الإسلام والتوازن الاقتصادي بين الأفراد والدول

محمد شوقى الفنجرى

مقدمة

مقدمة: على سبيل التقديم أ. د/ عبد الصبور مرزوق قضية الثروة في الإسلام تحكمها مجموعة من الضوابط الواقعية والأخلاقية العادلة التي تكفل لكل إنسان في أرض الله نصيبه -إلى مدار الكفاية- من رزق الله. ونوجز هذه الضوابط فيما يلي: أولا: أن كل ما يدب على الأرض من خلق الله إنسانا أو حيوانا أو طيرا أو حشرا قد أخذ الحق سبحانه على نفسه أن يتكفل برزقه وذلك في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 1. ومفهوم هذا العهد الإلهي بالرزق بالنسبة للإنسان أن

_ 1 هود: 6.

كل إنسان مسلما كان أو غير مسلم يصبح داخلا في هذا العهد ويكون له نصيب مشروع ومكفول في هذا الرزق بما يكفل استمرار حياته وبقائه في المستوى الذي جرى الاصطلاح عليه بأنه "حد الكفاية" والذي يختلف عن حد "الكفاف". وحد الكفاية فيما يقرره الفقهاء هو ما يعني توفير الحاجات الأساسية للإنسان والتي تعني أن يكون للإنسان بيت يؤويه. وطعام يكفيه وخادم ودابة يقضي عليها حاجاته ثم زوجة تعفه عن الحرام. يستوي في ذلك -كما أشرنا- المسلم وغير المسلم. ورضي الله عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يوم رأى يهوديا شيخا يتكفف الناس فلما عرف حقيقة حاله أخذ بيده وضرب له سهما -أي قرر له راتبا- في بيت مال المسلمين.

ثانيا: لقد أعلن الإسلام في صريح آيات القرآن الكريم أن المال مال الله وأن الخلق جميعا مستخلفون فيه -أي في إنفاقه- وفق الضوابط الشرعية التي قررها الإسلام وذلك في مثل قوله سبحانه: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ثم قوله سبحانه: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه} 2. ومفهوم الاستخلاف يعني ما يشبه الوكالة عن الله منزل الرزق المالك الأصلي للمال وواجب الوكيل أن يلتزم أمر موكله ومستخلفه فيما أباحه وفيما حرمه. وهنا نجد في آيات القرآن مجموعة الأحكام التي يجب التزامها في التعامل مع المال وجدير بالإشارة أنها في مجموعها تمثل إطارا أخلاقيا يضع المال في حجمه

_ 1 النور: 33. 2 الحديد: 7.

الصحيح خادما للإنسان لا سيدا له كما تقول الآية: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1. كما يلزم الإنسان في علاقته بما يؤتاه من مال أن يكون حريصا في اكتسابه على التزام الحلال حيث لا سرقة ولا غصب ولا أكلا لحقوق الضعفاء من المسلمين واليتامى. وقبل هذا لا يكون مكتسبا من الربا أو احتكار أقوات الناس وحبسها حتى يرتفع أسعارها وغير ذلك مما حذرت منه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة في مثل قول الحق سبحانه عن الاستمتاع العادل بالمال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} 2 وقوله سبحانه عن ضرورة التوازن في الإنفاق بين الإسراف والتبذير {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 3 وقوله سبحانه: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ

_ 1 الكهف: 46. 2 الأعراف: 32. 3 الأعراف: 31.

مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} 1. وهذه التوجيهات ليست مجرد مواعظ أخلاقية ولكنها ضوابط وقواعد اقتصادية تحدد بوضوح ما ينبغي للإنسان الفرد أن يأخذ من المال. لأن ما يزيد على الحاجات يدخله مع المسرفين. والمسرفون ومعهم المترفون يكون سرفهم وترفهم كأنه سرقة حق لفقير ومحتاج على نحو ما روي عن الإمام علي رضي الله عنه أنه قال: "ما أتخم غني إلا بعدوان على حق فقير". أما تحريم الربا في المعاملات المالية فهو قضية اقتصادية واجتماعية وأخلاقية معا لعدة اعتبارات. أولها: أنها محرمة تحريما قاطعا ينصوص القرآن

_ 1 الإسراء: 29.

الكريم حيث يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1 وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ} 2. فهذه الآيات ونظائرها تحدد الحكم الشرعي القاطع بتحريم الربا وإنذار المرابين بحرب من الله والرسول. وحكمة التحريم فيما تؤدي إليه من الظلم والخراب الاقتصادي تعيشها جميع دول العالم المتخلف المسمى بالعالم الثالث -والذي نحن المسلمين جزء كبير منه- ويتضح الظلم ويتحقق الخراب في عجز الدول المدينة عن الوفاء بالفائدة التي هي عين الربا والتي تدفع بعض دول عالمنا

_ 1 البقرة: 275. 2 البقرة: 278، 279.

مجمل دخلها ليس لسداد بعض الدين ولكن لسداد هذه الفائدة. ولقضية الربا حديث يطول ولا يتسع المقام. ونعود إلى حقوق عباد الله في رزق الله الذي يختصر في اللغة المعاصرة بلفظ المال فأقول: إن هذا الحق متعلق بضمان عدالة التوزيع بحيث يحصل كل مستحق على حقه. وغني عن البيان أننا لا نعني هنا مطلق المساواة بين جميع الناس كما زعمت الشيوعية ذلك في فلسفتها المادية. أولا: لأن الشيوعية لم تحقق أبدا مطلق المساواة بل كانت -وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي- تضم في مجتمعها أربع طبقات متميزة لأبعد الحدود هي: طبقة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وطبقة العلماء المتخصصين في الشئون النووية وبحوث الفضاء ثم طبقة جنرالات الجيش وأخيرا طبقة الفنانين من راقصات البالية وغيرهم

ممن تقوم عليهم مهمة الدعاية للمبادئ الماركسية واللينينية. ثانيا: لأن كتابنا الكريم الذي لم يخلق عباده متساوين في كل شيء بل يتمايزون بالقدرات الفردية الخاصة في الذكاء والعلم والمقومات الشخصية وغيرها مما يستحيل معه أن يتساوى الناس لأن مطلق المساواة يخل بتكوين المجتمع المدني الذي جعل عماده التوزع الهرمي والتنوع في الخبرات لتسير عجلة الحياة بهذا التنوع والتمايز الذي يضع كل فرد في درجات هذا الهرم الذي يكمل بعضه بعضا وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1.

_ 1 الزخرف: 32.

فالإسلام هنا لا يسوي بين الناس لاستحالة ذلك بحكم عدم تساوى الخلق في المواهب والقدرات، وهو أيضا لا يعترف بالطبقية البغيضة التي يحتلها بعض المحظوظين أو بعض الانتهازيين الذين أتيحت لهم فرص غير مشروعة لثراء غير مشروع. كل ذلك لا يقره الإسلام ولا يعترف به، وإنما يدعو إلى التقريب بين الطبقات بحيث لا يكون ثمة أغنياء يتخمهم الترف وفقراء لا يجدون ما ينفقون. وكل هذا وفق التوجيهات القرآنية والنبوية التي اعتمدت إطارا أخلاقيا للعلاقة بين الأغنياء والفقراء في مثل قوله سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} 1 وقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2.

_ 1 الإنسان: 8، 9. 2 الحشر: 9.

إضافة إلى ما حثت عليه السنة النبوية من مثل قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: "ليس منا من بات شبعان وجاره طاو جائع وهو يعلم". وغير ذلك مما امتلأت به كتب السنة والسيرة من حث على الإنفاق -فوق فريضة الزكاة. على أن ثمة ملحظا تجدر العناية به وهو أنه عندما تطرأ على المجتمع المسلم حالة يستحيل فيها على الناس أن يجدوا ما ينفقون فهنا يصبح من حق ولي الأمر أن يفرض ما يشاء من أوجه التكافل بين الأغنياء والفقراء حتى ولو كان الأغنياء قد دفعوا الزكاة فيكون له أن يأخذ من أغنيائهم ليرد على فقرائهم حتى يكتفوا. ولعل تجربة "المؤاخاة" التي أقامها الرسول صلوات الله وسلامه عليه بعد الهجرة إلى المدينة بين المهاجرين والأنصار أوضح نماذج التكافل الاجتماعي كما يراه الإسلام وهنا لا تفوتنا الإشارة إلى أن تحقيق الإسلام للعدل الاجتماعي -عدالة التوزيع- لا يستند إلى القهر أو المصادرة

أو التأميم وما إلى ذلك لمنافاته لاحترام الإسلام للملكية الشخصية وحمايتها إلى حد أن يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: "ومن قتل دون ماله فهو شهيد". وإنما يستند إلى منهج تربوي وإعداد نفسي ضخم قوامه العمل على تخليص النفوس من شحها وتأهيلها للخلاص من العبودية للمال إلى التعامل معه باعتباره وسيلة لخدمة الإنسان في الحصول على مرضاة الله وقضاء حقوق الآخرين فيه حتى يعتاد الإيثار ويكون ممن يصف القرآن سلوكهم ومواقفهم مع المال بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. وهذا البناء التربوي والنفسي على الخلاص من شح النفس والإيثار عليها هو ما دفع القادرين من

_ 1 الحشر: 9.

الصحابة على التضحية الضخمة بأموالهم في سبيل الله فنرى عثمان بن عفان "ذو النورين" وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما يجهزان جيش "العسرة" لغزوة تبوك من مالهما الخاص. كما نرى أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما يضربان في الأمر ذاته مثلا عليا في البذل والعطاء. بل نرى أحدهم لا يملك إلا درهما واحدا فيقدمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول الرسول معلقا على ذلك: "سبق درهم مائة ألف درهم". وحديث التعامل مع "الثروة" أو المال أو الرزق في منظور الإسلام شامخ وعظيم ومشرف وعادل وتنفرد الرؤية الإسلامية -في ضبط علاقة الإنسان بالمال- تنفرد بتميز وتوازن عظيم يجمع بين حقوق الأفراد وحقوق المجتمع، الأمر الذي تفتقده النظريتان

الرأسمالية والاشتراكية. وذلك لأن نظرية الإسلام تقوم على قاعدة عظمى قوامها، خصوصية الملكية وعمومية المنفعة. من هنا يرحب المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بنشر هذه الدراسة القيمة عن "الإسلام والتوازن الاقتصادي بين الأغنياء والفقراء للأستاذ الدكتور محمد شوقي الفنجري أستاذ الاقتصاد والوكيل الأسبق لمجلس الدولة". راجين أن يفيد بهذه الدراسة كل دارسي الاقتصاد بوصف خاص لينقضوا على العطاء السباق للإسلام في ميادين العدل الاجتماعي والتوازن المنصف في مسائل "التنظير" الذي لم يره "المنظرون" في الشرق والغرب فاشتطوا ذات اليمين وذات الشمال مما شقيت به البشرية بين أهل "الربا" وأهل الإلحاد.

وراجين أيضا أن يفيد منها المعنيون بدراسة الاقتصاد في الإسلام ليقفوا منها على صواب الحكم ودقة البحث. والله أسأل أن يجعل ما نقدمه وما يقدمه كل العلماء العاملين خالصا لوجهه وعلى الله اعتمادنا وهو دائما حسبي. أ. د/ عبد الصبور مرزق

تمهيد

تمهيد: 1- التوزيع النظري أو الشخصي والتوزيع العملي أو الوظيفي: كل عملية إنتاجية تصاحبها عملية أخرى هي التوزيع، أي توزيع الناتج على من اشتركوا في تكوينه في صورة دخول. وهذه الدخول ليست إلا أثمان أو قيمة خدمات عناصر الإنتاج التي أسهمت في العملية الإنتاجية. وتعتبر مشكلة توزيع الثروة بين الناس من أهم مشاكل المجتمع لا سيما في العصر الحديث؛ وذلك لما ترتب عليها من انقسام المجتمع إلى فريق الأغنياء القادرين على إشباع مختلف حاجاتهم أو تحقيق مختلف رغباتهم وفريق الفقراء العاجزين عن إشباع أو تحقيق تلك الحاجات والرغبات، بل واستطاعة الأغنياء بما لديهم من ثروة أن يكونوا أصحاب النفوذ والسيطرة. لذلك اختلفت المذاهب والنظم الاقتصادية اختلافا أساسيا في الحلول التي وضعتها لحل مشكلة التوزيع، ويرجع اختلاف تلك الحلول إلى اختلافها الأيديولوجي أي المذهبي في أسس التوزيع،

وما يستتبع ذلك من اختلافها في مكافأة عناصر أو عوامل الإنتاج وتحديد ما يخص كل عنصر أو عامل في التوزيع. ويترتب على ذلك أن للتوزيع مظهرين: أولهما: نظري يتصل بالفلسفة التي يقوم عليها النظام الاقتصادي رأسماليا كان، أو اشتراكيا، أو إسلاميا، ويمكن أن نعبر عنه باصطلاح "التوزيع المذهبي أو الأيدلوجي"، ويعبر عنه الكثير من علماء الاقتصاد باصطلاح "التوزيع النظري"، ويعبر عنه الاقتصاديون التقليديون باصطلاح "التوزيع الشخصي". ثانيهما: عملي يتصل بمكافأة عناصر أو عوامل الإنتاج أي نظرية القيمة أو أثمان العوامل الإنتاجية، ويعبر عنه الكثير من علماء الاقتصاد باصطلاح "التوزيع العملي". ويعبر عنه الاقتصاديون التقليديون باصطلاح "التوزيع الوظيفي". وهو بدوره يتوقف على التوزيع النظري أو ما أسميناه بالتوزيع الأيديولوجي أو المذهبي1.

_ 1 انظر محاضراتنا بكلية العلوم الإدارية "قسم الاقتصاد" بجامعة الملك سعود بالرياض. لناشره مؤسسة الأنوار للطباعة والنشر الرياض سنة 1398/ 1399هـ.

ارتباط التوزيع بأشكال الإنتاج

2- ارتباط التوزيع بأشكال الإنتاج: وإذا كانت الاقتصاديات الوضعية رأسمالية كانت أو اشتراكية تجعل التوزيع على أساس أشكال الإنتاج السائدة، فهو الذي يحدد أساس التوزيع وكيفيته. فإن الإسلام على نحو ما سنبينه، يرفض تلك التبعية أو الحتمية فنراه يقرر منذ البدء، أنه أيا كانت أشكال الإنتاج السائدة في المجتمع، فإنه يتعين أولا ضمان الحاجات الأساسية لكل فرد بوصفه إنسانا، مما عبر عنه فقهاء الشريعة القدامى باصطلاح "حد الكفاية" أي المستوى اللائق للمعيشة تمييزا له عن "حد الكفاف" أي المستوى الأدنى للمعيشة. حتى إذا توافر لكل مسلم "حد الكفاية" الذي هو في الشرع الإسلامي التزام على الدولة وحق الله الذي يعلوا فوق كل الحقوق، فإنه لا مانع أن تتفاوت الثروات والدخول لكل بحسب عمله وجهده، وفي حدود ما هو مقرر أو معترف به شرعا، وفي الظروف الاستثنائية التي تشح فيها موارد المجتمع، بحيث لا يتوافر فيها حد الكفاية لكل مواطن، فإنه يتأسى

الجميع في "حد الكفاف"، بحيث لا يحصل أحد أيا كان مركزه أو مكانته في المجتمع على أكثر من احتياجاته الضرورية. ومؤدى ذلك على نحو ما سنبينه، أنه أيا كانت أشكال الإنتاج السائدة، وأيا كانت درجة تطور المجتمع من تقدم أو تخلف، فإن الإسلام لا يعترف بالملكية الخاصة إلا بعد القضاء على الحاجة وضمان "حد الكفاف"، كما لا يسمح بالثروة والغنى إلا بعد القضاء على الفقر وضمان "حد الكفاية" لكل فرد1.

_ 1 انظر بيان ذلك في كتابنا "المدخل إلى الاقتصاد الإسلامي"، طبعة سنة 1972م، لناشره مكتبة النهضة العربية بالقاهرة، ص125 وما بعدها. - وانظر أيضا كتابنا الأول من سلسلة الاقتصاد الإسلامي والمعنون "ذاتية السياسية الاقتصادية الإسلامية وأهمية الاقتصاد الإسلامي"، طبعة سنة 1978م، لناشره مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة، ص32 وما بعدها. - وانظر أيضا كتابنا الثاني من سلسلة الاقتصاد الإسلامي والمعنون "الإسلام والمشكلة الاقتصادية"، طبعة سنة 1978م، لناشره مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة ص72 وما بعدها. وانظر أيضا كتابنا الرابع من سلسلة الاقتصاد الإسلامي والمعنون "الإسلام والضمان الاجتماعي"، طبعة سنة 1980م، لناشره دار ثقيف للنشر والتأليف بالمملكة العربية السعودية ص23 وما بعدها. - وانظر أيضا كتابنا الخامس من سلسلة الاقتصاد الإسلامي والمعنون "المذهب الاقتصادي في الإسلام" طبعة سنة 1981م، لناشره شركة مكتبات عكاظ بالمملكة العربية السعودية ص180 وما بعدها.

