الإسلام وأوضاعنا القانونية

عبد القادر عودة

الطبعة الخامسة 1397 هـ - 1977 م.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

من نور كتاب الله

من نور كتاب الله: • {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. • {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. • {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]. • {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]. • {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 29]. • {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].

دعاء

دعاء الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله. اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شَيْئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه. أستغفر الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم. اللهم اغفر لنا ما سلف، ووفقنا إلى مرضاتك فيما يقبل. اللهم إنا نستعينك ونستهديك، فأعنا بفضلك، ووفقنا بهديك الكريم إلى صراطك المستقيم، واجعلنا على بصيرة من أمور دنيانا وديننا، ولا تكلنا طرفة عين إلى أنفسنا، ولا تجعلنا فتنة للظالمين. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، واربط على قلوبنا، وآتنا نصرك الذي وعدتنا

معذرة إلى القانون:

مَعْذِرَةً إِلَى القَانُونِ: وعليَّ بعد ذلك واجب أرجو أن أوَفَّق فيه، واجب الاعتذار إلى القانون، ومَن أوْلى مني بالاعتذار للقانون؟ ووظيفتي أن أقوم بتفسيره وتطبيقه والتمكين له وحياطته من العدوان والامتهان. إني أعتذر للقانون لأهاجم القوانين. أعتذر للقانون باعتباره معنى، وأهاجم من القانون النص والمبنى. معذرة إلى القانون إذا ما هاجمته وأنا من سدنته، أو كشفت للناس ما يخفى عليهم من حقيقته، أو فسرته تفسيرا يذهب بجلاله، ويهون على الناس من شأنه، ويغريهم بمناوأته. القانون يحرم علينا الكلام إن القانون يحرم على الموظفين وعلى الأخص القضاة أن يبدو رأيهم في المسائل العامة، ويعد ذلك منهم اشتغالا بالسياسة، والسياسة عند صانعي القانون هي كل ما يمس

المسائل الاجتماعية والاقتصادية والمالية، وكل ما تعلق بتنظيم الدولة وصلتها بالأفراد والجماعات والدول، وكل ما اتصل بنظام الحكم، بل كل ما اتصل باستقلال الدول وحريتها وكرامتها. إن صانعي القانون يريدون أن يجعلوا من الإنسان آلة، يريدون من القاضي أن يغمض عينيه فلا ينظر، وأن يصم أذنيه فلا يسمع، وأن يمسك لسانه فلا يتكلم، وأن يتجرد من إنسانيته فلا يحس ولا يشعر ولا يفكر. كيف يتجرد القاضي؟ وهل يستطيع القاضي أن يتجرد من الإحساس والشعور، ويتخلص من نعمة العقل والتفكير، وهو يعيش في وسط مشاكل الحكم والإدارة، وبين نضال الأحزاب والجماعات، وفي دوامة الاجتماع والسياسة، تطالعه في كل يوم مناظر الكادحين المحرومين، وتملأ سمعه أنات العاملين المظلومين، وتعرض عليه في كل صباح ألوان وضروب من الرِّق الاجتماعي، والإجحاف السياسي، والاستغلال المحرم! القاضي لا يتجرد في أمة محتلة وهل يستطيع القاضي أن يتجرد كما يشاء القانون في أمة محتلة، وُلد شيوخها وشبابها في ظل احتلال أجنبي لا يزال جاثمًا على صدرها، يحتل أرضها، ويسيطر على أرزاقها، وينهب أقواتها، ويضغط حريتها، ويتدخل في سياستها،

ويستعين على أبنائها الأحرار الأبرار بإخوان لهم باعوا نفوسهم للشيطان، وفتنهم عن دينهم ووطنهم الحكم والسلطان؟! هل يستطيع القاضي أن يتجرد في أمة أذلها الاحتلال، وأرهقتها الأغلال، وأفقرها المحتلون في مالها وأخلاقها، وبثوا الفساد في ربوعها، وأغروا العداوة والبغضاء بين أبنائها، وجعلوهم أحزابا متعددة كل حزب بما لديهم فرحون، تحسب كل حزب جَمِيعًا وقلوبهم شتى، بأسهم بينهم شديد، بدأوا حياتهم مجاهدين يكافحون الاحتلال، ويطالبون بالاستقلال التام أو الموت الزؤام، فلما ألقى إليهم المحتلون بكراسي الحكم ومغانمه تحلق هؤلاء المكافحون الأفذاذ حولها، وسالموا المحتلين على كل شيء غيرها، وانقلبوا بفضل هذه الكراسي أعداء يكافح بعضهم بعضا، ويأخذ بعضهم برقاب بعض، يسفكون دماءهم، وينهشون أعراضهم، ويقطعون أرحامهم. القاضي لا يتجرد في أمة كلها فوضى هل يستطيع القاضي أن يتجرد في بلد يسمح فيه بتعذيب المتهمين أشد العذاب ليعترفوا بما فعلوه أو بما لم يفعلوه، فتخلع أظافرهم، ويضربون مرة بعد مرة حتى يغمى عليهم، وتكوى أجسامهم بالنار، وتوشى بآثار السياط، ويمنع عنهم الدواء والطعام والماء، وتهتك أعراضهم فيوضع الحديد والخشب في أدبارهم، ويهَدَّدون بأن يفعل مثل هذا في أمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم، ويحتل الجنود بيوتهم أياما وأسابيع

وليس فيها إلا النساء، ثم يبلغ هذا كله أو بعضه للقائمين على القانون فلا يفعلون شَيْئًا، ثم تثار هذه الاتهامات أمام المحاكم ويرددها أكثر من متهم، وتؤيدها الأوراق الرسمية والكشوف الطبية فلا تحاول النيابة العامة أن تحقق في هذه الاتهامات الفظيعة لتحمي على الأقل سُمعة القانون وسمعة القائمين عليه. هل يستطيع القاضي أن يتجرد في بلد يعلم كل من فيه أنهم يعيشون في فوضى، وأن الحق للأقوى، وأن القانون المسكين إنما هو أداة لجر المغانم والترخيص بالمظالم، وأن وظائف الدولة وخيراتها مقصورة على الأنصار والمحسوبين والمنسوبين، وأن النفاق هو وسيلة النجاح في الحياة، وأن التحلل من الأخلاق والإباحية هو أول ما يقرب إلى ذوي النفوذ والجاه؟ هل يستطيع القاضي أن يتجرد في بلد يعيش في عهد الإقطاع، تقوم الحياة فيه على استغلال الأقوياء القاعدين للضعفاء العاملين، فالضعيف يشقى لينال اللقمة الجافة، ويكدح ليحصل على اللباس الخشن، بينما يتحول كدح الضعيف وشقاؤه ذهبا نضارا يصب في جيوب القاعدين المترفين، فيستحلونه لأنفسهم ويحبسونه عمن هو أحق به منهم، فإذا شكا الضعيف الكادح هذا الوضع، استُعينَ عليه بالحاجة طورا، واستُعينَ عليه بالقانون طورًا آخر، حتى برم الضعيف بضعفه وبالقانون، وبدأ يتمرد على الوضع الذي هو فيه وعلى القانون الذي يحميه.

القاضي لا يتجرد في أمة تنحرف عن الدين والخُلُق: هل يستطيع القاضي أن يتجرد في بلد إسلامي ينص دستوره على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام بينما يتنكر حكامه وحكوماته للإسلام، ويتنمرون لكل من يخدم الإسلام، ويطاردون من يتعاونون على البر والتقوى، ويحمون من يتعاونون على الإثم والعدوان؟ هل يستطيع القاضي أن يتجرد في بلد ينسلخ من الأخلاق وينحرف عن الفضائل، وينكر البر والتراحم، وينأى عن مُثُلِه العليا تشبها بسادته وكبرائه واقتداءً بمترفيه؟ متى يستطيع القاضي أن يتجرد؟ إن القاضي قد يستطيع أن يتجرد في أمة تحترم شرائعها، وتنفذ نصوص قوانينها، ويتواصى بالحق والعدل أفرادها، أما في أمة لا منطق لها، تتدين ولا تحترم دينها، وتقنن ولا تنفذ قوانينها، وتعلن أن شعارها الحق والعدل والحرية وما ذلك من شعارها، أما في أمة لا يتواصى أفرادها بالحق، ولا يدعون إلى الخير ولا يأمرون بمعروف ولا يتناهون عن منكر، أما في أمة هذا شأنها فإن القاضي لا يمكنه أن يتجرد ولو حرص على التجرد، لسبب واحد بسيط هو أنه لا يستطيع. فليغضب من شاء: إن أناسا ستحمر أنوفهم عندما يقرؤون هذا الكلام غضبا

وحِمية لأصنام العصر الحاضر، وما الأصنام إلا هذه القوانين التي هم عليها عاكفون، هذه القوانين التي يطيعها المسلمون فيما يغضب الله، وتُحرِّم بها الحكومات الإسلامية ما أحل الله، وتُحِل بها ما حرم الله. إنهم سيغضبون لأن كاهنا من كهنة هذه الأصنام قد عقها وكفر بها، وسيعجبون كيف أن قاضيا من خدام القانون يهاجم القانون ويكفر بالقانون، وسيتنادون من كل مكان أن خذوا على يد هذا الرجل قبل أن يحطم أصنامكم ويهدم نظامكم، ولكن هيهات. إنها ليست فكرة فرد ولكنه وعي أمة، إنه ليس نداء اللسان ولكنه نداء الإيمان، إنه الكفاح في سبيل الإسلام، إنه جهاد .. جهاد نتقرب به إلى الله.

أنا قاض ولكني مسلم

أَنَا قَاضٍ وَلَكِنِّي مُسْلِمٌ: ولو كنت قاضيًا غير مسلم لسبَّح لساني بحمد القانون كما يفعل الغربيون، ولو كنت قاضيا مسلما يجهل الإسلام لقلدت الأوروبيين وأظهرت الإيمان بالقانون، ولكني قاضٍ مسلم تهيأ له بفضل الله أن يعرف من الإسلام ما لا يعرفه قضاة كثيرون، وعلم من مخالفة القوانين الوضعية للإسلام ما لا يعلمه إلا القليلون. تجرد القاضي المسلم كُفر: إن القاضي المسلم يستطيع أن يتجرد كما يوجب عليه القانون في كل ما يمس المصالح الفردية، وكل ما يتصل بالمناورات الحزبية، أما ما يمس الإسلام ونظمه في التشريع والاجتماع والحكم، وما يمس العدالة الاجتماعية والقضائية، وما يمس الحقوق والواجبات، وما يمس الأخلاق والفضائل والمُثُل الإنسانية، وما يمس أمن الدولة في حاضرها ومستقبلها، أما هذا كله فلا يستطيع القاضي المسلم أن يتجرد فيه إلا إذا

كفر بالإسلام، وإلا إذا كان حيوانا يفكر كما يفكر الحيوان، ويأكل كما تأكل الأنعام. إن الدستور الأساسي للمسلم هو الشريعة الإسلامية، فكل قانون وضعي جاء متفقا مع نصوصها أو مسايرًا لمبادئها العامة أو روحها التشريعية فهو على العين والرأس يطيعه المسلم بأمر الله، وكل قانون جاء على خلاف ذلك فهو في الرغام وتحت الأقدام، ولا كرامة لما يخالف الإسلام، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله. وأي مسلم يأتي ما يعلم أنه مخالف للإسلام فهو فاسق، فإن أتاه مستحِلا إتيانه فهو مرتد عن الإسلام كافر بالله، ولا شك أن كل مسلم يكره لنفسه أن يتصف بإحدى هاتين الصفتين فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين الناس. لا طاعة على مسلم في معصية الله: والإسلام يوجب على المسلم أن يطيع الله ورسوله أولاً، وأن يطيع أُولِي الأَمْرِ ثَانِيًا، ولكن الإسلام يوجب على المسلم أن لا يطيع أحدًا في معصية الله فطاعة أولي الأمر لا تجب فيما يُخْرِجُ المسلم عن طاعة الله، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. فهذا النص يعطي الحكام حق الأمر، ويرتب على الأفراد

واجب الطاعة ولكنه يقيد الحق والواجب معًا ولا يطلقهما، فليس لآمر أن يأمر بما يخالف الإسلام، سواء كان المأمور موظفًا أو غير موظف، وذلك ظاهر من قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، ومن قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ»، وقوله: «مَنْ أَمَرَكُمْ مِنَ الوُلاَّةِ بِغَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَلاَ تُطِيعُوهُ». على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: والإسلام يوجب على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وذلك قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]. وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]. وقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]. وقوله: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79]. وقد جاءت أحاديث الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مبينة لهذه المعاني ومؤكدة لها، من ذلك ما روي عن أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال في خطبة خطبها: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَأُونَ هَذِهِ الآيَةِ وَتُؤَوِّلُونَ على خلاف تأويلها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ

أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ " مَا مِنْ قَوْمٍ عَمِلُوا بِالمَعَاصِي وَفِيهِمْ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلْ إِلاَّ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ"». وَقَالَ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «[لَتَأْمُرُنَّ] بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ، ثُمَّ يَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ». وَقَالَ: «مَا أَعْمَالُ البِرِّ عِنْدَ الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ كَنَفْثَةٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ، وَمَا جَمِيعُ أَعْمَالِ البِرِّ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ عِنْدَ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ المُنْكَرِ إِلاَّ كَنَفْثَةٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ». وَقَالَ: «أَفْضَلُ شُهَدَاءِ أُمَّتِي رَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ بِالمَعْرُوفِ وَنَهَاهُ عَنْ المُنْكِرِ فَقَتَلَهُ عَلَى ذَلِكَ فَذَلِكَ الشَّهِيدُ، مَنْزِلَتُهُ ' فِي الجَنَّةِ بَيْنَ حَمْزَةَ وَجَعْفَرَ». وَقَالَ: «بِئْسَ القَوْمُ قَوْمٌ لاَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ وَبِئْسَ القَوْمُ قَوْمٌ لاَ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَلاَ يَنْهَوْنَ عَنْ المُنْكِرِ». وقال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ». والأمر بالمعروف هو الترغيب في كل ما ينبغي قوله أو فعله طبقًا لنصوص الشريعة الإسلامية. والنهي عن المنكر هو الترغيب في ترك ما ينبغي تركه أو

ذلكم هو حكم الإسلام:

تغيير ما ينبغي تركه طِبْقًا للشريعة الإسلامية. ومن المتفق عليه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حَقًّا للأفراد يأتونه إن شاءوا، ويتركونه إن شاءوا، وليس مندوبًا إليه يحسن بالأفراد إتيانه وعدم تركه، وإنما هو واجب على الأفراد وليس لهم أن يتخلوا عن أدائه، وفرض لا محيص لهم من القيام بأعبائه. وقد أوجب الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتقوم الجماعة على الخير، وينشأ الأفراد على الفضائل، وتقل المعاصي والجرائم، فالحكومات تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والجماعات تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والأفراد يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وبذلك يستقر أمر الخير والمعروف بين الجماعة، وَيُقْضَى على الفساد والمنكر بتعاون الجميع على البر والتقوى، ومكافحتهم الإثم والعدوان. ذَلِكُمْ هُوَ حُكْمُ الإِسْلاَمِ: وهكذا يوجب الإسلام على كل مسلم عصيان الحكومات والحكام فيما يؤمر به من معصية الخالق، ويحرم الإسلام على كل مسلم أن يطيع قانونًا أو أمرًا يخالف شريعة الإسلام ويخرج على حدود ما أمر به الله ورسوله. وهكذا يوجب الإسلام على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيأمر بما أمر به الله، وينهى عما نهى عنه الله، ويوجب الإسلام على كل مسلم رأى منكرًا أن يغيره بيده

على كل مسلم أن يؤدي واجبه:

كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وإلا فبلسانه وقلمه، فإن لم يستطع فبقلبه، {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُؤَدِّيَ وَاجِبَهُ: هذا هو حكم الإسلام، وتلك هي سبيل المؤمنين، وقد أظلنا زمن فشا فيه المنكر وفسد أكثر الناس، فالأفراد لا يتناهون عن منكر فعلوه، ولا يأمرون بمعروف افتقدوه، والحكام والأفراد يعصون الله ويحلون ما حرم الله، والحكومات تسن للمسلمين قوانين تلزمهم الكفر وتردهم عن الإسلام، فعلى كل مسلم أن يؤدي واجبه في هذه الفترة العصيبة. ومن واجب كل مسلم سواء كان موظفًا أو غير موظف، قاضيًا أو غير قاض، أن يهاجم القوانين والأوضاع المخالفة للإسلام، وأن يهاجم الحكومات والحكام الذين يضعون هذه القوانين أو يتولون حمايتها وحماية الأوضاع المخالفة للإسلام، وعلى المسلمين في أنحاء الأرض أن يتعاونوا على تغيير القوانين والأوضاع المخالفة للإسلام وتحطيمها بأيديهم، فإن عجز أحدهم أو بعضهم عن الاشتراك في تحطيمها بيديه فعليه أن يسل عليها لسانه ويهاجمها بقلمه متعاونًا مع إخوانه الذين يستطيعون التغيير بأيديهم، فإن عجز أحد المسلمين أو بعضهم عن العمل أو القول الذي يهدم به القوانين والأوضاع المخالفة للإسلام،

فعليه أن يهدمها في نفسه، وأن يلعنها ويلعن القائمين عليها في قلبه. وكفى المسلمين أداءً لواجبهم ونجاحًا فيه أن يتعاون أقصاهم وأدناهم دَارًا، وأقواهم وأضعفهم إيمانًا، على تغيير المنكر وهدم هذه الأصنام والطواغيت. إن أول ما يجب على المسلم أن يتعاون فيه مع أخيه المسلم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله - جَلَّ شَأْنُهُ - يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. فليتعاون المسلمون على هدم هذه المنكرات الفاشية يُعِنْهُم اللهُ وَيَمُدَّهُمْ بِنَصْرِهِ، ويد الله مع الجماعة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. لِيُؤَدِّ كل مسلم واجبه في محاربة القوانين والأوضاع المخالفة للإسلام، وما على المسلم وهو يؤدي واجبه بأس مما يقوله أو يفعله الجاهلون، ما دام على بَيِّنَةٍ من دينه، وعلى يقين من أمر ربه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105].

وظيفة القانون

وَظِيفَةُ القَانُونِ: إني أعتذر للقانون وأهاجم القوانين، أعتذر للقانون باعتباره معنى، وأهاجم من القوانين النص والمبنى. إن القانون كمعنى ضرورة لا مفر منها للجماعة، وحاجة لا غنى عنها للبشر في هذه الحياة الدنيا، فبالقانون تنظم الجماعات، وتمنع المظالم، وتحفظ الحقوق، وتوزع العدالة وتوجه الشعوب. وحاجات البشر وضروراتهم هي التي خلقت القانون، وسوغت وجوده وشرعيته، وبررت احترامه وطاعته، فالجماعة تقتضيها الضرورة أن تنظم نفسها لتستفيد من مجهودات أفرادها، والجماعة تقتضيها الضرورة أن تمنع المظالم عن أفرادها وتحفظ حقوقهم وتوزع العدالة بينهم ليعيشوا في وئام وسلام متعاونين على ما يسعد الجماعة ويوجهها إلى الخير والكمال، والجماعة تقتضيها الضرورة أن توجه أفرادها توجيهًا مُعَيَّنًا ليأخذوا أنفسهم بعمل شيء لصالح الجماعة أو ليمتنعوا عن عمل ما لصالح الجماعة. وهكذا تسن القوانين سَدًّا لحاجات الجماعة وتلبية لضروراتها وحماية لصوالحها.

فالقانون إذن ليس شَيْئًا خارجا عن الجماعة أو مستقلا عنها، كما أنه ليس كما يتوهم البعض شَيْئًا أرفع منها، وما القانون في حقيقته إلا أداة أوجدتها الجماعة لخدمتها، ووسيلة تدفع بها الضرر عن أفرادها. ووظيفة القانون عامةً هي خدمة الجماعة وسد حاجتها، ولكل قانون على حدة، وظيفة يؤديها هي السبب في إيجادها، والدافع إلى تقنينه، ومهما اختلفت أنواع القوانين فإنها تهدف جَمِيعًا لخدمة الجماعة وإسعادها، فالقانون الذي يفرض التعليم الإجباري وظيفته خدمة الجماعة عن طريق نشر التعليم ومحاربة الأمية، والقانون الذي يعاقب على الجرائم وظيفته خدمة الجماعة عن طريق حفظ الأمن فيها ومحاربة الإجرام، والقانون الذي يمنع التظالم بين الناس وظيفته خدمة الجماعة عن طريق حفظ الحقوق الفردية وتوزيع العدالة وبث الطمأنينة بين الأفراد، وهكذا. وإذا كان كل قانون يستمد وجوده وشرعيته من حاجة الجماعة إليه، فإن كل قانون يستمد أهليته لخدمة الجماعة من قيام نصوصه على إسعاد الجماعة وسد حاجتها التي دعت إلى سَنِّ هذا القانون. وإذا كانت وظيفة القانون هي خدمة الجماعة وسد حاجتها، فإن كل قانون لا تحقق نصوصه هذه الوظيفة أو تخرج عليها يفقد مبررات وجوده ومسوغات مشروعيته، وإذا

فقد القانون مبررات وجوده ومسوغات مشروعيته فهو باطل لا يصح أن يطاع ولا يستحق أن يحترم. ولقد علمنا أن القانون في حقيقته ليس إلا أداة أوجدتها الجماعة لخدمتها ووسيلة تدفع بها الضرر عن أفرادها، فإذا تبين أن هذه الأداة لا تخدم الجماعة أو أنها تجلب الضرر على أفرادها، فالمنطق أن تنبذ هذه الأداة الفاسدة، وأن لا يحاول أحد استعمالها، لأن استعمالها معناه الخروج على الجماعة والإساءة إليها والتضحية بمنافعها ومصالح أفرادها.

أصول القانون

أُصُولُ القَانُونِ: قلنا فيما سبق إن القانون باعتباره معنى ضرورة لا مفر منها للجماعة، وحاجة لا غنى عنها للبشر، فبالقانون تنظم الجماعات، وتمنع المظالم، وتحفظ الحقوق، وتوزع العدالة، وتوجه الشعوب. ولكن نصوص القانون ومواد بنائه لا تمثل غالبًا هذه المعاني الرفيعة التي يختص بها القانون كمعنى، وإنما تمثل نصوص القوانين آراء الحكام وَالمُقَنِّنِينَ وَتَصَوُّرِ عقلياتهم، وَتُتَرْجِمُ عن أنانيتهم وشرههم، وتسجل عليهم سوء النية وسوء التفكير وتضحية المعاني الرفيعة إرضاء للأطماع وإشباعا للغرور. وللقانون - كمعنى - أصول متعارف عليها مُسَلَّمٌ بها توضع على أساسها نصوصه، وتدور عليها أغراضه، ولكن الحكام وصنائعهم من المقننين أفسدوا هذه الأصول وَشَوَّهُوهَا، واستبدلوا أخبث ما في نفوسهم بأكثر هذه الأصول وبأطيب ما فيها.

قانون كل أمة قطعة منها:

وأصول القانون متعددة ولكنها على تعددها يقصد منها أن تحقق الأغراض التي وُجِدَ القانون من أجلها، وأن يؤدي القانون وظيفته على أفضل الوجوه وأقربها إلى الكمال. وبين أصول القانون ووظيفته علاقة وثيقة، فإذا كانت وظيفة القانون هي خدمة الجماعة وَسَدِّ حاجتها فإن أصول القانون هي الأسس التي تقوم عليها خدمة الجماعة والمبادئ التي يرجع إليها في سَدِّ هذه الحاجات. قَانُونُ كُلِّ أُمَّةٍ قِطْعَةٍ مِنْهَا: والأصل الأول للقانون هو أن قانون كل أمة إنما يشتق منها، ويرجع إليها، إنه قطعة من ماضيها الطويل وحاضرها الماثل. إنه يمثل نشأتها وتطورها ويمثل أخلاقها وتقاليدها، ويمثل آدابها ونظمها، ويمثل دينها ومعتقداتها. وعلى هذا الأصل تختلف القوانين باختلاف الشعوب، فالقانون الياباني يختلف عن القانون الهندي بقدر ما يختلف الشعب الياباني عن الشعب الهندي في النشأة والتطور والأخلاق والتقاليد والآداب والنظم والدين والمعتقدات، والقانون الإنجليزي يختلف عن القانونين الياباني والهندي بقدر ما يختلف الشعب الإنجليزي عن الشعبين الياباني والهندي في كل ما سبق، والقانون الروسي يخالف كل ما سبق من القوانين بقدر ما بين الشعب الروسي والشعوب الأخرى من خلاف فيما ذكرنا من أوجه الخلاف، ومثل هذا يقال عن القانون الفرنسي والقانون الألماني وغيرهما من القوانين.

