن صلى المغرب بعرفة لوقتها وصلى العشاء في وقتها فقد ترك السنة وتجزيه، وقال أبو حنيفة: لا تجزيه. فدليلنا أنهما صلاتان سُنّ الجمع بينهما في وقت إحداهما، فلم يمنع ترك الجمع بينهما، أصله الظهر والعصر بعرفة. [المبيت بمزدلفة] [774] مسألة: المبيت بالمزدلفة سنة مؤكدة وليس بركن، خلافاً لبعض التابعين؛ لأن كل ما جاز تركه لعذر لم يكن ركناً كطواف القدوم والوداع؛ ولأنه مبيت بمكان فلم يكن شرطاً في الحج كالمبيت بمنى. [775] مسألة: إذا ترك المبيت لغير عذر فعليه دم، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بها، ولم يرخص في تركه إلا للضعفة

رمي الجمار

ورعاة الإبل، فوجب كونه مسنوناً، فإذا صح ذلك تعلق بتركه وجوب الدم. [رمي الجمار] [776] مسألة: لا يجوز الرمي بغير الأحجار، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنه يجوز بكل ما كان من جنس الأرض؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى بسبع حصيات، ولأنه رمي بغير الحجر فلم يجزه اعتباراً بالذهب والفضة والخشب. [777] مسألة: لا يجوز رمي جمرة العقبة قبل طلوع الفجر من يوم النحر، خلافاً للشافعي في قوله: يجوز أن ترمى بعد نصف الليل، لما روى ابن عباس قال قدّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة، وقال: (لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس)، وقال جابر: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمي يوم النحر ضحى، فأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس)، ولأنها رماها بعد طلوع الفجر يوم النحر، فأشبه إذا كان قبل نصف الليل، ولأنه وقت للوقوف بعرفة فلم يجز الرمي فيه، أصله أول الليل على أصلنا، وآخر نهار يوم عرفة على أصلهم. [778] (فصل): وحكي عن النخعي والثوري أنه لا يجوز حتى تطلع

تقديم الحلق على النحر

الشمس، ودليلنا أنه رام لها بعد الفجر من يوم النحر فأشبه إذا رماها بعد طلوع الشمس، ولأنه يقع به التحليل كطواف الإفاضة. [تقديم الحلق على النحر] [779] مسألة: إذا حلق قبل أن ينحر فلا دم عليه، خلافاً لأبي حنيفة، لما روي أن رجلاً قال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر، فقال - صلى الله عليه وسلم - (اذبح ولا حرج). [تقديم الحلق على الرمي] [780] مسألة: إذا قدم الحلاق قبل الرمي فعليه دم، خلافاً للشافعي، لقوله عز وجل: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله}، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى ثم نحر ثم حلق، وقصد به بيان المناسك، ولأنه حلق قبل الرمي مع بقاء الوقت، فلزمته الفدية، أصله إذا حلق ليلة النحر، ولأنه حلاق صادف إحراماً منعقداً، أصله ما ذكرناه، ولأن كل وقت لو وطئ فيه لأفسد حجه، فإذا حلق فيه لزمته الفدية، أصله قبل الوقوف. [وقت الرمي أيام منى] [781] مسألة: لا يجوز أن يرمي الجمرات أيام منى إلا بعد الزوال، وقال أبو حنيفة: القياس المنع، إلا أني استحسن الجواز في اليوم الثالث قبل

رمي الحصيات دفعة واحدة

الزوال، فدليلنا ما روى جابر قال (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمي في يوم النحر ضحى وفيما بعد ذلك بعد زوال الشمس). ولأنه رَميٌ في أيام التشريق فأشبه اليوم الأول. [رمي الحصيات دفعة واحدة] [782] مسألة: إذا رمى بالسبعة دفعة لم يجزه، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إذا وقع بعضها قبل بعض أجزأه، لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - (كان يرمي كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة)، ولأن المستحق عليه عدد الرمي كاستحقاق عدد الأحجار، فإذا أخل به لم يجزه كما لو أخل بعدد الأحجار. [حج الصبي] [783] مسألة: للصبي حج شرعي صحيح، فإن كان مميزاً وأذن له وليه أحرم بنفسه وانعقد إحرامه، وإن كان صغيراً لا يميز ونوى وليه إدخاله في الإحرام صار محرماً بذلك، وقال أبو حنيفة: ليس له حج أصلاً ولا ينعقد له إحرام، فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - للمرأة لما سألته ألهذا حج؟ قال: (نعم ولك أجر). ولأنها عبادة يصح التنفل بها فصحت من الصبي كالطهارة. [784] مسألة: ما زاد على نفقته في الحضر من مال الولي، وكذلك جزاء ما قتل من صيد أو فدية أو ما يوجب الفدية، خلافاً للشافعي؛ لأن الصبي لا حاجة به إلى الحج وليس من الحظ إلزامه نفقة ما لا حاجة به إليه، فكان الولي سببه.

نكاح المحرم والوطء أثناء الإحرام

[نكاح المحرم والوطء أثناء الإحرام] [785] مسألة: لا يجوز للمحرم أن يتزوج. خلافاً لأبي حنيفة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ينكح المحرم ولا ينكح)، ولأنه سبب يثبت به تحريم المصاهرة، أو سبب تصير المرأة به فراشاً، فوجب أن يحظر حال الإحرام كالوطء، ولأن كل معنى حرم الطيب حرم النكاح كالعدة. [786] مسألة: وله أن يراجع، خلافاً لأحمد بن حنبل؛ لأنه ليس بعقد نكاح وإنما هو من حقوق النكاح فلم يمنع منه الإحرام كالطلاق والظهار. [787] مسألة: إذا وطئ ناسياً بطل حجه، خلافاً للشافعي في أحد قوليه، لقوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}، ولأنه محرم وطئ في الفرج قبل التحليل فأشبه العامد. [788] مسألة: إذا وطئ دون الفرج فأنزل، أو قبل فأنزل، أو لمس فأنزل، فسد حجه، خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي، لقوله عز وجل: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}، ولأن المقصود من الجماع الإنزال، وهو أبلغ من الإيلاج، فجاز أن يفسد الحج به إذا انفرد كالإيلاج، ولأنها عبادة يفسدها الوطء في الفرج، فالإنزال مع المباشرة يفسدها كالصوم. [789] مسألة: إذا وطئ في الدبر أفسد حجه، كان لواطاً، أو لامرأة، وقال أبو حنيفة لا يفسده، وبناه على أصله أن الحد لا يجب في اللواط فدليلنا أنه حصل واطئاً في فرج آدمي فأشبه القبل. [790] مسألة: إذا وطئ بعد الوقوف وقبل الرمي يوم النحر أفسد

حجه، وعنه رواية أخرى أنه لا يفسد حجه، وهو قول أبي حنيفة، والصحيحة الظاهرة هي الأولى؛ لأنه وطء صادف إحراماً منعقداً كالوطء قبل الوقوف، ولأنها عبادة يلحقها الفساد فجاز أن يطرأ عليها الفساد من حين التلبس بها إلى حين الخروج منها كسائر العبادات. [791] مسألة: إذا وطئ بعد الرمي وقبل طواف الإفاضة عليه العمرة والهدي، وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا عمرة عليه؛ لأن ذلك مروي عن ابن عباس ولا مخالف له، ولأنه قد أتى بالطواف في إحرام قد أفسد بقيته؛ لأنه وطء قبل كمال التحلل منه وعليه أن يأتي به في إحرام لا فساد فيه ولا نقصان، والطواف لا يكون إلا في إحرام له منفرد فلذلك لزمه أن يعتمر. [792] مسألة: إذا أفسد حجه أو عمرته لم يخرج منه بالفساد، بل يمضي على إحرامه ويقضيه، وقال داود: "يخرج منه بالفساد"، ودليلنا قوله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله} ولم يفرق، ولأنه قول ابن عباس وابن عمر ولا مخالف لهما، ولأنه سبب يجب فيه قضاء الحج فلم يخرج به من الإحرام كالفوات. [793] مسألة: إذا أفسد حجه بالوطء لزمه الهدي بالوطء الذي به وقع الفساد، ولم يجب لما تكرر من الوطء هدي آخر، كان في ذلك المحل أو بعده، كفّر عن الأول أو لم يُكَفِّر. وقال أبو حنيفة: إذا تكرر الوطء في

مكان الإحرام في القضاء

مجلس واحد فعليه في كل مرة دم، وهو شاة، إلا أن يكون كرره على طريق الرفض للحج والقطع فلا يلزم إلا دم واحد. وقال الشافعي: إن كفر عن الأول فعليه الدم للوطء الثاني كفارة، فإن لم يكفر عن الأول فيه قولان. فدليلنا أن كل وطء لم يتعلق به فساد الحج لم يجب فيه كفارة، أصله إذا وطئ بعد التكفير، أو على وجه الرفض للحج والقطع له؛ ولأنها عبادة يفسدها الوطء، فوجب إذا وقع الفساد به، وتعلقت الكفارة بوقوعه ألاّ تلزمه الكفارة لتكراره أصله الصوم. [794] مسألة: إذا وطئ زوجته فأفسد حجه وقضاه فإنهما يفترقان من حيث يحرمان ولا ينتظر إلى بلوغهما إلى الموضع الذي وطئ فيه خلافاً لأبي حنيفة في قوله: لا يفترقان، وللشافعي في قوله: إنهما يفترقان من الموضع الذي وطئ فيه. فدليلنا على أبي حنيفة أن ذلك مروي عن عثمان وعلي وابن عباس، ولأنهما يتذكران ما كان منهما فيدعوهما ذلك إلى الفساد ثانيةً ودليلنا على الشافعي، أن الذي لأجله أمر بالافتراق خوف الفساد ثانية وليس آخر الإحرام بأولى بالاحتياط من أوله. [مكان الإحرام في القضاء] [795] مسألة: إذا قضى الحج لزمه الإحرام من حيث أحرم، إلا أن

حكم الفوات

يكون أبعد من الميقات. وقال الشافعي: يلزمه الإحرام في القضاء من أغلظ الأمرين من الموضع الذي أحرم منه، أو الذي كان لزمه الإحرام منه، فدليلنا أن تقديم الإحرام على الميقات مكروه، وإنما يلزمه في القضاء ما كان التزمه مما طريقه الفضيلة دون الكراهية، كما لو أحرم بالحج قبل أشهره. [حكم الفوات] [796] مسألة: ومن فاته الحج سقط عنه توابع الوقوف، خلافاً للمزني؛ لأن الوقوف هو الأصل، والتوابع تثبت بثبوته، وإذا سقط الأصل سقطت توابعه. [797] مسألة: وعليه دم للفوات، خلافاً لأبي حنيفة في ذلك، لما روي عن عمر وابنه، ولأنه سبب يجب به قضاء النسك، فوجب أن يجب به الدم كالإفساد. [بلوغ الصبي بعد الإحرام بالحج] [798] مسألة: الصبي والعبد إذا أحرما بالحج ثم بلغ أو أعتق مضيا على حجهما، وكان تطوعاً، ولا يجزيهما عن حجة الإسلام. وقال الشافعي إذا كان قبل أن يقفا بعرفة مضيا وأجزأهما عن حجة الإسلام. فدليلنا قوله عليه السلام: (وإنما لامرئ ما نوى)، ولأنه ليس في الأصول عبادة تفتح تطوعاً وتنقلب فريضة كالصلاة والصوم، وتحريره أن يقال؛ إنها عبادة مقصودة، شُرِعَ فيها قبل أن يوجد فيه شرط وجوبها، فإذا وجد ذلك بعد الشروع فيها لم يجزه، كما وجب عليه عند وجود صفة

إحرام العبد

الوجوب كالصلاة والصوم، واعتباراً به إذا بلغ أو أُعْتق بعد الفراغ. [إحرام العبد] [799] مسألة: إذا أحرم العبد بغير إذن سيده انعقد إحرامه، وقال داود لا ينعقد، فدليلنا أنها عبادة تتعلق بالبدن فصحت من العبد بغير إذن سيده كالصلاة. [الإهلال بحجتين أو عمرتين] [800] مسألة: إذا أهل بحجتين أو عمرتين أو بحجة ثم أدخل عليها، عمرة انعقدت واحدة وسقط الباقي، وقال أبو حنيفة: ينعقد إحرامه بحجتين وعمرتين وأكثر ولكن يمضي في واحدة ويرفض الأخرى، فإذا فرغ من هذه قضاها. فدليلنا أنهما عبادتان لا يصح المضي فيهما بوجه، فوجب أن لا يصح الدخول فيهما، أصله إذا نوى في رمضان أن يصومه عنه وعن نذر، ولأنهما عبادتان لا يتسع الزمان لفعلهما معاً شرعاً بوجه، فوجب أن لا يصح الدخول فيهما كالصلاتين. [عدم الجزاء في قتل السباع] [801] مسألة: للمحرم قتل السباع العادية المبتدئة بالضرر، من الوحش والطير كالأسد والذئاب والنمور والفهود والكلب العقور وما في معناه ومن الطير الغراب والحداة ولا جزاء عليه في شيء من ذلك، ووافقنا أبو حنيفة في الذئب والكلب العقور والحدأة والغراب، وخالفنا في السبع والفهد والنمر وغيرها من السباع، وقال: لا يقتل المحرم شيئاً من ذلك وإن قتله فدى، وقال الشافعي: كل ما لا يؤكل لحمه من الصيد فلا جزاء فيه إلا في السمع؛ وهو المتولد من بين الذئب والضبع،

فدليلنا على أبي حنيفة ما روى أبو سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: ما يقتل المحرم؟ (فذكر الحية والعقرب والفويسقة والكلب العقور والحدأة والسبع العادي)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (خمس ليس على المحرم في قتلها جناح) فذكر "الكلب" واسمه يعم الأسد وغيره، ولأنه لما أبيح قتل الكلب العقور والذئب ويسقط الجزاء فيه للضرر الواقع فيه وابتدائه بالعدو والفرس وكان الأسد داخلاً في هذا الضرر من كل ما عداه، وأذِّيته أشد فكان في إباحة القتل أولى، ولأن ما يجب الجزاء بقتله من الصيد يضمن بأحد وجهين إما بمثله في الخلقة، وإما بكمال قيمته، وكل ذلك معدوم فيه كالسمع؛ لأن المخالف لا يرى عنه المثل في الخلقة، ولا يوجب فيه كمال القيمة فإنه يقول إذا زادت قيمته على قيمة شاة لم يجب كمالها، فدل على أنه لا يضمن بالقتل. [802] (فصل): وخالفنا الشافعي في وجوب الجزاء في الصقر، والبازي، والثعلب، وكل متوحش لا يؤكل لحمه، ودليلنا عليه قوله عز وجل: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} فعم، ولأنه حيوان بري ممتنع لا يبتدئ بالضرر غالباً فكان مضموناً بالجزاء أصله الضبع.

الجزاء في قتل الصيد

[الجزاء في قتل الصيد] [803] مسألة: إذا تكرر من المحرم قتل الصيد لزمه الجزاء لكل مرة، خلافاً لداود في قوله لا يلزمه إلا المرة الأولى، لقوله عز وجل: {ومن قتله منكم متعمدا}، ولم يفصّل بين الصيد الأول والثاني؛ ولأنه حيوان مضمون بالتكفير، فوجب أن تتكرر الكفارة بتكرير قتل جنسه كالآدمي، والاعتبار بأول مرة بعلة أنه صيد أتلفه وهو محرم. [804] مسألة: إذا قتل صيداً مما له مثل من النعم لزمه إخراج مثله من النعم من طريق الخلقة والصورة، وله أن يعدل عن المثل إلى قيمة الصيد المقتول طعاماً، وله أن يصوم مكان كل مد يوماً، وقال أبو حنيفة: لا يُضْمَنُ صيد بمثله وإنما يضمنه بقيمته، ثم إن شاء اشترى بتلك القيمة هدايا أو طعاماً. فدليلنا قوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم}. ففيها أدلة: أحدها: أنه لو اقتصر على المثل لكنا نوجب في كل صيد مثله من جنسه، فلما قال: (من النعم) علمنا أنه أراد الخلقة والصورة، وعند المخالف لا اعتبار بالمثل أصلاً، والثاني: قوله عز وجل: {يحكم به ذوا عدل منكم}، وهذه الكفارة راجعة إلى النعم؛ لأنه هو الذي يقوم، وعند المخالف يرجع إلى القيمة التي لم يَجْرِ لها ذكر. والثالث: قوله عز وجل: {هديا بالغ الكعبة} فوجب أن يكون نفس المثل المحكوم به هديا، ً وهذا لا يمكن في القيمة إلا أن يبدل وإنما يصح في المثل الذي يعتبره، وروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الضبع: (هي صيد وفيها

كبش إذا أصابها المحرم) وعند المخالف لا اعتبار بالكبش وإنما الواجب قيمتها، ولأنه إجماع الصحابة، روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وعبدالرحمن بن عوف، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، ومعاوية، وعائشة، ولا مخالف لهم، ولأنه حيوان يخرج في كفارة فوجب أن لا يكون إخراجه على وجه القيمة، أصله عتق الرقبة.

[805] (فصل): وكفارة الصيد على التخيير دون الترتيب، وحكي عن ابن عباس وابن سيرين أنهما قالا هي على الترتيب، وحكي عن الشافعي في القديم، وأصحابه ينكرونه، فدليلنا قوله تعالى: {((((((((((مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} إلى قوله: {هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما} وموضوع "أو" للتخيير، ولأنه حق لازم بإتلاف كان ممنوعاً منه لحرمة الإحرام، فوجب أن يكون على التخيير، أصله كفارة الأذى. [806] مسألة: وإذا اختار التكفير بالإطعام قوم الصيد لا المثل، وقال الشافعي يقوم المثل، ودليلنا قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} إلى قوله: {أو كفارة طعام مساكين} فظاهره أن يكون الإطعام جزاء عن المقتول معتبراً به دون المثل، ولأن المتلف هو الصيد لا المثل، فوجب أن يكون هو المقوم كسائر المتلفات، ولأن الإطعام بدل عن نفس المتلف، فوجب أن يكون معتبراً، أصله المثل من النعم، ولأنه طعام يخرج في جزاء صيد فوجب أن يكون معتبراً بقيمة الصيد، أصله ما لا مثل له. [807] مسألة: وإذا اختار الصيام صام عن كل مد يوماً، وقال أبو حنيفة يصوم عن كل مدين يوماً، ودليلنا اعتباراً بسائر الكفارات أنه لا يزاد فيها على مد ويفارق فدية الأذى؛ لأنها فدية وليست بكفارة. [808] مسألة: ويلزم التحكيم فيما حكّمت فيه الصحابة وفيما لم تحكّم،، خلافاً للشافعي في قوله: اكتفي فيما حكّمت فيه الصحابة بما تقدم الحكم به، لقوله: {ذوا عدل منكم}، فعم في الوجهين، ولأنه صيد لزمه

بقتله الجزاء ولابد من التحكيم فيه، أصله ما لم تمض فيه حكومة. [809] مسألة: ولا يجوز أن يكون القاتل أحد الحكمين، خلافاً للشافعي، لقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} وذلك يقتضي أن يكونا غير المحكوم عليه، ولأن الجزاء بدل المتلف فوجب أن لا يكون الرجوع فيه إلى أمانه المتلف، أصله تقويم المتلفات. [810] مسألة: ومن قتل صيداً ناسياً أو مخطئاً فعليه الجزاء، خلافاً لداود، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الضبع: (هو صيد وفيها إذا أصابها المحرم كبش) ولم يفرق، ولأنه حصل متلفاً للصيد غير عامد في حال الإحرام أو الحرم فأشبه العامد، ولأنه حيوان مضمون بالكفارة فلزم ذلك في أتلافه خطأ كالآدمي. [811] مسألة: في صغار الصيد مثل ما في كبارها، خلافاً للشافعي في قوله: إن فيه صغيراً من الغنم، لقوله تعالى: {هديا بالغ الكعبة} والهدي لا يكون إلا الكبير، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (في الضبع كبش) ولم يفرق، ولأنه حيوان يخرج باسم الكفارة فلم يختلف باختلاف سن المتلف، أصله الرقبة في كفارة القتل والظهار، ولأنه دم لا يجوز نحره في غير الحرم فلم يجز فيه الصغير كدم المتعة والقِرَان، ولأن الجزاء لا يخلو أن يكون جبراناً أو دية أو كفارة وأيهما كان فلا يجوز فيها الصغار. [812] مسألة: لا يجوز تذكية المحرم للصيد، خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي، لأنه ذح محرم لحق الله تعالى لمعنى في نفس الذابح فأشبه ذبح المجوس. ولأن كل معنى أوجب تحريم أكل المذبوح على الذابح فإنه يوجبه على غيره، أصله إذا لم يستوف شرائط الذكاة. ولأن تذكيته لا تبيح

له أكل اللحم لحق الله تعالى، وإذا لم تبحه له لم تبحه لغيره؛ لأن الذكاة إذا أباحت أكل المذكي لم تتخصص. ولأن كل صيد كان محظوراً على صائده لحق الله تعالى فتذكيته إياه لا تصح كالخنزير. [813] مسألة: إذا قتل المحرم الصيد وأكله لم تلزمه بأكله كفارة. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: يضمنه بالقيمة؛ لأنا قد قلنا: إن تذكيته لا تعمل في الصيد، فإذا ثبت ذلك فكأنه أكل ميتة، فلم يضمنه كما لو مات حتف أنفه فأكل منه. ولأنه إتلاف لجزء فلم يضمن بالجزاء، أصله لو أحرقه. [814] مسألة: فإذا دل المحرم على صيد أساء ولا جزاء عليه. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: عليه الجزاء. لقوله عز وجل: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء}، دليله إن لم يقتل فليس عليه جزاء. ولأنه سبب لا يضمن به الآدمي بحال، فوجب ألا يكون مضموناً به الصيد، أصله الدلالة التي يستغني عنها. ولأنه ضمان نفس فلم يتعلق بالدلالة كضمان الآدمي. [815] مسألة: وصيد الحرم مضمون بالجزاء على الحلال والحرام. خلافاً لداود. لقوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}. وهذا يتناول الحرام بالإحرام والحرم. ولأنه يسمى محرماً لكونه في الحرم، فإذا ثبت ذلك فكل معنى يسمى به محرماً فمتى قتل الصيد فيه كان مضموناً بالجزاء كالإحرام. [816] مسألة: وللصوم مدخل في ضمان صيد الحرم. خلافاً لأبي حنيفة في قوله لا مدخل له فيه. لأنه صيد مضمون لحق الله عز وجل، أصله ما ذكرناه. [817] مسألة: الحلال إذا صاد في الحل، ثم أدخله الحرم فله التصرف فيه كيف شاء بالذبح وغيره، فإن ذبحه فلا جزاء عليه. خلافاً لأبي حنيفة

في قوله: ليس له ذبحه، وإنه إن ذبحه لزمه الجزاء. لأنه لما جاز له إمساكه والتصرف فيه وهو حلال في الحرم، جاز له ذبحه كالنعم. ولأن كل من جاز له تملك صيد بالشراء والأمر لغيره باصطياده جاز له ذبحه، أصله الحلال في الحل. ولأنه لو منع من ذلك فسد لحم الصيد، وأدى أن لا يأكل أهل الحرم إلا متغيراً، والفرق بين حرمة الإحرام وحرمة الحرم: أن الإحرام لا يدوم فلا تلحق مشقة في المنع حال حصوله، وحرمة المكان باقية فتلحقهم المشقة بالمنع من الذبح فيه. [818] مسألة: إذا قتل المحرم صيداً مملوكاً فعليه القيمة مع الجزاء. خلافاً لمن قال لا جزاء عليه. وعَكَسَ أصحابُ الشافعي عَنّا على ضرب من التحريف وقلة التحصيل. فدليلنا قوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل}، ولم يفرق. ولأنه ممنوع من قتله بحرمة الإحرام كالذي ليس بمملوك، ولأن الحقين المختلفين لا يتداخلان كالدية والكفارة في حق الآدمي. [819] مسألة: والواجب في جزاء الصيد هدي، ولا بد أن يساق من الحل إلى الحرم. خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي، في قولهما إن اشتراه من الحرم ونحره أجزأه. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ساق هديه من الحل إلى الحرم، فكان فعله بياناً للمناسك. ولأنه لو اشتراه في الحل ونحره هناك لم يجزه؛ لأنه لم يجمع له بين الحل والحرم، كذلك إذا أفرده بالحرم فلا يجزيه، وكذلك حكم هدي التمتع والقِرَان وغير ذلك. لأن اسم الهدي مأخوذ من الهدية والإهداء، فيجب أن يهدى من غير الحرم إلى الحرم. ولأنه لما كان المحرم يجمع في إحرامه بين الحل والحرم فكذلك في هديه لأن الهدي له محل كما أن الإحرام له محل.

[820] مسألة: إذا قطع من شجر الحرم شيئاً أساء ولا جزاء عليه. وقال أبو حنيفة ما ينبته الآدميون لا يضمن، سواء كان بإنبات الله تعالى أو بإنبات الآدمي، وما أنبته الله عز وجل في العادة فإنه يضمن. ودليلنا أنه أتلف شيئاً من الجمادات دون الحيوان. فلم يجب الجزاء فيه بإتلافه، أصله غير الشجر، واعتباراً بالاذخر وما يقطع في المنفعة. ولأن ما لزم الحلال جزاؤه في الحرم لزم المحرم مثله في الحل كالصيد. فلو كان الشجر مضموناً بالجزاء للزم ذلك المحرم في كل الحل. [821] مسألة: إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد فعلى كل واحد جزاء كامل. خلافاً للشافعي في قوله: إن عليهم جزاءً واحداً. لقوله عز وجل: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم}، فأوجب على من حصل قاتلاً الصيد جزاءً مثله ولم يفرق بين أن ينفرد بقتله أو يشارك مثله. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الضبع صيد وفيها كبش إذا أصابها المحرم). ولأنه محرم أتلف صيداً مضموناً بالجزاء فلزمه جزاء كامل، أصله إذا انفرد به. ولأنه اشتراك في قتل نفس تجب الكفارة بقتلهما، فوجب أن يلزم كل واحد كفارة كاملة. ولأنها نفس مقتولة تجب فيها الكفارة، فوجب أن تكون الكفارة بعدد القاتلين، أصله نفس الآدمي. ولأنه معنى تتصف به الجماعة والآحاد لو انفرد كل واحد به لزمته كفارة كاملة، فكذلك إذا شارك فيها غيره، أصله الجماعة إذا اشتركت في الحلف على شيء واحد. ولأن الجزاء عندنا كفارة وليس بدية. يدل عليه قوله عز وجل: {أو كفارة طعام مساكين} فسماه كفارة، ولأنه حق لله عز وجل بإتلاف نفس للصيام فيه مدخل فوجب أن تكون كفارة، أصله حلق الرأس والتطيب. [822] مسألة: لا يجوز للمحرم أن يأكل صيداً صِيدَ لمحرمين، ولا

ما دلَّ عليه. وقال أبو حنيفة إن كان له فيه أثر لا يستغني عنه مثل أن يدل عليه وهو خفي لا يوصل إليه إلا بدلالته أو أعطاه سلاحاً، ولا سلاح معه فإنه يحرم أكله، فإن دل على صيد ظاهر وأعطاه سلاحاً ومعه سلاح، أو صيد لأجله فلا يحرم عليه أكله. فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لحم الصيد لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم). ولأنه صَيْدٌ للمحرم فيه أثر معاونة فأشبه ما لم يستغن عنه. ولأنه صِيدَ للمحرم، فلم يجز له أكله، كما لو صاده بنفسه. وذهب قوم إلى أن ليس للمحرم أكل لحم الصيد جملة. ودليلنا الخبر. ولأن جماعة من الصحابة أكلوا الصيد وهم محرمون. [823] مسألة: ومن صيد لأجله صيد فأكل منه فعليه جزاؤه. وإن أكل منه محرم غيره فلا شيء عليه. وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا جزاء عليه. ودليلنا: أنه إذا أكل منه كان كأنه أمر بقتله ورضي به، فلزمه الجزاء تغليظاً، وإلا كان فيه ذريعة إلى ركوب مثله. [824] مسألة: إذا أحرم وعنده صيد وليس في يده، لم يزل ملكه عنه ولا يلزمه إرساله. خلافاً لأحد قولي الشافعي، أنه يزول ملكه عنه وإن كان في يده. لأنه معنى منع ابتداء ملكه في الإحرام فجاز أن لا يمنع الإحرام استدامته بالملك المتقدم كالدجاج.

[825] مسألة: الجراد مضمون بالجزاء. خلافاً لمن قال لا جزاء فيه؛ لأنه من صيد البر كالطير. [826] مسألة: إذا صال الصيد على المحرم فقتله دفعاً عن نفسه فلا جزاء عليه. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن كان مأكولاً فعليه جزاؤه؛ لأنه قتله بدفع مباح كما لو صال عليه رجل فقتله. [827] مسألة: في بيض النعامة عشر ثمن البدنة،. وقال الشافعي يضمن قيمته، وقال المزني وداود لا شيء عليه. ودليلنا: أنه متولد من حيوان مضمون، فوجب رده إليه اعتباراً به كالجنين. [828] مسألة: في حمام الحل حكومة. خلافاً للشافعي في قوله: إن فيه شاة؛ لأنه حمام في غير الحرم كالمملوك. [829] مسألة: صيد المدينة محرم. وقال أبو حنيفة: لا يحرم. ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مابين لابتيها حرام لا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها). [830] مسألة: إذا ثبت أنه محرم فقال مالك لا جزاء عليه، وقال ابن أبي ذئب، فيه الجزاء. فوجه قول مالك أن كل بقعة جاز دخولها بغير إحرام لم يضمن صيدها بالجزاء، أصله سائر البلاد. ووجه قول إيجاب الجزاء؛ لأنه حرم يحرم صيده فضمن بالجزاء كمكة.

تفضيل المدينة على مكة

[تفضيل المدينة على مكة] [831] مسألة: المدينة أفضل من مكة. خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي. لما روت عمرة عن رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (المدينة خير من مكة). وقوله: (إني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به إبراهيم لمكة ومثله معه). وقوله: (لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة) ولم يقل ذلك في غيرها. وقوله: (لا يخرج منها () أحد رغبة عنها إلا أبدلها الله خيراً منه). قاله في الأعرابي الذي استقاله بيعته. وقوله: (اللهم إنهم أخرجوني من أحب البقاع إلي فأسكنني في أحب البقاع إليك). وهذا نص لا نعدوه. وقوله: (أمرت بقرية تأكل

الإحصار

القرى، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد)، فلا معنى لقوله: "تأكل القرى" إلا فضلها على غيرها. وقوله: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها). وقوله: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد). ولا يجوز أن يسأل ربه عز وجل أن يحبب إليه الأدون زيادة على الأعلى. وفيه أخبار كثيرة. ولأن عمر أنكر على عبدالله بن عياش قوله: إن مكة خير من المدينة وقال: أنت القائل لمكة خير من المدينة. ولم يحفظ عن أحد إنكاره عليه ما أنكره على عبدالله ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخلوق منها، وهو خير البشر، وتربته خير الترب - صلى الله عليه وسلم -. ولأن فرض الهجرة إليها يوجب كون المقام بها قربة وطاعة، ويدل على فضيلتها على سائر البقاع. [الإحصار] [832] مسألة: إذا حل المحصر بعذر فلا هدي عليه خلافاً لأبي

حنيفة، والشافعي. لأنه تحلل مأذون له فيه غير منسوب فيه إلى تفريط، ولا إدخال نقص، فلم يلزمه هدي اعتباراً به إذا أكمل حجه، ولأنه لما خفف عنه بجواز التحلل من إحرام قد عقده كان بأن يخفف عنه من إيجاب هدي أولى. ولأن هذا الحج لم يجب عليه المضي فيه، ولا بد له من تحليل في غيره لم يلزمه هدي التحلل منه، كإحرام المرأة بغير إذن زوجها أو العبد بغير إذن سيده. [833] مسألة: ولا قضاء عليه لما يحلل منه إذا لم يكن صَرورة عليه. خلافاً لأبي حنيفة. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صُدّ تحلل عنه وأصحابه، ولم يأمر أحداً منهم بالقضاء ولا نقل عن أحد منهم أنهم قضوا. ولأنه ممنوع من الوصول إلى فعل المناسك بيد غالبة، فلم يلزمه قضاء، ما أصله إحرام العبد بغير إذن سيده. [834] مسألة: إذا أحصر بمرض أو بأي شيء كان، سوى العدو فإنه لا يجوز له التحلل إلا بعمل العمرة. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنه يجوز. لقوله عز وجل: {أوفوا بالعقود}. وقوله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله}. ولأنه متلبس بالحج لم يصده عنه يد غالبة، فكان كمخطئ الوقت، ولأنه معنى لا يمنع وجوب الحج في الابتداء، فلم يمنع التحلل منه كالضلال عن الطريق؛ لأن كل من لا يستفيد بالتحلل تخليصه من الأذى، فلا يجوز له التحلل كالضلال عن الطريق عكسه المحصور بعدو. [835] مسألة: محل هدي الإحصار كله مكة، وقال الشافعي ينحره

الهدي

حيث أحصر. فدليلنا قوله عز وجل: {ثم محلها إلى البيت العتيق}. ولأن موضوع تحللها يجب أن يكون محل هديه كالمحصور بعدو. [836] مسألة: إذا شرط أن له التحلل بالمرض لم يؤثر ذلك الشرط، خلافاً للشافعي. لأن كل معنى لم يجز التحلل منه إذا لم يشترط، لم يجز وإن شرط، أصله ضلال الطريق عكسه العدو. [الهدي] [837] مسألة: إذا أهدى بدنة أو بقرة أشعرها مع التقليد. وقال أبو حنيفة لا يشعرها. ودليلنا ما روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشعر بدنته وسلت الدم عنها. [838] مسألة: لا تقلد الغنم ولا تشعر. وقال الشافعي تقلد ولا تشعر. فدليلنا ما روت عائشة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أهدى غنماً غير مقلدة). ولأنه نوع من الحيوان يجوز في الهدي، فاستوى حكمه في التقليد والإشعار كالإبل والبقر؛ ولانه لو كان من سنتها التقليد لكان من سنتها الإشعار. [839] مسألة: لا يصير بتقليد الهدي وإشعاره محرماً. خلافاً لما يحكى عن ابن عباس. لما روي عن عائشة أنها قالت: (كنت أَظْفُر قلائد

هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يبعث بها، وهو مقيم ولم يكن يحرّم على نفسه شيئاً كان يحل له قبل ذلك). ولأن الإحرام هو الاعتقاد والدخول في الحج، وذلك لا يوجب مع التقليد والإشعار. [840] مسألة: لا يجوز الاشتراك في الهدي الواجب. خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي في قولهما: إن البقرة والبدنة يجزيان عن سبعة، إلا أن أبا حنيفة يقول: إن قصد بعضهم القربة وبعضهم إباحة الأكل فلا يجوز الاشتراك. ودليلنا ما روى ابن عباس قال: (ما كنت أرى دماً يقضي عن أكثر من واحد). وعن ابن عمر أنه قال: (لا يشترك في شيء من النسك). ولا مخالف لهما. ولأن الاشتراك في الثمن يوجب أن يكون لكل واحد قسط من اللحم، وذلك يوجب القسمة وهي بيع. ولأنه اشتراك في دم، فلم يجز في الهدي، أصله إذا قصد بعضهم الإباحة. ولأنه حيوان يجزئ فيه الهدي كالشاة. ولأنه حصل مخرجاً لِلَحْمِ بعض بدنه كما لو اشترى لحماً،

ولأنه إزالة ملك عن حيوان على وجه الحتم والوجوب فلم يصح الاشتراك فيه، أصله كفّارة العتق في القتل والظّهار. ولأنه حيوان وجب عن جناية لحق عبادة، فلم يجز الواحد فيه عن سبعة، أصله الوطء في رمضان. ولأنه اشتراك في دم واجب كالعشرة في بدنة. 841. مسألة: يؤكل من الهدايا كلها إلا من جزاء الصيد، ونسك الأذى، وما نذر للمساكين. وقال الشافعي: لا يؤكل من شيء من ذلك. وقال أبو حنيفة يؤكل من هدي التمتع والقران. فدليلنا قوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا}، وقوله عز وجل: {فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا}، ولأنه هدي لم يسم للمساكين، ولا مدخل فيه لإطعام التطوع وهدي القران والتمتع، واعتباراً بالضحايا والعقائق.

كتاب البيوع

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليما كتاب البيوع [البيع على الصفة] [842] مسألة: بيع الأعيان الغائبة بالصفة جائز، وكذلك الحاضرة التي تشق رؤيتها كالأعدال تباع على البرنامج، وشبهه. خلافاً للشافعي في أظهر قوليه: إن الأعيان لا يجوز بيعها إلا على الرؤية. لقوله عز وجل: {وأحل الله البيع وحرم الربا}، وقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. ولأنه بيع معلوم للمتبايعين مقدور على تسليمه غالباً، فصح بيعه كالمرئي؛ ولأنه أحد حالات العين فجاز بيعها معها كحال المشاهدة، ولأن الصفة تقوم مقام الرؤية عند تعذرها كالسّلَم، ولأنها أحد نوعي المبيعات، فجاز أن تباع على الصفقة كالذي يباع على الذمة. ولأن الرؤية لو كانت شرطاً في بيوع الأعيان لم يجز ألا يوجد في المقصود من المبيع وأن يشترط فيما ليس بمقصود منه كالصفة في السلم. وقد ثبت أن بيع الجوز واللوز في قشرهما جائز وإن اشترى المقصود بالبيع على الرؤية، فدل على أنها ليست

الخيار

شرطاً فيه؛ ولأن ما كان شرطاً في صحة عقد وجب مقارنته له، ولا يكتفي برؤيته له إذا لم يوجد في ذلك معنى العقد على التسليم، فلما اتفقنا على جواز بيع العين الغائبة إذا تقدمتها الرؤية دلّ على أنها ليست بشرط فيه، ولأنه عقد معاوضة فلم يبطله عدم رؤية المعقود عليه كالنكاح. [843] مسألة: ولا يجوز بيع شيء بغير صفة ولا رؤية، خلافاً لأبي حنيفة في تجويزه ذلك وإثباته للمبتاع خيار الرؤية، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر وهذا منه؛ لأن المشتري يعقد على مجهول لم يعرفه برؤية ولا صفة، ولأن الجهل بصفة المبيع حال العقد يوجب بطلانه، أصله السلم بغير صفة. [844] مسألة: إذا وُجِدَ المبيع بالصفة المشترطة لزم، ولم يكن للمبتاع خيار الرؤية إلا أن يكون اشترطه. خلافاً لبعض الشافعية. لأنه عقد صحيح على مبيع موصوف لم يشترط فيه خيار وجد على صفته، فلم يكن فيه خيار الرؤية، أصله السلم. ولأنه مبيع سليم لم يشترط فيه خيار، ولا هناك عرف يوجبه فأشبه سائر المبيعات. ولأن الصفة في بيوع الأعيان قد أقيمت مقام الرؤية، فيجب إذا وجد المبيع عليها ألا يثبت فيها خيار كما لو بيع على رؤيته. [الخيار] [845] مسألة: خيار المجلس غير ثابت. خلافاً للشافعي. لأنه عقد معاوضة فلم يثبت فيه خيار المجلس كالنكاح والكتابة؛ ولأن كل خيار كان من مقتضى العقد جاز أن يبقى بعد الافتراق كخيار العيب وكل خيار لا يثبت بعد الافتراق فليس من مقتضى العقد كالخيار في غلاء الثمن وإرخاصه، ولأن خياره مجهول المدة كقدوم زيد. فإن اعترضوا بأنه يثبت

بالشرط فلا أحفظ فيه نصاً، وفيه نظر. ولأنه لو كان من مقتضى العقد لأمتنع بحيث يتعذر ولا يتصور، وذلك في شراء الأب لابنه من نفسه، والمخالف بين أمرين: إما أن يقول: إنه لا يثبت فيه خيار المجلس فتقيس عليه غيره من العقود، أو يقول: لو كان من مقتضاه لم يثبت العقد بحيث يتعذر كالسلم، وإما أن يقول: إنه يثبت فيه وذلك إحالة. [846] مسألة: إذا اشترطا الخيار، أو أحدهما، فالمبيع على ملك البائع، ولا يزول إلا باختيار من له الاختيار، وبأن يحكم بانقطاعه، إن كان الخيار للمشتري وحده فقد خرج المبيع عن ملك البائع ولم يدخل في ملك المشتري. وقال الشافعي ينتقل بنفس العقد، وله قول آخر: إنه يراعى. ودليلنا أن الملك إنما ينتقل بحصول التبايع المحقق، وذلك بالإيجاب المحقق والقبول المحقق، فإذا شرط فيه الخيار، فالإيجاب غير محقق؛ لأنه مشروط بشرط يقع في المستقبل وهو الرضا به أو فسخه. ولأنه إيجاب لا يلزم البائع الثبوت عليه، فلم ينتقل الملك به على التحديد، أصله إذا أوجبه ولم يقل المشتري قبلت. [847] مسألة: خيار الشرط موروث خلافاً لأبي حنيفة، لقوله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم}. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من ترك مالاً أو حقاً فلورثته). فعم؛ ولأنه خيار ثابت في عقد بيع فجاز أن يقوم الوارث فيه مقام الموروث، أصله خيار الرد بعيب وإن شئت قلت في عقد معاوضة محضة. ولأن كل من ورث شيئاً ورثه بحقوقه كالدين والرهن وغيره،

كذلك هاهنا، وقيل: لأن الموت معنى يزيل التكليف فلم ينقطع به الخيار كالجنون. [848] مسألة: يجوز اشتراط الخيار زيادة على الثلاثة الأيام إذا احتيج إلى ذلك في اختبار المبيع. وقال أبو حنيفة، والشافعي لا يجوز، ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لكل مسلم شرطه). ولأنها مدة يحتاج إليها في اختبار المبيع كالثلاثة. ولأنها مدة ملحقة بالعقد فجاز أن يزيد على ثلاثة أيام كالآجال، ولأنه خيار يستحق به الرد فلم يقف على ثلاثة أيام كالرد بالعيب، ولأن الخيار وضع لتأمل المبيع واختباره، ويجب أن تختلف مدته باختلاف أحوال المبيعات واختبارها، وأن لا تقف على مدة محصورة. بل تعلق بما يمكن هذا فيه؛ لأنه لا يجوز أن يكون موضوعاً لمعنى ومستثنى من الغرر لأجله، ثم يكون مدة لا يستفاد بها ما أريدت لأجله. [849] مسألة: إذا أراد من شرط الخيار لنفسه من المتبايعين أن يختار أو يفسح بغير محضر من صاحبه فله ذلك. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: ليس له الفسخ إلا بمحضر منه. لقوله - صلى الله عليه وسلم - في تصرية الإبل والغنم (إن ابتاعها فهو بخيار النظرين إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر). ولم يشترط حضور البائع. ولأنه اختار الفسخ مع بقاء وقت الاختيار فجاز ذلك، أصله إذا كان بمحضر من صاحبه. ولأنه معنى ينقطع به خياره كالإمضاء، ولأنه أحد موجبي الخيار كالإمضاء. ولأن العقد إذا لم يفتقر في

حله إلى رضى صاحبه لم يفتقر إلى حضوره كالطلاق. [850] مسألة: إذا تبايعا بما لا يتغابن الناس بمثله في العادة، وكان أحدهما مما لا يخبر سعر ذلك المبيع، فاختلف أصحابنا، فمنهم من يقول: لا خيار له. ومنهم من يقول: له الخيار إذا زاد الغبن على الثلث، أو خرج عن العادة والتعارف. وعند أبي حنيفة، والشافعي لا خيار له. ودليلنا على أن له الخيار، قوله عز وجل: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}. وهذا منه، ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال. ومن اشترى باذنجة أو بصلة بدينار فقد أضاع ماله، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) وفي إلزامنا المشتري فيما يساوي درهماً بمائة الثبوت على المشتري إضرار به، ولنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تلقي الركبان للمبيع،. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من تلقى سلعة فصاحبها بالخيار إذا دخل السوق). وذلك يفيد أن الغبن يؤثر في الخيار؛ لأنه لا معنى له سواه، ولأنه

نوع من الغبن في الأثمان، فكان مؤثراً في ثبوت الخيار، أصله تلقي الركبان. ولأنه نقص بتغيير الثمن فكان جديراً بالخيار أصله العيب. [851] مسألة: إذا قال المشتري بعني هذه السلعة بكذا، فقال البائع: بعتك، انعقد البيع، وأغنى عن الاستدعاء عن أن يقول المبتاع بعده: قبلت. وقال أبو حنيفة لا ينعقد البيع حتى يقول المبتاع: قد قبلت بعد قول البائع بعت، ووافقنا في النكاح. فدليلنا أن استدعاء الإيجاب في عقد المعاوضة يغني عن ذكر القبول بعده، أصله النكاح. [852] مسألة: يجوز أن يشترط رضا أجنبي أو خياره. خلافاً لأحد قولي الشافعي. لقوله: (ويشترط الخيار ثلاثاً) ولم يفرق. ولأن الخيار وضع لتأمل المبيع واختباره، وقد لا يعرف هو ذلك فيشترط خيار غيره له. [853] مسألة: إذا اشترط الخيار وسكتا عن ضرب مدة، لم يبطل البيع وضرب للسلعة من المدة قدر ما يختبر في مثله في العادة، خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي، في قولهما: إن العقد فاسد؛ لأن قدر ما يحتاج إليه يتقدر في العرف فإذا سكتا عنه فقد دخلا على العرف فيه. [854] مسألة: إذا مضت مدة الخيار ولم يكن ممن اشترطه، رد ولا إجازة، لم يحكم عليه بنفس مضي المدة. خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي. لأن مدة الخيار إنما ضربت لحقه لا لحق غيره فلم يلزمه الحكم بنفس مرورها، كمضي الأجل في الإيلاء أنها لا تطلق به على المولي بنفس مضيه.

الربا

[الربا] [855] مسألة: المصوغ من الذهب والفضة لا يجوز بيعه بشيء من جنسه إلا مثلاً بمثل، وزناً بوزن. خلافاً لمن أجاز المفاضلة بينهما قدر قيمة الصنعة. وبعض شيوخ المخالفين يحكي هذا عنا، فإذا وافقنا أصحابهم عليه وقد دفنوه في كتبهم ومسائلهم في الخلاف. قالوا: أنتم تجحدون مذهبكم وإلى الله عز وجل الشكوى من غلبة الجهل. ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا الذهب الذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض). وحديث ابن عمر لما قال له: إني أصوغ الذهب وأبيعه بأكثر من وزنه فأستفضل قدر عمل يدي فيها، وقال: (الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم). ولأنه ذهب بذهب كالمسبوك بالمسبوك، والمصوغ بالمصوغ. ولأن زيادة قيمة الصنعة إنما يراعى في الإتلاف لا في المعاوضات كجودة الجنس. [856] مسألة: تحريم الربا في المسميات الستة يتعلق بمعانيها دون أسمائها. خلافاً لنفاة القياس في قولهم: إنه يتعلق بأعيانها، وهذا مبني على ثبوت القياس، ولكنا نتكلم هاهنا من طريق الظاهر. فدليلنا قوله عز وجل {وحرم الربا} والربا الزيادة وقال - صلى الله عليه وسلم -: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل، وإذا اختلف الجنسان فيعوا كيف شئتم)، فدل على أن اتفاق الجنس مؤثر في منع التفاضل.

[857] مسألة: العلة في تحريم التفاضل في الأعيان الأربعة أنها جنس مأكول على وجه تمس إليه الحاجة من القوت وما يصلحه من المدخرات. وقال أبو حنيفة: العلة أنه جنس مكيل أو موزون، وقال الشافعي جنس مطعوم. فدليلنا على صحة علتنا أن الغرض بالنص على الأربعة المسميات أن يستفاد به معنى لا يعلم مع عدمه ولا مع نصه على غيره، فلو أراد مجرد الطعم على ما يقول الشافعي لاقتصر على واحد منها لتساوي الأكل في جميعها إذ لا اعتبار عنده باختلاف صفاته، وكذلك لو أراد مجرد الكيل والوزن لاقتصر على واحد منهما، ولا يصح أن يعكس علينا في القوت؛ لأنا نستفيد بنصه - صلى الله عليه وسلم - على كل واحد من الأعيان الأربعة ما لا نستفيده بنصه على أحدها، وهو أنه نبه بالبر على كل مقتات تعم الحاجة إليه وتقوم الأبدان بتناوله، ونص على الشعير منبهاً به على مساواته للبر، وكل ما في معناه مما يقتات حال الضرورة كالذرة والدخن وغيرهما، وإن انفراد كونه علفاً للبهائم لا يخرجه عن حكم القوت، وأن الربا لا يتعلق بما يقتات حال الرفاهة والسعة دون حال الضرورة والشدة، وذكر التمر منبهاً به على العسل والزبيب والسكر وكل حلاوة مدخرة غالباً للاقتيات، وأن الربا يتعلق بنوع الحلاوات وذكر الملح تنبيهاً على الأبازير وما يتبع الاقتيات ويصلح المقتات، وأن الربا ليس بمقصور على نفس القوت دون ما يصلحه ويتبعه. فقد بان بما ذكرناه أن نصه على كل واحد منها أفاد ما لا يفيده اقتصاره على واحدها. وليس هذا مستفاداً مع التعليل بمجرد الأكل والكيل لأن ذلك يختلف

باختلاف أنواع المكيلات والمأكولات؛ ولأنه قال في بعض الأخبار (حتى الملح) فجعله غاية لما حرم التفاضل فيه منبهاً به على أن بينه وبين ما نص عليه في حكمه اشتراكاً ولا يصلح أن يكون غاية لأدنى المقتات؛ لأن هاهنا ما ليس من جنسه مما يكال، والشيء لا يكون غاية لغير جنسه ولا أدنى المأكولات؛ لأنه ليس بما دون الحشائش وغيرها مما يؤكل على وجه التداوي، فلا يجوز أن يقال: إنها دونه ولا أنه دونها؛ لأن كل واحد منها نوع مختص بالمنفعة التي يراد لها، فلم يبق إلا أنه غاية للمقتات، وما في معناه مما تبعه، وهذا الدليل يخص مذهبنا، ويعم مخالفينا. فأما ما يخص كل فريق، فدليلنا على أهل العراق أن الطعام لابد أن يكون معتبراً في العلة، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل)، والحكم المعلق على اسم مشتق تعلق به. واستفيد منه وجوب لأجله، كقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما}، {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وما أشبه ذلك؛ ولأن من قولنا أن التفاضل يحرم في قليل البر والتمر الذي لا يتأتى كيله بانفراد، وعندهم لا يحرم إلا فيما يتأتى كيله، ولا يحرم في الكف بالكفين والتمر بالتمرتين. فدليلنا قوله عز وجل: {وحرم الربا} والربا الفضل في أحد المبيعين، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلاً بمثل، كيلاً بكيل، سواء بسواء)، والكيل مشروط للتخلص من

الربا؛ لأن التحريم يفتقر إليه، وقيل لأن كل جنس حرم التفاضل في كثيره حرم في قليله كالذهب والفضة، وفي هذه الطريقة نظر على الأصول. ولأن العلة فرع الأصل المنتزعة منه فإذا عادت بمخالفته دل على بطلانها؛ لأنا إنما نستخرجها لنرد بها ما سكت عنه إلى ما نطق به لا لنخرج بها بعض المنطوق وهذه صفة علة؛ لأن الخبر عام في كل طعام وعلتهم تخصه، فيقصر تحريم التفاضل على بعضه، وهو قدر ما يتأتى كيله، وإذا عادت العلة بمخالفة أصلها بطلت. ولأن الكيل قد ثبت كونه علماً على التحليل بقوله: "إلا كيلاً بكيل" فلا يجوز أن يكون جالباً لضده الذي هو التحريم؛ لأن الشيء إذا كان علماً على حكم لم يكن علماً على ضده، ألا ترى أن الحيض لما كان علماً على سقوط فرض الصلاة لم يكن علماً على وجوبها، وكذلك الجنون. ولأن الجنس إذا كان فيه الربا بعلة، لم ينتقل عنها بتنقل أحواله وتغيرها، كالذهب والفضة لما كانت علتها عند المخالف الوزن لم ينتقل حكم الربا عن النقار والتبر بالسكة والصياغة، بل كان ثابتاً فيها بتلك العلة، فإذا ثبت ذلك فلا تخلو الحنطة إذا طحنت أو خبزت أن يكون الربا ثابتاً؛ فيها أو غير ثابت فإن كان زائلاً عنها حصل في ذلك أن اختلاف الصفات على ما فيه الربا يغير الحكم. وذلك خلاف الأصول، وإن كان ثابتاً فيها كان بعلة أخرى وهو الوزن، وقد بينا أن

اختلاف الصفات على الجنس الذي يحرم التفاضل فيه لا ينقله عن الحكم. ودليلنا من طريق الترجيح أن علتنا يتعلق تأثيرها بكل واحد من المنصوص عليه، لأنه لولم يذكر لم يستفد تعلق الربا بنوعه، ولا يوجد ذلك في علل مخالفنا؛ لأنه يستوي فيه نفصه علة واجد منها وعلى جميعها؛ لأن الأكل والكيل واحد فيها ولا عبرة عندهم في اختلافها، فكانت علتنا أولى به؛ لأن علتنا تستوفي أصلها ولا تنفرد بتخصيصه، فكانت أولى من علة أبي حنيفة العائدة بمخالفة أصلها ورفع بعضه؛ لأن علتنا وهي الاقتيات والادخار معنى ثابت لازم في الأشياء المعللة به، وليس كذلك الكيل والوزن. ولأن نظير علتهم في الأصول لا تؤثر في الربا وهو الذرع والعدد فإنهما يرادان ليعرف بهما مقدار الأشياء كما يراد الكيل والوزن لذلك، ثم ثبت أنهما لا يجوز أن يكونا علة في الربا فالأشبه أن يكون كذلك الكيل والوزن، وعلتنا سليمة من كل هذه الاعتراضات فكانت أولى؛ ولأن الربا شرع تحريمه حراسة للأموال وحفظاً لها، ولا نتفاء الضرر عن الناس فيها، وقد ثبت أنه ليس بعام عندنا وعندهم في كل المثمونات، فوجب أن يكون فيما تمس الحاجة إليه وتشتد الضرورة إلى حفظه، وهو في المأكولات، الأقوات وما في معناها، وفي الموزونات، الأثمان وما في بابها، وقد دخل الكلام على الشافعي في هذه الجملة والله أعلم. [858] فصل: وعلة الربا في الذهب والفضة كونهما أثماناً وقيماً للمتلفات، فهي مقصورة عليهما غير متعدية. وعند أبي حنيفة أن العلة فيهما كونهما جنسين موزونين فيتعدى ذلك إلى الحديد والرصاص وإلى كل جنس موزون، والكلام معهم في موضعين: أحدهما: أن تدل على صحة علتنا. والأخرى: أن العلة المقصورة تصح عندنا، وهذا موضعه في كتب الأصول إلا أنا نذكر ههنا جملة منه.

ودليلنا أولا على نفس المسألة أنه قد ثبت جواز إسلام الذهب والفضة في الحديد والرصاص وغيرهما من الموزونات، وتحرير العلة أن نقول: كل شيئين جاز إسلام أحدهما في الآخر لم يجمعهما علة واجدة في الربا، أصله الذهب والحنطة، وكل شيئين امتنع إسلام أحدهما في الآخر مما فيه الربا فإنهما يجتمعان في علة واحدة، أصله الذهب والفضة؛ ولأن كل جنس جاز التفاضل بين معموله ومهمله فلا ربا فيه، أصله التراب والقصب. وذلك أن أبا حنيفة يجيز التفاضل بين قطع الرصاص وبين الأواني المصوغة منه، وكذلك الصفر وغيره، ولو كان فيه الربا لم يفترق الحكم بين معموله ومهمله كالذهب والفضة. [859] فصل: ودليلنا على صحة العلة المقصورة أن عدم التعدي ليس فيه أكثر من تعذر القياس وذلك غير مانع من صحة العلة مع التعبد بالقياس؛ لأنه لو نص صاحب الشرع على أنها علة فيه ومنع القياس على المنطوق به لاستفدنا بذلك كونها علة وإن لم نستفد جواز القياس عليها، فكذلك تعذر القياس مع التعبد به ليس بأبلغ من تحريمه؛ ولأن تعديها إلى الفرع درجة تتأخر عن كونها علة؛ لأنا إذا علمناها عنه بطريقها الذي يعلم منه عديناها، وما يجب تقديمه على الشرط لا يصح اشتراطه فيه لأن ذلك إحالة. [860] مسألة: ولا يجوز في بيع مطعوم بمطعوم تأخير على وجه كان، مما فيه الربا أو مما لا ربا فيه جنساً أو جنسين، خلافاً لأبي حنيفة في قوله إن القبض ليس من شرطه إلا أن يكون جزءاً من صبرة. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الربا في النسيئة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تبيعوا الذهب بالذهب

والورق بالورق والبر بالبر والشعير بالشعير إلا عيناً بعين يداً بيد. وقوله: الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلا هاء وها والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير إلا هاء وهاء. ولأن كل شيئين لا يجوز أن يسلم أحدهما في الآخر مع كونه مما يجوز السلم فيه لا يجوز بيع أحدهما بالآخر إلا يداً بيد، أصله الذهب بالحلي، والذهب بالفضة. ولأنه بيع طعام بطعام كالجزء من الصبرة. [861] مسألة: كل ما لا يحرم التفاضل في نقده كالثياب والحيوان وسائر العروض، يجوز بيع الجنس بعضه ببعض متماثلاً ومتفاضلاً نقداً، ولا يجوز متفاضلاً نساء بوجه، والاعتبار عندنا في الجنسية اتفاق الأغراض والمنافع واختلافها، وقال أبو حنيفة: الجنس بانفراده علة في منع بيع بعضه ببعض نساء متفاضلاً ومتماثلاً، وقال الشافعي: كل ما لا ربا في نقده فجائز بيع بعضه ببعض نساء متماثلاً ومتفاضلاً. والخلاف بيننا وبين أبي حنيفة في جواز بيع الواحد بالواحد من جنسه إلى أجل فجوزناه ومنعوه. ودليلنا قوله عز وجل: {وأحل الله البيع وحرم الربا}، وفي حديث عبدالله بن عمر أنه ابتاع البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولأنه

إجماع الصحابة لأن علياً رضي الله عنه باع بعيراً له يد على عصيفير بعشرة أبعرة إلى أجل. وابن عمر باع بعيراً له بأربعة أبعرة إلى أجل، ولا مخالف لهما؛ ولأن الجنس بانفراده لا يكون علة في تحريم النساء، وإنما يكون ذلك متى تعلق به التفاضل إما في البيع وإما في الجنس المبيع، فأما جعله بانفراده علة فذلك مخالف للأصول. [862] فصل: والخلاف بيننا وبين الشافعي في العبد بالعبدين من جنسه والبعير بالبعيرين من جنسه فمنعناه وجوزه، ودليلنا قوله: إنما الربا في النسيئة. ولأن في ذلك ذريعة إلى القرض الذي يجر نفعاً؛ لأنه كأنه أقرضه، بعيراً ببعيرين إلى أجل؛ لأنه ليس هناك اختلاف أغراض وتباين منافع يحمل التفاضل عليه، فلم يبق إلا ما قلناه. وإذا قويت التهمة فيه منعناه، لكون فيه ذريعة إلى الأمر الممنوع. [863] مسألة: اختلف أصحابنا في تخريج قول مالك في بيع الحنطة بالدقيق فمنهم من يقول: المسألة على روايتين إحداهما: الجواز، والأخرى: المنع. ومنهم من يقول: إنها على اختلاف حالين: إن كان كيلاً بكيل فلا يجوز، وإن كان وزناً بوزن جاز. وعند أبي حنيفة والشافعي، لا يجوز بوجه. ودليلنا على جوازه كيلاً بكيل أنه ليس في كونه دقيقاً أكثر من تفريق أجزاء الحنطة، وذلك لا يمنع الكيل، ولا ينافي المماثلة؛ لأن الجنس إذا أتى عليه في المكيال أخذ من الدقيق كما يأخذ من الحنطة.

[864] مسألة: ويجوز بيع الدقيق بالدقيق كيلاً خلافاً للشافعي. للظاهر، ولأن التساوي موجود فيهما في الحال كالحنطة بالحنطة. ولأنه نوع فيه الربا فإذا افترقت أجزاؤه جاز بيع بعضها ببعض إذا تماثلا فيما يتماثل فيه أصله، كالعصير بالعصير والشيرج بالشيرج. [865] مسألة: بيع السويق بالحنطة وبالدقيق جائز مع التفاضل والتماثل، خلافاً للشافعي. لأن الصنعة قد غيرت حكم السويق وجعلته جنساً منفرداً عن الحنطة، وللتغيير بالصنعة تأثير في اختلاف الجنسية، ألا ترى أن لحم الضان والمعز لا يجوز متفاضلاً ثم بيع الشيء بالمطبوخ متفاضلاً جائز لاختلاف الأغراض فيها، كذلك السويق والدقيق. [866] مسألة: يجوز بيع اللحم باللحم والخبز بالخبز والبيض بالبيض على التحري، ومن أصحابنا من أجازه على الإطلاق. ومنهم من شرط فيه تعذر الموازين كالبوادي والأسفار. وقال أبو حنيفة، والشافعي لا يجوز بوجه. فدليلنا أن النقل مستفيض عن الصحابة أنهم كانوا يقتسمون اللحوم على التحري. والقسمة إما بيع أو في حكم البيع، كل واحد من المقتسمين،، حظه بخظ أخيه. ولأن الحزر في الشرع قد جعل طريقاً إلى جواز البيع فيما شرط فيه الكيل والوزن عند تعذرهما، كالزكاة والعرايا فكذلك في مسألتنا للضرورة، وهي أن الموازين تتعذر وتشق، فلو قلنا إنهم لا يقسمون اللحم في الأسفار إلا بميزان كشف ذلك وأدى إلى ضياعه، وإلى فوات الانتفاع به، فجاز لهذه الضرورة اقتسامه على التحري، فإذا جاز في القسمة جاز في البيع لأنه لا أحد يندم. [867] مسألة: اللحوم ثلاثة أصناف: لحم الأنعام، والوحش صنف، ولحوم الطير صنف، ولحوم ذوات الماء صنف، يجوز بيع كل جنس منه بخلافه متفاضلاً، ولا يجوز بصنفه إلا متماثلاً. وقال أبو حنيفة: كلها أصناف لاختلاف أصولها. وقال الشافعي كلها صنف واحد. والخلاف بيننا

وبين أبي حنيفة في بيع لحم الغنم بغيره من ذوات الأربع متفاضلاً، فجوزوه ومنعناه. فدليلنا قوله عز وجل: {وحرم الربا}. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: الطعام بالطعام مثلاً بمثل. ولأنه من بهيمة الأنعام فلم يجز بيعه بما شاركه في هذا الوصف متفاضلاً، أصله إذا بيع بنوعه، ولأن جنس ذوات الأربع لا يجوز التفاضل في لحمه بعضه ببعض كما لو كان من نوعه. ودليلنا على بطلان القول بأنه صنف، قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم. والجنسية هاهنا المراد بها تباين المنافع والأغراض، وقد ثبت أن لحم السمك ليس من جنس لحم الإبل، لأنهما لا يتفقان في غرض ولا منفعة، ولا يؤكل أحدهما على الوجه الذي يؤكل عليه الآخر، فيجب أن يكونا جنسين؛ ولأن لحوم السمك طعام لا يحتاج إلى ذكاته، فوجب أن يكون جنساً يفارق ما يحتاج إلى ذكاته كالعسل والخل. [868] مسألة: لا يجوز بيع الرطب بالتمر. خلافاً لأبي حنيفة لما روى سعد بن أبي وقاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا نعم فنهى عنه، وروي فلا إذا وروى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا التمر بالرطب وهذا نص. وروى سهل بن أبي حثمه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع التمر بالتمر وأرخص في العرية أن تباع بخرصها فيأكلها أهلها

رطباً، ففيه دليلان: أحدها: العموم. والآخر: استثناء العرية تثبت أن ما عداها باق على أصل المنع. وروى ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة، والمزابنة: بيع التمر بالتمر، وبيع العنب بالزبيب كيلاً، ونقل هذا التفسير، عن جابر، وأبي سعيد، وسهل بن أبي خثمة وليس يخلو أن تكون رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان كذلك فهو غاية المراد، وإن كان من عند الصحابي، فهو أولى من تفسير غيره. ولأنه جنس فيه الربا بيع منه مجهول بمعلوم فلم يجز أصله بيع الشيرج بالسمم والزيتون بالزيت، ولأنه جنس فيه الربا بيع بعضه ببعض على صفة تنقص إحداهما عن الأخرى في المستقبل، فوجب أن لا يجوز، أصله بيع العجين بالدقيق، ولأن المماثلة معتبرة باختلاف حاليهما في رطوبة أحدهما وجفاف الآخر فمنع التماثل فلم يجز البيع. [869] مسألة: يجوز بيع الرطب بالرطب متماثلاً. خلافاً للشافعي. لقوله عز وجل: {وأحل الله البيع وحرم الربا}. وروى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تبايعو الثمر بالتمر حتى يبدو صلاحها)، وما بعد

الغاية بخلاف ما قبلها، ولأنها ثمرة بيعت بجنسها وهما على حال متساويين فيها فجاز ذلك كالتمر بالتمر، ولأن كل جنس جاز بيعه بجنسه حال جفافهما جاز حال رطوبتهما كاللبن باللبن. ولأنها إحدى حالاته فكان مماثلاً لما ساواه فيها من جنسه كحال الجفاف، ولأن كل حال كانت طريقاً للمماثلة بين اليابسين فكذلك بين الرطبين كحال الجفاف. [870] مسألة: لبن الآدميات طاهر يجوز بيعه وشربه، وقال أبو حنيفة لا يجوز بيعه. فدليلنا قوله عز وجل: {وأحل الله البيع وحرم الربا}. ولأنه لبن طاهر فأشبه لبن الشاة، ولأن كل ما جاز شربه جاز بيعه أصله الماء. [871] فصل: وهو طاهر، خلافاً لبعض الشافعية؛ لأنه مائع يجوز شربه كالماء، ولأنه لبن حيوان طاهر اللحم كالشاة. [872] مسألة: كل جنس فيه الربا إذا بيع بمثله فلا يجوز أن يكون مع أحد الجنسين شيء غيره، ولا معهما وسواء كان ذلك الغير مما فيه الربا أو مما لا ربا فيه، وقال أبو حنيفة: يجوز بيع صاع تمر وثوب بصاعي تمر، فجعل أحد الصاعين في مقابلة صاع وجعل الثوب في مقابلة الصاع الآخر، وكذلك دينار ودرهم بدينارين. ودليلنا حديث فضالة بن عبيد قال: (أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير، فقال: لا حتى يميز بينهما، فقال: ما أردت الحجارة، فقال: لا حتى يميز بينهما). ولأن المماثلة إذا كانت معتبرة في بيع الذهب بالذهب

والتمر بالتمر وجب أن لا يكون مع أحدهما غيره؛ لأن ذلك يمنع المماثلة، لأنا نعلم أن الذهب المنفرد ليس في مقابلته ذهب مثله، وإنما في مقابلته ذهب وشيء آخر ولأن الصفقة إذا تناولت أشياء فإن جملة الثمن في مقابلة جملة المبيع ويقسط على المبيع بالقيمة، وإذا تبايعا صاعين تمراً بصاع وثوب، فقد حصل أن الصاعين في مقابلة جملة الصاع والثوب، ولا يؤمن أن يكون قيمة الثوب صاعين أو أكثر من صاع فيؤدي ذلك إلى أن يكون صاعاً في مقابلة أقل من صاع، وذلك رباً؛ لأن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، ولأنه جنس فيه الربا فإذا بيع شيء منه مع غير جنسه بشيء من جنسهلم يصح، أصله إذا كان المفرد مثل الذي معه غيره كصاع تمر وثوب بصاع تمر منفرد. [873] مسألة: لا يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه الذي لا يجوز بيع لحم بعضه ببعض متفاضلاً إذا كان الحي كبيرا ليس يصلح إلا للذبح، ويجوز بغير نوعه، فالأول مثل لحم غنم بجمل حي والثاني لحم شاة بطير حي، وقال أبو حنيفة: يجوز على كل وجه، وقال الشافعي: لا يجوز على كل وجه. فدليلنا على أبي حنيفة نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع اللحم بالحيوان، وروي أنه نهى عن بيع الحي بالميت؛ ولأن اللحم نوع يدخله الربا، ولا يجوز بيعه بأصله من غير صناعة مؤثرة كالشيرج بالسمسم، ولأن ذلك على أصلنا مزابنة وهو بيع معلوم بمجهول من جنسه. [874] فصل: ودليلنا على الشافعي قوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا}. ولأنه لحم بيع بجنس مخالف له كالعبيد والحمير، ولأن

الأغراض مختلفة فيه فأشبه ما ذكرناه. [875] مسألة: لا يجوز بيع الحنطة بالشعير متفاضلاً. خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي، لما روي أن معمر بن عبدالله أرسل غلامه بصاع من قمح فقال بعه واشتر شعيراً فأخذ صاعاً وزيادة، فقال: رده ولا تأخذن إلا مثلاً بمثل، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الطعام بالطعام مثلاً بمثل، وكان طعامنا يؤمئذ الشعير، ولأنه إجماع الصحابة، وروي عن عمر، وسعد، ومعمر بن عبدالله، وعبدالرحمن بن عوف، ولا مخالف لهم. ولأنهما يتقاربان في المنافع ويتفقان في المنبت والحصاد، وأحدهما لا يخلو من الآخر، فكانا كالجنس الواحد، واعتباراً بالعلس مع الحنطة والمشمس مع الزبيب.

بيع الأصول وثمرها

[876] مسألة: التفاضل جائز في الماء، وروى ابن نافع منع بيعه إلى أجل بالطعام. قال القاضي فعلى هذا يجب أن يحرم التفاضل فيه، وهو قول الشافعي. فوجه الأول: أن الربا إنما حرم حراسة للأموال. وحفظاً لها ومصلحة للناس، ولذلك خص ما تمس الحاجة إليه، والماء أصله مباح غير متشاح فيه، فكان منافياً لموضوع المقصود بالربا. ووجه الثاني: أنه مما يقوم الأبدان بتناوله كالقوت، ولأنه أولى بذلك من جميع الأقوات؛ لأنه ليس فيه ما يقوم مقامه والأول أظهر. [877] مسألة: الربا ثابت بين المسلمين في دار الحرب كثبوته في دار الإسلام، وقال أبو حنيفة إذا أسلم فيها رجلان أو دخلها رجلان مسلمان فتبايعا بالربا جاز. ودليلنا قوله عز وجل: {وحرم الربا}. وسائر الظواهر، ولأن كل مبيع لم يصح في دار الإسلام لم يصح في دار الحرب كسائر البيوع الفاسدة. ولأن كل ما كان محظوراً على المسلمين في دار الإسلام كان محظوراً عليهم في دار الحرب كالزنا، وشرب الخمر، ولأن المسلم متى حصل في دار الحرب بأمان فأموالهم عليه محظورة، فلم يجز مبايعتهم بالربا كالحربي إذا دخل إلينا بأمان فماله علينا محظور، ولا يجوز لنا مبايعته بالربا، ولأنه مال مأخوذ بعقد، فلم يجز أخذه بعقد فاسد كالنكاح الفاسد إذا أمهر فيه. [بيع الأصول وثمرها] [878] مسألة: إذا بيع أصل حائط وفي نخله ثمر فلا يخلو أن يكون أبر أو لم يؤبر فإن كان لم يؤبر فهو للمبتاع وإن كان قد أبر فهو للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، وقال أبو حنيفة الثمرة في الحالتين للبائع، وقال ابن أبي ليلى: الثمرة في الحالتين للمبتاع. فدليلنا على أبي حنيفة قوله - صلى الله عليه وسلم -: من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع، فشرط في

بيع الثمرة قبل بدو صلاحها

كونها للبائع أن تؤبر، فدل على أنها قبل التأبير ليست له، ولأنه كامن في أصل خلقته فوجب أن يتبعه في المبيع بمقتضى العقد، كالحمل في البطن واللبن في الضرع، ودليلنا على ابن أبي ليلى الخبر، ولأنه بعد الأبار له حكم نفسه فلم يتبع أصله كالجنين إذا ظهر. [879] مسألة: إذا كانت الثمرة قد أبرت فليس للمشتري إجبار البائع على نقل ثمرته من النخل قبل أوان الجذاذ. خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن من ابتاع شيئاً مشغولاً بحق للبائع فإن البائع يكلف نقله على ما جرت العادة به. ألا ترى أنه لو ابتاع داراً وفيها أكرار طعام لم يكلف نقله في جوف الليل ولا في جملة واحدة، بل على مهل بحسب العادة؛ كذلك في مسألتنا العادة أن الناس لا ينقلون ثمارهم إلا بعد أن تبلغ ويستحكم صلاحها، فكلف المبتاع تبقيتها على النخل ليأخذها البائع على العادة، ولأن من باع شيئاً وكانت منفعة المبيع مستثناة للبائع أو غيره بالعقد، فإن له استيفاء تلك المنفعة المستثناة له بالعقد على كمالها كمن ابتاع أمة ولها زوج فإن منفعة البضع مستثناة للزوج بنفس العقد، وله استيفاؤها على كمالها كذلك في مسألتنا. [بيع الثمرة قبل بدو صلاحها] [880] مسألة: لا يجوز بيع ثمرة قبل بدو صلاحها على الإطلاق من غير شرط القطع. خلافاً لأبي حنيفة في قوله يجوز ذلك ويؤخذ المبتاع بقطعها في الحال. والكلام في فصلين: أحدها: أن البيع فاسد. والآخر: أن الإطلاق عندنا يقتضي التبقية، وعنده القطع،

فدليلنا على فساد البيع ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وروي حتى تزهى أو قال حتى تحمر أو تصفر. والنهي يقتضي الفساد، ولأنه عقد على ثمرة منفردة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع، فلم يصح، أصله إذا باعاها بشرط التبقية. ودليلنا على أن الإطلاق يقتضي التبقية قوله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحكم مال أخيه، ومنع الثمرة إنما يكون بجائحة، وذلك إنما يخاف منه على ثمرة مبقاة، ولأن الإطلاع محمول على العادة، والعادة التبقية على ما بيناه، فوجب حمل الإطلاق عليها. [881] مسألة: يجوز بيع الثمرة بعد بدو صلاحها على شرط التبقية، خلافاً لأبي حنيفة، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها. فدل على أن الصلاح إذا بدا جاز بيعها على الإطلاق. ولأنا قد بينا أن الإطلاق يقتضي التبقية، فإذا شرط التبقية فقد شرط موجب العقد فلم يمنع. [882] مسألة: بدو الصلاح في النخل أن تحمر أو تصفر، وفي العنب

أن يطعم، وحكي عن قوم قالوا: هو طلوع الثريا. فدليلنا نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى تزهى، قيل يا رسول الله: وما تزهى قال حتى تحمر وتصفر. وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع العنب حتى يسود والتمر حتى يزهى. [883] مسألة: إذا بدا الصلاح في نخلة واحدة جاز بيع ذلك القراح وما جاوره، إذا كان ذلك الصلاح المعهود، لا المبكر في غير وقته، وقال الشافعي: لا يجوز إلا بيع القراح التي فيه تلك النخلة ولا يباع حائط يبدو صلاح غيره. فدليلنا أن المعتبر في ذلك هو الأمن من الآفة على الثمرة دون الحيازة، ألا ترى أنها لو كانت حائطاً واحداً لجاز بيع باقيه. ولأن مجاورة الأقرحة لهذه القراح كمجاورة نخل القراح لهذه النخلة، فيجب تساويهما، ولأن كون الحدين بين القراحين لا يؤثر في منع المبيع إذا بدا الصلاح كما أن وجودهما لا يؤثر في جوازه قبل مجيء الوقت. [884] مسألة: لا يباع صنف من الثمر بطيب غيره كالعنب والتين والرطب. خلافاً لما يحكى عن الليث إن صح ذلك؛ لأن بدو الصلاح في صنف لا يمنع لحوق الآفة لغيره مما لم يبد صلاحه، ولأنها ثمرة لم يبد صلاحها فلم يجز بيعها، كما لو لم يبد الصلاح في غيرها. [885] مسألة: يجوز بيع المقاثي والمباطخ إذا بدا أولها، وإن لم يظهر ما بعده، وكذلك الأصول المغيبة في الأرض كالجزر والفجل والبصل وما أشبه ذلك. وقال أبو حنيفة، والشافعي لا يجوز إلا بيع ما ظهر دون ما لم يظهر.

بيع الجوز واللوز والباقلاء في قشره

ودليلنا قوله عز وجل: {وأحل الله البيع وحرم الربا}. ولأن الضرورة تدعو إلى ذلك مع كونه الغرر فيه، لأنا لو منعناه لأدى إلى أحد أمرين: إما أن ينفرد الموجود بالبيع وهو إنما يوجد أولاً فأولاً، وذلك يؤدي إلى اختلاط ما ظهر بما لم يظهر؛ لأن خروجه متتابع فليس يؤخذ الأول إلا وقد خرج الثاني ويشق التمييز بين الثمرتين، أو أن لا يباع إلا بعد ظهور جميعه، وفي ذلك إضاعته وإفساده، فدعت الحاجة إليه مع قلة الغرر فيه، ولأنه قد ثبت جواز بيع ما لم يبد صلاحه من التمر تبعاً لما قد بدا صلاحه، وكذلك يجوز بيع ما لم يخلق تبعاً لما خلق، ولنا فيه استدلال واعتلال، فالاستدلال أن نقول، لأن ظهور الثمرة مع عدم الصلاح جار في منع البيع مجرى عدم ظهور المقاثي والمباطخ في مسألتنا، ثم كان بدو الصلاح في بعض الثمرة كبدوه في جميعها، فيجب أن يكون كذلك ظهور بعضها في مسألتنا بمنزلة ظهور جميعها. والاعتلال، أن تقول: لأنه شرط في جواز بيعها فوجب إذا وجد في بعضها أن يكون كوجوده في جميعها مع التتابع في قوته، أصله بدو الصلاح في الثمر. [بيع الجوز واللوز والباقلاء في قشره] [886] مسألة: يجوز بيع الجوز واللوز والباقلاء في قشره الأعلى، خلافاً للشافعي، لقوله عز وجل: {وأحل الله البيع وحرم الربا}. ولأنه كامن مأكول في أكمام من أصل الخلقة، فجاز بيعه كالرمان والموز؛ لأن الناس يأكلونه رطباً وبهم حاجة إلى بيعه كذلك؛ لأنه ليس كل أحد يمكنه أن يجفف ثمرته، فلو قلنا إن الباقلاء لا يباع وعليه القشرة الخضراء لأدى

بيع السنبل إذا يبس واستغنى عن الماء

إلى أن يقال: إنه تنزع قشرته، وفي ذلك فساده، أو إلى أن لا يباع رطبا، ً وفي ذلك مشقة. [بيع السنبل إذا يبس واستغنى عن الماء] [887] مسألة: يجوز بيع السنبل إذا يبس واستغنى عن الماء، وقال الشافعي لا يجوز. ودليلنا الظاهر، وروى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع السنبل حتى يبيض. وروي أنه نهى عن بيع الطعام حتى يفرك،. ولأنه مأكول دون حائل من أصل الخلقة، فجاز بيعه معه، أصله الباقلاء في قشرته السفلى، والجوز واللوز؛ ولأن بيع الأرز جائز في قشرته الحمراء كذلك السنبل. [بيع الثمرة جزافاً مع الاستثناء] [888] مسألة: يجوز أن يبيع ثمره جزافاً، ويستثني كيلاً معلوماً، وقدره ما بينه وبين الثلث، وقال أبو حنيفة، والشافعي لا يجوز. لأن ذلك إجماع أهل المدينة عملاً متواتراً بينهم. ولأنه استثنى قدراً معلوماً، فجاز كاستثناء الجزء. [وضع الجائحة] [889] مسألة: توضع الجائحة إذا أتت على ثلث الثمرة فأكثر. وقال أبو حنيفة لا يوضع منها شيء، وهو الأظهر من قول الشافعي. ودليلنا ما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع الجوائح. وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لم

بيع المشتري السلعة قبل قبضها

يأخذ أحدهم مال أخيه من ابتاع مال أخيه بغير حق. ولأن بيع الثمار على رؤوس النخل يجري مجرى الإجارة؛ لأن الثمار تؤخذ حالاً فحالاً، كالمنافع إنما تستوفى أولاً فأولاً، ثم إن المنافع إذا تلفت قبل مضي المدة كانت ضمان المكري، فكذلك الثمار يجب أن تكون من ضمان البائع، ودليلنا على أن مجرد التخلية في بيع الثمار لا يكون قبضاً بمجرد التخلية اتفاقنا على أنها لو تلفت بعطش لكانت من البائع، فلو كانت مقبوضة بنفس التخلية لم يكن ضمانها من البائع بوجه كالعبد والثوب، وتحريره أن يقال: لأنها ثمرة مبيعة محتاجة إلى تبقيتها في النخل تلفت بآفة سماوية، فوجب أن تكون من البائع، أصله إذا تلفت بعطش. لأنه لما لم يكن للبائع مطالبة المبتاع بقطعها دل على أنها غير مقبوضة، ولم ينفع وجود التخلية كمن ابتاع طعاماً من رجل فكاله ليلاً، وخلى بينه وبينه، لم يلزمه نقله حتى يصبح، ولم يكن ملك التخلية قبضاً له. [بيع المشتري السلعة قبل قبضها] [890] مسألة: كل مبيع متعين لا يتعلق به حق توفية فبيعه قبل قبضه جائز، من أي الأصناف كان من العروض والحيوان والرقيق والمكيل والموزون، سوى الطعام والشراب. وقال أبو حنيفة ما ينقل ويحول لا يجوز بيعه قبل قبضه، وما لا ينقل ولا يحول كالعقار وشبهه يجوز. وقال الشافعي لا يجوز بيع مبيع بيع قبل قبضه على وجه. فدليلنا قوله عز وجل: {وأحل الله البيع وحرم الربا}. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه فدل أن غيره بخلافه. ولأنه أحد العوضين في عقد البيع، فجاز

التصرية

التصرف فيه قبل قبضه بالبيع وغيره كالثمن. ولأنه إزاله ملك عن عبد أو حيوان كالعتق. ولأن البيع أحد أسباب التمليك فجاز بيعه قبل قبضه كالميراث والوصية. وعلى أصحاب أبي حنيفة؛ لأنه مبيع غير مأكول فأشبه ما لا ينقل ولا يحول. [891] مسألة: إذا ابتاع صبرة طعام جزافاً، وخلى البائع بينه وبينها جاز له بيعها قبل نقلها. خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي. للظاهر، وروى القاسم بن محمد عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع أحد طعاماً اشتراه بكيل حتى يستوفيه فدل أن الجزاف بخلافه. ولأن الجزاف إذا رفع البائع يده عنه فقد استقر ملك المشتري عليه، ولم يبق حق التوفية بدليل أنّ تلفه يكون من المشتري، وإذا سقط حق التوفية منه واستقر ملك المبتاع عليه، جاز بيعه كالمقبوض. [التصرية] [892] مسألة: التصرية عيب يثبت به الخيار للمبتاع. خلافاً لأبي حنيفة في قوله ليست بعيب، ولا يثبت بها حق الرد ولا أثر لها في البيع، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر ففيه أدلة: أحدها: نهيه عنها، وذلك يفيد كونه عيباً وتدليساً. والثاني: إثباته الخيار لمبتاعها. الثالث: إيجابه صاعاً من تمر بردها بعد الحلب، وعندهم لا يجب؛ ولأن الشاة التي تحلب عشرة أرطال تأخذ من الثمن أكثر مما تأخذ التي تحلب رطلين أو ثلاثة، والاختلاف في قيمتها،

أخذ الأرش مقابل العيب

وفي الرغبة فيها متفاوت، وإذا حصلت التصرية فقد دلس البائع على المبتاع ليأخذ ماله بغير حق، كما يسود شعر الأمة التي قد شابت فكان ذلك عيباً موجباً للرد. [أخذ الأرش مقابل العيب] [893] مسألة: إذا وجد المشتري بالسلعة عيباً، فأراد إمساكها وأخذ الأرش وأجابه البائع إلى ذلك، جاز. خلافاً لمن منعه من أصحاب الشافعي؛ لأن الرد حق للمشتري فله أن يستوفيه، وله أن يعاوض على تركه. [اطلاع المشتري على عيب في المبيع بعد التصرف فيه] [894] مسألة: إذا تصرف المشتري في المبيع أو حدث عنده عيب ثم ظهر على عيب كان عند البائع، فهو بالخيار، إن شاء دفع أرش العيب الحادث، وإن شاء أمسك ورجع بأرش العيب الذي كان عند البائع. وقال أبو حنيفة له الأرش وليس له الرد. ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - في المصراة: إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر ولم يفرق بين أن يحدث بها عيب أو لا يحدث. ولأن في منع المبتاع الرد بحدوث العيب عنده إلزامه قبول سلعة معيبة من غير رضا منه بالعيب ولا تعد منه فلم يلزمه ذلك، أصله لو لم يحدث بها عيب. ولأن الحقين إذا تعارضا كان تقديم حق المشتري أولى؛ لأن البائع لا يخلو أن يكون علم بالعيب فقد دلس، ودخل على أن المبيع مردود عليه، أو أن يكون لم يعلم به فذلك تفريط منه وتقصير، فلم يلزم المشتري منه شيء وكان البائع أولى بالحمل عليه. [895] مسألة: إذا نما المبيع في يد المبتاع بولادة الأمة، أو نتاج الماشية، أوإثمار النخل والشجر، ثم وجد بالأصل عيبا فله الرد. خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن كان ذلك يبطل حقه من الرد؛ لأنه نماء حدث في

هل يفتقر الفسخ إلى حكم الحاكم

يد المشتري بعد العقد، فلم يمنع الرد بالعيب كالغلة والكسب. ولأن الرد لا يسقط إلا بالفوات، والفوات هاهنا هو تلف المبيع، أو تلف منافعه. وإن كان العين قائمة، أو شيء يؤثر في الملك، فما عدا هذا فليس بفوات؛ ولأنهم قد وافقونا على أن العبد إذا أفاد عند المشتري مالاً بوصية أو هبة أو وجد ركازاً، أو التقط لقطة، ثم وجد به عيباً أنه يرده به، ولا يمنعه ذلك من رده، فنقول في مسألتنا بأنه نماء لو كان منفعة لم يمنع الرد، وكذلك إذا كان عيباً، أصله نماء العبد. ولأن أكثر ما في الولادة والنتاج أن يكون عيباً، وقد ثبت أن حدوث عيب عند المشتري لا يمنع الرد. [896] مسألة: إذا ردّ المبيع بعد الولادة والنتاج وإثمار النخل فإنه يرده بالولادة، ولا ترد الثمرة. خلافاً للشافعي في قوله يرد الأصل ولا يرد شيئاً من النماء الذي هو عين. لأن حق الرد لزم في الأمهات قبل الولادة وليس بمعاوضة على منافع، فكان الولد الحادث تبعاً لها فيه كالزكاة؛ ولأنه حكم ثبت في رقبة الأم لسبب عقد، فوجب أن يكون ما حدث لها من ولد في حكمها، أصله ولد المكاتبة، والفرق بينه وبين الثمر خراج فهي للمشتري بالضمان، والولد في حكم الأم فليس بخراج. [هل يفتقر الفسخ إلى حكم الحاكم] [897] مسألة: الفسخ بالعيب غير مفتقر إلى حكم الحاكم ولا رضى البائع، قبل القبض وبعده. ووافقنا أبو حنيفة فيه قبل القبض، وخالفنا فيه بعد القبض، فقال لا يثبت الفسخ إلا بأحد أمرين: إما بحضورهما، أو حكم الحاكم. فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - في المصراة إن سخطها ردها فأطلق؛ ولأنه فسخ عقد بعيب اعتباراً به قبل القبض؛ ولأنه معنى يقطع استدامة العقد، فإذا لم يكن رضى المتعاقدين شرطا فيه لم يكن حضورهما شرطاً فيه، أصل الطلاق.

رد الأمة بالعيب

[رد الأمة بالعيب] [898] مسالة: إذا وطئ الأمة المبتاعة ثم وجد بها عيباً، فله أن يردها بكراً كانت أو ثيباً، ويرد مع البكر ما نقص الافتضاض، ولا يرد في الثيب شيئاً. وقال أبو حنيفة: لا يردهما بعد الوطء،. وقال ابن أبي ليلى: يردهما ويرد معهما العقر وهو مهر المثل. وعند الشافعي، لا يرد البكر، فإن ذلك عيب، وحدوث العيب عند المبتاع يمنع الرد عنه. فدليلنا أنه نوع من الاستخدام، فلم يمنع الرد كالخدمة. ولأنه ضرب من الاستمتاع كالقبلة واللمس للذة؛ ولأن الأمة لو كان لها زوج لم يكن وطِئَها قبل الشراء ثم وطئها بعده لم يمنع ذلك الرد، وكذلك وطء المشتري نفسه، وكذلك لو زنت أو غصبت. ودليلنا على أنه لا يرد معها مهراً أنه وطئ ملكه على وجه لم يتلف شيئاً منه، فلم يلزمه عوض كما لو استخدمها. ودليلنا على أن وطء الثيب ليس بنقص أن كل ما لو وجد من الزوج لم يكن نقصاً فكذلك إذا وجد من المبتاع لم يكن نقصاً، أصله الخدمة. [899] مسألة: إذا ابتاع رجلان سلعة صفقة واحدة، فوجدا بها عيباً وأراد أحدهما الرد والآخر الإمساك ففيها روايتان: إحداهما: أن لمن أراد الرد أن يرد. وهو قول الشافعي، والأخرى: أن ليس له ذلك، ويأخذ الأرش، وهو قول أبي حنيفة فوجه الأولى أنه بيع اجتمع في أحد طرفيه عاقدان جاز أن ينفرد أحدهما بالرد على الآخر، أصله إذا ابتاع واحد عبداً من اثنين؛ ولأن المشتري يرد جميع ما لزمه منه بالعقد، فأشبه إذا اشتراه بصفقة منفردة؛ ولأن هذا العقد في حكم العقدين، اعتباراً به إذا كان المبتاع واحداً والبائع اثنين. ولأن العقد إذا تناول شيئاً بثمن معلوم فالثمن مقابل الجملة وأجزاؤه تقسط على أجزاء المبيع، فيصير كأن كل واحد مشتر بقدر حصته منفرد بها.

حق العبد في الملك

ووجه الثانية أن في ذلك تبعيض الصفقة على البائع، فلم يلزمه كما لو كان المشتري واحداً فأراد رد بعض المبيع. [حق العبد في الملك] [900] مسألة: والعبد يملك خلافاً لأبي حنيفة والشافعي. لقوله عز وجل: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}. والفقر والغنى في الآدميين من صفات الملك. وقوله تعالى: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون}. وقد ثبت أن هذا التنبيه عام في الأحرار والعبيد، وكذلك الوصف بالملك. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع فأثبت أنه للعبد مالاً. ومثل قوله: من أعتق عبداً وله مال فماله له إلا أن يستثنيه سيده. وقياساً على الحر بِعِلَلِ، إما أن نقول: لأنه آدمي حي، فجاز أن يملك كالحر، أو لأنه من جنس يصح تكليفه فيجوز تمليكه كالحر. ولأن الرق حال من حال الآدمي الحي، فجاز أن يملك معها كحال الحرية؛ لأن تغيير الأحوال على الشخص لا يؤثر فيما تعلق بالملك من صحة واستحالة، أصله الحر والبهائم؛ لأن كل حال صح أن يملك بعد زوالها صح أن يملك مع وجودها كالصحة والمرض وسائر الأحوال. ولأن ملك الأمة أحد طرفي استباحة البضع

ضمان المشتري، متى؟

فصح في العبد كالنكاح. ولأن الوصية للعبد جائزة، فلو كان لا يصح أن يملك لم تصح الوصية له كالبهيمة، أو نقول: لأنه يفيد سبب الملك فصح أن يملك كالحر. ولأن حكم سبب الملك في الأصول حكم الملك في الصحة والامتناع، ألا ترى أنه لا يصح أن يرث ولا يهب ولا يتصدق إلا على من يصح أن يملك، فلما صح في العبد سبب الملك علم أنه يصح ملكه. ولأن كل من ملك شيئاً ملك بدله، فلما ثبت أن العبد يملك استباحة البضع وجب أن يملك ما يخالع به عليه؛ ولأن الدين يصح في العبد ويلحق ذمته، وهو من فروع الملك بدليل استحالته في البهائم استحالة الملك عليها، فدل على أن العبد يملك. [ضمان المشتري، متى؟] [901] مسألة: سائر المبيعات التي ليس القبض من شروط صحة بيعها، كالعبيد والعروض وغيرهما مما يكال أو يوزن، إذا كانت متعينة ومتميزة ليس فيها حق توفية فضمانها من المشتري قبل القبض. وقال أبو حنيفة، والشافعي ضمانها من البائع حتى يقبضها فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: الخراج بالضمان فجعل الخراج لمن يكون منه، وقد ثبت أن خراج هذا المبيع قبل القبض يكون للمشتري فيجب أن يكون ضمانه منه؛ ولأنه مبيع متعين لا يتعين به حق توفية خراجه للمشتري فكان تلفه منه، أصله إذا قبض؛ لأن الملك لا يخلو أن يكون استقر بنفس البيع الذي هو الإيجاب والقبول المطلق فذلك قولنا، أو بمعنى زائد عليه وهو القبض. والقبض فرع على الملك وتابع له. ألا ترى أنه يجبر البائع على إقباضه للمشتري، وذلك يدل على أن الملك مستقر قبل القبض، ولولا ذلك لم يكن يجبر على الإقباض.

تعيين الدنانير والدراهم في العقد

ولأنه قد ثبت أن المشتري لو طلب البائع بالإقباض فلم يقبضه فإنه يأثم ويجبر على إقباضه ويصير في حكم الغاصب، وإذا ثبت ذلك وكان الغاصب متى تلف الشيء المغصوب في يده يلزمه قيمته دون ثمنه، فكذلك في مسألتنا، ولأن الثمن في البيع كالمهر في النكاح؛ لأن كل واحدٍ منهما عوضٌ مستحقٌ بقدر معاوضته، فإذا كان متعيناً وتلف قبل القبض لم يتلف من بائعه كالمهر. قال أصحابنا: ولأن المشتري إذا تلف المبيع وهو في يد البائع قبل قبضه لكان تلفه منه، فدل ذلك على أن ضمانه منه قبل القبض، وكذلك إذا أتلفه غيره، أو أتلف بأمر من الله عز وجل. [تعيين الدنانير والدراهم في العقد] [902] مسألة: الظاهر من مذهب أصحابنا في الدنانير والدراهم أنهما لا يتعينان في العقد، وهو قول أبي حنيفة. ولأبن القاسم قول أنها تتعين، وهو قول الشافعي، فوجه نفي التعيين، أنها لو كانت مما يتعين لم يجز إطلاق العقد عليها كالثياب والطعام وسائر ما يتعين؛ ولأنه بدل مستحقٌ على وجه الثمن، فوجب أن يثبت في الذمة؛ أصله إذا أطلقاه ولم يعيّناه؛ ولأن الدارهم والدنانير لا يرادان لأعيانهما وإنما تراد للانتفاع بهما، إذ الأغراض فيهما واحدةٌ، ولا مزية لعين منها على عينٍ؛ لأنه لا شيء تراد له إحدى العينين إلا وهو موجودٌ في الأخرى، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون تعينهما وعدم تعنيهما بمنزلةٍ واحدةٍ. ووجه إثباته أن ما تعين بالقبض جاز أن يتعين بالعقد كغير النقود؛ ولأنه لا خلاف أن القبض طريق للتعيين في كل المقبوض بنفس العقد عليه، بعلة أن كل معنى تعين به غير الأثمان جاز أن يتعين به الأثمان كالقبض، عكسه العقد على شيء في الذمة لما لم يتعين به غير الأثمان لم يتعين به الأثمان؛ ولأن كل جنسٍ يتعين مصوغه بالعقد جاز أن يتعين غير

البيع بشرط البراءة

مصوغه كالحديد. ولأنها متعينةٌ في الودائع والغصوب، وكذلك في الأثمان. [البيع بشرط البراءة] [903] مسألة: البيع بشرط البراءة جائزٌ في الرقيق دون غيره، ويبرأ البائع مما لا يعلم، ولا يبرأ مما علمه وكتمه، هذا هو المعمول عليه في المذهب. وفيه روايةٌ أخرى، أنه يبرأ من الرقيق وغيره، وروايةٌ ثالثةٌ، أن بيع البراءة لا ينفع ولا يقع به البراءة. وللشافعي فيه اختلاف أقوال كثيرةٍ. فدليلنا على جوازه وبراءة البائع مما لا يعلمه، حديث ابن عمر لما باع عبداً له بالبراءة، فلم ينكر عثمان ولا غيره. ولأنه شرط البراءة من عيبٍ لم يدلس به ولا كتمه في جنسٍ يقدرون على كتمان عيوبهم، فأشبه إذا أراه إياه ووقف عليه. [904] مسألة: إذا علم عيباً فكتمه وتبرأ منه لم يبرأ منه، خلافاً لأبي حنيفة: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بعت فقل لا خلابة. وقوله: من غشنا فليس منا. وروى واثلة" إذا كان بسلعة أحدكم عيبٌ فليره مشتريها

تصرف الأعمى بالبيع والشراء

هذا معناه ولحديث ابن عمر لما باع عبده بشرط البراءة فرد عليه بعيبٍ فقال له عثمان تحلف أنك بعته وما به عيبٌ تعلمه، قال: أحلف لقد بعته بالبراءة، فقال عثمان: لا، بل تحلف ما كان به داءٌ. فأبى واسترجع عبده؛ ولأن المشتري دخل على أن البائع مثله في أنه لا يعلم بالمبيع عيباً، والبراءة وقعت على هذا الوجه وإن لم يلفظ فيها. فوجب متى بان له خلافه أن يستحق الرد؛ لأنه قد غره ولبس عليه؛ ولأنه عيبٌ وجد بالمبيع لم يوجد رضى به، ولا أبرأه منه بشرطٍ علم البائع به فلم يلزم المشتري، أصله إذا لم يشترط البراءة منه. [بيع العبد وعليه دين] [905] مسألة: الدين على العبد عيبٌ يوجب الخيار خلافاً للشافعي؛ لأن صاحب الدين يأخذ ما يكون للعبد من فائدةٍ وهبةٍ وصدقةٍ، فيقطع بذلك حق السيد في انتزاعه. [تصرف الأعمى بالبيع والشراء] [906] مسألة: بيع الأعمى وشراؤه جائزٌ إذا كان يعرف ما يوصف له، سواءٌ ولد أعمى أو كان بصيراً. خلافاً للشافعي في قوله: لا. يجوز إلا أن يكون بصيراً فعمي، فشاهد شيئاً ثم عمي، فيجوز له بيع ذلك الشيء الذي قد شاهده. لقوله عز وجل: {وأحل الله البيع وحرم الربا}. وقياساً على البصير بعللٍ، إما لأن كل من جاز نكاحه جاز بيعه وابتياعه كالبصير، ولأن كل من صح سَلَمُه صح بيعه للأعيان كالبصير؛ ولأن كل عقدٍ صح من البصير صح من الأعمى كالسلم؛ ولأنه عقد معاوضةٍ فصح من الأعمى

استبراء الأمة من البائع والمشتري

كالنكاح. وقياساً على ما شاهده قبل ذهاب بصره. [استبراء الأمة من البائع والمشتري] [907] مسألة: إذا وطئ أمةً فأراد بيعها فعليه أن يستبرئ قبل البيع، وكذلك المشتري يلزمه الاستبراء، فإن اتفقا على استبراءٍ واحدٍ جاز. وقال أبو حنيفة والشافعي: يجب الاستبراء على المشتري دون البائع. وحكي عن قومٍ أنه يجب على البائع دون المشتري. فدليلنا على وجوبه على البائع، أنه إذا وطئها جاز أن تكون حاملاً من ذلك الوطء. فيكون بائعاً لولده ومدخلاً للشبهة في النسب، وقياساً على المشتري بعلة أنه أحد المتابيعين؛ ولأن المشتري إنما لزمه الاستبراء لحفظ مائه، لئلا يدخل ماؤه على ماء غيره، والبائع يلزمه حفظ مائه كما يلزم المشتري فيلزمه الاستبراء؛ ولأنه عقد يبيح وطأها فوجب على مالكها استبراؤها، أصله إذا أراد أن يزوجها، ودليلنا على وجوبه على المشتري، قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا توطأ حاملٌ حتى تضع، ولا حائلً حتى تحيض. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقينَّ ماءه زرع غيره، ولأنه لا يؤمن أن تكون حاملاً فيكون بوطئه مدخلاً للشبهة في النسب فلزمه الاستبراء. [908] مسألة: إذا ابتاع حائضاً في أول حيضتها أجزأ من الاستبراء،

العلم بالعيب بعد بيع السلعة

خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: لابد من حيضة مستأنفة؛ لأن الحيض أمارةٌ دالةٌ على براءة الرحم، وذلك يحصل بتوالي الدم في أيامها ولا يؤثر فيه فوات ساعةٍ أو يومٍ، ولا يزيل المعنى المقصود منه. [العلم بالعيب بعد بيع السلعة] [909] مسألة: إذا لم يعلم بالعيب حتى باع السلعة فالصحيح من المذهب أن له الرجوع بالأرش على البائع، خلافاً للشافعي؛ لأن البيع قد ثبت والبائع لم يوفه ما أوجبه له العقد، فكان له الرجوع عليه بالأرش كالعتق والكتابة. [استبراء الأمة في الإقالة وهي في يد البائع] [910] مسألة: إذا تقايلا وهي في يد البائع، أو كانت وديعةً عنده فورثها وكانت قد حاضت عنده لم يحتج إلى استبراء. خلافاً للشافعي في قوله: لا بد لتجدد الملك من الاستبراء؛ لأن العلم ببراءة رحمها حاصلٌ فجاز وطؤها كما لو استبرأها؛ ولأن الاستبراء إنما جعل ليفصل بين الماءين مع إمكان أن يكون هناك ماءٌ، فأما مع تحقق عدمه فلا معنى له. [بيع الأمة ولها زوج] [911] مسألة: الزوج للأمة، والزوجة للعبد، عيب يوجب الرد، خلافاً للشافعي؛ لأن منافع البضع مستحقةٌ على السيد كما لو كان فيها شركٌ؛ ولأن عيب الفرج يوجب الرد مع أنه لا يعوق كثيراً من الاستمتاع فالزوج الذي يعوق جميعه أولى؛ ولأن العبد يلزمه النفقة والصداق ويتشاغل عن خدمة سيده. [رد المبيع بالعيب الباطن] [912] مسألة: ما يكون عيبه باطناً لا يوقف عليه إلا بعد إفساده

البيع بشرط البراءة من الحمل

كالقثاء والبطيخ والجوز والخشب وغيره، على روايتين. والصحيح أنه لا يوجب الرد؛ لأنه يعلم أن البائع لم يكن عالماً به فكان بمنزلة بيع البراءة. [البيع بشرط البراءة من الحمل] [913] مسألة: البيع بشرط البراءة من الحمل غير جائزٌ في المرتفعات كالسراري وشبهها، وجائزٌ في الوخش والتي تراد للخدمة، خلافاً للشافعي في إجازته ذلك في الموضعين؛ لأنه غرر في الرفيعة؛ لأن الأمة المتخذة للوطء والمرادة للتسري يرغب فيها للحسن والجمال، والحمل ينقصها، ويؤثر في نقصان ثمنها تأثيراً بيناً، ويقل الراغب فيها، فإذا تيقن فقد دخل كل واحدٍ على بصيرةٍ وزال الغرر، وصار عيباً ظاهراً رضي به والوخش بخلاف ذلك، بل ربما زاد في ثمنها ويرغب لأجله فيها. [بيع المرابحة] [914] مسألة: بيع المرابحة جائزٌ، خلافاً لمن منعه أو كرهه؛ لأن الثمن معلومٌ للمتبايعين كما لو فصله. [915] مسألة: إذا اشترى سلعةً بثمنٍ، ثم باعه بربحٍ، ثم عاد فاشتراها شراءً صحيحاً بالثمن الأول كان له أن يبيعها مرابحةً، ولا يلزمه إسقاط الربح وقال أبو حنيفة: لا يجوز له بيعها مرابحةً إلا بعد إسقاط الربح، فدليلنا أن السلعة ملكت في العقد الثاني بالثمن الذي عقد به، فتعلق الحكم به ولم يعتبر الربح قبله، بدليل لو خسر فيها ثم اشتراها لم يضم الخسران إلى رأس المال. [تحريم بيوع الآجال] 916. مسألة: إذا اشترى سلعةً بمائةٍ إلى أجلٍ لم يجز له أن

يبيعها من بائعها نقداً بثمانين، وكذلك لو ابتاعها إلى أجلٍ لم يجز له أن يبيعها من بائعها إلى أجل بزيادة على المائة وأجاز الشافعي كل ذلك، ودليلنا أن هذه المسألة مبنيةٌ على الذرائع وهو الأمر الذي ظاهره الجواز إذا قويت التهمة في التطرق به إلى الممنوع، ووجه ذلك أن البائع دفع مائةً نقداً ليأخذ مائةً وخمسين إلى أجلٍ، فذكر السلعة والبيع لغوٌ، وهذا ذريعة إلى العينة. والقرض الجار نفعاً، فلم يجز، ويدل عليه حديث عائشة لما ذكرت لها أم ولد زيد بن أرقم أنها باعته جاريةً بثمانمائة درهمٍ إلى العطاء وأنها اشترتها بعد ذلك بستمائةٍ نقداً، فقالت بئس ما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقمٍ أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن لم يتب فقالت: ماذا أصنع؟ فقالت: قال الله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} ففيه، أدلة أحدها: أن القياس لا يدل على المنع فلم يبق إلا أن تكون صارت إليه توقيفاً أو للذريعة على ما قلناه. والثانية: أنها عدته رباً، وقد علم أنه ليس بربا، فلم يبق إلا أن يكون شرعاً. والثالث: إنها غلظت الأمر فيه تغليظاً لا يبلغ إلى مثله في مسائل الاجتهاد فكان الأغلب أن يكون للتوقيف عندها فيه.

بيع ملك الغير

[بيع ملك الغير] [917] مسألة: إذا باع ملك غيره من غير إذنه، انعقد البيع ووقف ذلك على إجازة المالك، وكذلك الشراء، وقال أبو حنيفة: ينعقد البيع ولا ينعقد الشراء، وقال الشافعي: لا ينعقد في الموضعين، ودليلنا حديث حكيم بن حزام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أعطاه ديناراً ليبتاع له شاةً، فابتاع له شاةً ثم باعها بدينارين ثم ابتاع بأحدهما شاةً وجاء بالشاة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ودينارٍ"، ومثله في حديث عروة البارقي، فأخذها ودعا له بالبركة في صفقته، ولأنه عقد تمليكٍ يفتقر إلى إجازةٍ، فجاز أن يوقف كالوصية؛ ولأنه عقد على عينٍ لو وقع من المالك لجاز، فجاز أن يقع موقوفاً على إذنه، أصله التصدق باللقطة؛ ولأن الإجازة أحد موجبي الخيار فصح أن يقف العقد عليها كالفسخ؛ ولأن الإيجاب والقبول قد وجد بين اثنين في عقدٍ له مالكٌ فصح أن ينعقد، أصله إذا وقع من المالك؛ ولأن أحد طرفي العقد يقف على الإجازة فجميعه أولى،

اجتماع الحلال والحرام في صفقة واحدة

ودليلنا على أبي حنيفة، اعتباراً بالبيع بعلة أنها معاوضةٌ له بغير أمره. [اجتماع الحلال والحرام في صفقة واحدة] [918] مسألة: إذا جمعت الصفقة حلالاً وحراماً، لم يجز شيءً منها أصلاً إذا كان المنع لحق الله عز وجل، فإن جمعت ما يجوز وما لا يجوز لحق الغير، جاز منها الجائز، ووقف حق الغير على إجازته، ودليلنا أنه عقد معاوضةٍ جمعت صفقةً جائزاً ومحرماً لحق الله عز وجل فلم يصح، أصله إذا عقد عقداً واحداً لنكاح أمةٍ أو أجنبيةٍ أو امرأةٍ وبنتها. [بيع ما لا يمكن أخذه] [919] مسألة: السمك في غديرٍ أو بركةٍ، لا يجوز بيعه إذا كان لا يمكن أخذه إلا بكلفةٍ وصيدٍ، خلافاً لأبي حنيفة لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر، وهذا منه، ولأنه لا يمكن تسليمه بعد العقد؛ لأنه إذا كان في غديرٍ أو بركةٍ فإنه يتوارى في زواياها حيث يتعذر الوصول إليه، ولا يعرف قدره؛ ولأنه باع ما يصاد قبل أخذه ونقله عن حاله، فأشبه الطائر إذا خلاه عن برجه. [بيع الكلب] [920] مسألة: اختلف أصحابنا في بيع الكلب المأذون في اتخاذه والانتفاع به، فمنهم من قال مكروه ويصح، ومنهم من قال لا يجوز، فوجه الجواز ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيدٍ أو زرعٍ أو ماشية"؛ ولأنه جارحٌ يصاد به كالبازي؛ ولأنه حيوانٌ

بيع الآبق

يملك بالأخذ، فجاز أن يملك بالبيع كالصيد؛ ولأنه حيوانٌ يملك بالوصية كسائر الحيوان. ووجه المنع نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب؛ ولأنه حيوانٌ منهيٌ عن اتخاذه في الجملة كالسباع والأول أظهر. [921] مسألة: ومن قتل لرجلٍ كلباً لصيدٍ أو لزرعٍِ أو ماشية فعليه قيمته على الوجهين جميعاً في بيعه، خلافاً للشافعي؛ لأنه عينٌ مأذونٌ في اتخاذها للانتفاع بها، فوجب إذا تلف على صاحبها أن يلزم القيمة متلفها كسائر الأعيان؛ ولأنه حيوانٌ تصح الوصية به، كالخيل والبغال؛ ولأنه حيوانٌ مأذون في الانتفاع به كسائر الحيوان؛ ولأنها بهيمةٌ يجوز الاصطياد بها كالبازي؛ ولأن إجارته جائزةً على أصح وجهي أصحاب الشافعي، وما صحت إجارته جاز وجوب القيمة على متلفه كسائر البهائم. [بيع الآبق] [922] مسألة: بيع الآبق غير جائز خلافاً لقومٍ؛ لأنه غرر لا يدري هل هو سالمٌ أم تالفٌ؟ وهل هو على صفته أو قد تغيرت؟ ولأنه لا يقدر على تسليمه.

عهدة الرقيق

[923] فصل: فإذا حصل عند إنسانٍ وعرف صفته وعلم بذلك سيده جاز بيعه منه، خلافاً للشافعي؛ لأنه باع ملكاً له عارفاً بصفته مقدوراً على تسليمه لا حق لغيره فيه، فجاز ذلك كما لو باعه بعد قبضه. [عهدة الرقيق] [924] مسألة: عهدة الرقيق ثلاثة أيامٍ، وبعدها عهدة السنة، من الجنون والجذام والبرص، وهذا كان بالمدينة، وأما الخلاف فيه اليوم فعلى تقدير أنه إن اتفق عليه أهل بلدٍ وتصالحوا عليه هل يلزم بينهم من لم يشترطه ودخل على البيع المطلق أم لا، هاهنا يتصور الخلاف، فعندنا يلزمه، وعند أبي حنيفة والشافعي، لا يلزم، ودليلنا حديث الحسن عن عقبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" عهدة الرقيق ثلاثة أيامٍ"؛ ولأن ذلك إجماع أهل المدينة من طريق النقل. [بيع العبد بشرط العتق] [925] مسألة: يجوز بيع العبد بشرط العتق، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن البيع باطلٌ؛ لأن عائشة رضي الله عنها، ابتاعت بريرة بشرط أن تعتق ويكون الولاء لهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما الولاء لمن أعتق، فجاز البيع بشرط العتق، ومنع اشتراط الولاء فقط؛ ولأنها قربةٌ مبينةٌ على التغليظ بدليل أن البيع يجب لأجله في بعض المواضع فجاز اشتراطه لحرمته. [قرض الحيوان] [926] مسألة: قرض الحيوان سوى الإماء جائزٌ، خلافاً لأبي حنيفة؛

قرض الإماء

لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقرض بكراً فقضى رباعياً فقال خياركم أحسنكم قضاء؛ ولأن كل عينٍ صح أن تثبت في الذمة مهراً صح أن تثبت في الذمة قرضاً كالثياب. [قرض الإماء] [927] مسألة: وقرض الإماء غير جائزٍ، خلافاً لمن أجازه؛ لأنه استمتاع كالعارية فلم تستبح بالقرض كالاستمتاع بأمهات الأولاد؛ ولأنها متعةٌ لا تستباح بالعارية فلم تستبح بالقرض كوطء الزوجة؛ ولأن الاقتراض عقد إرفاقٍ لا يقطع حق المرفق به، فلم يستبح به الوطء كالعارية؛ ولأن الوطء إنما يستباح بملكٍ تامٍ بدليل أن الأمة بين شريكين لا يستبيح كل واحدٍ منهما وطأها، وملك المقترض غير تامٍ؛ لأن للمقترض الرجوع عليه في أخذها، ونكتة المسألة أن المقترض يطؤها ثم يردها فيكون في ذلك ذريعةً إلى إعارة الفرج وإلى استباحتها بغير عقد نكاحٍ ولا ملك يمينٍ وذلك غير جائزٍ. [تعلق دين بالعبد] [928] مسألة: إذا اتجر العبد بغير إذن سيده، أو بإذنه فلحقه دينٌ، تعلق في ذمته دون رقبته، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنه حقٌ لزمه لرضا صاحبه، فلم يتعلق برقبته كما لو كان بغير إذن سيده؛ ولأنه حقٌ لزم العبد فكان محله من المأذون محله من غير المأذون كأرش الجناية.