عدالة التوزيع في حفظ التوازن الاقتصادي

3- عدالة التوزيع في حفظ التوازن الاقتصادي: وإذا كانت سمة الإسلام في التوزيع هي العدالة بقوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 1، فإن أبرز صور هذه العدالة حفظ التوازن الاقتصادي سواء بين الأفراد على مستوى الوطن الواحد أو بين الدول على المستوى العالمي2.

_ 1 المائدة: 8. 2 والواقع أن التوازن هو قانون الحياة الرشيدة كما أرادها الله تعالى إذ المغالاة في ناحية يكون على حساب الجوانب الأخرى مما يخل أو يفسد أمرها حتى لو كانت المغالاة في الفضائل فإنه يجعل منها شذوذا أو مرضا، وأن المسلم الحق هو=

فالإسلام على نحو ما سنبينه، يحث ويدعو إلى الثروة والغنى، ولكن بشرط ألا يكون المال متداولا بين فئة قليلة من الناس أو قاصرا على دولة معينة. وبعبارة أخرى ألا يكون هناك تفاوت شديد في توزيع الثروات تستأثر من خلاله فئة معينة من الأفراد أو دولة معينة بالخير كله. بل أن يعم الخير الجميع بأن يكون التفاوت منضبطا أو متوازنا بحيث لا يكون هناك ثراء فاحش وبجواره فقر مدقع أو أن تختص قلة بالتمر وكثرة بالنوى. ومن هنا يختلف الاقتصاد الإسلامي عن الاقتصاديات الوضعية السائدة، فهو لا يقر التفاوت الشديد أو تسلط

_ = المسلم المتوازن المعتدل، سواء في مجال إشباع الغرائز أو الحاجات الطبيعية، أو في مجال العبادات أو المعاملات، أو حتى في مجال العواطف أو الأحاسيس، وكافة صور الحياة أو المشاعر أو السلوك. ولقد علمنا واقع الحياة وقسوة التجارب أن كل التزام بمنهج الإسلام في التوازن والاعتدال فيه نجاح وراحة وسعادة الإنسان، وكل خروج عنه فيه فشله ومعاناته وبؤسه، وصدق الله العظيم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} "البقرة/ 143"، وصدق الرسول الكريم "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" مسند الإمام أحمد.

أقلية على مقدرات الجماعة كما هو شأن المذهب الفردي والنظم المتفرعة عنه كالرأسمالية، كما لا يقر إذابة أو إزالة الفوارق وإقامة المساواة الفعلية أو المطلقة كما هو شأن المذهب الجماعي والنظم المتفرعة عنه كالاشتراكية والشيوعية، وإنما هو يحترم التباين والتفاوت تبعا لاختلاف المواهب والقدرات، مع تقريب الفوارق أو الفجوة بين أفراد المجتمع أو دول العالم، بما يحقق لها التعاون والتكامل لا السيطرة والاستغلال.

التفاوت المنضبط أو المتوازن

4- التفاوت المنضبط أو المتوازن: فالتفاوت في توزيع الثروات والدخول، هو أمر طبيعي يقره الإسلام تبعا لاختلاف المواهب والقدرات، بل يعتبره ضرورة لخلق الحوافز وتحقيق التعاون والتكامل سواء على المستوى المحلي أو العالمي. ولكن الذي يرفضه الإسلام بشدة، هو التفاوت الفاحش في توزيع الثروات والدخول، والذي تستأثر من خلاله فئة معينة من الأفراد أو دول معينة بالخير كله، مما يؤدي إلى تهميش Marginilijation الأغلبية وسلبيتها أو إلى اغترابها Alienation وإثارة حقدها وثورتها فضلا عن كافة المساوئ. ومن ثم فإنه على نحو ما سنبينه، يتطلب الإسلام التدخل دائما لتحقيق العدالة من خلال إعادة التوازن الاقتصادي عند افتقاده، وضبط التفاوت والتباين في توزيع الثروات والدخول، وذلك كله بالقدر الذي يحقق هدفه وهو التكافؤ والتعاون والتكامل لا الاستغلال والصراع والتناقض.

الإسلام والطبقية أو التحكم

5- الإسلام والطبقية أو التحكم: على أن إقرار الإسلام للتفاوت في توزيع الثروات والدخول -سواء على مستوى الأفراد والدول، وذلك من حيث المبدأ وإن ضبطه من حيث التطبيق- لا يعني كما يتصور البعض خطأ، أن الإسلام يقر الطبقية بين الأفراد أو يسلم بسيطرة أو تحكم جماعة أو دولة على المجتمعات والدول الأخرى. والواقع أن مشكلة الاقتصاد الوطني، هي في اختلال التوازن في توزيع الثروات والدخول بين أفراد المجتمع.

كما أن مشكلة الاقتصاد العالمي اليوم، هي في الهوة المتزايدة بين الدول النامية والدول المتقدمة. ولا يستهدف أي تغيير أو إصلاح أو أي نظام اقتصادي جديد، سوى تحقيق التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع على المستوى المحلي، وتحقيق التوازن الاقتصادي بين دول العالم على المستوى العالمي. الأمر الذي نبه إليه الإسلام منذ أربعة عشر قرنا بقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} 1، بمعنى ألا يكون المال متداولا بين فئة تستأثر به دون غيرها سواء على مستوى أفراد المجتمع أو دول العالم. وإذا كان الاقتصاد الإسلامي يسمح بوجود أثرياء ممن يطلق عليهم بأصحاب الملايين شأنه في ذلك شأن كافة الاقتصاديات الوضعية السائدة: رأسمالية كانت أو اشتراكية. إلا أنه يختلف عن سائر هذه الاقتصاديات بأنه ثري أو مليونير من "نوع خاص"؛ إذ هو على نحو ما سنبينه، ليس كأي ثري أو مليونير رأسمالي أو

_ 1 الحشر: 7.

اشتراكي، حرا في استعمال ماله كيفما شاء بل إنه بنص القرآن لا يملك أن يعيش عيشة مترفة، وإنه ملزم بإنفاق كل مال زائد عن حاجته الشخصية في سبيل الله سواء في صورة إنفاق مباشر على المحتاجين أم استثمار يعود نفعه على المجتمع.

خطة البحث

خطة البحث مدخل ... خطة البحث: وعلى ضوء ما تقدم نعالج موضوعنا "الإسلام وعدالة التوزيع"، في الفروع الآتية: الفرع الأول: التوزيع النظري أو الشخصي أو المذهبي. الفرع الثاني: التوزيع العملي أو الوظيفي أو مكافأة عناصر الإنتاج. الفرع الثالث: العلاقة بين شكل الإنتاج وكيفية التوزيع أو أثر تطور أساليب الإنتاج على التوزيع. الفرع الرابع: حفظ التوازن الاقتصادي أو التفاوت المنضبط. الفرع الخامس: الإسلام والطبقات الاجتماعية. ونشير بأن موضوع "الإسلام وعدالة التوزيع"، يتطلب عدة بحوث ويتسع لعدة كتب ومجلدات، ولكننا نعرض له في إيجاز غير مخل مركزين على النقاط الرئيسية التي تبرز لنا المذهب الاقتصادي الإسلامي في مجال التوزيع.

الفرع الأول: التوزيع النظرى أو الشخصى أو المذهبى

الفرع الأول: التوزيع النظرى أو الشخصى أو المذهبى مدخل ... الفرع الأول: التوزيع النظري أو الشخصي أو المذهبي 1- الاقتصاد الرأسمالي: يقوم هذا الاقتصاد أساسًا على الملكية الخاصة. ومن ثم فإن أساس التوزيع الرأسمالي هو الملكية الخاصة، فهي في آن واحد أداة "إنتاج" وأداة "توزيع". وفي مثل هذا الاقتصاد الرأسمالي تكون الظاهرة الأساسية هو التفاوت الشديد في الدخول، بحسب التفاوت الشديد في ملكية أدوات ووسائل الإنتاج. ومن الطبيعي أن ينشأ في ظل هذا الاقتصاد الراسمالي أقلية مليونيرات يعيشون في ترف وبذخ استفزازي، ويعملون على زيادة التضخم وانتشار السلع الترفية، بينما الأكثرية الكادحة تعاني في معيشتها وبعضها يسحقها الحرمان والفقر المدقع.

2- الاقتصاد الاشتراكي: يقوم هذا الاقتصاد أساسا على الملكية العامة سواء في صورة ملكية الدولة كما هو الشأن في روسيا، أو ملكية الجماعة كما هو الشأن في يوغوسلافيا حيث إن ملكية المصانع أو المزارع هي للعاملين فيها بهذه الصفة لا بصفتهم الشخصية. ومن ثم فإن أساس التوزيع الاشتراكي هو العمل، فهو في آن واحد أداة "إنتاج" وأداة "توزيع". وفي مثل هذا الاقتصاد الاشتراكي تتفاوت الدخول، ولكن بسبب اختلاف القدرات والمواهب الإنسانية لا بسبب الملكية. ويصح أن يكون هذا التفاوت كبير، ولكن من غير الطبيعي كما هو الشأن في روسيا وسائر دول الكتلة الشرقية أن يتواجد بها أصحاب ملايين من قادة الأحزاب الشيوعية يعيشون في بذخ وترف بينما الأغلبية الكادحة تعاني في معيشتها، فضلا عن مكابدة هذه الشعوب لتحكم الأقلية ممثلة في قادة الأحزاب الشيوعية المتألهة والتي تصادر حرياتها وتصوغها بالإرهاب والبطش وفق هواها لتستغلها في تحقيق

نزعاتها الخبيثة في التسلط والسيطرة على العالم أجمع1. 3- الاقتصاد الشيوعي: وهو حلم المذهب الجماعي وأغلب النظم الاشتراكية المتفرعة عنه، يقوم هذا الاقتصاد على أساس تحقيق الوفرة في الإنتاج بحيث يكفي جميع حاجات الناس شأن الهواء والماء. ومن ثم فإن أساس التوزيع الشيوعي هو الحاجة فلكل تبعا لحاجته.

_ 1 انظر أستاذنا جورج فيدل Georges vedel العميد السابق لكلية حقوق باريس في كتابه القيم Les Democraties Sovietiques et populaires, ed. Cours' de Droit, paris, 1964. - ويعلق زميلنا الدكتور علي البارودي العميد السابق لكلية حقوق الإسكندرية في كتابه "دروس في الاشتراكية العربية" طبعة منشأة المعارف بالإسكندرية سنة 1966م ص148، على ظاهرة وجود مليونيرات في الاتحاد السوفييتي بقوله: "قد لا يكون وجود أصحاب الملايين غريبا في دولة قوية حديثة متقدمة اقتصاديا كالاتحاد السوفييتي. ولكن الغريب أن تتكون هذه الملايين استنادا إلى القدرة البشرية وكفاءة العمل وحدهما، على النحو الذي تؤكده الأيديولوجية السوفييتية".

وفي مثل هذا الاقتصاد الشيوعي تختفي كلية ظاهرة التفاوت في الدخول، وبالتالي لا توجد طبقات. ولكن ستظل فكرة هذا الاقتصاد الشيوعي صنما ماركسيا أو وهما لن يتحقق، لمخالفه طبيعة الأشياء ونظام الحياة الدنيا كما أرادها الله تعالى. 4- الاقتصاد الإسلامي: يقوم هذا الاقتصاد على أساسين أولا: ضمان "حد الكفاية" لا "الكفاف" لكل فرد يعيش في مجتمع إسلامي أيا كانت جنسيته أو ديانته كحق إلهي مقدس له كإنسان تضمنه له الدولة الإسلامية، ثم على أساس العمل والملكية ومن ثم فإن أساس التوزيع الإسلامي هو ضمان حد الكفاية أولا، ثم الكسب بحسب العمل والملكية، تلك الملكية التي هي نتيجة عمل سابق ولو كانت موروثة. وفي مثل هذا الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يوجد محروم أو جائع واحد بسبب خارج عن إرادته، كما تتفاوت الدخول بسبب التفاوت في المواهب والقدرات ممثلة في العمل والملكية، ولكنه -على نحو ما سنبينه-

تفاوت منضبط لا يخل بالتوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع، ولا يسمح بقيام طبقية أو تحكم. ولأهمية "التوزيع الشخصي" أو ما عبرت عنه "بالتوزيع الأيديولوجي"، وحتى يتبين لنا المذهب الاقتصادي الإسلامي بهذا الخصوص، نعرض باختصار غير مخل لما يأتي: أولا: التصور الإسلامي للمشكلة الاقتصادية. ثانيا: التشخيص الإسلامي لسبب المشكلة الاقتصادية. ثالثا: العلاج أو الحل الإسلامي للمشكلة الاقتصادية.

أولا: التصور الإسلامي للمشكلة الاقتصادية

أولا: التصور الإسلامي للمشكلة الاقتصادية مدخل ... أولا: التصور الإسلامي للمشكلة الاقتصادية المشكلة الاقتصادية هي مشكلة تعدد الحاجات مع ندرة الموارد، وبعبارة أخرى مبسطة هي مشكلة الفقر الذي لا يعدو كونه مظهرا من مظاهر زيادة الحاجات مع قلة الموارد. وفي الفكر الاقتصادي الوضعي تتمثل مشكلة الفقر في ظاهرة الجوع والحرمان أو العجز عن إشباع الحاجات الأساسية، مما يعبر عنه أصحاب هذا الفكر باصطلاح "حد الكفاف" Minimum Vital مما يتعلق بمتطلبات البقاء، بمعنى أن الفرد يعد فقيرا عندما لا تتوافر له متطلباته بالقدر الذي يحفظ له حياته وقدراته على العمل والإنتاج. أما في الفكر الاقتصادي الإسلامي، فتمثل مشكلة الفقر في عدم بلوغ المستوى اللائق للمعيشة بحسب ما هو سائد في المجتمع، مما يختلف باختلاف الزمان والمكان ومما عبر عنه الفقهاء المسلمون القدامى باصطلاح "حد الكفاية" Minimum de Suffisance مما يتعلق بمتطلبات الحياة الكريمة، وأحيانا باصطلاح "حد الغنى" M. de Richesse بمعنى أن يعد الفرد فقيرا متى لم تتوافر له متطلباته بالقدر الذي يجعله في بحبوحة وغنى عن غيره.

الإسلام يضع مشكلة الفقر في المقدمة والصدارة

أ- الإسلام يضع مشكلة الفقر في المقدمة والصدارة: لقد جاء الإسلام باعتباره خاتم الأديان، بمنهج كامل للحياة، يهتم بالجانب المادي والمعيشي في حياة البشر بقدر ما يُعنى بالجانب الروحي والعقيدي. ذلك لأنه لا قوام لجانب دون آخر، وكلاهما يتأثر بالآخر، فإذا كان حقًّا ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان فإنه أيضا بدون الخبز لا يستطيع أن يحيا الإنسان. لذلك وضع الإسلام مشكلة الفقر منذ البدء وقبل أن تتطور الأحداث وتفرض المشكلة نفسها، حيث يجب أن توضع في الأساس وفي المقدمة. ومن قبيل ذلك اعتبر المال زينة الحياة الدنيا وقوام المجتمع، وأنه نعم العون على تقوى الله، وأن طلب المال الحلال فريضة وجهاد في

سبيل الله1 أكثر من ذلك لقد ساوى الإسلام بين الفقر والكفر، ولم يستعذ الرسول صلى الله عليه وسلم من شيء بقدر استعاذته من الفقر، فيقول عليه السلام: "كاد الفقر أن يكون كفرا" 2، ويقول: "إني أعوذ بك من الكفر والفقر" فلما سأله أحدهم: أيعدلان؟: قال: "نعم" 3. بل إن الإسلام حين طالب الناس بالعبادة وذكر الله تعالى علله في القرآن بقوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} 4، ولذلك اعتبر الإسلام ترك أحد أفراد المجتمع ضائعا أو جائعا، هو تكذيب للدين نفسه بقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} 5.

_ 1 انظر كتابنا "الإسلام والمشكلة الاقتصادية"، مرجع سابق، ص49 وما بعدها. 2 أخرجه الطبراني في الأوسط، والسيوطي في الجامع الصغير. 3 أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه. 4 قريش: 3، 4. 5 الماعون 1-3.