قوانيننا غريبة عنا:

وعلى هذا الأصل ينسب القانون للأمم والشعوب فيقال القانون الإنجليزي والألماني والياباني ... إلخ، ويثبت نسب القانون للأمة كلما ثبت ميلاده فيها أو اتصاله بتاريخها وتأثره بعاداتها وتقاليدها، ومسايرته لحالتها الاجتماعية والسياسية والدينية، وإذا ثبت انتساب القانون للأمة فقد ثبتت شرعيته وأهليته لحكمها، ولم تجد الأمة غضاضة في احترام القانون وطاعته، لأن الأمة في هذه الحالة إنما تحكم نفسها بنفسها، وتخضع لما تدين به من عاداتها وتقاليدها وآدابها ونظمها وعقائدها. ولهذا كله حرص المُقَنِّنُونَ في كل بلاد العالم إذا ما أخذوا لأمة من قوانين أمة أخرى على أن يُعَدِّلُوا ما يأخذونه حتى يأتلف مع قوانين الأمة الآخذة ويتفق مع أنظمتها؛ لأنهم يعلمون حق العلم أن إلزام أمة قانون أمة أخرى دون مراعاة لما بين الأمتين من تخالف معناه إلزام إحدى الأمتين التخلي عن عاداتها وتقاليدها وآدابها ومميزاتها ونظمها وشرائعها، بل قد يكون معناه إلزام إحدى الأمتين التخلي عن نظامها الاجتماعي والتفريط في دينها والتنكر لمعتقداتها. قَوَانِينُنَا غَرِيبَةٌ عَنَّا: ولكن هذا الأصل الأول للقانون أُهْمِلَ إلى حد كبير في القوانين الوضعية السارية في مصر وفي كثير من البلاد الإسلامية، فقد نُقِلَتْ القوانين الأوروبية بحذافيرها ودون تعديل يذكر إلى

القانون يوضع لحماية العقائد:

هذه البلاد، وجُعلت قوانين ملزمة في بلاد يسودها الإسلام ويحكمها منذ ثلاثة عشر قرنًا، وهي بلاد تتدين الغالبية الساحقة من سكانها بالإسلام، ويتعبدون بإقامة شعائره وأحكامه وعصيان ما خالفه من الأوامر والأحكام، وكان المعقول أن يفقه هذه المعاني ناقلو القوانين الأوروبية إلى البلاد الإسلامية، ولكنهم كانوا أناسًا لا فقه لهم ولا خير فيهم، فجاءت قوانينهم غريبة على البلاد الإسلامية لا تتصل بماضيها ولا بحاضرها ولا تمثل نشأتها ولا تطورها، ولا صلة لها بعادات أهل البلاد وتقاليدهم، ولا ينعكس عليها شيء من آدابهم وأخلاقهم، ولا مكان فيها لأديانهم وعقائدهم. إن قوانيننا - معشر المسلمين - غريبة عنا، نقلت إلى تربة غير تربتها، وجو غير جوها، وأناس لا صلة لهم بها، يرتابون فيها ويتجهمون لها، بل ينكرونها ويتقربون إلى الله بهدمها، إنها قوانين تبعث على الكفر، وأوضاع تحرض على الإلحاد، وأنظمة تؤدي إلى الإباحية والتحلل، وإنها لا تنتسب للإسلام بنسب، ولا تمت للبلاد الإسلامية بسبب، إنها قوانين لا تقوم على أصولها، ولا يرجع إلينا نسبها، إنها كأبناء السِّفَاحِ يولدون لغير أب وعلى غير فراش. القَانُونُ يُوضَعُ لِحِمَايَةِ العَقَائِدِ: والأصل الثاني للقانون أنه يوضع لصالح الجماعة، وسد حاجاتها، ونشر السلام والطمأنينة بين أفرادها، ومن أهم

حاجات الجماعة حماية عقائدها ونظامها واحترام تقاليدها وآدابها، وفي البلاد الإسلامية تتعبد الجماعة بالإسلام، ويقوم نظامها الاجتماعي على الإسلام، وترجع عقائد الكثرة الساحقة إلى الإسلام، وتصطبغ أخلاقهم وآدابهم وتقاليدهم بصبغة الإسلام، فكان المعقول (لو عقل الحكام والمقننون) أن تجيء القوانين في البلاد الإسلامية متفقة مع تعاليم الإسلام، مسايرة لعقائد المسلمين، محافظة على مشاعرهم، ولكن هذه القوانين جاءت مخالفة للإسلام متحدية للمسلمين، تسخر من عقائدهم، وتمتهن مشاعرهم، وتعبث بمقدساتهم، وتسلبهم حقوقهم وتحول بينهم وبين واجباتهم، وبذلك خرجت هذه القوانين الممقوتة على وظيفتها، وفقدت أهليتها وشرعيتها ومبررات وجودها بما فقدت من مقوماتها وبقيامها على غير أصولها واستهدافها غير غايتها. والعيب ليس عيب القانون المسكين، ولكنه عيب الناقلين الغافلين الذين غلبت عليهم الغفلة، ولم تسعفهم الفطنة، فنقلوا قوانين البلاد الأوروبية إلى البلاد الإسلامية دون أن يحسبوا حساب الفوارق الدينية والاجتماعية والتاريخية، ودون أن يدركوا أنهم بعملهم هذا قد حولوا القوانين عن طبيعتها، وصرفوها عن غايتها، وأنهم جعلوا من القوانين التي تُتخذ لإسعاد الجماعة ونشر الطمأنينة بين أفرادها قوانين تعمل على إيلام المشاعر، وإيغار الصدور، وتهدف إلى نشر الفوضى والاضطراب، وتجلب على الجماعة البؤس والشقاء.

القَانُونُ يُوضَعُ لِتَوْجِيهِ الشُّعُوبِ إِلَى الخَيْرِ: ومن أصول القانون أنه يوضع لتوجيه الشعوب إلى الخير والكمال، ولكن القوانين الأوروبية التي نقلت للبلاد الإسلامية توجه الناس إلى الشر والعدوان، وتدفع الشعوب إلى الفساد والدمار، وليس أدل على ذلك وأصدق من الواقع، فلقد كنا قبل هذه القوانين أحرص الناس على الخير وأقربهم إلى البر وأسرعهم إلى التعاون والتراحم، حتى جاءتنا هذه القوانين فدعتنا إلى التحرر من عاداتنا الكريمة وتقاليدنا المجيدة، وأغرتنا بالانطلاق من حكم الأخلاق الرفيعة والفضائل الإنسانية العالية، وحسنت إلينا الأنانية الممقوتة، وبثت فينا النزعة المادية الطاغية، وأقامت مجتمعنا على المنفعة والمصلحة، ودفعت الكثيرين منا إلى التحلل والإباحية، وأحالتهم من أناس يعيشون في مُثُلِهِمْ الرفيعة وأخلاقهم القرآنية، إلى حيوانات تخضع لغرائزها ووحوش تبحث عن فرائسها. القَانُونُ يَحْمِي الشُّعُوبَ مِنَ الاِسْتِغَلاَلِ: والأصل في القانون أنه يوضع لحماية الشعوب من الاستغلال ومن الاستعلاء ومن الإذلال، ولكن القوانين الوضعية القائمة في البلاد الإسلامية إنما وضعت لحماية المستعمرين، وتمكينهم من استغلال الشعوب الإسلامية، والاستعلاء على أبناء البلاد، وترويضهم على الذلة والمسكنة. ولنأخذ مصر مثلاً، ويندر في بلاد الإسلام ما لا ينطبق عليه هذا المثال ...

أَرْصِدَةُ مِصْرَ الاِسْتِرْلِينِيَّةُ: لقد خرجت إنجلترا من الحرب في سنة 1945م مدينة لمصر وحدها بحوالي خمسمائة مليون من الجنيهات، ذلك الدََّيْنُ الذي يسمى بالأرصدة الاسترلينية، أَفَتَرَى مصر كانت في غِنى عن هذا المبلغ الضخم حتى أقرضته إنجلترا؟ وهل استقرضت إنجلترا مصر فأقرضتها هذا المبلغ؟ لا هذا ولا ذاك والله! وإنما هو الاستغلال والغصب والسرقة على عين القانون وفي حمايته. إن القانون المصري يبيح للانجليز أن يستغلوا المصريين، وأن يغصبوهم أموالهم ويسرقوا اللقمة من أفواههم وبمعاونة القانون استطاع الإنجليز الحصول على الأرصدة الاسترلينية، ويستطيعون إذا شاءوا أن يحصلوا على أكثر منها. إن القانون المصري يبيح للبنك الأهلي (وهو في أصله مؤسسة انجليزية) إصدار النقود الورقية المصرية في مقابل رصيد من سندات الخزانة الانجليزية بدلا من الرصيد الذهبي، فليس على الإنجليز إذا ما أرادوا أن يسلبونا أموالنا إلا أن يستعينوا بقانوننا الذِي وُضِعَ لمصلحتهم فيعطوا البنك الأهلي سندات على الخزانة الانجليزية ليأخذوا ما شاءوا من الأموال المصرية، وما على القانون والقائمين عليه أن يجوع المصريون إذا شبع الإنجليز، وأن تفتقر مصر وتتأخر إذا ما أثرت إنجلترا وسادت.

وانتهت الحرب في سنة 1945م وبدأنا نطالب بسداد هذا الدين الضخم الذي لو كان في يد مصر لخلقها خلقًا جديدًا، ولكن إنجلترا أخذت تراوغنا، ويطلب بعض زعمائها أن نتنازل لها عما غصبته منا مقابل حمايتها لنا أيام الحرب، كأنما كنا طلبنا منها أن تحمينا، أو أن تبقى لحظة واحدة في بلادنا، أو كأنما كانت الحرب معلنة منا أو علينا. وأهم ما في الموضوع أننا لم نتعلم بعد، فلا يزال القانون هو القانون، ولا يزال الإنجليز يأخذون أموالنا في مقابل سندات لا نستطيع أن نحملهم على دفع قيمتها، فأي قانون هذا وأي رجال يقومون عليه؟! إن الإنجليز يسرقون ما نحن في أشد الحاجة إليه من طعامنا ولباسنا، وينهبون في كل صباح ما في أسواقنا من بقول وخضر وفواكه ولحوم، ولا يتركون لنا إلا القليل الذي ترفع الحاجة إليه سعره، فلا يناله إلا القادرون عليه، ويبقى الفقراء وأوساط الناس طاوين، يتحلب ريقهم على ما في أيدي الإنجليز والقادرين من المصريين، وإن الإنجليز ليستولون باستمرار على كل ما في أسواقنا من حديد وخشب وأسمنت وغير ذلك من المواد النافعة، ليقيموا بها منشآت لجنودهم، وبيوتًا فخمة لضباطهم، وكل هذا يأخذونه بلا ثمن يدفعونه من أموالهم، وبلا مقابل إلا سندات الخزانة الإنجليزية التي تتجمد كل يوم أرصدة يستحلون عدم

سدادها، ويمنون علينا أشد المَنَّ إذا وعدوا بسداد بعضها، وليس لذلك معنى إلا أن الإنجليز يسرقون أقواتنا، وينهبون منتجاتنا، ويفقرون بلادنا، محتمين بقانوننا، ومستغلين حكوماتنا. القَوَانِينُ المَصْرِيَّةُ فِي خِدْمَةِ الاِسْتِعْمَارِ: إن القوانين المصرية قامت على أساس خدمة الاستعمار ومحاباة الأجانب، وتمكين الجميع من امتصاص دماء الشعب المصري، وصرف المصريين عن طريق الخير، وإبقائهم إلى أطول وقت ممكن فريسة الجهل والضعف، وبالتالي فريسة للاستعمار والاستغلال. فالقوانين الجمركية والمالية التي تحمل اسم مصر، تأخذ من جيوب المصريين الفقراء، لتضخم جيوب الإنجليز الأثرياء، وقد لا يخطئ الإنسان كثيرًا إذا قال أن الهدف الأول لهذه القوانين هو حماية التجارة الإنجليزية، ولقد أتى علينا زمن كانت السلع الرخيصة تمنع فيه من دخول البلاد المصرية إذا كانت تزاحم برخصها سلعة إنجليزية، وكلنا يذكر أن السيارات وآلات الراديو وغيرها من البضائع اليابانية لم تستطع التغلب على الحواجز الجمركية المصرية بالرغم من أن سعرها ربما قل عن خمس ثمن ما يماثلها من البضائع الانجليزية. والقوانين المصرية تضع مصر أرضها وسمائها وجهود أبنائها وأموالهم في خدمة الاستعمار، فهذه القوانين تلزمنا

أن ننشئ الطرق ونعدها للإنجليز، وأن ننشئ السكك الحديدية وننفق عليها لصالح الإنجليز وأن ننشئ الموانئ ونوسعها لتأوي إليها مراكب الإنجليز، وأن نمد الخطوط التليفونية والتلغرافية لخدمة الإنجليز، وبالرغم من ذلك كله تدخل مصر إلى حاجات الجيوش الإنجليزية، وحاجات حلفائهم من عتاد حربي وطعام ولباس فلا تستفيد مصر منها مِلِّيمًا وَاحِدًا لأنها معفاة من الرسوم الجمركية، ويستعمل الإنجليز السكك الحديدية المصرية في نقل عتادهم وطعامهم وجنودهم استعمالاً يزيد عن طاقتها حتى تستهلك خطوطها وقاطراتها وعرباتها، ويستعملون كذلك خطوط التلغراف والتليفون حتى يدركها العطب، وبعد هذا كله يماطلون في دفع الأجر التافه الضئيل الذي يجود به الاستعمار الشحيح البخيل على هذا البلد الذليل، ويحبسونه عنا متعللين بأوهى الحجج وأسقم المعاذير. والقوانين المصرية تسمح للأجانب المثقفين الأغنياء أن يعاملوا بالربا المصريين الجهلاء الفقراء، فَتُحَوَّلُ أملاك المصريين وجهودهم ثروات في يد الأجانب، ويبوء المصريون بالفقر وَالدَّيْنِ وَالذُلِّ، وما كان يمكن أن يكون غير هذا ما دام أحد الفريقين قَوِيًّا بماله وعلمه، وثانيهما ضعيفًا بفقره وجهله، ولقد ترتب على هذا أن صارت مصر كعبة لشذاذ الآفاق والمغامرين والمرابين من الأجانب، وأن أصبحت كل ثرواتها تقريبًا في أيديهم، وأصبح الأجانب ممسكين بخيوط الحياة الاقتصادية في هذا البلد، فالبنوك والشركات للأجانب،

ورؤوس الأموال كلها تقريبًا للأجانب، والتصدير والاستيراد في يد الأجانب. ولقد كانت إباحة الرِّبَا نكبة ماحقة قضت على هذا البلد الإسلامي الذي يُحَرِّمُ دينه الرِّبَا، ذلك أن المسلم وإن اقترض مُضَطَرًّا قُرُوضًا ربوية يحرم على نفسه أن يقرض غيره أو يعامله على أساس الربا، فالمسلم المعسر يُسْرَقُ باستمرار ولا يستطيع أن يعوض ما سرق منه، وهو لهذا يظل في إعسار مستمر يقتضيه أن يقترض ويقترض حتى يستنفد الربا رأس ماله. والقوانين المصرية تبيح الخمر في بلد إسلامي يُحَرِّمُ دينه الخمر، ويوم أباحت الحكومة المصرية المسلمة الخمر لم يكن في مصر واحد في كل مائة يعرف ما هي الخمر، ولم يكن في مصر كلها شخص واحد يطالب بإباحة الخمر أو يشكو من تحريمها، لأن الدين الإسلامي إذا حرم الخمر على المسلم فإنه لا يحرمها على غير المسلم، ولكن الحكام المصريين المسلمين خرجوا على الإسلام وعصوا أحكامه لا لشيء إلا التقرب للأجانب وإرضاء الاستعمار أو لينفوا عن أنفسهم أشرف تهمة وهي تهمة التمسك بالإسلام والتعصب لأحكام الإسلام. وكذلك أباحت القوانين المصرية الزنا في بلد يُحَرِّمُ دينه الزنا، وتحرم أخلاق أهله الزنا، وتمنع تقاليدهم من إباحة الزنا، ولكن القانون خرج على الدين وعلى الأخلاق وعلى التقاليد وأباح الزنا وامتهان الدعارة ليقدم نساء المصريين

للأجانب وجنود الاحتلال كما قدم لهم الخمر، وهل تبخل الحكومات الإسلامية وقوانينها الفاسقة على الأجانب والمستعمرين بمتعة الخمر والنساء وقد قدمت لهم كل ما في البلد من أرض وماء وهواء وأموال وأقوات وكرامات؟!! والقوانين التي تقيد حريتنا في الانتقال والاجتماع والكتابة إنما وضعت لحماية الاستعمار، فنحن لا نستطيع أن ننتقل من بلد إسلامي إلى بلد إسلامي آخر إلا بشق الأنفس، بل قد لا نستطيع أن ننتقل من بعض البلد إلى بعضه الآخر كما هو الحال في الانتقال من مصر إلى السودان أو من شمال السودان إلى جنوبه. وقانون التجمهر وقانون المظاهرات والاجتماعات وقانون المطبوعات وقانون الجمعيات هل وضعت إلا لخدمة الاستعمار، وكبت الشعب ووضعه في الأقفاص، والحيلولة بينه وبين حقه في التحرر والمساواة؟. وقانون الأسلحة الذي يحرم على الناس حمل السلاح من أي نوع كان حتى السكين ذات الحد الواحد، أليس قد وضع لغل يد الشعب وإضعافه عن مقاومة أعدائه، وحرمانه من حقه الطبيعي في الدفاع عن نفسه، والحيلولة بينه وبين ما يوجبه الدين وما توجبه الرجولة وما توجبه الكرامة من مجاهدة

المستعمرين جِهَادًا لا ينتهي إلا بطردهم من هذا البلد وإخراجهم منه مذمومين مدحورين؟ أُصُولٌ وَأُصُولٌ: هذه هي الأصول الفاسدة التي تقوم عليها قوانيننا، وَتِلْكُمْ هِيَ الأصول الصحيحة التي يجب أن يقوم عليها القانون، والقانون باعتباره معنى مظلوم مظلوم، وأول ظالميه هم القوام عليه من المقننين، إنهم يضعون لنا قوانين لا يصح أن تشرع لنا، إنها لا تتفق مع ديننا وشريعتنا ولا تحفظ مصالحنا ولا تسد حاجتنا، ولا تعود إلا بالشر والفتنة علينا، إنها ترمي إلى إذلالنا وإفقارنا، وتمكين الغير من رقابنا، إنها قوانين الاستعمار لا قوانيننا، وسلاسله يطوق بها أعناقنا، ويا طول شقائنا من هذه القوانين التي تنتسب إلينا بلا نسب، وتحكمنا على غير هدى، وتقودنا إلى الكفر والفقر، وتقذف بنا إلى الفوضى والخراب.

متى يكون للقانون سلطان؟

مَتَى يَكُونُ لِلْقَانُونِ سُلْطَاٌن؟ قلنا فيما سبق أن القانون باعتباره معنى ضرورة لاَ مَفَرَّ منها للجماعة وحاجة لا غنى عنها للبشر في هذه الحياة الدنيا، فبالقانون تنظم الجماعات، وتمنع المظالم وتحفظ الحقوق الفردية والعامة وتوزع العدالة الاجتماعية والقضائية، وتوجه الشعوب إلى الخير والكمال. ولكن القانون باعتباره معنى لا يمكن أن يحقق أهدافه الإنسانية العليا إلا إذا صيغ في نصوص ومواد تحفظ المعاني القانونية الرفيعة من التحريف والانحراف والنسيان وهذه النصوص والمواد هي ما نسميه بجسم القانون، ويقوم بوضعها الحكام والمقننون ومن لهم حق التشريع. ونستطيع بعد ذلك أن نقول إن القانون كالكائن الحي له جسم وله روح، فأما جسم القانون فقد عرفنا أنه النصوص التي يضعها المُتَشَرِّعُ لتحقيق الأغراض التي وجد من أجلها القانون، وأما روح القانون فنعني بها سلطان القانون على الجماهير.

والقانون بلا سلطان هو جسم بلا روح، ونصوص لا قيمة لها. وصلاحية أي قانون لحكم الناس تقدر بما له من سلطان عليهم، وتختلف هذه الصلاحية تَبَعًا لقوة سلطان القانون ولضعفه. وسلطان القانون على الجماهير يقوم على عنصرين لا ثالث لهما: 1 - عنصر روحي خالص، وهو الصلة التي تصل نصوص القانون بنفوس الأفراد وقلوبهم، فتجعلهم يتقبلون نصوص القانون، ويقبلون على طاعتها، ويحرصون على احترامها، ويشعرون في ذات أنفسهم بأنهم يأثمون بمخالفتها. ولا يمكن أن يتوفر هذا العنصر إلا إذا قامت نصوص القانون على عقائد تؤمن بها الجماهير، أو دين يتدينون به أو مبادئ يجلُّونها أو تقاليد يحرصون على احترامها. 2 - عنصر الإلزام في القانون، وهو الجزء الذي يرتبه القانون على مخالفيه، كالعقوبة والتعويض والرد والفسخ والبطلان وما أشبه. أَنْوَاعُ القَانُونِ بِالنِّسْبَةِ لِسُلْطَانِهِ: والقوانين والتشريعات في كل العالم ترجع بالنسبة لما لها من سلطان إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: وهو ما يقوم سلطانه على العنصر الروحي وعنصر الإلزام مَعًا، وهذا النوع من التشريعات هو أصلحها للبقاء، وأقواها

سلطانًا على الجماهير، لأنه يحكم سلوك الناس الباطن حين يتصل بعقائدهم وتقاليدهم، ويحكم سلوكهم الظاهر بما يفرضه من جزاء عليهم، ولأنه يستعين على حكم سلوكهم الظاهر بعقائدهم وضمائرهم، ولأنه يوائم بين سلوكهم الظاهر وسلوكهم الباطن ويوجههم وجهة واحدة، فهم يطيعون القانون في الباطن والظاهر وفي السر والعلن وفي الشدة والرخاء، تدفعهم إلى الطاعة قلوبهم المؤمنة وتردهم إلى الطاعة نفوسهم اللوامة. الشَّرِيعَةُ الإِسْلاَمِيَّةُ أَصْلَحُ مَثَلٍ لِهَذَا النَّوْعِ: وأصلح الأمثلة لهذا النوع هو الشريعة الإسلامية وإن كان يدخل تحته بعض القوانين الوضعية، على أنه يجب أن لا يفهم من هذا أن طبيعة الشريعة الإسلامية من طبيعة القوانين، فإن بين الشريعة والقانون الوضعي خلافات أساسية ترجع إلى اختلاف في طبيعة التشريعين. أهم الخلافات بين طبيعة الشريعة وطبيعة القانون: وأهم الخلافات بين طبيعة الشريعة الإسلامية وطبيعة القانون الوضعي هي: [أ]- من وجهة العنصر الروحي: هذا العنصر في الشريعة الإسلامية أقوى منه في أي قانون أو شريعة أخرى على وجه الأرض، لأن الشريعة الإسلامية تجعل للعنصر الروحي نصيبًا في كل نص تشريعي وفي كل قاعدة تشريعية، سواء كانت كلية أو فرعية، ذلك أن الإسلام يوجب

على المسلم أن يكيف أخلاقه وعاداته وتقاليده وآدابه ومعاملاته وَصِلاَتُهُ بالغير وكل ما يصدر عنه من قول أو فعل تكييفًا إسلاميًا بحتًا على مقتضى ما جاء به الدين الإسلامي، ولما كانت الشريعة الإسلامية هي مجموعة الأوامر والنواهي والتوجيهات التي جاء بها الدين الإسلامي، فمعنى ذلك أن كل نص من نصوص الشريعة الإسلامية يقوم على الدين ويرجع إليه ويتصل بعقيدة الأفراد وإيمانهم ويمس قلوبهم ونفوسهم. وليس الحال كذلك في القوانين الوضعية التي إذا قام فيها نص على الدين أو الأخلاق أو العادات والتقاليد قامت بجانبه مئات النصوص على رغبات الحكام ومطامعهم، فالعنصر الروحي إذن لا يمكن أن يكون له نصيب في دائرة القوانين الوضعية إلا في قليل من القواعد القانونية. ومن المعروف أن أساس القوانين الوضعية في أوروبا كلها هو القانون الروماني، وقد وجد هذا القانون وكمل قبل أن يوجد الدين المسيحي الذي تتدين به البلاد الأوروبية، فلما جاء الدين لم يكن له مكان هام في القانون خُصُوصًا وأنه لَمْ يَأْتِ بتشريع خاص، واكتفى المتشرعون بأن يضيفوا إلى القانون بعض النصوص التي اقتضاها وجود الدين الجديد وقيام الحكومات عليه واهتمامها بنشره بين الناس. [ب]- من وجهة الأخلاق: تَعتبِر الشريعةُ الأخلاقَ الفاضلةَ الدعامة الأولى التي يقوم

عليها المجتمع، ولهذا فهي تحرص على حماية الأخلاق، وتتشدد في هذه الحماية حتى لتكاد تعاقب على كل الأفعال التي تمس الأخلاق، أما القوانين الوضعية فتكاد تهمل المسائل الأخلاقية إهمالاً تامًا، ولا تعني بها إلا إذا أصاب ضررها المباشر الأفراد أو الأمن أو النظام، فالقوانين الوضعية لا تعاقب على الزنا مثلاً إلا إذا أكره أحد الطرفين الآخر أو كان الزنا بغير رضاه رضاء تامًا، لأن الزنا في هاتين الحالتين يمس ضرره المباشر الأفراد كما يمس الأمن العام، أما الشريعة الإسلامية فتعاقب على الزنا في كل الأحوال والصور، لأنها تعتبر الزنا جريمة تمس الأخلاق، وإذا فسدت الأخلاق فقد فسدت الجماعة وأصابها الانحلال. وأكثر القوانين الوضعية لا تعاقب على شرب الخمر، ولا تعاقب على السُّكْرِ لذاته، وإنما تعاقب السكران إذا وجد في الطريق العام في حالة سُكْرٍ بَيِّنٍ، لأن وجوده في هذه الحال يعرض الناس لأذاه واعتدائه، وليس العقاب على السكر لذاته باعتباره رذيلة، وعلى شرب الخمر باعتباره مُضِرًّا بالصحة متلفًا للمال مفسدًا للأخلاق، أما الشريعة فتعاقب على مجرد شرب الخمر ولو لم يسكر منها الشارب لأنها تنظر إلى المسألة من الوِجْهَةِ الخُلُقِيَّةِ التي تتسع لشتى الاعتبارات، فإذا صينت الأخلاق فقد صينت الصحة والأعراض والأموال والدماء وحفظ الأمن والنظام. والعلة في اهتمام الشريعة الإسلامية بالأخلاق على هذا الوجه، أن الشريعة تقوم على الدين، وأن الدين يأمر بمحاسن الأخلاق، ويحث على الفضائل، ويهدف إلى تكوين الجماعة الصالحة الخيرة، ولما كان الدين لا يقبل التغيير والتبديل فمعنى ذلك أن الشريعة ستظل حريصة على حماية الأخلاق متشددة في حمايتها. والعلة في استهانة القوانين الوضعية بالأخلاق أن هذه

