الإشارة في أصول الفقه

أبو الوليد الباجي

الْإِشَارَةُ فِي أُصُول الْفِقْه تأليف القَاضِي أبي الْوَلِيد سُلَيْمَان بن خَلَف بن سَعد بن أَيُّوب الْبَاجِيّ الذَّهَبِيّ الْمَالِكِي الْمُتَوفَّى سنة 474 هـ

[مقدمة التحقيق]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ترجمة القاضي أبي الوليد الباجي هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي القرطبي المالكي الأندلسي الباجي. وُلِد في مدينة بطليوس يوم الثلاثاء، النصف من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة [403 هـ]. قال أبو علي الغسانيّ: سمعت أبا الوليد يقول: مولدي في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة. ويُنسَب أبو الوليد إلى باجة الأندلس، وقد توهم اليافعي المتوفّى سنة 768 هـ فذكر أنه منسوب إلى باجة إفريقية خلافًا لمن سبقه كأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، والحافظ أبو موسى الأصبهاني وابن خلكان، والحميري، والمقري وصديق حسن خان. ورحل أبو الوليد الباجي إلى المشرق سنة ست وعشرين وأربعمائة ولازم الحافظ أبو ذر الهروي فيها بمكة. ثم رحل إلى بغداد ولقي الشيخ أبي الطيب الطبري، وأبي إسحاق الشيرازي، والصيمري، وغيرهم. وذهب إلى الشام وسمع من ابن السمسار، وذهب إلى مصر وسمع من أبي محمد بن الوليد وغيره، وذهب الموصل ودرس على الشيخ السمناني الفقه، والأصول، والكلام. ونقل ابن خلكان وابن كثير أنه تولى قضاء حلب، ثم عاد إلى الأندلس زاهدًا في دنياه وكان يتولى ضرب ورق الذهب، ويعضد الوثائق، قال القاضي عياض: ولقد

حدّثني ثقة من أصحابه، والخبر في ذلك مشهور، أنه كان حينئذ يخرج إلينا إذا جئنا للقراءة عليه، وفي يده أثر المطرقة إلى أن فشا علمه، وعرف، وشهدت تآليفه، فعرف حقه، وجاءته الدنيا، وعظم جاهه، وقربه الرؤساء، وقدره قدره، واستعملوه في الأمانات، والقضاء، وأجزلوا صلاته، فاتسعت حاله وتوفر كسبه حتى مات عن مال وافر. مصنفاته: 1 - كتاب المنتقى شرح الموطأ [ط/ السعادة القاهرة]. 2 - الإشارة [وهو كتابنا]. 3 - الحدود [وهو كتابنا أيضًا]. 4 - الإيماء في الفقه. 5 - التسديد إلى معرفة التوحيد. 6 - السراج في الخلاف وغيرها. 7 - سبيل المهتدين. توفي رحمه اللَّه في المَرِّية وهي مدينة بالأندلس، واختلفوا في سنة وفاته: فالأكثر على أنه توفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة [474 هـ] وهو قول القاضي عياض [ترتيب المدارك 4/ 808] , وابن بشكوال [الصلة 1/ 199] والضبي [بغية الملتمس ص/ 289] , وابن خلكان [وفيات الأعيان 1/ 215] والذهبي [تذكرة الحفاظ 3/ 1182] , واليافعي [مرآة الجنان 3/ 108] , وابن كثير [البداية والنهاية 2/ 122] , وابن عساكر [صفة جزيرة الأندلس ص/ 36] , وغيرهم. وذهب البعض إلى أنه توفي سنة أربع وتسعين وأربعمائة [494 هـ] وهو قول ياقوت [معجم الأدبار 11/ 249] , والصلاح الكتبي [فوات الوفيات 1/ 224] , وابن فرحون [الديباج المذهب ص/ 121] (¬1). ولذا اعتمدنا قول الأكثر، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) انظر/ ترجمته في: ترتيب المدارك [4/ 802] , الصلة لابن بشكوال [1/ 197] , فوات الوفيات [1/ 224] , مرآة الجنان [3/ 108] , البداية والنهاية [2/ 122] , النجوم الزاهرة [5/ 114] , نفح الطيب [1/ 354] , هدية العارفين [1/ 397].

وصف المخطوط

وصف المخطوط لقد اعتمدنا في تحقيق هذا الكتاب بالإضافة إلى النسخة المطبوعة بالمطبعة التونسية سنة 1344 هـ، ومطبعة التلبسي بتونس 1368 هـ، والمنار بتونس، وما طبع على هامش قرة العين للشيخ الخطّاب في مصر وبيروت والهند على: النسخة الأزهرية بمكتبة الأزهر تحت رقم 170 خصوص وتقع في [145 ق] مسطراته مختلفة. ونرجو من طلبة العلم العفو، والدعاء لنا، على هذا العمل الضعيف الحقير. طالب العلم أبو عبد اللَّه محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي الشهير بـ[محمد فارس]

لوحة [أ] من النسخة الخطية من ورقة الأزهرية

ل/ ب/ من نفس الورقة الملصوقة / الأزهرية

اللوحة الأخيرة - النسخة الأزهرية

[مقدمة المصنف]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "الحمدُ للَّه الَّذِي هَدَانَا إِلَى معرفة سبله، وأرشدنا لمتابعة رسله، وأوضح لنا ما افترضه من عبادته وطاعته، ويسَّر لنا الدلائل على شرعيته، وأجلى ذلك واضحًا في كتابه العزيز الذي: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: الآية 42]. وقرن طاعته -سبحانه وتعالى- بطاعة رسوله الكريم، فقال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: الآية 59] , ونهى عن مخالفة الرسول، أو جماعة المسلمين، فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: الآية 115]. الحمد للَّه الذي جعلنا مؤمنين بالفرقان، متبعين آثار مَنْ مَضى بإحسان وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له شهادة مَن أَخلصَ للَّهِ الطاعة، وأفرده بالعبادة. وصلّى اللَّه على سيدنا ونبينا محمد، إمام المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فإن اللَّه تبارك وتعالى، لما أراد أن يَمْتَحِن عباده، وأن يبتليهم، فرَّق طرق العلم، فجعل منها ظاهرًا جليًّا وباطنًا خفيًّا، ليرفع الذين أوتُوا العلم، كما قال عَزَّ وجَلّ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: الآية 11]. والدليل على أن ذلك كذلك، هو أن الدلائل (¬1) لو كانت كلها جليَّة ظاهرة لم ¬

_ (¬1) جمع دليل، يطلق في اللغة على أمرين: أحدهما: المرشد للمطلوب على معنى أنه فاعل الدلالة ومظهرها، فيكون معنى الدليل الدال "فعيل" بمعنى الفاعل كعليم وقدير مأخوذ من دليل القوم لأنه يرشدهم إلى مقصودهم. قال القاضي: والدال، ناصب الدلالة ومخترعها وهو اللَّه سبحانه ومن عداه ذاكر الدلالة وعند الباقين الدال ذاكر الدلالة واستبعد إذ الحاكي والمدرس لا يسمى دالًا وهو ذاكر =

باب الكلام في وجوب النظر

يقع التنازع، وارتفع الخلاف، ولم يحتج إلى تدبر ولا اعتمال ولا تفكر، ولبَطَل الابتِلاءَ، ولم يحضر الامتحان، ولا كان للشُّبهة مدخل ولا وَقَعَ شك ولا حسبان ولا ظن، ولا وجد ذُهُول؛ لأن العلم وإن يكون طبعًا، وهذا قياس، فبطل أن تكون العلوم كلها جليَّة، ولو كانت كلها خفيَّة لم يُتَوَصَّل إلى معرفة شيء منها, إذ الخفي لا يعلم بنفسه؛ لأنه لو عُلِم بنفسه لكان جليًّا، وهذا فاسد، أيضًا، فبطل أن تكون كلها خفيَّةَ، وقد قال اللَّه عَزَّ وجَلَّ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: الآية 7] إلى قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: الآية 7]. وقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: الآية 83]. وإذا بطل أن يكون العلم كله جليًّا، وبطل أن يكون كله خفيًّا، ثبت أن منه جليًّا ومنه خفيًّا، وباللَّه التوفيق. بَابُ الكَلام فِي وُجُوبِ النَّظَرِ (¬1) وجوب النظر والاستدلال هو مذهب مَالِكٍ -رحمه اللَّه تعالى- لأنه قد يستدلّ في المسائل بأدلة متعددة، وتقدّم أن في الدلائل خفيًّا وجليًّا، فلا بد من النظر؛ لأن ¬

_ = الدلالة فالأولى أنه يقال: الدال ذاكر الدلالة على وجه التمسك بها ويسمى اللَّه تعالى دليلًا بالإضافة، وأنكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب الحدود قال: ولا حجة في قولهم للَّه تعالى يا دليل المتحيرين لأن ذلك ليس من قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا أحد من الصحابة وإنما هو قول أصحاب العكاكيز وحكى غيره في جواز إطلاق الدليل على اللَّه وجهين مفرعين على أن الخلاف في أن أسماء اللَّه هل تثبت قياسًا أم لا؟ لكن صح عن الإِمام أحمد أنه علم رجلًا أن يدعو فيقول يا دليل الحيارى دلني على طريق الصادقين. فالثانية: ما به الإرشاد أي العلامة المنصوبة لمعرفة الدليل ومنه قولهم العالم دليل الصانع ثم اختلفوا فقيل حقيقة الدليل: الدال وقيل بل العلامة الدالة على المدلول بناء على استعمال المعنيين في اللغة وقال صاحب الميزان من الحنفية الأصح إنه في اللغة اسم للدال حقيقة وصار في العرف اسمًا للاستعمال فيكون حقيقة عرفية وفي الاصطلاح: الموصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب. انظر الصحاح 2/ 1698، المحصول 1/ 1/ 106، الأحكام للآمدي 1/ 145، تيسير التحرير 1/ 33. (¬1) انظر لغة الانتظار وتقليب الحدقة نحو المرئي والرحمة والتأمل ويتميز بالمعدى من حروف الجر. وفي الاصطلاح: الفكر المؤدي إلى علم أو ظن. انظر البحر المحيط 1/ 42.

باب الكلام في إبطال التقليد من العالم للعالم

في تركه امتناعًا من الوصول إلى معرفة الخفيّ منها، وذلك غير جائز، فدل على وجوبه، وقد دل اللَّه -تعالى- على وجوب النظر والاستدلال، والتفكر والاعتبار في آيات كثيرة من كتابه. فقال عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)} [الغاشية: الآية 17]. وقال عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء: الآية 44]. وقال تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف: الآية 109]. وقال عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ} [سبأ: الآية 46]. وقالَ عَزَّ وَجَلَّ محتجًّا على مَنْ أنكر البعث والإعادة: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس: الآيتان 78، 79] إلى قوله: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: الآية 81]. ومثل ذلك في آيات كثيرة، وفي هذا وجوب النظر وصحته، وباللَّه التوفيق. بَابُ الكَلامِ في إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ (¬1) مِنَ العَالِمِ لِلْعَالِمِ ومذهب مَالِكٍ -رحمه اللَّه- إِبطال التقليد من العالم للعالم. وهو قول جماعة من الفقهاء، وأجازه بعضُهُم، والدليل على منعه أنه إِذا ثبت النظر، ووجب الرجوع إِلى الاستدلالات ففيه فساد من لا يعلم حقيقة قوله، ووجب الرجوع إلى الأصول، وما أودع فيه من المعاني التي تدل على الفروع، وهي الكتاب والسُّنَّة والإجماع. قال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: الآية 59]. يريد إلى كتاب اللَّه وسُنَّة نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم يردهم عند التنازع إلى غير ذلك، فيدل على إبطال التقليد من غير حُجَّة. ¬

_ (¬1) انظر تعريف التقليد في تيسير التحرير 4/ 241.

باب القول فيما يجوز فيه التقليد

كما قال اللَّه تعالى حكاية عن قوم على طريق الذَّم لهم والإنكار عليهم: {قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: الآيتان 23، 24]. وقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا} إلى قوله: {وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: الآية 170]. فَأَلْزَمَ اللَّه تعالى اتِّباع الحجة، وعدم التقليد بغير حجة فدل على صحة ما قلنا، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ فمما يجوز عند مالك في مثله التقليد للعامي (¬1) ما ليس للعالم فيه طريق إلا نَدَرَ أن يكون من أهله، ويجوز عند مالك أن يقلد القائف في إلحاق الولد بمن يلحقه، إذا كان القائف عدلًا في دينه بَصِيرًا بِالقِيَافَة؛ لأنه علم قد خصهم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ به. والدليل على ذلك ما روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قصة مُجَرِّزِ المدلجيِّ، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لما رأى أقدام زَيْد وأُسَامَةَ أنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأَقْدَامِ من بَعض فَسُرَّ بذلك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وذكره لعائشة -رضي اللَّه عنها (¬2) - والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يسر إلا بالحق". وقد روى ابْنُ نَافِعٍ عن مالك أنه لا يقبل إلا من قَائفَيْن ذَكَرَيْن، ويجوز تقليد الناصر في تقويم المتْلفَات، ويكفي في ذلك واحد إلا أنْ تَتعلَّق القيمة بحدٍّ، فلا بدّ من اثنين لمعرفتهم بذلك وطول دُرْبَتِهِمْ له. قال القاضي: وقد وجدت في موضع أنه لا يجوز في كل تَقْويم إلا اثنان وإنما جاز تقليده في ذلك؛ لأنه علم يختص به، والضرورة تدعو إليه، فجاز قَبُول قولهم فيه، ويجوز تقليد القَاسِمِ إِذَا قسم شيئًا بين اثنين، على ما رواه ابْنُ نَافِعٍ عن مالك، وهذا كما يقلد المقوّم في أُروش الجنايات لمعرفته بذلك، وكان الشيخ أَبُو بكر بْنُ صَالِحِ الأَبْهريُّ يقول: يجب أن يكون بِقَيِّمَين، ثم رجع عن ذلك وروى ابْنُ القَاسِم عن مَالِكٍ: أنه لا يقبل قول القاسم فيما قسم، وإن كان معه آخر؛ لأنه يشهد على فعل نفسه كالحاكم إِلا أن يكون الحاكم أرسلها، فتقبل شهادتهما. ¬

_ (¬1) انظر تعريف العامي في البحر المحيط 6/ 283، 284. (¬2) الحديث عند البخاري 12/ 57، ومسلم 2/ 1081، وأبو داود 2/ 280، والترمذي 4/ 383.

باب القول في تقليد العامي للعالم

ويجوز تقليد الخَارِصِ فيما يخرصه، ويكفي في ذلك واحد، وقد كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يبعث ابْنَ رَوَاحَةَ على الخَرْصِ وحده، ويجوز تقليد الرَّاوي فيما يرويه إذا كان عدلًا، وكذلك الشاهد فيما يشهد به، إلا أن الشهادة باثنين عَدْلَيْن، والأخبار يقبل فيها الواحد العدل حرًّا أو عبدًا، ذكرًا أو أُنْثى، ويجوز تقليد الطَّبيب فيما يرد إليه من علم الجراح وغيرها مما لا يعلم إلا من جهته للضرورة إِلَى ذلك، ويجوز تقليد الملاح إذا خفيت الدلائل في جهة القبلة على الذين يَرْكَبُون معه إِذا كان عدلًا، وكانت عادته جارية بسَيْره في الماء والبحار للضرورة إليه، وكذلك كل من كانت صناعته في الصحراء، يجوز تقليدهم في القبلة لمعرفتهم بها وأنه لا يمكن كل أحد تعاطيه ولا معرفته، وكذلك مَنْ هو في البادية يجوز تقليده في القبلة، إذا كان عارفًا بالصلاة، وكان عدلًا في باديته لمداومتهم مشاهدة جهة القبلة ودلائلها، والضرورة إليهم في ذلك عند خفاء دلائلها. بَاب الْقَوْلِ في تَقْلِيدِ الْعَامِيِّ لِلْعَالِمِ فأما تقليد العامِّي للعالم، فجائز عند مالك في الجملة. والأصل فيه قول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: الآية 43] وأيضًا قوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: الآية 83]. وهذا ما لا خلاف فيه نعلمه، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ في تَقْلِيدِ العَامِّيّ لِلعامِّيِّ عند مالك -رحمه اللَّه- ليس لِعَامِّيِّ أن يقلَّد عامِّيًّا بوجه إلا في أشياء: منها رؤية الهلال إذا أراد به علم التاريخ فإنه يُقْبَل قوله وحده؛ لأنه خبر وإن كان مما يتعلق به فرض في دينه، مثل صوم رمضان والفطر منه، فلا بد من اثنين عَدْلَيْن؛ لأنه من باب الشهادات، وفي كلا الأَمْرَيْنِ الأخبار، والشهادات لا بد من العدالة. ومن ذلك قَبُول الهدية بالرسول الواحد والإذن بالواحد لعُرْف الناس واستعمالهم، وجري عادتهم به، فهو يقبل من البالغ، وغير البالغ والذكر والأُنْثَى، والمسلم والكافر والواحد والاثنين، والحر والعبد، ويقبل قول القَصَّاب في الزكاة؛ لأن الإنسان يشتريه على الظاهر أنه زكى، فلو لم يخبره لما ضرّه، فهو يقبل من الذكر والأنثى، ومن مثله يذبح، والمسلم والكتابي، واللَّه أعلم.

باب القول فيما يلزم المستفتي العامي

بَابُ القَوْلِ فِيمَا يَلْزَم الْمُستفتي العَامِّيِّ يجب عند مَالِكٍ على العامِّي إِذا أراد أن يستفتي ضربًا من الاجتهاد (¬1)، وهو أن يقصد إلى أهل ذلك العلم الذي يريد أن يسأل عنه ولا يسأل جميع من يلقاه، ولكنه إذا أرشد إلى فقيه نظر إلى هيئته وحذقه وصنعته، وسأل عن مبلغ علمه وأمانته، فمن كان أعلى رُتْبَةً في ذلك استفتاه، وقبل قوله وفتواه؛ لأن هذا أوفق لدينه وأحوط لما يقدم عليه من أمر شريعته، ويصير هذا بمنزلة الخبرين والقِيَاسين إذا تعارضا عند العالم، واحتاج للترجيح بينهما، وترجَّح بينهما، وكذلك العامي في المَعْنيين، واللَّه أعلم. بَابُ القَوْلِ فِيمَا يَلْزَمُ فِيهِ الاجْتِهَادُ وَمَا لَا يَلْزَمُ ومذهب مَالِكٍ إِذا دخل رجل إلى قرية خَرَاب لا أحد فيها، وحضر وقت الصلاة، فإن كان من أهل الاجْتِهَاد، ولم يَخْفَ عليه دلائلِ القبلة يرجع إلى ذلك، ولم يلتفت إلى غير ذلك، ولم يلتفت إلى محاريب يشاهدها في آثار مساجد قد خربت، فإن خفيت عليه الدلائل, أو لم يكن من أهل الاجتهاد، وكانت القَرْيَة للمسلمين، فإنه يصلِّي إلى مُصَلَّى تلك المحاريب؛ لأن الظاهر من بلاد المسلمين أن مساجدهم وآثارهم لا تَخْفَى وأنَّ قبلتهم وَمَحاريبَهُمْ على ما توجبه الشريعة، وأما إذا كانت محاريب منصوبة في بلاد المسلمين العامرة، وفي المساجد التي تكثر فيها الصلوات وتتكرَّر، ويعلم أن إمامًا للمسلمين بناها، واجتمع أهل البلد علي بنائها، فإن العالم والعامي يصلون إلى تلك القبلة، ولا يحتاجون في ذلك إلى الاجتهاد؛ لأنها معلوم أنها لم تُبْنَ إلا بعد اجتهاد العلماء في ذلك، وأما المساجد التي لا تجري هذا المجرى، فإن العالم إذا كان من أهل الاجتهاد، فسبيله أن يستدل على الجهة، فان خفيت عليه الدلائل صلى إلى تلك المحاريب إذا كان بلدًا للمسلمين عامرًا؛ لأن هذا أقوى من اجتهاده مع خفاء الدلائل عليه، فأما العامِّي فيصلي في سائر المساجد؛ إذ ليس من أهل الاجتهاد، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) وهو لغة: افتعال من الجهد وهو المشقة وهو الطاقة. وفي الاصطلاح: بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط، انظر البرهان 2/ 1316، نهاية السول 4/ 524، المستصفى 2/ 350.

باب القول فيما لا يجوز فيه التقليد وما يجوز

بَابُ القَوْلِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ وَمَا يَجُوزُ ولا يجوز عند مالك -رحمه اللَّه- لعالم ولا عامِّي أن يقلد في زوال الشَّمس، لأنه أمر يشاهد، ويصل كل واحد منهم إلى معرفته، بل العامي يقلِّد العالم في أن وقت الظهر هو إذا زالت الشمس، ويقلده في أوقات الصلوات أنها هي الأوقات التي وَقْتَهَا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأن هذا أمر يعلمه أهل العلم بالتوقيف، وليس مما يشاهد، فإن كان في العامة مَنْ يخفى عليه علم الزوال، ولا يتمكن من إدراكه، جاز أن يقلَّد فيه كما يقلد في سائر ما لا مَعْرِفَةَ له به، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ فِي اسْتِعْمَاله العَامّيّ ما يُفْتَى بِهِ يحتمل مذهب مَالِكِ إذا استفتى العامي العالم في نازلة، فأفتاه، ثم نزلت مثل تلك النازلة بالعامّيّ مرة أخرى، فيحتمل أن يقال: إنه يستعمل تلك الفتوى، ولا يحتاج إلى أن يسأل ثانية؛ لأنه على الظاهر قد ساغ له، ولو كلف ذلك لشقّ عليه، وهذا إذا كانت المسألة بعينها، وما لا إشكال فيه على أحد، ويحتمل أن يقال: أو عليه أن يسأل، ولعله الأصح؛ لأنه يعمل باجتهاد ذلك الفَقِيه، ولعل اجتهاده في وقت ما أفتاه قد تغيَّر عما كان أفتاه به في ذلك الوقت، وهذا مثل من يجتهد بالقبلة فَيُصَلِّي، ثم يريد أن يصلّي صلاة أخرى، فإنه يجتهد ثانية، ولا يعمل على الاجتهاد الأول. بَابُ الْقَوْلُ فِي تَقْلِيد مَنْ مَاتَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إذا حكى للعامي عن مالك -رحمه اللَّه- أو عَنْ غَيره من العلماء، وهو في غير عصره فتوى في مسألته، فإنه يجوز للعامي أن يقلد مالكًا بعد موته، وكذلك غيره من العلماء الذين اشتهرت أمانتهم؛ لأن العامي إذا جاز له أن يعمل على اجتهاد بعض أصحاب مالك، كان عمله على اجتهاد مالك أولى، فإن لم يكن أولى منه، فهو مثله، ويكون مَالِك كأنه باقٍ لأن قوله بمنزلته وهو حيّ. وتصير منزلة مَالِك مع العامِّيّ كمنزلة مَالِكٍ مع الصحابي أنه يرجع إلى قوله وإن كان ميتًا، ويكون قول الصحابي أول من أهل عصر الإِمام مالكٍ. بَابُ الْقَوْلِ فِيمَا يُوجَدُ في كِتَابِ الْعُلَمَاءِ قال القَاضِيُّ: إِذا وجد الرجل كتابًا مترجمًا مثل كتاب مُوطَّأ مالك أو كتاب الثورِيِّ أو الأوْزَاعِي أو الشَّافِعيّ، فهل يجوز له أن يقال في شيء يجده فيه، قال مَالِكِ، وقال الثَّوْرِيُّ، وقال الأَوْزَاعِيُّ، وقال الشَّافِعِيُّ.