مفهوم الفقر في نظر الإسلام

ب- مفهوم الفقر في نظر الإسلام: يتبين مما سبق أن الفقير في المفهوم الإسلامي، فردا كان أو دولة، هو من يعيش في مستوى تفصله هوة سحيقة عن المستوى المعيشي السائد في المجتمع المحلي أو العالمي. أي بعبارة أخرى هو من لا يتوافر له المستوى اللائق للمعيشة بحسب الزمان والمكان، وباصطلاح الفكر الاقتصادي الإسلامي هو من لا يتوافر له "حد الكفاية" أو "حد الغنى" لا "حد الكفاف". وواضح أن "حد الكفاف" هو الحد الأدنى للمعيشة من مأكل وملبس ومأوى مما بدونه لا يستطيع المرء أن يعيش وينتج، فهو غير قابل للنقصان ولا يختلف إلا باختلاف القوى الشرائية في كل زمان ومكان1. بخلاف

_ 1 جرت عدة محاولات لجعل البيانات الخاصة بمستويات الدخول، وبصفة خاصة أدنى الدخول صالحة للمقارنة رغم الاختلاف بين القوى الشرائية للعملات المختلف وبين أسعار صرفها. ومن أهم المحاولات تلك التي قام بها سنة 1975م فريق بحث لحساب منظمة العمل الدولية والمبنية على تحديد مجموعة من السلع والخدمات الأساسية. وتقدير تكلفة شرائها بالعملات المحلية ثم تحويل الثمن إلى دولارات وعلى هذا الأساس قدر وقتئذ "حد الكفاف" في الولايات المتحدة الأمريكية بدخل سنوي قدره 1100 دولار، وفي أوروبا 500 دولار، وفي أمريكا اللاتينية 180 دولارا، وفي آسيا 100 دولار. انظر الدكتور إسماعيل صبري عبد الله في كتابه "نحو نظام اقتصادي عالمي جديد" لناشره الهيئة المصرية العامة للكتاب طبعة سنة 1976م ص149.

"حد الكفاية" أو "حد الغنى" فو مستوى أرقى من المعيشة، وهو بالتالي قابل للزيادة، ومن ثم يختلف باختلاف مستوى التقدم في كل زمان ومكان1. ونخلص من ذلك إلى حقيقة هامة، بأن المشكلة الاقتصادية في الإسلام لم ترتبط منذ البداية، بهدف توفير الضروريات الأساسية للمعيشة، وإنما بهدف رفع مستوى المعيشة وتحسينه. وهو ما انتهى إليه الفكر الاقتصادي الحديث، بعد أربعة عشر قرنا، معبرًا عنه باصطلاح "الرفاهية الاقتصادية" أو "الرخاء المادي".

_ 1 عبر بعض فقاء الحنفية عن حد الكفاية باصطلاح "الحاجة الأصلية" وهي في نظرهم ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقا كالنفقة ودور السكنى والثياب والمحتاج إليها أو تقديرا كأثاث المنزل وأدوات الحرفة وكتب العلم لأهلها إذ الجهل عندهم كالهلاك.

ولا نسلم كلية باستخدام اصطلاح الفكر الاقتصادي الحديث أو ربط المشكلة الاقتصادية في الإسلام بهدف "الرخاء المادي" أو "الرفاهية الاقتصادية"، وإنما نفضل الإبقاء على الاصطلاح الدقيق الذي أخذ به الفقهاء القدامى وهو اصطلاح "حد الكفاية". وليس ذلك تعصبا منا أو انحيازا مطلقا لاصطلاحات الاقتصاد الإسلامي أو لمجرد الرغبة في التميز أو التمسك بالقديم، وإنما لأن الأمر في نظرنا أكبر وأعمق من ذلك إذ يتعلق بالأساس والجوهر لا الشكل والاصطلاح، وهو ما نرده إلى سببين رئيسيين: أولهما: أن المال في الإسلام ليس غاية وإنما هو وسيلة لراحة الإنسان وسعادته ليكون بحق خليفة الله في أرضه. وقد رأينا كيف أنه في المجتمعات الوضعية الحديثة حين جعلت "الرخاء المادي" هدفها الأساسي، إن لم يكن مطلبها الوحيد، قد انزلقت إلى عبادة المادة أو على الأقل طغت عليها الماديات، وما استتبع ذلك من نشوء علاقات سياسية وأخلاقية مادية أشقت الإنسان وأصبحت تهدد

الوجود البشرى ذاته1. ثانيهما: أن الإسلام يأمر "بالتزين" ولكنه ينهى عن "الترف"، وبعبارة أخرى أنه يفرق بين "التزين المباح"2، مما يرتبط بالمظهر اللائق أو الملائم كما يرتبط أصلا بحمد الله وشكره، وبين "الترف المنهي عنه"3 مما يرتبط بالإسراف والمغالاة كما يرتبط عادة بالبطر والعلو على الناس. وقد ارتبط هدف "الرفاهية الاقتصادية" في الاصطلاح الحديث بالكماليات والترف المنهي عنه.

_ 1 انظر تفصيل ذلك لدى الدكتور صلاح الدين نامق في مؤلفه "مشكلة الفقر وعلاقتها بالاقتصاد الاجتماعي". لناشره مكتبة النهضة المصرية. ص6 وما بعدها. 2 سورة الأعراف الآية رقم 31، 32 {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . 3 الترف في معاجم اللغة هو الإسراف والمغالاة، وترفته أو أترفته النعمة بمعنى أبطرته أو أطغته، وقد وصف الله تعالى المترفين بالإجرام بقوله سبحانه: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} هود: 116.

ومن ذلك تتبين عظمة الإسلام حين ربط المشكلة الاقتصادية منذ البداية بهدف رفع مستوى المعيشة وتحسينه، لا مجرد توفير الضروريات الأساسية. كما تتبين أيضا دقة وبعد نظر فقهاء الشريعة حين عبروا عن ذلك باصطلاح "حد الكفاية" أو "حد الغنى" لكل مواطن، مما يختلف بحسب إمكانيات وظروف كل مجتمع، لا هدف "الرخاء المادي" أو "الرفاهية الاقتصادية" المصطلح عليه حديثا، وما صاحبه على الوجه المتقدم من مساوئ ومثالب.

اصطلاح "حد الكفاية" أو "حد الغنى"

جـ- اصطلاح "حد الكفاية" أو "حد الغنى": واصطلاح "حد الكفاية" أو "حد الغنى". وإن لم يرد صراحة في نص من نصوص القرآن أو السنة، إلا أنه يستفاد من روح هذه النصوص. وقد ورد صراحة في تعبيرات كثيرة من أئمة وعلماء الإسلام، وكذا في مختلف كتب الفقه القديمة لا سيما بمناسبة بحث الزكاة التي هي بالتعبير الحديث مؤسسة

الضمان الاجتماعي في الإسلام1. فيقول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب: "إذا أعطيتم فاغنوا"2، ويقول الخليفة الرابع علي بن أبي طالب: "إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم"3، ويقول الإمام الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية: "فيدفع إلى الفقير والمسكين من الزكاة، ما يخرج به من اسم الفقر والمسكنة إلى أدنى مراتب الغنى"4، كما يقول: "تقدير العطاء معتبر بالكفاية"5، ويقول الإمام السرخسي في كتابه المبسوط: "وعلى الإمام أن يتقي الله في صرف الأموال إلى المصارف، فلا يدع فقيرا إلا أعطاه من الصدقات حتى يغنيه وعياله، وإن احتاج بعض المسلمين وليس في بيت

_ 1 انظر كتابنا "الإسلام والضمان الاجتماعي" مرجع سابق. 2 انظر الإمام ابن حزم، في كتابه المحلى، لناشره دار الاتحاد العربي للطباعة بالقاهرة الجزء السادس ص221 من طبعة سنة 1968م. 3 نفس المرجع السابق وذات الصفحة. 4 انظر الإمام الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية لناشره مطبعة مصطفى الحلبي بمصر ص122 من طبعة سنة 1966م. 5 نفس المرجع السابق ص205.

المال من الصدقات أي "الزكاة" شيء، أعطى الإمام ما يحتاجون إليه من بيت المال أي "الموارد الأخرى"1، ويقول الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات: "الكفاية تختلف باختلاف الساعات والأحوال"2، وقد جرى المثل العربي "صيانة النفس في كفايتها".

_ 1 انظر الإمام السرخسي، في كتابه المبسوط، لناشره مطبعة دار السعادة بمصر الجزء الثالث ص18 من طبعة سنة 1387هـ. 2 انظر الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات لناشره المطبعة السلفية بمصر. الجزء الأول ص104 من طبعة سنة 1341هـ.

ثانيا: التشخيص الإسلامي لسبب المشكلة الاقتصادية

ثانيا: التشخيص الإسلامي لسبب المشكلة الاقتصادية الاقتصاد الرأسمالى ... ثانيا: التشخيص الإسلامي لسبب المشكلة الاقتصادية ولقد كان للإسلام تشخيص معين لسبب المشكلة الاقتصادية، يختلف عن التشخيص الرأسمالي وكذا التشخيص الاشتراكي، وبالتالي اختلفت الحلول: أ- الاقتصاد الرأسمالي: سبب المشكلة الاقتصادية هم الفقراء أنفسهم سواء لكسلهم، أو لسوء حظهم بشح الطبيعة أو قلة الموارد. فقضية الفقر في نظره، هي أساسا قضية قلة إنتاج. وقد رتب على ذلك الفكر الاقتصادي الرأسمالي، أن على الدولة أن تبيح الحرية المطلقة للجميع لينتجوا ويكسبوا ويغتنوا دون قيد أو شرط وأن على من خانه الحظ أن يرضى بواقعه فهو نصيبه وقدر الله.

الاقتصاد الاشتراكى

ب- الاقتصاد الاشتراكي: سبب المشكلة الاقتصادية هم الأغنياء أنفسهم باستئثارهم دون الأغلبية الكادحة بخيرات المجتمع، وبالتالي نشوء التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات التوزيع فقضية الفقر في نظره هي أساسا قضية سوء توزيع. وقد رتب على ذلك نظرياته في الصراع بين الطبقات، وفي التركيز على تغيير أشكال ووسائل الإنتاج بإلغاء الملكية الخاصة وتصفية الرأسماليين البورجوازيين بحسب تعبيرهم.

الاقتصاد الإسلامي

جـ- الاقتصاد الإسلامي: مرد المشكلة ليس هم الفقراء أو قلة الموارد، كما ذهب الاقتصاد الرأسمالي. كما أنه ليس سببها هم الأغنياء أو التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات التوزيع، كما ذهب الاقتصاد الاشتراكي. وإنما هي: أولا: مشكلة القصور في استغلال الموارد الطبيعية لا قلة هذه الموارد، وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} 1. ثانيا: مشكلة أثره الأغنياء وسوء التوزيع لا الملكية الخاصة ذاتها، وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2. وقد أثر عن سيدنا علي

_ 1 ابراهيم: 34. 2 يس: 47.

ابن أبي طالب رضي الله عنه قوله: "ما جاع فقير إلا بما شبع غني"1، وعن السلف الصالح "ما من سرف إلا وبجواره حق مضيع"2. فمشكلة الفقر في التشخيص الإسلامي، مردها الإنسان نفسه وفساد نظامه الاقتصادي سواء من حيث ضعف الإنتاج أو سوء التوزيع. وقد رتب الإسلام على ذلك ضرورة تنمية الإنتاج مع عدالة التوزيع، وأن أحدهما لا يغني عن الآخر، فوفره الإنتاج مع سوء التوزيع هو احتكار واستغلال لا يسلم به الإسلام، كما أن عدالة التوزيع دون إنتاج كاف هو توزيع للفقر والبؤس مما يرفضه الإسلام. ونخلص من ذلك أن مشكلة الفقر في التشخيص الإسلامي، ذات صفة مزدوجة، أو هي كالعملة ذات وجهين:

_ 1 انظر نهج البلاغة للشريف الرضي لناشره دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت، طبعة بدون تاريخ جزء 3 ص101. 2 انظر العقد الفريد لابن عبد ربه، لناشره لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة طبعة 1940م، جزء 2 ص165.

أولهما: يتعلق بوفرة الإنتاج، وثانيهما: يتعلق بعدالة التوزيع، على أن ذلك لا يمنع الباحث في الاقتصاد الإسلامي من التركيز على أحد الوجهين بحسب ظروف بلده ومجتمعه، فيرى مشكلة الفقر في إحدى الدول أو المجتمعات الإسلامية هي مشكلة إنتاج وتنمية أكثر منها مشكلة توزيع وعدالة، بينما يراها في دولة أو مجتمع إسلامي آخر هي مشكلة توزيع وعدالة أكثر منها مشكلة إنتاج وتنمية. ولا يؤدي به ذلك أن يكون متبعا في الحالة الأولى الفكر الاقتصادي الرأسمالي، أو أن يكون متبعا في الحالة الثانية الفكر الاقتصادي الاشتراكي، طالما هو لا يساير في الأساس الفكرين الوضعيين المذكورين في تصور مشكلة الفقر وأسلوب حلها1.

_ 1 انظر كتابنا "ذاتية السياسة الاقتصادية الإسلامية" مرجع سابق ص37 وما بعدها. - وانظر أيضا كتابنا "نحو اقتصاد إسلامي" الطبعة الثانية سنة 1981م. لناشره شركات مكتبات عكاظ بالمملكة العربية السعودية ص65.

ثالثا: العلاج أو الحل الإسلامي للمشكلة الاقتصادية

ثالثا: العلاج أو الحل الإسلامي للمشكلة الاقتصادية مدخل ... ثالثا: العلاج أو الحل الإسلامي للمشكلة الاقتصادية ومن واقع التشخيص الإسلامي لمشكلة الفقر، والذي يختلف عن كل من التشخيص الرأسمالي والتشخيص الاشتراكي للمشكلة المذكورة، كان العلاج أو الحل الإسلامي لتلك المشكلة، والذي يختلف بدوره عن كل من العلاج الرأسمالي أو الاشتراكي. ولسنا هنا يصدد دراسة تفصيلية لعناصر العلاج أو الحل الإسلامي لمشكلة الفقر. أو بيان أوجه الخلاف بينه وبين العلاج الرأسمالي أو الاشتراكي، فذلك وحده يحتاج إلى أكثر من كتاب. ولكننا نكتفي هنا بمجرد الإشارة إلى بعض العناصر الأساسية التي يقوم عليها الحل الإسلامي لمشكلة الفقر.

المال مال الله والبشر مستخلفون فيه

أ- المال مال الله والبشر مستخلفون فيه: لقد أسهب الفقهاء القدامى والمعاصرون في بيان طبيعة الملكية في الإسلام -سواء كانت هذه الملكية خاصة أم عامة- وآثار ذلك. وقد لخصوها بقولهم: "المال مال الله، والبشر مستخلفون فيه". فحيازة أو ملكية الفرد أو الدولة للمال في الإسلام، ليست امتلاكا بالمعنى المطلق، وإنما هي وديعة أو ظيفة شرعية أو هي ملكية مجازية أي ملكية الفرد أو الدولة في الظاهر بالنسبة للآخرين؛ إذ المالك الحقيقي لكل الأموال هو الله تعالى. وأنه سبحانه سيحاسب المكتسب للمال أو الحائز المتصرف فيه حسابا عسيرا بقوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} 1. وقد ترتب على تكييف الإسلام للملكية: خاصة كانت أم عامة، أن أصبحت أمانة واستخلاف ومسئولية، ويجب الالتزام في شأنها بتعاليم الإسلام فلا يجوز مثلا تمكين السفهاء والمبذرين من هذا المال بقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} 2. أو حرمان العاجزين المحتاجين من هذا المال بقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُم} 3، أو أن

_ 1 التكاثر: 8. 2 النساء: 5. 3 النور: 33.

يكون المال متداولا بين فئة قليلة من الناس بقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُم} 1. أكثر من ذلك فإن شرعية الملكية: خاصة كانت أو عامة. تسقط إذا لم يحسن الفرد أو الدولة، استخدام هذا المال استثمارا أو إنفاقا في مصلحته أو مصلحة الجماعة، وقد عبر عن ذلك أصدق تعبير سيدنا عمر بن الخطاب حين قال لبلال وقد أعطاه الرسول عليه الصلاة والسلام أرض العقيق: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجز عن الناس وإنما أقطعك لتعمل، فخذ ما قدرت على عمارته ورد الباقي"2.

_ 1 الحشر: 7. 2 انظر الأحكام السلطانية للإمام الماوردي مرجع سابق. - وكذا الخراج ليحيى بن آدم. ص93.

لكل حد الكفاية أولا ثم لكل تبعا لعمله

ب- لكل حد الكفاية أولا ثم لكل تبعا لعمله: واستنادا إلى أن المال في الإسلام هو مال الله والبشر مستخلفون فيه، كان المبدأ أو الأصل الاقتصاد الإسلامي الهام بأن لكل حد الكفاية أولا ثم لكل تبعا لعمله. ومؤدى ذلك هو ما سبق أن أوضحناه في محاضراتنا وفي مختلف بحوثنا وكتبنا في مجال الاقتصاد الإسلامي بأنه: في الظروف غير العادية "الاستثنائية" كمجاعة أو حرب حيث تقل الموارد ولا تتوافر الحاجيات يتساوى المسلمون من حيث توفير حد الكفاف Minimum Vital وفي الظروف العادية يتساوى المسلمون من حيث توفير حد الكفاية M. de Suffisance وما فوق ذلك يكون لكل تبعا لعمله وجهده. ويترتب على ذلك في نظرنا ما يلي: 1- الإسلام لا يحترم الملكية الخاصة إلا بعد ضمان "حد الكفاف": فحرمه الملكية الخاصة في الإسلام، مشروطة بأن يتوافر لكل فرد حد الكفاف أي الحد الأدنى اللازم لمعيشته. بمعنى أنه إذا وجد في المجتمع الإسلامي جائع واحد أو عار واحد، فإن حق الملكية لأي فرد من أفراد هذا المجتمع لا يجب احترامه ولا تجوز حمايته. ومؤدى ذلك أن هذا الجائع الواحد، أو المضيع الواحد، يسقط شرعية سائر حقوق الملكية إلى أن يشبع.