إقرار العبد على نفسه

[إقرار العبد على نفسه] [929] مسألة: إقرار العبد على نفسه بما يلحقه به عقوبةٌ في بدنه كالقتل والقصاص وغير ذلك يقبل، خلافاً لمحمد بن الحسن وداود لقوله - صلى الله عليه وسلم -:من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله عز وجل. ولم يفرق؛ ولأنه مكلفٌ أقر على نفسه بعقوبةٍ تلحقه في بدنه فقبل منه إقراره كالحر. [930] مسألة: وإذا أقر بسرقة عينٍ في يده وادعاها السيد قطع، وكان عليه غرمها يتبع بها إذا عتق، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: يلزمه تسليم العين إلى المقر له؛ لأن العبد ملك للسيد وما معه ملكٌ له إذا ادعاه، أصله الدابة إذا كان عليها سرج فقال العبد هو لأجنبيٍ. [الكافر يشتري عبدًا مسلماً] [931] مسألة: إذا ابتاع الكافر عبداً مسلماً ففيه روايتان: إحداهما: أن العقد لا يصح، والأخر: أنه يصح ويجبر على بيعه فوجه الأولى قوله عز وجل: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}. وهذا ينفي ملكهم له؛ ولأن كل عقدٍ منع الكافر من استدامته بحرمة الإسلام منع ابتداء، أصله نكاح المسلمة. ووجه الثانية: هو أن المنع من ذلك لخوف الإذلال والامتهان، وذلك لا ينفي الابتداء، وإنما ينفي الاستدامة، بدليل طريان الإسلام على ملك الذمي للعبد، وأنه قد يرتد، وإنما قلنا: يجبر على إزالة ملكه متى اشتراه لهذا المعنى.

بيع السلم

[بيع السلم] [932] مسألة: يجوز السلم في معدوم حال العقد إذا كان يوجد عند المحل، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: لا بد أن يكون موجوداً حال العقد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من أسلم فليسلم في كيل معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ ولم يفرق؛ ولأن كل وقت لم يجعل وقتاً للقبض المُسْلَم فيه لم يكن وجوده شرطاً في صحة العقد، أصله ما بعد المحل؛ ولأنه يضبط بالصفة ويوجد عند المحل فجاز السلم فيه، أصله إذا اتصل وجوده من حين العقد إلى حين المحل. [933] مسألة: الصحيح من المذهب أنه لا يجوز السلم الحال، خلافاً للشافعي؛ لقوله عليه السلام: في كيل معلومٍ ووزن معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ؛ ولأن السلم إنما جوز ارتفاقاً للمتعاقدين؛ لأن المسلم يقدم الثمن للارتخاص، والمسلم إليه يرغب في ارتخاص الثمن للرفق الذي له في استعجال الانتفاع به وفي الصبر والتأخير، وإذا زال الرفق زال الجواز فكان كالقرض لما كان للرفق بالمقترض كان ما أخرجه عن ذلك يبطله؛ ولأن السلم مشتقٌ من اسمه الذي هو السلف، وهو أن يتقدم رأس المال ويتأخر المسلم فيه، فوجب منع ما أخرجه عن ذلك؛ ولأنه بدل في السلم فوجب أن يقع على وجهٍ واحدٍ اعتباراً برأس المال. [934] مسألة: يجوز أن يسلم في شيءٍ واحدٍ إلى أجلين، وفي شيئين إلى أجلٍ واحدٍ، خلافاً للشافعي في أحد قوليه. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إلى أجلٍ

معلومٍ ولم يفرق؛ ولأن كل ما جاز أن يكون في الذمة إلى أجلٍ جاز أن يكون إلى أجلين كالأثمان؛ ولأنه سلم فيما يضبط صفته مما يجوز أن يسلم فيه إلى وقتٍ معلومٍ يوجد فيه، فأشبه السلم في الشيء الواحد إلى الأجل الواحد. [935] مسألة: يجوز السلم إلى الحصاد والجذاذ والموسم، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي، لقوله: إلى أجلٍ معلومٍ؛ ولأنه أجلٌ معلومٌ بوقتٍ من الزمان يعرف في العادة لايتفاوت اختلافه اختلافاً شديداً، كما لو قال النيروز والمهرجان. [936] مسألة: إذا تأخر قبض رأس مال السلم يومين وثلاثة وأكثر جاز ما لم يكن عن شرطٍ، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي لعموم الخبر؛ ولأنه عقد معاوضةٍ لا يخرج بتأخيره عن أن يكون سلماً فأشبه التأخير للتشاغل بالقبض. [937] مسألة: معرفة مقدار رأس المال شرطٌ في السلم فيما يتعلق علمه على مقدار، خلافاً لأبي يوسف ومحمد؛ لأنه أحد بدلي السلم كالمسلم فيه؛ ولأن ما يطرأ على السلم مما يوجب جهالةً في نفس المعقود عليه معتبرٌ في العقد بدليل منع السلم في ملء إناءٍ بعينه لجواز هلاك الإناء وحصول السلم في مجهولٍ، ولا نأمن أن يطرأ على عقد السلم ما يوجب فسخه فيحصل رأس المال مجهولاً لا يمكن رده، فيجب أن يكون ذلك معتبراً في العقد. [938] مسألة: يجوز السلم في الحيوان، خلافاً لأبي حنيفة. والكلام في ذلك في ثلاثة فصولٍ: أحدها: جواز السلم فيه، والثاني: كونه مما يضبط بالصفة، والثالث: كونه يثبت في الذمة.

فأما جواز السلم فيه فلما روي عن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهز جيشاً فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين والأبعرة إلى خروج المصدق بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا سلم وليس بقرضٍ. ولنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن صفة المرأة لزوجها حتى كأنه يراها" فأقام الصفة مقام الرؤية في الحيوان؛ ولأن الإبل تثبت على قاتل العمد في الذمة أرباعاً، وعلى عاقلة الخطأ أخماساً، حتى لو أتى بها خلاف الصفة لم يلزم قبولها؛ ولأن حكم العبيد والحيوان والدواب وحكم سائر العروض واحدٌ في ضبطه بالصفة والسن والهيئة والقدر والبياض والسمرة والسمن والرقة وتصوير العينين والأنف والطول والقصر وغير ذلك، وأما ثبوته في الذمة، فلأنه - صلى الله عليه وسلم - استقرض بكراً فقضى رباعياً؛ ولأن ما جاز أن يثبت في الذمة ثمناً جاز أن يثبت فيها سلماً كالثياب؛ ولأن كل نوعٍ من الأعيان صح أن يكون بدلاً في النكاح والخلع والكتابة صح أن يثبت في الذمة سلما كسائر العروض؛ ولأنه عقد معاوضةٍ فجاز أن يكون الحيوان فيه عوضاً في الذمة أصله في النكاح؛ ولأنه قد ثبت أن الحيوان يكون بدلاً عن متلفٍ في الشرع، أعني الصيد، فجاز أن يثبت في الذمة كالطعام في الكفارة.

الإقالة

[939] مسألة: يجوز السلم في الدنانير والدراهم، خلافاً لأبي حنيفة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ؛ ولأن كل ما جاز أن يكون في الذمة ثمناً جاز أن يكون سلماً أصله الثياب. ولأن ضبطها بالصفة ممكنٌ بذكر نوع فضتها وسكتها ووزنها. [940] مسألة: السَّلم في اللحم جائزٌ، خلافاً لأبي حنيفة لعموم الخبر؛ ولأنه يضبط بالصفة من جنس الحيوان ونوعه وسماته ومواضع أخذه فهو كسائر العروض؛ ولأنه طعامٌ فأشبه البر. [941] مسألة: السلم في الرؤوس والأكارع جائزٌ، وقال أبو حنيفة لا يجوز ولأصحاب الشافعي وجهان فدليلنا الخبر؛ ولأنه يمكنه ضبطه بالصفة بذكر نوع الحيوان والسمن والكبر واللطافة وغير ذلك. [942] مسألة: لا يجوز أن يقيل من بعض ما أسلم فيه فيأخذ بعضه وبعض رأس ماله، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأنه ذريعةٌ إلى البيع والسلف، وإلى بيع الطعام قبل قبضه. والذرائع على أصلنا ممنوعةٌ. [الإقالة] [943] مسألة: الإقالة بيعٌ وليست بفسخٍ على ظاهر المذهب وقال الشافعي هي فسخٌ، فدليلنا أن البائع قام مقام المشتري في نقل الملك الذي نقله إليه مختاراً على وجه البدل فوجب أن يقضى للعقد الثاني بما يقتضيه العقد الأول؛ ولأن الفسخ في العقود ما كان عن غلبة دون ما وقع من اختيارٍ وتراضٍ دليله سائر العقود؛ ولأن الفسخ لا يستحق معه الدلال الأجرة فعلم أنها بيعٌ. [بيع النجس] [944] مسألة: لا يجوز بيع الزيت النجس، ولا السمن النجس، خلافاً

بيع شاة من غنم بدون تعيين

لأبي حنيفة؛ لأنه مائع نجس كالخمر والدم؛ ولأنه مائعٌ لا يحل شربه فلم يجز بيعه كالخل النجس واللبن. [بيع شاة من غنم بدون تعيين] [945] مسألة: إذا باعه عبداً من جملة أعبدٍ، وثوباً من جملة أثوابٍ، وشاةٍ من جملة غنم وكلها صنفٌ متقاربُ الصفة غير متفاوتٍ جاز إذا كان الخيار للمشتري. وقال أبو حنيفة ذلك في العبدين والثوبين والثلاثة، ولا يجوز في الأربعة وقال الشافعي لا يجوز جملةً فدلينا سائر الظواهر في إباحة البيع؛ ولأن الثياب إذا كانت صفاته متقاربةً غير متفاوتةٍ وكانت جنساً واحداً، فالغرر يسير يغفرُ عن مثله؛ ولأن البائع قد علم أن المشتري إنما يختار أعلاها. وأجودها، فقد دخلا في أمر معلومٍ بالعادة. [بيع الصوف على ظهور الغنم] [946] مسألة: يجوز بيع الصوف على ظهور الغنم. خلافاً لأبي حنيفة والشافعي للظاهر؛ ولأنه مبيعٌ مملوكٌ مرئيٌ يجوز بيعه قبل تناوله كالثمار؛ ولأنه ثابتٌ ظاهرٌ مملوكٌ يمكن تناوله من منبته كالقطع، فجاز بيعه في منبته كالقصيل والبقول؛ ولأن كل ما جاز بيعه مع أصله أو مقطوعاً منه جاز بيعه في منبته كسائر المبيعات. [بيع لبن الغنم أياماً معلومة] [947] مسألة: يجوز بيع لبن الغنم أياماً معلومةً إذا عرف قدر حلابها، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأن قدره إذا علم بالعادة، وصفته، جاز كسائر المبيعات؛ ولأن ذلك مبنيٌ على بيع اللبن في الأضراع فنقول: لأنه لبنٌ موصوفٌ بصفته وقدره، فجاز بيعه في الضرع مدةً معلومةً كلبن الظئر.

بيع النجش

[بيع النجش] [948] مسألة: بيع النجش مفسوخٌ خلافاً لأبي حنيفة والشافعي لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النجش؛ ولأنه بيع تدليسٍ وغررٍ؛ لأن العادة من الناس الركون إلى مزايدة التجار وأنهم لا يعطون بالسلعة إلا ما تساوي، فإذا كان على وجه النجش ليغتر به المشتري لم يلزم؛ ولأن في منع ذلك مصلحةٌ عامةٌ، وما يتعلق بالمصلحة العامة جاز أن يحكم بفساده كتلقي السلع وغيره. [بيع الدراهم والدنانير جزافاً] [949] مسألة: الظاهر من المذهب منع بيع الدراهم والدنانير جزافاً تحريماً، ومن شيوخنا من يقول إنه كراهيةٌ. وهو قول أبي حنيفة والشافعي، ودليلينا نهيه عن بيع الغرر، وأصل الجزاف غررٌ؛ ولأن ماله بالٍ وخطرٌ لا يشق عدده ولا وزنه فإن بيعه لا يجوز جزافاً، كالرقيق والثياب، ولا ينتقض بالحلي؛ لأن المشقة في كسره، وقد يكون في الحشو والجوهر، ولا بالنقار والتبر؛ لأن التشاح فيهما ليس كالمضروب. [بيع الصبرة كيلاً] [950] مسألة: إذا قال بعتك هذه الصبرة كل قفيزٍ بدرهمٍ، فالبيع

الاختلاف في مقدار الثمن

صحيحٌ، ويلزم في جميعها، وقال أبو حنيفة: يلزم في قفيزٍ واحدٍ. ودليلنا أن الثمن والمثمن معلومان؛ لأن المبيع معلومٌ بالمشاهدة، والثمن معلومٌ بمقدارٍ فأشبه أن يقول: بعتك هذه الصبرة بعشرة دنانير، وليس يضر أن لا يعلم في الحال جملة الثمن؛ لأنه معلومٌ في الجملة؛ لأنه بحساب التقسيط. إذا قال بعتك هذه الصبرة كل قفيزٍ بدرهم، أو هذه الثياب كل ثوبين بدرهمٍ، أو هؤلاء العبيد كل عبدين بدينارٍ صح، ولزم في الجميع، وأجازه أبو حنيفة في الصبرة ومنعه في الثياب والعبيد، ودليلنا أنه مثمنٌ معلومٌ بثمنٍ معلومٍ فجاز، أصله إذا قال كل ثوبٍ بدرهمٍ، واعتباراً بالصبرة. [951] مسألة: إذا كان البائع يعلم كيل الصبرة فباعها جزافاً لم يجز إلا بعد أن يعلم المبتاع بكيلها، فإن لم يبين له كان للمبتاع الرد. وقال أبو حنيفة، والشافعي البيع جائزٌ ولا يلزم إعلام المشتري، فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -:" من غشنا فليس منا ". وهذا غش؛ لأن المبتاع دخل على أن البائع بمثابته في الجهل بمقدار المبيع. وروى الأوزاعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" من علم كيل طعامٍ فلا يبعه جزافاً حتى يبين"؛ ولأنه باع جزافاً ما يعلم قدر كيله فلم يجز، أصله إذا قال بعتك ملء هذه الغرارة والبائع يعلم قدر ما تسعه. [الاختلاف في مقدار الثمن] [952] مسألة: إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن. فعن مالكٍ رحمة الله عليه ثلاث روايات: إحداها: أنهما يتحالفان ويتفاسخان على أي وجهٍ كان، سواءٌ كانت في يد البائع أو المشتري باقيةً أو تالفةً. وهو قول أشهب والشافعي. والثانية: أن السلعة إن كانت لم تقبض تحالفا وتفاسخا،

وإن كانت قد قبضت فالقول قول المشتري مع يمينه. والثالثة: اعتبار البقاء والفوات وهو قول أبي حنيفة. فوجه الأولى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا اختلف المتبائعان فالقول قول البائع أو يترادان) وروي: ........ " يتحالفان ويتفاسخان" وروي:"فالقول قول البائع"؛ ولأن حصول الاختلاف في ثمن المبيع يوجب التحالف، أصله قبل القبض وبعده مع بقاء السلعة؛ ولأن الاختلاف إذا وقع في كيفية زوال الملك بين المتعاقدين لم يجعل القول قول مدعي الملك عند تلف السلعة كما لو اختلفا فقال أحدهما: بعتكها وقال الآخر: وهبتنيها. ووجه اعتبار التلف قوله - صلى الله عليه وسلم -:" إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع فإن استهلكت فالقول قول المشتري" وروي:" والسلعة قائمة تحالفا وترادا"؛ ولأنا وجدنا التحالف يوجب الفسخ بينهما إذا لم يتصادقا

بيع الحر على أنه عبد

بعد التحالف، والسلعة بعد التلف لا يتأتى فيها الفسخ ولا معنى للتحالف؛ ولأن التحالف سببٌ يثبت به الفسخ، فسقط بتلف المبيع، أصله الإقالة؛ ولأن العقد على الاعيان كالعقد على منافعها، وقد ثبت أن مدة الإجارة إذا انقضت، ثم تنازعا فيما عقدا به من المقدار، لم يتحالفا لتعذر الفسخ بعد تلف المنافع كذلك في المبيع؛ ولأن هلاك العين المستحق بذلها على الضمان يكون القول قول من تلف في يده لا مقدار ما يستحق بها، أصله الغصب؛ ولأنا لو أوجبنا التحالف لكنا قد أوجبنا على المشتري القيمة وربما كانت أضعافاً مما يدعيه البائع. ووجه اعتبار القبض وهو الصحيح أن اليمين في الأموال تجب على أقوى المتداعيين سبباً، والمشتري قد صار بالقبض أقوى سبباً من البائع؛ لأنه لما دفع إليه السلعة ائتمنه عليها إذا لم يتوثق منه، فوجب أن يكون القول قوله. [بيع الحر على أنه عبد] [953] مسألة: إذا جاء رجلٌ بعبدٍ إلى رجل فقال: اشتره مني فإنه رقيقٌ لي، وأقر العبد بذلك، ثم بان له أنه حرٌ، فالضمان على البائع. وقال أبو حنيفة إن كان البائع حاضراً أو غائباً غيبةً يرجى عوده منها، فالضمان عليه وإن كان غائباً لا يرجى عوده فالضمان على العبد. فدليلنا أن ما وجد منه إن كان يتعلق به الضمان لم يفرق في الحكم بين الغيبة والحضور اعتباراً بسائر ما يضمن. تم الباب والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمدٍ وسلم تسليما.

كتاب الرهن

كتاب الرهن [954] مسألة: يجوز الرهن في السفر والحضر. خلافاً لمجاهد في قوله: لا يجوز إلا في السفر؛ لأن كل وثيقةٌ جازت في السفر جازت في الحضر كالضمان؛ ولأنها حال ٌ يجوز أن يتوثق فيها بالضمين فجاز بالرهن كالحضر. [955] مسألة: يلزم الرهن بمجرد القول، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في قولهما لا يلزم إلا بالقبض لقوله عز وجل: {فرهان مقبوضة}. ففيه دليلان. أحدهما: أنه شرط فيه القبض بعد أن أثبتها رهناً، وذلك يفيد أنها قد تكون رهناً وإن لم تقبض، والآخر: أنه لا يخلو أن يكون خبراً أو أمراً، ولا يجوز أن يكون خبراً؛ لأنه لو كان كذلك لم يجز وجود رهنٍ غير مقبوضٍ، ومن قولهم أن الراهن لو جُنّ أو أغمي عليه، ثم أفاق، فسلمه، يصح، فثبت أنه أمر؛ ولأنه عقدٌ لازمٌ فوجب أن يلزم بنفس القول كالنكاح والبيع؛ ولأنه عقد وثيقةٍ فوجب أن يلزم بنفس القول كالكفالة. [956] مسألة: استدامة القبض من شرط صحة الرهن، خلافاً للشافعي. لقوله عز وجل: {فرهان مقبوضة} فعم أحواله؛ ولأنها حالات من أحوال الرهن فوجب أن يكون القبض شرطاً فيها كالابتداء؛ ولأن المعنى الذي لأجله استحق قبض الرهن في الابتداء هو لأن يحصل وثيقةً للمرتهن

بقبضه إياه، وهذا المعنى يحتاج إليه في كل حالٍ كان فيها رهناً فكان القبض شرطاً فيها. [957] مسألة: ويصح رهن المشاع كما يصح بيعه، خلافاً لأبي حنيفة، لقوله عز وجل: {فرهان مقبوضة} فعم؛ ولأنه يصح قبضه بالبيع فصح ارتهانه كالمقسوم؛ ولأن إشاعته لا تمنع صحة الرهن، أصله إذا رهن داراً من رجلين؛ ولأن كل ما لو رهنه مع غيره لصح فكذلك إذا رهنه منفرداً، أصله. الداران إذا رهنهما من رجلٍ؛ ولأنها حال للرهن فجاز أن يتناول المشاع، أصله ثاني حالٍ. وهو أن يرهنه داراً تم يبيع نصفها؛ ولأن كل عقدٍ جاز أن يعقد على بعض الجملة مقسوماً جاز أن يعقد على ذلك البعض مشاعاً، أصله البيع؛ ولأن كل عقدٍ جاز على عينٍ لنفسين جاز على نصفها لأحدهما، أصله البيع. [958] مسألة: إذا رهن عنده عيناً كان غصبها قبل قبضها جاز، وسقط ضمان الغصب، خلافاً للشافعي؛ لأن ابتداء إمساك العين بإذن مالكها يمنع أن تكون مضمونةً ضمان الغصب، أصله الرهن المبتدأ، أو إذا رهنها إياه قبل قبضها؛ ولأن الرهن عقدٌ يتعلق به الضمان فيجب إذا طرأ على الغصب أن يسقط ضمان الغصب كالبيع؛ ولأنه عقدٌ يقتضي إمساك العين بإذن المالك، فوجب أن ينتفي الغصب حال حصوله كالوديعة؛ ولأن الرهن ينافي الغصب في الابتداء، فوجب أن ينتفي ضمانه؛ لأن الضمان بالغصب إنما يثبت مع ثبوت الغصب، فإذا زال الغصب فيجب زواله؛ ولأنها عينٌ ارتهنها بعد أن كان غاصباً لها وصار قابضاً لها بالرهن، فوجب أن يزول ضمان الغصب عنه، أصله إذا قبضها وأعادها إليه. [959] مسألة: الرهن يتعلق بجملة الحق وبأبعاضه، وكذلك تعلق الحق بالرهن، فلو رهنه عبدين بمائةٍ فتلف أحدهما كان الثاني رهناً بجميع المائة، وكذلك لو أسلم أحد العبدين ولم يقبضه الآخر ورضي المرتهن

بذلك كان المقبوض رهناً بجميع المائة، وحكي عن أبي حنيفة أن المقبوض يكون رهناً بقدر ما بقي من مقابلته من الدين. فدليلنا أنه مالٌ محبوسٌ بحقٍ فوجب أن يكون محبوساً بكل حقٍ منه، أصله إذا مات وخلف تركة وعليه دينٌ فإن جميع التركة محبوسةٌ على الدين؛ ولأنها وثيقةٌ بحقٍ فوجب أن تكون وثيقةٌ به وبكل جزءٍ منه؛ ولأن تعلق الرهن بالحق كتعلق الحق بالرهن، وقد ثبت أن الرهن يتعلق بجملة الحق وبكل جزءٍ منه، وكذلك يجب أن يكون تعلق الحق به؛ ولأنه لو كان يتقسط على أجزاء الحق لوجب مثله فيمن رهن جاريةً حاملاً. [960] مسألة: إذا رهن عبداً له ثم أعتقه فإن كان موسراً نفذ عتقه وعجل الحق للمرتهن أو رهنه غيره، وإن كان معسراً لم ينفذ وبقي رهناً، فإن أفاد مالاً قبل الأجل نفذ العتق، وإن بقي على إعساره بيع عند الأجل، وقال أبو حنيفة ينفذ عتقه موسراً كان أو معسراً وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول أبي حنيفة والآخر: أن العتق لا ينفذ موسراً كان أو معسراً. فدليلنا على أبي حنيفة في أنه لا ينفذ عتقه مع الإعسار. قوله عز وجل: {أوفوا بالعقود}؛ ولأنه معنًى يبطل به حق الوثيقة من الرهن فلم ينفذ مع الإعسار بغير رضا المرتهن كالبيع، وإن شئت جعلت حكم العلة أن الراهن لا يملك عتقه، كما لا يملك بيعه، فقلت فجاز أن يزول ملك الراهن عنه بلزوم الرهن كالبيع؛ ولأن الراهن محجورٌ عليه في الرهن بحق المرتهن بدليل أنه لا يجوز تصرفه فيه ببيعٍ ولا هبةٍ فلم يجز إعتاقه كالمفلس؛ ولأن العتق لو نفذ لم يخل الحق أن يتعلق بذمة الراهن فقط أو إلى السعايه والسعاية باطلةٌ على أصلنا، وتعلقه بذمته بغير رهن إلزامٍ له أن يسقط حقه من الوثيقة. وذلك غير جائزٍ، فلم يبق إلا ما قلناه. ودليلنا على الشافعي: أنه إذا أعتقه وهو موسرٌ لم يؤد إلا بطلان

التوثق؛ لأنه إما أن يعجل له حقه فذلك مقدمٌ على التوثق أو أن يرهنه رهناً ويكون حق التوثق باقياً وعقد الرهن إنما يمنع الراهن من فعل ما يبطل حق التوثق فقط. [961] مسألة: إذا رهن عنده رهناً على حقٍ ثم استزاده شيئاً آخر على ذلك الرهن جاز وكان رهناً بالحقين، خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي، لقوله عز وجل: {فرهان مقبوضة} فعم كل دينٍ يجوز أخذ الرهن به، وكل رهنٍ يجوز ارتهانه بكل دينٍ؛ ولأنه وثيقةٌ بالحق، فإذا اشتغل بحقٍ جاز أن يشتغل بحقٍ آخر مع بقاء اشتغاله بالحق الأول كالضمين؛ ولأنه زيادةٌ في التراهن في حق المتراهنين فأشبه الزيادة في الرهن؛ ولأنها زيادةٌ في حق توثيقه على أن تكون الوثيقة بتعلقه بهما فجاز ذلك، أصله زيادةً في الحق في الضمين؛ ولأنه حقٌ تعلق بعين يستوفى من ثمنها، فجاز أن يزاحمه في التعلق بها حق آخر، أصله أرش الجناية؛ ولأن منع ذلك لا يخلو أن يكون لحق الراهن أو المرتهن أو لعقد المرتهن ولا يجوز أن يكون لحق الراهن؛ لأن حقه كان في استرجاعه عند أداء الدين الأول، فإذا علقه بدينٍ آخر فقد اختار إسقاط حقه وبقي تعلق التوثق به، وذلك إليه؛ أو لحق المرتهن؛ لأنه لا ضرورة عليه فيه ولا لمعنًى يعود إلى عقد الرهن، فوجب جوازه. [962] مسألة: يكره تخليل الخمر، فإن خللت أساء وجاز أكلها، وفيه روايةٌ أخرى أنه لا يجوز، وهو قول الشافعي. ودليلنا على الجواز قوله عز وجل: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} الآية. وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" نعم الإدام الخل"؛ ولأن الحكم إذا وجب لعلةٍ زال بزوالها

ما لم يلحقها غيرها، وتحريم الخمر إنما كان من أجل الشدة، وقد زالت فيجب زوال التحريم الثابت بها، كما لو انقلبت بنفسها؛ ولأنه مائعٌ نجسٌ بوجود معنًى لو زال ابتداء بغير صنع آدمي لطهر، فكذلك يجب أن يزول بفعل الآدمي، الأصل فيه النار؛ ولان كل حكم كان ثابتاً بحصول الشدة فإنها إذا زالت زال بزوالها بغير اعتبارٍ بذلك بفعل آدميٍ أو بغير فعلٍ، أصله الحد والتفسيق ورد الشهادة فكذلك النجاسة. [963] مسألة: إذا رهنه عصيراً فصار خمراً، ثم عاد خلاً، فإن ارتهانه ثابتٌ، فلا يحتاج إلى عقد مستأنفٍ، خلافاً لبعضهم؛ لأن العصير تعلق به حقان، حق الملك، وحق الرهن والملك أقوى، ثم كان انقلابه خلاً يوجب عوده إلى الملك، فكذلك الرهن وكذلك لو ارتهن عبداً فارتد ثم تاب لعاد رهناً من غير عقدٍ مستأنفٍ كذلك في مسألتنا. [964] مسألة: إذا وكل الراهن المرتهن على بيع الرهن عند حلول الحق واستيفاء حقه من ثمنه جاز ذلك وصحت الوكالة، خلافاً للشافعي في قوله لا يصح؛ لأنه توكيلٌ للمرتهن في بيع ملكٍ له، فصح ذلك إذا كان من أهل الوكالة، أصله إذا وكله في بيع مالٍ له آخر؛ ولأنه وكل من هو من أهل الوكالة في بيع ملكٍ له فأشبه توكيله الأجنبي. [965] مسألة: إذا تراضيا على أن يكون الرهن في يد عدلٍ جاز خلافاً لابن أبي المطلب وداود؛ لأن الرهن حصل مقبوضاً عن الراهن في يد من يقوم مقام المرتهن فصح ذلك كما لو كان في يد المرتهن. [966] مسألة: إذا كان في يد عدلٍ فتلف فذلك من راهنه، خلافاً لأبي حنيفة في قوله إنه من المرتهن؛ لأن الراهن لم يرض بأمانة المرتهن لما جعله على يد غيره. وكان ذلك رضاً بأن لا يدخل في ضمانه. [967] مسألة: إذا أراد الراهن فسخ وكالة الوكيل في بيع الرهن لم

يكن ذلك له. وقال القاضي إسماعيل له ذلك، وهو قول الشافعي، فدليلنا أن في فسخها إبطال حق المرتهن المتعلق به من تولية البيع وإقباضه الثمن، فلم يكن له ذلك كما لم يكن له أصل الوثيقة؛ ولأن هذه الوكالة إذا شرطت في العقد صارت من موجباته فلم يكن للراهن فسخٌ بغير رضا المرتهن كإمساك الرهن. [968] مسألة: إذا وضع الرهن على يد عدلٍ يبيعه عند حلول الأجل فباعه وتلف الثمن في يده من غير تفريطٍ فإن تلفه من المرتهن، وقال الشافعي: تلفه من الراهن، فدليلنا أن العدل أمينٌ لهما جميعاً، للراهن بحفظ الرهن، وللمرتهن بحق التوثق، وهو بيعه وتوفية المرتهن دينه، فإذا باعه فقد باعه في حق أمانته للمرتهن، فوجب إذا تلف الثمن أن يتلف منه؛ لأن الثمن ملكه؛ لأن ببيعه قد خرج من ملك الراهن وبرئت ذمته. [969] مسألة: إذا باع العدل الرهن وقبض الثمن وتلف في يده ثم استحق المبيع فلا عهدة على العدل ويأخذ المستحق ما استحقه ويرجع المشتري على من بيع له وهو المرتهن فيأخذ الثمن منه ويعود دينه في ذمة الراهن، كما كان، وقال أبو حنيفة العهدة على الوكيل فيغرم العدل الثمن من ماله ثم يرجع على مالكه وهو الراهن ووافقنا الشافعي في أن العهدة لا تكون عل الوكيل. وخالفنا فيمن تكون عليه فقال تكون على الراهن، فدليلنا على أبي حنيفة أنه بائعٌ على غيره، فلم يلزمه ضمانٌ، كأمين القاضي؛ ولأنه وكيلٌ في البيع كالحاكم إذا باع على المفلس، ودليلنا على الشافعي أن التصرف حصل بأمر المرتهن وبمطالبته لمنفعته بقبض حقه، فوجب أن يثبت الرجوع عليه. كالموكل إذا باع له وكيله ثم استحق المبيع؛ ولأن المرتهن هو الذي يملك الثمن بهذا البيع فكان كالمالك الذي يوكل غيره.

[970] مسألة: نماء الرهن ملك للراهن، وقال بعض الناس: هو للمنفق على الرهن، وقال أحمد هو للمرتهن فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه)؛ ولأنه نماء ملكه لم يعاوض عليه ولا وهبه، فكان على ملكه، دليله ما ليس برهنٍ. [971] مسألة: إذا احتاج الرهن إلى دواءٍ كان على الراهن، وقال أبو حنيفة: إن كان الرهن قد استغرق القيمة فالدواء على المرتهن، وإن كان لم يستغرقها فهو بينهما، ودليلنا على أن الدواء من مؤنة الرهن، فوجب أن يكون على الراهن كالنفقة. [972] مسألة: إذا حل أحل الحق وامتنع الراهن من بذل الحق كان للمرتهن دفعه للحاكم ومطالبته ببيعه، وللحاكم بيعه على الراهن وتوفية المرتهن حقه من ثمنه، وقال أبو حنيفة: لا يملك الحاكم بيعه في حياة الراهن، فإذا مات جاز بيعه، فدليلنا أنه مرهونٌ بحقٍ حالٍ لا يمكن المرتهن من استيفائه، فجاز أن يملك المرتهن مطالبة الحاكم ببيعه، أصله إذا مات الراهن. [973] مسألة: يضمن من الرهون ما يخفى هلاكه كالذهب والفضة والعروض ولا يضمن ما يظهر هلاكه كالحيوان والعقار، وقال أبو حنيفة يضمن كل ذلك، وقال الشافعي: الرهن أمانةٌ لا يضمن إلا بالتعدي، ودليلنا أن الرهن قد أخذ شبهاً من المضمون وشبهاً من الأمانة، فلم يكن له حكم أحدهما على التجريد، ويبين ذلك أن الأمانة المحضة، ما لا نفع فيها لقابضها بل النفع كله للمالك كالوديعة، والمضمون المحض ما يكون النفع فيه كله لقابضه كالمشتري، أو بتعدي جناية كالغصب، ومسألتنا عاريةٌ من كل ذلك، فلم يكن له حكم أحدهما على التجريد، فيجب الفصل

بينهما وإذا وجب ذلك لم يبق إلا ما قلناه. ولا يلزم عليه العارية؛ لأن المستعير وإن كان قبضها لنفع نفسه، فإن المعير لما بذلها له وأباحه إياها بغير عوضٍ كان ذلك سبباً في ضمانها ولما كان المستعير قبضها لنفع نفسه، كان ذلك يقتضي الضمان، فلذلك كان لها حكم الرهن؛ لأنها قد أخذت شبهاً من الأمرين ولم يلزم عليه القراض لأن جل النفع فيه للمالك، وكذلك المستأجر ولا يدخل عليه الصناع وحمل الطعام؛ لأنه مخصوصٌ للضرورة والمصلحة. فإذا تقررت هذه النكتة ثبت ما قلنا، ثم نتكلم بعد هذا على فساد كل قول بأدلة تخصه. فدليلنا على أبي حنيفة قوله - صلى الله عليه وسلم -:" الرهن ممن رهنه" وهذا عامٌ. وقوله:" له غنمه وعليه غرمه" وهذا اعتبارٌ عن الهلاك؛ لأن الغرم إما أن يراد به الهلاك أو الحقان، وأي ذلك كان. فيجب أن يكون في جهة الراهن دون المرتهن. وعلى الشافعي، أن قبض الشيء لمنفعة القابض مؤثرٌ في تعلق الضمان بها كالبيع. [974] فصل: يضمن ما يضمن منه بقيمته، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: بأقل الأمرين؛ لأن كل عينٍ ضمن تلفها فقيمتها كسائر المتلفات. [975] مسألة: يصح عقد الرهن قبل وجوب الحق، خلافاً للشافعي، لقوله عز وجل: {فرهان مقبوضة} ولم يفرق؛ ولأن المقصود من الرهن هو استيفاء الحق من ثمنه وقد ثبت أن ذلك يجوز أن يتعلق بصفة

تأتي، وهو امتناع من عليه الحق من أدائه، فجاز أن يتعلق الرهن أيضاً بصفة تأتي؛ ولأنه أذن له في قبضه على وجه الأمانة أو الضمان، فصح ذلك، أصله في الضمان ضمان القضاء إذا قال: خذ هذا الكيس فإن كان فيه قدر حقك فقد قضى من حقك أو دفع الكيس إليه ووكل غيره بأن يقبض حقه منه وفي الأمانة والوديعة إذا قال له متى جاءك فلان يقضي الذي عنده فاقبضه بكذا فهو وديعةٌ لي عندك. [976] مسألة: نماء الرهن المتميز عنه لا يدخل في الرهن، كالثمرة، والصوف، واللبن وأجرة العقار، والدواب، وما أشبه ذلك، إلا الولد فإنه يكون رهناً مع الأم في سائر الحيوان، وقال أبو حنيفة جميع النماء يكون رهناً، وقال الشافعي يكون جميعه خارجاً عن الرهن، فدليلنا على أبي حنيفة قوله - صلى الله عليه وسلم -:" له غنمه" وذلك يقتضي انفراده به. وقوله:" الرهن مركوبٌ ومحلوبٌ" ولا يجوز أن يريد به المرتهن، فثبت أنه أراد الراهن؛ ولأنه نماءٌ من غير جنسه فأشبه الأجرة، ودليلنا على الشافعي، أن الأصول موضوعةٌ على أن كل حكمٍ ثبت في رقاب الأمهات مستقر، بشرط ثقة المعاوضة، فإن الولد يتبع الأمهات فيه كالزكاة. وولد أم الولد والمعتق نصفه، أو إلى أجلٍ، والمدبرة والمخدمة، والمكاتبة، فكذلك مسألتنا؛ ولأن نماء جنسه وخلقته كالسمن.

[977] مسألة: إذا اختلف المرتهنان في قدر الحق، فالقول قول المرتهن إلى قيمة الرهن، وقال أبو حنيفة، والشافعي: القول قول الراهن على كل وجهٍ، فدليلنا أن العرف أصل يرجع إليه في التخاصم إذا لم يكن هناك ما هو أولى منه، والعرف جارٍ بأن الناس لا يرهنون إلا ما يساوي ديونهم أو يقاربها، فمن ادعى خلاف ذلك فقد خرج عن العرف ولا يلزم عليه البينة؛ لأنها أولى إذا كان الرهن على يد عدلٍ؛ لأن الراهن لم يرض بأمانة المرتهن فيه، فلم يكن الرهن شاهداً له.

كتاب التفليس

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب التفليس [978] مسألة: من باع سلعةً ففلس المشتري قبل قبض البائع الثمن فوجد البائع سلعته كان أحق بها، خلافاً لأبي حنيفة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:" أيما رجلٍ أفلس فأدرك رجلٌ ماله بعينه فهو أحق به من غيره"؛ ولأن فلس المبتاع بثمن السلعة مع بقائها على صفتها، وعدم تعلق حق الغير بها، يوجب للبائع حق الفسخ، أصله إذا كان قبل قبض السلعة؛ ولأنه نوع معاوضةٍ يلحقه الفسخ فجاز أن يثبت فيه حق الفسخ بعيب ذمة من عليه الحق، أصله الكتابة؛ ولأن تعذر تسليم ثمن المسلم فيه عند الأجل يوجب للمسلم حق الفسخ، كذلك تعذر قبض الثمن بالإفلاس مع بقاء السلعة. [979] مسألة: وليس له الفسخ بموت المشتري، خلافاً للشافعي، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:" فإن مات فهو أسوة الغرماء"، ففرق بين الموت والفلس في

إثبات الرجوع للبائع؛ ولأن حظ البائع بقوةٍ سبب التقديم في إسقاط الغرماء واستبداده، ففي الفلس جعلناه أحق؛ لأن الغرماء يرجعون إلى الذمة وفي الموت لا يرجعون إلى مالٍ ولا إلى ذمةٍ، فلم يكن له إسقاطهم؛ ولأن بالموت قد زال ملك المشتري عنه كما لو باعه المفلس. [980] مسألة: إذا بذل الغرماء للبائع ثمن سلعته لم يكن له الفسخ، خلافاً للشافعي؛ لأن حق الفسخ إنما يثبت له لتعذر القبض، فإذا بذل له فقد زال التعذر، فلم يكن له الفسخ كما لو كان المبتاع ملياً. [981] مسألة: إذا قبض البائع بعض الثمن ثم أفلس المبتاع، فهو مخير إن شاء رد ما قبض ورجع في سلعته، أو تمسك به وحَاصّ، وقال الشافعي لا يكون له الفسخ، ودليلنا أن الفسخ إنما يثبت له لدفع الضرر وقوة سببه بوجود عين ماله، وذلك في الكل والبعض كالشفعة؛ ولأنه تعذر عليه قبض حقه بالفلس مع وجود عين ماله على صفته، فكان كمن لم يقبض شيئاً من الثمن. [982] مسألة: إذا قسم الحاكم مال المفلس بين غرمائه، ثم طرأ غريمٌ

آخر رجع على الغرماء بما كان نصيبه بالحصاص له لو كان حاضراً، خلافاً لمن قال لا يرجع؛ لأنه غريمٌ لو كان حاضراً في وقت القسم لشارك الغرماء فإذا حضر بعد القسمة لم يسقط حقه، أصله إذا قسمت التركة بينهم ثم طرأ غريمٌ آخر. [983] مسألة: إذا اقتسم الورثة بقية التركة بعد أخذ الغرماء حقوقهم ثم ظهر غريمٌ آخر رجع على الورثة ولم يرجع على الغرماء، وقال أبو حنيفة والشافعي يرجع على الغرماء. ودليلنا قوله عز وجل: {من بعد وصية يوصي بها أو دين}. فجعل الميراث بعد أداء الدين، فدل أنه لا يستحق مع بقائه؛ ولأن الغرماء أخذوا ما لو كان الغريم حاضراً لم يشاركهم فيه؛ فإذا كان غائباً لم يكن له الرجوع عليهم، كما لو كان المشتري حياً؛ ولأن الورثة أخذوا ما لم يستحقوه بدليل أنه لو انكشف حال هذا الغريم قبل اقتسام الورثة بقية التركة لم يكن لهم أخذها فصاروا بمنزلة من أخذ مالاً لغيره يظنه، ثم انكشف له فإنه يرده على مالكه. [984] مسألة: يجوز الحجر على المفلس وبيع ماله في دينه، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: لا يجوز الحجر عليه، ولكن يحبس حتى يقضي الدين، ولا يجوز بيع المال على حي رشيدٍ لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لغرماء معاذٍ: "خذوا ما معه وليس لكم غيره" وروي أنه حجر عليه

وحديث عمر بن الخطاب:" ألا أن أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال: سبق الحاج ثم ادّان معرضاً فمن كان له عليه شيءٌ فليحضر فإنا نبيع ماله". ولم يخالف عليه أحد؛ ولأن كل دينٍ حل جاز أن يباع فيه العرض كالدين على الميت. [985] مسألة: إذا تصرف المفلس في أعيان ماله بعد الحجر لم ينفذ تصرفه، خلافاً لأحد قولي الشافعي لأنه محجورٌ عليه بأمر الحاكم فلم ينفذ تصرفه في ماله كالمحجور عليه. [986] مسألة: إذا أقر المحجور عليه للناس بدينٍ بعد الحجر تعلق بذمته ولم يشارك المقر لهم في ماله لغرمائه المحجور عليه لأجلهم، خلافاً للشافعي؛ لأنه بهذا الإقرار يريد أن يقطع حق الغرماء من المال أو من بعضه بقوله: ولا سبيل له إلا ذلك. [987] مسألة: الدين المؤجل يحل بموت من هو عليه، خلافاً لما يحكى عن الحسن وغيره؛ لأن الدين كان متعلقاً بالذمة فإذا خربت لم يبق له محلٌّ يتعلق به، فوجب انتقاله إلى التركة، وذلك يقتضي حلوله؛ ولأنا لو قلنا لا يحل لم يخل أن يبقى على ذمة الميت، وذلك باطلٌ بخرابها، أو يتعلق بذمة الوارث، وذلك باطلٌ أيضاً أو بالتركة فيجب قضاؤه منها ولا يجوز تركه؛ لأن فيه إضراراً بالورثة أو تعريض المال للتلف من حيث لا منفعة للغرماء فيه. [988] مسألة: تحل الديون المؤجلة بالفلس خلافاً لأحد قولي الشافعية؛ لأنه معنًى يوجب تعلق الديون التي في الذمة بأعيان الأموال كالموت.

[989] مسألة: لا يؤاجر المفلس ولا يلزم إن كان ذا صنعةٍ أن يكتسب بها خلافاً لما يحكى عن أحمد وإسحاق لما روي أن معاذاً كثر دينه فلم يزد أن جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماله بين غرمائه، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لغرمائه: خذوا ماله وليس لكم غيره؛ ولأن ما ذكروه كسبٌ، والمفلس لا يجبر على الكسب، كما لا يجبر على قبول الهبة، ولا على أن يسأل الناس، ولا على أن يطلق زوجته ليرجع بنصف المهر. [990] مسألة: إذا ثبت إعسار المفلس خلي ولم يكن للغرماء ملازمته. خلافاً لأبي حنيفة في قوله لهم أن يلازموه ولا يمنعوه التصرف لما روي أن رجلاً ابتاع ثياباً فأصيب بها وكثر دينه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تصدقوا عليه فلم يف بدينه، فقال لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك؛ ولأن كل دينٍ لم يملك المطالبة به لم يلزم الملازمة لأجله كالدين المؤجل. [991] مسألة: إذا فك الحجر عن المفلس فتصرف وداين أخرين فركبه دينٌ وحجر عليه فإن الغرماء الآخرين أحق بهذا المال من الغرماء الأولين وقال الشافعي يقسم ماله بين الجميع، فدليلنا أن الغرماء المتأخرين أقوى سبباً؛ لأن هذا المال كأنه عين مالهم أو بدله فكانوا أقوى سبباً من الأوائل كالذي يجد سلعته فيكون أقوى وأحق بها من غيره. ***

كتاب الحجر

كتاب الحجر [992] مسألة: يحكم في البلوغ بالإنبات، وقال أبو حنيفة: لا يعتبر أصلاً، وقال الشافعي: يعتبر به في الكفار، وفي المسلمين له قولان: فدليلنا حديث سعد قال: "حكمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني قريظة فكنا نكشف عن مؤتزرهم فمن أنبت منهم قتلناه، ومن لم ينبت جعلناه في الذراري وقال - صلى الله عليه وسلم - ما فعلت؟ فأخبرته فقال: حكمت بحكم الله عز وجل"، وروي "الجزية على من جرت عليه الموسى".

[993] فصل: ودليلنا على الشافعي أن كل ما جاز أن يكون بلوغاً أو دلالة على البلوغ في الكافر جاز أن يكون كذلك على المسلم، أصله السن والبلوغ بالاحتلام؛ ولأن دلالته على ذلك ليست لمعنى يرجع إلى الدين وإنما هو لمعنى يتعلق بالعادات وهذا يستوي فيه المسلم والكافر؛ ولأن كل شخصٍ ثبت بلوغه بالاحتلام جاز أن يثبت بالإنبات، أصله الكافر؛ ولأن قبول الشهادة وغير ذلك من حقوق البلوغ وأحكامه، فجاز أن يثبت بالإنبات، أصله أخذ الجزية من الكافر. [994] مسألة: ليس في السن المعتبرة في البلوغ حدٌ، إلا أن أصحابنا قالوا سبع عشرة أو ثماني عشرة سنةً، وقال الشافعي: حده خمس عشرة سنةً، وذكره بعض أصحابنا عن ابن وهب. ودليلنا قوله عز وجل: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: رفع القلم عن ثلاثة: فذكر الصبي حتى يحتلم؛ ولأن من جعل خمس عشرة حد البلوغ لا يخلو أن يكون تعلقاً، بأكثر ما في العدد أو تعلقا بوجود ذلك في العادة وكل ذلك باطلٌ. [995] مسألة: إيناس الرشد في الغلام هو إصلاح ماله وتأتيه للثمرة ومصلحته وأن لا يكون مبذراً له، وأن لا يراعى عدالته في دينه ولا فسقه، فإذا بلغ على هذه الصفة سلم إليه ماله، وإن كان فاسقاً، وقال الشافعي، لا يسلم إليه ماله إلا أن يكون مصلحاً لماله غير فاسق في دينه، فدليلنا أن الفسق في الدين إذا لم يكن معه تبذيرٌ في المال لا يوجب السفه، دليله إذا طرأ بعد البلوغ والعدالة؛ ولأنه لو كان يوجب الحجر أو من شرط فك ذلك الحجر لوجب أن يكون واجباً لذلك، وإن طرأ بعد

التبذير البلوغ؛ لأنه لو كان يوجب الحجر أو من شرط ذلك الحجر لوجب أن يكون موجباً لذلك وإن طرأ بعد البلوغ كالتبذير؛ ولأن كل ما طرأ على البالغ المصلح له لم يوجب الحجر عليه فكذلك لا يوجب استدامته، بعد البلوغ كسائر أفعاله. [996] مسألة: إذا بلغ الصبي وكان مبذراً مضيعاً لماله استديم الحجر عليه أبداً ما دام على ذلك، وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمساً وعشرين سنة سلم إليه ماله وإن كان مبذراً مضيعاً، فدليلنا قوله عز وجل: {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم}، فشرط في جواز الدفع إليهم شرطين: البلوغ وإيناس الرشد، ومن كان مبذراً مضيعاً، لم يؤنس منه الرشد؛ ولأن كل من لم يكن مصلحاً لماله أو كان مبذراً مضيعاً له لم يجز دفعه كالمجنون ومن لم يبلغ خمساً وعشرين سنةً. [997] مسألة: لا ينفك الحجر عن الصغيرة وإن بلغت حتى تتزوج ويدخل بها زوجها وتكون حافظةً لمالها، وقال أبو حنيفة والشافعي: ينفك عنها الحجر بنفس البلوغ من غير حاجة إلى تزويج، فدليلنا أن كل حال جاز للأب إنكاحها بغير إذنها كان الحجر على المال مستداماً فيها كالصغيرة؛ ولأن البنت لا تخبر مصلحتها ولا تعرف المعاملات ولا تعرف معانيها ومصالح المال بنفس البلوغ دون التزويج؛ لأنها إذا زوجت ودخل بها عرفت حينئذ الأمور وخبرتها فحينئذ ينفك الحجر عنها. [998] مسألة: يُبْتَدَأ الحجر على البالغ إذا كان مبذراً لماله مضيعاً، وقال أبو حنيفة لا يحجر على البالغ ابتداءً، فدليلنا قوله عز وجل: {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه

بالعدل}، فأثبت الولاية على السفيه وذلك يفيد ثبوت الحجر عليه، وحديث حبان بن منقذ، سأل أهله الحجر عليه فلم ينكر - صلى الله عليه وسلم -، ذلك؛ ولأن علياً رام الحجر على عبدالله بن جعفر، وسأل عثمان ذلك. فلم ينكر عليه، وقال كيف أحجر على رجل شريكه الزبير"، وإنما أراد أن دخول الزبير معه في الشركه ينفي أن يظن به إضاعة المال، ولم يعرف من أحد إنكار ذلك؛ ولأن كل معنى لو قارن البلوغ منع دفع المال إليه وأوجب بقاء الحجر عليه فإذا حدث بعد البلوغ ابتدئ عليه به الحجر كالجنون. [999] مسألة: لا يجوز للمرأة التصرف في أكثر من ثلث مالها لغير معاوضة إلا بإذن زوجها وقال أبو حنيفة والشافعي، لها أن تتصرف فيه بالهبة والصدقة من غير اعتبار بإذنه، فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل لامرأة ملك زوجها بضعها أن تتصرف في مالها إلا بإذنه، وقوله: تنكح المرأة لدينها

ومالها وجمالها، وذلك يوجب تعلق حق الزوج بمالها؛ ولأن في تبقية مالها حقوقاً للزوج؛ لأن العادة جارية بأن الزوج قد ينبسط في مال زوجته وجهازها وينتفع به، وكذلك يجب عليها عند التجهيز له، وله في ذلك جمالٌ، ومنفعة، وعليه يدخل في العرف ويبين ذلك أن صداق المثل يقل ويكثر لقلة مالها وكثرته، وفي إتلافه إسقاط حق الزوج منه فلم يجز. [1000] مسألة: طلاق المحجور عليه وخلعه ينفذ، خلافاً لما يحكى عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف لأنه مكلف فوجب أن ينفذ طلاقه كالرشيد؛ ولأن منعه من التصرف في ماله لا يمنع نفوذ طلاقه كالمفلس والعبد. ***

كتاب الصلح والمرافق

كتاب الصلح والمرافق [1001] مسألة: الصلح جائزٌ على الانكار خلافاً للشافعي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: الصلح جائزٌ بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً فعم؛ ولأنها دعوى فجاز الصلح معها ما لم يحكم ببطلانها، أصله الإقرار؛ ولأن كل صلح جاز مع الإقرار جاز مع الإنكار، أصله إذا قامت به البينة؛ ولأن افتداء اليمين جائز لما روي عن عثمان وابن مسعود أنهما بذلا مالاً في دفع اليمين عنهما؛ ولأن اليمين الثابتة للمدعي حقٌ ثابتٌ لسقوطه تأثيرٍ في إسقاط المال فجاز أن يؤخذ عنه المال على وجه الصلح، أصله القود في دم العمد. [1002] مسألة: يجوز إخراج الروشن إذا لم يستضر الغير به وقال أبو حنيفة لا يجوز، فدليلنا أنه استرقاقٌ لا يستضر غيره به في هواء غير مملوكٍ فلم يمنع منه كالجلوس في الطرق وقعوده في ساحته للبيع.

[1003] مسألة: إذا تنازعا جداراً بين دارين ولأحدهما فيه تأثيرٌ يشهد العرف بأنه يفعله المالك حكم له به وذلك كتعاقد القُمُط والرُبُط ووجوه الآجُرّ وغير ذلك، وقال الشافعي لا يحكم به ويكون بينهما، فدليلنا قوله تعالى: {وأمر بالعرف}، وروي أن رجلين تنازعا جداراً فحكم به - صلى الله عليه وسلم - لمن إليه مَعَاقِد القُمُط؛ ولأن العرف والعادة أصلان يرجع إليها في التنازع إذا لم يكن أصل يرجع إليه سواهما كالنقد والسير والحمولة فكذلك في مسألتنا إذا كان العرف جارياً بأن هذه الأشياء يفعلها المالك في ملكه حكم به لمن يشهد له العرف. [1004] مسألة: إذا تنازعا جداراً لأحدهما عليه خشب والآخر لا شيء له عليه يجري مجراه حكم به لصاحب الخشب قليلاً كان أو كثيراً وقال أبو حنيفة إذا كان عدة جذوع حكم له به، وإن كان الجذع والاثنان فلا وقال الشافعي لا يحكم به لصاحب الخشب، فدليلنا على الشافعي قوله تعالى: {وأمر بالعرف}، والعرف جارٍ بأن الإنسان إذا كان له على حائط خشبٌ وجذوعٌ فإنه وضعه على سطحه، لأن غالب تصرف الناس أن يكون في أملاكهم؛ ولأن وضع الجذوع على الحائط يد وتصرف فوجب أن يقدم به دعوى مدعي الحائط كا لو تنازعا داراً في يد أحدهما؛ ولأنهما لو تنازعا عرصة لأحدهما فيها حائطٌ لحكم بها لصاحب الحائط ولا فرق بين ذلك وبين الجذوع. [1005] مسألة: إذا أراد أن يجعل جذوعه على جدار لغيره أو مشترك بينه وبين غيره لم يكن له ذلك في الحكم إلا برضا الشريك أو الأجنبي، خلافاً لأحد قولي الشافعي: إن له ذلك، ولأحمد في قوله يقضى بذلك على

الجار؛ لأن الحائط له ملك فلم يكن عليه بذله لغيره ليتصرف فيه كما لو أراد أن يفتح فيه باباً؛ ولأنه ارتفاق لصاحب الجذع فلم يملك ذلك في غير ملكه بغير إذنه دليله إذا أراد أن يزرع في أرض غيره. [1006] مسألة: البيت إذا كان عليه علو فتنازع السقف صاحب السفل وصاحب العلو حكم به لصاحب السفل، وقال الشافعي يكون بينهما، فدليلنا أن السقف محمولٌ على ملك صاحب السفل غير متيقن ملكه لغيره وإذا تنازعا حكم به له، أصله الحمل على دابة يدعيها مالكها وأجنبي؛ ولأن من باع بيتاً دخل سقفه في المبيع فلولا أنه منه لم يدخل فيه كما لا تدخل الغرفة التي عليه ولا البيت المجاور له؛ ولأن العرف جار في البيوت أن يكون حيطانها عليها سقوف، ولذلك سمي بيتاً فيجب أن يحكم بالملك عند التنازع بجميع ما يستوعبه الاسم. [1007] مسألة: الحائط بين شريكين إذا انهدم أو هُدِم فطالب أحدهما بالبناء وأبى الآخر ففيه روايتان: أحدهما: أنه يجبر والأخرى: أنه لا يجبر، وهو قول الشافعي. فوجه نفي الإجبار أنه ملكٌ لو انفرد به لم يجبر على الإنفاق عليه وكذلك إذا كان مشتركاً، أصله إذا كان بينها أرضٌ فطالب الشريك بزراعتها ووجه إثباته قوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" ولأن الشريك لا ينتفي عنه الضرر ولا يصل إلى حقه إلا ببناء الشريك معه وفيه مصلحة لهما فوجب إجباره عليها. ***

كتاب الحوالة

كتاب الحوالة [1008] مسألة: إذا أحاله بحقه على رجل له عليه دين وهو مليء في الظاهر، لا يعلم المحيل منه فلساً فإنه يصير كالقابض، ولا يرجع على المحيل بحال، وقال أبو حنيفة يرجع عليه إذا كان المحال عليه مفلساً أو جحد الحق وحلف، ولم يكن للمحتال بيّنة، وزاد أبو يوسف ومحمد: أو يحجر الحاكم عليه للفلس. ودليلنا: قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن أحيل على مليء فليتبع» فأطلق ولم يقيد، ولأنها حوالة برئت ذمة المحيل بها، فلم يجز له الرجوع على المحيل به، أصله إذا لم يتغير حاله، ولا يلزم عليه الغرر؛ لأن الذمة لا تبرأ معه، ولأن عقد الحوالة إذا انبرم فإن بقاءه يمنع رجوع المحتال على المحيل، أصله ما ذكرناه، وفي الغرر لم ينبرم، ولأن الحوالة سبب تسقط المطالبة بالدَّين وتبدله، فوجب أن يسقط به حق الرجوع كالقبض والإبراء، ولا يلزم عليه الغرر؛ لأن المطالبة لا تسقط معه، ولأن الحوالة بمنزلة الإبراء والقبض، بدليل سقوط المطالبة بالدين معها، وجواز التأخير فيها، فكان المحال عليه عيباً حادثاً بعد القبض فلم يرجع به. [1009] مسألة: وإذا أحاله على مفلس والمحال لا يعلم بفلسفه كان له

الرجوع خلافاً للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحيل على ملي فليتبع» فشرط ملاء المحال عليه، ولأن البراءة كانت بشرط سلامة ذمة المحال عليه؛ لأنه على ذلك دخل، فإذا لم توجد السلامة لم يوجد شرط البراءة، فكان الدين باقياً في الذمة، ولأن المحتال دخل على ذمة سليمة، فإذا خرجت معيبة كان له الرجوع، كما لو دفع الثمن في سلعة على أنها سليمة فخرجت معيبة. [1010] مسألة: لا يجبر صاحب الحق على الرضا بالحوالة، خلافاً لداود؛ لأن حقه تعلق بذمة فلم يجبر على نقله إلى ذمة أخرى بغير رضاه، أصله في المنافع إذا استأجر منه كراء إلى بلد فلم يكن له أن يحيله على غيره ليستوفي الكراء منه، ولأنه بيع ملك ولأنه تمليك ببدل لا يتعلق به حق الله تعالى فلم يجبر عليه المالك، أصله بيع الأعيان، ولأنه حق واجب عليه فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضا من له الحق، أصله إذا تعلق بالعين، فنقيس الذمة على العين. [1011] مسألة: ورضا من يحال عليه غير معتبر، خلافاً لداود؛ لقوله عليه السلام: «من أحيل على ملي فليتبع» ولم يشترط رضاه، ولأن الحق هو للمالك فله أن يملكه من شاء كسائر الحقوق.

كتاب الضمان والكفالة

كتاب الضمان والكفالة [1012] مسألة: الضمان لا يبرئ ذمة المضمون منه خلافاً لابن أبي ليلى وداود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن مرتهنة بدينه حتى يقضى عنه» وقوله لأبي قتادة: «الآن بردت عليه جلده» ولأنه وثيقة بالحق كالرهن والإشهاد. [1013] مسألة: من ضمن عن إنسان ديناً عليه أو حقاً يلزمه فعله بنفسه، فله الرجوع عليه سواء كان بإذنه أو بغير إذنه. وقال أبو حنيفة والشافعي إن كان بغير إذنه فهو متطوع لا رجوع له. ودليلنا: أنه قضى عنه ديناً عليه كان يلزمه قضاؤه ويصح استنابته فيه معتقداً للرجوع به، فكان له الرجوع عليه به، أصله إذا كان برضاه، واعتباراً بالإمام إذا استأجر على السفيه أو على الممتنع من أداء الحق، ولأن أبا حنيفة يوافقنا فيمن ضمن

عن غاصب بعداً غصبه بغير أمره، وأدى قيمته إلى مالك العبد، أنه يرجع على الغاصب بذلك، ولا فرق بين الغاصب وغيره. [1014] مسألة: يصح ضمان المجهول خلافاً للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الزعيم غارم» فعمّ، ولأنه معروف وإرفاق فجاز في المعلوم والمجهول، كالعتق والهبة. [1015] مسألة: يصح ضمان الدَّين على الميت سواء خلّف وفاء به أو لم يخلّف، خلافاً لأبي حنيفة في قوله لا يلزم إذا لم يترك وفاء؛ لقوله: «الزعيم غارم» ولأن كل دين لو كان فيه وفاء صح ضمانه، فكذلك يصح وإن لم يكن فيه وفاء، كدَين الحي عكسه الكتابة، ولأن الدَّين لا يسقط بالموت بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن مرتهنة بدينه حتى يقضى عنه» وروي «متعلقة» ولأنه لو سقط بالموت عن ذمة من هو عليه لرجع سقوطه عن ذمة الضامن عنه حال حياته؛ لأنها فرع لذمته، فإذا ثبت أن الدَّين لا يسقط بالموت فمن ضمنه فقد ضمن ديناً واجباً فصح ضمانه، ولأنه لو لم يصح ضمانه مع تعذر الوفاء لم يصح مع وجوده كسائر ما لا يصح ضمانه عكسه دين الحي. [1016] مسألة: تصح كفالة الأبدان خلافاً للشافعي؛ لقوله «الزعيم غارم» ولم يفرّق، ولأن من عليه الحق عليه أن يحضر أو يوكل من يحضر، وإذا كان ذلك مستحقاً عليه صح أن يضمن عنه، ولأنها وثيقة

كتاب الشركة

كحق الرهن. [1017] مسألة: إذا مات المتكفل بوجهه لم يلزم الكفيل شيء، خلافاً لبعض الشافعية؛ لأنه لم يكن له منه تفريط في إحضاره ولا فيمن تكفّل به، وموضوع الكفالة بالنفس الإحضار، ولا يضمن الحق إلا بتفريط. [1018] مسألة: تصح الكفالة بالمحبوس والغائب، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن كل وثيقة يتعلق قضاء الدَّين بها تصح مع الإطلاق والحضور، فصحت مع الغيبة والحبس كالرهن وضمان المال. كتاب الشركة [1019] مسألة: تصح الشركة بالعروض، كانت مما تعرف أعيانها أو لا تعرف، ويكون رأس المال قيمتها، وقال الشافعي إن عقدا الشركة على أثمانها جاز، وإن سكتا نظر، فإن كانت مما يتميز وتعرف أعيانها كالثياب وغيرها لم تصح، وإن كانت مما لا يتميز كالحنطة والشعير والعسل صحت. ودليلنا: قوله تعالى: {أوفوا بالعقود} ولأنها أعيان أموال فجاز الشركة فيها وإن لم تسم أثمانها كالذي لا يتميز، ولأن حقيقة الشركة أن يملِّك أحدهما الآخر نصف عرضه، وتحصل أيديهما على جميع المال، وهذا موجود في مسألتنا كما لو صرح بأن قال له بعتك نصف ثوبي بنصف ثوبك، أو إذا كان مما لا يتميز. [1020] مسألة: لا تصح الشركة إذا انفرد كل واحد بمال نفسه من غير أن يكون يد الآخر عليه حتى يكون أيديهما عليه، بأن يجعلاه في تابوتهما أو حانوتهما، أو على يد وكيلهما، فتصح حينئذ الشركة، وإن لم يخلطاه، وإن كانت أعيانه متميزة. وقال أبو حنيفة تصح الشركة وإن كان مال كل واحد منهما في يده إذا عيّنا المال وأحضراه، إلا أنه متى هلك أحد

المالين كان من ربه إذا هلك قبل الخلط. وقال الشافعي لا تصح الشركة إلا أن يخلطا رأس المال حتى لا يتميز بعضه عن بعض. فدليلنا: على أبي حنيفة أن الشركة تقتضي تساويهما في الاشتراك بالمال، وإذا انفرد أحدهما بثبوت يده عليه لم توجد حقيقة الشركة؛ لأنهما على ما كانا عليه من انفراد المالين، فلم يحصل منهما إلا القول، ومجرد القول لا تأثير له؛ بدليل أنهما لو تعاقدا الشركة على مال ولم يعيناه لم تنعقد، ولأن كل واحد من المالين يتلف على ملك صاحبه، فلم يثبت به شركة أصله سائر أمواله، عكسه إذا خلطاه، أو كانت أيديهما عليه، ولأن كل مال في يد صاحبه كالشركة على الطعام، ولأنهم وافقونا على أن الخسران لا يكون بينهما، فكذلك يجب أن يكون الربح، بعلة أنه أحد نوعي الشركة. [1021] فصل: ودليلنا على الشافعي أن أيديهما ثابتة على المالين كما لو خلطاه. [1022] مسألة: شركة الأبدان جائزة في الجملة، خلافاً للشافعي، لأن المقصود من شركة المال هو العمل، بدليل أن نماء المال واستحقاق الربح يكون من العمل، وأنهما لو شرطا العمل على أحدهما لم يجز، وإن شرطا المال من أحدهما والعمل من الآخر لصح، وكان ذلك مضاربة، وإذا صح هذا وجب متى اشتركا في عمل البدن أن يصح لإيقاعهما العقد على المعنى الذي يقصد له وهو الأصل فيه، ولأن العمل أحد نوعي القراض فصحت الشركة به كالمال، ولأن كل ما جاز أن يستفاد به الربح في حق أحدهما جاز أن يشتركا عليه كالمال. [1023] مسألة: وتجوز الشركة في الاصطياد والاحتطاب، خلافاً لأبي

حنيفة؛ لأنها شركة بدن في تكسب مباح كالخياطة والقصارة، ولأن الحاجة في التعاون إلى ذلك كالحاجة إليه في سائر الصناعات. [1024] مسألة: ومن شرط شركة الأبدان اتفاق الصنعة المشتركة فيها، خلافاً لأبي حنيفة في تجويزه اشتراك القصّار والدبّاغ؛ لأن أحدهما لا رفق له في شركة الآخر، ولا حاجة به إلى معاونته، ولا تعلق لكسبه في عمله، فلم يبق إلا قصدهما الغرر والقمار، ولأن كل واحد منهما يشارك الآخر فيما ينفرد بكسبه بمشاركة الآخر في مثل ذلك، فأشبه أن يقول: اتجر في مالك لنفسك، وأتجر أنا في مالي لنفسي، فما ربحت فلك نصفه وما ربحت لي نصفه. [1025] مسألة: شركة المفاوضة جائزة في الجملة، خلافاً للشافعي؛ لأنه نوع شركة فيما يصلح انعقاد الشركة عليه بوجه ينفرد باسم، فوجب أن يكون منه الصحيح والفاسد كالضمان، والتقييد بشركة المفاوضة احترازاً من شركة الوجوه؛ لأن شركة المفاوضة تتضمن الوكالة والكفالة، وتعلق الوكالة بها كتعلقها بالضمان، وإنما تزيد بالكفالة، وذلك لا يمنع صحتها. [1026] مسألة: فصل: وليس من شرطها: أن تكون رؤوس الأموال فيها متساوية، خلافاً لأبي حنيفة، وكذلك ليس من شرطها ألا يبقى لأحدهما مال إلا ويدخل في الشركة، خلافاً له؛ لأن كل شركة جازت مع تماثل رؤوس الأموال جازت مع اختلافها كالعنان، ولأن عقد الشركة يقتضي بيع نصيب أحدهما بقسطه من نصيب الآخر، وتوكيل أحدهما الآخر في التصرف، وذلك لا يفتقر إلى تساوي المالين. [1027] مسألة: شركة الوجوه باطله، وصفتها: أن يتجرا بوجوههما ويشتريا في ذممهما، ويكون ما حصل من كسب بينهما وما حصل من

ضمان عليهما، وقال أبو حنيفة تصح. فدليلنا: أنها شركة بغير مال ولا صناعة فلم تصح، أصله إذا قال بعني عبدك وأنا شريكك في ثمنه. [1028] مسألة: الربح في الشركة يتقسط على قدر رأس المال أو العمل، فإن تفاضلا في رأس المال وشرط التساوي في الربح، أو تساويا في رأس المال وشرط التفاضل في الربح لم يصح، وقال أبو حنيفة يصح مع الشرط. فدليلنا: أنهما عقدا شركة في مال أو عمل بينهما، فوجب أن يقسّط الربح بينهما على مقداره كما لو أطلقا، ولأن اشتراط العمل على أحدهما استئجار من الآخر له بفضل ربح ماله وذلك غرر، ولأن من قولهم: إنه إذا كان لأحدهم ألف والآخر ألفان، وشرط العمل على صاحب الألفين لم يجز، وإن شرط على صاحب الألف جاز، فنقول: لأن كل واحد ترك العمل المستحق بحق الشركة بما بذل من فضل ربح ماله، كما لو شرط العمل على صاحب الألفين والربح بينهما نصفين، أو شرط أكثر الربح للذي لا يعمل وأقله للذي يعمل. [1029] مسألة: إذا اشتركا شركة فاسدة ثم تصرفا وربحا فإن الربح يقسّم على رأس المال ثم يرجع أحدهما على الآخر بأجرة مثل عمله على ماله. وقال أبو حنيفة لا رجوع لأحدهما على الآخر بأجرة. فدليلنا: أن عقد الشركة المبتغى منه الاشتراك في الربح الحادث، فإذا وقع فاسداً وجب أن يستحق العامل أجرة مثل عمله على عامل غيره كالقراض. ***

كتاب الوكالة

كتاب الوكالة [1030] مسألة: تجوز وكالة الحاضر، والغائب، والرجل، والمرأة، خلافاً لأبي حنيفة في قوله لاتصح إلا أن يكون مريضا أو امرأة غير متبرزة؛ فدليلنا عليه أن عليا وكل عقيلا في خلافة أبي بكر، وقيل عمر، رضي الله عنهما، وقال: هذا عقيل ما قضي عليه فعلي وما قضي له فلي، فلم يختلف عليه أحد، ولا أنكره، ولأن كل توكيل صح مع الغيبة صح مع الحضور، كتوكيل المريض والمرأة، ولأن كل وكالة صحت برضا الموكل عليه صحت مع عدم رضاه، كوكالة الغائب والمرأة التي ليست مبرزة، ولأنه توكيل فيما يصح التوكيل فيه، فجاز مع الغيبة والحضور كالتوكيل في الشراء والبيع. [1031] مسألة: يصح التوكيل من غير حضور الخصم ويسمع الحاكم البينة عليهما، وقال أبو حنيفة لا يجوز إلا أن تتعلق الخصومة بحاضر، بأن يدعي على جماعة فيحضر واحد ويغيب الباقون؛ فدليلنا على أن التوكيل في الخصومة يصح في مجلس الحكم وإن لم يحضر الخصم، أنه توكيل على

استيفاء حق يصح التوكيل فيه، فلم يكن من شرطه حضور من يستوفي منه الحق، أصله إذا حضر واحد وغاب الباقون. ولأنه استنابة فيما يصح النيابة فيه، فلم يفتقر إلى حضور الغير فيه كالوكيل في البيع والشراء، ودليلنا أن تثبيت الوكالة يصح من غير حضور الخصم، أن كل من لم يكن رضاه شرطا في تثبيت الوكالة لم يكن حضوره شرطا، أصله غير الخصم، ولأن تثبيت الوكالة لا يتعلق به حق الخصم ولا عليه، فلم يفتقر إلى الحضور فيه لأنه لا تعلق له به. [1032] مسألة: يجوز للوكيل أن يعزل نفسه عن الوكالة من غير حضور موكله، خلافا لأبي حنيفة؛ لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا شخص فلم يفتقر إلى حضوره، أصله الطلاق، وإن شئت عللت الشخص، فقلت إن كل من لم يكن رضاه شرطا في رفع عقد لم يكن حضوره شرطا فيه، أصله الزوجة في الطلاق، ولأنه عقد جائز فكان لأحدهما فسخه من غير حضور صاحبه كالقراض، ولأنه أحد متعاقدي الوكالة فلم يقف فسخها من جهته على حضور الآخر كالموكل. [1033] مسألة: لا يقبل إقرار الوكيل على موكله لا عند حاكم ولا غيره، وقال أبو حنيفة يقبل إقراره عليه في مجلس الحكم، ولا يقبل في غيره، وقال أبو يوسف ومحمد يقبل في مجلس الحكم وغيره؛ فدليلنا أن التوكيل في الخصومة إذا أطلق تضمن المنع من الإقرار، لأن ذلك ينافي المقصود من التوكيل، لأنه إذا قال له وكلتك على أن تخاصم عني فقد تضمن ذلك طلب الحق وتحصيله، وإثبات البينة به واستخراجه من يد الخصم، والإقرار نقيضه يسقط ذلك كله فكان مقتضى الوكالة مانعا من ذلك، ولأنه إسقاط حق لسبب لا يملك الوكيل إسقاطه به في غير مجلس الحكم، فلم يملك إسقاطه به في مجلس الحكم أصله الإبراء، ولأنه وكيل أقر على موكله بالقبض فلم يقبل، أصله إذا نهاه عنه، ولأنه إقرار من

وكيل على من وكله بقبض ما وكله فيه، فلم يقبل كما لو أقر في مجلس الحكم. [1034] مسألة: يجوز التوكيل في استيفاء القصاص مع غيبة الموكل، خلافا لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي؛ لأن كل ما صحت النيابة فيه لغير المكل صحت مع غيبته، كالبيع واستيفاء الأموال وحقوقها، [1035] مسألة: يجوز للأب والوصي أن يستوفيا مال الصغير وأن يبيعا عليه من أنفسهما ما لم يحابيا، وكذلك الوكيل يشتري ما وكل في بيعه، وأجازه أبو حنيفة في الأب والجد والوصي ومنعه في الوكيل، ومنعه الشافعي في الجميع إلا الأب والجد؛ فدليلنا في الوصي والوكيل وأمين الحاكم، أن تصرف الوصي بولاية فأشبه الأب والجد، ولأنه لما أقامه الأب مقام نفسه ملك أن يبيع من نفسه كالأب، ولأنه متى باع من نفسه بزيادة عل ى ما يباع به عم أنه أراد نفع اليتيم فنفذ تصرفه فيه، كما لو باعه من أجنبي، ولأنه يجوز له بيعه من الأجنبي بما لا زيادة فيه متيقنة، فبيعه من نفسه بالزيادة المتيقنة أولى، ولأن الغرض من البيت حصول الثمن لأعيان المشترين، بدليل أن الوكيل إذا ابتاع لموكله ولم يسمه جاز فإذا ثبت ذلك فمتى حصل الثمن مستوفى فيجب أن يصح الشراء كما لو حصل من أجنبي. [1036] مسألة: إذا وكله في بيع سلعة وكالة مطلقة، لم يجز أن يبيع إلا بثمن مثله نقدا لا نساء، بنقد البلد، وقال أبو حنيفة يجوز له أن يبيع إلى أجل وبغير نقد البلد وبنقصان من ثمن المثل، ووافق في التوكيل في شراء عبد أنه لا يجوز له أن يشتري بأكثر من ثمنه بما لا يتغابن بمثله، ولا إلى أجل، فدليلنا على أنه لا يجوز فيه الغبن المتفاوت به أنه توكيل في معاوضة فوجب أن يقتضي ثمن المثل أو ما يقاربه، أصله التوكيل في الشراء، ولأن كل جهة إذا ملك بها الشراء لم يجز أن يشتري بأكثر من ثمن

المثل، فإذا ملك بها البيع لم يجز أن يبيع بأقل من ثمن المثل كالوصية، ولأن المحاباة في معنى الهبة، بدليل اعتبارها أنها إذا وقعت في المرض من الثلث، وقد ثبت أن الوكيل لا يملك الهبة فلم يملك المحاباة؛ ودليلنا على أنه لا يجوز إلى أجل أن البيع المطلق في الشريعة يقتضي التقدير بدليل أن من قال لرجل بعتك هذا الثوب بدينار فقال: قبلت، اقتضى النقد بحق الإطلاق، فإذا كان الوكيل إنما أذن له في بيع مطلق فكأنه إنما أذن له على وجه المعقول منه، وهو النقد، فلم يجز بيعه على غيره؛ ودليلنا على أن الإطلاق يقتضي نقد البلد أن الموكل لو باعه بنفسه بيعا مطلقا لاقتضى نقد البلد، فكذلك إذا أذن الموكل فيه. [1037] مسألة: ومن له في ذمة رجل دين، أو غيره عين من الأعيان في غير ذمته، فجاءه من ادعى أنه وكيل صاحب الحق في تسليم ذلك الحق منه، ولا بينه له فصدقه الذي عليه الحق، فلا يجبر على تسليمه، وفصل أبو حنيفة بين العين وما في الذمة، فقال يجبر على أن يعطيه ما في ذمته ولا يجبر على تسليم ما في الأعيان، وقال أبو يوسف يجبر في الوصفين؛ فدليلنا أن كل من لم يبرأ بالدفع إليه، لم يجبر على تسليم الحق إليه كالأجنبي، ولأنه أقر على غيره بالتوكيل فلم يلزمه بحكم ذلك الإقرار تسليم ما في يديه إلى الوكيل كالأعيان. [1038] مسألة: توكيل المراهق لا أعرف نصا فيه، وعندي أنه لا يصح، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن كل من لم يصح أن يوكل، لم يصح أن يتوكل كالمجنون، ولأنه غير مكلف كالصغير والمجنون. [1039] مسألة: اختلف أصحابنا في الوكيل يعزله الموكل فيتصرف بعد عزله وقبل علمه بالعزل، فمنهم من يقول يبطل تصرفه بعزله، علم أو لم يعلم، ومنهم من يقول لا يبطل إذا لم يعلم، وهو قول أهل العراق،

واختلف في ذلك قول الشافعي؛ فدليلنا على أنه لا ينفذ أنه عقد لا يفتقر إلى رضا شخص، فلم يفتقر إلى علمه بفسخه كالطلاق، ولأنه سبب تنفسخ به الوكالة فلم يختلف فيه حكم العلم والجهل، أصله إذا وكله ببيع عبد فباعه الموكل قبل بيع الوكيل، ولأن بقاء الوكالة ليس فيه حق للوكيل، لأن للموكل عزله شاء أو أبى، فكان كالنكاح ليس في إبقائه حق للزوجة، لأن الزوج رفعه بالطلاق الثلاث شاءت أو أبت، فلم يختلف في رفعه حكم العلم والجهل. [1040] مسألة: إذا وكله أن يبيع له سلعة بيعا فاسد كالربا، والغرر، والخمر، والخنزير، لم يصح ولم يملك الوكيل بذلك أن يبيعها بيعا صحيحا، كذلك يجيئ على المذهب، وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة يجوز ذلك؛ فدليلنا أنه توكيل لا يتضمن بيعا شرعيا، فوجب أن لا يملك به الوكيل البيع، أصله إذا وكله في إجارة شيء فباعه فإنه لا يملك بيعه، ولأن كل من لم يملك التصرف على الوجه الذي أذن له فيه لم يملكه على غيره، أصله إذا وكله في أن يزوجه ذات محرم، ولأن الوكيل نائب عن الموكل فيما كان له أن يفعله، وقد ثبت أن الموكل لم يكن له بيع سلعته بما وكله فيه، فكان الوكيل لا يجوز له ذلك أولى. [1041] مسألة: إذا وكله في ابتياع شيء فابتاعه له على الصفة التي وكله عليها، فذكر أنه ابتاعه لموكله، فإن الملك ينتقل إلى الموكل دون الوكيل، وقال أبو حنيفة ينتقل أولا إلى الوكيل ثم إلى الموكل؛ فدليلنا هو أنه توكيل في معاوضة فإذا صح العقد الموكل لم ينتقل إلى ملك الوكيل كالتوكيل في النكاح، ولأنه مبتاع لغيره، فإذا لوم الابتياع الغير لم ينتقل إلأيه كالحاكم إذا ابتاع لليتيم.

كتاب الإقرار

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الإقرار [1042] مسألة: إقرار المراهق لا يصح، وقال أبو حنيفة إذا أذن وليه في التجارة صح؛ فدليلنا أنه غير مكلف فلم يصح إقراره كالصغير. [1043] مسألة: إذا أقر بمال ولم يذكر مبلغه، فاختلف أصحابنا فيه [على أقوال: أحدها أنه يرجع في تفسيره إليه فإذا فسر شيئا] قبل منه، قل أو كثر، ولو قيراطا أو حبة، قاله الشيخ أبو بكر، وهو قول الشافعي، والآخر أنه يلزمه أقل نصاب من نصب الزكاة من نوع أموالهم، وهو قول ابن المواز، والآخر أنه يلزمه أقل ما يستباح به البضع والقطع. فوجه الأول أنه لفظ مجمل، فإذا لم يكن له تقدير في عرف اللغة والشرع رجع في تفسيره إليه، كما لو قال له عندي شيء أو حق. ووجه الثاني أن المال له تقدير في اللغة والشريعة، أما في اللغة فإنهم لا يعقلون من قولهم: فلان من أرباب المال، أنه يملك دانقا أو درهما، وإنما يعقلون زيادة على ذلك ببينة، وأما الشرع فقد ثبت أن النصاب مال، لقوله عليه السلام (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) فلم يثبت لما دونه هذا الاسم يوجب صرف الكلام إليه.

ووجه الثالث أنه إذا ثبت التقدير بما ذكرناه وكان المال اسما لمقدار من الكثرة يزيد على القليل النزر كان أقل تقدين يمكن حمله على ما ذكرناه لقوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم}، وقد ثبت أن أول المهور ربع دينار، وقول عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع في التافه وكان يقطع في ربع دينار. [1044] مسألة: إذا قال له علي مال عظيم أو كثير، اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من يقول هو كإقراره بمال فقط يرجع في تفسيره إليه، وهو قول الشيخ أبي بكر، ومنهم من يقول لا بد من صفة زائدة، فاختلفوا، فمنهم من يقول أول نصاب من نصب الزكاة، وهو قول أبي حنيفة، وهو الذي اختاره شيخنا رحمة الله عليه، ومنهم من يقول زيادة على أقل مال ويرجع في تفسيره إليه، ويحتمل عندي أن يلزمه بقدر الدية. وجه القول أنه لا حد في ذلك، أنه لفظ مجمل فوجب أن يرجع في بيانه إليه، أصله قوله علي شيء أو حق، ولأن ألفاظ صاحب الشرع المجملة لما وجب في الرجوع في تفسيرها إليه، كذلك الإقرار وكل مجمل تعلق به حكم، ولأن العظيم لا حد له في اللغة، ولا في الشريعة، ولا في العادة، فإذا لم يثبت تقدير من أحد هذه الجهات وجب الرجوع فيه إلى المقر، كما لو قال له علي مال معلوم أو موصوف.

ووجه إثبات التقدير أن وصفه بالعظيم والكثير يقتضي زيادة صفة على إطلاق الاسم، كما أن قولهم رجل طويل وقصير يقتضي إثبات صفات زائدة على مطلق الاسم، وإذا قلنا أنه يلزمه ما يلزمه بقوله مال فقط ألغينا الصفة، ولا سبيل إلى ذلك، ولأن القيراط والحبة لا يصفها أحد في لغة ولا شرع أنه عظيم ولا كثير، فلم يصح تعلق الحكم به، ولأنه لو قال له علي مال حقير أو قليل أو نزر، ثم وصفه بالدانق والقيراط لقبل ذلك منه، وذلك يقتضي أن يكون وصفه بالعظيم والكثير بخلاف النزارة والقلة. فإذا ثبت اعتبار التقدير، فوجه القول بالنصاب أنه أقل ما يسمى به مال في الشرع فوجب اعتباره. ووجه القول أنه يرجع في تفسيرها له غاية، وقد ثبت وجود زيادة على مطلق الاسم ولم يثبت تقدير فيه فوجب الرجوع إليه في تقديره. ووجه ما ذكرته من اعتبار الدية أن وصفه بالعظيم يقتضي المبالغة فيه فوجب أن يطلب له من التقدير أعلى ما في بابه، لأن ذلك عظيم من وجه وقليل من وجه، والوصف له بالعظيم يقتضي تخصيصه بهذا المعنى وانتقاء غيره عنه، والله أعلم. [1045] مسألة: إذا قال له علي دراهم أو قال دنانير، لزمه ثلاثة دراهم، وهذا مبني على أقل الجمع، فعند مالك أنه ثلاثة، وقال عبدالملك أقله اثنان، فيجب على قوله أنه لزمه درهمان، والكلام في هذا هو الكلام في أصول الفقه، إلا أنا نذكر جملا منه. فدليلنا على أن أقل الجمع ثلاثة أن أهل العربية قسموا الكلام إلى

توحيد وتثنية وجمع، فيجب انفراد كل واحد من هذه الأقسام بمعناه، وأن لا يحكم لأحدهما بما يحكم به للآخر إلا مجازاً، فكما لا يجوز أن يقال إن التوحيد معقول من إطلاق لفظ الجمع، كذلك في التثنية، لأن في ذلك إبطال التقسيم، ولأن الأصل في اختلاف التسمية والصيغة أنه لاختلاف معني المسميات إلا أن يعلم بدليل أن المعنى واحد، ولأن العرف إذا أطلق القول بأن في الدار رجالا، وأن بمكة ثيابا، أنه أكثر من اثنين فوجب حمل الكلام على مفهوم إطلاقه. [1046] مسألة: إذا قال له علي ألف ودرهم لزمه درهم، ويرجع في بيان جنس الألف إليه، فأي شيء فسره به قبل منه، وكذلك ألف وثوب، أو وعبد، وما أشبه ذلك، لا يكون الثاني في تفسير الأول، وقال أبو حنيفة إن كان المفسر من جنس ما يكال أو يوزن أو يباع عددا كان عطفه تفسير الأول وحمل على أنه من نوعه كقوله: ودرهم وجوزة ومأكول طعام، فإن كان مما لا يكال ولا يوزن ولا يعد لم يحمل على أنه تفسير له؛ فدليلنا أن العطف يكون على [غير] جنسه كقوله ضربت رجلا وثوراً، ورأيت ثوراً وحماراً، فلم يكن تفسير العطف دلالة على أن المعطوف عليه من جنسه، لإمكان أن يكون من غير جنسه، ولا ظاهر في ذلك فيصار إليه، لأن كل عطف لزمه حق لم يكن لازما بما بعده لم يكن تفسيرا لما تقدمه، أصله قوله: علي ألف وثوب، فإذا شئت قلت كل لفظ، وهو أولى من قولك كل عطف، لأنه يستمر في الطرد والعكس، وهذا إذا قال ألف

درهم أو ألف ثوب لما كان قوله درهم وثوب لا يلزم به حق بنفسه كان تفسير لما تقدم. [1047] مسألة: استثناء الأكثر من الأقل يصح، خلافا لمن منعه؛ لأن حقيقة الاستثناء أن يخرج من الكلام ما لولاه لوجب تناوله، هكذا في حده أهل العربية ولم يقصروا ذلك على أن يكون أقل مما بقي أو أكثر، ولأ، الغرض بالاستثناء كأنه استدراك للمتكلم على نفسه فيما أطلقه من الصيغة العامة، وذلك يستوي فيه القليل والكثير، ولأنه في معنى التخصيص، لا فرق بينهما إلا في الاتصال والانفصال وهما يجتمعان في أنهما يخرجان ما لم يرد في الصيغة العامة وقد ثبت أن التخصيص يتناول الأكثر والأقل فكذلك الاستثناء، ولأن المخالف ليس يدعي أن ذلك لا يتأتى، ولكن يقول أنه لم يوجد مستعملا، وهذا القدر لا يضر، لأنا لم نجدهم يستثنون من كل جنس وكل عدد، ولكن لما عرفت أغرضهم في القدر الذي وجد من كلامهم علمنا أنه لا فصل بين الجميع، وكذلك في الاستثناء لا فصل بين القليل والكثير، ولا يلزم على هذا استثناء الكل كما لا يلزم في التخصيص لأن ذلك يبطل معنى الاستثناء لأنه يتضمن إخراج البعض ولا يتضمن ذلك في الكل. [1048] مسألة: الاستثناء من غير الجنس جائز يتعلق به الحكم، وقال أبو حنيفة يصح إذا كان مما يكال أو يوزن أو يعد، كقوله: ألف درهم إلا كرّ حنطة، وإلا مائة جوزة، وما أشبه ذلك، ولا يصح عنده فيما لا يكال ولا يوزن ولا يعد، كقوله: ألف دينار إلا عبدا، أو ثوبا، وقال محمد بن الحسن وزفر لا يجوز الاستثناء من الجنس أصلا، فدليلنا في اللغة واستعمال أهلها ذلك، قال الله تعالى {فسجد الملائكة كلهم

أجمعون. إلا إبليس}، فاستثناه وليس منهم. وقال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأً}، فاستثناه مما ليس له، وذلك لا يتعلق بما ليس له لا لفظا ولا معنى، لأن الخطأ لا يدخل تحت ما للمكلف أن يفعله وليس له، ونظير ذلك في القرآن كثير، وقال النابغة: (وما بالربع من أحد ... إلا الأراوي) وليست من جنس واحد. وقال آخر: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس والأول أقوى، وفائدة هذه المسألة إذا قال له: علي ألف درهم إلا ثوبا، فإنه يستثني فيه ما إستثناه. [1049] مسألة: إذا قال له: علي ألف درهم في كيس أو ثوب أو منديل، أو تمر في جراب كان هذا إقرارا بما في الأوعية ولم يكن إقرارا بالأوعية، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن قوله: في جراب، لا يتضمن أكثر من الإخبار عن وعاء الشيء المقر به، ويحتمل أن يكون الوعاء داخلا في الإقرار ويحتمل أن يكون خارجا عنه، فلم يجز أن يحكم فيه بالشك، ولا يلزم عليه عسل في زق، لأنه لا يتصور انفراده عن وعاء فحكم بدخول وعائه في الإقرار، بخلاف مسألتنا. [1050] مسألة: إذا أقر الأجانب لا يتهم بهم، أقر بعضهم في الصحة ولبعضهم في المرض، وضاقت التركة عن استيفاء حقوقهم، فإنهم يتساوون

في المحاصة، خلافا لأبي حنيفة في قوله يبدأ غرماء الصحة؛ لأنه دين ثبت في المرض فوجب أن يساوي الدين الثابت في الصحة، دليله إذا ثبت بالبينة في المرض، لأنه حق لو ثبت بالبينة في المرض لشارك من يثبت له، فوجب إذا ثبت بالإقرار أن يشاركه صاحبه، ويثبت له مثله حال الصحة، أصله إذا أقر بوارث في المرض، ولأنه معنى ثبت به الدين في المرض فوجب أن يساوي ما ثبت به في الصحة، أصله البينة، ولأنهما لو استويا في ثبوت الدين عليه بإقراره، وجب استواؤهما في التحاص كما استوت حال الإقرار لهما في صحة أو مرض. [1051] مسألة: الإقرار في المرض لوارث يثبت إذا كان لا يتهم به، ولا يثبت إذا كان يتهم به، ومنعه أبو حنيفة في الموضعين، والأصح عند أصحاب الشافعي ثبوته في الموضعين؛ فدليلنا على ثبوته مع انتفاء التهمة أنه مكلف أقر بما لا يتهم عليه فقبل إقراره كالأجنبي، ولأنه ممن يصح منه الإقرار للأجنبي مع ارتفاع التهمة، فصح إقراره للوارث مع ارتفاعها كما لو أقر في الصحة، ولأن الناس قد يكون بينهم وبين أقاربهم وورثتهم معاملات ومداينات، كما يكون بين الأجانب ولا يكمنهم فيها إقامة البينة للمشقة، فلو قلنا أن الإقرار لهم في المرض لا يقبل لاشتد على الناس طريق المخلص من المظالم إلا بقطع معاملة الأقارب جملة أو بالإشهاد في كل وقت، وكل ذلك موضوع، لما يلحق فيه من مشقة، ولا يلزم على هذا أن يقال فيه تطريق إلى الوصية للوارث، لأن هناك ما يحسم معه هذا الباب وهو التهمة.

[1052] فصل: ودليلنا على منعه مع التهمة، خلافا للشافعي؛ لأن الإقرار لأجنبية للزوم الدين لم يقر له فوجب ألا يثبت مع التهمة للمقر كالشهادة، ولأن المريض محجور عليه لأجل ورثته بدليل أنه ممنوع في مرضه من الهبة والصدقة، ومن الوصية بأكثر من الثلث، ولوارث، فلو أجزنا له إقراره مع التهمة لكان ذلك تطريق إلى فعل ما يمنع منه بالحجر، ولأن حال المرض حال لا يقصد الإنسان فيها قطيعة إلى تفضيل بعض ورثته على بعض، فإذا أقر له بمال على هذا الوجه كان ظاهر حاله تهمته أنه قصد تفضيله بالإقرار عوضا عما لا يتوصل إليه بوصيته أو بهبته، وإذا كان ظاهر أمره تخصيصه بما يقوم مقام ما منع منه صار كالوصية التي ظاهرها التوصل إلى تفضيل بإقامتها مقام ما منع من تفضيله بالميراث، فإذا منع من تفضيله بأحد الأمرين وجب أن يمتنع بالآخر. [1053] مسألة: إذا أقر في المرض بقبض دينه ممن لا يتهم به، قبل إقراره، وبرأ من كان عليه الدين، سواء أدانه في المرض أو الصحة، وقال أبو حنيفة يقبل إقراره بما كان له من دين في الصحة ولا يقبل قبض ما أدانه في المرض إلا ببينة؛ فدليلنا أنه إقرار من مكلف بقبض دينه ممن لا يتهم به فيجب قبوله، أصله إذا أقر بقبض دين أدانه في الصحة ولأنه براءة للأباعد فاستوى فيه الصحة والمرض، كما لو باع دارا في مرض فأقر بقبض ثمنها، ووافقنا في إحدى روايتيه أنه يقبل منه ولكن يكون في الثلث على إحدى الروايتين، والأخرى من رأس المال. [1054] مسألة: إذا قال: لفلان علي درهم، ثم قال: لفلان علي درهم بعد ذلك، لم يلزمه إلا درهم واحد بظاهر إقراره، إلا أن يقول أردت

درهما آخر، سواء كان في مجلس أو مجالس، في يوم أو أيام، وقال أبو حنيفة إن كان في مجلس واحد لم يلزمه إلا درهم واحد، وإن كان في مجلس لآخر، أو يوم آخر، لزمه درهمان؛ فدليلنا أنه أعاد الإقرار على جهته لفظا ومعنى، فوجب أن لا يلزمه بمجرد الثاني حق آخر، دليله إذا كرره في مجلس واحد، ولأنه لو أعاد الإقرار في مجلس الشهود لم يلزمه إلا الدرهم الواحد كذلك في مجلس الحكم. [1055] مسألة: إذا قال: لفلان علي مائة درهم من ثمن شيء باعنيه ولم أقبضه ومنعني منه، وقبل المقر له إقراره بالمائة وأنكر أن يكون باعه شيئا، فالقول قوله أنه لم يبعه شيئا ويحلف، فإذا حلف سقطت المائة عن المقر، وسواء عين أم لم يعين، وقال أبو حنيفة: إذا أقر بالمائة وقال هي ثمن مبيع غير معين حلف المقر له أنه لم يبعه شيئا وكان على المقر مائة، ووافقنا فيه إن كان في بيع معين؛ فدليلنا أنه أقر له بثمن مبيع لم يضمه فإذا جحد المبيع لم يستحق الثمن المقر له به، أصله إذا أقر بثمن مبيع معين. [1056] مسألة: إذا شهد شاهد على رجل أنه أقر لزيد بألف، وشهد آخر أنه أقر بألفين ولم ينسباها إلى جهة، أو نسباها إلى جهة واحد أو نسبها أحدهما وأطلق الآخر، فإن الألف تثبت له بشهادتهما ويحلف على الألف الأخرى مع شاهده، وقال أبو حنيفة لا يثبت بهذه الشهادة شيء أصلاً؛ فدليلنا أن شهادتهما اتفقت على قدر من المال لفظا ومعنى فوجب أن يحكم به أصله إذا شهد أحدهما أنه أقر بألف وشهد الآخر أنه أقر بألف وألف، ولأن الشاهد الآخر شهد بما شهد به الشاهد الأول وزيادة، فوجب أن يثبت الأول كما لو شهد أنه أقر بألف وخمسمائة. [1057] مسألة: الخيار يثبت في الكفالة والضمان، خلافا للشافعي. [1058] مسألة: إذا ترك ابنين فأقر أحدهما بثالث فإن نسبه لا يثبت،

ويشاركه فيما في يده بإقراره فيأخذ ثلث ما معه، وقال الشافعي لا يشاركه أصلاً، وقال أبو حنيفة: يعطيه نصف ما في يده. فدليلنا على الشافعي أن الميراث يتعلق بالتركة فإذا أقر بعض الورثة بنسبه جاز أن يلزم في حصته بإقراره، أصله الدين، ولأن النسب أحد الأسباب التي يستحق بها التوارث، فإذا أقر به بعض الورثة، جاز أن يثبت للمقر له بقدر ما يلزم المقر لو ثبت له النسب أصله الزوجة. [1059] فصل: ودليلنا على أبي حنيفة أن إقرار المقر ليس بأقوى من شهادة شاهدين بنسب المقر له، وقد ثبت أنه لو شهد له شاهدان بنسبه لم يستحق على المقر إلا ثلث ما بيده فكان بأن لا يستحق زيادة على ذلك بالإقرار أولى، واعتبارا بإقراره بالدين والزوجية لأنه لا يلزم للمقر إلا ما لو أقر باقي الورثة معه لزمه مع إقرارهم كذلك في مسألتنا. [1060] مسألة: إذا ترك ابنا لا وارث له غيره، فأقر بأخ لم يثبت نسبه وأعطاه نصف ما في يده، وقال الشافعي يثبت نسبه؛ فدليلنا على أنه إقرار من ولد واحد فلم يثبت به نسب المقر له، أصله إذا كانوا جماعة، ولأن الإقرار في حق الغير ليس بأوكد من الشهادة، وشهادة الواحد غير مقبولة فيه، فالإقرار أولى. ***

كتاب العارية

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب العاريّة [1061] مسألة: سبيل العارية سبيل الرهن، يضمن منها ما يغاب عليه، وقال أبو حنيفة لا يضمن على كل وجه، وقال الشافعي يضمن على كل وجه. فدليلنا أنها قد أخذت شبها من الأمانة لأن المالك بذل للمستعير منفعتها من غير عوض، فكان كالعبد الموصى بخدمته، وأخذت شبها من المضمون لأنه قبضها لمنفعة نفسه على التجريد، فجاز أن يتعلق بها الضمان فوجب أن يكون حكمها مترددا بين الأمرين، فإذا علم تلفها بغير تفريط منه سقط الضمان. وعلى أبي حنيفة أن القبض لمنفعة القابض، فجاز أن يتعلق بها الضمان كالقرض. وعلى الشافعي ما روي: (ليس على المستعير ضمان)، ولأنه حيوان قبضه لمنفعة نفسه، فلم يضمن به مع عدم التعدي كالعبد الموصى بخدمته، ولأنها عين قبضت لاستيفاء منفعة تطوع بها المالك، فلم يضمن مع عدم التعدي كالعبد الموصى بخدمته.

[1062] مسألة: إذا أعاره بقعة ليبني فيها أو يغرس فيها فقد لزمه بقبول المعار، وليس له الرجوع فيه قبل انتفاع المستعير، فإن وقّت له مدة لزمه تركه إلى انقضائها، وإن لم يوقّت وأطلق له لزمه ترك مدة ينتفع في مثلها، وقال أبو حنيفة والشافعي له أن يرجع في الموضعين؛ ودليلنا قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل معروف صدقة)، ولأن المعير قد ملكه الانتفاع مدة معلومة، وصارت العين في يده بعقد مباح، فلم يكن له الرجوع فيها بغير اختيار المملك كالعبد الموصى بخدمته والعمرى. [1063] مسألة: إذا غرس المستعير وبنى، ثم انقضت المدة المؤقتة أو مدة ينتفع في مثلها، فالمالك بالخيار إن شاء أخذ المستعير بقلع غرسه وبنائه، وإن شاء أعطاه قيمته مقلوعا إذا كان مما له قيمة بعد القلع، وسواء شرط ذلك في العقد أم لم يشترط، وقال الشافعي إن لم يشترط فليس له مطالبته به؛ فدليلنا أنه رد العارية مشغولة بملكه، فوجب أن يؤخذ بإزالته عنه، أصله إذا رد الدار وفيها متاع، ولأن ما هو من موجب الشيء لا يحتاج إلى شرط، ومن موجب العارية أن يرد العارية فارغة ليتمكن المالك من الانتفاع، ولأن ذلك من معنى تبقية بعض العارية في يده، لأن موضع الغراس لا يمكن للمالك أن يستنفع به، ولا أن يغرس فيه شيئا، ولا أن يزرع، ولا أن يبني، فصار كمن استعار متاعا ثم رد بعضه وبقي البغض في يده فيلزمه رده. [1064] مسألة: إذا استعار دابة من رجل ثم ردها إلى اصطبله ولم يدفعها إليه أو إلى من يجري مجراه من وكيل مفوض إليه لم يسقط عنه الضمان، وقال محمد غبن الحسن يسقط عنه الضمان استحسانا، فدليلنا أن الضمان يسقط بالرد إلى يد صاحب العارية أو من يده كيده، وردها إلى اصطبله لا يجري مجرى ردها إلى يده فكان كما لو أسلمها إلى أجنبي.

كتاب الوديعة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الوديعة [1065] مسألة: إذا قبض وديعة ببينة فادعى ردها لم يقبل منه إلا ببينة، خلافا لأبي حنيفة والشافعي؛ لأنه لما أشهد عليه وتوثق منه جعله أمينا في الحفظ دون الرد، فإذا ادعى ردها فقد ادعى براءته بما ليس بمؤتمن فيه، فلم يقبل منه إلا ببينة، ولأن هذا فائدة الإشهاد عليه، فإذا أزلناه لم يبق له فائدة، فإن قيل فائدته أن لا يمكنه جحد الوديعة قلنا دعوى ردها بمنزلة جحدها، فهو يتوصل إلى مراده. [1066] مسألة: إذا أنفق الوديعة ثم رد مثلها أو أخرجها لينفقها ثم ردها فقد سقط الضمان عند مالك فيما ليس له مثل، وقال أبو حنيفة إن ردها بعينها لم يضمن فإن رد مثلها ضمن، وقال عبد الملك والشافعي يضمن في الموضعين. فدليلنا أن الضمان يتعلق عليه بالإنفاق والأخذ، فإذا زال ذلك وجب أن يزول الضمان لزوال سببه الموجب له، ولا يدخل عليه الإقرار بعد الجحود لأن فسقه قد ثبت فليس بموضع للحفظ، وليس كذلك أخذها ليردها لأنها ليس بتعد منه فيها، لأن فيه تأويلا، وقد كانت الصحابة تتسلف

أموال الأيتام وتسلفه، وكذلك ليس يدخل عليه الغصب، لما ذكرناه. [1067] مسألة: ليس للمودع أن يسافر بالوديعة، فإن فعل ضمن، وقال أبو حنيفة له ذلك إذا كان الطريق آمنا ولم ينهه صاحبها عن السفر بها. فدليلنا أن السفر لا يحفظ الوديعة إذا أودعت في البلد فضمنها كما لو تركها بموضع خراب لم تجر العادة بأن يحفظ في مثله، ولأن ربها إنما أذن له في حفظها في البلد، ولم يأذن له في إخراجها عنه، كما لو أذن له في حفظها تحت يده ولم يأذن له في إيداعها لغيره، فلما كان متى أودعها لغيره ضمن بتعديه بخروجه في حفظها على الوجه المأذون له فيه، فكذلك إذا سافر به. [1068] فصل: ليس للمودع إيداع الوديعة عند غيره من غير عذر، فإن فعل ضمن، وقال أبو حنيفة إن أودعها عند من يلزمه نفقته لم يضمن؛ فدليلنا أنه أودعها من غير حاجة عند من لم يأتمنه المودع، كما لو أودعها عند أجنبي. [1069] مسألة: إذا أراد السفر فله إيداعها عند ثقة مرضي من أهل البلد، ولا ضمان عليه، قدر على الحاكم أو لم يقدر عليه، واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من يقول إن أودعها لغير الحاكم ضمن، فدليلنا أنه أودعها من الحاجة لثقة مرضي فأشبه إيداعها عند الحاكم، ولأنه أحد سببي حفظها فكان موكلا إلى اجتهاده، كالحرز. [1070] مسألة: إذا أودع عنده بهيمة ولم يأمره أن يعلفها، لزم المودع

أن يعلفها أو يرفعها إلى الحاكم فيتداين على صاحبها في علف، أو يبيعها عليه إن كان قد غاب، فإن تركها ولم يعلفها فتلفت ضمن، وقال أبو حنيفة لا يلزمه علفها؛ فدليلنا أن المودع مأمور بحفظ الوديعة وذلك يتضمن حراستها فيما يعلفها، فكان ذلك عليه، ألا ترى أنه لو آرها في بئر للزمه ردها عن ذلك الموضع، وفي ترك علفها تلفها فكان ذلك ممنوعا منه. [1071] مسألة: إذا أمره صاحب الوديعة بدفعها إلى رجل، فدفعها إليه بغير بينة، ضمن إن جحد المدفوع إليه ولم يقبل في قوله بالدفع، خلافا لما يحكى عن أبي حنيفة والشافعي أنه يقبل قول المودع؛ لأن المالك لم يأمره بإتلافها عليه، وفي دفعها إلى من أمر بدفعها إليه بغير بينة إتلافها على المالك، لأنه قد يجحد فلا يمكن المالك أن يقيم عليه بينة، فلا يقبل قول الدافع، لأنه ليس بأمين للمدفوع إليه، والأمين إنما يقبل قوله فيما بينه وبين من ائتمنه فكان مفرطا بذلك، فلزمه الضمان بتعديه، ولأنه أمين دفع ما ائتمن عليه إلى من ائتمنه بغير بينة، فضمن مع الجحود كالوصي إذا دفع مال الأيتام إليهم بغير بينة فجحدوا، أنه يضمن لأنه ليس بأمين لهم، وإنما هو أمين لأبيهم أو الحاكم. [1072] مسألة: إذا أودعه وشرط الضمان لم يضمن، خلافا للعنبري؛ لأن جعل ما أصله أمانة لا يصير مضمونا بالشرط كالشركة والوكالات. [1073] مسألة: إذا سرقت الوديعة لم يكن للمودع أن يخاصم السارق إلا بتوكيل من المالك، هكذا يحكى على أصلنا، وقال أبو حنيفة له ذلك؛ فدليلنا أن الخصومة فيها للمالك، والمودع ليس بمالك ولا مفوض إليه، لأن الإيداع استحفاظ وائتمان، فلا يتضمن الخصومة.

كتاب الغصب

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الغصب [1074] مسألة: العروض والحيوان وكل ما لا يكال ولا يوزن يضمن قيمته، خلافا لما يحكى عن عبد الله بن الحسن العنبري أنه يضمن بمثله من جنسه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركا له في عبد قوّم عليه نصيب شريكه)، فألزمه القيمة دون المثل، ولأن الغرض من هذه الأشياء أثمانها، والعين لا تقوم مقام عين أخرى، وليس كذلك ما يكال ويوزن، لأن الغرض مثله دون أعيانه. [1075] مسألة: إذا جنى على سلعة لرجل جناية أتلف عليه الغرض المقصود منها، فصاحبها مخير إن شاء أخذها بما نقص، وإن شاء أخذ قيمة السلعة، سواء كانت حيوانا أو ثوبا، أو غير ذلك، وسواء كان ذهاب غرضه

من جهة المشاهدة مثل أن يبتاع فرسا أو حمارا للركوب فيقطع يده، أو من جهة العادة مثل أن يقطع ذنبه فلا يمكن من جهة العدة الانتفاع به في الوجه المقصود، وقال أبو حنيفة في العبد والثوب إذا ذهب بأكثر منافعه مثل قولنا، وإن ذهب النصف أو أقل لم يكن له إلا ما نقص، وقال الشافعي ليس له في كل ذلك إلا ما نقص، وتفرضها سفهاؤهم ومجانّهم في ذنب حمار القاضي، وذنب حمار الشرطي، قصد للهزل والتهاتر بالدين. فدليلنا أنه بهذه الجناية قد أتلف على المالك المنفعة المقصودة من سلعته فلزمه قيمتها اعتبارا بإتلاف عينها، لأن بقاء العين مع إتلاف الغرض المقصود منها ألا يقع في الانتفاع بها فيما يقصد منها، فكان كإتلاف عينها. ودليلنا على أبى حنيفة اعتبارا بذهاب أكثر منافعها. [1076] مسألة: ولا تضمن الجنايات على البهائم بشيء يقدر في قيمتها، وقال أبو حنيفة في الحيوان المنتفع بظهره ولحمه كالبعير والبقرة والدابة إذا قلع عينها لزمه ربع قيمتها؛ فدليلنا أنها جناية على بهيمة فلم يضمن بذلك كقطع يدها، ولأنه حيوان لم يضمن أطرافه بمقدر كالشاة. [1077] مسألة: إذا قصد التمثيل بعبد عتق عليه، خلافا لأبي حنيفة والشافعي، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من مثل بعبد عتق عليه). [1078] مسألة: زيادة القيمة بزيادة البدن أو بتعليم صناعة، غير

مضمونة على الغاصب، خلافا للشافعي؛ لأن الغاصب ضامن لقيمة الأمة يوم الغصب فما طرأ بعد ذلك على بدنها من نقصان أو زيادة فلا حكم له، لأنه طارئ على عين مضمونة، ولأ، رجوع العين المغصوبة إلى مالكها على صفتها التي غصبت عليه توجب سقوط الضمان، أصله لو لم يزد عبده، ولأنها زيادة قيمة فلم يضمن على الغاصب أصله زيادة الأسواق. [1079] مسألة: بين أصحابنا في منافع الشيء المغصوب إذا استوفاه الغاصب بنفسه واغتلاله من الرباع والحيوان، خلاف كثير يذكر في مسائل الخلاف بين أصحابنا وننظر في هذا الموضع أنه لا يضمن أصلاً، خلافا للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان)، فعمّ، ولأن الغاصب ضامن لقيمة الشيء المغصوب يوم الغصب يدل عليه أنه يضمنه بالتعدي، وذلك إنما حصل وقت الغصب، فإذا كان كذلك لم يكن لمنافعها حكم في الضمان لأنها تابعة للعين، ولأن الحكم إذا ثبت في الرقبة لم يكن في المنافع حكم وكانت تابعة له اعتبارا بمن تزوج أمة ثم ابتاعها، والعقد ينفسخ لثبوت الحكم في الرقبة، ولأن منافع الحيوان لا تضمن بالغصب، أصله منفعة الحر والحرة، ولأن للأمة منفعة، من منفعة الاستخدام، ومنفعة البضع، والسيد يملك المعاوضة عليها جميعاً، ثم إحدى المنفعتين وهي منفعة الاستمتاع لا تضمن بالغصب كذلك المنفعة الأخرى. [1080] مسألة: ولد المغصوبة الحادث بعد الغصب غير مضمون على الغاصب، وفي الحمل خلاف، وقال الشافعي كل ذلك مضمون؛ فدليلنا أن الغصب لم يتناول الولد الحادث فأشبه ولد المودوعة والعارية، ولأنه نماء حادث كالسمن، وقد دللنا عليه، ودليلنا على أن الحمل غير مضمون أنه نماء من جسمها بحال الغصب فلم يضمن على الغاصب كالسمن. [1081] مسألة: إذا أكره حرة على الزنا فعليه الحد والمهر، وقال أبو

حنيفة لا مهر عليه، فنقول إنها حرة لم ترض ببذل بضعها بغير عوض فوطئها من يحد في وطئها ويضمن الجناية عليها فلومه المهر لها، أصله إذا وطئها بشبهة، وفيه احتراز من الزانية ومن غيرها من الحربي والذمي. [1082] مسألة: العقار يضمن بالغصب، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن كل معنى يضمن به ما ينقل ويحول من الأعيان فإنه يضمن به ما لا ينقل منها ولا يحول، كالقبض في البيع، ولأن العقار والنخل والشجر أعيان تضمن بالقبض في عقد، فوجب أن تضمن بالغصب كالذي يتأتى بعلة، ولأنه سبب للضمان فوجب أن يضمن به العقار كالإتلاف، ولأن حق الغصب في ما ينقل ويحول موجود في العقار فتعلق به الضمان. [1083] مسألة: إذا غصب ساحة فبنى عليها لزمه قلع البناء وردها، خلافا لأبي حنيفة؛ في قوله لا يلزمه قلعه، وعليه قيمتها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)، ولأنها عين غصبها لو أراد ردها لكان له، فإذا امتنع أجبر على ذلك، أصله إذا لم يبن عليها، ولأنه شغل ملك الغير بملك له لا حرمة له غصبا، فوجب أن يلومه رده، أصله إذا غصب أرضاً وبنى فيها. [1084] مسألة: إذا فتح قفصاً فيه طائر فطار منه ضمنه، هاجه أو لم يهجه، طار عقيب الفتح أو بعد مهلة، وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه على كل وجه، وقال الشافعي إن لم يهجه فلا يضمن وإن هاجه ضمن، فدليلنا أنه سبب لإتلافه بدليل أن الطير كان لا يقدر على الخروج قبل الفتح فإذا

فتح القفص صار له طريق إلى الخروج. فإذا طار فقد تلف على صاحبه بسببه فضمنه كحافر البئر يتلف فيها الإنسان. [1085] مسألة: إذا تعذر على الغاصب رد المغصوب بإبقاء العبد وشرود الدابة وغير ذلك، وأخذ المالك القيمة فإنها تصير ملكا للمغصوب منه، ويصير الشيء المغصوب ملكا للغاصب، فإذا وجد لم يكن للمالك رد القيمة وأخذه، وقال الشافعي يرد القيمة ويرتجع السلعة؛ فدليلنا أن القيمة بدل عن العين المغصوبة فإذا تعذر تسليمها كانت القيمة بدلا منها، فوجب أن يملك كالثمن في المبيع، ولأن ضمان القيمة لو لم يكن سببا للتمليك لأدى إلى اجتماع العوض والمعوض في ملك واحد فيما يصح تمليكه لعقود المعاوضات، وذلك خلاف الأصول. [1086] مسألة: إذا أراق خمراً على ذمي أو أتلف عليه خنزيراً على وجه التعدي فعليه القيمة، خلافا للشافعي؛ لأنه أتلف عليه ما يعتقده مالا له ظلما، فوجب أن يضمن قيمته، أصله إذا أتلف عليه ما يصح تمليكه في حق المسلم، ولأن حفظ ماله والكف عن إتلافه عليه مستحق علينا كاستحقاقه في حفظ نفسه، فلما كانت نفسه مضمونة بالإتلاف فكذلك ماله.

