الإسلام وأوضاعنا السياسية

عبد القادر عودة

الإسلام وأوضاعنا السياسية

طبعة سنة: 1401 هـ - 1981 م

الشهيد عبدالقادر عودة الإسلام وأوضاعنا السياسية مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. صدق الله العظيم.

مقدمة

مُقَدِّمَةٌ: الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له. والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله الذي أرسله بالهُدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. «وبعد» فإن المسلمين في كل أنحاء العالم قد جهلوا الإسلام وانحرفوا عن طريقه الواضح، حتى لم يعد في الدنيا كلها بلد يقام فيه الإسلام كما أنزله اللهُ، سواء في الحكم والسياسة، أو الاقتصاد والاجتماع، أو غير ذلك مِمَّا يمس مصالح الأفراد والجماعات، ويقوم عليه نظام الجماعة، ويدعو الى صلاحها وإسعادها.

ولقد ظل المسلمون ينحرفون عن الإسلام حتى هجروا أحكامه، ثم اتخذوا لأنفسهم أحكامًا تقوم على أهوائهم ومنافعهم، فأدى ذلك إلى التحلل والفساد، وملأ بلادهم بالشرور والآثام وعاد على جماعتهم بالبؤس والشقاء. وفي ظلال هذه المحنة التي امتحن الله بها الإسلام نبت دُعَاةُ الإسلام الحقيقيون فدعوا الناس إلى الإسلام الصحيح، وربوا الشباب عليه وجعلوا كل مسلم داعية إلى الإسلام بعمله وقوله وسيرته، وصبروا على ما امتحنوا به حتى فتح الله عليهم فانتشر الوعي الإسلامي، وتيقظ المسلمون، وتحقق ذَوُو البصائر أن لا حياة للمسلمين بغير الإسلام، وأن صلاح حالهم وسعادة جماعاتهم لن تكون إلا إذا رجعوا للإسلام وأقاموا أمرهم عليه، وَحَكَّمُوهُ في كل شؤونهم. والمسلمون اليوم أحوج ما يكونون إلى معرفة حقائق الإسلام وقد تكالب عليهم الاستعمار والشيوعية، وَزُيِّنَتْ لهم الديموقراطية والاشتراكية، ليعلموا أن لا عاصم لهم من الاستعمار والشيوعية إلا الإسلام، وأنه لا يحقق العدالة والمساواة والحرية في بلادهم إلا الإسلام. وواجب على كل مسلم مستطيع أن يُبَيِّنَ للمسلمين ما خفي عليهم من أحكام الإسلام، وأن يعرضه عليهم في لغة سهلة يهضمونها، وفي أسلوب عصري يقبلون عليه. وإني لأرجو أن أكون قد قدمت للمسلمين في هذا الكتاب

ما يجب أن يعلمه كل مسلم عن نظرية الإسلام في الحكم، وأسلوبه في الشورى، كما أرجو أن يعلم المسلمون بعد الاطلاع على هذا الكتاب أن أسلوب الإسلام هو خير ما عرفه العالم أن كل نظريات الشورى الوضعية ليست شيئًا يذكر بجانب نظرية الإسلام. واللهَ اسألُ أن يُوَفِّقَنَا جميعًا إلى الخير، وأن يجمع كلمتنا على الإسلام. عبد القادر عودة

الخلق والتسخير

الخَلْقُ وَالتَّسْخِيرُ: هَذَا الكَوْنُ خَلَقَهُ اللهُ: هذا الكون الذي نعيش فيه ونعمره، ونتسلط على ما فيه من حيوان ونبات وجماد، ونحاول أن نحصل على ما فيه من خيرات، ونستغل ما فيه من قوى هذا الكون ليس من صنع البشر ولا من عمل أيديهم، وما في استطاعتهم خلقه ولا خلق ما دونه، وما كانوا في يوم من الأيام أهلاً لذلك ولن يكونوا، فما هم بشر إلا خلقهم خالق كل مخلوق {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18]. وما في قدرة المخلوقات أن تخلق ولو تظاهرت على الخلق، ولو اجتمع كل البشر على أن يخلقوا أحقر الذباب وأضعفه لعجزوا، ولو سلبهم أضعف الذباب وأحقره شيئًا لما منعوه عنه ولا استنقذوه منه " {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ

شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]. هذا الكون الذي نعيش فيه ونعمره خلقه اللهُ الذي خلق الناس من تراب ثم سَوَّاهُمْ بَشَرًا وَصَوَّرَهُمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا فأحسن صُوَرَهُمْ، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة لعلهم ينظرون ويتفكرون فيتذكروا نعمة الله عليهم، ويشكروه على ما خلقهم ورزقهم وأسبغ عليهم من فضله {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} [فاطر: 11]. {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 - 8]، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64]، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]. هذا الكون الذي نعيش فيه خلقه الله - جَلَّ شَأْنُهُ - خالق كل شيء مِمَّا نعلم ومِمَّا لا نعلم، وَمِمَّا ندرك ومِمَّا لا ندرك، ومِمَّا نستطيع تصوره والاحاطة بكنهه " {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام: 102]. فهو الذي خلق السماوات والأرض وما فيها من مخلوقات، وما بينهما من أجرام لا يحيط بها العلم، ولا يدركها الوصف، ولا يحصيها العَدُّ، وهو القادر على أن يخلق غيرها إن شاء، إذ الخلق متعلق بمشيئته، وراجع لأمره {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [المائدة: 17]. {لِلَّهِ مُلْكُ

هذا الكون مسخر للبشر

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} [المائدة: 120]. وهو الذي خلق الأزواج كلها من النبات والحيوان والإنسان، ومِمَّا نُحِيطُ بعلمه ومِمَّا لا تعلم عنه شيئًا، ورتب على اتصالها اللقاح والأحبال فالإثمار والإنسان حفظًا للنوع واستبقاء للحياة {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36]. وهو الذي جعل الظلمات والنور، وخلق الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وهو الذي ربط الظلمات بالليل والنور بالنهار، وجعل الشمس دليلاً على النهار، وجعل القمر والنجوم لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]. {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنبياء: 33]. وهو الذي خلق الموت والحياة، وجعل بعد الموت البعث والنشور ليبلو الناس فيما آتاهم وليجزيهم بما كانوا يعملون {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]. هَذَا الكَوْنُ مُسَخَّرٌ لِلْبَشَرِ: والله الذي خلق هذا الكون قد سخره لخدمة البشر وسلطهم عليه بما وهبهم من أبصار وأسماع وعقول تساعدهم على

استخدام ما في الكون من خيرات، واكتشاف ما فيه من قوى، واستغلال ذلك كله في سبيل نفعهم وإسعاد أنفسهم {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]. فالله قد سخر للبشر - وهم يعيشون على وجه الأرض - كل ما في السماوات وما في الأرض، وكل ما في البر وما في البحر، فالسحاب مسخر لخدمتهم يحمل الماء المتجمع من البحار والأنهار ثم يرسله مَطَرًا يُحيي به الأرض بعد موتها وينبت فيها من كل الثمرات رزقًا للعباد، والبحار والأنهار مسخرة لخدمة البشر، منها يتكون السحاب، وعلى مائها يعيش الإنسان والنبات وكل الحيوان، وعليها تسير الفلك تحمل الناس إلى بلد لم يكونوا بالغيه بغيرها، وفي أعماقها تعيش مخلوقات أخرى يتخذ منها الناس طعامًا وحلية، والشمس والقمر مسخران لخدمة البشر، يمدان الكون بالضوء والحرارة، وهما ضرورتان من ضرورات الحياة وكل ما في الكون من صغير وكبير، ومعلول ومجهول، مسخر لخدمة البشر، لهم الحق في استطلاع أسراره والسيطرة عليه، واستغلال منافعه ما استطاعوا لذلك سبيلاً، فالكون مذلل لهم بإذن الله، وهم مسلطون عليه بأمر الله {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 12، 13] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ

البشر مسخر بعضهم لبعض

مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:32 - 34]. البَشَرُ مُسَخَّرٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: وإذا كان الله - جَلَّ شَأْنُهُ - قد سخر الكون للبشر، فإنه قد سخر بعض البشر لبعض ليستطيعوا أن يعيشوا في جماعة منظمة متعاونة، وليكونوا أقدر على استغلال الكون المسخر لهم والانتفاع بخيراته، والمساهمة في بناء حياة إنسانية مرضية. {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]. وما سخر الله بعض البشر لبعض إلاَّ لِتَتِمَّ حِكْمَتُهُ فيهم وليبلوهم فيما آتاهم، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها ومن كفر فعليه كفره، ومن آمن نفعه إيمانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]، {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتًا

وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا} [فاطر: 39]. ولم يجعل الله تسخير بعض البشر لبعض قائمًا على التحكم، تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كَبِيرًا، وإنما ربط التسخير بطبائعهم وظروف إمكانهم، فجعلهم درجات بما اختلفوا من قوة وضعف، وعلم وجهل، وجد وخمول، وغير ذلك من وجوه الاختلاف المشتقة من طبائعهم ومعارفهم وظروفهم وبيئاتهم ولن يمنع ذلك من كان في درجة دنيا أن يرتفع بعمله وإيمانه إلى درجة أعلى من درجته، وأن يصل إلى القمة في عشيرته وأمته، فإن العبرة في الإسلام بالأعمال والإيمان، ولن يضيع الله عمل مؤمن: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران: 195]. ما دام العامل قد أحسن عمله ووصل به إلى درجة الإحسان: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30]. ولقد آلى الله على نفسه لَيُحْيِيَنَّ حياة طيبة كل من عمل عملاً صالحًا وهو مؤمن فقال - جَلَّ شَأْنُهُ -:" {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. ودعا اللهُ المؤمنين إلى العمل وحثهم عليه: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]. ورتب على العمل درجاتهم فمن رفعه العمل فلا يحطه شيء، ومن حطه العمل فلا يرفعه شيء: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132].

الإستخلاف في الأرض

الاِسْتِخْلاَفُ فِي الأَرْضِ: البَشَرُ مُسْتَخْلَفُونَ فِي الأَرْضِ: ولقد خلق الله البشر في الأرض واستعمرهم فيها {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]. فلا حرج أن نقول أن مكان البشر في الأرض هو مكان المستعمر فيها، المسلط عليها، وأن الأرض بما فيها مسخرة لهم، مُذَلَّلَةُ بإذن ربهم، وأن حقوقهم وواجباتهم يحددها الله الذي استعمرهم في الأرض، ومنحهم حق التسلط عليها، ولكننا نفضل أن نصفهم بصفة الاستخلاف التي وصفهم بها الله أكثر من مرة. والقرآن صريح في أن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - خلق آدم أبا البشر ليكون خليفة في الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ

استخلاف البشر مقيد بقيود

بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. والمفسرون مختلفون في ماهية خلافة الآدميين (¬1) خلفوا جنسًا سابقًا كان يسكن الأرض فأفسد فيها وسفك الدماء، ومن ثم فالخلافة على هذا الرأي خلافة جنس سابق، والبعض يرى أن الخلافة عن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - لا عن جنس آخر، وأن الله سلط الإنسان على الأرض يقيم فيها سننه، ويظهر عجائب صنعه، وأسرار خليقته، وبدائع حكمه، ومنافع أحكامه. وسنرى فيما بعد أن هذا الاختلاف لا أهمية له في بحثنا. اِسْتِخْلاَفُ البَشَرِ مُقَيَّدٌ بِقُيُودٍ: ولا جدال في أن الله أوجب على البشر حين أسكنهم الأرض أن يطيعوا أمره وأن ينتهوا بنهيه، وأنه عهد إليهم ألا يعبدوا إلا إياه، وألا يخشوا غيره، وأن يتحلوا بالتقوى، وأن يحذروا فتنة الشيطان، وأعلمهم من اتبع هدى الله فقد اهتدى، ومن كفر بآيات الله وكذب برسله فقد ضل وغوى، وأنه جعل للمهتدين الأمن، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وجعل للكافرين المكذبين النار هم فيها خالدون، " {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ ¬

_ (¬1) " تفسير المنار ": جـ 1 ص 257 - 261.

عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38، 39]. {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ، يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 24 - 30]. وغدًا يحاسب الله البشر على زيفهم وضلالهم، وعلى تركهم طاعة الله واتباعهم الشيطان، ويسألهم فلا يجدوا لأنفسهم حُجَّةً. ثم يقذف بهم أفواجًا إلى النار يَصْلَوْنَ حَرَّهَا جزاء ما عصوا الله وكفروا بآياته ولم يقوموا بعهده {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا

أنواع الاستخلاف

أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس: 60 - 64]. أَنْوَاعُ الاِسْتِخْلاَفِ: واستخلاف البشر في الأرض نوعان: استخلاف عام، واستخلاف خاص. فالاستخلاف العام هو استخلاف البشر في الأرض باعتبارهم مستعمرين فيها ومسلطين عليها {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، وقد بدأ هذا الاستخلاف بآدم - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ومن بعده كل ذريته فهم جميعًا مستعمرون في الأرض، استعمرهم الله - جَلَّ شَأْنُهُ - فيها، وَسَخَّرَ لهم وسلطهم عليها بإذنه {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. والاستخلاف الخاص هو الاستخلاف في الحكم، وهو نوعان: استخلاف الدول واستخلاف الأفراد، والاستخلاف في الحكم هو بنوعيه مِنَّةٌ أخرى يمن الله بها على من يشاء من عباده أُمَمًا وَأَفْرَادًا بعد أن مَنَّ عليهم جميعًا بنعمة الاستخلاف في الأرض {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

واستخلاف الدول معناه الأول تحرير الأمة واستقلالها بحكم نفسها وجعلها دولة لها من السلطان ما يحمي مصالح الأمة وَيُعْلِي كلمتها، ومعناه الثاني اتساع سلطان الدولة حتى يشمل فوق أبناء الأمة أممًا وشعوبًا أخرى. واستخلاف الدول إذا كان بإذن الله وبأمره مِنَّةً يَمُنُّ بها على الأمم، إلاَّ أن للاستخلاف مسبباته التي تباشرها الأمم والشعوب فتؤهلهم للاستخلاف، وتمكن لهم في الأرض، وتتم بذلك سُنَّةُ اللهِ في خلقه ولن تجد لسنته تحويلاً. فلا يمكن أن يجيء الاستخلاف اعتباطًا وبلا عمل، وإنما يجيء نتيجة العمل الشاق والجهد المستمر، ولقد وعد الله - جَلَّ شَأْنُهُ - الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض، فلم يجعل الإيمان وحده هو الذي يرشح المؤمنين للاستخلاف، وإنما وعد المؤمنين بالاستخلاف إذا عملوا الصالحات، والمقصود بالصالحات كل ما يصلح شأنهم في الدنيا من الإعداد والاستعداد والتفوق، وما يصلح شأنهم في الآخرة من الطاعة واجتناب المعاصي. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]. واستخلاف الأفراد هو الاستخلاف في الرئاسة وَقَدْ يُسَمَّى المُسْتَخْلَفُ خَلِيفَةً كما سمي داوود - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ

سنة الله في استخلاف الحكم

الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]. وَقَدْ يُسَمَّى المُسْتَخْلَفُ إِمَامًا كما سمي ابراهيم - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وبعض رؤساء بني إسرائيل:" {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]. وَقَدْ يُسَمَّى المُسْتَخْلَفُ مَلِكًا {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]، {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247]. سُنَّةُ اللهِ فِي اِسْتِخْلاَفِ الحُكْمِ: وَسُنَّةُ اللهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - في استخلاف الدول والأفراد أن يستخلف الأمة ما كانت أَهْلاً للاستخلاف، وأن يستخلف الأفراد ما كانوا أَهْلاً لذلك، يبتليهم جميعًا فيما آتاهم {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165]، فإن استقام المُسْتَخْلَفُونَ على أمر الله، ودعوا إليه، وعبدوه وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وفعلوا الخيرات واجتنبوا

السيئات، وأمروا بالمعروف وَنَهَوْا عن المنكر {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41]، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]، إذا فعل المستخلفون ذلك مكن الله لهم في الأرض، وآتاهم من كل شيء سَبَبًا، كما مكن لذي القرنين وقومه {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84]، وكما مَكَّنَ ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء مِمَّا لم يكن يحلم به أو يتخيله {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [يوسف: 56]، وكما مكن لبني إسرائيل في الأرض على ضعفهم وقوة أعدائهم، بعد أن عبدهم الفراعنة واستعبدوهم، وساموهم سوء العذاب يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، فمنحهم الله - جَلَّ شَأْنُهُ - القوة وَبَوَّأَهُمْ السلطان، ورزقهم من الطيبات وجعل فيهم النبوة والملك، وآتاهم مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا من العالمين {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [يونس: 93]، {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]، وكما مكن لقوم يونس لما آمنوا فأصلح لهم أحوالهم في الحياة الدنيا ومتعهم إلى حين، {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ

قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98] والله - جَلَّ شَأْنُهُ - غني عن العالمين، رحيم بهم، فإذا أمرهم أن يأتوا أو يدعوا فإنما يأمرهم بما فيه صلاحهم، بما يؤدي إلى نفعهم، وهو القادر على أن يذهب بالمكذبين ويستخلف أناسًا غيرهم، ولن يعجزه ذلك وقد جاءوا من ذرية غيرهم: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133]. وما استقام المستخلفون في الأرض على أمر الله فهم عند وعد الله لهم في تمكين وعزة، يأتيهم رزقهم رَغَدًا من كل مكان، حتى إذا ما كفروا بأنعم الله وكذبوا بآياته وخرجوا على ما أرسل به رسله، وظلموا وبغوا وافتتنوا بالقوة والسلطان والعلم، أخذهم اللهُ بغتة وهم لا يشعرون، فسلبهم نعمتهم، وأذهب دولتهم واستخلف غيرهم، ولم تغن عنهم عقولهم ولا علومهم ولا أموالهم من شيء، لما جاء أمر ربك وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ، ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 13، 14]، {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا

أمثلة من المستخلفين السابقين

السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6]، {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26]. أمثلة من المستخلفين السابقين: ولقد ضرب اللهُ لنا من الأمثلة ما فيه مزدجر، وَبَيَّنَ لنا من أخبار السابقين ما فيه غناء لكل ذي لب، فهؤلاء قوم نوح كذبوه واستضعفوه ومن معه فاستحلف الله هؤلاء الضعفاء وأهلك الأقوياء الذين غرتهم قوتهم وحملهم الغرور على تكذيب آيات الله {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} [يونس: 73]. وهذا هود يدعو قومه عَادًا ويذكرهم ما حدث لقوم نوح ويخوفهم منه فيقول لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] أي اذكروا كيف استخلفكم اللهُ في الأرض بعد أن أهلك قوم نوح بمثل ما تفعلون، فلما يئس من إصلاحهم قال لهم: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى

كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 57]. وهذا صالح يُذَكِّرُ قومه بما أنعم اللهُ عليهم، وجعلهم خلفاء من بعد عَادٍ، ويحذرهم عاقبة البغي والفساد في الأرض {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74]. وموسى يشكو له قومه ما نالهم من أذى فرعون وما أصابهم من بغيه وبطشه، فيبشرهم بأن سُنَّةَ اللهِ لا بد آتية، ويظهر خشيته من أن تأتيهم نعمة الله فيكفروا بها ويفعلوا ما كان يفعله غيرهم من المعاصي {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]. وقارون وفرعون وهامان، تجبروا في الأرض واستكبروا بغير الحق، ونسوا نعمة الله عليهم، فلم ينفعهم ما يملكون وما يعبدون من دون الله شيئًا، وأخذهم الله بذنوبهم، فمنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفت به الأرض، ومنهم من غرق {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ، فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 39، 40].