باب القول في الترجمة على المفتي

قال القَاضي: فهذا سبيله أن ينظر، فإن كان من الكتب التي قد اشتهر ذكرها مثل "الموطَّأ" لمالك، و"جامع الثوري"، وكتب الرَّبِيعِ، جاز أن يعزى ذلك للمترجم عنه إذا كان الكتاب صحيحًا مقروءًا على العلماء معارضًا بكتبهم، وإن كان من الكتب التي لم تشتهر، ولم ينشر ذكرها لم يجز ذلك حتى يروي ما فيه عمن ينسب إليه بروايات الثقات عنه، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْل فِي التَّرْجَمَةِ عَلَى المُفْتِي مذهب مالك -رحمه اللَّه- إذا كان الفقيه عربيَّ اللسان ولا يحسن بالفارسية أو غيرها من الألسن، وكان المفتي عجميًّا لا يحسن بالعربية، فجاء رجل يحسن لسان العرب والعجم، وهو عامي فترجم للفقيه عن الأعجميّ ما قاله، وترجم عن الفقيه للأعجمي ما قاله، وأفتاه به، فيجوز ذلك، ويصير طريقه طريق الخبر، ويجب أن يكون الترجمان عربيًّا كما يقول في نقل الخبر ويكون معبرًا للفتوى بلسانه حَسَبَ ما قاله الفقيه للأعجمي من غير تغيُّرٍ له عن معناه، وكذلك إذا بعث الرجل بسؤاله إلى الفقيه، فأجابه بالخط أي: بعَثَ بسؤاله في رُقْعَة إلى الفقيه، فأجابه بخطّ، فيجب أن يكون الرسول ثقة؛ لأن هذه من الأمور التي جرت العادة بها في كل عصر وزمن وإلى الناس ضرورة إليها واللَّه أعلم. بَابُ الْكَلام فِي وُجُوبِ أَدِلَّةِ السَّمْعِ قال القاضِي: قَد بَيَّنَّا قول مالك -رحمه اللَّه- في بُطْلانِ التَّقْلِيد، ووجوب الرجوع إلى الأصول ومعانيها، فمن الأصول السمعية عند مَالِكٍ الكتاب والسنة والإجماع واستدلالات منها والقياس عليها فصل في الكتاب. . . وكتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هو الذي كان وصفه اللَّه -تَعَالَى- فقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: الآيتان 41، 42]. وقال تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: الآية 2]. وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: الآية 38]. فلم يفرط فيه في شيء من أمر الدين، بل جعله تبيانًا لكل شيء وشفاء وهدى. وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} [القيامة: الآيتان 18، 19].

فصل في السنة

وقال عَز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: الآية 88] أي: عوينًا. فقطع عذر الخَلْق به وبإعجازه، وظهر إعجازهم عن أن يأتوا بسورة من مثله، فثبتت آياته ولزمت حجته. فصل في السُّنَّة وأما سُنَّة الرسول عليه السلام -فأصل ذلك في كتاب اللَّه- عَزَّ وَجَلَّ، قال اللَّه تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: الآية 80]. وقال عَزَّ وَجَلَّ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: الآية 59]. وقال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: الآية 63] إلى قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: الآية 63]. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: الآية 7]. وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: الآية 59]. وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: الآية 65]. فأوجب اللَّه -عَز وَجَلَّ- علينا طاعة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- كما أوجب علينا طاعته نفسه سبحانه. وقرن طاعته بطاعته، وأمر بأخذ ما أتى به والانتهاء عما نَهَى عنه، وأخبر أنه ولاه بيان ما نزل إليهم، وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3، 4]. . . إلى آيات كثيرة تدلُّ على وجوب السنة كوجوب الكتاب. فصل فِي الإِجْمَاعِ وأما الإجماع فأصله في كتاب اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ -أيضًا قال اللَّه تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: الآية 115]. وقال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: الآية 59].

فقيل في "أولى الأمر": إنهم العلماء

وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: الآية 83]. فأمر تعالى باتِّباع سبيل المؤمنين وحذر ترك اتباعهم، كما حذر في ترك اتِّباع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمر بطاعة أُولي الأمر منهم مقرونةً بطاعة اللَّه -وطاعة رسوله- عليه السلام. فَقِيلَ في "أُولى الأَمْر": إِنَّهُمُ العُلَمَاء وقيل: أمراء السرايا، وهم من العلماء أيضًا، فيحتمل أن تكون الآية عامَّة في العلماء وأمراء السرايا على أنَّ أُمَرَاء السرايا من جملة العلماء؛ لأنه لم يكن يولى عليهم إلا من علماء الصحابة وفقهائهم، فأمر اللَّه -تعالى- بالرَّد إليهم واتباع سبيلهم، فصحَّ أنهم حجَّة لا يجوز خلافُهُم، فهذه أصول السمع وأصلها كلها في الكتاب كما قد رأيت، وهي مضافة لبيان الكتاب لقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: الآية 89] وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: الآية 38]. وعلى هذا إضافة ما أجمع عليه مما لا يوجد له في الكتاب نصّ، ولا في السنة ذكر؛ لأن الكتاب أمر بِقَبُول ذلك كله ووجبت حجته جميعه، وهذا تقليد من لزم تقليده من أولي الأمر وهم العلماء كما ذكرنا. فصل فِي الاسْتِدْلالِ وَالْقِيَاسِ ثم دل الكتاب على الاستنباط والاستدل الذي غير موضع قال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: الآية 2]. وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ} إلى قوله: {تَأْوِيلًا} [النساء: الآية 59]. فكان في ذلك دليل على الانتزاع من الأصول وإلحاق المسكوت عنه بالمذكور على وجه الاعتبار، وهذا هو باب القياس والاجتهاد. وأصله في الكتاب، وهو أيضًا مضاف إلى بيانه، وليس شيء من الأحكام يخرج من الكتاب نصًّا، وعن السُّنَّة والإجماع والقياس. وقد انطوى تحت بيان الكتاب ذلك كله، وفي ذلك بيان معنى قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: الآية 89].

فصل في القياس

وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: الآية 38]. وقوله: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: الآية 57]، واللَّه أعلم. فَصْلٌ فِي الْقِيَاسِ (¬1) ومذهب مالك -رحمه اللَّه- القول بالقياس، وقد بَيَّنَّا الحُجَّة له، والدليل أيضًا على صحّة القياس، وهو إجماع الصَّحابة رضي اللَّه عنهم على تسويغ بعضهم لبعض القول بالقياس والاستعمال له في الحوادث أعلا [. . .] أن بعضهم لبعض شبه بالشجرة، وبعضهم شبه بالنَّهر في مسائل الجَدّ والأخوة. وبقول ابْنِ عَبَّاسٍ لو لم يعتبر الإنسان في العقل إلا بالأصابع وغير ذلك مما يطول ذكره مما هو مشهور عنهم، ولم ينكر أحد منهم على الآخر ما ذهب إليه من جِهَة القياس، فَدَلَّ على إجماعهم على القول بالقياس، وعلى حُجِيَّتهِ، وأنه ممَّا يتوصل به إلى علم الحوادث مع ما ذكرناه من دلائل الكتاب والسنة والإجماع على صحته، ووجوب القول به، وباللَّه التوفيق. بَابُ القَوْلِ فِي الْخُصُوصِ (¬2) وَالْعُمُومِ (¬3) قال القَاضِي: من مذهب مالك -رحمه اللَّه- القول بالعموم، وقد نصّ عليه في كتبه في مسائله حيث يقول محتجًّا لإيجابه اللعان (¬4) بين كل زوجين لعموم إيجاب اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- ذلك بين الأزواج، وكذلك قال: وقد سئل عن عِدّة (¬5) الصغيرة من الوفاة واحتجَّ بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} إلى قوله: {وَعَشْرًا} [البقرة: الآية 234] وقد احتج لقوله: إن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، سواء كان جامعًا أو غيره بقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: الآية 187]. ¬

_ (¬1) انظر تعريف القياس في البرهان 2/ 743، التمهيد للأسنوي في (463)، والإحكام للآمدي 3/ 167، ونهاية السول 4/ 2. (¬2) الخصوص جمع خاص وهو اللفظ الدال على مسمى واحد. انظر البحر المحيط 3/ 240. (¬3) في اللغة: شمول أمر المتعدد، سواء كان الأمر لفظًا أو غيره، واصطلاحًا: اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له من غير حصر، انظر البرهان 1/ 318، نهاية السول 2/ 312، المستصفى 2/ 32، الإحكام للآمدي 2/ 185. (¬4) انظر المصباح المنير 2/ 761. (¬5) انظر الصحاح 2/ 505.

باب الكلام في الأوامر والنواهي

قال مالك: جمع اللَّه -سبحانه وتعالى- المساجد كلها, ولم يخص مسجدًا عن مسجد، وحكم هذا الباب عنده أن الخطاب إذا ورد باللفظ العام نظر، فإن وجد دليل يخصّ اللفظ كان مقصورًا عليه، وإن لم يوجد دليل يخصه أجرى الكلام على عمومه، ووجه ذلك أن فِطْرَة اللسان في العلم الذي وصفته، واحتمال الخصوص إذا لم يكن محتملًا لذلك كان سنة، فوجب أن يجري حكمه على جميع ما استعمل عليه، ولو كانت عينه توجب ذلك، لم يجز أن يوجد في الخطاب لفظ علم أريد به الخصوص، ولا جاز أن يقوم دليل على خصوص لفظ علم، وفي وجود ذا الأمر بخلاف ذلك دليل على أنَّ غير اللفظ لا يوجب العموم، وَإِذَا كان ذلك كذلك علم احتماله، ومتى علم أنه محتمل لم يجز الإقدام على الحُكْم به دون البَحْث والنَّظَر في المراد به، والمعنى الذِي يخرج عليه؛ لأن اللَّه -عزَّ وَجَلَّ- أمرنا باتِّبَاع كتابه وسنة نبيه والاعتبار بهما، والرد إليهما فذلك كله كالآية الواحدة. فلا يجوز ترك شيء من ذلك مع القدرة عليه، وإذا لم يجز ذلك وجب أن ينظر ولا يهجم بالتنفيذ، قبل التأمل كما لا يبادر بذلك في الكلام المتصل إلى أن ينتهي إلى آخره، فينظر آخرُهُ، هل يتبعه استثناء أم لا؟ وكذلك الكتاب والسنة والأصول كلها كالآية الواحدة، ولا يجوز أن يبادر إلى التنفيذ حتى يتدبر وينظر، فإن وجد دليل يخصّ حَمَلْنا الخطاب عليه، وإن لم يجد فقد حصل الأمر، والمراد به التنفيذ، وإنما جعلت الأسماء دليلًا على المسمَّياتِ، وقد ورد اللفظ مشتملًا على مسمَّيَّات، فليس بعضها أولى من بعض، وقدم عليه فهو على عمومه، والحكم جاء على جميع ما انطوى عليه؛ لأن قضية العقول أن كل مُتَساويين، فحكمهما واحد من حيث تساويا إلا بأن يخص أحدهما معنى يوجب إجراءة عن صاحبه، وإذا عده دليل الأفراد فلا حكم إلا التسوية؛ إذ ليس أحدهما أولى من الآخر وإذا كان هكذا صحّ ما قلنا في العموم والخصوص، وباللَّهِ التوفيق. بَابُ الكلامِ في الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي (¬1) عند مالك -رحمه اللَّه- أن الأوامر على الوجوب إذا وردت من مفروض بالطاعة، وقد احتجّ حيث سئل عن تَمَام ما يدخل فيه القرب بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: الآية 196] وبقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: الآية 187]. ¬

_ (¬1) انظر البرهان 10/ 203، الأحكام للآمدي 2/ 120، نهاية السول 2/ 226، المستصفى 1/ 81.

باب القول في أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم-

والدليل على صحة ذلك أن المفروض الطاعة إذا قال لمن تلزمه طاعته: افعل، لم يعقل منه لا تفعل، ولا ما في معناه، ولا توقف، ولا ما في معناه، ولا أنت مُخَيَّر، ولا ما في معناه، فلم يبق إلا البخاري الفعل وإنجازه من المأمور به، فدل على أن الأوامر تدل على الوجوب إذا تجردت عن القرائن التي تدل على الندب (¬1) وغيره، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) ومذهب مالك -رحمه اللَّه- أن أفعال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على الوجوب، وقد أباح ذلك، والثاني: أنه لا يتبع فيه إلا بدليل، هكذا حكى الخلاف في "شرح الطريقين في العيد"، وعن الماوَرْدِي أن ما فعله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لمعنى فزال ذلك المعنى، فيه قال ابن القطان: ولا خلاف فيه. قال في مواضع كثيرة احتجاجًا بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: الآية 21] وسواء كان ذلك حظرًا أو إباحة حتى يتبيَّن أنه -عليه السلام- مخصوص بذلك دوننا، وقد أسقط مالك -رضي اللَّه عنه- الزَّكَاة في الخضراوات اقتداء بأنها لم يأخذها النبي -عليه السلام- فدلّ على أن أفعاله -صلى اللَّه عليه وسلم- عنده على الوجوب، وقال تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: الآية 153]. والأمر على الوجوب، فوجب اتباعه -عليه السلام- في قوله وفعله، وكذلك قال عمر -رضي اللَّه عنه- لَمَّا قَبَّلَ الحَجَرَ: "إِنِّي لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولَكنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبَّلَكَ". وكذلك خلعت الصَّحابة -رضي اللَّه عنهم- نعالهم لدخول الكعبة، وقالوا: رأينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خَلَعَ نَعْلَين لدخولها، فدل على أن أفعاله على الوجوب إلا أن يقوم دليل الخصوص. بَابُ الكَلامِ في الأَخْبَارِ وَالقَوْلِ في التَّوَاتُرِ (¬3) ومذهب مالك -رحمه اللَّه- قَبُول الخبر الذي قد اشتهر واستغنى عن ذكر عدد ¬

_ (¬1) الندب هو في اللغة المدعو إليه. وفي الاصطلاح: الفعل الذي طلبه الشارع طلبًا غير جازم، انظر البرهان 1/ 310، الأحكام للآمدي 1/ 111، نهاية السول 1/ 77، المستصفى 1/ 75. (¬2) انظر البرهان 1/ 383، الأحكام للآمدي 1/ 158، نهاية السول 3/ 64. (¬3) التواتر: هو في اللغة المتتابع أو مع فترات، وفي الاصطلاح: ما رواه جمع يحيل العقل =

باب القول في خبر الواحد العدل

ناقليه لكثرتهم، كمواقيت الصلاة وأركان الحج التي لا يتم إلا بها، وتحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وأشباه ذلك من الشرائع التي تواترت الأخبار بها عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهذا هو الخبر المُتواتر الذي يوجب العلم، ويقطع العذر، ويشهد على مُخبره بالصدق، ويرتفع معه الرَّيْب، وهذا مما لا خلاف فيه بين فقهاء الأمصار، وسائر الأُمَّة، ولا ينكره إلا من خرج عن الجماعة ومَرَق من الدين وخالف ما عليه المسلمون، ولأنه بمثله تعرف أخبار الأنبياء والرسل والمماليك والدول والأيّام والأسلاف، وما لم نشاهد من البلدان مثل الصين، وَخُراسَانَ، فمن أنكر ذلك لزمه أن يتوقف عن معرفة هذه الأشياء، ومن توقَّف عن هذا بأن عَوَار مذهبه، وقبح طريقته وعناده ومكابرته وخروجه عن جميع ما عليه العقلاء، وكفى بهذا بطلانًا وفسادًا، وباللَّه التوفيق. بَابُ القَوْلِ في خَبَرِ الْوَاحِدِ العَدْلِ (¬1) ومذهب مالك -رحمه اللَّه- قَبُول خبر الواحد العدل، وأنه يوجب العمل دون القطع على عَيْنِهِ، وبه قال جميع الفقهاء، وقد احتج مالك بذلك في الْمُتَبايعِينِ بالخيارِ مَا لَمْ يَفْتَرقَا (¬2)، وكَذَلِكَ في غَسْلِ الإِنَاءِ من وُلُوغ الْكَلْبِ (¬3)، وفي مواضع كثيرة. والدليل على وجوب العمل به قوله عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا. . .} إلى قوله: {نَادِمِينَ} [الحجرات: الآية 6]، فدل على أن العدل لا يثبت في خبره، إذ لو كان الفاسق والعدل سواء لم يكن لتخصيص الفاسق بالذِّكْر فائدة، وإنما لم يقطع على عَيْنه؛ لأن العلم لا يحصل من جهته؛ إذ لو كان يحصل من جهته العلم لوجب أن يستوي فيه كل مَنْ سمعه كما يستوي في العلم بمخبر خبر التواتر، فلما كنا نجد أنفسنا غير عالمين بصحة مخبره، دل على أنه لا يقطع على معينه، وأنه بخلاف التَّواتر، وصار خبر الواحد، بمنزلة الشَّاهد الذي قد أمرنا بقَبُول شهادته، وإن ¬

_ = تواطأهم على الكذب عادة من أمر حسي، أو حصول الكذب منهم اتفاقًا ويعتبر ذلك في جميع الطبقات إن تعددت، انظر البحر المحيط للزركشي 4/ 231، الأحكام للآمدي 1/ 14. (¬1) انظر البحر المحيط للزركشي 4/ 257، البرهان 1/ 599، نهاية السول 3/ 97، والأحكام للآمدي 2/ 30. (¬2) أخرجه البخاري 4/ 382، ومسلم 3/ 1163. (¬3) أخرجه مسلم 1/ 234، وأبو داود 1/ 19، والترمذي 1/ 151.

باب القول في الخبر المرسل

كنا لا نقطع على صدقه، فإن قيل: إن في سياق الآية ما يوجب التوقُّف عن خبره، وهو قوله عَزَّ وَجَلَّ: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: الآية 6]. والجَهَالَة قد تدخل في خبر العدل من حيث كان خبره، ولا نقطع على غيبه، ومن حيث كان السَّهْو والغلط والكذب جائزًا عليه. قيل: الجهالة في هذا الموضع هي السَّفَاهة وفعل ما لا يجوز فعله مما يقع التوبيخ والذم عليه، وقد جاز التوبيخُ على الجهل في بعض المواضع، ولو كانت الجهالة لا تكون إلا بمعنى الغَلط لقبح الذم والتوبيخ على فعلها، والدليل على صحّة التأويل قوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: الآية 6] والندم إنما يكون على ارتكاب المنهي. والدليل أيضًا على ذلك أنه لو كانت العلّة في وجوب التوقف عنه في الجهل بخبره، لم يجز قَبُول خبر الشاهدين لهذه العلّة، فلما أجاز اللَّه -سبحانه- ذلك وأمر بِقَبُولِهِ دلَّ على فساد قول من ردّ خبر الواحد بذلك، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ فِي الخَبَرِ الْمُرْسَلِ (¬1) ومذهب مالك -رحمه اللَّه- قبول الخبر المرسل إذا كان مرسله عدلًا عارفًا بما أرسل، كما يقبل المسند، وقد احتجّ به في مواضع كثيرة حيث أرسل الخبر في اليمين مع الشاهد، وعمل به، وكذلك أرسل الحديث في الشفعة وللشريك وعمل به، وكذلك أرسل الخبر في ناقة البراءِ، وسائر جنايات المواشي، فعمل بذلك، والحجة له أن المُرْسل إذا كان عدلًا متيقظًا، فقد أسقط عنا بعدالته ويقظته تعديل من لم يذكره لنا ممن روي عنه وناب منابنا، وكفانا التماس عدالة من نقل عنه، فوجب لمن وجب تقليده في عدالته أن يقلده في أنه لا يروي عن غير عدل ثقة، وقد علم أنه إذا صرح بذكر مَن روى عنه، فقد وَكَّل الاجتهاد إلينا لنعتبر حاله بأنفسنا، وأنه إذا أَضَنَّ بمن ذكره، فقد استبذ بعلم ما خقي علينا من عَدَالته، وأن يعمل على ذلك من كان مرضيًّا عندنا ضابطًا متيقظًا إلا وقد بالغ في الثقة مقن روي عنه، وأن يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الأمر، حيث يصح عنده أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قاله: ولم يزل أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يرسلون، ويخبر بعضهم بعضًا فيذكرون من أخبرهم تارة، ويستغنون عن ذكره أخرى، وكذلك ¬

_ (¬1) هو في اللغة من الإرسال وهو يقابل الإمساك وفي الاصطلاح انظر البرهان 1/ 632، الأحكام للآمدي 2/ 112، نهاية السول 3/ 197، المستصفى 1/ 169.

باب الكلام في إجماع أهل المدينة وعلمهم

التابعون بعدهم وتابعوهم، فدل على صحة ما قلناه، وأنه إجماع من الفقهاء، والمحدثون يستعملونه في كل عصر وزمان، فوجب أنه جهل معمول به واللَّه أعلم. بَابُ الْكَلام فِي إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعِلْمِهِمْ (¬1) قَدْ تقدّم أن مذهب مالك -رحمه اللَّه- وسائر العلماء -القول بإجماع الأمة، ومِن مذهب مالك العمل على إجماع أهل المدينة، فيما طريقه التوقيف منه -عليه السلام- كإسقاط زكاة الخضراوات؛ لأنه معلوم أنها قَدْ كانت في وقت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم ينقل أنه أخذ منها الزكاة، وإجماع أهل المدينة على ذلك، فعمل عليه، وإن خالفهم غيرهم، وقد احتجّ مَلِك -رحمه اللَّه- بذلك في مَسَائِل يكثر تَعْدَادها، حيث يقول الأمر الذي لا اختلاف عندنا، وهو من خبر التواتر الَّذِي قد بَيَّنَا أَنَّه مذهبه وحجته في أنهم أَوْلَى من غيرهم فيما طريقه النقل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأن الرسول -عليه السلام- كانت هجرته إلى المدينة ومقامه بها، ونزول الوحي عليه فيها، واستقراء الأحكام والشَّرائع بها، وأهلها مُشَاهِدون لذلك كله، عالمون به لا يخفى عنهم شيء منه، وكانت حياته -صلى اللَّه عليه وسلم- معهم إلى أن قبض- على أوجه إما أن يأمرهم بالأَمر فيفعلونه، أو يفعل الأمر، فيتبعونه، أو يشاهدهم على أمر فيقرهم عليه، فلما كانت لهم هذه المنزلة منه -عليه السلام- حتى انقطع التنزيل، وقبض بينهم -صلى اللَّه عليه وسلم- فحال أن يذهب وَهُمْ مع هذه الصفة ما سيدركه غيرهم؛ لأن غيرهم ممَّن ظعن منهم إلى المواضع هم الأقل، والأخبار عنهم أخبار الآحاد؛ لأن أعدادهم مضبوطة، وأخبار أهل المدينة أخبار تواتر، فكانت أولى من أخبار الآحاد. فإن قيل: فقد نقل إلى أهل المدينة أشياء كانت من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في مغازيه لم يكونوا علموها قبل ذلك من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قيل: الذين نقلوا إليهم ذلك عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أهل المدينة، فلم يخرج النقل عنهم. فإن قيل: فقد كانت منه -صلى اللَّه عليه وسلم- أشياء بمكة لما حجّ لم تكن بالمدينة. قيل: قد كان معه أهل المدينة في حجته فهم شَاهدوه أيضًا بـ "مكة"، ونقلوا عنه ما كان منه في حجه وغيره. ¬

_ (¬1) انظر البرهان 1/ 720، والأحكام للآمدي 1/ 720، ونهاية السول 3/ 263، والمستصفى 1/ 187.