كتاب الشفعة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الشفعة [1087] مسألة: الشفعة بالجوار لا تستحق، خلافا لأبي حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة) ففيه ثلاثة أدلة: أحدها أنه أخبر عن محل الشفعة أنه فيما لم يقسم، فانتفى بذلك وجوبها في غيره، والثاني دليل الخطاب وهو أنه لما علقها بغير المقسوم دل على أن المقسوم بخلافه، والثالث نصه على سقوطها مع القسمة، ولأنه ملك محوز بحدود، أصله إذا كان بينهما طريق نافذ، ولأن كل شفعة تستحق بالشركة فإنها تسقط مع القسمة، أصله الدار تكون بين ثلاثة، فإن لكل واحد منهم الشفعة فيما يبيع شريكه فإذا قسموها وجعل باب أحدهم في الوسط، وباب كل واحد من الآخرين في الطرف، ثم باع صاحب الطرف، فإن الشفعة لصاحب الوسط ولا يكون لصاحب الطرف الآخر شفعة فيما يبيعه صاحب الآخر، وقد كان له شفعته في هذا المبيع قبل القسمة، وإنما سقطت بالقسمة.

[1088] مسألة: اختلف عنه في الثمار فقال فيها الشفعة وقال لا شفعة فيها، فدليلنا على إثبات الشفعة أنها معلقة في الملك من غير صنعة آدمي بأصل تجب فيه الشفعة يخاف سوء المشارك فأشبه الفحل والبئر. [1089] مسألة: الشفعة على قدر الأنصباء، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن الشفعة معنى يستفاد بالملك فوجب أن تكون معتبرة بالملك لا بقدر الملاك، أصله غلة الدار وكسب العبد، ولأن مرافق الأموال تتوزع على قدر مقادير أملاك الشركاء في القلة والكثرة، كالربح في الثمار وأجرة المساكن، ولأن الشفعة مستحقة لإزالة الضرر المتأبد، لولاها لم يكن إزالته لحق واجب وهو أن يطالب المشتري والشريك بالقسمة فيلزمه، فيدخل عليه الضرر من وجوه نقصان قيمة نصيبه إذا انفرد، واستئناف مرافق وزيادة مؤنة، فالضرر يدخل عليه على حسب ملكه، ولأن الدار إذا قسمت قسطت مؤنة البناء في القسمة على قدر الملك لا على قدر الرؤوس، فإذا كانت الشفعة مستحقة لهذا وجب أن يستحق بقدر الملك، لأن هذا الضرر إذا وجد فقسط بحسب المال وكذلك إذا رفع. [1090] مسألة: طلب الشفعة ليس على الفور، وعنه في انقطاعها للحاضر روايتان: إحداهما أنه تنقطع بعد سنة، والأخرى أنها لا تنقطع إلا بأن يأتي عليه من الزمان ما يعلم به أنه تارك لها، وقال أبو حنيفة إنه على الفور. وهو أظهر أقاويل الشافعي. فدليلنا قوله عليه السلام: (الشفعة فيما لم يقسم) ولم يعلقه بحد، ولأن المطالبة حق للشفيع، والأصل أن كل من ثبت له حق فله أخذه، وله تركه أيّ وقت شاء، إلى أن يقوم دليل على

تعلقه بوقت يفوت بخروجه هذا أصل بنينا عليه هذا الباب، ولا ينتقض بأعيان المسائل، ولأنه حق من جهة استيفاء مال لم يكن فيه تفريط ولا تدليس، فم تجب المطالبة فيه على الفور، أصله المطالبة بالديون، ولأن على الشفيع إضرارا في المطالبة على الفور، لأنه قد يعلم ببيع الشقص في وقت لا يكون معه ثمنه، فيحتاج إلى تحصيل الثمن وبيع ما يحصله به، وذلك يقتضي مهله يمكنه فيها، وكذلك قد يكون المشتري عمّر الشقص فيجب له قيمة العمارة، ويتعذر على الشفيع قيمة الشقص في الوقت، والضرر غير جائز. [1091] مسألة: تستحق الشفعة في النكاح والإجارة والخلع، خلافا لأبي حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الشريك شفيع) وقوله: (الشفعة فيما لم يقسم) ولم يفرق، ولأنه نوع معاوضة يملك به ما يجب فيه الشفعة، فجاز أن تستحق به الشفعة كالبيع. [1092] فصل: ويؤخذ الشقص بقيمته، خلافا للشافعي في قوله مهر المثل؛ لأن ذلك يوجب تقويم البضع في حقوق الأجانب، ولأن في ذلك ضررا على المرأة وعلى الشفيع، لأنه قد تكون قيمته أضعاف مهر المثل، بأن يكون الزوج قد سامح المرأة، وتقول لا أرضى ببذل بضعي بمهر المثل، فإذا كلفنا المرأة مهر المثل عوضا منه أضررنا بها، وكذلك عكسه في حق الشفيع فكانت القيمة أعدل. [1093] مسألة: إذ أخذ الشقص بالشفعة ثم خرج مستحقا فالعهدة على المشتري، وقال ابن أبي ليلى: على البائع، وقال محمد بن الحسن: إذا كان الشفيع أخذ الشقص من البائع فعهدته عليه؛ ودلينا أن الشفيع ملك الشقص عن المبتاع، فوجب أن يرجع عليه دون غيره كالمبتاع مع البائع.

[1094] مسألة: المسلم والذمي في استحقاق الشفعة سواء، خلافا لأحمد بن حنبل وداود في قولهما لا شفعة للذمي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الشريك شفيع)، فعم، ولأنه حق وضع لإزالة الضرر فاستوى فيه المسلم والكافر، كالرد بالعيب، ولأنه معنى يستفاد بالملك كالاستخدام. [1095] مسألة: لا شفعة في العروض والحيوان، خلافا لمن يحكى عنه ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الشفعة فيما لم يقسم)، وقوله (إذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)، ولأنه مما ينقل ويحول كالذهب والفضة. [1096] مسألة: إذا اشترى شقصا فيه الشفعة بثمن إلى أجل وكان الشفيع ثقة مليا، فله أخذه بالثمن إلى أجل، وإلا أتى بثقة ملئ وكان له أخذ الشقص، خلافا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما إنه ليس له إلا أن يأخذه بالثمن حالا، أو يؤخر بالمطالبة إلى الأجل؛ لأنه لو لم يجب بها الأخذ على ما قلناه لم يخل بأحد من أمرين إما أن يأخذها نقدا، وذلك زيادة عليه على ما أخذه المشتري، فلم يجز كالزيادة عليه في الثمن، ولأن الأجل يأخذ قسطا من الثمن فكان كالزيادة في مقداره، أو أن يؤخر الأخذ بها إلى أن يحل الأجل وذلك غير جائز، لأنه حق وجب له يملك أخذه بمثل ما عاوض المشتري عليه، فكان له ذلك كالمبيع بالنقد وإذا انتفى الأمران لم يبق إلا ما قلناه. [1097] مسألة: اختلف عن مالك في الهبة لغير ثواب وفي الصدقة هل تجب فيها الشفعة، فعنه روايتان: إحداهما وجوب الشفعة، والأخرى سقوطها، وهو قول أبي حنيفة والشافعي؛ ودليلنا على وجوبها

قوله صلى الله عليه وسلم: (الشفعة في كل شرك)، وقوله: (الشريك شفيع)، ولأنه ملكه باختياره فوجب تعلق الشفعة به كالبيع وبذلك فارق الميراث. [1098] مسألة: إذا اشترى شقصا في أرض فيها نخل وشجر مثمر فشرط الثمر، فللشفيع أخذ الأرض بالثمرة وإن يبست وجذبت، وقال الشافعي يأخذ الشقص دون الثمرة؛ فدليلنا أنها ثابتة في أصل البيع غير مزايلة له من غير فعل آدمي قد ضمتها الشفعة، فوجب أن يجري فيها حكم الشفعة كالشجرة. [1099] مسألة: الشركاء الأقرباء في السهم أحق من الشركاء الأجانب، وقال أبو حنيفة كلهم سواء، وهو أحد قولي الشافعي؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: (الشفعة في كل مشترك) وهذا يفيد أنواع الشركة، ولأنه نوع من الشركة فوجب أن يتعلق به استحقاق الشفعة كالاشتراك في الشراء. [1100] مسألة: الشفعة موروثة، خلافا لأبي حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك مالا أو حقا فلورثته)، ولأنه خيار ثبت لدفع الضرر عن ماله، فجاز أن يقوم الوارث مقامه كخيار الرد بالعيب، ولأنه حق مستفاد بالملك، فجاز أن يورث كثمار الشجر ونتاج الماشية. [1101] مسألة: إذا بنى المشتري في دار، أو غرس ثم أراد الشفيع الأخذ بالشفعة فإنه يأخذ الشقص بقيمة البناء والغرس، وليس له إجبار المشتري على قلع البناء والغراس، وقال أبو حنيفة له ذلك؛ فدليلنا

قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق)، فكان له حرمة وحق، ولأنه بنى مباحا في ملك صحيح، فلم يستحق عليه قلعه وإتلافه، كالذي لا يستحق عليه شفعة، واعتبار الزرع. [1102] مسألة: اختلف قول مالك في الحمام وغيره مما لا يقسم إلا بإفساده عما هو عليه، فقال فيه الشفعة، وقال لا شفعة فيه، وكذلك الأرحية والطريق وغيرهما، وعند أبي حنيفة أن فيه الشفعة، وعند الشافعي لا شفعة فيه؛ ودليلنا أنه لا شفعة فيه أن كل مالا يقسم لضرر فلا شفعة فيه، كالعروض؛ ووجه إثبات الشفعة أنها مستحقة من أجل الضرر وسوء المشاركة فيما لا يدخل الانقسام في جنسه وتأبد الضرر فيه كالذي يدخله القسمة. [1103] مسألة: الشفعة في البئر والفحل إذا كان الأصل لم يقسم، خلافا للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الشفعة في كل مشترك) فعم، ولأنه تابع لأصل لم يقسم يجب في الأصل الشفعة ويتعدى ضرر الشركة فيه إلى الضرر في الأصل، فوجب أن تجب فيه الشفعة ببقاء الأصل. [1104] مسألة: للشفيع ترك الشفعة بعوض يبذل له عليها، خلافا للشافعي؛ لأنه عوض عن إزالة ملك في تمليك فجاز له أخذه كأخذ العوض عن تمليك زوجته أمرها والخلع به. [1105] مسألة: إذا كان ثلاثة شركاء في عقار باع اثنان منهم حصصهما من رجل واحد صفقة واحدة، ثم طالب الشريك الثالث بالشفعة، لم يكن له تبعيض الصفقة على المشتري، فإما أخذ الكل أو ترك، وقال الشافعي له أن يأخذ حصة أحد البائعين. فدليلنا أنها صفقة جمعت ما يستحق الشفيع أخذه

بالشفعة في الكل، فلم يكن له تفريق الصفقة، أصله إذا كان البائع واحداً. [1106] مسألة: إذا أقر البائع ببيع الشقص وأنكر المشتري الشراء، لم يكن للشريك المطالبة بالشفعة إلا بعد أن يثبت الشراء، خلافا لأبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي لأن المشتري أصل للشفيع وعنه يملك الشقص وعهدته عليه، فإذا لم يثبت شراؤه لم يستحق الشفعة. [1107] مسألة: إذا كان ثلاثة شركاء فاشترى أحدهم من الآخر حصته ثم طالب الثالث الذي لم يبع بالشفعة، كان الشقص بينه وبين الشريك المشتري على قدر أملاكهما، وقال بعض الشافعية جميعه للشريك الثالث، ولا يكون للشريك المشتري شيء أصلاً؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: (الشفعة في كل مشترك)، وقوله: (الشريك شفيع) ولأنه شقص وجب فيه الشفعة، فوجب أن تستحق لجميع الشركاء الذين لم يبيعوا، أصله إذا كان المشتري أجنبيا، ولأنه شريك في الشقص المبيع، فوجب أن يستحق الشفعة فيما باعه شريكه، والشريك الذي لم يشتر، ولأن المعنى الذي استحق الشريك الذي لم يبع الشفعة شركته في الملك، والشريك المشتري مساوٍ له فيه، فوجب أن يساويه في الاستحقاق. [1108] مسألة: إذا حط البائع عن المبتاع بعض الثمن بعد لزوم العقد، نظر فإن كان يسيرا يشبه أن يكون الباقي ثمنا للشقص حط عن الشفيع، وإن كان شيئا كثيرا لا يبتاع بمثله، كان ذلك هبة للمشتري ولا يحط عن الشفيع، وقال أبو حنيفة يحط كله، وقال الشافعي لا يحط في الموضعين جميعا، فدليلنا على أنه يحط ما يشبه أن الذي يلزم الشفيع القدر الذي بذل المشتري في المعاوضة عن الشقص دون ما زاد عليه، والذي بذل هو ما بقي بعد الحط فوجب أن يكون ذلك هو الذي يلزم الشفيع، ولا يدخل عليه الحط الكثير الخارج عن العادة، لأن لذلك وجها حمل عليه

وهو الهبة دون قصد المشاحة في البيع، ولأن ذلك كأنه فسخ للعقد الأول بالعوض الثاني؛ ودليلنا على أن الحط الكثير لا يجب حطه عن الشفيع أنه هبة فلم يسقط بها عن الشفيع فألزمه كما وهب له الثمن كله بلفظ الهبة، ولا يشبه اليسير لأن الباقي لا يخرج عن أن يكون ثمناً فيحمل الحط على أنه فسخ للعقد وبيع مستأنف. [1109] مسألة: الشقص المبيع بالخيار لا تجب الشفعة فيه إلا بانبرام البيع، سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري، وقال أبو حنيفة والشافعي إن كان الخيار للبائع فلا شفعة، وإن كان للمشتري لزمت الشفعة؛ فدليلنا أنه عقد موقوف على الخيار، أصله إذا كان للبائع، ولأن العقد لا يتم ما دام الخيار باقياً، والشفعة إنما تجب بعد تمام البيع، ولأن أحكام العقد المتضمن للخيار لا تختلف بكونه للبائع أو للمشتري، بدليل أنه لا يستحق فيه النقد، ولا يمكن التصرف في أحدهما بغير الاختيار، وكذلك الشفعة. [1110] مسألة: إذا اشترى شقصا، فانهدمت الدار بسيل أو حريق أو بأمر من الله تعالى، أو هدّم هو، ثم جاء الشفيع فله أن يأخذها على ما هي عليه بجميع الثمن لا ينقص منه شيء، إلا أن يكون المبتاع باع شيئا من خشبها أو نقضها، فيقاصّ به، وقال أبو حنيفة إن انهدمت بأمر الله تعالى أخذها بجميع الثمن، وإن هدمها هو ضمن، وللشافعي قولان؛ فدليلنا أن المشتري تصرف بنفسه في ملكه والشفيع يأخذ منه على وجه الشراء أو التقديم عليه في الملك، فلم يكن له النقصان من الثمن مع بقاء الأعيان المعقود عليها، لأنه لم يختر بقائها على ملك غيره، اعتبارا بها إذا انهدمت بأمر من قبل الله عز وجل.

كتاب القراض

كتاب القراض [1111] مسألة: لا يجوز القراض إلا بالذهب والفضة دون العروض والطعام والحيوان، خلافا لما يحكى عن ابن أبي ليلى والأوزاعي من إجازة ذلك كله؛ ودليلنا أن موضوع القراض أن ينفرد رب المال برأس ماله، ويكون حق العامل في الربح مشتركا هو ورب المال فيه على شرطهما، وتجويز القراض بالعروض يؤدي إلى مشاركة العامل لرب المال في رأس ماله وأن ينفرد المالك بالربح ويذهب عمل العامل باطلا لأن رأس المال إذا كان عرضا لم يخل أن يكون مما له مثل أو لا مثل له، فإن كان مما مثل له، كالطعام وغيره، فإن العامل يحتاج عند المفاضلة إلى رد مثله، وقد يعقدان القراض على كر حنطة يساوي وقت العقد عشرة دنانير فيعمل العامل ويربح عشرة أخرى فإذا أراد المفاضلة جاز أن يغلو ثمنه، فيساوي الآن عشرين فينفرد رب المال برأس المال وبالربح، وجاز أن يرخص فيساوي خمسة دنانير فيشارك العامل رب المال في قطعه من رأس ماله، وإن كان مما لا مثل له فالاعتبار بقيمته، فلا يخلو أن تكون معتبرة وقت العقد أو وقت المفاضلة، ولا يجوز اعتبارها وقت العقد، لأنه يؤدي إلى ما ذكرناه، وكذلك وقت المفاضلة، وإذا أدّى إلى هذا وجب منعه. [1112] مسألة: لا يجوز القراض بالورق المغشوش، خلافا لما يحكى عن أبي حنيفة أن الغش إذا كان أقل من الفضة جاز؛ ودليلنا أنه غش

فلم يجز، اعتبارا به إذا زاد على الفضة، ولأنها فضة وسلعة كما لو كانا متميزين، ولأن هذا مبني على منع التعامل بها، قال القاضي إسماعيل إن التعامل بها من الفساد في الأرض. [1113] مسألة: إذا قال خذ هذا العرض فبعه واعمل بثمنه قراضا، أو صرّف هذه الدنانير، أو اقبض من فلان ديني واعمل به قراضا، فلا يجوز ذلك، وإن وقع كان فاسد، خلافا لأبي حنيفة في قوله إنه جائز ويكون قراضا، لأنه يؤدي إلى أمور ممنوعة، أحدها أن يزداد أحدهما على الآخر زيادة على ما شرطا من الربح، ويستبد به فيصير كأنه قال له قارضني على أن الربح بيني وبينك على نصفين وعلى أن الزيادة لي، وهي أن تخدمني شهرا أو تخيط لي ثوبا، وموضوع القراض على أن لا يحصل لأحدهما نوع من النفع ينفرد به عن الآخر لئلا يخلو المال من ربح فينفرد رب السلعة بتلك المنفعة، ومنها أن رب المال يتعجل الفائدة من بيع السلعة، وربما خسر العامل فلم يحصل له الربح، فيذهب عمله باطلا واستبد رب المال بالفائدة من بيع السلعة، ومنها أنها تصير حصة رب المال مجهولة بأنه جعلها النصف من الربح وبيع العامل للسلعة ولا يعلم قيمة أجرته، ومنها أنه يؤدي إلى أن يكون رأس المال مجهولا لأنه لا يدري بكم يبتاع هذه السلعة، فإذا أدى إلى ذلك وجب منعه. [1114] مسألة: اختلف عن مالك عما يجب في القراض الفاسد، والظاهر أنه قراض المثل، وقيل أجرة المثل؛ ووجه ذلك أن الأصول موضوعة على أن شبهة كل عقد فاسد مردود إلى صحيحه كالبيع والإجارة والنكاح وغير ذلك، وكذلك القراض، وليس في الأصول عقد يرد فاسده إلى صحيح غيره أو فاسده، ولأن العامل دخل على مثل ما دخل عليه رب المال من رجاء الفضل ونماء المال، لا على أن يأخذ أحدهما مما سوى ذلك من مال لآخر، ألا ترى أنه إذا كان في المال خسران لم يؤخذ جبرانه من مال العامل، فكذلك إذا لم يكن ربح لا يستحق العامل شيئا على رب

المال مع الفساد، لأن جهة الاستحقاق لم تحصل به. ووجه أجرة المثل أن العامل دخل على أن يستحق عوضا على عمله من الربح لا على أنه متطوع، فإذا لم يسلم له ما شرطه، لفساد العقد، وجب رد منافعه عليه، لأنه لم يحصل له ما شرط له في مقابلتها، كالبيع إذا وقع فاسدا ولم يستحق الثمن على المشتري إن له رد المبيع إن كان قائماً، وقيمته إن كان قد تلف، ولأن القراض ضرب من الإجارة فله حكمها إلا فيما خصّ به مما يفارقها فيجب أن يستحق أجرة المثل في القراض الفاسد، كما يستحق أجرة المثل في الإجارة الفاسدة إذا استوفيت المنافع. [1115] مسألة: إذا قال قارضتك على أن لك شركا في الربح أو شركه، جاز وكان عليه قراض المثل، وقيل له النصف، وفرق محمد بن الحسن بين أن يقول: لك شرك أو شركة، فأجازه في قول شركة، وقال يكون له النصف، ومنعه في قوله شركا وقال يكون القراض فاسداً، وما قاله غلط، لأن الشرك إذا أطلق يجري لفظه مجرى الشركة كما يقال لفلان شرك في هذه الدار أو شركة. وقال الشاعر: وشاركنا قريشا في علاها ... وفي أحسابها شرك العنان أراد شركة العنان. [1116] مسألة: إذا تقارضا على أن يكون الربح كله للعامل أو لرب المال جاز وكان قراضا صحيحا، وقال أبو حنيفة والشافعي يكون فاسدا، إلا أن أبا حنيفة يقول إن شرط الربح للعامل صار المال قرضا عليه، وإن

شرط لرب المال صار بضاعة في يد العامل فيكون الربح لرب المال والأجرة للعامل؛ فدليلنا على صحة العقد أنه لا يمتنع تضمين العقد للعوض ثم يثبت له حكمه إذا وقع، وإن سقط فيه العوض، كالخلع إذا قصد أن يطلقها على وجه الخلع بغير عوض، كان له حكم الخلع وإن لم يكن فيه عوض، كذلك هذا، ولا ينزل أمره على أنه وهب له قسطه من الربح ولا يخرج العقد بذلك عن موضعه، ودليلنا على أنه لا يكون قرضا أن رب المال والعامل دخلا على القراض فشرط رب المال كون الربح كله للعامل هبة منه له حقه من الربح وذلك جائز، أصله لو وهب له بعد العقد، ولأن القراض غير القرض وقد دخل رب المال على أن لا يكون في ذمة العامل وأن يكون في أمانته، فلا يجوز أن يكون على خلاف ذلك. [1117] مسألة: إذا شرط رب المال على العامل ألا يبيع إلا من فلان، ولا يشتري إلا من فلان، أولا يشتري إلا نوعا مخصصا مما لا يعم وجوده، كان القراض فاسدا، وقال أبو حنيفة يصح؛ ودليلنا أن كل شرك في عقد يؤدي إلى فوات المقصود بالعقد، أو تعذره فإنه مبطل له، أصله إذا باعه سلعة على أن لا يتصرف فيها أولا يبيعها، أو تزوج امرأة وشرط ألا يطأها، وهذه صفة تنازعنا فيه في شرط خصوص التصرف من الوجوه التي ذكرناها فوجب فساد العقد إذا وقع عليها. [1118] مسألة: إذا قارض رجلين على أن يعملا في المال ولرب المال النصف، ولأحدهما الثلث وللآخر السدس، لم يجز إلا أن يتساويا في الربح، خلافا لأبي حنيفة والشافعي؛ لما احتج به ابن القاسم من أنهما

شريكان في العمل بأيدهما فلا يجوز تفاضلهما في الربح اعتبارا بالشركة المنفردة، ولأنه قد ثبت أن رجلين لو دفعا إلى رجل مالا قراضا على أن لأحدهما الثلث وللآخر السدس وللعامل النصف لم يجز، والعلة فيه تفاضلهما في شركة، هما متساويان في أصلها، كذلك في مسألتنا. [1119] مسألة: إذا غصب منه دنانير أو دراهم ثم ردها عليه، فقال لست أريد قبضها ولكن اعمل بها قراضا جاز ذلك، وقال بعض أصحاب الشافعي لا يجوز؛ فدليلنا أن الشيء المغصوب باق على ملك صاحبه وهو في يد الغاصب يتمكن من التصرف فيه، فصح أن يقارضه عليه كالوديعة سواء. [1120] فصل: ويزول عنه بذلك ضمان الغصب، خلافا للشافعي في قوله إنه مضمون عليه إلا أن يدفعه، أو يدفع ما يشتر به إلى ربه؛ لأنه ممسك للمال بأمر مالكه فزال الضمان عنه بالغصب، كما لو قال هو عندك وديعة، ولأن هذا مبني على أن يجوز رهن المغصوب فيسقط ضمان الغصب. [1121] مسألة: ولا يجوز في القراض المطلق أن يبيع بنسيئة، إلا إذا أذن رب المال، خلافا لأبي حنيفة؛ لأنه بالنسيئة قد أخرج المال عن يده، وذلك خلاف مطلق العقد، ولأن المالك إنما رضي بتصرفه في المال على أن يكون في يده، لا على أن يجعله في ذمة غيره، فإذا خالف ضمن كسائر التعدي. [1122] مسألة: يجوز في القراض المطلق أن يسافر به ما لم ينه عنه، وعن أبي حنيفة رواية أنه لا يجوز؛ ودليلنا أن القراض يقتضي التصرف في المال على العادة في طلب تنميته، والعادة جارية بالتجارة سفرا وحضرا، فإذا أطلق الإذن فقد دخل على العادة، فيتضمن ذلك التصرف كل ما يعتاد مثله، ولا يلزم عليه النسيئة، لأنا لا نمنعها للعادة، لكن إن لرب المال أن يمنعه ولا يأذن له في إخراج المال عن يده إلى ذمة غيره، ولأن من

السلع ما قد جرت العادة بأنه لا يشترى إلا في السفر ولا ينمى المال إلا فيه، وإلا أن يحمل إلى المواضع المقصودة به، فإذا ثبت أن له أن يشتري تلك السلعة ثبت له أن يسافر بها لأن تنميتها لا تحصل إلا به. [1123] مسألة: لا يجوز أن ينضم إلى القراض عقد شركة، وقال أصحاب الشافعي يجوز ما لم يشترطا تفاضلاً في الربح، ودليلنا أن عقد القراض مستثنى من الأصول الممنوعة فلا يجوز إلا بقدر ما وردت الرخصة به، ولأنه لما لم يجز أن ينضم إليه عقد إجارة، فكذلك لا يجوز أن ينضم إليه عقد شركة. [1124] مسألة: لا يجوز أن يقارضه على أن يستدين على مال القراض ويكون الربح بينهما، ولا يجوز ذلك للعامل، وقال أبو حنيفة يجوز بإذن برب المال ولا يجوز بغير إذنه، ودليلنا أن ذلك قراض وعقد شركة، وقد منعناه، ولأن عقد شركة الوجوه عندنا باطلة لو انفردت، فإذا انضمت إلى القراض كان أولى بالبطلان، ولأنه لو قال لو ابتداء استدن وأتجر على أن يكون الربح بيننا نصفين لم يجز، لأنها مضاربة بغير مال فكذلك إذا انضم إليه مال، لأن قدر ما يستدين ليس لرب المال رأس مال فيه، ولأنه لو دفع إليه مائة نقداً وعرضاً بمائة قراضاً لم يجز مع كون العرض مالاً مجملاً، فإذا قال استدن بمائة كان بالمنع أولى، ولأن كل ما لو انفردت المضاربة به لم يجز، فكذلك إذا انضم إلى رأس ماله، أصله القرض. [1125] مسألة: لا ينفرد ملك العامل للربح إلا بالمفاصلة، وقال أبو حنيفة بالظهور، وهو أحد قولي الشافعي، ودليلنا أنه لو خسر بعد الربح لجبر رأس المال من الربح قبل المفاصلة، ولو كان ملكه متقررا على أن الربح لم يجبر به كما لو كان بعد المفاصلة، ولأنه لو كان رأس المال ألفين، فاشترى به عبدين، قيمه كل واحد ألفان، فأعتق العامل أحدهما، لم يعتق، لأنه لا يملك فيهما شيئاً، والعلة فيه أن المقاسمة لم تحصل، فلم يلتفت إلى الربح في هذه الحالة.

[1126] مسألة: للعامل إذا شخص بالمال أن ينفق في سفره منه ما يحتاج إليه لأجل السفر، والأظهر عند أصحاب الشافعي أنه ليس له ذلك؛ ودليلنا أن العامل إنما سافر بالمال طلبا للفضل لا تطوعا، فلو قلنا إنه لا يستحق النفقة لأذهبت نفقته بربحه وبأضعافه، ولأن ذلك يصير زيادة ينفرد بها رب المال، وذلك خلاف موضوع القراض، ولأن سفره لما كان لأجل المال وطلب تنميته صار كبعض كلف المال ومؤنة الأجراء. [1127] مسألة: لا يجوز التوقيت في القراض بأن يقارضه إلى مدة معلومة لا يفسخها قبلها، ولا على أنه إذا انقضت المدة انفسخ العقد، فلم يجز أن يبيع ما اشتراه من المتاع ولا أن يستأنف شراء غيره، ومتى وقع العقد على ذلك كان فاسداً، وقال أصحاب أبي حنيفة يجوز؛ ودليلنا أن القراض من العقود الجائزة لأنه كالوكالة وهو متضمن لمعناها، لأن المال للمالك، وإنما يتصرف العامل فيه لطلب الفضل فيه والنماء نيابة عن المالك، والقدر الذي يفترقان فيه أن التوكيل لا يتضمن شركة الوكيل للموكل في الربح، والقراض يتضمن ذلك، فإذا ثبت ذلك صح أنه من العقود الجائزة فيجب أن يكون ما أخرجه إلى اللزوم باطلاً لأنه يخرجه عن بابه وأصله، وتوقيته يقتضي اللزوم فوجب فساده. [1128] مسألة: وليس للعامل أن يبضع ولا يودع إلا من ضرورة فإن فعل من غير ضرورة ضمن، وقال أبو حنيفة له ذلك من غير ضرورة؛ ودليلنا أن رب المال رضي بأمانة العامل ونظره دون نظر غيره وأمانته، فكان العامل متعديا بتسليم المال إلى غيره وإخراجه عن يده، فوجب أن يضمن كالوكيل إذا وكل غيره فيما اؤتمن عليه ولم يؤذن له، ولأنه دفع إليه المال على وجه الأمانة ليكون في يده، فلم يجز له دفعه إلى غيره أصله المودع. [1129] مسألة: إذا شرط رب المال على العامل الضمان فالقراض فاسد، وقال أبو حنيفة العقد صحيح، والشرط باطل؛ فدليلنا أن القراض

عقد غرر مجوز مستثنى من الأصول، فلم يجز فيه إلا قدر ما ورد به الشرع، ولأن موضوعه على الأمانة، فإذا شرط فيها الضمان فقد عقد على خلاف موضوعه فوجب أن يفسد، أصله الصرف إذا شرط فيه ترك القبض، ولأن القراض موضوع على التساوي، فإذا شرط الضمان فذلك زيادة لا يقتضيها العقد، فوجب فساده كما لو شرط ربحا معلوما. [1130] مسألة: إذا باع رب المال سلعة من مال القراض وقف ذلك على إجازة العامل، وقال أبو حنيفة إذا كان بقيمتها فأكثر جاز، وإن كان بأقل فللعامل الخيار؛ فدليلنا أنه بائع لعين منع من بيعها لتعلق حق الغير فيها، فلم يجز بيعه إلا بإذن من له حق فيها، أصله بيع الراهن والمفلس والبيع بدون القيمة. [1131] مسألة: إذا نهى رب المال العامل عن التصرف، وقد صار ديونا، فعليه التقاضي إلى أن ينض رأس المال فإن كان فيه فضل لزمه التقاضي وإن لم يكن فيه فضل لم يلزمه؛ ودليلنا أن العامل دخل على أن يكون العمل كله عليه، كان هناك ربح أم لا، فإذا تركه ديونا احتاج ربه إلى التقاضي وذلك زيادة من العامل عليه فلم يجز، لأنه معنى يتوصل به إلى توفية رب المال رأس ماله، فكان لازما للعامل دون رب المال، أصله إذا كان المال عروضا أن للعامل بيعها.

كتاب المساقاة وكراء الأرض

كتاب المساقاة وكراء الأرض [1132] مسألة: المساقاة على النخل جائزة، خلافا لأبي حنيفة؛ لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على الشطر من تمر وزرع، ولأنه مال لا ينمى بنفسه وإنما ينمى بالعمل عليه، فإذا لم تجز إجارته جاز العمل عليه ببعض نمائه، كالدنانير والدراهم. [1133] مسألة: وتجوز في الكرم والشجر والأصول التي لها ثمرة، وقال الشافعي في الجديد لا تجوز إلا في النخل والكرم؛ ودليلنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على ما فيها من زرع ونخل، فعم، ولأنه أصل له ثمرة، فجازت المساقاة عليه كالنخل والكرم، ولأن المعنى الذي له جازت في النخل والكرم أن المالك قد يعجز عن تعهده والقيام عليه بالسقي والتنقية، فجازت المساقاة عليه لهذه الضرورة، وهذا موجود في سائر الأصول. [1134] مسألة: المساقاة على ثمرة موجودة جائزة، وقال الشافعي في الجديد لا تجوز؛ ودليلنا أن المساقاة إنما جازت لحاجة الثمرة إلى السقي والتنقية، وضرورة المالك إلى استنابة غيره، وهذا يستوي فيه حال عدمها

ووجودها، لأن ذلك إذا جاز في المعدوم كان في الموجود أولى. [1135] مسألة: إذا كان العامل لصا أو ظالما لم يفسخ العقد لذلك ولم يمنع، ولكن يتحفظ منه، وحكي عن الشافعي أنه يقال له أقم غيرك مقامك؛ ودليلنا أن عقد المساقاة قد لزم، وكون العامل سارقا فسق، لم يوجب فسخ العقد كما لو فسق بغير السرقة، ولأن ذلك لا يوجب تعذر السقي ولا منع القيام على الثمرة، وإنما يقتضي ضررا ولا يمنع استيفاء المنافع فلا يفسخ لأجله السقي، أصله إذا كان ظالما وانتصف من معاملته، ولأن من أكرى رجلا دارا فوجده ينقب ويسرق لم يجز له فسخ الكراء، وقيل له تحفظ منه، فكذلك المساقاة. [1136] مسألة: الجداد في المساقة على العامل، خلافا لمحمد بن الحسن في قوله إنها عليه وعلى المالك؛ لأنه من مصالح الثمرة وخدمتها لا يبقى له أثر بعدها، فكان على العامل كالإبار والسقي. [1137] مسألة: إذا اختلفنا في جزء العامل بعد عمل العامل، فالقول قول العامل مع يمينه إذا أتى بما يشبه، وقال الشافعي يتخالفان ويتفاسخان وللعامل أجرة المثل؛ ودليلنا أن اليمين تجب على أقوى المتداعيين سببا، وها هنا العامل أقوى سببا لتسليم الحائط والعمل فيه، ولأن ذلك كاختلاف البائع والمشتري في الثمن بعد قبض السلعة، وقد ذكرناه. [1138] مسألة: لا تجوز المزارعة، وصفتها أن يدفع الرجل أرضه إلى رجل ليزرعها، الداخل ببذر من عنده ويكون الزرع بينهما، وحكي عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد بن الحسن جوازه؛ ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: (من

كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه ولا يكريها بثلث ولا ربع) ولأنه زارع في أرض منفردة، ببعض ما يخرج منها ولم يجز أصله إذا شرط أحدهما لنفسه زرعا منفردا، ولأن ذلك ككراء الأرض ببعض ما يخرج منها، وطعام بطعام متأخر. [1139] مسألة: كراء الأرض للزرع يجوز بالعروض كالحيوان والذهب والفضة، ولا يمنع إلا بنوعين: أحدهما الطعام سواء كان مما يخرج منها كالحنطة والشعير، أو مما لا يخرج منها كاللبن والعسل، والنوع الآخر ما يخرج منها طعاما كان أو غيره كالقطن والزعفران والكتان وغير ذلك، وحكي عن الحسن وطاوس أنه لا يجوز كراؤها بحال، ولا أظن الحكاية ثابتة، وقال أبو حنيفة والشافعي يجوز أن تكرى بكل ما يصلح أن يكون ثمنا للمبيع، والخلاف في موضعين: أحدهما في كرائه بالطعام لأنه عندهم جائز سواء كان من نوع ما يخرج منها أو من غيره، بعد أن لا يشترط أن يكون من زرع تلك الأرض، والآخر ما يخرج منها من غير الطعام؛ فدليلنا على أنه لا يجوز بالطعام حديث رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه ولا يكريها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمى) فعم، ولأنه طعام فأشبه إذا شرط ما تنبته، ونكتة المسألة أنه يحصل من طعام إلى أجل وابتاع منه عسلا أو لبنا بما تخرجه أرضه إلى أجل طعام بطعام متأخر ومجهول لأن المالك كأنه باعه بهذا الطعام ما تنبته أرضه وجزءاً بيع إلى أجل.

ودليلنا على منع كرائها بغير الطعام مما تنبته أنه مما يخرج منها، فأشبه إذا شرط الثلث والربع مما تنبته. [1140] مسألة: إذا اكترى أرضا ليزرعها حنطة جاز أن يزرعها شعيرا أو ما ضرره كضرر الحنطة أو أقل، وقال داود ليس له أن يزرع إلا الحنطة؛ ودليلنا أنه زرع لا يضر بالأرض زيادة على الضرر المشترط فأشبه أن يزرعها حنطة، ولأن تعيين ما يزرع في الأرض هو لتقدير المنفعة لا لكونه شرطا، بدليل أنه لو لم يزرعها مع التمكين للزمته الأجرة. *****

كتاب الإجارة

كتاب الإجارة [1141] مسألة: جواز الإجارة في الجملة مجمع عليه إلا ما يحكى عن ابن علة والأصم، وهؤلاء لا يعد أهل العلم خلافهم خلافا، فدليلنا قوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن}، وقوله تعالى: {على أن تأجرني ثماني حجج}، فنص على جواز الإجارة وأخذ الأجرة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)، ولأن بالناس حاجة إلى تلك المنافع وأخذ الأعواض عليها فجاز ذلك كالأعيان، ولأن هذا إجماع من السلف قبل خرق هؤلاء المبتدعة. [1142] مسألة: عقد الإجارة جائز لازم من الطرفين، ليس لأحدهما فسخه بعد عقده، إلا أن يكون عيب في المعقود عليه يمنع استيفاء المنفعة، وقال أبو حنيفة للمكتري الفسخ إذا اكترى جمالا للحج ثم مرض وبدا له، وكذلك إذا اكترى دارا ليسكنها فبدا له وأراد السفر، أو اكترى دكانا ليتجر فيه فاحترق متاعه؛ فدليلنا قوله تعالى: {أوفوا بالعقود}، ولأنه عقد

معاوضة محضة، فلم يكن لأحدهما فسخه بمعنى في العاقد كالبيع، ولأن كل منع لا يملك به المكري فسخ الإجارة لم يملك به المكتري، أصله غلاء الأجرة أو رخصها، ولأن الأصول موضوعة على أن كل ما كان لأحد المتعاقدين فسخه بوجه، كان للآخر أن يفسخ بمثل ذلك الوجه، كعقد الشركة والوكالة والقراض، وكذلك البيوع إذا وجد أحدهما بأحد العوضين عيبا كان له الفسخ، فكذلك في مسألتنا، ولأن عزم المكتري على السفر إذا اكترى دارا أو عزمه على المقام إذا اكترى جمالا للحج كان ذلك عذرا لا يتضمن نقصانا في المعقود عليه، ولا يمنع استيفاء المنافع فلا يملك به الفسخ، كالمكري إذا عزم على المقام وقد اكترى جمالا أو دارا. [1143] مسألة: الأجرة في الإجارة لا يستحق تسليمها بمجر العقد، ولا تسليم العين المستأجرة، خلافا للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وذلك حث على تعجيلها وقت استحقاقها، ومنع تأخيرها عنه، فلو كانت مستحقة بمجرد العقد لكان أمرا بتأخيرها، وذلك ينافي المقصود بالخبر، ولأنه عوض في عقد معاوضة محضة، فلم يلزم تسليمه بمجرد العقد دون تسليم المعقود عليه، كالأثمان بالبيوعات. [1144] مسألة: لا تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين إذا لم يتعذر استيفاء المنافع، خلافا لأبي حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك مالا أو حقا فلورثته) وهذه الإجارة متروكة للميت فيجب أن تكون لورثته، وهذا ينفي الفسخ، ولأنه عقد معاوضة فلم ينفسخ بموت أحد المتعاقدين إذا لم يعد بتلف المنفعة أو يتعذر استيفاؤها أصله البيع، ولأنه عقد تعلق بمنفعة تستوفى

من عين، فلم ينفسخ بموت أحد المتعاقدين أصله الرهن، ولأنه عقده على أمته للخدمة عقد معاوضة من مالك على منفعة ماله، فلم ينفسخ بموت المالك كعقدة النكاح عليها. [1145] مسألة: إذا قال آجرتك هذه الدار على حساب كل شهر بدينار، ولم يذكر المدة جاز، خلافا للشافعي في قوله إن العقد باطل؛ لأن المنافع متقدرة بتقدير الأجرة فكلما استوفى جزءا من المنفعة استحق في مقابلته بقسطه من الأجرة فلم يحتج إلى ضرب المدة إلا في اللزوم. [1146] مسألة: اشتراط الخيار في الإجارة جائز، خلافا لأصحاب الشافعي، وسواء كانت معينة أو في الذمة، لأنه عقد مقصود به المعاوضة المحضة فجاز اشتراط الخيار فيه كالبيع. [1147] مسألة: لا يحتاج إلى وصف الراكب في كراء الدواب، خلافا للشافعي؛ لأن أجسام الناس متقاربة في الغالب غير متفاوتة فلم يحتج إلى رؤيته ولا وصف. [1148] مسألة: إذا أكراه مطلقا فطالبه المكري بالمشي للرواح إن كانت العدة جارية بذلك لزمه إلا أن يشترط أو يكون لا يطيق المشي، ولأصحاب الشافعي وجهان: أحدهما لا يلومه؛ فدليلنا أنهما إذا أطلقا العقد فقد دخلا على العرف، فلزمهما كالنقد وصفة المسير وغيره. [1149] مسألة: عقد الإجارة هو عقد على المنفعة دون الرقبة، خلافا لأحد وجهي أصحاب الشافعي؛ لأن العقد هو على ما في مقابلة العوض وذلك هو المنفعة دون نفس الرقبة، ألا ترى أن له التصرف في المنفعة بالبيع والهبة وليس له أن يتصرف في الرقبة، ولأنا نتفق على أن عقد الإجارة يصح بلفظ البيع مثل أن يقول بعتك داري شهرا يريد الإجارة

والمعاوضة على المنافع، فلو كان العقد قد تناول الدار لكان بيعا فاسدا لأن البيع لا يتوقت. [1150] مسألة: إذا اكترى دابة من بغداد إلى واسط، فتعدى بها إلى البصرة، فالكراء لصاحبها من بغداد إلى واسط واجب، وما زاد على ذلك فصاحبها بالخيار إن شاء أخذ كراء المثل من واسط إلى البصرة وإن شاء ضمنه القيمة يوم التعدي، وقال أبو حنيفة لا أجرة عليه لأنه غاصب، والمنافع عنده لا تضمن بالغصب وقال الشافعي إن لم يكن صاحبها معها ضمنها وإن كان معها فسلمت فليس له أجرة المثل؛ فدليلنا على وجوب الكراء للزيادة أن هذا ليس بغاصب. وإنما هو متعد ابتداء، وليس كل من تعد غصبا دون أن يضامه اعتقاد إمساكها وأنه لا يردها إلى يد مالكها، فأما إذا اعتقد أنه يركبها ويردها فليس بغاصب، وإنما هو متعد على المنافع فلزمته الأجرة؛ ودليلنا على أنه إن أراد التضمين كان له، أنه متعد بإمساكها حابس لها عن أسواقها فكان لصاحبها تضمينه إياها. [1151] مسألة: إجارة المشاع جائزة، خلافا لأبي حنيفة في قوله لا تجوز إلا من الشريك؛ لأن كل معاوضة جاز أن يعاوض عليها الشريك جاز أن يعاوض عليها الأجنبي، أصله البيع، ولأن كل معنى لا يمنع العقد على المنافع من الشريك لم يمنع العقد عليها من غيره، أصله الغلاء والرخص والشركة في شقص آخر، ولأنه عقد إجارة على ملك له معروف يمكن تسليمه إلى المستأجر فجاز ذلك، أصله المقسوم، ولأن كل صفة لم تمنع البيع لم تمنع الإجارة لكل ما يجوز بيعه، أصله الحيوان. [1152] مسألة: إذا اكترى دابة إلى موضع معلوم وسلمها إلى المكتري ومضت مدة لو أراد الانتفاع بها أمكنه، فقد استقرت عليه

الأجرة، خلافا لأبي حنيفة في قوله لا تستقر؛ لأنه قد وجد التمكين من استيفاء المنفعة المعقود عليها، فحل ذلك محل استيفائها في استقرار الأجرة، كما لو أخذ دابة وسلمها إليه فامتنع من ركوبها ومشى إلى الموضع وهو يقودها خلفه، فإن الأجرة تستقر عليه بلا خلاف، كذلك في مسألتنا. [1153] مسألة: الكراء الفاسد إذا قبضت العين فعليه أجرة المثل سواء استعملها أو لم يستعملها، وقال أبو حنيفة إن لم يستعملها فلا أجرة عليه؛ ودليلنا أن كل ما لو تلف في يده من عقد صحيح كان من ضمانه، أصله الأعيان، ولأنها عين قبضت على وجه الإجارة فكان تلف المنفعة فيها مضمونا بالبدل، أصله الإجارة الصحيحة، ولأن تلف المنافع في العين المقبوضة على وجه الإجارة يوجب بدلها على من تلف في قبضه، أصله إذا استوفاها بنفسه. [1154] مسألة: إذا استأجر رجلان حانوتا أحدهما قصارا والآخر حدادا ولم يمكن اجتماعهما فيه، فإن تراضيا بالمهاياة وإلا أكراه الحاكم عليهما، ولا يكون لأحدهما أن يقعد في موضع يضر بالآخر، ولا يجبران على المهاياة، وقال أبو حنيفة إما أن يقعد أحدهما في موضع والآخر في موضع آخر، أو يتهايياه؛ ودليلنا أنه لما لم يكن سبيل إلى استيفاء المنفعة في حال واحدة لم يكن لأحدهما أن يجبر الآخر أن ينفرد بالانتفاع، لأن ذلك يضر به فلم يبق إلا أن يؤاجر عليهما، لأن القصار يقول عملي متصل، ولا يمكنني تركه يوما، وعمله يوما، فلا يلزمني المهاياة، وهذه حجة صحيحة. [1155] مسألة: تجوز الإجارة في القصاص في النفس وما دونها،

وقال أبو حنيفة تجوز فيما دون النفس، ولا تجوز في النفس؛ ودليلنا قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} وإذا كان مكتوبا ولم يكن صاحب الدم ممن يحسن أن يستوفيه لنفسه، ولا يلزم غيره أن ينوب عنه بغير عوض، لأنه ليس من فروض الكفايات، فلم يبق إلا الاستئجار عليه، ولأنه قصاص أبيح أخذه، فجاز أخذ العوض على استيفائه لصاحبه، أصله ما دون النفس، ولأنه إتلاف نفس مباح إتلافها، فجازت الإجارة عليه، كذبح الشاة، ولأن كل فعل لو استوفاه صاحبه بنفسه أو متطوع عليه لجاز، فكذلك إذا استأجر عليه، أصله سائر الأعمال المباحة. [1156] مسألة: الأجرة في القصاص على المقتص له، خلافا للشافعي في قوله إنه على المقتص منه؛ لأنه ليس على المقتص منه أكثر من التخلية بين نفسه وبين صاحب الدم، فلم تكن الأجرة عليه، كما لو باع ثمرة على رؤوس النخل لم يلزمه أجرة لمن يقطعها. [1157] مسألة: إذا قال له إن خطت هذا القميص اليوم فلك درهم. فلا يجوز والعقد فاسد، وإن عمله فله أجرة المثل، وقال أبو حنيفة الشرط الأول جائز، والثاني فاسد، فإن خاطه اليوم فله الدرهم وإن خاطه غدا فله أجرة المثل، وقال أبو يوسف ومحمد الشرطان جائزان؛ فدليلنا أن هذا من باب بيعتين في بيعة، مثل قوله إن هذا الثوب بعشرة نقدا أو بخمسة عشر إلى أجل، فقد وجب بأحد الثمنين، فإن منعوا ذلك دللنا عليه بالخبر، وهو نهيه عليه السلام عن بيعتين في بيعة، وإن سلموا قلنا إنه

عقد معاوضة جعل العوض فيه أحد بدلين مختلفين لا يدري ما يستحق منهما فأشبه ما ذكرناه، ولأنه أحد العوضين في عقد الإجارة فلم يجز أن يأخذ شيئين مختلفين يختلف العوض فيهما، أصله إذا عقداه على أنه قد وجب عليه أن يخيط هذا القميص بدرهم، أو يبني هذا الحائط بدرهمين، فدليلنا على أبو حنيفة أنه أحد البدلين المشروطين في عقد الإجارة، فوجب أن يكون فاسدا يجب به أخذ المثل كالبدل في الشرط الثاني. [1158] مسألة: إذا ركبه أو اغتل في الإجارة الفاسدة فعليه أجرة المثل، وقال أبو حنيفة عليه الأقل من المسمى وأجرة المثل؛ فدليلنا أن المنافع أحد نوعي المعاوضات كالأعيان، وقد ثبت أنه لو ابتاع بيعا فاسدا فأتلفه، أن عليه قيمته كذلك الإجارة، ولأنها منفعة استوفيت بعقد فاسد مقصود بالمعاوضة، فوجب أن يلزم أجرة المثل كما لو كانت أقل من المسمى. [1159] مسألة: إذا اكترى دابة بعينها أو في الذمة بدينار، وشرط النقد جاز أن يعطيه الدينار دراهم، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يجوز ذلك؛ ودليلنا أن الأجرة واجبة بالعقد وإنما لا يستحق بدلها إلا بالشرط، فإذا وجد الشرط صار الأداء مستحقا فيكون كأنه أعطى دراهم عن دنانير مستحقة عليه في الحال، فجاز كما لو كان له على رجل دينار حال فأعطاه به دراهم لجاز. [1160] مسألة: إذا أبرأ المؤاجر المستأجر من الأجرة أو وهبها له أو تصدق بها عليه قبل قبضها جاز ولم تبطل الإجارة، سواء كان في دابة معينة أو في الذمة، كانت الأجرة معينة أو في الذمة، وقال أبو يوسف الإجارة ثابتة والهبة باطلة؛ فدليلنا أنه عقد معاوضة لا يدخل في تأخير القبض فيه الربا فجاز الإبراء من العوض فيه قبل قبضها كالبيع.

[1161] مسألة: يجوز أن يستأجر الظئر، وغيرها من كل أجير، بمنفعته وكسوته، ويكون له ما يكون لمثله من الوسط، ووافقنا أبو حنيفة في الظئر وحدها، وقال الشافعي لا يجوز لا في الظئر ولا في غيرها؟ فدليلنا أن الأغراض في المنافع يقوم العرف فيها مقام التسمية والاشتراط، أصله نفقة الزوجة، وصفة ركوب الراكب، فكذلك عقد الإجارة، ولأنه لمّا جاز أن تكون المنفعة مجهولة ويرجع إلى الوسط ويقتنع في معرفتها بالعرف، فكذلك بدلها؛ ودليلنا على أبي حنيفة أنّه عقد إجارة يصح بالطعام والكسو ة كالظئر. [1162] مسألة: أجرة القسّام على قدر الرؤوس دون الأنصباء، ومن أصحابنا من يقول بقدر الأنصباء، وهو قول الشافعي؛ فدليلنا أن صاحب النصيب القليل يساوي صاحب الكثير فيما يستحقً به القاسم عليهما أجرة القسم، وهو تمييز حقه من حق شريكه، فيجب أن يتساويا في الأجرة لتساويهما في المعنى الذي به يستحق عليهما، ولأنها أجرة وجبت لإقرار حق بين مشاركين يتساويان في العمل فيها فوجب أن يستحق الأجرة عليهما بالتساوي أصله إذا كانت أنصباؤهم متساوية. [1163] مسألة: إذا أذن لامرأته أن تؤاجر نفسها ظئرًا، لم يكن له وطؤها إلآ برضا المستأجر، ولو آجرت نفسها بغير إذنه كان مخيرًا بين الفسخ أو الوطء، فإن لم يختر الفسخ، فالمستأجر بالخيار بين أن يرضى بالإجارة على أن الزوج يطأ أو يفسخ، وقال أبو حنيفة إذا أذن لها فله وطؤها في منزله وليس له وطؤها في منزل القوم؛ ودليلنا أن المنفعة إذا لم تسلم للمستأجر أو أسلمت له بنقص أو عيب فله الرضا وله الفسخ، ووطء الظئر عيب عند الناس لأنهم يكرهونه، ولأنًه ضرر وعيب في اللبن مفسد له، وربما حملت على الرضاع فاستحال اللبن وذلك ضرر بالطفل، _____ في ب "السكوت ". في أوب "إن" وصححت في طرة ب "فإن". في أوب "والمستاجر". وفي طرة ب صححت "فالمستاجر".

فكان له فسخ الإجارة، ولأنها مستأجرة على الرضاع لم يرض مستأجرها برضاعها مع الوطء فكان له الخيار، أصله المطلقة إذا تزوجت ودخل بها، فإن لأبي الولد نزعه منها، والله أعلم. [1164] مسألة: يجوز أن يستأجره على أن يبني له حائطًا، والآجر واللّبن من عند الأجير، وقال أبو حنيفة الإجارة فاسدة؛ ودليلنا أنّه ليس في هذا أكثر من أنّه جمع بين عقد بيع وإجارة، وذلك لا يمنع الصحّة، كما لو اشترى منه دارًا، واكتراه للخدمة فيها شهرًا والعوض في الجميع مائة درهم، ولأن اشتراط ما تتم به الصفقة التي يستأجر عليها الصانع إذا كان معروفاً مباحاً لا يمنع صحة العقد، أصله إذا استأجره على أن يصبغ له ثوباً والصبغ من عند الصبّاغ أو يكحل بكحل من عنده أو يخيط له قميصاً بخيوط أو إبرة من عنده. [1165] مسألة: إذا اكترى منه دابة بدراهم فأعطاه بها دنانير، ثم اَنفسخت الإجارة بموت الدابة المعينة أو غيره؛ رجع بما وزن وهي الدنانير، ولو أعطاه بالدراهم عوضاً رجع بالدراهم، وقال أبو حنيفة يرجع بما وقع العقد عليه دون وزن؛ فدليلنا أنه قبض على طريق البدل لا القيمة، لأن الدنانير والدراهم يقوم بعضها مقام بعض فكان كما لو أعطاه النوع الذي عقد عليه أنه يرجع بما وزن، ولأنها دراهم قبضها على أجرة شيء مستأجر، فإذا انفسخت الإجارة وجب ردّ ما قبض، أصله إذا كان هو المعقود عليه. [1166] مسألة: يجوز أن يستأجر طريقاً من دار رجل للممرّ فيه، وقال أبو حنيفة لا يجوز؛ فدليلنا أنها منفعة معلومة يجوز بدلها بغيرعوض، فجاز للمالك أن يؤاجر عليها، أصله الركوب والحمل. [1167] مسألة: إذا اَستأجر أرضاً ليغرس فيها وانقضت مدّة _____ في أ "أو". في أوب "والقرض " وصححت في طرة ب "والعوض ". كذا في أوب، وصححت في طرة ب "عرضا". والتصحيح غير مطلوب. في أوب "انقطعت " وصححت في طرة ب "انقضت".

الإجارة، فالمالك مخيّر بين أن يأخذه بالقلع، ولا يلزم المالك شيء من أجرة القلع، [أ] وْ يعطيه ثمن الغراس مقلوعاَ، أو يبقيه في الأرض ويكونا شريكين، وقال الشافعي ليس للمؤاجر أن يطالبه بقلع الغرس إلأ بعد أن يعطيه أرش القلع؛ فدليلنا أن الإجارة تقتضي تسليم الأرض بعد إنقضاء مدّّتها فارغة من تعلّق حق المستأجر بها وبقاء ما يشغلها، أصله إذا كان فيها متاع للمستأجر، ولأن حق المستأجر بالانتفاع مع بقاء مدة حقّ الإجارة دون ما زاد عليها، وفي تبقية الغرس بعد المدّة إيجاب زيادة على المدّة، ولأنّ فائدة حصر المدة رفع يده منها بعد زوالها. [1168] مسألة: يجوز استئجار دار يسكنها بسكنى دار أخرى، وقال أبو حنيفة لا يجوز ذلك إلا أن تكون المنافع من جنسين؛ فدليلنا أنهما منفعتان فيجوز عقد الإجارة على كل واحدة منهما بالانفراد، فجاز العقد على إحداهما بالأخرى، أصله إذا كانا من جنسين، ولأن عقود المعاوضات ضربان أعيان ومنافع، فاذا كانت الأعيان يجوز بيع إحداهما بالأخرى من جنس وجنسين، فكذلك المنافع. [1169] مسألة: إذا اكترى دارًا أو دابة جاز أن يكريها من مالكها، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن كل مملوك جاز أن يملك لغير من ملكه جاز أن يملك لمن ملكه، أصله الأعيان، ولأنّه عقد على منفعة يصحّ أن يملكها مالكها بعوض، فجاز أن يملكها من يصح أن يملك مثلها، أصله العقد عليها من الأجنبي. [1170] مسألة: إذا استأجر أرضاً ليزرعها شعيراً فزرعها ما ضرره أكثر، فلربها كراء الشعير وقيمة الزيادة بالضرر، وقال الشافعي له كراء المثل بجميع المدة؛ فدليلنا أنه يتناول من المنفعة زيادة على القدر المعقود عليه _____ في أوب "و" واستفدنا التصحيح من المعونة: 1104/ 2. كذا في أوب، وصححت في طرة ب "في الانتفاع". سقط من ب "حق ". في أوب "حض " وصححت في طرة ب "حصر" وانظر المعونة: 1105/ 2.

فلزمه بقدر ما زاد، أصله إذا اكترى دابة من بغداد إلى حلوان فتقدّم عليها إلى الري، فإن الأجرة من بغداد إلى حلوان، وكراء المثل من الري إلى حلوان. [1171] مسألة: يجوز أن يستأجر الرجل حائطاً يضع عليه خشبة مدّة معلومة إذا سمّاها، ووصف الخشبة، وكذلك ليبني عليه سترة إذا وصف قدر البناء، وقال أبو حنيفة لا يجوز؛ فدليلنا انّها منفعة مباحة يصح أن تستوفى من هذه العين، لو استوفاها المالك لصح، فجاز أن يعقد عليها الإجارة من غيره، أصله إذا استأجر سطحاً لينام عليه، ولأنها عين يصحّ فيها استيفاء المنافع، فصحت المعاوضة عليها، أصله البقعة. [1172] مسألة: يجوز أن يؤاجر الرجل داره من يتخذها مسجداً مدة معلومة ثم تعود إليه ملكاً، وقال أبو حنيفة لا يجوز، ولا أجرة له؛ فدليلنا أئها فعل قربة فجاز أن تستأجر الدار لمنفعة فيها، أصله إذا استأجرها لتكون مجلساً للحكم، ولأنه لو آجر نفسه للصلاة، لجاز فكذلك ملكه، ولأنه فعل مباح، فجاز أن يستأجر الدار ليفعل فيها كالسكنى. [1173] مسألة: لا يجوز أن يؤاجر الرجل نفسه ليحمل خمراً فإن فعل فالعقد فاسد ولا أجرة له، وقال أبو حنيفة يجوز وله الأجرة؛ فدليلنا قوله تعالى: "وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإثم وَالعُدُوَان" وهذا منه، ولأنّه عقد إجارة على فعل محظور فلم يجز، أصَله إذا اكترى غلاماً ليلوط به أو أمة ليزني بها. [1174] مسألة: إذا استأجر داراً ليسكنها شهراً ولم يسمه جاز، وكان _____ كتب في أوب بالجيم، والصواب ما أثبت. وحلوان اسم لعدة مواضع، منها حلوان العراق، وهي في آخر حدود السواد مما يلي الجبال من بغداد (معجم البلدان: 2/ 334). في ب "لمن". سقط من ب "له". سورة المائدة، الاَية 3.

من حين العقد، وقال الشافعي لا يجوز إلا ان يشترط أن يكون أوله من هذا الوقت؛ فدليلنا أن العرف جار بأن يكون ذلك عقيب العقد، بدليل أنّه إذا تراخى عن ذلك لم يجز حتى يشترط، والعرف كالنطق. ] 1175 [مسألة: يجوز استئجار الدور والدواب أكثر من سنة، خلافاً للشافعي في أحد قوليه؛ لقوله تعالى: "إني أريد أن َأنكحك أحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج" وشرع من تقدم لازم لنا ما لم يقم دليل على نسخه عنا، ولأنها مدّة تَبقى المنافع إليها، ويمكن استيفاؤها منها كالسنة. [1176] مسألة: إذا اكترى داراً أو أرضاً عشر سنين بأجرة معلومة الجملة جاز، ولم يلزمه أن يعين قسط كل سنة، وقال الشافعي في أحد قوليه يلزمه أن يبين حصة كل سنة؛ ودليلنا أنها مدّة تجوز الإجارة إليها فوجب أن يكون ذكر الأجرة بجملتها مغنياً عن ذكر ما يقابل تفصيلها، أصله السنة والشهر، ولأنه بعض من جملة المدة المعقود عليها، فلم يحتج إلى بيان ما يقابله من الأجرة إذا قدّرت الجملة، أصله الأيام من الشهر والأسابيع من السنة. [1177] مسألة: إذا ضرب الدابة فعطبت فإن كان المكتري ضرب الدابة ضرب الناس وما جرت العادة به لم يضمن، وقال أبو حنيفة يضمن؛ فدليلنا أنهما دخلا على العرف، والعادة جارية لا بدّ للدابة من سوق وضرب بقدر الحاجة، فكان مأذوناً له فيه، فإذا عطبت به لم يضمن كما لو عطبت بالركوب والتحريك بالرجل. [1178] مسألة: يجوز أن يبيع الرجل داره أو دابته المستأجرة من المستأجر وغيره، إذا كان الباقي من مدّة الإجارة ما لا يكون أمداً يخاف _____ سورة القصص، الآية 27. سقط من أ "الدابة".

تغيرها في مثله، خلافاً لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي؛ لأنه ليس في بيعها إبطال حق المستأجر، لأن المشتري إنما يتسلّمها بعد انقضاء مدّة الإجارة، ولأنّ البيع لا يخلو ان يكون لحق المستأجر، أو لتأخر التسليم، او لاستحقاق المنفعة لغير المشتري؛ فإن كان لحقّ المستأجر فقد ذكرناه " وإن كان لتأخّر التسليم فلا يصحّ، لأن شراء الغائب وما في الذمة جائز، وإن تأخر التسليم عن العقد، وإن كان لتبقية المنفعة فلا يصحّ، لأنّه لو باعه دابة وشرط ركوبها يوماً أو يومين لجاز، ولأنّه عقد على منفعة فلم يمنع العقد على الرقبة، أصله إذا تزوّج أمة ثم ابتاعها. [1179] مسألة: إذا اكترى دابة وشرط أن يحمل عليها قدراً من الزاد معلوماً، فأكل بعضه، كان له أن يرد بقدر ما أكل، وقال الشافعي في أحد قوليه ليس له ذلك؛ فدليلنا أنه يستحق قدراً من المنافع فلم يسقط ذلك لغير مخصوصه، أصله إذا باع متاعه الذي اكترى الدابة من أجله، ولأنّه لو سرق منه لكان له إبداله، فكذلك إذا أكله، ولأنهم يوافقونا على أنه لو أكله لكان له أن يبدله فكذلك بعضه. [1180] مسألة: يجوز أن يكري البعير أو الدار المكراة بمثل ما أكراها به وأكثر، وأقل، وقال أبو حنيفة إن أحدث في الدار حدثاً مثل بناء أو تجصيص، جاز أن يكريها بأكثر ممّا اكتراها به، وإن لم يحدث فيها شيئاً لم يكن له؛ فدليلنا أن كل من ملك أن يكري بمثل ما أكرى فله أن يكري بزيادة، أصله إذا أحدث بناء أو تجصيصاً، ولأن كل من جاز أن يعقد على ما ملك باّكثر من العوض الذي يملكه به إذا كان قد استأنف فيه بناء، جاز له وإن لم يكن قد استأنف كالمبتاع. [1181] مسألة: إذا استأجر شيئاً مدّة معلومة فانقضت، كان عليه ردها إلى المؤاجر، ومؤنة الردّ عليه، وقال أبو حنيفة لا يلزمه ردها إلاّ بعد _____ في أ "ولأنه". كذا في أ، وفي ب "لعين مخصوصة". في أوب "يوافقونا به لو" وصححت في طرة ب "يوافقون على أنه".

المطالبة ومؤنة الرد على المالك؛ فدليلنا أنّه عقد قصد به الإذن في الانتفاع مدّة، فإذا زالت المدّة وجب على المنتفع الرد ومؤنته عليه، أصله العارية.] 1182 [مسألة: الصناع ضامنون ما قبضوه من الأمتعة للعمل، وقال أبو حنيفة يضمن المشترك ولا يضمن الخاص، ولا نفرّق نحن بين الخاص والمشترك، وإنّما نفرق بين من يتسلم المتاع وبين من لا يتسلّمه، وللشافعي في المشترك قولان؛ فدليلنا إجماع الصحابة، لأن ذلك روي عن عمر وعلي وقال علي: لا يصلح الناس إلاّ ذلك، ولأن ذلك يتعلق به مصلحة الصناع وأرباب السلع، وفي تركه ذريعة إلى إتلاف أموال الناس، وكذلك إن كان بالناس ضرورة إلى الصناع، لأنه ليس كل أحد يحسن أن يخيط ويقصر ثوبه أو يطرزه، فلو قبلنا قول الصناع في الإتلاف لتسرعوا إلى دعوى ذلك ولحق أرباب السلع الضرر، لأنهم بين أمرين إما أن يدفع إليهم المتاع فلا يؤمن منهم ما ذكرناه، أو لا يدفعوه فيضر بهم فكان تضمينهم صلاحاً للفريقين، ولأنه قبض العين لمنفعة نفسه من غير استحقاق الأجر بعقد تقدم، فلم يقبل قوله في تلفها كالقراض والعارية. [1183] مسألة: ولا فرق بأن يعملوه بأجر أو بغير أجر، خلافاً لأبي حنيفة في قوله إنّهم يضمنون ما عملوه بأجر دون ما عملوه بغير أجر؛ لأنّه صانع فلم تقم له بينة على هلاك الشيء كما لو عمله بأجرة. [1184] مسألة: لا ضمان على من استؤجر لحمل شيء إذا ادّعى تلفه إلاّ في الطعام خاصة، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في قولهما إنّه لا ضمان _____ في أوب "يسلم " "يسلمه" وصححت في طرة ب بما أثبتناه. أخرجه عبد الرزاق في البيوع، باب الأجير الذي يحمل بيده، وابن أبي شيبة في البيوع، باب في القصار والصباغ وغيره، عن بكير بن عبد الله بن الأشج أن عمر بن الخطاب ضمّن الصناع الذين انتصبوا للناس في أعمالهم ما أهلكوا في أيديهم. أخرجه البيهقي في الإجارة، باب ما جاء في تضمين الأجراء، وابن أبي شيبة في البيوع والأقضية، باب في القصار والصباغ وغيره، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي، أنه كان يضمن الصناغ والصائغ، وقال: لا يصلح الناس إلا ذلك. في أوب "الأخذ" واستفدنا التصحيح من المعونة: 2/ 1111.

عليهم في الطعام وغيره؛ لأن عادتهم قد جرت بالتسرع إلى تناول الطعام لقلة مروءاتهم واتكالهم على مروءات الناس، وترفع أهل القدر والمروءة عن الكلام فيه والمطالبة به، فكانت المصلحة تضمينهم على ما ذكرنا في تضمين الصناع. [1185] مساْلة: إذا اختلف رب الثوب والخياط، فقال رب الثوب أمرتك بقميص، وقال الخياط بقباء، فالقول قول الخياط، وقال أبو حنيفة القول قول رب الثوب، وللشافعي أقاويل؛ فدليلنا أنّ اليمين في التداعي تجب على أقوى المتداعيين سبباً، والخياط أقوى سبباً، لأته مأذون له في التصرف، ومؤتمن عليه، فكأن القول قوله فيما يشبه، أصله ولي اليتيم إذا ادّعى النفقة، ولأن العرف والعادة مع الخياط، لأن العادة أن الصانع يفعل ما أمر به. والله أعلم. ***

كتاب إحياء الموات

كتاب إحياء الموات [1186] مسألة: الموات في الفلوات وحيث لا يتشاخ الناس فيها لا يفتقر إحياؤه إلى إذن الإمام،] وأما إن كانت بقرب العمران في حيث يتشاخ الناس فلا يجوز إلا بإذن الإمام [، وقال أبو حنيفة يفتقر إلى إذن الإمام في الموضعين، وقال الشافعي لا يفتقر إلى إذنه في الموضعين. فدليلنا على أبي حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له"، وقوله: "هذه الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم من بعد"، ولأنها عين لم يتقدم عليها ملك بحيث لا يستباح منها، فلم يفتقر تمليكها إلى إذن الإمام كالحطب والحشيش. ودليلنا على الشافعي أنّه إذا كان بالقرب من العمران يؤدي إلى التنازع والخصومة، وأن يقول من له بقربه ملك: أنأ أحق بهذا لأنه بقرب ملكي ولأنّي محتاج إليه لصلاح ملكي، فاحتيج إلى إذن الإمام لقطع الخصومة. [1187] مسألة: من أحيا أرضاً وتركها حتى دثرت وعادت إلى ما _____ هذا النقص أضفناه من المعونة: 1194/ 2، لأن السياق يقتضي هذه الإضافة. أخرجه مالك في الأقضية، باب القضاء في عمارة الموات. وأبو داود في الخراج والإمارة، باب في إحياء الموات، والترمذي في الوقف، باب ما ذكر في إحياء أرض الموات، وهو عن سعيد بن زيد وجابر بن عبد الله وعروة بن الزبير. أخرجه البيهقي في إحياء الموات، باب لا يترك ذمي يحييه، عن طاووس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عادي الأرض لله ولرسوله، ثم لكم من بعد، فمن أحيا شيئاً من موتان الأرض فله رقبتها".

كانت عليه، ثم أحياها اخر، فهي للثاني، وقال أبو حنيفة والشافعي هي للأول؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له " فعمّ، ولأنّه عين مباحة في الأصل عادت إلى الأصل، فأشبه الماء إذا أخذ من دجلة. [1188] مسألة: يجوز إحياء الذمي الموات، خلافاً للشافعي؛ لعموم الخبر، واعتبارًا بالاصطياد والاحتطاب. [1189] مسألة: للإمام أن يحمي المراعي إذا احتاج إليها لإبل الصدقة ورأى في ذلك مصلحة، خلافًا للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا حمى إلا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين من بعده "، ولأن عمر حمى البقيع، ولانّ ذلك من مصالح إرفاق المسلمين العامة، فكان النظر فيه إلى الإمام. [1190] مسألة: إذا حفر بئرًا في موات لسقي ماشية، وبقربها كلأ لا يمكن الرعي فيه إلا بالشرب منها، لم يجز له منع ما زاد على قدر حاجته لنفسه وبهائمه، ولزمه إباحته لغيره ممّن يحتاج إليه بغير عوض، وقال قوم يلزمه بذله بالعوض، وقال بعض الشافعية يستحب له بذله ولا يلزمه على كل وجه. ودليلنا على أنّه يلزمه قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ "، وقوله: " لا _____ سبق تخريجه في المسألة السابقة. قوله "لا حمى إلأ لله ولرسرله " أخرجه البخاري في المساقاة، باب لا حمى إلاّ لله ولرسوله، عن الصعب بن جثامة. ولم أقف على رواية بها قوله "ولأئمة المسلمين ". اختلفت المصادر هل " البقيع " بالباء أو بالنون، فإن كان بالنون فيكون أول من حمى "البقيع " هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمر بن الخطاب. وان كان بالباء فإنه مكان آخر حماه عمر، واختلفوا هل يوجد مكان اسمه " البقيع " غير "بقيع الغرقد" مدفن أهل المدينة. (انظر في ذلك: البخاري في المساقاة، باب لا حمى إلا لله ولرسوله، وسنن أبي داود في الخراج والإمارة والفيء، باب في الأرض يحميها الإمام أو الرجل، ومعالم السنن للخطابي: 270/ 4، وطبقات ابن سعد: 305/ 3، وعمدة القاري للعيني: 12/ 193، ومعجم البلدان: 5/ 348 و 349، والتلخيص الحبير: 7/ 521). أخرجه مالك في الأقضية، باب القضاء في المياه، والبخاري في المساقاة، باب من قال إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروي، ومسلم في المساقاة، باب تحريم بيع فضل الماء، عن أبي هريرة، بلفظه.

يمنع فضل بئر"، وقوله: " لا حمى إلا لله ولرسوله " ولو لم يلزمه إرسال فضل الماء لجعلنا له أن يحمي ذلك الموضع، إذ لا يتمكن من رعيه، فدليلنا على أنّه لا يستحق العوض فيه جميع ما ذكرناه. [1191] مسألة: ما أفسدت البهائم من زرع وغيره في رعيها، فإن كان نهارًا فلا ضمان على أرباب الغنم إن لم يكونوا معها، وأن كان معها صاحبها ويقدر على حفظها ضمن، فإن كان ليلاً فأرسلها أو فلتت فإنّه ضامن، وقال أبو حنيفة إن كان صاحبها معها فلا ضمان عليه في ليل ولا نهار؛ ودليلنا حديث البراء أنّ ناقة له دخلت حائط رجل فأفسدت زرعًا له فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أرباب الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدت المواشي بالليل فهو ضمان على أهلها، وروي: " أن على أهلها ما أصابت بالليل "، ولأنّ العادة أن أرباب الزروع يحفظونها نهارًا، لأن المواشي تسرح للرعي، ولا يمكن أهلها الكون معها في كل موضع، وأن أرباب المواشي يحفظونها ليلاً ويمنعونها من السرح، فإذا أرسلوها ليلاً وفرطوا في حفظها ضمنوا بتفريطهم، وتحريره أن يقال إنّها بهيمة أتلفت زرعًا فكان الضمان ممن كان التفريط منه، أصله إذا كانت يد صاحبها عليها. وبالله التوفيق. ... _____ أخرجه مالك في الأقضيهَ، باب القضاء في المياه، عن عمرة بنت عبد الرحمن، وابن ماجه في الرهون باب النهي عن بيع الماء، عن عائشة، ولفظه: " لا يمنع فضل الماء، ولا يمنع نقع البئر". سبق تخريجه في المسألة رقم 1189. هذه الألفاظ وردت فيما اْخرجه مالك في الأقضية، باب القضاء في الضواري والحريسة، وأبو داود في البيوع، باب المواشي تفسد زرع قوم، وابن ماجه في الأحكام، باب الحكم فيما أفسدت المواشي. كذا في أوب، وفي طرة ب صححت "اْن يكونوا".

كتاب الحبس والوقف والهبات

كتاب الحبس والوقف والهبات [1192] مسألة: الوقف يصح ويلزم في الحياة والممات من غير افتقار إلى حكم حاكم به، والمشهور عن أبي حنيفة منعه، وأنّه غير جائز ولا لازم، وأصحابه يحكون عنه في هذا العصر أنه جائز، ولكن لا يلزم إلا بأحد أمرين، إما أن يحكم به حاكم، أو بأن يوصي في مرضه أن يوقف بعد موته فيصح ويكون من ثلثه كالوصية، إلا أن يكون مسجدًا أو سقاية فإن وقف ذلك يصح ولا يحتاج إلى حكم حاكم به. فدليلنا قوله عز وجل: "أوفوا بالعقود"، وحديث عمر أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني أصبت أرضًا بخيبر، وهي من أنفس مال أصبت، وإني أريد أن أتصدق به، فقال -صلى الله عليه وسلم-: " حبِّس الأصل وسبل الثمرة " وكتب عمر به شرطه: هذا ما تصدق به عمر بن الخطاب، صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، للفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل؛

ففيه أدلة: أحدها أن قوله: "حبس الأصل" يقتضي أن يجعله محبوسًا يقطع التصرف فيه بالبيع ونقله عما هو عليه، والثاني علمنا بأنَّ عمر قصد القربة ورجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في كيفية ما يفعله، فلما قال: "حبس الأصل " لم يجز له العدول عن هذا، والثالث ما كتب به أنه لا يباع ولا يوهب؛ ولأنه إجماع الصحابة، لأنه قد فعله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة وزيد بن ثابت ورافع بن خديج وخالد بن الوليد وجابر وابن عمر

وأم سلمة وحفصة، ولم يحفظ عن أحد الامتناع منه، وبذلك احتج مالك على أبي يوسف حتى اضطره إلى ترك مذهب صاحبه والقول بمذهب مالك، ولأنه تحبيس عقار على وجه القربة فأشبه المسجد والمقبرة، ولأن كل ما جاز أن يلزم بالوصية بعد الوفاة جاز أن يلزم بقوله حال الحياة كالعتق، ولأنها جهة من جهات البر فجاز أن يلزم بغير حكم الحاكم، أصله الهبة والصدقة. [1193] مسالة: ويصح وقف المشاع، خلافاً لمحمّد بن الحسن؛ لحديث عمر أنه وقف مائة سهم، ولأن كل عرصة جاز بيعها جاز وقفها كالمقسوم. [1194] مسالة: رقبة الوقف على ملك الواقف، وللشافعي ثلاثة أقاويل: أحدها مثل هذا، والثاني ينتقل إلى الموقف عليهم، والثالث إلى الله تعالى؛ فدليلنا على أنه على ملك الواقف قوله -صلى الله عليه وسلم- لعمر: "حبس الأصل وسبِّل الثمرة" وهذا يقتضي تبقيته على ما كان عليه، ولأنَّ المالك تصدق بالمنافع وألزم نفسه ذلك وليس في هذا إخراج الأصل عن ملكه كالعارية؛ ودليلنا على أنه لا ينتقل إلى الموقف عليهم ما ذكرناه من قوله: "حبس الأصل وسبل الثمرة" ففيه دليلان: أحدهما أن التحبيس ينفي نقل الملك، لأن من ملَّك غيره شيئاً لا يقال حبسه، والثاني: أنه لا فرق بينه وبين الثمرة، وقد ثبت أن الثمرة تخرج عن ملكه إلى ملك الموقف عليهم فدل على أن الأصل لا يكون ملكاً لهم، لأنه لو كان ملكاً لهم لم يجز فيه شرط المنع من البيع والهبة والتصرف، ولا صرفه إلى وجه آخر بعد موتهم، ولأنّه كان

يجوز لهما أن يتقارا على فسخه، وذلك باطل، ودليلنا على أنه لا يجوز أن يكون انتقل إلى غير مالك أن كل ما لا يصح عتقه ولا بيعه، فلا بدّ له من مالك اعتبارًا بالحيوان والعروض. [1195] مسالة: وعنه في حبس الحيوان والسلاح روايتان: إحداهما اللزوم، والأخرى نفيه؛ فدليلنا على اللزوم قوله -صلى الله عليه وسلم- في خالد: "إنه احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله" ولأنه أصل يبقى ويصح الانتفاع به كالعقار. [1196] مسالة: إذا وقف دارًا فخربت لم يجز بيعها، خلافاً لأحمد بن حنبل؛ لأن ذلك إبطال شرط الواقف في حقوق النظر، والثاني والثالث، واعتبارًا به إذا لم تخرب، ولأن العمارة تنتقل من مكان إلى مكان. [1197] مسالة: إذا وقف على نفسه لم يصح الوقف خلافاً لأبي يوسف؛ لأن من ملك شيئاً بجهة من الجهات لم يملك نقله إلى نفسه بغير تلك الجهة، أصله إذا وهب لنفسه شيئاً من ماله. [1198] مسالة: عقد الهبة يصح بالقبول والإيجاب، ويلزم من غير قبض، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: "أوفوا بالعقود"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " الراجع في هبته كالكلب يعود في قيئه " ولم يفرّق، ولأنه

عقد من العقود فلم يفتقر انعقاده إلى قبض المعقود عليه كسائر العقود، ولأنه تمليك عين في حال الحياة فوجب أن يلزم بمجرد الإيجاب والقبول، أصله البيع، ولأنه عقد إرفاق وتبرر فيجب أن يلزم بمجرد القول، أصله الوقف، ولأنها عطية فوجب أن تلزم بنفس القول وحصول صفة الإيجاب والقبول كالوصية، ولأنها هبة وجد فيها الإيجاب والقبول كالمقبوضة. [1199] مسألة: هبة المشاع والتصدق به جائز، كان مما ينقسم كالعقار، أو مما لا ينقسم كالعبيد والحيوان، وقال أبو حنيفة يجوز فيما لا ينقسم، ولا يجوز فيما ينقسم؛ فدليلنا قوله تعالى: "إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح" والعفو ها هنا ما يجب من النصف، فلم يفرّق بين أن يكون الصداق مما ينقسم أو مما لا ينقسم، وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- اشترى سراويل بأربعة دراهم، فقال للوازن: " زن وأرجح " وذلك هبة المشاع، ولأنَّ كل ما يجوز بيعه يجوز هبته كالمحوز، ولأن كل ما يصح أن يكون مقبوضًا في البيع صح في الهبة كالمنفرد، ولأن الإشاعة التي لا تمنع البيع لا تمنع الهبة، اعتبارًا بما لا ينقسم، ولأنه مشاع يجوز بيعه كالذي لا ينقسم، ولأن كل ما جاز هبة جميعه جاز هبة بعضه، كالمفرد ومما لا ينقسم، ولأن كل عقد جاز في مشاع لا ينقسم جاز فيما ينقسم كالبيع، ولأنه قد ثبت أن الرجلين إذا وهبا دارًا بينهما لرجل صح، وهذا هبة مشاع. [1200] مسألة: العُمْرَى عندنا تمليك المنافع دون الرقبة، فإذا قال أعمرتك هذه الدَّار حياتك، وقال لعقبك أو لم يقل، فإنها تكون له مدّة حياته، فإذا مات أو انقرض عقبه إن ذكر العقب، عادت ملكًا للمعمر أو

لورثته إن كان قد مات، وقال أبو حنيفة والشافعي تكون ملكاً للمعمر فإن مات ولا وارث له تكون لبيت المال؛ ودليلنا أن تمليك الرقاب من حقّه أن يقع مطلقاً متى بدا غير مؤقت بوقت يزول بمجيئه، ألا ترى أنّه لو قال بعتك هذا العبد إلى مجيء زيد أو إلى رأس الشهر، لم يصح، فإذا ثبت ذلك وكان المالك قد علق التمليك بعمر المعطى، علم أنه لم يرد تمليك الرقبة فوجب حمله على ما يصح، وهو تمليك المنافع، لأن التوقيت يدخل فيها دون تمليك الأعيان، ولأنّ تمليك الرقاب لا يصح أن يتوقَّت، أصله إذا كان بعوض وهو البيع وغيره، ولانه أجلٌ علق التمليك بالانتهاء إليه، فلم يثبت به ملك الرقبة، كقدوم زيد، ولأنه تمليك معلق بعمره كتعلقه بعمر المملك، فوجب أن يرجع إلى المنافع دون الرقبة، أصله قوله: أسكنتك. [1201] مسألة: إذا قال هذه الدار وقفاً ولم يجعل لها وجهاً، فإنه يصحّ، وتُصْرف في وجوه الخير والبر، وقال الشافعي في أحد قوليه لا يصح؛ ودليلنا أن الإطلاق إذا كان له عرف حمل عليه، والعرف في الوقف أن المقصود منه القربة والبر، فإن عين هو ذلك الوجه تعين بتعينه، وإن لم يعين اكتفي عنه بالعرف، كما لو قال هذه الدار وقفٌ على المسجد الفلاني ولم يقل على بنائه أو على سراجٍ فيه، فإنه يصح ويصرف في مصالحه. [1202] مسألة: يجوز أن ينحل الرجل بعض ولده ماله، ويكره أن ينحله جميع ماله، وأيّ ذلك فعل نفذ إذا كان في الصحة، وذهب أحمد بن حنبل وغيره إلى أن الهبة باطلة وترد، ودليلنا قوله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا يحلّ مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفسه " ولأن ذلك مروي عن أبي بكر،

وعبد الرحمن، ولا مخالف لهما، ولأنه رشيد صحيح وهب ماله من لو وهبه لغيره معه لجاز، فإذا أفرده به جاز، أصله إذا وهبه لأجنبي، ولأن في حال الصحة لا اعتراض لأحد عليه في ماله، وإنما الاعتراض حال المرض. [1203] مسالة: يستحمب لمن أراد أن يهب أولاده التسوية بين الذكور والإناث، وحكي عن شريح وأحمد بن حنبل أن المستحب إعطاء الذكر مثل حط الأنثيين؛ ودليلنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: " ساووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مفضلاً لفضلت البنات " ولأنه لما استحب أن يساوي بينهم في أصل العطية كذلك في مقدارها. [1204] مسألة: يجوز في الجملة للأبوين دنية أن يرجعا فيما وهبا لولدهما للصلب خاصة هبة لا على وجه الصدقة، وقال أبو حنيفة لا يجوز الرجوع في الهبة لذي رحم محرم؛ ودليلنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا يحل لرجل يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي لولده "، وليس فيه من طريق

الاعتبار شيء يتحرز منه. [1205] مسألة: لا يملك الأجنبي الرجوع فيما وهب، وكذلك سائر الأقارب سوى الأبوين، وقال أبو حنيفة لهم الرجوع؛ فدليلنا قوله تعالى: "أوفوا بالعقود" وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا يحل لأحد أن يهب هبة ثم يرجع فيها إلا الأب فيما وهب ابنه "، وقوله: " الراجع في هبته كالراجع في قيئه " ولأنه لا ولادة بينهما، فلم يجز الرجوع في هبته كالأخ والعم. [1206] مسألة: إذا وهب لولده الصغير وقبض له من نفسه، جاز إذا كان شيئاً معيناً، ولا يجوز فيما لا يعرف عينه إلا أن يضعها على يد غيره ويشهد عليها، فإن أمسكها بيده لم يصح، وقال أبو حنيفة يصح قبضه له فيما يعرف بعينه، وفيما لا يعرف؛ فدليلنا أن الأب قد يتلف الذهب والفضة أو يهلك بغير سببه فلا يمكن أن يشهد على شيء بعينه ويصير الابن مدعيًا فلا يمنع القبض شيئاً. [1207]: إذا علم أن الواهب قد قصد بهبته الثواب كان له على الموهوب له ذلك، وإلا رد الهبة إليه، وقال الشافعي إطلاق الهبة لا يقتضي الثواب على شيء بوجه؛ ودليلنا أن العرف أصل يرجع إليه إذا لم يكن غيره، وقد علم أن العرف جار بأن الضعيف يهب لجاره الغني طلباً لمعروفه، وأن الواحد من خدم السلطان أو الملك العظيم يهب له متعرّضاً لمعروفه ونائله وتقرباً إليه، فلا وجه لجحد المعروف. [1208] مسألة: والواجب على الموهوب له من الثواب قيمة الهبة،

وللشافعي في ذلك أربعة أقوال: أحدها مثل قولنا، والاَخر أنه يلزمه رضا الواهب، والثالث مقدار المكافأة على مثل تلك الهبة في العادة، والرابع أقل ما يقع عليه الاسم؛ ودليلنا على فساد اعتبار الرضا، هو أن الواهب قد لا يرضى بأضعاف قيمة الهبة [من] الموهوب له، وذلك لا يلزم، لأن فيه إضرارًا بالموهوب له إلا أن يرد الهبة [بعد أن] قد ثبت له منها حق التمليك، ولأنه عوض غير مقبوض، فلم يقف على رضا من يأخذ العوض كسائر المعاوضات، ولأن العوض في عقد المعاوضات على ضربين: مذكور فيجب ما ذكر كالثمن في المبيع، ومسكوت عنه يجب فيه قيمة المعوض كالمهر في التفويض؛ ودليلنا على فساد اعتبار العرف لأنّه لا عرف في ذلك، وإنما هو على حسب ما تسمح به نفس المكافىء وحلاوة الموهوب في نفسه؛ ودليلنا على أنه لا يعتبر أقل ما يقع عليه الاسم ما قدمناه أن العرف جار بأن الواهب يهب لطلب التقرب إلى الموهوب ونيل رفده لا ليخسر ويصير كمن وهب لغير عوض، وإذا بطل كل ذلك لم يبق إلا اعتبار القيمة. والله أعلم. [1209] مسألة: هبة المجهول جائزة، خلافاً للشافعي؛ لقوله تعالى: "وإيتاء ذي القربى"، ولأنها هبة لما تصح هبة جنسه فأشبه المعلوم. ***

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة [1210] مسألة: إذا جاء طالب اللقطة وأعطى علامة العفاص والوكاء دفعت إليه بغير بينة، وقال أبو حنيفة والشافعي لا تدفع إلا ببينة؛ فدليلنا قوله -صلى الله عليه وسلم- للذي سأله عن اللقطة: " اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها ووكاءها فادفعها إليه " وروي: " فإن جاء باغيها فادفعها إليه "، ولأن البينات تترتب في الأصول على حسب الأحوال المشهود فيها وما تدعو الحاجة إليه، فيجوز في الضرورة ما لا يجوز في غيرها، وفي هذا الموضع تدعو الضرورة إلى ذلك لأن البينة لا تقوى على ما يضيع، ولا على صفة أموالهم في كل حال، فلو كلفناهم البينة لأدى إلى ترك انتفاع الناس بأموالهم. [1211] مسألة: يكره للملتقط بعد التعريف تملك اللقطة، فإن فعل ذلك جاز، وقال أبو حنيفة لا يحل للغني؛ فدليلنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: " فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها "، ولأن كل من صح أن يملك بالعوض صح أن يملك باللقطة كالفقير.

[1212] مسألة: فإذا ملكها أو تصدق بها بعد السنة ثم جاء صاحبها رد قيمتها، خلافاً لداود؛ لما روي أن علياً رضي الله عنه وجد ديناراً على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعرفه فلم يعترف، فأمره أن يأكله، فجاء صاحبه، فأمره بغرمه، ولأنه مال لمسلم لا يخاف عليه لو تركه التلف إذ له قيمة حيث وجده، فلم يجز له تملكه عليه بغير إذنه كسائر الأموال. [1213] مسألة: إذا وجد شاة في فلاة أو بمفازة بحيث لا قرية يضمّها إليها جاز له أكلها، ولا غرم عليه، وقال أبو حنيفة والشافعي عليه غرمها، وذكر الشيخ أبو بكر أنّه رواية بعض المدنيين؛ فدليلنا على أنه لا غرم عليه قوله -صلى الله عليه وسلم- وسئل عن ضالة الغنم فقال: " هي لك أو لأخيك أو للذئب "، وروي: " خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب " وهذا تنبيه يدل على أنها في حكم المتلفة، وذلك ينفي تعلق الضمان بها، ولأنّه لما جاز له أخذها [و] لم يكلف سوقها لم يجز أن يشترط عليه الضمان، ولأنّ الضمان إنما يكون في مَالَهُ قيمة حال وجوده بعد التعريف، فلم يبق إلا سقوط الضمان. [1214] مسألة: حكم اللقطة في الحرم وغيره سواء، وقال الشافعي له أخذها ليعرفها ولا يملكها بعد السنة؛ ودليلنا قوله: " وإلأ فشأنك بها "،

فعم، ولأنه يأخذها ابتداء على وجه الأمانة فلا يختلف [الحكم] باختلاف الأماكن كالوديعة، ولأنها لقطة ملكت كلقطة الحل، ومعنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا يحل لقطتها إلا لمنشد " يريد أنه لا يخفى صاحبها وقت الحج، فلا معنى لتمليكها مع أن المغلب وجود صاحبها. [1215] مسألة: إذا تلفت اللقطة في يد الملتقط فلا ضمان عليه، وقال أبو حنيفة وزفر إن أشهد حين أخذها ليردها لم يضمن، وإن لم يشهد بذلك ضمنها؛ فدليلنا ما روي في بعض الحديث: " فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإلا فهي عندك وديعة إن جاء صاحبها يومًا من الدهر أديتها إليه "، ولأن كل ما تلف وقد أخذ بإشهاد لم يضمنه، فإذا تلف وقد أخذ بغير إشهاد لم يضمنه، أصله الوديعة. [1216] مسألة: إذا رد آبقاً على صاحبه، وكان ممن شأنه الخروج لطلب الإباق والتعيش بذلك لزمه جعل المثل وإن لم يشترط في الابتداء، وقال الشافعي يكون متطوعًا لا شىء له؛ فدليلنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- جعل لمن جاء باَبق من خارج الحرم ديناراً، وروي: أربعين درهمًا، وهذا يفيد

أن له الجعل وإن لم يشترط، ولأنه فعل ما على صاحبه أن يفعله، وما لو امتنع منه لسفه به فصار بمنزلة من ضمن عين رجل رآه يعرف شيئاً لمن أخرجه، ولأنه لو لم يجعل له الرجوع عليه لأدى إلى تلف أموال الناس، ولكان من وجد آبقًا في طريق لم يأخذه إذا لم يكن وافق سيده عليه. [1217] فصل: ولا فرق بين قليل المسافة وكثيرها في أن له جعل المثل من غير تقدير، وقال أبو حنيفة في مسافة ثلاثة أيام وأكثر أربعون درهمًا، وفيما قل بحسابه؛ فدليلنا أنّه عمل لم يشترط على مقدار الجعل فيه، فلم يكن له شيء مقدر، أصله الإجارة. ***

كتاب اللقيط

كتاب اللقيط [1218] مسألة: لا يتبع الصبي أمه في الإسلام، خلافاً لابن وهب، وهو قول الشافعي؛ لأنه إسلام من غير من دخل في عهده الأب فلم يتبعها فيه كالخال والأجنبي، ولأنّ الأم مساوية له في حق لها تحت عهد الأب فلم يتبعها في الإسلام كالأخ أو العبد، ولأنّ كل شخص يتبعه الطفل إذا خلفه في دينه لم يتبعه في انتقاله كالعم، ولأن انتقال الأم من دين إلى دين لا يوجب انتقال الولد بانتقالها، أصله إذا انقلبت من اليهودية إلى النصرانية، ولأن كل معنى تبع الابن أباه في ابتدائه يتبعه في استدامته وانتقاله دون أمه، أصله عقد الذمة. [1219] مسألة: اختلف أصحابنا في إسلام المراهق والمميز وإن قصر عن المراهق، فمنهم من يقول إن إسلامه يصحّ، فإن رجع عنه انتظر به البلوغ فإن أقام عليه قتل، وهو قول أبي حنيفة، ومنهم من يقول لا يكون إسلامه محققاً إلا بعد البلوغ، وهو قول الشافعي؛ فوجه الأول قوله -صلى الله عليه وسلم-: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه حتى يعرب عن نفسه "، ولأنّه ممّن يميز ويعقل ويعرف طريق النظر، فأشبه البالغ؛

ووجه الثاني أنّه غير مكلّف فلم يصحّ إسلامه بنفسه كالمجنون، ولأنّ كل من تبع غيره في الإسلام لم يصحَّ إسلامه بنفسه كالذي لا يميز. [1220] مسألة: المسلم والذمي في دعوى نسب اللّقيط سواء، وقال أبو حنيفة المسلم أولى؛ ودليلنا أن المسلم يساوي الذمي في السبب الذي يلحق به النسب وهو الفراش الثابت، أو شبهه، أو ملك اليمين، فساواه في تداعي النسب كالمسلمين. [1221] مسألة: من أنفق على اللقيط، ولا مال له، فهو متطوّع، وكذلك لو كان له مال فأنفق عليه ولا يعلم بماله. ***

كتاب النكاح

كتاب النكاح [1222] مسألة: النكاح مستحب وليس بواجب، خلافاً لداود؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج " فقصر الأمر به على الشباب، فدل على انتفاء وجوبه، ولأن المقصود منه الوطء وليس بواجب فكان السبب أولى أن لا يكون واجباً، ولأنه عقد معاوضة فلم يجب ابتداء بالشرع كالبيع، ولأنه عقد يتوصل به إلى استباحة البضع كشراء الأمة، ولأنه عقد نكاح كالعقد على الأمة. [النظر إلى المرأة المخطوبة] [1223] مسألة: من أراد نكاح امرأة فله أن ينظر إلى وجهها وكفيها، خلافاً لمن منع ذلك جملة، ولمن أباحه إلى جميع جماعة البدن سوى السوأتين، ولأبي حنيفة في إباحة ظهر القدمين؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إذا أراد أحدكم أن يتزوج المرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها " فخصَّ ذلك دون غيره فسقط كل مذهب يخالفه.

الولي

[الولي] [1224] مسأله: لا يصحّ كون المرأة ولياً في عقد نكاح لا على نفسها ولا على غيرها، خلافاً لأبي حنيفة في قوله إذا بلغت عاقلة رشيدة جاز ذلك لها، ولداود في تفريقه بين البكر والثيب؛ لقوله تعالى: "وأنكحوا الأيامى منكم" فخص الرجال بالولاية، وقوله تعالى: "فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" ففيه دليلان: أحدهما أن العضل هو المنع الذي لا خلاص منه، ولو كان لهن أن يعقدن لم يكن امتناع الأولياء عضلاَ ً لهن، والثاني أن سبب ذلك [امتناع] معقل بن يسار من إنكاح أخته الذي طلقها، فنزلت هذه الآية، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا نكاح إلا بولي "، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل " قالها ثلاثاً، فأثبت للولي حقاً في العقد وغيرهم لا حق له، وقوله في آخر الخبر:

" فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له "، وروي: " الزانية تنكح نفسها بغير إذن وليها "، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح نفسها "، وهذه نصوص، ولأنها ناقصة بالأنوثة كالأمة، ولأنّ من طباع النساء شهوة النكاح والميل إلى الرجال والتسرع إلى ذلك، فلو جعلت العقود إليهن لتسرعن ولم يراعين كفاءة ولا حظاً في عاقبته، وفي ذلك ضرر بهن وبالأولياء، فمنعن منه، ودليلنا على داود خاصة أنها أنثى كالبكر، ولأن كل عقد نكاح لم يصحّ من البكر لم يصحّ من الثيب كالعقد على الصغيرة والمجنونة. [1225] مسألة: للأب إجبار البكر البالغ على النكاح، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: " تستأمر اليتيمة في نفسها "، فدلَّ على أن غيرها خلافها، ولأنه لا يفتقر إلى نطقها في عقد نكاحها مع القدرة عليه كالصغيرة، وإن شئت عللت بالبكارة وعدم البروز، ولأن ولاية الأب ثابتة عليها في المال عندنا وإن بلغت، والنكاح مبني على ذلك، ولأن كل ولاية يملك بها إنكاح الصغيرة جاز أن يملك بها إنكاح الكبيرة كولاية الكفاءة.

[1226] مسألة: للأب إنكاح الثيب الصغيرة جبرًا، خلافاً للشافعي في قوله ليس له تزويجها بوجه حتى تبلغ؛ لعموم الخبر الظاهر، ولأنّ حال الصغيرة يثبت معها الإجبار، الآن ما لم يسقط بعقلها وبولاية عليه كالبكر، ولأن ولاية الأب ثابتة عليها في هذه الحال كالغلام، ولأنّ كل معنى لم يؤثر في سقوط الولاية عليها في المال لم يؤثر في إجبار الأب إيًاها على النكاح، أصله مجرد البلوغ، ولأنها ولاية ثابتة للأب على ولده الصغير، فلم يؤثر في إزالته ذهاب البكارة على أي وجه ذهبت، أصله ولاية المال، ولأنه عقد على منفعة يتضمّن عوضًا فجاز أن يملكه الأب على الثيب الصغيرة كالإجارة، ولأنه عقد يتضمّن عوضًا، فجاز أن يملكه الأب على الثيب الصغيرة كالبيع، ولأنّ الثيوبة التي تسقط الإجبار هي التي يثبت معها حكم الإذن كالكبيرة، ولأنها إحدى حالتي المرأة فلم ينفك عنها من جواز إنكاح الأب إياها كحال البكارة. [1227] مسألة: الثيوبة التي يرفع الإجبار بها هي التي تكون بوطء في نكاح، أو شبهة نكاح، أو ملك، أو شبهته، دون الزنا والغصب، وقال الشافعي يثبث الوطء بغير تفصيل؛ ودليلنا. أن المعنى الذي لأجله ارتفع إجبار الثيب بالنكاح أن الحياء الذي يكون في البكر، والانقباض، يزول عنها وتصير من أهل الاختيار، وهذا لا يوجد في المزني بها، لأن الحياء يغلب عليها أشدّ من غلبته على البكر لقبح ما ركبته، وللعار الذي لحقها لمّا زهد الناس فيها، فلم يرتفع الإجبار عنها، ولأن ذهاب البكارة إذا لم يحصل معها الإجبار فذهاب الحياء لا يزيل الإجبار كالطفرة والوثبة، ولأن البكارة

يتعلق بها حجران حجر في المال وإجبار التزويج، ثم ثبت [أن] ولاية المال لا تسقط عنها بهذا الفعل، كذلك الإجبار. [1228] مسألة: لا يزوج الصغيرة، ولا يملك إجبار البكر البالغ إلا الأب وحده، خلافاً لأبي حنيفة في قوله إن سائر العصبة في ذلك كالأب، وللشافعي في إثباته ذلك للجدّ؛ ودليلنا على أبي حنيفة قوله -صلى الله عليه وسلم-: " لتستأمر اليتيمة " فعم، وفي حديث ابن عمر لمّا زوجه قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون أنّه -صلى الله عليه وسلم- قال: " إنّها يتيمة وإنها لا تنكح إلا بإذنها "، فناط ذلك باليتم، وفسخ نكاحها، ولأنّ كلّ من لا يملك التصرف في مالها ببينة لا يملك إجبارها على النكاح كالأجنبي، ولأنّها ليست ولدًا له تنسب إليه على وجه، كالخال. [1229] فصل: ودليلنا على الشافعي ما قدمناه، ولأنه عصبة يحجبه الأب كالأخ، ولأنه عصبة يسقط من تمليك الإجبار فلم يملك هو الإجبار كالعمّ، ولأنّ كل من لا يملك الإجبار مع وجود الأب، فكذلك مع عدمه كابن الأخ، ولأنّ كل تعصيب لا يفيد حجب الأخ عن الميراث لم يفد في الإجبار كتعصيب العمومة، ولأنها ولاية تملك انتقالاً لاَ ابتداء فلم يملك بها الإجبار كسائر الولايات. [1230] مسألة: وصية الأب على إنكاح البكر تصحّ ويملك الوصيّ

بها عقد النكاح بإذنها، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لحديث قدامة بن مظعون لمّا قال: أنا عمّها ووصي منها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: " إنها يتيمة لا تنكح إلا بإذنها "، موضع التعلّق أنّه ذكر السبب الذي اعتقد أنه يملك به أن يعقد، وهو كونه عمًا ووصيًا، فلم ينكر عليه، ولا قال ليس للوصي أن يعقد نكاحها، بل عدل إلى أن علّل منع العقد بمعنى يرجع إلى حالها وهو اليتم، لا إلى صفة الولي، فدل على ما قلناه، ولأنها ولاية كانت ثابتة للأب حال حياته فكان له نقلها إلى من يختار حال وفاته كولاية المال، ولأنها تولية من الأب في إنكاح من يلي عليه كالوكيل. [1231] مسألة: النكاح الموقوف على الإجازة، كإنكاح الولي وليته قبل استئذانها ثم يعلمها فتختار أو ترد، وكذلك الأب في ابنه الكبير، وما أشبه ذلك، فيه روايتان: إحداهما أنه لا يصحّ جملة، وهو قول الشافعي، والأخرى أنّه يجوز إذا علمت بقرب ذلك من غير تراخ شديد، وعند أبي حنيفة أنه يجوز على كل وجه. فوجه المنع قوله -صلى الله عليه وسلم-: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل " فسقط قول من زعم أنه موقوف، ولأنه عقد تقدم على شرط من شروط جوازه ولا يتم إلا بحصوله فلم يصحّ، أصله العقد على من لها زوج قبل أن تبين منه، ولأنّه نكاح لا يملك الزوج التكلّف من إيقاع إطلاقه فكان باطلاً كالعقد على المعتدة، ولأنه نكاح واقف على إجازة فلم يصحّ، أصله قوله: زوجتك ابنتي إن شاء زيد، ولأنّه لو كان تحته أربع نسوة فتزوج

بخامسة أو، وقف نكاحها على طلاق إحدى الأربع، لم يقف وكان باطلاً، كذلك في مسألتنا. ووجه الجواز حديث الخنساء أن ابنها زوجها وهي كارهة فخيرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولأن العقد يقف على الإجازة فجاز أن يقف على الفسخ، لأن حقها ثابت في الإجازة كثبوته في الفسخ، ولأنه تعبير بالبيع في أصله بعلة أنه عقد معاوضة ليس من شرطه التقابض في الحال، ولأن الوصية تصح على الإجازة من الموصى له، فكذلك النكاح بعلة أنه عقد تمليك يتضمن إيجاباً وقبولاً، ولأن الملتقط يتصدق باللقطة بعد انقضاء السنة ويكون موقوفاً على إجازة المالك، كذلك النكاح؛ والأول أصح وأقيس. [1232] مسألة: فسق الولي لا يزيل ولايته، خلافًا للشافعي؛ لقوله تعالى: "وأنكحوا الأيامى منكم" فعم، ولأنه عصبة حر مسلم عاقل بالغ، وإن شئت قلت من يملك أن يزوج نفسه جاز أن يكون ولياً في عقد النكاح، كالعدل، ولأن الفسق لا يؤثر في المقصود بولاية النكاح فلم يكن مانعاً منها. [1233] مسألة: ينعقد النكاح من غير إشهاد، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: "وأوفوا بالعقود"، ولأنه عقد من العقود فلم

يكن الإشهاد شرطاً في انعقاده كسائر العقود، ولأنه معنى يقصد به التوثق فلم يكن شرطاً في انعقاد النكاح كالرهن والكفالة، ولأن كل شخص لا يحتاج إليه في إيجاب ولا قبول، لم يكن حضوره شرطاً في انعقاد النكاح كالزوجة وسائر الأجانب، ولأن كل شخص لم يحتج إلى حضوره في عقد البيع مع حضور الموجب والقابل، لم يحتج إلى حضوره في عقد النكاح كالفاسق. [1234] مسالة: التراضي بكتمان النكاح يبطل العقد، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: " أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالغربال "، وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن نكاح السر، ولأن الزنا لما كان يقع مستسرًا مكتتمًا وجب أن يقع النكاح على خلافه وإلا كان ذريعة إلى إباحته، لأن كل من وجد مع امرأة ادّعى أنها زوجته وأن شهوده غيب، فوجب حسم الباب فيه. [1235] مسألة: للسيد إجبار عبده على النكاح، خلافاً للشافعي؛ لقوله تعالى: "والصالحين من عبادكم وإمائكم" ولم يشترط إذنهم، ولأنه مملوك له بيعه كالأمة، ولأنه عقد على منفعة فكان للسيد إجبار من يملكه عليه كالإجارة، ولأن كل ما لا يملكه العبد من نفسه من التصرف إلا بإذن سيده، كان للسيد تملكه عليه، أصله خدمة الغير. [1236] مسالة: لا يجبر السيد على إنكاح عبده إذا طلب العبد ذلك، خلافاً للشافعي؛ لأنه مملوك كالأمة، ولأنه قد يكثر الوطء فيؤدي إلى

ضعفه ونقص خدمته، ولأنه عيب فيه ينقص ثمنه يوجب الرد لمبتاعه، فلم يجبر السيد عليه كسائر ما يوجد فيه هذا المعنى، ولأن القصد من النكاح الوطء وهو اللذة، ولا يجبر السيد عليه كاللباس الفاخر والطيب. [1237] مسألة: إذا غاب الأب عن البكر غيبة قريبة غير منقطعة، وعلم منها خبره، فلا يجوز إنكاح ابنته البكر إلا بإذنه، خلافاً لأحد وجهي الشافعية. لقوله -صلى الله عليه وسلم-: " تستأمر اليتيمة في نفسها " فدل على أن ذات الأب بخلافها، ولأن حق الولاية والإجبار ثابت له، وما قرب من الغيبة في حكم الحضر، فلم يكن لأحد الافتيات عليه كما لو كان حاضرًا، ولأن الأب لو أمسك عن إنكاحها لم يكن لأحد الافتيات عليه إلا بعد تكرر ذلك منه والعلم منه بعضلها. [1238] مسألة: إذا قالت له أمته: أعتقني على أن أتزوجك، ويكون عتقي صداقي، فأعتقها على هذا الشرط، فالعتق واقع وهي بالخيار إن شاءت تزوجته وإن شاءت لم تتزوجه ولا شيء عليها، ولا يكون عتقها إن تزوجته صداقها، بل يكون لها صداق مستأنف، وبهذا كله قال أبو حنيفة والشافعي إلا في موضع واحد، فإن الشافعي يقول إذا كرهت نكاحه، عليها قيمتها له، وحكي عن الأوزاعي أنها تجبر على أن يتزوجها، وعن أحمد بن حنبل العتق يقع بعقد النكاح في الحال. فدليلنا على الأوزاعي أنا لو ألزمناها النكاح بالشرط كنا قد ألزمنا ذمتها ذلك، والعقود لا تثبت في الذمم، ولأنه سلف في النكاح فلم يصح، أصله لو قال رجل لرجل أسلفك هذا الألف على أن تزوجني ابنتك عليها. ودليلنا على أحمد أن العتق إزالة الملك، وإزالة الملك عن الشيء لا يتضمن ملكه واستباحته بوجه آخر، اعتبارًا بالأصول كلها، ولأن الشرط لا يخلو من أن يكون على أن يعتقها على أن يتزوجها، فذلك استئناف تزويج بعد العتق، فلا يجب أن يقع مع العتق، أو على أنه إذا أعتقها صارت زوجة

فذلك باطل لأنها إنما تحصل زوجة بأن يعقد عليها نكاحاً، والعتق ليس بعقد نكاح، ولأن عقد النكاح إيجاب وقبول، ولم يحصل منهما قبول إلا قبل إمكان ذلك، لأنها ما دامت أمة له فلا يصح كونها زوجة، وإذا كان كذلك لم تكن زوجه بالقبول قبل حال الإمكان كما لو عقد على معتدة. ودليلنا على الشافعي أنها لم تتلف عليه شيئاً، لأنه هو المتكلف على نفسه حين عاوض على ما لا يلزم الوفاء به. [1239] مسألة: الأخ للأب والأم أولى بالنكاح من الأخ للأب، خلافاً لأحد قولي الشافعي؛ لأنه قوة للتعصيب يسقط في الميراث، فكدلك في ولاية النكاح كالأخ مع الإبن. [1240] مسألة: تملك ولاية التزويج بالبنوة، خلافاً للشافعي؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن أبي سلمة: " قم فزوج أمك "، ولأنه معنى يفيد التعصيب في المواريث فوجب أن يفيده ذلك في ولاية النكاح، كالأخؤة والأبوة، ولأن البنوة توجب الولاية على من يكون ابناً له، أصله إذا كان ابن عمها، ولأن كل حكم ثبت للابن الذي هو من ابن العم ثبت للابن الذي ليس من ابن العم، أصله الميراث، ولأن كل ذكر كان عصبة في الميراث كان عصبة في عقد النكاح، أصله الأخ والعم. [1241] مسألة: الابن وابن الابن مقدمان على الأب في ولايته في النكاح، خلافاً لأبي حنيفة أو بعض أصحابه؛ لأن تعصيبه أقوى بدليل أن الأب يصير معه من ذوي الفروض، وإذا كان تعصيبه أقوى وجب أن يكون مقدماً عليه، كالأخ للأب والأم مع الأخ للأب.