وهذا يفسر لنا قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إذا بات مؤمن جائعا فلا مال لأحد" 1. وقوله: "أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله" 2، وقوله: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم في المدينة، حملوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموا بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم منى وأنا منهم" 3، وقوله في حالة سفر: "من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له" 4. ويضيف الرواة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر من صنوف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحدنا في مال.

_ 1 أخرجه أبو داود في سننه. 2 انظر مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق الشيخ شاكر، الجزء الرابع عشر من الطبعة الثانية لدار المعارف بمصر، تحت رقم 4880. 3 رواه البخاري ومسلم. 4 أخرجه مسلم في صحيحه.

وفي هذا المعنى يقول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني حريص على ألا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجزنا تأسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف"1، كما يقول رضي الله عنه عام المجاعة سنة 18هـ: "لو لم أجد للناس ما يسعهم إلا أن أدخل على أهل كل بيت عدتهم يقاسمونهم أنصاف بطوهم حتى يأتي الله بالحيا -أي المطر- فعلت، فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم"2. وقد عبر عن هذا المعنى الصحابي أبو ذر الغفاري بقوله: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه"3. وهو ما عبر عنه الإمام ابن حزم في كتابه المحلى بقوله: "إنه إذا مات رجل جوعا في بلد

_ 1 سيرة عمر بن الخطاب، لابن الجوزي، لناشره المطبعة التجارية الكبرى بالقاهرة ص101. 2 انظر طبقات ابن سعد طبعة بيروت الجزء الثالث ص216. 3 انظر عبد الحميد جودة السحار، أبو ذر الغفاري، مطبوعات مكتبة مصر، الطبعة الثامنة.

اعتبر أهله قتله وأخذت منهم دية القتيل، ويضيف ابن حزم بأن للجائع عند الضرورة أن يقاتل في سبيل حقه في الطعام الزائد عند غيره "فإن قتل -أي الجائع- فعلى قاتله القصاص، وإن قتل المانع فإلى لعنة الله لأنه منع حقا وهو طائفة باغية"1. وعبر عنه الفقيه أحمد بن الدلجي في كتابه الفلاكه والمفلكون "أي الفقر والفقراء" بقوله: "إن من حق المحروم أن يرى النعم التي بأيدي الناس مغصوبة، والمالك المستحق يطالب باسترداد ماله من أيدي الغاصبين"2.

_ 1 انظر الإمام ابن حزم، المحلى، مرجع سابق، الجزء السادس، المسألة رقم 725 ص226 و227. 2 انظر الفقيه أحمد بن علي الدلجي، الفلاكة والمفلكون، طبعة سنة 1322هـ لناشره مكتبة ومطبعة الشعب بالقاهرة ص16.

2- الإسلام لا يسمح بالثروة أو الغنى إلا بعد ضمان "حد الكفاية": أي المستوى اللائق للمعيشة بحسب ظروف الزمان والمكان، والواجب توافره لكل من يتواجد في مجتمع إسلامي أيا كانت ديانته وأيا كانت جنسيته، وهو ما يوفره لنفسه بجهده وعمله، فإن عجز عن ذلك بسبب خارج عن إرادته كمرض أو شيخوخه، وانتقلت مسئولية ذلك إلى بيت مال المسلمين أي خزانة الدولة. وقد روى أبو يوسف في كتابه الخراج وأبو عبيد في كتابه الأموال كيف أن الخليفة عمر بن الخطاب في تفقده للأنصار، دهش حين رأى شيخًا يتكفف الناس فسأله: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، فسأله: وما ألجأك إلى هذا؟ قال: الجزية والحاجة والسن. فأمر عمر بطرح جزيته وأن يعان من الزكاة باعتباره مسكينًا وأرسل إلى خازن بيت المال بقوله: "انظر إلى هذا وضربائه، فوالله ما أنصفناه،

إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم"1. كما روى البلاذري في كتابه فتوح البلدان، كيف أن الخليفة عمر بن الخطاب وهو في أرض الشام مر على قوم فقراء مرضى بالجذام، فأمر أن يعطوا من الزكاة وأن يجري عليهم الطعام بانتظام2. فضمان حد "الكفاية" لا "الكفاف" لكل فرد يعيش في مجتمع إسلامي أيا كانت ديانته أو جنسيته، هو في الإسلام أمر جوهري مقدس باعتباره حق الله الذي يعلو فوق كل الحقوق، وفي إنكاره أو إغفاله تكذيب للدين نفسه وإهدار للإسلام بقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} 3، ومن ثم يقول سيدنا علي بن أبي طالب: "إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر

_ 1 انظر الإمام أبو يوسف، في كتابه الخراج طبعة سنة 1346هـ لناشره المطبعة السلفية بالقاهرة ص150، وكذا الإمام أبو عبيد، في كتابه الأموال، طبعة سنة 1968م، لناشره، مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة، ص46. 2 انظر الإمام البلاذري، فتوح البلدان ص125. 3 الماعون: 1-3.

ما يكفي فقراءهم"1، ويقول الإمام المارودي في كتابه الأحكام السلطانية "تقدير العطاء معتبر بالكفاية"2. ومن ثم فإن الإسلام لا يسمح بالثروة والغنى مع وجود الفقر والعوز، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} 3، ويقول تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} 4، ويقول تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} 5، ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "من ترك مالًا فلورثته، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإليَّ وعليَّ" 6، وفي رواية أخرى "من ترك كلًّا، فليأتني فأنا مولاه" أي من ترك صغارًا محتاجين فليأتني بصفتي الدولة فأنا مسئول عنهم كفيل بهم، وقوله عليه الصلاة

_ 1 الإمام ابن حزم، المحلى، مرجع سابق ص22. 2 الإمام الماوردي، الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص205. 3 النور: 33. 4 الذاريات: 19. 5 الإسراء: 26. 6 أخرجه الشيخان البخاري ومسلم.

السلام: "من ترك ضياعًا فعلي ضياعه" 1. 3- الإسلام لا يضع حدًّا أعلى للملكية أو الاغتناء: وأنه متى توافر لكل فرد في المجمع الإسلامي "حد الكفاية" أي المستوى اللائق للمعيشة والذي تضمنه الدولة لكل مواطن إذا عجز هو عن تحقيقه لسبب خارج عن إرادته، فإنه يكون لكل تبعًا لعمله وسعيه في الأرض دون قيد أو حد أعلى للملكية أو الثروة والاغتناء، فالقرآن يقول: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} 2، والحديث النبوي يقول: "لا بأس بالغنى لمن اتقى" 3.

_ 1 انظر مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق الشيخ شاكر، مرجع سابق، الجزء 14 تحت رقم 7848. 2 النساء: 32. 3 انظر الإمام محمد النيسابوري المعروف بالحاكم، المستدرك على الصحيحين في الحديث، لناشره مكتبة النصر الحديثة بالرياض، الجزء الثاني، ص3.

والله تعالى إذ يقول: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} 1، وإذ يقول تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} 2. نجده سبحانه يقول: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 3، ويقول تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} 4. فاغتناء الناس وتفاوتهم في أرزاقهم ومعيشتهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات وتفضيل بعضهم على بعض، ليس اعتباطًا وإنما هو بقدر ما يبذولنه من جهد وعمل صالح، وصدق الله العظيم: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} 5.

_ 1 الزخرف: 32. 2 النحل: 71. 3 الأحقاف: 19. 4 النساء: 95، 96. 5 النجم: 39-41.

وعليه فإنه في ظل الاقتصاد الإسلامي، يصح أن يتواجد أثرياء للغاية ممن نطلق عليهم اصطلاح مليونير أو بليونير، ولكنه مليونير أو بليونير ملتزم بالشرع، فهو على نحو ما سنبينه، لا يملك أن يكنز ماله أو يحسبه عن التداول والإنتاج، ولا يملك أن يصرف ماله على غير مقتضى العقل وإلا عُدَّ سفيهًا وجاز الحجر عليه، ولا يملك أن يعيش عيشة مترفة وإلا عُد بنص القرآن مجرمًا، وهو مطالب دائما بإنفاق الفائض عن حاجته في سبيل الله سواء في صورة إنفاق مباشر على المحتاجين أو استثمار يعود نفعه على المجتمع، وفوق ذلك كله فإن الحاكم أو أولياء الأمر أي الدولة الإسلامية مطالبة بالتدخل لمنع استئثار أقلية بخيرات المجتمع إعمالًا لقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} 1، ومطالبة دائمًا باتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع وبالقدر الذي يحقق التكامل لا التناقص والتعاون ولا التصارع.

_ 1 الحشر: 7.

الارتفاع بالتنمية الاقتصادية إلى مرتبة الفريضة والعبادة

ج- الارتفاع بالتنمية الاقتصادية إلى مرتبة الفريضة والعبادة: اعتبر الإسلام تعمير الكون وتنمية الإنسان ليكون بحق خليفة الله في أرضه بقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 1. هو غاية خلقه ووجوده بقوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} 2، أي كلفكم بعمارتها. فلم يخلق الله تعالى الإنسان في هذه الدنيا عبثا أو لمجرد أن يأكل ويشرب، وإنما خلقه لرسالة يؤديها، هي أن يكون خليفة الله في أرضه: يدرس ويعمل، وينتج ويعمر، عابدًا الله شاكرًا فضله، ليقابله في نهاية المطاف بعمله وكدحه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} 3، بل لقد جعل الإسلام صدق العمل والكدح أو بطلانه، هو سبيل سعادة المرء أو شقائه في الدنيا

_ 1 البقرة: 30. 2 هود: 61. 3 الانشقاق: 6.

والآخرة، بقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} 1. ولقد بلغ حرص الإسلام على التنمية الاقتصادية وتعمير الدنيا، أن قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة "نخلة صغيرة" فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها" 2. وساوى الإسلام بين المجاهدين في سبيل الدعوة الإسلامية وبين الساعين في سبيل الرزق والنشاط الاقتصادي بقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 3. أكثر من ذلك اعتبر الإسلام السعي على الرزق وخدمة المجتمع وتنميته من أفضل ضروب العبادة: فقد ذكر للرسول عليه الصلاة والسلام رجل كثير العبادة، فسأل: "من يقوم به؟ "، قالوا: أخوه، فقال عليه الصلاة والسلام: "أخوه أعبد منه" 4. وقد أراد أحد الصحابة

_ 1 الإسراء: 72. 2 رواه البزار والطبراني. 3 المزمل: 20. 4 الجامع الصغير للسيوطي.

الخلوة والاعتكاف لذكر الله، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله -أي في خدمة المجتمع وتنميته- أفضل من صلاته في بيته ستين عامًا" 1، ويقول عليه الصلاة والسلام: "لكل أمة سياحة، وسياحة أمتي الجهاد في سبيل الله" 2، أي تعمير الكون وتنمية الإنسان ليكون بحق خليفة الله في أرضه. ونخلص من ذلك أن التنمية الاقتصادية في الإسلام، هي فريضة وعبادة، بل هي من أفضل ضروب العبادة، وأن المسلمين قادة وشعوبًا مقربون إلى الله تعالى بقدر تعميرهم للدنيا وأخذهم بأسباب التنمية الاقتصادية وذلك بمفهومها الإسلامي الذي يميزها عن سائر المذاهب والأنظمة الاقتصادية السائدة، ذلك لأن التنمية الاقتصادية الإسلامية، بحسب تحليلنا لها، هي تنمية شاملة، ومتوازنة، وغايتها الإنسان نفسه ليكون بحق خليفة الله في أرضه.

_ 1 المستدرك للحاكم النيسابوري. 2 المستدرك للحاكم النيسابوري.

1- تنمية شاملة: وذلك لأنها لا تستهدف رقي الإنسان ماديا فحسب وإنما روحيا بصفة أساسية، والروحانية في الإسلام، ليست كما يتصور البعض مسألة ميتافيزيقية أو غيبية، وإنما هي العمل الصالح إيمانا بالله واعتبارا أو مراعاة له تعالى سواء كان ذلك الإيمان أو تلك المراعاة والاعتبارات المتأصلة في العقل والنفس والمتمثلة في النشاط والسلوك مردها خشيته تعالى والخوف من عقابه، أو كان مردها ابتغاء مرضاته والفوز بجنته. فالإسلام كما سبق أن وضحنا بكتابنا "ذاتية السياسة الاقتصادية الإسلامية"، لا يعرف الفصل بين ما هو مادي وما هو روحي، ولا يفرق بين ما هو دنيوي وما هو أخروي. فكل نشاط مادي أو دنيوي يباشره الإنسان، هو في نظر الإسلام عمل روحي أو أخروي، طالما كان مشروعًا وكان يتجه به إلى الله تعالى1. فالله تعالى ما خلق

_ 1 انظر كتابنا "ذاتية السياسة الاقتصادية الإسلامية وأهمية الاقتصاد الإسلامي"، مرجع سابق، ص54 وما بعدها.

الجنس والإنس إلا ليعبدوه، أي ليعملوا عملًا صالحًا، والإيمان في الإسلام ليس إيمانًا مجردًا Abstrait ولكنه إيمان محدد Concret مرتبط بالعمل الصالح. وأن مبدأ الشمول في التنمية الاقتصادية الإسلامية، يقتضي أن تضمن التنمية كافة الاحتياجات البشرية من مأكل وملبس ومسكن ونقل وتعليم وتطبيب وترفيه وحرية العمل وحرية التعبير وممارسة الشعائر الدينية ... إلخ، بحيث لا تقتصر التنمية على إشباع بعض الضروريات أو الحاجيات دون الأخرى، ومن هنا لا يقبل الإسلام "تنمية رأسمالية" تضمن حرية التعبير ولا تضمن لقمة الخبز، كما لا يقبل "تنمية اشتراكية" تضمن لقمة الخبز وتقتل حرية التعبير. 2- تنمية متوازنة: وذلك لأنها لا تستهدف زيادة الإنتاج فحسب بقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} 1، وإنما تستهدف أساسًا عدالة التوزيع.

_ 1 التوبة: 105.

بقوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 1. بحيث يعم الخير جميع البشر أيا كان موقعهم في المجتمع وأيا كان مكانهم في الكون، ذلك أن هدف الإسلام من التنمية الاقتصادية هو أن يتوافر لكل فرد، أيا كانت جنسيته أو ديانته أي بصفته إنسانًا، حد الكفاية لا الكفاف، أي المستوى اللائق للمعيشة بحسب زمنه ومكانه لا مجرد المستوى الأدنى اللازم للمعيشة. وذلك حتى يستشعر نعم الله وفضله، فيتجه تلقائيا إلى حمده تعالى وعبادته، هذا الحمد والشكر الذي لا يعبر عنه في الإسلام بالقول والامتنان فحسب وإنما بالعمل والإخلاص فيه لقوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} 2، وهذه العبادة التي لا تتمثل في الإسلام بالصلاة والتوجه إلى الله فحسب وإنما أساسًا بخدمة الغير ومد يد العون لكل محتاج لقوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 3.

_ 1 المائدة: 8. 2 سبأ: 13. 3 النساء: 114.