باب القول في دليل الخطاب

فإن قيل: فإن اتفق لأهل مكّة مثل خبر أهل المدينة في إجماعهم؛ لأنهم قد شاهدوا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كما شاهد أهل المدينة، فهذا اتَّفَقُوا على شيء من توقيف، أو ما الغالب منه أن يكون عن توقيف، فهل يجب أن يقبل ذلك منهم؟ قيل: إن اتفق لهم ذلك كانوا هم وأهل "المدينة"، سواء فيما نقلوه عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولكن لا يكاد أن يتفق هذا لغير أَهْل المدينة في أن يكون خبرهم كواسطة لا يتخلله أخبار الآحاد؛ لأن أخبر غيرهم، وإن نقلها جماعة يتخللها أخبار الآحاد في طريقها، أو في وسطها، فخرجت بذلك عن أن تكون تواترًا، وأهل المدينة يحصل لهم في فعلهم صفة التواتر، فبهذا كان خبرهم مقدمًا على خبر غيرهم. واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ (¬1) ومن مذهب مالك -رحمه اللَّه- أن دليل الخطاب معمول به، وقد احتجّ بذلك في مواضع منها حيث قال: من نحو هديه بالليل لم يجزه، لقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: الآية 28]. دليله: أنه لا يجزيه إذا نحر بالليل وكقوله: من دخل الدار فَأعْطه دِرْهمَا. دليله: من لم يدخل الدار، فلا تعطه شيئًا، وهذا نص منه في القول بدليل الخطاب. والوجه فيه أن ينظر عند ورود الخطاب بالشَّرط أو الصِّفَة إلى سياق الكلام وما تقدمه، وما يخرج عليه الخطاب، فإن وجد دليل يدلس على الجَمْع بين المسكوت عنه، وبين المذكور صير إليه، وإن لم يوجد دليل مضى الحكم على ذكره، ثم نظر في حكم المسكوت عنه للمذكور، كمن أقرَّ لرجل بألف درهم فقيل له: إن كان له عليك ألف درهم، فأخرج له منها، وكالعاصي إذا سئل عن رجل قتل ابنه، فيقول العالم: من قتل ابنه فلا قَوَد عليه، فلا يكون ذلك شرطًا في الأب وحده؛ لأنه لا ينبغي القَوَدُ في غيره، وهذا كما نقول: إنَّ سائلًا سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المَسْح على الخُفَّين هل يمسح المسافر ثلاثة أيام؟ فقال عليه السلام: "يَمْسَحُ المُسَافِرُ ثَلاثَةَ أَيَّامِ" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر البرهان 1/ 449، والبحر المحيط 4/ 13. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 232.

ولا يكون مقصورًا على السؤال، وكذلك يخرج ما روي أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "فِي سَائِمَةٍ الغَنَمِ الزَّكَاة" (¬1) أَنَّهُ سَأَلَ سَائِلٍ عن هَذَا، وما أشبهه فلا يكون مقصورًا على السؤال لقيام الدَّليل على العَامِلَةِ وَالسَّائِمَةِ في وجوب الزكاة فيهما، وقد يرد الحكم في شيء مذكور ببعض أوصافه، فيكون ممَّا سكت عنه، وقد يساوي المذكور في حكمه، ويكون منه مَا يخالفه. ألا ترى إلى قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: الآية 23]. كيف اشترط في التحريم حلائل أبناء الأصْلاب، فلم يكن في ذكر ذلك نفي حلائل أبناء البنين، ولم يكن فيه نفي لتحريم حلائل أبناء الرضَاع، واستوى حكم حلائل أبناء الأصْلاب، وحلائل أبناء الرّضَاع في التحريم، ولم يكن أَيْضًا في ذكر الحلائلِ مَنْ يخالف فيمن وطئ الأبناء من الإماء بِمِلْكِ اليمين، بل التحريم واحد. وقد يرد الخطاب على وجوه، الظاهر منه إذا تجرَّد دلَّ على ما عداه بخلافه إلا أن يقوم دليل، والحُجَّة بقوله بدليل الخطاب إذا تجرد، هو أن ذلك لغة العرب؛ لأن الخطاب إنما يقع باللسان العربي، وبه يحصل البيان، ووجدنا أَهْل اللسان يفرقون بين المطلق والمقيد، وبين المُبْهَمِ، وما يعلّق بالشرط، فإذا قال القائل: من دخل الدار مِنْ بني تميم فأعطه درهمًا عُقِلَ منه، خلاف ما يُعْقَل من قوله: مَنْ دخل الدار فأَعْطِهِ دِرهمًا، وعُقِلَ منه، خلاف ما يُعْقَل من قوله: مَن لم يدخل الدار فأَعْطِهِ دِرْهمًا. ولذلك تساءل أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن القَصْر للصلاة إذَا آمنُوا، لَمَّا سمعوا قوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: الآية 101]. وإذا كان عندهم أن ما عدا الخوف من الأمْن بخلافه، فقال لهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ" (¬2). ولم يرد عليهم ما ظنوه ولا خَطَّأهُمْ فيما قدّروه، فدلّ على أن ذلك لغته -صلى اللَّه عليه وسلم- ولغتهم -رضي اللَّه عنهم- فدلّ على صحة القول بدليل الخطاب، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري 3/ 365 - 366، وأبو داود 2/ 96 - 98، والنسائي 5/ 18 - 23. (¬2) أخرجه مسلم 1/ 478، والترمذي 5/ 227، وابن ماجه 1/ 339.

باب القول في الأسباب الوارد عليها الخطاب

بَابُ الْقَوْلِ فِي الأَسْبَابِ الوَارِدِ عَلَيْهَا الخِطَابُ ومذهب مالك -رحمه اللَّه- قصر الحكم على السَّبَبِ الذي خرج اللفظ عليه، مَتَى خلا ممَّا يدل على اشتراك ما تناوله اللفظ معه. وحُكِيَ عن ابْنِ القَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَق أن الحكم للفظ دون السبب، قال: وذلك نحو ما روي عن النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد سُئِلَ عن بِئْر بضَاعَةَ وما يلقى فيها من الكلاب، فقال: "خلَقَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الماءَ طَهُورًا لا يُنجِّسُهُ شَيْءُ إِلَّا مَا غَيَّرَهُ" (¬1). فحكم على الماء بأنه طهور جنسه، دون الماء الذي سئل عنه، فدلّ على أن كل ما وصفه ما ذكره؛ لأن اللفظ يقتضي ذلك، والحجة له أنه لما كان الموجب للحكم هو اللَّفظ دون السبب، وجب أن يكون هو المراعي دونه، والحجة للوجه الآخر، وهو قول مَالِكٍ، هو: أن السؤال يَفتقِرُ إلى الجواب والجواب سبب السؤال، فقد صار كل واحد منهما سببًا لصاحبه لا بد له منه، فلما كان السؤال مقصورًا كان الجواب كذلك، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ فِي الزَّائِد مِنَ الأخْبَارِ (¬2) من مذهب مَالِك -رحمه اللَّه- قَبُول الزائد من الأخبار، وصورته أن يروي أحد الراويين خبرًا يفيد معنى من المعاني، ويَرْوي آخرُ ذلك الخبر بزيادة لفظة فيه؛ لأن تلك اللفظة تدل على زيادة معاني أخرى في الحَدِيث، وتكون اللفظة الزائدة لو انفردت لاستفيد منها معنى، فيصير الخبر مع زيادته كالخبرين، فمن قَبِلَ خبر الواحد لزمه قَبُول ذلك؛ لأن الزيادة كخبر آخر، فقبولها واجب، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ فِيمَا يَخُصُّ بِهِ العُمُومُ مذهب مَالِكٍ أن الآية العامة إذا كان في العقل (¬3) تخصيصها خُصَّت به وإن لم يكن في العقل تخصيصها؛ فإنه يجوز أن تخصّ بالآية الخَاصّة وكذلك بالسنة المتواترة، وبالإجماع، وخبر الواحد، وبالقياس. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي 1/ 174، وابن ماجه 1/ 173، والدارقطني 1/ 31، وأخرجه أحمد في المسند 3/ 31 - 86. (¬2) انظر البرهان 1/ 662، والاحكام للآمدي 2/ 154، والمحصول 2/ 1/ 677. (¬3) انظر البحر المحيط 3/ 355، الأحكام للآمدي 2/ 293، ونهاية السول 2/ 451.

فصل

فصل فما خص بالكتاب قوله عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون: الآية 6]. فكان عامًّا في الجمع بين الأختين بِمِلْكِ اليمين، ثم خصه قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: الآية 23]. وكذلك خصّ قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: الآية 228] بقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: الآية 4]. فدلّ ذلك على أن قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: الآية 3]. إلا أن تكون أختين، فلا تجمعوا بينهما في الوطء، فذلك عدتهن الأقراء إِذا كن من أهل المحيض، وأشباه ذلك كثير في الكتاب. فصل وما خصّ من الكتاب بالسنة قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: الآية 38]. وهذا عموم، فبَيَّنَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن المراد من ذلك مَنْ سَرق ربع دينار فصاعدًا، وبين الرسول عليه السلام -أن السرقة من غير حِرْزٍ لا قطع فيها، وكذلك قوله عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: الآية 5] عامّ وَبَيَّن الرسول -عليه السلام- مَنْ يَجوز قتله من أهل العَهْدِ والذِّمَّةِ، وغير ذلك مِمَّا بَيَّنه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بسُنَّتِهِ من عموم الكتاب مما يطول ذكره، وقال اللَّه -سبحانه في نَبِيِّه: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: الآية 44]. وقال تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: الآية 153]. وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]. فصل وما خص من الكتاب بالإجماع قوله عَزَّ وَجَلَّ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: الآية 11].

فصل

وأجمعوا أن العبد لا يَرِثُ وروي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لا يَرِثُ". وأجمعوا على ذلك، وقال عليه السلام: "لا يَتَوَارَثُ أَهْلُ ملَّتَيْنِ" (¬1). فقد دل الإجماع على تخصيص بعض، وغير ذلك مما خص بالإجماع كثير، وقد ذكرنا الدليل على حُجَّة الإجماع. فصل وممَّا خصَّ بالقياس قوله عَزَّ وَجَلَّ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: الآية 2]. وقوله في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: الآية 25]. فدلت هذه الآية على أَن الأَمَةَ لم تدخل في عموم من أَمَرَ بجَلْدِها مائة من النساء، ثم قيس العَبْدُ على الأَمَةِ، فجعل حَده خمسين كجَلْدِهَا. فكانت الآية مخصوصة بالأَمَة، والعبد مخصوصًا من قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: الآية 2] وبالقياس على الأَمة، وقد ذكرنا الدليل على حجّة القياس، وباللَّه التوفيق. فصل ويجوز عند مَالِكٍ تخصيص الظَّاهر يقول الصَّحَابِي الواحد إذا لم يعلم له مخالف، وظهر قَوله؛ لأن قوله يلزم، فيجب التخصيص به؛ لأنه يجري مَجْرَى الإجماع، وجميع ذلك مذهبه في تخصيص الآيِ. فصل وكذلك مذهب مَالِكٍ في السنة إذا كان اللفظ فيها عامًّا تَخُصَّ بمثل ما ذكرنا مما يخصّ به الكتاب فيخصّ السنة بالكتاب وبالسنة وبالإجماع وبالقياس وبقول الصحابي وأصل هذا الباب في البيان بالكتاب والسنة والإجماع والقياس والدليل لما قام أن الخَاصَّ يُبَيّنُ معنى العَامِّ، وجب بذلك أن يبيّن الخاصُّ من الكتاب العام منه، وإذا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود 3/ 125، النسائي 6/ 319، (8724) وابن ماجه 2/ 912، وأحمد في مسنده 2/ 195، والدارقطني 4/ 75، 76، والحاكم 4/ 345، والدارمي 2/ 369، 370.

باب القول في الأخبار إذا اختلفت

وجب ذلك في الآية وجب مثله في الآية والسنة وفي الآية والإجماع؛ لأن هذه كلها أصول قد لزم العمل بها فهي كالآية الواحدة وكالأصل الواحد؛ متى تعلق متعلق بظاهر الآية، تعلّق الآخر بخصوص السنة، فتجاذباه، فإذا رَامَ أَحدهما طَرْحَ ما تعلّق صاحبه به، وعارضه صاحبه بمثل ذلك، فيما يتعلق به، فإذا تعارض بالحُجَّةِ لزم بهما، وبكل واحد منهما فصار كالآيتين، ووجب الجمع بينهما على ما يؤدي إلى استعمالهما، وباللَّه التوفيق. بَابُ القَوْلِ فِي الأَخبَارِ إِذَا اخْتَلَفَتْ ومذهب مالِكٍ -رحمه اللَّه- في فعل ما اختلفت الأخبار به، مثل ما روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من قول الإِمام: آمين وتركه. وما رُوِيَ عنه من رَفْع اليدين في الصلاة عِند الركوع والرفع منه وتركه والتسبيح في الركوع. وأشباه ذلك مما اختلفت الأخبار فيه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا لم تَقُم الدلالة على قُوَّة أحدهما على الآخر، ولا ما أوجب إسقاطهما ولا إسقاط أحدهما، والحجة في ذلك أن الخبرين إذا ثبتا جميعًا ليس أحدهما أولى من صاحبه، ولا طريق إلى إسقاطهما، ولا إلى إسقاط أحدهما، وقد استويا وتقاوما وأمكن الاستعمال، فلم يَبق إلا التَّخَيُّرُ فيهما، وإن كان كلّ واحد منهما سَدّ مَسَدّ الآخر، وصار بمنزلة الكَفَّارة التي دخلها التَّخَيُّرُ، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ فِي خَبَرِ الوَاحِدِ وَالقِيَاسِ يَجْتَمِعَانِ ومذهب مالك -رحمه اللَّه- أن خبر الواحد إذا اجتمع مع القياس، ولم يمكن استعمالها جميعًا، قُدِّم القياس عند بعض أصحابنا، والحُجَّة له على ذلك أن خَبَرَ الواحد لما جاز عليه النَّسْخُ والغلط والسهو والكذب والتخصيص، ولم يَجُزْ على القياس من الفساد، إلا وجه واحد، وهو أن هذا الأصل مَعْلول بهذه العلة فصار أقوى من خبر الواحد، فوجب أن يقدّم عليه، وقد اختلف في ذلك، فقيل: خبر الواحد أَولى من القياس في هذا الذي ذكرناه. وقيل: القياس أوْلَى لما ذكرناه، واختلف فيه أصحابنا، واللَّه أعلم.

باب القول في أن الحق واحد من أقاويل المجتهدين

بَابُ القَوْلِ في أَنَّ الحَقَّ وَاحِدٌ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُجْتَهِدِينَ (¬1) قال القاضي: ومذهب مَالِكٍ أن الحق واحد من أقاويل المجتهدين، وذلك أنه قال لما سُئِلَ عن اختلاف أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: لَيْسَ في سعة خطأ أو صواب، وكذلك قال الليثُ لما سئل عن ذلك. وقال مالك: قولان مختلفان لا يكونان جميعًا حقًّا، وما الحق إلا واحد، وأجمع مَالِك، وسائر الفقهاء أنَّ الأثر في الخطأ في مسائل الاجتهاد موضوع والدليل على ذلك قول النَّبِي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا اجتهَدَ الحَاكم وأَصَابَ فَلَهُ أْجرَانَ، وإنْ أخْطَأَ فَلَهُ أجْر" (¬2) وهذا نصٌّ على أن مسائل الاجتهاد ما هو خطأ، فدلّ على أن الحَقَّ في واحد، لا في جميعها، وجعل له الأجر، وإن أخطأ على اجتهاده، ودفع عنه إثم خطئه. وهناك أيضًا إجماع الصحابة -رضي اللَّه عنهم- لأنهم اختلفوا في مسائل الاجتهاد، وردَّ بعضهم على بعض، ودعا بعضهم بعضًا إلى المُبَاهَلَة، وأنكر بعضهم على بعض بأغلظ نكيرٍ، وسوّغ بعضهم لبعض الرد على صاحبه، ولم يقتل بعضهم لبعض: الحق معي ومعك، فلو كان كل واحد منهم مُصِيبًا لم يكن لاخْتِلافِهِم معنى، فدل على ما قلناه، وباللَّه التوفيق. بَابُ القَوْلِ فِي تأخِير البَيَانِ (¬3) ليس يختلف مالِكُ -رحمه اللَّه- وسائر الفُقَهاء في أنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز (¬4). وإنما الخلاف هل يجوز أن يتأخر عن وقت النزول إلى وقت الحاجة؟ وليس عن مَالِكٍ فيه نص قول، ولا لأصحابه المتقدمين. وكان القاضي أَبُو بكْرٍ يقول: إن البيان يجوز أن يتأخَّر عن وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة، ويذكر أنَّ مَالكًا قد أشار إلى ذلك، حيث قال وقد ذكر قول ¬

_ (¬1) انظر البرهان 2/ 1316 - 1326، المستصفى 2/ 361، 364، البحر المحيط 6/ 326. (¬2) أخرجه البخاري 13/ 330، ومسلم 3/ 1342، والشافعي 2/ 176. (¬3) البيان لغة اسم مصدر بين إذا أظهر واصطلاحًا: فيطلق على الدال على المراد بخطاب ثم يستقل بإفادته. انظر الأحكام للآمدي 3/ 22، ونهاية السول 2/ 524، المستصفى 1/ 64. (¬4) انظر نهاية السول 2/ 540، الأحكام للآمدي 3/ 28، والبحر المحيط 3/ 493.

باب القول في خطاب الواحد هل يكون خطابا للجميع

النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ" (¬1): إن ذلك له إذا رآه الإِمام؛ لأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد كان قبل ذلك قسم أسْلابًا كثيرة، ولم يبلغني أنه قال ذلك إلا يوم حُنَيْن. قال القاضي أَبُو بَكْرٍ البَاقِلاني: وقد قال مَالِكُ: لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت الحاجة فهذا يدل على أنه يجوز تأخيره عن وقت النزول. وكان شيخنا أبُو بكْرٍ بْنُ صَالِح الأبهريُّ -رحمه اللَّه- يمنع من ذلك، ويقول: لا يجوز أن يتأخَّر البيان عن وقت ورود الخطاب -والحجة لمن جوز تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ما روي أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَ اليَمَنِ أَنَّ عَلَيْهِمْ زَكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقرائِهِمْ" (¬2). فأعلمهم مُعاذ ذلك، ثم كان بيان شرائع الزكاة، ووجوهها يقع لهم على مقدار الحاجة، حتى سألوه عن وقَص البقر، فأخبرهم أنه لم يسمع من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه شيئًا، ولا معنى لمن ينكره؛ لأن ذلك لو كان ممتنعًا غير جائز لم يخل أن يكون ممتنعًا بالعقل أو بالشرع، ولسنا نعلم في العقول امتناعه ولا في الشرع أيضًا ما يمنعه. والحجَّةُ لمن منع ذلك أن المخاطب لا يدري ما يعتقد فيه قبل ورود البيان له وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا كان البيان يجري على يديه، فقد يجوز أن تخترمه المَنِيَّة قبل البيان، وقال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: الآية 44]. بَابُ الْقَوْلِ فِي خِطَابِ الْوَاحِدِ هَلْ يَكُونُ خِطَابًا لِلْجَمِيعِ (¬3) قال القاضي أبُو بَكْرٍ إذا خاطب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- العَيْن الواحدة، هل يكون خطابًا للجميع مع المشاركة في الجنس أم لا؟ لا نعرف عن مالك نصًّا في ذلك والذي يدل عليه في ذلك مذهبه أن الخطاب خطاب اللَّه تعالى وخطاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- العين من الأعيان خطابًا للجميع، وذلك أن مالكًا روى حديثًا عن أبي هريرة في الموطأ (أن رجلًا أفطر في رمضان في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأمره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يَعْتِقَ رقبة أو يطعم ستين مسكينًا، أو يصوم شهرين متتابعين) (¬4) الحديث. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ 2/ 454 - 455، والبخاري 8/ 34 - 35، ومسلم 3/ 1370. (¬2) أخرجه البخاري 3/ 307، ومسلم 1/ 50، والترمذي 3/ 21. (¬3) انظر البحر المحيط 3/ 189، 190. (¬4) أخرجه البخاري 4/ 193، ومسلم 2/ 781، ومالك في الموطأ 1/ 297، وأبو داود 2/ 314، =

باب القول في العموم يخص بعضه

واحتج بذلك فيمن أكل في شهر رمضان متعمدًا بغير عذر، أن عليه الكفَّارة، فهذا يدل على أن مذهبه ما قلناه. ومما يوضح ذلك أيضًا أنه روى حديث فَاطِمَةَ بِنْتِ أبِي حُبَيْش -أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "قال لها: "إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْتَسِلِي عن الدَّمِ وَصَلِّي") (¬1). فأحبّ مالك أن يكون الحكم في النساء كلهن مثل الحكم فيها، ودل على الحكم في الحَيْضِ على هذا الحديث، والحجة لذلك قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خِطَابِي لِلْوَاحِدِ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ". وهذا نص فيما ذكرناه، فوجب الحكم، وباللَّه التوفيق. بَابُ الْقَولِ فِي الْعُمُومِ يُخَصُّ بَعْضُهُ مذهب مالك في العموم إذا خص بعضه هل يكون ما بقي على عمومه، أو يتوقف عنه حتى يقوم دليل على خصوص أو عموم (¬2). ليس يختلف أصحابنا في أن ما بقي بعد قيام الدليل على خصوصه أنه على العموم، والدليل على ذلك أن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خاطبنا بلغة العرب، ووجدناهم يقولون إِذا أمروا مَنْ يلزمه طاعتهم، وامتثال أوامرهم: أعْطِ بني تميم كذا وكذا، أنه يلزم المأمور أن يعطيهم ما أَمَرَ به، فإذا قال له بعد ذلك: لا تعطي شيوخ بني تميم شيئًا لا يكون ذلك منعًا لإعطاء مَنْ بَقِي من الشُبَّان؛ لأن عطيته الكل ثابتة، فالأمر بخروج البعض من الجملة لا يدل على إبطال الكل، وذلك معقول عندهم ومشهور في لسانهم، فوجب ألا يخرج عن ذلك، وباللَّه التوفيق. بَابُ الْقَوْلِ فِي الْقِياسِ عَلَى الْمَخْصُوصِ مذهب مالك -رحمه اللَّه- هل يجوز أن يقاس على المخصوص أم لا؟ المخصوص إِذا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ جاز القياس عليه، وإِلى هذا ذهب القاضي إسماعيل بن إسحاق. ¬

_ = والدارقطني 2/ 190. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه 1/ 396، ومسلم في صحيحه 1/ 262. (¬2) انظر البرهان 1/ 410 - 412، المستصفى 2/ 54 - 56.

باب القول في الاستثناء عقب الجملة

والحجة لذلك أن الحكم للعلَّة إِذا وجدت علق عليها الحكم، وذلك مثل قول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: الآية 2]. وكان ذلك عامًّا في كل زانية وزان، سواء أكان عبدًا أو حرًّا ثم خُصَّ من ذلك الإماء بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: الآية 25]. ثم أُلحِقَ العبيد بالإماء في الاقتصار على نصف حدِّ الحر من طريق القياس، وكانت العلة الجامعة بين الإماء والعبيد وجود الزنا مع كونهم أَرِقَّاء، فثبت بذلك جواز القياس على المخصوص، وباللَّه التوفيق. بَابُ الْقَوْلِ في الاسْتِثْنَاءِ عَقِبَ الْجُمْلَةِ (¬1) عند مالك -رحمه اللَّه- الاستثناء والشرط (¬2) إِذا ذكر عَقِبَ جملة من الخطاب، هل يكون رجوعهما إلى ما تقدم أو يكونان راجعين إلى أقرب المذكورين، وهو الذي يليهما؟ والذي يدل عليه مذهب مَالِكٍ أن يكون الاستثناء راجعًا إِلَى جميع ما تقدم إِلا أن تُقَدَّمَ دلالة على المنع منه، وذلك أنه قال: شهادة القاذف مقبولة متى تاب، لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} إِلَى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: الآيتان 4، 5]. فجعل الاستثناء راجعًا إلى جميع ما تقدم من الفسق وقبول الشهادة. والدليل على حجّة ذلك هو أن الاستثناء رَفعْ الحاكم كلام متقدّم قد قيد بعضه ببعض، حتى صار كالكلمة الواحدة، فوجب أن يكون راجعًا إلى جميعه إِذْ ليس بعضه بالرجوع إليه أولى من بعض، ومما يُبَيّنُ ذلك أن اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- قال: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: الآية 14]. فكان الاستثناء عامًّا في جميع ما تقدم إذا لم يكن بعض السنين لرجوع ذلك إليه أولى من بعض؛ لأن جميع ذلك مرتبط ببعضه، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) انظر المستصفى 2/ 174 - 180، تيسير التحرير 1/ 302 - 308. (¬2) انظر الأحكام للآمدي 1/ 121.