[1242] مسألة: الأخ وابن الأخ مقدمان على الجد في ولاية النكاح، خلافاً للشافعي؛ لأنهما أقوى تعصيباً منه، لأن الأخ يدلي بالبنوة والجد يدلي بالأبوة، ولأن الأخ يقول أنا ابن أبيك، والجد يقول أنا أبو أبيك، وقد بينا أن تعصيب البنوة مقدم على تعصيب الأبوة. [1243] مسألة: إذا حضر العصبة الأقرب والأبعد، ولم يتشاحوا في العقد، فأيهم عقد جاز، وقال الشافعي لا يصح عقد الأبعد مع الأقرب؛ ودليلنا أنهما عصبة لا تملك الإجبار فصح أن يعقد أحدهما مع الآخر كالمتساويين في القرب. [1244] مسألة: إذن البكر صماتها، وحكى الأسفراييني عن أصحابه أن لهم وجهين: أحدهما مثل قولنا، والآخر أن هذا في الأب والجد، فأما في سائر الأولياء فإن إذنها لا يكون إلا بالقول؛ ودليلنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: " والبكر تستأذن وإذنها صماتها "، وقوله: " تستأذن اليتيمة في نفسها فإن سكتت فقد أذنت " فهذا نصٌّ في موضع الخلاف، ولأن الإذن الذي هو بالقول لا يختلف باختلاف الأولياء، فكذلك الصمات، ولأن السكوت إنما جعل إذناً في حقها لأنها تستحي أن تتكلم ويغلب عليها الحياء، ويكره أن تسرع بالنطق إلى الإجابة فيظن منها محبة لذلك، وهذا لا يختلف باختلاف الأولياء. [1245] مسألة. إذا اتفق أولياء امرأة على نكاح من يقصر عنها في

الكفاءة

الكفاءة جاز، خلافاً لمن قال لا يجوز أن يثبت، والأسفراييني حكى عن عبد الملك بن الماجشون صاحبنا أن الكفاءة شرط في صحة النكاح لا يجوز الاتفاق على تركها، وهذا تقويل للرجل ما لم يقل؛ والدليل عليه أن المنع منه لإلحاق العار، وذلك حق لها وللأولياء لا يتعلق به حق لله تعالى، فإذا اتفقا على إسقاطه جاز، كالنقصان من مهر المثل. [الكفاءة] [1246] مسألة: الكفاءة عندنا الدين، والحرية، والسلامة من العيوب الموجبة للرد، وهي الجنون والجذام، والبرص، والجب، والعنة، والاعتراض، والإعسار ينافي الكفاءة، ومحمد بن الحسن أخرج الدين من الكفاءة، وأبو حنيفة أسقط اليسار، وهو أحد قولي الشافعي، واعتمد أصحاب الشافعي على الصناعة، وفيها نظر يجب أن تكون من الكفاءة. ودليلنا على اعتبار الدين قوله تعالى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فأنكحوه " ولأن من لا دين له ناقص في العادة يلحق العار به. ودليلنا على اعتبار المال أن في عدمه إضرارًا بها، لأنه إما أن يأكل مالها، أو لا ينفق عليها، فتحتاج إلى مطالبته بالطلاق، وذلك نقص في العادة. ودليلنا على اعتبار الحرية أن العبد أنقص حرمة من الحر، فيلحق الأولياء العار يكون وليتهم تحته.

الإذن لوليين بالتزويج واختلافهما

وأما اعتبار السلامة من العيوب فلأنها نقص يوجب الخيار على ما سنذكره. [1247] مسألة: مهر المثل ليس من شرط الأكفاء، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن كل من لم يكن له اعتراض في جنس المهر فكذلك في مقداره، كالأجانب، ولأن كل عوض عليها في جنسه فكذلك في قدره، كالأثمان في البيوع، ولأنه عقد على معاوضة فلم يكن عليه اعتراض في قدره، كإجارتها نفسها للخدمة. [الإذن لوليين بالتزويج واختلافهما] [1248] مسألة: إذا أذنت لوليين فزوجاها، ثم علم الأول بعد دخول الثاني، ثبت عقد الثاني وانفسخ عقد الأول، وقال أبو حنيفة والشافعي عقد الأول ثابت على كل حال. ودليلنا أنه إجماع الصحابة، لأنه مروي عن عمر والحسن ومعاوية، وذكره بعض أصحابنا عن علي رضي الله عنه، فأما حديث عمر فروي أنه قضى في الوليين ينكحان المرأة ولا يعلم أحدهما بصاحبه أنها للذي دخل بها، فإن لم يدخل بها أحدهما فهي للأول؛ وروي أن موسى بن طلحة أنكح زيد بن معاوية أخته فاطمة بنت طلحة، وأنكحها يعقوب بن طلحة الحسن بن علي، فلم يمكث إلأ ليلتين حتى جمعها الحسن، وكان موسى أنكحها لزيد قبل أن ينكحها يعقوب فقال معاوية: امرأة جمعها زوجها فدعوها، ولا يصح ما يذكرونه عن على من خلاف ذلك، ولو صح لحملناه على أنه رجع عنه إلى الرواية الأخرى، ولأن المرأة لما كانت

الولي يزوج نفسه من وليته

مضطرة إلى الإذن لوليها في العقد عليها، لأنها لا يجوز لها العقد بنفسها، واتفق على أن لها أن تأذن لواحد ولجماعة ولا يلزم كل واحد التوقف عن أن يعقد حتى يعلم هل عقد الآخر أم لا، كان كل واحد يعقد على من لا يتحقق أنه لا زوج لها، بل يجوز أن يكون لها زوج، وكذلك المفقود يقدم على من يجوز أن يكون لها زوج مع وجود الأمارة المؤدية لذلك وهو الإذن للولي الآخر في الإنكاح، ووجدنا الأصول مبنية على أن عقد الإنسان على من يشك في أن لها زوجاً أم لا، مع عدم الأمارة المقتضية للشك ممنوع وذلك العقد على من شك في تحريمها عليه وأنها لا تحل له بذلك العقد شيئاً يمكن حضوره وضبطه، فلولا أن في مسألتنا يثبت النكاح في حكم، وإلا لم يجز أن يباح للولي إيقاعه ولا للمتزوج استباحته، كما أن نكاح المعتدة والمحرمة لما لم يكن لها وجه يثبت معه لم يجز الإقدام عليه، وإذا ثبت ذلك لم يبق إلا ترجيحه بالوطء لأن أحدًا لم يرجحه بغيره. [الولي يزوج نفسه من وليته] [1249] مسألة: يجوز للولي أن يزوج نفسه من وليته، كانت الولاية بنسب أو ولاء أو حكم، وقال الشافعي ليس له ذلك، إلا الإمام الأعلى فله فيه قولان؛ ودليلنا قوله تعالى: " وأنكحوا الأيامى منكم " ولم يفرق، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا نكاح إلا بولي "، ولأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعتق صفية

انعقاد النكاح على صفة مقصودة في الزوجين

وتزوجها، ولأنه ولي كالإمام، ولأنه عقد على امرأة يجوز له إنكاحها فأشبه عقده عليها من أجنبي. [انعقاد النكاح على صفة مقصودة في الزوجين] [1250] مسألة: إذا عرفت المرأة الرجل بصفة مقصودة، أو عرفها الرجل، فكانت على خلافها ثبت لها الخيار، ولم يبطل العقد، وقال الشافعي في أحد قوليه يبطل العقد؛ فدليلنا أنها صفة لا يفتقر صحة العقد إلى وجودها، فلم يبطل النكاح لعدمها كتسمية المهر. [انعقاد النكاح بلفظي الهبة والبيع] [1251] مسألة: ينعقد النكاح بلفظ الهبة والبيع، وكل لفظ تمليك يقتضي التأبيد دون التوقيت، وقال الشافعي لا ينعقد إلا بلفظين، أنكحتك أو زوجتك؛ ودليلنا قوله تعالى: " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي " فخطبها رجل فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " قد ملكتها بما معك من القرآن " ولأنه لفظ تمليك لا يقتضي توقيتاً، فأشبه لفظ النكاح والتزويج، ولأنه عقد معاوضة فجاز أن ينعقد بأكثر من لفظين كالبيع.

الجمع بين أكثر من أربع نسوة

[الجمع بين أكثر من أربع نسوة] [1252] مسألة: لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع نسوة، ولولا أن هذا قد ذكر في الخلاف لما كان يجب أن نذكره؛ والدليل عليه قوله تعالى: " مثنى وثلاث ورباع "، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لغيلان وعنده عشر نسوة " اختر أربعاً "، وروي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: " فارق إحداهن ". [حق العبد في أن يجمع بين أربعاً] [1253] مسألة: للعبد أن يجمع بين أربع، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع "، فعم، ولأنه يجوز له الجمع بين اثنتين فجاز بين أربع كالحر، ولأنه كل عدد جاز للحر الجمع بينه جاز للعبد كالاثنتين، ولأن طريقه الملاذ فاستوى الحر والعبد فيه، فلم ينقص العبد فيه عن الحر كالأكل واللباس، ولأنه نوع جمع، منه ما يحل في النكاح ومنه ما يحرم، فجاز أن يحل للعبد منه ما يحل للحر، أصله الجمع بين الأقارب وذوات المحارم، ولأنه نوع جمع، يحرم على العبد منه ما يحرم على الحر، فجاز أن يحل له ما يحل للحر منه، أصله ما ذكرناه. [متى يجوز العقد على أخت المطلقة] [1254] مسألة: إذا بانت المرأة من الرجل جاز له العقد على أختها

زنا المرأة لا يفسخ العقد

وعلى كل من يحرم عليه الجمع بينها وبينها وإن لم تخرج من العدة، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنها أجنبية منه بدليل انتفاء الموارثة بينهما ولحوق الطلاق بها، وأنها لا نفقة لها، ولا يلحقها إيلاء ولا ظهار، فكانت كالخارجة من العدة، ولأنه نوع من البينونة فوجب أن يرتفع به عن الزوج كل جمع حرم بعقد النكاح، أصله الطلاق قبل الدخول، أو نقول فجاز معه تزويج الأخت أو خامسة سواء، أصله ما ذكرنا، ولأنها حال لا يلحقها منه طلاقه فجاز له العقد على أختها، أصله لو ارتدت أو ماتت. [زنا المرأة لا يفسخ العقد] [1255] مسألة: إذا زنت المرأة لم ينفسخ النكاح، خلافاً لما يحكى عن الحسن؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- للسائل وقال له إن امرأته لا ترد يد لامس، فقال: "طلقها"، فقال: إني أحبها، فقال: "أمسكها"، ولأن كل معنى لو أقر به الزوج لم ينفسخ نكاحه، فكذلك إذا ثبت بغير إقراره، أصله إذا أقر بأنها كانت زوجة أخيه أو أمة لأبيه ولم يمسها، عكسه إذا أقر بأنها كانت زوجة لأبيه. [كراهة التزوج بالزانية] [1256] مسألة: يكره التزويج بالزانية المشهورة بذلك، ويجوز بعد الاستبراء من الزاني وغيره، خلافاً لمن منعه؛ لقوله تعالى: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء "، ولأنه وطء لم يحرم الموطوءة من الواطىء كوطء الشبهة. [1257]، مسألة: لا يجوز تزويج الزانية إلا بعد الاستبراء، وإن حملت

ما يحرم من الجمع بين النساء

فحتى تضع الحمل، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يلزمهما استبراء؛ فدليلنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره "، ولأنه لا يلحق بالمتزوج فلم يجز له العقد، أصله الحمل الذي يلحق من النسب. [ما يحرم من الجمع بين النساء] [1258] مسألة: لا يجوز الجمع بين الأختين في الملك في استباحة الوطء، خلافاً لداود، لقوله تعالى: " وأن تجمعوا بين الأختين " فعم، ولأنها صارت فراشاً للرجل فلم يجز له استباحة أختها ما دامت فراشاً كما لو تزوجها، ولأنه أحد طرفي استباحة الوطء كالنكاح. [1259] مسألة: لا يجوز الجمع بين المرأة وعمتها ولا خالتها، خلافاً لمن لا يعتد به، لثبوت السنة بتحريمه، وانعقاد الإجماع عليه من أهل الأعصار، لأنهما امرأتان لو خلقت كل واحدة ذكرًا لم يجز له أن يتزوج الأخرى، فلم يجز له الجمع بينهما، كالأجنبي. [1260] مسألة: يجوز الجمع بين المرأة وامرأة أبيها، خلافاً لمن منعه، للظاهر، ولأنهما أجنبيتان، فأشبهت امرأة أخيها، ولا يلزم عليه العكس، لأنه لا يتصور عليه من الطرفين. [المحرمات من النساء وغير المحرمات] [1261] مسألة: تحرم أم المرأة بنفس العقد الصحيح من غير اعتبار

بالوطء، وروي عن علي رضي الله عنه أنهن لا يحرمن إلا بالوطء؛ ودليلنا قوله تعالى: " وأمهات نسائكم "، فلم يشترط وطئاً، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إذا تزوج الرجل المرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها فله أن يتزوج بابنتها، وليس له أن يتزوج أمها"، ولأن العقد معنى تصير به المرأة فراشاً، فوجب متى وجد أن تكون أم الزوجة حراماً معه، أصله الوطء. [1262] مسألة: تحرم الربيبة إذا دخل بأمها، وإن لم تكن في حجر الزوج، خلافاً لداود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " أيما رجل نكح امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها حرمت عليه أمها ولم تحرم عليه ابنتها " ولم يعتبر الحجر، ولأن كل امرأة تحرم عليه إذا كانت في حجره، فإنها تحرم وإن لم تكن في حجره كحلائل الأبناء، ولأن الحجر لا تأثير له في التحليل والتحريم بدليل سقوط اعتباره في كل المواضع والظاهر خرج على الغالب. [1263] مسألة: القبلة واللمس للذة كالوطء في باب تحريم الربيبة وكل من يحرم بالصهر، خلافاً لأحد قولي الشافعي؛ لأنه نوع من الاستمتاع واللذة بالمباشرة، كالوطء. [1264] فصل: النظر للذة، قال ابن القاسم هو كالقبلة في التحريم للصهر، وقال غيره يحتمل وجهين؛ فدليلنا على أنه يحرم أنه نوع من

الاستمتاع واللذة لا تباح إلا مع العقد، فأشبه القبلة، ووجه النفي أنه التذاذ بغير مباشرة كالفكر. [1265] مسألة: فى تحريم المصاهرة بالزنا روايتان: إحداهما ثبوته، وهو قول أبي حنيفة، والثانية نفيه، وهو قول الشافعي. فوجه إثباته أن كل تحريم تعلق بالوطء الحلال تعلق بالحرام، كالتحريم في الوطء بشبهة نكاح فاسد لأنه وطء حرام، ولأنه استمتاع كالحلال. ووجه نفيه ما روي: " لا يحرم الحلال الحرام "، ولأنه معنى لا يثبت به الفراش على وجه، فلم يجب تحريم المصاهرة كاللواط، ولأنه وطء يتعلق به وجوب الحد كاللواط، ولأن الزنا لا حرمة له في نفسه فلم ينشرها إلى غيره، ألا ترى أن النسب لا يثبت به وهو أقوى من الصهر. [1266] مسألة: إذا زنا بامرأة فأتت بابنة، كره للزاني بأمها أن يتزوجها ولا تحرم عليه، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش وللعاهر الحجر"، فقيد أنه لا حكم لفعله لأنها أجنبية منه، بدليل أن سائر أحكام الولادة المختضة بها من لحوق النسب ووجوب النفقة والولاية

في البدن والمال والشهادة لا تثبت في هذا الموضع، كذلك تحريم النكاح. [1267] مسألة: يجوز نكاح حرائر أهل الكتاب، خلافاً لمن منعه؛ لقوله تعالى: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم "، ولأن كل جنس أكلت ذبائحهم جازت مناكحتهم كالمسلمين، عكسه المجوس. [1268] مسألة: لا يجوز نكاح المجوسيات، ولا غيرهن من أنواع الشرك الذين لا كتاب لهم، خلافاً لأبي ثور في إجازته ذلك في المجوس، وهو أحد وجهي الشافعية على قولهم إنهم أهل كتاب؛ لقوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتي يؤمن "، فعم، وقوله: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب "، فدل أن غيرهن خلافهن، ولأنهن غير متمسكين بكتاب كعبدة الأوثان. [1269] مسألة: لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا لعدم الطول وخشية العنت، والطول صداق الحرة، وقال أبو حنيفة إذا لم تكن تحته حرة جاز أن يتزوج أمة، ولا يراعى صداق الحرة، ولا خيفة العنت؛ فدليلنا قوله تعالى: " ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح " الآية، ففيه دليلان: أحدهما أنه نص على اعتبار خشية العنت، ومخالفنا يسقطه، والآخر أنه شرط عدم الطول والسعة في المال، يقال فلان ذو طول أو سعة أو يسار، وقال تعالى: " استأذنك أولوا الطول منهم " يريد السعة والمكنة، ولأنه حر مستغن عن استرقاق ولده كالذي تحته حرة. [1270] مسألة: إذا عدم الطول وخشي العنت فتزوج أمة، ثم وجد

الطول، لم ينفسخ النكاح، خلافاً للمزني؛ لأن المال لا يتأبَّد، لأنه غاد ورائح، وكل معنى لا يتأبد فإنه إذا منع ابتداء النكاح لم يمنع استدامته أصله العدة والإحرام، ولأنه شرط في جواز نكاح الأمة فلم ينفسخ العقد بارتفاعه، أصله خشية العنت. [1271] مسألة: وللحر أن يتزوج أربعًا من الإماء إذا عدم الطول وخاف العنت، خلافاً للشافعي في قوله ليس له أن يتزوج إلا أمة واحدة؛ لقوله تعالى: " فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات "، فعم، ولأنهن جنس أبيح نكاحهن فجاز الجمع بين أربع منهن كالحرائر. [1272] مسألة: وللعبد أن يتزوج أمة وإن كان تحته حرة، وقال عبد الملك لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة؛ ودليلنا أنها مساوية في الحرمة؛ فلم يكن وجود نكاح غيرها مانعًا من نكاحها كالحرة مع الحرة. [1273] مسألة: لا يجوز للحر ولا للعبد أن ينكح الأمة الكتابية، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن "، وقوله تعالى: " من فتياتكم المؤمنات "، فشرط فيهن الإيمان فانتفى الجواز مع عدمه، ولأن الإيمان شرط منصوص عليه في جواز نكاح الأمة فوجب اعتباره، أصله عدم الطول وخشي العنت، ولأن تجويزه يؤدي إلى أحد أمرين ممنوعين وهما: أن يكون ولده مملوكاً للكتابي، أو يباع عليه ولا يبقى على ملكه، فكلاهما غير جائز، ولأن في الأمة الكتابية نقصين يؤثران في منع النكاح، وهما الكفر والرق، فإن اجتماعهما في المرأة مانعاً من نكاحها كالمجوسية، ولأنها أمة كافرة كالمجوسية. [1274] مسألة: لا فرق بين الحر والعبد في ذلك، خلافاً لبعض

الخطبة على الخطبة

الشافعية؛ لأن كل امرأة لم يجز للحر نكاحها بحال فكذلك العبد، أصله الحرة المجوسية والوثنية. [1275] مسألة: لا يجوز للأب أن يتزوج أمة ولده، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن له شبهة في ماله فكان كمن تزوج أمة نفسه، ولأن كل أمة لو وطئها عالماً فحملت صارت أم ولد له، لا يجوز له أن يتزوجها، كأمة عبده، ولأن كل أمة لو وطئها عالماً فحملت صارت أم ولد له، فلا يجوز له التزويج بها كأمة نفسه. [الخطبة على الخطبة] [1276] مسألة: إذا خطب رجل امرأة فانعمت له، أو وليها، وحصل منهما على وعد وثقة وتراكن، ولم يبق بعد إلا العقد أو ما قرب منه، لم يجز لغيره أن يخطبها، فإن خطبها أو عقد له فالنكاح فاسد على ظاهر المذهب، وللشافعي في تحريم الخطبة في هذه الحال قولان، وفي العقد إذا وقع قول واحد أنه لا يفسخ؛ فدليلنا على التحريم نهيه صلى الله عليه وسلم أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولأن في ذلك ذريعة إلى الإفساد على الناس والإضرار بهم، فوجب منعهم؛ ودليلنا على فساد العقد الخبر، والنهي يقتضي الفساد، وما ذكرناه من الإضرار فيجب حسم الباب بانفساد ما يعقد على هذا الوجه، عقوبة لفاعله وقطعاً للإضرار. [حكم الكافر إذا أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة] [1277] مسألة: إذا أسلم الكافر وتحته أكثر من أربع نسوة اختار أربعاً وفارق البواقي، كان عقده عليهن في حال أو في عقود، لا نبالي اختار

الأوائل أو الأواخر إذا كن ممن يجوز إقرارهن تحت المسلم وقال أبو حنيفة إن كان تزويجهن في عقد واحد بطل نكاح الجميع، وإن كان في عقود فنكاح الأواخر باطل، ودليلنا حديث غيلان أنه أسلم وتحته عشر نسوة فأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً، ففيه دليلان: أحدهما إثبات الخيار، وعند المخالف لا خيار، لأن نكاح الأواخر باطل عنده، وكذلك لو كان في عقد فلا ينتفي موضع الخيار، والاخر لم يسأل هل عقد عليهن في عقد أو عقود، فدل أن الحكم لا يختلف. وروي عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وتحتي ثمان نسوة، فقال صلى الله عليه وسلم: " اختر منهن أربعاً "، وروى الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: قلت يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان، قال: " طلق أيتهما شئت "، ولأن كل امرأة جاز له ابتداء العقد عليها في الإسلام، جاز له البقاء بعد

حكم أنكحة الكفار

الإسلام معها على نكاح الشرك، أصله الأوئل، ولأن من أصلنا أن نكاح الكافر فاسد وإنما يصحح منه لهم الإسلام العقود ويعفى عن صفاتها، و [لو] منعنا [التمسك] بالأواحر لفساد عقدهن لمنعنا الجميع. [حكم أنكحة الكفار] [1278] مسألة: أنكحة الكفار فاسدة وإنما يصحح الإسلام ما لو ابتدؤوه بعده جاز، وقال أبو حنيفة والشافعي هي صحيحة؛ ودليلنا أن صحة النكاح مفتقرة إلى شروط منها ولي، ورضا المرأة، وأن لا تكون في عدة، وأنكحتهم خالية من هذا، فوجب فسادها، ألا ترى أن أنكحة المسلمين إذا عريت منه كانت فاسدة، فأنكحة أهل الشرك أولى، وتحريره أن يقال نكاح عار من ولي وبرضا المزوجة فكان فاسدًا كنكاح المسلم، ولأن كل عقد لو وقع في الإسلام لكان فاسدًا كذلك إذا وقع في الكفار، أصله العقد على ذوات المحارم. [1279] مسألة: إذا أسلم المجوسي وتحته مجوسية قد دخل بها عرض عليها الإسلام. فإن أسلمت ثبتا على نكاحهما، وإن أبت وقعت الفرقة بينهما في الحال، ولم يقف على انقضاء العدة، وهو قول أشهب، وقال الشافعي لا تقع الفرقة إلا بانقضاء العدة، وهو قول أشهب، ودليلنا قوله تعالى: " ولا تمسكو بعصم الكوافر "، ولأنه مسلم تمسك بعصمة

انفساخ النكاح بارتداد أحد الزوجين

مجوسية فأشبه ابتداء العقد عليها، ولأنه لا فصل بين اعتبار العدة وغيرها من الآجال، لأنه إما أن ينفسخ النكاح بإسلامه وإبائها، على ما نقوله، أو يبقى مستدامًا، فأما تعليقه بانقضاء العدة فلا معنى له. [انفساخ النكاح بارتداد أحد الزوجين] [1280] مسألة: إذا ارتد أحد الزوجين بعد الدخول انفسخ النكاح في الحال، وذكر الشيخ أبو بكر عن مالك رواية أنه لا ينفسخ إلا بخروجها من العدة، وهو قول الشافعي؛ ودليلنا أن الارتداد معنى ينافي بقاء العقد على مسلمة، فوجب أن ينفسخ به النكاح في الحال، أصله قبل الدخول. [1281] مسألة: إذا ارتدا معاً انفسخ النكاح قبل الدخول وبعده، وقال أبو حنيفة النكاح على حاله؛ فدليلنا أن حصول الردة يقتضي فسخ النكاح، أصله إذا ارتد أحدهما. [أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا] [1282] مسألة: أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا فالإمام بالخيار إن شاء حكم بينهم وإن شاء تركهم، وللشافعي قولان: أحدهما مثل هذا، والآخر أنه يلزمه أن يحكم بينهم؛ فدليلنا قوله عز وجل: " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم "، والتخيير ينفي الوجوب، ولأنهما كافران كالمستأمنين. [حكم نكاح الشغار] [1283] مسأله: نكاح الشغار باطل، خلافاً لأبي حنيفة في قوله إنه صحيح، ولكل واحدة منهن مهر مثلها؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته الرجل ويزوجه الآخر ابنته ولا مهر بينهما، وروي أنه عليه السلام قال: " لا

حكم نكاح المتعة

شغار في الإسلام "، ولأنه ملك بضع ابنته لشخصين للرجل وابنته، فصار كما لو قال لرجلين زوجت ابنتي لكما، ولأنه عقد شرط فيه المعقود به لغير المعقود له، فلم يصح، أصله إذا قال بعتك عبدي هذا على أن يكون ملكاً لزيد، ولأنه عقد حصل فيه المعقود له معقودًا به، فلم يصح كما لو قال لعبد زوجتك ابنتي على أن تكون رقبتك مهرها. [حكم نكاح المتعة] [1284] مسألة: نكاح المتعة باطل، خلافاً لمن أجازه؛ لما روي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء، ولأن كل عقد معاوضة يصح تأبيده لم يصح توقيته كالبيع. [العيوب التي يثبت بها الخيار] [1285] مسألة: خيار الفسخ في النكاح يثبت لكل واحد من الزوجين بوجود خمسة عيوب، ثلاثة منها قد يشتركان فيها، وهي الجنون والجذام والبرص، ونوعان ينفرد بهما أحدهما عن الآخر، ففي الرجل الجب والعنة أو الاعتراض، وفي المرأة الرتق أو القرن، وقال أبو حنيفة: لا خيار للزوج في شيء من ذلك بحال، وللمرأة الخيار في الجب والعنة؛ ودليلنا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة فوجد بكشحها بياضاً، فقال: " إلحقي بأهلك "، وروي: " دلستم علي "، ولأنه روي عن عمر،

بيع الأمة المتزوجة

وعلي، وابن عباس أنهم أثبتوا الخيار بذلك، ولأن الرتق والقرن عيب يمنع المقصود من الاستمتاع فوجب أن يثبت به الخيار كالجب والعنة، ولأنه عقد معاوضة فكان وجود الجنون في المعقود عليه مثبتاً للخيار كالبيع. [1286] مسألة: إذا تزوجها سليمة ثم حدث بها عيب من بعض هذه العيوب فلا رد له، خلافاً لأحد قولي الشافعي؛ لأن المعنى الذي أوجب الخيار له عند العقد وجود التدليس، وهذا معدوم في مسألتنا، ولأن المهر ليس بمبذول للاستدامة وإنما هو مبذول لأول مرة، والنفقة يمكنه إسقاطها بالطلاق. [بيع الأمة المتزوجة] [1287] مسألة: إذا تزوج أمة فبيعت لم يكن ذلك طلاقاً، خلافاً لمن يحكى ذلك عنه من الصحابة أنه فسخ للنكاح؛ لأن عائشة اشترت بريرة فأعتقتها، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كان النكاح قد بطل لم يثبت

عتق الأمة المتزوجة بحر

التخيير، ولأنه تصرف من السيد في أمته فلم يفسخ به نكاحها كالتدبير والكتابة. [عتق الأمة المتزوجة بحر] [1288] مسألة: إذا أعتقت تحت حر فلا خيار لها، خلافاً لأبي حنيفة؛ لما روي عن عائشة أنها أعتقت بريرة، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان زوجها عبداً، ولو كان حرًا ما خيرها، ولأنها حصلت مساوية له في الحرية، ولا خيار لها، أصله إذا تزوج كتابية فأسلمت، أو مجنونة فأفاقت، ولأن كل معنى لا يثبت الخيار لها عند ابتدائه إذا وقع العقد مطلقاً، لم يثبت لها إذا حصل في تضاعيفه، أصله إذا زوجت من أقطع أو أعمى. [ثبوت الخيار بالعنة والاعتراض] [1289] مسألة: يثبت الخيار للمرأة بالعنة والاعتراض، خلافاً لداود؛ لإجماع الصحابة على ضرب الأجل له، روي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وغيرهم، ولأنه عيب يمنع المقصود بالعقد وهو الاستمتاع فوجب أن يثبت لها الخيار فيه، أصله الجب والخصاء.

فساد النكاح بفساد المهر

[فساد النكاح بفساد المهر] [1290] مسألة: فهل يفسد النكاح بفساد المهر، فيه روايتان: إحداهما أنه لا يفسد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، والثانية أنه يفسد. فوجه القول بأنه يفسد أن النكاح والمهر عقدان بدليل أنه يتأخر المهر عن العقد في المفوضة، وإذا كان كذلك ففساد أحد العقدين لا يوجب فساد الآخر، كالبيع والنكاح، ولأنه إذا عقد على خمر أو خنزير كان ذلك بمنزلة العقد بغير مهر أصلاً، لأن الخمر والخنزير لا يصلح تمليكهما أصلاً، فكان كمن لم يسم مهرًا أصلاً، وعدم تسمية المهر عند العقد لا تمنع صحته كالتفويض، ولأنه عقد لو صح المهر لصح، فوجب أن يصح وإن لم يصح المهر كالعقد على غير مغصوب. ووجه القول بأنه يفسد العقد قوله تعالى: " أن تبتغوا بأموالكم "، فأخبر أن من شرط الإباحة أن يبتغيها بالمال، وهذا ابتغاء بغير مال، ولأنه عقد معاوضة فوجب متى حصل العوض فيه خمرًا أو خنزيرًا أن لا يصح العقد، كسائر عقود المعاوضات، ولأن العوض في النكاح آكد، بدليل أنه يجب لحق الله تعالى، فكان فساد العقد بفساده أولى منه في سائر العقود. [مقدار أقل الصداق] [1291] مسألة: أقل الصداق محدود بربع دينار أو ثلاثة دراهم، وقال الشافعي لا حد له؛ ودليلنا أنه عضو محرم تناوله من أجل حق الله تعالى إلا بمال، فوجب أن يكون أقل ذلك المال بمقدار، أصله قطع اليد في السرقة، ولأنه مال يستباح به العضو فوجب أن يكون لأقله تقدير في الشرع، أصله ما تقطع به اليد، ولأن المهر في النكاح حق لله تعالى، بدليل أنهما إذا تراضيا على إسقاطه لم يجز، فإذا ثبت ذلك وجب أن يكون مقدرًا كالزكوات والكفارات.

تمتيع المرأة عند الطلاق

[تمتيع المرأة عند الطلاق] [1292] مسألة: متعة الطلاق مستحبة غير واجبة، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأن الطلاق تأثيره الإسقاط لا الإيجاب، بدليل أنه إذا سمى مهرًا ثم طلق سقط نصفه ولم يلزمه شيء آخر، فلم يجب به شيء لأن ما كان واجباً قبله قد سقط فهو عن أن يجب به شيء آخر لم يكن واجبًا أبعد، ولأن الطلاق نوع من البينونة فلم يجب به متعة كالموت، ولأن كل امرأة لو ماتت لم يكن لها متعة، كذلك إذا طلقت، أصله إذا طلقت قبل الدخول وقد سمي لها، ولأنا لم نر في النكاح شيئاً وجب للمرأة بزوال العقد اعتبارًا بسائر الواجبات، ولأنها عطية غير معتبر بها على وجه، فلم تكن واجبة كالهبة والصدقة. [حكم الصداق في نكاح التفويض عند موت أحد الزوجين] [1293] مسألة: إذا مات أحد الزوجين في نكاح التفويض قبل الدخول، توارثا، ولا صداق للمرأة، وقال أبو حنيفة يجب لها مهر المثل بنفس العقد، ويستقر وجوبه بالموت؛ فدليلنا أنه لا يجب بالعقد، أن كل من لم يجب لها بالطلاق شيء منه [لم] يجب جميعه لها بالعقد، أصله إذا تزوجها على دينار لما كان الزائد عليه لا يجب لها منه شيء بالطلاق لم يجب بالعقد، كذلك مهر المثل لما لم يجب لها بالطلاق شيء منه لم يجب لها بالعقد، ولأنها فوضت بضعها باختيارها فلم يجب لها المهر بالعقد، أصله ما زاد على مهر المثل. ودليلنا على أنه لا يستحق بالموت مهر المثل أنها امرأة فوضت بضعها

مقدار مهر المثل

تفويضاً جائزًا ثم ماتت قبل الفرض والدخول فلم تستحق مهر المثل، أصله مع أبي حنيفة في الكتابية إذا فوضت بضعها ثم ماتت قبل الفرض والمسيس، ومع الشافعي إذا طلقها قبل الدخول، ولأنها بينونة لو كانت في الكتابية لم يجب لها مهر، فإذا كانت في المسلمة لم يجب لها مهر، كالطلاق قبل الدخول في المفوضة. [مقدار مهر المثل] [1294] مسألة: ومهر المثل معتبر بأحوال المرأة في جمالها، ومالها، وشرفها، دون نساء عصبتها، وقال أبو حنيفة يعتبر نساء قرابتها من العصبة وغيرهن، وقال الشافعي يعتبر نساء عصبتها فقط؛ فدليلنا أن صداق المثل يقل ويكثر ويختلف باختلاف ما ذكرناه في النساء من المال والجمال، لأن الإنسان يرغب في جمال المرأة فيرغب ويبذل أكثر من بذله فيمن دونها في المال والجمال لرفقه بمالها وانتفاعه به، فكان ما ذكرناه هو المعتبر دون مهر نساء العصبة، ولأن مهر المثل بدل من منافع البضع، والإبدال إنما يقوم بحسب اختلاف الأغراض والمنافع وماله يراد ذلك الشيء، كالبيوع، لأن الأثمان تختلف بالقلة والكثرة، فكذلك النكاح. [متى يستقر ملك الزوجة للصداق؟] [1295] مسألة: لا يستقر ملك الزوجة على الصداق إلا بالدخول، وما لم يدخل فهو مراعى، فلا يستحق بمجرد العقد، وقال الشافعي إذا سمي فإنها تملكه بمجرد العقد ملكا مستقرًا؛ فدليلنا أنه لو كان ملكها عليه

متى ينقد الزوج الزوجة صداقها؟ والاختلاف في قبضه

مستقرًا لم يجز أن يسقط بعد ثبوته، ألا ترى أنه إذا دخل بها فقد وجب لها وجوبًا مستقرًا لا يسقط بوجه، فقد ثبت أنها لو ارتدت قبل الدخول أو اختارت نفسها بعد العتق لسقط صداقها، فعلم أن ملكها لم يكن مستقرًا عليه. [متى ينقد الزوج الزوجة صداقها؟ والاختلاف في قبضه] [1296] مسألة: إذا كان العرف جارياً في بعض البلاد بأن الزوج ينقد الصداق قبل الدخول كما كان بالمدينة، ثم اختلفا في قبضه، فإن كان قبل الدخول فالقول قولها وإن كان بعد الدخول فالقول قوله، وقال أبو حنيفة والشافعي القول قولها في الحالين؛ ودليلنا قوله تعالى: " وامر بالعرف "، ولأن الزوج أقوى سبباً بعد الدخول لشهادة العرف له، والعرف أصل يرجع إليه في اختلاف المتداعيين إذا لم يكن ما يرجع إلى غيره، كالنقد والسير والحمولة، فكذلك ها هنا. [اختلاف الزوجين في قدر الصداق] [1297] مسألة: إذا اختلفا في قدر الصداق فإن كان قبل الدخول تحالفا وتفاسخا، وإن كان بعده فالقول قول الزوج، وقال الشافعي القول قولها قبل الدخول وبعده، وهذه المسألة مبنية على اختلاف المتبايعين، وقد ذكرناه، ولأنها لما سلمت نفسها من غير إشهاد عليه كان ذلك رضا منها بأمانته.

مسائل مختلفة حول الصداق

[مسائل مختلفة حول الصداق] [1298] مسألة: يكره أن يكون المهر منافع يستأجر عليها كتعليم القرآن والحديث وبناء دار وما أشبه ذلك، ويصح إذا عقد عليه، وقال أبو حنيفة لا يصح ذلك إن كان الزوج حرًا، ويجوز إن كان عبدًا؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: " قد زوجتكها بما معك من القرآن "، وفي طريق أخرى: " زوجتكها على أن تعلمها عشرين آية "، ولأنها منفعة معلومة من غير معرفة فجاز أن يكون مهرًا، أصله العبد إذا تزوجها على خدمة نفسه. [1299] مسألة: إذا طلقت البكر قبل الدخول فللأب أن يعفو عن النصف الواجب لها، وهو الذي بيده عقدة النكاح، وقال أبو حنيفة والشافعي ليس له العفو، والمراد بالآية الزوج؛ ودليلنا قوله تعالى: " وإن طلفتموهن من قبل أن تمسوهن " إلى قوله: " عقدة النكاح "، ففيه أدلة: أحدها أن ابتداء الخطاب بالمواجهة وهو للأزواج، وقوله تعالى: " أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح " كناية للغائب فيجب أن يكون المراد به غير من وجه بالخطاب، وإذا ثبت ذلك لم يبق إلا قوله، والثاني أن قوله: " أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح " يفيد أن يكون الذي بيده في الحال، والزوج ليس بيده بعد الطلاق شيء، والثالث أن حقيقة العطف عود على المعطوف عليه في الشيء الذي أريد بالعطف، وقد ثبت أن قوله: " إلا أن يعفون "

المراد به النصف الواجب للمطلقات فسقط عن الزوج، فلما عطف بحرف "أو" كان حقيقته عفوًا عن ذلك النصف، وفي حمله على الزوج حمل له على العفو عن نصف آخر، وذلك خلاف الظاهر، والرابع أن في حملها على ما قلناه سلامتها من التكرار [أو] في حملها على الزوج تكرار، لأنه قد توجه ثبوت الخطاب إليه بالعفو بقوله: " وأن تعفوا أقرب للتقوى "، فكان ما قلناه أولى، والخامس أن الله تعالى ندب إلى العفو من كلا الطرفين، فندب إلى الأزواج بقوله: " وأن تعفوا أقرب للتقوى " ولم يفصل، لأنهم يملكون أنفسهم، ثم لما ندب النساء وكن ينقسمن إلى ثيب يملكن أنفسهن ولا حجر عليهن، وإلى أبكار يولَّى عليهن، خاطب الثيب بإيقاع العفو منهن وامتنع ذلك في الأبكار، فعدل إلى الأولياء المالكين أمورهن، وهم الآباء، ومتى جعلناه للأزواج أخرجنا الأبكار من حيز من يندب إلى العفو، ولأنهن أحد نوعي الزوجات فجاز أن يلحقهن الندب إلى العفو عن نصف الصداق كالثيب، ولأنها أحد الزوجين فلحقها العفو عمومًا كالزوج، ولأنه ولي يملك الإجبار فجاز له العفو عن صداق من يملك إجبارها، أصله السيد في أمته. [1300] مسألة: للأب أن يزوج البكر بأقل من صداق مثلها إذا راه نظرًا، خلافاً للشافعي؛ لأن الأب لما كان هو الناظر لها والقيم بمصلحتها، وكان غير متهم عليها في إسقاط حقها، وكان المقصود من النكاح العفة والصلاح دون المتاجرة والأرباح، جاز له إنكاحها بمهر مثلها وأقل وأكثر، لأنه لا يمنع أن يرى ذلك حظاً بأن يختار لها من يحسن عشرتها ويلحقها من بره وحسن معاملته ما يوفي على قدر ما يحط من صداق المثل، إذا كان هذا المعنى فهو المقصود بالعقد، ولأنا قد دلَّلنا على أن له العفو عن

نصف الصداق في حقها، فنقول كل من جاز له العفو عن نصف صداقها جاز له إنكاحها على دون صداق مثلها كالأمة. [1301] مسألة: إذا وهبت له صداقها ثم طلقها قبل الدخول فلا شيء له عليها، وقال الشافعي في أحد قوليه يرجع عليها بنصف قيمته؛ فدليلنا قوله تعالى: " فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون " فبين أن الزوج يستحق النصف بحيث تستحق المرأة النصف، لأنه قرن ذلك بالحال التي تملك فيها العفو، وذلك لا يكون إلا مع بقاء الصداق على ملكها، ولأن كل امرأة لم يحصل لها بالطلاق نصف الصداق من جهة الزوج لم يستحق الزوج عليها نصفًا آخر، أصله إذا لم يسم صداقاً، ولأن الصداق بهبتها إياه قد صار ملكاً له، فلو استحق عليها بكل النصف لكان قد حصل له البدل والمبدل، وذلك خلاف الأصول. [1302] مسألة: إذا أسلمت نفسها قبل قبض الصداق ودخل بها لم يكن لها أن تمتنع بعد ذلك من التسليم، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنه تسليم يستقر به البدل فوجب أن يسقط حكم الامتناع كتسليم السلعة في البيع. [1303] مسألة: الصحيح من المذهب أن الخلوة لا توجب إكمال المهر، فإن ذلك لا يجب إلا بالوطء، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله تعالى: " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم "، وهذا مطلق قبل المسيس، ولأنها خلوة تعرَّت عن الإصابة لم يجب لها استقرار المهر، أصله إذا خلا بها وهو صائم أو محرم، ولأنه طلاق قبل الإصابة فوجب أن لا يكمل به الصداق، أصله إذا طلق من غير خلوة، ولأن الوطء يتعلق به أحكام كثيرة كالحد والحصانة والتحليل للزوج الأول والغسل، ووجدنا الخلوة لا يتعلق بها شيء من ذلك، فكذلك يجب أن لا يتعلق بها كمال المهر، ولأن كل ما لا يجب به المهر في النكاح

الفاسد لم يستقر في النكاح الصحيح، أصله اللمس لغير لذة. [1304] مسألة: إذا حصلت الخلوة فادعت أنه وطىء، فأنكره، فالصحيح من المذهب أن القول قولها، لأن ذلك مما لا يمكن لها الإشهاد عليه، والتوثق بإحضار البينة فيه، والأصول موضوعة على أن ما تعلق بالزوجة مما هذه سبيله أن القول قولها في حصوله، لأن الضرورة تدعو إلى ائتمانها عليه، وإن آل إلى إسقاط حق الزوج وإيجاب شيء عليه كالعدة، ولأن التمكين إذا حصل ووقع الاختلاف في الفعل فالقول [قول] مدعي إثباته دون نافيه، كالعنين إذا أمكن من زوجته وادعى أنه أصاب وأنكرت، ولأن العرف شاهد بما تدعيه، لأن الغالب من حال الرجل إذا خلا بزوجة جديدة وكان صحيحاً سليم الحواس أنه يطأ، فكان القول قول من يشهد له العرف، ولأن المتداعيين إذا قوي سبب أحدهما بشهادة العرف له أو لغير ذلك مما يقوى على خصمه، فإن اليمين في جهته، أصله صاحب البينة. [1305] مسألة: يجوز أن يتزوجها على عبد مطلق، أو وصيفة، أو جهاز بيت، ويكون لها الوسط من ذلك، وقال الشافعي لا يجوز ذلك؛ ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "ما تراضى عليه الأهلون جاز"، ولأن النكاح لما لم يكن العوض مقصودًا فيه بدليل أنه [لا] يفسد بفساده،

ويحل صحة العقد [مع] عدم ذكره، جاز أن يسقط تعيينه وصفته إن كان هناك طريق يوصل إليه غيره، وبذلك فارق البيع لأن الغرض منه المعاينة والمكايسة [بـ] دليل أن الإخلال بذكره عند العقد مفسد له. [1306] مسأله: إذا اشترت بالصداق جهازًا أو ما يصلحها ويصلح زوجها مما جرى من العرف في موضعها بأن المرأة تتجهز به للرجل، ثم طلقها قبل الدخول، فله نصف ما اشترت، ولا يلزمها أن تغرم له عينًا، وقال أبو حنيفة والشافعي عليها أن ترد له نصف العين التي قبضت منه؛ فدليلنا أن العرف إذا كان جارياً في موضعها بأن المرأة تتجهز للرجل وأنه يلتمس ذلك منها، فعليه دخلا، فكأنها فعلت ذلك بأمره، لأنه قد علم أنها تتصرف فيه، فكان كما لو صرح فقال: قد أذنت لك أن تشتري بصداقك جهازًا، ولو فعل ذلك لم يكن له إلا نصف ما اشترته فدليلنا على وجوب تجهيز المرأة للزوج إذا كان العرف عندهم جارياً بذلك، فدليلنا قوله تعالى: " وامر بالعرف "، ولأنه صلى الله عليه وسلم أخذ صداق فاطمة عليها السلام فصرفه في جهازها من طيب وفرش وغير ذلك، ولأن علياً رضي الله عنه قضى بذلك في قضية ارتفع إليه فيها فقضى على الأب بوجوب تجهيز ابنته وقال

القسم بين الزوجات

الزوج لما طلق فطلب نصف ما دفع، فقال: آخذ صوفاً وخرقاً وقد أعطيت دراهم؟ قال: أنت أضعت مالك، ولم يخالف عليه أحد. [القسم بين الزوجات] [1307] مسألة: القسم بين الزوجات للحرة والأمة سواء، وعنه رواية أخرى أنه يفضل بينهما، وهو قول أبي حنيفة والشافعي؛ فدليلنا على التسوية قوله صلى الله عليه وسلم: " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقة مائل " ولأنها مساوية لها في الزوجية فوجب مساواتها لها في القسم كالحرة، ولأن نقصها عن رتبتها لا يوجب نقصانها عنها في القسم كالذمية. [1308] مسألة: إذا تزوج امرأة وعنده غيرها، فإن كانت بكرًا كان له أن يقيم عندها سبعًا ولا يقضي، وإن كانت ثيبًا فثلاثًا ولا يقضي، وقال أبو حنيفة يقضي باقي نسائه؛ فدليلنا ما روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " للبكر سبع وللثيب ثلاث " فأضاف ذلك إليهما فاقتضى ذلك اختصاصهما به، وقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: " ليس لك على أهلك هوان إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت عندك ودرت " فأخبر أن الثلاث لا تقضى في حق الثيب، ولأن القسم مستحق على قدر حصول الاستمتاع للزوج من المرأة، ومعلوم أن الجديدة أوفر في ذلك من غيرها، للعادة بأن النفس تتوق إليها أكثر، فكان ذلك حقاً لها على سائر نسائه.

حكم الحكمين

[حكم الحكمين] [1309] مسألة: إذا بعث الحاكم الحكمين عند حصول الشقاق بين الزوجين فعلا ما يريانه من صلاح وطلاق أو خلع، ولا يعتبر رضا الزوجين، وكان ذلك حكماً لا وكالة، وقال أبو حنيفة يكون وكالة يفتقر إلى رضاهما، ودليلنا قوله تعالى: " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها " فخاطب غير الزوجين، ولأن الخطاب الوارد بالأحكام وتنفيذها ينصرف إلى الأئمة والحكام دون أهل الخصومات، ولأن تسميتهما بأنهما حكمان ينفي كونهما وكيلين، وقول علي رضي الله عنه للحكمين: أتذريان ما عليكما، إن رأيتما أن يصلحا أصلحتما، وإن رأيتما أن يفرقا فرقتما، ولم يشترط رضا الزوجين، ولأن للحاكم مدخلاً في إيقاع الفرقة بين الزوجين لإزالة الضرر كالطلاق على المولي، والمعسر بالنفقة والمهر، وغيره، فإذا كان له ذلك في إزالة الضرر عن أحدهما، كان بأن يكون في حقهما أولى. ***

كتاب الخلع

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الخلع [1310] مسألة: الخلع جائز مع التراضي واستقامة الحال، وقال داود لا يجوز إلا بشرط الخوف ألا يقيما حدود الله؛ فدليلنا قوله تعالى: " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئا " فعم الفدية وغيرها، ولأن كل حال جاز أن يطلق فيها بغير عوض جاز أن يطلق فيها بعوض، كحال السخط، ولأن [كل] طلاق وقع حال الغضب وقع حال الرضا، أصله الطلاق المبتدأ بلا عوض، ولأنها معاوضة تصح حال الخصومة، فصحت في غيرها كالبيع. [1311] مسألة: الخلع طلاق، خلافاً للشافعي في قوله إنه فسخ؛ لحديث حبيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: " أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فدعا ثابتاً، فقال: أو يطيب ذلك لي يا رسول الله؟ قال: " نعم " قال: قد فعلت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اعتدي " ثم التفت إليه وقال: " هي واحدة " وروى

سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخلع تطليقة، ولأن كل فرقة تعلقت بإرادة الزوجين لا عن غلبة فإنها لا تكون فسخًا، بل تكون طلاقاً، أصله إذا تزوج عليها فطالبته بالفراق، عكسه الملك والرضاع، ولأن الزوج يأخذ العوض على ما يملك، وهو إنما يملك الطلاق دون الفسخ. [1312] مسألة: يصح الخلع من غير حاجة إلى سلطان، خلافاً لما يحكى عن الحسن وابن سيرين؛ لأنه معاوضة كالنكاح. [1313] مسألة: يجوز الخلع بقدر المهر، وبأقل وبأكثر، خلافاً لأحمد وإسحاق في قولهما لا يجوز إلا بقدر المهر؛ لقوله تعالى: " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " فعم، ولأنه عوض يصح تملكه فجاز الخلع عليه كالصداق. [1314] مسألة: الخلع المطلق يقطع الرجعة، خلافاً لأبي ثور في قوله إنه إن كان بلفظ الطلاق لم يقطعها، وإن كان بلفظ الخلع قطعها؛ لأنه طلاق بعوض فأشبه لفظ الخلع، ولأن المرأة إنما تبذل العوض لإزالة الضرر عنها، وكل فرقة لإزالة الضرر فإنها تقتضي قطع ما يعيدها إليه من

ثبوت الرجعة عليها، وإعادتها إلى الضرر، ولأنها تعجز عن إقامة حقوق الله تعالى في ذات زوجها، فلم تستحق ذلك كالفرقة بإعسار النفقة، وفي الإيلاء. [1315] مسألة: إذا بذلت له عوضًا على طلاقها فأجابها بشرط أن له الرجعة، ففيها روايتان: إحداهما أنه يصح، ويكون له الرجعة، ويكون له البدل عوضًا من الطلاق، والأخرى أنه يكون خلعًا ولا رجعة له، وهو قول أبي حنيفة، وقال الشافعي الخلع باطل والطلاق واقع، والرجعة ثابتة، ويرد العوض عليها، وقال المزني الخلع صحيح وتسقط الرجعة، ويكون له عليها مهر المثل. فدليلنا أولاً على أنه لا يثبت له الرجعة أنه طلاق بعوض فلم يكن فيه رجعة، أصله إذا أعطته مالاً على أن يخالعها ولم تشترط الرجعة، ولأن العوض إنما يبذل على إزالة العصمة وقطعها، وفي ثبوتها إبطال هذا المعنى. ووجه إثباتها أن البذل يكون ها هنا في نقصان عدد الطلاق بالشرط الذي أجابت عليه فخرج عن أن يكون خلعاً، وإذا خرج عن أن يكون خلعاً ثبتت الرجعة. ودليلنا على الشافعي في قوله إن الرجعة ثابتة والعوض غير مستحق، هو أن العوض إذا حصل في مقابلته معوض تصح المعاوضة عليه صح ولم يمتنع، وقد رضيت المرأة أن يكون العوض في مقابلته نقصان عدد الطلاق فخرج عن أن يكون خلعاً. [1316] مسألة: ولا يلحق المختلعة طلاق، خلافاً لأبي حنيفة في قوله إنها يلحقها ما دامت في العدة؛ لأنها فرقة لا يملك بها الرجعة

بحال فلم يصح ورود الطلاق على المرأة في هذه الحال، كالطلاق الثلاث واللعان، ولأنها مطلقة لا رجعة عليها كالمطلقة قبل الدخول، ولأن كل من لا يلحقها طلاقه إذا أوقعه بعوض، لم يلحقها بغير عوض كالمطلقة قبل الدخول، أو بعد انقضاء العدة، ولأن كل من لا يطلق باللفظ الذي يعم به النساء فكذلك لا يلحقها الطلاق مع التعين، أصله الأمة، ولأنها أجنبية منه بدليل انتفاء خصائص النكاح عنها كالإيلاء والظهار والنفقة بالزوجية، ولأن كل من طلقها بقوله: أنت خلية أو برية وحرام، لم يلحقها بأي لفظ كان فهي كالأجنبية. [1317] مسألة: إذا علق طلاقها بصفة مثل أن يقول: إذا دخلت الدار فأنت طالق، ثم بانت منه بخلع أو بطلاق رجعي، وخرجت من العدة، أو بما دون الثلاث، ثم تزوجها ووجدت الصفة في النكاح الثاني، فإن اليمين تعود عليه ما لم تبن بالثلاث، وللشافعي ثلاثة أقوال: أحدها مثل قولنا، والآخر أن النكاح المحلوف فيه إذا زال لم تعد اليمين، والثالث أنها تعود أبداً؛ فدليلنا أنها تعود في نكاح ثان إذا بانت بدون الثلاث أن الحالف إذا علق يمينه ولم تحصل الزوجة التي حلف عليها، فلو أبطلنا اليمين لزوال ملكه لكنا قد أحللناه بمقتضى يمينه، ولأنه إذا تزوجها ثانية عاد ما كان يملك من الطلاق الأول، فيجب أن يعود بصفاته، ومن صفاته أنه محلوف به، ولأن كل حال يملك فيها إيقاع طلاق الملك الذي حلف به تعلق بها حكم اليمين أصله إذا استدام النكاح الذي حلف به. [1318] فصل: ودليلنا على أن اليمين لا تعود بعد الطلاق الثلاث أن ما استحدث من الطلاق الثلاث في النكاح الثاني لم يكن في ملكه حال الطلاق ولا مضافاً إلى ملكه، فلم يثبت حكمه في النكاح الثاني، أصله إذا

قال لأجنبية إذا دخلت الدار فأنت طالق، ولأنها يمين بطلاق زال عن ملكه قبل وجود الصفة التي حنث بها زال حكمها اعتبارًا بموت المرأة، ولأنه طلاق لا يملكه حال العقد ولا علق اليمين بحصول الزوجية التي يملك حصولها فلم يحنث حال حصول ملكه، أصله إذا تزوج غير المحلوف بطلاقها ثم وجدت الصفة. [1319] مسألة: عقد الطلاق قبل النكاح يلزم إذا عين وخص، ولا يلزم إذا أطلق وعم، وقال أبو حنيفة يلزم في الموضعين، وقال الشافعي لا يلزم في الموضعين، فدليلنا على لزومه مع التعيين أنه أضاف الطلاق إلى حال يملك فيها ابتداء إيقاعه فصح ذلك اعتبارًا به إذا أضافه حال الملك، ولأن الاعتبار لا يخلو أن يكون بحال العقد، أو بحال وجود الصفة، أو بهما، ولا يصح الاعتبار بحال العقد، لأنه يوجب أن ينعقد الطلاق وإن كانت حال الإضافة لا يملك الإيقاع فيها، كقوله: إذا بنت مني فأنت طالق، لأنها لا يوجب إذا قال لامرأة عنده: إذا بنت مني وتزوجتك فأنت طالق، وعندهم أن ذلك لا يؤثر فلم يبق إلا الإعتبار حال وجود الصفة. [1320] مسألة: ودليلنا على أنه لا يلزم مع الإطلاق قوله تعالى: " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم "، ولأنه سد على نفسه طريق استباحة البضع فلم يلزمه، لأن في ذلك تعريض نفسه للزنا، وما أدى إلى ذلك ممنوع، أصله الحرة إذا عدم مهرها يجوز له أن يتزوج بأمة، لأته متى لم يبح له ذلك خاف العنت. [1321] مسألة: إذا قال لها: إن تزوجتك فأنت طالق، وتزوجها ودخل بها، فلها المهر المسمى، وقال أبو حنيفة لها مهر ونصف، فدليلنا أنه لا يخلو بهذا الوطء أن يكون زانياً أو واطئاً بشبهة العقد الأول، فلو كان زانياً لوجب عليه الحد، وذلك ليس بقول لأحد، لأن الحد والمهر لا يجتمعان عندهم، وإن كان واطئاً بشبهة العقد وجب أن لا يلزمه إلا مهر

واحد كسائر الأنكحة الفاسدة إذا وطىء فيها، ولأنه واطىء بشبهة عقد فلم يجب به مهر زائد على المسمى كالوطء في عدة طلاق رجعي، ولأنه عقد يعقبه وطء يستند إليه، فلم يجب به مهر ونصف اعتبارًا بالمهور كلها. [1322] مسألة: إذا خالعها بما لا يصلح أن يكون عوضًا كالخمر، والخنزير وقع الطلاق بائنًا، ولم يستحق عليها عوضًا، وقال أبو حنيفة يقع رجعياً ولا يستحق عوضًا، وقال الشافعي يصح الخلع، ويثبت عليها مهر المثل، ولا رجعة له. فدليلنا عليه أن الطلاق معنى يصح أن يوقع بغير بدل يفوت بنفس وقوعه ولا يمكن الفسخ فيه، فإذا وقع على ما لا يصح أن يكون بدلاً لم يستحق به بدلاً، أصله العتق، ولأنه إزالة ملك إلى غير مالك بما لا يصح المعاوضة عليه، فلم يستحق بها عوضًا، أصله كما لو قال لعبده إن جئتني بزق خمر فأنت حر، فجاءه به فإنه يعتق ولا يستحق عليه بدلاً، ولأن مهر المثل مقدار لم يقع التراضي عليه في الخلع فلم يلزم بفساد العوض فيه، أصله ما زاد على مهر المثل، ولأن كل معنى لم يجب في الخلع مع صحة العوض لم يجب مع فساده، أصله المهر المسمى، ولأن ثبوت البدل في الخلع لا يتعلق به حق الله تعالى، بدليل جواز التراضي على إسقاطه، فمتى صح العقد برضاه من غير بدل معلوم، صار كأنه طلق بلا عوض، ولأن وجوب مهر المثل لا يخلو أن يكون بدلاً عن العوض أو عن البضع، ولا يجوز أن يكون بدلاً عن العوض لأن كل بدل كان قائمًا يكون العوض قيمته لا غير، ومهر المثل ليس بقيمة للخمر، وإن كان بدلاً عن فوات البضع لا يصح، لأن خروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له، وتبنى المسألة على هذا الموضع وهو أن خروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له، فدليلنا عليه أن الذي يتلف به استباحته وتلك الاستباحة لا تقوم في حق مثلها كالمريض يطلق فلا يقوم البضع عليها في الثلث، فلو كان له قيمة لقوم عليها كما لو أعطاها شيئاً من ماله، ولأنها لو ارتدت بعد الدخول لم

يلزمها شيء للزوج، فلو كان لخروج بضعها عن ملكه قيمة لوجب أن تضمنها كما تضمن قيمة ما استهلكت، ولأن قاتلها لا يلزمه لزوجها قيمة البضع، فلو كان له قيمة لضمنها كسائر ماله. ودليلنا على أبي حنيفة أنه طلاق أوقعه على وجه الخلع فكان بائناً كما لو صح العوض. [1323] مسألة: إذا خالعها على أن تكفل له ولده مدة معلومة، فماتت قبل انقضائها، لم يرجع عليها بشيء، وفيه رواية أخرى أنه يرجع عليها، وللشافعي قولان. فوجه نفي الرجوع أن الخلع عقد على منفعة متعلقة بعين، فإذا فقدت العين لم يقم غيرها مقامها كما لو استأجر دابة بعينها فماتت، ولأن استيفاء المنفعة يتعلق بوجود العين فإذا تلفت فلا وجه للرجوع إلا أن يكون عن قيمة البضع، وقد بينا فساد ذلك. ووجه الرجوع أنها منفعة لها قيمة فإذا تلفت العين المتعلقة بها استحق قيمتها أو نقول: فلم يتلف الحق بتلفها كالدابة المعينة إذا ماتت. [1324] مسألة: إذا قالت له طلقني بألف درهم، أو على ألف درهم فذلك سواء، وقال أبو حنيفة في قوله: بألف، يستحق العوض، وعلى ألف، يكون الطلاق رجعيًا ولا شيء له، فدليلنا على أنهما سواء إذا قالت: اخلعني على ألف درهم، فمفهوم هذا كون الألف بدلاً وعوضًا في الخلع، فكان كقولها بألف، ولأنه لو قال لامرأتيه: أنتما طالقتان على ألف فقبلت إحداهما دون الأخرى طلقت، وكان عليها ما يصيبها من الألف، فدل على ما قلناه، ولأن لفظة "على" [في] العرف مستعمل على البدل، [مثل]

احمل لي هذا الطعام إلى منزلي على ألف فحمله، أنه يستحق الألف، كقوله احمل لي بألف. [1325] مسألة، فصل: إذا قالت له اخلعني بالطلاق الثلاث بألف أو على ألف، فطلقها واحدة، قال ابن المواز يكون خلعًا ويستحق جميع الألف، وعندي أنَّ النظر أن الخلع يقع ولا يستحق شيئاً من الألف، وقال الشافعي: يستحق ثلث الألف. فوجه قول ابن المواز أن الغرض بالخلع انقطاع العصمة، وذلك حاصل بما دون الثلاث وإذا كان كذلك استحق جميع الألف، كما لو طلق ثلاثاً. ووجه ما اخترناه أنها إذا قالت طلقني ثلاثاً بألف، فطلقها واحدة، لم يحصل غرضها، لأن غرضها زوال العصمة بجميع ما يملكه من الطلاق لا ببعضه، فإذا لم يحصل الغرض لم يستحق العوض، كما لو قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً فطلقت واحدة، لم يقع، لأنه لم يجعل إليها ذلك. فدليلنا على الشافعي أنه لم يحصل لها غرضها الذي بذلت العوض عليه، فلم يستحق شيئاً منه، كما لو ابتدأ فقال: أنت علي كظهر أمي، وأنت طالق واحدة رجعية. [1326] مسألة: يجوز عندنا الخلع على الغرر والمجهول، كالآبق، والشارد، والثمرة التي لم يبد صلاحها، وعبد لها لم يصفه، وبما في بطن الناقة والشاة، وبما تلد غنمها العام، أو تحمل ثمرتها، ويقع الطلاق بائناً وله المطالبة بذلك، فإن سلم أخذه وإلا فلا شيء له، وقال أبو حنيفة يجوز على الغرر والجنين، ولا يجوز على المعدوم مثل ما يحمل نخلها من ثمرة أو تلد ماشيتها، وقال الشافعي لا يصح إلا على ما يجوز أن يكون عوضاً في البيع والإجارة.

ودليلنا قوله تعالى: " فلا جناح عليهما فيما افتدت به "، ولأن الحمل والغرر يصح أن يملك بالوصية والهبة، فجاز أن يكون بدلاً في الخلع كسائر الأعيان، ولأن جهالة قدر الحمل وصفته ليس بأكثر من جهالة مهر المثل، وقد أجازاه، فخالفنا، ولأن الخلع طريقه طريق الهبة والصلة، بخلاف عقود المعاوضات فكأنه بذل لها الصداق ثم وهبت له غررًا مجهولاً. [1327] مسألة: يصح الخلع من الأجنبي للزوج، خلافًا لأبي ثور؛ لأن الأجنبي من أهل المعاوضات يصح منه البدل في غير الخلع، فصح في الخلع كالزوجة ولأنه لما كان للزوج أن يطلق بغير شيء كان له أن يطلق بعوض على أجنبي كالخلع. [1328] مسألة: وإذا خالعته المريضة بقدر ميراثه منها جاز، وقال ابن نافع عن مالك يجوز بالثلث كفه، وقال الشافعي إن خالعته بقدر مهر مثلها جاز، وكان من رأس المال، وإن كانت زيادة عليه كانت الزيادة في الثلث؛ فدليلنا عليه أن اعتبار مهر المثل في هذا الموضع لا معنى له، ولأنه ليس في معاملته ما يقوم به لما قد بيناه، لأن خروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له فيما تبذله المرأة في مقابلته، إنما هو فيما لا قيمة له، وذلك يكون في الثلث كالهبة. [1329] مسألة: إذا خالعها بعد الدخول ثم تزوجها في عدتها بصداق مسمى ثم طلقها قبل أن يدخل بها استحقت نصف ذلك المسمى، وقال أبو حنيفة لها جميعه؛ فدليلنا قوله تعالى: " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم "، ولأنه طلاق في نكاح لم تمس فيه فلم تستحق به كمال المهر، أصله المتزوج ابتداء.

[1330] مسألة: يجوز خلع الأب عن ولده الصغير، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأنه إخراج ملك عنه بالعوض فجاز إذا كان فيه الحظ كالبيع، ولأنه لما ملك إنكاحه ابتداء ملك إزالة النكاح عنه بعوض كالبيع، واعتبارًا بالصغيرة، ولأن المصلحة قد تكون له في ذلك، والأب غير متهم عليه. [1331] مسألة: خلع الأمة إذا كانت مأذونة جائز إذا كان خلع مثلها وكان حظاً، ويكون في مالها دون رقبتها، ودون مال السيد، وإن كانت غير مأذونة، فإن أجازه السيد جاز، وإن رده مضى الطلاق واسترد المال من الزوج ولم يتبعها الزوج بعد العتق، وقال أبو حنيفة يتبعها الزوج إذا عتقت، وإن أذن لها السيد لزمها وبيعت فيه؛ ودليلنا على أنه لا تتبع به إذا كان بغير إذن السيد أن للسيد إذا كان له فسخه عنها كان ذلك كحكم الحاكم يفسخه، كالعبد إذا نكح بغير إذن السيد ففسخه فإنَّ النكاح لا يلزم بعد عتقه، ولأن السيد يملك منع التصرف في ذمة عبده، كما يملك منعه التصرف في ماله، فإذا كان له فسخ العوض في مالها فكذلك في ذمتها؛ ودليلنا على أنه إذا كان بإذن السيد فلا تباع، أن المعاوضة إذا وقعت بمراضاة لم تقع في رقبة العبد كالبيع، ولأنه خلع على مال فلم يتعلق بمال غير من بذله كخلع الحرة، ولأن رقبة الأمة ملك السيد فلا تباع في خلع الزوج كسائر أموال السيد. [1332] مسألة: إذا قال خالعتك على ألفين، وقالت بألف، فإن كانت له بينة وإلا فيمينها، وقال الشافعي: يتحالفان ويكون عليها مهر المثل؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: " اليمين على المدعى عليه "، ولأن التحالف موضع الفسخ، وذلك لا يمكن في هذا الموضع، ولأن إيجاب مهر المثل يؤدي إلى أن يأخذ الزوج أكثر مما يدعي.

[1333] مسألة: إذا قال لها كنت قد خالعتك أمس بألف ولم تقبلي، وقالت كنت قد قبلت، فالقول قولها، وقال أبو حنيفة القول قول الزوج؛ فدليلنا أنه أقر لها بإيجاب في عقد معاوضة، فكان القول قولها في القبول، أصله لو قال كنت بعتك بالأمس عبدي بألف فلم تقبلي، وقالت كنت قبلت، كان القول قولها. ***

كتاب الطلاق

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الطلاق [1334] مسألة: الطلاق في الحيض محرم ويلزم إذا وقع، خلافاً لابن علية وبعض أهل الظاهر والرافضية؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنه أنه طلق امرأته حائضًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مره فليراجعها حتى تطهر"، والرجعة تتضمن نفوذ الطلاق، وفي حديث الليث بن سعد: " فإن كنت طلقتها ثلاثاً فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك " ولأن كل حال تصح الزوجية فيها يصح إيقاع الطلاق فيها كالطهر، ولأنه إزالة ملك مبني على التغليظ والسراية فليس يختص بزمان دون زمان كالعتق. [1335] مسألة: إذا طلق في الحيض طلاقاً رجعياً أجبر على

ارتجاعها، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار"، وطلاقها حال الحيض إضرارٌ بها لأنه يطول عليها العدة فيجب إزالته، ولا طريق إلى ذلك [إلا] بالارتجاع، وقوله صلى الله عليه وسلم: " مره فليراجعها " وهذا أمر، وهو على الوجوب، ولأن الرجعة إذا تعلقت بضرر كانت تابعة له في الثبوت والانتفاء، ألا ترى أن المعسر بالنفقة إذا طلق عليه فارتجع فإن مراجعتها معتبرة بيسره، فإن دام إعساره لم تصح، فإن في إثباتها إضرارًا بها، كذلك المولي، فإذا قد ثبت ذلك وجب في هذا الموضع إذا كان في منع الرجعة لخوف ضررٍ بها أن يزال بارتجاعها لزوال الضرر عنها. [1336] مسألة: والجمع بين الطلاق الثلاث في كلمة واحدة بدعة، ويلزم إن وقع، وقال الشافعي هو مباح ليس بممنوع، وقال بعض أهل الظاهر لا يقع أصلاً، وبعض المبتدعة يذهب إلى أنه يقع به واحدة. ودليلنا على أنه بدعة قوله تعالى: " فطلقوهن لعدتهن " الآية، فأمر بالطلاق للعدة، وقرنه بما دل به على أن المراد به الطلاق الرجعي، لقوله تعالى: " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا "، أي ندمًا، فيكون للمطلق طريق إلى تلافيه بالارتجاع، ثم وصفه بما يقتضي الإثم، وهو قوله تعالى: " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " فدل على ما قلناه؛

وحديث الحسن عن ابن عمر أنه قال: يا رسول الله أرأيت لو أطلقها ثلاثاً؟ قال: " إذا بانت منك، وعصيت ربك "، وحديث محمود بن لبيد الأنصاري قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جمعًا، فقام غضباناً فقال: " تلاعبٌ بكتاب الله وأنا بين أظهركم " وهذا كالنص، ولأنه بين هذا الغضب لهذا الفعل الذي هو الجمع بين الثلاث في كلمة واحدة، ولأنه سبب يحرم البضع بفعله من غير حاجة فوجب كونه ممنوعًا، أصله الظهار، ولأن الجمع بين الثلاث يتعلق به الندم في الغالب، وله مندوحة عنه فكان المنع متعلقاً به كالطلاق في الطهر الذي تمسُّ فيه، ولأن الطلاق يتضمن وقتاً وعددًا، فإذا جاز أن يؤثر المنع في الوقت لحق المرأة، وهو أنه يطول عليها فمنع من ذلك ليزيل الضرر عنها، جاز أن يؤثر في العدد لحق الزوج، وهو الندم الذي يلحقه ليزول الضرر برفعه. [1337] فصل: ودليلنا على لزومه قوله تعالى: " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا "، يعني الندم الذي يمكن تلافيه بالرجعة، فأمرنا أن نطلق ما نملك معه الرجعة لئلا يلحقنا ندم عليه، فلا يكون لنا سبيل إلى تلافيه، فلولا أنه يقع إذا أوقعناه على هذا الوجه وإلا لم يكن لهذا القول معنى، لأن ما يحدث يمكن تلافيه بالرجعة على قول من يقول يقع واحدة،

أو لا يؤثر على قول من يقول لا يقع جملة، ولقوله تعالى: " وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقذ ظلم نفسه " وهذا موضوعه الزجر عن الفعل والردع عنه، فلولا أنه واقع وإلا لم يصفه بأنه ظالم نفسه لأنه كان يكون لغوًا، واللاغي لا يقال له ذلك، وحديث ركانة أنه طلق امرأته البتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما نويت؟ " فقال له: واحدة، فقال: " الله " قال: الله، قال: " هو ما نويت " فلو كان ما زاد عليها غير واقع لم يكن لإحلافه معنى، وحديث الحسن عن ابن عمر، وقد ذكرناه أنه طلق امرأته فقال: يا رسول الله أرأيت لو أني طلقتها ثلاثاً أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: " لا، كانت تبين منك وتكون معصية "، وهذا نص، وروى ابن المسيب أن رجلاً من أسلم طلق امرأته ثلاثاً جمعًا، فقيل له: إن لك عليها رجعة، فدخلت امرأته على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته أنه طلقها ثلاثاً في كلمة واحدة، فقال: " قد بنت منه، ولا ميراث بينكما "، ولأن كل ملك يزول بإزالته مفترقاً فإنه يزول بإزالته مجتمعًا، أصله إعتاق العبيد، ولأن الزوج يملك بالعقد الطلاق الثلاث فلا يخلو أن يكون ملك إيقاعها متفرقة، أو مجتمعة، أو كيف شاء من جمع أو تفريق، فلو كان لا يملك إلا مفترقاً لم يجز أن يملك غير المدخول بها لامتناع تفريق الثلاث عليها في العقد الواحد، فدل أنه ملكه مجتمعاً ومفترقاً، ولأن الطلاق تابع للنكاح بدليل أنه لا يثبت حكمه قبل وجوده، وقد ثبت جواز العقد على أربع نسوة بعقد واحد، وعقود متفرقة، وكذلك يجب إيقاع الثلاث بلفظ واحد وبثلاثة ألفاظ؛ ودليلنا

على أنه يقع للجميع ما ذكرناه، ولأن كل من لزمه حكم الثلاث متفرقات لزمه حكمها مجتمعات كالمطلق ثلاث نسوة بلفظ واحد. [1338] مسألة: طلاق السنة واحدة، ولا يطلق في كل طهر [أكثر من] طلقة، فإن فعل فالأولى للسنة، والأخريان للبدعة، وقال أبو حنيفة طلاق السنة أن يطلق ثلاثاً، في كل طهر طلقة قبل الجماع؛ فدليلنا قوله تعالى: " فطلقوهن لعدتهن " وذلك يوجب أن يطلق طلاقاً يوجب عدة في حال تعتد منه، وهذا الطلاق الثاني والثالث لا يوجب عدة فكان موقعًا على خلاف المأمور به، ولأنه تعالى قال عقيبه: " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا .. فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف "، وذلك يفيد ما دون الثلاث، لأن الثلاث لا رجعة فيها، ولا يمكن تلافيها، ولأنه أردف طلاقاً من غير ارتجاع فلم يكن للسنة، أصله إذا طلق في الطهر الواحد ثلاثاً، ولأنه طلاق لمدخول بها لا يوجب عدة فلم يكن للسنة، أصله ما ذكرناه، ولأنَّ المعنى الذي له لا يمكنه تلافيه بالرجعة، وهذا موجود في المطلق ثلاثاً في كل طهر تطليقة، لأن تفريقه لا يخرجه عن الندم. [1339] مسألة: اليائسة والصغيرة المدخول بهما يطلقهما أي وقت شاء، وقال زفر إذا دخل بهما فلا يطلقهما حتى يفصل بين الجماع والطلاق بشهر؛ فدليلنا قوله تعالى: " فطلقوهن لعدتهن "، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: " ليطلقها طاهرًا من غير جماع، أو حاملاً قد استبان حملها "، فأباح طلاق الحامل لظهور الحمل، وذلك يقتضي أنه إذا جامعها وحملها

ظاهر فله أن يطلقها عقيب الجماع واحدة لا يفصل بين الحامل والحائل في ذلك، ونقيس عليها فنقول: لأنها ممن تعتد عقيب الجماع وتعرف عدتها، فجاز طلاقها في تلك الحال كالحائل، ولأنه فصل لا يستفاد به السلامة من طلاق في طهر جومع فيه أو لا يستفاد منه معرفة جنس العدة فلم يحتج إليه، أصله ما زاد على الشهر. [1340] مسألة: إذا طلق واحدة للسنة، ثم ارتجعها، ثم أراد أن يطلقها في ذلك الطهر، فذلك له إذا لم يقصد الإضرار بها، وقال أبو يوسف ليس له ذلك، فدليلنا قوله تعالى: " فطلقوهن لعدتهن "، ولأنه طلاق يوجب عدة غير ملتبسة في طهر لزوجة كالمبتدأة. [1341] مسألة: إذا طلقها حائضًا، فراجعها، فطهرت، لم يطلقها حتى تحيض ثم تطهر، وحكى الكرخي عن أبي حنيفة أن له أن يطلقها في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلقت فيه؛ فدليلنا قوله عليه السلام: " مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء طلّق، وإن شاء أمسك ". [1342] مسألة: إذا كانت له أربع نسوة فقالت له إحداهن: طلقني، فقال كل امرأة لي طالق، أو قال كل نسائه طوالق، فأطلق ذلك، طلقت السائلة وغيرها إلا أن يعلم من قصده أنه أراد غير السائلة، وحكى الأسفراييني عنا أن السائلة لا تطلق ويطلق من سواها، وأخطأ علينا في ذلك كعادته فيما يحكيه عنا وعن غيرنا، فنقول الآن قوله: نساؤه طوالق لفظ عام يتناول جميع نسائه، فوجب حمله على عمومه، أصله إذا قاله ابتداء.

[1343] مسألة: إذا قال لها أنت طالق، ونوى ثلاثاً، كانت ثلاثاً، خلافاً لأبي حنيفة في قوله تكون واحدة؛ لأنها صيغة محتملة للعدد قابلة له، واللفظ إذا احتمل شيئاً فنوى به قُبِل من ناويه اعتبارًا بقوله أنت الطلاق، ولأنَّ قوله أنت طالق نعت اسم الفاعل من طلقت، فهي طالق، فهو كقولك: زيد ضارب وقاتل، ومعلوم أن ذلك يصحُّ للواحد والاثنين والثلاثة، فكذلك طالق، ولأن المطلّقة ثلاثاً تشارك المطلّقة واحدة في الوصف لها بأنها طالق، وإذا كان الاسم مستعملاً فيها فدلَّ على قبوله بعدد طلاقها، ولأن قوله: أنت طالق، نعت لمصدر محذوف تقديره أنت طالق طلاقاً، وذلك المصدر قابل للعدد باتفاقنا، وإظهاره كتركه، لأنه معلوم من اللفظ، فإذا كان المصدر قابلاً للعدد جاز أن يوصف نعتاً بما يصحّ أن يقبله لو أظهره، ولأن الاتفاق حاصل على أنه إذا قال: أنت طالق ثلاثاً طلقت ثلاثاً، وليس يخلو قولنا ثلاثاً من أن يكون تفسيرًا، أو بياناً لما أبهم من عدد قوله: أنت طالق، أو كلاماً مبتدأ، أو أن يكون لمجموعهما صيغة مبنية لإفادة الطلاق الثلاث؛ فإن كان تفسيرًا فذلك ما نقوله، لأنّه لو لم يحتمله لم يكن مفسّرًا له؛ وإن كان مبتدأ فذلك باطل، لأنه لو كان مبتدأ لامتنع إيقاعه على التي لم يدخل بها، لأنه يرد عليه بعد البينونة، ولأنه نصب على التمييز كقوله: عشرون درهمًا، ولأنه ليس بمستقل بنفسه فلم يكن مبتدأ، أو لأنه يوجب إذا قال أنت طالق اثنتين أن يطلق ثلاثاً، وكل ذلك يبطل أن يكون مبتدأ؛ وإذا كان لمجموعه صيغة مبنية فذلك شاهد لنا، لأن اسم الصيغة إذا صحّ بيان العدد المراد به قوله: أنت بائن لفظاً، صحّ

بيانه فيه كقوله: أنت بائن وأنت الطلاق، ولأنّ كل لفظ ملك الطلاق لو صرح فيه بالثلاث لصح استعماله فيه، فكذلك إذا أراد به أصله أنت بائن وأنت الطلاق ولأن كل لفظ ملكت المرأة به إيقاع الثلاث إذا جعل إليها فإن الزوج يملكه، أصله أنت الطلاق، ولأن كل منحصر يملك إيقاع الثلاث بالصريح ملكه بقوله أنت طالق البتة، أصله المرأة إذا وكلها الزوج. [1344] مسألة: قد أكثر أصحاب الشافعي من ذكر الطلاق، وكنايته، ويرجعون في معنى الصريح أنه ما لا يحتاج في وقوع الطلاق به إلى نية، وأنّ الكناية ما لا يقع الطلاق به إلا بنية، وهذا إذا كان مراعى في أنه في معنى الصريح والكناية في اللغة؛ وفائدة الفرق بينهما في الاسم كلمناهم فيه، ولكن لا يتعلّق بالحكم وإن كان الغرض ما يفتقر من الألفاظ إلى نية، وما لا يفتقر إليها حصل الكلام في أعيان المسائل، إلا أنا نتكلم على ما أوردوه، فعندنا أن صريح الطلاق ما يتضمّن لفظ الطلاق إما بالإيقاع كقوله: أنت طالق، وبالإخبار عن فعل، مثل قوله: قد طلقتك، أو بوصفه بأنّها مفعولة بها كقوله: أنت مطلّقة، أو بوصفها بالمصدر كقوله أنت الطلاق، أو ما يتضمّن صريح الطلاق نطقاً، وما عداه كناية، مثل قوله فارقتك، وسرحتك، وبائن، وخلية، وبرية، وما أشبه ذلك، ومن أصحابنا من يقول كل هذا صريح، ويدخل معهم في أنّ الفرق بين الصريح والكناية ما يدّعونه، وهذا أقلّه علم باللغة وفوائد الكلام. وأصحاب الشافعي يزعمون أن الصريح من الألفاظ ثلاثة، وما عداهن

كناية، فالصريح عندهم: الطلاق، والفراق، والسراح، والكلام معهم في موضعين: أحدهما معنى الصريح والكناية، و [الثاني] هذه الألفاظ تفتقر إلى نية أو لا تفتقر إليها. ودليلنا على الفصل الأول، أن الصريح ما دل على معناه بنفسه، ولم يحسن أن يستفسر عنه بلفظه، والكناية ما يحسن ذلك فيه، وتبيين ذلك أن قوله: معي درهم، صريح في الدراهم، ولا يحسن أن يستفسر عنه هل أراد به الدراهم أم لا، لأنه صريح فيه، ولو قال معي شيء أو مال أو ما ينفق أو شيء منقوش، لحسن أن يقال هل هو درهم أو غيره، لأنّ ذلك كناية، وليس بصريح، ثم وجدنا قوله: أنت طالق، من هذا القبيل، أنه لا يحسن أن يقال: أيُّ شيء أردت بقولك أنت طالق، على أن يستفسر على جنس الشيء الموقع دون عدده، ولو قال قد فارقتك لحسن أن يقال أي فرقة أردت، وهل أردت فرقة الطلاق، أو فرقة عن شركة بينهما، أو فرقة المحاسبة، أو غير ذلك فصحّ ما قلناه. ودليلنا على الفصل الآخر، وهو قوله: قد فارقتك وسرّحتك، يفتقر إلى نية لأنّها كناية، أن كل لفظ يحسن أن يفسر بغير نطقه صلح أن يكون كناية عمّا يفسّر به، أصله قوله: أنت خلية أو برية، ولأنّه لفظ فرقة من غير نطقه عن الطلاق فكان كناية، أصله قوله: خليتك، ولأنه لفظ مستعمل في الطلاق وغيره من غير اختصاص فلم يكن صريحًا، أصله قوله: أنت خلية أو برية. [1345] فصل: والكنايات الظاهرة مثل قوله: أنت خلية، وبرية، وحرام وبائن، وما أشبه ذلك، فإذا قال لها مبتدئاً أو مجيباً لها عن مسألتها إياه الطلاق، يكون طلاقاً ولا يقبل منه إن قال لم أرد به، وقال الشافعي: القول قوله في الموضعين؛ فدليلنا أن العرف جار بأن الناس يطلقون بهذه الكنايات كما يطلقون بالصريح، وعرف اللّغة والشرع جار بذلك، فإذا قال

ذلك ابتداء فيجب أن يحمل على ما جرى به عرف الشرع، وظاهر المراد بهما، وكذلك إذا قال مجيباً عن مسألتها إياه الطلاق. [1346] فصل: إذا نوى بشيء من هذه الكنايات الظاهرة أنت خلية، وبرية، وبتة، وبائن، وحرام، أنه أراد بها دون الثلاث لم يقبل منه في المدخول بها إلا أن يكون في خلع، ويقبل في غير المدخول بها إن ادعاه إلا في البتة فاختلف قوله فيها، وعند الشافعي أنه يقبل منه كل ما يدعيه في ذلك من أصل الطلاق وأعداده؛ فدليلنا أن قوله: أنت حرام، أو بائن، وبتلة، وبتة، وخلية، وبرية إيقاع طلاق يتضمن هذه الصفات، فكأنه قال: أنت طالق طلاقاً تبين به مني وبتت العصمة بيني وبينك، وتخلو به من زوجك، ويتبرأ به أحدهما من الآخر وهذا لا يكون في المدخول بها إلا ثلاثاً، فإذا ادعى أنه أراد دون الثلاث كان رجوعًا فيما أوقع فلم يقبل منه. [1347] فصل: إذا قال: اعتدّي، وقال نويت ثلاثاً، قبل منه، وقال أبو حنيفة لا يكون إلا واحدة؛ فدليلنا أنه لفظ كناية عن الطلاق يصلح أن يكون عبارة عما أخبر أنه أراد به، فوجب صرفه إلى ما ذكرناه. [1348] مسألة: إذا قال: أنا طالق منك، كان طلاقاً، وقال أبو حنيفة لا يكون طلاقاً؛ فدليلنا أن كل لفظ استعمل في الطلاق مضافاً إلى الزوجة كان طلاقاً، فكذلك إذا أضافه الزوج إلى نفسه، أصله قوله: أنا منك بائن، وأنا عليك حرام. [1349] مسألة: إذا قال أنت مطلقة، كان صريحاً في الطلاق، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنه إخبار عن وقوع الطلاق عليها، كقوله: قد طلقتك. [1350] مسألة: إذا كتب الطلاق بيده وأراد به الطلاق، كان طلاقاً، وقال الشافعي في أحد قوليه لا يكون طلاقاً فدليلنا أن الكتابة مواضعة يعتبر

بها عما في القلب، فجاز أن يقع بها الطلاق كاللفظ، ولأنها حروف تنبني على المراد، ولأنه عمل جارحة يفهم منه الطلاق كالنطق، ولأن الكتابة تسمى كلاماً في حق الغائب، ولأنه لو حلف: لا أكلمه، فكتب إليه حنث، وكذلك إشارة الأخرس بيان له. [1351] فصل: إذا طلق من غير لفظ ولا عمل جارحة، ففيها روايتان: إحداهما أنه لا يقع طلاقاً، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، والصحيح أن الطلاق يقع؛ ودليلنا عليه أن الطلاق فراق يفتقر إلى قصد القلب وانطوائه به عليه، وحد النطق به الإخبار عن وقوعه، فوجب إذا عدم ذلك ألا يؤثر كالإيمان والكفر، ولأنّا وجدنا الاعتقاد بمجرده له تأثير في تحريم الزوجة وفرقة الزوجية بدليل الكفر. وتحرير علة أصحابنا أن نقول لأن تحريم الزوجية معنى يتعلق به حق الله تعالى على التجريد، [ليس] للفظه تأثير في وقوع البينونة، فأشبه اعتقاد الكفر. [1352] مسألة: لفظ الطلاق كناية في العتق، وكذلك كل لفظ صح مع استعماله في الطلاق فصح استعماله في العتق، وقال أبو حنيفة لا يصح استعمال شيء من ألفاظ الطلاق في العتق إلا قوله: لا سلطان لي عليك، ولا ملك لي عليك؛ فدليلنا أن كل لفظة صح استعمالها في الطلاق صح استعمالها في العتق، كقوله: لا سلطان لي عليك ولا ملك، ولأن الطلاق لفظ مبني على التغليب والسراية فجاز أن يكون في العتق كناية، دليله لفظ العتق في كنايته عن الطلاق. [1353] مسألة: إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق ثلاثاً، طلقت ثلاثاً، خلافاً لابن علية في قوله لا تطلق إلا واحدة؛ لحديث ابن عمر أنه قال: يا رسول الله، أرأيت لو كنت طلقتها ثلاثاً، قال: " كانت تبين منك

وتكون معصية "، ولم يفصل، ولأنها حال زوجية كبعد الدخول، ولأن قوله "ثلاثاً" تفسير لمراده بقوله: أنت طالق، بدليل أنه لو اقتصر على قوله أنت طالق، وقال: أردت به الثلاث لقبل منه، وإذا كان كذلك وجب وقوعه. [1354] مسألة: إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، بألفاظ متناسقة، طلقت ثلاثاً، وقال أبو حنيفة والشافعي يقع واحدة، فدليلنا أن كل زوج ملك إيقاع الطلاق ثلاثاً عليها بلفظ واحد صح أن يوقعه بثلاثة ألفاظ متناسقة، كالمدخول بها، ولأن التناسق في حكم المجموع بلفظ واحد أن يوقعه بثلاثة ألفاظ متناسقة، والله أعلم. [1355] مسألة: طلاق المكره غير واقع، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا طلاق في إغلاق " وقال أبو عبيد: الإغلاق الإكراه، ولأنه لفظ حمل عليه بغير حق فلم يلزم به طلاق، أصله إذا أكره على الإقرار بالطلاق، وهذه عبارة أصحابنا، وأسد منها عندي أن يقال: لأنه لفظ لو عري من الإكراه للزم به الطلاق، فإذا وجد مع الإكراه لم يلزم به، أصله لفظ الإقرار بالطلاق ولأن كل حال لم يثبت معها حكم الإقرار بالطلاق لم يثبث معها حكم إيقاعه كالصغير والمجنون، ولأنه معنى يؤثر في البينونة، فإذا وجد التلفظ مع الإكراه لم يكن له حكم، أصله الإرتداد، ولأن كل عقد ينفي الإكراه لزوم الإقرار به، كذلك ينفي لزوم إنشائه كالبيع.

[1356] مسألة: طلاق السكران واقع، خلافاً للمزني وبعض أصحاب أبي حنيفة وداود؛ لأن أحكام المكلف متعلقة بأفعاله التي توجب أحكاماً عليه بدليل أنه يحد إذا زنا أو قذف أو شرب، فإذا ثبتت هذه الجملة قلنا: كل من يحد إذا وجد لفظ القذف منه فإن طلاقه واقع كالصاحي، ولأن كل حال لا يمنع حد القذف فلا يمنع نفوذ الطلاق كالصحو، ولأن كل حال لو ترك الصلاة فيها لزمه قضاؤها مع الإثم، فكذلك إذا طلق بمحل الصحو. [1357] مسألة: إذا طلق إلى أجل آت لا محالة كمجيء السنة والشهر، وقع الطلاق منجزًا، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يقع إلا عند مجيء الأجل، فدليلنا أن كل توقيت لإباحة الوطء بأجل لا بد أن يأتي فإن الاستباحة تنتفي معه كالنكاح في المتعة. [1358] مسألة: إذا قال: يدك أو رجلك أو شعرك طالق، طلقت، وقال أبو حنيفة لا تطلق إلأ أن يذكر عضوًا يعبر عن جملة البدن كالرأس والفرج؛ فدليلنا أنه عضو أو بعض من بدنها كالرأس والفرج، ولأنه مطلق لبعضها فوجب أن يسري إلى الجملة كالجزء الشائع. [1359] مسألة: إذا طلق بعضها طلقت، خلافاً لداود؛ لأنه مكلف تلفظ الطلاق لزوجته، فثبت حكمه، أصله إذا أضافه إلى جملتها أو النصف. [1360] مسألة: إذا قال: أنت طالق نصف تطليقة، طلقت تطليقة واحدة كاملة؛ لأنه تلفظ بنصف ما لا ينتصف مما ينبني على التغليب، فاقتضى التكميل كالعتق إذا قال: أنت حر نصف عمرك. [1361] مسألة: الاستثناء بمشيئة الله عز وجل في الطلاق لا تؤثر، وكذلك اشتراطها، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ فدليلنا على أن الاستثناء بها لا يؤثر قوله صلى الله عليه وسلم: " من حلف بالله ثم استثنى رجع غير حالف "، فقصر

ذلك على اليمين بالله، فدل على أن غيرها بخلافها، ولأن الاستثناء في حال المستقبل المترقب دون الماضي، لأنه حل عقد، والعقد لا يتناول الماضي، فإذا ثبت ذلك وكان قوله: أنت طالق، لفظ إيجاب وإيقاع، سواء أفرد أو علق بشرط، امتنع دخول الاستثناء عليه، لأنه لا مجال له في رفع ما قد وقع ووجب على ما بينا، ولأنه معنى يرفع حكم اليمين فلم يكن له تأثير في رفع الطلاق كالكفارة، ولأنه أضعف من الكفارة لأن كل يمين دخلها الاستثناء صح أن تدخلها الكفارة، وقد تدخل الكفارة فيما لا يدخله الاستثناء، ولأنه استثناء وقع جميعه في الحال والمال، كقوله: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلثاً. ودليلنا على أن اشتراطه لا يؤثر أنه لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون لنا طريق إلى العلم بوقوعه، أو لا طريق لنا إلى العلم به، فإن كان لنا طريق إلى العلم به، فيجب وقوف الحكم على وجوده، ومن قولهم أنه لا يقف أصلاً بل نقطع على انتفاء حكم اللفظ من غير تثبيت ولا ترقب، فإن اللفظ كأنه لم يكن، ولأن الاعتبار في حصول مشيئة الله عز وجل في أفعال عباده ووقوعها، لأن ما شاءه منها كان وما لم يشأه لم

يكن، وإن كان لا طريق لنا إلى العلم بوقوعه وجب تنجز الطلاق، لأن تعليق الطلاق بما لا يعلم وقوعه من الشروط هزل، كقوله: أنت طالق إن كان الله تعالى خلق اليوم في السماء الرابعة ملك بألف جناح، أو في قعر بحر القلزم حوت طوله ألف ذراع، أو ما أشبه ذلك من والهزل. [1362] مسألة: المريض المخوف عليه الذي لا يحتاج إلى استمتاع لا يجوز نكاحه، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأنه محجور عليه أن يخرج ماله على غير معاوضة فيما لا حاجة به إليه لحق الورثة، والنكاح يتضمن إخراج المال بالمهر والنفقة، ولأن كونه محجورًا عليه لحق الورثة يقتضي منعه أن يدخل عليهم وارثاً لأنه إخراجٌ لهم من بعض الميراث، ولأن كل ما يتعلق بإخراج الوارث عن الميراث فلا يجوز في المرض، أصله الطلاق، وهذا التعليل يمنع الميراث مع أبي حنيفة. [1363] مسألة: المطلقة المبتوتة في المرض ترث عندنا، وقال الشافعي لا ترث؛ فدليلنا إجماع الصحابة، لأنه مذهب عمر، وعثمان، وعلي،

وأبي بن كعب، وابن الزبير، ولا مخالف لهم، ولأنه قد حجر عليه لحق ورثته، فلم يملك إخراجهم من الميراث، لأنه لو ملك ذلك لم يوقع الحجر عليه من أجلهم شيئاً، لأن ذلك يناقض استحقاق الحجر عليه، ولأنها فرقة في حال الغير يصرفه فيها من الثلث فلم تقطع الإرث، أصله الفرقة بالموت، ولأن التهمة معنى معتبر في باب الميراث ومنع ما قصدت به بدليل منع قاتل العمد من الميراث، والمطلق في المرض متهم باأنه قصد إخراجها من الميراث فعوقب بمنعه مما قصده. [1364] فصل: لا فرق بين أن يكون الطلاق قبل الدخول أو بعده، ولا بين بقاء العدة وزوالها، ولا فرق بين أن تتزوج أو لا تتزوج، وقال أبو حنيفة لا ترث المطلقة قبل الدخول ولا بعد العدة في المدخول بها، وقال الشافعي في بعض أقاويله ترث وإن خرجت من العدة ما لم تتزوج. فدليلنا على أبي حنيفة أنها مطلقة في المرض ثبت لها حق الحجر عليه، فإذا مات من مرضه ذلك ورثته مع سلامة الحال، أصله إذا مات في العدة، ولأن الطلاق صادف سبب الإرث وهو ثبوت الحجر عليه من أجلها فخروجها من العدة بعد وجوبه لها لا يسقط كما لو مات ثم ارتدت، ولأن توريثها إنما ثبت عقوبة له لقصده الفرار منه فلم يتعلق ذلك بالعدة حسماً للباب. [1365] فصل: ودليلنا على أنها ترث وإن تزوجت، خلافاً للشافعي، لأن الميراث إذا وجب لها بإخراجه إياها منه وثبوت حقها بالحجر عليه،

وهذا موجود مع تزويجها، فلم يكن لاعتبار التزويج معنى كما لم يكن في اعتبار العدة معنى. [1366] فصل: إذا صح من مرضه ثم مات فلا ترثه، خلافاً لزفر في قوله ترثه ما كانت في العدة؛ لأنه إذا صح فقد زال الحجر عنه، وصار كمن طلق في الصحة ثم مرض فمات، ولأن المرض الذي لا يتصل بالموت جار مجرى الصحة يدل عليه أن ما تصرف فيه مما كان موقوفاً على الثلث ينفذ مع الصحة فكان كالمطلق في الصحة فيمرض ثم يموت في العدة فلا ترث، ولأنها قد أتت عليها حال قطعت إرثها، وهي حال صحة المطلق فلم يعد إرثها من بعد، كما لو ارتدت في العدة، ثم أسلمت فإنها لا ترثه. [1367] مسألة، فصل: وإن سألته الطلاق وهو مريض فطفلها ورثته، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن عثمان ورث امرأة عبد الرحمن بن عوف لما طلقها في المرض، وقد سألته، ولأنه لما ثبت وجوب الميراث بالطلاق في المرض لأجل التهمة بإخراجها من الميراث، فلم يفترق الحكم بين إذنها وعدمه، لأن الإذن في باب سقوط الميراث غير معتبر، بدليل أن الوارث لو قال لست أحتاز له إرثاً لم يلتفت إلى قوله وورث، ولأن الإنسان قد يضيق على زوجته حتى تسأله الخلع، فحسم الباب بتوريثها في المرض على كل وجه، ولأنها مطلقة في المرض كالتي لم تسأل. [1368] مسألة: إذا قال طلقي نفسك ثلاثاً فطلقت واحدة لم يقع، خلافاً للشافعي؛ لأنها أوقعت غير ما جعل إليها فلم يقع، كالوكيل إذا وكل في شيء ففعل غيره. [1369] مسألة: إذا قال لها طلقي نفسك واحدة فطلقت ثلاثاً، وقعت

واحدة؛ لأنها فعلت ما أذن لها فيه كما لو اقتصرت فيه، والزيادة لغو، وحكى الأسفرائيني عنا أنا نقول لا يقع شيء، وهذه عادته في التحريف على الناس. [1370] مسألة: إذا تيقن الطلاق وشك لم يعلم كم أوقع منه، وقال أنت طالق وشك في مراده من العدد، فإن لم يتحقق كان ثلاثاً، وقال أبو حنيفة والشافعي يكون واحدة؛ فدليلنا أنه قد تيقن التحريم وشك هل ترفعه الرجعة أم لا، فحصل شاكاً في هذه العين هل يمكنه أن يرفع أو لا يمكن، فيجب مع تيقن التحريم ثم تغليب حكم الأعلى من التحريمين، أصله إذا شك في إحدى امرأتين أيتهما أخته من الرضاعة مع تحقيقه ذلك في إحداهما، لأن التحريم مغلب في الأحوال، مثل أن يشك في شاة أنها مذكاة أو ذبح مجوسي، ولأن هذا مبني على أنه إذا طلق واحدة من نسائه وشكَّ في عينها أنه يحكم بجميع طلاقهن، فنقول: لأنه نوع من المقصود باللفظ بالطلاق فوجب إذا شك في عدده أو في عين مراده أن يحكم بإرادته بجميعه، أصله إذا طلق واحدة من نسائه وشك في عينها، ولأنه شك في أحد مقصودي اللفظ هل أراد به بعضه أو كله، فيجب أن يحكم بأنه أراد جميعه، أصله إذا قال لزوجاته وهن أربع أنتن طوالق، وشك هل أراد الأربع أو ثلاثاً منهن. [1371] مسألة: الطلاق معتبر بالرجال دون النساء، فالعبد يطلق اثنتين، كانت زوجته أمة أو حرة، وقال أبو حنيفة الطلاق معتبر بالنساء، فالحرة تطلق ثلاثاً كان زوجها حرًا أو عبدًا، وطلاق الأمة طلقتان كان زوجها حرًا أو عبدًا؛ فدليلنا أنه معنى ذو عدد فكان كماله ونقصانه معتبرًا بمن يفعله أو بمن يضاف إليه فعله، أصله العدة، وإن خفت أن يدخل عليه القسم في إحدى الروايتين زدت في العدة يقع به البينونة، وعبارة أخرى أنه

معنى ذو عدد ثلاث ينقصه الرق إلى اثنين، فكان اعتبار كماله ونقصانه بمن يفعله من الزوجين كالعدة، ولأن الطلاق ملك للزوج وكمال الملك ونقصانه معتبر بالملك لا بغيره، ولأنه ذو عدد يختلف بالرق والحرية في الكمال والنقصان فوجب أن يكون الاعتبار في كماله ونقصانه بحال من يؤخذ به كالحدود. [1372] مسألة: إذا قال لها اختاريني أو اختاري نفسك، فقالت اخترتك لم تطلق، وهي زوجته كما كانت، وروي عن بعض الصحابة أنه قال: إذا اختارت زوجها تكون واحدة رجعية، فدليلنا ما روي عن عائشة قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم نعده طلاقاً، ولأن فائدة هذا القول أن اختيارها لنفسها ضد اختيارها له، فإذا كان اختيارها لنفسها يكون فراقاً كان اختيارها له اختيار الإقامة معه. [1373] مسألة: إذا قالت اخترت نفسي وقالت: أردت واحدة أو اثنتين، فإن كانت مدخولاً بها لم يقبل قولها، وكانت ثلاثاً، وإن كانت غير مدخول بها قبل منها إن ادعته، وقال أبو حنيفة اختيارها نفسها واحدة بائنة، وقال الشافعي إن قالت اخترت نفسي إذا كان في مقابلة قوله: اختاري، كان موضوعاً للفراق فلا معتبر بإرادتها؛ لأن هذا القول لما فهم منه الفرقة وجب أن يكون في إحدى الجهتين فرقة، ولا تقف على أن تكون تنوي هي الفرقة كخيار المعتقة؛ ودليلنا على أبي حنيفة أن اختيار النفس إذا أطلق اقتضى ظاهره أن لا يكون له عليها سبيل ولا يملك منها شيئاً بوجه، وأنه قد جعل لها أن تخرج عنه ما يملكه منها أو يقيم معها فإذا أخرجت البعض لم يكن هو الذي أراده، وكانت كمن جعل له أن يختار شيئاً فاختار غيره، ولأن من أصلنا أن البينونة لا تقع إلا بالواحدة في المدخول بها إلا بالخلع.

[1374] مسألة: إذا ملكها وقال: أمرك بيدك، فقالت: طلقت نفسي واحدة، كانت رجعية وإن كانت مدخولاً بها، وقال أبو حنيفة تكون واحدة بائنة؛ ودليلنا أنه ملكها إيقاع الطلاق على حد ما كان هو يملكه، فلما كان لو أوقع الواحدة لوقعت رجعية فكذلك إيقاعها بالتمليك، ويفارق الخيار لأنه يقتضي قطع العصمة، والتمليك لا يقتضي ذلك. [1375] مسألة: إذا قال: لست لي بامرأة، وأراد الطلاق، كان طلاقاً، وكذلك قوله: والله ما أنت لي بامرأة، وقال أبو حنيفة في الأولى مثل قولنا، وفي الثانية أنه لا يكون طلاقاً، وقال أبو يوسف في الكل: ليس بطلاق؛ فدليلنا أن قوله: لست لي بامرأة، يحتمل أن يكون، لأنه قد طلقها فإذا أراد به الطلاق كان على ما أراد، وجرى مجرى قوله: لا نكاح بيني وبينك ولا خلاف بيننا أنه يكون طلاقاً إذا أراد به الطلاق. [1376] مسألة: الزوج لا يهدم ما دون الثلاث، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله تعالى: " الطلاق مرتان " ثم قال: " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره "، فأخبرنا أن الطلقة الثالثة تحرم رجوعها إليه إلا بعد زوج، ولم يفرق أن يكون تخلل الثلاث تطليقات إصابة زوج أو لم يتخللها، ولأن كل إصابة لم تكن شرطاً في الإباحة لم تهدم النكاح ولم تغير حكمه، أصله الوطء بملك اليمين، ولأنها بانت قبل استيفاء طلاق الملك فوجب إذا عادت أن يعود بما بقي من الطلاق، أصله إذا عادت قبل التزويج أو بعده وقبل الإصابة، ولأن كل زوج لم يكن شرطاً في رجوع المطلقة إلى المطلق، كان وجوده وعدمه سواء في

ذلك الحكم، أصله الزوج الثاني بعد الطلاق الثالث. [1377] مسألة: إصابة الزوج بعد الطلاق الثلاث شرطاً في عودها إلى الأول، خلافاً لابن المسيب وغيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للتي سألته عن عودها إلى الأول قبل إصابة الثاني؟ قال: " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك "، ولأن الغرض بذلك عقوبته على ما فعل وردعه أن يعود لمثله، وذلك إنما يحصل بالوطء دون مجرد العقد. [1378] مسألة: لا تحل بالوطء في نكاح فاسد، خلافاً لأحد قولي الشافعي لقوله تعالى: " حتى تنكح زوجاً غيره "، المراد النكاح الصحيح، ولأن الطلاق لا يتناول الفاسد، ولأنه وطء لم يصادف شيئاً صحيحاً أو لم يصادف نكاحاً صحيحاً، كالوطء بشبهة، ولأن الوطء بالملك أقوى من الوطء في النكاح الفاسد، لأن هذا وطء مباح بإجماع، وفي النكاح الفاسد ليس بمباح، فإذا لم تقع الإباحة به كانت بأن لا تقع بالفاسد أولى. [1379] مسألة: لا تحل بوطء المراهق، خلافاً للشافعي؛ لأنه لم يبلغ كالصغير، ولأنه إيلاج ممن لا يجب الحد بوطئه، ولا النفقة لزوجته فلم يقع به الإحلال كوطء الصغير. [1380] مسألة: إذا تزوجها بقصد إحلالها للأول فالنكاح فاسد لا تحل به، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله المحلل والمحلل له "،

وروي: " المستحل والمستحل له "، وقوله: " ألا أخبركم بالتيس المستعار، هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له "، وروى ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل؟ فقال: " لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة، ولا استهزاء بكتاب الله، ثم يذوق العسيلة "، ولأنه عقد محظور حظرًا استحق به عاقده والمعقود له اللعن والوعيد، فوجب أن يكون باطلاً، أصله شراء الخمر. [1381] مسألة: إذا وطئها الثاني وطئاً محرماً، مثل أن يطأها حائضاً أو محرمة، أو صائمة، أو ما أشبه ذلك، لم تحل للأول، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأنه شرط في إباحتها للأول لا يقوم غيره مقابلته، فلم تقع به الإباحة متى وقع على وجه محرم في الشرع لحق الله تعالى، اعتبارًا بالعقد، ولأنه وطء على وجه ممنوع بالشرع لحق الله تعالى فلم يقع به الإحلال، أصله الوطء في النكاح الفاسد. [1382] مسألة: لا يقع الإحلال بوطء السيد، خلافاً لبعض الشافعية لقوله تعالى: " حتى تنكح زوجًا غيره "، ولأنه وطء بغير نكاح فلم يقع به الإحلال كالوطء بشبهة. [1383] مسألة: المطلقة الرجعية ما لم يراجعها محرمة، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنها جارية إلى البينونة، فوجب أن تكون محرمة، أصله إذا أسلمت الكتابية بعد الدخول بها، ولأن وجود الطلاق يوجب التحريم كالخلع، ولأنه طلاق كالذي قبل الدخول.

[1384] مسألة: إذا وطىء، أو قبل، أو لمس للذة ونوى به الرجعة كانت رجعة، وقال أبو حنيفة تكون رجعية ولو لم ينو، وقال الشافعي لا تصح الرجعة إلا بالقول. ودليلنا أن كل قول مباح ثبت به رد المرأة إلى العقد المبيح للوطء واستصلاح ما انثلم منه، فجاز أن يكون الوطء قائمًا مقامه فيه، أصله قول البائع قد اخترت رد هذه الأمة إلى ملكي، ولأنه تصرف لا يكون مباحًا إلا مع البقاء على الملك المبيح له، فجاز أن يقع به الرد إلى الملك، أصله القول، ولأنه ملك أزاله عنه وثبت له حق رده إليه بالقول، فجاز أن يثبت الرد به بالفعل، أصله ملك البائع، ولأنه استصلاح لما تشعب من عقد النكاح يزول بالقول، فجاز أن يزول بالوطء، أصله خيار المبيعة، ولأن الرجعة تراد لاستبقاء النكاح، ووجدنا الوطء آكد في باب البقاء على النكاح وتبقيته على الملك من القول، بدليل أن المولي إذا طلق امرأته التي آلى منها، ثم راجعها بالقول كانت الرجعة معتبرة بالوطء، فإن وقع بقيا على النكاح وزال وقوع البينونة بمضي العدة، وإن لم يطأ لم تصح الرجعة، فكذلك الطلاق قبل الدخول يوجب البينونة لعدم الوطء، وبعده لا يوجب ذلك لوجود الوطء، فإذا ثبت ذلك ثم كانت الرجعة تصح بالقول، كانت بأن تصح بالوطء أولى. [1385] فصل: ودليلنا على أبي حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم: " وإنما لامرىء ما نوى"، ولأنه استباحة بضع كالنكاح، ولأنه معنى يقع به الارتجاع فاحتاج إلى نية كالقول. [1386] مسألة: الإشهاد على الرجعة مستحب وليس بواجب، خلافاً للشافعي؛ لأنه حق للزوج بدليل أن له أن يراجع بغير رضاها، ومن له حق فلا يلزمه الإشهاد على استيفائه كسائر الحقوق من الديون وغيرها، ولأنه

رفع للتحريم تعلق بالبضع مع بقاء حكم العقد فأشبه كفارة الظهار، ولأنه معنى حرم به الوطء دون العقد. ولأنه حق من حقوق النكاح فلم يفتقر إلى الإشهاد كالإيلاء والظهار، ولأن هذا مبني على ما قدمناه من أن الرجعة تحصل بالوطء وذلك لا يمكن الإشهاد عليه. [1387] مسألة: إذا ارتجعها فلم تعلم حتى تزوجت، فإن دخل بها الثاني فقد استقر نكاحه، وإن لم يدخل بها ففيها روايتان: إحداهما أن الأول أحق بها، فالكلام في ذلك وفي إسلام الكافر مبني على مسألة الوليين، وقد تقدم بيانها. [1388] مسألة: إذا تزوج أمة فطلقها فلما انقضت عدتها ادعى أنه كان راجعها فأقر السيد بذلك، والأمة منكرة، فلا يقبل من الزوج إلا ببينة، ولا ينفعه إقرار السيد، وقال أبو يوسف ومحمد القول قول السيد؛ فدليلنا أنها دعوى رجعة بغير بينة فلم يقبل على الأمة كالحرة، ولأن الرجعة لا تثبت بدعوى من له العقد على المدعى عليها، كالحرة إذا ادعى الزوج أنه راجعها واعترف الولي بذلك، ولأن انقضاء عدتها يوجب تحريمها في الظاهر ولا يصدق الزوج فيما يوجب إباحته بغير عقد مجرد. [1389] مسألة: إذا ارتدت الرجعية فراجعها حال ردتها لم يصح، وقال المزني يصح؛ فدليلنا أن بالردة قد بانت، والرجعة لا تصح مع البينونة كما لو خرجت العدة، ولأن الرجعة أضعف من النكاح، وإذا كان الأقوى لا يصح مع الردة كان الأضعف أولى. ***

كتاب الإيلاء

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الإيلاء [1390] مسألة: الإيلاء الشرعي الذي يتعلق به الوقف أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة أشهر فأقل فليس بمول إيلاء يوجب وقفه، وحكي عن ابن عباس أنه لا يكون مولياً إلا بأن يحلف على التأبيد أو يطلق من غير أن يوقت بمدة، وعن الحسن وابن أبي ليلى أنه يكون مولياً بأن يعين وقتاً ما وإن قل، وقال أبو حنيفة يكون مولياً إذا حلف على أربعة أشهر، ولا يحتاج إلى زيادة عليها. فدليلنا على ابن عباس قوله تعالى: " للذين يولون من نسائهم تربص أربعة أشهر" فعمَّ، ولأنه ممتنع من وطء زوجته زيادة على مدة التربص بيمين منعقدة كالحالف على التأبيد. [1391] فصل: ودليلنا على الحسن وابن أبي ليلى أنه إذا حلف على يوم يصير بعد مضيه ممتنعاً بغير يمين فكان كالمبتدىء للامتناع بغير يمين.