القوانين لا تقوم على أساس وإن اهتمت بعض نصوصها بالدين، ومعظم نصوصها يقوم على أساس الواقع وما تعارف عليه الناس. القواعد القانونية الوضعية قابلة بطبيعتها للتغيير والتبديل، ويقوم بوضعها وتغييرها عادة الأفراد الظاهرون في المجتمع بالاشتراك مع الحكام، وهم يتأثرون في عملهم بأهوائهم وضعفهم البشري ونزوعهم الطبيعي إلى التخلل من القيود، فكان من الطبيعي أن تهمل القوانين الوضعية المسائل الأخلاقية شَيْئًا فَشَيْئًا، وأن يأتي وقت تصبح فيه الإباحية هي القاعدة والأخلاق الفاضلة هي الاستثناء، ولعل البلاد التي تطبق القوانين الوضعية قد وصلت إلى هذا الحد الآن. [ج]- من جهة المصدر: مصدر الشريعة هو الله - جَلَّ شَأْنُهُ -، لأنها تقوم على الدين الإسلامي وهو من عند الله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. أما مصدر القوانين الوضعية فهم البشر الذين يقومون بوضع هذه القوانين، ويترتب على كون الشريعة الإسلامية من عند الله نتيجتان هامتان: النتيجة الأولى: احترام القواعد الشرعية احترامًا تَامًّا سواء من الحاكم أو المحكوم لأن كليهما يعتقد أنها من عند الله وأنها واجبة الاحترام، وهذا الاعتقاد بالذات يحمل الأفراد

على طاعة القواعد الشرعية، لأن الطاعة تقربهم إلى الله طبقا لقواعد الدين الإسلامي، ولأن العصيان يؤدي إلى العقوبة في الدنيا وإلى ما هو شر من العقوبة في الآخرة، فنسبة الشريعة إلى الله أدت إلى احترام الأفراد لها وطاعتها، وكل شريعة في العالم تقدر قيمتها بقدر ما لها في نفوس الأفراد من طاعة واحترام، وليس في العالم اليوم شريعة تداني الشريعة الإسلامية فيما لها من سلطان، ولا شك أنه كلما احترم الأفراد شريعتهم وأطاعوها وأحبوها استقرت أمورهم وحسنت أحوالهم وتفرغوا لشؤون دنياهم. النتيجة الثانية: ثبات القواعد الشرعية واستمرارها، ولو تغير الحكام أو اختلفت أنظمة الحكم، فيستوي أن تكون الهيئة الحاكمة محافظة أو مجددة، ويستوي أن يكون نظام الحكم جمهوريا أو ملكيا، فإن ذلك لن يؤثر على القواعد الشرعية في شيء ما، لأن القواعد الشرعية لا ترتبط بالهيئة الحاكمة ولا بنظام الحكم وإنما ترتبط بالدين الإسلامي الذي لا يتغير ولا يتبدل، والذي يؤمن به كل حاكم ويستخدم له كل نظام، وليس الأمر كذلك في القوانين الوضعية التي يضعها الحكام لحماية المبادئ التي يعتنقونها، وخدمة الأنظمة التي يقيمونها، فإن هذه القوانين عرضة للتغيير المستمر، وفي طبيعتها عدم الاستقرار، ويكفي أن تتغير الهيئة الحاكمة أو يتغير النظام القائم لتغيير القوانين وتنقلب الأوضاع. هذا هو شأن الشريعة وما ترتب على نسبتها لله - جَلَّ

شَأْنُهُ -، أما القوانين الوضعية فهي كما قلنا من صنع الفئة الحاكمة، وهي حين تضعها تراعي مصلحتها دون غيرها من الفئات، وتحاول أن تحمي بالقوانين أشخاص الحاكمين، والمبادئ التي يعتنقوها والأنظمة التي يقيمونها، فإذا ما ذهبت هذه الفئة وجاء غيرها تغيرت القوانين لتحمي الفئة الجديدة والمبادئ الجديدة والأنظمة الجديدة، وهكذا تتغير القوانين بتغير الحاكمين والمبادئ والأنظمة التي يقوم عليها الحكم، وهي لا تفتأ تتغير وتتبدل بين حين وآخر، وهذا يؤدي إلى عدم احترام القانون وذهاب سلطانه من النفوس. ولقد أصبحنا اليوم نرى الأحزاب المعارضة في العالم تحرض أنصارها على الاستهانة بالقانون والخروج على أحكامه لتصل على أشلائه إلى أغراضها. وما على الأحزاب المعارضة وأصحاب الدعوات الجديدة حرج فيما يدعون إليه ما داموا يرون أن القانون من صنع أفراد مثلهم، وأنه وضع لحماية أفراد ليسوا خَيْرًا منهم، أو أنظمة هي شر في نظرهم. ولعل فيما هو حادث اليوم في البلاد الأوروبية من تبدل الأنظمة والحكام وشكل الحكومات الدليل المقنع على زوال سطوة القانون وانعدام سلطانه، وإذا استمر الحال كذلك فسيأتي قريبًا الوقت الذي تفقد فيه القوانين الوضعية قيمتها، وَلاَ تُقََوَّمُ بأكثر من الورق الذي كتبت عليه.

النوع الثاني: وهو ما يقوم سلطان القانون فيه على عنصر الإلزام فقط، وسلطان هذا النوع من القانون ضعيف، لأن القانون لا صلة له بالنفوس والقلوب، ومن ثم يتقبله الناس كارهين، ولا يقبلون عليه طائعين، ولا يتحرجون من مخالفته إذا أمنوا سطوته. والناس مهما بلغ علمهم أو بلغت الثقافة بهم لا يستجيبون إلا لنداء المبدأ والعقيدة، ونداء المروءة والخلق الرفيع، ونداء المنفعة والمصلحة، فإذا خلا القانون مما يتصل بالمبادئ والعقائد، وإذا خلا القانون مما يتصل بالأخلاق والفضائل، وكان للفرد منفعة أو مصلحة في مخالفة القانون فقل سلام على القانون. ويدخل تحت هذا النوع معظم القوانين الوضعية في العالم وبصفة خاصة القوانين التي جردت من كل ما له مساس بالدين والعقائد والأخلاق والفضائل الإنسانية. القَوَانِينُ الوَضْعِيَّةُ قَبْلَ الثَّوْرَةِ الفِرَنْسِيَّةِ وَبَعْدَهَا: ومن الحق أن نقول أن القوانين الوضعية كانت إلى ما قبل الثورة الفرنسية ذات سلطان، وكان سلطانها يقوم على عنصر روحي محدود وعلى عنصر الإلزام، وكانت نصوص القانون مَزِيجًا من القواعد الآمرة والناهية الموروثة عن الرومان أو غيرهم، ومن بعض المبادئ الخُلُقِيَّةِ والعادات والتقاليد المرعية

والسوابق القضائية، وكان يتخلل هذا المزيج قليل من القواعد الدينية التي تختلف باختلاف الدين واختلاف المذهب. وبعد الثورة الفرنسية أخذ المتشرعون الأوروبيون في تجريد القوانين الوضعية من كل ما له مساس بالدين والعقائد والأخلاق والفضائل الإنسانية حتى تم لهم ذلك إلى حد كبير، وأصبحت هذه القوانين قائمة على تنظيم علاقات الأفراد المادية، وعلى ما يمس الأمن ونظام الحكم أو النظام الاجتماعي، وبذلك انعدم العنصر الروحي في القانون فانعدم سلطانه على الأفراد والشعوب. وقد أدى إهمال الدين والعقائد وإبعاد الأخلاق والفضائل عن دائرة القانون إلى نتائجه الحتمية، ففسدت الأخلاق وشاعت الفوضى، ونبتت في الجماهير روح التمرد والاستهانة بالقانون، وكثرت الثورات وتعددت الانقلابات وتغيرت النظم طِبْقًا للأهواء وانتفى الاطمئنان والاستقرار من حياة الشعوب. الصَّخْرَةُ التِي حَطَّمَتْ القَانُونَ: ولقد أوقع المتشرعين الوضعيين في هذا الخطأ الفاحش أنهم أرادوا أن يحققوا مبدأ المساواة بين الأفراد، وأن يطبقوا مبدأ حرية الاعتقاد، فلم يروا وسيلة لتطبيق هذين المبدأين مَعًا إلا أن يجردوا القانون من كل ما يمس العقائد والأخلاق، فأدى بهم هذا التطبيق السيء إلى تلك النتائج المحزنة، ولو

أنهم أخذوا بطريقة الشريعة الإسلامية لضمنوا تحقيق ما شاءوا من مبادئ ولمنعوا من وقوع هذه المساوئ. كَيْفَ تَخَطَّتْ الشَّرِيعَةُ هَذِهِ العَقَبَةَ؟ إن الشريعة الإسلامية شريعة أساسها الإسلام، فهي بطبيعتها شريعة دينية، ومن قواعدها الأولية أنها تسري على المسلمين وغير المسلمين ممن يتوطنون دار الإسلام، وهؤلاء يسمون اصطلاحًا بالذميين، ومن أهم المبادئ التي جاءت بها الشريعة مبدأ المساواة ومبدأ حرية العقيدة، وظاهر من الجمع بين هذه المبادئ أن الشريعة تعرضت لنفس المشكلة التي قوضت القانون الوضعي، فماذا يا ترى فعلت الشريعة؟ إنها وضعت للمشكلة أبدع حل وأبسطه أنها سَوَّتْ بين المسلمين والذميين فيما هم فيه متساوون، وخالفت بينهم فيما هم فيه مختلفون. ولا يختلف الذميون عن المسلمين إلا فيما يتعلق بالعقيدة، ولذلك كان كل ما يتعلق بالعقيدة لا مساواة فيه، والواقع أنه إذا كانت المساواة بين متساويين عَدْلاً خَالِصًا فإن المساواة بين المتخالفين ظلم واضح، ولا يمكن أن يعتبر هذا استثناء من قاعدة المساواة التي أخذت بها الشريعة نفسها، بل هو تأكيد للمساواة إذ المساواة لم يقصد بها إلا تحقيق العدالة، ولا يمكن أن تتحقق العدالة إذا سوي بين المسلمين والذميين فيما يتصل بالعقيدة الدينية، لأن معنى ذلك هو حمل المسلمين على ما يتفق مع عقيدتهم، وحمل الذميين على ما يختلف مع

عقيدتهم، ومعناه أَيْضًا عدم التعرض للمسلمين فيما يعتقدون، والتعرض للذميين فيما يعتقدون وإكراههم على غير ما يدينون، ومعناه أخيرًا الخروج على نص القرآن الصريح {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. ومن الأمثلة على ما تفرق فيه الشريعة بين المسلمين والذميين الجرائم القائمة على أساس ديني محض كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، فالشريعة تحرم شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ومن العدل أن يطبق هذا التحريم على المسلم الذي يعتقد طِبْقًا لدينه بحرمة شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ولكن من الظلم أن يطبق هذا التحريم على غير المسلم الذي يعتقد أن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير لا حرمة فيه، ولو طبقت قاعدة المساواة تطبيقًا أعمى لأخذ الذميون بأفعال هي في معتقدهم غير محرمة وفي هذا ظلم بَيِّنٌ، فكان من العدل أن قصر التحريم على المسلمين دون غيرهم؛ فالمسلم إذا شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ارتكب جريمة يعاقب عليها، أما الذمي فلا يعتبر شربه الخمر وأكله لحم الخنزير جريمة. النوع الثالث: وهو ما يقوم فيه سلطان القانون على عنصر الإلزام وحده، ولكن تأتي نصوص القانون مضادة لعقائد الجماعة، خارجة على الأخلاق الموروثة والفضائل المتعارف عليها، ومثل هذا القانون يعتبر مُجَرَّدًا من السلطان، وَأَنَّى يكون له

سلطان على من يهاجم عقائدهم، ويسفه أحلامهم وفضائلهم، ويؤلم نفوسهم ويعذب ضمائرهم؟ إن السلطان لا ينتظر لمثل هذا القانون، وإنما ينتظره المقت الشديد والعداء السافر والمقاومة المستميتة التي تطيح بالقانون وبمن يدافع عنه، وليس في العقوبة أَيًّا كانت غناء عن مثل هذا القانون، فقد تعلم الناس أن أصحاب العقائد لا تزعجهم العقوبة ولا تردهم عما يريدون. القَوَانِينُ المِصْرِيَّةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ: ومن الأمثلة على هذا النوع القوانين الوضعية السائدة في مصر وغيرها من البلاد الإسلامية التي استبدلت بالشريعة القوانين الوضعية، تلك القوانين التي بَيَّنَّا فيما سبق أنها خرجت على وظيفتها، ولم تقم على أصولها، وأنها لا تنتسب إلينا ولا تخدم مصالحنا، وليس لها سلطان على نفوسنا ولا مكان في عقولنا أو قلوبنا. الاِسْتِعْمَارُ أَدْخَلَ هَذِهِ القَوَانِينَ فِي بِلاَدِنَا: إن طبيعة الإسلام أن يحكم كل بلد يدخله، وإذا كان الإسلام دِينًا فهو شريعة كاملة لكل مسلم، لذلك كانت الشريعة الإسلامية هي القانون الوحيد لكل بلد إسلامي من يوم أن دخله الإسلام، وظلت كذلك حتى كان تسلط الاستعمار على البلاد الإسلامية، فأدخل فيها القوانين الوضعية الأوروبية، أو أغرى حكامها الذين وضعهم تحت حمايته أو تحت رحمته

بإدخالها، وكانت الحُجَّةُ المتكررة في إدخال هذه القوانين أنهم يريدون الأخذ بالأسباب المدنية الأوروبية والتقدم الأوروبي، كأنما التقدم الأوروبي والمدنية الغربية راجعة إلى هذه القوانين البشرية، وكأنما تأخر المسلمين وضعفهم راجع إلى شريعتهم السماوية. وقد وجدت هذه الحُجَّةُ الفارغة عقولاً فارغة في البلاد الإسلامية تصدقها وتؤمن بها، وتلقنها للنشء في معاهد الدراسة وتثبتها في الكتب المدرسية. حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ: وكان من السهل على هؤلاء المستغفلين الغافلين لو فكروا أن يعلموا أن حُجَّتَهُمْ دَاحِضَةٌ، وأن هذه القوانين التي فتنوا بها ليست في أصولها إلا قوانين الدولة الرومانية، وأن هذه القوانين لم تمنع العرب والمسلمين من هدم الدولة الرومانية، وأن هذه القوانين لم تعصم أوروبا كلها من الهزيمة المنكرة في الحروب الصليبية. وكان من السهل على هؤلاء المستغفلين الغافلين لو فكروا أن يعلموا أن الشريعة الإسلامية كانت شريعة المسلمين الأول، وأنها كانت تحكمهم وهم قلة مستضعفة يخافون أن يتخطفهم الناس، وأنهم في ظل هذه الشريعة وبعد عشرين سَنَةٍ من موت الرسول استطاعوا أن يزيلوا الدولة الفارسية من الوجود، وأن يحسروا مَدَّ الدولة الرومانية عن الشام ومصر وشمال إفريقية، وأن يصبحوا سادة العالم وقادة البشر أكثر من

أَلْفِ سَنَةٍ، وأنهم في ظل هذه الشريعة حطموا الصليبيين وتغلبوا على التتار، وغزوا شرق أوروبا وجنوبها وغربها واحتلوها مئات السنين. وكان من السهل على هؤلاء المستغفلين الغافلين أن يرجعوا إلى العهد القريب ليعلموا أن مصر الإسلامية في عهد محمد علي باشا كانت أقوى وأعظم من كثير من البلاد الأوروبية، وأنها استطاعت أن تطرد الفرنسيين من أرضها وأن تلقي بالانجليز في البحر، وأن تغزو اليونان وتتغلب على الحشود التي أمدتها بها الدول الأوروبية، كما استطاعت أن تضم الحجاز والسودان والشام، وأن تغزو تركيا حتى لتكاد الجيوش المصرية تدخل القسطنطينية لولا تكتل الدول الأوروبية وتآمرها على مصر الإسلامية العربية. ولقد فعلت مصر هذا كله في ظل الشريعة الإسلامية لا في ظل القوانين الوضعية. فكيف يقول قائل بعد هذا كله أن القوانين الوضعية هي سبب تقدم الدول الأوروبية وأن الشريعة الإسلامية هي سبب تأخر الأمم الإسلامية! ألا إنها الغفلة أو هو الغرض الذي يعمي ويصم! أفلم يقرأ هؤلاء التاريخ ليعرفوا شَيْئًا عن الدول الإسلامية والمدنية الإسلامية وليعرفوا سر النهضة الأوروبية وعلى أي شيء قامت المدنية الغربية؟ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. تَأَخُّرُ المُسْلِمِينَ لاَ يَرْجِعُ لِلْتَّشْرِيعِ: إن تأخر المسلمين لا يرجع للتنظيم والتشريع، فالشريعة

الإسلامية أفضل وأسمى من أي قانون وضعي على وجه الأرض، وما من نظرية أخذت بها القوانين حتى اليوم إلا وهي موجودة في الشريعة على أفضل الوجوه وأكمل الأوضاع، وما من نظرية حديثة اتجه إليها علماء القانون أو فكروا فيها إلا وهي مفصلة في الشريعة على خير ما تفصل الآراء والنظريات. إن تأخر المسلمين لا يرجع للتنظيم والتشريع، وإنما يرجع لترك تعاليم الإسلام، فالمسلمون اليوم في كل بلاد العالم إنما هم مسلمون بأسمائهم وألسنتهم، لا بإيمانهم ولا بأعمالهم، إلا من رحم الله، وقليل ما هم. ولو كانت التشريعات الحديثة هي التي تقدم الشعوب لوجب أن تكون بلجيكا أقوى وأعظم من إنجلترا لأن القوانين البلجيكية من أحدث القوانين ولأن القوانين الانجليزية من أقدمها وبعضها يرجع إلى الوقت الذي كانت فيه إنجلترا مجهولة لا مكان لها في العالم. ولو صح أن التشريعات الحديثة لها أثر في تقدم الشعوب لوجب أن تكون الشعوب الإسلامية أكثر شعوب العالم قوة وتقدما، لأن الشريعة الإسلامية على قِدَمِهَا أحدث من كل القوانين الوضعية التي تقوم كما قلنا على القانون الروماني وتأخذ عنه وتتمسك بنظرياته واتجاهاته ولا تتطور إلا بقدر ما تقتضيه الظروف تطورًا هو امتداد للأصل وفي حدود الأصول الفقهية الرومانية.

ألا فليعلم المسلمون أن الإسلام هو الذي خلقهم من العدم وجعلهم خير أمة أخرجت للناس وسلطهم على دول العالم، وأن الشريعة الإسلامية هي التي علمتهم وأدبتهم، وأشعرتهم العزة والكرامة، وأمدتهم بالقوة والعزيمة، وأوجدت فيهم أبطالاً فتحوا البلاد وأسسوا الممالك، وعلماء وأدباء خدموا العلوم والآداب أجل الخدمات. ألا فليعلم المسلمون أن الشريعة الإسلامية هي أول شريعة أخذت الناس بالمساواة التامة والعدالة المطلقة، وأوجبت عليهم أن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يدعوا إلى الخير ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن القوانين الوضعية لم تصل من هذا كله حتى اليوم إلا إلى بعض ما جاءت به الشريعة الإسلامية. ألا فليعلم المسلمون أن الشريعة الإسلامية أدت وظيفتها طالما كان المسلمون متمسكين بها، فلما تركوها وأهملوا أحكامها تركهم الرقي وأخطأهم التقدم، ورجعوا القهقرى إلى الظلمات التي كانوا يعمهون فيها قبل الإسلام، فعادوا مستضعفين مستبعدين، لا يستطيعون دفع معتد، ولا الامتناع من ظالم. لقد آمن المسلمون الأوائل وحسن إيمانهم فمكنهم الله لهم في الأرض، وإن الذي مكن لهم على قلتهم وضعفهم لقادر أن

يمكن لنا في الأرض إذا آمنا وحَسُن إيماننا؛ ذلك وعد الله لعباده، ومن أوفى بعهده من الله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]. {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].

القوانين الوضعية يبطلها الإسلام

القَوَانِينُ الوَضْعِيَّةُ يُبْطِلُهَا الإِسْلاَمُ: حُكْمُ القَوَانِينِ المُخَالِفَةِ لِلْقُرْآنِ وَالسُنَّةِ: إذا جاءت القوانين مخالفة للقرآن والسنة أو خارجة على مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية العامة فهي باطلة بطلانًا مطلقًا، وليس لأحد أن يطيعها، بل على كل مسلم أن يحاربها. والأصل في ذلك أن الأوامر والنواهي لم تجيء عَبَثًا، وأن الله أنزل كتابه وأرسل رسوله للناس ليطيعوه ويعملوا بما جاء به، فمن عمل بما جاء به الرسول فعمله صحيح لأنه وافق أمر الشارع، ومن خالف فقد بطل عمله لمخالفته أمر الشارع، والله تعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]. ويقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] و [محمد: 33]. الأَدِلَّةُ عَلَى بُطْلاَنِ القَوَانِينِ الوَضْعِيَّةِ: ويرجع بطلان القوانين الوضعية إلى نصوص القرآن ونصوص السنة وإلى الإجماع، وهي المصادر الأولى للتشريع

الإسلامي، فقد جاءت نصوص القرآن والسنة صريحة في إبطال كل ما يخالف الإسلام، ومن ثم انعقد الإجماع على احترام هذه النصوص الصريحة وإبطال كل ما يخالفها، وفيما يلي الأدلة على كل ذلك: 1 - أن الله أمر باتباع الشريعة الإسلامية ونهى عن اتباع ما يخالفها، فلم يجعل لمسلم أن يتخذ من غير شريعة الله قانونًا، وجعل كل ما يخرج على نصوص الشريعة أو مبادئها العامة أو روحها التشريعية مُحَرَّمًا تَحْرِيمًا قَاطِعًا على المسلمين بنص القرآن الصريح، حيث قسم الله الأمر إلى قسمين لا ثالث لهما: إما الاستجابة لله وللرسول واتباع ما جاء به الرسول، وإما اتباع الهوى، فكل ما لم يأتِ به الرسول فهو الهوى بنص القرآن، وذلك قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. كذلك قسم الله طريق الحكم بين الناس إلى طريقين لا ثالث لهما: أولهما الحق، وهو الوحي الذي أُنزل على رسله، وثانيهما الهوى وهو كل ما يخالف الوحي فقال - جَلَّ شَأْنُهُ -: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. وقال - جَلَّ شَأْنُهُ - مُوَجِّهًا الخطاب إلى محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ({ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]، فقسم الأمر بين الشريعة التي جعل

رسوله عليها وأوحى إليه العمل بها، وأمر الأمة الإسلامية باتباعها، وبين اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وأمر بالأول ونهى عن الثاني. وقال - جَلَّ شَأْنُهُ -: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]. فأمر باتباع ما أنزل منه خاصة، ونهى عن اتباع ما يخالفه، وَبَيَّنَ أن من اتبع غير ما أنزل من عند الله فقد اتبع أولياء من دون الله. وهكذا قطعت نصوص القرآن في تحريم كل ما يخالف نصوص الشريعة صراحة أو ضمنًا، وكل ما يخالف مبادئها العامة أو روحها التشريعية، ونهت نَهْيًا جَازِمًا عن العمل بغير الشريعة، واعتبرت العامل بغير الشريعة مُتَّبِعًا هَوَاهُ، مُنْقَادًا إلى الضلال، مُضِلاًّ لغيره، ظالمًا لنفسه ولغيره، كافرًا بما أنزل الله، متخذًا لنفسه أولياء من دون الله. 2 - إن الله لم يجعل لمؤمن أن يرضى بغير حكم الله، أو أن يتحاكم إلى غير ما أنزل الله، بل لقد أمر الله أن يكفر بكل حكم غير حكمه، واعتبر الرضاء بغير حكمه ضلالاً بعيدًا واتباعًا للشيطان: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 60]. فمن يتحاكم إلى غير ما أنزل الله وما جاء به الرسول فقد

حَكََّمَ الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله، فمن آمن بالله ليس له أن يؤمن بغيره، ولا يقبل حُكْمًا غير حكمه. 3 - إن الله لم يجعل لمؤمن ولا مؤمنة أن يختار لنفسه أو يرضى لها غير ما اختاره الله ورسوله، ومن تخير غير ذلك فهو ضال لا يعرف الإيمان لقلبه سبيلا، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. 4 - إن الله أمر أن يكون الحكم طبقًا لما أنزل {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]. {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]. وجعل من لم يحكم بالله كافرًا وظالمًا وفاسقًا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. ومن المتفق عليه أن من يستحدث من المسلمين أحكامًا غير ما أنزل الله، ويترك بالحكم بها كل أو بعض ما أنزل الله من غير تأويل يعتقد صحته، فإنه يصدق

عليهم ما قال الله تعالى كل بحسب حاله، فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا لأنه يفضل غيره من أوضاع البشر فهو كافر قطعًا، ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم إن كان في حكمه مُضَيِّعًا لحق أو تاركًا لعدل أو مساواة، وإلا فهو فاسق. 5 - إن الله نفى الإيمان عن العباد وأقسم بنفسه على ذلك حتى يُحَكِّمُوا الرسول فيما شجر بينهم من الدقيق والجليل والخطير والحقير، ولم يكتفِ في إثبات الإيمان لهم بهذا التحكيم المجرد، بل اشترط لاعتبارهم مؤمنين أن ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق من قضاء الرسول وحُكمه، وأن يسلموا تسليمًا، وينقادوا للرسول انقيادًا، والرسول لا يحكم إلا بما أنزل الله، وبما أراه إياه. فالمؤمن يجب عليه إذن أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤمن بأنه أصلح الأحكام وأفضلها، ولو قال الناس إن غيره أصلح منه، لأنه لا يكون مؤمنًا إلا إذا أطاع طاعة تامة وانقاد انقيادًا كاملاً لما أمر به الله ورسوله، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. 6 - إن كل ما يخالف الإسلام محرم على المسلمين ولو أمرت به أو أباحته السلطات الحاكمة أيا كانت، لأن حق الهيئة في التشريع مقيد بأن يكون التشريع مُتَّفِقًا مع مبادئ

الإسلام، فإن استباحت الهيئة الحاكمة لنفسها أن تخرج على حدود وظيفتها، وأن تصدر قوانين لا تتفق مع الإسلام، وتضعها موضع التنفيذ، فإن عملها لا يحل هذه القوانين المحرمة، ولا يبيح لمسلم أن يتبعها أو يطبقها أو يحكم بها أو ينفذها، بل تظل محرمة تحريمًا قاطعًا على كل مسلم ومسلمة، ومن واجب الأفراد أن يمتنعوا عن اتباعها، ومن واجب الموظفين أن يمتنعوا عن تنفيذها. ذلك أن طاعة أولي الأمر لا تجب لهم استقلالاً، ولا تجب لهم مطلقة، وإنما تجب ضمن طاعة الرسول وفي حدود ما أمر به الله ورسوله، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. فالله - جَلَّ شَأْنُهُ - يأمر بطاعته وطاعة رسوله، وإعادة فعل الطاعة عند ذكر الرسول يشعر بأن طاعة الرسول تجب له استقلالاً سواء كان ما أمر به في القرآن أو لم يكن فيه، لأنه أوتي الكتاب ومثله معه، وحذف فعل الطاعة عند ذكر أولي الأمر دليل على أن طاعة أولي الأمر لا تجب لهم استقلالاً، وإنما هي في ضمن طاعة الرسول، كذلك فإن تقدم طاعة الله وطاعة الرسول يقتضي أن لا يطاع أولو الأمر إلا بعد استيفاء الطاعة لله وللرسول في كل ما يصدر عن ولي الأمر.