باب القول في الأوامر هل هي على الفور أو على التراخي؟

بَابُ الْقَوْلِ فِي الأَوَامِرِ هَلْ هِيَ عَلَى الْفَوْرِ أَو على التَّرَاخِي؟ ليس عن مالك -رحمه اللَّه- في ذلك نص، ولكن مذهبه يدل على أنها على الفور، ولم ذلك كذلك إلا أن الأمر اقتضاه؟، والحجة له قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: الآية 133]، وهذا عام في كل عمل، فأمر بالمسارعة والتراخي قيد المسارعة، فدلَّ على أن الأمر على الفور دون التراخي. فإن قيل: قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: الآية 133] يدل على وجوب المبادرة إلى ما يسقط الذنوب، ويوجب غفرانها، لأن المغفرة إنما تكون للذنب، وليس في ظاهر الآية إلا وجوب التوبة، وما يوجب التكفير للذنوب التي يستحق عليها العقاب، وهذا ما لا خلاف في وجوب المبادرة إليه، ومن زعمت أن غيره من الأفعال بمنزلته، فعليه قيام الدليل. قيل له: سائر أفعال الطاعات والحسنات يغفر به السيئات، قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: الآية 114]، والمبادرة إلى فعل ما أمر اللَّه به من الطاعات والشرائع مما يغفر به السيئات، فثبت ما قلناه، واللَّه أعلم. بابُ الْقَوْلِ فِي الأَوَامِرِ هَلْ تَقْضِي تِكْرَارَ الْمَأْمُورِ بِهِ أَمْ لا؟ (¬1) قال القاضي أَبُو بكْر البَاقِلانِيُّ: الأمر بالفعل إِذا تجرَّد هل يقتضي تكراره أم لا يقتضي ذلك إلا بدليل؟ ليس عن مالك فيه نص، ولكن مذهبه عندي يدل على تَكْرَارِهِ إِلا أن يقوم دليل. والحجة لذلك حديث سُرَاقَةَ، لما سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: أحَجَّتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلأَبَد؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اترُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ"، وقيل في خبر الأبد (¬2): وسراقة عربي، فلولا أن حكم الخطاب في اللُّغة يوجب ذلك لَمَا سُئِلَ، وإلا فما وجه مَسْألتهِ عن ¬

_ (¬1) انظر تيسير التحرير 1/ 351، المنخول ص 108. وأصول السرخسي 1/ 20. (¬2) أخرجه مسلم 4/ 2040، 2/ 975، النسائي 5/ 110، وأحمد في المسند 2/ 508.

باب القول في نسخ القرآن بالسنة

ذلك؛ لأن الأمر لو كان لا يعقل منه إِلا مرة واحدة لم يسأل سراقة عن الأبد، ولا سَوَّغَه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك، ولا كان يقول له إِذا أمرت بأمر معروف، معناه في لغتك، فلم تسأل عما تعقله من الأمر؟. فإن قال قائل: هذا ينقلب عليكم، لأنه لو كان الأمر يوجب التَّكْرار لما كان لسؤاله معنى، ولقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أمرت بأمر مفهوم معقول في لسانك أنه للتكرار، فَلِمَ تسأل عما تعقله بالأمر؟ (قيل): سؤاله ها هنا له فائدة أنه لما رأى الصَّلوات والصيام يتكرران، وكانت المشَقَّة العظيمة تلحق في الحج، ولا يكون مثلها في سائر العبادات ثم ورد عليه الأمر الذي يوجب التكرار خاف أن يكون بمنزلة سائر العبادات التي تتكرر، فحينئذٍ سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولو كان الأمر يوجب فعل مرة لما كان لسؤاله معنى؛ لأنه ليس بخاف أن يتكرر فيسأل عنه. قال القاضي: وعندي أن الصحيح هو أن الأمر إِذا أطلق اقتضى فعل مرة، وتكراره يحتاج إلى دليل، والدليل على ذلك أنَّ معنى قوله: "صَلُّوا" المراد منه فيما توجبه اللغة افعلوا صلاة. وقوله: "صَلُّوا ثمّ صَلُّوا"، يقتضي فعل صلاتين، وكذلك لو قال: صلُّوا صلُّوا عشر صلوات أو عشرة أيّام اقتضى عددًا أكثر من ذلك، وكذلك إِذا قال: صلُّوا أبدًا، وهذه ألفاظ قد وضعها أهل اللغة للتَّكْرَار، فإِذا ورد الأمر مجردًا منها لم يدل بمجرد قوله: صلوا إلا على فعل مرة واحدة، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ ليس يُعْرَف عن مالك -رحمه اللَّه- في هذا نص، واستدل أَبُو الفَرَجِ والقاضِي الْمَالِكِيُّ على أن مذهب مَالِكٍ أن ذلك يجوز. قال: لأن مذهبه يدل على أن نسخ القرآن بما صحّ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وذهب عَلِي أَبُو الفَرَج أن مَالِكًا -رحمه اللَّه- قال في "المُوَطَّأ": نسخت آية المواريث ألا لا وصية لوارث (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود الطيالسي في المسند ص 154، ح 1127، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف 9/ 48 - 49، وأخرجه أحمد في المسند 5/ 267، وأخرجه أبو داود في السنن 3/ 290 - 291.

باب القول في الزيادة على النص هل يكون نسخا أم لا

والأمر محتمل، وقد اختلف في ذلك، فمن ذهب إلى أنه يجوز، فحجته أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد ثبت صدقه، والأصل فيما جاءنا به عن اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- فلا فرق إذا وردت آية عامة بَيْن أن يُبَيِّن لنا أنه أريد بها بعض الأعيان دون بعض، وبين أن يُبَيِّنَ لنا أنه أريد بها زمان دون زمان لأن هذا تخصيص الأعيان، وهذا تخصيص الأزمان، فإذا جاز أن يخص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ببيانه الأعيان باتِّفَاق جاز أن يخص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الأزمان قياسًا عليه مثله، ومن امتنع من ذلك فعلى وجهين. أحدهما: أنه لم توجد سُنَّة نسخت قرآنًا. والوجه الآخر: لا يجوز أن يوجد، واستدل يقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: الآية 106]. يريد آيَةً خيرًا منها؛ لأن قائلًا لو قال لغيره: ما آخذ منك ثوبًا إلا أعطيك خيرًا منه، يريد ثوبًا خيرًا، لا ثوبًا مثله، هذا مفهوم من كلام العرب، وأخبر اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- أنه يأتي بخير منها أو مثلها، فلو كان يجوز أن يأتي بغيرها مما ليس بقرآن لذكره، واللَّه أعلم. بَابُ القَوْلِ في الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ هَلْ يَكُونُ نَسْخًا أَمْ لا (¬1) الذي يدلّ عليه مذهب مالك -رحمه اللَّه- أن الزيادة على النَّص لا تكون نسخًا، بل تكون زيادة حكم آخرٍ والمخالفون من أهل العراق، قالوا: الزيادة على النص نسخ. فيقال لهم: إِذا كان أصلكم الانتزاع من دليل الخطاب، وكان قول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: الآية 2] يتضمن معنيين: أحدهما: أن الزَّانِي يجلد مائة. والآخر: أن ما عدا المائة على ما كان عليه في الأصل، فإذا قالوا: نعم، ولا بد من ذلك، قيل لهم: فإذا كانت المائة حكمها باقٍ بحاله، وما عداها حكمه حكم المائة قبل ورود السمع بوجوبها، ووجدنا المائة يؤثر النفي فيها شيئًا، لا بأن أبطلها ولا أبطل شيئًا منها، وكان ما عداها لا يصحّ أن يكون منسوخًا، كما لا يكون ¬

_ (¬1) انظر البرهان 2/ 1309 - 1311، المستصفى 1/ 117 - 118، البحر المحيط 4/ 143.

باب الكلام في شرائع من قبلنا من الأنبياء

استئناف الشَّرع بالوجوب ناسخًا، لما لم يكن في العقل وجوبه، فلم يبق شيء يصح أن يكون منسوخًا، وباللَّه التوفيق. بَابُ الْكَلامِ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا مِن الأَنْبِيَاءِ (¬1) اختلف فيه هل يلزمنا اتِّبَاع ما كانَ في شرائع مَن كان قبل نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا لم يكن في شرعنا ما ينسخه أم لا؟ فقيل: يلزم إلا أَنْ يمنع منه دليل، ومذهب مَالِك يدل على أن علينا اتباعهم، لأنه احتج بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: الآية 45]. وهذا خطاب لأهل التوراة في شريعة موسى -عليه السلام- والحجَّة في ذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: الآية 90] فأمر نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يهتدي بهدى الأنبياء -عليه السلام- من قبله، وكذلك قوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: الآية 123]. فدلَّ على أن علينا اتباعهم، ومن قال: ليس علينا اتباعهم، فحجته قوله عز وجل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: الآية 48]. فمن زعم أن شرائع مَنْ كان قبلنا يلزمنا العمل بها، أو ببعضها، فقد جعل الشرع لنا ولهم، والمنهاج واحد، فاللَّه تعالى جعل لكل منهم شِرْعَةً ومنهَاجًا، وهذا لما يقع في الشرائع والعبادات التي يجوز فيها النسخ والنقل والتبديل. فأما التوحيد وما يتعلق به، فلا خلاف فيه بين شرائع الأنبياء -عليهم السلام- وكلهم فيه على منهاج واحد؛ لأنه لا يجوز أن يقع اختلاف، وباللَّه التوفيق. بَابُ الكَلامِ في الحَظْرِ والإِبَاحَةِ (¬2) ليس عن مالك -رحمه اللَّه- في الحَظْرِ وَالإبَاحَةِ في الأطعمة والأشربة، وما جرت العادة بأن الجسم لا بد له منه نص في ذلك. ذهب القاضي أَبُو الفَرَجِ المَالِكِيُّ إِلى أنها على الإباحة في الأصل، حتى يقوم دليل الحَظْر، وغيره من أصحابنا يقول: هي على الحَظْر حتى يقوم دليل الإباحة، ¬

_ (¬1) البحر المحيط للزركشي 6/ 45، الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم 5/ 149. (¬2) انظر في أحكام الفصول ص 681.

باب الكلام في استصحاب الحال

ومنهم من قال: هي على الوَقْفِ، حتى يقوم دليل الحَظْر، أو الإباحة فحجة مَنْ قال: إِنَّها على الإباحة هو أنها لا يخلو أن يكون اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- خلقها لينتفع هو بها -تعالى- عن ذلك أو لننتفع نحن وهو بها، أو لننتفع نحن دونه -تعالى- أو خلقها لا لينتفع بها هو ولا نحن بها، فَخَلْقُهَا لينتفع هو بها محال؛ لأنه -عَزَّ وَجَلَّ- لا تجوز عليه المنافع ولا المضار وخلقها أيضًا له ولنا محال؛ لأن المنفعة والمضرة عليه لا تجوز، وخلقها لا لينتفع هو بها ولا نحن عبث عليه سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، فلم يبق إلا خلقها لننتفع نحن بها. وإذا ثبت ذلك صارت هذه الدلالة تقوم مقام الإذن منه -تعالى- لنا في الانتفاع بها. وأما مَن قال: هي عنده من الحَظْرِ في الأصل، فحجته أنه قد ثبت أن الأشياء كلها مِلْكٌ لمالك واحدٍ، وهو اللَّه سبحانه وتعالى، ولا يجوز الإقدام على ملك أحد إلا بإذنه؛ لأنه لا بد أن يكون في الإقدام عليها من غير إِذن منه ضرر في العاقبة، فوجب الوقف، ومن قال: هي على الوقف، فحجته تعارض المعنيين وتقابلهما العَقْلي في الحَظْرِ والإِباحة، فوجب الوقف، وطلب الدليل المميز، وألا يقدم أحد على أحد القَوْلَينِ إِلا بِحُجَّة، ولأن الحَظْر يقتضي حاظرًا، وأن الإباحة تقتضي مبيحًا، فوجب الوقف حتى يعلم ذلك، وعلى أن الكلام في هذه المسألة تكلف, لأنه لا يعقل الناس حالًا قبل الرسل والشرائع؛ لأن الرسل بعد آدم -عليه السلام- قد قررت الشرائع في جميع الأشياء فقد تقرر بالرسل عليهم السلام، واللَّه أعلم. بَابُ الكَلامِ في اسْتِصْحَابِ الْحَالِ (¬1) ليس عن مالك -رحمه اللَّه- في ذلك نص، ولكن يدل عليه أنه مذهبه, لأنه احتج في أشياء كثيرة سُئِلَ عنها، وقال: لم يفعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك، ولا الصحابة -رحمة اللَّه عليهم- وكذلك يقول: ما رأيت أحدًا فعله، وهذا يدل على أن السَّمع إِذا لم يرد بإيجاب شيء يجب وكل ما كان عليه من براءة الذمة. والأصل في ذلك أن اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- قد احتجّ على عباده في العبادات بالعقل والسمع، فما كان له حكم في العقل، ولم يرد سمع بخلافه، فأمره موقوف على ورود السمع، وإن ورد مثل ما كان في العقل كان مؤكدًا، وإن ورد بخلاف نقل الأمر ¬

_ (¬1) انظر الأحكام للآمدي 4/ 111، والبرهان لإمام الحرمين 2/ 1135، ونهاية السول 4/ 358.

باب القول في الإجماع بعد الخلاف

به عما كان عليه، وإن لم يرد سمع شيء من ذلك، فهو على أصل حُكْمه في العقل، واللَّه أعلم. بَابُ القَوْلِ فِي الإجْمَاعِ بَعْدَ الخِلافِ إِذا اختلفت الصحابة -رضي اللَّه عنهم- على قولين وانقرضوا على ذلك، ثم أجمع الباقون على أحد القولين، فهل يسقط الخلاف أم هو باق؟. ليس عن مالك -رحمه اللَّه- في ذلك نص، واختلف أصحابه في ذلك، فقال بعضهم: ينقطع الخلاف، ولا يجوز مخالفة إجماع التابعين بعده. وقال بعضهم: بل الخلاف باق ولا ينقطع. قال القَاضِي: والجَيِّد وهو الذي يختاره شيخنا أَبُو بَكْرِ بْنِ صَالِحِ الأَبْهُرِيُّ أن الخلاف باقٍ، وذلك أن تقدير المسألة يكون قول الصحابي المخالف بمنزلة حضوره مع التابعين، وكونه حيًّا معه، ككونه ميتًا لا يسقط خلافه لهم بإجماعهم على خلافه، وأحسن أحوال التابعين معه أن يكونوا بمنزلة الصحابة معه في أن مخالفيه من الصحابة له من طريق اجْتِهَاد لا يسقط خلافه، وكذلك كون التابعين وإجماعهم على خلافه من طريق الاجتهاد، ولا يسقط خلافه لهم، ولأن قوله بمنزلة أن لو كان حيًّا معهم، فيكون إِجماعهم كطائفة إضافة إلى الحزبين من الصحابة، واللَّه أعلم. بَابُ الْكَلَامِ فِي إِجْمَاعِ الأَعْصَارِ (¬1) مذهب مالك وغيره من الفقهاء أن إِجماع الأعصار حجة، وأنكر قوم أن يكون إجماع الأعصار حجة إِلا للصحابة رضي اللَّه عنهم. والدليل على أن إِجماع الأعصار حجة هو أن اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- أثنى على هذه الأُمَّة وبيَّن فضلها، ونَبَّه عليه وعلى وجوب الحجة بقولها لقوله -تعالى- في القرآن في مواضع كثيرة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} إلى قوله: {عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: الآية 110] الآية. وقوله أيضًا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: الآية 143] وغير ذلك. ¬

_ (¬1) انظر التعريف في البرهان لإمام الحرمين 1/ 670، والأحكام للآمدي 1/ 179، ونهاية السول 3/ 237، المستصفى 1/ 173.

باب الكلام في العلة والمعلول

ومن السُّنَّة قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُمَّتِي لا تَجْتَمعُ عَلَى ضَلالَة"، وقوله عليه السلام: "أمتي لا تجتمع على خطأ". وقوله: "لا تزالُ طائِفَةٌ من أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَن خَالَفَهُم حتى تَقُومَ السَّاعَةُ (¬1) ومن حجَّة العقل الدلالة على عِصمتها، فلا يخلو أن يكون المراد بذلك جميع الأمة كلها من أولها إِلى آخرها من جهتين: إحداهما: أنهم حُجَّة على أنفسهم. والأخرى: أنهم لو كانوا كذلك، أو جاز أن يكونوا بأجمعهم حُجَّة لم يجز أن يدرك الحكم من جهتهم، إلا من أدرك أولهم وآخرهم، وهذا أيضًا بين الفساد، فثبت أن الحجة متعلقة ببعضهم، ولا يخلو ذلك البعض من أن يكون للصحابة -رضي اللَّه عنهم- وليس بعضهم حُجَّة على بعض، فلم يبق إلا أنهم حجة على غيرهم لأجل تقدمهم، وكان تَقَدَّم العصر الثاني للثالث كتقدم عصر الصحابة على التابعين، وكانت حاجة العصر الثالث إلى الثاني كحاجة الثاني إلى الأول من إرسال الرسل؛ إِذِ الرسل قد انقطعت بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد جعل خاتم النبيين -صلى اللَّه عليه وسلم- وجعلت الأمة عوضًا عنها، فوجب حجة الأعصر متقدّمهم على متأخرهم، كوجوب حُجَّة عصر الصحابة -رضي اللَّه عنهم- على من بعدهم، ولأن الحق لا يجوز أن يخرج عن كل عصر، فثبت أن إجماع كل عصر حجة، وباللَّه التوفيق. بَابُ الْكَلامِ في العِلَّةِ (¬2) وَالْمَعْلُولِ (¬3) قال القَاضِي الجليل كَرَّمَ اللَّه وجهه: العلة عند مالك والفقهاء هي الصفة التي يتعلق الحكم الشرعي بها، والعلة في مواضعة اللغة تفيد ما يتغير الحكم بوجوده، ولهذا سُمِّيَ المرض لما تغيرت الحال عما كان علة بوجوده ويصفون ماله الفعل أو لم يفعل علة فيقولون: جئت لعلة كذا وكذا, ولم أقل: لعلة كيت وكيت، واستعمله المتكلمون في غير ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 429، وأبو داود في السنن 3/ 11، والحاكم في المستدرك 2/ 71، ومسلم في صحيحه 1/ 137، وأحمد في المسند 4/ 244، 248، 524. (¬2) انظر التعريف في نهاية السول 4/ 53، البحر المحيط للزركشي 5/ 111، والأحكام للآمدي 3/ 185، والمستصفى 2/ 287، 335. (¬3) انظر البحر المحيط 5/ 121.

فصل

فأما العلة عند مَالِكٍ والفقهاء، فهي الصفة التي يتعلَّق الحكم الشرعي بها، كما قلنا ومن حكم العلَّة العقلية وحقها أن تكون موجبة لمعلولها، وأن يستغني في إيجابها عن مفارقة غيرها لها وألا يقف في إيجابها على شرط وأن يكون بإيجابها لما يوجبه لبعض الأعيان دون بعض، أو لبعض الأزمان دون بعض، والعلة الشرعية تقاربها في جميع هذه الوجوه، فلا خلاف بين القياسين إلا في اختصاص لبعض الأعيان، فإن من يمنع من جواز تخصيص العلة الشرعية يسوي بينهما وبين العلل الأخرى في هذا الوجه الواحد، دون من يرى تخصيص العلة الشرعية منهم، وطريق معرفة العلّة العقلية دليل العقل، وطريق العلّة الشرعية دليل المنع. فَصْلٌ وأما المعلول فهو الحكم الذي العلة علة فيه، وهو تحريم الرِّبَا، لا لأنه نفس البُرّ والأرز على ما يظنه بعضهم، وكيف يجوز ذلك في المعلول، والذي من حقه أن تؤثر العلة فيه، ويتبعها ويزول بزوالها، وهذا كله لا يتأتى في البُرِّ نفسه، فثبت أن المعلول هو الحكم الذي العلة علة فيه، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ فِيمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّة العِلَّة (¬1) واختلف الناس فيما يدل على صحة العلة، وهل تصح بالجريان والطرد في معلولاتها، أو تعلم صحتها بعد ذلك، فمنهم من يقول: علامة صحّتها جريانها في معلولاتها، وأن يوافقها أصل. ومنهم مَنْ قال: يحتاج أن يثبت أولًا أنها علّة، ثم جريانها بعد ذلك مرتبة أخرى. قالوا: لأن مَنْ يعلل بالطرد والجريان، لو قيل له: لما علقت الحكم بها لكان من حقه أن يقول: لأنها علة، فهذا قيل: لم صارت علة؟ قال: لأن الحكم يتعلّق بها أين ما وجدت، وهذا يؤدي إلى التناقض. قال القاضي: والذي يقوى في نفسي هو الوجه الأول من الطرد والجريان، وأنه يكون دليلًا على صحتها، والأصل في ذلك أن اللَّه تعالى قال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} إلَى قوله: {كَثِيرًا} [النساء: الآية 82]. فدل على أن المتفق من عنده، فلما اتفق بالصحة والنظم أثبت بالصفة والنظم، وأن المختلف ليس من عنده، فلو جاز وجود مختلف من عنده لم يكن عدم ¬

_ (¬1) انظر البحر المحيط 5/ 714.