[1392] فصل: فأما أبو حنيفة فالخلاف معه في موضعين: أحدهما أن الأربعة مضروبة له عندنا وليست بمحل يوجب الفيء، وعنده أنه محل للمعنى، والثاني أن بعد مضيها لا تبين إلا بعد أن يوقف، فإما فاء أو طلق، وعنده أنها تطلق بنفس مضي المدة؟ ودليلنا على الموضعين قوله تعالى: (للذين يولون من نسائهم " الآية، ففيها أدلة: أحدها: أنه تعالى أضاف مدة التربص إلى الزوج وجعلها حقاً له، وما كان حقاً للإنسان لم يكن محلاً لوجوب حق عليه، كالآجال في الديون وغيرها. والثاني: أن الله تعالى أضاف الفيء وجعل الطلاق إلى المولي، فقال: " وإن عزموا الطلاق " فدل أنهما متعلقان بفعله، وعندهم لا تأثير لفعله في وقوع الطلاق حتى لو نسي الفيء وانقضت المدة لوقع الطلاق. والثالث: قوله تعالى: " وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم " فاقتضى ذلك أن تكون عزيمة الطلاق واقعة على وجه يسمع، وعندهم أن عزيمة الطلاق ترك الوطء مدة التربص، وذلك لا يتأتى فيه السماع، ولأنها يمين بالله فلم يلزم بها الطلاق، أصله إذا حلف على أقل من أربعة أشهر فلا بد من تعيين ما يحلف به، ولأنه لفظ لا يقع به ولا ببعضه طلاق معجل فلم يقع به طلاق مؤجل، أصله إذا حلف: لا وطئها شهرًا، ولأنها مدة ضربت بالشرع لم يتقدمها فرقة، فلم يكن مضيها بينونة، أصله مدة العنة. [1393] مسألة: لا معتبر في الأجل بالنساء، وقال أبو حنيفة يضرب للمولي من الحرة أربعة أشهر، وللمولي من الأمة شهران؛ ودليلنا أن مدة التربص حق للزوج على ما بيناه، والحقوق معتبرة بمن جعلت له كالطلاق

وغيره، وتحريره أن يقال: لأنه معنى وضع حقاً للشخص [فليس] للرق تأثير في نقصانه فكان الاعتبار لمن هو حق له، كالطلاق، ولأنه أجل مضروب للزوج لدفع الضرر المتعلق بالوطء عن زوجته، فلم يعتبر في مقداره بالنساء، أصله مدة العنة. [1394] مسألة: أجل العبد في الإيلاء شهران، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي: لأنه معنى يتعلق به حكم البينونة فوجب نقصانه عن الحر فيه، كالطلاق، فإنها مدة مضروبة متعلقة بالنكاح تتعلق بها البينونة فوجب أن يؤثر الرق على نقصانها كالعدة. [1395] مسألة: كل يمين لزمه بها حكم أو دخل عليه بالحنث فيها ضرر فالإيلاء يصح بها، خلافًا للشافعي في قوله لا يكون مولياً إلا في الحلف بالله؛ لقوله تعالى: " للذين يولون من نسائهم "، والإيلاء الحلف، والظاهر عام، ولأنها يمين يلزمه بها حكم أو يلحقه فيها ضرر كاليمين بالله تعالى. [1396] مسألة: إذا وقف بعد مضي المدة فامتنع من الفيء والطلاق، طلق الحاكم عليه، وقال الشافعي في أحد قوليه لا يطلق الحاكم عليه ولكن يحبسه ويضيق عليه حتى يطلق بنفسه؛ فدليلنا أنها مدة يرفعها الوطء يتعلق بها الفرقة فكان للحاكم مدخل في تلك الفرقة، أصله مدة العنة، ولأنه طلاق مستحق عليه لإزالة ضرر، فجاز أن يليه الحاكم عند امتناعه منه، أصله طلاق المعسر بالنفقة، ولأنه حق تدخله النيابة يثبت لمعنى يتعلق به إزالة ضرر فإذا امتنع منه جاز أن ينفذه الحاكم كقضاء الدين. [1397] مسألة: إذا طلق بنفسه أو طلق الحاكم عليه، فإن الطلاق رجعي، ما لم يكن بعدمه، ما لم يكمل الثلاث، وقال أبو ثور يقع بائناً؛

فدليلنا أنه طلاق مجرد صادف اعتدادًا قبل استيفاء العدد، فكان رجعياً، أصله غير المولي. [1398] مسألة: لا تملك المرأة أن تطلق نفسها بعد مضي المدة، خلافاً لقوم؛ لقوله تعالى: " فإن عزموا الطلاق " فأضافه إلى الأزواج، ولأن المرأة ليست تملك الطلاق، وإنما تملكه بتمليك، ومضي المدة لا يقع به تمليك. [1399] مسألة: رجعة المولي معتبرة بالوطء، فإن وطء صحت، وإن لم يطأ حتى انقضت المدة بانت منه، ولا يضرب له أجل ثان؛ وقال الشافعي يضرب له أجل ثان ودليلنا قوله تعالى: " تربص أربعة أشهر "، فأوجب وقفاً واحدًا ومدة محصورة، ولأنه إنما طلق عليه لإزالة الضرر فيجب أن يعتبر الرجعة بما يزول به الضرر، ولو كان له أن يرجع ولا يطأ أو يضرب له مدة ثانية لكان الإضرار باقياً، وذلك لا سبيل له إليه، ألا ترى إلى الخلع يقع فيه الطلاق بائناً، لأن الغرض ببذل العوض انقطاع العصمة، فلو كان له الرجعة لم يستفد ببذله شيئاً. [1400] مسألة: إذا حنث بالوطء في مدة التربص فعليه الكفارة إن كانت يمينه تكفر، وقال الشافعي في القديم لا كفارة عليه، فدليلنا أن يمينه لما تناولت بأن لا يطأ فيها صار بوطئه فيها حانثاً، أصله إذا حلف ألا يطأ يوماً، ولأن الحلف بما يأثم به لا ينفي عنه الكفارة، أصله إذا حلف ألا يصلي ولا يصوم. [1401] مسألة: إذا حلف ألا يطأها حتى تفطم ولدها لم يكن مولياً،

وقال أبو حنيفة يكون مولياً إذا كان بينه وبين الفطام أربعة أشهر، وعند الشافعي أنه يكون مولياً أيضاً على اختلاف بين أصحابه في تخريج المسألة على قوليه؛ ودليلنا أن الإيلاء هو الامتناع من وطء الزوجة على وجه الضرر وقصد منع حقها، لا لغرض سواه، فإذا بان له قصد صلاح الولد خرج عن أن يكون قاصدًا للضرر كما لو حلف ألا يطأها وهي مريضة حتى تبرأ. [1402] مسألة: إذا آلى من صغيرة لا يوطأ مثلها مدة تنقضي قبل بلوغها حد الوطء فلا حكم لإيلائه، وقال أبو حنيفة تضرب له المدة في وقت اليمين فإن فاء فيها بالقول سقط عنه حكم الإيلاء، وإلا بانت منه بعد انقضائها؛ فدليلنا أن المولي هو الممتنع من وطء الزوجة على وجه الإضرار ومنعها، وذلك ممتنع في الصغيرة التي لم تبلغ الوطء، فلم يلزمه فيها حكم الإيلاء. [1403] مسألة: إذا ترك وطء الزوجة مضارًا، ودام ذلك ولكن بغير يمين، كان له حكم المولي، خلافا لأكثرهم؛ لقوله تعالى: " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف "، وقوله: " ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا "، ولأن الذي لأجله وجب ضرب المدة للحالف ووقفه بعدها هو امتناعه من وطئها المدة التي هي غاية ما يصبر النساء عن الوطء في مثلها مع قصد الإضرار وانتفاء الأعذار، وهذا موجود في مسألتنا، فوجب حسم الباب بإجرائه مجرى الحالف. [1404] مسألة: إيلاء الخصي أو الذي قد بقي من ذكره ما لا يقدر أن يطأ به، أو الشيخ الفاني، كل ذلك لا حكم له، وللشافعي قولان: أحدهما أن الإيلاء منهم ينعقد ويصح؛ ودليلنا ما قدمناه أن المولي هو الذي يقصد الإضرار بزوجته بالامتناع من وطئها بعقد يمين أو بغير عقد يمين بعد

أن يعلم ضرره، وهذا معدوم في العاجز عن الوطء، فلم يتعلق به حكم الإيلاء. [1405] مسألة: إذا قال أنت طالق لأفعلن كذا، أو إن لم أفعل كذا، فيمنع من وطئها حتى يفعل، فإن لم يفعل على وجه يعلم به قصد الإضرار، وأنه لا عذر له في تركه دخل عليه الإيلاء، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يدخل عليه الإيلاء، ولا يمنع من وطئها؛ فدليلنا على كونه مولياً مبني على منعه من الوطء، ووجه ذلك أنه في الظاهر على حنث، لأن الحنث هو مخالفة اليمين، واليمين هي بأن يفعل، فالمخالفة ألا يفعل، وهو في الحال غير فاعل فكان حانثاً إلأ أنه لا يتحقق عليه الحنث ما دام الفعل ممكنًا، لكن منع الوطء لجواز أن لا يبر فيتبين أنه كان في الحال حانثاً، فإذا صح ذلك تعلق الإيلاء بامتناعه، لأن الموجب لامتناعه هو اليمين الذي يحنث فيها متى لم يفعل المحلوف عليه، فإذا تبين ضرره بالامتناع وجب وقفه، وثبت عليه حكم الإيلاء. [1406] مسألة: يصح الإيلاء من الأجنبية ولا يفتقر إلى شرط التزويج، فإن تزوجها وقد بقي من مدته أكثر من أربعة أشهر وقف لها، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يصح الإيلاء في الأجنبية؛ ودليلنا قوله تعالى: " للذين يولون من نسائهم تربص أربعة أشهر "، وهذا مول من امرأته، والطاهر لم يفرق بين الإيلاء بعقد قبل الزوجية أو بعدها، ولأنه ممنوع من وطء زوجة زيادة على أربعة أشهر بيمين يتعلق عليه بها حكم شرعي، فكان بذلك موليًا، أصله مع أبي حنيفة إذا أضاف إلى حال الزوجية، ومع الشافعي إذا آلى منها بعد العقد. [1407] مسألة: إذا ظاهر من زوجته ولم يكفر على وجه الإضرار دخل عليه الإيلاء، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأنه حصل ممتنعًا من وطء

من يتوقف لها، بيمين لا يتخلص منها إلا بالكفارة أكثر من أربعة أشهر، فوجب أن يكون مولياً، أصله إذا ابتدأ الإيلاء من غير ظهار. [1408] مسألة: لا يصح إيلاء الكافر، وفائدة ذلك أنه لا يؤاخذ بعد إسلامه بوقف ولا بكفارة إن حنث، وقال أبو حنيفة والشافعي يصح، ودليلنا قوله تعالى: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف "، وقوله صلى الله عليه وسلم: " الإسلام يجب ما قبله "، ولأنه ممن لا يصح منه التقرب بالإعتاق، فلم يصح منه الإيلاء كالمجنون، ولأن أنكحتهم فاسدة عندنا، والوطء في النكاح الفاسد غير مستحق عليه، فلم يجب وقفه لأجله. ***

كتاب الظهار

كتاب الظهار [1409] مسألة: الظهار يصح من العبد، خلافاً لمن منعه؛ لقوله تعالى: " الذين يظهرون منكم من نسائهم " فعم، ولأنه نكاح صحيح فصح فيه الظهار كنكاح الحر. [1410] مسألة: لا يصح ظهار الكافر، خلافًا للشافعي؛ لقوله تعالى: " الذين يظهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم "، ثم عطف ببيان الكفارة فكان العطف خاصًا فيمن بين في الآية الأخرى، ولأن ذلك مبني على أصلنا في فساد نكاحه. [1411] مسألة: يلزم الظهار في كل أمة يجوز وطؤها، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: " والذين يظهرون من نسائهم " فعم، ولأنه فرج محلل له فصح ظهاره منه كالزوجة، ولأنه لفظ يتعلق بتحريم البضع دون رفع العقد فصح في الأمة، أصله اليمين بالله، ولأنه أحد نوعي استباحة الفرج فلحق الظهار فيه كالنكاح. [1412] مسألة: إذا شبه امرأته بابنته، أو أخته، أو عمته، أو غيرهن من المحرمات عليه من النسب كان ظهارًا، خلافاً لأحد قولي الشافعي أنه لا

يكون مظاهرًا إلا بالأم والجدة؛ لأنها محرمة على التأبيد كالأم، ولأنها جهة من النسب متأبّدة التحريم كالأمومة. [1413] مسألة: لا فرق بين أن يكون تحريم المشبه بها أصلياً أو طارئاً، خلافاً للشافعي في قوله إن الظهار لا يكون إلا في التشبيه في التحريم الأصلي، لأنها حال تشبيهه الزوجة بها، فحرمت تحريمًا مؤبدًا، كالأصلية التحريم. [1414] مسألة: إذا قال أنت علي كرأس أمي أو يدها أو غير ذلك من أعضائها كان ظهارًا، وقال أبو حنيفة إن شبهها بعضو لا يحل له النظر إليه كان ظهارًا، وإن كان بعضو يحل له النظر إليه لم يكن ظهارًا، وللشافعي قول مثل قولنا، وقول إنه لا يكون مظاهرًا إلا بالظهر وحده؛ فدليلنا أنه عضو من أمه شبه امرأته به فكان ظهارًا، أصله الظهر. [1415] مسألة: إذا شبه عضوًا من امرأته بظهر أمه، ولم يشبه جملتها، كان ظهارًا، وقال الشافعي في أحد قوليه إنه لا يكون مظاهرًا إلا بأن يشبه جملتها؛ فدليلنا أن كل موضع لحقه الظهار كالجملة، ولأنه إنما يلزمه حكم الظهار بتشبيهه امرأته المحللة بالفرج المحرم عليه مؤبدًا، وهذا موجود فيه إذا شبه بعضها، لأن بعضها في الشرع في جواز الاستمتاع بمثابة كلها، ولأنه لفظ يقتضي تحريم الوطء، فإذا علق بعضو سرى إلى الجملة، أصله الطلاق. [1416] مسألة: إذا قال أنت علي كأمي أو مثل أمي أو أنت أمي، ولا نية له، كان ظهارًا، وقال أبو حنيفة والشافعي إذا لم تكن له نية فلا حكم له؛ فدليلنا أنه أطلق تشبيه امرأته من أمه، فلم يخل من وجوب تحريم به، أصله إذا ذكر الظهر.

[1417] مسألة: إذا قال: أنت حرام كظهر أمي كان ظهارًا ولم يكن طلاقاً، وقال أبو يوسف ومحمّد والشافعي: إن نوى به الطلاق كان طلاقاً؛ فدليلنا أنّه قد وجد في لفظه صريح الظهار، وهو قوله: أنت علي كظهر أمي، فوجب أن لا يكون طلاقاً، أصله إذا أفرد عن لفظ التحريم، ولأنه شبه فرجاً محللاً له، بفرج محرم عليه مؤبدًا، فصار مظاهرًا كما لو لم يذكر التحريم. [1418] مسألة: إذا شبه امرأته بأجنبية فإن ذكر الظهر كان ظهارًا على كل وجه، فإن لم يذكر الظهر فمن أصحابنا من يقول يكون ظهارًا، ومنهم من يقول يكون طلاقاً، وقال أبو حنيفة والشافعي بالأجنبية لا يكون ظهارًا ولا طلاقاً بوجه؛ فدليلنا أنه شبه فرجاً محلّلاً له بفرج محرم عليه، فكان مؤثرًا في التحريم كذوات المحارم. [1419] مسألة: قال ابن القاسم: إذا قال أنت علي كظهر أمي أو غلامي كان مظاهرًا، وقال الشافعي لا يكون له حكم؛ فدليلنا أنه شبه امرأته بظهر ذي محرم منه كالأم. [1420] مسألة: إذا تظاهرت المرأة من زوجها لم يكن لها حكم، وقال أبو يوسف عليها كفارة يمين؛ فدليلنا أن معنى الظهار تحريم الوطء بالقول، فلم يصحّ من النساء، كالطلاق، ولأنها يمين يحرم بها الوطء بالقول فلم يصح من المرأة كالإيلاء، ولأنه قول من غير الزوج المالك للوطء كالأجنبي، ولأن كل من لم يكن له أن يطلّق بحال، لم يكن له أن يظاهر كالأجنبية. [1421] مسألة: إذا وقَّت الظهار بمدّة بعينها تأبّد وبطل التوقيت، وقال الشافعي في أحد قوليه يخرج عن أن يكون ظهارًا أصلاً، وقال أبو حنيفة يتوقَّت بتوقيته فإذا انقضت المدة بطل حكمه، فدليلنا على الشافعي أنه لفظ

يحرم به الوطء فلم يخرج عن بابه بتوقيته كالطلاق، ولأنه قد وجد منه تشبيه الفرج المحلّل بالمحرم، فأشبه الإطلاق؛ ودليلنا على أبي حنيفة قوله تعالى: " والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا "، وهذا مظاهر عائد، ولأنّه لفظ يتعلق به تحريم البضع في الشرع فوجب أن لا يتوقَّت بوقت بعينه كالطلاق. [1422] مسألة: إذا ظاهر من أجنبية بشرط التزويج صحّ، وثبت حكمه، وقال الشافعي لا يصحّ وبناه على أصله في الطلاق؛ ودليلنا قوله تعالى: " والذين يظهرون من نسائهم " ولم يفرِّق بين أن يكون الظهار قبل التزويج بشرط وجوده أو بعده، ولأن ذلك مبنيّ على أصلنا في الطلاق، وقد ذكرناه. [1423] مسألة: إذا قال لأجنبية إن تزوجتك فأنت طالق وأنت عليَّ كظهر أمي وأنت طالق، فذلك سواء ويلزمه الظهار والطلاق إن تزوجها، وقال أبو حنيفة يلزمه الطلاق ولا يلزمه الظهار؛ فدليلنا قوله عز وجل: " والذين يظهرون من نسائهم " وقد ثبت أن الظهار بشرط وجود النكاح داخل المظاهر، فإذا ثبت ذلك فهو عام في المنفرد وفيما ينضم إليه عقد طلاق، ولأنَّ العقدين مضافان إلى حال الزوجية فيجب لزومهما كما لو قال إن تزوجتك فأنت طالق وأنت علي كظهر أمي، ولأنه ظهار بشرط حصول التزويج وبقائه فوجب أن ينعقد ويلزم كما لو أفرده من عقد الطلاق، ولأنَّ الواو للجمع والاشتراك فتقديره؛ إذا تزوجتك، فهذان العقدان يلزمان فيك. [1424] مسألة: إذا ظاهر من امرأته ثم طلَّقها ثلاثاً، ثم عادت إليه بنكاح جديد فإنَّ الظهار يعود عليه، وقال الشافعي لا يعود الظهار؛ فدليلنا

عموم الظاهر، ولأن زوال الملك الذي ظاهر فيه، لا يوجب زوال حكم ما وجب قبل زواله، بل يعود على حكم الملك، أصله لو ظاهر من زوجته الأمة، ثم ابتاعها فإنَّه لا يجوز له أن يطأها حتى يكفِّر. [1425] مسألة: إذا ظاهر من أربع نسوة بكلمة واحدة لزمه كفارة واحدة وقال الشافعي لكل واحدة كفَّارة؛ فدليلنا قوله تعالى: " والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة " فعم كل مظاهر من نسائه بأنَّ عليه رقبة وأحدة، ولأنه ظهار واحد بكلمة واحدة فوجب أن يلزم به كفارة واحدة، أصله إذا كان المظاهر منها واحدة، ولأنه يمين يوجب الكفارة بمخالفته فوجب إذا علق بجماعة نسوة أن يجزىء فيه كفارة واحدة، أصله إذا قال: والله لا وطئتكن، لأنها يمين واحدة تناولت أشياء فأجبرت منها كفارة واحدة، أصله إذا قال: والله لا كلّمت زيدًا وعمرًا. [1426] مسألة: إذا قال لواحدة من نسائه أنت عليَّ كظهر أمي، ثم قال لأخرى: وأنت عليَّ مثلها، أو كهي، أو شريكتها، فإنه يكون مظاهرًا منهما جميعًا ويلزمه لكل واحدة كفارة، نوى أو أطلق، وقال الشافعي إن نوى التظاهر من الثانية كان مظاهراً وإن أطلق لم يكن مظاهرًا إلا من الأولى فقط، ودليلنا أن الواو للعطف وحكم العطف حكم المعطوف عليه، واعتبارًا به لو جمعهما في لفظ واحد، كما لو قال: اضرب زيدًا، ثم قال: وعمرًا مثله، كان كقوله اضربهما. [1427] مسألة: إذا كرر الطهار من زوجته ينوي بكل كلمة استئناف ظهار، كان عليه لكل كلمة كفارة، وإن لم ينو استئنافاً فكفارة واحدة، كان ذلك في مجلس أو مجالس، وقال أبو حنيفة لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد، وقد يزيد التكرار فيكون عليه كفارة واحدة، وقال

الشافعي إن والى ذلك فكفارة واحدة، وإن أخر فلكل لفظة كفارة. فدليلنا على أبي حنيفة أنّه كرر لفظ الظهار من غير قصد الاستئناف فلم يكن له حكم، أصله إذا كان في مجلس واحد وأراد التكرار. ودليلنا على الشافعي قوله تعالى: " والذين يظهرون من نسائهم " والظهار هو هذا القول المقصود به المظاهرة، فإذا وجد تعلّق عليه الحكم، ولأنّه لفط يوقع تحريماً في الزوجة للزوج دفعة فإذا كرر على وجه الإستئناف وجب أن يتعلّق بكل لفظة حكم على الإنفراد كالطلاق، ولأنه لفظ يتعلق به سبب يؤدي إلى الكفارة، فإذا أعاده مستأنفاً تعلقت به كفارة مستأنفة، أصله اليمين. [1428] مسألة: الكفارة في الظهار لا تجب إلا بالعود، خلافًا لما يحكى عن مجاهد أنها تجب بنفس التلفظ بالظهار من غير اعتبار معنى زائد؛ لقوله تعالى: " ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة " فأوجب الكفارة في الظهار بشرط حصول العود، ولأن الظهار يمين والكفارة تجب باليمين إذا حصلت فيها المخالفة وهو الحنث، فكذلك يجب أن يكون في الظهار ولا يكون مخالفًا إلا بالعود، ولأنه لفظ يقصد به تحريم وطئها فلم تجب الكفارة بمجرده كالإيلاء. [1429] مسألة: اختلف الناس في العود ما هو على عدّة مذاهب، فالظاهر من مذهبنا أنه العزم على الوطء، وقال في «الموطأ»: العزم على الوطء والإمساك، واختلف أصحابنا في الوطء هل يخرج على قوله أنه عود أم لا، على طريقين: إحداهما أنّه عود على بعض الروايات، والأخرى أنه ليس بعود رواية واحدة، والظاهر الذي عليه نناظر أنّه العزم على الوطء، وهو المحكي عن أهل العراق، ومنهم من يقول العود، وهو أن لا يستبيح

وطأها إلا بكفارة، وعند الشافعي أن العود هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، وقال داود العود هو تكرار لفظ الظهار؛ ودليلنا على أن العود هو العزم ويدخل فيه الكلام على الشافعي، وهو أنّه إذا ثبت بما نذكره أن معنى العود المراد بالظهار ليس براجع إلى الموافقة على ما يقوله داود، وإنما يرجع إلى المخالفة، وجب أن يكون متى عزم على الوطء فقد حصلت به المخالفة لأن موجب الظهار ومقصوده تحريم الوطء لا رفع العقد، فمتى قام على ذلك فليس بعائد وإذا عزم على الوطء فقد خالف مقتضى الظهار الذي هو التحريم للوطء، ولأنّ قوله تعالى: " ثم يعودون لما قالوا " يقتضي أن يكون العود متراخياً على الظهار وأن يكون ذلك من شرط كونه عودًا أو من صفات جوازه لأن موضوع "ثم" التراخي، وفي القول بأنه الإمساك عقيب الظهار إيجاب إيصاله به، وذلك خلاف الظاهر، لأنّ في رجوع العود إلى الإمساك ضرباً من التناقض، لأن نفس الظهار يفيد الإمساك بدليل أن القصد إلى الظهار لا يصحّ إلا مع البقاء على النكاح، وما كان حاصلاً عليه لم ينتقل عنه، فلا يصحّ وصفه بحصول عود عليه، لأن العود إلى الشيء يتضمّن أنه قبل العود على خلافه، وإنما يصحّ ذلك على ما نقوله من أنّه العزم على الوطء، ولأن العود لما كان هو الإمساك لم يجز أن ينتفي بالطلاق الرجعي، لأنه لا ينافي العود إلا الإمساك، وما لا ينافي الشيء لا يسقط به، ولأن قوله تعالى: " ثم يعودون لما قالوا " يقتضي إحداث فعل من جهته ومرور الزمان من غير أن يطلق لا يوجد فيه المعنى، ولأن مجرد عقد الظهار إذا كان لا يوجب الكفارة إلا بمعنى طارىء عليه من جهته وجب أن يكون إحداث فعل منه من مخالفته وهتك حرمته حادثة، فكل ذلك معدوم في ترك إيقاع الطلاق فلم يجب

تعلّق الكفارة به، ولأن الطلاق الرجعي لا ينافي البقاء على الملك، فلم يسقط حكم الظهار كالإيلاء. وأما أصحاب أبي حنيفة فالخلاف معهم في الكفارة هل يستقر وجوبها في الذمة؟ ودليلنا على وجوبها بحصول العود قوله تعالى: " ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة " ومفهوم هذه الصيغة هو أن العود إذا حصل وجبت الكفارة، ولأنّه تكفير بعتق فجاز أن يستقر وجوبه في الذمة كالعتق في كفارة القتل. ودليلنا على داود حديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر، وفيه إيجاب الكفارة من غير سؤال عن إعادة اللفظ، ولأنّه معنى يتعلق به وجوب الكفارة فلم يعتبر فيه إعادة اللفظ كاليمين، ولأنها كفارة تتعلّق بفعل من جهته فلم يعتبر تكراره كالقتل، ولأنها كفارة تجب بلفظ وشرط فوجب أن يكون ذلك الشرط هو مخالفة اللّفظ دون إعادته، أصله كفارة الإيلاء. [1430] مسألة: الظهار يحرم جميع أنواع الاستمتاع من الوطء فما دونه، خلافاً للشافعي في أحد قوليه إنّه لا يحرم به ما دون الوطء؛ لقوله

تعالى: " من قبل أن يتماسا " ولم يفرق، وحديث ابن عباس أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم وطئها قبل أن يكفر، فقال صلى الله عليه وسم: «اعتزلها حتى تقضي ما عليك»، ولأن كل لفظ حرم به جملتها لم يقف ذلك على الفرج دون غيره كالطلاق، أو لأنه لفظ وقع به تحريم في الزوجة فوجب أن يعم الوطء وغيره كالطلاق، ولأنه نوع من التلذذ بالاستمتاع، فوجب أن يحرم بالظهار كالوطء في الفرج، لأن الوطء إنّما حرم لتشبيه المرأة المحللة بالمحرمة، وهذا التشبيه لا يخص تحريم الوطء دون غيره من الاستمتاع. [1431] مسألة: إذا وطىء المظاهر قبل التكفير لم تسقط عنه الكفارة، خلافاً لقوم؛ لحديث ابن عباس في الذي ظاهر من امرأته ثم وطئها قبل أن يكفر، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقربها حتى تكفر»، ولأنه واقع الفعل المنهي عنه بالسبب المؤدي إلى الكفارة، فلم ينتف وجوبها، أصله الحنث في اليمين. [1432] مسألة: فصل: ولا يلزمه كفارة أخرى، خلافاً لما يحكى عن مجاهد؛ لأنّه وطء بعد استقرار وجوب الكفارة فلم يجب به كفارة ثانية كالوطء الثاني. والثالث، ولأن كل معنى تعلّقت الكفارة فيه بوطء فإذا تلاه بوطء آخر بعد وجوب الكفارة بالوطء الأول لم تجب به كفارة أخرى، أصله الفطر في رمضان. [1433] مسألة: إذا وطىء المظاهر في خلال صوم الشهرين استأنف، على أي وجه كان، سهوًا، أو عمدًا، ليلاً، أو نهارًا، وقال أبو حنيفة ينقطع التتابع بالوطء نهارًا ولا ينقطع في الليل إلا بالعمد، وقال الشافعي: الوطء

ليلاً لا يؤثر أصلاً سهوًا ولا عمدًا؛ فدليلنا عليه قوله تعالى: " فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا " شرط أن يأتي بهما قبل المسيس، وهذا الشرط يعود إلى جملتهما وأبعاضهما، ويمنع أن يقع المسيس فيهما أو قبلهما، ولأنه وطء في مدة الشهرين للتظاهر فيهما، فوجب أن يفسد التتابع كالوطء نهارًا، أو لأنه زمان حرم عليه الوطء فيه لأجل الصوم كالنهار. وأما أبو حنيفة فالخلاف معه في الوطء سهوًا بالليل، فدليلنا أنه وطىء في خلال الشهرين كالوطء نهارًا، ولأن كل زمان لو وطىء فيه عامدًا لقطع التتابع، فكذلك إذا وطىء فيه سهوًا كالنهار، واعتبارًا بالعمد. [1434] مسألة: إذا كان في ملكه رقبة إلا أنه كان محتاجاً إليها لخدمة، أو لأنه لا يملك غيرها لزمه إعتاقها ولم يجزه الصيام، وقال الشافعي يجزيه الصوم، فدليلنا قوله تعالى: " فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا " " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " وهذا واجد، ولأنه واجد لرقبة يجوز إعتاقها في الظهار فلم يجز له العدول إلى الصوم، أصله إذا كان مستغنياً عنها. [1435] مسألة: إذا لم يكن في ملكه رقبة وكان معه ثمنها لزمه شراؤها، ولم يجز له الصوم، كان محتاجا إليها أو غير محتاج، وقال أبو حنيفة والشافعي إن كان محتاجاً إلى الثمن لم يلزمه وجاز له الصوم، وإن كان مستغنياً عنه لزمه؛ فدليلنا أنه واجد لثمن رقبة فأشبه المستغني عنه، ولأن القدرة على الثمن تقوم مقام القدرة على المثمن، كالقادر على شراء الماء بثمن مثله. [1436] مسألة: الإطعام في كفأرة الطهار مقدّر بمدّ هشام، وهو مدّان بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل أقل من مدّين بيسير، وقال الشافعي تقديره مدّ بمدّ

النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدليلنا قوله تعالى: " فإطعام ستين مسكينا " والإطلاق يقتضي الشبع، ولأنها فدية ينتقل فيها من صيام إلى طعام أبهمته في الظاهر، فوجب أن يلزم فيها زيادة على مدّ، أصله فدية الأذى. [1437] مسألة: الاعتبار فيما يجزىء إخراجه في كفارة الظهار بحال الأداء دون الوجوب، مثل أن يظاهر ويعود فهو موسر فلا يعتق حتى يعسر فيجزىء عنه الصوم، وللشافعي ثلاثة أقوال فيما أخرجه أصحابه: أحدها مثل قولنا، والثاني أن الاعتبار بحال الوجوب، والثالث بأغلظ الأحوال، فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم لأوس: «أعتق رقبة» ولم يستفصل، ولأنّ ما قالوه يؤدي إلى سقوط الكفارة، لأن الإعسار قد يمتدّ إلى آخر عمره فيموت والفرض باق عليه، وكذلك فيمن كان فرضه الصوم فلم يصم حتى هرم، ولأنّه لو حنث وعاد وهو عبد لكان فرضه الصوم، ولم يجز له الإعتاق، فلو لم يصم حتى عتق هو وقدر على الإعتاق للزمه الإعتاق ولم يجز له التكفير بالصوم، فعلم أن الاعتبار بوقت الأداء، ولأنه معنى له بدل من غير جنسه، فوجب أن يكون الاعتبار بحال فعله وأدائه، أصله الظهار. [1438] مسألة: إذا دخل في الصوم لعدم الرقبة، ثم وجدها، مضى على صومه ولم يلزمه الإعتاق، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله تعالى: " فمن لم يجد فصيام شهرين " فلم يفرق بين أن يجدها بعد ذلك أم لا، ولأنّه تلبس بصوم لزمه عند عدم مبدله، فإذا قدر على المبدل لم يلزمه العود إليه، كالمتمتع إذا قدر على الهدي وهو في صوم السبعة. [1439] مسألة: إذا وطىء في خلال الإطعام استأنف، وقال الشافعي يبني في السهو ولا يبني في العمد، وقال أبو حنيفة يبني في الموضعين؛

ودليلنا أنه وطء في أثناء كفارة الظهار كالوطء في أثناء الصوم. [1440] مسألة: لا يجزىء فيها إعتاق الكافرة، خلافًا لأبي حنيفة؛ لأنه تكفير بعتق، فلم يجز فيه غير المسلمة، أصله كفارة القتل، ولأن كل نقص في رقبة منع إعتاقها في كفارة القتل منع إعتاقها في الظهار، أصله قطع الأعضاء، ولأنها رقبة ناقصة بالكفر كالمرتدة والحربية، ولأنّ كل نقص دين منع الإعتاق في كفارة القتل منعه في الظهار كالارتداد. [1441] مسألة: يجزىء فيها الصغير، خلافاً لمن منعه؛ لقوله تعالى: " فتحرير رقبة " فأطلق، ولأنها رقبة مؤمنة سليمة تامة الملك كالبالغ. [1442] مسألة: ولا يجزىء فيها المكاتب، خلافاً لأبي حنيفة في قوله إنه يجزىء إذا لم يكن قد أذى شيئا من نجومه؛ لقوله تعالى: " فتحرير رقبة " وذلك يقتضي ألا يتقدم فيها عقد بعتق غير المقصود وإلا لم يكن تحريرًا، ولأن عقد الكتابة يمنع إعتاقه في الظهار، أصله إذا أدَّى بعض النجوم، لأن عتقه مستحق على السيد لسبب غير الكفارة كالاستيلاد، أو لأنه سبب حرية يمنع البيع فلم يجز صرفه إلى الكفارة والتدبير. [1443] مسألة: اذا اشترى من يعتق عليه، ونوى وقوعه عن كفارته، فلا يجزيه، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله تعالى: " فتحرير رقبة " وذلك لا يتأتى في هذا الموضع، ولأن عتقه بالملك مستحق عليه لسبب متقدم على الملك فأشبه قوله: إن ملكتك فأنت حر، ولأنه عتق يقع بالملك من غير قصد إيقاعه فلم يجز في الظهار، أصله إذا ملكه بميراث، ولأن استحقاق العتق في الرقبة من جهة منع أن يجزىء من جهة أخرى، كأم الولد. [1444] مسألة: إذا أعتق نصف عبدين فلا يجزيه، خلافاً للشافعي؛

لقوله تعالى: " فتحرير رقبة: والاسم لا يقع على المطلق، ولأن العبادة المتعلّقة برقبة لا يقوم نصف رقبتين مقامها، أصله إذا اشترك اثنان في أضحيتين، ولأنه لو أوصى أن يشتري رقبة فتعتق عنه لم يجز أن يعتق عنه نصف عبدين، كذلك في مسألتنا. [1445] مسألة: يجوز عتق ولد الزنا، خلافًا لمن منعه؛ للظاهر، لأنه رقبة سليمة تامة الملك كالصحيحة النسب. [1446] مسألة: لا يجوز فيها المعيبة، خلافًا لداود؛ لقوله تعالى: " ولا تيمموا الخبيث منه تتفقون "، وقوله تعالى: " ويجعلون لله ما يكرهون "، وقوله: " فتحرير رقبة " وهذا يقتضي [رقبة] كاملة، والمعيبة ناقصة، ولأن النقص نقصان، نقص في الدين ونقص في البدن، ثم قد ثبت أن نقص الدين يمنع الإجزاء، كذلك نقص الأعضاء. [1447] مسألة: لا يجوز أقطع اليد أو الرجل أو أقطعهما في الكفارة، وقال أبو حنيفة يجزىء؛ فدليلنا أن قطع اليد عيب يضر بالعمل وينقص التصرف نقصاناً بائناً فأشبه قطع اليدين. [1448] مسألة: لا يجزىء أقطع الأذنين، خلافاً لأصحاب الشافعي؛ لأنهما عضوان فيهما منفعة وهي حوش الصوت إلى السمع ودفع الضرر عنه، ولأن في ذهابهما ضرباً من التشوه بالخلق. [1449] مسألة: الخرس يمنع الإجزاء، وإن كان معه صمم فهو أبين، خلافاً لأحد قولي الشافعي؛ لأن فقد الكلام يجري مجرى فقد في البصر واليد والرجل، لأنه يضر بعلمه وينقص تصرفه وتقل رغبة الناس في استخدامه لصعوبة ما يلحقهم في إفهامه، مع أنه ليس كل أحد يفهم خطاب الأخرس ولا يحسن إشارته.

كتاب اللعان

كتاب اللعان [1450] مسألة: إذا قذف زوجته فادعى الرؤية وكانت ممّن يحدّ قاذفها لزمه الحدّ، وله التخلّص من ذلك باللّعان أو البينة. واللّعان حجة له يسقط بها عن نفسه ما لزمه من الحد، فإن امتنع منه لم يجبر عليه، وحد، فإن لاعن سقط الحدّ عنه ولزم المرأة؛ ولها أن تخلّص نفسها باللّعان، وقال أبو حنيفة الواجب بقذف الزوجة اللعان دون الحد، وإن لاعن الزوج وإلا حبس حتى يلتعن، فإذا التعن وجب عليها اللّعان، فإن التعنت وإلا حبست حتى تلتعن، والكلام في موضعين: أحدهما أن الزوج يحدّ للقذف بامتناعه من اللعان إذا طالبته المرأة بذلك، وعندهم يحبس ولا يحد، والاخر أن المرأة يلزمها الحدّ بالتعان الزوج إلا أن تسقطه عن نفسها باللعان، وعندهم لا حدّ عليها. فدليلنا على الفصل الأول قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم " فعم، ولأنها حرة مسلمة عفيفة قذفها من لم يحقق قذفها، فوجب أن يحدّ لهأ، أصله الأجنبية. ودليلنا على الثاني قوله تعالى: " ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله " فذكر لعان الزوج، ثم عقبه بالإخبار عمّا يسقط عنها العذاب المتوجه عليها بلعانه بأن تلتعن، ولأنه معنى يخرج به القاذف عن

قذفه، فجاز أن يجب به حدّ كالبينة. [1451] مسألة: وللزوج أن يلاعن وإن قدر على إقامة البينة، خلافًا لقوم؛ لأن اللّعان يستفاد به ما لا يستفاد بالبينة من نفي الولد وزوال الفراش، والحاجة، داعية إليه مع وجود البينة، كما تدعو إليه مع عدمها فجاز في الحالين. [1452] المسألة: اللّعان بين كل زوجين مكلفين، حرين كانا أو عبدين، متكافئين، أو أحدهما، عدلين أو فاسقين، وقال أبو حنيفة لا يصحّ إلا بين زوجين يكونان من أهل الشهادة، وذلك أن يكونا حرين مسلمين، وأما العبدان المحدودان في القذف فلا يجوز عنده لعانهما، وكذلك إن كان أحدهما من أهل الشهادة والآخر ليس من أهلها، والكلام في هذه المسألة في فصلين: أحدهما هذا والآخر هل اللعان يمين أو شهادة، فعندنا أنه يمين، وعنده أنها شهادة. فدليلنا على الفصل الأول: قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم " فعم، ولأن كل زوج صحّ قذفه صحّ لعانه، أصله الحر، ولأن كل معنى صحّ أن يخرج به من القذف من كان من أهل الشهادة، صحّ أن يخرج به منه من ليس من أهلها، أصله البينة. ودليلنا على الفصل الثاني قوله صلى الله عليه وسلم لما جاءت به على النعت المكروه: «لولا الأيمان لكان لي ولك شأن»، ولأنه بخلاف الشهادات في كثيرٍ من شروطها، منها دخول النساء فيه، ولا مدخل لهن في الشهادة على الزنا، وتكرار ألفاظه، ولعن الملتعن نفسه إن كان ما شهد به على خلاف شهادته، وجوازه من الفاسقين وإن لم يكونا من أهل الشهادة، وكذلك الأعمى، فدل على أنه يمين وليس بشهادة.

[1453] مسألة: إذا قذف زوجته ولم يضف القذف إلى مشاهدة ففيها روايتان: إحداهما أنّه يلاعن، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، والأخرى ليس له أن يلاعن. فوجه الأول عموم الظاهر، ولأن كل معنى صحّ الخروج به عن القذف المضاف إلى مشاهدة صح الخروج به من القذف المطلق كالبينة، ولأنه قذف مضاف إلى الزوجة، فجاز تحقيقه باللّعان، أصله المضاف إلى الرؤية. ووجه الثانية أنّه معنى يتخلّص به من القذف فوجب أن يفتقر إلى مشاهدة كالشهادة. [1454] مسألة: لعان الأخرس جائز إذا فهمت إشارته، خلافاً لأبي حنيفة في قوله لا يصحّ لعانه ولا قذفه؛ لعموم الظاهر، ولأنّ كل من صحّ نكاحه وطلاقه صحّ قذفه كالناطق، ولأنه حكم يفهم بالإشارة من جهته فجاز أن تقوم الإشارة فيه عند العجز مقام النطق كاليمين والإقرار. [1455] مسألة: إذا قذف زوجته ولاعنها، فقذفها أجنبي بذلك الزنا لزمه الحدّ إلا أن يقيم البينة، وقال أبو حنيفة إن كان النسب لم يثبت أو ثبت ولكن مات الولد فلا حدّ عليه، وإن كان بقي النسب والولد باق فعليه الحدّ؛ فدليلنا قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " وهذه محصنة، ولأن رمي الزوج لا يسقط حصانتها، ولأنّها محصنة يحد قاذفها كما لو نفي الولد. [1456] مسألة: إذا قال لزوجته: زنيت قبل أن أتزوجك حدّ ولم يلاعن، وقال أبو حنيفة يلاعن عنها؛ ودليلنا قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات " فعم ولأنه قاذفها بزنا لو حملت منه لم يلحق به نسب، فلم يكن له أن يلاعن كما لو قذف أجنبية ثم تزوجها.

[1457] مسألة: إذا أبان زوجته ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال الزوجية، فإن لم يكن هناك نسب ينفيه حد ولم يلاعن، وإن كان هناك نسب وادعى أنه من ذلك الزنا فله أن يلاعن وينفيه، وحكي عن عثمان البتي أنّه يلاعن وإن لم يكن نسب، وقال أبو حنيفة ليس له أن يلاعن على الموضعين. فدليلنا على البتي أنه لا ضرورة به إلى هذا القذف لأنها ليست بفراش له، ولا هناك نسب ينفيه فيكون اللعان لأجله، فوجب أن يحد ولا يلاعن كقذفه لأجنبية. ودليلنا على أبي حنيفة أنه نسب يحتاج إلى نفيه، فجاز له نفيه باللّعان كقذفها بعد الطلاق. [1458] مسألة: إذا نفى حمل زوجته على الشروط المعتبرة فيه فله أن يلاعنها قبل الوضع، خلافاً لأبي حنيفة في قوله لا يلاعن إلا بعد أن تضع؛ لعموم الظواهر، ولأن كل نسب جاز إسقاطه باللّعان بعد انفصال الولد جاز إسقاطه قبله كالفراش. [1459] مسألة: إذا قذف امرأته بأنها وطئت في الدبر لزمه الحدّ، وله إسقاطه باللعان، وقال أبو حنيفة لا لعان عليه في ذلك، وبناه على أصله وأن الحدّ لا يجب باللواط ولا بإتيان المرأة في الدبر؛ فدليلنا على وجوب الحدّ بذلك أنّه فرج يجب بالإيلاج فيه الغسل، فجاز أن يجب به الحدّ كالفرج، فإذا ثبت أن الحد يلزم بالوطء فيه قلنا لأنّه فرج يجب بالإيلاج فيه الحدّ، إذا رماها بالفحش فيه كان له تحقيق ذلك باللعان، أصله القبل.

[1460] مسألة: يلتعن في النكاح الفاسد، كان هناك نسب ينفيه أم لا، وقال أبو حنيفة لا لعان فيه على كلِّ وجه، وقال الشافعي إن كان هناك نسب ينفيه لاعن وإلا لم يلاعن، فدليلنا على أبي حنيفة أنَّه نكاح يثبت به الفراش فجاز اللّعان فيه كالصحيح، ودليلنا على الشافعي أنّه أحد موجبي اللعان يوجب في النكاح الصحيح، فوجب أن يوجبه في النكاح الفاسد كنفي النسب. [1461] مسألة: إذا قذف امرأته وأمها بالزنا حدّ لهما جميعًا، وله أن يلاعن الزوجة ويسقط عنه حدّها، وليس له الخروج عن حدّ الأم إلا بالبينة، ولا يتعلّق أحد الحدّين بالآخر، وأيهما حدَّ لها لم يسقط حدّ الأخرى إذا كان بألفاظ متفرِّقة؛ وقال أبو حنيفة إذا حدّ للأم سقط حدّ البنت، وإن لاعن البنت لم يسقط حدّ الأم؛ فدليلنا: أنهما حقان واجبان بالقذف فلم يسقط أحدهما باستيفاء الآخر، كما لو لاعن الابنة فإنه لا يسقط حق الأم، لأنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يسقط حق أحدهما باستيفاء الآخر كالديون. [1462] مسألة: إذا لاعنت المرأة قبل الزوج لم يعتدّ بذلك، خلافًا لأبي حنيفة؛ لقوله تعالى: " ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله " وهذا يقتضي أن يكون العذاب قد وجب عليها بلعان الزوج حتى تدرأه باللعان. [1463] مسألة: من أحكام اللعان ما يتعلق بلعان الزوج وحده، من ذلك هو وجوب الحدّ عليها وانتفاء النسب، ومنها ما يفتقر إلى لعانهما وهو الفرقة والتحريم المؤبد، وقال الشافعي كل ذلك يتعلق بلعان الزوج وحده؛ فدليلنا على أن الفرقة لا تقع بلعانه وحده، أنّ هلال بن أمية لما

التعن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فلمّا التعنت فرق بينهما، فذكر الحكم وسببه، ولأنَّ اللّعان لم يكمل [فلا] فرقة، أصله إذا لم يكمل من الزوج، ولأنه لعان من أحد الزوجين، فكان له تأثير في الفرقة كلعان الزوج. [1464] مسألة: تقع الفرقة بنفس الفراغ من التعانهما من غير حاجة إلى حكم حاكم به، وقال أبو حنيفة لا تقع إلا بحكم الحاكم؛ فدليلنا أنّه صلى الله عليه وسلم نفى اجتماعهما عند حصول التسمية لهما، وذلك حاصل وإن لم يحكم به حاكم، ولأن النسب لا يتعلّق بلعانها لأنها هي تثبته باللعان وهو ينفيه، فلا معنى لحكم الحاكم. [1465] مسألة: فرقة اللّعان فسخ، وقال أبو حنيفة طلاق؛ وفائدة ذلك عنده أنّها غير مؤبدة فلذلك كان طلاقاً؛ فدليلنا على أنّه فسخ أنه معنى غالب يوجب الفرقة فكان فسخاً كالرضاع. [1466] مسأله: إذا وقعت الفرقة باللعان ثم أكذب نفسه حدّ ولحق به النسب، ولم يزل التحريم، وحكي عن بعض التابعين أنّها تعود زوجة، وقال أبو حنيفة يجوز له العقد عليها؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا سبيل لك عليها»

ولأنّه تحريم لا يرتفع بزوج وإصابة، فوجب أن يكون مؤبدًا كالرضاع، ولأن اللعان قد وجد منهما جميعاً، فأشبه أن يستمر عليه ولا يكذب نفسه. [1467] فصل: وحكى أهل الخلاف عن عثمان الليثي أنه لا تقع الفرقة باللّعان وأنهما على الزوجية؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها» وروي أنه فرق بين المتلاعنين، ولأنه لما قطع به النسب الذي هو أقوى من الفراش كان بأن يقطع الفراش أولى. [1468] مسألة: إذا حكم الحاكم بنفي النسب أو بغير ذلك من أحكام اللعان قبل تمام الالتعان لم ينفذ حكمه، وقال أبو حنيفة ينفذ إذا كان الزوج قد أتى بأكثر ألفاظ اللعان؛ فدليلنا قوله تعالى: " ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله " إلى قوله: "والخامسة" فنص على أن الحدَّ لا يسقط عنها إلا أن تأتي بالعدد المذكور، فمن قال إنه يسقط بدونه فقد خالف الظاهر، ولأنه معنى ذو عدد يتخلَّص به من القذف فوجب ألا يتخلّص ببعض عدده كالبينة. [1469] مسألة: إذا قذف امرأته برجل بعينه يحدّ قاذفه، لاعن امرأته وحد للرجل، وقال الشافعي إذا التعن سقط عنه حدّ الرجل؛ فدليلنا أنه قذف شخصين يحد قاذفهما، فتخلّصه من قذف واحد لا يسقط حد الآخر، أصله إذا قذفه بأجنبية. [1470] مسألة: إذا قذفها برجل ولم يسمّه لاعنها ولم يحد عن الرجل، وقال الشافعي في أحد قوليه لا يسقط حدّ الرجل؛ فدليلنا أن حدّ القذف لا يجب استيفاؤه إلا بالمطالبة، فإذا لم يسم المقذوف لم تصحّ

المطالبة، فلم يجب الحدّ إذا عين المزني بها ولم يعينه، ولأنّه قد يكون قاذفًا من لا حدّ في قذفه، ولأنه لو قال رأيت رجلاً يزني لم يحدّ قاذفه. [1471] مسألة: إذا قذفها بالزنا فصدّقته حدّت، ولم يلزمه حدّ القذف، فإن كان هناك نسب ينفيه لاعن، وإن لم يكن نسب لم يلاعن، وقال أبو حنيفة لا حدّ عليها لأنَّ عنده الاعتراف بالزنا مرة لا يوجب الحدّ، قال ولا يلاعن الزوج، لأنه يقول إن اللّعان إذا تعذر من جهة المرأة سقط عن الزوج؛ فدليلنا على أنّه يلاعن أنه محتاج إلى اللّعان لدفع النسب بعد تصديقها، كحاجته إليه قبله فكان له اللّعان في الحالين. [1472] مسألة: تلاعن من نفي الحمل وإن عري عن القذف، خلافاً للشافعي؛ لأنه رماها بوطء لو كان له ولد لحق به، فكان له تحقيق ذلك باللّعان كما لو ضامه القذف، ولأن به ضرورة إلى نفي النسب موجودة وهو أصل ما وضع له الحد، ولا ضرورة به إلى القذف، لأن الدعوى تتم مع عدمها [و] كل ما صحت الدعوى مع فقده لم يكن وجوبه شرطاً، كسائر ما تستغنى الدعوى عنه. [1473] مسألة: إذا أتت بولدين توأمين فنفاهما ثم مات أحدهما قبل الالتعان كان له أن يلتعن وينفي نسبهما، وقال أبو حنيفة لا يصحّ نفي نسب الميت ويلحق به، وإذا لحق به نسب الميت لحق به نسب الحي، فدليلنا أن به حاجة إلى نفي نسب الميت كحاجته إلى نفي نسب الحي، لأن النسب لا يبطل بالموت، يبين ذلك أنه قد يموت الميت عن ولد

فيلحق بالزوج وإن لم ينف الميت عنه، وإذا كان كذلك ثبت حاجته إلى نفي نسبه فكان له أن يلاعن. [1474] مسألة: إذا نفى الولد باللّعان ثم مات الولد، فاعترف به بعد موته، فإن كان الميت ترك ولدًا أو ولد ولدٍ لحق به، فإن لم يترك ولدًا ولا ولد ولدٍ حدّ ولم يلحق به، وقال الشافعي يلحق به ويستحق ميراثه كما لو كان حياً، فدليلنا أن إقراره يتضمّن شيئين: أحدهما كذبه، وهو معنى لا يتهم فيه فضرب الحد، والآخر استحقاق ميراثه منه مع انتفاء الحاجة إلى الإقرار، فلم يقبل للتهمة وانتفاء الحاجة، ويفارق ذلك إذا كان هناك ولد للميت. لأن به حاجة إلى الإقرار بنسبه. [1475] مسألة: إذا شهد أربعة بالزنا على امرأة لم تقبل شهادة الزوج عليها ويلاعن ويحد الثلاثة، وقال أبو حنيفة يقبل إذا لم يكن قد تقدم منه قذف لها ويحد للمرأة؛ فدليلنا قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم "، الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم لهلال: «ألك بينة وإلا حد في ظهرك»، ولو كان يجزيه ثلاثة مع شهادته لم يكلفه أربعة، ولأنها بينة في الزنا لم تتم إلا بالزوج، فوجب أن لا يحكم بها كما لو قذفها ثم شهد عليها بعد القذف. [1476] مسألة: إذا قالت امرأة لزوجها أو لأجنبي: يا زانية بلفظ التأنيث، أو قاله أجنبي لأجنبي، فلا نعرف فيها نصاً، وقال من أدركناه من

شيوخنا يجب أن يكون قذفاً، خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف؛ فدليلنا أن اللّفظ إذا فهم معناه لم يضر دخول اللّحن والغلط في اللّفظ من موجبه، أصله لو لحن فيه فقال: أنت زانياً، وقد ذكر عنهم أنّهم يسلّمون أن قول الرجل للمرأة يا زان، قذف، فنقيس عليه قول المرأة للرجل يا زانية، ولأن أشد ما في ذلك أن يكون تعريضاً، وذلك يوجب الحدّ عندنا، ولأن له وجهاً صحيحاً يعبر عنه بهذه العبارة وهو أن يريد يا نسمة زانية. [1477] مسألة: إذا بانت منه زوجته بالطلاق الثلاث أو بالخلع، ثم قال: رأيتها تزني في عدتها، فله أن يلاعن، كان هناك حمل أو لم يكن، وقال الشافعي: له أن يلاعن إن كان هناك نسب ينفيه، فإن لم يكن نسب فليس له أن يلاعن، وقال أبو حنيفة ليس له أن يلاعن على كل وجه. فدليلنا على الشافعي أنه قد يأتي من أهل الزنا ولد يخاف أن يلحق به إن لم ينفه، ولأنه قذفها بشرط حصل وحكم الفراش ثابت في الماء والنسب، فجاز له تحقيقه باللعان، أصله إذا كان هناك نسب. ودليلنا على أبي حنيفة أنه قذف هو محتاج إليه فجاز له تحقيقه باللّعان كما لو قذفها قبل الطلاق، ولأنه قذفها بزنا في حال لو أتت بولد للحق به فكان له تحقيقه باللّعان، أصله الزوجة. [1478] مسألة: إذا ظهر بالمرأة حمل والزوج حاضر فلم ينفه حتى وضعت، أو قبل أن تضع وقد سكت عن نفيه بعد علمه به، لم يكن له أن يلاعنها ويلحق به إلا أن يكون له عذر في سكوته، وقال أبو حنيفة له أن ينفيه بعد الوضع بيوم أو يومين؛ فدليلنا على أنّه لا يلاعن، أن العرف يكدذبه لأنه ليس لسكوته وجه يحمل عليه إلا الرضا، لأنه لو أراد نفيه لم يسكت عنه، فلمّا سكت عنه وهو قادر على نفيه ولا عذر له في سكوته كان كاعترافه به. [1479] مسألة: إذا قال لها: يا زانية، فقالت بك زنيت، فذلك صريح في القذف، فإن كانت أجنبية حدت للزنا وحدّت للقذف ولا حدّ عليه، وإن كانت زوجة فكذلك أيضاً، ولا لعان على الزوج، وقال الشافعي

ليس ذلك بصريح في القذف، فإن أرادت به القذف كان قذفاً، وللزوج أن يلاعن؛ فدليلنا أن قولها: بك زنيت تصديق منها له بأنّها زنت وادعاء عليه أنّه زنى كما لو قالت: زنيت وزنيت أنت. [1480] مسألة: الأمة تصير فراشاً بوطئه وبإقراره بالوطء، فإذا أتت بولد لستة أشهر من يوم وطئها أو أقر بوطئها ثبت نسبه منه، إلا أن ينفيه فيدّعي الاستبراء، وقال أبو حنيفة لا تصير فراشاً بحال ولا يلحق به ولدها إلا أن يقر بنسبه؛ فدليلنا حديث سعد وعبد بن زمعة لما اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن وليدة زمعة، فقال سعد: أخي عهد إلي فيه، وقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة، وقال: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، ولأن الوطء بالملك سبب يثبت به تحريم المصاهرة، فجاز أن تصير به المرأة فراشاً كعقد النكاح، ولأنّه وطء لا يجب به الحدّ على الواطىء بحال، صادف من ليست بفراش فجاز أن يثبت به الفراش كالوطء في النكاح الفاسد. [1481] مسألة: إذا عقد على امرأته فأتت بولد لا يمكن أن يكون منه لم يلحق به، وقال أبو حنيفة إمكان الوطء غير معتبر في لحوق النسب، والمعتبر حصول العقد وكون الزوج ممن يمكنه الوطء؛ فدليلنا أنها أتت بولد لا يمكن أن يكون منه، فوجب أن لا يلحق به كالصغير. * * *

كتاب العدة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب العدة [1482] مسألة: الأقراء المعتد بها في العدة الأطهار؛ وقال أبو حنيفة الحيض؛ فدليلنا قوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " وفيه أدلة: أحدها: أن القرء في اللغة اسم للطهر والحيض، والمراد أحدهما فيجب إذا قعدت ما ينطلق عليه الاسم أن يجزيها، وإن شئت بنيته على الأخذ بأوائل الأسماء كما فعلنا ذلك في نظائره من الأبوين والشفقين. والآخر: أنه بصيغة التذكير، لأن جمع المؤنث، ما دون العشرة، بغير هاء، وذلك يفيد أنه جمع قرء وهو طهر لا حيض. والثالث: أن إطلاق الأمر والاخبار على الفور، ولا يمكن ذلك إلا على الوجوب [على] ما نقوله أن يطلّقها طاهرًا فتعتدّ عقيب الطلاق، أو حائضاً فعقيب الحيض.

وقوله تعالى: " فطلقوهن لعدتهن " أي في حال يعتددن فيها، وعندهم أن حال الطهر ليست بحال عدة، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: «مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء طلّق وإن شاء أمسك، فتلك العدّة التي أمر الله بها أن تطلّق لها النساء»، وهذا نص، ولأنّه حيض كالذي يطلّق فيه، ولأنه زمان يجوز إيقاع الطلاق فيه فوجب أن يكون معتدًا فيه، أصله الحمل. [1483] مسألة: إذا تأخر حيضها لا لعارض فإنها تجلس غالب مدّة الحمل، وهو تسعة أشهر، ثم ثلاثة، والعدّة هي الثلاثة الأشهر التي بعد التسعة وإن حاضت قبل السنة ولو بيوم حسب ما مضى قرءًا، وإن تمّت السنة من غير حيض حلّت، وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد تمكث أبدًا حتى براءة رحمها قطعًا؛ فدليلنا أن ذلك مروي عن عمر بن الخطاب، ولا مخالف له، وروي أنه قال: أيما امرأة طلّقت فحاضت حيضة أو حيضتين، ثم رفعتها حيضتها، فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل فذاك، وإلا اعتدت بعد التسعة بثلاثة أشهر ثم حلّت، ولأن الغرض من ذلك العلم ببراءة الرحم، وقد بطل أن يراعى فيه اليقين والقطع، لأن ذلك يوجب أن تجلس أقصى مدة الحمل، وأن لا يحكم ببراءة رحمها بمضي الثلاثة الأقراء، ومضي الثلاثة الأشهر لمن قد قاربت البلوغ، وذلك باطل، فلم يبق إلا الاعتبار بالظاهر وقد حصل. [1484] مسألة: الصبي الذي لا يجامع مثله إذا مات وامرأته حامل فإنها تعتدّ بالشهور دون وضع الحمل، وفائدة ذلك أنّها إن وضعت قبل مضي أربعة أشهر لم تحل حتى تمضي الشهور، وقال أبو حنيفة تعتدّ بوضع

الحمل؛ فدليلنا أنّه حمل لا يمكن أن يكون منه، فلم ينقض به العدّة عنه كما لو حملته بعد وفاته ولأنها معتدة من وفاة ممّن لا يجامع مثله، فوجب أن يكون عدّتها بالشهور كالحامل. [1485] مسألة: إذا كانت حاملاً بولدين فوضعت واحدًا لم تنقض العدّة إلا بوضع الآخر، وقال عكرمة تنقضي العدة بوضع الأول؛ فدليلنا قوله تعالى: " أن يضعن حملهن " وهذه لم تضع الحمل، وإنّما وضعت بعضه، ولأن العدّة إنما تراد لبراءة الرحم، وما لم تضع الثاني فالرحم مشغولة غير برية فلم تنقض العدّة، ولأن العدّة بالشهور وبالأقراء وبوضع الحمل، ثم قد ثبت أنها تعتد بثلاثة أشهر كوامل، كذلك بثلاثة أقراء كوامل، فكذلك بوضع الحمل الكامل. [1486] مسألة: إذا طلّقها فأتت بولد لستة أشهر فأكثر من وقت انقضاء عدّتها ودون أربع سنين لحق بالزوج، وقال أبو حنيفة لا يلحق به؛ فدليلنا أنّها أتت به بعد زوال فراش النكاح وقبل حدوث فراش آخر يمكن أن يكون منه، فوجب أن يلحق به، أصله إذا أتت به دون ستة أشهر من وقت انقضاء العدة. [1487] مسألة: إذا خلا بزوجته على أنّه لم يصبها فعليها العدة، وقال الشافعي لا عدّة عليها؛ فدليلنا أن الخلوة تقتضي الوطء، وهي الغالب من حال من يخلو بزوجته، والوطء يوجب العدة وكمال المهر، فإذا قال لم أطأ، وساعدته على ذلك، لم يسقط حق الله الواجب بظاهر الحال، باتفاقهما على إسقاطه. [1488] مسألة: إذا طلقها أو مات عنها وهو غائب، فابتداء العدّة من وقت الطلاق والموت، لا من وقت سمعت بها، وذكر عن علي بن أبي

طالب رضي الله عنه أن العدة من وقت العلم به، وعن عمر بن عبد العزيز أنه إن ثبت ذلك بالبينة فالعدة من وقت الطلاق أو الموت، وإن ثبت بسماع فالعدّة من وقت السماع؛ فدليلنا قوله تعالى: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " ولم يفرق، ولأنها عدّة عن طلاق أو موت فكانت من وقت حصول موجبها كالحاضر. [1489] مسألة: عدة الأمة قرءان، وقال داود ثلاثة أقراء، فدليلنا أن ذلك مبني على أن طلاق العبد اثنان، وقد قدمناه، ولأنه ذو عدد ثلاث من أحكام النكاح فكان في الرق ناقصًا عن الحرية كطلاق العبد. [1490] مسألة: إذا مات عن حامل اعتدت بالوضع دون الشهور، وروي عن علي وابن عباس رضوان الله عليهما أنّها تعتد بأقصى الأجلين؛ فدليلنا قوله تعالى: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " ولم يفرق، وروي أن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد حللت فانكحي»، ولأنه يعلم بوضع الحمل

براءة رحمها كذوات الأقراء، ولأن الأشهر عدّة بنفسها فلا تجتمع مع الحمل فيصيران عدّة واحدة، أصله في حق المطلقة. [1491] مسألة: لا نفقة للمتوفى عنها إذا كانت حاملاً، وذكر عن قوم من السلف أن لها النفقة في تركة الميت؛ فدليلنا أنها معتدة من وفاة، فوجب أن لا تستحق النفقة كالحائل، ولأن ذلك لو وجب لكان الولد يستحق النفقة في حقوق الورثة، وذلك باطل كما لو وضعت. [1492] مسألة: إذا كانت المتوفى عنها المدخول بها ممن تحيض، فاعتدت بالشهور، فلا بدّ من حيضة إذا لم تكن عادتها تأخير الحيض، وقال أبو حنيفة يبريها مضي المدة من غير حيض؛ فدليلنا أنها بائن من ذوات الحيض لم يتيقن براءة رحمها فلم تبرأ إلا بالحيض أو بالتربص الدال على براءة الرحم القائم مقام الحيض، أصله المطلّقة، ولأن تأخير الحيض عن عادته من غير عارض أو سبب يعرف ريبة ولا يجوز النكاح مع الريبة. [1493] مسألة: المعتدّة إذا انقضت عدّتها ثم حدث لها ريبة قبل أن تنكح فحكمها كالتي حدثت بها الريبة في العدّة لا يجوز لها أن تتزوج، فإن تزوجت فالنكاح باطل، خلافاً لبعض الشافعية؛ لأنها نكحت مع الريبة كما لو وجد بها ريبة في العدّة، ولأنا لو صححنا النكاح كان يكون موقوفاً على العلم بالحمل، فإن بان الحمل تبينا أنه كان باطلاً وإلا كان صحيحاً، فالنكاح لا يقع موقوفاً على العلم ببراءة رحم المنكوحة. [1494] مسألة: المطلقة البائن لها السكنى دون النفقة، وقال أبو حنيفة لها النفقة والسكنى. [1495] مسألة: وقال أحمد بن حنبل لا سكنى لها؛ فدليلنا أنّه لا نفقة لها قوله تعالى: " وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن

حملهن " فدل على أنّها إذا كانت حائلاً فلا نفقة لها، وحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرها أن لا نفقة لها، وهو في «الموطأ»، ولأنها بانت عن زوج كالمتوفى عنها، ولأنه نوع من البينونة كالموت، ولأن النفقة في مقابلة التمكن من الاستمتاع، وقد زال ذلك بالبينونة. [1496] مسألة: فصل: ودليلنا على وجوب السكنى قوله تعالى: " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم "، وهذا عائد على المطلقات خاص في المبتوتات، ولأنها معتدّة عن طلاق فكان لها السكنى كالرجعية. [1497] مسألة: وللمتوفى عنها زوجها السكنى، خلافاً لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله»، ولأنّ البينونة لا تنفي وجوب السكنى كالطلاق. [1498] مسألة: إذا طلّقت أمة فاعتدّت بعض عدتها ثم أعتقت فإنّها تمضي على عدة الأمة، ولا تنتقل إلى عدة الحرة وإن كان الطلاق بائناً أو رجعياً، وقال أبو حنيفة إن كان رجعياً انقلبت إلى عدّة الحرة، وإن كان

بائناً لم تنتقل؛ فدليلنا أنها أمة معتدة عن طلاق فلم تتغير عدّتها مع بقاء زوجها، كالتي لم تعتق، ولأنها معتدة عن طلاق فلم ينتقل اعتدادها ما دامت معتدّة عنه، أصله الطلاق البائن، ولأن الاعتداد بالحيض طريقه الاستبراء من غير مراعاة زمان، فإذا لزم الأمة ثم طرأ العتق في أثنائه فلم يتغير حكمه كالأمة المستبرأة. [1499] مسألة: إذا أسقطت المطلقة مضغة أو علقة فإن عدتها تنقضي به، وقال أبو حنيفة لا تنقضي به عدّتها إلا بأن يتبين شيء من خلقه؛ فدليلنا أنّه أول خلق الآدمي مستحيل من النطفة، فوجب إذا ألقته أن تنقضي به عدّتها كما لو بان فيه تخطيط، ولأنّه ينطلق عليه اسم الحمل والإسقاط فوجب أن تنقضي به العدّة كالولد. [1500] مسألة: المبتوتة في المرض عدتها عدّة المطلقات إذا مات زوجها، وقال أبو حنيفة عدّتها أقصى الأجلين؛ فدليلنا قوله: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء "، وقوله: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن "، ولأنها مبتوتة في المرض كالمبتوتة في الصحة ولأن مرض الزوج لا تأثير له في زيادة العدّة ولا نقصانها، لا في حق المرأة ولا الزوج، بدليل أنها لو خرجت من العدة قبل موته لم يلزمها عدّة أخرى، ولو طلقها وهي مريضة لم يجب عليها من العدّة إلا ما يجب على الصحيحة، فكذلك إذا مات عنها وهي في العدّة. [1551] مسألة: الأمة الزوجة إذا دخل بها ولم تبلغ المحيض فعدتها من الطلاق ثلاثة أشهر، وكذلك الآيسة كالحرة، وللشافعي ثلاثة أقاويل: منها شهران، ومنها شهر ونصف، فدليلنا قوله تعالى: " واللاتي يئسن من

المحيض من نسائكم " إلى قوله: " واللائي لم يحضن " فعم، ولأنها طريقة العلم ببراءة الرحم تستوي فيه الحرة والأمة كوضع الحمل. [1502] مسألة: عدّة المستحاضة من الطلاق سنة إذا عدمت التمييز، وللشافعي أقاويل: منها أنّها تبقى أبدًا لا تخرج من العدّة حتى تيأس من المحيض؛ فدليلنا، أن ما قلناه مروي عن عمر، ولا مخالف له، ولأنّ الغرض أن تعلم براءة رحمها في الظاهر والغالب دون القطع، وذلك يحصل بجلوسها غالب مدة الحمل وبالثلاثة الأشهر بعده. [1503] مسألة: على الصغيرة إذا مات زوجها أو طلقها العدّة، وقال داود لا عدّة عليها؛ فدليلنا عموم الطاهر من قوله تعالى: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً " " واللاتي لم يحضن "، ولأن طلاق الزوج أو موته يوجب عدّة كالبالغ. [1504] مسألة: إذا مات المسلم عن الكتابية ففي عدّتها روايتان: إحداهما الشهور كعدّة المسلمة، والأخرى استبراء رحمها. فوجه الأولى عموم الطاهر، ولأنه نوع من البينونة كالطلاق، ولأنّها زوجة للمسلم مات عنها كالمسلمة، ولأن كل عدّة لزمت المسلمة لزمت الكتابية كوضع الحمل. ووجه الثانية أن تربصها يتعلّق به حقان، حق النسب وهو العلم ببراءة الرحم، وحق الله تعالى وهو ما زاد على ذلك إلى آخر الشهور، والكفار لا يؤخذون بحقوق الله تعالى المتجردة عن حقوق الآدميين.

[1505] مسألة: إذا تزوجت في العدّة ووطئها الثاني، فهل تتداخل العدّتان؟ أم لا؟ روايتان، فإذا قلنا إنهما تتداخلان، وهو قول أبي حنيفة، فوجهه أن الغرض الذي له ترادان هو العلم ببراءة الرحم، وذلك يحصل مع التداخل، أصله إذا حملت، وإذا قلنا لا تتداخلان، وهو قول الشافعي، فوجهه أنّه وطء له حرمة فوجب استيفاء عدّته كالأولى. [1506] مسألة: إذا أذن لزوجته في الحج فأحرمت ثم طلقها أو مات، مضت على إحرامها ولم ترجع إلى منزلها، خلافاً لأبي حنيفة في قوله إنها تقيم على عدّتها؛ لقوله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله "، ولأن الحج أسبق من العدة وينوب عن مقامها في منزلها، ولأنه يمنع النكاح والوطء فكان أولى. [1507] مسألة: الإحداد واجب على الزوجة المتوفى عنها، وحكي عن بعضهم أنّه غير واجب؛ فدليلنا، أنه صلى الله عليه وسلم سئل عمن مات زوجها فاشتكت عينها هل تكتحل؟ فقال: "لا"، ولأن الزينة والطيب داعيان إلى النكاح فمنعت منه كالمحرم، ولأنها لما منعت من التصريح بالخطبة في العدّة وكان التطيب والزينة أبلغ في الدعاء إلى النكاح منه كان أولى بالمنع. [1508] مسألة: لا إحداد على مطلّقة، خلافاً لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي؛ لأنّها معتدة عن طلاق كالرجعية.

[1509] مسألة: على الصغيرة الإحداد، خلافاً لأبي حنيفة؛ للخبر ولأنّها زوجة، فلزمها الإحداد بموت زوجها كالبالغ. [1509] مسألة: على الأمة الزوجة الإحداد، خلافاً لقوم؛ للخبر وهو أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي توفي زوجها وقد اشتكت عينها أفأكحلها؟ قال: «لا» مرتين أو ثلاثاً، وهذا نقل الحكم مع سببه، ولأن الإحداد يلزم لحق الله تعالى من غير إبطال لحق السيد، فأشبه الإمتناع من التزويج، ولأن الأمة من أهل العبادات، فالإحداد عبادة يتعلّق بها حق الله وحق الزوج وحق النسب، فوجب أن يكون لازماً لها كاستبراء الرحم، ولأنها زوجة كالحرة. [1511] مسألة: الصحيح أن على الكتابية الإحداد، خلافاً لأبي حنيفة وبعض أصحابنا؛ لعموم الخبر، واعتباراً بالمسلمة. [1512] مسألة: إذا رفعت امرأة المفقود أمرها إلى الإمام، سأل عنه وفحص عن خبره، فإذا اجتهد فلم يقف له على خبر، ضرب لها أجل أربع سنين من وقت انتهى إليه افتقاده، ثم تعتدّ عدة المتوفى، وتتزوج بعدها إن شاءت، وقال أبو حنيفة والشافعي تجلس أبدًا؛ فدليلنا إجماع الصحابة لأنه روي عن عمر وعثمان أنه يضرب لها أجل أربع سنين، ثم يفرق

بينهما، وروي مثله عن علي، ولا نعرف مخالفاً لهم، وروي عن خلق كثير من التابعين، ولأنه لما كان الخيار ثابتاً لها في الفرقة مع العنّة والإيلاء ولم يكن فيهما إلا فقد الوطء دون فقد العشرة والنفقة، كان في مسألتنا الجامعة لفقد كل ذلك أولى. [1513] مسألة: أم الولد إذا توفي سيدها استبرأت بحيضة، وحكي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنها تعتدّ أربعة أشهر وعشرا، وقال أبو حنيفة عدتها ثلاثة قروء كالحرة؛ فدليلنا أنه وطء بالملك فلم يجب له عدّة زائدة على الاستبراء كالأمة، ولأنها ليست بزوجة فيلزمها عدّة الزوجات كالأمة. [1514] مسألة: إذا قال المطلّق: قد راجعتك، فقالت قد انقضت عدتي، فالقول قولها إن كان قد مضى زمان يمكن ذلك فيه، وقال أبو يوسف ومحمد: القول قول الزوج؛ فدليلنا أن المرأة مؤتمنة على ذلك لقوله تعالى: " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن "، ولأن ذلك لا يوصل إلى العلم به إلا من جهتها، فكان القول قولها، ولأنها لو قالت: لم تنقض عدتي، وقال الزوج بل انقضت فإن القول قولها، فكذلك إذا ادعى الزوج بقاءها وأدعت هي زوالها، لأن ذلك دعوى في العدد. [1515] مسألة: في أكثر الحمل ثلاث روايات، الصحيح منها أربع سنين، وقال أبو حنيفة أكثره سنتان، وقال داود لا يكون الحمل أكثر من تسعة أشهر؛ فدليلنا على أبي حنيفة ما روي أن عمر بن الخطاب ضرب

لامرأة المفقود أجلاً أربع سنين ولم يكن ذلك إلا أنّه غاية الحمل، وروي مثله عن عثمان وعلي، ولا مخالف لهم، ولأن بالمدينة كان مستفيضاً عندهم أن نساء الماجشون كن يلدن لأربع سنين، ولأن ما زاد على السنتين لو لم يكن مدة للحمل لم يلحق به إذا ادعاه وأكذبته، [و] في لحوقه به دليل على أنّه من مدّته، فدليلنا على داود ما ذكرناه. [1516] مسألة: إذا عجزت المكاتبة جاز له وطؤها، ولا حاجة به إلى الإستبراء، خلافاً للشافعي؛ لأنها لم تزل عن ملكه فلم يحتج إلى استبرائها كالأمة. [1517] مسألة: لا يجوز العقد على حامل من زنا حتى تضع حملها، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن "، ولأنه حمل لا يلحق به، فلم يجز العقد له على الحامل به، أصله إذا كان لاحقاً لغيره. ***

كتاب الرضاع

كتاب الرضاع [1518] مسألة: لبن الفحل يحرم، خلافاً لقوم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الزضاع ما يحرم من الولادة»، وعن عائشة قالت: جاء عمّي من الرضاعة فاستأذن علي، فأبيت أن آذن له، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: «إنّه عمك فأذني له» فقلت: إنّما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل، فقال: «إنّه عمك فليلج عليك» وذلك بعد أن ضرب علينا الحجاب، ولأنه تحريم يثبت بالنسب فوجب أن يثبت مثله بالرضاع كالأمومة. [1519] مسألة: تحرمم المصة الواحدة، وقال الشافعي لا يحرم إلا خمس رضعات، وقال قوم ثلاث رضعات؛ فدليلنا قوله تعالى: " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ". وقوله صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة»، ولأن كل معنى أوجب حرمة يقتضي تحريماً مؤبداً، فإنّه يعتبر وجود تحريمه من غير عدد، أصله العقد والوطء، واعتباراً بالخمس، بعلّة أنّه ارتضاع من لبن له تأثير في التحريم من مدّة الحولين.

[1520] مسألة: لا يحرم رضاع الكبير، خلافاً لما روي عن عائشة رضي الله عنها، فدليلنا قوله تعالى: " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة "، وقوله تعالى: " وفصاله في عامين "، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الرضاعة من المجاعة» و «لا رضاع إلا ما أنبت اللّحم وأنشر العظم». [1521] مسألة: وفيما زاد على الحولين خلاف، لما روى ابن عبد الحكم أن الأيام اليسيرة في حكم الحولين، وروى ابن القاسم شهرين، وروى عبد الملك شهرًا ونحوه، وقال محمد بن عبد الحكم لا يحرم ما زاد على الحولين بوجه، وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة ستة أشهر؛ فدليلنا [على] أن الزيادة اليسيرة معتبرة قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّما الرضاعة من المجاعة» ومعلوم أن الطفل لا يستغني بالطعام بعد يوم أو يومين من فطامه، فكان ذلك كرضاعه في الحولين، ولأنه إرضاع مع المجاعة إليه كالحولين؛ ودليلنا على أبي حنيفة أنها مدّة زائدة على الحولين فيستغنى فيها بالطعام فلم يؤثر إرضاعه فيها كالسنة. [1522] مسألة: الإرتضاع من الميتة يوجب التحريم، خلافاً للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الرضاعة من المجاعة»، وقوله: «لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء»، ولأنه لبن آدمية وصل إلى جوف المرضع في مدّة الحولين

كاللبن المأخوذ بحال الحياة، ولأنّها إحدى حالتي المرأة كالحياة. [1523] مسألة: إذا استهلك اللّبن في ماء أو مائع أو دواء، وغلب، فشربه صبي لم يثبت به حكم الرضاع، خلافاً للشافعي؛ لأنّ استهلاكه في الماء يبطل حكمه، ويجعل الحكم للماء، ولأنه لا يقع عليه اسم اللّبن، ولهذا لا يجب به [الحنث إذا حلف لا يشرب لبنا وشربه] فأشبه الماء الخالص، ولأن تعلّق تحريم المناكحة باللبن كتعلق وجوب الحدّ بشرب الخمر، ثم قد ثبت أن النقطة من الخمر إذا استهلكت في الماء فإنّه لا يتعلّق بشربه حدّ، وكذلك اللّبن. [1524] مسألة: إذا فصل قبل الحولين واستغنى بالطعام، ثم أرضع في الحولين لم يحرم، وقال الشافعي يحرم ما دام في الحولين؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الرضاعة من المجاعة» وقوله: «الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم»، وكل هذا تعلّق الرضاع بالحاجة إليه، ولأنه رضاع لمستغن عنه بالطعام كما لو كان بعد انقضاء المدّة. [1525] مسألة: الوجور يحرم، خلافاً لداود؛ لأنه صفة لوصول اللبن إلى الجوف كالإرضاع. [1526] مسألة: الحقنة باللبن لا تحرم، خلافاً لبعض أصحابنا وأحد قولي الشافعي؛ لأنه وصول اللّبن إلى الجوف بحيث لا يحصل به تغذ بحال كرضاع الكبير.

كتاب النفقات

كتاب النفقات [1527] مسألة: الإعتبار في نفقات الزوجات بحال الزوجين معاً، يفرض لها كفايتها على ما يرى من قدرها وقدره في العسر واليسر، وليست بقدر محدود، وقال الشافعي هي مقدّرة لا اجتهاد فيها، معتبرة بحال الزوج وحده، فعلى الموسر مدّان، وعلى المتوسط مذ ونصف، وعلى المعسر مدّ؛ فدليلنا قوله تعالى: " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف "، وذلك ينفي التقدير، وقوله صلى الله عليه وسلم لهند، وقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فردها إلى ما تعلمه كافياً لها من غير تحديد، ولأنّ النفقة في مقابلة الإستمتاع وما تبذله من ذلك غير محدود فكذلك العوض عنه. [1528] مسألة: إذا لم يكفها خادم واحدة وكانت حاله تحتمل، أخدمها خدمة مثلها، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: " وعاشروهن بالمعروف " ولأنّه لما وجب إخدامها بالواحدة لحاجتها إليها، كذلك إذا احتاجت إلى الزيادة عليها، ولأنه نوعٌ من المؤنة يلزمه لها

فكان الواجب منه قدر كفايتها إذا احتملت حاله كالكسوة. [1529] مسألة: إذا تزوج الكبير بصغيرة لا يوطأ مثلها فلا نفقة لها، خلافاً للشافعي في أحد قوليه؛ لأن الإستمتاع يتعذر منها لقصورها عن بلوغه، فلم تستحق العوض عليه، ولأنه لو وجبت النفقة لها لكان يجب لها بنفس العقد وذلك باطل اعتبارًا بالناشز، ولأنّ البدل إذا كان في مقابلته مبدل فإن تعذر تسليم البدل يمنع وجوب تسليم المبدل، سواء كان بتفريط أو بعذر كالبيع. [1530] مسألة: الصغير إذا تزوج الكبيرة فلا نفقة عليه إن كان مثله لا يطأ، وقال الشافعي في أحد قوليه يلزمه؛ لأنّ النفقة عوض من الإستمتاع فإذا كان الزوج ممّن لا يتأتى منه الإستمتاع لقصوره فلا نفقة عليه، ولأنها لما عقدت على نفسها لمن لا يتأتى منه الإستمتاع لا لعارض فقد رضيت بترك النفقة، لأنها قد علمت أنّ الزوج لا يحصل له عوضها. [1531] مسألة: النفقة بالزوجية تسقط بالنشوز، وحكي عن ابن عبد الحكم أنّها لا تسقط؛ فدليلنا أن النفقة في مقابلة التمكين من الإستمتاع فإذا منعته لم تستحق بدله، كالأجرة في مقابلة المنفعة، والثمن والمثمن. [1532] مسألة: إذا أعسر بالنفقة ثبت لها المطالبة بالفراق، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله تعالى: " وعاشروهن بالمعروف "، وقوله تعالى: " فإمسأك بمعروف أو تسريح بإحسان "، وقوله صلى الله عليه وسلم: «تقول امرأتك أنفق علي أو طلقني» وهذا إخبار عما لها أن تفعله، ولأن النفقة في مقابلة

الإستمتاع، فلمّا كان إذا نشزت لا نفقة لها بمنع الإستمتاع، فكذلك إذا لم يجد النفقة من جهته فلها مفارقته، ولأنه لما كان لها مفارقته في الإيلاء والعنة وضررهما أيسر من ضرورة عدم النفقة، فكان في عدم النفقة أولى. [1533] مسألة: الإعسار بالصداق قبل الدخول يوجب لها الفرقة إذا طالبت بذلك، خلافًا لأبي حنيفة؛ لاتفاقنا على أنها لها أن تمنع نفسها حتى تقبض الصداق، كما للبائع أن يمنع إقباض السلعة حتى يقبض الثمن، ولأن في منع المفارقة إضرارًا بها، لأنها إما أن تلزم الرضا بذمته أو انتظاره إلى أن يتبين [اليسر] وكل ذلك ضرر، ولأن سبب تعذر الإستمتاع إذا كان من جهته وآل إلى الضرر ثبت لها الخيار كالعنة والإيلاء. [1534] مسألة: لا يلزم الأم إنفاق على الولد، وقال الشافعي يلزمها عند عدم الأب والجد؛ فدليلنا أن كل من لا يلزمها إرضاعه في بعض الأوقات إلا بعوض، لم يلزمها الإنفاق عليه كالأجنبية، ولأن الإنفاق على شخص إذا وجب على إنسان، لم ينتقل إلى غيره من الأقارب اعتبارًا بالعم والخال أنه لا يلزمه نفقة الولد بعد موت الأب. [1535] مسألة: لا يلزم الجد النفقة على ولد الولد، خلافاً للشافعي؛ لأنّه قد حال بينه وبين من تلزمه له النفقة فلم تنتقل إليه بعد موته كالأخ، وكذلك الخلاف في وجوب نفقة الجد على ولد ولده، ولأن النفقة على الأقارب لا تجب انتقالاً، وإنما تجب ابتداء اعتبارًا بغير الوالدين وا لمولودين. [1536] مسألة: لا تجب النفقة لغير الوالدين دنية والأولاد دنية، وقال الشافعي تجب عليه لكل ذي رحم محرم منه كالأخوة والأخوات وغيرهم؛

ودليلنا أنها قرابة بعدت عن الولادة من الطرفين فلم تجب بها نفقة كابن العم. [1537] مسألة: على الأم إرضاع ولدها إذا كانت زوجة أبيهم، إلا أن يكون مثلها لا يرضع لشرف وعز وعلوِّ قدر، أو لسقم وقلة لبن، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجب ذلك عليها في الحالين، وقال أبو ثور يجب ذلك عليها في الحالين. ودليلنا على أبي حنيفة والشافعي قوله تعالى: " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين "، ولا يجوز أن يكون المراد به الخبر، لأنّه لا فائدة فيه، فثبت أن المراد به الأمر، ولأن العرف جار بذلك في غالب أمور الناس أن المرأة تلي رضاع ولدها بنفسها من غير أن يكلّف زوجها أجرة، وما يجري العرف به فهو كالشروط، ولأنه لو كان لا يقبل من الرضاع غيرها للزمها إرضاعه، وما يستحق على الإنسان الجبر عليه لا يستحق عليه أجرة عكسه الأجنبية. ودليلنا على أبي ثور أن العرف جار بأن مثلها لا يرضع، ففي تكليفها خلاف العرف من حدّ ما دخلا عليه إضرار بها فلم يلزم. [1538] مسألة: لا يسقط عن الأب نفقة الإبنة ببلوغها حتى تتزوج ويدخل بها زوجها، وقال أبو حنيفة والشافعي تسقط نفقتها ببلوغها؛ فدليلنا أن كل حال ثبت له فيها إجبارها على النكاح وجب نفقتها عليه كالصغيرة. [1539] مسألة: يلزم الإبن النفقة على أبيه إذا كان معسراً وإن كان صحيحاً، خلافاً للشافعي في أحد قوليه إنه لا تلزمه النفقة له إلا إذا كان فقيراً زمناً؛ لقوله تعالى: " وبالوالدين إحساناً " واعتبارًا بكونه زمناً مع تأكده مع الأولاد.

مبيت المبتوتة في بيتها

[1540] مسألة: إذا أسلمت المرأة نفسها وأمكنت من الإستمتاع والزوج قادر على ذلك استقرت لها النفقة من غير حاجة إلى فرض الحاكم، وقال أبو حنيفة لا تستقر لها إلا بفرض الحاكم؛ ودليلنا أنه حق مالي يجب في مقابلة الإستمتاع، فإذا أسلمت نفسها وأمكنت من بدلها لم ينتظر فرض الحاكم كالمهر، لأنه عوض على منفعة كالأجرة على الإجارة. [مبيت المبتوتة في بيتها] [1541] مسألة: لا يجوز لمبتوتة أن تبيت في غير بيتها حتى تنقضي عدّتها؛ خلافاً لأحد قولي الشافعي؛ لأنها بائن كالمتوفى عنها. [الحضانة] [1542] مسألة: إذا تزوجت الأم ودخل الزوج بها سقطت حضانتها، خلافاً لما يحكى عن الحسن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنت أحق به ما لم تنكحي» ولأنه يلحق الضرر بالصبي بكونه مع زوج أمه ويلحق أباه أيضاً فكان [له] إزالته عنه. [1543] مسألة: الحضانة ثابتة للأم على البنت إلى أن يدخل زوج البنت بها، وقال الشافعي تنقطع حضانتها أيام بلوغ البنت؛ فدليلنا أن بلوغها لم يؤثر في سقوط إجبار الأب إياها عن النكاح، فلم يؤثر في سقوط الحضانة كحال الصغير، ولأنّ الإبنة محتاجة من الحفظ والمراعاة إلى

أكثر ممّا يحتاج إليه الإبن، وحاجتها إلى ذلك بعد البلوغ أكثر وأشدّ. [1544] مسألة: إذا أراد الأب النقلة إلى بلد آخر فهو أحق بالولد، وكذلك لو أرادت الأم النقلة كان الأب أحق بالولد، وقال أبو حنيفة إذا أراد الأب النقلة فالأم أحق بهم، وإن أرادت الأم النقلة فإن انتقلت من قرية إلى بلد فهي أحق، وإن انتقلت من بلد إلى قرية فالأب أحق؛ فدليلنا أن كونه مع أبيه مصلحة متأبدة [وكونه مع أمه مصلحة] مؤقتة تزول عن قريب، ومراعاة المصلحة المتأبدة أولى، واعتبارًا به إذا أرادت الأم النقلة عن بلد إلى قرية. * * *

كتاب الجنايات

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الجنايات [1545] مسألة: يقتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل ولا تراجع بينهما في الدّيات، وحكي عن عطاء أن الرجل إذا قتل المرأة خير وليها فإن شاء أخذ ديتها وإن شاء دفع إلى القاتل نصف دية رجل وقتله؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن شاءوا قتلوا» فعم، ولأنه شخص قتل مكافئاً له في دينه، فلم يكن له إلا القصاص كالرجلين. [1546] مسألة: لا يقتل مسلم بكافر، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: يقتل المسلم بالذمي؛ لقوله تعالى: " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا "، وقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكأفأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ألا لا يقتل مسلم بكافر»، ولأنّه ناقص بالكفر

كالحربي والمستأمن، ولأنه حد لا يجب استيفاؤه إلا بالمطالبة، فلم يجب لكافر على مسلم كحدّ القذف. [1547] مسألة: إذا قتل كافر كافرًا ثم أسلم القاتل لم يسقط القود عنه خلافاً لما يحكى عن الأوزاعي؛ لحديث ابن البيلماني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد مسلماً بكافر، ولا يمكن حمله إلا على هذا الوجه، ولأنه حق لآدمي طريقه الحد، فلم يسقط عنه كسائر الحقوق، ولأن الاعتبار بالحدود حال وجوبها لا حال استيفائها. [1548] مسألة: لا يقتل حر بعبد، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله: يقتل حر بعبد غيره، ولداود في قوله: يقتل بعبد نفسه وعبد غيره؛ لقوله تعالى: " الحر بالحر والعبد بالعبد "، وروي عن عمرو بن زياد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقتل حر بعبد» وهذا نص، ولأنه ناقص بالرق كما لو كان مملوكاً لقاتله، ولأنه نوع من القصاص فلم يستحقه العبد على

الحر كالأطراف، ولأن حرمة النفس آكد من حرمة الأطراف، ولأنه شخص لا يجب له القصاص من أطراف شخص، فكذلك من نفسه كالمسلم والمستأمن. [1549] مسألة: إذا قتل الحر العبد فعليه قيمته بكمالها بالغة ما بلغت، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنها إن بلغت دية الحر وزادت نقصت عنها عشرة دراهم؛ لقوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم "، والمثل تارة من طريق الصورة وتارة من طريق القيمة، وأيهما كان فيجب بحق الظاهر وكماله، ولأنّه مملوك فوجب أن يضمن في إتلافه بكمال قيمته كالسلع، ولأنه متلف يرجع في ضمانه إلى القيمة، فوجب أن يضمن بكمالها كالبهائم، ولأنه سبب يضمن به العبد فوجب أن يضمن بكمال قيمته كاليد والعين، ولأنه متلف لا يتقدر أقل مثله فلم يتقدر أكثره، كسائر المتلفات، ولأنهأ قيمة للمملوك أتلفت، فوجب أن تجب بكمالها، أصله إذا نقصت عن دية الحر. [1550] مسألة: إذا تعمّد الأب قتل ابنه قتل به، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لعموم الظاهر في إيجاب القصاص، ولأنهما شخصان متساويان في الحرمة والدين فكان القصاص جارياً بينهما كالأجنبيين، ولأنه بالغ عاقل تعمّد قتل حر مسلم غير مستحق الدم ظلمًا، فكان القود مستحقاً عليه كالأجنبي، ولأنه مكافىء لدمه؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم»، فإذا ثبت ذلك فكل شخصين تكافأت دماؤهما فالقصاص جار بينهما كالأجانب، ولأن القصاص حق من حقوق الآدميين فجاز أن يثبت للابن على الأب، أصله سائر الحقوق. [1551] مسألة: القصاص جار بين الرجل والمرأة في الأطراف من الطرفين، وقال أبو حنيفة: لا يقطع طرف أحدهما بطرف الآخر؛ فدليلنا

قوله تعالى: " والجروح قصاص "، ولأنّ كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس، فكذلك فيما دونها كالرجلين والمرأتين، ولأنه نوع من القصاص كالنفس، ولأن حرمة النفس آكد. [1552] مسألة: وتقتل الجماعة بالواحد، خلافاً لداود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «العمد قود كلّه»، وقوله: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن شاءوا قتلوا» فعم، ولأنه إجماع الصحابة لأنه روي عن عمر وعلي وابن عباس، ولا مخالف لهم، ولأنّ كل حد وجب للإنسان على غيره إذا انفرد به وجب عليه وإن شارك فيه كحد القذف. [1553] مسألة: تقطع أطراف الجماعة بطرف الواحد إذا اشتركوا في قطعه، وقال أبو حنيفة: لا تقطع، فدليلنا أنها جناية لو انفرد بها الواحد لزمه القصاص، فإذا أشترك فيها الجماعة جاز أن يلزمهم القصاص كالجناية على النفس، ولأن كل من لم يمنع جريان القصاص في النفس لم يمنع جريانه في الأطراف كالنسب والسن، فكذلك الاشتراك. [1554] مسألة: ويجب القود من القتل بالمثقل، خلافاً لأبي حنيفة

أنّه لا قود إلا في القتل بالمحدّد؛ لقوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " الآية، وقوله تعالى: " فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به "، وسائر الظواهر والأخبار، وروى أنس: أن يهودياً رضخ رأس أنصارية فقيل: أقتلك فلان؟ قالت: لا، فقيل: وفلان؟ إلى أن ذكر لها اليهودي فأشارت: أي نعم، فأخذ فاعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين، ولأنها آلة يقصد بها القتل في الغالب فجاز أن يجب القود بها، أصله المحدّد، ولأنه تعمّد قتل مكافىء لدمه ظلماً، فأشبه أن يحرقه بالنار، ولأنّ في إسقاط ذلك ذريعة إلى التسرع إلى القتل. [1555] مسألة: إذا أكره إنسان على قتل إنسان ظلماً، قتل المكرِه والمكرَه، ولا فصل بين إكراه الحر للحر والسيد لعبده، وقال أبو حنيفة: يجب القود أو الدية على الآمر دون المأمور، وعند الشافعي أن على الآمر القود، وفي المأمور قولان: أحدهما: أن عليه القود، والآخر: أنه لا قود وعليه نصف الدية، وقال زفر: يقتص من المأمور المباشر للقتل ولا شيء على مكرهه، وقال أبو يوسف: لا قود على واحد منهما، وعليهما الدّية. فدليلنا أن على المأمور القود قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث»، فذكر: «أو قتل نفس»، وسائر الأخبار، ولأنّه قتله ظلماً

لاستبقاء نفسه فلم يسقط عنه القود، أصله إذا خاف التلف بالجوع فقتله ليأكله، ولأنه قتل شخصاً مكافئاً له ظلماً بغير حق، فأشبه المبتدىء بالقتل، ولأن التلف بضرورة الجوع متحقق وبالإكراه مظنون، ثم في أشدّ الضرورتين يجب القود ففي أضعفهما أولى. ودليلنا على أن على الآمر القود، أنها مباشرة مع سبب ملجىء فوجب أن يتعلّق الحكم بالسبب، كما لو شهد شاهدان على رجل بالقتل فقتله الحاكم فإن الحكم يتعلق بهما. [1556] مسألة: إذا أمسكه عامدًا على من يعلم أنه يقتله ظلماً عمداً، قتل الممسك والقاتل، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل "، والاستدلال فهذا مفروض في ذابح لا يقتل بالمذبوح، ولأنه أمسكه على من يعلمه قاتلاً له ظلماً بغير حق، فوجب أن يلزمه القود، أصله إذا أمسكه على نار حتى احترق. [1557] مسألة: في الواجب بقتل العمد روايتان: إحداهما القود، وهو قول أبي حنيفة، والأخرى التخيير بين القود والدية، وهو قول الشافعي. فوجه الأولى، قوله صلى الله عليه وسلم: «العمد قود كلّه إلا أن يعفو ولي المقتول»، ولأنه معنى موجب للقتل فلم يجب به مال كالزنا مع الإحصان، ولأنه أحد أنواع القتل فوجب أن يتعين موجبه من غير تخيير، أصله قتل الخطأ، ولأنه أحد بدلي النفس، فكان وجوبه مانعًا من وجوب البدل الآخر، أصله الدّية، ولأن الأصول موضوعة على أن كل متلف فإنّما يلزم متلفه مثله، ولا ينتقل إلى غير مثله إلا بالتراضي، أو بتعذر استيفاء المثل، كذلك في مسألتنا.

ووجه التخيير قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين، إن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا عفوا وأخذوا الدية»، ولأنه قود سقط بالعفو فوجب أن تثبت الديه من غير رضا القاتل، أصله إذا عفا بعض الأولياء، ولأنّه أحد بدلي النفس فلم يقف وجوبه على رضا القاتل، أصله الدّية، ولأنّه مضمون تعذر فيه القود من غير عفو عن المال، فوجب أن يثبت فيه الدّية من غير رضا القاتل مع القدرة على الاستيفاء، كالأب إذا قتل ابنه على وجه الشبهة، ولأنّ الإنسان مأمور بإحياء نفسه منهي عن تعريضها للتلف متى، ولم يجبر على إعطاء الدية كان في ذلك توفية ماله بإهلاك [نفسه]. [1558] مسألة: يرث القود عصبة المقتول دون من ليس بعصبة من النساء وسائر الأقارب، وعنه رواية أخرى: أن لهن مدخلاً في الدم إذا لم يكن في درجتهن عصبة. فوجه قوله: إنه لا مدخل لهن في الدم، أنّ ولاية الدم مستحقة بالنصرة ولسن من أهلها، فلم يكن لهن مدخل في الولاية المستحقة بها، ولأنهت لما لم يدخلن في العقل عنه فكذلك في ولاية دمه كذوي الأرحام. ووجه قوله: إن لهن مدخلاً فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل له قتيل فأهله بخير النظرين» فعم، وقوله: «يحلف خمسون منكم»، ولم يخص،

ولأنّ القصاص مستحق على استحقاق الميراث، فوجب أن يثبت لجميع الورثة كسائر الحقوق. [1559] مسألة: إذا كان بعض العصبة أصاغر وبعضهم أكابر فولاية الدم للأكابر، خلافاً للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إلا أن يعفو ولي المقتول»، وهذا يفيد كونه من أهل العفو، ولأنها ولاية مستحقة بالتعصيب، فلا مدخل للصغير والمجنون فيها كالإنكاح، ولا يلزم عليه الغائب لأن الغيبة لا تزيل ولايته. [1560] مسألة: إذا قتل رجل جماعة وجب عليه لجميعهم القود، وقال الشافعي: يقتل لأحدهم وتكون عليه الدية للباقين؛ وهذا مبني على ما قدمناه من أن المستحق بقتل العمد القود دون التخيير، وإن بنيناه على رواية التخيير فكذلك أيضاً، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل لهم أخذ الدية في الموضع الذي يمكن استيفاء القود وذلك مع الحياة. [1561] مسألة: السراية عن القصاص غير مضمونة، خلافاً لأبي حنيفة، لأنها سراية عن قطع مباح غير مجتهد فيه، فلم تكن مضمونة كالإمام إذا حدّ رجلاً أو قطعه في السرقة، ولأنه قطع استحق عليه بسبب كان منه، فلم يضمن سرايته كالقطع في السرقة، ولأن كل فعل كان مضموناً في الابتداء كان ما سرى إليه مضموناً كقطع اليد ابتداء، وكل ما كان غير مضمون في الابتداء كان ما سرى إليه غير مضمون كالقطع في السرقة، فلما تبين أن القطع في القصاص ابتداء لا يضمن، كذلك ما سرى إليه. [1562] مسألة: إذا مات قاتل العمد سقط حق ولي الدّم، وقال الشافعي: تجب الدّية في ماله؛ فدليلنا أنه حق وجب استيفاؤه من عين فإذا تلفت ابتداء سقط الحق المتعلّق بها، أصله موت السارق قبل قطعه. [1563] مسألة: إذا اشترك العامد والمخطىء، والكبير والصغير في

القتل، فعلى العامد والبالغ القود، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا قود عليه؛ فدليلنا عموم الظاهر، ولأنه قاتل عمد فأشبه المنفرد، ولأنها شركة في قتل، فلم يؤثر في إسقاط الجنس الذي يجب به حال الانفراد، أصله إذا كانوا عامدين أو مخطئين، ولأنهما اشتركا في إتلاف النفس على صفتين مختلفتين، فوجب أن لا تؤثر شركة أحدهما الآخر في سقوط ما كان يجب عليه جنسه لو لم يشاركه، أصله وجوب الدية على المخطىء، ولأنه نوع من القتل فوجب أن تجب به حال الاشتراك الجنس الذي يجب به حال الانفراد، أصله الخطأ، ولأن كل ما لو انفرد بالقتل لزمه القود، فإذا شاركه فيه من لا قود عليه لم يسقط القود عنه، أصله مع الشافعي الأب والأجنبي. [1564] مسألة: عمد الصغير خطأ، وقال الشافعي: عمده عمد؛ فدليلنا أنه قتل لا يجب به قصاص ولا إثم، فلم يكن له حكم العمد كخطأ الكبير، ولأنه قتل من صغير كالخطأ. [1565] مسألة: لا يجب أخذ القصاص من جرح إلا بعد الاندمال، خلافاً للشافعي؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد من جرح حتى يندمل، ولأنه قد يؤول إلى النفس فيعاد القود ثانية، وذلك خروج عن المماثلة، ولأن المقتص له قد يموت قبل الجاني وربما تلف وبرىء الجاني فيكون ذلك سلفاً في القصاص، وذلك غير جائز. [1566] مسألة: لا تؤخذ يمنى بيسرى، خلافاً لابن شبرمة، لأنه طرف يختص باسم لا يفارقه مع اختلاف الصفات عليه، فلم يؤخذ بطرف

لا يشاركه في ذلك الاسم كاليد والرجل. [1567] مسألة: إذا قطع حر يد عبد لزمه ما نقص، وإن تلف الغرض المقصود منه، كان السيد مخيرًا بين أخذ ما نقص، أو تسليمه وأخذ القيمة كاملة، وقال الشافعي: على الجاني كمال القيمة، ولا يلزم السيد تسليم العبد؛ فدليلنا على أنّه يلزمه ما نقص إذا لم يكن قد أتلف الغرض المقصود منه، أنّها جناية على طرف أو قطع عضو، فلم يجب فيه ما يجب في إتلاف النفس على وجه التقدير، أصله الطرف الواحد، ولأنّ كل مقوم له لو قطع إحدى يديه لم يكن الواجب فيها ما يجب في نفسه، فكذلك إذا قطعت، أصله البهيمة. [1568] مسأله: الجناية على العبد فيما دون النفس يجب فيها ما نقصه من قيمته فقط، ولا يعتبر بقدرها من قيمة نفسه إلا في الجراح الأربع وهي المأمومة والجائفة والموضحة والمنقلة، وقال الشافعي: في اليد والعين وغير ذلك بقدرها من قيمته؛ فدليلنا أنّها جناية على مملوك يؤثر في نقصان القيمة وعدم المنفعة، فوجب أن يتقدر الواجب فيها بقيمة نفسه إذا تلفت، أصله الجناية على البهائم، ولا يلزم الجراح الأربع لأنها لا تؤثر لا محالة في نقصان القيمة وعدم المنفعة، لأنها قد تبرأ على غير نقص ولا عدم نقص. [1569] مسألة: إذا قتل عبد حرًا أو عبدًا، فولي الدّم بالخيار إن شاء قتله وإن شاء استرقه، فإن اختار استرقاقه فالسيد بالخيار بين أن يفتكه بأرش الجناية، أو تسليمه فيكون ملكاً لولي الدم، وقال الشافعي: يخير سيد العبد المقتول بين أن يقتل العبد أو يستبقيه، فإن استبقاه خير سيد القاتل بين أن

يفديه بالأرش أو يسلّمه للبيع، وإن كان الثمن بقدر الأرش أو دونه كان لولي الدم، وإن زاد عليه كان له منه بقدر أرش الجناية ويكون الباقي لسيده، ولا يكون لسيد المقتول تمليك، فدليلنا أن الجناية لا تخلو أن تكون متعلّقة برقبة العبد أو بمال السيد، وهذا القسم باطل لأنه يوجب أخذها من كل أموال السيد وأن لا تبطل بتلف العبد وذلك باطل، فيبقى القسم الأول وهو تعلقها برقبة العبد، وذلك يوجب استحقاق الرقبة بدلاً من أرش الجناية، لتعلّقها به، لأنّه ليس معنى [تعلقه] بالرقبة أكثر من أن حق المجني عليه قد انتقل إليها فكان له تملّكها. [1570] مسألة: إذا جرح رجلاً ثم قتله، أو قتله غيره دخل الجرح في القتل، إلا أن يكون مثل به قاصدًا لذلك، وقال أبو حنيفة والشافعي: يجرح ثم يقتل، إلا أن أبا حنيفة يقول ذلك فيه: إذا جرح رجلاً ثم قتله آخر، ويوافقنا فيه إذا جرح رجلاً فسرى إلى نفسه؛ فدليلنا قوله: «ما دون النفس يدخل في النفس»، لأن القتل يأتي عليه، لأنّ الغرض إما أن يكون للتشفي أو إبطال العضو الذي أبطله وأتلفه على المجروح، وأي ذلك كان محصوله فالقتل أبلغ؛ ومع أبي حنيفة قياسًا عليه إذا سرى إلى النفس، ولا يدخل عليه التمثيل لأنّ هناك غرضًا زائدًا وهو ردعه عمّا فعل. [1571] مسألة: إذا وجب عليه القتل فقطع ولي الدّم يده ثم عفا أو لم يعف قطعت يده، خلافًا للشافعي؛ لأنّ الولي له أخذ النفس دون العضو فكان متعدياً بأخذه، وتحريره أن يقال: إنه قطع يد مكافىء له في الدم غير مستحق له قطعها فضمنها كالمبتدىء. [1572] مسألة: في شبه العمد روايتان؛ إحداهما: نفيه، والأخرى: إثباته، وهو قول أبي حنيفة والشافعي؛ فوجه النفي أن الله تعالى ذكر أنواع القتل فذكر العمد المحض والخطأ المحض، ولم يذكر زائدًا عليهما، ولأن

العمد معنى، وهو قصد الفاعل إلى الفعل، والخطأ معنى معقول، وهو ما يكون من غير قصد، وذلك ممتنع من الفعل الواحد، لأنهما صفتان متعاندتان. ووجه الإثبات قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في قتل العمد والخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل، أربعون منها خلفة» 4 فأثبت شبه العمد، ولأن وصفه بذلك يفيد أنّه أخذ شبهاً من العمد، وشبهاً عن الخطأ، فلم يكن له حكم أحدهما على التجريد، وشبهه بالعمد قصد القاتل إلى الضرب بما لا يقتل مثله غالباً، وشبهه بالخطأ أنه لم يقصد القتل، فوجب أن يثبت له حكم منفرد عن حكم يخصهما. [1573] مسألة: دية العمد المحض أرباع، وقال الشافعي: أثلاث كدية المغلظة؛ فدليلنا قوله: «في النفس مائة من الإبل»، وظاهره يفيد أدنى ما يتناوله الاسم، ولأنه أحد نوعي القتل معتبر بنفسه لا بغيره، فلم يجب في ديته الحوامل كالخطأ. [1574] مسألة: دية الخطأ أخماس: بنات مخاض، وبنات لبون، وبنو لبون وحقاق وجذاع، وقال أبو حنيفة: إنها أخماس إلا أن خمسًا منها

بنو مخاض دون بني لبون؛ فدليلنا ما روى سليمان بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب دية الخطأ أخماساً، فذكر عشرين بني لبون، ولأنه شيء لا يجب في الزكاة أصلاً فلم يجب في الدية كالثنايا، ولأنّه أنقص من بنات مخاض كالفصلان. [1575] مسألة: دية العمد حالة في مال الجاني، وقال أبو حنيفة: مؤجلّة كدية الخطأ؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن شاءوا عفوا وأخذوا الدّية» وإطلاق ذلك يقتضي التعجيل، ولأنها دية عمد محض فوجب فيها مال، وكان حالاً كدية الجائفة والمأمومة، ولأن كل حيوان يجب بقطع أطرافه عمدًا أرش معجل، وجب أن يكون البدل الذي يجب في قتله عمدًأ معجلاً كسائر الحيوان من العبيد وغيرهم. [1576] مسألة: اختلف في الدية المغلظة، فقال ابن القاسم: تكون في مال الأب حالة، وقال أشهب وعبد الملك: تحملها العاقلة؛ فوجه الأول أنه قتل غير خطأ محض، فلم تحمله العاقلة كالعمد، ووجه الثاني أنها دية من قتل لا قود فيه كدية الخطأ.