فالإسلام على نحو ما سبق إيضاحه؛ إذ يتطلب زيادة الإنتاج، يستلزم في نفس الوقت عدالة التوزيع، بحيث لا يغني أحدهما عن الآخر، ومن ثم لا يقبل الإسلام "تنمية رأسمالية" تستهدف تنمية ثروة المجتمع دون نظر إلى توزيع الثروة، وإذا كانت "التنمية الاشتراكية" تؤكد العلاقة بين أشكال الإنتاج والتوزيع، إلا أنها ترى أن نظام التوزيع يتبع دائمًا شكل الإنتاج، في حين يرفض الإسلام هذه التبعية بحيث أيا كانت أشكال الإنتاج السائد فإنه يضمن أولا حد الكفاية لكل فرد وذلك كحق إلهي مقدس يعلو فوق كل الحقوق، ثم بعد ذلك يكون لكل تبعًا لعمله وجهده، وبحيث إذا لم يتوافر حد الكفاية لكل مواطن وهو ما لا يكون إلا في ظروف استثنائية كمجاعة أو حرب تأسى الجميع في حد الكفاف. وإن مبدأ التوازن في المفهوم الإسلامي للتنمية الاقتصادية، يقتضي أن تتوازى جهود التنمية، ومن ثم لا يقبل في الإسلام أن تنفرد بالتنمية المدن دون القرى، أو أن تستأثر الصناعة بالتنمية دون الزراعة، أو أن تقدم

الكماليات أو التحسينات على الضروريات أو الحاجيات، أو أن تسبق الصناعات الثقيلة أو المستوردة الصناعات الاستهلاكية أو المحلية، أو أن يركز على المشروعات الإنتاجية دون الخدمات والتجهيزات الأساسية ... إلخ من الأخطاء العديدة التي وقعت فيها مختلف الدول العربية والإسلامية. مقلدة دون وعي تجارب شرقية أو غربية، غافلة أو جاهلة الصيغة الإسلامية بضرورة "التوازن الإنمائي"، ولا شك أن التنمية الاقتصادية غير المتوازنة التي نراها في أغلب دول العالم الإسلامي مركزة على جزء من الاقتصاد القومي دون بقية الأجزاء هي تنمية مشوهة DEFORME بل هي في حقيقتها تنمية للتخلف إذ تزيد من تدهور بقية الأجزاء. 3- تنمية غاية الإنسان نفسه: ليكون بحق خليفة الله في أرضه، فذلك ما يحدد بواعث أو غاية التنمية الاقتصادية الإسلامية وآثارها. التنمية الرأسمالية: الباعث فيها هو تحقيق أكبر قدر من الربح، مما يؤدي عادة إلى الانحراف بالإنتاج عن توفير احتياجات المجتمع

الضرورية مع وفرة إنتاج السلع الكمالية التي يطلبها الأغنياء والمترفون، وما يصاحب ذلك من سيادة المادة ومختلف المساوئ الاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات الغربية. التنمية الاشتراكية: الباعث فيها هو سد احتياجات الدولة وفق أطماع وسياسات القائمين على الحكم لا وفق احتياجات ورغبات المواطنين أنفسهم، مما يهدد كلية حرية الفرد ويجعل منه ترس أو أداة لا غاية. التنمية الإسلامية: الباعث فيها ليس الربح شأن الرأسمالية، ولا أهواء القائمين على الحكم شأن التنمية الاشتراكية، وإنما هو ضمان حد الكفاية لكل مواطن ليتحرر من أية عبودية أو حاكمية إلا عبودية وحاكمية الله وحده. فغاية التنمية الإسلامية هو الإنسان نفسه لا تستعبده المادة شأن التنمية الرأسمالية، ولا يستذله الغير شأن التنمية الاشتراكية، وإنما محررًا مكرمًا يعمر الدنيا ويحييها بالعمل الصالح ليسعد في الأرض ويفوز بجنة الله في الآخرة.

الجمع بين "الضمان الاجتماعي" و "التكافل الاجتماعي"

د- الجمع بين "الضمان الاجتماعي" و"التكافل الاجتماعي": 1- الضمان الاجتماعي في الإسلام: ويراد به التزام الدولة الإسلامية نحو كافة المقيمين بها، أيا كانت ديانتهم أو جنسياتهم، وذلك بتقديم المساعدة للمحتاجين منهم في الحالات الموجبة بتقديمها كمرض أو عجز أو شيخوخة، متى لم يكن لهم دخل أو مورد يوفر لهم حد الكفاية، ودون أن يطلب تحصيل اشتراكات مقدمًا. والأخذ بالضمان الاجتماعي في الإسلام، هو من قبيل تطبيق النص أي ما ورد بالقرآن والسنة فيما يتعلق بالزكاة1.

_ 1 وهذا ما يميز الضمان الاجتماعي في الإسلام، عن التأمين الاجتماعي والذي يمكن الأخذ في الإسلام بموجب المصلحة، والتأمين الاجتماعي كما هو معروف تتولاه الدولة والمؤسسات الخاصة، ويتطلب مساهمة المستفيد باشتراكات يؤديها، وتمنح له مزايا التأمين أيا كان نوعها وذلك متى توافرت له شروط استحقاقها بغض النظر عن فقره أو غناه. - انظر في تفصيل ذلك كتابنا الثالث من سلسلة الاقتصاد الإسلامي والمعنون "الإسلام والتأمين" طبعة سنة 1979م، لناشره عالم الكتب بالقاهرة والرياض، ص21 وما بعدها.

2- التكافل الاجتماعي: وهو التزام الأفراد بعضهم نحو بعض، وهو لا يقتصر في الإسلام على مجرد التعاطف المعنوي من شعور الحب والبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل يشمل أيضًا التعاطف المادي بالتزام كل فرد قادر بعون أخيه المحتاج ويتمثل فيما يسميه رجال الفقه الإسلامي بحق القرابة1

_ 1 حق القرابة هو التزام المسلم الغني بالإنفاق على قرابته الوثيقة من الفقراء كأصوله وفورعه حيث يعتبرونه جزءًا منه ويلتزم شرعا بهم، ومن ثم فإن إنفاق الفرد على أولاده وأحفاده أو والديه أو إخوته الفقراء لا يعفيه من أداء الزكاة وذلك أن دفع زكاته إلى قرابته الوثيقة ممن يعتبرون جزءًا منه، يعتبر كأنه دفعها إلى نفسه فلا تجزيه، وهو أن أسقط عنه حق القرابة فإنه لا يسقط عنه حق الزكاة بخلاف القرابة البعيدة، فيفضل أداء الزكاة إليها متى كانوا محتاجين لقوله عليه الصلاة والسلام: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الحرم اثنتان صدقة وصلة" رواه أحمد بن حنبل والنسائي والترمذي والحاكم في مستدركه.

وحق الماعون1 والتزام الضيافة2 والتزام الإنفاق في سبيل الله3، والأخذ بالتكافل الاجتماعي في الإسلام هو

_ 1 يراد بحق الماعون إعارة الأشياء الصغيرة التي يحتاجها الجيران بعضهم من بعض، فمانعها مستحق للويل كالساهي عن الصلاة المرائي لقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4-7] . ولا جدال أن المكلف لا يستحق الويل إلا على ترك واجب. ومن ثم تكون إعارة هذه الأشياء في الإسلام واجبة إلزامًا. 2- التزام الضيافة في الإسلام غايته ثلاثة أيام بقول الرسول الله عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ثلاثة أيام فما كان بعد ذلك فهو صدقة" رواه الشيخان البخاري ومسلم، فإكرام الضيف في حدود ثلاثة أيام واجب، بدليل تعليق الإيمان عليه، وبدليل جعل ما بعد الثلاثة أيام صدقة تطوع. 3- روي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "إن في المال حقًّا سوى الزكاة" ثم تلا قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة: 177] . كما أن النص عن كل من الإنفاق والزكاة على حدة في آية واحدة، قاطع بأن كليهما يختلف عن الآخر وإنما فريضتان مختلفتان. انظر تفسير الطبري، جزء3، صفحة 348 من طبعة دار المعارف بمصر، وكذا تفسير القرطبي لذات الآية.

من قبيل تطبيق النص، وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1، وقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 2. وقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 3. والعفو هنا هو كل ما زاد عن الحاجة، وقوله عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" 4، وتلخيصه عليه الصلاة والسلام علامة الإيمان بقوله: "والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 5. 3- الإسلام دين الضمان الاجتماعي: والتكافل الاجتماعي: ونخلص مما تقدم أن الإسلام هو دين الضمان الاجتماعي من حيث التزام الدولة، وهو دين التكافل الاجتماعي من

_ 1 الحجرات: 10. 2 البقرة: 195. 3 البقرة: 219. 4 مسند أحمد ج4 ص405، كما رواه البخاري ومسلم. 5 أخرجه الشيخان البخاري ومسلم.

حيث التزام الأفراد، ويتمثل الضمان الاجتماعي في الإسلام كما سبق أن أشرنا في ضمان "حد الكفاية" لكل فرد يتواجد في مجتمع إسلامي أيا كانت ديانته وأيا كانت جنسيته تكفله له الدولة الإسلامية عن طريق مؤسسة الزكاة، وذلك متى عجز أن يوفره لنفسه لسبب خارج عن إرادته كمرض أو عجز أو شيخوخة ... إلخ1. ثم يأتي التكافل الاجتماعي من جانب الأفراد، كعنصر مكمل لالتزام الدولة وجهودها في إزالة العوز والقضاء على القهر. إننا لا نقول مع الاشتراكيين إن أساس الخروج من المشكلة الاقتصادية هو الدولة، ولا مع الرأسماليين بأن أساس الخروج من هذه المشكلة هو الأفراد والجهود الذاتية. ولكننا نقول بما يقرره الإسلام من ضرورة التعاون بين الدولة والأفراد، وأن لكل منهما مجاله بحيث يكمل كل منهما الآخر، والواقع أن الدولة لا تستطيع القيام بكل شيء، وأن تدخلها المطلق أوإحجامها المطلق، يؤدي إلى مساوئ عديدة، والمناط في الاقتصاد الإسلامي هو تحقيق التعاون والتكامل بين الدولة والأفراد على الوجه السابق بيانه.

_ 1 انظر كتابنا الرابع من سلسلة الاقتصاد الإسلامي والمعنون "الإسلام والضمان الاجتماعي" الطبعة الثانية لسنة 2/ 14/ 1982، لناشره دار ثقيف للنشر والتأليف بالمملكة العربية السعودية.

معيار تقويم الدولة في نظر الاقتصاد الإسلامي

هـ- معيار تقويم الدولة في نظر الاقتصاد الإسلامي: 1- معيار الحكم في الاقتصاد الإسلامي: في اعتقادنا أن معيار الحكم في الاقتصاد الإسلامي على أي دولة في العالم ليس هو بمقدار ما بلغته هذه الدولة من مستوى حضاري أو تكنولوجي، أو ما تملكه تلك الدولة من ثروة مادية أو بشرية، ولا هو بمقدار ما يخص كل فرد من الدخل القومي ... إلخ. وإنما هو بالمستوى المعيشي اللائق الذي يتوافر أو تضمنه الدولة لأقل أو أضعف مواطن فيها لتحريره بذلك من عبودية الحاجة ومشاعر الحقد والحرمان، ومستشعرا نعمة الله راضيا متعاونًا مع مجتمعه، وكما عبر عن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية "إن الله تعالى إنما خلق الأموال إعانة على عبادته؛ لأنه خلق

الخلق لعبادته1. 2- ضمان حد الكفاية لكل مواطن: وهو يعتبر من أوليات الاقتصاد الإسلامي، وهو على نحو ما أشرنا يعتبر في نظر الإسلام هو صميم الدين وأن مجرد إنكاره وإهداره هو تكذيب لرسالة الإسلام. ويعتبر الحق الناشئ عنه هو حق الله الذي يعلو فوق كل الحقوق، ومن ثم فهو حق مقدس يلتزم به كل مجتمع إسلامي، وهو ما عبر عنه الإمام الشافعي في عبارة فقهية مشهورة عنه بقوله: "إن للفقراء أحقية استحقاق في المال، حتى صار بمنزلة المال المشترك بين صاحبه وبين الفقير". 3- هدف الإسلام في مجال التوزيع الشخصي والأيدولوجي: إن ما استهدفه الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا، بأصوله ومبادئه في مجال التوزيع الشخصي أو الأيدلوجي، وهو القضاء على الفقر الذي وصفه الرسول عليه الصلاة

_ 1 انظر الإمام ابن تيمية، في كتابه السياسة الشرعية، لناشره المطبعة السلفية بالقاهرة، طبعة سنة 1378هـ، ص22.

والسلام بأنه كاد أن يكون كفرًا، بل أكد أن الكفر والفقر يعدلان، ومن ثم كان للإسلام، سياسته المتميزة في التوزيع والتي على نحو ما أسلفنا تضمن أولا حد الكفاية لكل مواطن ولو أدى الأمر في مجتمع فقير تشح فيه الموارد والثروة ألا يحصل أحد على أكثر من حاجاته الضرورية، ثم بعد ذلك يكون لكل تبعا بعمله وجهده مهما بلغ ما يحصل عليه من ثروة أو دخل، مع قيود صارمة في استخدام المال ترشيدًا للاستهلاك.

الفرع الثاني: التوزيع العملى أو الوظيفي أو مكافأة عناصر الإنتاج

الفرع الثاني: التوزيع العملى أو الوظيفي أو مكافأة عناصر الإنتاج مدخل ... الفرع الثاني: التوزيع العملي أو الوظيفي أو مكافأة عناصر الإنتاج 1- الاقتصاد الرأسمالي: عناصر الإنتاج فيه أربعة هي: العمل وعائده الأجر، والطبيعة وعائدها الريع، ورأس المال وعائده الفائدة، والمنظم وعائده الربح. ويتحدد ثمن أو قيمة كل عنصر من عناصر الإنتاج سالفة الذكر على أساس سعر السوق، وهو ما يتحدد بحسب العرض والطلب. 2- الاقتصاد الاشتراكي: عنصر الإنتاج الأساسي فيه هو العمل سواء كان يدويًّا أو عقليًّا، وعائده الأجر أو الراتب، وهو ما تحدده السلطات حسب خطة التنمية الاقتصادية آخذة في الاعتبار قوى العرض والطلب دون أن تتقيد بهما تقيدًا تامًّا. أما بقية عناصر الإنتاج، كالطبيعة، ورأس المال، والمنظم، فتظل موجودة وإنما ينتقل عائدها إلى الدولة

تصرف فيها حسب خطة التنمية1. 3- الاقتصاد الإسلامي: فقد أبدينا في كتابنا الثاني من سلسلة الاقتصاد الإسلامي والمعنون "الإسلام والمشكلة الاقتصادية"، أن عناصر الإنتاج فيه اثنان هما: العمل ورأس المال، مع التنبيه بأن رأس المال وحده لا يكون له عائد إلا إذا ساهم مع العمل في الغرم، وحينئذ يكون له نصيب في العائد "أيًّا كانت نسبته بحسب الاتفاق" وذلك في صورة "ربح" لا فائدة أو "إيجار" ولا ريع2. ولقد ذهبنا إلى أن عناصر أو عامل الإنتاج في المفهوم الإسلامي اثنان هما: العمل ورأس المال، وذلك استنادًا إلى إجماع فقهاء المسلمين على توزيع الريع وهو عائد أو

_ 1 انظر تفصيل ذلك لدى الدكتور صلاح الدين نامق، في مؤلفه "أسس علم الاقتصاد الاشتراكي" لناشره دار المعارف بالقاهرة، الطبعة الثالثة سنة 1966م، ص61 وما بعدها. 2 انظر كتابنا "الإسلام والمشكلة الاقتصادية" مرجع سابق، صفحة 69 وما بعدها.

حصيلة الإنتاج، بين العمل ورأس المال، ففي عقد "المضاربة" ويسمى أيضًا "بالمقارضة" يقدم أحد الشركاء وهو رب المال أي المقارض "رأس المال"، بينما يقدم الشريك الآخر وهو رب العمل أي المضارب "عمله" وقد سمي كذلك لأنه يضرب في الأرض ويسعى فيها قصدًا إلى المال وتنمية الثروة. ونضيف هنا بأن ثمة عنصر آخر من عناصر الإنتاج تغفله سائر المذاهب والنظم الاقتصادية الوضيعة، ولكن يكشف عنه الاقتصاد الإسلامي، بل يعتبره من أهم عناصر الإنتاج ألا وهو عنصر "التقوى" أي ابتغاء وجه الله تعالى ومراعاته وخشيته سبحانه في كل ما نقوم به من عمل أو نباشره من نشاط اقتصادي، وهو ما عبرت عنه عدة آيات قرآنية وأحاديث نبوية نذكر منها على سبيل المثال قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1.

_ 1 الأعراف: 96.

ومكافأة عنصر التقوى هو من عند الله وهو ما يسميه العامة البركة في الدنيا والجنة في الآخرة، أما من حيث مكافأة عنصري الإنتاج الآخرين وهما "رأس المال" و"العمل" فإن الإسلام يحترم أساسًا إرادة الطرفان "رب المال" و"رب العمل"، فنصيب كل منهما أو عائد كل عنصر يتحدد بالاتفاق، وهذا الاتفاق يحكمه في الفقه الإسلامي أمران: أولهما: سعر السوق أي قوى العرض والطلب، والتي تحدد نصيب أو عائد كل من العمل ورأس المال في المضاربة أي العملية الإنتاجية. ثانيهما: ألا يكون سعر السوق على الوجه المتقدم مخلا أو مجحفًا بحق أحد الطرفين "رب المال" أو "رب العمل"، وإلا تعين على ولي الأمر أي الدولة التدخل لتحديد الثمن أي عائد كل عنصر من عناصر الإنتاج، وذلك بالقدر الذي يحقق العدل والتوازن بين أطراف العملية الإنتاجية باعتبار أن هذا العدل أو التوازن هو

غاية ما يحرص عليه الإسلام بقوله تعالى: {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} 1. وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} 2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تهضموا الناس حقوقهم فتكفروهم" 3. وعليه فإنه من المتفق عليه التزام الدولة الإسلامية بالتدخل في تحديد أدنى الأجور بما يضمن "حد الكفاية" أو "تمام الكفاية" وليس مجرد "حد الكفاية" مما سبق بيانه، وكذلك الترامها بالتدخل في تحديد الأسعار على نحو ما سنبينه. ومؤدى ما تقدم، أنه في مجال التوزيع الوظيفي أو مكافأة عناصر الإنتاج، يعتد المذهب الاقتصادي الإسلامي -شأن المذهب الاقتصادي الفردي والنظم الرأسمالية المتفرعة عنه- بسعر السوق ولكنه يخالف هذا المذهب في الاعتماد الكلي على سعر السوق، بل يتطلب تدخل الدولة

_ 1 البقرة: 279. 2 الرحمن: 9. 3 أخرجه السيوطي، وفي رواية أخرى $"لا تمنعوا المسلمين حقوقهم فتكفروهم".