باب القول في العلة التي لا تتعدى

الاختلاف عن القرآن دليلًا على الَّذِي عنده، ولو جاز أيضًا وجود متفق لا من عنده، لم يأمن أن يكون القرآن متفقًا لا من عنده، وفي استدعاء المخاطبين إلى التدبر بهذه الآية دليل على أن المتفق لا يوجد من جهته، وأن المختلف يوجد منه. فإن قيل على هذا: فإن الاختلاف في القرآن موجود لأننا نجد فيه الخاص والعام، والناسخ والمنسوخ، والخاص الذي يريد به العام، والعام الذي يريد به الخاص. قيل: أريد بنفي الاختلاف الذي من جهته صار القرآن حجة، وهو عدم الاختلاف في الإعجاز وهو في الإعجاز متفق عليه، وأيضًا، فإننا قد أُمِرْنَا بالرجوع إلى الأصول في الحوادث كما أُمِرنَا بالرجوع إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها، فهذا عرض عليه نوع من أنواع المقايسة، فلم يرده وسكت عنه، كان ذلك دليلًا على صحته، وكذلك الأصول إِذا عُرِضَتِ العلة عليها فلم يردها أصل دل ذلك على صحتها، وأيضًا فإن اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- طالب المشركين بإجراء العلة فيما اعتمدوه عليه، فقال تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: الآية 143]. أي إن كان المعنى للذكورة أو الأنوثة، أو الجمع، فالتزموه إن كنتم صادقين، وإلا فأنتم مناقضون، وأيضًا فإن المتفق من القول حُجّة، وكل المتفق من المعنى، لأنه في الجَرَيان والطرد اتفاق المعنى، ولا يلزم ما ذكروه عن السؤال في أن الحكم وجب لعلة فَإِذَا قيل لِمَ صَارت علة؟ قيل: لأن الحكم يتعلق بها أينما وجدت، وذلك أنه إذا قيل له: لِمَ وجب الحكم؟ فقال: للعلة، فإذا هو مدع للعلة، بلا برهان، فإذا قيل له: وَلِمَ صارت هذه علة فإنما علته أن يدل على صحتها بالجريان والطرد؟ فقد أقام البرهان على كونها علّة، وفي الأول سَمَّاها علة بدعوى، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ في الْعِلَّةِ الَّتِي لا تَتَعَدَّى اختلف الناس في العلة التي لا تتعدى، هل تكون صحيحة أم لا؟ فعندنا وعند غيرنا من الفقهاء أنها تكون علة صحيحة. وقال ابْنُ العِرَاقِيّ: هي باطلة؛ لأنها لا تفيد إلا ما قد أفاده النص، فلا معنى لطلب علة لا تفيد غير ما أفاده النص، والدليل على أنها تصح؛ لأن العرض من العلة ليعلم أن الحكم إنما وجب لأجلها، فهذا صح ذلك صح أن تكون متعدية، وغير

باب في تخصيص العلة

متعدية، وأيضًا فإنها تفيد أن الأصل الذي اقْتُضِيَتِ العلة منه أصل لا يجوز القياس عليه، فقد حصلت الفائدة فيها من هذا الوجه. بَابٌ فِي تَخْصِيصِ العِلَّةِ عند مالك وغيره من أهل العلم لا يجوز تخصيص العلة إلا العقلية، ولا خلاف في ذلك، واختلف الناس في تخصيص العلة الشرعية المنصوص عليها، والمستدل عليها إذا كانتا شرعيتين، فعندنا وعند غيرنا من الفقهاء، لا يجوز تخصيصها. وقال أهل العراق: يجوز تخصيصها، ويجوز كونها كالعموم المشتمل على المُسَمَّيَّات يصح أن يختص ببعض المسميات، فكذلك هي؛ لأنها علامة وأمارة، وذهب غيرهم إلى جواز تخصيص العلة المنصوص عليها، مثل قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: الآية 32] وكقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: الآية 7] وكقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الهِرَّةِ: "إِنَّهَا مِنَ الطَّوْافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ" (¬1). وامتنع من تخصيص العلة المستنبطة كعلة الرِّبا في الْبُرِّ، وعندنا أنه لا يجوز تخصيصهما جميعًا، والأصل في ذلك هو أن العلة أمارة وصحتها الجريان بما قد بيناه من الدلائل, والتخصيص يمنع جريانها، ويبطل أن يكون الجريان دليلًا على صحتها، فإذا كان الجريان دليلًا على صحتها وتخصيصها إِذًا باطل؛ لأنه يرفع أصلًا ثابتًا، وما أدّى إلى رفع الأصل الثابت المستقر، فهو مَدْفوع. وأيضًا فإن اللَّه -تعالى- آخذ المشركين بالنُّفور عليهم فقال سبحانه: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: الآية 81]. فلولا أن المساواة في المعنى توجب المساواة في الحكم لم يلزمهم هنا بل كانوا يتخلصون منه بأن يقولوا: قام دليله فخصصناه وأيضًا فإنه لو لم يؤثر التخصيص في صحّتها لم تؤثر المعارضة؛ لأن التخصيص هو غاية المناقضة التي لا تَرْتَضِيها العَامَّة في اختلافها، فلا خلاف عن أن يكون من أفعال الحكماء، ألا ترى أن تاجرًا صوفيًّا لو قيل له: سامح في هذا الثوب، فقال: لا أسامح فيه. لأنه كِتَّان ثم سامح في ثوب كتان مثله، لقيل له: قد ناقضت، ولو كان هذا مما لا يخفى عن العوام ردَّه على ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ 1/ 22 - 23، وأحمد في المسند 5/ 303، والدارمي في السنن 1/ 187 - 188، وأبو داود في السنن 1/ 60، والنسائي 1/ 55، وابن ماجه في السنن 1/ 131.

باب الكلام في القول بالعلتين

قائله، وأنه مناقض بذلك. فبطل جواز التخصيص في العلّة، وأيضًا فإن العلّة لو جاز وجودها مع ارتفاع الحكم، ولا يمنع ذلك من صحتها لاحتيج في تعليق الحكم بها في كل فرع إلى استئناف دلالة. لأن ما دل على أنها علة في الأصل لم يوجب تعليق الحكم بها أينما وجدت على هذا القول، وإذا لم يوجب ذلك قبح الرجوع في تعليق الحكم بها في كل فرع بعينه إلى دليل مستأنف، وفي ذلك إخراج لها عن أن تكون علة، ويبين ذلك أن العلم المعجز الدال على صِدْق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لو لم يقتض صدق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في كل ما يقوله ويؤديه، لاحتاج في كل ما أخبر به إلى معجز، فكذلك القول في العِلَلِ. فإن قيل: فإِن العلة في تعليق الحكم بها كالاسم العامِّ في ذلك، وكما أن وجود الاسم مع ارتفاع الحكم مما لا يبطل كون العموم دلالة لا توجب الحاجة في تعليق الحكم بكل اسم إلى دليل المستأنف، فكذلك العلة. قيل: إِن العموم إِنما يدل على إرادة المخاطب، وإرادته تدل على الحكم لا نَفْس العموم، فإِنَّ قول العموم إِنما يدل على أنه لم يرد جميعه. قلنا: إن ما عداه مراد، ولم تحصل الدلالة مخصوصة، إذ الدلالة هي الإرادة والدلالة على الإرادة هي مفهوم العموم مع القرينة. لأن البيان لا يتأخَّر، وليس كذلك العلّة, لأنها إن كانت هي في نفسها علة فيجب ألا يسوغ تخصيصًا لا يختص في الوجود بعين دون عين، وإن كانت تدلّ على الإرادة للجاعل لها علة فيجب أن تُقَدَّر بها ما يخرجها عن أن تكون لإطلاقها علة، وعلى أن العلة التي توجد في كل فرع في حكم النص على كل فرع، فكما أن التخصيص في ذلك لا يسوغ، فكذلك القول في العلة. لأنها ليست بمنزلة العموم الذي يدخله المجاز؛ لأن التعليل لا يدخله المجاز، وهو كالنص فيما ذكرناه، واللَّه أعلم. بَابُ الكَلامِ فِي القَوْلِ بِالعِلَّتَيْنِ (¬1) اختلف الناس في القول بالعلَّتَيْن في أصل واحد. أحدهما: يقتضي حمل الفرع عليه. والآخر: يمنع من حمل الفرع عليه. ¬

_ (¬1) انظر الأحكام للآمدي 3/ 218.

باب القول في العلتين أحدهما أكثر فروعا من الأخرى

فمنهم مَن قال: لا ينتفيان؛ لأن العلّة المقصورة على الأصل لا تمنع رد الفرع إِذا كانت هناك علّة أخرى تقتضي الرد، كما أن العموم الشامل لما به شيء لا يمنع من شمول غير ذلك لألف شيء، ولا ينافيه. ومنهم مَن قال: إنهما يتنافيان، قاله القاضي الجليل، وإلى هذا ذهب في المعنى. لأن ما تبينّا فله الحكم في الأصل. إما أن تكون العلة المقصورة عليه أو المتعدية، فإن كانت المتعدية هي الصحيحة صحّ القياس على الأصل، وإن تكن المقصورة هي الصحيحة امتنع القياس عليه؛ لأنها مقيدة نحو تعليل الذَّهب بالورق الذي لا يتعدى، ويكون ثمنًا لا يتعدى، وما شبه ذلك، وهذه المسألة من فروع ما تقدم من أن العلة إذا لم تتعدَّ هل تصح أم لا تَصحُّ؟ فيجب بناؤها، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ في الْعِلَّتَيْنِ أَحَدُهُمَا أَكْثَرُ فُرُوعًا مِنَ الأُخْرَى قال القاضي الجليل: وأما تعليل الأصل بعلَّة توجد في عشرة فروع، وتعليله بعلة توجد فيه، وفي واحد من تلك الفروع، فأنا أقول فيه أيضًا: إنهما يتنافيان في المعنى، وإن كان بعض من يمتنع من القول بالقياس لا يمتنع ها هنا ويقول: إنهما لا يتنافيان، ووجه التنافي فيهما هو أن الأصْلِ إِذا عُلّل بعلّة تتعدَّى إِلى عشرة فروع، فليس يُعْلَم أن هذه هي العلة إِلا بعد أن يُسْتَبْرَأ الأصل، وَيُسْتَبْرَأ جميع ما يصلح أن يكون علة له، فإن قَصَدَ جميعها، وصحت هي، وسلمت، فسارت في التقدير علة. وكأن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قال: حرمت ذلك لهذه العلة دون ما سواها، فتبطل كل علة سوى العلة التي يثبت أن الحكم لأجلها وجب. فإن قيل: يجوز أن يُسْتَبْرَأ الأصل، فيعلم أنه معلوم لعلتين: إحداهما: تتعدى إِلى شيء، والأخرى: تتعدى إلى غير ذلك الشيء، وإلى ما زاد عليه. قيل: هما كالعلة التي لا تتعدى مع المتعدية؛ لأن العلة التي لا تتعدى إلى عشرة فروع يتبين بها أن الأصل يقاس عليه عشرة فروع، والعلة الأخرى كشفت لنا أنَّ هذا الأصل يقاس عليه ثمانية فروع لا تتعدى؛ لأن الأصل مما لا يجوز عليه القياس، وليس المنافي أكثر من العلتين يَصْطحِبان إِلى فروع، ثم تقف إحداهما عن تجاوزه

باب القول في جواز كون الاسم علة

إلى غيره، والأخرى تتجاوزه كالتي لا تتعدى مع المتعدية، وتسهيل العلة المتعدية إِلى فروع كثيرة وأكثر مما تعدت إِليه الأخرى، بمنزلة الآيتين والخبرين. وإن قلنا بالواحد منهما سقط حكم الآخر، وإن كانت إحدى العلتين تتعدى إلى فرع آخر غير الفروع التي تَعَدَّت إليها العلة الأخرى، فهذان لم يتنافيا، وفيه نظر، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ فِي جَوَازِ كَوْنِ الاسْمِ عِلَّةً واختلف الناس في كون الاسم عِلة: فذهبت طائفة إِلى جوازه، ومنعت منه طائفة. قال القاضي: وعندي أنَّه يجوز وعليه يدل مذهب مَالِكٍ، والأصل: فيه أن اللَّه -عَزَّ وجَلَّ- أمر بالاعتبار، وهو رد الشيء إِلى نظيره، ولم يفرق بين أن يرد باسم أو وصف، وأيضًا فإن الاسم سِمَة للمسمى يتميز بينه وبين غيره، وكذلك الصفة يتميز بها بينه وبين غيره، فإِذا أجاز أن تكون الصفة علة جاز في الاسم أن يكون علة، وأيضًا فإن الاسم يتوصل به إلى الحكم والصفة، فيجب أن يجوز كونه علّة كالصفة، وأيضًا فإِذا كان النص يوجب الأحكام تارة بالاسم، وتارة بالصفة، فكل واحد كصاحبه في جواز جعله عِلّة، وبمثل هذه العلل يعتل في جواز جعل الحكم علة لحكم آخر. وإن شئت قلت: إِن الأحكام تُتْرَكُ بالشرع كالمعاني، فهذا جعل المعنى علّة، فكذلك الحكم، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ فِي أَخْذِ الأَسْمَاءِ قِيَاسًا عند مالك -رحمه اللَّه- يجوز أن تؤخذ الأسماء من جهة القياس. وَأَبَى ذلك قوم أن تُؤخَذَ الأسماءِ قيَاسًا، والأصل فيه أن اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- قال: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: الآية 2]. وهو على العموم في الأسامي والأحكام، وأيضًا فإنَّه يجوز أخذ الأحكام قياسًا، فكذلك الأسماء كأنها في الحالين سواء. لأنه أتى بالجائز في العقول الشائع، وأيضًا فإن المعاني أعْلامٌ للأحكام وأدلة عليها، والأسماء كذلك، ثم من الجائز التنبيه على المعنى تارة بالشرع، وتارة بلا شرع، فكذلك الأسماء. لأن الجميع من الحجج والأعلام التي يجوز بها الهجوم على الحلال، وأيضًا فإن القول على الشيء بأن كذا

باب القول في الحدود

اسم له على ما شاكله القول عليه، بأن كذا حكم له، فلما جاز أن تصور إحداهما من جهة على الشرع كسبت أشياء اسمًا لم تُعْرف بها قبل الشرع مثل الإيمان والإِسلام والمِلَّة والحجَّ والصَّوْم والصَّلاة والزكاة والسُّنَّة والتطوع، فوجودها يعني الدلالة. وأيضًا فإِن من فضائل العقول أن كل متماثلين، فَحُكْمُهُمَا واحد من حيث التماثل، فهذا وجدنا الخَمْرَ كسبت هذا الاسم لحدوث الشدة المخصوصة، ويرتفع بارتفاع الشدة المضربة، وسلم ذلك على كل التفسير، وبالامتحان رأيناها في النَّبِيذ موجودة وجب أن نعطيه اسم الخمر فإِن قيل: فقد قال اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البَقَرَة: الآية 31] , فأخبره بأنه علمه الكل والقياس ممتنع، قيل له بذلك: نقول: إن اللَّه عَلَّمَ آدم الأسماء كلها إلَّا أنَّه نص على بعضها، ونبَّه على بعض، وسبيل ذلك سبيل قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: الآية 38]. وقال تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: الآية 89]. ثم قال: وجه التبيان منها على ضروب، منها نص، ومنها تنبيه، كذلك هذا على أنَّه دليل لنا، وذلك أنَّه لما ثبت أن اللَّه تعالى علم آدم الأسماء كلها ثبت أن مأخذ الأسماء من جهة الشرع، وقد قيل: إنه عاهد اسم الأجناس دون التفصيل، واللَّه أعلم. بَابُ الْقَوْلِ فِي الحُدُودِ هَلْ تُؤخَذُ من جِهَةِ الْقِيَاس (¬1) الذي يدل عليه مذهب مالك -رحمه اللَّه- يجوز أن تُؤْخَذ الحُدُود والكَفَّارات والمقدَّرات من جهة القياس، واختلف القائلون بالقياس، هل يجوز أن تؤخذ الحدود والكَفَّارات والمقدَّرات من طريق القياس. فعندنا أنَّه جائز ومنع منه بعض أصحاب أَبِي حَنِيفَة، وبعض أصحاب الشَّافِعيّ، وجوَّزه بعضهم، وقال القاضي: هو عندي جائز، والأصل فيه قوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: الآية 2]. فأمر بالاعتبار عمومًا, ولم يفرق بين الأحكام في المقَّدرات والحدود والكفارات وغيرها، فهو على عمومه في جميعها، حتى يقوم دليل يمنع منه، ولم يقم دليل يمنع منه فهو جائز. ¬

_ (¬1) انظر البرهان 2/ 895، 896، والأحكام للآمدي 4/ 54، ونهاية السول 4/ 53.

وقال أَيضًا: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: الآية 38]. وقال: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: الآية 89]. فخرج النص المستغنى عن البيان، وبقي الباقي، وعدمنا كونه تِبْيَانًا لجميع الأشياء كلها لفظًا ونصًّا على كل شيء منها، فثبت أنه تبيان لها بالنص والتنبيه، والقياس على المعنى من جملة التنبيه. وأيضًا فإِنَّه لَمَّا جاز إثباته بالخبر الذي يصدر عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من جهة الأحاد من أحكام الشريعة، جاز إثباته بالقياس، ودليل ذلك غير الحدود والمقدَّرات، وكذلك الحدود والمقدَّرات. وأيضًا فإِن الحوادث على ضربين مقدّر وغير مقدّر، ثم جاز أخذ ما ليس بِمُقَدَّر قياسًا، وكذلك المقدر؛ لأنه أخذ ركني الحوادث، ولأن في استعماله من طريق اللفظ والمعنى تكثر الفوائد، وهو أولى، وأيضًا فإن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- اختلفوا في جَلْدِ شارب الخمر في أيام عمر -رضي اللَّه عنه- حين استشارهم حتى قال عَليٌّ -رضي اللَّه عنه- وغيره من الصحابة: إِذا سَكِرَ هَذِيَ وإذا هذِيَ افتَرَى، فَنَرَى أن تَحِدّه حدَّ المفتري لما بيَّن. فَقَبِلَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- ذلك منه، واتفقوا عليه فلمَّا أخذوا ذلك من جِهَة القياس والاسْتِنْبَاطِ دَلّ على أن القياس مدخلًا في ذلك بإجماع الصحابة. فثبت ذلك، وصح إجماع الصحابة على ترك النكير على عُمَرَ وَعَلِيّ -رضي اللَّه عنهما- ولأنهم سوّغوا ما قالا وعملوا به جميعًا. فإن قيل: فقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادْرَؤُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَات" (¬1). والقياس محتمل، فهو شبهة. قيل له: ليس يعتبر فيه الاحتمال، ألا ترى أنه يجوز من جهة العموم خبر الواحد، وشهادة الشهود، وفي جميع ذلك من الاحتمال ما في القياس، فلم يكن شبهة، فسقط ما ذكروا. فإن قيل: العقوبات مختلفة متفاوتة مع استوائها في المعنى، وأخذ ذلك قياسًا لا يجوز. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني 3/ 84 (114) والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 238، والترمذي 4/ 33، وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 384.

باب أقسام أدلة الشرع

قيل: لو وجب ذلك فيها لوجب في الخارجات من الإنسان لاشتراك جميعها في الخروج من البدن، واختلافها في الأحكام على أن أصحاب أبي حَنِيفَة قد ناقضوا في هذا الأصل، وعملوا في إيجاب الحدود بالمحتمل، فقالوا فيمن شهد عليه أربعة بالزنا في أربع زوايا: إنه يجب الحد، وأقاموا الدلالة في الصيد مقام القتل في إِيجاب الجَزَاء الذي هو مقدر، ووافقونا على قياس قتل المرأة على الرجل، في إيجاب الكفارة عليها إِذا جُومعت في شهر رَمَضَانَ طائعة، وقاسوا الأكل في شهر رَمَضَانَ بغير عذر على المُجامع، وهذا كله نقض لأصلهم، وباللَّه التوفيق. بَابُ أَقْسَامِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ أدلة الشرع على ثلاثة أضرب: أصل: ومعقول أصل، واستصحاب حال. فأما الأصل: فهو الكتاب والسُّنّة وإجماع الأمة. وأما معقول الأصل: فهو لَحْنُ الخطاب، وفَحْوَى الخطاب، ومعنى الخطاب، والحصر. وأما استصحاب الحال، فهو: استْصحاب حال الأصل. فصل إذا ثبت ذلك، فالكتاب على ضربين: مجاز وحقيقة. فأما المجاز (¬1): فكل لفظ تجوز به عن موضوعه، فعلى أربعة أضرب. زيادة كقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: الآية 155]. ونقصان: كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: الآية 82]. وتقديم وتأخير: كقوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)} [الأعلى: الآية 4]. واستعارة كقوله تعالى: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} [البقرة: الآية 93]. وكقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: الآية 24]. قال مُحَمَّدُ بْنُ خويز منداد من أصحابنا ودَاوُدُ الأَصْفَهَانِيُّ: إِنه لا يصح وجود المَجَاز في القرآن وقد بينا ذلك. ¬

_ (¬1) انظر نهاية السول 2/ 145، والبحر المحيط للزركشي 2/ 158، والمستصفى 1/ 341، والأحكام 4/ 437.

فصل

فَصْلٌ وأَمَّا الحقيقة (¬1)، فكل لفظ بَقِيَ على موضوعه، فعلى ضربين: مفصّل، ومجمل. فأما المفصّل فهو ما فهم المراد به من لفظه، ولم يفتقر في بيانه إلى غيره، وهو على ضربين: محتمل، وغير محتمل. فأما غير المحتمل، فهو: النص ما رفع في بيانه إِلى أبعد غاياته، نحو قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: الآية 228]. فهذا نص في الثلاثة لا يحتمل غير ذلك، فإذا ورد وجب المصير إليه والعمل به إِلا أن يرد ناسخ أو معارض. فَصْلٌ المحتمل (¬2) فهو احتمال معنيين فزائدًا، وهو على ضَرْبَيْنِ: أحدهما: ألا يكون في أحد محتملاته أظهر منه في سائرها، نحو قولك: "لون" للذي يقع على السواد والبياض، وغيرهما من الألوان وقوعًا واحدًا، ليس هو في واحد منها أظهر منه في سائرها، فهذا قال من يلزمك أمره: اصبغ هذا الثوب لونًا، فإِن كان على سبيل التخيُّر، فأيّ لون صبغت الثوب كنت ممتثلًا لأمره، وإن أراد بذلك لونًا بعينه لم يمكنك امتثال أمره إلَّا بعد أن يبيّن اللون الذي أراد، ولا يجوز أن يتأخَّر البيان عن وقت الحاجة إلى امتثال الفعل. والثاني: أن يكون اللفظ في أحد محتملاته أَظْهَرَ منه في سائرها كأَلْفَاظِ الظاهر والعموم، وغير ذلك. فَصْلٌ فأما الظاهر: فهو ما سبق إلى فهم سامعه معناه الذي وضع له، ولم يمنعه من العلم به من جهة اللغة مانع، كألفاظ الأوامر نحو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: الآية 110]، وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: الآية 5]، فهذا ¬

_ (¬1) انظر نهاية السول 2/ 145، والمستصفى 1/ 341، الأحكام لابن حزم 4/ 437. (¬2) انظر البرهان 1/ 419، الأحكام للآمدي 3/ 7، والمستصفى 1/ 345، البحر المحيط للزركشي 3/ 455.

فصل

اللفظ إِذا ورد وجب حمله على الأمر، وإِن كان يجوز أن يراد به الإِباحة نحو قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المَائدة: الآية 2] , والتعجيز نحو: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)} [الإسراء: الآية 50]. والتهديد نحو قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: الآية 40]. والتعجب نحو قولك: أحسن يزيد وقد قيل ذلك في قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: الآية 38] , والتكوين نحو قوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: الآية 65] إلا أنه أظهر في الأمر منه في سائر محتملاته، فيجب أن يحمل على أنه أَمْرٌ إِلا أن ترد قرينة تدل على أن المراد به غير الأمر، فيُعْدَل عن ظاهره إِلى ما يدل عليه الدليل. فَصْلٌ إِذا ثبت ذلك، فالأمر اقتضاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء والقهر، وهو على ضربين: وجوب وندب. فالوجوب: ما كان في تركه عِقَاب من حيث هو ترك له على وجه ما، نحو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: الآية 110] والندب: ما كان في فعله ثواب، ولم يكن في تركه عِقَاب من حيث هو ترك له على وجه ما، نحو قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: الآية 33]. إلَّا أن لفظ الأمر في الوجوب أظهر منه في الندب. فإذا ورد لفظ الأمر عَارِيًا من القرائن وجب حَمْله على الوجوب، إِلا أن يدل الدليل على أن الندب مراد به، فيحمل عليه. وقال القاضي أبو بكر: يتوقف فيه، ولا يحمل على وجوب، ولا ندب حتى يدل الدليل على المراد به. وقال أبو الحسينُ بْنُ المُنْتَابِ وأبو الفرج: يحمل على الندب، ولا يُعْدل عنه إلى الوجوب إلا بدليل. والدليل على ما نقوله قوله -تعالى- لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: الآية 12] , فوبخه وعاقبه لَمَّا لم يمتثل أمره بالسجود لآدم، ولو لم يكن مقتضاه الوجوب لما عاقبه، ولا وَبَّخَهُ على ترك ما لا يجب عليه فعله.