[1577] مسألة: لا تغلظ دية الخطأ إذا قتل في الحرم أو في الشهر الحرام أو قتل ذا رحم محرم، خلافاً للشافعي؛ لأنه قتل خطأ محض، كالقتل في غير هذه المواضع والأوقات. [1578] مسألة: إذا قتل في الحل ثم التجأ إلى الحرم اقتص منه في الحرم، وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم، ولكن يلجأ إلى أن يخرج منه، ثم يقتص منه؛ فدليلنا عموم الظواهر، ولأنه قصاص وجب عن جناية، لو كان في الحرم لوجب استيفاؤه في الحرم كالجناية على الأطراف، ولأن كل موضع كان محلاً للاقتصاص إذا وجب القصاص فيه، كان محلاً له إذا وجب في غيره كالحل، ولأنّ كل سبب يستحق به القتل والأطراف لم يكن للحرم تأثير في تأخيره لمن التجأ إليه كحقوق الله تعالى من رجم الزاني وقطع السارق. [1579] مسألة: الدية من الورق اثنا عشر ألف درهم، وقال أبو حنيفة: عشرة آلاف؛ فدليلنا أن عمر قومها اثني عشر ألفاً بمحضرٍ من الصحابة، فلم ينكر عليه أحد، وقد ذكر بعضهم أنه ورد مرفوعاً، ولأنّه تقويم للورق فيما طريقه الحد والإتلاف فوجب أن يكون الدينار باثنى عشر كالقطع. [1580] مسألة: الواجب على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل

الورق اثنا عشر ألف درهم مقدر لا يتغير ولا يعتبر في ذلك بقيمة الإبل، وقال الشافعي: الواجب من ذلك قيمة الإبل كانت ألف دينار أو أقل أو أكثر، وكذلك في الورق؛ فدليلنا أن عمر قوم الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً، ولم يخالف عليه أحد، ولأنه نوع مال يجوز إخراجه في الدية، فكان أصلاً بنفسه كالإبل، ولأن الدّية معنى جعلت الإبل فيه أصلاً، فكان الذهب والورق فيه أصلاً كالزكاة. [1581] مسألة: ولا يؤخذ في الدية إلا الإبل والذهب والورق، وقال أبو يوسف ومحمّد: يؤخذ من أهل البقر مائتا بقرة، ومن أهل الغنم ألف شاة، ومن أهل الحلل مائتأ حلّة يمانية؛ فدليلنا ما روي أنّه صلى الله عليه وسلم قضى في النفس مائة من الإبل، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم قومت الإبل بالذهب والفضة، ولم يقوموها بغيرهما فسلمناه للإجماع، ولأنه نوع من العروض فأشبه العبيد والعقار. [1582] مسألة: وعنه في أشراف الإذنين روايتان؛ إحداهما: أن فيهما الدية، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، والأخرى: أن فيهما حكومة؛ فوجه الدّيه ما روي: «في الأذن خمسون»، ولأنهما عضوان منهما اثنان في البدن كاليدين، ووجه الحكومة أن نفعهما غير كامل لأن السمع يحصل مع عدمهما، وأكثر ما فيهما أن يحوشا الصوت إلى السمع لأن جمالهما غير ظاهر، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: تغطيهما العمامة

والقلنسوة. [1583] مسألة: ولا دية في إتلاف شيء من الشعور، وقال أبو حنيفة: تجب في أربعة في اللّحية وشعر الرأس والحاجبين وأهداب العينين؛ فدليلنا أنّه إتلاف شعر فلم يضمن بدية كشعر الصدر، ولأنّه معنى لا تألم بقطعه، فلم يضمن بالدّية كالشارب. [1584] مسألة: إذا ترامى الجرح إلى إتلاف شيء آخر، فإن كان من جنسه تداخل وكان فيه أرش ما ترامى إليه، مثل الموضحة تصير منقلة، فيكون على الجارح أرش منقلة فقط، وإن تلف به ما ليس منه، مثل أن يقطع يده فيذهب عقله أو عيناه، فله دية اليد ودية العقل، وقال أبو حنيفة والشافعى في القديم: تدخل دية اليد في دية العقل؛ فدليلنا أنّه أتلف عضوًا فيه منفعة كاملة، وذهب بإتلافه منفعة يجب فيها الدّية، أو تلف به ما يجب [فيه] دية منفصل منه، فوجب أن يجتمع له العقلان كما لو قطع ذكره فذهبت عيناه أو شلّت يده. [1585] مسألة: في كل واحدة من الشفتين نصف الدية، وروي عن زيد بن ثابت أن في العليا ثلث الدية، وفي السفلى ثلثيها؛ فدليلنا أنهما عضوان يجب فيهما دية كاملة، فإذا لم يجب في الباقي منهما الدية كاملة، كان فيه نصف الدّية كاليدين. [1586] مسألة: في السن خمس من الإبل، ومقدّم الفم والأضراس سواء، وحكي عن عمر رضي الله عنه، أنه قال: في الثنايا خمس من

الإبل، وفي الأضراس بعير؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «وفي السن خمس من الإبل»، والاسم يعم الجميع، وروى بعضهم من طريق ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأصابع والثنية والضرس هن سواء، والأسنان هن سواء، هذه كهذه»، ولم أر له إسنادًا، ولأنه سن يمضغ بها كالثنايا. [1587] مسألة: إذا ضربت السن فاسودت، ففيها ديتها، وقال الشافعي: حكومة؛ فدليلنا أنّها إذا اسودت فقد بطلت منفعتها، والدّية تجب بذهاب المنفعة، وإن بقي العضو كاليد الشلاء والعين القائمة. [1588] مسأله: وفي لسان الصبي الدّية، وقال أبو حنيفة: إذا لم تعلم صحته ففيه حكومة؛ فدليلنا قوله: «في اللّسان الدية» فعم، ولأن الأصل الصحة، فوجب البناء عليه. [1589] مسألة: في عين الأعور الدية كاملة، وقال أبو حنيفة والشافعي: نصف الدية؛ فدليلنا أنه إجماع الصحابة، وروي عن عمر،

وعلي، وعثمان، وابن عمر، ولا مخالف لهم، ولأن الدّية تجب بذهاب المنفعة أو بذهاب العضو، ووجدنا منفعة البصر تكمل لذي العين الواحدة أو تقارب الكمال له، لأنه يدرك بها ما يدرك بها ذو العينين أو قريباً منه، فإذا تلفت عليه فقد أتلف جميع منفعة البصر فكان كذهاب العينين. [1590] مسألة: المرأة تساوي الرجل في أرش الجراح فيما دون ثلث الدّية، فإذا بلغ ثلث الدّية كان فيه بحسابه من ديتها، وقال أبو حنيفة والشافعي: في كل جراحها بحسابه من ديتها؛ فدليلنا أن ذلك إجماع أهل المدينة، وقد قال سعيد بن المسيب لربيعة لما عارضه: أعراقي أنت؟ قال: لا، قال: هى السنة، وروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وروي مرفوعاً من طريق عمرو بن

شعيب عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه إتلاف لآدمي موجبة نقص عن ثلث الدّية، فوجب مساواة الأنثى للذكر فيه، أصله دية الجنين، ولأن كل فرض مقدر من المال وجب بالموت، فإن الأنثى تساوي الذكر في اليسير منه، أصله السّدس في حق الأخوة للأم. [1591] مسألة: في ذكر الخصي حكومة، وقال الشافعي: فيه الدية؛ فدليلنا أنّ منفعته ناقصة، لأنه لا ينزل ووطؤه ناقص، ولزوجته الخيار إذا تزوجته فلم يستحق به كمال الدّية. [1592] مسألة: في اليد الشلاء حكومة، خلافاً لداود، لأنها مفقودة المنفعة كالعين القائمة، ولأنها ميتة والميت إذا أزيل عن موضعه لم يجب فيه شيء كما لو قطع يد ميت. [1593] مسألة: لا تقطع اليد الشلاء بالصحيحة، خلافاً لقوم؛ لأنه عضو صحيح فلم يؤخذ بميت لا منفعة فيه كالعين الصحيحة بالقائمة. [1594] مسألة: دية اليهودي والنصراني نصف دية المسلم، وقال الشافعي: ثلث، وقال أبو حنيفة: مثل دية المسلم؛ فدليلنا على أبي حنيفة أن الدّيات موضوعة على التفاضل في الحرم، فدليلنا أن النساء لما كانت حرمتهن أخفض من حرمة الرجال نقصت دياتهن عن ديات الرجال، والكافر أخفض حرمة من المسلم للنقص المانع من قبول شهادته وموارثته ونكاحه المسلمات والإسهام له في الغنيمة، وغير ذلك، فلذلك يجب أن ينقص عنه في الدّية، ولأنها بدل عن النفس فكان الكفر مؤثرًا في نقصانه

كالقصاص، ولأنّه نقص يؤثر في القصاص فوجب أن يؤثر في نقصان بينه وبين من تكمل ديته كالرق، ولأن نقصان الكافر عن المسلم أكثر من نقص الأنوثية، وإذا كان نقص الأنوثية يمنع التساوي في الدّية فنقص الكافر أولى. [1595] مسألة: ودليلنا على الشافعي أنّ كل نوع نقص ديته عن دية الحر المسلم الذكر، نقصت إلى النصف أصله النساء، ولأنّه جزء تنقص الدية إليه فلم يجز أن يقصر عن النصف كالربع. [1596] مسألة: دية المجوسي ثمانمائة درهم، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنها كدية المسلم؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم بذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكر عليه أحد، وكان يكتب به إلى عمّاله، ولأن كل جنس لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم فلا يجب بإتلافهم ما يجب بإتلاف المسلم كالوثني والمرتد. [1597] مسألة: من لم تبلغه الدعوة إذا قتل قبل أن يعرض عليه الإسلام فيمتنع، قد قال أبو حنيفة: لا يضمن، وقال الشافعي: يضمن ديته، ولست أحفظ فيها شيئاً عن أصحابنا في هذا الوقت، ولكن عندي أنه لا يضمن؛ لأنه على أصل الكفر لم يثبت له عقد ذمة بحقن دمه، فكان كالذي بلغته الدعوة، ولأن عرض الإسلام عليه إنّما هو لدخوله فيها يحقن دمه، فكان كعرض التوبة على المرتد،. وقد ثبت أن من قتل مرتدًا قبل عرض التوبة عليه أنه لا يضمنه، فكذلك هذا. [1598] مسألة: إذا قتل الحر عبدًا خطأ فقيمته في ماله دون عاقلته خلافاً للشافعي في قوله: إنها على العاقلة؛ لأنه إتلاف مال فلم تحمله العاقلة كالجناية على البهائم.

[1599] مسألة: جناية أم الولد على سيدها، خلافًا لأبي ثور في قوله: إنّها في ذمتها تتبع بها إذا أعتقت؛ لأن الجناية في الأصل متعلقة برقبتها، والسيد هو السبب في منع تسليمها بوطئه الذي اكتسبت منه حرمة الاستيلاد، فوجب أن يكون أرش الجناية [عليه]، كما لو جنى عبد فأعتقه سيده لكان الأرش على السيد. [1600] مسألة: إذا اصطدم الفارسان فماتا، فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر، وقال الشافعي: على كل واحد نصف دية صاحبه؛ فدليلنا أن كل واحد قاتل لصاحبه قتل خطأ، فكانت ديته مستحقة على عاقلته كالمفرد. [1601] مسألة: تجب دية الخطأ على العاقلة مؤجلة في ثلاث سنين، وقال قوم: تجب حالة؛ فدليلنا أنّ ذلك روي عن عمر، وعلي ولا مخالف لهما، ولأنها مواساة للجاني فوجب تخفيف ذلك عمّن يحملها عنه، وكانت في الأصل من الإبل، وقد تكون وقت الوجوب حوامل، ولا يجوز أن يكلفوا إخراج حوامل في السّنة الثانية لوابن، فوجب تأجيلهم لثلاث سنين ليحصل ما تكمل به الدية. [1602] فصل: وعنه في بعض الدّية روايتان؛ إحداهما: أنها تنجم اعتبارًا بالدية، والأخرى: حالة اعتبارًا بما دون الثلاث. [1603] مسألة: ويدخل الأب والابن في تحمل العقل، خلافاً للشافعي؛ لأن تحمّل العاقلة عن القاتل لحصول النصرة من جهتهم، بدليل أن ذلك لما امتنع في النساء والصبيان لم يحملوا العقل، والأب والابن أبلغ

في هذا من جميعهم، ولأن العقل معتبر فيه التعصيب وذلك في الأب والابن أقوى منه في غيرهما، وذلك أن كل معنى اعتبر فيه التعصيب دخل فيه الأب والابن كولاية النكاح والميراث. [1604] مسألة: لا تعقل العاقلة من قتل نفسه عمدًا، ولا خطأ، خلافاً لمن قال: تحمل عنه الخطأ؛ لأنّها جناية منه على نفسه فلم يستحق بها شيء على غيره كالعمد والجناية على المال، ولأن تحمّل العاقلة عنه هو على طريق المواساة والتخفيف عنه فيما يلزم بجنايته لغيره، وذلك ممتنع في الإنسان أن يستحق شيئاً على نفسه بجنايته فتودى عنه. [1605] مسألة: قال ابن القاسم: والجاني داخل مع العاقلة، وقال أصحابنا: هذا استحباب وليس بقياس، لأنه لا يجب عليه إذا قتل نفسه وعاقلته المسلمون شيء يتحمّله عنه المسلمون، وقال أبو حنيفة: يدخل القاتل مع العاقلة على ظاهر قول ابن القاسم؛ ودليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدّية على العاقلة، وذلك يوجب أن يكون جميعها عليهم، ولا يجوز أن يكون الإنسان عاقلة نفسه، لأن ذلك تناقض، لأن كل عزم وجب بالقتل يستوي قليله وكثيره في تحمله طردًا وعكسًا، ألا ترى أن دية العمد لمّا [لم] تحملها العاقلة حمل الجاني جميعها، وكذلك الثلث وأعلى من دية الخطأ لمّا حملته العاقلة وجب أن تحمل جميعه. [1606] مسألة: العاقلة العصبة، كانوا أهل ديوان أم لا، وقال أبو حنيفة: أهل الديوان عاقلة مقدّمون على المتناسبين؛ فدليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم

قضى بالدية على العاقلة، وهي العصبة، ولم يكن في وقته ديوان، ولا في عهد أبي بكر، وإنّما دونت الدواوين أيام عمر، فلا يجوز تغيير ما قضى به، ولأنه نسخ، والنسخ بعد موته غير جائز، ولأنّ تحمّل العاقلة إما أن يكون للنصرة أو للموارثة، وأي ذلك كان فلا مدخل للديوان فيه، ولأنه حق يتعلق بالتعصيب مع وجوده كالإرث. [1607] مسألة: الفقير الذي لا فضل عنده يواسي منه فلا مدخل له في تحمّل العقل، وقال أبو حنيفة: له مدخل فيه؛ فدليلنا أنّ تحمّلها هو على طريق المواساة، فلم يكن للفقير [مدخل] فيها كالزكاة. [1608] مسألة: قال الشيخ أبو بكر: يجيء على أصولنا أن يعتبر وجوب الدّية على العاقلة من يوم الموت لا من يوم الحكم، وقال أبو حنيفة: من يوم الحكم؛ فدليلنا قوله تعالى: " ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهله "، وذلك يوجب أن يكون من يوم القتل، ولأنه غرم لزم بقتل الخطأ فوجب أن يكون من يوم القتل، أصله الكفارة، ولأنه مال يجب بحلول أجل، فوجب أن يكون ابتداء أصله من يوم وجوبه، كالدين المؤجل. [1609] مسألة: ليس فيما يؤخذ من كل واحد قدر مؤقت، وإنما هو على حسب ما يمكن ويسهل ولا يضر، وقال أبو حنيفة: يسوي بين جميعهم فيؤخذ من ثلاثة دراهم إلى أربعة دراهم، وقال الشافعي: يفضل الغني على المتوسط فيكون على الغني نصف دينار وعلى المتوسط ربع

دينار؛ فدليلنا على أبي حنيفة أنّه مال مأخوذ على وجه المواساة، فوجب أن يكون موقوفًا على كثرة المال وقلته اعتبارًا بالزكاة، وعلى الشافعي أنّه لما وجب على الغني دون الفقير ولم يرد نص تقدير فلم يبق إلا الاجتهاد، فصار كنفقة الأبوين وغير ذلك ممّا طريقه المواساة. [1610] مسألة: إذا مات واحد من العاقلة بعد توظيف الدية وقبل حلول الأجل، قال ابن القاسم: يكون ما وظف عليه في ماله، وهو قول الشافعي إلا أنّه يراعى أن يموت بعد الأجل، وقال أصبغ: يسقط بموته، وهو قول أبي حنيفة؛ ووجه الأول أمه مال مستقر في الذمة فلم يسقط بالموت كالدين، وهذا كالتوظيف قد استقر، وهذا هو دليلنا على أنّه لا اعتبار بموته بعد الأجل. ووجه الثاني أن وجوبه مراعى غير مستقر، بدليل أنّه لو أعدم بعد التوظيف لم يستحق عليه شيء فكذلك بالموت، ولأنه كان في معنى هبة، أصله لم يقبض جتى مات الواهب أو استحق ماله. [1611] مسألة: تحمل العاقلة من الدية الثلث فأكثر، وقال الشافعي: تحمل القليل والكثير؛ فدليلنا ما روى ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم عاقل بين قريش والأنصار، فجعل على العاقلة ثلث الدية فصاعدًا، ولأنّ حمل العاقلة لذلك هو على وجه التخفيف والمواساة لئلا يجحف الأداء بمال الجاني، وهذا إنّما يكون في الكثير دون القليل، لأن الدرهمين والدينارين لا مشقة غالبة في تكليفهما، وإذا ثبت ذلك احتيج إلى الفصل بين القليل والكثير، ولا فصل إلا ما قلناه. ولأنّه قد روي في مواضع كثيرة دون اعتبار نصف العشر على ما

يقوله أبو حنيفة، ولأن ما لا يحتمل ضمانه الأب والابن لا يحتمله الأخ والعم كضمان المال، ولأنها جناية على ذكر سبب للنفس ولا يعادل نفسًا فلا تتحملها العاقلة أصله الجناية على البهيمة. [1612] مسألة: إذا كان بعض عاقلته معه في بلده وبعضهم في إقليم آخر، لم يعقل عنه من ليس معه في إقليمه، وضم إليه أقرب القبائل إليه ممن يجاور موضعه، وقال أبو حنيفة: يحمل الجميع عنه؛ فدليلنا أن من قرب منه أقرب إلى نصرته ممّن بعد، فكانوا أولى بتحمّل العقل، ولأنّ من بعد منه قد يكونون متفرقين في البلاد يتعذر الوصول إليهم، فيضر ذلك بولي الدم فكانوا في حكم المعدومين كالأولياء، ولأن ذلك يؤدي إلى أن تؤدى الدّية من نوعين من المال وذلك غير جائز. [1613] مسألة: جناية الذمي على أهل جزيته الذين في كورته، وقال أبو حنيفة: إن كانت لهم معاقل وإلا فهي في مال الجاني، وقال الشافعي: إذا لم ينسبوا إلى أب كانتساب العرب لم يتعاقلوا؛ فدليلنا ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالدّية على العاقلة، وذلك يقتضي أن لا بدّ من عاقلة، فإذا ثبت ذلك لم يبق إلا ما نقوله، ولأنها دية وجبت بقتل خطأ، فلم يستحق في ذمة القاتل كالمسلم، ولأنهم يتناصرون بالجزية ويتوالون بها فكانت كالنسب. [1614] مسألة: الذي يجيء على أصولنا أن المولى الأسفل لا يعقل، وقال الشافعي: يعقل؛ ودليلنا أنه معنى يعتبر فيه التعصيب فلم يدخل فيه المولى الأسفل كالميراث والولاية في النكاح لأنّ ذوي الأرحام أقرب إلى النصر من المولى الأسفل ولا يدخلون في العقل، فكان هذا أولى بأن لا يدخل فيه.

[1615] مسألة: إذا صال الفحل على إنسان فله دفعه عن نفسه، فإن أدى إلى قتله فلا ضمان عليه، ووافقنا أبو حنيفة في أن له دفعه عن نفسه وخالفنا في الضمان، فقال: يضمن البهيمة، ويضمن من الآدميين من كان غير مكلّف كالصبي والمجنون، عبدين كانا أو حرين، ولا يضمن العبد البالغ المكلّف. ودليلنا قوله تعالى: " ما على المحسنين من سبيل "، وهذا محسن بالدفع عن نفسه، ولأنه إتلاف أدى إليه دفع مباح فلم يجب به ضمان، أصله إذا صال علمه عبد أو حر فدفعه فتلف. [1616] مسألة: إذا عض أصبع رجل فجبذ أصبعه من فيه فانقلعت أسنان العاض ضمنها، وقال يحيى بن عمر وغيره: لا يضمنها، وهذا هو النظر، لأنّه إتلاف أدى إليه دفع جائز كصول الفحل، والعلّة فيهما واحدة. [1617] مسألة: السائق والقائد والراكب ضامنون لما وطئت الدابة جناية الدابة إذا كان ذلك بسبب من فعلهم، وإن نفحت بيدها أو رجلها ابتداء، لا بسببهم فلا ضمان عليهم، وقال أبو حنيفة: يضمن السائق على كل حال، وأما القائد والراكب فيضمنان ما أتلفت بفيها أو يدها، ولا يضمنان ما أتلفت برجلها أو ذنبها، وقال الشافعي: جناية الدابة ويد صاحبها عليها كجنايته يضمن على كل حال؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «العجماء جرحها جبار»، ولأنها جناية من بهيمة ابتداء لا صنع لصاحبها فيها ولا وقعت بتفريط منه فلم يلزمه ضمان، أصله إذا أنفرت عن يده؛ وعلى أبي حنيفة عموم الخبر، ولأنها جناية من دابة لسبب منه فلزمه ضمانها كالجناية بالفم واليد. [1618] مسألة: إذا مال الحائط وخيف وقوعه، فإذا تقدّم إنذار

إلى صاحبه، وأشهد عليه، ضمن ما تلف به، وقال أشهب: إذا بلغ من شدة الخوف إلى ما لا يؤمن معه الإتلاف تعلّق الضمان على صاحبه، أشهد عليه أو لم يشهد وهذا هو الصحيح، وقال الشافعى: لا ضمان عليه على كل وجه؛ فدليلنا أنّه متعدّ بتبقيته لتعرضه للتلف، فأشبه أن يحفر بئرًا أو يضع حجرًا في الطريق فيعثر به الناس أو ينصب حبالة. [1619] مسألة: من اتخذ في داره كلبًا عقورًا، يعلم أنه يعقر، فتلف به إنسان فهو ضامن، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا ضمان عليه؛ فدليلنا أنّه أمسك سبعًا يعدو على الناس ويفترسهم عالم به، فلزمه ضمان ما تلف به، كالذئب والفهد، ولأنه حيوان يتلف به الناس وأموالهم فكان بإمساكه ضامنًا كالجنايات. [1620] مسألة: من حفر بئرًا في فنائه، أو أحدث شيئًا له أن يحدثه ثم تلف به إنسان أو بهيمة لم يضمن، وقال أبو حنيفة: يضمن، وحكي أنه فرق بين أن يجلس في آخر المسجد منتظرًا للصلاة وبين أن لا يجلس لانتظار الصلاة، فقال في الأولى: لا يضمن إن عثر به غيره فتلف، وفي الثاني: يضمن؛ فدليلنا أنه لم يحصل منه إتلاف بمباشرة، ولا عن سبب تعدى به فلم يضمن، ولأن هذه أسباب الضمان، ولأنه سبب مباح فلم يضمن به ما تلف، أصله إذا أحدث في ملكه. [1621] مسألة: إذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينًا ميتاً ففيه دية، خلافاً لمن حكي عنه أنه لا شيء فيه؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة.

[1622] مسألة: إذا ماتت المرأة ثم خرج الجنين بعد موتها من بطنها ميتًا فلا شيء فيه، خلافاً للشافعي في إيجابه الغرة؛ لأن تلف الجنين بتلف الأم، فوجب أن يكون تابعاً لها، وأن لا حكم له كالذكاة، وأن تلفه قبل الانفصال عنها كتلف بعض من أبعاضها، لأنه ما دام معها فهو في حكم الجزء منها فيكون تابعًا لا حكم له. [1623] مسألة: دية الجنين لجميع ورثته، وحكي عن الليث إن صحّ، أنها للأم وحدها؛ فدليلنا قوله تعالى: " فدية مسلمة إلى أهله "، فعم المقتولين والأهل، ولأنها دية نفس آدمي مقتول، فكانت لجميع ورثته كدية الكبير. [1624] مسألة: لا كفارة في الجنين إذا سقط ميتًا، خلافًا للشافعي؛ لأنا لا نعلم أنه كان حيًا، بدليل أنّه لا يحكم له بحكم الحي ما دام حملاً، ولو علمنا أنه كان حيًا لأوجبنا فيه الدية كاملة كما نوجبها فيه إذا استهل صارخًا بعد طرحه ثم مات، ولأن الأرش الواجب فيه مقدّر تقدير أرش الأحياء، فلم تجب الكفارة فيه كالعضو. [1625] مسألة: في جنين الحرة عشر دية أمه، وكذلك في جنين الأمة عشر قيمة أمه إذا كان من غير سيدها، وعند أبي حنيفة أن ما يجب في الجنين معتبر به بنفسه لا بأمه، فإن كان الجنين ذكرًا حرًا ففيه نصف عشر دية نفسه، وإن كان أنثى حرة فعشر ديتها، وإن كان رقًا فنصف عشر قيمته إن كان ذكرًا وعشرها إن كان أنثى، وفي جنين الحرة لا يحصل بيننا وبينه خلاف في المذهب، ولكن نختلف في التعليل، وإنّما الخلاف في الجنين الرق؛ فدليلنا أنه جنين فارق أمه ميتًا بجنايته وهي حية فلم يختلف حكم ضمانه بالذكورية والأنوثية، أصله جنين الحرة. * * *

كتاب القسامة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب القسامة [1626] مسألة: الحكم بالقسامة واجب، خلافًا لابن علية وغيره؛ لما روي أن القسامة كانت في الجاهلية فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قصة الأنصاري لقوله: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم أدفعه إليكم بذمته»، وقوله: «أتقسمون وتستحقون دم صاحبكم»، ولأنّ في ترك الحكم بها إضاعة الدماء، لأنّ من يريد قتل غيره إنما يتعمد به المواضع الخالية التي يأمن فيها أن يراه إنسان في الغالب، فلو لم يحكم فيها باللّوث لم يشأ من يريد قتل غيره، ولا يؤخذ به، إلا وفعل ذلك من غير

تعذر، وفي ذلك هدر الدماء. [1627] مسألة: يبدأ بالأيمان أولياء الدّم، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في قصة الأنصاري: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟» قالوا: لم نحضر. قال: «فتبريكم يهود بخمسين يميناً»، ففيه دليلان؛ أحدهما: أنه بدأ بعرضها على الأولياء، والأخرى: أنّه نقلها إلى المدّعى عليهم بعد نكول الأولياء، وعندهم أن الأيمان تتوجه عليهم ابتداء. وروي: «البينة على المدّعي واليمين على من أنكر وهو المدّعى عليه إلا في القسامة»، ولأن اليمين تجب في الأصول على أقوى المتداعيين سبباً، والأولياء ها هنا أقوى سبباً باللّوث الذي يغلب معه الظن صدق دعواهم، فوجب كون اليمين في جنبتهم. [1628] مسألة: يستحق بها الدم، خلافًا لأحد قولي الشافعي؛ لقوله: «تحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم»، وروي: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم يدفع إليكم برمته»، ولأنّها حجة ثبت بها كل عمد فجاز أن يستحق بها قتل من يثبت عليه، أصله الشهود. [1629] مسألة: إذا قال المقتول دمي عند فلان عمدًا، فذلك لوث يوجب القسامة، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " إلى قوله: " فقلنا اضربوه ببعضها "، فالقصة معروفة في

الذي قتل عمدًا، ورمي أهل قرية بقتله، فسألوا موسى عليه السلام فأمر الله تعالى أن تذبح بقرة ويضرب ببعضها، فإنّه يحيا ويخبر بقاتله، ففعلوا ذلك فحيي، فقال: قتلني فلان ابن أخي، فصار ذلك أصلاً في قبول قول المقتول وتأثيره في الحكم بدمه، لما روي أن القسامة كانت في الجاهلية وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر هذا يفيد أنه أقر جميعها إلا ما قامت الدلالة عليه، والعرب كانت تقسم مع قول المقتول، ولأن اللّوث معنى ينضم إلى دعوى الأولياء فيقوى به صدقهم، ومعلوم أن غالب أحوال المسلمين عند الموت والإشراف عليه، أنهم لا يتزودون للقاء الله عز وجل قتل النفوس المحرمة والزيادة في ارتكاب الآثام والمعاصي، بل الغالب منهم ضدّ هذا، من الإقلاع عن المآثم والثوب والتخوف ورد المظالم، فإذا كان كذلك، كان هذا من أقوى ما يؤيد قول المقتول، ويغلب معه في الظن صدقه، ولأنه ليس أحد أعدى للإنسان من قاتله، فالتهمة منفية عنه في الكذب على غيره وتبرئته. [1630] مسألة: إذا وجد المقتول في محلّة قوم، لم يكن ذلك لوثًا سواء كانوا أعداءه، أو غير أعدائه، وقال أبو حنيفة: يكون لوثاً إذا كان به أثر، وحكي عنه: أنه إن خرج الدم من أذنيه كان لوثاً، وإن خرج من أنفه لم يكن لوثاً؛ فدليلنا أنّ الغالب من حال من يقتل غيره أن يبعده عنه ويتعمّد لذلك في غير موضعه وبحيث لا يلحقهم فيه تهمة، وبقاؤه في موضع مقتولاً يقوي التهمة فيه أن يكون قاتله من غيرهم، فإنه طرحه بينهم لتزول التهمة عنه في موضعه، واعتباراً به إذا لم يكن به أثر. [1631] مسألة: إذا ادعى بعض ولاة الدم القتل وأنكر ذلك الباقون سقطت القسامة في العمد، خلافاً لأحد قولي الشافعي؛ لأن القسامة مبنية على غالب الظن دون الحقيقة، وتكذيب أحدهم لبقيتهم

الكفارة في القتل

يضعف دعواهم ويوقع شبهة، فلم تكن معه قسامة. [1632] مسألة: إذا نكل ولاة الدم عن القسامة وردت الأيمان على المدّعى عليه فنكل، لم ترد على أولياء الدّم، خلافاً للشافعي في قوله: إنّها ترد؛ لأنها يمين وجبت فلم يستحق بالنكول عنها ردًا، أصله في دعوى المال إذا وجبت اليمين للمدّعي مع شاهده فردها على المدّعى عليه فنكل، أنّها لا ترد على المدعي، فكذلك لو لم يكن معه شاهد فنكل المنكر ورد اليمين على المدّعي فنكل لم يرجع إلى المنكر. [1633] مسألة: تقسّط الأيمان على أولياء الدم، خلافاً للشافعي في قوله: يحلف كل واحد خمسين يميناً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «تحلفون خمسين يميناً»، وقوله: «تبريكم يهود بخمسين يميناً»، فلم تجب القسامة أكثر من خمسين يميناً. [الكفارة في القتل]: [1634] مسألة: لا كفارة على قاتل عمد، خلافاً للشافعي؛ لقوله تعالى: " ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة "، فدل على أن العمد خلافه، ولأنه غرم يجب بقتل الخطأ فلم يجب بقتل العمد، أصله الدية، ولأنه معنى موجب للقتل فلم يوجب على فاعله كفارة، أصله الزنا مع الإحصان، ولأن القتل لو تعلّقت به كفارة لم يتعلق به قود، ألا ترى أن قتل الخطأ لما لزمت به كفارة لم يلزم به قود. [1635] مسألة: تجب الكفارة والدية في قتل الخطأ على أي وجه كان، في دار الحرب والإسلام، وقال أبو حنيفة: إذا أسلم في دار الحرب

وأقام بها حتى قتل فعليه الكفارة ولا دية عليه، فإن دخل دار الإسلام ثم عاد ودخل في تجارة وقد أسلم في دار الإسلام ثم قتل في دار الحرب فعليه الدية والكفارة، وعنه في الأسير روايتان، وقال الشافعي: إذا قتل المسلم في دار الحرب خطأ ففيه الكفارة ولا دية فيه، سواء كان قد أسلم وأقام بدار الحرب، أو كان قد دخل دار الإسلام ثم عاد إليهم للإقامة أو للتجارة أو كان أسيرًا؛ فدليلنا قوله تعالى: " ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " فعم، ولأنه مؤمن قتل خطأ كما لو قتل في دار الإسلام. [1636] مسألة: وإن قتل في دار الحرب عمدًا وجب فيه القود، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا قود فيه على التفصيل الذي قدّمناه عنهما؛ فدليلنا عموم الظواهر والأخبار التي ذكرناها، ولأنه مسلم قتله مكافىء لدمه عمدًا محضًا فوجب القود به كما لو قتل في دار الإسلام، ولأن اختلاف الأمكنة لا تأثير لها في إسقاط القود أو الدية كغير دار الحرب. [1637] مسألة: الصبي والمجنون إذا قتلا خطأ لزمهما الكفارة، وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليهما؛ فدليلنا عموم الظاهر، لأن الصبي والمجنون من أهل الإسلام قتلهما خطأ، فوجب أن يتعلق به الكفارة كقتل البالغ. [1638] مسألة: إذا اشترك جماعة في قتل مؤمن فعلى كل واحد كفارة كاملة، وحكي عن الليث أن عليهم كفارة، وذكره بعض الشافعية؛ فدليلنا قوله تعالى: " ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبة " فعم، ولأنّه قاتل لو كان عمدًا لزمه القود، فإذا كان مخطئاً لزمته كفارة كاملة كالمنفرد. [1639] مسألة: تجب الكفارة بالسبب المتعدّي به، وهو أن يحفر بئرًا بحيث لا يجوز له أو ينصب حجرًا في الطريق ويتلف به إنسان، وقال أبو حنيفة: لا كفارة لذلك؛ فدليلنا أنه سبب يضمن به دية النفس، فجاز أن

السحر

يضمن به الكفارة كالجرح، ولأنه كل من عقل عنه دية النفس المؤمنة، جاز أن تلزمه الكفارة، أصله إذا رمى صيدًا بسهم فأصاب إنسانًا. [1640] مسألة: لا كفارة في قتل الذمي، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: " ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة "، واعتبارًا بالحربي والمستأمن لعلّة نقصه بالكفر. [1641] مسألة: يستحب الكفارة في قتل العبد ولا تجب، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأنه حيوان يجب بإتلافه القيمة كالبهيمة. [1642] مسألة: إذا عجز عن الإعتاق والصوم كانت الكفارة في ذمته. وقال الشافعي في أحد قوليه: يطعم؛ ودليلنا قوله تعالى: " فتحرير رقبة مؤمنة " " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين "، وذلك يفيد أنه جميع ما يجب فيها. [السحر]: [1643] مسألة: السحر له حقيقة، خلافاً لمن نفاه؛ لقوله تعالى: " ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر "، فجعلهم كفرة بتعليمه فثبت أن له حقيقة. [1644] مسألة: إذا عمل السحر بنفسه كفر بذلك ووجب قتله، ولا يقبل قوله: لَسْتُ أعتقد إباحته، وقال أبو حنيفة: يكفر ولا يقتل إذا عمل ما لا يقتل به، وزاد أبو حنيفة فقال: وإن قتل بسحره لم يقتل إلا أن يتكرر ذلك منه؛ فدليلنا على أنّه يكفر به قوله تعالى: " كفروا يعلمون الناس السحر " " وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر "،

الزنديق

[أي] بتعليمه، فإنّك إذا علمته صرت كافرًا، وقوله تعالى: " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر "، وظاهره أنهم كفروا بذلك، ولأن الآلام التي تصل إلى الحيوان وتضرهم من أفعال الله تعالى، وهو المنفرد بالقدرة عليه، فمتى اعتقد الإنسان أن ذلك من فعل نفسه، وأنه قادر عليه، صار اعتقاده لذلك كفرًا، كاعتقاده أنّه قادر على اختراع الأجسام، فإذا ثبت أنه كفر، وجب قتل فاعله، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان» و «حدّ السّاحر ضربة بالسيف»؛ ودليلنا أنه يقتل وإن لم يتكرر منه الفعل عموم الخبر، ولأن كل فعل أوجب القتل تكراره أوجبه ابتداؤه، أصله القتل بالسلاح، ولأنّ كل فعل وجب به القتل فلا فرق بين تكرره وانتفاء تكرره كالزنا مع الإحصان والقتل. [1645] مسألة: لا تقبل توبة الساحر، بناءًا على ما نقوله في الزنديق وسنذكره. [الزنديق]: [1646] مسألة: الزنديق الذي يسر الكفر ويظهر الإسلام لا تقبل توبته، خلافاً للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»، ولأنّ التوبة

الردة

من المعصية المستسر بها لا تقبل كالتوبة من الزنا والقتل، ولأنا لا نصل إلى صدق توبته، لأنّ معه ظاهرًا ينفيها وهو استسراره بالكفر فأشبه من تاب مكرهًا، أو معه صليب يقبله، ولأن عادتهم جارية تغير الأسماء وقلب اللغة عمّا ينقلهم به فيها، فيصير متى أجابنا عن استتابة بلفظ التوبة ولفظها عبارة في تواصفهم حتى كمن خوطب بشيء فأجاب عن غيره. [الردة]: [1647] مسألة: تقتل المرتدّة، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله: «من بدّل دينه فاقتلوه»، ولأنه شخص مرتد كالرجل، ولأنّ كل معصية أباحت دم الرجل بعد حظره فإنها تبيح دم المرأة، كالقتل والزنا مع الإحصان. [1648] مسألة: يستتاب المرتد، خلافاً لمن حكي عنه أنه لا يستتاب؛ لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بلغه أن رجلاً ارتدّ فقتل قبل أن يستتاب فقال: هلا حبستموه ثلاثاً فأطعمتموه كل يوم رغيفاً، فإن تاب وإلا قتلتموه، اللهم لم آمر، ولم أرض إذ بلغني، ولا مخالف له، ولأن من قبلت توبته عرضت عليه كسائر الكفار، ولأنه يجوز أن تكون عرضت له شبهة تزول عنه بالاستتابة.

[1649] مسألة: يستتاب ثلاثاً، خلافاً لأحد قولي الشافعي: أنه يستتاب في الحال؛ لحديث عمر الذي رويناه، ولأن الغرض بالتوبة زوال شبهة لعلّها أن تكون عرضت له فتزول ويعود إلى الإسلام، وذلك يقتضي أن يمهل مدّة ما. [1650] مسألة: إذا تاب قبلت توبته، خلافاً لمن قال: لا تقبل توبته؛ لقوله تعالى: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف "، وقوله: " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده "، ولحديث عمر الذي رويناه، ولأنّه قد تاب من كفر مظهر، كالكافر الأصلي. [1651] مسألة: وعرض التوبة واجب على ظاهر المذهب، وقال أبو حنيفة: لا تجب، وهو أحد قولي الشافعي؛ فدليلنا حديث عمر، ولأنه ممّن عرف الإسلام فيمكن أن يعرض له شبهة فتزول بتقريره واستتابته. [1652] مسألة: إذا اجتمع المرتدّون، ونصبوا راية، وقاتلونا، وقتلوا، وأتلفوا أموالاً، ثم تابوا، لم يؤخذوا بشيء من ذلك، خلافاً لأحد قولي الشافعي؛ لأن أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه والصحابة لم يأخذوا ممّن رجع من أهل الردة بشيء ممّا قتلوا أو أتلفوا، ولأنّه فئة ممتنعة قاتلت على تأويل بدين كأهل الحرب. [1653] مسألة: لا يسبى ولده الذي ولده في ردته، خلافاً للشافعي؛

باب في البغي

لأن السبي لا يكون [إلا] في جنس يجوز إقرارهم على دينهم، وذلك معدوم في المرتدّين. [1654] مسألة: تصحّ ردة السكران، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن كل من صحّ طلاقه وقذفه صحت ردته، كالصاحي. [1655] مسألة: وإذا قتل المرتدّ أو مات على ردته كان ماله فيئًا غير موروث لورثته ولا لأهل الدين الذي انتقل إليه، خلافاً للأوزاعي وغيره في قولهم: إنّه يورث عنه، ولأبي حنيفة في قوله: يورث عنه ما اكتسبه قبل ردته ولا يورث ما اكتسب حال ارتداده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم»، ولأنه مات كافرًا فلم يرثه مسلم كالكافر الأصلي، وعلى أبي حنيفة لأنه نوع من ماله فأشبه ما كسب حال ردته. [1656] مسألة: إذا انتقل الكافر من ملّة إلى ملّة أخرى، إلى الكفر، لم يعرض له إذا أدى الجزية، خلافًا للشافعي في قوله: إذا لم يسلم [قتل]؛ لأن الدين الذي انتقل إليه مما يجوز الإقرار عليه، فجاز أن يقر عليه بالانتقال كما لو كان عليه ابتداء، ولأنه لو كان يعقوبيًا فصار نسطوريًا لم يعرض له، لأنه انتقال من كفر إلى كفر، فكذلك انتقاله من النصرانية إلى اليهودية. باب [في البغي]: [1657] مسألة: لا يؤخذ أهل البغي بما أتلفوه في القتال أو غيره من نفس أو مال على وجه التأويل، وقال أبو حنيفة: يضمنون، وهو قول

الشافعي الآخر؛ ودليلنا أن أهل الجهل وغيرهم، من فئات المسلمين، التي اقتتلت على تأويل الدين، لم يأخذ بعضهم بعضاً بقود ولا غرم ما أتلف من مال، ولأنها فئة امتنعت وأتلفت بتأويل فلم تضمن، أصله أهل الحرب إذا أتلفوا النفوس والأموال. [1658] مسألة: إذا نصب أهل البغي قاضيًا منهم تعرف أحكامه لم تنقض إذا أصاب وجه الحكم، وقال أبو حنيفة: إن كان منهم نقضت أحكامه؛ فدليلنا أن الفتن والحروب قد كانت في الصحابة والتابعين فلم تعرض إحدى الفئتين على الأخرى في ذلك، ولا تعرضت لنقض أحكامها، ولأنه قضى بما لو قضى به العادل، لم ينقض بولاية من أهل الإسلام كالعادل. [1659] مسألة: تجب الحدود في دار أهل البغي على من ركب أسبابها، خلافًا لأبي حنيفة في قوله؛ لأنه مرتكب لما يوجب الحدّ مع اعتزائه إلى الملة، فأشبه أهل العدل. [1660] مسألة: حد الحرابة على التخيير دون الترتيب، وهو موكول إلى اجتهاد الإمام، فله أن يقتله إن رآه حظًا ونظرًا وإن لم يكن قتل، وقال أبو حنيفة والشافعي: حدها على الترتيب، ولا يقتل ما لم يقتل، ولا يصلب ولا يقطع، فإن قتل ولم يأخذ مالاً قتل فقط ولم يقطع ولم يصلب، فإن أخذ المال ولم يقتل قطع، وإن قتل وأخذ المال؛ قال أبو حنيفة: الإمام مخير إن شاء جمع القتل [والقطع]، وإن شاء جمع القطع والصلب،

ثم قتل بعد الصلب. وقال الشافعي: يقتلهم خنقًا ثم يصلبهم؛ فدليلنا على أنّه يقتل وإن لم يكن قتل قوله تعالى: " أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " الآية، ولم يشترط أن يكونوا قتلوا، ولأنه خير بين هذه الحدود فدل على سقوط الترتيب، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من شهر سيفه بموضعه فقد وجب دمه». [1661] مسألة: النفي المراد في آية المحاربين هو إخراجهم من البلد الذي كانوا فيه إلى غيره وحبسهم فيه، وقال أبو حنيفة: يحبسون في البلد نفسه، وقال الشافعي: نفيهم أن يهربوا، فإذا حصلوا بموضع أنفذ الإمام في طلبهم ليقيم عليهم الحد، هكذا يتبعهم أبدًا؛ ودليلنا أن معنى النفي الإخراج من الموضع المتوطن، ومنعهم من الإقامة فيه، واللام في قوله: " أو ينفوا من الأرض " للعهد، وهي الأرض التي كانوا فيها، وذلك لا يكون إلا بالحبس في غيرها لأنه إذا خلّي لم يؤمن عوده إليها، فوجب أن يحبس بحيث يتحقق أنه لا يعود إليها، ولأنه إذا هرب منه لا يخلو أن يكون في موضع من الأرض فلا معنى لذلك، ولأنه يرجع سرًا إلى

الموضع الذي كان فيه فتزول فائدة العقوبة بالنفي. [1662] مسألة: إذا رأى الإمام قطعه في أخذ المال فلا يراعى في ذلك نصاب السرقة، بل يقطعه وإن أخذ أقل منه، قطع للحرابة، وقال أصحاب الشافعي: لا يقطع فيما دون نصاب القطع؛ فدليلنا قوله تعالى: " أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " ولم يفرق، ولأنّه أخذ المال على وجه الحرابة فأشبه الربع دينار، ولأنه لما [لم يعتبر فيه الحرز] لم يعتبر فيه النصاب، ولأنّ السرقة صفتها أن يؤخذ الشيء على وجه الإخفاء، وهذا لا يوجد في المحارب. [1663] مسألة: إذا رأى الإمام الجمع بين قتل المحارب وصلبه فإنّه يصلبه حيًا ثم يقتله، وقال الشافعي: يقتله على وجه الأرض ثم يصلب مقتولاً ثلاثة أيام؛ فدليلنا أن الصلب إنما أريد به الارتداع والانزجار، وذلك لا فائدة فيه بعد القتل، لأنه إذا صلب حيًا ثم قتل كان أبلغ في الردع ليرتدع به غيره ممّن يفعل كفعله، فإذا قتل فالردع حاصل بالقتل ولا يرتدع لما بعده. [1664] مسألة: إذا تاب المحارب قبل القدرة عليه سقط عنه جميع حدّ الحرابة، وذكر الإسفرائيني عن أصحابهم خلافًا في سقوط قطع يمينه، وأن منهم من لا يسقط. لأن العاقلة ودفع الإنسان عما في يده حرز فيكون أخذه على وجه السرقة لا الحرابة. فدليلنا أن جملة القطع هو للحرابة وليس يتبعض فيكون بعضه للسرقة وبعضه للحرابة، فإذا كان كذلك سقط الجميع عنه، ولأن صفة السرقة أن تكون باستخفاء لا بمجاهرة. [1665] مسألة: إذا اجتمع المحاربون فقتل بعضهم وكان الباقون ردءًا

وأعواناً لم يباشروا القتل فإن جميعهم يقتلون، وقال الشافعي: لا يقتل إلا من باشر القتل؛ فدليلنا قوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا "، فعم، ولأنّ ذلك مبني على تخيير الإمام وقد ذكرناه، ولأنهم اشتركوا في الحرابة، فوجب أن يشتركوا في حكمها، كما لو قتلوا، ولأنه لما كان من حضر الوقيعة مشاركاً لمن قاتل في الغنيمة، قاتل أو لم يقاتل لأنهم ردء لهم وعون، فكذلك في المحاربة. [1666] مسألة: إذا عفا ولي الدّم عن المحارب، وقد أخذ قبل التوبة، فلا عفو له وينحتم قتله، خلافاً لمن يحكى عنه أن عفوه جائز؛ لقوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية، فخاطب الأئمة بذلك انحتامًا، ولأنه حق الله فلم يجز فيه عفو كحدّ الزنا والسرقة. [1667] مسألة: لا يراعى في القتل بالحرابة إذا قتل تكافؤ الدّماء، فيقتل المسلم بالذمي، والحر بالعبد، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يقتل إلا بمن يكافىء دمه؛ فدليلنا قوله تعالى: " أن يقتلوا "، فعم، ولأنه قتل وجد منه في الحرابة، كما لو كافأ في دمه. [1668] مسألة: المحارب في البلد وخارج البلد سواء في الحكم، وقال أبو حنيفة: لا يكون محاربًا بقطعه في البلد إلا أن يقطع في الصحراء والبرية البائنة عن البلد؛ فدليلنا قوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" ولم يفرق، ولأنه قد وجد منه إخافة السبيل وقطع الطريق وقتله على أخذ المال فاستحق اسم المحارب وحكمه، كما لو كان في الصحراء، ولأن ارتكاب موجبات الحدود في الصحراء والبلد واحد كالزنا والقتل وشرب الخمر، ولأن كل حد يفعل في الصحراء جاز أن يجب به في المصر كحدّ الزنا والسرقة.

كتاب الحدود [الزنا]

كتاب الحدود [الزنا] [1669] مسألة: حد الزاني المحصن الرجم، خلافاً لداود في قوله: الجلد والرجم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها». وروى جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا ولم يجلده، وكذلك الغامدية، ولأنه معنى يوجب القتل لحق الله تعالى فلم يوجب الجلد مع القتل كالردة، ولأنه حدّ بنفسه ولم يك بعض حدّ في السبب الذي هو حدّ فيه، أصله القطع في السرقة. [1670] مسألة: ويجب في حدّ الزاني الذكر البكر تغريبه عاماً، خلافاً لأبي حنيفة في إسقاطه التغريب عنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام»، وفي حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في الذي قال

للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ابني كان عسيفًا على هذا وزنى بامرأته، فذكر القصة، إلى أن قال: وجلد ابنه مائة وغربه عامًا. [1671] مسألة: لا تغرب المرأة، خلافاً للشافعي؛ لقوله تعالى: "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة"، ولم يذكر التغريب، ولأن التغريب في الرجل عقوبة له ليقطع عن ولده وأهله ومعاشه، وتلحقه الذلة بنفيه إلى غير بلده، وليس فيه ما في المرأة من الحاجة إلى المراعاة والحفظ ومنع السفر، والمرأة تحتاج في حفظها وصيانتها إلى أكثر من حاجة الرجل، ففي تغريبها تعريض للهتك الذي هو ضدّ الصيانة، ومواقعة مثل ما غربت من أجله، وذلك إغراء لا ردع وزجر، فامتنع لهذا التناقض إيجاب التغريب على المرأة. [1672] مسألة: لا تغريب على عبد ولا أمة، خلافاً لأحد قولي الشافعي؛ للظاهر، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها» ثم قال في الرابعة: «فليبعها ولو بضفير»، ففيه دليلان؛ أحدهما: أنه سئل عن حدّها فذكر الجلد، ولم يذكر التغريب، والثاني: أنّه كرر ذكر الجلد، فلو كان التغريب واجباً في حدّه لكان الأولى أن يذكره، ولأن التغريب على الحر لينقطع عن وطنه ومعاشه، وتلحقه الذلة، فيرتدع وينزجر، والعبد لا وطن له، ولا معيشة ينقطع عنها بتغريبه، ولأنه

لو كان التغريب واجباً عليه لكان على النصف من تغريب الحر. [1673] مسألة: إذا وجدت شروط الإحصان في أحدهما ولم توجد في الآخر، ثبت الإحصان فيمن وجد فيه، كالحر يطأ الأمة زوجته، والمسلم يطأ زوجته الكتابية، والعاقل زوجته المجنونة، والبالغ يطأ الصبية المطيقة للوطء، وإن لم تبلغ؛ كل هذا يكون إحصاناً للواطىء دون الموطوءة، وكذلك عكسه يكون إحصاناً للموطوءة دون الواطىء، إلا في الصبي يطأ الكبيرة، فإنّه لا يكون إحصاناً لواحد عنهما، وقال أبو حنيفة: لا بد من اعتبار الطرفين؛ فدليلنا أنّه حر مكلّف وطىء زوجته بنكاح صحيح، ووطئها وطئاً مباحاً، فوجب أن يصير محصناً به، أصله إذا كانا كاملين. [1674] مسألة: الإسلام من شرط الإحصان، خلافاً للشافعي؛ لأنّ الإحصان حكم شرعي وجب للفضيلة في الإسلام، فلم يثبت للكافر، لانتفاء الفضيلة في أحكام الكفر، ولأنه حدّ يعتبر فيه الإحصان فوجب أن يعتبر فيه الإسلام، أصله حد القذف، ولأنّ نقص الكفر أشدّ من نقص الرق لأن أصل نقص الرق هو الكفر، فإذا كان نقص الرق يمنع الإحصان فنقص الكفر أولى، لأن زيادة الحدود لزيادة الفضيلة، ونقص الكفر يمنع ذلك، ولأن من شروط الإحصان صحة النكاح الذي يطأ فيه، وأنكحة الكفار فاسدة. [1675] مسألة: إذا زنى عاقل بمجنونة أو وطىء مجنون عاقلة على وجه الزنا وجب الحدّ على العاقل منهما، وقال أبو حنيفة: لا حد على العاقلة إذا وطئها المجنون؛ فدليلنا أنه إذا سقط الحدّ عن أحدهما لمعنى فيه لم يوجب ذلك سقوطه عن الآخر، أصله إذا كانت المجنونة الموطوءة، ولأنها طاوعته واطئاً كامل الوطء على وجه يحرم بغير شبهة، فوجب أن يلزمها الحدّ، أصله إذا كان الواطىء عاقلاً.

[1676] مسألة: إذا حضر الإمام والشهود بموضع الرجم لم يجب على أحد منهم البداية بالرجم، وقال أبو حنيفة: إن كان الزنا ثبت بالاعتراف كان على الإمام أن يبدأ بالرجم ثم يتبعه سائر الناس، وإن كان ثبت ببينة بدأ الشهود، ثم الإمام، ثم سائر الناس؛ فدليلنا أنّه حدّ من الحدود لم يلزم الإمام مباشرة شيء منه بنفسه كالجلد والقطع، ولأنه قتل كالقصاص والقتل في الردة، ولأن شهادة الشهود بالحدّ لا توجب التبدئة بهم في فعله كحد القذف والشرب. [1677] مسألة: لا يحفر في حدّ الرجم لأحدهما، خلافاً للشافعي في قوله: يحفر للمرأة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن اعترفت فارجمها» ولم يأمر بالحفر لها، ولأنه إذا كان على وجه الأرض أتت الحجارة على جميع الأعضاء، فكان أسرع للتوفية وأقل للتعذيب، ولأنّها مرجومة في الزنا كالرجل. [1678] مسألة: إذا شهدت بينة على رجل بأنه زنى، فإن الإمام يقيم عليه الحدّ الذي يجب عليه من رجم أو جلد من غير حاجة إلى حضور البينة، وحكي عن أبي حنيفة أنه يلزم الشهود أن يحضروا ولا يرجم المشهود عليه ولا يجلد إلا بحضورهم؛ فدليلنا قوله تعالى: "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما"، ولأن كل حق ثبت ببينة جاز استيفاؤه وإن لم تحضر البينة، كسائر الحقوق واعتباراً بحقوق الآدميين. [1679] مسألة: إذا جاء على فراشه ووجد عليه امرأة فوطئها ظناً منه أنها زوجته أو أمته ثم بان له أنها أجنبية فلا حدّ عليه، وقال أبو حنيفة: عليه الحدّ إلأ أن يكون ليلة الزفاف زفت إليه امرأة وقيل هذه امرأتك. [1680] مسألة: إذا أقر بالزنا مرة لزمه الحد، خلافاً لأبي حنيفة في

قوله: لا يلزمه إلا أن يقر أربع مرات في أربعة مجالس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله»، والمقر منه مبد لصفحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» ولم ينط ذلك بتكرار الاعتراف، ولأنّ كل حق ثبت بالإقرار لم يفتقر إلى تكراره كسائر الحقوق، ولأنه إقرار من مكلّف بالزنا فلم يحتج إلى زيادة عليه، أصله إذا أقر أربعاً، ولأنه عدد زائد على حصول الإقرار كالخامسة. [1681] مسألة: في رجوعه عن الإقرار إلى غير شبهة روايتان؛ إحداهما: أنه يقبل، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، والأخرى: أنّه لا يقبل. فوجه قوله: إنّه يقبل، قوله صلى الله عليه وسلم لماعز: «لعلك لمست» وهذا كالتلقين له للرجوع، وقوله: «هلا تركتموه»، وروي أنه صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فاعترف بالسرقة، فقال له: «ما إخالك سرقت»، ولا فائدة في هذا إلأ أنّه إذا قال لم أسرق قبل منه، ولأن ذلك مروي عن أبي بكر،

وعمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي هريرة، ولا مخالف لهم، ولأنه قتل هو حق لله لزمه بقوله فوجب إذا رجع أن يسقط عنه كالقتل بالردة، ولأنه قول إذا تم لزمه به حد الزنا فوجب أن يكون الرجوع عنه مسقطاً للحدّ، أصله رجوع الشهود، ولأنه رجوع عن الإقرار بالزنا كما لو كان إلى شبهة، ولأن ما يطرأ على الحدّ قبل استيفائه بمنزلة الموجود في ابتدائه كفسق الشهود، ولأن المقام على الإقرار تابع للابتداء وزوال الوجوب كحقوق الآدميين. ووجه قوله: لا يقبل، قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله»، وقوله: «فإن اعترفت فارجمها»، ولأنه أقر بحق على نفسه لزمه بإقراره، فلم يسقط عنه بإكذابه نفسه بحقوق الآدميين، وإن الإقرار معنى يلزمه به حد الزنا فوجب أن لا يؤثر فيه إكذابه له، أصله الشهادة، ولأنه معنى يوجب القتل تارة ولا يوجب أخرى، فوجب إذا حصل الإقرار

به أن لا يقبل رجوعه، أصله الإقرار بالقتل. [1682] مسألة: إذا ظهر حمل بامرأة حرة أو أمة لا يعلم لها زوج، ولا سيد الأمة يقر بوطئها، وكانت مقيمة ليست بغريبة فإنها تحدّ، ولا يقبل قولها إنّها غصبت أو استكرهت أو إنّه من زوج إلأ أن يظهر ما يعلم به صدقها في الظاهر، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تحدّ إلا أن تقر أو تقوم بينة بالزنا؛ فدليلنا حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الرجم في كتاب الله عز وجل حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا كانت بينة أو كان الحمل أو الاعتراف، ولا مخالف له، ولأن في إسقاط الحد ذريعة إلى أن لا يقام حد في الزنا، لأن كل من وجد بها حمل أو شوهد معها من يطؤها ادعيا الزوجية فيصير لها طريق إلى إبطاله فلا يمكن إقامته، ولأن الاتفاق حاصل على أن الحدّ يوجب بشهادة الشهود، فإن ادعاءهما الزوجية غير مقبول حينئذ و [قد] علم أن الشهود إنّما يشهدون على الظاهر لا على الحقيقة والقطع، والظاهر في مسألتنا الزنا لأن الوطء ثابت بظهور الحمل، ولا أمارة على ما يدّعونه ولا علامة، فلا يجب ترك الظاهر بقولها. [1683] مسألة: لا تقبل الشهادة في الزنا إلا أن يجيء الشهود في مجلس واحد ويشهدون، فإن شهد واحد منفرد ثم جاء الباقون فشهدوا بعد ذلك المجلس فإنّهم قذفة، وقال عبد الملك والشافعي: يحكم بشهادتهم مجتمعين ومفترقين؛ فدليلنا أن كمال العدد معنى لو لم ينضم إلى شهادة الشهود كانت قذفاً، فوجب أن يوجد معها عند إقامتها لا متراخياً عنها، أصله لفظ الشهادة.

[1684] مسألة: لا يضرب في الحدّ إلا بالسوط، وعدد الضربات بالسّوط حق لا يجوز تركه، فإن كأن مريضاً أخر إلى برئه، وقال الشافعي: يضرب بأطراف النعال وعثكول النخل، ويضرب بالعذق الذي فيه مائة شمراخ ضربة واحدة؛ فدليلنا أن العمل جرى في الضرب بالسوط في الحدود من عهد النبي صلى الله عليه وسلم والسلف، ولم يرد خلافه بعد استقرار الشرع وترتيبه، ولأنه ضرب في حدّ فلم يجز إلا بالسوط، أصله حدّ الصحيح، ولأن كل ما [لا] يجوز الضرب به في حدّ الصحيح القوي لم يجز في حدّ الضعيف كالضرب باليد والقصب، ولأن الغرض بالضرب بأن يرتدع مرتكب الكبيرة عن مثلها وينزجر، فذلك يقتضي أن يقرر بضرب من الأوجاع والآلام لردع مثله، وما ذكروه لا يقع به الردع، ولأن الزجر مما ينب عن الواجب، ولأن نوع ما يضرب به يعتبر في الصحيح القوي فلم يكن الضعف مؤثراً في إسقاطه، أصله عدد الضرب. [1685] مسألة، فصل: ودليلنا على أن ضربة واحدة بمائة سوط، أو بعثكول النخل لا تجزىء قوله تعالى: "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة"، والجلدة اسم الضربة لا بما يقع الضرب به، ولأنه

حدّ واجب فلم يجز أن يجمع في ضربة واحدة كالصحيح. [1686] مسألة: إذا استدخلت ذكر نائم كانت زانية ولزمها الحد، وقال أبو حنيفة: لا حد عليها؛ فدليلنا أنها فعلت ما حصل معه الذكر في فرجها، طائعة على وجه ولا شبهة في تحريمه، فوجب أن يلزمها الحدّ كما لو كان منتبهاً. [1687] مسألة: حد اللّواط الرجم، ولا يراعى فيه الإحصان، وقال أبو حنيفة: لا حد [و] فيه التعزير، وقال الشافعي في البكر الجلد، والمحصن الرجم كالزنا؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الذي يعمل عمل قوم لوط، اقتلوا الأعلى والأسفل»، ولأنه إيلاج في فرج آدمي، فكان الرجم متعلّقاً به كالمرأة، ولأنه فرج يقصد الالتذاذ [به] غالباً كالقبل، ولأن الحد في الزنا إنّما وضع ردعاً وزجراً لئلا يعود إلى مثله، ووجدنا الطباع تميل إلى الالتذاذ بإصابة هذا الفرج كميلها إلى القبل، فوجب أن يتعلّق به من الردع ما يتعلق بالقبل، ولأنّ هذا أشدّ وأغلظ، ولأن استباحته لا تؤثر فيه على وجه لحرمته، والقبل يتعلّق به الاستباحة، فإذا وجب الحدّ في القبل كان هذا أولى.

[1688] مسألة: ودليلنا أنه لا يراعى فيه الإحصان عموم الخبر، ولأن الإحصان يعتبر في الزنا، وهذا ليس بزنا بدليل أن العرب لا تسمي إتيان الرجل للرجل زنا، ومدّعي ذلك على أهل اللغة يعلم من نفسه أن الأمر بخلاف ما يدعيه، ولأن محل الزنا عندهم محل الحلال، وإنّما سمّي زنا لأنّه على غير الوجه المباح، وما لا يمكن محلاً للحلال على وجه، فلا يسمّى زنا كفرج البهيمة إذا أتيت أنّه ليس بزنا لم يعتبر فيه الإحصان. [1689] مسألة: لا يثبت اللّواط إلا بأربعة شهود، وقال أبو حنيفة: يثبت بشاهدين، وبناه على أصله في أن الحدّ لا يجب فيه، فنقول: لأنه فرج يجب بالإيلاج فيه الغسل، فلم يثبت حكم العقوبة الواجبة بالإيلاج فيه بما دون الأربعة كفرج المرأة. [1690] مسألة: يستحب للإمام إحضار طائفة من المؤمنين لإقامة الحدّ وهي أربعة فصاعدًا، وحكي عن عطاء وغيره ثلاثة، وقيل: اثنان؛ فدليلنا أن الأربعة يتعلق بهم فائدة لا توجد فيما دونهم، وهو أنه قد يرمي إنسان هذا المحدود بالزنا فيطالب بأن يحدّ له فيقيم الرامي البينة وهم الذين حضروا جلده، وهذا معنى يختص بالأربعة، فكان ما قلناه أولى. [1691] مسألة: إذا قامت بينة على رجل بزنا أو قذف أو شرب بعد مدّة طويلة من مواقعة الفعل، أقيم عليه الحد، ولا يؤثر في ذلك طول المدّة وقصرها، وكذلك الإقرار، وقال أبو حنيفة: لا يؤخذ بالبينة، ويحد بالإقرار إلا في الشرب فلا يحدّ أصلاً؛ فدليلنا على وجوب الحدّ قوله تعالى: "فاستشهدوا عليهن أربعة منكم"، ولم يفرق، وقوله: "ثم لم يأتوا بأربعة شهداء"، ولأنه قول يلزم به إقامة الحد على من نسب إليه الفعل لا تخرج بتأخيره فأشبه الإقرار، ولأنه حق من الحقوق يثبت بالشهادة فلم

يسقط بتأخيرها كالأموال، ولأن كل حق لم يسقط بتأخير الإقرار لم يسقط بتأخير الشهادة كسائر الحقوق، ولأن كل شاهد لم يحدّ في الزنا حدّ المشهود عليه، أصله مع قصر المدّة، وقد وافقنا أبو حنيفة في هؤلاء الشهود أنهم لا يحدون فيجب أن يحدّ المشهود عليه. [1692] فصل: ودليلنا على أن إقراره بعد طول المدّة لا يسقط الحدّ، قوله صلى الله عليه وسلم: «من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله»، ولأنه أقر بحدّ لله فلم يبطله طول المدّة كسائر الحقوق، ولأن وجدنا طول المدّة لا تأثير له في إسقاط شيء من الإقرار بسائر الحدود والحقوق، كذلك الشرب، واعتبارًا بقصر المدة. [1693] مسألة: التوبة لا تسقط الحدّ في الزنا والسرقة والقذف والشرب وسائر الحدود، خلافاً للشافعي في أحد قوليه؛ لقوله تعالى: "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد"، "والسارق والسارقة فاقطعوا" الآية، ولم يفرق، وكذلك الأخبار، ولأنه أمر مستسر به فلم تسقط التوبة الحدّ الواجب فيه كالزندقة عندنا، وعند أبي حنيفة، ولأن الحد وضع لمعنى وهو تحصين الأنساب، فإذا أسقطنا الحد عن التائب فقد أزلنا الحكم المتعلّق به الغرض الذي أريد له، كالقصاص وضع للحياة بين الناس، ففي إسقاطه بالتوبة إضاعة الغرض المقصود له، ولأن التوبة إذا لم يفترق الحكم فيها بين القدرة عليه وعدمها، لم يسقط الحد كالقتل والقذف. [1694] مسألة: إذا لم يكمل عدد الشهود في الزنا حدّ باقي الشهود، خلافاً لأحد قولي الشافعي؛ لإجماع الصحابة، لأن عمر جلد الثلاثة لمّا توقف زياد ولم يقطع، وقال لأبي بكرة: تب أقبل شهادتك، وروي عن

علي أن أربعة جاؤوا يشهدون عنده بالزنا على رجل فشهد الثلاثة، وقال الرابع: رأيتهما تحت ثوب واحد، فحدّ علي رضي الله عنه الثلاثة، ولأنهم أدخلوا عليه المعرة بإضافة الزنا إليه بسبب لم تسقط حصانته فكانوا قذفة، أصله لو قذفوه ابتداء، ولأن العدد شرط معتبر في الشهادة، فوجب أن يكون الاختلال به يثبت له حكم القذف، أصله لفظ الشهادة. [1695] مسألة: إذا شهد أربعة على رجل أنّه زنى بامرأة، فشهد كل واحد أنه زنى بها في زاوية من زوايا هذا البيت غير الزاوية التي يشهد بها صاحبه، لم يحد المشهود عليه، وقال أبو حنيفة: يحد، فدليلنا أنّ الشهادة لم تكمل على فعل واحد، لأنّ زناه في هذه الزاوية فعل غير زناه في الزاوية الأخرى، فلم يجب الحد بذلك، كما لو شهد كل واحد منهم أنّه زنى في وقت غير الوقت الذي شهد به الآخر، ولأنّ كمال العدد إذا كان معتبرًا في الفعل المشهود به ولم يوجد ها هنا على كل فعل إلا واحد فلا فرق بين وجود الباقين وعدمهم، لأنّ من بقي ليس يشهد على ذلك الفعل، وإنما يشهد على أفعال أخر، فهو كما لو شهد أربعة أنّهم رأوه يزني بأربعة نساء، كل واحد يشهد أنّه راه يزني بامرأة غير المرأة الأخرى فلا حد عليه. [1696] مسألة: إذا شهد أربعة ظاهرهم العدالة على رجل بالزنا، فزعم المشهود عليه أنّهم عبيد، فالبينة عليه دونهم، وقال أبو حنيفة: البينة على الشهود؛ فدليلنا أن أصل الناس الحرية، والرق طارىء، لأنه إنما يكون بسبب يطرأ فينتقل به عن الأصل، فعلى مدّعيه إقامة البينة، ولأن من تعلّق برجل وزعم أنّه عبده والرجل ينكره، فعلى المدعي لرقه البينة ولا يكلّف المنكر إقامة البينة على أنه حر لأنه متعلّق بالأصل، كذلك في مسألتنا. [1697] مسألة: إذا شهد أربعة على امرأة بالزنا فقالت: أنا رتقاء أو عذراء، ونظر إليها النساء، فعليها الحدّ، ولا يقبل قول النساء في ذلك. وقال الشافعي: إذا شهد أربع عدول من النساء أنها عذراء فلا حدّ عليها؛

فدليلنا أن شهادة النساء لا مدخل لها في إثبات الحدود، ولا في إسقاطها فلو قبلت في هذا الموضع لسقط الحد بها، ولأنها شهادة من النساء تؤدي إذا قبلت إلى إسقاط الحد فيما لا مدخل لهن فيه في غير هذا الموضع، فلم يسقط الحدّ بها، أصله إذا شهدت بفسق الشهود. [1698] مسألة: إذا شهد شاهدان على رجل أنه زنى بامرأة ببغداد وشهد آخران أنه زنى بها بالبصرة، فلا حدّ عليه، لأن الشهادة لم تكمل على فعل واحد، وعلى الشهود الحدّ، على ما بيناه، وقال أبو حنيفة: لا حدّ عليهم؛ فدليلنا أن الشهادة لم تكمل بدليل أن الحدّ لا يلزم المشهود عليه، فصار بمنزلة أن شهد شاهدان بالزنا من غير أن يشهد معهما غيرهما. [1699] مسألة: إذا قتل رجل رجلاً في دار وادعى أنه دخل ليسرق وأنه لم يتمكن من إخراجه لزمه القود ولم يقبل دعواه، كان الرجل معروفاً بالسرقة أم لا، وقال أبو حنيفة: إذا كان معروفاً بالسرقة فلا قود عليه؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين»، ولم يفرق، ولأن كل من لم يكن معروفاً بما قرن به أقيد به قاتله، فكذلك إذا كان معروفاً به، أصله لو قتله وادعى أنه زنى بامرأته وكان الرجل محصناً، فإن القود يلزمه كان الرجل المقتول مشهوراً بالزنا أم لا. [1700] مسألة: يضرب في الحد الظهر وما يقاربه، وقال أبو حنيفة والشافعي: يضرب سائر الأعضاء ويتقي الوجه والفرج، وزاد أبو حنيفة: الرأس؛ فدليلنا أن في ضرب كل عضو إفساد ذلك العضو وإتلافاً للنفس إن كان مقتلاً كالبطن والحلق والأضالع، وليس الغرض بالجلد إفساد الأعضاء ولا إتلاف النفس، ولا موضع يؤمن هذا فيه إلا الظهر وما قاربه، فوجب أن يكون هو محل الضرب؛ ولأن أبا حنيفة يوافقنا في التعزير أنّه لا يستوفى له سائر الأعضاء، فكذلك الجلد، بعلّة أنه ضرب يقصد به الردع دون الإتلاف والإفساد.

[1701] مسألة: يجرد الرجل في ضرب الحدود كلها، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجرد في ضرب القذف خاصة؛ فدليلنا قوله تعالى: "فاجلدوهم ثمانين جلدة"، وذلك يقتضي مباشرة أبدانهما، ولأنّه جلد حدّ كالزنا. [1702] مسألة: يضرب قاعدًا ولا يقام، خلافاً لمن قال إنّه يقام؛ لقوله تعالى: "فاجلدوهم" ولم يأمر بأن يقاموا، ولأنه شخص وجب حدّه فلم يستقم عليه القيام كالمرأة. [1703] مسألة: الضرب في الحدود كلّها سواء، وقال أبو حنيفة: الضرب في الزنا أشدّ منه في القذف والشرب، وأشدّها التعزير؛ فدليلنا أنّها حدود جلد فوجب تساويها في الصفة لتساويها في الجنس والمقصد بها. [1704] مسألة: إذا وجب عليه الرجم أقيم عليه ولم يؤخر، وذكر الإسفرائيني عن بعض أصحابهم أنه إن كان ثبت باعترافه لا ببينة لم يرجم في شدّة الحر ولا البرد؛ فدليلنا قوله عليه السلام: «فان اعترفت فارجمها» ولم يفصل، ولأنه معنى ثبت الرجم به كالبينة. [1705] مسألة: إذا وجب الرجم على حامل أخرت حتى تضع الحمل، ويؤخذ للصبي من يرضعه، فإن لم يوجد له من يرضعه أخرت حتى تفطمه، وحكي عن أبي حنيفة أنّها ترجم ولا تنظر بعد الولادة؛ فدليلنا

قوله صلى الله عليه وسلم للغامدية: «ارجعي فارضعيه حتى تفطميه»، وفي «الموطأ»: أنه صلى الله عليه وسلم قال للّتي أخبرته أنها زنت وهي حامل: «اذهبي حتى تضعي»، فلما وضعت جاءته، فقال لها: «حتى ترضعي»، فلما أرضعته جاءته، فقال: «حتى تستودعيه» ولأنّه لما لم يجز رجمها وهي حامل، لأن في ذلك إتلافه، كذلك مع عدم من يرضعه، ولأنّ في ذلك إتلاف المولود. [1706] مسألة: يقام الحد على العبد والأمة إذا زنيا، تزوجا أو لم يتزوجا، وحكى أهل الخلاف عن ابن عباس أنهما إن لم يكونا تزوجا فلا حدّ عليهما؛ فدليلنا قوله تعالى: "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما"، وروي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فقال: إن زنت فاجلدوها، ولم يفرق، ولأنّه مسلم مكلف كالحر، ولأنّه سبب موجب للجلد فلم يؤثر فيه التزويج كالقذف والشرب [و] اعتبارًا بهما إذا تزوجا. [1707] مسألة: حدّ الأمة والعبد على النصف من حدّ الحر، خلافاً لمن قال إنه كحد الحر؛ لقوله عز وجل: "فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب"، ولأنّ الحدود مبنية على التفاضل، بدليل أن حدّ الحر البكر مائة، وإذا كان محصناً كان حدّه الرجم لفضيلته بالإحصان،

فإذا ثبت أنه مبني على التفاضل، نظر فإن كان يتبعض وجب تبعيضه، وإن كان لا يتبعض سقط أصلاً، كالشهادة والميراث، والرجم لا يتبعض فوجب أن يسقط عن العبد جملة. [1708] فصل: والعبد والأمة في ذلك سواء، وقال داود: حد العبد مائة، وحدّ الأمة خمسون؛ فدليلنا أنّه ناقص بالرق كالأمة، ولأن كل حدّ لزم إناث جنس لزم ذكورهم مثله، أصله الرجم والقطع، ولأن الأنوثية والتذكير لا يؤثر في اختلاف مقادير الحدود أصله الأحرار. [1709] مسألة: إذا وطىء ذات محرم منه بالملك عالماً بتحريم ذلك لزمه الحدّ، وقال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه: لا حدّ عليه؛ فدليلنا أنّه وطىء مع العلم بالتحريم من لا تحل له بحال، فلزمه الحد أصله الحرة. [1710] مسألة: إذا تزوج ذات محرم له ووطئها عالماً بالتحريم لزمه الحدّ، وقال أبو حنيفة: لا حدّ عليه وليس بزنا؛ فدليلنا أنّه يسمّى فاحشة بدليل قوله تعالى: "ولا تتكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً"، وكذلك زوجة الأب غير الأم، فإذا ثبت أنه فاحشة، وقد قال تعالى: "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» الحديث، وروى البراء قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى رجل نكح امرأة أبيه لأضرب عنقه، ولأنه وطىء أمه مع معرفة عينها فوجب أن يلزمه

الحدّ، أصله الوطء المبتدأ، ولأن هذا عين لا يستقر له عليها نكاح أبدًا بعد عقده عليها كالعقد على الغلام، فلمّا كان وطء الغلام بعد أن عقد عليه وقبله بمنزلة واحدة، فكذلك الأم، ولأنه وطء محرم بالإجماع مع جميع أسبابه لم يصاحب ملكًا فوجب أن يكون زنا يلزم به الحدّ، أصله إذا قال: استأجرتك بهذه الدراهم لأزني بك. [1711] مسألة: إذا استأجر امرأة على أن يزني بها فوطئها فعليه الحد، وقال أبو حنيفة: لا حد عليه؛ فدليلنا أنه وطء محرم بدواعيه غير مختلف فيه، فإذا تعمّده مع العلم بتحريمه وانتفاء سبب الإباحة لزمه الحد، أصله إذا استأجرها لتخبز له أو تطبخ فوطئها. [1712] مسألة: للسيد أن يقيم حدّ الزنا على عبده وأمته، وقال أبو حنيفة: ليس له ذلك ولا يقيم الحد إلا الإمام؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم»، وقوله: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليبعها ولو بضفير»، ولأن له أن يجبرها على النكاح بحق الملك كالإمام، ولأن كل من ملك تزويج شخص بغير قرابة ولا تولية جاز أن يملك إقامة الحدّ عليها كالإمام. [1713] مسألة: لا يقام على الذمية، حد زنا، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: "واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم"، فدل على

أن من عداهن بخلافهن، ولأن كل من لم يحدّه في الخمر لم يحدّه في الزنا كأهل الحرب والمجانين. [1714] مسألة: إذا دخل مسلم دار الحرب فزنى بحربية أو غيرها فعليه الحدّ، وقال أبو حنيفة: لا حد عليه إلا أن يكون على الجيش أمير مصر من الأمصار؛ ودليلنا قوله تعالى: "والزانية والزاني فاجلدوا"، ولأنه مسلم زنى فوجب أن يحد كما لو زنى في دار الإسلام، ولأنه موضع زنى فيه فلزمه الحد كسائر البقاع، ولأنه حدّ وجب لله، فلم تؤثر دار الحرب في إسقاطه كالقتل بالردة، واعتبارًا به إذا كان في عسكر المسلمين، وعلى الجيش أمير. [1715] مسألة: إذا اغتصب حرة فوطئها فلها الصداق، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنها حرة وطئها من يؤخذ بالجناية عليها وطئاً لا يلزمها به حد، فإذا لزمه الحدّ لزمه المهر، كالوطء بشبهة، ولأن هذا الوطء يتعلّق به حقان، حق لله تعالى، وحق لآدمي، فجاز أن يجبا جميعاً كقتل المحرم صيدًا مملوكاً. [1716] مسألة: من أتى بهيمة فلا حد عليه، وللشافعي ثلاثة أقاويل؛ أحدها: مثل هذا، والآخر: أنه يقتل بكرًا كان أو ثيباً، والثالث: أنّه كالزنا يجلد إن كان بكرًا ويرجم إن كان محصناً؛ فدليلنا: «لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث»، ولأنه جنس لا يتعلّق به التكليف، فلم يتعلق بالإيلاج فيه الحدّ كالجمادات، ولأنه وطء لا يتعلق بجنسه الرجم كالوطء فيما دون الفرج، ولأن كل جنس لا يصح منه الزنا فلا يصحّ حكم لوطئه في باب الحدّ، عكسه الآدمي، ولأنه معنى يوجب الحدّ في الآدمي فلم يوجبه في البهائم كالقذف والقتل، وهذه العلّة أصح من كل ما تقدّم. [1717] فصل: لا تقتل البهيمة سواء كانت ممّا يؤكل لحمها أو ممّا

لا يؤكل، وقال الإسفرائيني: إن كانت ممّا يؤكل فلا خلاف على مذهبهم أنها تذبح، وإن كانت ممّا لا يؤكل فعلى وجهين؛ فدليلنا نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان إلا لمأكله، وهذا ينفي ذبحه للوطء، ولأن الإتلاف الواجب بالوطء لا يكون إلا لبني آدم، وإذا استحال ذلك في البهائم استحال وجوب الإتلاف. [1718] فصل: وإذا ذبحت جاز أكلها إذا كانت ممّا يؤكل، ولأصحاب الشافعي وجهان؛ ودليلنا قوله تعالى: "أحلت لكم بهيمة الأنعام"، وقوله: "قل لا أجد في ما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه" الآية، ولأنّه أولج فيها جزءًا منه كأصبعه، ولأنه فعل في حيوان مباح الأكل فلم يمنع أكله إذا ذبح مع كمال حياته، أصله ركوبه وضربه. [1719] مسألة: إذا وطىء امرأة فأفضاها، فعليه الصداق مع قدر الشين، وإن كان في أجنبية فإن طاوعته فلا شيء عليه، وإن غصبها ففيه بقدر الشين مع الصداق كالزوجة، وذكر بعض من عمل مسائل الخلاف من أصحابنا عن ابن وضاح عن أصحاب مالك أن عليه الدّية، وذكر ابن أبي زيد في كتابه عن بعض العلماء أن فيه ثلث الدية كالجائفة، ولم يذكر أن القائل من أصحابنا أو غيرهم، هذا كلّه إذا لم تمت، فأما إن ماتت فقال ابن القاسم: عليه الدية على عاقلته، وذكر بعض أصحابنا عن سحنون أنّه لا شيء عليه، وقال أبو حنيفة في الزوجة يستقر المهر، ولا شيء عليه في الإفضاء بوجه، وقال في الأجنبيه: إن كان بولها لا ينحبس فدية كاملة بلا حكومة، وإن كان ينحبس فدية الجائفة، وقال أصحاب الشافعي: في الزوجة

عليه المهر ودية كاملة للإفضاء إن كان بولها ينحبس، وإن كان لا ينحبس فدية وحكومة. فدليلنا على أبي حنيفة في الزوجة أن عليه أرش الإفضاء في الجملة وعنده لا شيء عليه أصلاً، أنها جناية تنفك عن الوطء فوجب أن لا يدخل أرشها في الوطء، أصله إذا وطئها وقطع يدها، والجناية هي رفع الحاجز الذي يصير فيه المسلكان واحدًا، والوطء ينفك عن هذا لا محالة، لأنّه إنما يؤتى من شدّة تقصيه ومبالغته ولو ترفق لم يكن إفضاء، ولأن تثبيت الدّية والحكومة الواجبة بالإفضاء غير سبب المهر، ولأن المهر يجب بالوطء الذي هو استمتاع، والدّية أو الحكومة تجب لأجل الجناية، فلم يتداخلا كالصيد المملوك إذا أتلفه المحرم، لأن الجزاء لا يدخل في القيمة لاختلاف سببهما، ولأنه إتلاف لو حصل من غير الزوج لضمن أرشه، فوجب إذا حصل من الزوج أن يضمنه، أصله سائر الجنايات، ولأنه إفضاء حصل من وطء، فأشبه الإفضاء من وطء شبهة. [1720] مسألة، فصل: ووجه قول ابن القاسم: إن فيه بقدر الشين، فلأنّه لم يرد فيه تقدير، ولا فيه إبطال منفعة عامة، فوجب أن يكون فيه قدر الشين كسائر الجنايات التي لم يرد تقدير في أرشها؛ ووجه القول إن فيه الدّية أنه عضو من الجسد وينفرد بمنفعة مقصودة كاملة، فوجب أن يتعلّق بإتلافه الدّية كالعين واليد والذكر، ولأنه عضو يجب الحدّ فيه بالزنا فوجب أن يتعلّق فيه بإبطال منفعته الدية كالذكر، ولأنه فرج له حرمة كالذكر، وهذا هو القياس. [1721] فصل: ودليلنا على الشافعي قوله: إن البول إذا لم يستمسك فلها مع الدّية حكومة، أن العضو إذا تعلّق ببعضه حكومة على انفراد سقط مع وجود الدّية، كما لو قطع الكف لكان فيه الدّية، ولا يجب له حكومة، لأنه لو انفرد عن الأصابع لكان فيه حكومة.

ووجه القول إنّها إذا ماتت فيه الدّية أنّه قاتل خطأ، لأن سبب القتل هو فعله. فوجه القول بأنه لا شيء فيه، لأن الوطء فعل مباح له مأذون فيه، فإذا آل إلى الموات فلا شيء فيه، لأن الإذن فيه ينفي الضمان، والأول أصحّ، والله أعلم. [1722] مسألة: إذا زنى بجارية الابن فلا حدّ عليه، خلافاً لداود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك»، وحقيقة هذه الإضافة للملك، فلمّا ثبت أنّها ليست بملك ففي ثبوت أحكام الملك، ومن أحكامه انتفاء الحدّ بالوطء فيه، ولأن له فيها شبهة ملك بدليل أنه لا يجوز له تزويجها، وكل من لا يجوز له تزويجها بشبهة الملك، فلا يحدّ بوطئها، كالأمة بين شريكين يطؤها أحدهما. * * *

كتاب القذف

كتاب القذف [1723] مسألة: التعريض بالقذف يوجب الحدّ، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا حد فيه؛ ودليلنا أنه لفظ يفهم منه القذف فوجب أن يكون قذفاً، أصله التصريح، فإن منعوا أنّه يفهم منه القذف أحالوا المسألة، لأنّ الخلاف فيما يفهم منه ما يفهم بالتصريح، فإذا لم يفهم ذلك فلا خلاف أنه لا حد فيه، ولا يكون تعريضاً كما لو قال له: يا زان، فقال له: أنعم الله صباحك، أو أنت سخي كريم، أو ما أشبه ذلك من الكلام الأجنبي عمّا هما فيه، ويبين ما قلنا أن عرف التخاطب ينفي ما قالوه، لأن أهل اللّغة يسمّون التعريض لما يفهم منه معنى التصريح وإن كان صريح هذا التعريض ضدّه، ولذلك أخبر الله تعالى عن قوم شعيب أنهم قالوا: "إنك لأنت الحليم الرشيد"، وأرادوا ضدّ ذلك، وهو الذي يفيد عرف التخاطب، لأنا إذا رأينا اثنين يتسابان وأحدهما يقاتل صاحبه ويطلب أن يزري عليه ولا يرضى بمقابلته على ما يورده إلا أن يبالغ فيه، فقال أحدهما للآخر: يا زان أو أن الأبعد ابن زانية، فقابله بأن قال: ما أنت بزان أو ما أمه إلا العفيفة التي لا يعلم أنها زنت ولا اكتسبت فاحشة، وشوهد في وجهه من الأمارات والعلامات ما يعلم معه أن هذه غرضه، أن هذه أدخل فيما رميت به الأخرى منهما، فيعقل ذلك من شاهد الحال كما يعقل الفرق بين قول القائل: أشهد أن لا إله إلا الله، اعتبارًا، وبين من يقولها تعظيمًا، وبين أن

يقولها تعجبًا عند طروء حادث، وبين أن يقولها في الأذان، أو حكاية لقول قائل، ومن دفع هذا علم قصده للمعاندة فلا وجه لكلامه، ولأنّهم قد وافقونا على أنّه لو قال أردت به القذف أنه يكون قذفًا، فلولا أنه يعقل منه وإلا لم يكن له حكم ذلك إلا بالإرادة. [1724] مسألة: إذا قال له: يا زان، ثم أقام بينة أنه زنى حال كفره لزمه الحدّ، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا حدّ عليه؛ فدليلنا قوله تعالى: "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء"، وهذا لم يأت ببينة على زنا، لأنّ الزنا في الكفر ليس بزنا، ولأنه قذف مسلماً حرًا عاقلاً محصناً لم يحكم عليه بزنا في الإسلام، فوجب أن يلزمه الحدّ، أصله إذا كان مسلم الأصل. [1725] مسألة: إذا قال لها: رأيتك تزني حال الإحصان في كفرك لزمه الحد وإن أقام البينة، وقال الشافعي: لا حدّ عليه؛ فدليلنا الظاهر، ولأنه رماها حال الإحصان فوجب أن يلزمه الحد كما لو رماها بالزنا في وقتها. [1726] مسألة: إذا قال له يا لوطي فعليه الحدّ، وقال أبو حنيفة: لا حدّ عليه وبناه على أن اللّواط لا يجب به حدّ؛ فدليلنا أنه رماه بفاحشة موجبة للحد والغسل فكان به قاذفاً كالزنا، ولأنه رماه بوطء آدمي لا تصحّ استباحته إياه بوجه، فأشبه أن يرميه بوطء ذات محرم منه. [1727] مسألة: يكره للابن أن يحد أباه في القذف وإن حقق المطالبة كان له ذلك، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: "والذين يرمون المحصنات" الآية، ولأنه قاذف لمحصن بالزنا، فلزمه الحدّ متى لم يثبت صدقه ببينة أو اعتراف، أصله الأجنبي. [1728] مسألة: حد العبد في القذف أربعون، وذكر عن عمر بن عبدالعزيز أنّه ثمانون، وإليه ذهب بعض المتأخرين؛ فدليلنا أنّه حدّ يتبعض

فكان العبد فيه على النصف من الحر كحد الزنا. [1729] مسألة: المسلم إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم تقبل توبته، وفي الكافر إذا قال أنا مسلم روايتان، وقال أبو حنيفة والشافعي: تقبل توبته؛ فدليلنا أنّ ذلك علم على ارتداده بدليل قوله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما"، فأخبر أن الإيمان لا يحصل لمن شك هل حكم بالصواب أم لا، فكان بأن لا يحصل لمن سبه وتظاهر بذلك أولى، ولأن أبا بكر رضي الله عنه سبه رجل، فقام من حضر فشهر سيفه ليضرب عنقه فقال له أبو بكر: ما الذي أنت صانع؟ فقال: أقتله لسبه إياك، فقال: ليس ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخالف عليه أحد، ونفرض الكلام في قذفه فنقول: لأن القذف للإحصان تأثير فيه تعلق به الحدّ، فيجب أن يكون منه ما يتعلّق به الحدّ القتل كالزنا، ولأن حدّ القذف مبني على حسب حرمة المقذوف، وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من حرمة أمته فلا يبقى إلا القتل. [1730] مسألة: اختلف عنه في حد القذف هل هو من حقوق الله تعالى أو من حقوق الآدميين، والصحيح أنه من حقوق الآدميين؛ بدليل أنّه يورث عن المقذوف، وحقوق الله تعالى لا تورث، ولأنّه لا يستحق [إلا] بالمطالبة كسائر حقوق الآدميين. [1731] مسألة: إذا أقر أنه زنى بامرأة بعينها وأنكرت حد للزنا

والقذف إن كان ممّن يحد قاذفها، وكذلك لو اقرت أنه زنى بها فلان، وحكي عن أبي حنيفة أنّها إذا أنكرت حد للقذف ولم يحدّ للزنا، وعن الأوزاعي ضدّ هذا، وهو أنه يحدّ للزنا دون القذف؛ فدليلنا أنه يحد للزنا قوله صلى الله عليه وسلم: «إن اعترفت فارجمها»، وقوله: «من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله»، ولأنه مكلف أقر على نفسه بالزنا فوجب أن يلزمه الحدّ، أصله إذا لم يعين، أو إذا صدقته، ولأنه أقر على نفسه بالزنا ولم يرجع فوجب أن يلزمه الحد أو القطع، وادعاء شركتها فيه لم يؤثر تصديقها له وإنكارها أصله لو قال: سرقنا أو شربنا جميعاً، ولأن الأصول موضوعة على أن من أقر على نفسه وعلى غيره قُبِلَ إقراره على نفسه ولم يقبل على غيره. [1732] فصل: ودليلنا على أن عليه حد القذف عموم الظاهر، ولأنه أجنبي قاذف لمن يحد قاذقها، فإن لم يعترف ولم يُقِمْ بينة حدّ، كما لو قذفها مطلقاً أو برجل آخر. [1733] مسألة: وإذا قال أشهدني فلان، أو أخبرني، أو يقول لك يا زان، أو إنك زان، فإنه يحد إلا أن يقيم بينة على ما ادعاه من إخبار من أخبره بذلك، فتنتقل المطالبة، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا حد عليه ولا بينة؛ فدليلنا أن لفظ الرمي قد وجد منه، فإذا عزاه إلى غيره وجب أن يثبت ذلك وإلا أخذ به، ولأنه يصير بمنزلة من لم يعزه إلى أحد، ولأنه ألحق المعرة بالمقذوف، إذا لم يتخلص منه لزمه الحد، أصله إذا أضافه إلى نفسه، ولأنه لو لم يحد لبطل ما في إيجاب الحد بالقذف من صيانة الأعراض وانتفاء الهتك عنها لأنه لا يشاء من يريد هتك عرض إنسان إلا أَضَافَهُ إلى غيره ليزول عنه الحد ويثبت له ما يريده.

[1734] مسألة: إذا قذف جماعة بكلمة واحدة أجزأهم منه حدّ واحد، خلافاً للشافعي؛ لقوله تعالى: "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة"، ولم يفرق بين اللّفظ والألفاظ، ولأنه لفظ واحد بالقذف، فلم يجب به إلا حدّ واحد، أصله إذا كان المقذوف واحدًا. [1735] مسألة: إذا قذف محصناً في الطاهر ففسق المقذوف، سقط الحدّ عن القاذف، وقال أبو حنيفة: لا يسقط؛ فدليلنا أن الحكم بالعفة من طريق الظاهر، والفسق أمر مستبطن، فإذا بان الفسق منه قدح ذلك في ظاهر عفته، فصار شبهة يسقط الحدّ عن قاذفه بذلك الزنا. [1736] مسألة: إذا قذفه مرة ثانية] قال ابن القاسم: يحد، وقال الشيخ أبو بكر: لا يحد، وهو قول الشافعي؛ فوجه الأول عموم الظاهر، واعتباراً بالرمي الأول، ووجه الثاني أنه قد ثبت كذبه لعجزه عن البينة وإقامة الحد عليه، فإذا قذف ثانية بما قد عرف كذبه به لم يلزمه الحدّ كما لو قذف صغيرة لا يتأتى منها الزنا. [1737] مسألة: إذا قال لأجنبية زنيت مكرهة أو مغصوبة لزمه الحدّ، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأنه قد عيرها بذلك فلا يقبل منه عذر في سقوط الحد عنه، لأنّ المعرة لا تزول إلا بأن يحدّ القاذف أو تقوم البينة فيتخلّص من القذف، وقوله وأنت مغصوبة ندم وتطريق إلى سقوط الحد. * * *

كتاب الأيمان

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الأيمان [1738] مسألة: تجب الكفارة بالحنث في اليمين على أي وجه كان، من كونه طاعة أو معصية أو مباحاً، خلافاً لمن قال إنه إذا كان الحنث طاعة فلا كفارة فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر»، وهذا خاصٌ في مسألتنا، ولأنّ المخالفة قد وجدت منه، فأشبه كون الحنث معصية أو مباحاً. [1739] مسألة: إذا قال إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني، لم يكن ذلك يميناً، ولا كفارة عليه إن فعل، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنّها يمين تعرت عن اسم الله تعالى وصفاته، فلم يلزم بالحنث فيها كفارة، أصله قوله والنبي والكعبة، ولأنه حلف بالبراءة من متبرأ منه فأشبه حلفه بالبراءة من النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المحدثين، ولاأنه حلف بمعنى يوجب القتل فأشبه قوله هو زان محصن، أو جاحد للصلاة، أو ساب للنبي، أو برىء منه، ولأنه إخبار عن أنه بالحنث يحصل على صفة اعتقاد يوجب الفسق فلم

يلزم به كفارة، كقوله: هو قدري أو مبتدع. [1740] مسألة: لا كفارة في اليمين الغموس، خلافً للشافعي؛ لقوله تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، فأخبر أن المؤاخذة بالكفارة لا تكون إلا في يمين منعقدة والغموس وقعت محلولة غير منعقدة، بدليل أنّ المنعقدة ما أمكن حلّه لأنه في مقابلة المحلول، والغموس واقعة على وجه واحد فلا يتصور ذلك فيها، وقوله: "واحفظوا أيمانكم"، يريد مراعاتها ليؤدي الكفارة بالحنث فيها، وذلك يقتضى أن تكون اليمين ممّا يمكن حفظها ومراعاتها بأن تعلّق بما يتأتى به البرُّ والحنث، وهو لا يتأتى في الغموس، ولأنها يمين لا يتأتى فيها برٌّ ولا حنث، فلم تجب بها كفارة كاللّغو، ولأنّ الكفارة معنى ترفع حكم اليمين، فلم تتعلق بالحلف على المعاصي، كالاستثناء، ولأن معنى الحنث وقوع المحلوف عليه مخالفاً لما حلف به عليه، وذلك يقتضي بعد اليمين على وقوعه ليصحّ وصفه إذا وقع، بالحنث أو بالبرِّ، ومتى تأخرت اليمين عنه فقد وقع عارياً من الحكم له بأحدهما من بعد، ولأن كل ما يبطل العقد بطروه عليه، فإنه يمنع انعقاده إذا قارنه، أصله الردة والرضاع. [1741] مسألة: إذا قال أقسم، أو أقسمت، فإن قال: بالله، لفظاً،

أو لله، كان يميناً، وإن لم يلفظ به ولا نواه؛ فليست بيمين، والظاهر من مذهب الشافعي أنّه ليس بيمين على كلِّ وجهٍ، وعند أبي حنيفة أن هذه الألفاظ مجردها لا يتعلّق محلوف بمخصوص، فلم تكن أيماناً؛ لأنه لفظ يمين عري عن أسماء الله وصفاته لفظاً ونية كقوله: والنبي والكعبة، ولأن الكفارات تجب في لفظٍ له حرمة، والحرمة للمقسم به، وأما لفظ القسم من غير ذكر مُقسمٍ به فلا حرمة له، ودليلنا على الشافعي قوله تعالى: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم"، فسمَّى القسم يميناً، ولأنه قسم علق على اسم الله تعالى فأشبه إذا علّقه به نطقاً، ولأن القسم كناية عن اليمين، وما كان كناية عن الشيء كان مقارنة النية كالصريح، أصله كناية الطلاق. [1742] مسألة: العهد والميثاق يمين مع الإطلاق، خلافاً للشافعي؛ لقوله تعالى: "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد تؤكيده"، فسمى العهد يميناً ونهى عن نقضه بعد توكيده، وأن العهد يمين في عرف الشرع واللغة، بدليل أنه يعقل من إطلاق قول القائل: علي عهد الله، ما يفهم من قوله: والله، أنه بمثابة قوله: حلفت بالله، ولأنّه قسم بعهد الله كما لو نواه. [1743] مسألة: إذا قال عليه عهد الله وميثاقه وكفالته، ثم حنث، فأراد الاستئناف، أو أطلق، فعليه لكل واحد كفارة، وإن أراد التأكيد فكفارة واحدة، وقال الشافعي: إن نوى اليمين فعليه لكل واحد كفارة واحدة؛ فدليلنا أن كل واحد من هذه الصفات إذا انفرد كان يميناً، فإذا جمعها وفصل بينها بواو القسم كانت أيماناً، كقوله: والله الرحمن الرحيم، إلا أن يريد التأكيد. [1744] مسألة: إذا حلف بحق الله فإنها يمين تكفر، خلافاً لأبي

حنيفة؛ لأنّها يمين في عرف اللغة والشرع، لأن كل أحد يعقل عن قصد الحالف بها ما يعقل من قوله: وعزة الله وقدرة الله، فوجب أن يكون يميناً، ولأن حق الله صفة لذاته، لأنّ معناه استحقاقه على عباده [طاعته]، وذلك قديم غير محدث، لأنه تعالى لم يزل موصوفاً بأنه مستحق على من يخلقه طاعته وعبادته. [1745] مسألة: أمانة الله يمين، خلافاً للشافعي؛ لأنّها من صفة الذات يوصف بها الأمين المؤتمن، لم يزل تعالى موصوفاً به، فصار كقوله: وعظمة الله وقدرته. [1746] مسألة: إذا حلف بالمصحف ثم حنث فعليه الكفارة، خلافاً لأصحاب أبي حنيفة والشافعي، أما أصحاب أبي حنيفة فبنوه على أصله، في القول على أصلهم، بخلق القرآن من قال ذلك منهم، وأما أصحاب الشافعي فقالوا: إن المصحف هو الورق والحبر والجلد وكل ذلك مخلوق؛ فدليلنا أن المفهوم من إطلاق ذلك الحلف بالقرآن المكتوب في المصحف، والقرآن غير مخلوق، فوجب أن يكون يميناً. [1747] مسألة: إذا حلف بعلم الله فذلك يمين، وقال أصحاب أبي حنيفة: ليس بيمين؛ فدليلنا أن علم الله عز وجل صفة من صفات ذاته، فأشبه قدرته وعظمته. [1748] مسألة: إذا قال أسألك بالله لتفعلن كذا، قال ابن القاسم: ليس بيمين، أراد اليمين أو لم يردها، وقال أصحاب الشافعي: إن أراد اليمين كانت يميناً؛ فدليلنا أن هذه اللفظة لم يتقرر لها عرف شرعاً ولا لغة، موضوعها استدعاء الفعل على وجه المسألة، وذلك ليس من اليمين في شيء، ولأنّ ذلك بمثابة قوله: أطلب منك وألتمس ذلك فليس بيمين. [1749] مسألة: لغو اليمين أن يحلف على شيء يظنه على ما حلف

عليه، ثم يتبين له أنه بخلافه، سواء قصده أو لم يقصده، وقال الشافعي: إن قصد فليس بلغو؛ فدليلنا أن من حلف على علمه أو غلبة ظنه فلم يوجد منه استخفاف لحرمة اليمين ولا جرأة وإقدام على التغرير بها، لأنه علّقها على وصف مراعى مطابق لها وهو علمه أو غلبة ظنه، ومطابقة اليمين له انعقادها على ذلك الوجه، فإن كان على ما حلف عليه فقد بر وإن كان بخلافه فلا شيء عليه، لأنّ اليمين لم تنعقد على شيء، لأنها وقعت محلولة مفارقة للحنث. [1750] مسألة: في تقديم الكفارة على الحنث روايتان؛ إحداهما: الجواز، وهو قول الشافعي، والأخرى: المنع، وهو قول أبي حنيفة. فوجه الجواز قوله صلى الله عليه وسلم: «فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير»، وروي: «فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه»، وروى عبد الرحمن بن سمرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إذا حلفت فرأيت غيرها خيرًا منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير»، وهذا نص، ولأنه كفر عن يمينه بعد عقدها فأشبه أن يكفر بعد الحنث، ولأنه معنى يرفع حكم اليمين، فلم يقف ثبوت حكمه على وجوب الحنث، أصله الاستثناء، ولأنّ الكفارة أقوى من الاستثناء بدليل أنه يرفع اليمين منفصلة ومتصلة. ووجه المنع أنه حق في مال يتعلق بسبب لحق الله فلم يجز تقديمه عل وقت وجوبه كالزكاة، واعتباراً بسائر الكفارات، ولأنه لم يحنث فلم يكن للكفارة حكم كما لو أخرجها قبل اليمين، ولأن الحنث هو الموجب

للكفارة فلا يجوز أن يؤخذ من غير وجوبها. [1751] فصل: إذا قلنا إنه جائز فلا فصل بين الصيام وغيره، وقال الشافعي: لا يجوز تقديم التكفير بالصيام؛ فدليلنا أنه أحد أنواع كفارات اليمين للإعتاق والإطعام، ولأن كل حال جاز أن يكفر يمينه فيها بالعتق جاز أن يكفر بالصيام، أصله بعد الحنث. [1752] مسألة: الاستثناء في اليمين غير واجب، خلافاً لقوم؛ لأنّه يحل اليمين كالكفارة، ولأنه لو كان واجباً لم يجز لأحد أن يعقد يميناً، وذلك خلاف الإجماع. [1753] مسألة: لا يجوز الاستثناء إلا متصلاً باليمين غير متراخ، وحكي عن ابن عباس جواز تراخيه، فقيل عنه: إلى سنة، وقيل: إلى غير غاية، وحكي عن قوم أنه يجوز ما دام في مجلسه؛ ودليلنا على منع ذلك من طريق اللّغة: أن العرب لا تستعمله إلا متصلاً بدليل أنهم إذا سمعوا مورده متراخياً عن أصله استقبحوا ذلك منه، هذا هو المألوف من خطابهم وعُرْفِهِمْ أن القائل إذا قال: ادع لي عبيدي، ثم قال بعد زمان إلا فلاناً، عدوه هاذيًا غير محصل، فدل على ما قلناه، ولأن الاستثناء لما كان غير مستقل بنفسه ولا مفيدًا بانفراده بل متعلّقاً بما تقدّمه، لم يحسن إفراده عنه وقطعه منه كما لم يحسن الابتداء به، ولأنه جار عندهم مجرى الشرط والتقييد وخبر المبتدأ، ولأن ذلك يؤدي إلى أن لا يوثق من أحد بوعد ولا أمر ولا خبر، وهذا على طريقة من يمنع تأخير البيان، ودليلنا على المسألة أن الكلام إذا اتصل آخره بأوله حصلت به الفائدة، وبني

بعضه على بعض، وإذا انفرد عنه بعض منه لا يفيد بنفسه لم يكن حكم، يُبيِّن ذلك أن القائل: لزيد علي عشرة دراهم إلا دانقًا يحكم بأن له تسعة وخمسة دوانق، ولو كان سكت ثم قال بعد مهلة طويلة، أو من الغد: إلا دانقاً لكان ذلك غير مؤثر، وكان الإقرار بالعشرة المسكوت عنها ثابتاً مستقرًا، فبطل ما قالوه. [1754] مسألة: إذا حلف لا يلبس حلياً فلبس خاتماً حنث، وقال أبو حنيفة: لا يحنث؛ فدليلنا أن الخاتم من حلي الرجال لغة وشرعاً، فوجب وقوع الحنث به. [1755] مسألة: إذا حلف ليتزوجن على امرأته لم يبر إلا بشرطين؛ أحدهما: أن يتزوج من يشبه أن يكون نظيرًا لها، والآخر: أن يدخل بها، وقال أبو حنيفة والشافعي: يبر بالتزويج الصحيح فقط؛ فدليلنا أن مطلق اليمين إذا كان لها مقصد صحيح في العرف منصرف إلى ذلك المقصد، وفي العادة أن الحالف بذلك يقصد الغيرة والغيظ، وذلك لا يقع إلا بما ذكرناه، لأنه إن تزوج بمن لا يجري مجراها وضع من نفسه وشتمها به وعاد بضد ما قصده باليمين من مغايرتها ومغايضتها، لأن مجرد العقد لا يحصل معه هذا المعنى فدل على ما قلناه. [1756] مسألة: إذا حلف بقصد قطع المن عنه فقال: والله لا شربت لك الماء، فإنه متى انتفع بشيء من ماله بأكل أو شرب أو عارية أو ركوب أو غير ذلك حنث، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يحنث إلا بما تضمنه لفظ يمينه وهو الماء؛ ودليلنا أن المفهوم من هذا القول قطع المن عنه من طريق التنبيه دون الاقتصار على ما نص عليه، فوجب تعلّق اليمين بجميع ذلك، كقوله تعالى: "فلا تقل لهما أف"، لما كان المقصود منه التنبيه على منع الأذى تعلّق النهي بجميعه دون ما نص عليه من القول: «أف»، وإذا

ثبت أن ما ذكرناه هو معقول الكلام والمقصود به، قلنا: لأنه لفظ يفهم منه الامتناع من الانتفاع بشيء من ماله، فأشبه إذا لفظ به، ولأن التنبيه مدلول اللّفظ ومفهومه، فوجب أن يتعلّق حكم الحلف به، أصله المنطوق، ولأنّ الزيادة على اللفظ أحد الوجهين الذين يصحّ أن يراد به، فجاز أن ينتقل اللفظ إليه في حكم اليمين بالعرف أو غيره من القرائن كالنقصان. [1757] مسألة: إذا حلف لا يأكل هذا الرغيف حنث بأكل بعضه، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأنه لفظ مقصود به المنع من فعل، فوجب أن يتعلّق المنع بالجملة والأبعاض، أصله النهي، لأن الحالف يقصد منع نفسه كما أن الناهي يقصد منع غيره، ولأنها عين تعلقت بجملة تعلّقاً مطلقاً فوجب أن يتعلق بكل جزء منها وأن تكون المخالفة في الجزء كالمخالفة في الكل، أصله إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف. [1758] مسألة: إذا حلف لا يأكل من طعام اشتراه فلان، أو لا لبس ثوباً اشتراه فلان، فاشترى فلان وغيره طعاماً أو ثوباً فأكل منه أو لبس حنث، وقال الشافعي: لا يحنث إلا بما انفرد فلان بشرائه، وقال أبو حنيفة: يحنث في الطعام ولا يحنث في الثوب؛ فدليلنا أنه قد أكل من طعام اشتراه فلان، فأشبه ما ينفرد بشرائه، ولأن لشراء فلان حالين: حال ينفرد بها، وحال يشارك فيها، فإذا أطلق ولم يقيد كان محمولاً على الأمرين، ولأنّه قد تعلّق باليمين شيئان مشترٍ ومشترى ثم قد ثبت أنه لو اشترى الطعام وغيره فأكل منه حنث، فكذلك إذا اشتراه هو وغيره، ولأنّه أضافه إلى مشتر له كما إذا قال: لا أشرب لبناً حلب من هذه الشاة، فقد أضاف اللبن إلى حلبها ثم قد ثبت أنه لو شرب منه وقد خلط بلبن غير ما به يحنث، فكذلك الطعام إذا اشتراه هو وغيره. [1759] مسأله: إذا حلف لا يسكن داراً هو فيها فخرج لوقته لم

يحنث، وحكي عن زفر: أنه يحنث؛ ودليلنا أن يمينه على سكنى مستأنفة ومستدامة، وذلك معدوم مع خروجه فلم يحنث. [1760] مسألة: الاعتبار في ذلك بأن ينتقل بنفسه وبأهله وبولده ومن كان معه في الدار ساكناً لسكناه، وما لا بدّ له، من رحل ومتاع يصحبه حيث [يقيم] إلا ما لا خطر له كالمسمار والوتد وما أشبه ذلك، وقالى الشافعي: الاعتبار أن ينتقل ببدنه فقط؛ فدليلنا أن السكنى في عرف التخاطب اسم لكون الإنسان في الموضع بما جرت العادة بأن يصحبه، بحيث يقيم ممّا لا بد له منه، فيجب متى حلف أن لايسكن في موضع أن لا يبقى له شيء له خطب في الوصف له بأنّه ساكن، لأن يمينه أن لا يسكن يقتضي الانتقال الذي يحصل به ساكناً فمتى بقي شيء من ذلك حنث، لأن اسم السكنى لم ينتف عنه، لأنّ الأغراض والمقاصد معتبرة في الأيمان، بدليل من حلف لا يسبح في نهر وغيره، أن لا ينزل في ماء كثير يخاف على نفسه منه، فإنّه يحنث متى سبح في دجلة، أو البحر، وإن كان لا يسمّى نهراً، وإذا ثبت ذلك فالحالف لا يسكن هذه الدار، لا بدّ أن يكون غرضه كراهة الإقامة في المواضع أو قطع العلائق مع صاحبها، إن كانت بأجرة وأية ذلك كان فيقتضي أن يتعلق يمينه بالانصراف لم يبر. [1761] مسألة: إذا حلف لا يسكن دار فلان هذه، فإن اليمين متوجهة إلى عين الدار، فعلى أي وجه سكنها حنث، بقيت في ملك فلان أو خرجت عنه، وإن أطلق لم يحنث بخروجها عن ملكه، وقالى أبو حنيفة: لا يحنث في الموضعين؛ ودليلنا أنه إذا قال: دار فلان هذه، فالتعيين ليس بشرط لليمين، وإنّما هو مبالغة في التعريف وإبانة عن المقصود [في] عين

الدّار، وكأنه أراد بالتعيين إعلام من حضر وغاب بأن هذه العين هي المحلوف عليها، لئلا يظن أن النسبة إلى ملك فلان هي صفة لليمين، وإذا كان كذلك فالعين باقية وإن زال الملك فيجب أن يحنث، ولأنه علّق يمينه بغير عينها وأضافها إلى شخص، فوجب أن لا تنحل بزوال إضافتها عمّن أضيفت إليه، أصله زوجة فلان وصديقه إذا حلف ألا يكلّمه، وأن التعيين والإضافة إذا اجتمعتا ولم يكن بدّ من تقديم أحدهما كان التعيين أولى لأنّه نص لا يحتمل، لأنّ العين تبقى مع اختلاف الأحوال عليها، وتنقل الأملاك عنها، والإضافة محتملة للملك والإجارة والتعريف وغيره فكانت مراعاة التعيين أولى. [1762] مسألة: إذا حلف أن لا يسكن، أو أن لا دخل دار فلان، فابتاع فلان داراً بعد يمينه فدخلها أو سكنها حنث، وقال أبو يوسف: لا يحنث؛ فدليلنا أن اليمين مطلقة لم تقيد بدار يملكها في الوقت أو بعده، فيجب تناولها للجميع، ولأنه دخل داراً يملكها المحلوف عليه، فأشبه ما كان يملكه وقت اليمين، ولأن اليمين منعقدة على مضاف إلى ملك فلان فاستوى في ذلك ما يملكه حال اليمين وبعده كالطعام، ووافقنا أنّه إذا حلف لا أكل طعاماً لفلان أنّه يحنث بأكل ما يشتريه فلان بعد اليمين. [1763] مسألة: إذا حلف لا يدخل داراً فرقى على سطحها أو وقف على سورها أو دخل بيتاً فيها شارعاً إلى الطريق حنث في جميع ذلك، وقال الشافعي: لا يحنث إلا بأن يدخل شيئاً من عرصتها، ولهم في السطح المحجَّر وجهان؛ ودليلنا أن سطح الدّار من الدار، لأن الدار اسم للعرصة بعلوها، لأنّ اسم الدار ما أحاط بعلوها وهو سورها وأغلق عليه بابها، وهذا موجود في العلو والسفل، ولأن من على سطح الدار يسمّى بأنه في الدّار، ألا ترى أنه يحسن أن يقول الرجل لم أبرح اليوم من داري، وهو في

سطحها، وأن يقول لمن رآه في سطحه لم دخلت داري، ولأن من حلف لا يصلّي في الدّار أو في المسجد فصلى في سطحهما فإنّه يحنث، وكذلك من سرق من السّطح فإنّه هتك الحرز ولزمه القطع كمن سرق من العرصة، ولأنّ من باع داراً أو أطلق دخل العلو في البيع كدخول السفل، فإذا ثبت بما ذكرناه كون السطح من الدار وجب أن يحنث بدخوله إليه كالسّفل، ولأنّ العلو حدّ جهتي الدار كالسفل. [1764] مسألة: إذا حلف ألا أدخل دار فلان فدخل داراً يسكنها بكراء حنث، وقال الشافعي: لا يحنث إلا بأن يدخل ملكه؛ فدليلنا أنّه دخل داراً تضاف إلى المحلوف عليه عرفاً، فوجب أن يحنث، أصله إذا كانت ملكاً له، يبين ذلك أنّه إذا قيل هذه دار فلان، وفلان في داره، لم يفهم من ذلك إلا الدار التي يسكنها سواء كانت ملكاً أو مستأجرة. [1765] مسألة: إذا حلف لا أدخل داراً مبنية، فخربت وصارت طريقاً لم يحنث بدخولها، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن الدار في عرف التخاطب اسم للعرصة والبناء وما أحاط به السور المحوط عليها، فإذا زال البناء عنها زال الاسم بزواله فسقطت اليمين، ولأنها صارت على صفة ينتفي عنها الاسم مع الإطلاق فانتفى عنها مع التعيين، أصله لو بنيت مسجداً أو حمامًا، ولأنها دار حلف على الامتناع من دخولها، إذا خربت وزال رسمها لم يحنث، أصله إذا حلف على دار مطلقة، ولأنه حلف على الامتناع من دخول عرصة مبنية مسماة باسم، فإذا زال بناؤها وخربت لم يحنث بدخولها، أصله لو قال: لا دخلت هذا البيت فدخله بعد أن خرب. [1766] مسألة: إذا حلف ليقضينه حقه في غد فقضاه اليوم لم يحنث، وقال الشافعي. يحنث؛ فدليلنا أن المفهوم من ذلك في عرف التخاطب إنّما هو الحلف على تعجيل أداء الحق والإسراع به، فكل ما كان أعجل كان أدخل في البر، ولأنه لم يؤخر قضاءه عن الوقت الذي حلف عليه، كما لو قضاه فيه، ولأنّهم يوافقون أنّه لو حلف أن يصلّي غدًا وصلى اليوم أنه لا يحنث، لأن مفهوم ذلك المبادرة إلى الطاعة وفعل الخير،

كذلك في مسألتنا المفهوم قضاء تعجيل الحق. [1767] مسألة: إذا حلف ليقضينه حقه في غد فمات صاحب الحق قبل غد، فيقضي الورثة أو الوصي أو السلطان ولا يحنث، فإن لم يفعل ذلك حتى انقضى الأجل حنث، وقال أبو حنيفة: يحنث بموت الطالب قبل دفع الحق إليه، سواء قضى ورثته أم لا؛ فدليلنا أن قصد الحالف أن يبرىء ذمته من الحق الذي عليه بفعل من جهته، وتسمية صاحب الحق على وجه الشرط لكن لأنه يستحقه في الحال فإذا استحقه الورثة برىء بدفعه إليهم، لأنهم يقومون مقام الميت في براءة من له ذمة من له عليه الحق بدفعه إليهم، ولأن اليمين إذا علقت على فعل لا يمكن إلا بشرط قد علقت به على الشرط، لأنها لا تنعقد على محال، وإذا ثبت ذلك وكان قضاؤه مشروطاً ببقائه لم يحنث بموته قبل القضاء فكان كقوله: والله لآكلنَّ هذا الطعام في غد، فيحترق قبل الغد أنه لا يحنث، لأنّ الحلف على أكله مشروط ببقائه، ولأن الدفع قد وجد من الحالف إلى من يقوم مقام المحلوف عليه في استحقاق المقبوض، فوجب أن يبرأ بالدفع إليه، كما لو دفعه إلى وكيله في حياته. [1768] مسألة: إذا حلف ليقضينه حقه فباعه سلعة تساوي دون قيمة الحق لم يبر، وقال أبو حنيفة: يبر؛ فدليلنا أنه لم يوفه حقه ولا ما يقوم مقامه، فأشبه ما لو دفع إليه بعض حقه بعينه. [1769] مسألة: ولو قضاه زيوفاً أو ستوقاً لم يبر، قبل صاحب الحق أو رد، وقال أبو حنيفة: يبر بالزيوف ولا يبر بالسّتوق؛ فدليلنا ما قدمناه أن الوفاء لم يحصل له لا من حهة المثل ولا القيمة، فأشبه أن يكون له عشرة فيعطيه تسعة، ولأنه قضاه مغشوشة بدلاً من فضة بوزنها فلم يبر أصله الستوق.