في تحديد السعر أو مكافأة عناصر الإنتاج، متى كان هذا السعر مجحفًا بأحد أطراف العملية الإنتاجية أو حتى المستهلك، وإذا صح أن المذهب الاقتصادي الإسلامي يتطالب -شأن المذهب الاقتصادي الجماعي والنظم الاشتراكية المتفرعة عنه- تدخل الدولة في مكافأة عناصر الإنتاج وتحديد الثمن، إلا أنه يخالفه في أساس أو سبب هذا التدخل وفي تحديد نطاقه أو مداه، ذلك أن هذا التدخل مشروط في الإسلام بتدخل عوامل أخرى غير قوى العرض والطلب كغش أو احتكار أو غيرها مما يجعل ثمن السوق غير عادل أو مجحفا بأحد أطراف العملية الإنتاجية أو بالمستهلك ذاته، كما لا يكون التدخل مطلقا حسبما تقدره الدولة بل هو بالقدر الذي يحقق العدل والتوازن بين أطراف العملية الإنتاجية وبين هؤلاء والمستهلك ذاته. ولقد تعددت أخيرًا الكتابة حول عناصر الإنتاج في الإسلام وعوائده، وذلك في مختلف رسائل الماجستير والدكتوراه التي أشرفنا على إعدادها ومناقشتها بكلية

التجارة بجامعة الأزهر، ونخص بالذكر رسالة الدكتوراه للدكتور إبراهيم الطحاوي في مارس سنة 1972م والمعنونة "الاقتصاد الإسلامي مذهبًا ونظامًا" في فصلها الخاص بعوائد عناصر الإنتاج ما يقره وما لا يقره الإسلام. وكذلك رسالة الماجستير للدكتور رفعت العوضي في مايو سنة 1972م والمعنونة "نظرية التوزيع في الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد المعاصر"، وقد قام مجمع البحوث الإسلامية بمشيخة الأزهر بطبع هاتين الرسالتين. ونضيف إليهما رسالة الدكتوراه للدكتور يوسف إبراهيم يوسف المعنونة "المنهج الإسلامي لتحقيق التنمية الاقتصادية" والتي أشرفنا على إعدادها ومناقشتها بكلية التجارة بجامعة الأزهر في مارس سنة 1980م. لذلك وحتى لا نخرج عن النطاق المحدد لدراستنا، ونوجز حديثنا حول التوزيع الوظيفي أو مكافأة عناصر الإنتاج في الإسلام، على النقاط الرئيسية التي تحتاج إلى ربط وإيضاح، على الوجه التالي:

أولا: عنصر العمل

أولًا: عنصر العمل يشمل عنصر العمل في الإسلام حسبما أوضحنا، "عمل العامل" وهو الجهد الذي يبذله الإنسان لخلق المنفعة سواء كان هذا الجهد يدويًّا كعمل الفلاح أو الصانع، أو عقليًّا كعمل المدرس أو الطبيب أو المحامي. كما يشمل "عمل المنظم" وهو الذي يوجه العملية الإنتاجية ويوائم بين عناصر الإنتاج المختلفة بما يحقق سير الإنتاج ومضاعفته. وعائد العمل في الإسلام يكون في شكل محدد وهو "الأجرة" أو في شكل غير محدد وهو "الربح".

ثانيا: عنصر رأس المال

ثانيًا: عنصر رأس المال يشمل عنصر رأس المال في الإسلام حسبما أوضحنا، "الطبيعة" وهي الثروات التي ليس للإنسان دخل في وجودها كالأرض والماء والحيوان والمناجم، كما يشمل "رأس المال" بمعناه المعروف، أي الثروات الناتجة عن تضافر العمل والطبيعة والتي لا تصلح لإشباع حاجات الناس مباشرة وإنما تستخدم لإنتاج مواد أخرى صالحة

للإشباع المباشر، ومن قبيل ذلك رءوس الأموال السائلة كالنقود ورءوس الأموال العينية كالمباني والآلات. وعنصر رأس المال وحده ليس له عائد في الإسلام؛ إذ المال لا يلد مالًا، وإنما يتحقق عائده إذا شارك عنصر العمل متحملا غرمه، كما يستفيد من غنمه، وحينئذ يكون له عائد في شكل "أرباح" بالنسبة لرأس المال النقدي كالأموال السائلة، أو في شكل "إيجار" بالنسبة لرأس المال العيني كالأطيان والمباني. وهذا هو السبب في أن الإسلام لا يعترف بالفائدة كعائد لرأس المال وحده، كما لا يعترف بالريع كعائد للأرض وحدها1، وأن تصور الإسلام لعناصر أو عوامل الإنتاج وبالتالي عائده، على الوجه السابق بيانه، هو من أهم ما يميز الاقتصاد الإسلامي عن كل من الاقتصادين الوضعيين السائدين الرأسمالي والاشتراكي.

_ 1 انظر كتابنا "نحو اقتصاد إسلامي، الطبعة الثانية سنة 1981م، لناشره شركة مكتبات عكاظ بجدة والرياض، ص121 وما بعدها.

ثالثا: عنصر التقوى

ثالثًا: عنصر التقوى مفهوم التقوى في الإسلام هو العمل الصالح بابتغاء وجه الله، وصدق الله العظيم {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 1، وصدق رسوله الكريم: "ما عبد الله بمثل عمل صالح" 2، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه" 3. وعائد التقوى في الإسلام هو النماء وسعة الرزق وهو ما يسميه العامة بالبركة في الدنيا، فضلا عن الجنة في الآخرة وهي غاية الغايات.

_ 1 الذاريات: 56-58. 2 أخرجه السيوطي والطبراني. 3 أخرجه أبو داود والنسائي.

رابعا: تحديد الأسعار

رابعًا: تحديد الأسعار عندما يكون ثمن السوق الذي تحدده قوى العرض والطلب عادلًا، أي غير مجحف بالبائع "عنصر نفقة إنتاج السلعة" أو المشترى "عنصر منفعة السلعة"، فإنه لا يجوز شرعًا التسعير، وهذا ما حدث من الرسول عليه الصلاة والسلام، حين رفض التسعير بقوله: "إن الله هو المسعر الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال" 1. أما إذا صار ثمن السوق لأي سبب من الأسباب، مجحفًا بأحد الطرفين "المنتج" أو "المستهلك" فإنه يصير لزامًا على الدولة أن تتدخل، وهذا ما حدث في عهد الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب حين حدد أسعار بعض السلع منعا للتحكم والإضرار بالناس، وذلك إعمالًا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم، كان حقًّا على

_ 1 أخرجه أبو داود والترمذي.

الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة" 1. على أنه يجب أن يراعى في تحديد الأسعار ألا يلحق ضررًا بالمنتج أو المستهلك، وإلا تحملت الدولة فروق الأسعار، وهو الأمر الذي عبر عنه الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه الطرق الحكمية بقوله: "وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم بالتسعير، سعر عليهم تسعير عدل لا وكس ولا شطط"2.

_ 1 أخرجه الترمذي وأبو داود. 2 انظر كتابنا المدخل إلى الاقتصاد الإسلامي، طبعة سنة 1972م، لناشره مكتبة النهضة العربية بالقاهرة، ص142.

الفرع الثالث: العلاقة بين شكل الإنتاج وكيفية التوزيع أو أثر تطور أساليب الإنتاج على التوزيع

الفرع الثالث: العلاقة بين شكل الإنتاج وكيفية التوزيع أو أثر تطور أساليب الإنتاج على التوزيع 1- الفكر الاقتصادي الوضعي: هناك علاقة وثيقة بين تطور أشكال الإنتاج وتطور العلاقات الاقتصادية بما فيها علاقات التوزيع، ذلك أن التوزيع في مجتمع رقيقي أي يقوم على الرق، غيره في مجتمع رأسمالي، غيره في مجتمع اشتراكي. كما أن نظام التوزيع في مجتمع مختلف يستخدم في إنتاجه الوسائل البدائية، غيره في مجتمع متقدم يستخدم التكنولوجيا الحديثة أي التقنية المتقدمة. وإنه بحسب هذا الفكر الاقتصادي، العامل المؤثر الذي يتوقف عليه كيفية التوزيع هو أشكال أو أساليب الإنتاج السائدة.

الفكر الاقتصادي الإسلامي

2- الفكر الاقتصادي الإسلامي: فإن الأمر جد مختلف؛ إذ يقرر بأنه مهما كانت ظروف المجتمع، وأيًّا كانت أشكال الإنتاج السائدة فيه، وأيًّا كانت درجة تطوره، فهناك حاجات إنسانية أساسية أو ثابتة تتمثل في المأكل والملبس والمسكن والتطبيب والترقية ... إلخ، يجب اعتبارها أولًا وتوفيرها دائمًا. وعليه فإنه بحسب الإسلام يقوم التوزيع أولًا على أساس توفير الحاجات الأساسية للفرد كإنسان أي ضمان حد الكفاية بغض النظر عن أدوات أو أشكال الإنتاج السائدة، وبغض النظر عن تقدم المجتمع أو تخلفه ثم بعد ذلك أو ثانيا يكون التوزيع بحسب الأوضاع الاقتصادية السائدة بما فيها أشكال وأساليب الإنتاج1.

_ 1 انظر محاضراتنا بكلية العلوم الإدارية "قسم الاقتصاد" بجامعة الملك سعود بالرياض، مرجع سابق.

قضية التوزيع في الاقتصاد الإسلامي

3- قضية التوزيع في الاقتصاد الإسلامي: وعليه فإن قضية التوزيع ليست كما يرى الاقتصاديون الوضعيون لا سيما الماركسيون منهم هي قضية أشكال إنتاج أو أوضاع معينة للإنتاج تسود المجتمع بحيث تتطلب نظامًا معينًا للتوزيع يلائم سيرها أو نموها، وبحيث يتغير التوزيع كلما تغيرت أو تطورت أشكال أو أساليب الإنتاج. وإنما هي في نظر الإسلام قضية إنسان له متطلباته الضرورية أو حاجاته الأساسية والتي يتعين أولًا وقبل كل شيء إشباعها في إطار يحافظ على إنسانيته وينميها، سواء كان هذا الإنسان في مجتمع متخلف يحرث الأرض بيده ويستخدم في إنتاجه الوسائل البدائية أو كان في مجتمع متقدم يصنع المواد الأولية ويستخدم في إنتاجه قوة البخار أو الكهرباء أو الذرة1. ثم بعد ذلك، أي بعد ضمان ما يسميه رجل الفقه الإسلامي بحد الكفاية لا الكفاف، وما يعبر عنه البعض بحد الغنى أو تمام الكفاية، لا مانع أن تتفاوت الثروة والدخول لكل بحسب عمله وكفاحه، وفي حدود ما هو مقرر أو معترف به شرعا على نحو ما سنبينه في الفرع التالي من دراستنا.

_ 1 نفس المرجع.

الفرع الرابع: حفظ التوازن الاقتصادي أو التفاوت المنضبط أو المتوازن

الفرع الرابع: حفظ التوازن الاقتصادي أو التفاوت المنضبط أوالمتوازن 1 - عمر بن الخطاب يلخص سياسة التوزيع في الإسلام: وقد لخص الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سياسة التوزيع في الإسلام بقوله: "ما من أحد ألا وله في هذا المال حق: الرجل وحاجته ... والرجل وبلاؤه أي عمله ... "، ثم قوله: "إني حريص على ألا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجزنا تأسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف"1. ويقول رضي الله عنه عام الرمادة "أي المجاعة" سنة 18هـ "لو لم أجد للناس ما يسعهم إلا أن أدخل على أهل كل بيت عدتهم فيقاسموهم أنصاف بطونهم حتى يأتي الله بالحيا

_ 1 انظر ابن الجوزي، سيرة عمر بن الخطاب، المطبعة التجارية الكبرى بالقاهرة. طبعة بدون تاريخ، ص101 وما بعدها.

"أي المطر" لفعلت، فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم"1 ومؤدى ذلك هو تأكيد ما استخلصناه بأنه في الظروف غير العادية كحرب أو مجاعة يتساوى المسلمون في حد الكفاف، وفي الظروف العادية يتساوى المسلمون من حيث توفير حد الكفاية، وما فوق ذلك يكون لكل تبعا لعمله. وأيًّا كان الأمر، فإنه على نحو ما كشفنا عنه من واقع نصوص القرآن والسنة لا يسمح الإسلام بالثروة والغنى مع وجود الفقر والحرمان، وإنما يبدأ الغنى والتفاوت فيه بعد كفالة "حد الكفاية" أي المستوى اللائق للمعيشة لا مجرد "حد الكفاف" أي المستوى الأدنى للمعيشة، وذلك لكل فرد يعيش في مجتمع إسلامي أيًّا كانت جنسيته أو ديانته أي بوصفه إنسانًا وباعتبار ذلك حق الله الذي يعلو فوق كل الحقوق. وإنه على خلاف سائر السياسات والفلسفات الروحية، يدعو الإسلام إلى المادة والرخاء الاقتصادي، بل يعتبر

_ 1 انظر المرجع السابق، وكذا الطبقات الكبرى لابن سعد، الجزء الثالث ص316.

الإسلام الغنى واليسر المادي، هو أساس التقدم والسمو الروحي. ذلك أن صحة الأبدان في الإسلام مقدمة على صحة الأديان؛ إذ لا يمكن أن نتوقع من محروم مضيع أو جائع مشرد سوى الرذيلة والانحراف. لذلك جاء الإسلام منذ أربعة عشر قرنا، في عصر الجاهلية والعبودية والضياع، ضامنًا منذ البدء لكل فرد حد "الكفاية" لا "الكفاف" تكفله له الدولة كحق إلهي مقدس يعلو فوق كل الحقوق، ثم سمح بعد ذلك للفرد أن يثري ويغتني لكل حسب جهده وعمله. فالمال في الإسلام هو زينة الحياة الدنيا وأنه نعم العون للعبد الصالح، وأنه بقدر ما ندد الإسلام بالفقر وأنه كاد أن يكون كفرًا بل الفقر والكفر يتساويان، نجده يدعو إلى المال والغنى وبحيث لا تنفرد فئة قليلة بالثروة بل يعم الخير الجميع، ويعتبر السعي على الرزق من أفضل ضروب العبادة، وبل يعان المرء من مال الزكاة لاستكمال حاجته الضرورية بما في ذلك الزواج ولا يعان من مال

الزكاة للانقطاع للعبادة1. ولعل أدق تصور للثروة والتوزيع في الإسلام، قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا بأس بالغنى لمن اتقى" 2. وقوله: "تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" 3.

_ 1 انظر كتابنا الرابع من سلسلة الاقتصاد الإسلامي، والمعنون "الإسلام والضمان الاجتماعي، مرجع سابق ص63. 2 الحاكم في مستدركه. 3 البخاري ومسلم.

التفاوت المنضبط أو المتوازن

2- التفاوت المنضبط أو المتوازن: أساس الثروة والغنى في الإسلام، هو العمل، فالله تعالى إذ يقول: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} 1. وإذ يقول تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} 2، نجده تعالى يقول: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 3، ويقول تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، دَرَجَاتٍ

_ 1 الزخرف: 32. 2 النحل: 71. 3 الأحقاف: 19.

مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} 1. وعليه فإنه على ما سبق الإشارة إليه، اغتناء الناس وتفاوتهم في أرزاقهم ومعيشتهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات وتفضيل بعضهم على بعض، ليس في الإسلام اعتباطًا، وإنما هو بقدر ما يبذلونه من جهد وعمل صالح. وصدق الله العظيم {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} 2، وقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 3 أي أكثركم عملا صالحا أو نافعًا إذ "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس" 4. وإذا كان الناس يتفاوتون في كفايتهم وفي مقدار ما يبذولونه من جهد، فإنه من الطبيعي أن يتفاوتوا في مقدار ما يحصلونه من دخل ويكونونه من ثورة فالتفاوت في الدخول والثروات، هو ما يقره الإسلام

_ 1 النساء: 95، 96. 2 النجم: 39-41. 3 سورة الحجرات: 13. 4 يقول الحديث النبوي "الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله".

باعتباره أمرًا طبيعيًّا، وباعتباره حافزًا على الجد والعمل؛ إذ لو تساوى الجميع في توزيع الثروة أو تقاضي كل الأفراد دخولًا متقاربة لما عني أحدهم بزيادة جهده. إلا أن التفاوت الذي يسمح به الإسلام هو التفاوت المنضبط أو المتوازن: أي بالقدر الذي يحفز على العمل، ويحقق التكامل لا التناقض، والتعاون لا الصراع، وبعبارة أخرى بالقدر الذي لا يكون فيه التفاوت مخلًّا، بأن يكون المال متداولًا بين فئة قليلة من الناس أو أن تستأثر أقلية بخيرات المجتمع، مما يفقده توازنه ويمحق تماسكه. وأنه بذلك يتميز الاقتصاد الإسلامي عن سائر المذاهب والنظم الاقتصادية الوضيعة سواء منها: أ- المذهب الفرد والنظم الرأسمالية المتفرعة عنه: والتي تطلق من شأن التفاوت مما يؤدي إلى استئثار الأقلية القوية بكل خيرات المجتمع وضياع الأغلبية الكادحة المغلوبة على أمرها، ويخلق الطبقية والاغتراب ويولد الكراهية والحسد والصراع وسائر المساوئ.