مركز المستخلفين في الأرض

مركز المستخلفين في الأرض: علمنا أن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - استخلف البشر في الأرض، وسخر لهم ما في السماوات والأرض جميعًا وألزمهم أن يتبعوا هُدَاهُ وأن يطيعوا أمره وينتهوا بنهيه، ومقتضى ذلك أن الاستخلاف في الأرض رتب للبشر حقوقًا وألزمهم واجبات، فإذا أردنا أن نحدد مركز المستخلفين في الأرض فينبغي أن نعرف معنى الاستخلاف اللغوي وأن نستخرج معناه الفقهي. والاستخلاف لغة هو إقامة خلف يقوم مقام المستخلف أو مقام الغير على شيء ما، فإذا طبقنا هذا المعنى اللغوي على استخلاف الله - جَلَّ شَأْنُهُ - لآدم وذريته في الأرض قلنا أن البشر إما خلفاء لله أو لغيره. وهذه النتيجة هي التي انتهى إليها المفسرون في تفسيرهم لقوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، فبعض المفسرين كما قلنا من قبل يرى أن البشر خلفوا خَلْقًا آخر كان يسكن الأرض فأفسد فيها وسفك الدماء والبعض يرى أن الخلافة عن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - لا عن خلق آخر. ولكن الكثيرين لا يجيزون أن يقال لبشر خليفة الله، وَحُجَّتُهُمْ أنه إنما يستخلف من يغيب أو يموت، والله لا يغيب ولا يموت، كما يحتجون بأن أبا بكر قيل له يا خليفة الله، فقال:

«لَسْتُ خَلِيفَةَ اللهِ وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» بينما يجيز غيرهم أن يقال لبشر خليفة الله ما دام قائمًا بأمر الله في خلقه، ولقوله - جَلَّ شَأْنُهُ - {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165]. ولا شك أن الرأي الأخير هو الأصح، فما ينبغي أن يقاس بالبشر من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وإذا كان شأن الله أَنْ يُسْتَخْلَفَ وهو شاهد لا يغيب حتى لا يموت، ويكفي قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} [الأنعام: 165]، ليجوز القول بأن البشر خلفاء الله خصوصًا وأنه استخلفهم في ملكه وسخره لهم {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} [المائدة: 120]، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]. وإذا صح هذا فلا يهمنا أن نتحقق مِمَّا إذا كان البشر خَلَفُوا خَلْقًا سَابِقًا عليهم أم لا، لأن هذا الخلق السابق إنما استخلفه الله في الأرض كما استخلف البشر فإذا خلف البشر من كانوا خلفاء لله فالبشر قد صاروا بذلك خلفاء للهِ أيضًا، ومن ثم تنتهي في كل الأحوال إلى أن خلافة البشر عن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - وليست عن غيره. أما معنى الاستخلاف الفقهي فهو النيابة أو القوامة بحسب مدركات البشر الفقهية ذلك أن الله استخلف البشر في الأرض

بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. وقد حدد اللهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - وظيفة البشر في هذا الاستخلاف بقوله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]. والاستعمار معناه التمكين والتسلط، وهذان المعنيان ظاهران في قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10]. وقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]. وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]. والبشر في تسلطهم على الكون وانتفاعهم بما سخر الله لهم من مخلوقات مقيدون بطاعة الله والاهتداء بهديه والابتعاد عما نهى عنه {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60، 61]. والبشر بعد ذلك ليسوا إلا بعض ما خلق الله {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم: 40]. خلقهم من تراب وجعلهم بشرًا ينتشرون في الأرض {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20]. وما خلقهم ليعبدوه حق عبادته {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وسماهم عباده وعبيده، وهو

القاهر فوقهم، يجيزهم بما قدمت أيديهم، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. فاستخلاف البشر في الأرض معناه أن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - أسكنهم الأرض واستعمرهم فيها ومنحهم حق التسلط على ما في الكون للانتفاع بما فيه من خيرات في حدود أمر الله ونهيه، وإذا كان الله قد أسكن عبيده في أرضه وسخر لهم ما في الكون منحة منه فإن ما في أيدي هؤلاء العبيد من ملك الله إنما هو من الناحية الفقهية عارية ينتفع بها البشر، والقيام على العارية في فقه البشر نيابة، وإن كانت نيابة العبد عن ربه والمملوك عن مالكه، وإذن فكل فرد من أفراد البشر يعتبر نائبًا عن ربه - جَلَّ شَأْنُهُ - فيما سخر الله للبشر من الكون وما سلطهم عليه وهو مقيد في كل تصرفاته بحدود هذه النيابة. وهكذا لا يكاد معنى استخلاف البشر في الأرض لغة يختلف عنه فقهًا، ونتيجة ذلك أن مركز المستخلفين في الأرض هو مركز الخليفة أو النائب، وأن الخلافة أو النيابة هي عن الله - جَلَّ شَأْنُهُ -، وهي قائمة في حدود ما سخر الله للبشر من مخلوقاته وما سلطهم عليه من ملكه، وما خولهم في ذلك كله من الاستغلال والانتفاع. ويجب أن لا يفوتنا أن تسخير الكون للبشر وتسليطهم على

واجبات المستخلفين في الأرض

ملك الله لا يخرج هذا الذي سخر لهم وسلطوا عليه من سلطان الله، ولا يحد من هذا السلطان شيئًا، فالبشر مثلاً يحرثون، ويلقون فيها الحب ولكنهم يرجون الإنبات والإثمار من الرب، وما يحرثون ويلقون الحب إلا بما منحهم الله من حياة، وبما ركب فيهم من عقول، وبما علمهم من علم، فهم يستخدمون نعمة الله للانتفاع بنعمة الله، ومالهم في ذلك من سلطان إلا سلطانًا منحهم الله إياه. واجبات المستخلفين في الأرض: والبشر لم يستعمروا في الأرض ولم يستخلفوا عليها ليفعلوا ما يشاءون دون قيد ولا شرط، وليتركوا ما يشاءون دون حسيب ولا رقيب، إنما استعمرهم الله في الأرض واستخلفهم عليها ليعبدوه وحده لا شريك له، وليطيعوا أمره، وينتهوا بنهيه، فإذا كان استخلافهم في الأرض قد منحهم بعض الحقوق، فإنه قد حَمَّلَهُمْ كثيرًا من الواجبات. ولقد أوجب الله على البشر عامة يوم أسكنهم الأرض أن يهتدوا بهديه، وأن يتبعوا أمره. {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]. وعهد إليهم ألا يعبدوا الشيطان، وأن يعبدوا الله {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60، 61]. وكل من هذين النصين أمر عام باتباع ما أنزل الله وتحريم ما عداه.

ووعد الله - جَلَّ شَأْنُهُ - المؤمنين به، المهتدين بهيده، أن يبدل خوفهم أمنًا، وضعفهم قوة، وأن يستخلفهم في الحكم كما استخلف الذين من قبلهم، وَأَنْ يُمَكِّنَ لَهُمْ ويجعل لهم دولة في الأرض وسلطانًا على الناس والدول، ما داموا قائمين بأمر الله، يعبدونه لا يشركون به شيئًا، ولا ينحرفون عن طاعته، قليلاً ولا كثيرًا {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]. وبين الله لنا واجبات المستخلفين في الحكم في أخصر عبارة وأجمعها فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41]. فمن واجبات المستخلفين في الحكم دُوَلاً وَأَفْرَادًا أن يقيموا الصلاة، ولا يقيمها إلا مؤمن يعترف بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وهذا الاعتراف يقتضي واجبات لا حصر لها. ومن واجبات المستخلفين في الحكم إيتاء الزكاة، ولا يؤتي الزكاة إلا مؤمن يسلم بما عليه من واجبات، ويعترف بما في ذمته للغير من حقوق. ومن واجبات المستخلفين في الحكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من استقام

جزاء تعدي حدود الاستخلاف

على أمر الله، وتمسك بحبله، وحرص على طاعته. وقد اقتصرت الآية على هذه الواجبات الثلاث، لأن توفرها دليل على توفير غيرها مِمَّا يوجبه الإسلام، فإقامة الصلاة في الأمة دليل على الإيمان والطاعة، وإيتاء الزكاة دليل على أخذ النفس بالحق ورد الحقوق لأربابها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل على الاستمساك بما أمر الله ودعوة الغير إليه وكفهم عن الفسوق والعصيان. والمستخلفون في الحكم ليسوا إلا بشرًا مستخلفين في الأرض، فإذا وجب عليهم كحاكمين أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر فإنه يجب عليهم كبشر مستخلفين في الأرض أن يطيعوا الله ويهتدوا بهديه، وينتهوا عما نهى عنه. ونخلص من كل ما سبق أن المستخلفين في الأرض سواء كان استخلافهم عَامًّا أو خَاصًّا عليهم واجبات عديدة تدخل كلها تحت عنوان هام هو طاعة الله، أي الائتمار بأمره والانتهاء عما نهى عنه. جزاء تعدي حدود الاستخلاف: رأينا فينا سبق أن الله استخلف البشر في الأرض وسخر لهم مخلوقاته وسلطهم على ملكه وخولهم استغلاله والانتفاع به، وأنه قيدهم بطاعته، والاهتداء بهديه، والانتهاء عما نهى

عنه، وانتهينا إلى أن مركز المستخلفين في الأرض هو مركز الخليفة والنائب، وأن الخلافة والنيابة هي عن الله - جَلَّ شَأْنُهُ -. ومنطق الفطرة يقضي بأن الخليفة أو النائب إذا خرج عن حدود ما منحه من سلطان أو ما قيد به من قيود فعمله باطل بطلانًا لا شك فيه، ولا يصح منه إلا ما يدخل في حدود الخلافة أو النيابة. وهذا هو نفسه منطق الإسلام دين الفطرة، فنصوص القرآن قاطعة في أن الشرك بالله وكراهة ما أنزل وتكذيب آياته والكفر بعد الإيمان، كل ذلك محبط للأعمال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]. {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [الأعراف: 147]. {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217]. وحبوط العمل معناه ضياع العمل وبطلانه بحيث يعتبر كأن لم يكن له وجود، وهذا ما نسميه في عرفنا بالبطلان المطلق أي البطلان الذي لاي قبل التصحيح. وكما يترتب البطلان على الشرك بالله وكراهة ما أنزل وعلى الإلحاد والكفر بعد الإيمان، فانه يترتب أيضًا على عصيان المؤمنين أمر الله ورسوله، فكل مؤمن بالله ورسوله عصى الله

ورسوله في أمر صغير أو كبير أو خرج على الطاعة في أي شيء فعمله الذي عصى به الله ورسوله أو خرج به على الطاعة إنما هو عمل باطل لا يقبل التصحيح، وذلك قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. وقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أي من عمل عملاً خارجًا على ما جئنا به فعلمه مردود لا أثر له. ويستخلص من النصوص السابقة أن كل عمل خارج عن حدود الله هو عمل باطل بطلانًا مطلقًا ولا أثر له من الوجهة الشرعية، سواء كان العمل حاصلاً من مؤمن أو كافر ومن معترف بالله أو منكر له، وليس لمسلم أن يعترف بهذا العمل أو يصححه أو يقوم بتنفيذه، أَيًّا كان نوع العمل حُكْمًا أو إدارة أو سياسة أو اقتصادًا أو تثقيفًا أو غير ذلك، وسواء كان تصرفًا شرعيًا أو فعلاً ماديًا، وسواء وقع في دار الإسلام أو في دار غيره. ذلك هو حكم الإسلام الذي جعله الله للناس دينًا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]. وأعلمهم أنه لا يقبل منهم التدين بغيره: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. ودعاهم إلى أن يتمسكوا به ويموتوا عليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

المال مال الله

المَالُ مَالُ اللهِ: مَاذَا يَمْلِكُ البَشَرُ فِي هَذَا الكَوْنِ؟: رأينا فيما سبق أن هذا الكون خلقه الله الذي خلق كل شيء وأنه سخره لمنفعة البشر، وسلطهم عليه بما وهبهم من عقول، وأنه استخلف البشر واستعمرهم في الأرض ولكنه قيدهم بطاعته والاهتداء بهديه. ولا شك أن البشر في تسلطهم على الكون، واستغلال ما فيه من قوى، والانتفاع بما فيه من خيرات، ويحتاجون في حفظ حياتهم والاحتفاظ بقوتهم ونشاطهم إلى طعام ودواء ولباس وفراش ومأوى، كما يحتاجون إلى ما يستعينون به على استغلال الكون من أدوات وآلات وحيوانات. واستغلال الكون بعد ذلك يقتضي البشر أن يسيطروا على

المال لله وللبشر حق الانتفاع

بعض الأرض يستنبتون فيها الزرع أو يرعون ما فيها من حشائش أو يستغلون ما فيها من أشجار، أو يستخرجون ما فيها من معادن أو زيوت، أو يقيمون عليها مساكنهم ومخازنهم ومتاجرهم ومصانعهم وَقُرَاهُمْ وَمُدُنَهُمْ. ثم إن عجز البشر في طفولتهم وشيخوختهم ومرضهم يدعوهم لأن يدخروا لأبنائهم ما يحييهم في طفولتهم، وإلى أن يدخروا لأنفسهم ما يعينهم على شيخوختهم ومرضهم. وقد تنمو الرغبة في إدخال القليل وتتحول إلى رغبة في ادخار الكثير، وهذا المدخر يتشكل أشكالاً مختلفة بحسب ظروف كل شخص فيكون عقارًا أو منقولاً أو حيوانات أو معادن. فهل يمتلك البشر كل هذا الذي يحتاجونه أو يجتازونه أو يدخرونه؟ ما حدود ملكيتهم؟ وهل هي ملكية تامة أو هي مليكة ناقصة؟ وهل هي ملكية مطلقة أم هي مليكة مقيدة؟ المَالُ للهِ وَلِلْبَشَرِ حَقُّ الاِنْتِفَاعِ: ونستطيع في سهولة ويسر إذا رجعنا إلى ما لدينا من نصوص ورتبنا معلوماتنا ترتيبًا منطقيا أن نصل إلى نتيجة واحدة هي أن المال كله لله وأن البشر لا يملكون منه إلا حق الانتفاع به. فالله - جَلَّ شَأْنُهُ - هو الذي خلق وما بينهما وما فيهما من شيء {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ

شَيْءٍ} [الأنعام: 102]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [إبراهيم: 32]. ومنطقنا البشري يقتضي أن يكون خالق الشيء هو مالكه، وبهذا المنطق نفسه جاءت نصوص القرآن، فهي قاطعة في أن الله له ملك السموات والأرض وما بينهما: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [المائدة: 17 و 18]، وأنه يملك كل شيء في السماوات وكل شيء في السموات وكل شيء في الأرض من صغير وكبير سواء كان له قيمة مالية أو لم يكن له قيمة مالية. {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} [المائدة: 120]، وأنه - جَلَّ شَأْنُهُ - يملك كل هذا وحده دون أن يكون له في ملكه شريك من البشر أو غير البشر، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111]. ولكن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - استعمر البشر في الأرض: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، وجعلهم خلائف فيها على ما سبق بيانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ} [فاطر: 39]، وسخر لهم كل ما خلق في السماوات والأرض وسلطهم عليه بقدر ما يستطيعون من استغلاله واستثماره: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]. ولم يسخر الله ملكه لفرد دون فرد، أو لفئة دون فئة، وإنما

سخره للبشر جميعًا وجعله مشاعًا بين عباده الذين استخلفهم في الأرض ليعيشوا فيه وينتفعوا به، فما يعيش أحد منهم في ملكه، وما ينتفع إلا بملك الله، وليس أحد مهم أحق بملك الله من غيره، وقد جعل الله منفعته لكل البشر سواء. ولقد بين الله لعباده الذين استخلفهم في الأرض أنهم حينما يستغلون ما خلق ويستثمرونه ويحصلون على منافعه لا يأتون بشيء من عندهم، وإنما هو رزق من الله يسوقه إليهم، وفضل آخر يغمرهم به: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [سبأ: 24] .. {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر: 3]. وإذا لم يكن ثمة من يرزق غير الله فعلى البشر أن يطلبوا الرزق من الله وحده، وأن يبتغوه عنده {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17]، فهو الرازق القوي على خلق الرزق وإيصاله للمرزوقين {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]. فملك الله مسخر لمنفعة البشر، ولهم جميعًا أن ينتفعوا به ويستغلوه ويستثمروه ويعملوا فيه، والله مؤتيهم ثمرات الملك وغلته وأجورهم رزقًا من عنده، وما لرزقه من نفاد، وما جعل الله هذا كله إلا نعمة منه على البشر، ما يعود عليه من نفع، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا. ولقد علمنا فيما سبق أن ما في أيدي البشر من ملك الله

وثمراته إنما هو عارية ينتفع بها البشر، وأن القيام على العارية في فقه البشر نيابة وإن كانت نيابة العبد عن ربه والمملوك عن ماله، كذلك علمنا أن مركز المستخلفين في الأرض هو مركز الخليفة أو النائب، وأن الخلافة أو النيابة هي عن الله - جَلَّ شَأْنُهُ -، وهي قائمة في حدود ما سخر الله للبشر من مخلوقاته، وما سلطهم عليه من ملكه، وما خولهم في ذلك كله من الاستغلال والانتفاع. واذا كان الله - جَلَّ شَأْنُهُ - وهو مالك كل شيء قد سخر ما يملك لينتفع به عامة البشر الذين استخلفهم في الأرض، فإنه - جَلَّ شَأْنُهُ - هو الذي يمنح كل فرد منهم ما في يده من هذا الملك الواسع {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 247]. سواء كان ما في يد الفرد قليلاً لا يزيد على حاجته أو كثيرًا يكفي العشرات والمئات {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26]. وما تغير هذه المنح أَيًّا كانت صفة الممنوحين، فما هم إلا بعض أفراد البشر المستخلفين في الأرض يقومون على ملك الله، وما هذا الملك إلا عارية في أيديهم، وما مركزهم من هذا الملك إلا مركز النائب أو الخليفة، وما لهم من سلطان على هذا الملك إلا ما خولهم الله من استغلاله والانتفاع به. ولقد فرض الله على البشر أن ينفقوا من ماله الذي استخلفهم فيه وجعلهم قوامًا عليه {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]. ولم يترك لهم الخيار في الإنفاق، وعجب ألا ينفقوا، وما ينفقون إلا مِمَّا رزقهم الله وآتاهم إياه {وَمَاذَا

عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 39]. وما أمر الله البشر أن ينفقوا إلا ذكرهم أنهم ينفقون من ماله الذي آتاهم، ورزقه الذي ساقه إليهم، والنصوص في ذلك كثيرة منها قوله {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} [البقرة: 254]. {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} [إبراهيم: 31]. {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]. وإذا كان المال مال الله وهو عارية في يد البشر الذين استخلفهم عليه فليس للبشر أن يتأخروا عن إنفاذ أمر الله في هذا المال فإذا أمرهم أن يؤتوا فئات من الناس شيئًا من هذا المال فعليهم أن يبادروا بذلك ما يؤتونهم إلا من مال الله {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]. وعلى كل فرد في يده شيء من المال - وكل مال هو مال الله - أن يطيع أمر الله فيه، سواء قَلَّ مَا فِي يَدِهِ أَوْ أَكْثَرَ {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. ولا يظنن أحد أن ما في يده من مال الله هو رزق خصها

الله به فيمنعه عن غيره، ويبخل به على من يستحقه، فإن الله يرزق الناس ويؤتيهم ملكه ليقوموا عليه في حدود أمره ونهيه، وإذا فضل الله بعض الناس على بعض في الرزق فلا يحسبن صاحب الرزق الكثير إذا أنفق أو أعطى غيره أنه ينفق أو يعطي من رزقه، وليعلم أنه ينفق من مال الله، وأنه لا يعطي شيئًا من عنده، وإنما هو وسيط أعطى غيره من مال الله كما أخذ لنفسه من مال الله {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71]. ولا يفوتنا أن نلاحظ أن بعض نصوص القرآن نسبت المال لأفراد البشر من ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وقوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]. وقوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 186]. وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]. وقوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]. وإضافة المال للبشر في هذه النصوص وغيرها لا تفيد أن البشر ملكوا المال، وإنما تفيد أنهم ملكوا حق الانتفاع به، فالمال مال الله كما قدمنا، وهو مالك كل شيء، وإنما سخره للبشر لينتفعوا به، فإذا أضيف إليهم فالإضافة لا يقصد منها إلا

حدود حق البشر في الانتفاع بمال الله

ملك الانتفاع. والقاعدة أن الإضافة يكفي فيها أدنى الأسباب، ولقد أضاف القرآن مال السفهاء إلى أوليائهم، لا لأنهم ملكوا المال، ولكن لأنهم يملكون حق التصرف فيه بما لهم من حق الولاية، فقال - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} [النساء: 5]. فإضافة مال الله للبشر لأن لهم حق الانتفاع به هو نوع إضافة مال السفهاء إلى أوليائهم، لأن لهم حق التصرف فيه. وبعد فإن النصوص لا يصح أن تفسر على ظاهرها ما دام هناك نصوص أخرى تناقضها .. والقاعدة أن نصوص القرآن لا يترك بعضها لبعض، وإنما تؤخذ جملة وتفسر مجتمعة، والتفسير الصحيح الذي يرفع التناقض يقتضي اعتبار نسبة المال للبشر نسبة مجازية، وأنه نسب إليهم لوجوده في أيديهم، ولما لهم من حق الانتفاع به في الحدود التي رسمها الله. ونخلص من ذلك كله لأن ما في يد البشر من مال على اختلاف أنواعه وأشكاله ومقاديره وما ينتجه هذا المال من أموال إنما هي جميعًا مال الله لا مالهم وملكه لا ملكهم أقامهم عليه واستخلفهم فيه فما يملكون من هذا المال إلا حق الانتفاع به وما يستتبع حق الانتفاع بمال من استهلاكه والتصرف فيه. حُدُودُ حَقِّ البَشَرِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِمَالِ اللهِ: للبشر حق الانتفاع بما في أيديهم من مال الله وهو الحق

الوحيد الذي لهم على هذا المال .. والانتفاع بالمال قد يكون باستغلاله أو استثماره كما هو الحال في الأراضي الزراعية والمناجم والمحاجر، وقد يكون باستهلاك المال كما هو الحال في الطعام والشراب والثمار، وقد يكون بالتصرف في المال تصرفًا شرعيًا كالبيع والوصية والهبة. وللبشر أن ينتفعوا بمال الله على هذه الوجوه كلها، ولن يخرجهم عن كونهم منتفعين بالمال أن لهم حق استهلاك بعضه، ذلك أن لهم حق الانتفاع فإذا لم يكن الانتفاع ممكنًا إلا بالاستهلاك كان الاستهلاك هو عين الانتفاع، ولقد أباح الله - جَلَّ شَأْنُهُ - للبشر أن يستهلكوا من ماله كل ما يقتضي الانتفاع به أن يستهلك، فأباح لهم استهلاك الطعام والشراب والثمار واللباس والأثاث، كما أباح لهم استهلاك جميع الطيبات، وجميع ما تقتضي ظروف حياتهم استهلاكه، والنصوص في ذلك صريحة منها قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا} [المائدة: 88]. {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} [البقرة: 60]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141]. {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 80، 81].

{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34]. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وحق البشر في الانتفاع بمال الله ليس حقًا مطلقًا، وإنما هو حق مقيد بقيود، فليس لهم أن ينتفعوا بهذا المال كما يشاؤون، وإنما لهم أن ينتفعوا به فقط في حدود حاجتهم لهذا المال وبالقدر الذي يكف عنهم الحاجة ويدفعها، بشرط أن يكون ذلك كله في حدود الاعتدال دون سرف أو تقتير، فليس لهم أن يسرفوا في طعامهم وشرابهم ولباسهم وأمور معيشتهم، وما يجوز لهم أن يقتروا على أنفسهم، وعليهم أن يتوسطوا بين الأمرين وأن لا يتجاوزوا الاعتدال، فقد حرم الله عليهم السرف وبسط اليد في المال كما حرم عليهم التقتير وقبض اليد عن النفس بما هي محتاجة إليه. {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ} [طه: 81]. {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]. وإذا كان للفرد أن يأخذ من مال الله ما يكفي حاجته، فإن له أيضًا أن يأخذ من هذا المال ما يكفي حاجة أهله الذين تلزمه نفقتهم كالزوجة والأولاد والأبوين، وله أيضا أن يأخذ بعض مال الله لينفقه في حفظ بقية المال، وفي استغلاله وتثميره، وله أن يفعل ذلك كله في حدود الاعتدال دون سرف أو تقتير.

ما يترتب على كون المال لله

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِ المَالِ للهِ: يترتب على أن المال مال الله النتائج الآتية: 1 - لا يجوز لأحد كائنًا من كان أن يتملك المال تملكًا نهائيًا، ولا يجوز لأحد أن يكون له على المال إلا ملك المنفعة، لأن حقوق الله ثابتة له - جَلَّ شَأْنُهُ -، وليس لأحد من البشر أن يتصرف فيها أو يتنازل عنها حاكمًا كان أو محكومًا فردًا أو جماعة. 2 - إن للجماعة بواسطة ممثليها من الحكام وأهل الشورى أن تنظم طريقة الانتفاع بالمال، إذ المال وإن كان لله إلا أنه جعله لمنفعة الجماعة، والقاعدة في الإسلام أن كل ما ينسب من الحقوق لله إنما هو لمنفعة الجماعة وهي التي تشرف عليه دون الأفراد. 3 - إن للجماعة بواسطة ممثليها من الحكام وأهل الشورى أن ترفع يد مالك المنفعة من المال إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة، بشرط أن تعوضه عن ملكية المنفعة تعويضًا مناسبًا، إذ الإسلام لا يجيز الغصب ولا يحل أخذ المال بغير طيب نفس صاحبه، كما لا يحل أخذه بالباطل وذلك قول الله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. وقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»، وقوله: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ». 4 - أن الإسلام وإن كان يبيح حرية التملك إلى غير حد، إلا

ما يترتب على حق البشر في الانتفاع بمال الله

أنه يجيز للجماعة بواسطة ممثليها وباعتبارها القائمة على حقوق اللهو تنظيم الانتفاع بها أن تحدد ما يملكه الشخص من مال معين اذا اقتضت ذلك مصلحة عامة كتحديد الملكية الزراعية بقدر معين أو ملكية أراضي البناء. مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى حَقِّ البَشَرِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِمَالِ اللهِ: ويترتب على أن للبشر الانتفاع بمال الله وتملك حق الانتفاع نتائج هي: 1 - إذا كانت الجماعة قائمة على حق الله وهو ملكية المال، فليس لها أن تمس ملكية الانتفاع ليس لها أن تحرم ملكية الانتفاع التي جعلها الله للأفراد. 2 - أن ملكية المنفعة تتصل بالعين كما تتصل بالشخص فيجوز لمالك المنفعة أن ينقلها إلى غيره بالبيع والرهن والوصية وغيرها من التصرفات الشرعية، كما أنها تنتقل عن المالك بوفاته إلى ورثته. 3 - أن ملكية المنفعة الدائمة في أصلها بالنسبة للأفراد أي أنها غير مقيدة بمدة معينة، فيصح أن يظل الشيء في حيازة شخص معين ينتفع به حتى يموت ثم يتوارثه عنه أولاده وأولادهم حتى ينقرضوا كما هو الحال في الوقف. 4 - أن ملكية المنفعة إنما جعلت لينتفع بها الفرد بطريق

حقوق الغير في مال الله

مباشر، ولتنتفع بها الجماعة من طريق غير مباشر، فإذا عطل المنتفع المال فلم ينتفع به فقد عطل انتفاع الجماعة، وكان للجماعة أن ترفع يده عنه بشرط أن تعوضه عنه بما يقابل قيمته. حُقُوقُ الغَيْرِ فِي مَالِ اللهِ: وإذا كان لكل فرد حق الانتفاع بما في يده من مال الله في الحدود التي بناها، فإن للغير حقوقًا فرضها الله في هذا المال وأوجب على من في يده المال أن يقوم بها باعتباره مستخلفًا في مال الله، وهذه الحقوق هي: 1 - الزكاة: وهي فريضة في مال الله، فعلى كل فرد في يده شيء من مال الله أن يخرجها من هذا المال إذا بلغ قدرًا معينًا، ويؤديها إلى الحاكم ليردها على ذوي الحاجة طبقًا لنصوص القرآن. والزكاة كالصلاة من مباني الإسلام، يقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ البَيْتِ» لمن استطاع إليه سبيلاً. وأكثر النصوص تجمع بين الصلاة والزكاة، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 83]. وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وكقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ

حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». والزكاة فريضة في المال، ولذلك تجب على الرجال والنساء والصغار والكبار، لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. ومقدارها يختلف باختلاف المال، فقد تصل إلى عشر المال كما في المستنبت المقتات، وقد تصل إلى 2.5 % من المال كما في الحلي والنقود، وقد تكون أقل من ذلك كما في زكاة الأنعام. وتجب الزكاة في كل مال حال عليه الحول، أي مضى عليه عام في يد المستخلف عليه، لقول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ». 2 - الإنفاق: وإنفاق المال يعتبر في الإسلام صفة من الصفات الدالة على الإسلام وعلى الإيمان وعلى طاعة الله والقيام بأمره، وحينما وصف الله المتقين وصفهم بأنهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، فسوى - جَلَّ شَأْنُهُ - بين الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق وجعلها جميعًا علامة على التقوى. ووصف الله المؤمنين بأنهم هم الذين يخشون ربهم فإذا ذكر

وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا على إيمانهم، وأنهم يعملون ويحسنون عملهم ما استطاعوا ثم يتوكلون بعد ذلك على ربهم، وأنهم الذين يقيمون الصلاة وينفقون مِمَّا رزقهم الله، وأكد الله لنا أن هذه الأوصاف هي أوصاف المؤمن الحقيقي، فالإنفاق إذن صفة من صفات المؤمن، وعلامة على الإيمان الحق {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4]. بل إن الإنفاق يعتبر في الإسلام أصلاً من أصول البِرِّ أي الخير، فلا يتم الخير إلا بالإنفاق، لقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. ويلاحظ على نص الآية أولاً: جعل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أصلاً من أصول البر أي الخير، وجعل الأعمال الصالحة المترتبة على الإيمان والتي هي نتيجة له أصلاً ثانيًا للبر أي الخير. فالخير هو ما يهدف إليه الإسلام،

والأصول التي يقوم عليها هي الإيمان المجرد ثم إتيان ما يقتضيه الإيمان من الأعمال. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، فالغاية هي الدعوة إلى الخير والوسائل هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدخل تحتها كل ما جاء به الإسلام، ومن ذلك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48]، فغاية الأديان ليست إلا الخير، وما تدعو الناس إلا إلى الاستباق في عمل الخير، ووسائلها إلى ذلك هي الإيمان بالله، والعمل طبقًا لما أمر الله. ويلاحظ على نص الآية ثانيًا: أنه جعل الإنفاق على رأس الأعمال الصالحة التي تؤدي إلى الخير وهو غاية الإسلام وهدفه، كذلك قدم النص الإنفاق على الصلاة والزكاة، ويكفي هذا دليلاً على مكانة الإنفاق في الإسلام، ودليلاً على أن الإسلام لا يتحقق في مسلم يمتنع عن الإنفاق. وقد بين لنا الله - جَلَّ شَأْنُهُ - أننا لن نصل إلى ما يهدف إليه الإسلام وهو الخير حتى ننفق من أحب أموالنا وأكرمها علينا، فقال - جَلَّ شَأْنُهُ -: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، ومن أنفق مِمَّا يحب هان عليه ما دونه. ويتبين مِمَّا سبق غاية الإسلام هي الخير، وأن وسائله

أنواع الإنفاق

للخير هي الايمان والأعمال الصالحة، وأن الإنفاق هو أول الأعمال الصالحة، وأن الامتناع عن الإنفاق يحول دون الوصول إلى غاية الإسلام وهي الخير، وإذا كان الإنفاق وسيلة من وسائل الإسلام إلى الخير ونتيجة من نتائج الإيمان بالله، فإن المسلم الذي يمتنع عن الإنفاق يشهد على نفسه بأنه يعصي الله، وأنه يعطل الإسلام، وأنه لم يؤمن بالله حق الايمان. أنواع الإنفاق: والإنفاق نوعان: إنفاق الفريضة، وإنفاق التطوع، وإنفاق الفريضة نوعان: إنفاق في سبيل الله، وإنفاق على ذوي الحاجة. وإنفاق الفريضة هو ما يجب إنفاقه من المال، وما للحاكم أن يأخذه ليصرفه في مصارفه، رضي ذلك المستخلف على المال أم كرهه، أما إنفاق التطوع فهو ما ترك للمستخلف أن ينفقه دون أن يجبره على إنفاقه أحد. الإنفاق في سبيل الله: والإنفاق في سبيل الله فريضة واجبة، ويشمل كل ما ينفق لإعلاء كلمة الإسلام، والدفاع عنه، ونشر الإسلام بين الناس وإقامة أحكامه، ومن واجب كل مستخلف على مال الله أن ينفق منه في هذه السبيل، ومن حق الحكومة الإسلامية أن تقتطع من الثروات والأموال التي في يد الأفراد ما تراه كافيًا لاعلاء كلمة

الله، ويستوي أن يصرف في الإعداد للعدو أو دفعه أو رفع مستوى المسلمين عامة علميًا او اجتماعيًا أو رياضيًا أو نشر الإسلام وإقامة أحكامه بين الناس فكل ذلك إنما هو إنفاق في سبيل الله، إذ أن سبيل الله هي طاعته في كل ما أمر به من الجهاد وحكم ومساواة وعدل وغير ذلك. والإنفاق في سبيل الله جهاد، إذ كما يكون الجهاد بالنفس يكون بالمال ويكون بهما مَعًا، ولقد أمر الله المسلمين أن ينفروا خِفَافًا وَثِقَالاً وأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيله، فقال - جَلَّ شَأْنُهُ -: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]، وجعل الله الجهاد بالمال والنفس علامة إيمان الشخص والدليل على صدق هذا الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]. ولقد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]، وجعل هذا البيع التجارة الرابحة المنجية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصف: 10، 11]. واعتبر الامتناع عن الإنفاق في سبيل الله إلقاء بالنفس في

التهلكة {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. فإذا لم يبذل المسلمون في سبيل الله، وتأييد دينه وإعلاء كلمته كل ما يستطيعون من قوة ومال فقد أهلكوا أنفسهم، ومكنوا لأعدائهم من رقابهم، وروى عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: هذه الآية نزلت فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه. قال بعضنا لبعض سِرًّا: إن أموالنا قد ضاعت، إن الله قد أعز الإسلام، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله الآية يرد علينا ما قلنا، فالتهلكة هي الإقامة على الأموال وإصلاحها والضن بها أن تنفق في سبيل الله. وإذا كان الله - جَلَّ شَأْنُهُ - قد فضل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله على المجاهدين في سبيل الله بأموالهم فقط، فإنه وعد كلا الفريقين الحسنى {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]. فعلى كل من كان في يده شيء من مال الله أن ينفق منه في سبيله ويجاهد به لإعلاء كلمة الله وحياطة الإسلام، ومن فاته الجهاد بنفسه فلا يفوته الجهاد بالمال، فإن من فاته الجهاد بالنفس والمال وهو قادر عليهما فقد فاتته رحمة الله وقدم نفسه لنار جهنم، ولقد كره البعض في عهد رسول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله فوعدهم الله نار جهنم، ومنع رسوله أن يصلي على

الإنفاق على ذوي الحاجة

من مات منهم أو يقوم على قبره. {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ، وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 81 - 84]. ولقد أعد الله للذين يكنزون المال في سبيل الله عذابًا أليمًا فقال - جَلَّ شَأْنُهُ - " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم"وتلك هي التهلكة التي يلقي الناس بأنفسهم إليها حين يبخلون ولا ينفقون في سبيل الله. وكل مسلم مطالب بالإنفاق ما دام يجد ما ينفقه في سبيل الله، فإذا لم يجد فما عليه من حرج، ويكفيه النصح لله ولرسوله ولجماعة المسلمين، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولا يؤاخذ الله محسنًا أحسن عمله أو قوله بقدر ما يستطيع {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91]. الإنفاق على ذوي الحاجة: يدخل الإنفاق على ذوي الحاجة في الجماعة الإسلامية تحت الإنفاق في سبيل الله، لأن سبيل الله هي طاعته، فكل إنفاق يطاع فيه الله هوإنفاق في سبيل الله، ولكنا أفردنا للإنفاق على

ذوي الحاجة مكانًا خاصًا وعنوانًا مستقلاً لأن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - خصه بنصوص خاصة من ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (¬1) [البقرة: 177]. وقول: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26]. وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36]. وقوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: 42 - 44]، وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، وقوله: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 215]. {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ¬

_ (¬1) المساكين: هم الفقراء المتعففون، وقد عَرَّفَ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسكين بقوله: «لَيْسَ المِسْكِينُ [بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ] تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ» [قَالُوا: فَمَا المِسْكِينُ؟] قَالَ: «الذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ، فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ». وابن السبيل: هو المنقطع في السفر لا يتصل بأهل ولا قرابة، والسائلون هم من تدفعهم الحاجة إلى تكفف الناس، والسؤال محرم شرعًا إلا عند الضرورة. وفي الرقاب: أي في تحريرها وعتقها كافتداء الأسرى وابتياع الرقيق وعتقه.

تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]. وقوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]. والإنفاق على ذوي الحاجة فريضة افترضها الله في المال فليس لمستخلف على مال الله أن يمنعها، وللحكومات الحق في أن تأخذ من أموال الأغنياء ما يكفي حاجة الفقراء فإن لم تفعل فقد عصت أمر الله وحرمت ذوي الحاجة حقوقهم التي فرضها لهم الله. ولا يشترط أن يكون الفقراء وذوو الحاجة معدمين لا يملكون شيئًا أصلاً حتى يستحقوا الإنفاق عليهم، وإنما الشرط أن لا يكون لديهم ما يكفي حاجتهم، فكل من كان إيراده لا يكفي حاجته فهو من ذوي الحاجة وعلى الحكومة الإسلامية أن تأخذ من فضول أموال الأغنياء ما يرد حاجة ذوي الحاجة. والإنفاق على ذوي الحاجة يعبر عنه بالصدقة كما يعبر عن الزكاة بالصدقة، وذوو الحاجة الذين يجب لهم الإنفاق هم تقريبًا الذين فرضت لهم الزكاة في قوله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 60]. وقد دعا هذا الى اشتباه الأمر على البعض، فظن أن ليس في المال لذوي الحاجة سوى الزكاة، وهذا خطأ لا شك فيه، لأن الزكاة ليست هي كل ما في المال من حق، وإنما هي الحق الأول لذي الحاجة، فإن كفتهم فبها، وإلا فقد وجب الإنفاق فريضة من

الله حتى تكف الحاجة عن ذوي الحاجة. وليس أدل على صحة ما نقول من أن القرآن فَرَّقَ بين الإنفاق والزكاة في نص واحد واعتبر كليهما من الأعمال التي يقتضيها الإيمان ويقوم من أجلها الإسلام، وذلك قوله تعالى {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة: 177]. فجاء النص صريحًا في وجوب الإنفاق وفي وجوب الزكاة. والفصل بين الإنفاق والزكاة بالصلاة دليل على الاختلاف بين الإنفاق والزكاة، والنص على كل من الإنفاق والزكاة على حدة في آية واحدة قاطع بأن كليهما يختلف عن الآخر وأنهما فريضتان مختلفتان، ومن ادعى أن الزكاة نسخت الإنفاق كفريضة فإنه يدعي ما لا حجة له عليه، فالزكاة فرضت في مكة والآية التي سبق ذكرها مدنية، فكيف تنسخ الفريضة السابقة اللاحقة؟ بل كيف ينسخ بعض النص الواحد بعضه الآخر؟ ولقد جاءت السُنَّةُ بنفس ما جاء به القرآن من المخالفة بين الإنفاق والزكاة وجعلها فريضتين مختلفتين، فيروى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ تَمِيمٍ أَتَى رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي ذُو مَالٍ كَثِيرٍ، وَذُو أَهْلٍ وَمَالٍ، وَحَاضِرَةٍ، فَأَخْبِرْنِي كَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ

إنفاق التطوع

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تُخْرِجُ الزَّكَاةَ، فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ، وَتَصِلُ أَقْرِبَاءَكَ، وَتَعْرِفُ حَقَّ المِسْكِينِ، وَالجَارِ، وَالسَّائِلِ»، ففرق الرسول بين الزكاة وبين صلة الأقارب وإعطاء المساكين والجيران والسائلين حقوقهم التي أوجبها الله لهم بعد الزكاة. وروت فاطمة بنت قيس أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «إِنَّ فِي المَالِ لَحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ»، ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] الخ الآيَةَ. فالإنفاق إذن فريضة غير فريضة الزكاة، وقد افترضه الله لسد ما لم تسده الزكاة من حاجات، ومن الممكن أن تسد فريضة الزكاة حاجة ذوي الحاجة كما حدث في عهود الإسلام الأولى، وقد تزيد عن حاجتهم كما حدث في عهد عمر بن العزيز فقد كانت الدولة لا تجد المحتاجين من تنفق عليهم بعض حصيلة الزكاة. فإذا لم تقم فريضة الزكاة بسد حاجة ذوي الحاجة ففريضة الإنفاق تقوم بما لن تتسع له فريضة الزكاة. إنفاق التطوع: هذا النوع من الإنفاق يأتي بعد أداء إنفاق الفريضة بنوعيه، وهو متروك لاختيار المنفق إن شاء أنفق وإن شاء امتنع، ولذلك سميناه إنفاق التطوع ويسمى صدقة التطوع، فإن أنفق فله أجر الإنفاق وإن لم ينفق لم يأثم. ولقد حض الإسلام الإنفاق وحببه إلى الناس وأعد لهم أفضل الجزاء {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ

حد التطوع

أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]. وأعلمهم أن ما ينفقون من خير فإنما يعود عليهم {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 272]. ودعاهم إلى أن ينفقوا من أموالهم في كل وقت من أوقات الليل والنهار وفي السر والعلانية وضمن لهم الأجر الجزيل والجزاء الأوفى {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]. وسنة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنهج نهج القرآن في الحض على الإنفاق فَمِمَّا روي عنه قوله: «تَصَدَّقُوا وَلَوْ بِتَمْرَةٍ، فَإِنَّهَا تَسُدُّ مِنَ الجَائِعِ، وَتُطْفِئُ الخَطِيئَةَ، كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ»، وقوله: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»، وقوله: «مَا مِنْ عَبْدٍ [مُسْلِمٍ] يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ - إِلاَّ كَانَ اللَّهُ [يَأْخُذُهَا] بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ [فَلُوَّهُ أَوْ] فَصِيلَهُ حَتَّى تَبْلُغَ التَّمْرَةُ مِثْلَ أُحُدٍ» وقوله: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ». حد التطوع: جعل الإسلام للإنفاق حدين: الحد العادي، وحد الضرورة سواء كان الإنفاق فريضة أو تطوعًا. فأما الحد العادي للإنفاق فيمتد إلى كل ما يزيد عن حاجة المستخلف على المال فما زاد على حاجته فهو محل للإنفاق أَيًّا كان مقداره، والأصل في ذلك قول الله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا

يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. والعفو هو الفضل أي ما عفت عنه الحاجة وما فضل بعد سدها. وروي في أسباب نزول الآية الأولى أن نفرًا من الصحابة سألوا رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن حد الإنفاق فأجيبوا على لسان الوحي أن ينفقوا العفو أي ما زاد عن حاجتهم. ولقد حاول بعض المفسرين أن يفسر العفو بمعنى آخر، فقال: إن العفو نقيض الجهد فيكون معنى الآية أنهم ينفقون مِمَّا سهل عليهم وتيسر لهم مِمَّا يكون فاضلاً عن حاجتهم وهو تفسير متكلف يخالف ظاهر النص ويخالف ما ورد عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلاَ تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ» والفضل ما زاد عن الحاجة، والكفاف ما كف عن الحاجة ويزيد عن قدرها. وقول الرسول: «طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمِهِ، وَأَنْفَقَ الفَضْلَ مِنْ مَالِهِ وَأَمْسَكَ الفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ»، وقوله: «الأَيْدِي ثَلاَثَةٌ، فَيَدُ اللَّهِ العُلْيَا، وَيَدُ الْمُعْطِي التِي تَلِيهَا، وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى، فَأَعْطِ الْفَضْلَ، وَلاَ تَعْجَزْ عَنْ نَفْسِكَ» فهذا رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفسر العفو بأنه الفضل وما زاد عن الحاجة، ويدعو إلى إنفاقه جميعًا ويحذر من إمساكه، ويقول في صراحة أنه ملام على الاحتفاظ بما يكفي الحاجة، وإنما الملام على ما زاد عن ذلك. ولقد حدد بعضهم حاجة المستخلف على المال بالحاجة اليومية،

وحددها البعض بالحاجة الشهرية وحددها آخرون بحاجة السَّنَةِ، وحجتهم أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّخَرَ لأهله قوت سَنَةٍ. وإذا كان كل ما زاد عن حاجة المستخلف على المال محلاً للإنفاق فينبغي أن تعلم أن إنفاق هذا الزائد لا يجب إلا إذا استوجب الإنفاق حاجة الغير إليه، فإذا لم يكن بالغير حاجة إلى الفضل كان لمن في يده المال أن ينفق منه طَوْعًا ما شاء ولو أتى على كل الفضل، أما إذا كان بالغير حاجة إلى الفضل فليس لمن في يده المال أن يأخذ من الفضل شيئًا وإلا كان آخذًا غير حقه، وهذا ما فهمه أبوسعيد الخدري صاحب رسول الله حين سمعه يقول: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ». قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «فَذَكَرَ - أي الرسول - مِنْ أَصْنَافِ المَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنْ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ». وللحكومة الإسلامية بعد أن تأخذ من فضول أموال الأغنياء فتردها على الفقراء ولو لم يكونوا بحاجة إليها إذا اقتضت مصلحة عامة تحقيقًا لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. وهذا هو ما رآه عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قبيل وفاته، فقد أثر عنه قال: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، لأَخَذْتُ فُضُولَ أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ، فَقَسَمْتُهَا عَلَى الفُقَرَاءِ».، وكان عمر يرى هذا بالرغم من أنه فرض لكل شخص في بيت المال حتى الأطفال، فلم تكن حاجة الغير إلى

فضول أموال الأغنياء هي التي تدعو عمر إلى القول برد هذه الفضول للفقراء، وإنما رأى عمر أن ثروات الأغنياء تضخمت وخشي عليهم الترف والبطر، وخشي على الفقراء الحسد والفتنة، فود لو حسم الأمر كله برد فضول أموال الأغنياء على الفقراء، ولو طال عمره وفعل هذا لتغير تاريخ الإسلام. وحاجة الغير لفضول الأموال لا تتحدد فقط بما يكفي حاجة الأفراد متفرقين، وإنما تتحدد أيضًا بما يكف حاجتهم مجتمعين، أو بتعبير آخر تتحدد الحاجة إلى فضول الأموال بما يسد حاجة الجماعة بعد حاجة الأفراد، وحاجات الجماعة لا تنتهي ولا حد لإشباعها، فكلما تقدمت الجماعة وقويت زادت حاجتها إلى التقدم والقوة لتحتفظ بمكانتها بين الجماعات، وكلما أقامت الجماعة أمر الله تجددت حاجتها إلى إقامة أمر الله لمواجهة المستحدث من الفساد والعصيان. وإذن ففضول الأموال رهن بما يسد حاجة الأفراد وحاجة الجماعة فليس لمن في يدهم هذه الفضول أن ينفقوا منها شيئًا على أنفسهم وإلا كانوا آخذين غير حقهم وليس لهم أن ينفقوا منها تطوعًا إلا بعد أن يأخذ الأفراد والجماعة ما يجب لهم فيها، ولو أن إنفاق التطوع يعود على الغير بالنفع ذلك أن صدقة التطوع تترك لمشيئة المتطوع، يوزعها كيف يشاء، أما إنفاق الفريضة فيجب أن يصيب من لهم الحق في المال دون غيرهم. أما حد الضرورة في الإنفاق فانه يمتد من الفضول إلى نفس

الجزء المخصص لسد حاجة المستخلف على المال، فيصبح للغير من الأفراد للجماعة الحق في أخذ ما تدعو الضرورة لأخذه من هذا الجزء قل المأخوذ أو كثر لسد بعض حاجة الآخرين ولتوفير المال الضروري لصيانة أمن الدولة الخارجي والداخلي. ولا ينتقل حد الإنفاق إلى الجزء المخصص لسد حاجة المستخلف على المال إلا لضرورات تقتضي هذا الانتقال. ونستطيع أن نضرب على هذه الضرورات أمثلة حدثت في مطلع العهد الإسلامي. وأول هذه الأمثلة كان في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد أمر المسلمين بالهجرة من مكة إلى المدينة فهجروا مكة متسللين تاركين أموالهم نَهْبًا لمشركي قريش ودخلوا المدينة وأكثرهم لا يملك قوت يومه، وما ترك المهاجرون كل أموالهم إلا استجابة لأمر الله، وجهادًا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]. فلما وصل الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، وأنزل المهاجرين على الأنصار يشاركونهم في كل ما يملكون، ويقاسمونهم القليل والكثير، ولم تكن أموال الأنصار التي تتسع لهم وللمهاجرين ولكنهم رحبوا بالمهاجرين وآثروهم على أنفسهم وهم في أشد الحاجة إلى ما يؤثرون به غيرهم، وما فعلوا ذلك

إلا استجابة للهِ وجهادًا في سبيله فاستحقوا بذلك قول الله فيهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. هذا هو المثل الأول يبين لنا أن مصلحة الإسلام اقتضت أن يضحي المهاجرون بكل أموالهم فضحوا بها طيبة نفوسهم، وأن المصلحة اقتضت أن يضحي الأنصار بالكثير مِمَّا هم في أشد الحاجة إليه فنزلوا على أمر الله وآثروا المهاجرين على أنفسهم. أما المثل الثاني فكان في عهد عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - حين حدثت المجاعة في سنة ثماني عشرة من الهجرة، واشتد الجوع حتى جعلت الوحش تأوي إلى الأنس وحتى جعل الرجل يذبح الشاه فيعافها من قبحها، فآلى عمر على نفسه أن لا يذوق سمنًا ولا لبنًا ولا لحمًا حتى يحيى الناس، وكان يقول: «لَوْ لَمْ أَجِدْ لِلنَّاسِ مَا يَسَعُهُمْ إِلاَّ أَنْ أُدْخِلَ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ عِدَّتَهُمْ فَيُقَاسِمُونَهُ أَنْصَافَ بُطُونِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِحَيًا لَفَعَلْتُ؛ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْلِكُوا عَلَى أَنْصَافِ بُطُونِهِمْ». وما قال ذلك إلا بعد أن كتب إلى أمراء الأمصار يستمدهم، فكان أول من قدم إليه أبو عبيدة بن الجراح في أربعة آلاف راحلة من طعام، وبعث عمروبن العاص الطعام في السفن وعلى الإبل، فبعث عشرين

سفينة وألف بعير محملة بالدقيق، كما بعث خمسة آلاف كساء، وبعث معاوية ثلاثة آلاف بعير محملة كما بعث ثلاثة آلاف عباءة، وبعث سعد بن أبي وقاص ألف بعير محملة بالدقيق، وكل ذلك وزع على المحتاجين والفقراء ولكنه لم يكد يسد حاجتهم فرأى عمر أن يدخل على كل أهل بيت عدتهم من المحتاجين ليقاسموهم طعامهم ويعيش الجميع على أنصاف بطونهم. وقد استلهم عمر في هذا الاتجاه روح الإسلام وتأسى بما فعله رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وأنزل المهاجرين على الأنصار حتى يسر الله للمهاجرين وأذهب عنهم الفاقة. أما المثل الثالث فبطله أبو عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كان هو وثلاثمائة من صحابة الرسول في سفر ففنيت أزواد بعضهم فأمرهم أبو عبيدة فجمعوا أزوادهم في مزودين وجعل يقوتهم إياها على السواء. وهكذا يحمل الإسلام الناس في الأزمات والمجاعات وعند الضرورات أن يسع بعضهم بعضًا فيما هم في حاجة إليه وفيما يقيم أودهم ويحفظ حياتهم، وفي هذا روي عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ (إلى الطعام) بِثَالِثٍ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ سَادِسٍ». والأصل في ذلك كله أن المال مال الله، وأن الإسلام

فرض على المسلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، كما أن الإسلام يقيم المجتمع الإسلامي على أساس التضامن الاجتماعي، فيجعل في أموال الأغنياء حَقًّا للفقراء: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]. {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26]. حتى ليبرأ الله من كل جماعة أصبح فيهم فرد جائعًا، وذلك قول رسول الله: «أَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعًا، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ». ويجعل الإسلام المسلمين بمثابة البنيان يشد بعضه بعضًا، ويقيم بعضه البعض الآخر، بل يجعل المسلمين جميعًا جسدًا واحدًا إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وفي ذلك يقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» ويقول: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى» .. ويوجب الإسلام على كل مسلم أن يرحم أخاه المسلم، وأن لا يظلمه ولا يسلمه وذلك قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ، لاَ يَرْحَمْهُ اللهُ»، وقوله: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ»، فمن كان له فضل مال ورأى أخاه جائعًا فلم يغثه فما رحمه بلا شك، ومن تركه يجوع ويعرى وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد أسلمه لا جدال في ذلك.

بحث محدود

بحث محدود: هذه هي خلاصة نظرية الإسلام في ملكية المال، وتلك هي الأصول التي تقوم عليها، وما نريد أن نتعرض لما لا محل له في هذا الكتاب، وما تعرضنا لنظرية المال إلا بقدر ما نستبين حق الحكومات على ما في يد الأفراد من مال وحق الأفراد في هذا المال، ونرجو أن يوفقنا الله لوضع كتاب خاص نبسط فيه النظرية وتطبيقاتها وما يتصل بها من نظريات اقتصادية إسلامية، وما يمكن أن يترتب على هذه النظريات في المجتمع الإسلامي.