فأولو الأمر يطاعون تَبَعًا لطاعة الله وطاعة الرسول، وبعد توفر الطاعة لله ولرسوله، فمن أمر منهم بما يوافق ما أنزل الله على رسوله فطاعته واجبة، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع ولا طاعة. 7 - إن السُّنَّةَ بينت حدود الطاعة لأولي الأمر، ونهت عن طاعتهم فيما يخالف ما أنزل الله، فصح عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ» وقال: «إِنَّمَا الطَّاعَة فِي المَعْرُوف»، وقال في ولاة الأمور: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ»، وقال: «" إِنَّه سَيَلِي أَمْرَكُمْ مِنْ بَعْدَِي رِجَالٌ يُطْفِئُونَ السُنَّةَ وَيُحْدِثُونَ بِدْعَةً وَيُؤَخِّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا ". قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " يا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ بِي إذَا أَدْرَكْتُهُمْ؟ " قَالَ: " لَيْسَ يا ابْنَ أَمِّ عَبْدٍ طَاعَةٌ لَمِنْ عَصَى اللهَ " قَالَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». 8 - إن إجماع الأمة الإسلامية انعقد بعد وفاة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أنه لا طاعة لأولي الأمر إلا في حدود ما أنزل الله، وفقهاء الأمة ومجتهدوها مجمعون على أن الطاعة لا تجب إلا فيما أمر اللهُ، ولا خلاف بينهم قولاً واعتقادًا في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وَأَنَّ إِبَاحَةِ المُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ كالزنا وَالسُّكْرِ، واستباحة إبطال الحدود، وتعطيل أحكام الإسلام، وشرع ما لم يأذن به الله، إِنَّمَا هُوَ كُفْرٌ وَرِِدََّةٌ، وأن

الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتد واجب على المسلمين، وأقل درجات الخروج على الحاكم عصيان أوامره ونواهيه المخالفة للإسلام. 9 - إن أولي الأمر بحسب مبادئ الإسلام ليس لهم حق التشريع المطلق، وحقهم في التشريع قاصر على نوعين من التشريع: الأول: تشريعات تنفيذية يقصد بها ضمان تنفيذ نصوص شريعة الإسلام. الثاني: تشريعات تنظيمية، لتنظيم الجماعة وحمايتها وسد حاجتها على أساس مبادئ الشريعة الإسلامية، وهذه التشريعات لا تكون إلا فيما سكتت عنه الشريعة فلم تأتِ بنصوص خاصة فيه. ويشترط في هذه التشريعات أن تكون متفقة مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية، فهي تشريعات توضع بقصد تنفيذ مبادئ الشريعة العامة، وإذن فهي في حقيقتها نوع آخر من التشريعات التنفيذية. وأولو الأمر حين يتولون التشريع المقيد على الوجه السابق يتولونه إما باعتبارهم خلفاء للرسول أو نُوَّابًا عن الجماعة الإسلامية، فإن كانوا خلفاء للرسول فليس لهم أن يخرجوا على ما جاء به الرسول، لأنهم خلفوه بقصد تنفيذ ما جاء به، وإن كانوا نُوَّابًا عن الجماعة الإسلامية فليس لهم أن

يخرجوا على ما تدين به الجماعة، لأن الجماعة لم تقمهم حُكَّامًا إلا لإقامة الدين وحكم الجماعة على أساس الشريعة الإسلامية. 10 - إن الشريعة الإسلامية هي الدستور الأساسي للمسلمين، فكل ما يوافق هذا الدستور صحيح وكل ما يخالفه باطل، مهما تغيرت الأزمان وتطورت الآراء في التشريع، لأن الشريعة جاءت من عند الله على لسان رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليُعمَل بها في كل زمان ومكان وهي واجبة التطبيق حتى تلغى أو تنسخ، ولا يمكن أن تلغى أو تنسخ، لأن القاعدة الأساسية في الشريعة الإسلامية أن النصوص لا ينسخها إلا نصوص في مثل قوتها أو أقوى منها، أي نصوص صادرة من نفس الشارع أو ممن يزيد سلطانه التشريعي على سلطان من أصدر النصوص المراد نسخها، فالنصوص الناسخة إذن يجب أن تكون قرآنًا أو سُنَّةً حتى يمكن أن ينسخ ما لدينا مِنْ قُرْآنٍ وَسُنَّةٍ، وليس بعد الرسول قرآن حيث انقطع الوحي، ولا سُنَّةً حيث توفي الرسول، ولا يمكن أن يقال إن ما يصدر من هيئاتنا التشريعية البشرية في درجة القرآن وَالسُنَّةِ، حتى يمكن أن يلغي ما لدينا من قرآن وَسُنَّةٍ.

القوانين الوضعية باطلة بحكم نفسها

القَوَانِينُ الوَضْعِيَّةُ بَاطِلَةٌ بِحُكْمِ نَفْسِهَا وإذا كانت قوانيننا الوضعية باطلة طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، فإن هذه القوانين باطلة أيضًا بحكم نفسها وعلى أساس المبادئ العامة التي تقوم عليها هذه القوانين؛ وبيان ذلك فيما يأتي: 1 - الدستور يبطل ما يخالف الإسلام: ينص الدستور المصري وهو قانون وضعي على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، ومعنى ذلك النص أن النظام الأساسي الذي تقوم عليه الدولة هو النظام الإسلامي، وأن الإسلام هو المصدر الذي تأخذ عنه، والمرجع الذي تنتهي إليه، والحاكم الذي تأتمر بأمره، وتنتهي بنهيه. ووجود هذا النص في الدستور المصري - وهو القانون الأول في قوانيننا الوضعية - يقتضي أن نتقيد بنصوص الشريعة الإسلامية في قوانيننا وسياستنا، وتنظيمنا الداخلي والخارجي، وفي كل أوجه نشاطنا، فلا نحل إلا ما أحلته الشريعة، ولا نحرم إلا ما حرمته، ولا نخرج على مبادئ الشريعة وروحها في قوانيننا وأنظمتنا.

ومن المُسَلَّمِ به في دائرة القوانين الوضعية أن كل ما يخالف الدستور من القوانين يعتبر باطلاً لأن الدستور هو التشريع الأساسي في البلاد المحكومة بالقوانين الوضعية، فكل ما يصدر على خلافه من التشريعات لا يصح تطبيقه لخروجه على القواعد الأساسية التي بَيَّنَهَا الدستور. وقد أخذ بهذا المبدأ في مصر، ومن القضايا التي طبق فيها القضية رقم 65 سنة 1 قضائية مجلس الدولة إذ قضت محكمة القضاء الإداري بأن إهدار إحدى السلطات لأي مبدأ من مبادئ الدستور فيه خروج عن نطاق سلطتها. والتزامها حدودها خير ضمان لمبدأ الفصل بين السلطات ولتدعيم البنيان الدستوري، وأن للمحاكم حق تفسير القوانين وتطبيقها وأنها تملك الفصل عند تعارض القوانين في أيها الواجب التطبيق، وأن من واجب المحاكم إذا تعارض الدستور مع قانون عادي أن تطرح القانون العادي وتهمله وتغلب عليه الدستور وتطبقه بحسبانه القانون الأعلى الأجدر بِالاتِّبَاعِ. وإذا طبقنا هذا المبدأ على قوانيننا الوضعية التي تتعارض مع ما ينص عليه الدستور من أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، وجب أن نطرح من هذه القوانين كل النصوص التي تخالف الإسلام أو تخرج على مبادئه العامة وروحه التشريعية، ووجب أن نهمل هذه النصوص ونعتبرها كأن لم تكن، لأنها تخالف الدستور وهو القانون الأعلى الأجدر بالاتباع.

2 - مخالفة القوانين للشريعة تبطل القوانين: من القواعد المسلم بها في دائرة القوانين الوضعية أنه عند تخالف النصوص يتغلب النص الأقوى ولو كان النص الأضعف أحدث منه، وتلكم هي نفس النظرية التي فضلت على أساسها نصوص الدستور على غيرها من نصوص القوانين. وإذا طبقنا هذه القاعدة الوضعية على نصوص الشريعة ونصوص القوانين الوضعية وجب أَنْ نُغَلِّبَ نصوص الشريعة على نصوص القوانين، لأن نصوص الشريعة قائمة لم تلغ ولا يمكن أن تلغى، وأولو الأمر الذين يستطيعون وضع القوانين وإلغاءها لا يستطيعون أن يلغوا الشريعة أو يَحُدُّوا من نصوصها أَوْ يُعَدِّلُوا فيها، والنصوص التي لا تقبل الإلغاء ولا التعديل أقوى من النصوص التي تقبل ذلك كله أو بعضه، وإذا نظرنا إلى المسألة من ناحية الشارع وصلنا إلى نفس النتيجة، فالشريعة مصدرها الله - جَلَّ شَأْنُهُ -، والقوانين مصدرها البشر ولا يمكن أن نقارن البشر بالله - جَلَّ شَأْنُهُ -، ومن ثم تكون نصوص الشريعة أقوى من نصوص القوانين الوضعية إذا نظرنا إليها من ناحية الشارع أو من حيث طبيعة النصوص، ويجب بحسب قواعد القانون الوضعي نفسه أَنْ نُغَلِّبَ نصوص الشريعة كلما تخالفت مع نصوص القوانين ونهمل من نصوص القوانين كل ما يخالف الشريعة ونعتبره كأن لم يكن.

خُرُوجُ القَوَانِينِ عَلَى وَظَائِفِهَا وَأُصُولِهَا مُبطِلٌ لَهَا: ومن القواعد المسلم بها في القوانين الوضعية أن كل نص خرج على وظيفة القانون وأهدافه أو خرج على الأصول التي تقوم عليها القوانين يجب أن يفسر في حدود وظيفة القانون وأن يراعى في تطبيقه معالجة ما فيه من شذوذ وخروج على الأصول المعروفة. فالقوانين التي نقلت من بلاد غير مسلمة إلى بلاد إسلامية يجب أن يهمل في تطبيقها كل ما يخالف الإسلام إذا لم يستطع تفسيره تفسيرًا يتفق مع الإسلام ما دام المقطوع به أن الجماعة المسلمة التي نقل إليها القانون لم تخرج عن الإسلام. وقد رأينا فيما سبق كيف خرجت قوانيننا الوضعية عن وظيفتها وعلى الأصول القانونية المتعارف عليها، فإذا طبقنا هذه القاعدة الوضعية عليها لوجب أن نهمل كل النصوص المخالفة للشريعة الإسلامية وأن نبطل عملها.

ماذا فعلت بنا القوانين الوضعية؟

مَاذَا فَعَلَتْ بِنَا القَوَانِينُ الوَضْعِيَّةُ؟ هذه القوانين أورثتنا التناقض والاضطراب هذه القوانين التي وضعت أصلاً لبلاد غير بلادنا، ولأقوام يختلفون عنا أكثر مما يتفقون معنا، هذه القوانين التي نقلت إلينا بخيرها وشرها، وبما يتفق مع عقائدنا ويناقضها، وبما يساير أخلاقنا وتقاليدنا ويعارضها، وبما نقبله ونرضاه، وبما ننفر منه ونأباه. هذه القوانين قد أفسدت علينا تفكيرنا، فبلبلت عقولنا، ومسخت منطقنا، وأفسدت حياتنا، فعكرت صفونا، وشحنت بالألم نفوسنا، وأفعمت بالكمد والمرارة صدورنا. هذه القوانين جعلت لنا تفكيرًا مضطربًا، ومنطقًا عَجَبًا، فنحن في آنٍ واحد نحل الشيء ونحرمه، ونبرمه وننقضه، حتى لقد أصبح هذا شأننا في كل شأن من شؤون الحياة جَلَّ أَوْ هَانَ. فلنأخذ مصر الإسلامية مثلاً: ولنأخذ مصر مثلاً على هذا الاضطراب والتناقض الذي

يسود بلاد الإسلام في كل ما يتصل بشؤون الإسلام، وإذا تكلمنا عن الإسلام فقد وجب أن نتكلم عن كل شؤون الحياة، لأن الإسلام جاء ليحكم الناس في كل صغير وكبير من شؤون دنياهم حتى يهيئهم لحياة سعيدة في أخراهم، وإن المسلم ليتعبد بالحكم والسياسة والإدارة وكل ما يتعلق بالأخلاق والاجتماع والاقتصاد وتوزيع الثروات -إذا وجه هذا كله الوجهة التي يريدها الإسلام - كما يتعبد بالصوم والصلاة والحج والزكاة إذا أداها كما يوجبها الإسلام. مِصْرُ بَلَدٌ إِسْلاَمِيٌّ عَرِيقٌ فِي الإِسْلاَمِ: هذا البلد الإسلامي مصر، يعتبر في العالم كله قلب الإسلام، وإسلام مصر عريق، فقد دخلها الإسلام على يد أصحاب الرسول من مدة تزيد على ثلاثة عشر قَرْنًا، فأقبل عليه سكانها حتى استغرقهم، وحتى أصبح عدد غير المسلمين لا يتجاوز خمسة في كل مائة على أكثر تقدير. وفي مصر الأزهر المعمور أقدم جامعات العالم وأكبرها على الإطلاق وهو مختص بتدريس العلوم الإسلامية، وتخريج علماء مثقفين ثقافة إسلامية، متفقهين في أحكام الإسلام، يَؤُمُّهُ الطلاب من كل بلاد العالم، فينهلون من العلوم الإسلامية ما استطاعوا، ثم يعودون لبلادهم ليزودوا أهلها بما تعلموه وفقهوه. وتعتبر مصر من قديم الزمان معقل الإسلام، فهي التي حطمت الصليبيين والتتار، وهي التي ناهضت ولا تزال تناهض

الصهيونية والاستعمار، وهي التي ردت ولا تزال ترد عن الإسلام كيد أعداء الله وأعداء الإسلام. ولقد كانت مصر في كل العهود الإسلامية منارة الإسلام، وقبلة العلماء والمصلحين، ودار هجرة للمجاهدين المكافحين والأحرار المضطهدين. ومن مصر انبعثت النهضات الإسلامية قديمًا كما انبعثت النهضة الإسلامية الحديثة، وهي أكبر وأقوى نهضة عرفها التاريخ، فقد امتدت من مصر إلى كل بلاد الإسلام، وربطت هذه البلاد بعضها ببعض، وخلقت من المسلمين جِيلاً مُوَحَّدَ الاِتِّجَاهَاتِ، ينزعون عن قوس واحدة، ويهدفون لغاية واحدة، اتخذوا من القرآن دستورًا، ومن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زعيمًا، وجعلوا الموت في سبيل الله مطلبًا وأمنية. ولقد والله صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومن ينتظر وما بدلوا تبديلاً. ومصر بما قدمت ولا تزال تقدم للإسلام من خدمات، وبما فيها من وعي إسلامي ناضج، تعتبر محط آمال المسلمين، والموجه الأول للدعوة الإسلامية والقوى الإسلامية في كل بلاد الإسلام. هذه هي مصر، بلد إسلامي عريق في إسلامه، نَصَّبَ نفسه في الماضي للدفاع عن الإسلام ونشره في ربوع الأرض، وها هو اليوم يبذل كل ما يستطيع من جهد في إيقاظ المسلمين،

وتصحيح عقائدهم، وتسوية صفوفهم، وتوحيد مناهجهم، ودفعهم في طريق واحد لإحياء الدولة الإسلامية، وإعلاء كلمة الإسلام. مَاذَا تَفْعَلُ مِصْرُ المُسْلِمَةُ بِالإِسْلاَمِ؟ ولننظر بعد ذلك ماذا تفعل مصر هذه بنفسها وبالإسلام الذي تؤمن به، والذي كانت تحرص أشد الحرص عليه، لننظر ماذا تفعل اليوم بالإسلام تحت تأثير قوانينها الوضعية التي نقلتها عن فرنسا الماجنة الملحدة، أو عن إنجلترا التي تعيش على الكيد للإسلام، أو عن إيطاليا التي أفنت حياتها دون أن تنجح في محاربة الإسلام، تلك القوانين التي أخذت عن دول غير مسلمة تَدَّعِي المسيحية وهي براء منها، وتدعي الإيمان برسالة المسيح - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وما تؤمن إلا بالشرك والكفر والطغيان. الدَّوْلَةُ المِصْرِيَّةُ تَدِينُ بِالإِسْلاَمِ وَتُعَطِّلُ الإِسْلاَمَ: إن مصر الإسلامية وعلى رأسها ملك مسلم ولها حكومة إسلامية، حرصت على أن تعلن أن دين الدولة الرسمي الإسلام، ونصت على ذلك في دستورها، ووكلت إلى الدولة أن تشرف على كل شؤون الإسلام، فسيطرت الدولة على التعليم والتثقيف الإسلامي، وعلى دُورِ العبادات والأوقاف الإسلامية، وجعلت الدولة نفسها مهيمنة على تطبيق المبادئ الإسلامية في الاجتماع والاقتصاد والآداب والأخلاق وشؤون الحكم والسياسة وغيرها، وليس في اختصاص الحكومة الإسلامية والدولة الإسلامية بهذا كله ما يخالف أحكام الإسلام.

ولكن حكومة مصر الإسلامية لم يمنعها إسلامها الذي تطنطن وتعلنه في الوثائق الرسمية من أن تعطل شرائع الإسلام، وأن تحرم ما يحله الإسلام، وتحل ما يحرمه الإسلام. إن حكومات مصر الإسلامية سَوَّلَ لَهَا منطقها أن تطبق على المسلمين القوانين الأوروبية بَدَلاً من الشريعة الإسلامية، بالرغم من أن هذه القوانين لم تصل بعد إلى مستوى الشريعة الإسلامية في أي ناحية من النواحي العلمية والفنية، وبالرغم من أن هذه القوانين تخالف أحكام الإسلام، وبذلك عطلت الحكومات المصرية الشريعة الإسلامية، والشريعة هي مجموعة أحكام الإسلام، فتعطيلها تعطيل الإسلام، وبهذا المنطق المقلوب تقيم الحكومات الإسلامية الإسلام، ولا تستحي أن تدعي لنفسها الولاية على المسلمين والقيام على تنفيذ أحكام الإسلام. والإسلام لا يسمح لمسلم أن يتخذ غير شريعة الله قانونًا، إذ يلزم المسلم أن يتبع ما أنزله الله دون غيره، وذلك قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]. وقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]. والمسلم لا يعتبر مسلمًا حَتَّى يُحَكِّم الإسلام في شؤونه وما يشجر بينه وبين غيره طِبْقًا لقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ

يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. ومن لم يحكم بما أنزل الله، أو تحاكم إلى غير شريعته، فهو كافر ليس في قلبه ذرة من الإسلام وإن تسمى بمسلم، وانتسب إلى أبوين مسلمين، وَادَّعَى لنفسه الإسلام، ذلك حكم الله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. وإذا كان هذا هو حكم الإسلام الذي عطلته ولا تزال تعطله الحكومات في البلاد الإسلامية، فإن كل ذي عقل يستطيع أن يدرك بسهولة مدى حظ هذه الحكومات من الإسلام، وأن يقول غير متحرج أن هذه الحكومات تدعو المسلمين إلى الكفر وتحملهم عليه. حُكُومَةُ مِصْرَ الإِسْلاَمِيَّةِ تُبِيحُ المُحَرَّمَاتِ: ومصر الإسلامية التي تجعل دين الدولة الرسمي الإسلام تبيح التعامل بالربا على اختلاف صوره، بل إن الحكومة المصرية نفسها تحرص على أن تعامل بالربا رعاياها المسلمين، لِتُرْبِي أموالها العامة الكثيرة من أموالهم الخاصة القليلة، وهي حكومة إسلامية تعلم أن الإسلام يحرم الربا في كل صوره وأشكاله، وأن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - أنزل علينا كِتَابًا يقول فيه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ

وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. وفيه قوله:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279] ومصر الإسلامية التي تجعل دين الدولة الرسمي الإسلام، تُحِلُّ الخمر والقمار ولحم الخنزير، وتبيح حكوماتها للرجال والنساء أن يفتحوا النوادي والمحلات العامة للعب الميسر وشرب الخمر وأكل كل طعام محرم. وحكومة مصر الإسلامية تبيح كل هذا وهي تعرف أن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - حرمه في كتابه وعلى لسان نبيه، فقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]. وقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]. وعن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، وأنه قال: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»، وأنه قال: «لَعَنَ اللَّهُ الخَمْرَ، وَلَعَنَ شَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا». ولقد بلغ الأمر بحكومات مصر الإسلامية أن لا تستحي من شراء الخمر وتقديمها في الحفلات الرسمية العلنية، وبذلك جلب رجال الحكومات على أنفسهم لعنة الساقي والمبتاع، إن لم يجلبوا عليها أيضا لعنة الشارب والحامل.

ومصر الإسلامية التي تجعل دين الدولة الرسمي الإسلام، تحل الزنا وترخص للنساء بالبغاء، وللرجال بالقوادة، وتبيح الحفلات الراقصة، فتسمح لنساء شبه عاريات أن يراقصن الرجال الأجانب وكلهم قد أخذ الخمر بعقله، وتسلطت عليه غرائزه، وفي ذلك تحريض على الفاحشة وإشاعة لها، والإسلام قد حرم ذلك كله في قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32]. وفي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النور: 19]. بل لقد ذهب الإسلام إلى تحريم النكاح بين زانية وعفيف، وبين زانٍ وعفيفة، وذلك قوله تعالى: {الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]. الحُكُومَاتُ الإِسْلاَمِيَّةُ تَمْنَعُ تَعْلِيمَ الدِّينِ الإِسْلاَمِيَّ: ومصر الإسلامية التي تجعل دين الدولة الرسمي الإسلام تبيح لِلْمُبَشِّرِينَ من الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين وغيرهم أن ينشئوا مدارس للتبشير بالدين المسيحي تفتن أطفال المسلمين عن دينهم، بينما الحكومة المصرية تمنع تعليم الدين الإسلامي في المدارس الحكومية، ولا تهتم بتدريس التاريخ الإسلامي لطلاب هذه المدارس، وإن كانت تهتم أشد الاهتمام بتدريس

تاريخ البلاد الأوروبية، ولعل هذه الحكومات الإسلامية لا تعلم أن أول ما يجب على المسلم أن يتعلمه هو مباني الإسلام، وهي التي يقول فيها رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ البَيْتِ»، فهذه الأشياء الخمس توجبها طبيعة الإسلام على كل مسلم، فيجب العلم بها وبكيفية العمل فيها وبكيفية وجوبها. ولعل الحكومات الإسلامية لا تعلم أن العلم بمباني الإسلام، والتفقه في الإسلام واجب بقوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122]. وبقول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ». الحُكُومَاتُ الإِسْلاَمِيَّةِ تُطَارِدُ دُعَاةَ الإِسْلاَمِ: ومصر الإسلامية التي جعلت الإسلام دِينًا رَسْمِيًّا للدولة، تحارب حكوماتها كل من يدعو إلى الإسلام الصحيح، وينكر على الحكومة اتجاهاتها الضالة المضلة، وتستعين بقوانينها الفاسقة على دعاة الإسلام الراشدين، فتكم أفواههم وتعطل

أقلامهم، وتفتح لهم السجون والمعتقلات، وتسومهم سوء العذاب، لأنهم مسلمون مخلصون للإسلام، ولأن منطقهم لا يستسيغ للمسلم أن يكون على غير الإسلام. ويلوح أن هذه الحكومات الإسلامية لا تدري أن الإسلام يوجب على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يحاول تغيير المنكر ما استطاع فالله - جَلَّ شَأْنُهُ - يقول: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. وقد بينا فيما سبق ما هو المعروف وما هو المنكر، والرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا، فَاسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ، فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ». انْحِرَافُ الحُكُومَاتِ الإِسْلاَمِيَّةِ عَنْ الإِسْلاَمِ: ومصر الإسلامية يُخَوِّلُ لها إسلامها أن تنحرف عن كل اتجاه يرجع إلى الإسلام، فضريبة الزكاة يعطل قانونها لأن الزكاة فريضة يفرضها الإسلام والقانون المدني المصري يؤخذ من عشرات القوانين الأوروبية والأمريكية والآسيوية، وكان من الممكن أن يوضع مثله تمامًا وأفضل منه مشتقًا من أحكام الإسلام، والمحاكم الشرعية ينقص من اختصاصها عَامًا بعد عام لأنها تقضي بأحكام الإسلام، ومعهد الفقه الإسلامي الذي

وضعت نفقاته في الميزانية أكثر من مرة يهمل أمره لأنه سيكون دعامة من دعائم الإسلام. وما أهون على الحكومات الإسلامية أن تستبدل بحكم الإسلام حُكْمًا من أحكام الكفر والضلال، وما أشد عليها أن ترجع في أي شأن أيًّا كان إلى كتاب الله. وكأنما هذه الحكومات لا تعلم أن وظيفة الحكومة الإسلامية هي إقامة الإسلام، وأن القرآن افترض في الحكومة الإسلامية أن تقضي على الشرك وَتُمَكِّنَ لِلإِسْلاَمِ، وأن تقيم الصلاة، وتأخذ الزكاة، وأن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وأن تحكم بين الناس بالعدل وَتَسُوسَ أُمُورَهُمْ في حدود ما أنزل الله، وذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. وقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41]