ب- المذهب الجماعي والنظم الاشتراكية المتفرعة عنه: والتي تحرص على تغذية الكراهية والصراع بين الطبقات، وتسعى إلى تحقيق المساواة الفعلية مضحية بالمبادرة والباعث الشخصي. وأخيرًا وبعد ضياع وتخبط طويل، وبعد تضحيات ومآس على مدى القرون، يعود العالم ليتنبه إلى ما سبق أن قرره الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا، من ضرورة حفظ التوازن الاقتصادي سواء بين الأفراد على المستوى المحلي أو بين الدول على المستوى العالمي، وترتفع اليوم الأصوات مجمعة على ضرورة إعادة توزيع الثروة والدخل على نحو يخفف حدة الصراع والتناقض، فهذا مكنمارا رئيس البنك الدولي في كتابه الصادر سنة 1973م بعنوان "مائة دولة وألفا مليون نسمة" يدق ناقوس الخطر منبهًا بأن ما يقرب من ثلثي البشر يعيش الفرد منهم بأقل من نصف دولار يوميًّا ويعاني الكثير منهم من أمراض سوء التغذية، بينما تستهلك الدول الصناعية المتقدمة من

موارد العالم بالنسبة للفرد بمعدل يزيد عن عشرين مرة عن مثيله في الدول النامية، ويقرر بأنه "حين يكون أصحاب المزيا الكثيرة قلة محدودة، ومن يعانون الفقر والحرمان كثرة غالبة، وتتسع الهوة بين الفريقين بدلا عن أن تضيق، فالقضية لا تعدو إلا أن تكون قضية وقت يجب بعده اتخاذه خيار حاسم بين التكلفة السياسية للإصلاح والمخاطر السياسية للتمرد"1. ويؤكد تشينري نائب رئيس البنك الدولي في كتابه الصادر سنة 1974م بالاشتراك مع مجموعة من كبار الاقتصاديين بعنوان "إعادة التوزيع مع النمو" على ضرورة ربط التنمية بعدالة "التوزيع"، وأن إعادة توزيع الثروة والدخول على المستويين القومي والعالمي -وذلك على نحو رشيد- يؤدي حتمًا إلى رفع معدل النمو فضلًا عن ضمان استمراره2.

_ 1 انظر ص112 من كتاب ماكنمار المشار إليه. Mchinamare "Robert"" One Hundred Countries, Tow Billion People" The Deimension of Development, Publichers. N.Y. 1973. 2 انظر مؤلف تشينري وآخرين المعنون "إعادة التوزيع مع النمو". Chenery, Hollis et al, "Destribution With Prouth". AJoint Study By The World Bank Research Centre, Press 1974.

شعار عدالة التوزيع: لم يعد اليوم شعار عدالة التوزيع قاصرًا على مذهب أو فكر معين، بل شمل كافة المذاهب الاقتصادية والمدارس الفكرية، يمينية كانت أو يسارية، ذلك أنه لم يعد يثور الخلاف بينهما حول مبدأ أو ضرورة تقريب الفوارق وحفظ التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع ودول العالم، وإنما حول كيفية أو أساليب تحقيق أو حفظ ذلك التوازن. فبينما ترى الكتلة الغربية الرأسمالية بزعامة أمريكا أن ذلك يتم عن طريق السياسات الضريبية والاتفاقية، ترى الكتلة الشرقية الاشتراكية بزعامة روسيا أن ذلك يتم عن طريق سياسات التأميم وسيطرتها المنفردة على موارد وخيرات العالم. هذا وفي الطبعة الثانية من كتابنا الرابع من سلسلة الاقتصاد الإسلامي والمعنون "الإسلام والضمان الاجتماعي" عالجنا بإسهاب موضوع زكاة البترول وهي شرعًا بواقع 20% من ناتج البترول، موضحين بما فيه الكفاية كيف يمكن لزكاة البترول والتي تقدر اليوم بالبلايين أو

المليارات من العملات الصعبة، أن تلعب دورها الفعال في القضاء على الفقر على مستوى العالم الإسلامي، وتحقيق عدالة التوزيع بين المجتمعات الإسلامية التي لا تعرف بينها حدود أو جنسية، وبالتالي تحقق توازنها واستقرارها وتقدمها الاقتصادي والحضاري1.

_ 1 انظر الطبعة الثانية 1402/ 1982 من كتابنا الإسلام والضمان الاجتماعي، لناشره دار ثقيف للتأليف والنشر بالمملكة العربية السعودية، ص67 وما بعدها.

أساليب الإسلام في حفظ التوازن الاقتصادي

3- أساليب الإسلام في حفظ التوازن الاقتصادي: وإذ استلزم الإسلام عدالة التوزيع منكرًا التفاوت الفاحش في توزيع الثروة، فقد كان له ثلاثة وسائل رئيسية لضبط التفاوت وحفظ التوازن الاقتصادي سواء بين الأفراد على مستوى المجتمع أو بين الدول على مستوى العالم، أعرض لها باختصار فيما يلي: أ- عدم السماح بالثروة والغنى إلا بعد ضمان حد الكفاية لا الكفاف: لكل فرد أيًّا كانت جنسيته أو ديانته، فضلا عن عدم السماح كلية بكنز المال أو حبسه عن التداول، أو إنفاقه في سرف أو ترف، مما سبق بيانه. ب- عدم السماح باستئثار أقلية بخيرات المجتمع: فإن قوام المجتمع الإسلامي هو العدل والمحبة والتعاون، وإن التفاوت الفاحش في توزيع الثروة واستئثار أقلية بخيرات المجتمع، يتنافى والعدل بل يؤدي إلى الجور وتحكم الأغلبية واستبدادها، كما يولد الكراهية والحسد في نفوس الأكثرية الكادحة، ويخلق الطبقية والتحكم والصراع، مما يقضي على الانسجام بين أفراد المجتمع على المستوى المحلي وبين الدول على المستوى العالمي، فهو فساد وإفساد من جميع الأوجه ولكافة الأطراف، أغنياء كانوا أو فقراء ومتقدمين كانوا أو متخلفين، لذلك جاء النص

القرآن صريحا بقوله تعالى {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} 1، بمعنى أنه لا يقبل في الإسلام أن يكون المال متداولًا بين فئة قليلة من الناس، كما جاء النص النبوي صريحًا بقوله صلى الله عليه وسلم: " تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" 2. ج- إعادة التوزيع عند افتقاد التوازن: وانطلاقا من ذات المبدأ أو الأصل الاقتصادي الإسلامي في شأن التفاوت المنضبط أو حفظ التوازن الاقتصادي، تعين على المشرع الإسلامي أو الحاكم، أو ولي الأمر، أو أهل الحل والعقد التدخل من وقت لآخر لإعادة هذا التوازن عند افتقاده. وهو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة؛ إذ ظهر اختلال في المراكزالاقتصادية بين المهاجرين والأنصار بعد أن ترك المهاجرون أموالهم بمكة بينما كان الأنصار بالمدينة وأساس ثروتهم هو

_ 1 الحشر: 7. 2 أخرجه الشيخان البخاري ومسلم.

الزراعة ولبعضهم أراض واسعة استخدموا فيها المهاجرين كأجراء وهو ما لا يحقق التوازن الاقتصادي، ومن ثم حرم الرسول عليه الصلاة والسلام تأجير الأرضي الزراعية بقوله: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه ولا يؤجرها إياه" 1 حتى إذا ما استقرت الأمور بالمهاجرين وتحسنت أحوالهم المادية أجاز الرسول عليه الصلاة والسلام تأجير الأراضي الزراعية. وهو ما فعله أيضا الرسول صلى الله عليه وسلم، حين قصر توزيع فيء بني النضير على المهاجرين واثنين فقط من الأنصار كانوا فقراء وتوافرت فيهما نفس الحكمة التي أوحت بتخصيص هذا الفيء للمهاجرين وهي إعادة التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع2. - وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب عند فتح الشام والعراق، أراد المحاربون قسمة الأرضي المفتوح عليهم

_ 1 أخرجه أبو داود. 2 انظر الدكتور علي عبد الرسول، المبادئ الاقتصادية في الإسلام، طبعة دار الفكر العربي سنة 1969، ص105 وما بعدها.

بدعوى أنها تأخذ حكم الغنائم. فرفض ذلك سيدنا عمر رضي الله عنه، لما سيؤدي إلى استئثار أقلية بثروات خيالية وبالتالي إلى اختلال التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع، وقد انتهى الصحابة إلى الأخذ بوجهة نظره بأن حكم الغنائم هو في الأموال المحددة قيمتها من المنقولات، بخلاف الأمر في العقارات والأموال الكبيرة كالأرضي المفتوحة فإنها تكون وقفًا للمسلمين جميعًا أي ملكية عامة للدولة لا ملكية خاصة للمحاربين، وما بقاؤها في أيدي أصحابها الأصليين إلا من قبيل الانتفاع مقابل دفع خراج لبيت المال أي أجرة الأرض1. والتزامًا بنفس المبدأ، كتب الخليفة عمر بن الخطاب إلى عامله على أرض الحمى قائلًا "ادخل رب الصريمة ورب الغنيمة -أي صاحب الإبل القليلة والغنم القليل- ودعني من نعم ابن عفان ونعم ابن عوف، فإنهما إن هلكت

_ 1 انظر ابن الجوزي، سير عمر بن الخطاب، مرجع سابق، ص154 وما بعدها. انظر أيضًا كتابنا "المدخل إلى الاقتصاد الإسلامي"، الجزء الأول، طبعة سنة 1972، مرجع سابق، ص125، وما بعدها.

ماشيتهما رجعا إلى نخل وزرع، وإن هذا المسكين إن هلكت ماشيته جاء يصرخ يا أمير المؤمنين"1. وروي أنه حين أقطع الخليفة أبو بكر الصحابي طلحة بن عبيد الله أرضًا وكتب له بها كتابًا وطلب منه أن يشهد عليه سيدنا عمر بن الخطاب رفض رضي الله عنه قائلًا: "أهذا كله لك دون الناس" فلما رجع طلحة إلى أبي بكر متسائلا: أيكما الخليفة رد عليه أبو بكر بأنه عمر2. - وفي أواخر أيام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين بدأت تظهر طبقة من كبار الأثرياء في شبه الجزيرة العربية وخارجها، ولم يمتد به الأجل ليواجهها بما عرف عنه من حسم حيث طعن تلك الطعنة التي قضي بها، نقل عنه كلمته المشهورة "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول الأغنياء فرددتها على الفقراء" وقوله: "والله لئن بقيت إلى الحول، لألحقن أسفل الناس

_ 1 انظر الأموال لأبي عبيد، مرجع سابق، ص418. 2 المرجع السابق، ص391.

بأعلاهم"1، ولكن القدر لم يمهله وخلفه سيدنا عثمان بن عفان. وقد تفجرت المشكلة الاقتصادية بصورة عنيفة، مما دعا الصحابي أبا ذر الغفاري إلى التصدي للوضع والمناداة باسم الإسلام بأنه لا يجوز لمسلم أن يمتلك أكثر من حاجته وما زاد فيجب إنفاقه كله في سبيل الله2. ولعله من أهم أسباب تفكك الدولة الإسلامية، تلك السياسة التي جرى عليها متأخرو خلفاء بني أمية، من حيث استئثارهم دون سائر المسلمين بكثير من الثروة، واتجاههم في معيشتهم إلى البذخ والترف. وزاد الأمر سوءًا، أن بدأ يضعف التكافل التلقائي للمجتمع الإسلامي بضعف الوازع الديني عن تعاليم الإسلام.

_ 1 انظر ابن الجوزي، سيرة عمر بن الخطاب، مرجع سابق، ص58، 154, - وانظر أيضًا الدكتور سلمان محمد الطماوي، عمر بن الخطاب وأصول السياسة والإدراة الحديثة، الطبعة الأولى سنة 1969، لناشره دار الفكر العربي بالقاهرة وكذا الدكتور محمد حسنين هيكل، الفاروق عمر، ص35. 2 انظر تقويمنا لرأي الصحابي أبي ذر الغفاري في كتابنا الأول من سلسلة الاقتصاد الإسلامي، والمعنون السياسة الاقتصادية الإسلامية، ص46، 47.

الفرع الخامس: الإسلام والطبقات الاجتماعية

الفرع الخامس: الإسلام والطبقات الاجتماعية 1- مدلول الطبقة الاجتماعية: تختلف المفاهيم في مدلول اصطلاح الطبقة الاجتماعية: أ- المفهوم التقليدي: الطبقة الاجتماعية هي مجموعة من الأفراد تتميز عن غيرها في مدى ما تتمتع به من نعم مادية بسبب وفرة ما لديها من أموال، سواء نتيجة ملكية "وراثة" أو عمل "جهد". ب- المفهوم الماركسي: الطبقة الاجتماعية هي مجموعة من الأفراد تجمعهم بصفة خاصة مركزهم من ملكية وسائل الإنتاج ودورهم في العمل الاجتماعي، وترتبط الطبقات الاجتماعية إما بعلاقات عدائية عندما تحصل على نصيب من الثروة الاجتماعية على حساب طبقة أخرى كالعلاقة بين ملاك وسائل الإنتاج "البورجوازيين" والأجراء "البروليتاريا".

وإما بعلاقات غير عدائية وتكون بين طبقات غير مستغلة لطبقات أخرى كالعلاقة بين العمال والفلاحين. ولا يعتبر العداء بين الطبقات في نظر الماركسيين شرًّا محضًا، بل هو من حتميات التطور الاجتماعي وأهم دوافعه، ومن ثم يجب تغذيته حتى تحل طبقة العمال محل الطبقة البورجوازية وهو مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية1. ج- رأي الإسلام: ولا يسلم الإسلام بالمفهوم التقليدي من حيث تقسيمه المجتمع إلى طبقات متميزة بسبب المال. كما يرفض الإسلام كلية المفهوم الماركسي سواء في تصوره للطبقات الاجتماعية أو تغذيته للصراع بينها.

_ 1 انظر الدكتور زكريا أحمد نصر، تطور النظام الاقتصادي، دار النهضة العربية بالقاهرة الطبعة الثانية سنة 1965م، ص435، 436.

الإسلام لا يقر الطبقية

2- الإسلام لا يقر الطبقية: وإن إقرار الإسلام للتفاوت في الثروة والدخول ليس معناه، كما تصور البعض خطأ، أن الإسلام يقر الطبقية، وذلك لما سبق أن بيناه: أ- الإسلام لا يسمح بالثروة والغنى إلا بعد القضاء على الفقر والحاجة: بضمان حد الكفاية لا الكفاف لكل فرد. بمعنى أنه إذا عجز أي فرد يتواجد في مجتمع إسلامي، أيا كانت جنسيته أو ديانته، أن يوفر لنفسه المستوى اللائق للمعيشة، بسبب خارج عن إرادته كمرض أو عجز أو شيخوخة، فإن نفقته تكون واجبة في بيت مال المسلمين أي في خزانة الدولة. ب- الإسلام لا يسمح بالتفاوت المطلق في الثروة والدخول: إن الإسلام لا يسمح بأي حال من الأحوال أن يكون التفاوت في الثروة والدخول مطلقا بحيث يخل بالتوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع ودول العالم، وإنما هو حسبما

سبق بيانه تفاوت منضبط بالقدر الذي يحض على العمل ويوفر الباعث ويشجع المبادرة والإبداع، وبما يحقق التكامل لا التناقض والتعاون لا الصراع، وإنه يتعين على أولي الأمر التدخل لإعادة التوزيع كلما افتقد هذا التوازن. ج- الإسلام لا يسمح أن تستأثر أقلية بخيرات المجتمع: بل أن يعم الخير الجميع. كما أنه لا يسمح كلية بممارسة أية صورة من صور الترف أو البذخ المفضي إلى البطر، ولا صرف المال في غير موضعه مما يسمى بلغة اليوم الإنفاق المبدد أو الاستهلاك الاستفزازي. د- الناس جميعًا في نظر الإسلام سواء: دون تمييز من جنس أو وطن أو مال أو حسب أو جاه ... إلخ، فالعامل الوحيد المميز بين الناس في نظر الإسلام هو التقوى لا المال، أي العامل الإنساني "الطبيعي" لا العامل الاجتماعي "المصطنع"؛ إذ يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 1، ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "الناس سواسيه كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" 2

_ 1 الحجرات: 13. 2 رواية الشيخان البخاري ومسلم.