لله الحكم والأمر

للهِ الحُكْمُ وَالأَمْرُ: لِمَنْ الحُكْمُ؟: هذا سؤال لا تصعب الإجابة عليه بعد أن علمنا أن الله هو خالق الكون ومالكه، وأنه استعمر البشر واستخلفهم في الأرض، وأمرهم أن يتبعوا هداه، وأن لا يستجيبوا لغيره، فكل ذي منطق سليم لا يستطيع أن يقول بعد أن علم هذا إلا أن الحكم لله، وأنه - جَلَّ شَأْنُهُ - هو الحاكم في هذا الكون ما دام هو خالقه ومالكه، وأن على البشر أن يتحاكموا إلى ما أنزل ويحكموا به، لأنهم من وجه قد استخلفوا في الأرض استخلافًا مقيدًا باتباع هدى الله، ولأنهم من وجه آخر خلفاء لله في الأرض، وليس للخليفة أن يخرج على أمر من استخلفه. وقد جاءت نصوص القرآن مؤيدة لهذا المنطق البشري السليم، فهي تلزم البشر باتباع ما جاء من عند الله، وَتُحَرِّمُ

عليهم تحريمًا قاطعًا اتباع ما يخالفه: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106]. {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]. وقد علمنا الله أن الحق شيء واحد لا يتعدد، وأنه ليس في الدنيا إلا حق أو باطل، وليس بعد الحق إلا الضلال {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]. كما علمنا أنه أرسل رسوله محمدًا - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحق {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: 119]. وأن الكتاب الذي أنزل عليه جاء بالحق: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 3]. {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء: 105]. وإذا كان الله قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33]. فإن الذين يستجيبون للرسول ولما جاء به إنما يستجيبون للحق ويتبعون الهدى. أما الذين لا يستجيبون للرسول ولما جاء به من الحق فقد علمنا الله أنهم لا يستجيبون للضلال ويتبعون أهواءهم، وأن أعظم الناس ضلالاً هو من اتبع هواه ولم يهتد بهدى الله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. وقد جعل الله ما أنزله على رسوله شريعة لنا، وأوجب

علينا أن نتبعها ونلتزم حدودها، ونهانا عن اتباع تشريعات الناس وقوانينهم فما هي أهواؤهم وضلالاتهم يصوغونها تشريعات وقوانين يضلون بها البشر ويصرفونهم عن شريعة الله، وهم مهما تعلموا وعلموا لا يعلمون شيئًا في جنب علم الله الذي أحاط بكل شيء علمًا، والذي يعلم ما فيه هداية البشر وخيرهم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]. والشريعة التي أنزلها الله على رسوله وألزمنا اتباعها والعمل بها ليست إلا كتاب الله الذي يقرأه المسلمون ويستمعون إليه في كل صباح ومساء {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155]. وهذا الكتاب هو القرآن الكريم: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3]. ولقد كان في النصوص السابقة ما يكفي للقطع بأن الحكم في البلاد الإسلامية يجب أن يكون طبقًا للشريعة الإسلامية، لأن اتباع ما أنزل الله يقتضي أن يكون الحكم بما أنزل الله، وأن يكون الحكام قائمين على أمر الله فيما يتصل بذواتهم وفيما هو في أيديهم فما يستطيعون أن يتبعوه عند الاختلاف، وإذا استطاعوا أن

يتبعوا أمر الله فيما هو للأفراد فكيف يستطيعون أن يتبعوه فيما هو للحكام إذا لم يكن الحكام مقيدين باتباع ما أنزل الله؟ وكان يكفي أن نعلم أن الله أوجب علينا عند التنازع والاختلاف أن نتحاكم إلى ما أنزل الله ونحكم في المتنازع عليه والمختلف فيه بحكم الله {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، كان يكفي أن نعلم هذا لنقطع بأن الحكم لله، وأن الحكام والمحكومين في كل بلد إسلامي يجب أن يتقيدوا في كل تصرفاتهم واتجاهاتهم باتباع ما أنزل الله، وأن يجعلوا دستورهم الأعلى كتاب الله. ولكن الله - جَلَّ شَأْنُهُ -، وهو أعلم بالإنسان، وبأنه أكثر شيء جدلاً جاءنا بنصوص لا سبيل فيها إلى جدال أو استنتاج، تقضي أن الحكم لله في الدنيا وفي الآخرة {وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70]. وتبين لنا أن الله لم يرسل الرسل إلا مبشرين ومنذرين، ولم ينزل الكتب إلا ليتخذها الناس دستورًا في حياتهم الدنيا، يحكمونها ويحكمون بمقتضاها في كل شؤونهم {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]. ومن هذه النصوص القاطعة نعرف أن الله أنزل القرآن على نبيه محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليكون دستور البشرية وقانونها

الأعلى، وليقضي الرسول بين الناس على مقتضى أحكامه كما علمه الله {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]. ونعرف أن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - نفى الإيمان عن العباد وأقسم بنفسه على ذلك حتى يحكموا الرسول فيما يشجر بينهم ليحكم فيه بحكم الله، ولم يكتف الله تعالى في إثبات الإيمان لهم بهذا التحكيم المجرد بل اشترط لاعتبارهم مؤمنين أن ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق من قضاء الرسول وحكمه، وأن يسلموا تسليمًا وينقادوا انقيادًا لما حكم به، ولن يحكم إلا بما أنزل الله وبما أراه إياه {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. ومن هذه النصوص القاطعة نعرف أن الله أمر أن يتحاكم الناس إلى ما أنزله على رسوله ويحكموا به وأنه تعالى حذر من اتباع الأهواء والحكم بها، وأمر أن يكون الحكم كله مطابقًا لما أوحي به، كما حذر الحاكم من أن يترك بعض ما أنزل الله أو أن يفتن عنه {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]. {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]. {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} [الرعد: 37].

ومن هذه النصوص نعرف أن الله جعل الحكم بما أنزله أحسن حكم وأفضله، وأنه نسب الحكم بما أنزل إلى نفسه فجعله حكم الله وأنه جعل الحكم بما عداه حكمًا جاهليًا يقوم على الباطل، وأنه وصف من يبتغي غير حكم الله بأنه يبغي حكم الجاهلية القائم على الأهواء والضلال {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. ومن هذه النصوص القاطعة نعرف أن الله حَرَّمَ الحكم بغير ما أنزل، كما حَرَّمَ عليهم الكفر والظلم والفسوق والعصيان، وجعل من لم يحكم بما أنزل الله كافرًا وظالمًا وفاسقًا، فقال - جَلَّ شَأْنُهُ - {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. ولقد عبر القرآن عن الكفر بلفظ الظلم، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]. كذلك عبر القرآن عن الكفر والظلم بالفسق من ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99]، وقوله: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]، وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. وقوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59].

الحكم من طبيعة الإسلام

وقوله: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165]. وإذا كان الظلم والفسق بمعنى الكفر فيكون فسق من لم يحكم بما أنزل الله وظلمه هو الكفر، ويكون من لم يحكم بما أنزل الله كافرًا في كل الأحوال بنص القرآن. ولكن بعض المفسرين يفسرون الظلم بالإنحراف عن الحق، ويفسرون الفسق بالعصيان، ويجمعون بين الآيات الثلاث في التفسير، فيرون أن من يستحدث من المسلمين أحكامًا غير ما أنزل الله ويترك بالحكم بها كل أو بعض ما أنزل الله من غير تأويل يعتقد صحته، فإنه يصدق عليه ما قاله الله، كل بحسب حاله، فمن أعرض عما أنزل الله لأنه يفضل عليه غيره من أوضاع البشر فهو كافر قطعًا، ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم إن كان في حكمه مُضَيِّعًا لحق أو تاركًا لعدل أو مساواة، وإلا فهو فاسق. الحُكْمُ مِنْ طَبِيعَةِ الإِسْلاَمِ: هذه بعض نصوص القرآن التي تعرضت للحكم، وليس بعد ما ذكرنا حُجَّةً لمحتج ولا سبيل لجدال، فليعرف المسلمون أحكام دينهم ونصوص شريعتهم، ثم ليأخذوا عن بَيِّنَةٍ وليدعوا عَنْ بَيِّنَةٍ، أما أن ينطلقوا وراء تلاميذ المبشرين وأذناب المستعمرين ويدعون مثلهم أن الإسلام لا علاقة له بالحكم، ولم ترد فيه

الإسلام عقيدة ونظام

نصوص عن الحكم فذلك هو الجهل المطبق والجدل المنكر، وأي جهل أشد من جهل رجل يدعي لنفسه صفة لا يعرف ماهيتها، فيدعي لنفسه الإسلام وهو يجهل حقيقة الإسلام، وأي جدل أنكر من جدال جاهل يحتج على الناس بجهله، ويريد منهم أن ينكروا ما علموه لأنه يجهل أو لا يريد أن يتعلمه. إن الإسلام يلزم الناس باتباع ما أنزل الله ويوجب عليهم أن يتحاكموا إلى ما جاء من عند الله ويحكموا به وحده دون غيره، وليس لذلك معنى إلا أن الحكم هو الأصل الجامع في الإسلام، والدعامة الأولى التي يقوم عليها الإسلام. إن كل من له إلمام بالإسلام يعلم حق العلم أن الحكم في الإسلام تقضي به طبيعة الإسلام أكثر مِمَّا تقضي به نصوص القرآن، ففي طبيعة الإسلام أن يسيطر على الأفراد والجماعات ويوجههم ويحكم تصرفاتهم، وفي طبيعة الإسلام، أن يعلو ولا يعلى عليه، وأن يفرض حكمه على الدول، وأن يبسط سلطانه على العالم كله. إن الإسلام ليس عقيدة فقط، ولكنه عقيدة ونظام، وليس دينًا فحسب ولكنه دين ودولة، ومن المؤلم حقًا أن يجهل أكثر المسلمين ذلك لأنهم يجهلون كل شيء عن حقيقة الإسلام، ولا يعلمون عنه إلا عبادات يتلقونها عن طريق التقليد والمحاكاة. الإِسْلاَمُ عَقِيدَةٌ وَنِظَامٌ: والإسلام عقيدة ومبدأ ما في ذلك شك ولكنه ما كان عقيدة

تعتقد ومبدأ يعتنق إلا بعد أن استوى نظامًا دقيقًا شاملاً ينظم كل شأن من شؤون النفس البشرية، وينظم كل ما تحيط به النفوس من المعاني وما تدركه من المحسوسات، سواء اتصلت بالأفراد أو الجماعات، وسواء اتصلت بدنيانا التي نعيش فيها أو بالحياة الأخرى التي نرجوها حياة طيبة. والإسلام كعقيدة هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولكنه كنظام يسيطر على الإنسان سيطرة تامة ويرسم له منهاجًا في الحياة وهدفه منها، كما يرسم له طرائق العمل التي تؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة. الإسلام كنظام يسيطر على المسلم في كل حركاته وسكناته، يسيطر عليه في تفكيره ونيته، وفي قوله وعمله، يسيطر عليه في سره وجهره وفي خلوته وجلوته، يسيطر عليه في قيامه وقعوده وفي نومه ويقظته، يسيطر عليه في طعامه وشرابه وفي ملبسه وحليته، يسيطر عليه في بيعه وشرائه وفي تصرفاته ومعاملاته، يسيطر عليه في جده ولهوه وفي فرحه وحزنه وفي رضاه وغضبه، يسيطر عليه في بأسائه ونعمته وفي مرضه وصحته وفي ضعفه وقوته، يسيطر عليه غنيًا وفقيرًا صغيرًا وكبيرًا عظيما وحقيرًا، يسيطر عليه في بَنِيهِ وَأَهْلِهِ وفي صداقته وعداوته وفي سلمه وحربه، يسيطر عليه فردًا وفي جماعة وحاكمًا ومحكومًا ومالكًا وصعلوكًا، وليس ثمة تصرف يتصوره العقل أو حال يكون عليها الإنسان إلا سيطر فيها الإسلام على المسلم ووجهه الوجهة التي رسمها.

والذين يظنون أن الإسلام عقيدة وليس نظامًا إنما هم جهال لا يعلمون من الإسلام شيئًا، أو هم أغبياء لا يستطيعون أن يفقهوا حقيقة الإسلام، فالإسلام في حقيقته صبغة يصبغ الله بها عباده المؤمنين {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138]. ولا يكون المسلم مسلمًا إلا إذا اصطبغ بصبغة الإسلام، وَلَوَّنَ نفسه وأهله وتصرفاته وما يحيط به باللون الإسلامي الخالص. وأجهل من هؤلاء وأشد غباء من يظنون أن مصلحة المسلمين في أن يحافظوا على الإسلام عقيدة وينبذوه نظامًا، ذلك أن العقائد والمبادئ الإسلامية لا يمكن أن تعيش وتنتشر إلا في ظل النظام الإسلامي الذي تكفل بوضعه الخلاق العليم. ولست أدري كيف يؤمن هؤلاء بالإسلام عقيدة ولا يؤمنون به نظامًا، أتراه عقيدة من عند الله، ونظامًا من عند غير الله؟ {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]. إن الله الذي جعل الإسلام دينًا هو الذي جعله عقيدة ونظامًا، وأن الله ليأبى على الناس أن يبتغوا لأنفسهم دينًا غير هذا الدين {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. ولقد أكمل الله الدين الإسلامي وأتم بإكماله نعمته على الخلق ورضيه دينًا للناس فما يجوز لهم أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، وما يجوز لهم أن يرضوا لأنفسهم غير ما رضيه الله لهم {الْيَوْمَ

أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]. وإذا كان اللهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - قد اختار الإسلام دينًا ورضيه للناس عقيدة ونظامًا، فكيف يكون لمؤمن أن يختار وقد حرم الله عليه الاختيار: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. أفلا يعلم هؤلاء أن أحكام الإسلام لا تتجزأ ولا تقبل الإنفصال، وأن نصوصه تمنع من العمل ببعضها وإهمال البعض الآخر كما تمنع من الإيمان ببعضها والكفر ببعض، وأن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - توعد من يفعل ذلك بالخزي في الحياة الدنيا وبالعذاب الشديد في الآخرة {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة: 85]. ولقد تمنى قوم في عهد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يترك الرسول بعض ما أنزل الله ليحكم بما يتفق مع أهوائهم فنزل الوحي يأمر الرسول بأن يتمسك بما أنزل الله ويحذره من اتباع أهواء هؤلاء الفساق، ويعلمه أن تحكيم الأهواء هو حكم الجاهلية، وأن أفضل حكم وأحسنه هو ما اختاره الله لعباده " {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ

النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49، 50]. إن الذين يريدون أن يفصلوا بين العقيدة الإسلامية والنظام الإسلامي إنما هم أعداء الإسلام عن عمد أو جهل، فالنظام الإسلامي أشبه ما يكون بالآلة التي تنتج الكهرباء والعقيدة الإسلامية هي النور الذي تعمل الآلة لإنتاجه، فإذا عطلت الآلة انقطع النور وانتهى الإسلام. إن الدين الإسلامي يمتاز بأنه استطاع أن يوحد بين الأجناس والألوان والأمم، وأن يوجههم جميعًا وجهة واحدة، وأن يحملهم على نهج واحد وغاية واحدة، وما استطاع الدين الإسلامي أن يصل لهذا إلا لأنه عقيدة ونظام. ولقد جاءنا الإسلام بعقائد معينة ولكنه لم يأتنا بها مجردة، وإنما أتى معها بالنظام الذي تقوم عليه وتحيا به، وألزمنا اتباعه والتزامه، وهو نظام دقيق من التربية والتوجيه، يشمل كل شيء كما قدمنا، ويتدخل في كل حالة من حالات الإنسان، وينتقل بالفرد من مرحلة إلى مرحلة حتى ينتهي به إلى مرحلة التخلي عن أنانيته وأهوائه ويصل به إلى مرحلة التجرد لخدمة المبادئ القرآنية والفناء فيها. وهكذا يربي الإسلام المسلمين تربية واحدة ويوجههم توجيهًا موحدًا، ويجردهم لخدمة أهداف واحدة، فما يطلبه أحدهم هو ما يطلبه الآخر، وما تعمل له مجموعة منهم هو نفسه

الإسلام دين ودولة

ما تعمل له كل مجموعة أخرى، وما يأمله صغيرهم هو ما يأمله كبيرهم، وما يضر أحدهم يضر مجموعهم، فهم على تعدد أشخاصهم وتباعد بلادهم نفس واحدة، وقلب واحد، ورجل واحد، وعلى هذا الأساس شبه الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين بـ «الجَسَدِ الوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». وإذا كان الإسلام في حقيقته عقيدة ونظامًا، فإن طبيعته تقتضيه أن يكون حكمًا، ذلك أن قيام العقيدة يقتضي قيام النظام الذي أعد لخدمتها، ولا يمكن أن يقوم النظام الإسلامي إلا في ظل حكم إسلامي يماشي النظام الإسلامي ويؤازره، إذ أن كل حكم غير إسلامي لا بد أن يؤدي إلى تعطيل النظام الإسلامي، وإذا كان قيام النظام الإسلامي يقتضي قيام حكم إسلامي فمعنى ذلك أن الحكم الإسلامي من مقتضيات الإسلام أو هو من طبيعة الإسلام. الإِسْلاَمُ دِينٌ وَدَوْلَةٌ: والإسلام ليس دينًا فحسب وإنما هو دين ودولة وفي طبيعة الإسلام أن تكون له دولة، ولو حذفنا النصوص الصريحة التي أوردناها فيما سبق والتي توجب الحكم بما أنزل الله، لما غير ذلك شيئًا من طبيعة الإسلام التي تقتضي قيام الحكم الإسلامي والدولة الإسلامية، فكل أمر في القرآن وَالسُنَّةِ يقتضي تنفيذه قيام حكم إسلامي ودولة إسلامية لان تنفيذه كما يجب غير

مأمون إلا في ظل حكم إسلامي خالص ودولة إسلامية تقوم على أمر الله. وقيام الإسلام نفسه في الحدود التي رسمها الله وبينها الرسول يقتضي قيام دولة إسلامية تقيم الإسلام في حدوده المرسومة، وذلك منطق لا يجحده إلا مكابر، إذ أن الإسلام لا يمكن أن يقوم على وجهه الصحيح في ظل دولة غير إسلامية لا يهمها أن يقام، ولا يضرها أن ينتقص منه، ولا يمنعها شيء من تعطيله أو الانحراف به، وإنما يقوم الإسلام على وجهه الصحيح في ظل دولة تقوم على مبادئ الإسلام وتتقيد بحدوده. وأكثر ما جاء به الإسلام لا يدخل تنفيذه في اختصاص الأفراد وإنما هو اختصاص الحكومات وهذا وحده يقطع بأن الحكم من طبيعة الإسلام ومقتضياته وأن الإسلام دين ودولة. فالإسلام قد أتى بتحريم كثير من الأفعال، واعتبر اتيانها جريمة يعاقب عليها، وفرض لهذه الجرائم عقوبات، ومن هذه الجرائم القتل العمد وعقوبته القصاص: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]. والسرقة عقوبتها قطع اليد: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. والقذف وعقوبته الجلد: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].ولا جدال في تحريم الأفعال واعتبارها جرائم وفرض العقوبات عليها إنما هو من مسائل الحكم ومن أخص ما تقوم به الدولة، ولو لم يكن الإسلام دينًا ودولة لما سلك هذا المسلك.