[1770] مسألة: إذا علق يمينه بفعل شيء بعد حين أو دهر أو زمان، فذلك سنة، وعند أبي حنيفة: أن الحين ستة أشهر، وقال الشافعي: ليس له حدّ فبأي شيء فسَّره قُبِلَ منه، وإن لم يفسّره كان كمن حلف مطلقاً؛ فدليلنا عليه عرف التخاطب ينفي ما قاله، أنّ القائل إذا قال: ما رأيت زيداً منذ حين، أو منذ دهر، أنّه يقصد بذلك ببعيد الزمان ولم يرد به منذ يوم أو يومين، وكذلك إذا قال: لي حين ما فعلت كذا، فالذي يسبق إلى الوهم عند سماعه أنّه قد بعد عهده به فصحّ ما قلناه، ودليلنا على أبي حنيفة أن الحين قد ثبت في الشرع أنه سنة لقوله تعالى: "تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها"، وإطعام الثمرة يكون كل سنة فوجب تعليق الاسم به، ودليلنا على أن الدهر سنة أنّه لفظ موضوع للتبعيد فأشبه الحين. [1771] مسألة: إذا حلف لا أشرب من دجلة أو الفرات فإنه كحلفه لا أشرب من مائها فيحنث متى شرب منه كرعاً أو بآلة، وقال أبو حنيفة: لا يحنث إلا بالكرع؛ ودليلنا أنه يطلق عليه أنه شارب منها، كما لو كرع، يُبيِّن ما قلناه قولهم: أهل بلد فلان يشربون من دجلة، وأراضي بلد كذا تشرب من دجلة، وإن علم أن ذلك بآلة أو غير آلة، ولأنه حصل شارباً من مائها فوجب أن يحنث كما لو صرح به، ولأن الأيمان محمولة على العرف، وذلك هو الشرب على ما جرت العادة به، ولأن دجلة لما لم يصحّ شرب أرضها كان الماء مضمرًا في اليمين كما لو صرح به، ولأنّه أضاف الماء المحلوف عليه إلى قرار مخصوص، فوجب أن يحنث متى شرب منه بآلة، أصله إذا حلف: لا أشرب من هذه البئر. [1772] مسألة: إذا حلف على زوجته لا خرجت إلا بإذنه، فأذن لها من حيث لم تعلم فخرجت بعد إذنه وقبل علمها حنث، وقال الشافعي: لا

يحنث؛ فدليلنا أن الإذن حكم من أفعال أحكام المكلّفين يتعلّق بقائل ومقول له، فوجب إذا فعل عارياً من علم فأعله بثبوت ذلك الحكم له أن لا يحكم لفاعله بأنه فعله على ذلك الوجه، أصله الأمر والنهي، ولأن من حلف على امرأته ألا تخرج إلا بإذنه فمفهوم ذلك منعها من الافتيات عليه وزجرها من اعتقادها أنّها لا تلزم مراعاة إذنه وقصرها على التصرف بين أمره ونهيه فقط، وإذا كان هذا هو الغرض وكان ذلك لا يوجد إلا مع علمها بالإذن كان مضموماً إليه ومشروطاً معه، فإذا وقع عارياً منه وجب أن يحنث به، ولأن الخروج وجد منها على الصفة التي كان عليها قبل الإذن من اعتقاد الافتيات عليه فأشبه أن تخرج قبل إذنه. [1773] مسألة: إذا قال مماليكي أو رقيقي أحرار، دخل في ذلك عبيده ومدبروه ومكاتبوه وأم ولده الكامل والمتبعض، وللشافعي في المكاتب قولان أصحهما عند أصحابه أنّه لا يعتق؛ فدليلنا أن المكاتب سمّي عبدًا بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم»، فإذا دخل [في] ذلك، دخل في قوله: عبيدي، ولأن العتق مبني على التغليب والسراية، والمكاتب حكمه حكم العبيد، إلا في قدر ما توجبه الكتابة من وجوب عتقه بالأداء، ولأنه يملك مباشرة مكاتبته بالعتق، بأن يقول ابتداء أنت حر، فوجب أن يدخل في عموم اسم المماليك كالمدبر وأم الولد ولأنه عقد حرية فلم يمنع حصوله للعبد من دخوله على هذا القول، أصله التدبير، ولأن الاستيلاد آكد من الكتابة، لأنه ثابت فعلاً ولا يتطرق الفسخ إليه، ثم هو مع تأكده يدخل في الاسم فالمكاتب أولى. [1774] مسألة: إذا حلف لا فعل شيئاً، يميناً مطلقة غير مقيدة ففعله

ناسياً حنث، خلافاً للشافعي؛ لأن إطلاق اليمين تعم جميع الوجوه التي يقع الفعل عليها، كما لو أخبر عن انتفاء وقوع الفعل منه لانضم العمد والسهو، ولأنّ كل زيادة في اليمين صحّ اشتراطها وأمكن انفكاك اليمين منها، فإن اليمين لا تتعلق بها إلا بالشرط، كقوله: لا دخلت الدّار راكباً، كذلك قوله عامداً، ولأنه حصل منه الفعل باختياره من غير إكراه كالقاصد، ولأن الفعل وقع منه على وجه منفرد بإضافته إليه فأشبه العمد، ولأن البر في مقابلة الحنث، وقد ثبت أنه لو حلف أن يفعل شيئاً ففعله ساهياً فإنه يبر وإن كان من غير قصد، فكذلك يجب إذا حلف ألا يفعله ففعله سهوًا أن يحنث. [1775] مسألة: ولا يحنث بالإكراه، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن الفعل لا ينفرد بالإضافة إليه، فلم يتناوله يمينه كما لو سحب. [1776] مسألة: إذا حلف لا أفعل شيئاً فأمر غيره ففعله، حنث إن لم ينو توليته بنفسه، أي فعل كان ممّا تصحّ فيه النيابة، وفصل أبو حنيفة بين بعض الأفعال وبعض، والظاهر من مذهب الشافعي أنّه لا يحنث إلا أن يليه بنفسه؛ فدليلنا أن الفعل إذا كان ممّا يصحّ فيه النيابة فالإطلاق مشترك بين توليته بنفسه وبين وقوعه بالنيابة، ولأنّ الإنسان يطلق القول بأنه قد اشترى طعاماً أو ثوباً وإن كان قد استناب غيره فيه، كما يطلق ذلك إذا تولاه بنفسه على حدّ واحد، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يحنث به، وتحريره أن يقال: لأن الفعل المحلوف عليه قد وقع على وجه يضاف إليه على الإطلاق فأشبه أن يليه بنفسه. [1777] مسألة: إذا حلف لا يبيع فباع بيعاً فاسداً أو حرامًا حنث، خلافاً للشافعي؛ لأن الاسم يطلق عليه في اللغة فأشبه ما يقتضيه الشرع،

ولأنّ الاسم إذا كان له مقتضى في اللغة والشرع ولم يتبين الحالف قصده تعلّق الحكم على اللغة، لأن الشرع طارىء عليها، أو تكون اليمين معلّقة على الجميع، إذ لا وجه لتخصيص بعض ما يصلح أن يراد به مع إطلاق اليمين دون بعض. [1778] مسألة: إذا حلف لا آكل رؤوساً أو لحماً أو ما أشبه ذلك، فإن كانت له نية وإلا حنث بأكل ما يتناوله الاسم، ولا يعتبر عرف الفعل إذا لم يقارنه عرف التخاطب، والاعتبار بالسبب مع النية إذا لم يكن له نية اعتبر السبب ليستدل به على النية لا له في نفسه، وعند أبي حنيفة والشافعي: أنّه يراعى عرف الفعل، وقال أبو حنيفة في الرؤوس: يحنث بأكل رؤوس الغنم والبقر دون الإبل وغيرها، وقال الشافعي: وبالإبل أيضاً، وهو قول أشهب، والكلام في موضعين: أحدهما: أنه إذا لم يكن له نية وكان هناك سبب جرى اليمين عليه، فيعتبر عندنا بالسبب ليستدل به على النية، ولا يرجع فيه إلى النفوس، فمن كانت له حالة كحال الحالف، وعند المخالف لا يراعى ذلك، والموضع الآخر: إذا عريت النية والسبب أجري الاسم على موضعه في اللغة أو عرفها، وعندهم يقصر على عرف الاستعمال. فدليلنا على الفصل الأول، أن النية إذا كانت معتبرة في الأيمان، وكانت أملك باليمين من لفظها ثم عدمت، وهناك طريق الوصول إليها وجب اعتباره وإلا كان ذلك إسقاط مراعاتها. ودليلنا على الفصل الثاني، أن مراعاة عرف الاستعمال في الفعل

دعوى لا فصل بين مدعيها وبين مدّعي غيرها إذا لم يرجع إلى عرف التخاطب، ولأنّه يختلف باختلاف المواضع واختلاف عرف أهلها. [1779 - مسألة]: إذا حلف لا آكل لحماً حنث بأكل الكبد والفؤاد والطحال والكرش، وقال الشافعي: لا يحنث؛ فدليلنا أن اللحم اسم عام يتناول جميع ما في بطن الحيوان مما يعبر عنه بغير اسمه الخاص، فلا يخرجه أن يكون من جملته ولأنه جار مجراه على وجه البيع وفي تحريم التفاضل، فكذلك في البيع، ولأنّه يتخذ لكثرة ما يتخذ له اللحم من الطبخ والقلي مع اشتمال الحيوان عليه فكان كاللّحم. [1780] مسألة: إذا حلف لا آكل لحماً حنث بأكل الشحم، أي شحم كان، إلا أن يكون له نية، ولو حلف لا آكل شحماً لم يحنث بأكل اللحم، وقال أبو حنيفة: إذا حلف لا آكل لحماً فأكل من شحم يكون على اللحم حنث، فإن أكل من شحم البطن لم يحنث؛ فدليلنا أنّه من شحم الحيوان [فوجب] أن يدخل في اليمين، أصله شحم البطن. [1781] مسألة: إذا حلف لا يأكل فاكهة أو تمراً، أصلاً، حنث بأكل الرطب والعنب والرمان، وقال أبو حنيفة: لا يحنث؛ فدليلنا أنّ عرف التخاطب جار بتسمية هذه الأشياء فواكه، فيجب أن يحنث بأكلها كالتين والعنب. [1782] مسألة: إذا حلف لا يكفل عن فلان بمال فتكفل بوجهه، حنث إن لم يشترط البراءة من المال، وقال أبو حنيفة. لا يحنث؛ فدليلنا

أن الكفالة بالنفس تتضمّن غرم الملك، بدليل أنّه لو لم يأت به لغرم، وإذا كان كذلك فقد حصل الشرط الذي علّق الحنث به فوجب أن يحنث، ولأنه مال يلزم غرمه بحق كفله، فوجب أن يحنث متى تكفَّل بما يتضمّنه في يمينه إذا حرم على نفسه إن جاء يتكفل بالماء، أصله إذا نص على المال. [1783] مسألة: إذا حرَّم على نفسه طعاماً أو شراباً أو لباساً أو أمة أو شيئاً من المباحات سوى الزوجة، فلا حكم لذلك ولا كفارة يمين ولا غيرها، وقال أبو حنيفة: إذا أطلق حمل على الأكل والشرب دون اللّباس، فيلزمه كفارة يمين، وقال زفر: يحمل على كل شيء حتى الحركة والسكون؛ فدليلنا قوله تعالى: "لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، وقوله تعالى: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون"، فوصف ذلك بأنه افتراء [على] وجه الزجر عن فعله، فدل أنه لا كفارة فيه، ولأنه حرم على نفسه مباحاً له نهي عن تحريمه كاللّباس والطيب، ولأن كل ذات لا يصحّ فيها الطلاق أو الإعتاق فلا يتعلق بتحريمها حُكْمٌ كاللّباس. [1784] مسألة: إذا حلف ليشربن الماء الذي في الكوز وليس فيه الماء، أو ليقيلن فلاناً وقد مات قبل يمينه، فلا تنعقد يمينه، وسواء عندي علم أو لم يعلم، وقال أبو يوسف: يحنث؛ فدليلنا أنه حلف على مُحَالٍ فلم ينعقد يمينه، أصله لو حلف على ماض، ولأن الانعقاد لا يكون إلا فيما يتأتى فيه البر والحنث، وذلك لا يمكن في هذا الموضع. [1785] مسألة: إذا حلف لا يتسرى، والتسري هو الوطء بملك اليمين، ولا يراعى أن يطلب بوطئه الولد، وقال أبو حنيفة: التسري أن يحصنها أو يطأ، والتحصين عندهم حفظها وصيانتها عن التبذل، وقال الشافعي: التسري طلب الولد، وهو الوطء والإنزال أحبل أم لم يحبل؛

فدليلنا أن التسري فعل مأخوذ من السّر وهو الجماع لأنه يستسر به، فإذا أريدت الجارية له أو فعل لها فقد حصل الاسم، ولا معنى لسلوك الأقيسة الشرعية في هذا، وإن رضوا به دخلنا معهم فيه؛ فدليلنا على أبي حنيفة أن نقول: إنّه وطىء بملك يمينه كما لو ضامه التحصين وطلب الولد، وعلى الشافعي خانة أق طلب الولد لو كان شرطاً لم ينطلق الاسم على المسنة التي يعلم أن مثلها لا يحمل في العادة. [1786] مسألة: إذا حلف ليضربن عبده مائة فضربه بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة لم يبر، وإن علم أن جميعه قد أصابه، وقال أبو حنيفة والشافعي: يبر؛ فدليلنا أنّ الأيمان محمولة على عرف التخاطب وعرف اللغة أن القائل إذا قال لعبده: اضرب فلاناً عشرة أو مائة سوط أن العدد ينصرف إلى الضربات دون أجسام الأسواط، بدليل أنه لو ضربه مائة ضربة بسوط واحد أنه يبر، ولا يحسن لومه ولا ذمه، وإذا ثبت ذلك فمتى ضربه بمائة شمراخ أو بمائة سوط ضربة واحدة لم يفعل موجب اليمين، فوجب أن يحنث ولأن المقصد من تكثير العدد في الحلف زيادة الإيلام والمبالغة فيه، فلم يجز أن يبر بضربة واحدة لأنّ ذلك ضدّ مقصود الحالف. [1787] مسألة: إذا قال: ثلث ماله لله، أو قال: إن أشفى الله مريضي فلله علي أن أتصدّق بثلث مالي فإن ذلك ينصرف إلى جميع أجناس الأموال المتمولة في العادة، من العين والعروض وغيرها، وقال أبو حنيفة: القياس هذا، ولكن الاستحسان أن ينصرف ذلك إلى الأموال التي تجب فيها الزكاة؛ فدليلنا أنه نوع مال يتمول في العادة فوجب أن ينصرف إطلاق النذر واليمين إليه، أصله ما تجب في عينه الزكاة، ولأنّ ما دون النصاب في انتفاء تعلق الزكاة جار مجرى ما لا تجب فيه الزكاة.

[1788] مسألة: إذا حلف لا وهب له فتصدّق عليه، حنث، وقال أبو حنيفة: لا يحنث؛ فدليلنا أنّه تطوع بتمليكه العين أو منافعها بغير عوض، فوجب أن يحنث به، أصله إذا نحله أو أعمره، ولأن الهبة أعمر من الصدقة فتدخل فيها الصدقة وغيرها. [1789] فصل: وإن أعاره حنث، خلافاً للشافعي؛ لأنه تمليك شيء ينتفع به تبرعاً بغير عوض كالأعيان، ولأنه أحد نوعي ما ينتفع به فصحّ الوصف له بأنّه هبة كالأعيان. [1790] مسألة: ولو حلف لا وهب له، فوهب له فلم يقبله الموهوب له، حنث، وقال الشافعي: لا يحنث حتى يقبله؛ فدليلنا أن الهبة هو حصول التمليك بغير عوض، وقد وجد ذلك من المملّك فكان كما لو ضامه قبول الموهوب، ولأنّ الهبة بمعنى الإباحة، وقد اتفق على أنه لو حلف لا يبيح له شيئاً من ملكه، ثم قال: أبحت لك كل هذا الشيء من مالي، فإنّه يحنث وإن لم يقبله، كذلك الهبة. [1791] مسألة: قال ابن المواز: إذا حلف لا يبيع سلعته فباعها وشرط الخيار لنفسه لا يحنث، وقال محمّد بن الحسن: يحنث؛ فدليلنا أن الإيجاب لا يقع منه متنجزًا فلم يقع البيع، لأنه يملك الرجوع فيه وإبطاله، واليمين على البيع إنّما هي على الإيجاب الموضوع لإخراج الملك، وشرط الخيار يمنع إخراج الملك. [1972] مسألة: إذا حلف لا يكلمه فكتب إليه، حنث، وفي الإشارة والرسول روايتان، وقال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه: لا يحنث؛ فدليلنا أن المجاز إذا قارنه عرف التخاطب تعلقت اليمين به تعلقها بالحقيقة، كقولهم: الغائط، واسأل القرية، وما أشبه ذلك، وقد ثبت أن العرف إذا قال القائل: كلّمني زيد في أمر فلان، أو خاطبني في معناه، أو أرسلني، وقد

كلمت فلاناً، وفي بابك لا تفرق بين المشافهة والمكاتبة والمراسلة، وإن قوله: كلّمته وسألته وخاطبته محتمل لكل ذلك وإنه يصحّ تفسيره به، فصحّ أن يتعلق به اليمين، ولأن الأغراض المقصودة بالأيمان معتبرة فيها مع اللفظ، وقد علم بالعرف أن غرض الحالف على ترك كلام فلان إنما هو قطعه وهجرته، فانتظم ذلك الكلام وما يقوم مقامه، ولأن كل نوع وقع به إطلاقه حنث به في يمينه أن لا يكلمه كالنطق، ولأن الكناية موضوعة للإفهام وتعريف المعنى المراد فوقع الحنث بها على من حلف لترك الكلام كالنطق. [1793] مسألة: إذا حلف لا يكلّمه فسلّم على جماعة هو منهم حنث، علم أو لم يعلم، إلا أن يحاشيه بقلبه، وقال الشافعي: لا يحنث إذا لم يعلم؛ ودليلنا أن سلامه على الجماعة توجه إلى كل واحد منهم، بدليل أن الرد متوجه إلى جميعهم فصار مكلماً له، فوجب أن يحنث، ولأنه مكلّم له كما لو علم به. [1794] مسألة: ذكر محمّد بن عبد الحكم في «كتاب الإقرار» أن من أقر بأنه غصب رجلاً حليًا كان له أن يقر بما شاء من الحلي من ذهب أو ورق أو لؤلؤ أو جوهر وعقيق، فعلى هذا إذا حلف لا لبس حلياً حنث بلبس ذلك، وقال أبو حنيفة: لا يحنث وليس بحلي إلا أن يكون فيه ذهب؛ فدليلنا قوله تعالى: "وتستخرجوا منه حلية تلبسونها"، ولأن المرجع في ذلك إلى العرف ووجدنا الجواهر مسماة بالحلي ومعدودة من أفخره وأنفسه فكانت كالذهب.

كفارة اليمين

[كفارة اليمين]: [1795] مسألة: الإطعام في كفارة اليمين بالمدينة مد، وبسائر الأمصار وسط من الشبع، وإن اقتصر على مدّ أجزاه، وقال أبو حنيفة: إن أخرج برًا فنصف صاع، وإن أخرج تمرًا أو شعيرًا فصاع؛ ودليلنا قوله تعالى: "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، والأوسط ما بين الأقل والأكثر، فيقتضي غالب عادات الناس، فذلك دون الصاع ودون نصفه، ولأنه إطعام في كفارة كالفطر في رمضان. [1796] مسألة: الكسوة مقدّرة بأقل ما يجزىء به الصلاة، وقال أبو حنيفة والشافعي: أقل ما يقع عليه الاسم؛ لقوله تعالى: "من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم"، فعطف به عليه فانتفى بذلك أقل ما يقع عليه الاسم، ولأنّ إطلاق الكسوة لا يتناول المئزر وحده ولا المنديل بانفراده، ولأنه مصروف إلى المساكين في الكفارة، فوجب أن يكون مقدرًا، أصله الإطعام، ولأن الكسوة المقدرة تنصرف إلى الشرعية، وليس ما يتعلّق به في الشرع إلا ما قلناه. [1797] مسألة: عدد المساكين شرط في الإجزاء، وقال أبو حنيفة: إن أطعم مسكيناً واحدًا عشرة أيام كل يوم نصف صاع جاز؛ فدليلنا قوله تعالى: "فكفارته إطعام عشرة مساكين"، فوصف الكفارة بعدد مخصوص فوجب استيفاؤه بحق الظاهر، ولأنه تعالى جعل الكفارة لجميعهم فاقتضى ذلك أن يكون لكل مسكين جزء منها، فإذا صرف جميعها إلى واحد فالغرض باق عليه، ولأنه دفع جميع الكفارة إلى مسكين واحد كما لو دفعها في يوم واحد، ولأنه عدد مشترط في مال يقسم على وجه التمليك أو سد الجوعة، فوجب استيفاء العدد، أصله إذا وصى بإطعام عشرة مساكين.

[1798] مسألة: لا يجوز صرفها إلى ذمي، خلافاً لأبي حنيفة؛ اعتبارًا بزكاة المال، ولأنه ناقص بالكفر كالحربي، ولأنَّ كل من لا يجوز دفع زكاة المال إليه، فكذلك الكفارة كالمرتد. [1799] مسألة: لا يجزىء إخراج قيمة عن الطعام والكسوة، خلافاً لأبي حنيفة؛ للظاهر، وفيه أدلة: أحدها: أن الله تعالى أخبر عن جنس الكفارة، وأنها ثلاثة أنواع، فانتفى بذلك أن يكون من غيرها. والثاني: أنّه يكون عين هذه الأنواع فدل أنها مقصودة في نفسها. والثالث: أنه لو كان الغرض القيمة لكان ينتفي النص على واحد منها ليكتفى به على ما قاومه في حكمه، فلمّا نص على ثلاثة أشياء دلَّ على أن الغرض بأعيانها، ولأنه نوع يقع به التكفير كالإعتاق. [1800] مسألة: إن تابع الصوم كان أفضل، وإن فرق أجزأه، خلافاً للشافعي في أحد قوليه؛ لأنّ الظاهر مطلق غير مقيَّد، ولأنه نوع ذو عدد يكفر به اليمين فجاز تفريقه، أصله الإطعام والكسوة. * * *

كتاب النذور

كتاب النذور [1801] مسألة: إذا قال: لله علي نذر، ولم يسمّه، انعقد نذره ولزمه كفَّارة يمين، واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من يقول: لا ينعقد نذره، ومنهم من يقول: ينعقد، ويخرج أقل ما يقع عليه الاسم؛ فدليلنا أنه ينعقد قوله تعالى: "يوفون بالنذر"، وقال: "وليوفوا نذورهم"، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر نذرًا فلم يسمّه فعليه كفارة يمين»، فأثبت له حكماً بنذره، ولأنّ الأيمان المنذورة محمولة على تعارف الخطاب، والعرف جار بأن المقصد من النذر القربة، فكأنه قال: لله علي أن أتقرب إليه بشيء، فيلزمه، ولأنه نذر قصد به القربة، فوجب أن يتعلّق به حكم الوجوب كما لو عينه؛ ودليلنا على أنه يلزمه كفارة يمين للخبر. [1802] مسألة: نذر المباح لا يلزم، وقال أحمد بن حنبل: هو مخير بين فعله وبين كفارة يمين؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله

فليطعه»، وقوله: «لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله» ولأنه نذر غير قربة كالمعصية. [1803] مسألة: يلزم النذر المطلق، وقال بعض الشافعية: لا يلزم إلا أن يعلق بشرط أو صفة؛ ودليلنا قوله: «من نذر أن يطيع الله فليطعه»، وعموم الأخبار، ولأنه ألزم نفسه على وجه النذر ما يجب الوفاء بجنسه كالمقيد. [1804] مسألة: النذر يلزم حال الفجاج والغضب كلزومه على وجه التبرر، وقال الشافعي: هو مخير بين أن يفي به وبين أن يكفر كفارة يمين، واختلفوا في نذر الحج؛ فدليلنا على أنه يلزمه الوفاء به عموم الظواهر، ولأنه نوع من النذر فلم يفترق فيه بين الرضا واللجاج، أصله نذر المعصية، ولأنه حال علّق النذر فيها بما يجب الوفاء بجنسه فيلزم بوجود شرطه، أصله حال الرضا، ولأن كل ما لو علّقه بنذر الطاعه لزم، فكذلك بنذر اللّجاج، أصله الطلاق والعتاق؛ ودليلنا على انتفاء التخيير أن سبب النذر واختلاف الحال التي عقد عليها لا يوجب سقوط المنذور والتزام غيره، أصله حال التبرر، لأنها قربة ألزمها نفسه على وجه النذر، فإذا وجد شرطها لم يجز إسقاطها والإتيان بغيرها كالحج. [1805] مسألة: إذا نذر المشي إلى مسجد المدينة الأقصى للصلاة فيها لزمه ذلك، خلافاً للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشدّ

الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد»، فذكر مسجده ومسجد بيت المقدس، ولأنها مساجد تضاعف الصلاة فيها بألف كالمسجد الحرام. [1806] مسألة: إذا نذر ذبح ابنه في يمين أو على وجه القربة فعليه الهدي، وقال الشافعي: لا شيء عليه؛ فدليلنا ماروي عن الصحابة أنهم قالوا عليه هدي، وروي عن علي، وابن عباس، وابن عمر، ولأنه أراد نذره على وجه القربة فلما أراد فداه لأن ذلك معهود في الشرع أن نحر الابن قد يكون على وجه القربة، لأن إبراهيم صلى الله عليه وسلم تعبد بذلك، وصارت الأضحية أصلاً في شرعنا شبهًا به، فكان النّاذر على وجه القربة كناذر الفداء. [1807] مسألة: إذا قال مالي في سبيل الله وصدقة، لزمه إخراج الثلث خلافاً لمن قال: لا يلزمه شيء؛ لعموم الظواهر في الوفاء بالنذر، وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة، ونذر أن ينخلع من ماله: «يجزيك من ذلك الثلث» واعتباراً به إذا عين شيئاً من ماله. [1808] فصل: ولا يلزمه إخراج كل ماله، خلافاً للشافعي لحديث أبي لبابة، ولأن المريض لما منع من إخراج كل ماله إبقاء على ورثته، كان

الصحيح بأن يسقط عنه ذلك بحق نفسه أولى، ولا يجزيه من ذلك كفارة يمين، خلافاً لمن ذهب إلى ذلك؛ للخبر، ولأنه إخراج مالٍ كما لو عين. * * *

كتاب الضحايا

كتاب الضحايا [1809] مسألة: الأضحية مسنونة متأكدة، وربما أطلق أصحابنا أنها واجبة ومرادهم شدّة تأكدها، وقال أبو حنيفة: إنّها واجبة ومراده أنّها لا يجوز تركها؛ ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث هي فرض ولكم تطوع: الوتر والنحر والسواك»، وقوله: «أمرت بالنحر وهو لكم سنة»، ولأنه ذبح لا يجب على المسافر، فلم يجب على الحاضر كالعقيقة، ولأنها إخراج مال لا يلزم المسافر فلم يلزم الحاضر، أصله صدقة التطوع، ولأن كل من لا يجب عليه الأضحية إذا كان مسافرًا لم يجب عليه إذا كان حاضرًا، أصله من يملك دون النصاب، ولأنّها عبادة تتعلق بالمال فاستوى فيها المسافر والحاضر كالزكوات والكفارات. [1810] مسألة: إذا دخل العشر وأراد أن يضحي لم يحرم عليه حلق شعره ولا تقليم أظفاره، خلافاً لمن حكي عنه ذلك؛ لأن كل من لا يحرم

عليه الطيب واللّبس فلا يحرم عليه الحلاق والتقليم، أصله إذا لم ينذر الأضحية، ولأن المهدي أقرب إلى المحرم من المضحي لأنه ينحر في الحرم ثم لا يحرم عليه الحلق ولا التقليم فالمضحي أولى. [1811] مسألة: يجوز فيها الجذع من الضأن، خلافاً لمن منعه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا الجذع من الضأن». [1812] فصل: ولا يجوز الجذع من غير الضأن، خلافاً لمن أجازه؛ لقوله: "إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن"، فقصر ذلك على الضأن، وقوله لأبي بردة: «تجزيك ولا تجزىء أحداً بعدك». [1813] مسألة: أفضلها الغنم، ثم البقر، ثم الإبل، والضأن أفضل من المعز، وقال أبو حنيفة والشافعي: الإبل ثم البقر ثم الغنم؛ فدليلنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالغنم، ويعدل إليها عن الإبل والبقر، فدل على أنه أفضل، وروي: «خير الأضحية الكبش»، ولأن الغرض منها طيب اللّحم

ورطوبته دون كثرته، بدليل ما رويناه من أضحيته صلى الله عليه وسلم بالغنم، وعدوله إليها عن الإبل، ولأنّه يختص بها أهل البيت دون الفقراء بخلاف الهدايا. [1814] مسألة: أيام الأضحى ثلاثة، ولا يضحى في اليوم الرابع، خلافاً للشافعي؛ لقوله تعالى: "ويذكروا اسم الله في أيام معلومات"، وأقل الأيام ثلاثة، ولأنه إجماع الصحابة، وروي عن عمر، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وأنس، ولا مخالف لهم، ولأنّه ليس بمعلوم كالخامس، ولأنه لا يتعقبه مبيت بمنى فأشبه ما بعده. [1815] مسألة: لا يجوز الاشتراك في ثمن الأضحية ولا لحمها، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إن البدنة تجزىء عن سبعة، وكذلك البقرة، إلا عند أبي حنيفة أنه إذا كان قصد جميعهم القربة جاز أي قربة كانت، وإن قصد بعضهم الإباحة لم يجز؛ فدليلنا أنه حيوان يضحى به فلم يجز إلا عن واحد كالشاة، ولأن كل واحد يصير مخرجاً للحم بعض البدنة أو بقرة، وذلك لا يكون أضحيته، كما لو اشترى لحماً، ولأن كل إنسان مخاطب بفعل ما يسمّى أضحيته، وهذا الاسم ينطلق على إراقة الدم

دون اللّحم، ولأنه اشتراك في دم، فوجب أن لا يجزىء مريد الأضحية، أصله إذا قصد بعضهم الإباحة مع أبي حنيفة، وإذا زاد على السبعة معه ومع الشافعي. [1816] مسألة: لا يجوز النحر قبل نحر الإمام إذا كان يظهر أضحيته، ومن نحر قبله أعاد، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لحديث أبي بريدة ابن أبي نيار أنه ذبح أضحيته قبل أن يذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يعيد، ولأنه ذبح قبل الإمام فأشبه إذا ذبح قبل الصلاة. [1817] مسألة: لا يجوز ذبح الأضحية ولا الهدي بليل، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: "ويذكروا اسم الله في أيام معلومات"، ولأنّه صلى الله عليه وسلم ذبح نهاراً ولأنها قربة تتعلق بالعيد تضاف إليه لا يجوز تقديمها قبله، فلم يجز أن تفعل ليلاً كالصلاة. [1818] مسألة: لا يجوز بيع جلدها ولا شيء منها، وقال أبو حنيفة: يجوز بيع جلدها بما يقات، وينتفع به في مثل الدلو والحبل والمنخل وما أشبه ذلك، ولا يجوز بغير ذلك؛ ودليلنا نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع أهب الضحايا، وقوله لعلي رضي الله عنه: «لا تعط الجزار منها شيئاً نحن نعطيه»، ولأنه جزء من الأضحية كاللحم، ولأنه قد وجبت للمساكين وليس هو وكيلاً لهم ولا قيماً عليهم كالزكاة.

[1819] مسألة: العرجاء البين ضلعها لا تجزىء في الأضحية، وقال أبو حنيفة: تجزىء ما دامت تمشي؛ ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «والعرجاء البين ضلعها» وهذا نص، ولأن العرج البين عيب مؤثر، ولأنه ينقص منها ويمنع استيفاء الرعي، ويؤثر في اللّحم. [1820] مسألة: المكسورة القرن إذا كانت تدمي لا تجوز، خلافاً لأصحاب الشافعي؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن العضباء القرن والأذن، ولأنّه إذا كانت تدمي كان مرضاً لأنه ينقص الثمن لأجله كالعجف. * * *

كتاب الذكاة

[كتاب الذكاة] باب: [1821] مسألة: لا تحل الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين، وقال الشافعي: يقطع الحلقوم والمري، ولا يحتاج إلى الودجين؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «أفر الأوداج واذكر اسم الله وكل»، وفي حديث رافع أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أبلغ إلى الودجين» و «إلى» ها هنا بمعنى «مع». [1822] مسألة: الذكاة لا تصحّ من المجنون، ومن لا يعقل، خلافاً للشافعي؛ لأن الذكاة لا تصحّ إلا بنية بدليل أنها لا تصحّ من المجوسي، ولو كانت تصحّ من غير نية لم يختلف الحكم فيها ممّن وقعت. [1823] مسألة: إذا بالغ في الذبح حتى أبان الرأس كره ذلك، وجاز أكلها، وحكي عن بعض التابعين أنها لا تؤكل؛ ودليلنا هو أن إبانة الرأس تحصل بعد الذكاة فلم يؤثر فيها كما لو ذكاها ثم جزَّها. [1824] مسألة: إذا ذبحها من قفاها لم تؤكل، خلافاً للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّما الذكاة في الحلق واللبة»، ولأنها قد تتلف قبل

الوصول إلى قطع الحلقوم والأوداج. [1825] مسألة: إذا نحر شاة من غير ضرورة، أو ذبح بعيرًا، لم يؤكل تحريماً، على خلاف بين أصحابنا فيه؛ لأن الشرع ورد في البعير بالنحر وفي الشاة بالذبح، فإذا خالف لم يؤكل، ولأنّه ذكاه بذكاة غيره من غير ضرورة كما لو قتله بالجوارح والسّهام. [1826] مسألة: الظاهر من مذاهب أصحابنا أن تارك التسمية عامداً غير متأول لا تؤكل ذبيحته، فمنهم من يقول: إنها سنة، ومنهم من يقول: إنّها شرط مع الذكر، وقال الشافعي: لا تحرم بتركها؛ فدليلنا قوله تعالى: "ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه"، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل»، فجعلها شرطاً كالإرسال، وفي حديث عائشة لما قالت: تجيء الأعراب بذبائح لا ندري أسموا عليها أم لا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «سم الله وكل»، فلو لم تكن واجبة لقال: لا يضر إن تركوها، ولأن ذلك طريق إلى الاستخفاف بالسنن والاستهزاء بالشريعة. [1827] مسألة: إذا ذكيت الشاة أو البقرة أو الناقة فوجد في جوفها

جنين ميت تام الخلق كان مذكى بذكاتها، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه»، وفي حديث أبي سعيد قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين فنلقيه أم نأكله؛ فقال: «كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه»، وهذا نص، ولأن التذكية على حسب القدرة والإمكان، ولا يمكن في الجنين إلا على هذا الوجه، ولأن ما يسري إلى الإعتاق إليه في ولد الآدمي سرى الذكاة إليه في البهائم كالجلد والأطراف، ولأنّ ما تلف عن ذكاة جاز أكله، أصله الأم. [1828] فصل: وإن كان خلقه لم يتم وشعره لم ينبت لم يجز أكله، خلافاً للشافعي؛ لأنه روي في بعض الحديث: «ذكاة الجنين ذكاة أمه إذا أشعر»، ولأن الذكاة إنما تكون فيما كان حياً فتلف، والحياة لا تكون إلا بعد تمام الخلق. [1829] مسألة: إذا تردى البعير أو البقرة أو الشاة في بئر ولم يقدر على إخراجه ولا على تذكيته في حلقه أو لبته لم يؤكل بعقره في موضع من بدنه، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الذكاة في الحلق واللّبة»، ولأن تعذر الوصول إلى موضع الذكاة في المقدور عليه لا يبيح تذكيته في غيره، كتعذر الوصول إلى ما يذكى فيه أنه لا يبيح التذكية بغيره. [1830] مسألة: الحيوان المتأنس كبهيمة الأنعام وغيرها إذا توحش ولم يقدر عليه لم تنتقل ذكاته ولا يستباح إلا بالذبح أو النحر، خلافاً لأبي

حنيفة والشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّما الذكاة في الحلق واللّبة"، فأشار إلى جملة الذكاة، ولأن توحشه لما لم ينقله عن أحكام المتأنس من سقوط الجزاء عن المحرم بقتله وجوازه في الضحايا والهدايا والعقيقة، وكذلك الذكاة. * * *

كتاب الصيد

كتاب الصيد [1831] مسألة: يجوز الاصطياد بكل جارح معلّم، خلافاً لمن منع صيد الأسود والبهيم من الكلاب، ولمن منع سائر الجوارح سوى الكلب؛ لقوله تعالى:"وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله"، فعم، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل"، واعتبارًا بالكلب الأبيض لعلّة أنه جارح يفقه التعليم. [1832] مسألة: ليس من شرط التعليم أن يمنع من الأكل، ولا يمنع أكل الكلب من الصيد كله، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي، ومن أصحاب الشافعي من يركب ذلك في البزاة وسائر الجوارح، وهذا ركوب؛ ودليلنا قوله تعالى: "فكلوا مما أمسكن عليكم"، ولم يفرق بين أن يأكل منه أو لم يأكل، وفي حديث أبي ثعلبة: "وان أكل فكل"، ولأنّه قتل إذا لم

يتعقبه أكل كان ذكاة، فوجب أن يكون ذكاة وإن تعقبه الأكل كالذبح، ولأنه جارح أبيح صيده فلم يمنع أكله من الصيد من أكلة البازي، ولأنه يأتمر إذا أمر وينزجر إذا زجر، فإذا صاد بعد الإرسال جاز أكله، أصله إذا أمسك عن أكله، ولأنّ أكل الجارح بعد تلف المصيد لا يمنع أكله، أصله إذا كان بعد مهلة، ولأن ترك الأكل لو كان من شرط التعليم لم يجز البدار بأخذ الصيد من فم الكلب حين عقره ووجب التوقف عليه لينظر هل أكل منه أو لا، وذلك باطل، ولأن عقره له قبل الأكل لا يخلو أن يكون ذكاة أو غير ذكاة، فإن لم يكن ذكاة فلم يجز أكله وإن أمسك عنه وذلك باطل، وإن كان ذكاة لم يضر ما طرأ عليه من بعد كما لو أكل منه غيره، فإن كان نزاعاً وجب التوقف عنه على ما ذكرناه. [1833] مسألة: إذا عقر الكلب الصيد فأخذه الصائد فتلف في الفور قبل إمكان ذبحه جاز أكله، وقال أبو حنيفة: لا يجوز؛ فدليلنا قوله تعالى: "فكلوا مما أمسكن عليكم"، ولأنه تلف بالعقر قبل إمكان تذكيته كما لو أدركه وقد مات. [1834] مسألة: ليس من شرط تذكية الصيد أن يعقره الجارح أو السهم بحيث يشاهده، بل يؤكل وإن قتله غائباً عنه، ما لم يكن منه تفريط في طلبه إذا رأى فيه أثر كلبه أو سهمه ولم يبت، وسواء توارى عنه بعد أن رأى الجارح علق به أو قبل ذلك، خلافاً للشافعي في أحد قوليه: إنّه إذا قتله غائباً عنه بعد أن رآه علق به لم يؤكل، وفي قوله: إنه إذا كان قبل مشاهدته متشبثاً به فلا يؤكل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله فكل» فعم، ولأن في اعتبار مشاهدة عقره تكليف مشاهدة تؤدي إلى سد

باب جواز أكل صيد صاده جارح، لأن الغزال والطائر لا يملك عقره لسرعة طيرانه واختبائه في المكامن والغياض والكهوف والمواضع التي لا يصل إليها إلا الجارح يحيلوا له الحوائل دونه، ولأنه إذا رآه وفيه سهمه أو بالقرب منه جارحه فالظاهر أنه ليس به إلا عقره، فجاز أكله، ويفارق المبيت لأن الهوام تنتشر بالليل فلا يؤمن مشاركتها فيه. [1835] مسألة: إذا بات عنه الجارح بالصيد ثم وجده من الغد قد قتله لم يأكله، واختلف في السهم، وقال الشافعي في أحد قوليه: يؤكل؛ ودليلنا ما روي أن رجلاً أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ظبياً، فقال: إني رميته يا رسول الله، ثم اتبعته من الغد فوجدت سهمي فيه أعرفه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا آكله، لا أدري لعل هوام الأرض قتلته» وهذا يعم بتعليله الجوارح والسهم. [1836] مسألة: إذا أرسل كلبه أو رمى بسهمه على صيد بعينه فعقر غيره لم يجز أكله، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأن الذكاة تحتاج إلى نية لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات»، ولأنه عقر صيداً لم يرسل عليه كما لو استرسل بنفسه. [1837] مسألة: إذا استرسل بنفسه ابتداء ثم أغراه صاحبه فقوي في سيره لم يؤكل ما صاده، وقال أبو حنيفة: يؤكل؛ ودليلنا أن إرسال صاحبه حصل [بعد] استرسال يمنع الأكل لو انفرد به، فلم يكن بإغراء صاحبه اعتباراً، كما لو أرسله مجوسي، ولأنه اجتمع في هذا حظر وإباحة، فكان الحكم للحظر كما لو ذبحه مسلم ومجوسي.

[1838] مسألة: إذا رمى الصيد فأبان يده أو رجله أو عضوًا منه أكل الصيد ولم يأكل ذلك العضو، وقال الشافعي: يؤكل الجميع؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «ما قطع من حي فهو ميتة». [1839] مسألة: إذا أرسل المسلم كلبه على الصيد فشاركه كلب المجوسي فقتلاه جميعاً لم يجز أكله، خلافاً للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عدي: «وإن شاركه كلب آخر فلا تأكله»، ولأنه نوع من التذكية فإذا اشترك فيه المسلم والمجوسي لم تقع الإباحة أصله الذبح. [1840] مسألة: يجوز الصيد بكلب المجوسي، خلافاً لمن منعه؛ لأنه آلة للذكاة كالذبح بالسكينة، ولأن الاعتبار بالمرسل دون الجارح بدليل أن المجوسي لو صاد بكلب المسلم لم يجز أكله. [1841] مسألة: إذا صاد صيدًا ثم أفلت منه ولحق بالوحش وطال أمده ثم صاده غيره فهو لمن صاده ثانياً، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إن ملك الأول باق عليه؛ لأنه صار ممتنعاً مختلطاً بالوحش على صفة ما هي عليه من الإباحة، فكان له، أصله الأول، ولأن ما أصله الإباحة إذا ملك ثم عاد إلى ما كان عليه كان للذي ملكه ثانياً، أصله الماء في نهر إذا أخذ منه إنسان ثم انصب من يده إلى النهر.

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة [1842] مسألة: صيد البحر كلّه جائز أكله، كلبه، وخنزيره، ما له شبه في البر وما لا شبه له، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله تعالى: "أحل لكم صيد البحر"، فعم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»، ولأنه من صيد البحر كالسمك. [1843] مسألة: يجوز أكله وإن مات حتف أنفه، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: لا بد من سبب يموت به؛ للظاهر والخبر، واعتباراً بموته بسبب بعلّة أنّه من صيد البحر. [1844] مسألة: يؤكل الطير كلها ما له مخلب وما لا مخلب له، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: «قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه" الآية، وقوله: "وإذا حللتم فاصطادوا"، ولأنه نوع من الطير فأشبه سائرها. [1845] مسألة: يكره أكل سباع الوحش من غير تحريم، خلافاً لأبي حنيفة في تحريمها جميعاً، وللشافعي في تحريمه ما عدا الضبع والثعلب؛ لعموم الظواهر، ولأن كل حيوان يطهر جلده بذبحه فلا يحرم أكله، أصله

مع أبي حنيفة سائر الصيد، ومع الشافعي نقول: لأنّه نوع من السباع لا يكفر مستحلّه كالضبع والثعلب. [1846] مسألة: أكل الحمر الأهلية مغلَّظ عند مالك في الكراهية وليس كالخنزير، ومن أصحابنا من يقول هو محرَّم، وكذلك البغال؛ فدليلنا الظاهر، ولأنّه حيوان للركوب كالخيل. [1847] مسألة: يكره أكل الخيل، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إنّه مباح؛ لقول الله تعالى: "لتركبوها وزينة"، ففرق بينها وبين الأنعام، وأخبر عن المقصود منها وهو الركوب والتجمّل، بخلاف المقصود من الأنعام، ولأنه ذو حافر فجاز أن يتعلق المنع بأكله كالحمير والبغال، ولأنّ الخيل يحتاج إليها للجهاد عليها، وفي إباحة كلها تطرق إلى انقطاع نسلها. [1848] مسألة: الجراد لا يؤكل إلا أن يموت بسبب، وقال أبو حنيفة والشافعي: يؤكل ابتداء، وهو قول محمد بن عبد الحكم؛ فدليلنا أنه من حيوان البر فاحتاج إلى ذكاة كسائر الحيوان. [1849] مسألة: أكل الأرنب جائز غير مكروه، خلافاً لما يحكى عن ابن أبي ليلى من منعه أو كراهته؛ لما روي عن أنس أنه صاد أرنباً فبعث منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منه. [1850] مسألة: الضب مباح، وقال أبو حنيفة: يكره؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم لمّا قدم إليه: «كلوا»، ولو كان مكروهاً لم يُبحهم أكله.

[1851] مسألة: حشرات الأرض مكروهة، وقال أبو حنيفة والشافعي: محرَّمة؛ فدليلنا الظاهر، ولأنه ممّا لا يكفر مستحلّه كالضبع والثعلب. [1852] مسألة: شحوم اليهود المحرَّمة عليهم مكروهة عند مالك، وفي رواية أخرى: أنّها محرمة، وقال أبو حنيفة والشافعي: مباحة غير مكروهة. فوجه المنع أنها ذكاة قصد مُذكيها إلى محلّل ومحرم في اعتقاده، فوجب أن تبيح ما يعتقد تحليله دون ما يعتقد تحريمه، أصله المسلم إذا ذبح الشاة فإن التذكية تنصرف إلى اللّحم دون الدّم. ووجه الإباحة أن اليهود تعتقد استباحة الشاة، وإنما تعتقد تحريم بعض منها، واعتقاد ذلك باطل عندنا، فكان كالمسلم يعتقد بالذبح إباحة اللحم دون الشحم، وذلك غير مؤثر. [1853] مسألة: المضطر إلى أكل الميتة يأكل ما يمسك رمقه، وفي رواية أخرى: أنه يأكل قدر الشبع. فوجه الأول الإباحة بحفظ النفس وذلك يوجد فيما دون الشبع، ولأن خوف التلف قد زال فأشبه أن يشبع، ووجه الإباحة قوله تعالى: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه"، فعم، ولأن الضرورة باقية وإن أمسك الرَّمَق، ولأن كل من حل له من غير قدر ما يمسك الرمق حل له قدر الشبع كسائر الأطعمة. [1854] مسألة: كسب الحجَّام جائز للحر والعبد، وقال بعض أصحاب الحديث: إنّه محرَّم على الحر مباح للعبد، وحكي عن أحمد بن حنبل؛ فدليلنا حديث ابن عباس، قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجَّام أجرته، ولو كان حراماً لم يعطه، ولأنه كسب حلّل للعبد

فحلل للحرِّ أصله سائر الاكتساب. [1855] مسألة: إذا اضطر إلى طعام الغير ولا عوض معه في الحال أخذه بعوض في ذمته، خلافاً لمن قال: يأخذه بغير عوض؛ لأن ذمة الإنسان تجري مجرى عينِ ماله فلما ثبت أنه لو كان واجداً للمال لم يجز أن يأكله إلا بعوض يبذله، كذلك إذا كانت له ذمة. [1856] مسألة: إذا مرَّ بحائط فيه ثمر لم يجز أن يأكل منه شيئاً إلا أن يكون مضطرًا، وقال بعض أصحاب الحديث: ينادي ثلاثة أصوات فإن أجيب وإلا أكل ما شاء ولا يحمل معه؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفسه منه»، ولأنه مال فلم يجز تناوله من غير ضرورة إلا بإذن صاحبه كسائر الأموال. [1857] مسألة: لا يجوز شرب الخمر عند العطش ولا التداوي من مرض، خلافاً لأبي حنيفة والثوري؛ أما العطش فإنه يزيد فيه [على] ما يقوله من يخبر أمرها، فإن صحّ أنها تروي عنه جاز، وأما التداوي فلقوله صلى الله عليه وسلم: «ما جعل شفاء أمتي فيما حُرِّمَ عليها». [1858] مسألة: أكل الشاة الجلَّالةِ مكروه غير محرَّم، وقال الثوري وأحمد بن حنبل: محرم؛ ودليلنا قوله تعالى: "أحلت لكم بهيمة الأنعام"، واعتبارًا بغير الجلَّالة. [1859] مسألة: ولا يجوز للمضطر أكل لحم ابن آدم وإن خاف الموت، لأن حرمته باقية، خلافاً للشافعي؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «كسر عظمه

ميتاً ككسره حياً»، ولأن كل حيٍّ لا يجوز إتلافه لحفظ نفسه بأكله لم يجز له أكله بعد موته، أصله من العكس سائر البهائم ومن الطير اعتباره بحال الحياة، ولأن ذلك يؤدي إلى أكل لحوم الأنبياء وهتك حرمتهم. * * *

كتاب الأشربة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الأشربة [1860] مسألة: كل شراب مسكر فإنه حرام، قليله وكثيره، جُمْلَةً بغير تفصيل، وقال أبو حنيفة في النبيذ التمري المطبوخ والزبيب المشتدّ المطرب: إن قدر ما لا يسكر منه حلال؛ فدليلنا من طريقين؛ أحدهما: إثبات ذلك خمرًا، والآخر: الاستدلال على عين المسألة. فأما إثباته خمرًا فله طريقان: الأخبار والقياس، والأخبار ما روى النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من العنب خمر، ومن الزبيب خمر، ومن التمر خمر، ومن العسل خمر، ومن الشعير خمر، أنهاكم عن كل مسكر»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الخمر من هاتين الشجرتين النخل والعنب»،

وقوله: «كل مسكر حرام وكل مسكر خمر»، وفي حديث أنس: أن الخمر لما حرمت قال أبو طلحة: قم إلى هذه الجرار فكسرها، فكان فيها شراب من فضيخ وتمر. وأمَّا القياس فلما علمنا أن العرب إنّما سمّت الخمر بهذا الاسم، لوجود الإسكار والشدّة المطربة، ولم يوافقونا على قَصْرِ ذلك على جنس أو نوع ممّا يوجد فيه دون غيره، وجب إجراء العلّة حيث وُجدت، وعلمنا أنها علَّة بالطريق الذي به نعلم العِلَلْ وهو وجود الحكم بوجودها وارتفاعه بارتفاعها، لأن العصير ما لم يشتدّ لا يسمّى خمرًا، فإذا اشتدّ سمِّي بذلك، فإذا زالت الشدة زال الاسم، فثبت ما قلناه. ودليلنا على عين المسألة النقل المستفيض، وروت عائشة رضي الله عنها أنّه صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع؟ فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام»، وقال الراوي: والبتع نبيذ العسل، وروى ابن عمر وأبو موسى الأشعري قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»، وروت عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أسكر الفرق منه

فملء الكف منه حرام»، ولأنّه إجماع الصحابة، لأنّ عمر حدّ في شراب سأل عنه، فقيل له: إنه يسكر، ولم ينكر عليه أحد، واعتبارًا بالسكر، ولأنه شراب يسكر كثيره فوجب أن يحرم قليله كالخمر. [1861] مسألة: الخمر محرَّمة لعلّة، وقال أصحاب أبي حنيفة لعنبها؛ فدليلنا قوله تعالى: "إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر"، وذكر الصفة عقيب الحكم تفيد التعليل، لأن علامات العِلل موجودة في الإسكار فوجب أن تكون علّتها. [حدّ الخمر]: [1862] مسألة: الحد للخمر ثمانون، خلافاً للشافعي في قوله: إنّها أربعون؛ لإجماع الصحابة عليه وسؤال عمر عنه وتعليل علي بأنه: إذا شرب مسكرًا، فإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فيحدّ حد المفتري، ولم ينكر ذلك عليه أحد، وروي عن عمر، ...........................

التعزير

وعثمان، وعلي، وعبدالرحمن، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي موسى، ولأنّه ليس في الأصول حد يقصر عن ثمانين. [التعزير]: [1863] مسألة: التعزير غير مؤقت، وهو موكول إلى اجتهاد الإمام فيما يراه كافياً في ردع المعزَّر، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: لا يزاد على الأربعين وهي أدنى الحدود؛ لأنّ ما قلناه إجماع الصحابة، وروى أن معز بن زياد عمل خاتماً على نقش خاتم بيت المال ثم جاء به إلى

صاحب المال فأخذ منه مالاً، فبلغ عمر ذلك، فضربه مائة، فكلم فيه من بعد فضربه مائة أخرى ونفاه، وروي أنّه ضرب جارية حاطب لما حملت وذكرت أنها لم تعلم بالتحريم، مائة، وعن علي: أنه ضرب في التعزير خمسة وسبعين سوطاً، ولم يذكر ممن خالف عن أحد منهم، ولأن الغرض بالحدّ لمّا كان للردع والزجر، وكانت أحوال الناس مختلفة بحسب اختلافهم في العتوِّ والعرامة والإقدام على الأمور المنكرة، وجب أن ينتهي التعزير حتى يعلم منه حصول الردع ليقع الغرض به، ولأنه ضرب محتاج إليه في التعزير فأشبه ما دون الحد. [1864] مسألة: إذا عزر الإمام إنساناً تعزير مثله فمات لم يضمنه، وقال الشافعي: يضمن؛ فدليلنا أن إليه أمره من طريق الولاية، فإذا تلف به لم يضمنه كما لو أقام حدًّا على إنسان فمات، فلا يدخل عليه الزوج والمعلّم لأنه ليس ذلك إليه من طريق الولاية. ***

كتاب العقيقة

كتاب العقيقة [الختان]: [1865] مسألة: الختان سنة مؤكدة في الذكور والإناث، وليس بواجب وجوب فرض، خلافاً للشافعي؛ لأنه قطع شيء من البدن ابتداء كقطع البشرة، ولأنه قطع مقصود به النظافة كقصِّ الظفر. [العقيقة]: [1866] مسألة: العقيقة مستحبة، خلافاً لقول أبي حنيفة: إنّها بدعة!؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دمًا»، وقوله: «كل غلام مرتهن بعقيقته يعق عنه يوم سابعه ويسمى»، ولأنه صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين رضي الله عنهما كبشاً كبشاً.

[1867] مسألة: وليست بواجب، خلافاً لقوم؛ لقوله: وسئل عن العقيقة: «لا أحب العقوق، ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل»، فعلّقه بمحبة فاعله، ولأنه طعام يفعل عند الولادة كالوليمة. [1868] مسألة: يعق بشاة شاة عن الذكر والأنثى، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إنه يعق عن الغلام بشاتين وعن الأنثى بشاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشًا، ولأنه ذبح متقرب به، فلم يتفاضل فيه الذكر والأنثى كالأضحية. [1869] مسأله: لا يمس الصبي بشيء من دمه، خلافاً لمن استحبَّ أن يلطخ رأسه؛ لأنه ذبحٌ مقصود به القربة، فوجب أن لا يستحبَّ إمساس المذبوح عنه بالدم، كالأضحية والهدي. ***

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد [1870] مسألة: للإمام أن يمن على الأسارى وأن يفادي بهم، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الأمران؛ فدليلنا على جواز المن قوله تعالى: "فإما منًا بعد وإما فداء"، وهذا نص، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم أراد قتل أبا عزة الشاعر لما أسر ببدر، فقال له: أطلقني فإني ذو عيلة، فأطلقه على أن لا يرجع إلى القتال، فمضى إلى المشركين وقال: سخرت من محمّد، ثم عاد فقاتل، وأخذ، فسأل أن يطلق فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يلدغ المؤمن من الجحر مزتين» وقتله ببدر، وسئل في ثمامة بن أثال فمنَّ عليه، وقال: «لو كان مطعم

حياً فسألني في هؤلاء لأطلقتهم له». [1871] فصل: ودليلنا على جواز الفداء، الظاهر، وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بأسارى بدر من إطلاقه إياهم على مال، ولأنه صلى الله عليه وسلم أطلق أسيرًا من [بني] عقيل وفادى به رجلين من أصحابه كانا أسيرين في ثقيف. [1872] مسألة: من قتل أسيرًا قبل إعطائه الأمان فلا ضمان عليه، وحكي عن الأوزاعي: أنّه يضمن نفسه للغانمين؛ فدليلنا أنه لم يصر رقيقاً بنفس الأسر، فلو ألزمناه ضمانه لكان ذلك لحق الكافر ولا حق له، لأنه كافر لا أمن له كالمرتد. [1873] مسألة: لا يقتل الشيوخ ولا أهل الصوامع الذين ليس فيهم فضل القتال ولا تدبير، خلافاً للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتلوا شيخاً فانياً»، وقوله: «لا تقتلوا أهل الصوامع»، ولأنه قول أبي بكر الصدّيق

رضي الله عنه، ولا مخالف له، ولأنه لا فضل فيهم للقتال ولا ضرر في تبقيتهم على المسلمين كالنساء والصبيان. [1874] مسألة: إذا زنى المسلم في دار الحرب أقيم عليه الحد، وكذلك إن قتل عمدًا أقيد منه، وكذلك سائر الحدود إذا فعل أسبابها في دار الحرب، وقال أبو حنيفة: إن كان هناك الإمام وجبت الحدود وإن لم يكن إمام لم تجب، وعنه: لا يجب القود هناك بقتل العمد ولا حدّ قذف؛ فدليلنا قوله تعالى: "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما"، وقوله: "والسارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما" ولم يفرق، ولأنه وجد منه الزنا الذي يجب به الحدّ في ذلك الموضع من الأماكن، فوجب أن يجب به الحدّ في ذلك الموضع اعتبارًا بسائر بقاع الإسلام، ولأنّ كل دار وجب الحد فيها إذا كان هناك إمام، وجب وإن لم يكن إمام كدار الإسلام، ولأن القود حق يجب بالقتل في دار الإسلام فوجب أن يجب به في دار الحرب كالدية والكفارة، واعتبارًا بالردة في دار الحرب. [1875] مسألة: ما حازه أهل الحرب من أموال المسلمين على وجه الإغارة، فإذا أسلم من هو في يده كأن ملكاً له، ولم يكن لمالكه الأول من المسلمين اعتراض عليه فيه، وقال الشافعي: هو باق على ملك المسلم وله أخذه منه بغير عوض؛ فدليلنا قوله عليه السلام: «الإسلام يجب ما قبله»، ولأن للكفار شبهة ملك على ما حازوه من أموال المسلمين، يدل عليه قوله تعالى: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم"، فسمّاهم فقراء بعد هجرتهم وتركهم ديارهم وأموالهم، ولأنه لا خلاف أنّهم لو استهلكوه

ثم أسلموا لم يضمنوه، ولو أتلفه مسلم على صاحبه للزمه غرمه، فدل ذلك على ثبوت شبهة الملك المشترك. [1876] مسألة: إذا عاد ما حازه أهل الحرب بالغنيمة إلى المسلمين فإن وجده مالكه قبل القسم كان له بغير عوض، وإن وجده وقد قسم لم يكن أولى به إلا بالثمن، وحكي عن عمرو بن دينار: أنه ملك لمن غنمه دون مالكه، وقال الشافعي: هو له بغير ثمن قبل القسم وبعده؛ فدليلنا على أنه قبل القسم لمالكه بغير عوض حديث ابن عباس: أن رجلاً من المسلمين وجد بعيرًا له في المغنم قد كان أصابه المشركون فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن وجدته في المغنم فخذه وإن وجدته قد قسم فأنت أحق به بالثمن»، وحديث ابن عمر: أن فرساً له ذهب فأخذه العدو، فظهر عليهم المسلمون، فرد عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه على أصل ملكه لم يزل عنه بقسم ولا باستهلاك ولا باستلام ممّن هو في يده، وقد زالت شبهة الملك عن من كان في يده بعوده إلى المغانم فكان صاحبه أحق به. [1877] فصل: ودليلنا على أنه لا يكون له بعد القسم إلا بالثمن خلافاً للشافعي للحديث الذي رويناه وفيه: «وإن وجدته قد قسم فأنت أحق به بالثمن»، وهذا نص، ولأنه لما جاز أن يملك المسلم على الكافر بالقهر والغلبة جاز أن يملكه الكافر بمثل ذلك بعلة أنه بدل حقه من الغنيمة، لأن الإمام لا يغرمه له ولا يقدر أن يرجع، فلو قلنا إنّه يؤخذ بغير بدل لأدى ذلك إلى استهلاكه ثم لم يسلم لم يكن عليه غرمه، ولأن قسم الإمام قد قطع حق صاحبها عنها مع تقدّم شبهة الكافر عليها، ولأن من حصل في

يده بالقسم أخذه بحق سهمه بحكم الإمام، فلو قلنا إنه يؤخذ بغير بدل لأدى ذلك إلى ترك حقه من الغنيمة، لأن الإمام لا يغرمه له ولا يقدر أن يرجع على الغانمين به. [1878] مسألة: إذا أسلم الحربي في دار الحرب فالإسلام حقن دمه، واختلف في ماله الذي في دار الحرب وولده الصغار، فقال مالك: يكونون فيئاً إن غنموا، وقيل: يكونون تبعاً له ولا يدخلون في الغنائم، وهو قول الشافعي وهذا مبني على أن الحربي يملك ملكاً صحيحاً، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، ولأنه مال مسلم فلم يجز أن يغنم، أصله ما في يده، ولأن كل من لم يجز أن يغنم ما في يده لم يجز أن يغنم ماله الذي في يده كالمسلم. [1879] مسألة: من وطىء من الغانمين أمة من المغنم قبل القسم فذلك زنا يحد به، وقال عبد الملك: لا حدَّ عليه، وهو قول الشافعي، وكذلك لو سرق منه لقطع، وقال عبد الملك: لا يقطع. [1880] مسألة: في هدم النكاح بالسبي اختلاف كثير وتخليط في النقل الذي عليه أصحابنا أن السبي يهدم النكاح، سبيا معًا أو مفترقين، وقال أبو حنيفة: إذا سبيا معاً لا ينفسخ وهو بعض أقاويلنا، وأصل الخلاف بيننا وبينه أن انفساخ النكاح يتعلق بحدوث الرق في أحد الوجهين، وعنده باختلاف الدار؛ فدليلنا قوله تعالى: "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، فحرَّم وطء المملوكات إلا إذا ملكن، ولأنَّ كل ما زال ملك

المرء عنه بالاسترقاق إذا لم يكن معه، وجب أن يزول كان كان معه دليله المال، ولأنه حدوث رق على نكاح، فوجب أن يفسخه دليله إذا سبي أحدهما واسترق. [1881] مسألة: من غل شيئاً من الغنيمة عوقب ولم يحرم سهمه، خلافاً لمن قال: يحرم سهمه؛ لأنه قد استحق السهم بحصول سببه من القتال أو الحضور، وغلوله لا يخرجه عن ذلك فلم يجز أن يحرم، ولأنه ليس في الغلول أكثر من ركوب أمر محرَّم وذلك طارىء بعد استحقاق السهم ولا يؤثر فيه. [1882] مسألة: السلب لجملة الغانمين، خلافاً للشافعي أنّه للقاتل؛ لقوله تعالى: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، فأضاف الغنيمة إلى جماعة الغانمين واستثنى منها الخمس، فدل أن ما عداه لهم، سلباً كان أو غيره، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أدوا الخيط والمخيط»، فعم السلب وغيره، وقال، وسئل عن الغنيمة: «لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش»، فقيل: هل أحد أحق بها من أحد؟ قال: «لا والسّهم يستخرجه من جنب أخيك المسلم»، ولأنه مال مغنوم عن المشركين في الحرب فلم يختص به بعض الجيش دون الباقين إلا بإذن الإمام، أصله ما عدا السلب واعتبارًا به إذا قتله مدبرًا. [1883] مسألة: إذا جاؤوا بعد انقضاء الحرب لم يسهم لهم، وقال أبو حنيفة: إن كانت الغنيمة لم تحمل إلى دار الإسلام أسهم لهم، وإن

كانت قد حملت إلى دار الإسلام لم يسهم لهم؛ فدليلنا قوله تعالى: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، فجعل الأربعة الأخماس للغانمين، وهؤلاء لم يغنموا شيئاً فلم يكن لهم قسط فيه، وروي: «الغنيمة لمن شهد الوقعة»، ولأنهم لم يحضروا الحرب كما لو جاؤوا بعد القسمة، ولأنه لم يحصل منهم قتال ولا معاونة عليه، كمن جاء بعد العود إلى دار الإسلام. [1884] مسألة: لا سهم للأجراء والصناع المتشاغلين باكتسابهم، خلافاً لمن قال: يسهم لهم؛ لقوله تعالى: "وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله"، ففرق بين حكمهما، ولأنه لم يحصل منه المعنى الذي يستحق به السهم وهو القتال والتكثير والمعاونة، لأنه إما حضر لخدمة من استأجره أو لغرض غير القتال فلم يستحق السهم كالطبيب وغيره. [1885] مسألة: إذا قاتل الأجير أو الصانع فله سهمه، خلافاً لمن قال: لا يسهم له على كل وجه، لأنه ممّن خوطب بالجهاد، فإذا قاتل أسهم له كغير الأجير، ولأنه ليس في كونه أجيرًا أكثر من أنه عاوض على منافعه وذلك لا يمنع السهم له إذا قاتل، كالذي يحج ومعه تجارة أو يؤاجر نفسه للخدمة في ذلك لا يمنعه صحه الحج. [1886] مسألة: المراهق اذا أطاق القتال وقاتل أسهم له، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لحديث سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليه صبيان المدينة من الأنصار فيلحق من أدرك منهم، فعرضت عليه عاماً فألحق غلاماً وردني، فقلت: يا رسول الله، ألحقته ورددتني، ولو صارعني

لصرعته، قال: فصارعني فصرعته فألحقني، ولأنه قد يوجد فيه ما يوجد في البالغ من القتال والمكايدة للعدو، وهو من الجنس الذي يسهم له فكان كالبالغ. [1887] مسألة: للفارس ثلاثة أسهم، سهمان لفرسه وسهم له، وقال أبو حنيفة: سهمان؛ فدليلنا ما روى ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسهم للخيل للفرس سهمين وللفارس سهماً، ولأنّ الفارس إنّما زيد على الراجل لكثرة مؤنته فكانت مؤنة الفرس أكثر من مؤنة فارسه فوجب أن يزاد له أيضاً بمثل ما له زيد فارسه على الراجل. [1888] مسألة: لا يسهم إلا لفرس واحد، وقال أبو يوسف: يسهم لفرسين ولا يزاد عليهما؛ فدليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم إلا لواحد في حروبه كلها، وكذلك الأئمة بعده، ولأن العدو لا يمكن أن يقاتل إلا على فرس واحد، وما زاد على ذلك رفاهة وزيادة عدة، وذلك لا يؤثر في زيادة السهمين كزيادة السلاح قياساً على الثالث والرابع. [1889] مسألة: ما جلا عنه أهله فأخذ بغير قتال فهو للإمام لا يخمس، وقال أبو حنيفة فيه: أنه يخمّس؛ ودليلنا قوله تعالى: "وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء"، فأخبر بأن استحقاقهم أنفسهم لا يكون بإيجافهم، وروي أنه صلى الله عليه وسلم لمّا نزل على بني النضير فزعوا وجعلوا ينقبون الحصون ويهربون وحاز هو صلى الله عليه وسلم الديار بما فيها فانتظر المسلمون أن يقسم بينهم

فنزلت هذه الآية. [1890] مسألة: أمان العبد جائز في القتال، أذن له سيده أم لم يأذن، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إن لم يأذن له لم يجز أمانه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ويسعى بذمتهم أدناهم»، وروي: «يجير عليهم أدناهم»، ولأن صحة الأمان لا تتعلق بالإذن في القتال كالحر إذا لم يأذن له الإمام في القتال. [1891] مسألة: إذا ارتهن المسلمون من المشركين رهائن فأسلموا في أيدينا رددناهم ولم يجز لنا حبسهم، خلافاً لمن أبى ذلك؛ لأن في منع ردهم غدراً بهم، وذلك غير جائز، ولأنه صلى الله عليه وسلم صالح المشركين يوم الحديبية على من أتاه منهم رده إليهم، ومن أتاهم منا لم يرده، ولأنا إذا لم نردهم لم نأمن غدرهم للمسلمين، لأنهم إنما يهيمون في الرهائن ما داموا على دينهم، ومراعاة العامة أولى من مراعاة الواحد والاثنين، ولأنه صلى الله عليه وسلم رد أبا رافع وجاءه

رسولاً منهم فأسلم، وقال: «ارجع إليهم»، ورد أبا جندل وأبا بصير يمشيان في قيودهما مسلمين، وقال: «سيجعل الله لكما فرجاً ومخرجاً». [1892] مسألة: الأرض لا تقسم وتترك وقفاً للمسلمين، وقال الشافعي: تقسم؛ فدليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم إلا خيبر، فإنه قسم بعضها، ولقوله تعالى: "والذين جاءوا من بعدهم"، وبذلك احتجَّ

عمر لمّا طولب بقسمة الأرض وقال: أرى هذه الآية مستوعبة لجميع المسلمين حتى الراعي بعدن، ولم ينكر عليه أحد، وتلاه عثمان وعلي بمثل ذلك. ***

كتاب القطع في السرقة

كتاب القطع [في السرقة] [1893] مسألة: لا يجب القطع إلا في نصاب، خلافاً لمن قال: يقطع في سرقة القليل والكثير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً»، وروي: «القطع في ربع دينار فصاعدًا»، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبى صلى الله عليه وسلم لا يقطع في التافه. [1894] مسألت: والنصاب ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الورق، وقال أبو حنيفة: النصاب عشرة دراهم، وقال الشافعي: النصاب ربع دينار، ولا نصاب من الورق. فدليلنا على أبي حنيفة قوله تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" ولم يفرق، والأخبار التى رويناها، وهي نصوص، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم.

ودليلنا على الشافعي الظاهر، وهو عام، وما يروى أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم، وذلك يفيد الاعتبار بالدراهم إذا بلغت هذا القدر، ولأنه أصل مال يعتبر في الأثمان وقيمة المتلفات، فوجب أن تكون سرقته معتبرة بمقدار في نفسه لا يعتبر بغيره، أصله الذهب، ولأنه كل حكم تعلّق على الذهب والورق اعتبر فيه نصاب من الورق أصله الزكاة. [1895] مسألة: قراضة الذهب إذا بلغ المسروق منها نصاباً قطع فيه وإن كانت قطعاً كثيرة، وحكى الإسفرائيني عن بعض أصحابهم: أنه لا يقطع فيه إلا أن يكون المسروق قطعة واحدة؛ ودليلنا قوله: «لا قطع إلا في ربع دينار»، ولأنه سارق للربع كالقطعة الواحدة، ولأنه لو سرق عروضاً قيمة الجميع ربع دينار أو ثلاثة دراهم لقطع وإن كان كل واحد بانفراده لا قطع فيه إذا كان تفرق أجزاء المسروق المقوم في نقصانه عن القدر المعتبر لا يؤثر في تفرق أجزاء الأصل الذي يعتبر لنفسه أولى أن لا يؤثر، مع أنّه خرق الإجماع. [1896] مسألة: إذا سرق ربع دينار قطع، وحكى الإسفرائيني عن أصحابهم أنّه لا قطع فيه؛ فدليلنا الظاهر والأخبار، ولأنه سرق ذهباً يكون وزنه ربع دينار كالمسكوك. [1897] مسألة: الاعتبار بقيمة السّرقة حال إخراجها من الحرز لا حال القطع؛ خلافاً لأبي حنيفة؛ للظاهر والأخبار، ولأن النقص الحادث بعد انفصال المسروق من الحرز لا يؤثر في سقوط القطع، أصله نقصان عين المسروق، ولأنه سارق لنصاب من حرز مثله لا شبهة له فيه، كما لو

اتصلت قيمته إلى وقت القطع، ولأن اعتبار الحدود بحال وجوبها دون حال استيفائها. [1898] مسألة: إذا ملك السّارق السرقة لم يسقط القطع عنه بهبة أو شراء أو ميراث أو أي شيء كان قبل الترافع أو بعده، وقال أبو حنيفة: يسقط القطع متى وهبها المسروق منه من السارق، وفرق قوم بين قبل الترافع وبعده، فقالوا: يسقط القطع قبل الترافع ولا يسقط بعده، ودليلنا قوله تعالى: "والسارق والسارقة فأقطعوا أيديهما" ولم يفرق، وسائر الأخبار، وفي حديث صفوان ة لقأ جاء بسارق ردائه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يده، فقال صفوان: هو عليه صدقة، فقال: «هلا قبل أن تأتيني» فهذا صريح في أن الهبة لا تسقط القطع، ولأنه انتقال عن ملك المسروق منه بعد السرقة فلم يسقط معه القطع، أصله إذا وهبها لغير السّارق، ولأن الاعتبار في وجوب القطع وسقوطه بحال السرقة دون تنقل الملك بعدها، أصله لو سرق ملكاً له عند السارق ولا يعلمه له ثم ملكه، كذلك الإيسار بعد أن سرقه منه فإن انتقال الملك لا يغير القطع عما كان عليه من الانتقال، ولأنّه سارق لنصاب لا شبهة له فيه من حرز، فوجب أن يقطع، أصله إذا بقي على ملك المسروق منه. [1899] مسألة: يقطع فى سرقة الثمار الرطبة وكل طعام رطب، خلافاً لأبي حنيفة؛ لعموم الظاهر والأخبار، وحديث عبد الله بن

عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: «من سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع»، لأنها إحدى حالتيه كحال الجفاف، ولأنه جنس يتمول في العادة فجاز أن يتعلّق القطع بسرقته كاللباس. [1900] مسألة: الحرز معتبر في القطع، خلافاً لداود وغيره ممّن لم يعتبره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا قطع في تمر معلق ولا حريسة جبل إلا إذا آواه المراح والجرين، والقطع فيما بلغ ثمن المجن»، وقوله: «ليس على المنتهب قطع ولا على المختلس». [1901] مسألة: إذا سرق حرًا صغيرًا فعليه القطع، وقال عبد الملك: لا يقطع، وهو قول أبي حنيفة والشافعي؛ فدليلنا الظاهر، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له أن رجلاً يسرق الصبيان! بالمدينة، فأمر بقطعه، ولأنه سرق نفساً مضمونة، فجاز أن يقطع فيها اعتبارًا بالبهيمة، ولأنّه حيوان غير مميز سرق من حرز مثله يجب منه البدل عند الإتلاف كالبهيمة.

[1902] مسألة: يقطع سارق المصحف، خلافاً لأبي حنيفة؛ للظاهر والخبر، ولأن كل ما جاز بيعه وأَخْذُ العوض عليه جاز أن يقطع في سرقته كسائر الأموال. [1903] مسألة: يقطع في جميع المتمولات التي تتمول في العادة، ويجوز أخذ الأعواض عليها، كان أصلها مباحاً أو غير مباح، وقال أبو حنيفة: كل ما كان أصله مباحاً فلا يقطع فيه كالصيد والماء والحجارة وغيرها؛ فدليلنا الظاهر والخبر، لأنه جنس مال يتمول في العادة كالثياب وسائر العروض ولأن القطع أريد لحفظ الأموال وليس بعضها بأولى في ذلك من بعض. [1904] مسألة: إذا اشترك جماعة في سرقة شيء قيمته ربع دينار قطعوا إذا كان مما يحتاج إلى التعاون عليه فإن كان مما يمكن الواحد الانفراد بحمله ففيه خلاف بين أصحابنا وقال أبو حنيفة والشافعي: لا قطع على واحد منهم؛ فدليلنا الظاهر والخبر ولأنهم اشتركوا فيما لو انفرد كل واحد منهم به لوجب الحد فكان اشتراكهم بمنزلة انفرادهم لو انفرد كل واحد منهم به أصله اشتراكهم في القتيل، ولأن الجنايات التي يستحق بها تناول الأعصاب يجب على الجماعة إذا اشتركوا فيها ما يجب على المنفرد من إتلاف الأعضاء، أصله الجماعة إذا قطعت يد رجل أو قطعوا منه غير اليد، ولأن اشتراكهم في إخراج السرقة من الحرز يقتضي قطع الجميع ولا يعتبر انفرادهم بالإخراج بدليل أنهم لو سرقوا متاعاً فحملوه على دابة إلى خارج الحرز فإن الكل يقطعون. [1905] فصل: وإن انفرد كل واحد بشيء أخذه لم يقطع واحد منهم إلا أن يكون قيمة ما أخرجه نصاباً ولا يضم إلى ما أخرجه غيره، وقال أبو حنيفة: يضم ما أخرجوه بعضه إلى بعض ويقسط على جميعهم فإذا بلغ ما يخص كل واحد منهم نصاباً لزمهم القطع، وإن قصر عن ذلك لم يلزمه

القطع؛ فدليلنا الخبر، ولأن كل واحد منهم لم تبلغ سرقته نصاباً فلم يلزمه القطع كما لو انفرد. [1906] مسألة: إذا اشترك جماعة في ثقب ودخلوا الحرز فأخرج واحد منهم المتاع ولم يخرج الباقون شيئاً ولم يكن له منهم معاونة في إخراجه قطع المخرج وحده، وقال أبو حنيفة القياس هذا، ولكن المتاع إن بلغ ما يقسط على كل واحد نصابًا قطعت يد كل واحد استحساناً؛ فدليلنا قوله تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما"، وهذا ليس بسارق، ولأن كل من لم يكن له تأثير في المسروق لم يلزمه القطع كما لو نقب ولم يدخل الحرز. [1907] مسألة: إذا اشترك اثنان في ثقب فدخل أحدهما وأخذ المسروق من الحرز فرمى به إلى خارج، فأخذه الذي لم يدخل وبقي هو في الحرز، فعلى الرامي القطع وحده، وقال أبو حنيفة: لا قطع على واحد منهما؛ فدليلنا قوله تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" الآية، ولأنه مسروق لو لم يوجد من السارق بعد إخراجه من الحرز للزمه القطع، فإذا أخذ منه بعد إخراجه فيجب أن يلزمه القطع، أصله إذا خرج هو من الحرز ومعه المتاع فأخذ منه. [1908] مسألة: إذا قرب الداخل المتاع إلى الثقب وتركه فأدخل الخارج يده فأخذه من الحرز فعلى الذي أخرجه من الحرز القطع، وقال ابن الجلاب: ويحتمل أن يقال في الداخل يقطع ويحتمل أن يقال لا يقطع، وقال أبو حنيفة: لا يقطع واحد منهما؛ فدليلنا أن القطع يجب بهتك حرمة الحرز وإخراج الشيء منه، وقد وجد ذلك من الثاني فيجب أن يلزمه القطع.

[1909] مسألة: يقطع الآبق إذا سرق، خلافاً لقوم؛ للظاهر والخبر، ولأنّه مكلّف سرق نصاباً من حرز مثله لا شبهة له فيه كغير الآبق. [1910] مسألة: يقطع النباش، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنّه سارق بدليل أن السّرقة أخذ الشيء على طريق الاستخفاء، وهذا قد وجد، وقالت عائشة رضي الله عنها: سارق أمواتنا كسارق أحيائنا، وعن عمر بن عبد العزيز قال: كيف يقطع سارق أحيائنا ولا يقطع سارق أمواتنا، وإذا ثبت بما ذكرناه كونه سارقاً يتناوله عموم قوله تعالى: "والسارق والسارقة" والخبر، ولأن كل حكم تعلّق بسرقة مال الحي جاز أن يتعلّق بسرقة إخراج كفن الميت من القبر، أصله الضمان، ولأنه سارق لمال مقدّر من حرز مثله مع ارتفاع الشبهة عنه، فلزمه القطع إذا كان من أهله كسائر السراق، ويتبين أن القبر حرز للكفن أن حرز كل شيء على حسب العرف فيه، والحرز في إحراز الكفن أن يكون على الميت في القبر. [1911] مسألة: إذا تكررت سرقة للمال الواحد قطع كل مرة، كان في ملك الأول أو ملك غيره، وقال أبو حنيفة: إن كان في ملك الأول لم يقطع فيه؛ ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم في السارق: «إذا سرق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله»، فعلّق استحقاق القطع بالعود، ولم يفرق بين أن يتكرر على مال واحد أو على أموال مختلفة، ولأن تكرر السرقة على المال الثاني الذي يستحق فيه القطع، لا يسقط القطع أصله إذا انتقل إلى ملك آخر، ولأنه مكلّف سرق نصاباً من حرز مع عدم الشبهة فاستحق بسرقته

القطع اعتبارًا بما لم يقطع فيه، ولأنها سرقة لهذا المال كالأول ولأنه حدّ لزم بارتكاب كبيرة في عين تجوز تكرر تلك الكبيرة فيها فوجب تكرر الحدّ بتكررها، أصله الزنا. [1912] مسألة: إذا سرق متاعاً فأحرزه فسرقه منه آخر فعلى الثاني القطع كما على الأول، وقال أصحاب الشافعي: ليس للأول مطالبة بقطع الثاني؛ فدليلنا الظاهر والخبر، ولأنه مكلف سرق نصاباً من حرز مع عدم الشبهة، كما لو سرقه من مالك. [1913] مسألة: إذا استعار من رجل بيتاً فأحرز فيه لنفسه متاعاً وأغلق بابه فنقب المالك وسرق المتاع فإنه يقطع، خلافاً لبعض الشافعية؛ للظاهر والخبر، ولأنه مال سرق نصاباً لا شبهة له فيه من حرز مثله فلزم القطع كالأجنبي، ولأن كون الحرز ملكاً له لا ينفي القطع كما لو أجر داراً ثم سرق من المستأجر شيئاً أحرزه فيها. [1914] مسألة: إذا ربط أحدهما المتاع بحبل في الحرز وجره الآخر حتى أخرجه فعليهما القطع، وقال الشافعي: القطع على المخرج وحده؛ فدليلنا أن الداخل سارق لأنه هتك الحرز وأخرج الشيء، فإذا ربطه ثم أخذه الآخر فهو كما لو تركه على ظهر دابة، فلا يخرج عن أن يكون هو سارقاً فيلزمه القطع. [1915] مسأله: يقطع الأقارب إذا سرق بعضهم من بعض سوى الآباء، وقال أبو حنيفة: إذا سرق من ذي رحم محرَّم لم يقطع كالأخ والعم؛ فدليلنا الظاهر والخبر، ولأنها قرابة لا تقتضي شبهة للسارق في مال المسروق فلم يمنع القطع اعتبارًا بقرابة بني العمومة. [1916] مسألة: يقطع الولد إذا سرق من مال أبويه، خلافاً للشافعي لما ذكرناه، ولأن الابن لا شبهة له في مال أبيه؛ بدليل أنّه لو زنى بأمته لحدّ، فكان كالأخ. [1917] مسألة: يقطع أحد الزوجين إذا سرق من مال الآخر، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ للظاهر والخبر، ولأنه مكلف سرق ما لا شبهة له فيه

من حرز مثله كالأجنبي، ولأن الزوجية لا تقتضي شركة في المال، ولا شبهة فيه، وإنّما هي عقد على منافع كالأجيرين. [1918] مسألة: يقطع المعاهد والمستأمن إذا سرقا، وللشافعي قولان؛ ودليلنا الظاهر والخبر، ولأن القطع في السرقة في معنى الحرابة والفساد في الأرض، فوجب أن يقام على المعاهد، ولأنه حق لله تعالى يتعلّق بحق الآدمي فوجب أن يقام على أهل الذمة والعهد كالقذف. [1919] مسألة: يقطع السّارق من المغنم وإن كان من أهله، وقال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه: لا يقطع؛ فدليلنا الظاهر والخبر، ولأنه سرق نصاباً من مال تقبل فيه شهادته فوجب قطعه إذا كان من أهل القطع، أصله إذا سرق من غير المغنم، ولأنه سرق مالاً من حرز لا شبهة له في عينه، فلزمه القطع اعتبارًا بما ذكرناه. [1920] مسألة: القطع في السرقة لا يفتقر إلى مطالبة المسروق منه به، وقال أصحاب الشافعي: يحبس إلى أن يحضر؛ فدليلنا الظاهر والخبر، ولأنه قد ثبت كونه سارقاً بالإقرار والبينة، فوجب أن يقطع اعتبارًا به إذا حضر المسروق منه فصدق البينة وقال: لست أطالب بالقطع، ولأنه حدّ لله تعالى، فوجب أن يقام على من ثبت عليه من غير انتظار حضور من له الحق متعلق به، أصله حد الزنا فإنه يقام عليه وإن لم يحضر المزني بها. [1921] مسألة: إذا أتلف الشيء المسروق وهو موسر قطع واتبع بقيمته، وقال أبو حنيفة: لا يجتمع عليه الغرم والقطع، والمالك مخير إن شاء أغرمه ولم يقطعه وإن شاء قطعه ولم يغرمه؛ فدليلنا قوله تعالى: "فمن اعتدى عليكم"، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفسه منه» ولأن الغرم والقطع لا يتنافيان لاختلاف أسبابهما، لأن الموجب

للغرم إتلاف مال آدمي، والقطع حق لله تعالى في هتك حرمة الحرز، فإذا لم يتنافيا جاز أن يجتمعا كالصيد المملوك، كان فيه الجزاء والقيمة، ولأنها عين يتعلّق عليه من أجلها حق لله تعالى وغرم لآدمي فجاز أن يجتمعا كما لو غصب أمة فوطئها وتلفت، فإن الحد يلزمه والقيمة، ولأنّ الغرم استيفاء حق آدمي فلم يسقط حد الله، كالمهر في المغصوبة، لأن كل حق لزمه في العين المسروقة لآدمي فإنه لا يتنافى لزومه ولزوم القطع، أصله رد العين. [1922 - مسألة]: وإن كان معسرًا قطع ولم يتبع بشيء، خلافاً للشافعي؛ لما روى عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقمتم على السارق الحد فلا ضمان عليه»، ولأن إتلاف المال لا يجب به عقوبتان، والاتباع بالغرم عقوبة فلما عدمت بالقطع لم يجب عليه عقوبة أخرى. [1923] مسألة: القطع من مفصل الكف، خلافاً لمن قال: يقطع الأصابع؛ لقوله تعالى: "فاقطعوا أيديهما"، وقطع الأصابع لا يقال فيه قطع يد، فأول ما يقال فيه ذلك الكوع، ولأن العمل بذلك جرى من النبي صلى الله عليه وسلم والسلف. [1924] مسألة: يقطع في الثانية رجله اليسرى، وفي الثالثة يده

تداخل حد القدف وحد الشرب

اليسرى، وفي الرابعة رجله اليمنى، وحكي عن عطاء: أنه لا يقطع في الثالثة، وقال أبو حنيفة: لا يقطع في الثالثة والرابعة؛ فدليلنا ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق ثالثة فقطع يده اليسرى، ثم أتي به رابعة فقطع رجله اليمنى، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فأقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله»، ولأن كل عضو يؤخذ قصاصاً فلها مدخل في قطع السرقة كاليمنى، ولأنها سرقة حصلت مع وجود بعض أطرافه، فوجب القطع لها كالأولى والثانية. [1925] مسألة: إذا سرق وقتل، قتل، إلا أن يعفو عنه الولي فيقطع، وقال الشافعي: يقطع ثم يقتل؛ فدليلنا أن الغرض الذي يطلب بالقطع داخل في القتل وهو إتلاف منفعة العضو، فوجب دخوله فيه، كما لو زنى وهو بكر، فلم يحدّ حتى أحصن وزنى فإنه يرجم ولا يجلد. [تداخل حد القدف وحد الشرب]: [1926] مسألة: إذا وجب عليه حد القذف وحدّ الشرب تداخلا، وقال الشافعي: لا يتداخلان؛ ودليلنا أنهما حدّان موجبهما واحد، فإذا اجتمعا تداخلا كحد القذف إذا تكرر، وذلك أن الحد في الشرب لأنه يؤدي إلى القذف، وكذلك روي عن الصحابة.

الغلط في قطع اليد

[الغلط في قطع اليد]: [1927] مسألة: إذا غلط القاطع فقطع اليد اليسرى أجزأ، ولا يعاد القطع، ولا دية على القاطع، ولأصحاب الشافعي في إعادة القطع وجهان وفي الدّية وجه واحد؛ فدليلنا على أن القطع لا يعاد، أن القطع بالسرقة الواحدة قطع واحد، فلو قلنا: إنّه يعاد لكان يوجد فيها قطعان وذلك غير جائز، ودليلنا أنّه لا دية، أنا إذا أنزلناه كان القطع وقع في محله امتنع لذلك أن يكون على القاطع دية، كما لو قطع اليمنى. [دعوى السارق أن المسروق له]: [1928 مسألة]: إذا ادعى السارق أنّ المال المسروق له قطع، ولم تقبل دعواه، وقال أصحاب الشافعي: لا يقطع؛ ودليلنا الظاهر والخبر، ولأن القطع شرع لصيانة الأموال وحفظها، وفي قبول دعوى السارق ذريعة إلى إسقاط هذا المعنى، لأن كل سارق يمكن أن يدّعي المسروق لنفسه ليتخلّص من القطع. ***

كتاب الأقضية والشهادات

كتاب الأقضية والشهادات [1929] مسألة: لا يجوز أن يكون القاضي من غير أهل الاجتهاد، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله تعالى: "لتحكم بين الناس بما أراك الله"، وذلك يتضمّن الاجتهاد، وقوله تعالى: "فاحكم بين الناس بالحق"، والمقلّد لا يعرف بتقليده الحق من الباطل، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «بم تحكم؟» قال: بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد؟» قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «فإن لم تجد؟»، قال: أجتهد برأيي، فقال صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وقوله: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران»، وكل هذا يقتضي أن يكون من صفات الحاكم أن يكون من أهل الاجتهاد، ولأن التقليد ليس بطريق إلى العلم، وإنما يجوز للعامي للضرورة، ولا ضرورة إلى تقليد الحاكم ليقلّد غيره لأن القضاء آكد وأقوى من الفتيا، لأن الحاكم

يلزم غيره بحكمه الحقوق، والمستفتي لا يلزمه المسير إلى فتيا المفتي، فإذا لم يجز للمفتي أن يكون مقلدًا فالقاضي أولى. [1930] مسألة: السنة عندنا أن يقعد القاضي للحكم في المسجد، خلافاً للشافعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم فيه، وكذلك الأئمة بعده، وليقرب الوصول إليه على كل من أراده. [1931] مسألة: لا يجوز أن تكون المرأة حاكمًا، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: يجوز أن تكون قاضية فيما تقبل شهادتها فيه، ولبعض المتأخرين في قوله: يجوز أن تكون حاكماً في كل شيء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أخِّروهن حيث أخرهن الله»، وقوله: «إنهن ناقصات عقل ودين»، وكل هذا تنبيه على نقص يمنع تقليدهن شيئاً من أمور الدين، وقوله: «لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة»، ولأنّها ولاية لفصل القضاء والخصومة، فوجب أن ينافيها الأنوثية، كالإمامة الكبرى، ولأن كل من لم يجز أن يكون حاكمًا [في الحدود فكذلك] في غير الحدود كالعبد. [1932] مسألة: لا يكتفى في معرفة الشهود بظاهر الحال، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنه يكتفى إلا أن تكون الشهادة في حد؛ فدليلنا قوله تعالى: "وأشهدوا ذوي عدل منكم"، يعني من المسلمين، وذلك يفيد مراعاة عدالة زائدة على الإسلام، وقوله تعالى: "ممن ترضون من الشهداء"، والرضا لا يكون إلا بعد البحث عن حاله، ولأن العدالة معنى مشروط في الشهادة يمكن اعتبار باطنه، فلم يجز أن يحكم بظاهره، أصله

الإسلام، لأنّ ظاهر الدّار الإسلام، ولأنها شهادة تتعلّق بحكم الحاكم فلا يكتفى بظاهر الإسلام، أصله إذا كانت في قتل أو حدّ. [1933] مسألة: إذا تقدم إلى الحاكم خصمان لا يعرف لغتهما أو لغة أحدهما، واحتاج إلى من يترجم له عنهما، فإن كان ما تخاصما فيه يتضمّن إقرارًا بمال، أو ما يتعلّق بالمال قبل فيه رجل وامرأتان، وإن كان يتضمن إقرارًا يتعلّق بأحكام أبدان لم يقبل فيه إلا اثنان، هكذا حصلته عمّن درسنا من شيوخنا، وقال أبو حنيفة: يكفي فيه واحد، رجلا ًكان أو امرأة، وقال الشافعي: لا يكفي فيه بأقل من اثنين؛ فدليلنا على أبي حنيفة أنها شهادة فلم يقتصر فيها على الواحد كسائر الشهادات؛ وعلى الشافعي أنّها شهادة مقصودة، مقصود بها إتيان مال كالشهادة على الشراء والبيع. [1934] مسألة: إذا حكم الحاكم بحكمٍ ونسيه، فإذا شهد به عنده شاهدان قبل شهادتهما وأنفذه، وإن لم يذكر، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز له الرجوع إلى شهادتهما إلا أن يذكر هو؛ فدليلنا أنها شهادة عنده على حكم لو كان ذاكرًا له لساغ قبولها والعمل به، فكذلك إذا كان ناسياً له فيجب أن يقبلها، أصله إذا شهد عنده بحكم غيره، ولأنه قد تعلّق بذلك حقٌ لغيره وهو ممّن يشهد بثبوت الحق له، فلو قلنا: إن الشهادة غير مقبولة إلا بأن يذكرها، ومعلوم أنّه ينسى ويشك، لأدى إلى تضييع حقوق الناس، ولكان لا معنى لإشهاده على إنفاذه، ولأنه قد يتهم أن يجحد حكمه لعداوة بينه وبين المشهود له. [1935] مسألة: إذا كتب الحاكم إلى الحاكم، فمات المكتوب إليه، أو عُزِلَ قبل وصول الكتاب إليه، فإن الحاكم الذي يلي بعده يقبله وينفذ ما فيه، وقال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك له؛ فدليلنا أن الحاكم الذي كتب لا يخلو أن يكون كتب بحكم حكم به أو بشيء ثبت عنده، فإن كان كتب بحكمٍ حكم به، فإن حكم الحاكم يلزم كل أحد تنفيذه، وإن كان شيء ثبت

عنده فذلك جار مجرى الشهادة على الشهادة، وشهود الفرع إذا ماتوا جاز لغيرهم تحمّل الشهادة كذلك في مسألتنا. [1936] مسألة: إذا وجد في ديوانه حكمًا بخطه، ولم يذكر أنه حكم به لم يجز أن يحكم به إلا أن يشهد به عنده شاهدان، خلافاً لابن أبي ليلى في قوله: يحكم بخطه؛ لأنّ الخط لا يسوغ العمل عليه دون ما يتضمنه كالشاهد يجد خطه ولا يذكر الشهادة، ولأنّه لم يثبت عنده أنه حكم به، فلم يجز أن يحكم به قياساً على حكم غيره. [1937] مسألة: ولا يحلّف الحاكم المدعى عليه للمدّعي إلا لمعنى يزيد على مجرد الدعوى، من معاملة تكون بينهما أو مخالطة، ومن أصحابنا من يقول: أو يكون المعنى يشبه في العادة أن يدعى مثلها عليه، إلا أن يكونا غريبين فلا يراعى ذلك فيهما، وقال أبو حنيفة والشافعي: يحلفه ولا يراعى شيء! من ذلك؛ فدليلنا أن ما اعتبرناه مروي عن علي رضي الله عنه، وهو صحابي إمام لا مخالف له، ولأنا نعتبر الذرائع، وهي منع المباح إذا قويت التهمة في التطرق به إلى الممنوع، وذلك موجود في مسألتنا، لأن اليمين تشق وتصعب على أهل الدّيانات وذوي الأقدار والمروءات لئلا يسبق إليهم ظنه، فلو أحلفنا كل مدّعى عليه بنفس الدعوى لتطرق بذلك لكل من يريد إيذاء غيره وإغرامه شيئاً أن يدّعي عليه شيئاً، فإذا أنكره أحلفه لتهمته بذلك، أو تدعوه الضرورة إلى أن يصانعه على شيء يفتدي به يمينه، فوجب حسم الباب بأن له الضرر بالمنع منه، إلا أن يكون مع الدعوى شيء يقويها لضعف التهمة. [1938] مسأله: ويسمع الحاكم الدّعوى على الغائب، ويحكم عليه

إذا أقام خصمه الحاضر البينة وسأل الحكم له، واستحسن مالك التوقف على الرباع، وقد قال: يحكم بها وهو النظر، وقال أبو حنيفة: يسمع دعوى الحاضر وبينته على الغائب، ولكن لا يحكم له عليه ولا على من هرب قبل الحكم أو بعد إقامة البينة، ولا يحكم عنده على الغائب إلا أن يتعلّق الحكم بحاضر، مثل أن يكون للغائب وكيل، أو وصي، أو تكون جماعة شركاء في شيء فيدّعى على أحدهم وهو حاضر فيحكم عليه وعلى الغائب. ودليلنا حديث أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضره الخصمان وتواعدا الحضور من الغد فوفى أحدهما ولم يف الآخر، قضى للذي وفى على الذي لم يف، وقد علم أنه لم يقض عليه بمجرد دعوى خصمه وإنّما كان يمضي بالبينة، ولأنها بينة مسموعة فإذا طلب صاحبها الحكم بها وجب أن يكون له، كما لو كان الخصم حاضرًا، ولأن كل من جاز أن يقضى عليه بالبينة مع حضوره جاز وإان لم يحضر، أصله الطفل والغائب إذا كان وكيله حاضراً، ولأنها دعوى مستحقة على غائب قامت بها بينة، فوجب أن يحكم به، أصله إذا ادعى عليه قتل خطأ، لا خلاف أنّه يحكم للمدّعي إذا أقام البينة بالدّية على العاقلة ولو كان غيباً، ولأنّ غيبة المدعى عليه لا تمنع الحكم عليه، أصله إذا ادعى على ميت دينًا فأقام البينة، أو ادعى على جماعة غيَّب وأحدهم حاضر، ولأن في ذلك ذريعة إلى إبطال حقوق الناس، لأنه لا يشاء أحد أن يأخذ أموال الناس ولا يؤديها إلا غاب فلا يمكن القضاء عليه، ولأن الاتفاق حاصل على أن الحاكم يسمع البينة عليه، والفائدة في ذلك الحكم بها، وإلا لم ينتفع باستماعها، ولأنّ أبا حنيفة موافقنا أن المرأة إذا ادعت نفقة على زوجها وهو غائب، وذكرت أن له وديعة عند رجل، واعترف بها من هي عنده أنّه يقضى لها بنفقتها ويؤخذ لها منه، فكذلك سائر الحقوق. [1939] مسألة: إذا ثبت الحق للمدَّعِي عند الحاكم بشهود عرف عدالتهما حكم به، ولم يحيف المدعي مع شاهديه، وقال ابن أبي ليلى:

يحلِّفه مع البينة؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «شاهداك أو يمينه»، فلم يجعل عليه أكثر من الشهادة، وقوله: «اليمين على المدعى عليه»، ولأنّ البينة حجة تامة فلو احتجنا إلى اليمين معها لكانت ناقصة غير تامة. [1940] مسألة: إذا ادعى رجل على رجل حقاً وذكر أن بينته غائبة وسأل القاضي أن يلزمه له إلى أن يقيم له كفيلاً بنفسه إلى أن يحضر البينة لم يكن له ذلك، بل يقول له الحاكم: إن أردت إحلافه لك وإلا فأطلقه إلى أن تحضر بينتك، وقال أبو حنيفة: يلزمه أن يقيم كفيلاً عليه ببدنه ثلاثة أيام إلى أن يقيم البينة، فإذا مضت ثلاثة أيام برئت ذمة الكفيل من الكفالة، وقال أبو يوسف يقيم كفيله أبدًا إلى أن يقيم البينة. فدليلنا أنّه لم يتوجه عليه حق فلا معنى للكفيل، لأن فائدة الكفالة بالبدن إحضاره المستحق عليه وأداء الحق الذي قد ثبت عليه، وكل ذلك معدوم، ولأن كل حال أمكن القاضي فصل الحكم لم يجز إنفاذه كما لو حضرت البينتان. [1941] مسألة: إذا حكَّم الخصمان بينهما رجلاً من أهل الاجتهاد لزمهما ما يحكم به بينهما إذا كان مما يجوز في الشرع، وافق رأي قاضي البلد أو خالفه، وقال أبو حنيفة: إن وافق رأي قاضي البلد لزم، وللشافعي قولان: أحدهما لا يلزم، وتكون فتوى لا حكماً؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «لكل مسلم شرطه»، ولأنه حكم بما يجوز في الشرع ممّن يجوز الحكم به، فجاز أن يلزمهما كحكم قاضي البلد، ودليلنا على أنّه لا يعتبر وفاق رأي الحاكم أنّه إذا ثبت تراضيهما به فقد صار حاكماً ينفذ حكمه عليهما وصار

بمنزلة حاكم آخر في البلد، لأن تراضيهما به يقوم مقام نصب السلطان له. [1942] مسألة: لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في شيء أصلاً، لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها، لا في مجلس الحكم، ولا في غيره، لا في حقوق الله ولا في حقوق الآدميين، وقال عبد الملك: يحكم بعلمه في مجلس حكمه إذا حضر عنده الخصم فاعترف بحق خصمه، وقال أبو حنيفة: يحكم في حقوق الآدميين فيما علمه بعد القضاء، ولا يحكم فيما علمه قبله، وعند الشافعي أنه يحكم بعلمه على الإطلاق إلا في الحدود، فلهم فيها وجهان. فدليلنا ما روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم مصدقًا فلاجَّه رجلان فشجهما، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم يطلبان القصاص، فبذل لهما مائة فرضيا، فقال: «إني أخطب الناس وأذكر لهم ذلك، أفريضتما؟» قالا: نعم، قال: فخطب الناس، ثم قال: أرضيتما، بعد أن ذكر القصة فقالا: لا، فهم بهم المهاجرون والأنصار، فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نزل فزادهما، فرضيا، فصعد المنبر، فقال: «أرضيتما؟» قالا: نعم، موضع التعلّق أنه لم يحكم عليهما بعلمه لمّا جحدا أن يكونا رضيا، ولأنه صلى الله عليه وسلم امتنع من قتل المنافقين مع علمه بكفرهم، وقال: «لئلا يتحدث الناس أن محمّدًا يقتل أصحابه»، وإنما لم يقتلهم لأن الناس لم يعلموا كفرهم كما علمه، ولأن الحاكم لما لم يكن معصومًا، وقد يلحقه الظنة والتهمة، ويمكن وقوع ذلك منهم، فحسم الباب في منع حكمه بعلمه لئلا يدعى عليه أنه حكم على عدوه. ونفرض الكلام في الحدود، ودليلنا قوله تعالى: "والذين يرمون

المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة"، فأمر بجلد القاذف متى لم يقم البينة، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث هلال بن أمية لمّا لاعن امرأته: «إن جاءت به على نعت كذا فهو لهلال، وإن جاءت به على نعت كذا فهو لشريك»، فجاءت به على النعت المكروه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لو كنت راجماً أحدًا بغير بينة لرجمتها» موضع الدليل: أنه صلى الله عليه وسلم علم أنّها زنت، لإخباره أنها إن جاءت به على نعت كذا فهو من غير زوجها، ثم لم يحكم بالحدّ لعدم البينة، وعند المخالف يجب أن يرجمها إذا علم بذلك، وقال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه: لو رأيت رجلاً على حدّ من حدود الله عز وجل ما أقمته عليه حتى يشهد على ذلك أربعة، ولا مخالف له نعلمه، وإن سلّموا ذلك قسنا عليه سائر الحقوق، فقلنا: إنّه لا يحكم بعلمه فلم يجز، أصله الحدود، واعتبارًا بما علمه قبل الولاية، وفي غير مجلس الحكم.

[1943] مسألة: إذا حكم الحاكم بما هو في الباطن على خلاف ما حكم به لم ينفذ حكمه في الباطن ولم يتغير الشيء المحكوم فيه عمّا هو عليه بحكمه، كان ذلك في مال أو نكاح أو طلاق مما يملك الحاكم ابتداءه، وممّا لا يملكه، وقال أبو حنيفة: إن كان المحكوم فيه مالاً لم يتغير الحكم في الباطن، وإنما ينفذ في الظاهر، وإن كان عقدًا أو فسخًا فإن الحكم ينفذ فيه ظاهرًا وباطناً؛ فدليلنا قوله تعالى: "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، فحرَّم المحصنة، وهي ذات الزوج، وعند المخالف أنها تحل متى حكم الحاكم بشهادة زور أنها قد طلّقت، أو بأن يقيم شهادة زور بتزويجه إياها، وقوله: "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره، فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا"، وعندهم أنها تحل له [أن] يراجع نكاحها وإن لم يطلّقها إذا حكم الحاكم بشاهدي زور أنه طلّقها، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه، فإنّما أقطع له قطعة من النار»، وهذا صريحٌ في أن حكمه بما ليس بجائز للمحكوم له لا يحلّه له، ولأنه حكم بسبب غير صحيح في الباطن، فلم ينفذ الحكم به في الباطن كادعاء زوجية ذات المحارم، ولأنه حكم بشهادة زور فلم ينفذ في الباطن كالمال، ولأن كل شاهدين لو علم الحاكم بحالهما لم يجز له الحكم بشهادتهما، فإذا حكم بهما مع الجهل بحالهما لم ينفذ حكمه في الباطن كالكافرين والعبدين. [1944] مسألة: الإشهاد في عقد البيع مستحب وليس بواجب، خلافاً لداود؛ لأنه عقد من العقود فأشبه سائرها، ولأنه وثيقة كالرهن والكفالة.