فصل

فَصْلٌ إذا وردت لفظة "افعل" بعد الحَظر اقتضت الوجوب أَيضًا على أصلها، وقال جماعة من أصحابنا: إِنها تقتضي الإباحة، وبه قال بعض أصحاب الشَّافِعِيّ والدليل على ما نقوله إنا قد أجمعنا على أن لفظ الأمر بمجرده يقتضي الوجوب، وهذا لفظ الأمر مجردًا، فوجب أن يقتضي الوجوب، وتقدم الحظر على الأمر لا يخرجه عن مقتضاه، كما أن تقديم الأمر على الحظر لا يخرجه عن مقتضاه. فَصْلٌ الأمر المطلق لا يقتضي الفور وإليه ذهب القَاضِي أَبُو بكرِ البَاقِلانِيُّ، وذكر مُحَمَّد بْنُ خُوَيْزِ مِنْدَاد أنه مذهب المغاربة من المالكية وقال أكثر المالكية، من البغداديين إِنَّه يقتضي الفور. والدليل على ما نقوله إن لفظة "افعل" لا تتضمن الزمان إلا كتضمن الأخبار عن الفعل للزمان، ولو أَن مخبرًا يخبر أنه يقوم لم يكن كاذبًا إِذا وجد منه قيامه متأخرًا، فكذلك من أمر بالقيام لا يكون تاركًا لما أمر به إِذا وجد منه القيام متأخرًا، فإذا ثبت ذلك، فإن الواجب على التَّراخي حالة يتعيَّن وجوب الفعل فيها، وهو إِذا غلب على ظَنِّهِ فوات الفعل، وتجري إِباحة تأخير الفعل للمكلف مَجْرَى إِبَاحَةِ تعزير الإِمام للجاني، وتأديب المعلّم للصَّبِي إِذا لم يغلب على الظن هَلَاكه، فإِذا غلب على الظن هلاكه حرم ذلك. فَصْلٌ إِذا نسخ وجوب الأمر جاز أن يحتج به على الجواز، ومنع من ذلك القاضي أَبُو مُحَمَّدٍ. والدليل على ما نقوله إن الأمر بالفعل يقتضي وجوب الفعل وجوازه، والجواز ألزم بالفعل؛ لأنه قد يكون جائزًا, ولا يكون واجبًا ومحال أن يكون واجبًا ولا يكون جائزًا, لأنه مستحيل أن يُؤْمَرَ بفعل ما لا يجوز له فعله. ومعنى الجائز ههنا ما وافق الشرع. فإِذا ثبت ذلك ونسخ الوجوب خاصة بقي على حكمه في الجواز؛ لأن النسخ لم يتعلق بالجواز، وإنما يتعلق بالوجوب دونه.

فصل

فَصْلٌ المسافر والمريض مأموران بصيام رمضان مخيَّران بين صومه وصوم غيره. وقال بعض أصحابنا: المسافر مخاطب بالصوم، دون المريض. وقال الكَرْخِيُّ: المسافر والمريض غير مخاطبين بالصوم. والدليل على ما نقوله إن المسافر لو صام أُثِيبَ على فِعْلِهِ وَنَاب صومه عن فرضه، فلو كان غير مخاطب بصومه، لَمَا أُثِيبَ عَلَيْهِ كالحائض لَمَّا لم تخاطب بالصوم لم تُثَبْ عليه [في حال حيضها]. فَصْلٌ لا خلاف بين الأُمَّة أن الكفار مخاطبون بالإيمان. والظاهر من مذهب مالك -رحمه اللَّه- أنهم مخاطبون بالصوم والصلاة والزَّكاة، وغير ذلك من شرائع الإِسلام (¬1)، وقال مُحَمَّدٌ بْنُ خُوَيزَ مِنْدَاد: لَيْسُوا مخاطبين بشَيء من ذلك. والدليل على ما نقوله قوله تعالى: {سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} [المدثر: الآية 42] إلى قوله تعالى: {مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: الآية 45] فأخبر اللَّه تعالى أن العذاب حق عليهم بترك الإيمان والصوم والصدقة والصلاة. فَصْلٌ إِذا قال الصحابي: أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بكذا وكذا أو نهانا عن كذا وكذا وجب حمله على الْوُجُوب وحُكي عن أبي بكر بن داود أنه قال: "لا يُحمل على الوجوب" حتى ينقل إلينا لفظ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وما قاله ليس بصحيح, لأن معرفة الأمر لا تعرف من غير طريقة اللغة، وإِذا كنا نحتج في اللغة والتمييز بين الأمر وغيره، بقول امْرئٍ القَيْسِ والنَّابِغَةِ، فبأن نحتج بقول أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَولَى وَأحَق لكونهما من أفصح العرب، ولما يقترن بذلك من أمور الدين والفضل، واللَّه تعالى أعلم. مَسَائِلُ النَّهْيِ الذي ذهب إليه أهل السُّنَّة أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده، والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده (¬2) والنهي ينقسم إلى قسمين: ¬

_ (¬1) انظر البرهان 1/ 107، والبحر المحيط للزركشي 1/ 377. (¬2) انظر المستصفى 1/ 81 - 83، المنخول 114 - 115.

أبواب العموم وأقسامه

نهي على وجه الكراهة، ونهي على وجه التحريم. إلا أن النهي إذا ورد وجب حمله على التحريم إلا أن يقترن به قرينة تصرفه عن ذلك إلى الكراهية، والنهي إذا ورد دل على فساد المنهي عنه، وبه قال جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم. وقال القاضي أَبُو بكر البَاقِلانِي: لا يدل على ذلك. والدليل على ما نقوله اتفاق الأمة من الصحابة فَمَن بعدهم على الاستدلال بمجرد النهي في القرآن والسنة على فساد العقد المنهي عنه كاستدلالهم على فساد عقد الربا بقوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: الآية 278]. وينهى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَنْ بَيعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَب مُتفَاضِلًا" واحتجاج ابْنُ عُمَرَ في تحريم نكاح الْمُشْرِكَاتِ وفساده بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: الآية 221] , وغير ذلك مما لا يحصى كثرة. أَبْوَابُ الْعُمُومِ وَأَقْسَامُهُ قد ذكرنا أن المحتمل الظاهر في أحد محتملاته منه على ضربين: أوامر، وعموم. وقد تكلمنا في الأوامر، والكلام ههنا في العموم، وله ألفاظ خمسة: منها لفظ الجمع كالمسلمين والمؤمنين والأبرار والفجار، وألفاظ الجنس كالحيوان والإبل، وألفاظ النفي، كقوله: ما آذاني من أحد، والألفاظ الْمُبهَمَة كـ"مَنْ" فيما يعقل، "وما" فيما لا يعقل، و"أى" فيهما، و"متى" في الزمان، و"أين" في المكان، والاسم المفرد إذا دخل عليه الألف والسلام نحو قولنا: الرجل والإنسان والمشرك. فهذا إِذا ورد اقتضى أمرين: أحدهما: أن يراد به واحد بعينه، وذلك لا يكون إِلا بقرينة عهدٍ. والثاني: أن يراد به جميع الجنس، فإذا ورد عاريًا من القرائن حمل على جميع الجنس، والدليل على ذلك اتفاقنا على أنه معرفة ولا بد أن يكون معرفة بالعهد، أو باستيعاب الجنس، فهذا لم يكن عهد حُمِلَ على استيعاب الجنس، وإلا كان نَكِرةً.

فصل

ومن ألفاظ العموم والإضافة إِلى ما تصح الإضافة إليه من ألفاظ العموم، كقوله عليه السلام: "فِي سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ". فَصْلٌ فإذا ثبت ذلك وورد شيء من ألفاظ العموم المذكورة، وجب حملها على عمومها إلَّا أن يدل الدليل على تخصيص شيء منها، فيصير إلى ما يقتضيه الدليل، وقال القاضي أبو بكر: "يتوقف فيها ولا تحمل على عموم، ولا خصوص حتى يدل الدليل على ما يراد به. وقال أبو الحسن بْنُ الْمُنْتَابِ: يحمل على أقلّ ما تقتضيه الألفاظ. والدليل على ما نقوله ما قدمناه من كونها معرفة وإنما تكون معرفة إذا اقتضت استغراق الجِنْسِ، فيتميز ما يقع تحتها من غيره ولو لم يرد بها جميع الجنس لكانت نكرة لأنه لا يتميز المراد بها من غيره، إِذ قد بَقِيَ من جنسه ما يقع عليه هذا اللفظ. ولذلك قلنا: إِن لفظ الجمع إِذا كان نكرة لا يقتضي من جنسه ما لم يرد باللَّفظ. ولذلك قلنا: إِن لفظ الجمع إِذا كان نكرة لا يقتضي استغراق الجنس, لأنه لو اقتضى استغراق الجنس لكان معرفة. فَصْلٌ وَإِذا دل الدليل على تخصيص ألفاظ العموم بقي على ما يتناوله اللفظ العام، بعد التخصيص على عمومه، أَيضًا يحتج به كما كان يحتجّ به لو لم يخصص بشيء منه، وذلك نحو قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: الآية 5]. فإن هذا اللفظ يقتضي قَتْلَ كل مشرك، ثم خصّ ذلك بأن منع من قتل من (دفع) الجزية من أهل الكتاب، فبقي الباقي على ما كان عليه من وجوب القتل، يحتج به في وجوب قتل المشركين غير من قد خرج بالتخصيص المذكور. وكذلك لو ورد تخصيص آخر لبقي باقي اللفظ العامّ على ما كان عليه قبل التخصيص، ويجوز أن يَرِدَ التخصيص والبيان مع اللفظ العام، ويجوز تأخيره عنه إلى وقت فعل العِبادة، ولا يجوز أن يتأخَّر عن ذلك الوقت.

فصل

فَصْلٌ أقلّ الجمع اثنانِ عند جماعة من أصحاب مالك -رحمه اللَّه- وذكر القاضي أبُو بَكْرٍ أنه مذهب مالك. وقال بعض أصحابنا وأصحاب الشَّافِعِيّ: أقل الجمع ثلاثة. والدليل على ما نقوله قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء: الآية 78] إلى قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: الآية 78] وقوله: {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء: الآية 15]. وحُكِيَ أنه مذهب الخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ، وأنشد في ذلك قول النَّابِغَة: [السريع] وَمَهْمَيَنْ قَذَفَبَنْ مِرْتَيْنْ ... ظَهْرَاهُمَا مِثْل ظُهُورِ التُّرْسَيْنْ فَصْلٌ إِذا ورد لفظ الجمع المذكور لم تدخل فيه جماعة المؤنث إلا بدليل, لأن لكل طائفة لفظًا يختص بها في مقتضى اللُّغة. قال اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: الآية 35]. وقال بعض أهل اللغة: إن "الواو" في الجمع السالم تدل على خمسة أشياء: على التذكير، والسَّلامة، والرفع، والجمع، ومن يفعل، فلا يجوز أن يَقَعَ تحته المؤنث إلا بدليل، كما لا يقع تحته مَا لا يعقل إِلا بدليل. فَصْلٌ إِذا ثبت ذلك فقد يرد أول الخبر عامًّا، وآخره خاصًّا، ويرد آخره عامًا، وأوله خاصًّا. فيجب أن يحمل كل لفظ على مقتضاه، ولا يعتبر سواه، وذلك نحو قوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: الآية 228]. وهذا عامّ في كل مطلقة مدخول بها رجعية كانت أو بائنة. ثم قال بعد ذلك: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: الآية 228].

فصل

وهذا خاصّ بالرجعيات وما خصّ أوله، وعمّ آخره قوله عزَّ وجلَّ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: الآية 1]. فَصْلٌ إِذا تعارض لفظان خاصّ وعام بني العام على الخاص، سواء كان الخاص متقدمًا أو متأخرًا. وقال أَبُو حَنِيفَة: إذا كان العام متأخرًا فنسخ الخاص المتقدِّم. والدليل على ذلك ما روِيَ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "لا صَلاةَ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ" (¬1). فاقتضى ذلك نفي كل صلاة بعد العصر، ثم قال: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةَ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا" (¬2). فأخرج هذا اللفظ الخاصّ الصوات المنسيات من جملة الصلوات المنهي عنها بعد العصر، وقال أبو حنيفة: وإذا كان العام متفقًا عليه، والخاص مختلفًا قدم العامّ على الخاصّ، والدليل على ما نقُوله إن الخاص يتناول الحكم على وجه لا يحتمل التأويل، والعام يتناول على كل وجه محتمل التأويل، فكان الخاص أولى. فَصْلٌ إذا تعارض لفظان على وجه لا يمكن الجمع بينهما، فإِن عُلِمَ التاريخ فيهما نسخ المتقدِّم بالمتأخر، وإِن جهل ذلك نظر في ترجيح أحدهما على الآخر، بوجه من وجوه الترجيح التي تأتي بعد هذا، فإِن أمكن ذلك وجب المصير إلى ما يرجَّح، فإِن تعذَّر الترجيح في أحدهما ترك النظر فيهما، وعدل إلى سائر أدلة الشرع، فما دلّ عليه الدليل أخذ به، وإن تعذر في الشرع دليل على حكم تلك الحادثة، كان الناظر مخيرًا في أن يأخذ بأي اللفظين شاء الحاظر أو المبيح، إِذ ليس في العقل حَظْر ولا إِباحة. فَصْلٌ يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وعليه جمهور الفقهاء، ويجوز تخصيص عموم السنة بالقرآن، وتخصيص عموم القرآن، وخبر الآحاد بالقياس الجليّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه 2/ 61، ومسلم في صحيحه 1/ 567. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 471.

فصل

والخفي, لأن ذلك جمع بين دليلين، ومتى أمكن الجَمْع بين دليلين كان أولى من اطِّرَاح أحدهما، والأخذ بالآخر, لأن الأدلة إِنما اقتضت الأخذ بها، والحكم بمقتضاها، فلا يجوز اطراح شيء منه ما أمكن استعماله. فَصْلٌ وقد يقع التخصيص بمعان من أفعال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وإقراره على الحكم، وما جرى مَجْرَى ذلك ولا يقع التخصيص بمذهب الراوي، وذلك مثل ما روى ابْنُ عُمَرَ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "الْمُتَبَايِعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَفتَرَقَا". وقال ابْنُ عُمَر: التفريق بالأبدان. وذهب بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي إِلى أنه يقع التخصيص بذلك. وذهب مالك -رحمه اللَّه- إلى أنه لا يقع به التخصيص، وهو الصحيح, لأن الأحكام لا تؤخذ إِلا من قول صاحب الشرع، ولا يجوز أن يطرح قول صاحب الشرع لقول غيره. فَصْلٌ هذا الكلام في اللفظ العالمين الوارد ابتداء. فأمَّا الوارد على سبب فَإِنَّه على ضَرْبَيْن مستقلّ بِنَفْسِهِ، وغير مستقلّ بِنَفْسِهِ. فأما المستقلّ بنفسه، مثل ما روى النبي -عليه السلام- أَنَّه (سُئِلَ عن بِئْرِ بضَاعَةَ)، فقال: "المَاءُ طَهُورُ لا ينَجِّسُهُ شَيءٌ". فمثل هذا اللفظ العام اختلف أصحابنا فيه، فروي عن مالك -رحمه اللَّه- أنه يقصر على سببه، ولا يحمل على عمومه، وروي عنه أَيضًا أنه يحمل على عمومه، ولا يقتصر على سببه. وإليه ذهب إِسْمَاعِيلُ القاضي، وأكثر أصحابنا. الدليل على ذلك أن الأحكام متعلّقة بلفظ صاحب الشرع دون السبب, لأن لفظ صاحب الشرع لو انفرد لتعلّق به الحكم، والسبب لو انفرد لم يتعلّق به حكم، فيجب أن يكون الاعتبار بما يتعلّق به الحكم دون ما لا يتعلّق به.

باب أحكام الاستثناء

وأَمَّا ما لا يستقل بنفسه، فمثل ما سُئِلَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فقال: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ قال: فَلا إِذَا" (¬1). فمثل هذا الجواب لا يقتصر على سببه، ويعتبر به في خصوصه وعمومه، ولا خلاف في ذلك. بَابُ أَحْكَامِ الاسْتِثْنَاءِ ومما يتصل بالتخصيص ويجري مجراه الاستثناء هو على ضربين: استثناء يقع به التخصيص. واستثناء لا يقع به التخصيص، فأما الذي يقع به التخصيص، فعلى ثلاثة أضرب: استثناء من الجنس. واستثناء من غير الجنس. واستثناء من الجملة. فأما الاستثناء من الجنس، فكقولك: رأيتُ النَّاس إلا زيدًا. وأما الاستثناء من الجملة فكقولك: رأيت زيدًا إِلا يده. وأما الاستثناء من غير الجنس، فلا يقع به التخصيص؛ لأنه لا يخرج من الجملة بعض ما تناولته. وقال مُحَمَّد بْنُ خُوَيز مِنْدَاد: لا يجوز ودليلنا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: الآية 92]. والخطأ لا يقال فيه للمؤمن أن يفعله، ولا ليس له أن يفعله, لأنه ليس بداخل تحت التكليف. وقد قال النابغة [البسيط]: وَقَفْتُ فِيهَا أصِيلًا كَيْ أُسَائِلَهَا ... عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إِلا أَوَارِيّ لأيّا مَا أُبَينُهَا ... وَالنُّؤْيُ كَالحَوْضِ بِالمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ 2/ 624، والشافعي في المسند 2/ 159، وأبو داود في السنن 3/ 654 - 657، والترمذي في السنن 3/ 528، والنسائي في المجتبى من السنن 2/ 761.

فصل

فَصْلٌ الاستثناء المتصل في جمل من الكلام معطوف بعضها على بعض، يجب رجوعها إلى جميعها عند جماعة من أصحابنا. وقال القاضي أبو بكر: فيه مذهب بالوقف. وقال المتأخرون من أصحاب أَبِي حَنِيفَةَ: يرجع إِلَى أقرب مذكور إليه، مثال ذلك قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: الآيتان 4، 5]. والدليل على ذلك أن المعطوف بعضه على بعض بمنزلة المذكور جميعه باسم واحد، ولا فرق عندهم بين من قال: اضرب زيدًا وعمرًا وخالدًا، وبين من قال: اضرب هؤلاء الثلاثة، وإذا كان ذلك كذلك، فلو ورد الاستثناء عقيب جملة مذكورة باسم واحد لرد إلى جميعها، وكذلك إِذا ورده عَقِيبَ ما عطف بعضه على بعض، وقد أجمعنا على أن الاستثناء، واقع على جميع الجملة. بَابُ حُكْمِ الْمُطْلَقِ (¬1) وَالْمُقَيّدِ (¬2) وَمَا يَتَّصِلُ بِالعَامِّ وَالْخَاصِّ المطلق والمقيد، ونحن نبيّن حكمهما إن شاء اللَّه. التقييد يقع بثلاثة أشياء بالغاية والشرط والصفة. فأما الغاية، فقولك: اضرب عمرًا أبدًا حتى يرجع إلى الحق، فلولا أنه قيد الضرب بالرجوع إِلى الحق لاقْتَضَى ضربه أبدًا. وأما الشرط فكقولك: من جاءك من النَّاس، فأعطه درهمًا، فقيد ذلك بالشرط. وأما الصفة، فكقولك: أعط القرشيين المؤمنين، فقيد بصفة الإيمان, ولولا ذلك لاقتضى اللفظ كل قرشي، فإذا ثبت ذلك، وورد لفظ مطلق ومقيد، فلا يخلو من أن يكون من جنس واحد، أو من جنسين، فإن كان من جنس واحد، فلا خلاف في أنه لا يحمل المطلق على المقيد, لأن تقييد الشهادة بالعدالة لا يقتضي تقيُّد رقبة ¬

_ (¬1) انظر التعريف في الأحكام للآمدي 3/ 3، ونهاية السول 2/ 319، والمستصفى 2/ 185. (¬2) انظر التعريف في الأحكام للآمدي 3/ 3، والمستصفى 2/ 185، والبحر المحيط للزركشي 3/ 434.

فصل

العتق بالأيمان. وأما إِن وإن من جنسين، فلا يخلو أن يتعلق بسببين مختلفين أو بسبب واحد، فإن تعلق بسببين مختلفين نحو أن يقيد الرقبة في القتل بالأيمان ويطلقها في الظهار، فإنه لا يحمل المطلق على المقيّد عند أكثر أصحابنا إِلا بدليل يقتضي ذلك. وقال بعض أصحابنا وأصحاب الشَّافِعِيّ: يحمل المطلق على المقيد من جهة وضع اللُّغة. والدليل على ما نقوله إن الحكم المطلق غير مقيد، وإِطلاق المقيد يقتضي نَفْي التقيد عنه كما أن تقيُّد المطلق يقتضي نفي الإطلاق عنه، فلو وجب تقيد المطلق, لأن من جنسه ما هو مقيد لوجب إطلاق المقيد, لأن من جنسه ما هو مطلق. وأما إذا كان متعلِّقين بسبب واحد، مثل أن ترد الزَّكاة في موضع مقيّدة بالسَّوْم، وترد في موضع آخر مطلقة، فإِنَّه لا يجب عند أكثر أصحابنا أَيضًا حمل المطلق على المقيد، ومن أصحابنا من أوجب ذلك، وهو من باب دليل الخِطَاب ثِقَة، وقد أجمعنا على أنه لو قال ذلك لوجب تقليده في تعديله، فكذلك إِذا أرسل عنه. فَصْلٌ إذا روى الراوي الخبر وترك العمل به لم يمنع ذلك وجوب العمل به عند أكثر أصحابنا. وقال بعض أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة، إن ذلك يبطل وجوب العمل به. والدليل على ما نقوله إن خبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا ورد وجب على الصحابة وغيرهم امتثاله، إلا أن يدل دليل على نسخه، وليس إذا تركه تارك مما يسقط وجوب العمل به عمن بلغه، ولذلك استدللنا بخبر ابن عباس في أن الأمة إِذا أُعتقت تحت عبد، فخيرت بخبر بريرة أنها عتقت تحت عبد فخيرت، وإن كان مذهب ابن عباس أن بيع الأمة طلاقها. فَصْلٌ إذا روى الراوي الخبر، فأنكره المروِيّ عنه، فإن ذلك على ضربين: أحدهما: أن يتوقف فيه، ويَشك هو.

فصل

الثاني: أن يكذب الراوي ويقطع بأنه لم يحدثه، فإما إن شك المروي عنه، فقد ذهب جمهور أصحابنا، وأصحاب أبي حنيفة، وأصحاب الشافعي إلى وجوب العمل به. ذهب الكرخي إلى أنه لا يجب العمل به. والدليل على ما نقوله إن نسيانه لا يكون أكثر من موته، وقد أجمعنا على أن موته لا يسقط العمل به، وكذلك نسيانه. فأما إذا قطع أنه من يحدث به فهو على ضربين أَيضًا: أحدهما: أن يقول: هو في روايتي ولم أحدث به الراوي، فهذا لا يمنع وجوب العمل به من جهة المروي عنه. وأما إذا قال: "لم أروه قط"، فهذا لا يجوز الاحتجاج به جملة, لأن المروي عنه إذا كان كذبًا فقد بطل الخبر من جهته، وإن كان صادقًا، فقد بطل الخبر أَيضًا لإخباره أنه لم يروه. فَصْلٌ رواية العدل الثبت، الحافظ، المتقين الزيادة في الخبر على رواية غيره معمول بها خلافًا لبعض أصحاب الحديث في قولهم: لا تقبل الزيادة من العدل على الإطلاق ولبعض المتفقه في قولهم: تقبل الزيادة من العدل على الإطلاق، والدَّلِيل على ما نقوله إنه لو شهد شاهدان لرجل على غريمه بألف [دينار]، وشهد شاهدان آخر بألف وخمسمائة أخذنا بالزيادة، فكذلك إذا انفرد بنقل زيادة في الخبر. فَصْلٌ يجب العمل بما نقل على وجه الإجازة، وبه قال عامّة العلماء وقال أهل الظاهر: لا يجوز بالإجازة إلا أن تكون مناولة أو أن يكتب إليه المجيز أن الكتاب الفلاني، أو الديوان الفلاني، يعد من ذلك من روايتي عن فلان فاروِ ذلك عني. والدليل على ما نقوله: إن من كتب إلى غيره أن ديوان الموطأ أو غيره من الكتب المعلومة روايتها على زيد، فاروه عني إذا صح عندك فيحتاج في إثبات كتاب عنده إلى نقل الثقات، ولم يحتاج في تصحيحه كتاب الموطأ العلم بأنه مماثل لأصل المجيز له إلى نقل الثقة أَيضًا، فتحصل به الرواية بعد ثبات ذلك عنده من طريقين.