خسرنا معركة الاستقلال بالانحراف عن الإسلام

خَسِرْنَا مَعْرَكَةَ الاِسْتِقْلاَلِ بِالاِنْحِرَافِ عَنْ الإِسْلاَمِ: ومصر كما يعلم الناس تجاهد في طلب الحرية والاستقلال، فلننظر كيف تطالب الدولة المسلمة بحريتها، وتكافح في سبيل استقلالها، وسنرى كيف باءت بالخسران والخذلان، وجلبت على نفسها الضعة والهوان، لأنها فَرَّطَتْ فِي جَنْبِ اللهِ وانحرفت عن الإسلام. كَيْفَ دَخَلَ الإِنْجِلِيزُ مِصْرَ؟: فِي سَنَةِ 1882 م دخل الإنجليز مصر، على أثر فتنة أهلية، بحجة حماية خديو مصر من رعاياه. ولقد حاولوا أن يدخلوا مصر من قبل مِرَارًا ففشلوا، حاولوا مرتين أن يدخلوا مصر بعد أن غزاها الفرنسيون فارتدوا على أعقابهم خاسرين، وحاولوا أن يدخلوها الثالثة في عهد محمد علي فألقت بهم مصر إلى البحر وارتدوا إلى بلادهم يائسين من دخول مصر بالقوة، وظلوا يحيكون دسائسهم ويلقون بشباكهم حتى حانت الفرصة، فرصة الفتنة العرابية التي مهدوا لها ونفخوا فيها حتى أثاروها، فدخلوا مصر لا ليطفئوا الفتنة كما ادعوا، وإنما ليحتلوها وليثبتوا أقدامهم فيها. ولقد أعلنوا أكثر من سبعين مرة أن

وجودهم في مصر مؤقت وأنهم على نية الجلاء، ولكنهم أخلفوا ما وعدوا، وكذبوا فيما أعلنوا، وبقوا في مصر يسرقون أموالها، وينهبون أقواتها، ويعبثون بكرامات أهلها. مَنْطِقُ الحُكَّامِ وَالزُّعَمَاءِ: فلما تكشفت نية هؤلاء القراصنة، أجمعت مصر على مقاومتهم وتظاهر أبناؤها على إخراجهم، وتقدم الحكام والزعماء يقودون الشعب إلى غايته، ويعملون لاستقلاله وحريته، ولكنهم آثروا أن يسعوا إلى الحرية والاستقلال عن طريق السلام والاستسلام، والتذلل والسؤال، وَسَوَّلَ لَهُمْ منطقهم أن يعتمدوا في المطالبة بحقوق مصر على عدالة غاصبي هذه الحقوق. وهو منطق أقل ما يقال فيه أنه قائم على الغفلة والجهل بطبائع البشر وَعِبَرِ التَّارِيخِ. فلو كان الغاصب يستشعر العدالة في نفسه ما غصب غيره. ولا عرف الناس الحماية والاستعمار وغيرهما من أوضاع الغصب والاستذلال. هَذَا المَنْطِقُ لاَ يَرْضَاهُ الإِسْلاَمُ: وإذا كانت مصر قد خرجت على حكم العقل وطبائع الأشياء في معالجتها لقضية الحرية والاستقلال، فإنها قد خرجت أيضًا على حكم الإسلام، ولو أن حكام مصر وزعماءها استهدوا فطرهم السليمة واستفتوا قلوبهم المسلمة لهدوا إلى الحق والصواب، ولعلموا أن الجهاد الدامي هو طريق الحرية، وأن القتل والقتال هو طريق الاستقلال، ولا يعجبن أحد أن يكون حكم

الإسلام متفقًا مع حكم العقل وطبائع الأشياء. فإن الإسلام هو بنص القرآن {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، أو هو كما يقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دِينَ الفِطْرَةِ». الإِسْلاَمُ يَأْبَى عَلَى المُسْلِمِينَ الذِلَّةَ: إن الإسلام يأبى على معتنقيه أن يستذلوا، بل إنه لم يجعل في قلب المسلم مكانًا للذل إلا ذلة التواضع والرحمة لأخيه المسلم، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وفيما عدا ذلك فلا ذل ولا استذلال، وإنما عزة واعتزاز على كل من في الأرض {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]. ويوجب الإسلام على المسلمين أن يعتقدوا ذلك وأن يؤمنوا به، وأن يجعلوا هدفهم الأسمى تحقيقه، ليهيئوا لأمتهم مكانها الذي اختاره الله لنا، وهو مكان الصدارة والتعليم، ومكان الهداية والقيادة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. فإذا وجد المسلم في مكان لا تتوفر فيه أسباب العزة له،

ولم يستطع أن يوفر لنفسه أسباب العزة والمنعة، فعليه أن يهجر هذا المكان إلى غيره فِرَارًا بنفسه أن يستضعف أو يستذل، وهو لا بد واجد فَرَجًا وَسَعَةً {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]. فَإِنْ أَنِسَ إلى ما هو فيه وسكت عليه وهو قادر على الهجرة فقد ظلم نفسه وكفر بربه ولن ينفعه ادعاؤه الإسلام شَيْئًا، لأنه رضي لنفسه أَنْ يُسْتَضْعَفَ، ويأبى الله والإسلام أن يخلد المسلم للذل أو يستكين للاستضعاف والاستغلال. ولقد حرص الإسلام على أن يمنع المسلم من الإقامة بين ظهراني غير المسلمين لأن إقامته بينهم تشعره بالوحدة والضعف، وتربي فيه روح الاستخذاء والاستكانة، وقد تدعوه إلى المحاسنة ثم المتابعة، والإسلام يريد للمسلم أن يمتلئ قوة وعزة وأن يكون متبوعًا لا تابعًا، وأن يكون ذا سلطان ليس فوقه إلا سلطان الله. ومن أجل هذا حَرَّمَ الإسلام على المسلم أن يقيم في بلد لا سلطان للإسلام فيه إلا إذا استطاع أن يظهر إسلامه، ويعمل طِبْقًا لعقيدته دون أن يخشى الفتنة على نفسه، وإلا فعليه أن يهجر هذا البلد إلى بلد يعلو فيه سلطان الإسلام، فإن لم يفعل فالإسلام بريء منه ما دام قادرًا على الهجرة، وفي ذلك كله يقول الله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِلاَّ

الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 - 99]،، ويقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَالَ: «لاَ تَرَاءَى نَارَاهُمَا» ويقول: «لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». الإِسْلاَمُ لاَ يُسَالِمُ المُعْتَدِينَ: ومبادئ الإسلام العامة توجب على المسلم أن لا يسكت على المعتدي، وأن لا يستخذي أمام المسيء، كما توجب على المسلم أن يدفع الاعتداء بالاعتداء، وأن يقابل الإساءة بالإساءة، فمبادئ الإسلام العامة لا تسمح للمسلمين أن يسكتوا إذا اعتدى عليهم أمثال الإنجليز والفرنسيين أو احتلوا بلادهم، ولا تسمح مبادئ الإسلام للمسلمين أن يتخاذلوا أمام الغزاة، أو أن يستكينوا للاحتلال، أو أن يرضوا بسلطان المحتلين، وإنما هو الاعتداء بالاعتداء، والسيئة بالسيئة، والكفاح والحرب، والقتال والقتل حتى يجلوا المحتلين والغزاة عن بلادهم، ويردوهم على أعقابهم خاسرين، ويكون السلطان في بلادهم الإسلام خَالِصًا للمسلمين، وفي ذلك يقول الله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].

ويقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. ويقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]، ويقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]. جِهَادُ أَعْدَاءِ الإِسْلاَمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ: وبعد، فليست هذه المبادئ العامة هي كل ما جاء به الإسلام، وإنما هناك الجهاد في سبيل الله، تلك الفريضة التي فرضها الله على كل مسلم إلى يوم القيامة وأوجبها وسيلة إلى حفظ الإسلام، والدفاع عن بلاده، وحياطة المسلمين وإعزازهم، وَجَعْلِ كَلِمَةَ اللهِ هِيَ العُلْيَا وكلمة الذين كفروا هي السفلى. والجهاد هو القتال في سبيل الله، وبذل النفس والمال للدفاع عن الإسلام والمسلمين، أو لرفع كلمة الإسلام والمسلمين، وهو فريضة لا خلاف عليها كتبها الله على المسلمين في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]، وقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة: 191]، وقوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74]. وقوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

وَالْوِلْدَانِ} [النساء: 75]، وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]، وقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41]. وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]. وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29]. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 10، 11] هل الجهاد فرض عين أم فرض كفاية؟: والفقهاء مختلفون في نوع فرض الجهاد، فبعضهم يراه من فروض الكفاية، وبعضهم يراه من فروض الأعيان. وفرض الكفاية هو الذي إذا قام به من يكفي سقط عن سائر الناس، وإن لم يقم به من يكفي أثِمَ الناس كلهم، أما فرض العين فهو الذي يلزم الجميع ولا يَسقط عن أحد بفعل غيره. ولكن الفقهاء الإسلاميين متفقون في أن الجهاد يتعين أن يكون فرض عين في ثلاثة مواضع:

1 - إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، حُرِّمَ على من حَضَر الانصراف، وَتَعَيَّنَ عليه المُقام لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45]، ولقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]. 2 - إذا استنفر الإمام قَوْمًا لزمهم النفير معه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة: 38]. ولقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ، فَانْفِرُوا». 3 - إذا نزل الكفار ببلد إسلامي تعين الدفاع على كل أهله، وكان الجهاد فرض عين عليهم، لأنه قتال دفاع عن الدين لا قتال غزو، ولأن دخولهم خطب لا سبيل إلى إهماله، وأقل ما يؤدي إليه الفتنة والله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39]، ويقول: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]. متى يجب الجهاد على الشيوخ والنساء والمرضى؟: والجهاد في الأصل لا يجب على النساء لما روته عائشة قالت: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ , قَالَ: «جِهَادٌ لاَ قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالعُمْرَةُ».

ولا يجب القتال إلا على بالغ عاقل ذكر سالم من الضرر، ولكن إذا نزل الكفار ببلد إسلامي كان الجهاد وَاجِبًا عَيْنًا على النساء والرجال والشيوخ وأصحاب العاهات والمرضى، فمثلاً يجب على المسلمين في مصر والعراق رجالاً ونساء، شيوخًا وشبابًا، أصحاء وذوي عاهات أن يحاربوا الإنجليز حربًا لا هوادة فيها حتى يجلوهم عن بلادهم، وإلا فهم آثمون مضيعون لفريضة الجهاد التي أوجبت عليهم قتال المعتدين عليهم وأباحت دماءهم، ومثل هذا يجب على كل بلد إسلامي نزل به الكفار ولو كان نزولهم على خراب أو موات بعيد عن العمران. الإسلام يوجب الإعداد والاستعداد: والإسلام يوجب على المسلمين أن يكونوا دائمًا على حذر من مهاجمة العدو لهم، وعلى استعداد دائم للقائه، وأن يعدوا له من الجنود والعتاد ما يرهبه ويلقي في قلبه الرعب ويمنعه من التفكير في الاعتداء على المسلمين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71]. {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].

وليكون المسلمون أهلاً لفريضة الجهاد ولإعزاز الدين، فرض عليهم الإسلام أن يتعلموا كل ما يؤدي إلى التفوق في القوة والمهارة مما ينفع الجماعة وقت السلم أو وقت الحرب، كالمسابقة على الأقدام وسباق الخيل وسباق السفن والسيارات والطائرات، وكاللعب بالشيش والمزاريق والسيوف والعصي، وكالرماية بالنبال والمنجنيق والأسلحة النارية، وكالمصارعة والملاكمة ورفع الأثقال والسباحة وغيرها. والأصل في الشريعة الإسلامية أن كل ما ينفع الأمة في دينها ودنياها من علم أو فن أو صناعة فهو فرض لا شك فيه، وتعلمه واجب على الأمة لا خيار لها في الأخذ به أو تركه. وعلى هذا تكون الفروسية بما يدخل تحتها من ضروب المهارة والقوة والتفوق فرضًا من الفروض الإسلامية. ويكون حمل الأسلحة بكافة أنواعها والتمرن على استعمالها فَرْضًا وَاجِبًا على أفراد الأمة بحكم الإسلام. ويكون إنشاء الصناعات الحربية بكافة أنواعها فَرْضًا وَاجِبًا على الأمة ليس لها أن تتخلى عنه إلا إذا تخلت عن الإسلام. والنصوص صريحة في إيجاب كل ما يقتضيه الإعداد والاستعداد للحرب، استعدادًا يرهب الأعداء والحاقدين والمتربصين المعروفين والمجهولين. من ذلك قوله تعالى:

{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]، وقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلاَ إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ»، وقوله: «[المُؤْمِنُ] القَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ [المُؤْمِنِ] الضَّعِيفِ»، وقوله: «مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا»، وقوله: «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرَضُونَ، وَيَكْفِيكُمُ اللهُ، فَلاَ يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ». هذه سُنَّةُ رسول الله القولية، أما سُنَّتَهُ العَمَلِيَّةُ فقد ثبت أنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بالأقدام، وثبت أنه سابق بين الإبل، وثبت عنه أنه سابق بين الخيل، وثبت أنه حضر نضال السهام وسار مع إحدى الطائفتين فأمسكت الأخرى وقالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال: «ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ»، وثبت عنه أنه صارع ركانة، وأنه طعن بالرمح، وركب الخيل مسرجة ومعراة. ليس للمسلم أن يتثاقل عن العدو: والإسلام يحرم على المسلمين أن يتثاقلوا عن العدو، أو

يهنوا عند لقائه، أو يتهاونوا في دفعه، أو يولوه الأدبار، أو يدعوا إلى السلم، وإنما عليهم أن ينفروا للقاء عدوهم خفافًا وثقالاً، ويجاهدوه بأموالهم وأنفسهم، ويقاتلوه بكل قوتهم مقبلين غير مدبرين قتالاً فيه قوة وفيه غلظة، ولن يعفهم من كل ذلك أن يكون عددهم أقل من عدد عدوهم، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله الذي فصل لنا هذا كله في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ، إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38، 39]. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 15، 16]، وقوله: {وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء: 104]، وقوله: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [آل عمران: 139]، وقوله: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]. وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]. وقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]. وقوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ

قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. إشادة الإسلام بالجهاد والمجاهدين: ولقد جعل الإسلام فريضة الجهاد في ذروة فرائضه، وأعد للمجاهد أعظم الأجر، حَثًّا للمسلمين على الجهاد وترغيبًا فيه وتشويقًا إليه، وجعل الجهاد بالمال والنفس طريقًا لرحمة الله ومغفرته والخلود في جنته، وسببًا في مضاعفة أجر المجاهد، ووسيلة للنصر على الأعداء، والاستخلاف في الأرض، وإعلاء كلمة الإسلام، والتمكين للمسلمين. واسمع هذه المعاني جميعها في قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]. وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20]. وقوله: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157]. وقوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. وقوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195]. وقوله:

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111]. وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261]. وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55]. وقوله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُوهَا} [الأحزاب: 27]. واسمع قول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «رَجُلٌ يُمْسِكُ بِرَأْسِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَمُوتَ، أَوْ يُقْتَلَ». وقوله لما سئل أي العمل أحب إلى الله قال: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا، وَبِرُّ الوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وقوله: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ المَنَازِلِ». حكم الإسلام والسوابق التاريخية: هذا هو حكم الإسلام في جهاد الأعداء، وتلكم طريقته في استرداد الحرية والاستقلال، وإذا كانت طريقة الإسلام تتفق مع منطق العقول السليمة، وتماشي طبائع الأشياء، فإن وقائع التاريخ قاطعة في أن طريقة الإسلام هي الوسيلة الوحيدة

التي أدت إلى استرداد الحرية المسلوبة والاستقلال المفقود في كل أنحاء العالم وفي كل عصور التاريخ، وإنه لم يحدث في أي مرحلة من مراحل التاريخ القديم والحديث أن شعبًا من الشعوب حصل على حريته واستقلاله عن طريق مسالمة غاصبه والاستسلام له ومناشدته الحق والعدل. لماذا نقلد الغربيين في طلب الاستقلال؟: إن حكام مصر وزعماءها وأصحاب الرأي فيها مغرمون بتقليد الأوروبيين والأمريكيين في كل شيء، حتى إنهم ليتشبهون بهم في مطعمهم وملبسهم وطريقة تفكيرهم وكلامهم، فلماذا لا يقلدونهم في العمل للحرية والاستقلال؟ إن دول أوروبا كانت كلها تقريبًا فريسة للاحتلال، وكذلك كانت الدول الأمريكية، وبصفة خاصة الولايات المتحدة، فأي دولة أو دويلة من هذه جَمِيعًا رضيت لنفسها أن تستسلم للغاصبين وتسالمهم ثم تسألهم أن يمنحوها الاستقلال وتناشدهم في ذلك الحق والعدل؟ إن الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا واليونان ورومانيا وبلغاريا وتشكوسلوفاكيا وتركيا كانت كلها عرضة للاحتلال في هذا العصر الحديث، بل كانت بعضها محتلاً في هذا القرن، أفترى إحداها استطاعت أن تحصل على استقلالها

وحريتها إلا بامتشاق الحسام والقتل والقتال والجهاد المرير الذي قد يؤدي للنجاح أو ينتهي بالإخفاق؟ وهل كان إخفاق إحداها مرة مانعًا لها من الإعداد والاستعداد وتكرار القتال حتى حصلت على الاستقلال؟ ماذا كسبت مصر من الاستجداء؟: إن مصر من سنة 1919 م تستجدي الإنجليز حريتها التي غصبوها، وتسألهم أن يرفعوا أقدامهم عن استقلالها الذي وضعوه في الرغام، فماذا كسبت مصر من الاستجداء والسؤال؟ إنها لم تكسب شَيْئًا، ولكنها خسرت كرامتها، وقتلت الرجولة في أبنائها، وضيعت على نفسها اثنين وثلاثين عَامًا قضتها تمرغ وجهها في التراب، تسجد للإنجليز وتقبل أيديهم وأقدامهم، وتناشد الخُلُقَ الإنجليزي العالي الذي لم يعرف في حياته إلا القرصنة والاستعمار، تناشده الحق الذي نشأت عليه دولة القرصنة، وتسأله العدل الذي أقيمت عليه دعائم الاستعمار! ولكن يجب ألا ننسى أن مصر كسبت شَيْئًا قد يستحق الذكر جاء نتيجة لاستجداء الإنجليز الشرفاء، ذلك الشيء هو معاهدة سنة 1936 التي سميت بمعاهدة الشرف والاستقلال، وكان يجب أن تسمى بحق معاهدة الاستجداء والاستغفال.

إن إنجلترا لما رأتنا نلحف في السؤال قدرت أننا أهل للاستغفال فطوت يدها كما يفعل السخي على ورقة تعلن استقلالنا، لنعترف للإنجليز بأن من حقهم استغلالنا، ورقة تمنحنا حريتنا فيما يضرنا وتسلبها فيما ينفعنا، وخيلت لنا الغفلة أن إنجلترا منحتنا حريتنا واستقلالنا، فطرنا بهذه الورقة كل مطار وسميناها معاهدة الشرف والاستقلال، ثم لما جد الجد بحثنا عن الحرية ونقبنا عن الاستقلال فإذا بنا نجد سرابًا لا ماءً، وأسماءً لا مسميات. إن معاهدة 1936 في نصوصها وفي الكيفية التي طبقت بها دليل لا ينقض على أن إعلان الاستقلال وعقد معاهدات التحالف مع بقاء الاحتلال قائمًا ليس بالذي يحرر الشعوب المحتلة أو التابعة من عبوديتها أو تبعيتها، وليس بالذي يمكن لها حتى فيما يتعلق بداخليتها، بل إن هذه الشعوب بالرغم من إعلان الاستقلال وقيام المعاهدات لا تستطيع أن تفعل إلا ما يرضي حلفاءها الأقوياء ويحقق مصالح سادتها ولو أضر بمصلحتها، وتظل أيديها مغلولة في نظامها وسياستها وتشريعها واقتصادها، ولن يرضى الحليف القوي إلا أن يعيش الحليف الضعيف تابعًا له ومطيعًا لأمره، ولن يسمح الاستقلال المزعوم للدولة المحتلة أن تختار لنفسها منهاجًا معينًا أو حكامًا معينين، بل عليها أن تختار المنهاج الذي يختاره المحتلون، والحكام الذين يزكيهم الاحتلال، ولن يختار المحتلون إلا منهاجًا يُمَكِّنُ لهم ولمصالهحم في البلاد المنكوبة بهم، ولن يزكوا إلا حكامًا يوالونهم ويرعون مصالحهم، ويحفظون لهم سمعتهم

وهيبتهم. إن حال المصريين أيام الاحتلال السافر، هي هي لم يتغير بإعلان هذا الاستقلال الساخر، وإنما الذي تغير هو طريقة المحتلين في حكم هذا البلد المسكين. لقد كانوا يحكمونه ظاهرين، فأصبحوا يحكمونه مستترين، وكانوا يحملون أوزار الحكم وسيئاته، فأصبحنا نحمل أوزارهم وتنسب إلينا سيئاتهم. لقد كان الإنجليز قديمًا يحكمون مصر لحسابهم، أما اليوم فالمصريون يحكمون أنفسهم لحساب الإنجليز. كيف نفذت معاهدة 1936؟: لقد نفذ الإنجليز معاهدة سنة 1936 في كل ما يتعلق بصالحهم، ونقضوها بندا بندا في كل ما يتعلق بصالح مصر، ويكفي أن يعلم المصريون أن المعاهدة وضعت لمنع الإنجليز من التدخل في شؤونها، ولتبادل العون وقت الحرب. فأما عن التدخل في شؤوننا فلم يكف الإنجليز لحظة واحدة عن هذا التدخل. ولعل من أظهر الأمثلة عليه حادث 4 فبراير سنة 1942، وطلب حل الإخوان المسلمين في سنة 1948. أما عن تبادل العون وقت الحرب فقد عاوناهم في الحرب بجنودنا وأموالنا، ووضعنا تحت تصرفهم كل مواردنا، فلما اشتبكنا مع اليهود ضَنُّوا علينا بالسلاح والذخائر بعد أن وعدوا بها، ورفضوا أن يبيعوها إلينا بأمثال ثمنها، وهكذا

يطلب الإنجليز تنفيذ المعاهدة إذا اقتضى ذلك صالحهم، ويعطلون تنفيذها إذا لم يكن لهم صالح في التنفيذ. نحن لم نتعلم بعد: وبالرغم من كل ما أصاب سياسة الاستجداء من فشل وإخفاق فلا زال زعماؤنا وكبراؤنا يحرصون على الاستجداء والسؤال، ويمدون يدهم لكل غاد ورائح من الإنجليز يسألونه إلحافًا، ويرهقونه استعطافًا، لا يصدهم عن ذلك إهمال، ولا يمنعهم عنه انتهار. ولقد بلغ الهوان بحكومة مصر أنها ظلت من سنة 1945 حتى اليوم تتضرع إلى الإنجليز وتسألهم أن يتفضلوا عليها بتعديل معاهدة سنة 1936، والإنجليز صامتون لا يرقّون للمتضرعين، ولا يستجيبون للسائلين المحرومين الذين حرموا نعمة العقل ونعمة الدين. إن معاهدة سنة 1936 قد نقضت، وأصبحت هشيمًا تذروه الرياح على أثر عقدها، أو على أكثر تقدير في فبراير سنة 1942 ولم ينقضها إلا الإنجليز فكيف يعتبر حكامنا المصريون هذه المعاهدة قائمة؟ ولماذا يريدون أن يقيموا من أنقاضها، ويعدلوا بنيانها؟ وما الذي يمنع الإنجليز لو عدلت من نقضها وعدم الاعتداد بها؟ إنه لخير لمصر أن لا يربطنا بالإنجليز عهد أبدًا، لنضعهم

في موضعهم الحقيقي، ولنضع أنفسنا في موضعنا الطبيعي، ليكونوا غزاة لأرضنا ندفعهم بأنفسنا وأموالنا، ونغسل بدمائنا وبدمائهم الأرض التي دنسوها بأقدامهم. منطق عجيب: إن بعض الناس يتلمسون الأعذار للحكام والزعماء فيما يلجأون إليه من استجداء الغاصب لنيل الاستقلال، ويقولون إنهم اضطروا لسلوك هذا الطريق اضطرارًا بعد أن تبينوا أن الشعب في عدته واستعداده لا يقوى على مواجهة عدوه، وأنهم ككل أبناء مصر يعلمون حق العلم أن لعنة الاحتلال حلت بوطنهم بسبب واحد هو الضعف، وأن هذه اللعنة استمرت بسبب واحد هو بقاء الضعف. وإذا كان هذا هو منطق الزعماء والحكام فهو منطق عجيب حقا، فإذا صح أن سبب الاحتلال هو ضعف الشعب، وأن سبب استمرار الاحتلال هو استمرار ضعف الشعب، فقد كان أول ما يجب عمله هو توفير القوة للشعب، ومن السهل توفير القوة في بلد يطالب بحريته واستقلاله ويعمل على نيلهما بكل وسيلة، بل لعل من أسهل الأمور توفير القوة في بلد كمصر يعرف أبناؤه جَمِيعًا أنه في وضع يقتضيه أن يعد ويستعد لنيل حريته واستقلاله، ويعرف أبناؤه جَمِيعًا أن الدين الرسمي للدولة يقتضي مصر وأبناءها الإعداد المستمر، والعدة التي ترهب الأعداء وتحول بينهم وبين مجرد التفكير في الاعتداء.