[1945] مسألة: تقبل شهادة الصبيان في الجراح في الجملة على شروط وأوصاف، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تقبل على وجه؛ فدليلنا أن ذلك إجماع الصحابة، لأنه مروي عن علي، وابن الزبير، ومعاوية، ولا مخالف لهم، وروي أن عليًا عليه السلام كان يأخذ بأول شهادة الصبيان، وروي عن ابن الزبير مثله، وعن معاوية وأنه كان يجيزها بعضهم على بعض ما لم يدخلوا البيوت فيعلموا، ولأن الضرورة تدعو إلى قبولها لأنا لو لم نقبلها لأدى إلى أمور ممنوعة، إما أن نمنعهم ما ندبنا إلى تعليمهم إياه وتدريبهم عليه من الحرب والصراع، وما جرى مجرى ذلك، لأنّهم لا بد أن يخلوا بأنفسهم لما يتعاطونه من ذلك، وقد يكون بينهم الجراح، وذلك غير صحيح، لأن أحدًا لا يمنعه؛ أو أن يجيزه فتنهدر دماؤهم، فذلك أيضاً غير صحيح، وأن يحضر معهم رجال يحفظونهم، وفي ذلك ضيق ومشقة، وأن يؤخذوا بأن يفعلوا من ذلك ما لا يؤدي إلى جراح ولا قتل فذلك ما لا ينضبط للبالغين فضلاً عن الصبيان، فلما بطل كل هذا وجب قبول شهادتهم، ولا يلزم على هذا تخريق الثياب ولا غيره، لأن الأموال أخفض رتبة من الدماء، كما لم يحكم فيها بالقسامة مع اللّوث، ولأنه إذا تفرقوا خببوا، لأنا عللنا للجملة دون التفصيل. [1946] مسألة: يحكم بالشاهد واليمين في الأموال أو حقوقها، خلافاً لأبي حنيفة في منعه ذلك جملة؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين

مع الشاهد، ولأن كل حجة يسقط بها المدّعى عليه عن نفسه المطالبة جاز أن يكون في جنبة المدَّعي أصله البينة، ولأن موضوع الأصول أن اليمين يكون في جنبة أقوى المتداعيين سبباً، والمدّعي قد قوَّى سببه بالشاهد فكانت اليمين في جنبته، ولأنه أحد المتداعيين فجاز أن يثبت اليمين في جنبته كالمدعى عليه. [1947] مسألة: تقبل شهادة امرأتين مع اليمين، خلافاً للشافعي؛ لأنهما قد أقيما في الشرع مقام شهادة رجل في الأموال لقوله تعالى: "فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان"، فإذا جاز أن يحكم بشهادة الرجل مع اليمين جاز أن يحكم بشهادة المرأتين مع اليمين، ولأنهما أجريتا في مجرى شهادة المال كالشاهد الواحد، ولأنه سبب مؤثر في الحكم قويت به حجة المدّعي، فجاز أن يحلف معه، أصله الشاهد الواحد. [1948] مسألة: يحكم بالشاهد ونكول المدعى عليه، خلافًا للشافعي؛ لأن النكول سبب مؤثر في الحكم، فوجب إذا انضاف إلى الشاهد الواحد أن يحكم به، أصله يمين المدّعي، ويبين تأثيره في الحكم أنّه إذا نكل المدّعى عليه انقلبت اليمين إلى جنبة المدّعي فحلف، ولأن نكوله كشهادة المدَّعي، ولأن الشاهد أقوى من يمين المدّعي بدليل أنه إنّما يحتاج إلى اليمين عند عدم الشاهد، وأن اليمين مختلف في دخولها في بينة المدّعي، والشاهد مجمع على دخوله في البينة، وأنه مجمع عليه في كل

الحقوق، وأن اليمين مضافة إليه، وهو غير مضاف إليها، فإذا ثبت تأكده على اليمين، ثم كان النكول إذا اجتمع مع أضعف الشيئين يحكم به، إذا انضاف إلى الأقوى والآكد أولى. [1949] مسألة: لا يحكم بمجرد النكول إلا بأن ترد اليمين على المدّعي فيما يرد، فإذا حلف حكم له على المدعى عليه، وقال أبو حنيفة: إذا نكل المدّعى عليه عن اليمين كررت عليه ثلاثاً، فإن حلف وإلا حكم عليه بنفس نكوله، ولا ترد اليمين على المدعي، هذا إذا كانت الدعوى في المال، فإن كانت في قتل العمد وجراحه فقال أبو حنيفة: يحبس حتى يحلف أو يعترف، وقال أبو يوسف: يحكم عليه بالدية. فدليلنا على أنّه لا يحكم عليه بمجرد النكول أنه يكون عن يمين توجهت على مدعى عليه كالدعوى في دم العمد، ولأنه نكول لا يحكم به في دم العمد، فكذلك في غيره، كالأول والثاني، ولأن إمساك المدعى عليه عن الاعتراف يتضمّن النكول، ثم لا يحكم عليه به، فإمساكه عن اليمين وحدها أولى. ودليلنا على وجوب رد اليمين مع النكول قوله صلى الله عليه وسلم في القسامة: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم»، قالوا: لم نحضر، قال: «فتبريكم يهود بخمسين يمينًا»، ولأن ذلك مروي عن عمر، وعثمان، وعلي،

وأبي رضوان الله عليهم، ولا مخالف لهم، ولأن الأصول موضوعة على أنّه لا يحكم بسبب واحد مع الإنكار كالشاهد الواحد، وإذا ثبت ذلك فليس إلا يمين المدعي، ولأنّ اليمين في الأصول تتوجه على أقوى المتداعيين سبباً، وفي هذا الموضع أقواهما سبباً المدّعي، لأنّه قوي سببه بنكول المدّعى [عليه]، فوجب اليمين من جهته. [1950] مسألة: إذا أقام شاهدًا، ولم يحلف معه، وردَّ اليمين على المذعى عليه، ثم رام أن يحلف مع شاهده قبل أن يحلف المدّعى عليه، لم يكن له ذلك، ويحلف المدعى عليه ويبرأ، ولأصحاب الشافعي وجهان: أحدهما أن له أن يحلف. فدليلنا أن النكول قد حصل منه فلم يكن له أن يحلف بعده، أصله إذا شرع المدّعى عليه في اليمين، ولأنه إذا نقل اليمين إلى جنبة المدّعى عليه فقد تعلّق بذلك حق له فليس له أن ينقله عنه بغير رضاه، كما لو نكل المدّعى عليه. [1951] مسألة: كل دعوى لا يقبل فيها شاهد وامرأتان، ولا شاهد ويمين، ولا يقبل فيها إلا شاهدان، فلا يجب اليمين فيها على المدعى عليه بمجرد الدعوى، وذلك مثل دعوى النكاح والطلاق والرجعة والقتل العمد، وما أشبه ذلك، وقال الشافعي: في كل هذا يلزم المدّعى عليه اليمين، فإن نكل رد على المدعي وحكم له إن حلف. فدليلنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ادعت المرأة أن زوجها طلّقها لم يحلف بدعواها إلا أن تأتي بشاهد، فإن كان معها شاهد حلف»، وهذا نص. ولأن في ذلك ذريعة إلى

الإضرار بالأزواج وامتهان أنسابهن، فوجب حسم الباب فيه بمنع ذلك. [1952] فصل: إذا ثبت ما قلناه فلا ترد اليمين إلا فيما يقبل فيه شاهد وامرأتان، أو شاهد ويمين، فأما ما لا يقبل فيه إلا شاهدان فلا ترد، خلافًا للشافعي في قوله: إنها ترد في ذلك كلّه؛ لأنّا وجدنا الشاهد وامرأتين أقوى من النكول واليمين، لأن النكول حجة من غير جنبة المدّعي، ولأنه لا يحتاج إليها مع المرأتين، فإذا ثبت ذلك ثم كان الطلاق والنكاح لا يحكم فيه بالشاهد والمرأتين كان بأن لا يحكم فيه باليمين والنكول أولى. [1953] مسألة: إذا كانت له بينة حاضرة، وكان عالماً بها قادراً على إقامتها فعدل إلى يمين المدعى عليه، ثم أراد إقامتها من بعد ففيه روايتان: إحداهما: أن له ذلك، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، والأخرى: ليس له ذلك. فوجه قوله: إن له ذلك، أنها حال لو أقر فيها المدعى عليه لثبت الحق عليه، فإذا أقام المدعي فيها البينة وجب قبولها، أصله قبل أن يحلف، ولأن حق المدّعي يثبت بالبينة تارة، وبالاعتراف أخرى، وقد ثبت أنّه لا فرق بين أن يعترف قبل أن يحلف وبعده في ثبوت الحق، فكذلك في إقامة البينة، لا فرق بين قبل اليمين أو بعدها، ولأن حق المدعي لا يسقط باليمين، وإنّما الدعوى تنقطع بها، وإذا لم تسقط باليمين صحّ إثباته بالبينة، ولأنها بينة لو أراد إقامتها قبل اليمين لكان له ذلك، فوجب أن لا يقطعها اليمين، كما لو كانت غالبة أو لا يعلمها. ووجه قوله: إنه ليس له ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «شاهداك أو يمينه» فجعل

له أحدهما، فوجب إذا استوفى أحدهما أن لا يكون له الأخرى، ولأنه لو قال للحاكم: أريد أن تجمع لي بين الأمرين، بين يمينه وبينتي لم يكن له ذلك، فدلَّ على ما قلناه، ولأنه إذا كانت له بينة وهو قادر على إقامتها فذلك ترك لها ورضا منه بيمينه، وقد علم أنّها تسقط مطالبته فلم يكن له الرجوع فيما رضي به. [1954] مسألة: تقبل شهادة النساء على الانفراد في الرضاع، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنّه ممّا لا يطلع عليه الرجال في الغالب ولا يحضرونه كالولادة والاستهلال، ولأنها شهادة على عورة لشهادة النساء مدخل فيها، فجاز أن يقبلن فيها منفردات كالولادة. [1955] مسألة: لا يقبلن على الانفراد ولا مع غيرهن في حقوق الأبدان مما يطلع عليه الرجال في غالب الحال، كالنكاح والطلاق والعتاق وغير ذلك، وقال أبو حنيفة: يقبلن في كل ذلك إلا فيما أوجب قتلاً أو حدًّا؛ فدليلنا أنّه من حقوق الأبدان ليس بمال ولا مقصود به المال كالقتل والزنا، ولأن كل ما ليس بمال ولا يقصد به المال فلا يقبلن فيه منفردات لم يقبلن مع غيرهن كالقصاص والحدود. [1956] مسألة: إذا قبلن منفردات أجزأ من عددهن امرأتان، وقال الشافعي: لا يجزىء أقل من أربع نسوة، وقال أبو حنيفة: إن كانت الشهادة فيما بين السرة والركبة قبل فيه امرأة واحدة، وقال قوم: لا يقبل أقل من ثلاث نسوة؛ فدليلنا أنه لا يعتبر فيه ثلاث نسوة أنه حق مشهود فيه فلم يقف على ثلاثة أشخاص من جنس كسائر الحقوق، ولأنّ النساء جنس له مدخل في الشهادة، فوجب أن لا يقف ما يشهدن فيه على ثلاثة أشخاص منه، كالرجال. ودليلنا على أنه لا يحتاج إلى أربع، أن كل جنس قبلت شهادته في شيء على الانفراد كفى فيه شخصان كالرجال، ولأن شهادة النساء تكون على أحد وجهين: إما أصلاً، وإما بدلاً يقمن مقام غيرهن؛ فإن كن في هذا الموضع أصلاً كفى منهن اثنان كالرجال، ولا يجوز أن يكن بدلاً، لأنّ

قبولهن على الانفراد يوجب أن يكون لهن حكم أنفسهن كالرِّجال. ودليلنا على أبي حنيفة أنها شهادة في حق فلم يثبت لشخص كالحقوق كلّها، ولأنه لا يثبت ولادة بشهادة فلم يثبت بامرأة واحدة، كولادة المطلقة ولأن شهادة الرجال أقوى وآكد، ثم لا يقبل عنهم واحد فالأضعف أولى. [1957] مسألة: إذا تاب القاذف قبلت شهادته، تاب قبل الجلد أو بعده، وقال أبو حنيفة: إن تاب بعد الجلد لم تقبل شهادته؛ فدليلنا قوله تعالى:"والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء" إلى قوله: "إلا الذين تابوا"، والاستثناء إذا تعقب جملاً يصلح أن يكون عائدًا إلى كل واحد منها على الانفراد، فإنه يعود إلى جميعها، ونحن ندل على ذلك فيما بعد، ولأن كل من ردت شهادته بمعنى فسق به، جاز قبولها فيما بعد كالزاني والسارق، ولأنّه محدود في قذف فوجب أن تقبل شهادته إذا تاب كالكافر إذا أسلم، ولأن إقامة الحد استيفاء حق فلم يتعلّق به رد الشهادة كالقصاص. [1958] مسألة - فصل: ودليلنا على الاستثناء إذا تعقب جملاً يصلح عوده إلى كل واحد منها فإنه يعود إلى جميعها، خلافاً لأصحاب أبي حنيفة في قولهم: إنّه يعود إلى ما يليه فقط؛ هو أن لواحق الكلام المؤثر فيه يجب تعليقها فيه ما أمكن، ولم يمنع مانع منه، وقد ثبت أن هذا الاستثناء يصحّ أن يعود إلى كل واحد مما ذكر قبله، وليس في اللّفظ ما يقتضي [عوده] على ما يليه، فيجب عوده إلى جميعه، ولأن الشرط والاستثناء بمشيئة الله تعالى من حقهما أن يتعلّقا بجميع ما تقدمهما لكونهما من اللّواحق المؤثرة فيه فكذلك الاستثناء، ولأن هذه الجمل إذا جمع بينها

بحرف الواو صارت في حكم الجملة الواحدة، لأن الواو للجمع والاشتراك، وإذا صارت كذلك وجب في الاستثناء المتعقب لها أن يرجع إلى جميعها كرجوعه إليها لو كانت بلفظ واحد. [1959] مسألة: لا تقبل شهادة العبد، خلافاً لداود؛ لقوله تعالى: "وأشهدوا ذوي عدل منكم"، وهذه الإضافة تفيد الحرية دون الإسلام، لأن غير المسلم ليس بعدل، ولأنه نوع ينقص بمنع الميراث بينه وبين الأحرار، فوجب أن يمنع قبول الشهادات كالكفر، ولأنّ الشهادة مبنية على التفاضل والكمال، فلم يكن للعبد مدخل فيه كالرجم. [1960] مسألة: شهادة الأعمى تقبل فيما طريقه الصوت، سواء تحملها أعمى أو بصيرًا ثم عمي، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأن الصوت طريق لمعرفة الأشخاص والتمييز بين الأعيان شرعًا وعادة، أما الشرع فرواية الصحابة والتابعين عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنهم سمعوا منهن من وراء حجاب، وإنّما كانوا يميزون بين أسمائهن بالصوت، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، فإنه يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم»، وقد علم أنهم لم يكونوا يفرِّقون بينهما إلا بالصوت، ولأن الإقدام على الفروج أغلظ من الشهادة عليه بالحقوق، وللأعمى أن يطأ زوجته مع العلم بأنّه لا يفرق بينها وبين غيرها إلا بالصوت، فكل هذا يدل على أن الصوت طريق للتمييز بين الأشخاص، ولأن العادة أن الأعمى إذا تكرر عليه سماع صوت زوجته وولده وصديقه وطال اجتماعه معهم وكثر إلفه وطروق صوتهم لسمعه، ومع العلم له بعينه وانتفاء اللّبس عنه بغيره، وميز بين شخصه بسماع كلامه وبين من سواه، وصار ذلك طريقًا مستمرا وإلفاً معتادًا لا يتخلله شك فيه، ولا ريب، ولا معتبر بأنّه قد يخفى عليه

بعض الأوقات وتتشابه به النغم والأصوات، لأنّ ذلك يزول مع إحكام التأمل ومع قوة العادة واستمرارها، كالبصير الذي إذا رأى الشخص الذي قد طالت غيبته عنه وبعد عهده به فإنه يشتبه عليه في أولى لقائه، فإذا أنعم ذلك وأدام التأمل زال اللّبس عنه، وإذا صحّ أنّ الصوت طريق يميز به بين الأشخاص صحّ أنّ العلم به واقع للأعمى، وجازت شهادته معه. [1961] مسألة: تقبل شهادة الأخرس إذا فهمت إشارته، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأنّ الشهادة علم يؤديه الشاهد إلى الحاكم، فإذا فهم منه بطريق يفهم من مثله قبلت، كالناطق إذا أداها بالصوت، ولأنه معنى يحتاج إلى النطق فيقع الفهم، فإذا تعذر النطق جاز أن تقوم الإشارة مقامه إذا وقع الفهم بها، أصله الإقرار والطلاق. [1962] مسألة: لا تقبل شهادة كافر على وجه، وقال أبو حنيفة: تقبل شهادة أهل الذمة على سائر ملل الكفر إذا كانوا عدولاً في دينهم؛ ودليلنا أن كل من لم تقبل شهادته على المسلمين لم تقبل على غيرهم كالفاسق المسلم، ولأنها شهادة من فاسق كالشهادة على المسلم، ولأنه قد ساوى المسلم الفاسق في الفسوق وزاد عليه بالكفر، ولأنه نقص مؤثر في الشهادة كالرق. [1963] مسألة: لا تجوز شهادة الوالدين للمولودين، ولا المولودين لآبائهم الذكور والإناث، بعدوا أم قربوا، من الطرفين، وذهب داود وغيره إلى جوازها؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين»، فعم، ولأنه معلوم من طباع الناس أن الأب يحب نفع ابنه وإيصال النفع ودفع الضرر عنه، ويؤثر ذلك على نفسه حتى إنه ربما دعاه أن يشهد له بالزور ويركب في أمره كل محضور فيوصله إلى النفع الذي يبغي وصوله إليه، أو يخلّصه من الضرر الذي يريد دفعه عنه، وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله

تعالى: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة"، وقال صلى الله عليه وسلم: «فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها»، وإذا ثبت ذلك ثبتت التهمة فيه، فكانت كشهادته لنفسه. [1964] مسألة: لا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر، خلافاً للشافعي؛ لقوله: «لا تقبلى شهادة خصم ولا ظنين»، والظنين المتهم، وذلك موجود في الزوجين في غالب الطباع، بدليل الشرع والعادة، أما الشرع فقوله تعالى: "خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة"، وأخبر عز وجل أن سبب الزوجية لسكون نفس كل واحد من الزوجين إلى الآخر، وأنه طبعهم على التحاب والتوادد والحن والرأفة، ومثله قوله تعالى: "إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فأحذروهم"، فجعل هذين الجنسين غاية ومثلاً في المحبة والعطف التي لا زيادة فوقها يستطرق وقوع العداوة من مثلها، وذلك يدل على قوة التهمة وتأكدها؛ وأما العادة فالعلم المتصور في النفوس بأن الإنسان يحب نفع زوجته ويهوى هواها ويكره ضررها، حتى إنه يُغضب لها أهله وأقاربه، وينتفع بما لها وينبسط فيه، ويتحمّل به وإذا صح ذلك؛ كانت هذه التهمة مانعة من قبول شهادة أحدهما للآخر كالأب والابن، وتحريره قياساً أن يقال لأنّها شهادة تقوى التهمة فيها وأسبابها من الشاهد والمشهود له فكانت مردودة، أصله شهادة الأب لابنه، ولأنها شهادة يجريها الشاهد نفعاً إلى نفسه فلم تقبل كشهادته لغريمه ولنفسه معه. [1965] مسألة: تقبل شهادة الأخ لأخيه إلا فيما يتهم له فيه، من

دفع عار أو ما أشبه ذلك، خلافاً لمن منعها؛ لأنه ليس بين الأخوين من الحقوق من قوة التهمة ما يقتضي رد الشهادة، فجازت شهادته كالعم، ولأنها رحم لا يستحق بها الإرث مع الأب كالعم. [1966] مسألة: لا تقبل شهادة الصديق الملاطف لصديقه إذا كان في بره وصلته، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين»، ولأن التهمة بينهما متقررة في العادة، لأنه معلوم أن الإنسان إذا كانت بينه وبين إنسان صداقة ومودة يبره ويصله فإنه يحب جر النفع إليه ودفع الضرر عنه قياساً فنقول لأنها تهمة في العادة غالبة متقررة بالطباع في محبة النفع ودفع الضرر كشهادة الأب والابن، ولأن التهمة بالصداقة على الوصف الذي ذكرناه في مقابلة التهمة بالعداوة، فلمّا كانت العداوة مؤثرة في منع الشهادة فكذلك الصداقة، هذا على الشافعي. [1967] مسألة: لا تقبل شهادة عدو على عدوه، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين»، وروي: «ولا ذي غمر على أخيه»، ويروى: «لا تقبل شهادة ذي الظنة ولا الإحنة»، ولأن التهمة بينهما غالباً في الطباع، فكانت مؤثرة في رد الشهادة كالتهمة بين الأب والابن.

[1968] مسألة: لا تقبل شهادة البدوي على القروي في الحقوق التي يمكن التوثق فيها بإشهاد الحاضر، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله: «لا تقبل شهادة بدوي على قروي»، وروي: «على صاحب قرية»، لأن التهمة تقوى في هذه الشهادة، لأن الناس لا يتركون التوثق بإشهاد جيرانهم وأهل بلادهم ويشهدون الأباعد وأهل البلد إلا لريبة يعلمون معها أن الشهود من أهل الحضر لا يشهدون في ذلك الشيء فيعدلون إلى من لا يعرفه. [1969] مسألة: لا تقبل شهادة ولد الزنا في الزنا وشبهه، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا ظنين»، والظنة ها هنا موجودة لأنه يحبُّ! أن يكون غيره مشاركاً له في المعرة لئلا ينفرد بها، هذه قضية العادة، وما جبلت عليه الطباع أن كل من حصل في معرة لازمة أحبَّ أن يكون غيره مثله، ويود أنه لا يبقى أحد إلا صار في مثل حاله، وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: "ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون"، فمفهومه: أن ما يعتقدونه من الاشتراك في البلية يتم [به] السلوى لا يحصل لكم في العذاب، وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: ودت الزانية أن النساء زنين، فأخبر أن التهمة بذلك غالبة في الطباع فصحّ ما قلناه. [1970] مسألة: إذا شهد العبد بشهادة حال رقه، أو الكافر قبل إسلامه، والصبي قبل بلوغه، فردت، ثم أداها بعد زوال الموانع لم تقبل،

خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله: «ولا ظنين» وهؤلاء متهمون أن يحبوا تنفيذ شهاداتهم التي ردت، ولأنه موصوف بنقص يؤثر في منع الشهادة كالفاسق إذا أعاد شهادته بعد التوبة. [1971] مسألة: الشهادة على الشهادة تقبل في الجملة، خلافاً لداود؛ لقوله تعالى: "وأشهدوا ذوي عدل منكم"، وقوله: "فاستشهدوا شهيدين من رجالكم"، فعم كل أمر يصحّ الإشهاد عليه، وروي عن علي عليه السلام أنه أجاز الشهادة على الشهادة (4،) ولم يخالفه أحد، ولأنه نقلٌ طريقته الأمانة كالشهادة على الإقرار. [1972] مسألة: تجوز الشهادة على الشهادة في كل الأحكام من حقوق الله عز وجل، وحقوق الآدميين، والقصاص، والحدود، خلافاً لأبي حنيفة ولأحد قولي الشافعي؛ لأن كل حكم جاز أن يثبت بالشهادة جاز أن يثبت بالشهادة على الشهادة، أصله الأموال كالنكاح والطلاق. [1973] مسألة: إذا زكى شهود الفرع شهود الأصل ولم يسمّوهم للقاضي فإنّه لا تقبل الشهادة على شهادتهم، خلافاً لمن قال: تقبل؛ لأنّهم إذا لم يسمّوهم أمكن أن يكونوا فسقة عند القاضي، أو ممن لا تجوز شهادتهم في ذلك الشيء كالعدو والصديق، ولأن القاضي لا يقبل إلا شهادة من يمكن الخصم من جرحهم، وذلك لا يمكن إلا مع التسمية، ولهذا ما وجب عندنا أن تسمّى الشهود في السجلات. [1974] مسألة: إذا شهد اثنان على كل واحد من شاهدي الأصل،

جازت شهادتهما، وقال عبد الملك: لا يقبل على شهادة كل واحد إلا اثنان آخران، وهو أحد قولي الشافعي؛ فدليلنا أنه نقل قول اثنين إلى الحاكم بشهادة شاهدين فيما يثبت بشهادة شاهدين فجاز ذلك، أصله إذا شهد عند الحاكم اثنان على إقرار اثنين بدين، ولأن كل واحد من شهود الأصل قد شهد على شهادته اثنان، فأشبه إذا كانا آخرين. [1975] مسألة: إذا رجع الشهود قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم، وقال أبو ثور وداود: يحكم بها ولا يؤثر رجوعهم شيئاً؛ فدليلنا أن قبول الشهادة مشروط بغلبة ظن الحاكم على صدقهم، ورجوعهم يزيل هذا المعنى، ولأنهم إذا رجعوا بطل الأول، وصار الحكم للثاني الذي رجعوا إليه، لأن ذلك هو الموجود وقت الحكم، كالحاكم إذا اجتهد في شيء فأداه اجتهاده إلى أمر ما ثم بأن له فساده قبل الحكم فإنه يرجع عنه، ويحكم بما أداه إليه اجتهاده في الثاني. [1976] مسألة: إذا رجعوا بعد أن حكم بشهادتهم فلا ينقض الحكم، خلافاً لمن قال: ينقض؛ لأنه يحتمل أن يكونوا صادقين في ذلك الوقت، ويحتمل كذبهم، فاستوى الحالان، للأول مزية وهو الحكم به فلم يجز نقضه. [1977] مسألة: إذا شهدوا بقتل واحد ثم رجعوا بعد أن استوفى ذلك، وقالوا: تعمّدنا الكذب، ففيها روايتان؛ إحداهما: أنهم يقتلون، وهو قول الشافعي؛ والأخرى: لا يقتلون وتلزمهم الدّية، وهو قول أبي حنيفة. فوجه القول الأول بأنهم يقتلون، ما روي أن علياً عليه السّلام جاءه شاهدان فقالا له: نشهد أن هذا سرق، فقطعه، ثم جاءا بآخر فقالا: غلطنا، إنما هو ذا، فردَّ قولهما الثاني؛ وقال: لو أعلمكما تعمَّدتما قطعه

لقطعتكما، ولم نحفظ عن أحد خلافاً عليه، ولأنهما ألجآ الحاكم إلى القتل والقطع، فلزمهما القود، كالمكره لغيره. ووجه نفيه أن السبب والمباشرة إذا اجتمعا سقط حكم السبب، وشهادة الشهود سبب وليست بمباشرة، ولأنّ الشهادة لا يتعلّق بها حكم ما لم ينضم إليها حكم الحاكم، فصار وجوب القصاص موقوفاً على حكم الحاكم من غير فعلهما. [1978] مسألة: إذا شهدا على رجل أنه طلّق بعد الدّخول، وحكم الحاكم بالفرقة، ثم رجعا، لم يغرما من المهر شيئاً، وقال الشافعي: يغرمان مهر المثل؛ فدليلنا أن المهر كان مستحقاً على الزوج بالدخول فلم يتلفا عليه شيئاً بشهادتهما، وإنما أخرجا عنه الاستمتاع، وخروج البضع عن ملك الزوج لا قيمة له، بدليل أن المطلق في المرض لا سبيل لورثته عليها، ولو كان لخروج البضع من يد الزوج قيمة لضمنته للورثة، ألا ترى أن خروج الرق من ملك الزوج لما كان له قيمة كان من أعتق عبده حال مرضه لزمه أن يخدم ويسعى لأجل الورثة التي ترث السيد واعتبر من الثلث، واعتباراً بمن له زوجتان كبرى وصغرى فأرضعت الكبرى الصغرى فإنهما يحرمان عليه، ثم لا يرجع على الكبيرة بشيء من مهرها، لأنها كانت مستحقة له بالدخول كذلك ها هنا. [1979] مسألة: إذا شهدا بالنكاح أو بالطلاق قبل الدخول ثم رجعا غرما نصف المهر، خلافاً للشافعي في قوله: يغرمان الجميع؛ لأنهما لم يتلفا عليه الجميع، لأنّه إنما يستحق عليه قبل الدخول إذا طلّق النصف، فلا يلزمهما غرم ما لم يتلفاه. [1980] مسألة: إذا رجعا عن الشهادة بمال بعد الحكم غرما

للمشهود عليه، خلافاً للشافعي؛ لأنهما أتلفاه عليه بشهادتهما ما له قيمة فلذلك غرماه. [1981] مسألة: إذا حكم بشهادة من ظاهره العدالة، ثم بان له بعد الحكم فسقهم ببينة لم ينقض الحكم، خلافاً للشافعي؛ لأنّ العدالة والفسق طريقهما الاجتهاد، وإن انعقد الحكم باجتهاد لم ينقض باجتهاد مثله، وذلك بخلاف الحكم بشهادة العبيد والكفار، لأن ذلك لا اجتهاد فيه، لأنّه أمر ظاهر فالحكم مع ذلك تقصير في اختبار حال الشهود. [1982] مسألة: إذا ادعت امرأة لقيطاً قُبِلَ قولها على إحدى الروايتين؛ خلافأ لأبي حنيفة في قوله: إنها لا تقبل؛ ودليلنا على أن إقرارها يقبل [أنه] من قبل الإقرار بالولد، فوجب أن يقبل إقرارها بالولد أصله الرجل، وأيضا نقول [لما كان] أحد الوالدين يقبل إقراره في جميع الأموال، قبل إقراره في النسب. ولأن ولادة الأم حقيقة، ومن جهة الأب مظنونة، ثم ثبت وتقرر أن بإقرار الأب يثبت نسبه فبإقرار الأم أولى أن يثبت. [1983] مسألة: ثغلَّظ الأيمان بالمكان والزمان، وقال أبو حنيفة: لا تغلّظ بالمكان؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف عند منبري هذا على يمين كاذبة فليتبوأ مقعده من النار»، قيل: وإن كان شيئًا يسيرا؟ قال: «ولو كان على سواك من أراك».

[1984] مسألة: تغلّظ على ربع دينار فما زاد، وقال الشافعي: لا تغلّظ إلا في مائتي درهم أو عشرين دينارًا فما زاد، وقال قوم في القليل والكثير؛ فدليلنا أنّه لا تغلظ في القليل ما روي أن عبد الرحمن بن عوف رأى رجلاً يحلف عند المنبر، فقال: أعلى دم؟ فقالوا: لا، فقال: أعلى عظيم من المال؟ قالوا: لا، قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المكان، فلم ينكر عليه أحد. ودليلنا على أنه تغلّظ في ربع دينار أنه مال يثبت له حرمة في الشرع بدليل أنه يقطع فيه اليد، وأقل ما يستباح به البضع، كالنصاب في الزكاة. [1985] مسألة - فصل: و [لا] تغلَّظ بالألفاظ، خلافاً للشافعي في قوله: تغلّظ بزيادة الصفات؛ لأن هذه الصفات لا غاية لألفاظها ولا حصر، ولأنّ ما ذكروه ليس بأولى من غيره. [1986] فصل: ولا يزاد على اليهودي أن يقال: الذي أنزل التوراة على موسى، وعلى النصراني: الذي أنزل الإنجيل على عيسى، خلافاً للشافعي؛ لأن ذلك مبني على أنه لا يغلظ بالصفات على المسلم، فنقول: إنها يمين وجبت في حق فلم يزد فيها على لفظ الإخلاص كيمين المسلم،

ولأنّ كل صفة لم تلزم المسلم لم يغلّظ بها على الكافر كسائر الصفات. [1987] مسألة: إذا حلف على فعل نفسه حلف على البت والقطع في النفي والإثبات، وإن حلف على فعل غيره ففي النفي على العلم، وفي الإثبات على القطع، وحكي عن الشعبي والنخعي: أنّه يحلف على البت في كل الأيمان، وعن ابن أبي ليلى: يحلف على العلم في الكل؛ ودليلنا أن الإنسان يمكنه معرفة فعل نفسه فلم يحلف إلا على ما يعلمه ويتحققه، فكلف اليمين على البت، فإذا كانت اليمين على فعل غيره يمكنه في الإثبات القطع ولا يمكنه في النفي فلم يكلف إلا ما يمكنه. [1988] مسألة: إذا رأى إنساناً يتصرف في داره مدة يسيرة ويده عليها جاز له أن يشهد باليد ولم يجز له أن يشهد بالملك، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن الشهادة بالملك هي شهادة باليد مع طول التصرف دون يسيره، ولأن اليد تكون بملك وبغير ملك، ولأنها لو كانت ملكاً في الحقيقة لم يجز سماع الدعوى بعد الإقرار. [1989] مسألة: إذا مات رجل وترك ابنين، وأقر أحدهما أن عليه ألفي درهم ديناً، وأنكر الآخر، لزم المقر نصف الدين وهو ألف، وقال أبو حنيفة: يلزمه جميع الألفين؛ فدليلنا أن إقرار الابن يتضمن ثبوت الألفين على أبيه، وتعلق ذلك بكل التركة، بدليل أن البينة لو قامت بذلك لقضي الدين من جميع التركة، فإذا كان هذا يتضمّن إقراره لم يلزمه إلا بقدر ما حصل له من التركة وهو النصف، فصار كما لو أقر أن أباه أوصى بثلثه وأكذبه أخوه فإنّه لا يلزمه إلا ثلث ما في يده. [1990] مسألة: إذا تداعيا شيئاً وهو في يد أحدهما، وأقام كل واحد البينة رجح بالعدالة، فأيهما كانت بينته أعدل حكم له ببينته وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يرجح بالعدالة. ودليلنا أن الترجيح معنى مطلوب في التداعي

والغرض به [أن] يقدم سبب أحد المتداعيين لكون ما يدّعيه أقرب إلى الصدق، ووجدنا العدالة صفة مراعاة في الشهادة موكولة إلى اجتهادنا، وهي في نفسها متزايدة مختلفة، فوجب أن يقع الترجيح بكثرتها، لأنَّ من ثبت له بذلك أقرب إلى أن يكون ما شهد به هو الحق، ولأن الشهادة أقوى من الخبر، لأنه قد نص فيها على العدد ولم يقبل فيها قول العبد أصلاً، ولا المرأة الواحدة بانفرادها، وفي الخبر: لم ينص على عدد ولم يمنع قبول المرأة والعبد فيه، ثم كانت صفة العدالة يقع بها الترجيح في الخبر فكانت بذلك في الشهادة أولى. [1991] فصل: وإذا تساوت البينتان في العدالة حكم بها لصاحب اليد، وقال أبو حنيفة: يحكم بها للخارج إذا كان في حكم مطلق، أو مضاف إلى سبب يتكرر، وحكي عن أحمد وإسحاق أن بينة الخارج أولى على كل حال؛ فدليلنا ما روي أن رجلين تداعيا عند النبي صلى الله عليه وسلم بعيرًا، فجاء هذا ببينة، وهذا ببينة، فقضى به لمن هو في يده، ولأنهما مدعيان تساويا في إقامة البينة وانفراد أحدهما باليد، فوجب أن يقدم ببينته لأجل اليد، أصله الدعوى في الملك المضاف إلى سبب لا يتكرر كالولادة والنتاج، ولأن كل واحد منهما مساو لصاحبه في الدعوى قبل البينة، إلا أن صاحب اليد أقوى وأثبت بثبوت يده على الشيء المدّعى فلمّا انفرد بذلك قوي أمره، فقدم على المدّعي لرجوعه باليد، وهذه كلها بعد البينة، لأنّهما قد تساويا فسقطتا، وصارا كأنّهما لم يكونا، وانفرد صاحب اليد بيده، كما كان قبل البينة. [1992] مسألة: لا يقع الترجيح بزيادة العدد، خلافاً لما يحكى عن

الأوزاعي؛ لأنه معنى مقدّر بالشرع بالنص فلم يكن للاجتهاد مدخل فيه كدية الأحرار. [1993] مسأله: إذا تداعيا دارًا في يد غيرهما، وتعارضت بيناتهما قسمت الدار بينهما بعد أيمانهما على الظاهر الصحيح من المذهب، وللشافعي قول: إنه يقرع بينهما فيحكم لمن خرجت له القرعة؛ فدليلنا ما روى تميم بن طرفة الطائي أن رجلين تنازعا شيئاً، وأقام كل واحد بينته، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين، ولأنهما حجتان تعارضتا، لو انفرد أحد المتداعيين بها لحكم له بالملك، فوجب إذا تعارضتا أن يقسم الشيء بينهما، أصله اليد، ولأنهما قد تساويا في سبب الاستحقاق، والشيء ممّا يصحّ فيه الاشتراك، فوجب القضاء به لهما كالأخوين الشقيقين. [1994] مسألة: إذا تداعى رجلان دارًا في يد غيرهما ممن لا يدّعيها لنفسه، وأقام أحدهما البينة أنها ملك له منذ سنة، والآخر أنها ملكه منذ سنتين، حكم بها لصاحب الملك المتقدم، وللشافعي قول: إنّه يحكم بها لهما بالسوية؛ فدليلنا أن البينة إذا شهدت بالملك منذ سنين فإنا نحكم بالملك منذ ذلك الوقت، بدليل أن النتاج يكون للمشهود له، فإذا كان كذلك فقد تساوت البينتان في الظاهر بالشيء بالشهادة بالملك المتقدّم فكان لها مزية، فوجب تقديمها على البينة التي قامت بالشهادة بالملك المتأخر. [1995] مسألة: إذا اختلف الزوجان في صاع البيت فادعى كل واحد منهما أنّه له، ولا بينة لهما، ولا لأحدهما، نظر فما كان من متاع النساء فهو للمرأة مع يمينها، وما كان من متاع الرجل فهو له مع يمينه، وما كان يصلح لهما فاختلفا فيه، فقال مالك: هو للرجل مع يمينه، وقال المغيرة:

هو بينهما بعد أيمانهما، سواء كان اختلافهما قبل الطلاق، أو بعده، وقال الشافعي: من أقام البينة على شيء فهو له، وإلا كان الجميع بينهما بعد أيمانهما؛ فدليلنا أنّ اليد لما كانت مؤثرة في الملك ودالة عليه، وكان لكل واحد منهما يد في الدّار وجب عند تنازعهما أن يعتبر أظهرهما في الدّعوى ومن يشهد له العرف بقوة دعواه، لقوله تعالى: "وأمر بالعرف"، وقوله في قصة يوسف: "إن كان قميصه قد من قبل" الآية، فجعل قوة دعوى كل واحد منهما معلّقة على ما يشهد الغالب، فكذلك في مسألتنا، والعرف أنّ النساء يتخذن ما يصلح لهن، والرجال يتخذون ما يصلح لهم، فيثبت ما قلناه، ودليلنا [على] أن ما يصلح لهما يكون للرجل، خلافاً للمغيرة، أن جنبته أرجح بكون البيت له، وهي تابعة له فيه، والظاهر فيما يكون في بيت الإنسان أنّه له إلا ما شهد العرف بأن الأغلب كونه للمرأة، ووجه قول المغيرة، أن البيت مضاف إليهما وأيديهما متساوية، فإذا لم يكن الأغلب كون الشيء يصلح لأحدهما، وجب أن يكون بينهما. [1996] مسألة: إذا كان لرجل على إنسان دين فجحد فحصل له عنده وديعة، أو عارية، أو غصب، أو غير ذلك من وجوه الحيازة، من جنس حقه أو من غير جنسه، فأراد أن يأخذ حقه منه، ففيه روايتان: إحداهما: أن له ذلك إن لم يكن عليه دين لغيره، وإن كان عليه دين أخذ بمقدار ما يصيبه من المحاصة، سواء كان من جنس حقه أو من غير جنسه، وهو قول الشافعي، والأخرى: أنه ليس له ذلك بوجه، ولكن يرد ما عنده ثم يطالبه بحقه، وقال أبو حنيفة: إن كان الذي حصل في يده جنس حقه فله أخذه، وإن كان من غير جنسه فليس له أخذه. فدليلنا على الجواز حديث هند أنها قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، أفآخذ منه سرًا؟

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»، ولأنه مال يستحقه عليه، فإذا منعه الغريم كان له أخذه بغير إذنه، أصله إذا دفعه إليه الحاكم. ووجه المنع، قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»، ولأنه [لا] ولاية له على من له الحق، والتصرف في مال الغير لا يملك إلا بولاية. ودليلنا [على] أنه لا فرق بين أن يكون من جنسه، أو من غير جنسه، حديث هند، وهو عام، ولأنه ممتنع من مال يستحقه عليه، فجاز له أخذه ممّا يحصل تحت يده، أصله الجنس، ولأنه مال حصل لغريمه تحت يده وهو ممتنع من أداء ما عليه، فله أخذه من تحت يده من جنسه وغير جنسه، أصله إذا كان له عليه ذهب فحصل له عنده فضة، ولأن كل من له الأخذ إذا وجد من الجنس فكذلك من غيره، أصله الحاكم. [1997] مسألة: ومن ادعى أنه تزوج امرأة تزويجاً صحيحاً سمعت دعواه، ولم يكلف أن يذكر شروط الصحة، لأنها دعوى عقد صحيح فوجب استماعها كما لو ذكر شروط الصحة، لأنها عقد معاوضة فوجب أن تسمع الدّعوى فيه على الصحة بجملة من غير اعتبار ذكر شرائط الصحة، أصله البيع. [1998] مسألة: اذا مات رجل وعليه دين، وله دين فيه شاهد، فللورثة أن يحلفوا مع شاهد ميتهم ويستحقوا المال، ويدفعوا إلى الغرماء حقوقهم، فإن لم يحلفوا حلف الغرماء واستحقوا قدر ديونهم، خلافاً

للشافعي؛ لأن الدين متعلّق بالتركة، فجاز لمستحقه أن يحلف مع شاهد الميت، أصله حق الإرث. [1999] مسألة: إذا وطىء السيدان الأمة في طهر واحد، أو وطىء رجل أمته، ثم باعها قبل أن يستبريها، فوطئها الثاني، فأتت بولد لأكثر من ستة أشهر من وطء الأول والثاني، نظر القافة فبأيهما ألحقاه لحق، وقال أبو حنيفة: الحكم بالقافة باطل، ولا يراعى الشبه، قال: فإذا تنازع الولد رجلان لحق بهما وكان ابناً لهما، وكذلك خمسة رجال وعشرة وأكثر إن أمكن ذلك. فدليلنا على وجوب الحكم بالقافة حديث عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير وجهه، فقال: «ألم تري إلى مجزز المدلجي نظر إلى أسامة وزيد وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض»، موضع الدليل أنَّ المشركين كانوا يطعنون في نسبِ أسامة، لأنه كان، أسود، وكان زيد أبيض، وكان ذلك يشق على النبي صلى الله عليه وسلم، فسرَّ بقول مجزز لكونه قائفاً عارفاً بالأنساب، ولو كان ذلك ظناً وخرصاً لا يتعلق به حكم لم يسر به، ولأنكر على مجزز إخباره، كما ينكر كل ما كان من أمر الجاهلية وأحكامها ليس في شرعه إقراره. ودليلنا في اعتبار الشبه في اضطراب النسب حديث سعد وعبد بن زمعة لما تنازعا ابن الوليدة، فادعى سعد لأخيه، وادعى عبد بن زمعة لأبيه، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الفراش، وهو زمعة، ثم قال لسودة: احتجبي منه، لما رأى من شدة شبهه بعتبة مع ثبوت الأخوة بينهما وبين هذا

الولد، وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة المتلاعنين: «إن جاءت به على نعت كذا فهو لشريك»، فجاءت به على النعت المكروه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن»، وروي عن عمر، وأنس الحكم بالقافة، ولأن حقيقة النسب لا يعلمها إلا الله تعالى، ومن أطلعه عليه، وإنّما يثبت بالاستدلال والفراش من جهة الظاهر، ووجدنا لهذا القوم اختصاصاً بهذا العلم من طريق معرفة الشبه لا يدفع أحد ذلك، فجاز أن يكون لهم مدخل فيه كما جاز أن يكون للتجار مدخل في تقويم المتلفات، ولأهل الحزر مدخل في الخرص في الزكاة وغيرها. [2000] فصل: ودليلنا على أن الولد لا يكون لأكثر من أب واحد قوله تعالى: "وورثه أبواه"، وقوله: "أشكر لي ولوالديك"، وقوله: "ووصينا الإنسان بوالديه حسناً"، ولأن استحالة ذلك في الشرع جارية مجرى الأمين من طريق المشاهدة. [2001] فصل: ولا يحكم بالقافة في ولد الحرة، وذكر الشيخ أبو بكر الأبهري عن أبي يعقوب الرازي أنه وجد لابن وهب عن مالك أنّه يحكم فيه بالقافة، وهو قول الشافعي؛ ودليلنا أنّ في الحرة لا يتساوى الواطئان في الفراش، لأنها لا تكون فراشاً إلا لواحد، فيلحق الولد لصاحب الفراش، وليس كذلك الأمة، لأنه قد يستوي حكم الواطئين فيه من

جهة الملك، لأنّها إذا كانت بين شريكين فإنهما يتساويان في الملك، ومشتريها واحد بعد واحد، فيقع العقد له صحيح، فاحتجنا إلى الترجيح واعتباره من الطريق التي يعتبر منها. [2002] مسألة: المسلم والذمي والحر والعبد في دعوى النسب سواء، وقال أبو حنيفة: المسلم أولى من الكافر، والحر أولى من العبد؛ فدليلنا أنهما اشتركا في ادعاء نسبٍ لو انفرد به كل واحد منهما لحقه فوجب أن يستوي فيهما كالحر بين المسلمين، ولأن الحر والعبد يتساويان في الأسباب التي تلحق بها الأنساب، وهو الوطء بالنكاح الصحيح والفاسد والشبهة، فيتساويان في دعواهم، كما أن المسلم والكافر لمّا تساويا في أسباب ملك المال تساويا في دعواه، كذلك في مسألتنا. ***

كتاب العتق

كتاب العتق [2003] مسألة: إذا كان عبد بين شريكين فأعتق أحدهما نصيبه وهو موسر، لم يعتق حصة شريكه بالسراية، ويقوم عليه وبدفع القيمة إلى الشريك، ثم يعتق، وأظهر أقاويل الشافعي أنه يعتق بالسّراية؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «من أعتق شركاً له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل فأعطى شركاءه حصصهم وأعتق عليه العبد»، فشرط في عتقه أن يقوم عليه وأن يدفع إلى الشريك، ولأن تصرف الإنسان في ملكه لا يسري إلى ملك غيره كالبيع، ولأن التقويم لإزالة الضرر عن الشريك كالشفعة، وقد ثبت أن ملك المشتري لا يزول عن الشقص إلا بعد قبض الثمن، فكذلك في العتق، ولأنه عتق بعوض مفتقر إلى القدرة على العوض، فوجب أن يقف تنجزه على بدله، أصله عتق المكاتب، ولا يلزم عليه إذا قال: إن أديت ألفاً فأنت حز، لأنّ هذا العتق لا يقف على القدرة على العوض. [2004] مسألة: إذا كان المعتق معسرًا لم يكن للشريك استسعاء العبد في قيمة نصيبه منه، وعتق من العبد ما عتق، وقال أبو حنيفة: له ذلك، موسرًا كان المعتق أو معسرًا؛ فدليلنا الحديث الذي رويناه، ولأنّه عتق من غير جهة من كانت منه الجناية فلم يكن واجباً كالكتابة، ولأن العبد

لم يكن منه جناية ولا إتلاف، وكذلك الشريك الذي لم يعتق، وسبب الإتلاف هو المعتق، فإذا لم يلزمه تقويمه فالعبد أولى. [2005] مسألة: للقرعة مدخل في تمييز نصيب الحرية من العتق في مواضع، منها أن يعتق ستة أعبد له لا مال له غيرهم في مرضه فيجزؤون ثلاثة أجزاء ويقرع بينهم، فيعتق اثنان ويرق أربع، وقال أبو حنيمة: لا مدخل لإقراع بين العبيد بحال، ولكن يعتق منهم الثلث من كل عبد ويستسعى في قيمة نفسه، فإذا أداها إلى الورثة عتق؛ فدليلنا حديث عمران بن حصين: أن رجلاً أعتق ستة أعبد له في مرضه، ولا مال له غيرهم، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم، فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق الأربعة، ففيه أدلة: أحدها: أنّه صلى الله عليه وسلم أقرع، وعند المخالف أنّه لا يقرع. والثاني: أنّه أعتق اثنين كاملين، وعندهم أنه قال: لا يعتق رأس كامل. والثالث: أنه نقل الحكم والسبب، ولم ينقل الاستسعاء، فدل على أنّه غير واجب. ولأن المريض ممنوع من جميع ماله، فلم يكن له أن يعتق كل عبيده إذا كان لا يملك غيرهم، فإذا فعل ذلك أعتق منهم الثلث الذي كان يملك التصرف فيه، ورق الباقي، ولم يكن بعضهم بأولى من بعض، إذ لا مزية لبعضهم على بعض، واحتيج إلى تمييز من يعتق من نصيب الورثة فلم يكن إلى ذلك طريق إلا الإقراع، ولأن ما نقوله أولى لأنا نسوي بين العبد وبين الورثة لأنّا نعتق الثلث ونقر الثلثين، وعلى قوله: يكون الحظ كلّه للعبيد، لأنّه يعتق منهم الثلث، ويكون الثلثان في حكم المعتق، لأنه لا

يمكن الورثة التصرف فيها فيتعجل حق العبيد في الثلث ويتأخر حق الورثة في الثلثين إلى أداء القيمة، وذلك ما لا سبيل إليه. [2006] مسألة: يعتق بالنسب عموداه، من العلو والسّفل، من بعد ومن قرب، والأخوة، والأخوات، ولا يستقر ملكه عليهم، وقال داود: لا يعتق بالنسب أحد إلا أن يعتقه المشتري مبتدأ، وقال الشافعي: يعتق عمود النسب فقط، ولا يعتق الأخوة والأخوات، وقال أبو حنيفة: يعتق عليه كل ذي رحم محرم بالنسب، وهو كل من يجري بينه وبينه تحريم الزوجية؛ فدليلنا على وقوع العتق بنفس الملك قوله تعالى: "وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا" الآية، فنفى عن نفسه تعالى اتخاذ الولد، وعلل ذلك بأن الكل عبيد له فأقتضى هذا استحالة ملك الولد، فإذا ثبت ذلك في الولد [ثبت] في الأب والجد، لأنه لا أحد يفرق، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من ملك ذا رحم محرم فهو حر»، فعم. [2007] فصل: ودليلنا على وجوب عتق الأخوة والأخوات عموم الخبر، ولأن الأخوة سبب له مدخل في حجب الأم عن الثلث إلى السدس، كالولادة، ولأن التعصيب يكون من ذكورهم لإناثهم كالولد. [2008] فصل: فدليلنا على أن العم والخال وغيرهما لا يعتقون، أن كل من حلت لشخص ابنته بالنكاح والملك لم يعتق عليه بالملك، أصله ابن العم، ولأن كل جنس يرث ذكورهم دون إناثهم لم يعتقوا بالملك كبني العم.

[2009] مسألة: إذا أعتق المسلم عبداً له نصرانياً فالولاء مراعى، فإن أسلم كان ميراثه للمسلم إن مات، وإن مات النصراني قبل أن يسلم فلا ولاء للمسلم عليه، وقالى الشافعي: يثبت له عليه الولاء ويرثه؛ فدليلنا أن الإرث بالنسب مقدم على الإرث بالولاء، وآكد منه، لأن الولاء مشبه به، وقد ثبت أنّه لا توارث بين المسلم والكافر بالنسب، فكذلك الولاء. [2010] مسألة: إذا أعتق عبده عن رجل، فالولاء للمعتق عنه، أعتقه بإذنه أو بغير إذنه، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأنه إذا أعتق عبده عن غيره فقد ملّكه إياه بشرط العتق عنه، فكان كالوكيل، ولأنّ الولاء جار مجرى النسب، فلا يفتقر حصوله لمن لم يحصل له الإذن منه، ولأنه أعتقه عنه من مال نفسه فكان الولاء للمعتق عنه كما لو استأذنه. [2011] مسألة: ولاء السائبة لجماعة المسلمين، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لما قدمناه، ولأن قوله: أنت سائبة مأخوذ من التسيُّب وإخراج اليد عنه جملة، كالجمل المسيب الذي لا يعرض له كما كانت العرب تفعله، وما دام الولاء ثابتاً له عليه فلم يحصل المعنى المقصود. [2012] مسألة: لا مدخل للنساء في الإرث بالولاء، فإذا ترك ابناً ومولى وابنته فالميراث للابن دون البنت، وقال طاوس وشريح: الولاء بينهما كوراثة المال؛ فدليلنا أن الميراث بالنسب أقوى من الميراث بالولاء، بدليل أنّه مشبه به، وأنه لا يورث بالولاء إلا مع عدم ما يورث به من النسب، وإذا ثبت ذلك، ثم لم يكن للنساء مدخل في التوريث بما تراخى من النسب، كان بأن لا يكون لهن مدخل في التوريث بما تراخى من النسب أولى. [2013] مسألة: الولاء مستحق بالقرب، والابن أولى به من ابن الابن، ولا يستحق البطن الثاني شيئاً ما بقي أحد من البطن الأعلى، وقال

شريح: يشتركان فيه كإرث المال؛ فدليلنا أن الولاء مع اختصاصه بالتعصيب يختص بمن قوي تعصيبه وقرب دون من بعد عنه، بخلاف الميراث، لأن الجد لا يرث بالولاء مع الابن ويرث معه في المال فثبت أن الولاء طريقه طريق الولايات فهو للأقرب فالأقرب، ولأن ما يستحق بالتعصيب شيئان ميراث وولاية، إما في نكاح أو قصاص، وفي كل ذلك لا يدخل أبناء الأبناء مع وجود آبائهم وعمومتهم، فكذلك الإرث به. [2014] مسألة: المولى الأسفل لا يرث، وقال طاوس: يرث؛ فدليلنا أن الإرث بالولاء يستحق بالإنعام، والمولى من أسفل لا إنعام له، بل هو منعم عليه، فلم يستحق الميراث. [2015] مسألة: جر الولاء ثابت للأب، خلافاً لما يحكى عن رافع بن خديج وعكرمة ومجاهد؛ لأن ذلك إجماع حكم عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وفي حديث الزبير: أنه مر بقنية فسأل عنهم فقيل: هم موالي رافع وأبوهم عبد للحرة، فاشترى الزبير أباهم فأعتقه، وقال لهم: انتسبوا إلي فأنا مولاكم، فقال رافع: بل هم موالي أنا أعتقت أمهم، فاختصما إلى عثمان فقضى بالولاء للزبير، ولم يخالف عليه أحد، ولأن انتساب الولد إلى قبيلة أمه وجهتها لعدم ذلك من جهة الأب، بدليل أنه لو أمكن ذلك في الابتداء لم ينتسب إلى الأم، وأنّه إذا عاد إمكانه في ولد الملاعنة عاد الانتساب إلى الأب، وإذا ثبت ذلك ثم كان غير ممكن في هذا الموضع لرق الأب، فيجب إذا زال المعنى المانع، أن يزول ما امتنع لأجله ويعود النسب إلى الأب.

[2016] مسألة: ويثبت جر الولاء للجد، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه؛ لأن النسب يرجع إليه فصحّ جره للولاء كالأب. [2017 - مسألة]: إذا جر الأب أو الجد الولاء للولد غير موالي الأم ثم عدم هو وعصبته، لم يعد الولاء إلى موالي الأم، وحكي عن ابن عباس: أنّه يعود إليهم؛ فدليلنا أن الولاء يثبت لموالي الأب، والولاء إذا ثبت لم ينتقل إلا إلى عصبة هي أولى ممّن ثبت له، وموالي الأم ليسوا بأولى من موالي الأب، فلم ينتقل الولاء عنهم إليهم. [2018 - مسألة]: إذا تزوج حر لا ولاء عليه بمعتقة فأولدها ولدًا فإن الولد يكون حرًا لا ولاء عليه، وقال أبو حنيفة: إن كان الأب عربي الأصل لم يثبت على الولد ولاء، وإن كان أعجميًا ثبت على الولد الولاء لموالي أمه؛ فدليلنا أن حرية الأب لو طرأت على الولاء الثابت لموالي الأم لأزالته فلأن يمنع أن يثبت لهم الولاء في الابتداء أولى. [2019 - مسألة]: وقال الشافعى: الميراث لبيت المال، إذا عدم الموالي وعصباتهم، ورث بموالي الأب؛ فدليلنا أن موالي الأب قد ثبت لهم الولاء على الأب فجر ذلك إلى ثبوته على ولده كالجد. [2020] مسألة: مولى الموالاة لا يرث، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنهما يتوارثان ويتعاقلان، وإن لهما فسخ الموالاة ما لم يعقل أحدهما عن الآخر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّما الولاء لمن أعتق»، ولأن الموالاة سبب لا يورث به مع وجود النسب، فكذلك مع فقده، أصله إذا أسلم على يده رجل،

عكسه الزوجية، ولأنّ المسلمين يعقلون عنه فلم يكن له نقل ميراثهم عنه بالموالاة كالعصبة من النسب. [2021] مسألة: من أسلم على يد رجل فلا ولاء له عليه، خلافاً لأحمد وإسحاق؛ للخبر، ولأن الولاء يستحق بالإنعام بالعتق، وهو معدوم ها هنا. [2022] مسألة: الأخ وابن الأخ يقدمون في الإرث بالولاء على الجدّ، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأن بعضهم أقوى وأقرب إليهم، لأنهم يدلون ببنوة الأب والجدّ يدلي بالأبوة، والإدلاء بالنبوة أقوى من الإدلاء بالتعصيب بالأبوة. ***

كتاب المدبر

كتاب المدبر [2023] مسألة: لا يجوز بيع المدبر، ولا نقض تدبيره، خلافاً للشافعي؛ لقوله تعالى: "أوفوا بالعقود"، وقوله صلى الله عليه وسلم: «المدبر لا يباع ولا يوهب»، ولأن عتقه معلّق بموت سيده على الإطلاق كأم الولد. [2024] مسألة: يعتق المدبر في الثلث، خلافاً لمسروق وداود؛ لما روى أبو قلابة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المدبر من الثلث»، ولأن كل عتق بعد الموت بالقول من الثلث كالموصى بعتقه، ولأن العتق بتلاً في المرض آكد من التدبير تم اعتبارها من الثلث، فالتدبير أولى، ولأنّه عطية تتنجَّز بعد الموت، فكانت من الثلث كالوصية. [2025] مسألة: إذا مات السيد، وعليه دين يباع جميع المدبر إن استغرفه، وإلا فبقدر ما يحيط به منه، وقال أبو حنيفة: لا يباع في الدين، ولكن يسعى للغرماء، فإذا أوفى عتق؛ فدليلنا أن التدبير لا ينفي الوصية،

والدين مقدّم عليها، وفي تقديم العتق على الدين تقديم للوصية، لأنّ العبد يستعجل العتق ويحصل الغرماء على سعاية متأخرة وانتزاع العبد منهم وإحالتهم على سعاية لا يدرى أتحصل أم لا بغير رضاهم وإلزام العبد الاستسعاء بغير جناية كانت منه، وذلك باطل فلم يبق إلا ما قلناه. [2026] مسألة: ولد المدبرة إذا حدثوا بعد التدبير تبع لها، خلافاً للشافعي؛ لأنّ ذلك مبني على أن التدبير لا يفسخ، وكل عقد ثبت للأم لا سبيل إلى فسخه، فإن الولد يتبعها فيه، أصله الكتابة. ***

كتاب المكاتب

كتاب المكاتب [2027] مسألة: الكتابة مستحبة غير واجبة، وقال بعض التابعين: يلزم السيد إجابة العبد إليها إذا سألها بقيمته، وهو قول داود؛ فدليلنا أن الأصل فيها المنع والحظر، لأنها غرر، لانّ العبد يسعى ويؤدي المال على أنّه إن كمل له الأداء عتق، وإن عجز عاد رقًا فزال ملكه عمّا كان أداه ولأنها بيع من السيد لماله بماله وذلك إتلافه، لكن جوزت في الشرع رفقاً بالعبد، وبحرمة العتق، والأمر بعد الحظر يبيح ولا يجب، واعتبارًا به إذا سأله أن يكاتب بدون قيمته، وبه إذا سأله بيعه من غيره، ولأنه عقد إذا تم أفضى إلى الحرية، فلم يكن على السيد إجابة العبد إليه، كالتدبير وشراء الأقارب. [2028] مسألة: يجوز مكاتبة العبد القن الذي هو غير مكتسب، ويكره في الأمة إذا لم تكن مكتسبة، خلافاً للشافعي في قوله: لا يكره؛ لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا تكلّفوا الأمة الكسب، فإنها تكسب بفرجها، روي ذلك مرفوعاً.

[2029] مسألة: تجوز الكتابة على عبد مطلق غير موصوف، خلافاً للشافعي؛ للظاهر، وهو عام، ولأن المقصود منها الرفق وحصول حرمة الحرية دون محض العوض، كالمهر في النكاح. [2030] مسألة: الذي نص عليه مالك رحمه الله بتنجم الكتابة، وليس له نص في الكتابة الحالة، وأصحابنا يقولون: إنّها جائزة ويسمّونها قطاعة، والشافعي يقول: لا تجوز إلا منجمة وأقلها نجمان؛ فدليلنا أنّها عتق بعوض فجاز مع تعجيله وتأجيله، كبيع العبد من نفسه، ولأن الأجل غير مستحق في عقد الكتابة كالثالث والرابع، ولأنّه عتق بعوض فجاز كالمنجم. [2031] مسألة: إذا قال لعبده: كاتبتك على كذا وكذا، كان ذلك صريحاً في الكتابة وإن لم يقل: فإذا أديت ذلك عتقت، هكذا يجيء على المذهب، وقال الشافعي: لا يكون صريحاً في الكتابة، ولا يعتق العبد حتى يقول: فإذا أديت عتقت؛ فدليلنا أن كتابة العبد معنى مقرر المقصود به بالعرف في الشرع، فكان ذلك صريحاً وإن لم يلفظ بموجبه كالخلع إذا قال: خالعتك على كذا ولم يقل: فإذا دفعته إلي بنت به. [2032] مسألة: يجوز أن يجمع السيد بين جماعة من عبيده في كتابة واحدة، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يجوز ذلك؛ فدليلنا قوله تعالى: "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا"، وهو عام، ولأنه ألزم نفسه عتقهم بشرط أدائهم المال كما لو أفردهم، ولأن البدل معلوم في الجملة وإن لم يعلم بقسطه في الحال كما لو باع عدة أعبد له بألف درهم لجازوا، وإن لم يعلم قسط كل واحد. [2033] مسألة: ولا يعتقون إلا بأداء جميع مال الكتابة، وقال الشافعي: يعتق من أدى بقدر نصيبه؛ فدليلنا أن عقد الكتابة وقع عقدًا

واحداً، فلم ينفرد به بعضهم دون بعض، أصله كتابة العبد الواحد. [2034] مسألة: يلزم كل واحد منهم بقدر قوته في السعي، ويكون بعضهم حملاء بعض، خلافاً للشافعي؛ لأن العقد واحد فكان حكم الجميع فيه حكماً واحدًا، كما لو كاتب عبدًا واحدًا. [2035] مسألة: لا يعتق المكاتب إلا بأداء جميع الكتابة، خلافاً لما ذكر عن بعض السلف أنّه يعتق منه بقدر ما أداه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم»، ولأنها عتق بصفة الأداء، فما لم يحصل الأداء لم يحصل العتق، ولأنه لا يخلو أن يكون بمنزلة العتق المطلق أو المعلّق بصفة المعاوضة، ولا يجوز أن يكون كالمطلق لأنّ العتق فيها يقف على الأداء وإن كانت بمنزلة المعتق بصفة لم يقع قبل وجودها، وهي أداء جميع المال، وإن كانت كالمعاوضات فالملك لا يستقر في المعاوضات إلا بعد توفية جميع العوض، ولأن عتق الإنسان جزءًا من عبده باختياره مبتدئاً يجب عليه تكميله وتتميم الحرية من باقيه، ولو قلنا: إنه يعتق بقدر ما أداه لوجب أن يعتق الباقي بالسراية أو بالحكم، سواء أدَّى في الكتابة أم لا، وذلك فاسد. [2036] مسألة: ليس للمكاتب تعجيز نفسه مع القدرة على الأداء، وقال الشافعي: له ذلك؛ فدليلنا أن الكتابة عقد يتضمن تسمية العوض، فإذا رضي به العبد والتزمه لم يكن له أن يرجع عنه من غير عذر كسائر العقود، ولأنّ ذلك يؤدي إلى إبطال حق الله تعالى من العتاقة التي قد التزما عقدها، وليس لأحد أن يرد نفسه إلى الرق بعد ثبوته أو ثبوت عقد له. [2037] مسألة: إذا مات المكاتب وقد بقي عليه بعض مال الكتابة وترك ولدًا معه في الكتابة بالشرط أو بالولادة لم تنفسخ الكتابة، خلافاً للشافعي؛ لأن عقد الكتابة قد تضمّن إلزام السيد نفسه عتق المكاتب وولده الدّاخلين معه في العقد بصفة أداء المال، فلم يكن للسيد فسخ العقد في حقهم كما لم يكن له ذلك في حق العبد نفسه، ولم يكن له أيضاً فعل ما يؤدي إلى ذلك من انتزاع المال منهم.

[2038] مسألة: وإن ترك أولاداً أحراراً أو عبيداً ليسوا معه في كتابته، فإن العقد يبطل ويكون ما ترك للسيد، وقال أبو حنيفة: يقوم ولده الأحرار مقامه ويرثونه؛ فدليلنا أن المواريث موضوعة على تساوي الحرم، وهذا مات مكاتباً لا عبداً على الإطلاق، ولا حرًا، بل مكاتباً، له حكم مخالف لحكم العبد ولحكم الحر فلم يرثه ولده الأحرار ولا العبيد، وورثه من شركه في عقد كتابته. [2039] مسألة: الإيتاء مستحب غير واجب، خلافاً للشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفسه»، ولأنه عقد معاوضة على رقبة العبد كبيعه من أجنبي، ولأن الواجبات ضربان مقدّر بالنص، وموكول إلى الاجتهاد في الكتابة، وما تنازعناه خارج عن هذين، ولأنه موكول إلى الإرادة والاختيار وليس ذلك في الأصول. [2040] مسألة: إذا اختلف السيد والعبد في قدر مال الكتابة، فالقول قول العبد، وقال الشافعي: القول قول السيد؛ فدليلنا أنه عتق على مال، فأشبه قوله: إن جئتني بألف درهم فأنت حر، أن القول قول العبد. [2041] مسألة: إذا زوج ابنته من مكاتبه، ثم مات وكانت ابنته وارثة له فان النكاح ينفسخ، وقال أبو حنيفة: لا ينفسخ؛ ودليلنا أن حكم الملك إذا منع ابتداء النكاح منع استدامته كالعبد القن، وقد ثبت أنّها لو أرادت أن تتزوجه ابتداء في هذه الحال لم يصحّ العقد عليه، كذلك إذا طرأ حكم الملك على نكاحها. [2042] مسألة: قال ابن القاسم: إذا كاتبه على قيمته جاز، ويكون عليه الوسط من ذلك، وقال أبو حنيفة: لا يجوز؛ فدليلنا أن مقدار القيمة معروف في الغالب فكان كالكتابة على الوصف. [2043] مسألة: العبد بين شريكين لا يجوز لأحدهما أن يكاتب على

قدر حصته منه، أذن شريكه أم لم يأذن، وقال ابن أبي ليلى: يصحّ، ولا يعتبر بإذن الشريك، وقال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه: إن أذن الشريك جاز، وإن لم يأذن لم يجز؛ فدليلنا أن ذلك بمنزلة ابتداء تبعيض الحرية، وذلك غير جائز، وإذا ثبت منعه بغير إذن السيد ثبت منعه مع إذنه، لأن تبعيض العتق ممنوع لحق الله تعالى، فلا يسقط بإذن الشريك فيه. [2044] مسألة: إذا وطىء مكاتبته فلا حدَّ عليه، كان عالماً بتحريم ذلك أو جاهلاً به، وحكي عن الحسن: أنَّ عليه الحدّ إن كان عالماً؛ فدليلنا أن بالكتابة لم تخرج عن ملكه، بدليل أنه لو اعتقها لنفذ عتقه فيها، وإنما ضعف ملكه، وضعف الملك شبهة في سقوط الحدّ. [2045] مسألة: إذا كاتبها بشرط أن يطأها فالكتابة صحيحة، والشرط باطل، وقال أبو حنيفة والشافعي: الكتابة فاسدة؛ فدليلنا أن ذلك اشتراط منفعة من منافعها لا تؤدي إلى منع المقصود بالعقد، فإذا بطل لم يؤد إلى إبطال أصل الكتابة، أصله لو كاتبها على أن يستخدمها أو يزوجها من غلامه. ***

كتاب أمهات الأولاد

كتاب أمهات الأولاد [2046] مسألة: لا يجوز للحر بيع أم ولده، خلافاً لداود وغيره ممن يراه كابن حبيب، ولا عمل عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل ولدت منه أمته فهي معتقة عن دبر»، وروي: «أيما أمة ولدت من سيدها فإنّها حرة إذا مات إلا أن يعتقها قبل موته»، وقوله في مارية: «أعتقها ولدها»، وفي حديث أبي سعيد: أنهم أصابوا سبياً فأرادوا الوطء، وأرادوا الثمن، فقالوا: نعزل، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «لا عليكم ألا تفعلوا، فإنه ما من نسمة قدر الله أن تكون إلا كانت»، فلولا أنّ الحمل يبطل الثمن وإلا لم يكن ليقرهم عن هذا الاعتقاد ويكلّف الجملة له، ولأنّه قد ثبت لها بالولادة حرمة تمنع بمعها، وهي أيضاً لها بالولد الثابت الحرمة بالحرية الحاصلة له بحرية أبيه، فكانت في معنى المعتقة، وهذا هو اعتلال

عمر رضي الله عنه بقوله: خالطت لحومنا لحومهن، ودماؤنا دماءهن، لأنها حملت في ملك واطئها بولد حرّ على أبيه، فوجب أن يمنع ذلك من بيعها كحال حملها. [2027] مسألة: إذا أولدها بعقد نكاح، ثم ابتاعها لم تكن بذلك الولد أم ولد، خلافاً لأبي حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما أمة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر»، وهذه لم تلد من سيدها، وإنّما ولدت من زوج، ولأن الحرمة ثبتت لأم الولد من جهة الولد، فإذا كان الولد لا حرمة له في نفسه لم يسر إلى أمه، ولأنها وضعت ولداً مملوكا، فأشبه الزنا، ولأنها لا تكون أم ولد به قبل الابتياع فكذلك بعده. [2048] مسألة: إذا ابتاعها حاملاً ففيها روايتان؛ فوجه قوله: إنها تكون أم ولد قوله: «أيَّما أمة ولدت من سيِّدها» فعم، ولأنه قد ثبت له حرمة الحرية من جهة أبيه حال الحمل، فسرى ذلك إلى أمه، أصله لو ابتدأ الحمل في ملكه، ووجه قوله لا تكون أم ولد: أنه حمل خلق رقيقاً كمن ابتاعها بعد الوضع. [2049] مسألة: إذا جنت أم الولد فعلى السيد أن يفديها، خلافاً لأبي ثور؛ لأنّه منع من بيعها بسبب لا يتعلّق الأرش به بذمتها، فوجب أن يلزمه الضمان، كما لو كان له عبد فجنى ومنع من بيعه، ولأنّه سبب يمنع إسلامها، فوجب أن يفديها كما لو قتلها. [2050] مسألة: ليس للسيد إجارتها، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي: لأن الحرمة المانعة من بيعها مانعة من إجارتها، لأنه لم يبق له فيها إلا الوطء، ولولاه لعتقت، ولأنه نوع من المعاوضة فيما كان يملكه فيها قبل

ثبوت حرمة الاستيلاد، فلم يملكه منها بعده كالبيع. [2051] مسألة: إذا أسلمت أم ولد الكافر، وأبى أن يسلم، ففيها روايتان؛ إحداهما: أنَّها تعتق عليه، والأخرى: تباع عليه. فوجه الأولى: أنّه لم يكن له منها إلا الوطء، وقد حرم بالإسلام، فوجب عتقها، لأنه لا يجوز بقاء ملك على ملك لا ينتفع به بشيء من وجوه الانتفاع. ووجه الثانية: أن النصراني غير متعبد بفروع الدين فلم يلزمه حكمه، لأنّه لما لم يمتنع من بيعها قبل إسلامها كذلك بعده، كالعبد القن إذا أسلم. ***

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا [2052] مسألة: لا تجب الوصية للأقارب الذين لا يرثون، وذكر عن بعض التابعين وجوبها لمن لا يرث من الأقارب، للوالدين إذا لم يكونا وارثين وهو قول داود؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم لسعد وسأله بالتصدق بثلثي ماله، قال: «لا»، فال: فالشطر، قال: «لا»، قال: فبالثلث، قال: «الثلث والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس»، فعلل المنع بأن فيه إبقاء على الورثة، ولو كان ما تنازعناه واجباً لم يعتبر فيه بقاء الورثة بعده أغنياء أو عالة، ولأن كل من لا تجب عطيته في الحياة لم تجب بعد الوفاة، كالأجانب، ولأنها هبة كحال الحياة، ولأن كل من لا يجب علمه إخراج ماله إلى شخص حال حياته، فكذلك بعد وفاته، أصله من لا قرابة له. [2053] مسألة: إذا أوصى بمثل نصيب ابنه، وله ابن واحد، كان موصيًا بماله كله، وقال أبو حنيفة والشافعي: يكون موصياً بنصف ماله؛ فدليلنا أنّه لما أحال في معرفة القدر الموصى به على نصيب ابنه متقرراً قبل الوصية وأن لا يكون مفتقراً في العلم بقدره إلى ربط الوصية به، وإذا كان نصيب ابنه قبل الوصية الكل، كان كأنه قال: قد وصيت لك بالكل فأشبه أن يقول لزيد دينار، وقد وصيت لعمرو بمثل نصيب زيد، فيقتضي أن يكون

له دينار، ومتى ربطنا نصيب الابن بالوصية تناقض، لأنه لا يحتاج أن يعلم مقدار نصيب الابن من مقدار الوصية، والموصي قصد أن يعلم قدر الوصية من نصيب الابن، فلمّا أدى إلى هذا التناقض وجب سقوطه، وصحّ ما قلناه. [2054] مسألة: لا فرق بين أن يقول وصيت لك بنصيب ابني أو بمثل نصيبه، وقال الشافعي: إذا أوصى بنصيب ابنه بطلت الوصية؛ فدليلنا أن نصيب الابن هو كل المال، فإذا لم يوص فالابن يستحقه كله، وإذا أوصى الأب به فللأب منه الثلث فينفذ للموصى، ويكون الباقي موقوفاً على إجازة الابن، فإن أجازه فقد أجاز نصيبه في الحقيقة فلم يمنع. [2055] مسألة: إذا أجاز الورثة الوصية للوارث جازت له، خلافاً لمن قال: لا تصحّ له على وجه؛ لأن المنع هو حق للورثة، ولأنه محجور عليه لأجلهم لئلا يفضل بعضهم على بعض، فإذا أجازوا فقد تركوا حقوقهم فجاز ذلك لهم، لأن المنع إنما تعلّق بحقهم فجاز بإجازتهم، ولأنها وصية لمباح، فجاز أن تصحّ كالوصية للأجنبي أو بزيادة على الثلث. [2056] مسألة: إذا أجاز الورثة ما زاد على الثلث، والوصية للوارث، كان ذلك تنفيذًا منهم لفعل الموصي، ولم يكن ابتداء عطية منهم للموصى له، وللشافعي قول: إنه يكون ابتداء عطية منهم؛ ودليلنا أن المنع هو لحق الورثة، فإذا أجازوه فإنما تركوا ما كان لهم من حق الفسخ فصحّ بتركهم الفسخ فعل الميت، وصاروا كأنهم أذنوا له أن يوصي بأكثر من ثلثه، وصار الميت كأنه أوصى بما له أن يوصي، وهو الثلث الذي لا اعتراض لهم فيه. [2057] مسألة: إذا أذنوا له في المرض المخوف الذي يمنع فيه التصرف في ماله أن يوصي لوارث وبزيادة على الثلث، لم يكن لهم الرجوع فيه، وقال أبو حنيفة والشافعي: لهم الرجوع، ولا يلزمهم الإذن إلا بعد

الموت وحكي عن قوم لزوم ذلك لهم في الصحة والمرض؛ فدليلنا أنها حال يملكون عليه الحجر فيها، فإذا أذنوا له فيما لهم منعه منه لزمهم، كالسّيد إذا أذن لعبده، والزوج لامرأته في الحج، ولأنّه حال يعتبر عطيته فيها من الثلث كبعد الموت. [2058] مسألة: هبات المريض وعطاياه وعتقه وكل ما يخرجه من ماله على غير معاوضة موقوف غير متنجز، فإن صحّ لزمه، وإن مات كان من الثلث، وقال داود: كل ذلك جائز من رأس المال؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله جعل لكم ثلث أموالكم عند موتكم»، فأخبر أنّه ليس له إلا الثلث، فلم يجز زيادة عليه، ولحديث عمران بن حصين: أن رجلاً أعتق في مرضه ستة أعبد له لا مال له غيرهم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ لذلك غيظاً شديدًا ثم دعا بهم فأقرع بينهم فأعتق منهم اثنين وأرق أربعة، ولأن حضور سبب الموت جار في ذلك مجرى حضور نفس الموت، فإن منعوا ذلك دل عليه باجماع الصحابة، لأن أبا بكر رضي الله عنه قال لعائشة رضي الله عنها: إني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً، ولو كنت حزتيه لكان ذلك، وإنما هو اليوم مال الوارث، فبين أن حق الورثة متعلّق به في هذه الحال وإن ذلك هو المانع من تسليمه إليها ولم يخالف عليه أحد، ولأنه ابتداء عطية في المرض كالوصية. [2059] مسألة: إذا أوصى بسهم من ماله، وجزء، أو بنصيب، فلأصحابنا فيه ثلاثة مذاهب: أحدها: أن له الثمن، والآخر: السدس، والثالث: أنه ينظر مقدار ما

انقسمت عليه الفريضة بالأصل أو بالضرب فيعطي سهماً منها، واتفقوا على أنه لا يبلغ به زيادة على السدس. وقال أبو حنيفة: يكون له مثل أقل سهام الورثة ما لم يزد على السدس، فإن زاد كان له السدس، وقال الشافعي: لا حدّ في ذلك، ويدفع إليه الورثة ما شاؤوا من غير مقدار. فدليلنا على الشافعي أنه لا بد من حدّ بين الوصية بالسهم والجزء والنصيب وبين الوصية بالشيء، لأنّ السهم والجزء اسم لمقدّر، يقال هذا المال سهم على كذا وكذا بينهما، فيفاد بذلك الإبانة عن مبلغ مقدار ما لكل واحد منهم، وإذا ثبت ذلك ثم وصَّى بسهم من ماله صار كأنه قال قد وصيت لك بمقدار ولم يبينه، فيفارق ذلك قوله وصيت بشيء إلى أن يطلب ذلك المقدار، فإذا ثبت ذلك فوجه اعتبار الثمن أنه أقل السّهام؛ ووجه اعتبار السدس أنه أقل السهام المستحقة بأصل الميراث بخلاف الثمن، لأنه ليس بأصل، وإنما ينصرف إليه بالحجب؛ ووجه اعتبار سهام الفريضة أن قوله سهم من مال لا ينصرف إلى الفرائض المتحددة دون سهام الفريضة بدليل أنه لو كان ورثته عصبة لم ينصرف إلى ذلك فيهم فصحّ ما قلناه. [2060] مسألة: إذا أوصى لرجل بنصف ماله، ولآخر بثلث ماله، ولم يجز الورثة الزيادة على الثلث تضارب الموصى لهم في الثلث على خمسة أسهم، للموصى له بالنصف ثلاثة أسهم، ولصاحب الثلث سهمان، وقال أبو حنيفة: يقسمان الثلث نصفين؛ فدليلنا أنّهما وصيتان يقتسمان لو كانتا مرسلتين على التفصيل، فكذلك إذا كانتا مقيدتين، أصله إذا أوصى بالسدس والثمن، ولأنها وصايا تتفاضل إذا قصرت عن الثلث بحسابها، فوجب أن تتفاضل في قسمة الثلث عليها إذا زادت عليه كالمرسله. [2061] مسألة: إذا أوصى لرجلٍ بجميع ماله، ولآخر بثلثه، قسم الثلث بينهما على أربعة أسهم إذا لم يجز الورثة، وقال أبو حنيفة في إحدى

روايتيه: للموصى له بجميع المال خمسة أسداسه، وللموصى له بالثلث سدسه؛ فدليلنا أن السهام المستحقة إذا ضاق عنها قدر ما حصل من المال وجب قسمتها بين المستحقين على قدر ما حصل لكل واحد منهم من غير تخصيص بعضهم بزيادة كسهام الورثة في العول. [2062] مسألة: تصحّ وصية الصبي المميز الذي يعقل وجوه القرب، وقال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه: لا تصحّ وصية لدون البالغ؛ فدليلنا إجماع الصحابة، لأنه مروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم، ولا مخالف لهم، ولأنه عاقل عارف بوجوه القرب كالبالغ، ولأن الفقر مأمون عليه بعد الموت، فلا يبقى موضع يمنع الوصية. [2063] مسألة: تصحّ الوصية إلى المرأة والعبد، كان له أو لغيره، خلافاً للشافعي؛ لأنها وصية إلى عاقل مأمون في نفسه يتأتى منه تنفيذها فأشبه الحر الذكر. [2064] مسألة: إذا وصى له بثلث شيء بعينه فتلف ثلثاه، كان للموصى له بالثلث الباقي إذا احتمله ثلث المال، وحكي عن أبي ثور أنه قال: يكون له ثلث الثلث الباقي، وللورثة ثلثاه؛ ودليلنا أن الثلث يحتمل ما وصى به وما بقي منه، فوجب أن يستحقه كما لو أوصى له بعبد أو بثوب واحتمله الثلث. [2065] مسألة: إذا أوصى له بأبيه أو بابنه فأبى أن يقبله لم يلزمه قبوله، وحكي عن قوم أنّهم أوجبوا عليه قبوله؛ فدليلنا أنها وصية فلم يلزم قبولها كالوصية بالمال، ولأنه استجلاب مال فلم يجب، أصله الابتياع.

[2066] مسألة: إذا أوصى بشيء من ماله بعينه ناضّ، وله عروض وديون وعقار وأموال غائبة، والناض يكون ثلث جميع ماله، فقال الورثة: لا نجيز، فهم بالخيار بين أن يجيزوا الناض كلّه أو يفرجوا له عن ثلث الميت كلّه، فيكون للموصى له ثلث جميع التركة، وقال أبو حنيفة والشافعي: للموصى له ثلث ذلك الشيء، لا يزاد عليه، ويكون بقيمة باقيه شريكاً في باقي تركة الميت حتى يستوفي قيمة الثلث، لا يزاد عليه؛ فدليلنا أن الورثة يتعدّى عليهم، لأنّ الميت لم يكن له أن يوصي من شيء بعينه، لأنّه لا يؤمن عليه أن يتلف باقي المال فتصل الوصية إلى الموصى له قبل وصول الميراث إلى الورثة، فإذا ثبت ذلك فالمتعدّى عليه مخير في الأصول، فيقال للورثة: أنتم بالخيار؛ بين أن يجيزوا للميت ما وصى له أو يفرجوا عنه عن الثلث الذي كان مستحقاً له، لأنه إنما تركه إلى ما فعله فإذا لم ينجزوه له عادت الوصية إلى ما كانت متعلقة به في الأصل، وذلك كالعبد إذا جنى، فإن الجناية متعلّقة برقبته، فإما فداه السيد وإما أسلمه، فإن فداه والا أفرج عنه، كذلك في مسألتنا. [2067] مسألة: إذا أوصى بعبد، أو بثوب، أو بشيء بعينه لرجل، ثم وصى به لآخر، ولم يذكر رجوعاً عن الأول، فإنه يكون بينهما نصفين، قال عطاء وطاوس فيما حكي عنهما: أنه يكون للآخر، ويكون رجوعاً عن الأول؛ فدليلنا أنه إذا لم يذكر رجوعاً عن الأول لم يجز أن يكون جميع العبد لكل واحد منهما، ولا كان أحدهما أولى به من الآخر، لم يبق إلا أن يكون بينهما لتساويهما في سبب الاستحقاق، وهو الوصية به. [2068] مسألة: إذا أوصى لبني فلان، وهم قبيلة لا يحصون، كبني تميم وتغلب، فالوصية صحيحة، وقال أبو حنيفة: الوصية باطلة؛ فدليلنا قوله تعالى: "من بعد وصية يوصي بها أو دين"، ولأنها وصية لفرقة غير معينة ولا محصية، كالفقراء، ولأنّ النسب معنى يتعرف به الجنس الموصى له، فإذا حصلت معرفته لم يضر الجهل بعددهم وأعيانهم في صحة

الوصية لهم، كالصفات، مثل قوله: العلماء والفقراء. [2069] مسألة: إذا قال ثلث مالي لفلان، وللفقراء والمساكين، أعطي فلان على قدر الاجتهاد، وقال أبو حنيفة لفلان الثلث، وللفقراء الثلث، وللمساكين الثلث؛ فدليلنا أنه لمّا قرن فلان بالفقراء والمساكين علمنا أنّه أراد إجراءه مجراهم وإعطاءه على حسب إعطائهم، وأنه إنما نص عليه ليجعل كنصيب آخر، وقد ثبت أن ما يصيب الفقراء مصروف فيهم على الاجتهاد، فكذلك يجب أن يكون حضهم مع فلان ومع المساكين، ولأنها عطية على وجه القربة للفقراء والمساكين مرسلة في اللفظ، فيجوز أن يعطى أحد الصنفين الموصى لهم بزيادة على الآخر كالزكاة. [2070] مسألة: إذا أوصى لرجل بخدمة عبده، أو سكنى داره، فللموصى له أن يؤاجر الدار والعبد، إلا أن يعلم أن الموصي أراد أن يسكنها بنفسه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس له ذلك؛ ودليلنا أن الموصى له قد ملك هذه المنافع فجاز له أخذ البدل عليها كالمستأجرة، ولأنها وصية بما يصحّ أن يملك فجاز أخذ العوض عليها كالأعيان. [2071] مسألة: تصحّ الوصية بسكنى دار وخدمة عبد وغلّة أرض وبستان، وقال ابن أبي ليلى: لا يصحّ، قال الطحاوي: وهو القياس؛ فدليلنا أن المانع يصحح إفرادها بالعقد، بدليل جواز الإجارة عليها، فصحت الوصية بها، كالأعيان، ولأنه تمليك منافع بغير بدل، كالعارية. [2072] مسألة: إذا أوصى لعبد وارثه بشيء، فإن كان يسيرًا جاز، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في منعهما ذلك في القليل والكثير؛ لأن العبد يملك، وملكه منفرد عن ملك سيده إلا أن ينتزعه سيده فيصير حينئذ مالكاً له، فإذا أوصى له بالشيء اليسير علمنا أنه أراد به عين العبد لا السيد، لأنّه يتهم في ذلك القدر للسيد فخرج أن يكون وصية لوارث.

[2073] مسألة: إذا قال ضع ثلثي حيث شئت، أو اجعله حيث أحببت، أو أعطه من أحببت، فذلك كلّه سواء لا يأخذ لنفسه شيئاً ولا لولده، إلا أن يكون لذلك وجه، وقال أبو حنيفة: إذا قال اجعله حيث شئت أو ضعه حيث أحببت فله أن يأخذه لنفسه أو بعض ولده، ولو قال أعطه من أحببت لم يكن له أن يأخذه لنفسه، فالكلام في موضعين: أحدهما: أنه ليس له أن يأخذ لنفسه شيئاً إلا أن يكون لذلك وجه، والآخر: أنه لا فرق بين اللّفظين. فدليلنا على الأول مفهوم هذه الألفاظ في الشرع أنها عبارة عن الاجتهاد بقدر فعل الإمام فيه ما رأى، وقد وضعه حيث أراه الله، مفهومه أنه قد وكل ذلك إلى رأيه، وجعله إلى اجتهاده، وقد علم أن الموصي بالثلث غرضه وضعه في وجوه القرب، وأنه إنما وكله إلى الموصى لينظر أنفع الوجوه له فيجعله فيه، فلو أراد أن يأخذ هو منه لقال له: أو لك منه كذا، وما أشبه ذلك من ألفاظ التمليك، وقياساً على قوله: أعطه من شئت. ودليلنا على الثاني قوله: ضعه بمنزلة قوله: أعطه من شئت، لأن مفهوم اللفظين واحد، ولأنه جعل صرفها موكولاً إلى مشيئته، كما لو قال: أعطه من شئت. [2074] مسألة: إذا قال غلامي: يخدم فلاناً سنة ثم هو حر، فقال فلان: قد وهبت له خدمته، عتق العبد للوقت، ولو قال: لست أريد خدمته خدم ورثة السيد ثم عتق، وقال أبو حنيفة: العتق باطل والعبد رقيق للورثة كما لم يرض بخدمته؛ فدليلنا أن السيد علق العتق في وصيته بأجل لا بد أن يأتي فلم يبطل ذلك، أصله لو أطلق ولم يشترط خدمة فلان، بأن يقول: أنت حرٌّ بعد موتي بسنة، ولأن تعليق العتق بالأجل حاصل، وإنّما المنع من تنجيزه لحق الموصى له بالخدمة، وإذا وهبها له فقد زال المانع من العتق فوجب تنجيزه، كالاستيلاد أنه يوجب عتق أم الولد، وإنّما المانع من تنجيزه ثبوت حق السيد في الوطء، فإذا زال بموته تنجز عتقها، ولأن هبة الموصى له بالخدمة للعبد خدمته يجري مجرى استيفائه إياها، وقد ثبت أنه يعتق بعد الاستيفاء، كذلك بالهبة.

[2075] مسألة: إذا مات الموصي فهل تدخل الوصية في ملك الموصى له بنفس موته أو حتى يقبلها؟، قال شيوخنا: يكون الأمر مراعى، فإن قبلها تبينا أنها دخلت في ملكه بموت الموصي، وإن ردها تبينا أنها لم تزل على ملك الموصي، ومن أصحابنا من يقول: إن الوصية باقية على حكم ملك الميت، وللشافعي ثلاثة أقوال: أحدها أنه مراعى، والآخر أنه يدخل في ملك الموصى له بنفس موت الموصي، والثالث بالموت وقبول الموصى له. فدليلنا أنه قد ثبت أن الشيء الموصى به باق على ملك مالك، لأنه لا يجوز أن يكون مملوكاً لا مالك له، ولا يجوز أن يقال على ملك الميت لأنّ ملكه قد زال عنها إلى الموصى له أو الورثة، ولا يجوز أن يقال على حكم ملكه لأنّ ذلك فيما يخصه كالكفن، فأما فيما لا حق له فيه فلا يجب، فلم يبق إلا ما قلناه من أنه يكون للورثة وللموصى له، ولا يجوز أن يكون لأحدهما قطعاً، لأنه لو كان كذلك لم يكن للآخر أن يملكه، فثبت أنه مراعى، وأن الميت جعل له أن يتملّكه، فإن تملّكه تبينا أنه حصل ملكاً له بالموت، وكان قبوله دالاً على ذلك. فوجه قول صاحبنا، إنّه تمليك غير مفتقرٍ إلى إيجاب وقبول، فلما لم يحصل قبول الملك فإن الملك لا ينتقل كالعطايا والهبات. [2076] مسألة: إذا لم يكن له وارث معين لم يكن له أن يوصي إلا بالثلث، فإن زاد كان ما زاد لبيت المال ميراثاً، وقال أبو حنيفة: له أن يوصي بكل ماله؛ فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى جعل لكم ثلث أموالكم عند موتكم زيادة في أعمالكم»، وهذا نهي أن يكون للمريض حق تصرف فيما زاد على الثلث، ولأنها عطية تلزم بالموت فكانت في الثلث، أصله إذا كان له وارث معين، ولأن له من يعقل عنه فلم يكن له أن يوصي بزيادة

على الثلث كما لو كان له أموال، ولأن أسباب التوارث مختلفة في القوة والضعف، والنسب أولى من الولاء، والولاء أقوى من موالاة الدّين، ثم قد ثبت أن مع بعض هذه الأسباب ليس له أن يزيد على الثلث فكان مع ما ضعف عنها أولى، فإن قيل هذا مبني على أنّ المال ينتقل إلى المسلمين إرثاً فدلوا على ذلك، قلنا: لأنهم يعقلون عنه فجاز أن يرثوه كالمولى، ولأنه ميت من أهل الإسلام فلم ينفك عن وارث كالذي له نسب معين. [2077] مسألة: الجد كسائر العصبات لا ولاية له على الأيتام إلا بوصية من أب أو تولية من سلطان، وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا لم يكن له أب ولا وصي فالجدّ ولي كالأب؛ فدليلنا أن كل من لم يكن له ولي حال وجود الأب، لم يكن ولياً بنفسه بعده، كسائر العصبات. [2078] مسألة: الوصية للعبد جائزة، سواء كان عبد الموصي أو عبد غيره، فإذا أوصى لعبده بثلث ماله جاز وعتق العبد من الثلث إن حمله، فإن بقي شيء منه أعطي، وقال الأوزاعي: لا تجوز الوصية، ويكون العبد للورثة؛ فدليلنا أن الوصية بالثلث تشتمل على رقبة العبد، لأنها مال للموصي كسائر أمواله فكانت الوصية له بالثلث كالوصية له برقبته، ولو وصى له برقبته أو تصدق بها عليه، أو وهبها له لعتق، فكذلك الوصية بالثلث الذي يدخل فيه. [2079] مسألة: الوصية للمشركين جائزة، كانوا أهل حرب أو ذمة، وقال أبو حنيفة: لا تصحّ لأهل الحرب؛ فدليلنا قوله تعالى: "من بعد وصية يوصي بها أو دين"، ولأنّ كل من جازت عطيته في الحياة جازت بعد الوفاة كالذمي ولأنَّ كل من صحّ تمليكه بغير الوصية صحّ أن يملك بالوصية كالمعاهد والمستامن، ولأنّ اختلاف الأديان أو الدّار لا يؤثر في التمليك بالوصية، أصله وصية الذمي للمسلم. [2080] مسألة: إذا أوصى إليه بشيء خاص لم يكن وصياً في غيره،

ولو وصى إلى أحدهما بقضاء دينه، وإلى الآخر بالنظر في أمر ولده لم يكن لأحدهما النظر فيما رده إلى الآخر، وقال أبو حنيفة: يكون كل واحد منهما وصياً فيما رده إليه وفيما يرده إلى الآخر، ويصير كالوكيل المفوض إليه. فدليلنا قوله تعالى: "فمن بدلة بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه"، وليس في التبديل أكثر من أن يوصي إليه في شيء مخصوص، فجعل إليه غيره مما لم يوص إليه به، ولأنه ملك التصرف بتفويض غيره إليه، فوجب أن يكون مقصورًا على قدر ما فوضه إليه كالوكيل، ولأنه يلي بتوليته، فلم يملك النظر إلا بما تناولته الولاية كالحاكم والأمير، ولأن الموصي له غرض في إفراد كل واحد بما جعله إليه، لعلمه بأنّه يقوم به ولا يقوم بما جعله إلى غيره، ففي إشراكنا بينهما بعض إبطال غرضه، فلم يجز. [2081] مسألة: إذا أوصى رجلين مطلقًا لم يملك أحدهما أن ينفرد بالتصرف بحال إلا برضى الآخر وإذنه، وقال أبو يوسف: لكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرف فيما جعل إليهما، وقال أصحاب أبي حنيفة: إنّه ليس لأحدهما أن يتصرف في شيء دون صاحبه إلا في سبعة أشياء، شراء كفن الميت، وقضاء ديونه عنه، وإنفاذ وصيته، ورد الوديعة المعينة، وشراء ما لا بد للصغير منه، وقبول الهبة للصغير، والخصومة عن الميت فيما يدّعى عليه وفيما يدعيه له من الحقوق. فدليلنا أن الموصي شرك بينهما في النظر ولم يرض بانفراد أحدهما بالنظر دون أن ينضم إليه الآخر فوجب أن لا يملك أحدهما الانفراد به، أصله إذا وكلهما وكالة مطلقة، ولأن في انفراد أحدهما بالنظر إسقاط حق الآخر من الشركة له، وذلك تبديل الوصية، وقال تعالى: "فمن بدله بعدما

سمعه" الآية، ولأنه تصرف لم يرض به الموصي فلم يجز، أصله تصرف الأجنبي. وعلى أبي حنيفة خاصة، لأن الجهة التي يملك بها التصرف في هذه السبعة يملك بها التصرف فيما عداها، وقوله: أوصيته إليكما، فوجب أن يكون الحكم في كل ذلك واحدًا. [2082] مسألة: إذا أوصى لرجل بمثل نصيب أحد ورثته، وله ورثة متفاضلون في الميراث، نظر إلى عدد رؤوسهم فأعطي سهماً من عددهم، وقال الشافعي: يكون له نصيب أقلهم، لأنه يقين، وما زاد عليه مشكوك فيه؛ فدليلنا أنه لا يخلو أن يكون الاعتبار بأنصبائهم لأنه يجوز أن يكون أراد الأكثر، ويجوز أن يكون أراد الأقل فلم يبق إلا اعتبار الرؤوس. [2083] مسألة: إذا أوصى لأجنبي [و] وارث، فلم يجز الورثة الوصية، فإن الوارث يحاص بوصيته الأجنبي، فما حصل له رجع ميراثاً، وما بقي بعد ذلك رجع لأهل الوصايا، خلافاً للشافعي في قوله: يكون كالموصى له الأجنبي؛ لأن الميت لم يرد إفراد الأجنبي حين أدخل معه غيره فكأنّه أعطاه الفاضل عن عطية الوارث، ألا ترى الورثة لو أجازوا لم يستحق الأجنبي إلا نصف الوصية، وإنما يؤثر منعهم في غير من يأخذ الفاضل من مقدار نصيبه. [2084] مسألة: إذا أوصى له مطلقاً جاز له أن يوصي إلى غيره، خلافاً للشافعي؛ لأن الموصي لما أطلق ولم يقيد كان ذلك في عموم أحواله ولأنها حال يصحّ استثناوها وتقييد الوصية بها، فإذا أطلقت الوصية عارية منها وجب أن يتضمنها كحال السفر والغيبة، ولأن الوصية ولاية فجاز لواليها أن يستخلف إذا لم يكن على يده يداً، أصله الأمانة الكبرى. [2085] مسألة: إذا وصى لميت وهو يعلم أنه ميت فالوصية صحيحة، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: "فمن بدله بعدما

سمعه" فعم، ولأنّه آدمي فصحت الوصية له كالحي، ولأنها أحد أحوال الآدمي فجازت الوصية فيها كحال الحياة، ولأن الغرض بالوصية نفع الموصى له على وجه يصحّ من العقلاء قصده، وذلك يختلف باختلاف حال من يوصى له، تارة يكون بالتمليك للحي، وتارة يكون بغيره كالوصية للمسجد والقنطرة والجسور وما أشبه ذلك، والغرض من الوصية للميت أن يكون كماله الذي يتركه فيتصدّق بها عنه ويقضي منها ديونه، ويرثها ورثته. [2086] مسألة: الوصية فيما علم به الميت في ماله دون ما لم يعلم به، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأن ما لم يعلم به فقد علمنا أنّه لم يرده ولا قصده بالوصية فكان في حكم المستثنى ممّا وصى به. [2087] مسألة: تصحّ الوصية للقاتل عمدًا أو خطأ، خلافاً للشافعي؛ لقوله تعالى: "فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه"، فعم، ولأنها هبة فالقتل لا يمنعها اعتبارًا بحال الحياة، ولأنه تملك فصحّ في القاتل كإسقاط الحقوق. [2088] مسألة: إذا وصى له بعبد من عبيده أو شاة من غنمه، فله جزء منهم بالقيمة، وإن كانوا أربعة فله الربع أو عشرة فله العشر، خلافاً للشافعي في قوله: إن الورثة يدفعون إليه رأساً منها أي شيء اختار؛ لأن في ذلك تعارض الدعاوى، ولأن الورثة يدعون أنه يستحق أدناها قيمة، والموصى له يدّعي أنه يستحق أعلاها قيمة، وليس أحدهما أولى من الآخر بقوله، فلم يبق إلا اعتبار الجزء، لأن ذلك هو العدل بينهم. [2089] مسألة: الحامل إذا بلغت ستة أشهر، والمحبوس للقتل في قود واحد، والزاحف في الصف، كل هؤلاء حكمهم حكم المريض المخوف عليه في قصر تصرفهم على الثلث، وقال أبو حنيفة والشافعي: حكمهم حكم

الصحيح ما لم يضرب الحامل الطلق، ويقرب المحبوس للقتل، ويتقدّم الزاحف إلى البراز؛ فدليلنا أن الأحوال التي ذكرناها حال خوف شديد على من انتهى إليه، بدليل قوله تعالى: "فلما أثقلث دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً"، قيل في التفسير: بلغت ستة أشهر، ولأنها بلغت حال الوضع فكانت كحال الطلق، ولأن الله تعالى جعل حضور سبب الموت كحضور الموت بنفسه فقال تعالى: "ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه"، يريد رأيتم أسبابه وعلاماته، وهذا موجود في المحبوس للقتل والزاحف في الصف، ولأن تجويز الموت عليهم مع حضور سببه، كتجويزه على المريض مع اختلاف الأمراض المخوفة في بقاء زيادة المرض وسرعة تلفه، فإذا كان ذلك لا اعتبار به، فكذلك في مسألتنا. [2090] مسألة: إذا فرط في زكاة فإنه إن أوصى لزم الورثة إخراجها من الثلث، خلافاً للشافعي في قوله: تكون من رأس المال؛ لأنه يتهم أنه أراد الانتفاع بالمال حياته وصرفه عن ورثته بعده، فكانت كالوصايا، وفارقت الديون. [2091] مسألة: إذا لم يوص بها ولم يعلم صحة دعواه بغير قوله، لم يلزم الورثة إخراجها عنه، خلافاً للشافعي؛ لأن إخراجها موكول إلى أمانته، فيجوز أن يكون قد أخرجها من حيث لا يعلم غيره. [2092] مسألة: إذا زاحمتها الوصايا قدمت على ما هو أضعف منها، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنها وسائر الوصايا سواء؛ لأنها آكد من غيرها، لأنه لولا التهمة لكانت من رأس المال. ***

كتاب المواريث والفرائض

كتاب المواريث والفرائض [2093] مسألة: لا يرث ذو الأرحام بحال، خلافاً لأبي حنيفة؛ لما روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعي لجنازة، فقالوا: هذا ترك عمّة وخالة فأفتنا، فقال: «اللهم عمّة وخالة»، ثم قال: «هذا جبريل يخبرني أنّه لا شيء لهما»، ولأن كل أنثى لا ترث مع أخيها فلا ترث إذا انفردت، أصله بنت المولى، ولأن المولى المنعم لما قدم على ذوي الأرحام دل أنّه لا حق لهم في الإرث، لأن الولاء لا يتقدم على النسب. [2094] مسألة: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، لقوله: «لا يتوارث أهل ملّتين»، واعتبارًا بالكفر بعلة اختلاف الدينين. [2095] مسألة: لا يرث من فيه بقية رق، خلافاً لبعض الشافعية؛ لوجود الرق فيه كما لو استغرقه، ولأن أحكام الرق أغلب عليه بدليل أن حكمه حكم العبيد في منع القصاص من الحر، ورد الشهادة، ونقصان

الحدّ، وسقوط الحدّ عن قاذفه، فكذلك في الميراث. [2096] مسألة: من بعضه رق فماله لمن فيه الرق، خلافاً لأصحاب الشافعي في قولهم: إن ورثته يرثون نصيبه الحر، وقول بعضهم: إنّه لبيت المال؛ لأن كل من لم يرث لمعنى لولاه لورث فإنّه لا يورث، أصله العبد والكافر، ولأن قدر ما فيه من الحرية إذا لم يوجب له أن يورث لم يوجب له أن يرث ألا ترى أنّه لم ينقله عن الأحكام التي ذكرناها. [2097] فصل: ودليلنا على أن جميع ماله لمن له فيه الرق أنه لا يخلو أن يكون حكمه حكم العبيد أو المنعم عليهم، فإن كان حكمه حكم العبد وجب أن يكون جميع ما ترك للسيد، وهذا ما نقوله، وإن كان حكم المنعم عليهم كان المال بين من له الرق وبين المعتق بقدر الحرية والرق، فكل ذلك مقدّم على بيت المال. [2098] مسألة: قاتل الخطأ يرث، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم"، فعم، وروى هشام بن عروة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الخطأ يرث من المال ولا يرث من الدية»، ولأن كل معنى لا يمنع التساوي في الحرمة والدين لا يوجب القود ولا يزيل جهة التوارث فلا يمنع الميراث، أصله غير القتل، ولا يدخل عليه الطلاق في الصحة لأنه قد أزال جهة التوارث. [2099] فصل: ولا يرث من الدية، خلافاً لأهل البصرة؛ لأن الدية

واجبة عليه بجنايته، والعاقلة تحملها عنه تخفيفاً، ولا يجوز أن يجني جناية يستحق بها مالاً، لأن الجناية إن لم يلزمه بها شيء، فلا أقل من ألا يفيده استجلاب مال. [2100] مسألة: الغرقى ومن جرى مجراهم يرثهم ورثتهم الأحياء، ولا يرث بعضهم من بعض، خلافاً في ذلك لمن خالف من الصحابة؛ لأن المواريث لا تجب بالشكوك، ولو شككنا في أيهم مات أولاً لم يجز أن يورث وارث مشكوك في استحقاقه الميراث. [2101] مسألة: اذا استهل الجنين صارخاً ورث وورث، وإن تحرك قليلاً ثم مات لم يرث ولا يورث، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ لأن الاستهلال أو ما يقوم مقامه علامة حياته، فإذا عدم الاستهلال ولم يطل مكثه لم يعلم أنه كان حياً، ولا اعتبار بحركته، لأن المذبوح يتحرك ولا يدل ذلك على حياته. [2102] مسألة: إذا كان النسب فيه علّة تمنع الميراث فزالت بعد الموت وقبل القسمة لم يرث، خلافاً لمن قال: إنه يرث إذا زالت، لأنّ كل من لم يكن وارثاً حال الموت لوجود معنى، فزواله بعد الموت لا يجعله وارثاً، أصله بعد القسمة. [2103] مسألة: إذا احتمع في الشخص الواحد سببان يرث بهما فرضاً مقدّرًا فإنه يرث بأقواهما، ويسقط الأضعف، وسواء اتفق ذلك في المسلمين أو المجوس، وذلك في الأم تكون أختاً والبنت تكون أختاً، وقال أبو حنيفة: يرث بالسببين معاً؛ فدليلنا أنهما سببان يورث بهما من جنس واحد، فإذا اجتمعا لم يرث بهما كالأخ يكون مولى، ولأنهما سببان يورث بكل واحد منهما فرضاً مقدّرا، فإذا اجتمعا لم يورث بهما، كالأخت للأب

وللأم، لأن كونها أختاً لأب يوجب النصف، وللأم يوجب السدس ثم إذا اجتمعا ورثت بالأقوى. [2104] مسألة: فرض الابنتين الثلثان، خلافاً لما يحكى عن ابن عباس إن صحّ من أن لهما النصف؛ لقوله تعالى: "فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك"، فبين حكم الواحدة وحكم ما زاد على الاثنتين فكان مفهومه فإن كن نساء فوق اثنتين فما فوقهما، ولأن لابنة الابن مع ابنة الصلب السدس تكملة الثلثين، وفائدة ذلك أنّها تقوم معها مقام ابنة أخرى في استغراق الثلثين، ولأن كل إناث كان فرض الثلاث منهن الثلثين فكذلك فرض الاثنتين، أصله الأخوات. [2105] مسألة: يحجب الأم من الثلث إلى السدس من الإخوة أو الأخوات اثنان، وقال ابن عباس: لا يحجبها أقل من ثلاث؛ فدليلنا أنه فرض يتغير بعدد من الإخوة أو الأخوات، فوجب أن يتغير بالاثنين فما زاد، أصله شركة الأم في الثلث إذا ترك امرأة وأبوين، أو تركت زوجاً وأبوين، فللأم بعد أخذ الزوج أو الزوجة ثلث ما بقي، خلافاً لقول ابن عباس، وإحدى الروايتين عن علي من أن لها الثلث كاملاً، لأنا لو أكملنا لها

الثلث لكنا قد فضلناها على الأب، وذلك غير جائز، أصله حال الإفراد، ولأن اجتماعهما في الولادة المباشرة يمنع تفضيلها عليه، أصله مع الإخوة، ولأنهما أبوان دخل بينهما ذو سهم، فوجب أن يكون ثلث ما بقي بعد السهم، أصله إذا كان مع الأبوين بنت. [2106] مسألة: إذا كان مع بنت الصلب ذكور وإناث من ولد الابن أخذوا ما بقي بالتعصيب على الإطلاق، ولم يعتبر الإناث بالسدس، خلافاً لابن مسعود في قوله: إنه يعطى للإناث ما هو الأفضل لهن من السدس أو المقاسمة، لأن كل ذكور عصبوا إناثهم في موضع، عصبوهن في كل موضع، أصله البنون والبنات، والإخوة والأخوات، ولأنها مقاسمة بين بني الابن وبنات الابن بعد أخذ ذي الفرض فرضه، فوجب أن يكون على الإطلاق ومن غير اعتبار لضرر، أصله إذا كان ذو الفرض غير البنت ولأنه لا وجه لاعتبار الإضرار بهن، بل لا فصل بين معتبر ذلك ومعتبر ألا يقع لهن. [2107] مسألة: إذا استكمل بنات الصلب الثلثين فلا شيء لبنات الابن، إلا أن يكون معهن ذكر فيعصبهن، خلافاً لابن مسعود في قوله: يكون الباقي للذكر وحده؛ لأنه اجتمع بنو ابن وبنات ابن متساوين في الدرجة، فوجب إذا ورث الذكور أن يرث الإناث، أصله حال الانفراد، ولأن كل جنس عصب ذكورهم إناثهم في حوز المال، فكذلك في بقيته،

أصله ولد الصلب، ولأن كل حال ورث ابن الابن فيها بالتعصيب، شركه من في درجته من الإناث، أصله إذا كان مع زوج أو أم. [2108] مسألة: وإن كان مع بنات الابن ذكر أنزل من درجهتهن عصبهن، خلافاً لابن مسعود؛ لأن أصول المواريث موضوعة على أنه لا يجوز أن يرث الميت من أولاده الأبعد ويسقط الأقرب، ولأنهما بطنان من الولادة فلم يرث الأسفل وورث الأعلى، أصله ولد الابن مع بنات الصلب. [2109] مسألة: الأخوات مع البنات عصبة يأخذن ما بقي، خلافاً لابن عباس في منعه ميراثهن وميراث الأخوة جملة مع البنات؛ لقوله تعالى: "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون" فعم، ولحديث أبي موسى وسليمان بن ربيعة لما سألهما السائل عن بنت، وبنت ابن، وأخت، فقالا: للبنت النصف ولابنة الابن السدس، وما بقي للأخت، وإيت ابن مسعود فاسأله، فأتاه فأخبره، فقال: سأقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، للبنت النصف. ولأن الأخت مع ابن العم إذا اجتمعا لم يجز أن يخلص الإرث لابن العم وتسقط الأخت، أصله إذا انفرد.

[2110] مسألة: لا يحجب عبد ولا كافر، خلافاً لابن مسعود في حجبه بهما، ولأن كل من لا مدخل له في الإرث بحال فلا مدخل له في الحجب، أصله ذو الأرحام، ولا يدخل عليه الأخوة للأم مع الأبوين لأن لهم مدخلاً في الإرث، ولأنه أحد نوعي الحجب كالإسقاط. [2111] مسألة: إذا ترك ابني عم أحدهما أخ لأم، فللأخ السدس، والباقي بينهما، خلافاً لابن مسعود في قوله: إن الكل للأخ؛ لأن اختصاص العصبة بسبب يستحق به فرضاً لا يستحق به حجب من يساويه في الدرجة، اعتبارًا لو كان أحدهما زوجاً. [2112] مسألة: الأخوة والأخوات للأب والأم، أو للأب يرثون مع الجد، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن الأخ ذكر يعصب أخته فلم يسقطه الجد كالبنت، ولأن تعصيب الأخ أقوى من تعصيب الجد، لأنه تعصيب بنوة، وتعصيب الجد تعصيب أبوة، ولأنه يعصب أخته بخلاف الجد، فامتنع مع قوة تعصيبه عليه أن يسقط به، ولأن الأخت أنثى فرضها النصف، إذا انفردت لم يسقطها الجد كالابنة، ولأن الأخ والجد يدليان بشخص وهو الأب، فلم يحجب أحدهما الآخر كابني الابن والأخوين. [2113] مسألة: إذا كان أخوة فقط مع جد بغير أخوات، فإنه يقاسمهم ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث، والظاهر عن علي رضوان الله عليه أنه ما لم تنقصه عن السدس، وروي عنه رواية أخرى شاذة أنه

يقاسمهم إلى نصف السدس؛ فدليلنا أن كل حجب انحصر بعدد استوى فيه الاثنان والثلاثة، أصله حجب الأم من الثلث إلى السدس، ولأن كل فرض تغير بعدد؛ وجب أن يستوي فيه الاثنان فما فوقهما، أصله فرض الأخت للأب، وبنت الابن، ولأن الجدة قائمة مقام الأم كقيام الجد مقام الأب، ثم قد ثبت أن الجدة لا تنقص عن نصف نصيب الأب إذا انفرد وهو الثلثان. [2114] مسألة: الجد يقاسم الأخوات وإن انفردن عن الإخوة، خلافاً لما ذهب إليه علي، وابن مسعود رضي الله عنهما من منع ذلك؛ لأن كل شخص قاسم ذكرًا من أهل المواريث في الأخذ بالتعصيب، وجب أن يقاسم الأنثى التي في درجته، أصله الأخ للأب والأم والابن. [2115] مسألة: وفي بنت وأخت وجد، يكون للبنت النصف، وما بقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين، ويراعى فيه ما يراعى للجد مع ذوي السهام من السدس أو المقاسمة أو ثلث ما بقي، فيكون له الأحط من ذلك، وذكر عن علي رضوان الله عليه أن للبنت النصف، وللجد السدس، وما بقي للأخت؛ ودليلنا أنه قد ثبت قوة الأخ على الأخت، ثم للجد أن يقاسم الأخ لو كان في هذا الموضع، فكان بأن يقاسم الأخت أولى، ولأن كون الأخت عصبة لا يوجب إعطاء الجد السدس به لأن الجد أيضاً عصبة، وكل عصبة قاسم ذكرًا من أهل الميراث فإنه يقاسم كل أنثى في درجته، كالأخت والأخوات. [2116] مسألة: إذا كان مع الأخوة والأخوات للأب والأم، إخوة أو

أخوات لأب، فإنهم يعادون الجد بهم في المقاسمة ثم يرجع ولد الأب والأم على ولد الأب فيأخذرن تمام حقوقهم فإن فضل شيء كان لهم، وإن لم يفضل شيء فلا شيء لهم، وذكر عن علي، وابن مسعود رضي الله عنهما منع المعادة؛ فدليلنا أن الجد له ولاية فإذا جاز حجبه بأخوين وارثين جاز حجبه بأخوين أحدهما وارث والآخر غير وارث، أصله الأم، ولأن كل أخ حجب شخصاً فيه ولادة إذا كان وارثاً، فإنه يحجبه وإن لم يكن وارثاً، أصله الإخوة مع الأبوين، يحجبون الأم وإن لم يرثوا، كما يحجبونها إذا ورثوا، ولأنه إذا جاز أن يحجب أخوان لا يرثان شخصاً فيه ولادة فلان يحجب شخصان أحدهما وارث والآخر غير وارث أولى. [2117] مسألة: التشريك بين ولد الاب والأم، وولد الأم، في زوج، وأم، وأخت. لأب وأم، وأخت لأم ثابت، خلافاً لمن منعه؛ لقول الله تعالى: "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون"، ولأن المعنى الذي استحق به ولد الأم الثلث هو ولادة الأم، وهذا يساويهم فيه ولد الأب والأم فوجب أن يشاركهم فيما يستحقونه، ولأن الأخ للأب والأم له تعصيب بالأب ورحم بالأم، كل واحد من هذين السببين يوجب الوراثة إذا انفرد، ووجدنا من حصل له هذان السببان إذا سقط تعصيبه في موضع؛ صار حكمه حكم المنفرد برحمه في استحقاق الإرث به، ألا ترى أن ابني العم إذا كان أحدهما أخًا من أم فإن تعصيب ابن العم يسقط، ويصير الأخ للأم كالمنفرد برحمه واستحق المشاركة به، ولأن ولد الأب والأم قد ساووا ولد الأم في قرابة الأم، وزادوا عليهم بقرابة الأب، فكانوا بذلك أقوى، وكان النظر يقتضي إسقاطهم بهم لولا الإجماع، وهذا فائدة قول

عمر رضي الله عنه: لم يزدهم الأب إلا قربى، فإذا كان كذلك امتنع أن يسقطوا بهم، ولأن الأخ للاب والأم جمع تعصيباً ورحماً، والأخ للأم ينفرد بالرحم، فكان الأخ للأب والأم مع الأخ للأم كالأب مع الأم، وقد ثبت أن الأب إذا اجتمع مع الأم ولا مانع من تعصيبه فإنه يرث بالتعصيب وإن كان هناك مانع من تعصيبه ورث بالرحم، فكذلك سبيل الأخ للأب والأم مع الأخ للأم. [2118] مسألة: لا ترث جدة مع ابنها، خلافاً لابن مسعود وغيره، لأنها ترث بالأب، فلا ترث مع بقائه، لأن الأصول موضوعة على أن كل من أدلى إلى غيره بعصبة أو بولد لم يرث مع بقاء من يدلي به. [2119] مسألة: الجدة أم [أب] الأب غير وارثة، خلافاً لأكثرهم؛ لأنها أم جد، كأم جدات الأم، ولأن جنبة الأم في الميراث أقوى من جنبة الأب، فإذا لم يرث من جهة الأم أكثر من جدتين فجنبة الأب أولى. [2120] مسألة: وإذا اجتمع جدتان قربى من جهة الأب وبعدى من جهة الأم ورثتا، خلافاً لمن قال: إن القربى تسقطها؛ لأن أم الأب تدلي بالأب، والأب لو اجتمع مع أم الأم لم يحجبها، فبأن لا يحجبها من يدلي با لأب أولى.

[2121] مسألة: إذا استغرق أهل الفرائض حقوقهم كان ما فضل لبيت المال، ولا يرد على ذوي السهام، خلافاً لما روي عن علي، وابن مسعود رضي الله عنهما؛ لقوله تعالى: "وإن كانت واحدة فلها النصف"، ولأن من ورث مقداراً من فريضة لم يستحق زيادة عليه إلا بتعصيب كالزوج والزوجة، ولأن النسب أحد أسباب التوريث فلم يستحق به الرد كالنكاح. [2122] مسألة: ولد الملاعنة العربية يكون ما فضل عن حق أمه للمسلمين، وقال ابن مسعود: هي عصبة يكون الفاضل لها، فإن عدمت فلعصبتها؛ فدليلنا أن الأم لها رحم محض، فلا تكون عصبة بالنسب على وجه، كالإخوة للأم، ولأن عصبتها أخوال فلا تعصب فيهم كغير الملاعنة. كمل الكتاب والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم أفضل التسليم. ***

§1/1