ولا شك أن القرآن لم يأت بالنصوص الخاصة بالجرائم عَبَثًا، وإنما جاء بها لتنفذ وتقام، وإذا كان القرآن قد أوجب على المسلمين إقامة هذه النصوص وتنفيذها، فقد أوجب عليهم أن يقيموا حكومة ودولة تسهر على إقامة هذه النصوص، وتعتبر تنفيذها بعض ما يجب عليها. والإسلام يوجب المساواة بين الناس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وفي قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ المُشْطِ الوَاحِدِ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلاَّ بِالتَّقْوَى» وأخذ الناس بالمساواة داخل في اختصاص الحكومات ولا يدخل في اختصاص الأفراد. والقرآن يوجب العدالة في الحكم: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. والعدالة في الحكم من أخص شؤون الحكومات والدول. والإسلام يحرم الاحتكار في قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ». ويحرم الربا في قوله: تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. ويحرم استغلال النفوذ والرشوة في قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]. وتحريم الاحتكار والربا

والاستغلال والرشوة من أول ما تعمل له الحكومات الصالحة ومن أهم اختصاصاتها. والإسلام يفرض ضرائب على الأموال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَ} [التوبة: 103]. ويفرض في أموال الأغنياء حقوقًا للفقراء {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]. ويحمل الثروات أحمالاً من الضرائب التي تنفق في سبيل الله وعلى ذوي الحاجة على ما رأينا في فصل المال ويقيد من يدهم المال بقيود شتى، وكل هذا من أخص أعمال الحكومات في أقدم العهود وأحدثها بل هو أهم ما يقيم الحكومات ويسقطها. والإسلام يوجب أن يكون الحكم شورى بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. وقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وإقامة حكم الشورى تقتضي قيام حكم إسلامي ودولة إسلامية، ولو لم يكن الإسلام دينًا ودولة لما تعرض لشكل الحكومة وَبَيَّنَ نوعها. والإسلام بعد ذلك قد جاء بنصوص يصعب حصرها تنظم صِلاَتَ الأفراد بالحكومات، وصلة الحكومات بالأفراد، وتنظم التصرفات والمعاملات من بيع وإيجار وهبة ووصية وزواج وطلاق إلى غير ذلك، وتنظم الإدارة والاقتصاد، وتحكم الفتن الداخلية والمنازعات الدولية، والسلم والحرب والصلح والمعاهدات، وتحكم كل شأن من شؤون الأفراد وشؤون الجماعات، وتقيم

الجماعة على أساس من المساواة والتعاون والتضامن الاجتماعي، وهذه النصوص في مجموعها تكون دستورًا للحكم يَبُذُّ كل دستور وضعي عرف حتى الآن وتكون شريعة تحكم كل التصرفات هي أسمى ما عرف إلى اليوم من تشريعات، وكل هذه أمور لا يقوم عليها ولا يمكن أن يضطلع بها إلا الحكومات والدول، فإذا جاء بها الإسلام وأوجبها، فقد جاء بالحكومة وأوجب قيام الدولة، ما يجادل في ذلك عاقل ولا يستسيغ غيره عقل. وإذا قلنا أن الإسلام دين ودولة، فقد يذهب الظن بالبعض إلى أن الإسلام يفرق بين الدين والدولة، وهذا ظن خاطئ، فإن الإسلام مزج بين الدين بالدولة، ومزج الدولة بالدين، حتى لا يمكن التفريق بينهما، وحتى أصبحت الدولة في الإسلام هي الدين، وأصبح الدين في الإسلام هو الدولة. فالإسلام يقيم شؤون الدنيا كلها على أساس من الدين، ويتخذ من الدين سندًا للدولة ووسيلة لضبط شؤون الحكم وتوجيه الحكام والمحكومين. والدولة المثالية في الإسلام هي الدولة التي تقيم أمور الدنيا بأمر الدين، فتأخذ رعاياها بما أمر الله، وتمنعهم عما نهى الله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]. والدين في الإسلام ضروري للدولة، والدولة ضرورة من ضرورات الدين، فلا يقام بغير الدولة، ولا تصلح الدولة بغير الدين.

الحكومة الإسلامية، وظيفتها ومميزاتها

الحُكُومَةُ الإِسْلاَمِيَّةِ، وَظِيفَتُهَا وَمُمَيِّزَاتُهَا: الحُكُومَةُ التِي تُقِيمُ أَمْرَ اللهِ: إذا كان الله - جَلَّ شَأْنُهُ - قد أوجب علينا أن نتحاكم إلى ما أنزل على رسوله، وأن نحكم به، فقد وجب على المسلمين أن ينصبوا عليهم حكومة تقيم فيهم أمر الله وترعاه، ويتعبد أفرادها بإقامة الحكم طبقًا لما أنزل الله كما يتعبدون بالصوم والصلاة. والأصل في الحكومات أنها ضرورة اجتماعية لا مفر منها فإذا كان الحكم يتميز بصفات معينة، فقد وجب أن تتصف الحكومة القائمة عليه بنفس هذه الصفات ضمانًا لنجاح الحكم فما يستطيع فاقد الشيء أن يعطيه، وما يحسن القيام على الفكرة إلا مؤمن بها. وعلى هذا فإذا وجب أن يقوم الحكم طبقًا لشريعة الإسلام فقد وجب أن تكون الحكومة إسلامية، يؤمن أفرادها جميعًا

منطق التجارب

بالمبادئ التي يقوم عليها الحكم ويحرصون على العمل بها. وإذا وجب أن يكون الحكم اشْتِرَاكِيًّا فمن البلاهة أن يترك الحكم لمن لا يؤمنون بالاشتراكية. وإذا وجب أن يكون الحكم ديموقراطيًا فلن يصلح له حكام يؤمنون بالديكتاتورية. ذلك هو منطق الناس، وتلك طبائع الأشياء، فمن أراد أن يقيم الإسلام بحكومة تتحاكم إلى غير شريعة الإسلام فإنما يعمل على تحطيم الإسلام. مَنْطِقُ التَّجَارِبِ: ولقد أثبتت التجارب في البلاد الإسلامية أنه لا يكفي لإقامة الإسلام أن يكون الحكام مسلمين، وإنما يجب أن يتحاكموا إلى الإسلام، ويتخذوا القرآن دستورًا للحاكمين والمحكومين، وأمامنا البلاد الإسلامية كلها ليس فيها بلد واحد يقيم حكم الإسلام ويخضع له في كل الشؤون بالرغم من أن حكامها وأغلب سكانها من المسلمين. بل لقد أثبتت التجارب أن الحكام المسلمين الذين يجهلون الإسلام ولا يعملون على إقامة أحكامه كانوا وما زالوا حربًا على الإسلام وآلة طيعة في يد أعداء الله الذين يكيدون للمسلمين والإسلام، وفي عهود هؤلاء الحكام الجهال استبيحت حرمات الإسلام فحرم ما أحل الله وأحل ما حرم الله، وانتشر الفساد

وظيفة الحكومة إقامة أمر الله

في المجتمع الإسلامي وشاعت الفاحشة، وانحسر مد الإسلام وذهبت ريحه، وسيطر على بلاده وأهله من لم يكن يطمع فيهم بالأمس بل ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه. هذا هو منطق البشر ومنطق الواقع ومنطق التجارب كل ذلك يقضي بأن قيام الحكم الإسلامي يستوجب أن تؤلف الحكومات ممن يؤمن بالنظام الإسلامي وممن لا هم له إلا إقامة الإسلام وتثبيت دعائمه، وسنرى فيما يأتي أن هذا هو منطق القرآن نفسه. وَظِيفَةُ الحُكُومَةِ إِقَامَةُ أَمْرِ اللهِ: ولقد جعل الإسلام وظيفة الحكومة الإسلامية إقامة الإسلام حيث افترض القرآن في الحكومة الإسلامية أن تقضي على الشرك وتمكن للإسلام، وأن تقيم الصلاة وتأخذ الزكاة، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن تسوس أمور الناس في حدود ما أنزل الله، وذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. وقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41]. والأمر بالمعروف هو الترغيب في كل ما ينبغي قوله أو فعله

طبقًا للإسلام والنهي عن المنكر هو الترغيب في ترك ما ينبغي تركه أو تغيير ما ينبغي تغييره طبقًا لما رسمه الإسلام، فإذا قامت الحكومة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد أقامت كل ما أمر به الإسلام وهدمت كل ما يخالف الإسلام. ولقد أوجب علينا القرآن أن نطيع الحكام والحكومات ولكنه أوجب على الحاكمين والمحكومين إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى حكم الله، وأن يحكموا فيه بما أنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ (¬1) فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. ورد المتنازع فيه إلى حكم الله يقتضي أن تكون الحكومة والحكام قائمين على أمر الله حاكمين بما أنزل الله على رسوله. وإعطاء المحكومين حق منازعة الحكام ورد المتنازع فيه إلى أمر الله يقتضي أن يكون الحكام مقيدين بأمر الله لا يسمح لهم بالانحراف عما أنزل الله. وإذا كانت الحكومات تقوم على طاعة المحكومين وكان من مبادئ الإسلام أن يطيع المحكومين أولي الأمر فيهم والقائمين على شؤونهم من الحكام، فإن مبادئ الإسلام أيضا أن يخلع المحكومون طاعة الحاكمين إذا ما خرج الحاكمون على طاعة الله وفي ذلك يقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ». وبذلك ربط الإسلام طاعة المحكومين للحاكمين بطاعة ¬

_ (¬1) يفسر البعض «أولي الأمر» بالحكام، ويفسرها غيرهم بأهل الشورى.

ميزات الحكومة الاسلامية

الحاكمين لأمر الله، فالحكومة الإسلاميةيجب أن تقوم على أمر الله وليس لها بأية حال أن تنحرف عما أنزل الله والا فقدت حقها في الطاعة وبالتالي حقها في الحكم. واذا كان حق الحكومة في الطاعة وفي الحكم ثابتا كلما كانت نازلة على أمر الله، فيتعين أن تكون وظيفتها هي القيام على أمر الله والعمل بكتابه. مِيزَاتُ الحُكُومَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ: تختلف الحكومة الإسلاميةعن كل حكومة موجودة في العالم الآن، وعن كل حكومة وجدت من قبل، فهي حكومة فريدة في نوعها متميزة عن كل حكومة غيرها. وتتصف الحكومة الإسلامية بثلاث صفات لا توجد في غيرها من الحكومات فهي أولاً: حكومة قرآنية، وهي ثانيًا: حكومة شورى، وهي ثالثًا: حكومة خلافة أو إمامة. الصفة الأولى: حكومة قرآنية: تتميز الحكومة الإسلامية بأنها حكومة قرآنية أي أنها خاضعة للقرآن وهو الكتاب الذي أنزله الله على نبيه مُحَمَّدٍ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والقرآن هو دستور الحكومة الإسلامية الأعلى، يحكم تصرفاتها ويحدد حقوقها وواجباتها بصفة عامة، ويرسم لها الخطوط

والمناهج العامة التي لا يصح لها أن تتعداها، ويدع لها ما دون ذلك من المناهج والتفصيلات. كما أن القرآن في الوقت نفسه يبين حقوق الأفراد وواجباتهم، ويحدد علاقتهم بالحكومة ومدى سلطانها عليهم ومدى خضوعها لسلطانهم. ويتميز القرآن بميزات متعددة تخالف بينه وبين أي دستور آخر عرفه البشر، ويهمنا من هذه الميزات ما يأتي: 1 - أنه كلام الله أوحى به إلى نبيه محمد النبي الأمي ليبلغه للناس نورًا يخرجهم من الظلمات وهدى يعصمهم من الضلال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى: 51 - 53]. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الشورى: 7] {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]. 2 - أن المسلمين مكلفون باتباع ما جاء به القرآن وبالاستمساك به، وليس لهم أن يخرجوا عليه بأية حال {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109]. {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب: 2]. {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ

إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43]. {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]. {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106]. 3 - أن القرآن لا يقبل التبديل ولا التعديل لأنه من عند الله ولا مبدل لكلمات الله {قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]. {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27]. " {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]. {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس: 64]. 4 - أن القرآن لا يقبل الزيادة ولا يقبل النقص لأنه كمل وتم بوفاة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانقطاع الوحي، أو تم وكمل قبيل وفاته يوم أنزل الله عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]. 5 - أن القرآن لا يقبل النسخ، لما سبق، ولأن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - ختم برسالة مُحَمَّدٍ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرسالات، وجعله خاتم النبيين {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، ولأن البشر وهو مستخلفون في الأرض ليس لهم أن يخرجوا على أوامر الله الذي

الصفة الثانية: حكومة شورى

استخلفهم، وليس في استطاعتهم أن ينسخوا كلامه أو يبطل العمل به، فإن فعلوا فعملهم باطل بطلانًا مطلقًا لخروجهم على حدود وظيفتهم وتعرضهم لما ليس من شأنهم. ونستطيع أن ندلل على عدم قابلية القرآن للنسخ من وجه آخر، وهو القاعدة الأساسية في الشريعة الإسلامية وفي القوانين الوضعية هي أن النصوص لا ينسخها إلا نصوص في مثل قوتها أو أقوى منها، أي نصوص صادرة من الشارع نفسه أو من هيئة لها من سلطان التشريع - على الأقل - مثل ما للهيئة التي أصدرت النصوص المراد نسخها، فالنصوص الناسخة للقرآن يجب أن تكون قرآنًا من عند الله، وليس بعد الرسول قرآن حيث انقطع الوحي، ولا يمكن أن يقال إن ما يصدر من هيئاتنا التشريعية البشرية في درجة القرآن أو أن لها من سلطان التشريع ما للهِ وللرسولِ، وعلى هذا فليس في طوق البشر أن ينسخوا كلام الله أو يعطلوا العمل به. الصفة الثانية: حكومة شورى: جعل الله الشورى من لوازم الإيمان، حيث جعلها صفة من الصفات اللاصقة بالمؤمنين المميزة لهن عن غيرهم {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]، فلا يكمل إيمان المسلمين إلا بوجود صفة الشورى فيهم، ولا يجوز لجماعة مسلمة أن تقوم أو ترضى إقامة أمرها على غير الشورى وإلا كانت آثمة مضيعة لأمر الله.

وأمر الله رسوله أن يشاورهم في الأمر {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وما أمر الله رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمشاورتهم لحاجة منه إلى رأيهم. وإنما هي فريضة عليهم، ففرض على الحاكم أن يستشير في كل ما يمس الجماعة وفرض على الجماعة أن تبدي رأيها في كل أمورها، فليس للحاكم أن يستبد برأيه في الشؤون العامة، وليس للجماعة أن تسكت فيما يمس مصالح الجماعة، وهذا يتفق مع ما يفرضه القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. وإذا كانت الشورى فريضة من الفرائض الإسلامية فإنها ليست مطلقة بحيث تمتد إلى كل أمر، وإنما تجب فقط فيما لم يقطع فيه القُرْآنُ وَالسُنَّةُ برأي، أما ما قطع فيه القُرْآنُ وَالسُنَّةُ برأي فهو خارج عن نطاق الشورى إلا أن تكون الشورى في حدود التنفيذ والتنظيم لما نص عليه القرآن وَبَيَّنَتْهُ السُنَّةُ. والشورى ليست مطلقة من كل قيد فيما تجب فيه، وإنما هي مقيدة بأن لا تخرج عن حدود ما جاء به القُرْآنُ وَالسُنَّةُ، فلا يجوز بأية حال أن تؤدي الشورى إلى مخالفة نصوص التشريع الإسلامي أو إلى الخروج على روح التشريع، ويجب دائمًا أن تجيء الشورى مطابقة للتشريع الإسلامي ومتابعة لاتجاهاته وروحه.