ولكن حكامنا وزعماءنا وهم يتداولون كراسي الحكم من حوالي ثلاثين عَامًا لم يفعلوا شَيْئًا في سبيل توفير قوة للشعب المحتاج إلى القوة المتلهف عليها، بل لم يوفروا هذه القوة لما يعتبر من القوى الحكومية، فالجيش ضئيل العدد ضعيف العتاد ليس لديه من المعدات الحديثة ما يجعله في عداد الجيوش التي يحسب لها حساب، وهو يعيش على كرم المحتلين وسخائهم، فإن شاءوا أعطوه من عتادهم القديم وذخيرتهم الفاسدة وإلا فلا ذخيرة ولا عتاد، ورجال البوليس والخفر يحمل أكثرهم أسلحة قديمة لا تصلح للاستعمال، وهؤلاء الحكام والزعماء يَعِدُونَ من سنة 1936 أنهم سينشئون مصانع للأسلحة الصغيرة والذخيرة، ولكنهم لم يفعلوا شَيْئًا حتى الآن، وقد تداولوا جَمِيعًا كراسي الحكم أكثر من مرة. وأعجب العجب أن حكام مصر وهم يتزعمون حركة التحرير والمطالبة بالاستقلال، لم يتفقوا على شيء كما اتفقوا على حرمان الشعب من كل قوة، فهم يُحَرِّمُونَ على المصريين أن يحملوا السلاح أيا كان نوعه حتى السكاكين التي تصنع مَحَلِّيًّا، ويحرمون على المصريين تبعًا لذلك أن يتدربوا على استعمال السلاح، ويتشددون في تنفيذ القوانين التي تحرم حيازة الأسلحة ويشددون عقوبتها بين حين وآخر حتى أصبح المصري يعاقب أشد العقاب على حيازة السلاح التافه. هذا ما تفعله حكومات مصر الإسلامية وتتشدد فيه، وهي تعلم أن الإسلام والعقل ومنطق الأشياء كل ذلك يوجب

على المصريين أن يتدربوا على السلاح وأن يحملوه وأن يحاربوا به المحتلين، فهل يعاقَب المصريون على تمسكهم بالإسلام وعلى أدائهم ما يوجبه عليهم الدين والعقل وما يوجبه عليهم إخلاصهم لوطنهم وما توجبه عليهم رجولتهم؟ أم أنهم يعاقبون لأن حملهم السلاح وتدربهم عليه يقلق راحة المستعمرين ويمرض مزاجهم الرقيق؟ العجب الذي لا ينتهي: وقد يكون للعجب مدى فيما ذكرنا من أفعال حكامنا وزعمائنا الذين يجاهدون كما يزعمون في سبيل استقلالنا، ولكن العجب لن ينتهي مما يفعله هؤلاء الحكام والزعماء يوم تتأزم الأمور بالدولة المستعمرة، ويفلت الزمام من يدها، وتحين الفرصة لتأخذ مصر حقها وتطرد الغاصبين من أرضها، يومئذ ينقلب الحكام والزعماء على مصر في غير تحرز، ويعملون لمصلحة الإنجليز أكثر مما يعمل الإنجليز، يومئذ تصبح مهمة الدولة المصرية والحكومة المصرية حراسة أمن الإنجليز ومحاربة الوطنيين والقضاء على كل حركة يقصد منها القضاء على سلطان الإنجليز، يومئذ تفتح السجون والمعتقلات للمصريين، وتطلق وراءهم حكومتهم المصرية بوليسها وجواسيسها يسعون وراء المتحمسين ضد الإنجليز، ويطاردون الذين يعكرون صفو الإنجليز، أو يهددون أمنهم وسلطانهم، يومئذ تُلَفَّقُ التُّهَمُ للوطنيين وتدبر لهم المحاكمات، وَيُلْقَى بهم في غيابات السجون والمعتقلات، انتقامًا من وطنيتهم، وتنكيلاً

برجولتهم وإنسانيتهم، وحبسًا لنشاطهم، وقضاء على كل أمل في تحرير مصر، وتمكينًا للاستعمار من رقاب المصريين. حدث هذا فيما بين سنتي 1914 و1918 يوم كانت عجلة الحرب تدور ضد الإنجليز، وكان الأتراك على أبواب مصر من الشرق، والسنوسيون في الغرب، وكان يكفي أن يتحرك المصريون أقل حركة ليتخلصوا من نير الإنجليز وَلِيُغَيِّرُوا بحركتهم المصير الذي انتهت إليه الحرب، ولكن حكام مصر كانوا أشد عطفًا وأكثر حَدْبًا على الإنجليز منهم على حرية مصر وكرامتها، فدفعوا إلى السجون والمعتقلات والمنافي بكل من يناوئ الإنجليز أو من يظن أنه يفكر في مناوأتهم. وحدث مثل هذا فيما بين سنتي 1940 و1944 يوم كان الإنجليز يقفون على حافة الهاوية، ويوم بدأ الإنجليز يرحلون عن مصر خائفين مترقبين يائسين، ولكن الحكومة المصرية وحدها هي التي أَمَّنَتْ خوفهم، وأذهبت يأسهم، وأبقت على سلطانهم. وفي سنة 1948 بلغت ثورة النفوس ضد الإنجليز مداها، وتزعزع النفوذ الإنجليزي في مصر إلى حد كبير، وكان سبب هذا كله والدافع إليه جماعة الإخوان المسلمين، فسعى الإنجليز إلى الحكومة المصرية يستعدونها على الاخوان المسلمين، فتحولت الحكومة المصرية الواهنة المستسلمة إلى مارد جبار يقتل هؤلاء الإخوان ويغتالهم، ويملأ بهم السجون والمعتقلات، ويمثل بهم أشنع تمثيل، ويستبيح من أجسامهم وأعراضهم وكراماتهم ما تأنف البهائم والوحوش أن تأتيه.

والحكام المصريون يبغون على قومهم هذا البغي، ويدافعون عن الإنجليز بهذه القوة والقسوة، موالاة للانجليز وتحببًا إليهم وإبقاء على سلطان الاحتلال غير المشروع، ذلك السلطان الذي يستمدون منه سلطانهم، ويربطون بمستقبله مستقبلهم. أهؤلاء مسلمون؟: وحكام مصر وزعماؤها الذين يزعمون أنهم يجاهدون في سبيل حرية مصر واستقلالها هم قبل كل شيء مسلمون، مسلمون على الأقل بأسمائهم ولآبائهم، وإن كانوا لا يرضون لأنفسهم إلا أن يكونوا مسلمين بعقولهم وقلوبهم، ولكنهم كم فتقوا في الإسلام الفتوق وجلبوا عليه البوائق، وما في تاريخ أحدهم أنه قدم خدمة للإسلام أو أقام حُكْمًا من أحكام الإسلام أو عادى أعداء الإسلام أو وَالَى أنصار الإسلام. إن الإسلام يُحَرِّمُ كل التحريم على المسلم أن يوالي غير المسلمين، ولم يجز موالاة الكافرين إلا للتقاة، على أن يكون عمل المسلم خالصًا للإسلام والمسلمين، وأن لا يترتب على موالاة الكافرين إلا النكاية بهم. والقاعدة في الإسلام أن المؤمن وَلِيُّ المؤمن، وأن الكافر وَلِيُّ الكافر، وأن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أمة واحدة {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52]. وأن المؤمنين في كل بلاد العالم إخوة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. وأن الكفر كله ملة واحدة.

ويمنع الإسلام من موالاة غير المسلم لأن ذلك يؤدي إلى الفتنة والفساد، ويعتبر من يوالي غير مسلم خارجًا عن الإسلام، ومنتسبًا إلى من والاه، ولو كانت الموالاة بقصد الحصول على القوة والمنعة. ولا يجيز الإسلام لمسلم أن يكون بينه مودة وبين من يكفر بالإسلام ويعاديه، ولا أن يتخذ منهم بطانة ولو كانوا آباء أو أبناء أو إخوة أو عشيرة، ويعتبر القرآن من يفعل ذلك مُجَرَّدًا من الإيمان. ولا يمنع الإسلام المسلمين من أن يكون بينهم وبين غير المسلمين مودة ما داموا لم يقاتلوا المسلمين أو يعتدوا عليهم، بل من واجب المسلمين في هذه الحالة أن يبروهم ويقسطوا إليهم، ولكن الإسلام يحرم على المسلمين أن يوادوا الذين قاتلوهم في الدين أو أخرجوا المسلمين من ديارهم أو ظاهروا على إخراجهم. ونصوص القرآن صريحة وقاطعة في هذه المعاني. من ذلك قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]. وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ

فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. وقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55]. وقوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1]. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118]. وقوله: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} [التوبة: 23]. وقوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 80، 81]، وقوله: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8، 9]. وبالرغم من هذه النصوص الصريحة فإن حكامنا وزعماءنا المسلمين يوالون الإنجليز والفرنسيين والأمريكيين وغيرهم

ممن يعادون الإسلام، ويحاربون المسلمين، ويحتلون بلادهم، ويسومونهم الخسف والظلم، وإن حكامنا وزعماءنا ليوادون أعداء الله وأعداء الإسلام ويتملقونهم يبتغون عندهم العزة، عزة الحكم والجاه، وليس في هؤلاء الأعداء إلا من قاتل المسلمين في الدين، وإلا من يحارب الإسلام أعنف الحرب، وإلا من أخرج الفلسطينيين من ديارهم، أو ظاهر على إخراجهم وتشريدهم.

القوانين الوضعية تهدد نظامنا الاجتماعي

القَوَانِينُ الوَضْعِيَّةُ تُهَدِّدُ نِظَامَنَا الاِجْتِمَاعِي: النظام الاجتماعي الإسلامي: والنظام الاجتماعي في البلاد الإسلامية معناه النظام الإسلامي، لأن الإسلام يحكم حركات المسلم وسكناته، وأفعاله وأقواله، ومعاملاته وتصرفاته، وصلاته بالأقرباء والغرباء، والأعداء والأصدقاء، ويرسم له أخلاقه ومنهاجه في الحياة، ولأن الإسلام يقيم المجتمع كله على أسس إسلامية بحتة في الحكم والإدارة والسياسة وفي العلوم والفنون والآداب، وفي الاجتماع والاقتصاد وتوزيع الثروات وفي الحرب والسلم، وفي الداخل والخارج، وعلى هذا فالنظام الإسلامي هو النظام الاجتماعي، لأي مجتمع إسلامي. ويمكننا أن نفرق في البلاد الإسلامية بين النظام الاجتماعي ونظام الحكم فنقول: إن النظام الاجتماعي هو النظام الذي تقوم عليه الجماعة نفسها، ويحكم علاقاتها بالغير وعلاقات أفرادها بعضهم ببعض. أما نظام الحكم، فهو النظام الذي تتبعه الجماعة في حكم نفسها، أي في اختيار حكامها ورؤساء الدولة فيها وهو النظام الذي يحدد حقوق الحكام ورؤساء الدول وواجباتهم.

وليس لهذه التفرقة أهمية في البلاد الإسلامية، لأن النظام الاجتماعي ونظام الحكم في هذه البلاد يقومان على الإسلام ويرجعان إليه، ولأن الإسلام لا يقبل التجزئة ولا يسمح للمسلمين أن يقيموا أوضاعهم على ما يخالف الإسلام. وكل ما يخالف الإسلام في الاجتماع أو الحكم إنما هو خروج على النظام الاجتماعي أو نظام الحكم، أو هو خروج على الإسلام لا يصح للمسلمين أن يسمحوا به مهما كلفهم ذلك من المشاق والتضحيات. ولنستعرض فيما يلي الأسس الرئيسية التي يقيم عليها الإسلام حياتنا الاجتماعية، ثم نستعرض بعد ذلك أوضاعنا الاجتماعية، لنرى إلى أي حضيض نزلت بنا هذه القوانين الوضعية. أسس النظام الاجتماعي الإسلامي: يقوم النظام الاجتماعي في البلاد الإسلامية على أسس إسلامية بحتة، ويصطبغ في كل مظاهره بصبغة الإسلام، والإسلام هو النظام الذي اختاره الله للبشر ليقيموا حياتهم عليه، وليحييهم به حياة طيبة، وليسعدهم به في الدنيا والآخرة. وأهم أسس النظام الاجتماعي الإسلامي هي: 1 - المساواة التامة بين البشر: يقيم الإسلام المجتمعات الإسلامية على قاعدة المساواة التامة بين البشر، ويقرر المساواة على إطلاقها، فلا قيود ولا

استثناءات، وإنما مساواة تامة بين الأفراد، ومساواة تامة بين الجماعات، ومساواة تامة بين الأجناس، ومساواة تامة بين الحاكمين والمحكومين، لا فضل لرجل على رجل، ولا لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وذلك ما أكده رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ المُشْطِ الوَاحِدِ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلاَّ بِالتَّقْوَى». وفي قوله: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ بِالإِسْلاَمِ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَفَاخُرَهُمْ بِآبَائِهِمْ، [كُلُّكُمْ] لآدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، وَأَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ». فالناس جَمِيعًا متساوون على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، متساوون في الحقوق، متساوون في الواجبات، متساوون في المسؤوليات، وهم في ذلك كأسنان المشط لا تزيد سن عن سن، ولا تنقص سن عن سن، أو هم في ذلك كأبناء الرجل الواحد والمرأة الواحدة، ترشحهم وحدة أصلهم إلى المساواة في حقوقهم وواجباتهم ومسؤولياتهم. والتقوى هي وحدها نِصاب التفاضل بين الناس في الإسلام، ولكنه تفاضل في حدود معينة، تفاضل بين الناس عند ربهم فقط، فأكرمهم عند الله أتقاهم. وكون التقي كريمًا على الله، لا يعطيه حَقًّا عند الناس يزيد على ما لغيره من

الحقوق، فالتقوى إذن صفة تؤثر في صلة الإنسان بربه، أكثر مما ثؤثر في صلة الإنسان بغيره، والتفاضل الذي ينشأ عن التقوى هو تفاضل معنوي لا مادي. 2 - العدالة المطلقة: ويقيم الإسلام المجتمع على العدالة المطلقة المجردة عن القيود، العدالة التي تتسع للأصدقاء والأعداء، ولا تفرق بين الأقرباء والغرباء، العدالة التي لا تعرف الميل والمحاباة، ولا تنكمش عن ذوي النفوذ والجاه، العدالة التي تعطي الحق لصاحبه لأنه محق، وتأخذ الحق من المبطل لأنه مبطل، العدالة التي تعتبر الضعيف صاحب الحق قويا بحقه حتى ترد له حقه، وتعتبر القوي غاصب الحق ضعيفا حتى تسترد منه حق غيره. العدالة التي أمر الله بها ووصفها في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90]. فهو يأمر - جَلَّ شَأْنُهُ - بالعدل وبالإحسان في العدل، فلا يكفي أن يكون المرء عادلاً، وإنما عليه أن يحسن ما استطاع في عدله. وقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]. وقوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا} [المائدة: 8]. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135].

3 - الحرية في أوسع معانيها: ويقيم الإسلام المجتمع على أساس الحرية في أوسع معانيها، وأروع مظاهرها، فحرية الاعتقاد، وحرية التفكير، وحرية القول، كل ذلك وغيره يقرره الإسلام ويجعله عمدًا للمجتمع الإسلامي، وَأُسُسًا لحياة الأمة الإسلامية. يقرر الإسلام حرية الاعتقاد، ويجعل لكل إنسان أن يعتنق من العقائد ما شاء، وليس لأحد أن يحمله على ترك عقيدته، أو اعتناق عقيدة غيرها، ولو كانت هذه هي العقيدة الإسلامية، وذلك ظاهر من قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. وقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22]. وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]. ويقرر الإسلام حرية الفكر، ويحث الناس على التفكير في كل شيء، ولقد قامت الدعوة الإسلامية نفسها على أساس العقل والتفكير، واعتمد القرآن في اجتذاب الناس للإسلام على استثارة تفكيرهم، وإيقاظ عقولهم، ودعوتهم إلى التفكير في خلق السماوات والأرض، وفي خلق أنفسهم، وإلى التفكير فيما حولهم مما تقع عليه أبصارهم، أو تسمعه آذانهم، ليصلوا من وراء ذلك كله إلى معرفة الخالق، وليستطيعوا أن يميزوا بين الحق والباطل.

ونصوص القرآن التي تحض على استخدام العقل وتحرير الفكر لا تعد كثرة، من ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46]. وقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8]. وقوله: ({قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]. وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. ويعيب القرآن على الناس أن يلغوا عقولهم، ويعطلوا تفكيرهم، ويتمسكوا بالعادات والتقاليد، ويؤمنوا بالخرافات والأوهام، ويصف من كانوا على هذه الشاكلة بأنهم كالأنعام، بل أضل سبيلاً من الأنعام، لأنهم يتبعون غيرهم دون تفكير، وَلاَ يُحَكِّمُونَ عقولهم فيما يعملون أو يقولون أو يسمعون، واقرأ إن شئت قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]. وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. ويقرر الإسلام حرية القول ويجعلها حَقًّا لكل إنسان،

بل إن الإسلام يجعل القول واجبا على الإنسان في كل ما يمس الأخلاق والمصالح العامة والنظام وفي كل ما يعتبر منكرًا، وذلك قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. وقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]. وذلك قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ»، وقوله: «أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»، وقوله: «إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ» ... قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ». وقوله: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَالَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ». 4 - الأخوة: ويقيم الإسلام المجتمع الإسلامي على أساس متين من الأخوة فيعتبر المسلمين إخوانًا تربط بينهم رابطة الأخوة الإسلامية وتوحد اتجاهاتهم، وتقوي صفوفهم، وتحملهم على التعاون والبر والتراحم، وفي هذا المعنى يقول الله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. ويقول: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. ويقول رسول الله - صَلََّى

اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ». 5 - الاتحاد: وبعد أن أقام الإسلام المجتمع الإسلامي على أساس الأخوة، أوجب على المسلمين الاتحاد والالتفاف حول راية القرآن، وحرم عليهم الفرقة والتنازع، ليكونوا يَدًا واحدة ولسانًا واحدًا، وأوصاهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله، حتى لا يكون هناك سبيل للنزاع والاختلاف، وحتى تظل الوحدة قائمة والصفوف سليمة، وحتى لا يكون للأهواء والأغراض منفذ، وذلك قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. وقوله: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]. وقوله: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]. وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].

6 - التعاون: ويقيم الإسلام المجتمع بعد ذلك على التعاون، التعاون على الخير والبر، واتقاء المحارم، ومحاربة المنكرات والمفاسد، ونبذ الإثم والعدوان، وصيانة بناء المجتمع الإسلامي من كل الأمراض الاجتماعية التي تؤدي بالجماعات إلى التحلل والفناء، وفي ذلك يقول - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. ويقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. 7 - اتقاء المحارم: ويقيم الإسلام المجتمع على اتقاء المحارم، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم بغير الحق، فليس لمسلم أن يأتي في سره أو علنه فاحشة حرمها الإسلام، وليس له أن يباشر مأثمًا، ولا أن يبغي ما ليس حقه، ولا أن يطلب ما ليس له، وفي ذلك يقول - جَلَّ شَأْنُهُ -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]. وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16]. وقوله: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ

تُحْشَرُونَ} [المجادلة: 9]. وقوله: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34]. 8 - التحلي بالفضائل: ويقيم الإسلام المجتمع على الأخلاق الفاضلة، والفضائل الإنسانية العليا، فيوجب الإسلام على المسلمين التخلق بالأخلاق الحسنة، والتحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، ليكون المجتمع الإسلامي مجتمعًا فاضلاً مِثَالِيًّا، فإذا دعا المسلم الناس إلى الإسلام فليكن ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا جادل غيره جادله بالحسنى، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. وليس للمسلم أن يجهر بالسوء من القول إلا إذا ظُلم، فما لم يظلم فليس له أن يجهر بقولة السوء، {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]. وليس للمسلم أن يسخر من أحد أو يلمزه ولا أن يتنابز بالألقاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11]. وليس لمسلم أن يظن بأخيه المسلم الظنون، ولا أن يأخذه بالظن، ولا أن يتجسس عليه، ولا أن يغتابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ

بَعْضًا} [الحجرات: 12]. وليس للمسلم أن يتعالى أو يتكبر {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23]. وليس للمسلم أن يختال أو يتفاخر {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} [النساء: 36]. وعلى المسلم أَنْ يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، ويعطي من حرمه، وأن يأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وعليه أن يدفع عن نفسه بالتي هي أحسن، فإن ذلك أقرب إلى أن يحيل العداوة صداقة ويقرب بين القلوب {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. وعلى المسلم أن يصلح بين الناس {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]. وعليه أن يعرض عن اللغو {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]. وليس للمسلم أن يبخس الناس أشياءهم {وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85]. ولا أن يتمنى ما فضل الله به بعض الناس عليه {وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32]. ولا ينسى وهو صاحب حق أن يتفضل على أخيه المسلم {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]. وهذا قليل من كثير من الفضائل العليا التي جاء بها الإسلام وألزم المسلمين التحلي بها، ويكفي المسلمين من الأخلاق الفاضلة أن الله جعل لهم في رسول الله أسوة حسنة {لَقَدْ

كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وأن الله وصف رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخُلُق العظيم فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. وقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 159]. فإذا سار المسلمون على نهج رسوله، واتخذوا من أفعاله وأقواله وأخلاقه أسوة، فقد أفلحوا وبلغوا ذروة الفضل. 9 - الاستخلاف في ملك الله: ويَعتبر الإسلام الأرض وما عليها مالاً لله وَمُلْكًا له {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} [المائدة: 120]. استعمر فيه الآدميين وأعده لانتفاعهم {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]. {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. فالمال مال الله لا مالهم وملكه لا ملكهم، ولكنهم مستخلفون فيه وَقُوَّامٌ عَلَيْهِ {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} [الأنعام: 165]، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]. {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]. (({أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 55، 56]. {وَأَمْدَدْنَاكُمْ

بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء: 6]. {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت: 60]. وإذا كان المال على اختلاف أنواعه وأشكاله مال الله والناس مستخلفين فيه ووكلاء عليه، فليس لأحدهم أن يحبس ما في يده من هذا المال عن غيره إذا كان في حاجة ماسة إليه، وليس له أن يحبسه عن المصالح العامة، وليس له أن يستأثر به دون غيره، وليس له أن يكنزه وقد خلق لينتفع به الناس، وليس له أن يظن إذا أعطى غيره شَيْئًا من هذا المال أنه يعطي شَيْئًا من عنده، وإنما هو وسيط أعطى غيره من مال الله كما [أخذ هو] لنفسه من مال الله، وهذا المعنى ظاهر في قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71]. أي أن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - فضل بعض الناس على بعض في الرزق وجعل بعضهم خَدَمًا ومماليك للبعض الآخر، فالذين فضلوا في الرزق ليسوا هم الذين يرزقون خدمهم وعمالهم ومماليكهم، وإنما هم وسطاء في إيصال رزق الله إليهم، فالكل سواء يستمدون من الله الرزق وهو الذي يرزق المالك والمملوك، والسيد والخادم، والأمير والحقير. وهذا المعنى ظاهر أيضًا في قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]. وهذا النص خاص بالمكاتبين من الأرقاء، وحكمه إعانة هؤلاء المكاتبين على أداء

المال الذي كاتبوا عليه، والنص حين يأمر بإعانة المكاتبين، على أداء ما التزموه يذكر الناس بأنهم لا يعطون المكاتبين شَيْئًا من أموالهم، وإنما يعطونهم من مال الله الذي آتاهم وجعلهم خلفاء فيه. ويترتب على اعتبار المال مال الله والناس مستخلفين فيه أن يكون للحكومة الإسلامية الحق في أن تقتطع من ثروات الأفراد ما يقوم بالمصالح العامة وما يرد الحاجة عن المحتاجين، وأن تراقب توزيع الثروات فتحد من ثراء الأغنياء والمترفين، لترفع مستوى الفقراء والكادحين. 10 - تفتيت الثروات: ويقوم النظام الاجتماعي الإسلامي على تفتيت الثروات وتوزيعها. وللإسلام في ذلك ثلاث وسائل إيجابية: (الأولى) الميراث، وهو يؤدي طِبْقًا للنظام الإسلامي إلى توزيع ثروة الميت بين أبويه وزوجته وأبنائه وأبناء أبنائه، وأحيانا يأخذ عصبة الميت وذوو رَحِمِهِ بعض ميراثه (الثانية) ضريبة الزكاة، وهي تقتطع جُزْءًا من رأس المال في كل سنة، لا من الأرباح، ويبلغ هذا الجزء 2.5% من رأس المال يؤخذ من الأغنياء ليرد على الفقراء. (الثالثة) حق الحكومات في أن تقتطع من ثروات الأفراد ما يقوم بالمصالح العامة وَيُقَرِِّبَ بين مستوى الطبقات كما بَيَّنَّا من قبل.

وهناك وسيلة (رابعة) سلبية هي تحريم الاكتناز، فالإسلام يحرم على المسلم أن يكنز المال ويعطله فلا ينتفع به {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]. هذه هي الوسائل الأربع التي يفتت بها الإسلام ثروات الأفراد ويمنعها من التضخم، وهي وسائل إجبارية، وهناك وسائل أخرى اختيارية ترك أمرها للأفراد كالتصدق والإنفاق في سبيل الله، وقد حرص الإسلام على أن يأتي الأفراد هذه الوسائل الاختيارية، فدعاهم إليها ووعدهم حُسن المثوبة ومضاعفة الأجر عليها، فالإسلام يدعو إلى التصدق في السر والعلن في قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. وقوله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ} [الحديد: 18]. والإسلام يدعو المسلمين إلى الإنفاق ويبين لهم أنهم لن ينالوا رضاء الله حتى ينفقوا مما يحبون وأن ما ينفقون من خير سوف يخلفه الله ويجزيهم عليه أجرًا عظيمًا: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39]. {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7]. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [الأنفال: 60].

وهكذا يمنع الإسلام الثروات أن تتضخم، وينقلها من يد واحدة إلى أيد كثيرة، ويعطي للحكومات الحق في أن تقتطع من ثروات الأفراد ما يصلح حال الجماعة، ويرفع مستوى الفقراء والمعدمين، ويحول بين الأغنياء وبين الترف الذي يفسد الأفراد والجماعات، ويجعل المال في يد الفقراء والأغنياء على السواء، ولا يتركه في يد الأغنياء وحدهم: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. ويتبين مما سبق أن سياسة الإسلام في المال تقوم على المبادئ الآتية: [أ] المال مال الله والناس مستخلفون فيه، فهم قُوَّامٌ عليه ووكلاء فيه وليسوا أصلاء. [ب] إذا كان للقائم على المال حق فيه فإن للغير أيضًا حقوقًا على هذا المال يجب أن تقضى منه، كرِه ذلك القائم على المال أو أحبه، والنصوص في ذلك صريحة منها قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26]. وقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]. وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} [التوبة: 103]. ويلاحظ أن حقوق الغير على المال معينة، أي لا تتجاوز نسبة معينة منه.