مفهوم التقوى كعامل تمييز

3- مفهوم التقوى كعامل تمييز: ومفهوم التقوى باعتبارها العامل الوحيد المميز بين الناس في الإسلام، ليس كما تصوره البعض خطأ كالإمام الغزالي بأنه "الإعراض عن الحياة والمال، والهروب من الشواغل والعوائق، وقطع علاقة القلب عن الدنيا والإنابة إلى دار الخلود"1. فليس ذلك من التقوى أو من الإسلام، الذي جاء إيجابيًّا لا سلبيًّا، واجتماعيًّا لا انعزاليًّا، ولم يسئ إلى الإسلام إلا بمثل هذه الأفكار الهادمة المعوقة2.

_ 1 انظر الدكتور زكي مبارك، الأخلاق عند الإمام الغزالي، طبعه دار الشعب بالقاهرة سنة 1971م، ص62. 2 انظر كتابنا المدخل إلى الاقتصاد الإسلامي، الجزء الأول، طبعة 1972م، مرجع سابق، ص132.

مفهوم التقوى في الإسلام، هو العمل الصالح، المتمثل في إتقان المرء عمله "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه" 1، وفي حسن الأخلاق وصدق المعاملة فقد سئل الرسول عليه الصلاة والسلام عن أحسن عباد الله فقال: "أحسنهم خُلقًا" 2. وتتمثل التقوى في صورتها الروحانية المثلى في تعمير الكون وتنمية الحياة، ذلك أن الإنسان هو خليفة الله في أرضه {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 3، وأنه تعالى سخر له كل شيء {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 4، فيجب أن يرتفع إلى مستوى هذه الخلافة بأن يعمر الدنيا ويحييها ويسخر طاقاتها لخدمته حامدًا الله؛ إعمالًا لقول الله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} 5، أي كلفكم بعمارتها، وهو يباشر ذلك كله باسم

_ 1 رواه البيهقي. 2 رواه الطبراني. 3 البقرة: 30. 4 الجاثية: 12. 5 هود: 61.

الله سبحانه ذاكرًا إياه في كل لحظة مسبحًا بحمده شاكرًا فضله، خاشيًا غضبه وانتقامه ملتمسا رضاه وتوفيقه1، وصدق الله العظيم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 2. وصدق رسوله الكريم "العمل عبادة" 3، وقوله عليه الصلاة والسلام: "ما عبد الله بمثل عمل صالح" 4، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم، ولكنه ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 5. والتقوى في الإسلام هي الإيمان المقرون بالعمل الصالح {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة} 6، فهي نهج وأسلوب في الحياة أساسه

_ 1 انظر كتابنا ذاتية السياسة الاقتصادية الإسلامية، طبعة سنة 1978م، مرجع سابق، فقرة "كيف يكون النشاط الاقتصادي روحيًّا في الإسلام"، ص52 وما بعدها. 2 الذاريات: 56-58. 3 حديث مشهور. 4 رواه السيوطي والطبراني. 5 رواه مسلم. 6 البينة: 7.

العمل النافع المقرون بالإحساس بالله تعالى، وابتغاء وجهه1. وصدق الله العظيم {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} 2، وقوله سبحانه: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} 3، وقوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 4. وصدق الرسول الكريم "الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل" 5، وقوله عليه الصلاة والسلام: "رهبانية الإسلام، الجهاد في سبيل الله" 6 وسبيل الله هو دائما أبدًا سبيل المجتمع وخدمة الناس على أن يكون ذلك ابتغاء وجه الله لا وجه الشهرة أو السيطرة.

_ 1 انظر كتابنا ذاتية السياسة الاقتصادية الإسلامية، مرجع سابق، ص56 فقرة "مفهوم الروحانية في الإسلام". 2 البقرة: 148. 3 الإسراء: 72. 4 النحل: 32. 5 رواه الديلمي. 6 حديث مشهور.

المليونير الذى يعترف به الإسلام

4- المليونير الذي يعترف به الإسلام: حقا لقد كان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام أثرياء مما نسيمه بلغة اليوم "أصحاب الملايين" كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام، إلا أن كلا منهم "مليونير" بالمفهوم الإسلامي، أي ملتزم بحكم الشرع حيث إنه: أ- لا يملك أن يكنز ماله أو يحبسه عن التداول والإنتاج: لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} 1. أي أنه مطالب باستثمار ماله لصالح المجتمع.

_ 1 التوبة: 34، 35.

ب- لا يملك أن يصرف ماله على غير مقتضى العقل: وإلا عد سفيها وجاز عليه الحجر: لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} 1. أي أنه مطالب بالرشد في الإنفاق الشخصي. ج- لا يملك أن يعيش عيشة مترفة تؤدي إلى البطر: حتى لقد وصف الله تعالى المترفين بالإجرام بقوله سبحانه: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} 2. أي أنه مطالب بعدم الغلو في معيشته والاعتدال في حياته. د- وهو أخيرًا مأمور بأن ينفق كل ما زاد عن حاجته في سبيل الله: لقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 3، وقول رسول الكريم: "يابن آدام، إن

_ 1 النساء: 5. 2 هود: 116. 3 البقرة: 219.

تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك " 1، والعفو أو الفضل هو كل ما زاد عن الحاجة. فالإسلام لا يكتفي بفريضة الزكاة، بل يطالب القادرين أيضًا بفريضة الإنفاق في سبيل الله، وينذرهم في إغفالها بالتهلكة والحساب العسير إذ يقول تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 2، ولقوله سبحانه: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 3، ويقول عليه الصلاة والسلام: "السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، والبخيل بعيد عن الله، بعيد عن الناس، بعيد عن الجنة، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل" 4.

_ 1 رواه البخاري ومسلم. 2 البقرة: 195. 3 آل عمران: 180. 4 رواه الترمذي.

أي أن الثري في الإسلام يلتزم بالإنفاق في سبيل الله، أي في سبيل المجتمع، وليس مجرد الاكتفاء بأداء الزكاة، وتزداد مسئولياته كلما وسع الله عليه. وعليه أن يباشر ذلك تلقائيا بدافع من العقيدة وابتغاء مرضاة الله، وإلا حق للدولة التدخل وإلزامه بأداء هذه الفريضة على الوجه الذي تراه متفقا معها والصالح العام. ومؤدى ما تقدم أن المليونير الذي يعترف به الإسلام هو الذي يستثمر ماله كله لصالح المجتمع، مبتغيا في استثماره وإنفاقه وجه الله، مستشعرًا أن ماله أمانة ووديعة أودعها الله تعالى بيده، وأنها بلاء واختبار، ليس له إلا ما يسد حاجته بالحق دون استعلاء أو مخيلة ودون سرف أو ترف. وبعبارة أخرى، إن المليونير في الإسلام لا يملك أن يعيش في سرف أو ترف، وليس أمامه بالنسبة لماله الزائد عن حد الكفاية أو تمام الكفاية إلا أحد أمرين: أ- إما استثماره في مشروعات إنتاجية تعود بالنفع على المجتمع.

ب- وإما إنفاقه على الفقراء والمحتاجين وفي مشروعات خيرية: لقد كان المسلمون الأوائل يتسابقون في البحث عن كل محتاج لكفالته؛ ابتغاء وجه الله، بل لقد كان أثرياء المسلمين يسارعون في القيام بالتزامات الدولة ذاتها. فهذا عثمان بن عفان يقوم بتجهيز جيش العسرة، وهذا عبد الرحمن بن عوف يدفع كل ثروته لإعتاق الرقيق وسد حاجة كل طالب. ولم تكن المسارعة إلى البذل في سبيل الخير من شأن المكثرين وحدهم، بل كان ذلك أيضًا من المقلين حتى كان منهم من يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وفيهم نزل قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1.

_ 1الحشر: 9.

خاتمة

خاتمة: 1- تعتبر مشكلة توزيع الثروة بين الناس من أهم مشاكل المجتمع في كل عصر، إن لم تكن هي جوهر المشكلة الاقتصادية ذلك أنه إذا كانت التنمية الاقتصادية ووفرة الإنتاج هي الأساس والمفتاح لحل المشكلة الاقتصادية، فإنه لا قمية لهذا التنمية ولا معنى لهذه الوفرة، إذا لم تعم الجميع لتشمل كل فرد من أفراد المجتمع وكل دولة من دول العالم. لذلك اختلفت المذاهب والنظم الاقتصادية اختلافًا أساسيًّا في الحلول التي وضعتها لحل مشكلة التوزيع، ويرجع اختلاف تلك الحلول إلى اختلافها الأيدلوجي أي المذهبي في أسس التوزيع، مما يعبر عنه بعض الاقتصاديين باصطلاح "التوزيع الشخصي" أو "التوزيع النظري"، وما يستتبع ذلك من اختلافهما في مكافأة عناصر أو عوامل الإنتاج وتحديد ما يخص كل عنصر أو عامل في التوزيع، مما يعبر عنه بعض الاقتصاديين باصطلاح، "التوزيع الوظيفي" أو "التوزيع العملي".

2- ولقد وردت نصوص القرآن والسنة صريحة في الكشف عن المذهب الاقتصادي الإسلامي في مجال التوزيع والذي يقوم أولا على ضمان "حد الكفاية" لا مجرد "حد الكفاف" لكل فرد يعيش في مجتمع إسلامي، أيا كانت جنسيته أو ديانته كحق إلهي مقدس له كإنسان تضمنه له الدولة الإسلامية متى عجز أن يوفره لنفسه بسبب خارج عن إرادته كمرض أو شيخوخة، إذ كما ورد في القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} 1، ثم بعد ذلك يكون لكل تعبا لعمله وجهده إذ كما ورد في الحديث النبوي: "لا بأس بالغنى لمن اتقى". ولقد لخص الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سياسة التوزيع في الاقتصاد الإسلامي بقوله: "ما من أحد إلا وله في هذا المال حق: الرجل وحاجته.. الرجل وبلاؤه "أي عمله" ... " ثم قوله: "إني حريص على ألا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجزنا تأسينا في

_ 1 المعارج: 24، 25.

عيشنا حتى نستوي في الكفاف"، ومن ثم كان تحليلنا من واقع نصوص القرآن والسنة أن الإسلام لا يسمح بالثراء والغنى إلا بعد القضاء على الفقر والحاجة. وأنه في الظروف غير العادية كحروب أو مجاعات والتي تشح فيها موارد المجتمع بحيث لا يتوافر فيها "حد الكفاية" لكل مواطن فإنه يتأسى الجميع في "حد الكفاف" بحيث لا يحصل أحد أيا كان مركزه أو مكانته في المجتمع على أكثر من احتياجاته الضرورية. 3- وإذا كان التفاوت في توزيع الثروة والدخول، هو أمر طبيعي يقره الإسلام تبعا لاختلاف المواهب والقدرات، بل يعتبر ضرورة لإيجاد الحوافز وتحقيق التعاون والتكامل سواء على المستوى المحلي أو العالمي، إلا أن الإسلام يرفض بشدة التفاوت الفاحش في توزيع الثروة والدخل والذي تستأثر من خلاله فئة معينة من الأفراد أو دول معينة بالخير كله، مما يؤدي إلى تهميش الأغلبية وسلبيتها أو إلى اغترابها وإثارة حقدها وثورتها فضلا عن كافة المساوئ، وهو الأمر الذي نبه إليه القرآن الكريم بقوله

تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} 1. والواقع أن مشكلة الاقتصادي الوطني، هي أساسًا في اختلال التوازن، سواء في أسس توزيع الثروة بين أفراد المجتمع "أي ما اصطلح عليه بالتوزيع النظري أو الشخصي"، أم في مكافأة عناصر الإنتاج "أي ما اصطلح عليه بالتوزيع العملي أو الوظيفي". كما أن مشكلة الاقتصاد العالمي اليوم، هي أساسا في الهوة المتزايدة بين الدول النامية والدول المتقدمة. وفي عدم التكافؤ في التداول ببخس أسعار المواد الأولية والتغالي في أسعار المنتجات الصناعية وانتفاء أي علاقة عادلة بينهما. ولا يستهدف بصفة أساسية، أي تغيير أو إصلاح أو أي نظام اقتصادي جديد، سوى تحقيق التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع على المستوى المحلي، وتحقيق التوازن الاقتصادي بين دول العالم على المستوى العالمي. ولقد رأينا كيف أن الإسلام يتطلب التدخل سواء في مجال التوزيع الشخصي أي أسس التوزيع، أم في مجال

_ 1 الحشر: 7.

التوزيع الوظيفي أي مكافأة عناصر الإنتاج، بهدف تحقيق عدالة التوزيع من خلال إعادة التوازن الاقتصادي عند افتقاده ومن خلال ضبط التفاوت والتباين في التوزيع، وذلك كله بالقدر الذي يحقق هدفه، وهو التكافؤ والتعاون والتكامل، لا الاستغلال والصراع والتناقض. 4- وإذا كانت الاقتصاديات الوضعية رأسمالية كانت أو اشتراكية، تبني حساباتها في التوزيع على أساس أشكال الإنتاج السائدة في المجتمع، فهي التي تحدد أساس التوزيع وكيفيته، فإن الإسلام يرفض تلك التبعية أو الحتمية، فتراه يقرر منذ البدء أنه أيا كانت أشكال الإنتاج السائدة في المجتمع، فإنه يتعين أولا ضمان الحاجات "حد الغنى" أو "حد الكفاية" أي المستوى اللائق للمعيشة تمييزا له عن "حد الكفاف" أي المستوى الأدنى للمعيشة. فقضية التوزيع في الاقتصاد الإسلامي ليست قضية أشكال إنتاج أو أوضاع معينة للإنتاج تسود المجتمع بحيث تتطلب نظامًا معينًا للتوزيع يلائم سيرها أو نموها وبحيث يتغير التوزيع كلما تغيرت أو تطورت أشكال أو

أساليب الإنتاج، وإنما هي قضية إنسان له متطلباته أو احتياجاته التي يتعين أولا وقبل كل شيء إشباعها في إطار يحافظ على إنسانيته وينميها سواء كان هذا الإنسان في مجتمع متخلف يحرث الأرض بيده ويستخدم في إنتاجه الوسائل البدائية أم كان في مجتمع متقدم يصنع المواد الأولية ويستخدم في إنتاجه قوة البخار أو الكهرباء أو الذرة. 5- وعلى خلاف سائر الاقتصاديات الوضعية، يعالج الإسلام توزيع الثروة والدخول من زاوية أخرى هي زاوية استعمال الثروة أو الدخل، مما لا نجد له مثلا في أي مذهب أو نظام اقتصادي. فمثلا في ظل أي نظام اقتصادي رأسماليًّا كان أو اشتركيًّا، يستطيع المرء في ظل هذا النظام أن يكون ثروة وأن يكون بلغة اليوم "مليونيرًا" وأنه طالما كون ثروته بالطرق المسموح بها في هذا النظام فإن أحدًا لا يملك أن يحاسبه عن كيفية استخدام دخله أو التصرف في ثروته، بخلاف الأمر في الإسلام فإن هذا الثري ليس حرًّا في استعمال ماله كيفما شاء، بل هو مقيد بعدة قيود

فهو لا يستطيع مثلا أن يكتنز ماله أو يحبسه عن التداول والإنتاج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 1، وهو لا يستطيع أن يصرف ماله على غير مقتضى العقل وإلا عد سفيها وجاز الحجر عليه بقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} 2، وهو لا يستطيع أن يعيش عيشة مترفة وإلا عد بنص القرآن مجرمًا بقوله تعالى: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} 3. وهو بالتالي ليس أمامه بالنسبة لماله الزائد عن حاجته أو كفايته إلا أحد أمرين: أ- إما استثماره في مشروعات إنتاجية تعود بالنفع على المجتمع. ب- وإما إنفاقه على الفقراء والمحتاجين وفي مشروعات خيرية. نسأله تعالى التوفيق والسداد.

_ 1 التوبة: 34. 2 النساء:5. 3 هود: 116.

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب: الصفحة الموضوع 3 مقدمة للأستاذ الدكتور عبد الصبور مرزوق تمهيد: 17 1- التوزيع النظري أو الشخصي والتوزيع العملي أو الوظيفي 19 2- ارتباط التوزيع بأشكال الإنتاج 21 3- عدالة التوزيع في حفظ التوازن الاقتصادي 23 4- التفاوت المنضبط أو المتوازن 24 5- الإسلام والطبقية أو التحكم 27 خطة البحث 29 الفرع الأول: التوزيع النظري أو الشخصي أو المذهبي 35 أولا: التصور الإسلامي للمشكلة الاقتصادية 44 ثانيا: التشخيص الإسلامي لسبب المشكلة الاقتصادية 49 ثالثا: العلاج أو الحل الإسلامي للمشكلة الاقتصادية 79 الفرع الثاني: التوزيع العملي أو الوظيفي أو مكافأة عناصر الإنتاج 91 الفرع الثالث: العلاقة بين شكل الإنتاج وكيفية التوزيع أو أثر تطور أساليب الإنتاج على التوزيع 95 الفرع الرابع: حفظ التوازن الاقتصادي أو التفاوت المنضبط أو المتوازن 111 الفرع الخامس: الإسلام والطبقات الاجتماعية 125 خاتمة

§1/1