الصفة الثالثة: حكومة خلافة أو إمامة

والتقيد بالتشريع الإسلامي وباتجاهاته وروحه يقتضي أن يكون الحكام وأهل الشورى، أو أكثرهم، ممن يلمون بالتشريع الإسلامي ويفهمون روحه واتجاهاته، ومعنى هذا أن تنحصر الشورى فيمن تتوفر فيهم صفات معينة. الصفة الثالثة: حكومة خلافة أو إمامة: رأ ينا في باب الاستخلاف أن الله استخلف البشر في الأرض وأن الاستخلاف على ثلاثة أنواع: استخلاف عام، واستخلاف دول، واستخلاف أفراد، وقلنا أن استخلاف الأفراد هو الاستخلاف في الرئاسة، وأن المستخلف قد يسمى خليفة كما سمي داوود - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]، وقد يسمى المستخلف إِمَامًا كما سمي إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وبعض رؤساء بني إسرائيل {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، وقد يسمى المستخلف مَلِكًا {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20]، {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247]. والخلافة والإمامة والملك لا يقصد منها في نصوص القرآن إلا الرئاسة بمعناها العام، ولا يقصد منها الدلالة على نظام معين

من أنظمة الحكم، ذلك أن داوود سمي في القرآن خليفة وسمي مَلِكًا {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} [ص: 26]. {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 251]، كما أن إبراهيم سمي في موضع إمامًا ووعد أن يكون المهتدون من ذريته أئمة {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. بينما وصف ذريته في موضع آخر بوصف الملوك {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54]. وَوُعِدَ بنو إسرائيل أن يكونوا أئمة بعد استضعافهم واستبعاد فرعون لهم {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].فلما تخلصوا من ظلم فرعون وَكَوَّنُوا لأنفسهم دولة مستقلة أخذ موسى يذكرهم بنعمة الله عليهم ويقول لهم: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20]، فالخلافة والملك والإمامة مترادفات تدل على الرئاسة العليا للدولة ولا تدل على أكثر من ذلك. ونظام الحكم الوحيد الذي يعرفه الإسلام هو الحكم القائم على دعامتين: أحدهما: طاعة أمر الله واجتناب نواهيه، والثانية: الشورى أي أن يكون أمر الناس شورى بينهم. فإذا قام الحكم على هاتين الدعامتين فهو حكم إسلامي خالص، وليسمى بعد ذلك بالخلافة أو الإمامة أو الملك فكل هذه التسميات تسميات صحيحة لا غبار عليها. أما إذا قام الحكم على غير هاتين الدعامتين فهو حكم لا

ينتسب للإسلام بنسب ولا يتصل به بسبب ولو سمي خلافة أو إمامة، وأقرب الأمثلة على ذلك حكم الخلفاء الأتراك في عهودهم المتأخرة فقد كان رؤساء الدولة يسمون أنفسهم خلفاء وتسمى دولتهم دولة الخلافة وتسمى حكومتهم حكومة الخلافة ولكنهم كانوا هم ودولتهم وحكومتهم أبعد شيء عن نظام الحكم الإسلامي. ولقد استقر أمر العالم كله قبل أن يجيء الإسلام على أن يكون نظام الحكم الملكي وراثيًا يتوارثه الأبناء عن الآباء، وأصبحت لهذا النظام سمات وعلامات تميزه عن غيره من أنظمة الحكم، فهو يتميز فضلاً عن الوراثة بتعالي الملوك واستعلائهم المستمر على الرعايا، ويتميز بما يحيك الملوك أنفسهم به من الترف الذي يهيء لسقوط الهمم وفساد الاخلاق وتفشي المنكرات، ويتميز أخيرًا بأنه يؤدي بطبيعته إلى الفساد العام. ولما كان هدف الإسلام هو الاصلاح والتسوية بين الناس وتوفير الخير وإشاعته بينهم فقد كره لهم التعالي، وحرم عليهم أن يريدوا الاستعلاء، كما حرم عليهم كل ما يؤدي إلى الفساد، ونبه المسلمين إلى أن هذه الصفات ليست من صفات المتقين المؤمنين في شيء {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. ولقد جاء الإسلام بالشورى ففرضها على المسلمين وألزمهم أن يجعلوا كل أمورهم شورى بينهم {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. والشورى تقتضي أن تختار الأمة رئيس الدولة

وأن تعزله إذا وجد منه ما يستلزم عزله، وهذا وحده يتنافى مع ما استقر عليه نظام الحكم الملكي من توارث الحكم. ولأن نظام الحكم الملكي كان عندما جاء الإسلام متميزًا بالوراثة وبالعلو في الأرض والإفساد فقد كره المسلمون أن يسموا أنفسهم ملوكًا، وكان أول من كره ذلك هو الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد روى عنه أنه قال لرجل وقف بين يديه فأخذته رعدة «هَوِّنْ عَلَيْكَ فَمَا أَنَا بِمَلِكٍ وَلاَ جَبَّارٍ» وجرى على ذلك خلفاؤه من بعده، حتى إذا أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد أخذ أصحاب الرسول والتابعون يرمون معاوية خاصة وبني أمية عامة بأنهم حَوَّلُوا الحكم الإسلامي إلى ملك عضوض وإلى حكومة كسروية، أو هرقلية نسبة إلى كسرى ملك الفرس وهرقل ملك الروم. وإذا كان التباين بين الحكم الإسلامي في طبيعته ونظام الحكم الملكي في أوضاعه المستقرة قد اقتضى المسلمين أن يكرهوا تسمية أنفسهم بالملوك وتسمية نظام الحكم بالملك، فقد اقتضاهم أيضًا أن يبحثوا في تسميات أخرى، فأسعفتهم النصوص القرآنية الواردة في استخلاف الحكم بما يريدون، فسموا نظام الحكم بالخلافة أو الإمامة، وسموا رئيس الدولة بالخليفة أو الإمام. وقد جرت العادة على أن تسمى إمامة الحكم بالإمامة العظمى تمييزًا لها عما عداها من الإمامات كإمامة الصلاة، وتبعًا لذلك يسمى رئيس الدولة بالإمام الأعظم أي الإمام الذي ليس فوقه إمام.

ويري البعض أن لفظ الخلافة اختير لنظام الحكم الإسلامي وأن رئيس الدولة سمي بالخليفة، لأن من جاء بعد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلف النبي في رئاسة الدولة فسمي خليفته وسمي منصبه بالخلافة بدليل أن المسلمين كانوا ينادون أبا بكر بخليفة رسول الله، وهذا في الحقيقة ليس شيئًا ولكنهم راعوا في التسمية نصوص القرآن، وسموا رئيس الدولة خليفة وإمامًا متأثرين بالنصوص، ولقد كان أبوبكر رئيس دولة فاعتبر بنص القرآن خليفة وإمامًا، وكان في الوقت نفسه خليفة لرسول الله لأنه خلفه في الحكم. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نلاحظ أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع في رئاسته للدولة بين النبوة وخلافة الحكم، فهو نبي باعتبار ما يوحى إليه وخليفة باعتباره رئيس الدولة فإذا خلفه أحد في الحكم فهو خليفته باعتباره خلفًا له، وهو خليفة باعتباره مستخلفًا من الله في الحكم. والأصل أن البشر كلهم مستخلفون في الأرض استخلافًا عَامًّا، فهم نواب عن الله - عَزَّ وَجَلَّ - في الأرض وعليهم أن يقوموا على أمره ونهيه، ولكنهم لا يستطيعون أن يقيموا أمر الله على ما ينبغي إذا كانوا أفرادًا لا تربطهم رابطة، ولا يجمعهم سلطان يخضع له قويهم ويفيء إليه ضعيفهم، كما أن طبيعة الاجتماع والضرورات الاجتماعية تقتضي أن يقيموا حكومة تفصل بينهم في مشاكلهم وتنوب عنهم جميعًا في القيام بأمر الله وبما يرتبه

عليهم واجب الاستخلاف في الأرض وواجب الاستخلاف في الحكم. وإذا كانت الحكومة نائبة عن الجماعة لتقيم فيهم أمر الله، ولتشرف على مصالح الجماعة، وكان الخليفة أو الإمام هو ممثل الحكومة الأول، فإنه يعتبر نائبًا عن الجماعة كلها في وظيفة الخلافة التي جعلت لإقامة ما يجب على الجماعة كلها من أداء حق الله وإنفاذ أمره، وللفصل في خصومات الأفراد، وكف قويهم عن ضعيفهم ونشر العدالة والمساواة بينهم، وأخذهم بالتعاون والتضامن وتوجيههم إلى الخير والبر كل ذلك في حدود ما أمر الله واجتناب ما نهى عنه. ولا يعتبر الخليفة نائبًا عن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - إلا بقدر ما يعتبر أي فرد آخر على وجه الأرض. وإذا قيل أن الخليفة بنيابته عن الجماعة التي تنوب عن الله يعتبر النائب عن الله فإنه يرد على ذلك بأن نيابة الخليفة عن الله في هذا الوجه هي نيابة غير مباشرة ولم ينظر إليها في إقامة الخليفة، وما أقامت الجماعة الخليفة إلا ليكون نائبًا عنها، وما استمد ولا يستمد سلطانه إلا من نيابته عن الجماعة التي أقامته والتي تملك حق مراقبته ومنعه من الخروج على حدود نيابته، بل للجماعة أن تقيد تصرفاته، وأن ترسم له الطريق التي يسلكها في تأدية واجب النيابة عنها، وقواعد النيابة تقضي بذلك كما أن الإسلام يفرضه على الناس حيث أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمنع الحكام من الظلم

والتعسف في استعمال حقوقهم، ولمنعهم من الإهمال في أداء واجباتهم، ولمراقبة الحكام والمحكومين في إقامة أمر الله وإنفاذه على وجهه {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. وولاية الخلافة لا تتم إلا باختيار الجماعة للخليفة، ليس ذلك لأنه منطق الضرورات الاجتماعية الذي سبق بيانه، ولكن لأن القرار فرض على المسلمين أن يكون أمرهم شورى بينهم " {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. فلا يصح أن يستأثر بأمر المسلمين أحد بغير رضاء جماعتهم، ولا تعتبر ولاية الخليفة قائمة إلا باختيار ممن لهم حق اختيار الخليفة، وبالقبول من جانب الشخص الذي وقع عليه الاختيار. واختيار الخليفة على هذا الوجه يؤكد أن الخلافة ليست إلا عقد نيابة يتم بين الجماعة والخليفة، فَتَكِلُ الجَمَاعَةُ إلى الخليفة أن يقوم فيها بأمر الله، وأن يدير شؤونها في حدود ما أنزل الله، ويقبل الخليفة أن يقوم بالأمر في الجماعة طبقًا لما أمر به الله. وولاية الخلافة ليست محدودة بمدة معينة، فما دام الخليفة قائمًا بأمر الله وعلى قيد الحياة فهو خليفة. فإذا خرج على أمر الله، أو قامت فيه صفة تستوجب العزل كان للجماعة عزله وتولية غيره، وإذا مات انتهت ولايته بموته.

نوع الحكومة الاسلامية

نَوْعُ الحُكُومَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ: قلنا فيما سبق أن الحكومة الإسلامية فريدة في نوعها، متميزة عن غيرها، وإنها تختلف عن كل حكومة موجودة في العالم الآن، وعن كل حكومة وجدت من قبل .. وسنبين فيما يلي أن الحكومة الإسلامية لا يمكن إدخالها تحت أي نوع من أنواع الحكومات التي عرفها العالم، وأنها حكومة لا مثيل لها. فالحكومة الإسلامية كما عرفنا مقيدة باتخاذ القرآن دستورًا لها، وملزمة بالنزول على أحكامه التي لا تقبل تبديلاً ولا تعديلاً ولا تعطيلاً، فهي بذلك ليست من نوع الحكومات المستبدة المطلقة من كل قيد، كما أنها ليست من نوع الحكومات القانونية، لأن الحكومات القانونية تخضع لقوانين وأنظمة يضعها البشر وهم متأثرون بأهوائهم وشهواتهم، والقوانين والأنظمة التي يضعها البشر قابلة للتبديل والتعديل والإلغاء إذا ما قضت بذلك أهواء البشر وشهواتهم. أما أحكام القرآن فهي من عند الله، وهي دائمة إلى الأبد لا تماشي أهواء الحكام ولا أهواء المحكومين، وإنما تعدل الفريقين وتوفي كُلاًّ حَقَّهُ في حدود العدل الخالص مع حفظ مصلحة الجماعة. ولتكون الموازنة كاملة ينبغي أن تعلم أن نصوص القرآن جاءت بالأحكام الكلية، ورسمت المناهج العامة للحكم والإدارة، وتركت ما دون ذلك لأولي الأمر ينظمونه بقوانين يضعونها ولكن هذه القوانين، وهي من وضع البشر يجب أن يراعى

فيها ألا تخرج على الإسلام العامة، وأن تكون تطبيقًا دقيقًا لروح الشريعة الإسلامية، فهذه القوانين التي يضعها أولو الأمر ليست في الحقيقة إلا صدى القرآن وظله، وهناك فرق كبير بينها وبين القوانين التي يضعها البشر غير مقيدين إلا بأرائهم وأهوائهم ومصالحهم. وإذا كان من أخص صفات الحكومة الإسلامية أنها حكومة شورى فإنها لا تشبه في شيء الحكومات النيابية، كما أنها تخالف في طبيعتها الحكومات غير النيابية، وإذا كان أساس الحكومات النيابية في العالم هو الشورى إلا أن الشورى في الحكومات الإسلامية لا تشبه في شكلها، ولا نوعها، ولا الغرض منها، تلك الشورى التي تقوم عليها الحكومات النيابية. وإذا كان من وظيفة الحكومة الإسلامية أن تقيم الدين فإنها لا تعتبر من نوع الحكومات الدينية التي يسميها الفقه الدستوري حكومات ثيوقراطية، إذ أن الحكومة الإسلامية لا تستمد سلطانها من الله وإنما تستمده من الجماعة. وهي لا تصل للحكم ولا تنزل عنه إلا برأي الجماعة، وهي مقيدة في كل أعمالها وتصرفاتها برأي الجماعة. والتزام الحكومة حدود الدين الإسلامي لا يغير من هذه النتيجة شيئًا ما، لأن الدين الإسلامي يدعو الناس أن يعملوا لدنياهم قبل أن يدعوهم ليعملوا لأخراهم، بل إنه من يرتب الحياة الأخرى على ما يعمله المرء في حياته الدنيا فهو دُنْيَا قبل أن يكون دينًا، وهو أُولَى قبل أن يكون آخرة،

وإذا كان الإسلام قد حد للناس حدودًا لا يتعدونها، ووضع لهم أحكامًا ألزمهم اتباعها فإنه لم يسلبهم حريتهم في العمل، ولم يملك عليهم كل أمرهم، بل ترك لهم أن يفكروا في أنفسهم وأن يدبروا حياتهم وأن يعملوا بوسائلهم، وترك لهم أن ينظموا أنفسهم وأن يرعوا مصالحهم الخاصة والعامة، وأن يعدوا لمستقبلهم ما يشاؤون من الخطط التي تؤدي إلى رقيهم وإسعادهم وتفوقهم. ونستطيع أن نقول في غير تجوز إن الإسلام ترك للبشر الحرية كاملة فيما يأخذون وما يدعون، ولم يقيدهم إلا بأن تكون حياتهم قائمة على الفضائل حتى يحيوا حياة فاضلة تسودها العدالة والمساواة والحب والتضامن وغير ذلك من المبادئ الإنسانية العليا التي جاء بها الإسلام والتي يدعي العالم كله أنه يعمل لتحقيقها وما يستطيع أن يحققها بعد أن انسلخ عن الدين واتبع الأهواء والشهوات، تلك المبادئ التي نسميها إنسانية وماعرفها أهل الأرض إلا عن طريق السماء ورسالات الأنبياء. ولقد فرض الله الشورى على المسلمين وجعلها عمادًا لحياتهم العامة، ولو كانت الحكومة الإسلامية حكومة ثيوقراطية لما كانت الشورى، ولما ألزم الله رسوله أن يشاورهم في الأمر {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وهو في غنى عن مشاورة البشر بالوحي الإلهي، ولما ألزم الرسول نفسه نتائج

المشورة المخالفة لرأيه الخاص كما فعل في غزوة بدر وغزوة أحد وغيرهما من المواقف، وإنما ألزم الله رسوله المشورة ليضع للناس قواعد الشورى، وألزم الرسول نفسه بنتائج المشورة ليسن لمن بعده أن يلتزم نتائجها ويتقيد بها. ولو كانت الحكومة الإسلامية ثيوقراطية لكان للخليفة أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء، ولكن الخليفة وكل حاكم إسلامي مقيد، فيما ورد فيه نص، بنصوص القرآن والسنة، وفيما لم يرد فيه نص بما تسفر عنه الشورى. وإذا كان نظام الحكم الديموقراطي يشبه نظام الحكم الإسلامي فيما يوجبه من اختيار الحكام بمعرفة ممثلي الأمة وفيما يوجبه من قيام الحكم على العدل والمساواة وفيما يطلقه من حرية العقول والأفكار، فإن نظام الحكم الإسلامي يختلف عن الديموقراطية في أنه يقيد الحاكمين والمحكومين بقيود تمنعهم من الإنطلاق وراء الأهواء وتحول بينهم وبين الخضوع للشهوات. كذلك يختلف الإسلام عن الديموقراطية في أنه لا يترك مقاييس العدالة والمساواة وغير ذلك من الفضائل الإنسانية في يد البشر يرسمون حدودها فيوسعونها تارة ويضيقون منها أخرى نزولاً على أهواءهم وخضوعًا لشهواتهم، وإنما يرسم الإسلام حدود الفضائل والمبادئ الإنسانية ويضع مقاييسها ويخضع البشر لهذه المقاييس العلوية، وبذلك حمى الإسلام الحياة العامة من الفساد، وكبح الأهواء، وأقام الحكم على أسس من الفضيلة يسلم بها الجميع ويحترمونها ولا يأنفون من الخضوع لها.

أما الديموقراطية فتترك للبشر أن يرسموا حدود كل شيء وأن يضعوا المقاييس للحياة البشرية ومن ثم جمحت بهم الأهواء والشهوات وتغلبت عليهم المصالح والمنافع وانقلبت المجتمعات الديموقراطية إلى مجتمعات متحللة فاسدة تشيع فيها الرذائل وتعيش على مسخ المعاني السامية والفضائل الإنسانية، فالعدالة لا تقاس بمقياس القرابة والزلفى والحقوق لا تصل لأربابها إلا عن طريق الرشوة والمحسوبية، والتحرر العقلي معناه الانطلاق من الحياة والدين والأخلاق وهدم كل ما يميز الإنسان العاقل عن الأنعام والسوائم. وإذا كان النظام الجمهوري يشبه النظام الإسلامي من حيث اختيار الرئيس الأعلى للجمهورية فإنه لا يوجد أي نظام جمهوري يسمح بانتخاب رئيس الدولة لمدى الحياة كما يسمح بذلك النظام الإسلامي، فضلاً عما سبق بيانه من وجوه الخلاف بين النظام الإسلامي والأنظمة الديموقراطية. وليس بين النظام الإسلامي وبين الأنظمة الديكتاتورية أي وجه من وجوه المشابهة، فالنظام الإسلامي يقوم على البيعة والشورى، وعلى حدود مرسومة بين الحاكمين والمحكومين، وعلى جواز عزل الحاكم، ولا تسمح الأنظمة الديكتاتورية بشيء من ذلك. ويختلف نظام الحكم الإسلامي عن أنظمة الحكم الملكية، فما يورث الحكم والسلطان في الإسلام، وإنما يترك للجماعة أن

تختار للحكم من تراه أصلح الناس له وأقدرهم عليه وحسبنا دليلاً على ذلك أن النبي لقي ربه فما تولى الحكم بعده أحد من أهله وإنما خلفه أبو بكر، فلما توفي لم يخلفه أحد من أهله وإنما خلفه عمر، فلما قتل خلفه عثمان وهو من غير أهله، فلما قتل خلفه عَلِيٌّ وما كان من أهل عثمان. وأخيرًا فان كل من يحاول الادعاء بأن نظام الحكم الإسلامي يماثل نظامًا معينًا من أنظمة الحكم التي عرفها العالم قديمًا وحديثًا فإنما يتكل ويدعي ما لا يعلم ويبعد عن الحق، فالنظام الإسلامي نظام فريد في نوعه أوجده الإسلام ولم يحاول أحد أن يقلد المسلمين فيه، بل إن المسلمين أنفسهم لم يطبقوا النظام الإسلامي بعد وفاة النبي إلا في عهد الخلفاء الراشدين، ثم حولت الأهواء هذا النظام الإلهي إلى ملك عضوض لا يتورع أن يعطل أحكام الإسلام، ويحل حرمات الله ليمكن للأطفال والفساق والظلمة من رقاب المسلمين.