[ج] إن للحكومات الحق في أن تأخذ من هذا المال فوق ما سبق ما تصلح به حال الجماعة كلما اقتضى الأمر ذلك دون أن يكون هناك حد لما تأخذه، ولا تتقيد الحكومات في ذلك إلا بقيد المصلحة العامة. [د] إن الإسلام يدعو القائمين على المال أن ينفقوا منه طوعًا في كل وجوه الخير والنفع ويعدهم على ذلك أعظم الأجر. [هـ] إن المال ينتقل محملاً بكل هذه الحقوق كلما انتقل من يد القائم عليه إلى يد غيره بالتصرف، أو إلى ورثته بالموت. 11 - البر والتراحم: والإسلام بعد ذلك كله يقيم المجتمع على البر والخير، وعلى التراحم والتعاطف، ويوجب على القوي والضعيف والغني والفقير والقريب والبعيد أن يكون كل منهم بَارًّا بأخيه راحمًا له عطوفا عليه، وأن يحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يعمل كل منهم لخير أخيه ويؤثره على نفسه ما استطاع، وأن يكون كل منهم بارا بوالديه وأهله واصلا لرحمه، والنصوص في ذلك صريحة متعددة منها قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104]. وقوله: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ} [المجادلة: 9]. ويقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ} [المائدة: 2]. وقوله: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ

بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]. وقوله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. ومنها قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ»، وقوله: «البِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»، وقوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ - وَفِي رِوَايَةٍ: لأَخِيهِ - مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، وقوله: «رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الوَالِدِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الوَالِدِ»، وقوله: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»، وقوله: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ» ... يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ، وقوله: «لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ»، وقوله: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»، وقوله: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فِي الإِسْلاَمِ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا». 12 - الاستمساك بالشورى: والإسلام يرد نظام الحكم في الجماعة إلى الشورى لتستطيع الجماعة أن تختار الحكام الصالحين للقيام بأمر الله في الجماعة، ولتستطيع أن تعزلهم كلما عجزوا عن أداء].

واجباتهم أو حادوا عن الطريق القويم، كما أن نظام الشورى يحول بين الحكام وبين الاستئثار بشؤون الجماعة، إذ يجعل الجماعة رقيبة على الحكام الذين اختارتهم. وقد جاء الإسلام بنظام الشورى وطبقه المسلمون قبل أن تعرفه الدول الغربية بأحد عشر قَرْنًا على الأقل، وقد فرض هذا النظام بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. وبقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. أوضاعنا الاجتماعية اليوم: رأينا فيما سبق بعض الأسس التي يقيم الإسلام المجتمع عليها، ولكن هذه الأسس الإسلامية لا تقوم عليها المجتمعات الإسلامية اليوم بعد أن عطلت الإسلام أهواء الحكام وقوانينهم التي ينقلونها عن بلاد لا تدين بالإسلام، تلك القوانين التي وجهت المسلمين اتجاهات غير إسلامية، وأَنْسَتْهُم الإسلام حتى لم يعد فيهم من الإسلام شيء. إن حكامنا وزعماءنا وأصحاب الرأي فينا لم يعودوا إخوانًا متحدين متعاونين كما يقتضي ذلك الإسلام، وإنما هم أحزاب وشيع، يعيشون متفرقين متنابذين، يتآمر بعضهم على البعض، ويتقول كل منهم على الآخر بالحق والباطل، ويتبادلون القذف والسباب كما لو كانوا يتقارضون المدح والثناء،

كل يحاول تحقير الآخر وتشويهه، وكل يريد أن يهدم أخاه ليرتفع على هامته، أو ليخلو له الجو ينطلق فيه، وقد حرصوا على هذه التقاليد التي ينكرها الإسلام ومارسوها كلهم حتى مزقوا أعراضهم، وقطعوا أرحامهم، وهدموا أنفسهم، وتركوا أسوأ مَثَل لمن بعدهم. والعدل الذي يوزعه الإسلام بالقسطاس المستقيم على القريب والبعيد والعدو والصديق، هذا العدل قد ذهب من بلاد الإسلام، فنحن اليوم لا نعرف من العدل إلا اسمه، ولا نجد تحت هذا الاسم إلا المحاباة الكريهة، والمحسوبية العمياء، حتى ليريد كل حزب أن يستأثر أعضاؤه وأنصاره بكل ما في البلد من حقوق وخيرات ولو قل عدده وَضَؤُلَ شَأْنُهُ، فإذا ما زحزح عن الحكم جاء الحزب الذي يخلفه بأسوأ مما فعل سلفه، فإذا قيل له في ذلك احتج بالسوابق وهكذا يبررون الظلم بالظلم والمحاباة بالمحاباة. ولقد فسدت أخلاقنا وضعف إيماننا بأنفسنا وانحدرنا إلى الحضيض، ورأينا كبراءنا وهم المثال الذي يحتذيه الشعب يتلونون كل يوم بلون ويلبسون لكل حالة لبوسها، فهم يومًا يؤيدون حكم الأقلية، وفي اليوم التالي ينادون بالحكومة الدستورية، وهم بعد ذلك منابذون لهؤلاء وهؤلاء، يجرون وراء فرد ليس له جماعة تؤيده ولا حزب يسنده، وهم يفعلون كل ذلك لا تَمَشِّيًا مع عقيدة يعتقدونها، ولا

خضوعًا لمبادئ يطبقونها، وإنما جريًا وراء الأهواء والشهوات، وتحقيقًا للمنافع أَوْ تَخَوُّفًا من الحرمان، ذلك أنهم يربطون أنفسهم بكل ذي سلطان طَالَمَا كان له سلطان، فإذا ما أحسوا بهذا السلطان في طريق الزوال انقلبوا على صاحبه ينهشون عرضه ويسخرون منه، وَطَالَمَا والله عبدوه من دون الله، وضحوا في سبيل إرضائه بكرامة الرجل وحياء الإنسان. ومن أجل هذا الذي درج عليه كبراؤنا فإن كل الحكومات على اختلاف أغراضها وألوانها وعلى اختلاف الجهات التي تسندها، تجد مؤيدين من كل الطبقات، وتستطيع أن تعيش مسنودة بأغلبية برلمانية طَالَمَا كان بقاؤها في الحكم مكفولاً أو على الأقل مأمولاً. ولقد تمثل الشعب بسادته وكبرائه في نفاقهم وسوء أخلاقهم، فعم النفاق وفشا الرياء وضاعت الأخلاق والكرامات، ولم يبق في الشعب من له ذمة أو ضمير أو خُلُقٍ إلا القليل، ومن المؤلم أن نجد كثيرًا من شباب الأمة وجيلها الحديث ينظرون إلى هؤلاء الذين يتمسكون بالفضائل على اعتبار أنهم قوم يحلمون ويعيشون في العصور البائدة، ويعتقدون أن المدنية والتقدم في التحلل من كل شيء، من الخلق والكرامة ومن الذمة والضمير، بل التحلل من الشفقة والرحمة ومن الآدمية والإنسانية.

إن الكثيرين من شباب اليوم فارغو النفوس والقلوب والرؤوس، فلا علم ولا عمل، ولا دين ولا إيمان، وهم لا يجيدون إلا تزجيج الحواجب وتصفيف الشعر، واختيار الملابس والتشبه بالممثلين والممثلات. ولا عمل لهؤلاء الشباب إلا ارتياد المحلات العامة والاندفاع وراء الشهوات. وقد وقع الكثير منهم فريسة سهلة للشيوعيين، لأنه ليس في تربيتهم المدرسية ولا في حياتهم المنزلية ما يَحُولُ بينهم وبين الآراء الهدامة أو ما يحصنهم ضد الفساد. والناس اليوم يستحلون كل شيء ما دام يؤدي للغاية، فالسرقة، والرشوة، والاختلاس، وبيع الأعراض والكرامات، والمساومة على المصالح العامة، والتستر على الخيانة والفساد، وإسكات صوت الحق، كل ذلك جائز ما دام يؤدي إلى المال، أو الجاه، أو كراسي الحكم. وكل فرد يحسد غيره ويتمنى ما بيده، فالمستوزر يحسد الوزير ويتمنى أن يحل محله، والفلاح الصغير يحسد المزارع الكبير، والعامل يحسد صاحب العمل، والفقير يحسد الغني، ويتمنى كُلٌّ أن يكون له ما للمحسود من مال ونعمة، بل لا يرى بَأْسًا من أن يحصل على ما يتمناه دون حق ودون جهد وعن طريق غير مشروع. إن في مصر غِنًى أتخم الأغنياء، وَفَقْرًا ألصق الفقراء

بالطين، ولكن هؤلاء المتخمين بالثروة يأبون أن يردوا على الفقراء والمساكين بعض حقهم الذي يوجبه الدين وتفرضه طبيعة الاجتماع. والقوانين عاجزة عن معالجة هذه الحالة لأنها لا توجد ولا تنفذ إلا إذا رضي بها السادة الأغنياء. وفي مصر ماليون يكدسون الأموال عقارات ومنقولات ومشروعات صناعية، ويستخدمون عمالاً يكدحون ويشقون بأجور تافهة لا تقوم باللقمة الجافة والكساء الذي يستر العورة، وليس في مصر قانون يلزم أصحاب الأموال أن يشركوا في أرباحهم العمال كما يقضي بذلك الإسلام، وصاحب المال يكدس خزائنه ذهبا وفضة، والعامل يكدس في قلبه غَضَبًا وَحِقْدًا ينمو ويزيد كل يوم. إن حياتنا الاجتماعية قائمة على المنفعة، وعلى التحلل من كل القيود، ومن أجل ذلك لا يوقر الصغير كبيرًا، ولا يعطف الكبير على صغير، ولا يرحم القوي ضعيفًا، وَلاَ يَبَرُّ الغني فقيرًا، ولا تحترم الرعية رَاعِيًا، وقد جرف هذا التيار الأسرة، فتقطعت الصِلاَتُ والأواصر بين الزوجة وزوجها، والابن وأبيه، والأخ وأخيه، وحق أن يحدث هذا ما دامت حياتنا قائمة على المنفعة والأثرة. إن أداة الحكم في مصر قد تعفنت وتعطلت حتى لم يعد لوجودها معنى إلا زيادة الفساد، وكل شيء في مصر الآن

يشترى ويباع ويساوم عليه، فكراسي الحكم لها ثمن، والبقاء فيها له ثمن، والترشيح لعضوية المجالس النيابية له ثمن، وانتخاب المرشحين للنيابة له ثمن، والوظائف لها أثمان مختلفة، والمساعدة على عمل الخير والشر لها ثمنها، والظهور بمظهر القوة والكرامة له ثمن، والنذالة لها ثمنها، وليس في هذا البلد التاعس من يعمل عَمَلاً من حق أو باطل قبل أن يحصل على ثمنه، ويا ضيعة أصحاب الحقوق العاجزين عن دفع الأثمان! ويا بؤس أصحاب الكرامات الذين يرفضون أن يدفعوا الأثمان!. لقد فسدت أداة الحكم في مصر حتى لتفوح روائح الفساد من كل جوانب مصر ومن كل شيء فيها، ولقد شهدنا في عام واحد من فضائح الحكم في مصر ما يخجل كل مصري إلى يوم القيامة، بل لقد تجمع في يوم واحد على صفحات الجرائد تسع فضائح كبرى هي قضية الجيش الأولى التي أحيلت على القضاء العادي، وقضية انفجار الذخائر في القلعة، وقضية استيراد الأسلحة من الصحراء الغربية، وقضية التموين بما فيها من فضائح استيراد الشاي والذرة والصفيح والأخشاب والأغنام وغيرها، وقضية الاختلاسات الكبرى في وزارة المعارف، وقضية تهريب السيارات لإسرائيل عن طريق بور سودان، وقضية السرقة والاختلاس من مخازن تفتيش مباني الغرب، وقضية اختلاسات مخازن الصحة، وقضية

الأوكار وما حدث فيها من تعذيب للمتهمين تقشعر منه الأبدان، ويعجز عن وصف بشاعته اللسان. وكل فضيحة من هذه الفضائح تكفي لتلويث سمعة الأمة، ولكن الفضيحة الأخيرة وَأَدَتْ سُمْعَةَ مِصْرَ، وأثبتت أن رجال السلطات الإدارية وسلطات التحقيق نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ، وخانوا أماناتهم، وأتوا من الأعمال ما لا يغتفر. إن المتهم وديعة المجتمع يسلمها أمانة لرجال الإدارة والنيابة، وإن لهؤلاء حتى سؤاله واستجوابه، ولكن ليس لهم أن يهددوه أو يكرهوه أو يعذبوه أو يسيئوا استعمال الحقوق التي خولتهم الجماعة إياها، فإذا ما فعلوا ذلك فقد انقلبت الأوضاع، وضاعت الأمانات، وزالت الضمانات، وتقوضت العدالة بأيدي القائمين عليها. وقد يحتمل أن يهدد متهم أو يكره أو يعذب أو يساء بأي وجه إذا كان هذا العمل فرديًا، فما يخلو رجال الإدارة والنيابة من أن يكون بينهم فرد ينزع إلى الإجرام بطبعه، أو ينزلق إليه بضعفه، ولكن الذي لا يحتمل ولا يغتفر هو أن تتآمر الحكومات ورجال البوليس وسلطات التحقيق على الإساءة للمتهمين، وتهديدهم وإكراههم بشتى الوسائل وأقذرها، وتعذيبهم بأبشع الأساليب وأنكرها. إن تعذيب المتهمين بأيدي صغار رجال البوليس وكبارهم

على مرأى ومسمع من رئيس الحكومة والمشرفين على التحقيق والقائمين به، وتكرار هذا التعذيب ساعة بعد ساعة، ويومًا بعد يوم وأسابيع وشهورًا، معناه أن مصر ليس فيها عدالة، وليس فيها نظام، وإنما فيها وحوش لا تفلت فرائسها، وحيوانات جامحة تحركها نزواتها، وهذه الوحوش المفترسة والحيوانات الجامحة هي التي تمسك بزمام الحكم، وتحمل ميزان العدل بين الناس. إن هذه الفضيحة قد أصابت مصر بجرح مميت وسبة لا تزول، وإن على كل مصري يشعر بكرامته وبحق مصر عليه أن يقوم فلا يقعد حتى تحقق هذه الفضيحة الكبرى، وحتى يلاقي كل ناكث أثيم، وكل خائن زنيم، جزاء ما اقترف من الإثم، وجزاء ما شارك فيه، وجزاء ما أغضى عليه. إن في مصر فَسَادًا يوشك أن يدمرها، وفيها تَحَلُّلاً يوشك أن يقضي عليها، إن فيها ظُلْمًا لا يخشع وعدلاً لا ينفع، وأهواء تفرق، واتجاهات تمزق. إن في مصر هوة بين الفقراء والأغنياء، وهوة بين أصحاب الأعمال والعمال، وهوة بين الضعفاء والأقوياء، وهوة بين الآباء والأبناء، وهوة بين الحكام والمحكومين. إن الأمة المصرية مجموعة من المتنافرين المتنابذين، ليس

فيها عدل ولا نظام، وليس بين أفرادها تعاون ولا بر ولا تراحم. إن مصر تقف على شفا الهاوية، ولن يحول بينها وبين أن تتردى فيها إلا الإسلام، فهو الكفيل بإحياء النفوس، وتطهير القلوب، وتصحيح الأوضاع، وتوحيد القوى، وهو الكفيل بقيادة الأمة إلى بر السلام والأمان.

لماذا يحال بين المسلمين والإسلام؟

لِمَاذَا يُحَالُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَالإِسْلاَمِ؟ لقد رأينا فيما سبق كيف نعيش في تناقض، ونعمل في تنافر، وكيف غمرنا الفساد وأخذت بخناقنا المشكلات، وكل مسلم يعلم أن الإسلام هو العلاج الوحيد لكل ما نعانيه من فساد، ونواجهه من مشكلات جِسام، وأن فيه مَا يُرْضِي جميع النزعات، ويجمع بين كل الاتجاهات، ولكننا بالرغم من علمنا بهذا، وبالرغم من مطالبتنا بتطبيق أحكام الإسلام، يحال بيننا وبين الإسلام الذي نحرص عليه، ونتعبد به في الحكم والسياسة وغيرهما، ونسأل الله في كل لحظة الموت عليه. ولو أن المسلمين أقلية في بلاد الإسلام، لكان من المستساغ بعض الشيء أن يحال بينهم وبين الإسلام، أما والمسلمون هم تقريبًا كل سكان بلاد الإسلام، وكلهم يحرص على أن ينتمي إلى الإسلام، أما وأكثر الدول الإسلامية تجعل دينها الرسمي الإسلام، فقد يبدو غريبًا أن يحال بين المسلمين وبين

[أحكام] الإسلام في بلاد تَدَّعِي الديمقراطية، ولها دستور ينص على أن الحكم ووضع القوانين للأغلبية. ومن السهل أن نعرف لماذا يحال بيننا وبين الإسلام، إذا عرفنا الذين يحولون بيننا وبينه أو يقطعوننا عنه، ولا يحول بيننا وبين الإسلام إلا الاستعمار، ولا يقطعنا عن الإسلام إلا الحكومات الإسلامية التي تقام في بلاد الإسلام.

1 - الاستعمار

1 - الاسْتِعْمَارُ: عداوة الاستعمار للإسلام طبيعية: وعدو الإسلام الأول هو الاستعمار، فهو الذي هيأ لنبذ أحكامه واستبدال القوانين الوضعية به، وإنها لعداوة طبيعية فما يستطيع الاستعمار أن يقف على قدميه في بلد يطبق أحكام الإسلام. ذلك أن الإسلام لا يقبل أَنْ يُدنِّسَ الاستعمار بلاد الإسلام، ولا يسمح أن تعلو في البلد المسلم إلا كلمة الإسلام. والإسلام يحرم على المسلم أن يخضع لغير المسلم، ويوجب على المسلم جهاد الغزاة المستعمرين وقتالهم وقتلهم حتى يخرجوا من بلاد الإسلام. والإسلام يبيح للمسلم دم المستعمر وماله، لأن المستعمِر ليس إلا حربيًا معتديًا، فكل ما يسفكه المسلمون من دم المستعمرين إنما هو دم مباح، وكل ما يأخذون من أموالهم إنما هو مال مباح، وكل ذلك إذا ما أتاه المسلمون بنية خالصة إنما هو عمل يتقربون به إلى الله.

والإسلام يحرم على المسلم موالاة المستعمر وموادته، ويوجب عليه مقته وكراهته، فكيف يعيش الاستعمار بين قوم لا يوالونه ولا يوادونه بل يكرهونه ويمقتونه. والإسلام يوجب على المسلمين في كل بقاع الأرض أن يتكتلوا ضد من يغزو بلدًا إسلاميًا، فقيام أحكام الإسلام يؤدي إلى تكتل المسلمين وتحزبهم ضد الاستعمار، وقد يطيق المستعمرون أن يواجهوا بلدًا إسلاميًّا ولكنهم لا يطيقون أن يواجهوا وحدة حقيقية تجتمع فيها كل بلاد الإسلام. والإسلام لا يجيز للمسلمين أن يعاهدوا المستعمرين أو يهادونهم ما دام في المسلمين قوة، فهي إذن الحرب المشبوبة الدائمة ما دام الاستعمار، أو هي الهدنة الموقوتة التي لا تنتهي إلا بالقتال. والإسلام يجيز للمسلمين في حالة ضعفهم أن يهادنوا المستعمرين هدنة مؤقتة قصيرة على أن يعدوا ويستعدوا، فإذا خافوا الإضرار بالمسلمين أو خشوا خيانة المستعمرين نبذوا إليهم عهدهم وعادوا إلى حربهم بعد إنذارهم، فأحكام الإسلام تمنع من مسالمة المستعمرين إلا إلى أجل، وتجيز نقض الهدنة والعود إلى الحرب كلما اقتضت ذلك مصلحة المسلمين والإسلام.

والإسلام بعد ذلك يحرم الاحتكار، ويحرم الاستغلال، ويحرم الربا في كافة الصور والأشكال، ولا يقوم الاستعمار إلا على هذه كلها، فإذا لم يكن احتكار ولا ربا ولا استغلال، فما نفع المستعمرين من الاستعمار؟ لذلك كله ولغيره، حرص الاستعمار على أن يبعد المسلمين عن أحكام الإسلام، فما دَخَلَ بَلَدًا إلا بعد أن هَيَّأَ لإبعاده عن الإسلام، وما استقر في بلد إلا بعد أن أقصى عنه سلطان الإسلام. أساليب الاستعمار في محاربة الإسلام: وللاستعمار في الحيلولة بين المسلمين والإسلام وتحويلهم عنه أساليب شتى، منها أنه يغري الحكام المسلمين بالإسلام، ويزين لهم أن يحلوا مكانه القوانين الوضعية، ويوسوس لهم أن هذه القوانين ستؤدي بهم إلى المدنية والقوة والتقدم، وما تؤدي في الواقع إلا إلى الضعف والتحلل والفساد والدمار، وما يقصد المستعمر من هذا كله إلا اتقاء الحرب التي يشنها عليه الإسلام، وقطع المعين الذي يمد المسلمين بالقوة ويحثهم على مقاومة الاستعمار ونضال المستعمرين، ولعل هذا هو بعض ما قصد إليه الوزير الانجليزي (جلادستون) حين وقف في مجلس العموم من عشرات السنين يقول: «إِنَّ قَدَمَ الإِمْبْرَاطُورِيَّةَ الإِنْجْلِيزِيَّةَ لَنْ تُرَسَّخَ فِي بِلاَدِ الإِسْلاَمِ مَا دَامَ القُرْآنُ مَوْجُودًا». والاستعمار كما يستعين على الإسلام بالحكام المسلمين،

يستعين بالتبشير بالمبشرين الذين رأوا أن من الصعب تكفير المسلم وتحويله عن دينه تحويلاً عاجلاً مباشرًا، فاختطوا خطة بارعة لتحويل المسلمين عن دينهم تَحْوِيلاً بَطِيئًا وغير مباشر، وإذا تحول المسلمون عن دينهم خطوة أمكن أن يتحولوا عنه خطوة أخرى خصوصًا إذا كان التحول غير مباشر، وهكذا حتى يأتي يوم يتحول المسلمون فيه عن إسلامهم، ويكونون حَرْبًا على دينهم. وتقوم خطة المبشرين على أَنْ يُعَلِّمُوا المسلمين في مدارسهم أن الدين شيء والعلم شيء، وَأَنَّ الدِّينَ طَالَمَا عَادَى العِلْمَ الذي هو أساس تقدم البشر والعامل الأول في حضارتهم. والأمثلة على ذلك حاضرة عندهم في تاريخ الكنيسة المسيحية. كذلك يُعَلِّمُونَ المسلمين أن تأخرهم راجع إلى التمسك بالدين وتحكيمه في شؤون الدنيا، وأنهم لن يتقدموا ما لم يفصلوا بين الحُكْمِ وَالدِّينِ، وتكون لهم حكومة مدنية كما يفعل الأوربيون. وهكذا سلك التبشير والاستعمار طريقًا واحدًا وتعاونًا على إصابة هدف واحد. وقد أفلح المبشرون إلى حد كبير، إِذْ تَخَرَّجَ من مدارسهم كثير من حكام المسلمين وَكُتَّابِهِمْ، وهؤلاء نهجوا نهج أساتذتهم، فَسَمَّمُوا أفكار المسلمين، ووجهوهم نفس الاتجاه الذي يعمل له الاستعمار والمبشرون. ويشتري الاستعمار والمبشرون أقلام بعض المسلمين بثمن بخس ليستخدموهم في مهاجمة الدين، وليزينوا لهم إقصاء الدين في كل ما يتعلق بشؤون الدنيا، والتشبه بالأوروبيين

في فصل الدين عن الدولة، وبذلك يُمَكِّنُ الاستعمار لنفسه ويثبت قدميه كلما حال بين المسلمين وبين الدين. وقد ساعد على نجاح المستعمرين والمبشرين أن الحكومات الإسلامية تمنع تعليم الدين في المدارس، وأن كتب التعليم جميعها مترجمة عن الكتب الأوروبية، وأن الإشراف على التعليم كان فيما سلف للأوروبيين من مستعمرين ومبشرين، فطبع المسلمون أفواجًا أفواجًا بطابع التبشير والاستعمار، وخرجوا من المدارس لا يعرفون إلا أن الدين الذي لم يتعلموا شَيْئًا منه لا يصلح لشؤون الحكم والسياسة، وأنه يجب أن ينحى عن الشؤون الدنيوية، وأن يكون علاقة بين الإنسان وربه، وأن التخلص من شيء من أحكام الدين يُقَرِّبُ الشعب خطوة من المدنية والتقدم، وسيطر هؤلاء المسلمون فيما بعد على شؤون الحكم والتعليم وغيرهما من شؤون الأمة، فداروا في نفس الدائرة التي رُسِمَتْ لهم، وكانوا أمناء على تعاليم أساتذتهم، ولم يخرج عليها إلا من هيأت له ظروفه أن يدرس وأن ينقد وأن يوازن. وحينئذ استطاع أن يعرف أنه أُلعوبة في يد المستعمرين والمبشرين. الفصل بين الدين والدولة: وَقَدْ اسْتُغْفِلَ المسلمون إلى حد كبير حين أُفْهِمُوا بأن سبب تقدم أوروبا هو الفصل بين الدين والدولة، لأن الدين المسيحي الذي تدين به أوروبا لَمْ يَأْتِ بمبادئ وأحكام يقوم عليها نظام الحكم والإدارة والسياسة والمعاملات وغيرها. وقد جاء هذا الدين في عصر الدولة الرومانية، فاحتضنته تلك الدولة