باب أحكام الناسخ والمنسوخ

وإذا قيل له مشافهة: ما صح عندك من حديثي، فاروِه عني لم يحتج في ذلك إلى إخبار ثقة بأن هذا الكتاب رواه المجيز له عن فلان، فلا يحتاج أن يصح ذلك إلا من طريق واحد، ثم ثبت وتقرر، أن في النوع الأول يصح إجازته فبأن تصح هنا أولى وأحرى. بَابُ أَحْكَامِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ (¬1) فأَمَّا النسخ فهو إِزالة الحكم الثابت بالشرع المتقدم بشرع متأخِّر عنه لولاه لكان ثابتًا، وذلك أن الناسخ والمنسوخ لا بد أن يكون حُكمين شرعيين. فأما الناقل عن حُكْم الأصل الساقط بعد ثبوته وامتثال موجبه، فإنه لا يُسَمَّى نسخًا. فَصْلٌ فإِذا ثبت ذلك فإِذا نقص بعض الجملة أو شرط من شروطها، فقد ذهب أكثر الفقهاء إِلى أنه ليس بنَسْخ، وبه قال أصحابنا، وأصحاب الشَّافِعِيِّ، وكذلك الزيادة في النَّصِّ. وقال أصحاب أَبِي حَنِيفَةَ: هو نسخ. وقال القَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إن كان النقص من العبادة أو الزيادة فيها بغير حكم المزيد فيه أو المنقوص منه، حتى يجعل ما لم يكن منه عِبَادَة [قائمة] بنفسها عبادة ثابتة وقُرْبَة مستقلة، أو يجعل ما كان عبادة شرعية غير شرعية، فهو نسخ نحو أن يزاد في الصَّلَوات التي هي رَكْعتَان ركعتان أخريان، فهذا يكون نسخًا, لأن الركعتين الأوْلَيَيْن حينئذٍ لا تكون صلاة شرعية، وكذلك إذا ورد الأمر في الصلوات الرُّبَاعية أن تصلّى ركعتين، فإِنه نسخ أَيضًا, لأن الأربع ركعات حينئذٍ لا تكون صلاة، وإِذا لم تغيّر الزيادة، ولا النقصان حكم المزيد عليه، ولا المنقوص منه، فليس بنسخ مثل أن يؤمر في حدّ شارب الخمر بأربعين، ثم يُؤْمَرُ بثمانين، فإِنَّ هذه الزيادة لا تبطل حكم المزيد عليه, لأنه لو ضرب الأربعين بعد الأمر بالثمانين لأجزأت عن الأربعين وبنى عليها إِذا أراد أن يتمّ الثمانين، والذي أمر بأربع فصلّى ركعتين لا تجزيه أن يتم عليها ¬

_ (¬1) انظر البرهان 2/ 1293، والأحكام للآمدي 3/ 95، ونهاية السول 2/ 548، والمستصفى 1/ 107.

فصل

ركعتين، حتى يبتدأ أربع ركعات، وكذلك لو أمر بجلد ثمانين في الخَمْر، ثم نقص منها، فإنَّه لا يكون نسخًا لجميع الحدّ، وإِنما يكون نسخًا لأربعين فقط. فَصْلٌ ذهب جمهور الفقهاء إلى أَنَّ النسخ لا يدخل في الأخبار، وقالت طائفة: يدخل النَّسْخُ في الأخبار، والصحيح من ذلك أن نفس الخبر لا يدخله النسخ, لأن ذلك لا يكون نسخًا، وِإنما يكون كذبًا، لكن إِن ثبت بالخبر حكم من الأحكام جاز أن يدخله النَّسْخ. فَصْلٌ يجوز نسخ العبادة بمثلها، وبما هو أخف منها وأثقل، وعليه جمهور الفقهاء، ومنع قوم نسخ العبادة بما هو أثقل منها. وَالدَّليل على ما نقوله إن اللَّه تَعَالَى قد أوجب على المكلفين ما يشقّ عليهم إيجابه، وحرم عليهم ما يشق عليهم تحريمه، وإِذا جاز أن يبتدئ التعبد بما هو أثقل عليهم من حكم الأصل، جاز أَيضًا أن ينسخ عنهم العبادة بما هو أثقل عليهم منها. فَصْلٌ إذا وردت التلاوة متضمنة حُكمًا واجبًا علينا من تحريم، أو فرض أو غير ذلك من العبادات، وأمرنا بتلاوتها، فإِن فيها حكمين: أحدهما: ما تضمنته من العبادة. والثاني: ما ألزمناه من حفظها وتلاوتها، وذلك بمثابة ما لو تضمن الخبر حكمين: أحدهما: صومًا. والآخر: صلاة، فإذا ثبت ذلك جاز نسخ الحكم مع بقاء التلاوة وجاز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم. فأما نسخ الحكم مع بقاء التلاوة، فهو مثل نسخ حكم التخيير بين الصوم والفدية لمن أطاق الصوم، ونسخ الوصية للوالدين والأقربين، ونسخ تقدير الصدقة عند مناجاة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وإن بقيت التلاوة لذلك كله.

فصل

وأما بقاء الحكم ونسخ التلاوة فما تظاهرت به الأخبار من نسخ تلاوة آية الرَّجْمِ، ونسخ الخمس رَضْعَات، وغير ذلك مما بقي حكمه بعد نسخ تلاوته. فَصْلٌ يصح نسخ العبادة قبل وقت الفعل وعلى ذلك أكثر الفقهاء. وقال أبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِي وبعض أصحاب أَبِي حَنِيفَةَ: لا يصح نسخ العبادة قبل وقت الفعل. والدليل على ذلك ما أمر به إِبرَاهيمُ -عليه السلام- من ذَبْح ولده، ثم نسخ عنه قبل فعله. وأيضًا فقد ذكرنا أن النَّسخ إنما هو إزالة الحكم الثابت بالشرع المتقدم، وإذا خرج وقت العبادة، فلا يخلو أن يكون فعلها أو لم يفعلها، فإن كان فعلها، فلا يحتاج إلى النسخ, لأن المأمور به قد امتثله، وإن لم يكن فعلها، فلا يصح النسخ أَيضًا؛ لأنه لا يقال له: لا تفعل أمس كذا, لأن الفعل فيما مضى غير داخل تحت التكليف فعله ولا تركه فلا يصح النسخ إلا قبل انقضاء وقت العبادة. وأما إِسْقَاط مثل العبادة في المستقبل، فليس بنسخ لنفس المأمور به، وإِنما هو إِسقاط لمثله. فَصْلٌ لا خلاف بين أَهْل العلم في جواز نسخ القرآن بالقرآن (¬1)، والخبر المتواتر بمثله، وخبر الواحد بمثله. وذهب أكثر الفقهاء إِلى أنه يجوز نسخ القرآن بالخبر المتواتر، ومنع من ذلك الشَّافِعِيُّ والدليل على ذلك أن القرآن والخبر المتواتر كلاهما شرع مقطوع بصحته، واِذا جاز أن ينسخ القرآن بالقرآن جاز أن ينسخ بالخبر المتواتر، ومما يبين ذلك أن قوله عَزَّ وَجَلَّ: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: الآية 180] منسوخ بقوله عليه السلام: "إِن اللَّه قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه فَلا وَصِيّةَ لِوَارِثٍ". فَصْلٌ ويجوز عند جمهور الفقهاء نسخ السُّنَّة بالقرآن، ومنع من ذلك الشافعي. ¬

_ (¬1) انظر الأحكام للآمدي 3/ 133، نهاية السول 2/ 579، المستصفى 1/ 124.

فصل

والدليل على ذلك ما ورد من القرآن، بصلاة الخوف بعد أن ثبت بالسنة تأخيرها [يوم الخندق] إِلى أن يَأْمَنَ نسخت، ونسخ التوجُّه لبيت المقدس بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: الآية 144] , وقوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [المُمتحنة: الآية 10] , بعد أن قرر عليه السلام رد من جاءه من المسلمين إِليهم. فَصْلٌ يجوز نسخ القرآن والخبر المتواتر بخبر الآحاد، وقد منعت من ذلك طائفة. والدليل على ذلك ما ظهر من تَحَوُّلِ أَهْلِ "قِبَاء" إلى الكعبة بخبر الآتي فقد كانوا يعلمون استقبال بَيْت المقدس مِن دين النبي -عليه السلام- ضرورة إِلا أنه لا يجوز ذلك بعد زمان النبي -عليه السلام- للإجماع على ذلك. وأما القياس فلا يصح النسخ به جملة. فَصْلٌ ذهبت طائفة من أصحابنا وأصحاب أَبِي حَنِيفَةَ والشَّافِعِي إِلَى أن شريعة مَنْ قبلنا لازمة لنا إِلا ما دَلَّ الدليل على نسخه. وقال القاضي أَبُو بَكْرٍ وجماعة من أصحابنا بالمنع من ذلك. والدليل على ما نقوله قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: الآية 90] , فأمر باتباعهم وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: الآية 13] إلى قوله: {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: الآية 13]. وما رُوِيَ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاة أَوْ نَسِيهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا"، فإن اللَّه -سبحانه وتعالى: يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: الآية 14]، وإنما خوطب بذلك موسى -عليه السلام- فأخذ به نَبيُّنَا عليه السلام. بَابُ الإِجْمَاع وَأحْكَامِهِ إجماع الأُمَّة على حكم الحادثة دليل شَرْعِي، فيجب المصير إلى ما اجتمعت عليه، والقطع بصحّته خلافًا للإمامية. والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {مَصِيرًا} [النساء: الآية 115].

فصل

فتوعّد اللَّه على اتِّبَاع غير سبيل المؤمنين، فكان ذلك أمرًا باتباع سبيلهم. فَصْلٌ فإذا ثبت ذلك فالأُمَّة على ضربين: خاصة وعامة، فيجب اعتبار أقوال الخاصة، والعامة فيما كلّفت العامة والخاصة معرفة الحكم فيه. فأما ما ينفرد الحكام والفقهاء بمعرفته من أحكام الطَّلاق والنكاح والبيوع والعِتْقِ والتدبير والكتابة والجنايات والرهون، وغير ذلك من الأحكام التي لا عِلْمَ للعَامَّةِ بها، فلا اعتبار فيها بخلاف العامّة، وبذلك قال جمهور الفقهاء. وقال القاضي أَبُو بَكْرٍ: يُعْتبر بأقوال العامّة في ذلك كلّه. والدليل على ما نقوله: إن العامَّة يلزمهم اتباع العلماء، فيما ذهبوا إليه، ولا يجوز لهم مخالفتهم، فهم في ذلك بمنزلة أهل العصر الثاني مع من تقدمهم، بَلْ حال أهل العصر الثاني أفضل, لأنهم من أهل العلم والاجتهاد. ثم ثبت أنه لا اعتبار بقول أهل العصر الثاني، مع اتفاق أقوال أهل العصر الأول فبأن لا يعتبر بأقوال العامة مع اتفاق أقوال العلماء أولى وأحرى. فَصْلٌ لا ينعقد الإجماع إلا باتفاق جميع العلماء، فإِن شذَّ منهم واحد لم ينعقد الإجماع. وذهب ابْنُ خُوَيز مِندَاد إِلى أن الواحد والاثنين لا يعتد بهم. والدليل على ما نقوله قول اللَّه تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: الآية 10] , وقد وجد الاختلاف. فَصْلٌ إِذَا أجمع العلماء على حكم حادثة انعقد الإِجماع، وحرمت المخالفة، ولا اعتبار في ذلك بانقراض العصر، وعلى هذا أكثر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم. وقال أَبُو تَمَّام البَصْرِيُّ من أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي لا ينعقد الإجماع إلا بانقراض العصر.

فصل

والدليل على ذلك أن حُجَّة الإِجماع لا تخلو بأن تثبت بالإجماع أو بانقراض العصر أو بهما, ولا يجوز أنْ تثبت بانقراض العصر, لأنه ليس بقول ولا حجة، ولأن ذلك يوجب أن يكون الاختلاف حجة مع انقراض العصر. ولا يجوز أن يكون انقراض العصر والاتفاق جميعًا حجة, لأن كل واحد منهما بانفراده إِذا لم يكن حُجَّة، فبإضافته إِلى الآخر لا يصير حُجَّة، فلم يبق إِلا أن يكون الاتفاق حُجَّة، وذلك موجود مع بقاء العصر. فَصْلٌ إجماع أهل كل عصر حُجَّة، هذا قول جماعة الفقهاء غير دَاوُدَ بْنِ عَليّ الأصْبَهَانِيِّ، فإنَّه قال: إِجماع عصر الصحابة حجة دون إِجماع المُؤْمنين في سائر الأعصار. ودليلنا قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء: الآية 115]. فإِذا ثبت أن غير الصحابة يشارك الصحابة في هذا الاسم، وجب أن يثبت لهم هذا الحكم إن يدل دليل على اخْتِصَاصِ الصحابة. فَصْلٌ فَأَمَّا إِجْمَاع أَهْلِ المدينة، فقد أطلق أصحابنا هذا اللفظ، وإنما عوّل مالك -رحمه اللَّه- ومحققو أصحابه على الاحتجاج بذلك فيما طريقه النَّقل كمسألة الأذان، والصاع، وترك الجهر بسم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم في الفريضة، وغير ذَلِكَ من المَسَائِل التي طريقها النقل، واتصل العمل بها في المدينة على وجه لَا يخفي مثله، ونقل نقلًا متواترًا، وإنما خُصَّت المدينة بهذه الحجة دون غيرها من (سائر) البلاد، لأنها كانت موضع النُّبُوَّةِ، ومستقر الخلافة والصحابة بعده -صلى اللَّه عليه وسلم- ولو تهيأ مثل ذلك في سائر البلاد لَكَان حكمها كذلك أَيضًا. فَصْلٌ وَإِذا قال الصحابي قولًا وحَكَمَ بِحُكْم فظهر ذلك، وانتشر انتشارًا لا يخفي مثله ولم يعلم له مخالف، ولا سمع له منكر، فإنه إِجْمَاع وحجة قاطعة، وبه قال جمهور أصحابنا وأصحاب أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيّ. وقال القَاضِي أبُو بَكْرٍ: لا يكون إِجْمَاعًا حتى ينقل قول كل واحد من الصحابة في ذلك كلهم وبه قال دَاوُدُ.

فصل

والدليل على ما نقوله إن العادة جارية بأنه لا يَجوزُ أن يسمع العدد الكثير والجمع الغفير الذين لا يصح عليهم التواطؤ على الكذب والتشاجر قولًا يعتقدون خطأه وبطلانه ثم يمسك جميعهم على إنكاره وإظهار خلافه بل كلهم يُسرع إلى ذلك ويسابق إليه. فإذا ظهر قول وانتشر، وبلغ أقاصي الأرض، ولم يعلم له مخالف علم أن ذلك السكوت رضا منهم به وإِقرار عليه لما جرت به العادة، ولو لم يصح إجماع، ولا ثبتت به حُجّة إِلا بعد أن يروي الاتفاق على حكم الحادثة عن كل واحد، من أهل العلم في عصر الإجماع، لبطل الإجماع وبطل الاحتجاج به لاستِحَالة وجود ذلك في مسألة من مسائل الأصول والفروع، كما لا يُعْلَم اليوم اتفاق علماء عصرنا في جميع الآفاق على حكم حادثة من الحوادث بل أكثر العلماء لا يعلم بوجودهم في العالم. فَصْلٌ إِذا اختلف الصحابة على قولين لم يَجُزْ إِحداث قول ثالث، هذا قَوْل كافَّة أصحابنا وأصحاب الشافعي. وقال دَاوُدُ يجوز إِحداث قول ثالث، والدليل على ما نقوله إنهم إِذا أجمعوا على قولين فقد أجمعوا على أنَّ ما عدا القولين خطأ، وإِنما اختلفوا في تعيُّن الحقِّ في أحدهما, ولم يختلفوا في أن ما عداهما خطأ، فمن قال بغيرهما، فقد صوَّب ما أجمعت عليه الصَّحابة على أنه خطأ. فَصْلٌ يصحّ أن ينعقد الإجماع على حكم من جهة القياس في قول كافَّة الفقهاء. وذهب ابْنُ خُوَيزِ منْدَاد إِلى أن ذلك لا يصح وجوده، ولو وجد لكان دليلًا. وقال دَاوُدُ: لا يصحّ ذلك، وهذا مبني عنده على أن القياس ليس بدليل، وسيأتي الكلام على ذلك إِن شاء اللَّه. بَابُ الْكَلامِ فِي مَعْقُولِ الأَصْلِ قد ذكرنا أن أدلة الشَّرع على ثلاثة أضرب: أصل، ومعقول أصل، واستصحاب حال الأصل.

فصل

وقد تقدم القول في الأصل، والكلام هنا في معقول الأصل. وهو ينقسم على أربعة أقسام: لحن الخطاب، وفَحْوَى الخطاب والحَصْر، ومعنى الخطاب. فأما لحن الخطاب: فهو الضمير الذي لا يتم الكلام إِلا به، وهو مأخوذ من اللَّحْن، وهو ما يبدو في عرض الكلام من معناه، نحو قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: الآية 184]. معناه: فأفطر، فعدّة من أيام أخر، فهذه حجة يجب المصير إليها والعمل بها، وقد يلحق بذلك ما ليس منه، وهو ادعاء ضمير يتم الكلام دونه نحو استدلالنا على أن العَظْم نحله الحَيَاة لقوله: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: الآية 78] , فيقول الحنفي المراد بذلك: مَنْ يحيي أصحاب العظام، فمثل هذا لا يجوز تقديم مُضْمَر إِلا بدليل استقلال الكلام دونه. فَصْلٌ وأما الضرب الثاني، وهو فَحوى الخطاب، فهو ما يفهم من نفس الخطاب من قصد المتكلم لعرف اللغة، نحو قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: الآية 23]. فهذا يفهم منه من جهة اللغة المنع من الضَّرب والشَّتم، ويجري مجْرى النص على ذلك، فوجب العمل به، والمصير إليه. فَصْلٌ وأما الضرب الثالث وهو الحَصْر، فله لفظ واحد، وهو "إِنما" وذلك قوله عليه السلام: "إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". فظاهر هذا اللفظ يدل على أن غير المعتق لا وَلاءَ له وقد يرد له، وقد يرد مثل هذا اللفظ لتحقيق المنصوص عليه، لا لنفي ما سواه نحو ذلك: "إِنما الكريم يُوسُف"، "وإِنما الشجاع عَنْتَرةُ" "ولم يرد نفي الكريم يُوسُف"، و"إِنما الشجاع عَنْتَرةُ" ولم يرد نفي الكرم من غير يوسف، ولا نفي الشجاعة من غير عنترة وإنما أراد إثبات ذلك ليوسف -عليه السلام- وأن يجعل له مزية في الكَرَم على غيره إلا أن الظاهر ما بدأنا به أولًا، فلا يعدل عنه إِلا بدليل.

فصل

فَصْلٌ ومما يلحق بذلك ويقرب منه عند كثير من الناس دليل الخطاب، وهو أن يعلّق الحكم على معنى في بعض الجنس، فيقتضي ذلك عند القائلين به نَفْيَ ذلك الحكم عمن لم يكن له ذلك المعنى من ذلك الجنس، نحو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ". فيقتضي ذلك نفي الزكاة عن غير السَّائمة، فهذا النوع من الاستدلال يسمّى عند أهل النظر دليل الخطاب، وقد ذهب إِلى القول به جماعة من أصحابنا، وأصحاب الشافعي، ومنع منه جماعة من أصحابنا، وأصحاب الشافعي، وأَبُو حنيفة، وهو الصحيح, لأن تعليق الحكم بالصفة في بعض الجنس يفيد تعليق ذلك الحكم بما وجدت فيه تلك الصفة خاصة، ويبقى الباقي في حكم المسكوت عنه يطلب دليل حكمه في الشرع، يدلُّ على ذلك ما روى البُخَاريُّ عن الشَّيبَانِيِّ عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبي أَوْفَى: (نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الجَرِّ الأخْضَرِ قلت: أَشْرَبُ في الأَبْيَضِ؟ قال: لا) (¬1). فوجه الدليل: منه أنه نصّ على الجَرِّ الأخضر، ثم ذكر أن حكم الأبيض حكمه، وهو من أهل اللسان. ولو جاز التعليق بدليل الخطاب لوجب أن يحكم له بالمخالفة، وإن تعلّق الحكم بالجَرِّ الأخضر خاصّة. بَابُ أَحْكَامِ الْقِيَاسِ وأما الضرب الرابع من معقول الأصل، فهو معنى الخطاب، وهو القياس، وَحَدُّهُ: حَمْلُ أحد المعلومين على الآخر في إثبات حكم، أو إسقاطه بأمر جامع بينهما، وهو دليل شرعي عند جميع العلماء. وقال دَاوُدُ: يجوز التعبُّد به من جهة العقل، إِلا أن الشرع منع منه. والدليل على ما ذهب إِليه جماعة أهل العلم قوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: الآية 2]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري 10/ 60.

والاعتبار في اللغة تمثيل الشيء بالشيء، وإِجراء حكمه بحكمه، ولذلك يقال: عَبَّرت الدنانير والدراهم أى: قايستها بمقاديرها من الأوزان، ويقال عن الْمُفَسِّر للرؤيا، مُعَبَّر، وعَبَرْت الرؤيا أى: حكمت لها بحكم ما يماثلها، وقستها بما يُشاكلها، وعبرت عن كلام فلان إِنما جئت بألفاظ تطابق معانيه، وتماثلها، ويقاس بها دليل ثان. ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: الآية 38]. ونحن نجد أحكامًا كثيرة ليس لها ذكر في القرآن، ولا في سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. مثل رجل له دينار وَقعت في مَحْبَرة لغيره، فلم يستطيع إِخراجه ومثل ثوب أبيض وقع لرجل في قِدْر لصَبَّاغ فكمل صَبْغُهُ، وحسن، وغير ذلك، فلا يجوز أن يراد بالآية نص على حكم حادثة القرآن، وإنما أراد به نصًّا فيه على بعض الأحكام، وأحال على سائر الأدلة فيه، فكان ذلك بمنزلة أن ينص في القرآن على جميعها. فمن الأدلة التي أحال على الأحكام بها القياس، لأنَّا نجد أحكامًا أكثر لا طريق إلى إثباتها إلا بالقياس والرأي كالأحكام التي ذكرناها وما شاكلها، ومما يدلّ على ذلك من السُّنَّة قوله -عليه السلام- لعمر حين سأله عن القُبْلَةَ للصَّائم: "أَرَأَيْتَ لَوْ تَمضمضت أَكَانَ عَلَيْكَ من جِناح؟ قال: لا ففيم إذًا؟ " (¬1). وقوله عليه السلام للخثعميَّة: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أبِيكِ دَيْنُ أَكُنْتِ تَقْضِيهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قال: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضى" (¬2). وقوله أَيضًا للذي أنكر لون ابْنِهِ: "هَلْ لَكَ من إِبَلٍ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْر قال: هَلْ فِيهَا من أَورْقَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَأَنَّى تَرَى ذَلِكَ؟ قَالَ: عِرْقٌ نَزَعَهُ قَالَ: فَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود 2/ 311، وأخرجه ابن حبان 5/ 223، وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 431، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 218، وأَحمد في المسند 1/ 21 و 52. (¬2) أخرجه أحمد في المسند 1/ 240، والنسائي 5/ 118، وابن عبد البر في التمهيد 1/ 390، والطبراني في الكبير 11/ 149. (¬3) أخرجه البخاري في الصحيح 13/ 296، ومسلم في الصحيح 2/ 1137.

وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، ومما يدل على ذلك علمنا بأن الصحابة -رضوان اللَّه عليهم- اختلفوا في مسائل كثيرة جرت بينهم فيها مناظرات مشهورة، ومراجعات كثيرة كاختلافهم في توريث الجَدّ مع الإخوة واختلافهم في الحرام والقَوْل في الظَّهَار (¬1) والعدة، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أحوال: إما أن يكون في هذه الأحكام المختلف فيها نص لا يحتمل التأويل، أو ظاهر يحتمل التأويل، ولا يرد ذكر لحكمها جملة، وششحيل أن يكون فيها نص لا يحتمل التأويل أو ظاهر يحتمل التأويل, لأنه لو كان لسَارَعَ المخالف إليه الموافق له، وانقطع الخلاف، وثبت الإجماع على الحق، ويستحيل أن فيها نصًّا، فيذهب على جميعهم، لأن ذلك إجماع منهم على الخطأ، ولا يجوز هذا, ولو جاز ذلك لجاز أَيضًا أن يذهب عليهم شرائع وصلوات وصيام وعبادات قد نص عليها صاحب الشرع، وهذا باطل باتفاق المسلمين، ويستحيل أن يكون في ذلك دليل يحتمل التأويل, لأنه لو كان ذلك لوجب بمستقر العادة أن ينزع كل مخالف إلى الظاهر الذي تعلق به، وليس احتجاجه عليه، ولا يعدل عند المناظرة، ولا يحتج بالرأي والقياس, لأن المستدلّ والمحتج إنما يحتجّ بما ثبت عنده به الحكم، وقصد إثبات الحق إِلى ما ليس بدليل، ولا حجة عنده، ولا عند خَصْمِهِ ولمَّا رأينا كل واحد منهم احتجّ في ذلك بالرأي والقياس دون منكر ولا مخالف علمنا إِجماعهم على القول بصحّة القياس والرأي ومما يدل على ذلك إجماع الصحابة على أحكام كثيرة من جهة القياس والرأي، كإجماعهم على إِمامة أَبِي بَكْرٍ بالقياس، وإجماعهم على إمامة عثمان، وغير ذلك مما أجمعوا عليه، ومن ذلك خبر عُمَرَ بْنِ الخَطابِ -رضي اللَّه عنه- إذ خرج إلى "الشام" بأصحاب النبي -عليه السلام- فَلَمَّا بلغ "سرغ" بلغه أن الوباء نزل بالشام فاستشار الْمهَاجرين الأَوَّلين، فاختلفوا عليه، فمنهم من قال: أرى ألا نفر من قَدَرِ اللَّه، ومنهم من قال: لا تقدَّم ببقية أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على الوباء، ثم دعا الأنصار، فاختلفوا كاختلاف المهاجرين، ثم دعا مَنْ حضر من مَشْيَخَةِ قريش في مهاجرة الفتح، فلم يختلفوا عليه، وأمروه بالرجوع، ولم يكن أحد منهم ذكر في ذلك آية من كتاب اللَّه -تعالى- ولا حديثًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بل أشار كل واحد منهم برأيه، وما أداه إِليه اجتهاده، ولم ينكر عليه أحد فعله، وقال عمر رضي اللَّه عنه: إِني مصبح على ظهر ¬

_ (¬1) انظر التعريف في المصباح المنير 2/ 590، واصطلاحًا في المغني 3/ 255، الإنصاف 9/ 193.

فصل

فأصبحوا عليه، فقال أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ: أَفِرَارًا من قَدَرِ اللَّه يَا عمر: قال لهُ عُمَرُ: لو غيرك قالها يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نعم نفر من قدر اللَّه إِلى قدر اللَّه، أرأيت لو كان لرجل إِبل في وَادٍ له عدوتان: إِحداهما خِصْبَة، والأخرى جَدْبة، أليس إن رعى الجَدبة رعاها بقدر، وَإن رَعَى الخِصْبَة رعاها بقدر اللَّه فاعترض عليه أَبُو عُبَيْدَة بالرأي وجاوبه عمر بالرأي، ولم يحتج أحدهما في ذلك بكتاب اللَّه ولا بِسُنَّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا إِجماع ثم شاعت هذه القصة وذاعت، ولم يكن في المسلمين من أنكر على أحدهم القول بالرأي، وما أعلم أَنَّ مسألة يدعى بالإجماع فيها أثبت في حكم الإجماع من هذه المسألة. فَصْلٌ فإِذا ثبت أن القياس دليل شرعي، فإنَّه يصح أن يثبت به الحدود والكَفَّارات والمقدَّرات والأبدال. وقال أَبُو حَنِيفَةَ: لا يجوز أن يثبت شيء من ذلك بالقياس، وما قاله ليس بصحيح؛ لأن الآية عامّة في الأمر بالاعتبار، فلا يجوز أن تخصَّ إِلا بدليل. فَصْلٌ العلة الواقعة عندنا صحيحة نحو علّة منع التفاضل في الدَّنانير والدراهم؛ لأنها أصول الأثمان وَقِيَم المُتْلِفَات. وقال أصحاب أبي حَنِيفَةَ: ليست بصحيحة. والدليل على ما نقوله إنَّ القياس أمارة شرعيَّة، فجاز أن تكون خاصَّة وعامَّة كالخبر. فَصْلٌ ذكر مُحَمَّدٌ بْنُ خُوَيْز مِنْدَاد أنَّ معنى الاستحسان (¬1) الَّذِي ذهب إليه بعض أصحاب مالك -رحمه اللَّه- وهو القول بأقوى الدليلين، مثل تخصيص بَيع العَرَايا من بيع الرُّطَب بالتَّمر للسُنَّة الواردة في ذلك. ¬

_ (¬1) انظر التعريف في الأحكام للآمدي 4/ 136، نهاية السول 4/ 398، البحر المحيط للزركشي 6/ 87.

فصل

وذلك لأنه لو لم يرد شرع في إباحة بيع العَرَايَا بخَرْصِها تمرًا لما جاز, لأنه من بيع الرُّطب بالتمر، وهذا الذي ذهب إليه هو الدليل، وإنما سماه استحسانًا على معنى الْموَاضِعَة، ولا يمتنع ذلك في عرف أهل كل صناعة. والاستحسان الذي يختلف أهل الأصول في إثباته هو اختيار القول من غير دليل ولا تعليل. وذهب بعض البصريين من أصحاب أَبِي حَنِيفَةَ، وأصحاب مَالِكٍ إِلى إِثباتِهِ ومنع منه شيوخنا العراقيون، والشافِعِيّ، والدليل على ما نقوله إن هذه معارضة للقياس بغير دليل، فوجب أن يبطل أصل ذلك، إِذا عُورِضَ بمجرد الهَوَى. فَصْلٌ مذهب مَالِك -رحمه اللَّه- المنع من سدّ الذَّرَائع، وهي المسألة التي ظاهرها الإباحة، ويتوصَّل بها إِلى فِعْل المحظور، وذلك نحو أن يبيع السلعة بمائة إِلى أَجل، ثم يشتريها بخمسين نقدًا، ليتوصل بذلك إِلى بَيْع خمسين مثقالًا نقدًا بمائة إِلى أَجل. وأباح الذَّرائع أبُو حَنِيفَةَ والشافعي: والدليل على ما نقوله قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} إلى قوله: {يَفْسُقُونَ} [الأعراف: الآية 163]. فوجه الدليل من هذا أنه حرم عليهم الاصطياد يوم السَّبت وأباحه سَائِر الأيام فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت وتغيبت عنهم في سائر الأيام، فكانوا يحظرون عليها إذا جاء يوم السبت ويسدّون عليها المسالك، ويقولون: إِنما منعنا من الاصطياد يوم السَّبت فقط، وإنما نفعل الاصطياد في سائر الأيام، وهذه صورة الذَّرَائع، ويدلس على ذلك أَيضًا ما روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَر (¬1) ثم قال: احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ"، لما رأى من شبهه بعتبه. ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: الآية 104]. فوجه الدليل من هذا أنه منع المؤمنين أن يقولوا: راعنا، لمَّا كان اليهود يتوصلون بذلك لسَبِّه عليه السلام فمنع من ذلك المؤمنين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الصحيح 8/ 23 - 24.

فصل

وإن كانوا لا يقصدون به ما منع من أجله، وأيضًا فإن ذلك إجماع الصحابة وذلك أن عُمَر -رضي اللَّه عنه- قال: "يَأَيُّهَا النَّاس إِن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قُبِضَ ولم يفسر لنا الربَا، فاتركوا الرّيبة والرِّبا". وقول عَائِشَة رضي اللَّه عنها لما اشترى زَيْدُ بْنُ أرقم جارية من أُمِّ ولده بثمانمائة إِلى العطاء، وباعها منها بستمائة: أبلغوا زَيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إِن لم يَتُبْ. وقال ابن عباس لما سئل عن بيع الطعام قبل أن يستوفي: دراهم بدراهم والطعام مرجأ. فَصْلٌ يصح الاستدلال بالعَكْسِ. وقال أبو حَامِدِ الأصْفَهَانِيُّ: لا يجوز، والدليل على قولنا إن المعقل إِذا قال: لا يحل الشَّعَر الروح, لأنه لو حله لما جاز أخذه من الحيوان حَالَ الحياة مع السلامة، ولما جاز أخذه منه حال الحياة، علمنا أن الروح لا تحلّه كالرِّيشِ، فهذا استدلال صحيح, لأنه لو حلّت الحياة الشَّعر، وجاز أخذه من الحيوان حال الحياة لانقضت العلّة. فَصْلٌ لا يجوز الاستدلال بالقَرَائن عند أكثر أصحابنا. وقال أبو مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ، يجوز ذلك، وبه قال المَازِنِيُّ. والدليل على ما نقوله: إن كل واحد من اللفظين المقترنين له حكم نفسه، ويصح أن ينفرد بحكم دون ما قام به، فلا يجوز أن يجمع بينهما إِلا بدليل، كما لو وردا مفترقين، واللَّه أعلم. بَابُ أَحْكَامِ اسْتِصْحَابِ الحَالِ قد ذكرنا أن أدلّة الشرع ثلاثة أضرب: أصل، ومعقول الأصل، واستصحاب الحال. وقد مر الكلام في الأصل، ومعقول الأصل.

فصل

والكلام ها هنا في استصحاب الحال، وهو على ضربين: أحدهما: استصحاب حال الفعل، وذلك إِذا ادَّعى في المَسْأَلة أحد الخَصْمَيْن حكمًا شرعيًا. وادّعى الآخر البقاء على حكم العقل، وذلك مثل أن يسئل المَالِكِيُّ عن وجوب الوِترِ، فيقول: الأصل بَرَاءَة الذِّمَّة، وطريق اشتغالها الشرع، فمن ادَّعى شرعًا يوجب ذلك، فعليه الدليل، وهذه طريقة صحيحة من الاستدلال. والثاني: استصحاب حال الإجماع، وذلك مثل استدلال دَاوُدَ على أن أم الولد يجوز بيعها لأنَّا قد أجمعنا على جَوَاز بَيْعِهَا، قبل الحَمْل، فمن ادَّعى المنع من ذلك، فعليه الدليل، وهذا غير صحيح من الاستدلال, لأن الإجماع لا يتناول موضع الخِلاف، وإنما يتناول موضع الاتفاق، وما كان حُجَّة، فلا يصح الاحتجاج به في الموضع الذي لا يتناوله، كلفظ صاحب الشرع إِذا تناول موضعًا خاصًّا لم يجز الاحتجاج به في الموضع الذي لا يتناوله. فَصْلٌ إِذا ثبت ذلك، فليس في العَقْل حَظْر، ولا إِباحة، وإنما تثبت الإِباحة أو التحريم بالشرع، والباري -سبحانه- يحلِّل ما شاء، ويحرّم ما شاء، هذا قول جمهور أصْحَابنا. وقال أَبُو بَكْرِ الأَبْهرِيُّ: الأشياء في العَقْل على الحَظْر، وقال أَبُو الفَرَجِ المَالِكِيُّ: الأشياء في العقل على الإباحة، والدليل على ما نقوله إنه لو كان العقل يوجب إِباحة شيء من هذه الأعيان، أو حظره لاستحال أن ينقله الشرع عما يقتضيه في العقل، لاستحالة ورود الشرع لما ينافي العقل، كما يستحيل أن يرد نفي أن الاثنين أكثر من الوَاحِدِ. فَصْلٌ مَن ادَّعى نفي حكم وجب عليه الدليل، كما يجب ذلك على من أثبته. وقال دَاوُدُ: لا دليل على النافي، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: الآية 111] الآية: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: الآية 111].

فصل

فَصْلٌ صفة المجتهد أن يكون عارفًا بموضع الأدلّة ومواضعهما من جهة العقل، ويكون عارفًا بطريق الإيجاب، وطريق الوضع في اللغة والشرع، ويكون عالمًا بأصول الديانات، وأصول الفقه، عالمًا بأحكام الخطاب من العموم، والأوامر والنواهي، والمفسر والمجمل، والنّص والنسخ، وحقيقة الإجماع، عالمًا بأحكام الكتاب، عالمًا بالسُنَّة والأخبار والآثار وطرقها، والتمييز بين صحيحها وسقيمها، عالمًا بأقوال الفقهاء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم وبما أَجْمَعُوا عليه، واختلفوا فيه، عالمًا بالنحو والعربية بما يفهم به معاني كلام العرب، ويكون مع ذلك مأمونًا في دينه، موثوقًا به، فإِذا كملت هذه الخصال، وكان من أهل الاجتهاد جاز له أن يُفْتي، وجاز للعامي تقليده فيما يفتيه فيه. بَابُ أَحْكَامِ التَّرْجِيحِ الترجيح في أخبار الآحاد يراد لقوّة غلبة الظن بأحد الخبرين عند تعارضهما. والدليل على صحّة ذلك إِجماع السلف على تقديم بعض أخبار الرواة على أخبار سائرهم، ممن يظن به الضبط، والحفظ والاهتمام بالحادثة. فَصْلٌ إِذا ثبت ذلك، فالترجيح يقع في الأخبار التي تتعارض، ولا يمكن الجمع بينها، ولا يعرف المتأخّر منها، فيحمل على أنه ناسخ في موضعين: أحدهما: الإسناده والثاني: المتون. فأما الترجيح بالإسناد، فعلى أوجه: الأول: أن يكون أحد الخبرين مرويًّا في قضية مشهورة متداولة عند أهل النقل، ويكون المعارض له عاريًا عن ذلك، فيقدم الخبر المروي في قضية مشهورة, لأن النفس إِلى ثبوته أسْكن والظن في صحّته أغلب. والثاني: أن يكون راوي أحد الخبرين أحفظ وأضبط، وراوي الذي يعارضه دون ذلك، وإن كان جميعًا يحتج بحديثهما فيقدم خبر أحفظهما وأتقنهما, لأن النَّفْس أسكن إلى روايته، وأوثق بحفظه. والثالث: أن يكون رواة أحد الخَبرين أكثر من رواة الخبر الآخر، فيقدّم الخبر الكثير الرواة, لأن السهو والغلط أبعد عن الجماعة، وأقرب إلى الواحد.

باب ترجيحات المتون

والرابع: أن يقول راوي أحد الخبرين: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والآخر يقول: كُتِبَ إلى النبي عليه السلام -فيقدم خبر من سمع النبي -عليه السلام- لأن السماع مِنَ العَالِمِ أقوى من الأخْذ بِكِتَابِهِ الوَارد. الخامس: أن يكون أحد الخبرين متفقًا على رفعه إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والآخر مختلفًا فيه فيُقَدَّمُ المتفق عليه, لأنه أبعد من الخَطَأ والسهو. السادس: أن يكون أحد الخبرين مختلف الرواية, فيروي عنه إثبات الحكم ونفيه، وراوي الآخر لا تختلف الرواية عنه، وإنما يروي عنه أحد الأمرين، فيُقَدَّم رواية من لم تختلف عليه, لأن ذلك دليل على حِفْظ الرواية عنه، وشدّة اهتمامهم بِحِفْظِ ما رواه، فكان أولى. السابع: أن يكون راوي أحد الخبرين هو صاحب القصة تَلَبَّسَ بها، وراوي الخبر الآخر أجنبيًّا، فيقدم خبر صاحب القصَّة, لأنه أعلم بظاهرها وباطنها، وأشد إتقانًا بحفظ حكمها. الثامن: إِطباق أَهْلِ المدينة على العَمَل بموجب أحد الخبرين، فيكون أولى من خبر من يخالف عمل أهل المدينة؛ لأنها موضع الرِّسالة، ومجتمع الصحابة، فلا يتصل العمل فيها إِلا بأصحِّ الروايات. التاسع: أن يكون أحدُ الراويين أشدّ تقصِّيًا للحديث، وأحسن نسقًا له من الآخر، فيقدم حديثه عليه, لأن ذلك يدل على شدّة اهتمامه بحكمه، وبحفظ جميع أموره. والعاشر: أن يكون أحد الإسنادين سالمًا من الاضطراب، والآخر مضطربًا، فيكون السَّالم أولى, لأن ذلك دليل على إتقان رواته وحفظ جملته. الحادي عشر: أن يكون أحد الخبرين يوافق ظاهر الكتاب، والآخر يخالفه، فيكون الموافق لظاهر الكتاب أولى. بَابُ تَرْجِيحَاتِ المتُونِ قد مضى الكلام في الترجيح من جهة الإسناد، والكلام ها هنا في الترجيح من جهة المَتْنِ، وذلك على أوجه:

أحدها: أن يسلم أحد الْمَتْنَينِ من الاضطراب والاختلاف، ويكون متن الحديث الثاني المُعَارض مضطربًا مختلفًا فيه، فيكون السالم من الاضطراب أولى, لأن ذلك دليل الحفظ والإتقان. والثاني: أن يكون ما تضمنه أحد الخبرين من الحكم منطوقًا به، والآخر محتملًا، فيُقَدَّمُ ما نطق بحكمه, لأن الغرض فيه أَبْيَنُ، والمقصود فيه أجْلَى. والثالث: أن يكون أحد الخبرين مستقلًا بنفسه، والآخر غير مستقل بنفسه، فيكون المستقلّ بنفسه أولى لأن المستقل يَتَيَقَّنُ المراد به، وغير المستقل بنفسه لا يتيقن المراد به، إِلا بعد نظر واستدلال. والرابع: أَنْ يُستَعْمَلَ الخبران في موضع الخلاف، فيكون أولى من استعمال أحدهما، واطِّرَاح الآخَر، لأن في ذلك اطِّرَاحُ أحد الدليلين، واستعمالهما أولى من اطراح أحدهما. والخامس: أن يكون أحد العمومين متنازعًا في تخصيصه، والآخر متفقًا على تخصيصه، فيكون المتعلق بعموم ما لم يجمع على تخصيصه أولى. والسادس: أن يكون أحد الخبرين يقصد به بيان الحكم، والآخر لا يقصد به بيان الحكم، فيكون ما قصد به بيان الحكم أولى؛ لأنه أبعد من الاحتمال. والسابع: أن يكون أحد الخبرين مؤثِّرًا في الحكم والآخر غير مؤثِّر، فيكون المؤثِّر أولى. والثامن: أن يكون أحدهما ورد على سبب، والآخر ورد على غير سبب، فيقدم ما ورد على غير سبب على الوارد على سبب, لأن معارضته للخبر لا تدل على أنه مقصور على سببه. والتاسع: أن يكون أحد الخبرين قد قضى به على الآخر في موضع من المواضع، فيكون أولى منه في سائر المواضع. والعاشر: أن يكون أحد المعنيين واردًا بألفاظ مُتَغَايرة، وعبارات مختلفة، فيكون أولى مما روي من أخبار الآحاد، بلفظ واحد, لأنه أبعد من الغلط والسهو والتحريف.

باب ترجيح المعاني

والحادي عشر: أن يكون أحد الخبرين ينفي النقص عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والآخر يضيقه إِليهم، فيكون النافي أولى, لأنه أشبه بفضلهم ودينهم، وما وصفهم اللَّه به، وأثنى عليهم به. بَابُ تَرْجِيحِ المَعَانِي قد مضى الكلام في ترجيح الأخبار، والكلام ها هنا في ترجيح المعاني. وذلك أنه قد تتعارض قياسات في حكم حادثة، أو يتردّد الفرع بين أصلين يصحّ حمله على أحدهما بعلّة مستنبطة منه، ويصح حمله على الثَّاني بعلَّة مستنبطة منه، فيحتاج الناظر إِلى ترجيح إحدى العِلَّتَيْنِ على الأخرى، وذلك على أحد عشر ضربًا. الأوَّل: أن تكون إِحدى العلتين منصوصًا عليها، والأخرى غير منصوص عليها، فتُقَدَّم المنصوص عليها, لأن نص صاحب الشرع دليل على صحتها. والثاني: أن تكون إِحدى العِلَّتين لا تعود على أصلها بالتخصيص والثانية تعود على أصلها بالتخصيص، فالتي لا تعود على أصلها بالتخصيص أولى, لأن التعليق بالعُمُومِ أولى استنباطًا ونطقًا. الثالث: أنْ تكون إحدى العِلَّتين موافقة للفظ الأصل، والأخرى مخالفة له فتُقَدَّم الموافقة, لأن الأصل شاهد بلفظها. الرابع: أن تكون إِحدى العلّتين مُطَّردة منعكسة، والأخرى غير مُطَّردة غير منعكسة، فتُقَدَّم المُطَّردة المنعكسة, لأن العلّة إِذا اطردت، وانعكست غلب على الظن تعلق الحكم بها لوجوده بوجودها، وانعدامه بعدمها. والخامس: أن تكون إِحدى العِلَّتَيْن يشهد لها أصول كثيرة، والأخرى لا يشهد لها إِلا أصل واحد، فَالَّتِي شهد لها أصول كثيرة أولى, لأن غلبة الظن إنما تحصل بشهادة الأصول لها، فكلما كثر ما شهد لها من الأصول غلب على الظن صحتها. والسادس: أن يكُون أحد القياسين رد الفرع إِلى الأصل من جنسه، والآخر رد الفرع إِلى الأصل من غير جنسه، فيكون قِيَاسُ مَن رد الفرع إِلى جنسه أولى, لأن قياس الشيء على جنسه أولى من قياسه على مخالفة. السَّابع: أن تكون إحدى العلّتين واقفة وأخرى متعدية، فَتَقْدِيم المتعدية أولى.

الثامن: أن تكون إحداهما لا تعمّ فروعها والأخرى تعمّ فروعها، فتكون العامّة أولى. التاسع: أن تكون إحدى العلَّتين عامَّة والأخرى خاصة، فتكون العامة أولى، لأن كثرة الفرع تجري مجرى شهادة الأصول لها. العاشر: أن تكون إحدى العلّتين منتزعة من أصل منصوص عليه، والأخرى منتزعة من أصل لم ينصّ عليه، فتكون المُنْتَزَعَة من أصل منصوص عليه أولى. الحادي عشر: أن تكون إِحدى العِلَّتَين أقل أوصافًا، والأخرى كثيرة الأوصاف، فتُقَدَّمُ القليلة الأوصاف, لأنها أعم فروعًا, ولأن كل وصف يحتاج في إثباته إِلى ضرب من الاجتهاد، وكلما استغنى الدليل به على كثرة الاجتهاد كان أولى. . كملت الإشارة لأبي الوليد الباجي في [أصول الفقه] بحمد اللَّه وحسن عونه، وذلك في يوم السابع من رمضان عام اثنتين وتسعين وسبعمائة، على يد الفقير إلى اللَّه -تعالى- الحسن بن مسعود الحاجيّ الممتكاوي غفر اللَّه له، ولوالديه وللمسلمين آمين، والصلاة والتسليم على سيدنا محمد وصحبه وسلم، تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين ورضي اللَّه تعالى عن الصحابة أجمعين آمين.

§1/1