ونشرته بين الناس، وكان لهذه الدولة قانون كامل هو القانون الروماني الذي يعتبر أساسًا ومصدرًا لكل القوانين الأوروبية العصرية، ولذلك لم يكن للدين محل في التشريع، خصوصًا وأن الدين المسيحي لم يأت بتشريع خاص، ولكن احتضان الدولة للدين الجديد وقيامها بنشره اقتضى أن يضاف إلى القانون بعض النصوص التي تلائم هذا التطور. ثم جاء بعد ذلك عهد استغل فيه رجال الكنيسة سلطانهم وثقة الجماهير فيهم، فاتبعوا أهواءهم، وجروا وراء مطامحهم وألبسوا كل ذلك ثَوْبًا مِنَ الدِّينِ، لِيُخْضِعُوا له الناس باسم الدين، وليتغلبوا بسهولة على منافسي سلطانهم من السياسيين والمفكرين، ولكن الغلبة كانت للآخرين، حيث انتهت المعركة بعزل رجال الدين عن الحكم والسلطان. فالمنافسة بين رجال الدين ورجال السياسة لم تكن على الدين أو السياسة، وإنما كانت على السلطان ولا شيء غيره، والنزاع الذي حدث في أوروبا لم يكن نزاعا بين أهواء رجال الكنيسة وأهواء رجال السياسة، وَحَرْبًا بين التدجيل باسم الدين، والتدجيل باسم الشعوب. وقد انتهى كل هذا بالفصل بين رجال الدين وسلطان الدولة وبما يسمى اختصارًا: الفصل بين الدين والدولة. وليس أدل على ذلك من أن القوانين الأوروبية لا تزال كما هي لم تتأثر بنظرية الفصل بين الدين والدولة، ولم يحذف منها إلا بعض النصوص التي وضعت في العصور الوسطى لحماية السلطان الذي اغتصبته الكنيسة لنفسها، ولا تكاد القوانين الأوروبية العصرية

تختلف في اتجاهاتها عما كان عليه القانون الروماني في عصور المسيحية الأولى إلا بالقدر الذي اقتضاه التطور الطبيعي للعادات والتقاليد. ولعل كل الذي ترتب على الفصل بين الدين والدولة لا يخرج عن نتيجتين: الأولى: حرمان رجال الكنيسة من أن يكون لهم سلطان دنيوي لحماية سلطانهم الديني، فقد كانوا يرون أن قيامهم على الدين يقتضي أن يكون لهم من سلطان الحكم ما يمكنهم من أداء وظيفتهم. الثانية: إعلان الحرية الدينية. فقد كان رجال الكنيسة يُكْرِهُونَ الناس على عقيدة معينة، فلما ذهب سلطانهم، تُرِكَ للناس أن يعتقدوا ما يشاؤون. وحدوث هاتين النتيجتين ليس فيه فصل حقيقي بين الدين والدولة، لأن قيام الدولة على الدين لا يقتضي أن يكون لرجال الدين أي سلطان خاص ولا يقتضي حمل الناس على عقيدة معينة، وأفضل مَثَلٍ لذلك هو الإسلام. فالإسلام يوجب أن تقوم الدولة على أساس الدين الإسلامي، ويوجب أن يكون الحكم والسياسة والإدارة والتشريع، وكل ما له أثر في حياة الأمة مُسْتَمَدًّا من الدين الإسلامي وقائمًا عليه، وبالرغم من ذلك فإن الإسلام لا يعطي علماء الإسلام وفقهاءه أي سلطان، ولا يميزهم من هذه الوجهة عن أي فرد عادي، كما أن الإسلام يحمي كل الحماية حرية التدين، وَيُحَرِّمُ أَنْ يُكْرَهَ شَخْصٌ على عقيدة معينة، أو دين معين، وذلك قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ

فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. لا وجه لقياس البلاد الإسلامية بأوروبا: وإذا كانت هذه هي حقيقة الحال في أوروبا، فإن حال البلاد الإسلامية جد مختلفة، إذ فيها دين أتى بنصوص صريحة وأساليب واضحة واجبة الاتباع في كل شأن من شؤون الحياة، وهذه النصوص تكون شريعة كاملة ناضجة هي الشريعة الإسلامية، وهذه الشريعة ظلت تحكم بلاد الإسلام على خير وجه ثلاثة عشر قَرْنًا على الأقل، ففصل الدين الإسلامي عن الدولة مع أن الدولة جزء من الدين، وإقصاء الشريعة الإسلامية التي يتعبد بتطبيقها المسلمون، وإحلال القوانين الوضعية محلها، ليس إلا خروجًا على الدين أو إخراجًا له من قلوب المسلمين. ولا وجه لقياس البلاد الإسلامية على البلاد الأوروبية، لأن الدين الإسلامي أتى بشريعة كاملة أوجب تطبيقها، والدين المسيحي لَمْ يَأْتِ بشيء، ولأن الدين الإسلامي يجعل الحكومة جُزْءًا من الدين، وليس الدين المسيحي كذلك، ولأن فصل الدين عن الدولة لم يؤد إلى تعطيل المسيحية وإلزام المسيحيين قوانين غير قوانينهم، أما فصل الدين عن الدولة في بلاد الإسلام فقد أدى إلى تعطيل الإسلام وإلزام المسلمين قوانين خارجة على أحكام الإسلام، ولأنه ليس في بلاد الإسلام سلطة دينية وسلطة مدنية يتنازعان الحكم والسلطان

كما هو الحال في أوروبا، وإنما في بلاد الإسلام سلطة واحدة تجمع في يديها شؤون الدنيا والدين، وتقيم الدولة على أساس الإسلام الذي مزج بين الدين والدولة مَزْجًا جعل الدولة هي الدين وجعل الدين هو الدولة. الدين لا يؤخر الشعوب: أما ما يدعيه المستعمرون والمبشرون من أن الدين يؤخر الشعوب فينقضه أن المستعمرين جَمِيعًا يتمسكون في بلادهم بالدين، وليس في البلاد الاستعمارية بلد واحد ألغى الدين، وينقضه أن البلاد الأوروبية الاستعمارية والبلاد الاستغلالية تنفق كل عام مئات الملايين من الجنيهات على التبشير بالمسيحية في بلاد الإسلام، ولو كان الدين يؤخر الشعوب كما يدعون لألغوه في بلادهم ليستكملوا الرقي والتقدم، ولما أنفقوا على نشره أموالاً طائلة هم أولى بإنفاقها في وجوه أخرى تنفعهم وتعود عليهم بالخير. وإذا كان في أي دين من الأديان ما يدعو إلى التأخر، فليس في طبيعة الدين الإسلامي إلا ما يدعو إلى التقدم والتفوق، فهو يوجب على المسلم أن يأخذ بأسباب القوة والعزة والتفوق والسيادة، وهو يوجب على المسلم أن يعمل ولا يتبطل، وهو يأمر بالخير والبر والتعاون والتراحم، وهو يقيم الجماعة على أساس المساواة التامة والأخوة المتعاونة والعدالة المطلقة، وهو يدعو الجماعة إلى التحرر من الخوف والجهل والضعف والفقر، وينكر الاستعلاء والأثرة والاحتكار والاستغلال

والإساءة والظلم، وَلَوْ طُبِّقَ الإِسْلاَمُ كما أنزله الله لوجد العالم كله في الإسلام ما يحل مشاكله ويوحد مناهجه، ويجمع كلمته ويدفع عنه ما يعانيه من أهوال. رجعة إلى الاستعمار: والاستعمار بعد أن حقق إلى حد كبير هدفه في البلاد الإسلامية، لا يزال يؤمن أشد الإيمان بأن لا حياة له في حياة الإسلام، ولا سلطان له مع سلطانه، ومن ثَمَّ فهو يخشى الإسلام أشد الخشية حتى ليقلقه ويقض مضجعه تكوين جمعية إسلامية صغيرة أكثر مما يقلقه تكوين حزب سياسي ضخم لمناهضته، ذلك أن الاستعمار يعلم جيدا أن الأحزاب تبحث عن مغانم الدنيا وهي في قبضة المستعمرين، أما المسلم الحقيقي فإنه يبحث عن الشهادة وهي في قتال المستعمرين وقتلهم. وبعد أن تيقظ الوعي الإسلامي في البلاد الإسلامية، وفَهم المسلمون لُعْبَةَ المستعمرين، استطاع الاستعمار في كثير من الأحيان أن يستعين بالحكومات الإسلامية ليتغلب على دعاة الإسلام وينحيهم عن طريقه، ولكنهم أبَوْا أن يستسلموا أو يسالموا وصبروا على حرب الاستعمار وظلم الحكومات الإسلامية، وفتحت هذه الحرب المستمرة وذلك الظلم الغاشم عيون الوطنيين على الحقائق المرة، فعلموا أن الاستعمار يخشى الإسلام، وكان ذلك وحده كَافِيًا لأن يتحول كثير من المسلمين الوطنيين أنصارًا ودعاة للفكرة الإسلامية.

المعركة الحاسمة: والمعركة بين الإسلام والاستعمار تمر اليوم بأدق مراحلها، وستنتهي إن شاء الله بالتمكين للإسلام وهزيمة الاستعمار. إن الاستعمار اليوم في أحرج مواقفه بعد أن تبين مَا تُبَيِّتُهُ له الشيوعية، وهو يعلم حق العلم أنه لن يَقْضِيَ على الشيوعية في البلاد الإسلامية إلا الإسلام. إن الاستعماريين بين أمرين أحلاهما مُرٌّ، فهم على يقين بأن الشيوعية إذا ظفرت بهم فلن تبقى على عظم ولا لحم، ولا على أصل ولا فرع. سيزول الاستعمار ويزول السلطان، ويصبح المتبوع تابعًا والمسيطرون عبيدًا. ستطير المستعمرات، وتستعمر الأوطان التي أنبتت الاستعمار. وهم على يقين أيضًا بأنهم لو سالموا الإسلام وتركوه يُمَكِّنُ لِنَفْسِهِ مَا شَاءَ، فإنه لن يلبث أن يقضي على الاستعمار، وَحِينَئِذٍ يُحْبَسُ المُسْتَعْمِرُونَ في أوطانهم التي لا تقوم بأودهم وينالهم الجوع والحرمان، ويذهب عنهم الجاه والسلطان. إن الاستعمار يحلم بأن يجند المسلمين تحت رعايته لمحاربة الشيوعية، ويحاول جَاهِدًا أن يستثير مخاوف المسلمين بما في الشيوعية من إلحاد، وإنه لحلم لذيذ للمستعمرين ولكنه لن يتحقق من جهة المسلمين بإذن الله. إن الإسلام يكره الاستعمار ويكره الشيوعية إلى درجة المقت، وإن كراهتهما بمنزلة سواء، لأنهما يكرهان الإسلام، وكلاهما يقاتل الآخر للتسلط على بلاد الإسلام، ولن ينال

الإسلام خيرًا من الميل مع أحد العدوين ضد الآخر، لأن الخسارة محققة بمحاربة أحد العدوين، والكسب غير محقق لبقاء العدو الثاني، ولكن الإسلام قد ينال خيرًا ولا يخسر شَيْئًا إذا وقف وقفة المتربص بأعدائه العامل لنفسه لا لغيره، وَلَمْ يُفْلِتْ أي فرصة تسنح له. إن اشتباك الاستعمار مع الشيوعية هو الفرصة الوحيدة التي ستمكن الإسلام أن يتخلص بإذن الله منهما مَعًا، وما الاستعمار في محاربته الشيوعية إِلاَّ كَلِصَّيْنِ يتقاتلان على الاستئثار بسرقة رجل يعرف ما يريد كِلاَ اللصين منه، فإن شاء الرجل أن يعجل بوقوع السرقة ساعد أحد اللصين على الآخر، وإن شاء أن يعمل على نجاة نفسه تركهما يقتتلان وبحث لنفسه عن مخرج يبعده عنهما أو يعصمه من أذاهما. والمسلمون الحقيقيون لا يمكن أن تنطلي عليهم ألاعيب الاستعمار ولن يسكتوا عليها، ولا يمكن أن يثقوا بالمستعمرين ما دام لهم في بلاد الإسلام سلطان، أو ما داموا يضمرون استبقاء ذلك السلطان. فليرح الاستعمار نفسه، وليرح المسلمين من دجله وإفكه، وعلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يتأهبوا ليومهم الموعود، فقد اقترب والله أجله، ويومئذ يفرح المسلمون بنصر الله يؤتيه من يشاء، وسيعلم المستعمرون والبلاشفة لمن عقبى الدار.

2 - الحكومات الإسلامية

2 - الحُكُومَاتُ الإِسْلاَمِيَّةِ: ما يدفع الحكومات الإسلامية لحرب الإسلام؟: رأينا فيما سبق كيف تحارب الحكومات الإسلامية الإسلام، وتناهض المسلمين العاملين لمجد الإسلام، ورأينا كيف تبيح هذه الحكومات ما حرم الله وتحرم ما أحل الله، ورأينا كيف عطلت الإسلام وخرجت على حدود الله، ورأينا كيف وقفت جهودها على تلبية طلبات المستعمرين وحمايتهم من المسلمين والوطنيين، رأينا كل هذا وسقنا عليه كثيرًا من الأمثلة تبين بجلاء اضطراب منطق الحكومات الإسلامية فيما تدعيه من إسلام، وما تأتيه من أعمال قائمة على جحود الإسلام، وليس ثمة ما يدعو لأن نأتي بأمثلة جديدة ففيما ذكرنا الكفاية، ولكنا نحاول هنا أن نعرف الدوافع التي تدفع الحكومات الإسلامية إلى إتيان الأفعال التي لا يبيحها الإسلام، أو تدفعها إلى السكوت على ما ينكره الإسلام، وهذه الدوافع مهما اختلفت ترجع إلى عاملين: أولهما الجهل بأحكام الإسلام، وثانيهما: الخوف من ذهاب السلطان.

الجهل بأحكام الإسلام: من المؤسف حَقًّا أن يكون رجال الحكومات الإسلامية جاهلين بالإسلام، وهم يسيطرون على الأمم الإسلامية، ويوجهونها في مشارق الأرض ومغاربها، وهم الذين يمثلون الإسلام والأمم الإسلامية في المجامع الدولية. وأغلب رجال الحكومات الإسلامية مسلمون ينتمون إلى أسر عريقة في إسلامها، وأكثر الحكام المسلمين متدينون يؤمنون إيمانًا عميقًا، ويؤدون عباداتهم بقدر ما يعلمون، ولكنهم لا يعلمون من الإسلام إلا القشور، بل إن إسلامهم لا يزيد على إسلام الجهلة والعوام. إنهم لا يعرفون عن الإسلام إلا أنه إيمان وصوم وصلاة وحج ولا يعرفون ما وراء ذلك. إنهم لا يعرفون أن الإسلام جمع بين الأولى والآخرة، ومزج بين الدين والدنيا، وبين المسجد والدولة. إنهم لا يعرفون أن الإسلام شريعة كاملة، وأنه أتى بنصوص في الحُكْمِ والإدارة والسياسة والاقتصاد والمعاملات، وأنه جاء بأحكام للحرب وَالسِّلْمِ ولكل ما يتعلق بشؤون الدنيا، وأنه يوجب تطبيق نصوصه وأحكامه وجعلها أساسًا للحكم ومنهاجًا للحكام. إنهم لا يعرفون أن أول أصل من أصول الإسلام هو أن

يؤمن المسلم بما أنزله الله، وأن الإيمان لا يكون بالقول والاعتقاد، وإنما بهما وبالعمل. فكل إنسان مطالب بالعمل، وسوف يسأل عن عمله فإن أحسن فلنفسه وإن أساء فعليها، ولن يدخل الجنة أحد إلا بعمله الذي يتفق مع ما أمره الله به: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105]. {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]. {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]. إنهم لا يعرفون أن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - أوجب علينا أن نتبع شريعة الإسلام، ولم يجعل لنا أن نتبع شريعة غيرها {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18]. {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]. وأنه - جَلَّ شَأْنُهُ - جعل الدين الإسلام لا غيره {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]. وأنه لن يقبل مِن أحد أن يَدِينَ بغير الإسلام، ولن يقبل منه عملاً ولو جاء مُوَافِقًا لما يأمر به الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. إنهم لا يعرفون أن الحُكْمَ في بلاد الإسلام يجب أن يقوم

على أساس ما أنزل الله، وأن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - أمرنا بذلك أَمْرًا جَازِمًا فقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]. وقال {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، وأنه - جَلَّ شَأْنُهُ - اعتبر من لم يحكم بما أنزل الله كافرًا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. إنهم لا يعرفون أن الإسلام هو اتباع دين الله خَالِصًا، وأن المسلم لا يكون مسلمًا إلا إذا كان مخلصًا للإسلام لا يؤمن إلا به ولا يعمل إلا له ولا يطيع إلا إياه {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 11]. إنهم يجهلون أن أحكام الإسلام لا تقبل التجزئة، وأن نصوصه تمنع العمل ببعضها وإهمال البعض الآخر، كما تمنع الإيمان ببعضها والكفر ببعض {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة: 85]. {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ} [البقرة: 174]. وهم يجهلون أن واجب الحكومة الإسلامية الأول هو

إقامة الدين بما فيه من قيادة وعبادة وسياسة وأخلاق، وأن الإسلام يفترض في الحكومة الإسلامية أن وظيفتها إقامة حدود الله وأنها مستخلفة عن الله لِتُقِيمَ دِينَهُ وَتَحْرُسَ دَعْوَةَ رَسُولِهِ {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]. {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]. وهم يجهلون أن ما يحملون عليه المسلمين من الأوضاع الأوروبية والقوانين الوضعية إنما هو شرع ما لم يأذن به الله {شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وهم لجهلهم بالإسلام يلزمون المسلمين هذا الذي لم يأذن به الله، ويريدونهم على أن يتحاكموا إلى القوانين الوضعية مُحْتَجِّينَ بأنها أفضل وأهدى لهم، وأنها سبيل الرقي والتقدم، وكذبوا والله وما زادوا على أن وضعوا أنفسهم تحت قول الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 60]. وهم لجهلهم بالإسلام إذا قيل لهم ارجعوا إلى الله وَحَكِّمُوا كِتَابَهُ أَعْرَضُوا {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ

بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48]. وهم مع إعراضهم يصدون عن سبيل الله وَيَدَّعُونَ أنهم يقصدون التوفيق بين المسلمين وغيرهم، فهم كما قال الله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} [النساء: 61 - 63]. وهم يعلمون أن القوانين الوضعية ليست إلا أهواء الناس وشهوات الأحزاب، ونزوات الحكام. ولكنهم يجهلون أن الله نهى عن اتباع الهوى وَحَمْلِ الناس عليه لأنه ضلال وإضلال عن سبيل الله {وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. وهم يظنون أن هذه القوانين الفاسقة الضالة هي السبب في تقدم الأوروبيين وقوتهم، وهو ظن لا يقوم على ذرة من الحق والصدق، فتلكم هي نفس القوانين التي كانت لهم يوم ظهر الإسلام فأخرجهم مما كانوا يملكون، ويوم تألب عليه الصليبيون فردهم على أعقابهم خاسرين، ويوم سيطر على أوروبا فأعطاه أهلها الجزية صاغرين، وما كان لمسلم حاكم أو غير حاكم أن يدع أمر الله ويتبع الظن {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116].

وما على المسلم أن يكون أكثر الناس مخالفين له، فإن الحق ليس في اتباع الكثرة ولا في طاعتها، ولكن في طاعة الله {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} [يونس: 36]. {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]. والمسلم مقيد بأوامر الله، ليس له أن يحيد عنها، وليس له أن يعمل حسابًا لأهواء الناس وأعداء الإسلام {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى: 15]. {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]. وليس له أن يخشى الناس فإنما الخشية لله ومن الله {فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]. وإذا كان حكامنا يحفظون قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فعليهم أن يحفظوا بقية الآية {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. وإذا كان هذا هو حكم الله، فكيف يطمع الحكام أن يطيعهم المسلمون في معصية الله وفيما حَرَّمَهُ اللهُ من اتباع الهوى وطاعة الطواغيت وقوانين الكفر والضلال! وقد أوجب الله أن يستجيبوا له ولرسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، وجعل من شيمة المسلم أن يسمع ويطيع أمر الله ورسوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].

هؤلاء هم حكامنا المسلمون، وتلك هي بعض أحكام الإسلام التي يجهلون، فإن كانوا يجهلونها كما نعتقد، فلعلهم يعلمون أن جهلهم قد أَوْدَى بالإسلام وأهلك المسلمين، وإن كانوا يعلمون أحكام الإسلام ويتجاهلونها أو يجحدونها فقد نقضوا عهد الله، وقطعوا ما أمر به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، واستنكفوا عن عبادته، واستكبروا بعد أن أكرمهم وَمَكَّنَ لهم وجعلهم حُكَّامًا على الناس، ولست أملك إلا أن أذكرهم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25]. {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172]، {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [النساء: 173]. ({هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتًا وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا} [فاطر: 39]. الخوف من ذهاب السلطان: وحكام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لا يكادون يصلون إلى السلطان حتى يستبد بهم الخوف من ذهاب السلطان، ويستعبدهم الحرص على استبقاء هذا السلطان، وإنهم لَيُضَحُّونَ بالكثير في سبيل الاحتفاظ بسلطانهم، يُضَحُّونَ بعزتهم وعزة بلادهم، وبكرامتهم وكرامة بلادهم،

ويضحون بالإسلام ليرضوا أعداء الله وأعداء الإسلام. إنهم يوالون أعداء الله وأعداء الإسلام من الإنجليز والفرنسيين وغيرهم، ويوادونهم إرضاءً لأعداء الله واستبقاءً لودهم وعطفهم، وهم لا يوالونهم مُوَالاَةَ التُّقَاةِ التي يجيزها الإسلام، وإنما يوالونهم مُوَالاَةَ العطف والإخلاص والحرص على منافع أعداء الله، ولو أضر بالمسلمين والإسلام. وكل ذلك يفعلونه في سبيل الاحتفاظ بالحكم والسلطان وما يتبعهما من الثروة والجاه. ولعل جهلهم بأحكام الإسلام وبتحريم موالاة أعداء الله هو الذي سهل عليهم أن يحرصوا على هذه الموالاة، وأن يُعلنوا عنها بكل لسان، ويتمسكوا بها في كل آن. وحكامنا يطيعون في المسلمين أعداء الله من الإنجليز والفرنسيين والأمريكيين، ويؤذون المسلمين والمسلمات بغير ما اكتسبوا، ويستحلون منهم مَا حَرَّمَ اللهُ، لأنهم يقاومون الاستعمار والاستغلال، ويكافحون أعداء اللهِ وأعداء الإسلام. ولعل هؤلاء الحكام يجهلون أن الله أمرهم أن لا يطيعوا الكافرين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 149، 150]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100]. ولعل هؤلاء الحكام يجهلون أن كثيرًا من أهل الكتاب يَوَدُّونَ للمسلمين أن يرجعوا كفارًا بعد إيمانهم، وأن الله حرم على المسلم أن يثق بغير مسلم، أو يؤمن إلا لمن تبع دينه

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]. {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} [آل عمران: 69]. {وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران: 73]. وَحُكَّامُنَا لاَ يُشَجِّعُونَ وَلاَ يُقَرِّبُونَ مُسْلِمًا يَخْدِمُ الإِسْلاَمَ، لأنهم حريصون على أن يصبغوا الدولة بغير صبغة الإسلام تَقَرُّبًا إلى أعداء الله، وإرضاءً لمن يحاربون الله، وحتى لاَ يُتَّهَمُوا بأنهم يتعصبون للإسلام، وما عليهم بعد ذلك أن يضيعوا الإسلام، وأن يوهنوا من قوته، ولو فهموا الإسلام على حقيقته لما فعلوا ذلك، ولو آمنوا حق الإيمان لعلموا أن الإيمان هو الحب والبغض، وأن المسلم لا يؤمن إلا إذا تعصب للإسلام، وصبغ نفسه وما حوله بصبغة الإسلام: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138]. وهكذا أَذَلَّ الحرص على السلطان طلاب السلطان، وضيع الجهل بالإسلام أحكام الإسلام، وَابْتُلِيَ المسلمون بحكومات هَمُّهَا الوصول إلى الحكم والبقاء فيه، ليس من همها الإسلام ولا تطبيق أحكام الإسلام.

أيها المسلمون آن أن تعملوا!

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ آنَ أَنْ تَعْمَلُوا!: أيها المسلمون! هذه هي دُوَلُكُمْ في قبضة الاستعمار يسيطر على أرضها وسمائها ويحتاز خيراتها، وَلاَ هَمَّ له إلا أن يسرق أموالكم، وينهب أقواتكم، ويعتصر دماءكم، ويعبث بكراماتكم، ويسخر من معتقداتكم، ويحولكم عن دينكم. أيها المسلمون! هذه هي قوانينكم لا ترجع لكم ولا تنتسب إليكم، ليس فيها إلا ما يؤذي شعوركم، وما يهاجم معتقداتكم، وما يشيع الفساد بينكم، جاءتكم مع الاستعمار لتعبدكم له، وتغل أيديكم عنه، وتجعل مقامه في بلادكم ممكنا، واستغلاله لكم مشروعًا، وأمره فيكم مطاعًا. أيها المسلمون! هذه هي حكوماتكم تحل ما حَرَّمَ اللهُ، وَتُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ، وتعطل الإسلام، وتتنمر لكل من يخدم الإسلام، وتطارد الوطنيين والمسلمين، ائْتِمَارًا بأوامر الاستعمار، واستجابة لرغباته، ذلك الاستعمار الذي تدعي أنها تحاربه، وما تفعل إلا أنها تواليه وتسالمه.

أيها المسلمون! هذه هي أوضاعكم، تنكرها ألسنتكم، وتأباها قلوبكم، ولكن الاستعمار يفرضها عليكم بسلطانه، ويستعين على إقامتها بينكم بأعوانه، وإن الإسلام ليقتضي أن تحطم هذه الأوضاع وتزول، ولن تزول إلا إذا تحطم الاستعمار وزال، فجاهدوا الاستعمار فهو عَدُوُّ الإِسْلاَمِ الأَوَّلِ وَعَدُوَّكُمْ، وابذلوا في جهاده من أنفسكم وأموالكم، وتعاونوا على إخراجه من دياركم، واستعينوا على إخراجه بتسوية صفوفكم، وتوحيد مناهجكم، وَأَعِدُّوا وَاسْتَعِدُّوا لِيَوْمِ الخَلاَصِ فقد اقترب أجله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]. تَمَّ بِعَوْنِ اللهِ

§1/1