نشأة الدولة الإسلامية

نَشْأَةُ الدَّوْلَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ: الإِسْلاَمُ خُلُقُ الدَّوْلَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ: تلك حقيقة لا يجادل فيها أحد فالإسلام هو الذي خلق الدولة الإسلامية من العدم، ومد أطرافها في كل الاتجاهات، وجعل منها دولة مرهوبة الجانب تدور في فلكها الدول وتتقرب إليها الممالك. والقرآن هو الذي وجه المسلمين لتكوين هذه الدولة حيث بشرهم بها، ووعدهم بقيامها، ودفعهم لأن يعملوا لقيام الدولة وأن يقيموها عندما تيسرت لهم سبل إقامتها. ولقد كانت أولى بشرى بقيام الدولة الإسلامية بمثابة التشجيع والتقوية للمسلمين وحضهم على الصبر والتضحية فقد كانوا يعيشون في مكة مستضعفين يصاحبهم التعذيب ويماسيهم، ويلاحقهم التكذيب والسخرية أينما ذهبوا، نبههم الله - جَلَّ

شَأْنُهُ - أولاً إلى سنته في خلقه وأنه كتب على نفسه أن يجعل الأرض ميراثًا لعباده الصالحين يحكمون أهلها ويمدون سلطانهم عليها، ثم نبههم ثانيًا أنه يعلمهم هذا بصفة خاصة ليفقهوه ويرتبوا عليه نتائجه ويستعدوا لها {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 105 - 107]. أما البشرى الثانية فكانت بعد الهجرة إلى المدينة، فكانت بشرى ووعدًا من الله - جَلَّ شَأْنُهُ - باستخلاف المسلمين ويبسط سلطان الدولة الإسلامية على الأرض والتمكين للمسلمين في أقطارها، وبإبدالهم من الخوف أمنًا ومن الضعف قوة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. ولقد بشر الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين أثناء حفر الخندق حول المدينة بأنهم سيستخلفون على ملك فارس والروم واليمن، فكانت هذه البشرى مثارًا لسخرية المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وأخذوا يتندرون بهذه البشرى التي جاءت في وقت يحفر فيه المسلمون خندقًا حول المدينة ليحموا أنفسهم من كفار قريش وأحلافها حتى أنزل الله في ذلك قوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12].

ولقد دفع القرآن المسلمين لتكوين الدولة التي وعدوا بها عندما تهيأت لهم أسباب تكوينها بعد الهجرة إلى المدينة، فأذن لهم أن يقاتلوا أعداءهم الذين ظلموهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، والقتال هو أول مظهر من مظاهر الدولة، ووعد المسلمين النصر والغلبة على أعدائهم، ونبههم بعد ذلك إلى وظيفة الدولة الإسلامية التي قدر لها أن ترث الأرض ووعد الله بالتمكين لها، وبين أن وظيفة هذه الدولة هي إقامة أمر الله وذلك بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ينكره الإسلام {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 39 - 41]. وإذا كانت الدولة الإسلامية قد قامت في أذهان المسلمين وهم في مكة وارتسمت لها صورة جميلة كانت تداعب خيالهم وهم محصورون في المدينة أثناء غزوة الأحزاب، فإن الدولة الإسلامية قد تكونت فعلاً في المدينة بعد أن اعتنق الأوس والخرزج الإسلام وتجمعوا عليه، وبعد أن هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة، حتى إذا لحق بهم رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التفوا حوله وسمعوا له وأطاعوا فَكَوَّنَ منهم أول وحدة

سياسية إسلامية، وأخذت هذه الوحدة الصغيرة - ولم تكن تجاوز المدينة وضواحيها - تكبر وتنمو وتزحف في كل الاتجاهات حتى شملت كل جزيرة العرب ثم ابتلعت بعد ذلك الدولة الفارسية وغيرها من الدول واقتطعت من الدولة الرومانية معظم ما تملكه وحبستها في أوروبا، وقد تم كل ذلك، ولما يمض أربعون عَامًا على تكوين الوحدة السياسية الإسلامية أو بتعبير آخر الدولة الإسلامية. ولقد قامت الدولة الجديدة على أساس الإسلام في كل شيء، في إدارتها وسياستها وحربها وسلمها وصلاتها بالأفراد والجماعات، واتخذ المسلمون حاكمين ومحكومين من القرآن وسنة الرسول دُسْتُورًا لهم ينظم شؤونهم الفردية والعامة، ويهيمن على شؤون الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتشريع. وكان محمد بن عبد الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول رئيس لهذه الدولة الناشئة، فجمع برئاسته للدولة بين صفتين: أولاهما صفة الرسول فهو يبلغ عن ربه ما أوحي إليه من الدين والتشريع ويبينه للناس. والثانية: صفة الحاكم فهو يرأس الدولة ويديرها فيجيش الجيوش ويسيرها ويعلن الحرب ويعقد الصلح ويبرم المعاهدات ويعين القواد والحكام والقضاة ويقيلهم ويصرف الشؤون المالية والقضائية والسياسية والإدارية. وكان - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤدي وظيفته كحاكم في حدود الإسلام، فما جاءت فيه نصوص صريحة طبق عليه تلك النصوص

سلطان بلا ألقاب

وما لم يرد فيه نص طبق عليه ما يوحى به إليه أن نزل فيه الوحي بشيء فإن لم ينزل فيه وحي اجتهد في الحكم ولم يخرج بالأمر عما يقتضيه روح التشريع الإسلامي واتجاهاته العليا. سُلْطَانٌ بِلاَ أَلْقَابٍ: ولقد أعيا البعض أن يفهم كيف يكون الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رئيس الدولة والمرجع الأول في إدارتها وتوجيه سياستها ثم لا يتخذ لنفسه أي مظهر من مظاهر الحكم، ولا يلقب نفسه بما يلقب به عادة أصحاب السلطان من ألقاب الإمارة والملك والخلافة. ولعل هؤلاء لا يعلمون أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان خلقه القرآن كما قالت عائشة، وأنه قال: «إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» وأنه قال: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» وقال: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» ولعل هؤلاء لا يعلمون أن الإسلام يدعو إلى التواضع والبساطة والرحمة، ويكره التعالي والظهور، بل أنه ليجعل الدار الآخرة للذين لا يريدون عُلُوًّا في الأرض ولا تَرَفًا ولا عظمة ولا فسادًا {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. وما يليق بالرسول إلا يكون مثلاً لما جاء به، وأن يتخلق بأخلاق القرآن. ثم إن ألقاب الإمارة والملك والخلافة ليست شيئًا بجانب

النبوة والرسالة، وما يحاول عاقل أن يستبدل الأدنى بالذي هو خير، أو أن يضيف أدنى الألقاب إلى أعلاها وأسماها، فلقب النبوة والرسالة يحجب كل لقب غيرها، ومظهر النبوة والرسالة هو المظهر الوحيد الذي يلائم النبي والرسول سواء أكان حاكمًا أم غير حاكم مالكًا أو غير مالك. وإذا كان الله - جَلَّ شَأْنُهُ - قد بين لنا أن بعض الأنبياء كانوا ملوكًا أو خلفاء كداوود الذي آتاه الله الملك والحكمة {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة: 251]. {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]. وجعله خليفة في الأرض {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. إذا كان الله - جَلَّ شَأْنُهُ - قد بَيَّنَ لنا هذا فإنما ذلك لبيان نعمه التي أنعم بها على عباده ورسله وليس معنى ذلك أن داود كان يلقب نفسه بالملك مع النبوة أو كان يترك لقب النبوة ليلقب نفسه بالخلافة أو الملك، وليس أدل على ذلك من أن داود وهو ملك وخليفة كان يأكل من عمل يده كما قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»، وكما ذكر لنا القرآن الكريم: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80]. وما أكل داود من عمل يده إلا لتمسكه بلقب النبوة ومظهرها ولأنه ألغى من حياته كل ما للملك والخلافة من ألقاب ومظاهر كما كان يفعل مُحَمَّدٌ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

ولن يفوتنا هنا أن نعرض لما روي عن الرسول من أنه قال لرجل قام بين يديه فأخذته رعدة «هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ وَلاَ جَبَّارٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، كَانَتْ تَأْكُلُ القَدِيدَ» فإن نفي الملك والتجبر عن الرسول لا يستلزم نفي صفة الحكم ورئاسة الدولة، وكل ما يعنيه الحديث أن الرسول ليس فيه ما يخيف ويرهب فما هو بالملك الذي يستطيل بالملك، ولا بالجبار الذي يأخذ الناس بلا حق. كذلك الأمر في حديث الرسول الذي اختاره فيه أن يكون نبيًا عبدًا لا نبيًا ملكًا. فإن معنى الحديث لا يفيد التخلي عن الحكم والسلطان وإنما يعني كراهة المال والاستطالة على الناس، بل إن مغزى الحديث هو أن الرسول ليس له أن يشكو الفقر فالله أعلم به ولو شاء لأعطاه، ونص الحديث وظروفه تقطع بهذا فقد روي عن ابن عباس أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ذات يوم وجبريل - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - على الصفا فقال رسول الله: «يَا جِبْرِيلُ، وَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أَمْسَى لآلِ مُحَمَّدٍ سَفَّةٌ مِنْ دَقِيقٍ، وَلاَ كَفٌّ مِنْ سَوِيقٍ»، فَلَمْ يَكُنْ كَلاَمُهُ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ [سَمِعَ] هَدَّةً مِنَ السَّمَاءِ أَفْزَعَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَرَ اللَّهُ القِيَامَةَ أَنْ تَقُومَ؟» فَقَالَ جِبْرِيلُ: لاَ، وَلَكِنْ أَمَرَ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ، فَنَزَلَ إِلَيْكَ حِينَ سَمِعَ كَلاَمَكَ، فَأَتَاهُ إِسْرَافِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَمِعَ مَا ذَكَرَتْ، فَبَعَثَنِي إِلَيْكَ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ، وَأَمَرَنِي أَنْ [يُعْرَضْنَ عَلَيْكَ إِنْ أَحْبَبْتَ] أَنْ أُسَيِّرَ مَعَكَ جِبَالَ تِهَامَةَ زُمُرُّدًا، ويَاقُوتًا، وَذَهَبًا، وَفِضَّةً فَعَلْتُ، فَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا، وَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْدًا؟، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ تَوَاضَعَ، فَقَالَ:

«بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا»، ثَلاَثًا (*) وفي رواية أخرى أَنَّ إِسْرَافِيلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ أَمَلِكًا أَجْعَلُكَ أَمْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ - قَالَ: «لاَ بَلْ عَبْدًا رَسُولاً» فظاهر نص الحديث أن النبي لم يكن يجد شيئًا وأن إسرافيل عرض عليه أن يحول له الجبال زمردًا وياقوتًا وفضة وذهبًا، ولم يعرض عليه ممالك ولا بلادًا فاختار أن يبقى كما هو، والأصل أن لفظ ملك يعني لغة كثرة الملك، فيقال لمن يملك الأموال الكثيرة أنه ملك، ويقال للواحد من الملوك الحاكمين أنه ملك لأنه عادة يملك المال الكثير كما يملك الحكم، فإذا كان الرسول يشكو الفقر وكان ما عرض عليه هو المال فقط فيكون الملك الذي رفضه هو ملك المال لا ملك الحكم. وأخيرًا فإن الملك والإمارة والخلافة والإمامة في قديم الزمان إنما كانت تدل على سلطان الحكم قبل أن تدل على شيء آخر، وهذا داود - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - آتاه الله الملك وجعل له الخلافة في الأرض ولم يجعل لملكه وخلافته إلا مقتضى واحدًا هو أن يحكم بين الناس بالحق {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]. وإذا كان هذا هو أمر الملك والخلافة والإمارة في القديم، فذلك هو أمرها نفسه في العصر الحديث، فرئيس الدولة أَيًّا كان اسمه سواء أكان أميرًا أو مَلِكًا أو خليفة أو إمامًا أو زعيمًا أو رفيقًا أو رئيس جمهورية إنما يمثل سلطان الدولة، وما للدولة من سلطان إلا سلطان الحكم. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر " المعجم الأوسط " للطبراني: تحقيق طارق بن عوض الله بن محمد , عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، 7/ 88، حديث رقم 6937، طبعة سنة: 1415 هـ - 1995 م، نشر دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة.

السلطان قديما وحديثا

وإذا كان مُحَمَّدٌ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يلقب نفسه بلقب الإمارة أو الملك أو ما يماثلهما، ورضي لنفسه أن يكون بحيث اختاره الله نبيًا ورسولاً، فلن يمنع ذلك من أن مُحَمًّدًا كان رئيس الدولة الإسلامية، وكان له من سلطان الحكم ما كان لداود الملك والخليفة، لقد قال الله لداود:" {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]، وقال لِمُحَمَّدٍ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] وقال له: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] فالسلطان الذي أعطى للنبي الذي وصف بالعبودية، والحكم الذي منحه هذا هو الحكم نفسه الذي منحه ذاك، فلا فرق إلا لقب الملك والخليفة ولهما من قيمة كما قلنا مع لقب النبوة والرسالة. السُّلْطَانُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا: السلطان في القديم والحديث لم يخرج عن أن يكون سلطانًا ماديًا، أو سلطانًا روحيًا، فإذا تكلمنا عن هذين النوعين من السلطان بالنسبة للدول فإن السلطان المادي هو سلطان الحكم، أما السلطان الروحي فهو سلطان الأنبياء والمصلحين وأصحاب الآراء على العموم. والسلطان المادي يفرض من الخارج، تفرضه على الناس القوة والغلبة، أما السلطان الروحي فيفرض من الداخل، يفرضه الناس على أنفسهم وتلزمهم إياه قلوبهم وأرواحهم وعقولهم. والسلطان المادي في الدولة يستمد من قوة الدولة ويتركز

في أشخاص الحكام القائمين عليها، أما السلطان الروحي فيستمد مِمَّا يجيء به الرسول أو المصلح لا من شخصه. والناس دائمًا يخشون السلطان المادي ولا يثقون فيه، ويهربون من السلطان المادي كلما استطاعوا، فلا يطيعونه إلا كارهين ولا يسالمونه إلا مغلوبين ولا يؤازرونه إلا طامعين، واذا استطاعوا أن ينفلتوا من حكمه وكان في ذلك منفعة لهم فلن يصدهم عن الانفلات عقل ولا ضمير. أما السلطان الروحي فإن الناس يطلبونه قبل أن يطلبهم ويعبدون أنفسهم له قبل أن يستعبدهم ويربطون أنفسهم به راضين مسرورين. والسلطان الروحي بالرغم مِمَّا له من أثر في الأفراد قد يتعطل سيره أو يضعف عمله إذا كان السلطان المادي مضادًا له، لأن في طباع الكثيرين من البشر أن يؤثروا الأمن والسلامة فيهملوا العمل بما يؤمنون به خشية أن يصيبهم أذى، أو يكتموه في أنفسهم فلا ينتقل إلى غيرهم. كذلك في طبيعة الأفراد أنهم يشق عليهم أن يلزمهم السلطان المادي ما يجنبهم إياه السلطان الروحي، وأنهم يميلون إلى مقاومة السلطان المادي للتخفيف عن أنفسهم وإرضاء ضمائرهم، وهذه المقاومة مهما كانت ضعيفة تؤدي بمرور الزمن إلى تفويض السلطان المادي أو إضعافه. فإذا بني السلطان المادي على أساس من السلطان الروحي كان ذلك أدعى إلى إسعاد الجماعة وتضامنها وتوثيق الصلات

دولة استكملت أركانها

بين أفرادها وبث الثقة بين المحكومين والحاكمين، بل إن ذلك يوفر على الحاكمين مشقة التنفيذ والمراقبة لأن كل فرد يقيم من نفسه رقيبًا على نفسه ويقبل على أداء واجبه إرضاء لضميره. لا خشية العقاب، والنتيجة الطبيعية لهذا كله هي ثبات الأنظمة وحرص الحاكمين والمحكومين عليها. وبهذا الذي يلائم طبائع البشر ويدعو إلى استجوابتهم، ويوفر لهم السعادة والحب والأمن ويصرفهم إلى الخير، بهذا كله نزل القرآن على قلب مُحَمَّدٍ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حيث ربط السلطان المادي وهو سلطان الدولة بالسلطان الروحي وهو سلطان الدين، وأقام السلطان المادي على دعامة من السلطان الروحي وفي حدوده، وجعل من الإسلام عقيدة ونظامًا ودينًا ودولة. دَوْلَةٌ اسْتَكْمَلَتْ أَرْكَانَهَا: ولقد حاول محاول أن يشكك في تكوين الدولة الإسلامية في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال إن النبي لم يؤسس دولة، وبني ذلك على ما يظنه من فقدان بعض أركان الدولة ودعائم الحكم، وحدد هذا المفقود فقال: لماذا لم يعرف نظام الرسول في تعيين القضاء والولاة، ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وقواعد الشورى، ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه، ولماذا لم يكن للدولة ميزانية ودواوين تضبط شؤونها الداخلية والخارجية.

وما زاد على أن خدع نفسه حين حاول أن يخدع الناس " {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 9، 10]. إن أركان الدولة طبقًا للفقه الدستوري والإداري لا تزيد على أربعة هي: 1 - وجود شعب، ولا شك في وجود الشعب في الدولة الإسلامية من يوم أن تجمع المسلمون في المدينة. 2 - الإستقلال السياسي، ويتوفر إذا لم تخضع الجماعة لغيرها، ولا جدال في أن المسلمين تمتعوا بهذا الإستقلال من يوم أن تجمعوا بالمدينة، فما عرف عنهم أنهم خضعوا في أمورهم الداخلية والخارجية لأي جماعة أخرى أو لغير توجيه الإسلام الذي دانوا به. 3 - وجود إقليم تعيش عليه الجماعة بصفة مستمرة، ولقد كانت المدينة هي إقليم الدولة الإسلامية عاش فيه المسلمون بصفة مستمرة، وبدأ صغيرًا لا يتجاوز المدينة وبعض ضواحيها، ثم أخذ يتسع حتى شمل كل جزيرة العرب قبل وفاة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 4 - السلطان أو السيادة، وتكون إذا وجدت سلطة عامة يخضع لها جميع الأفراد، ولهذه السيادة وجهان: وجه داخلي

بحيث يكون للقائمين على السلطان حق إصدار الأوامر لجميع أفراد الجماعة، ووجه خارجي بحيث يكون للقائمين على السلطان حق تمثيل الجماعة أو الأمة والتصرف باسمها، وليس ثمة شك في أن هذا السلطان بوجهيه كان قائمًا في الدولة الإسلامية من يوم تجمع المسلمين في المدينة، وكان هذا السلطان يتركز في شخص الرسول الذي يمثل الجماعة الإسلامية في الخارج فيعقد مع الجماعات الأخرى المعاهدات والصلح ويعلن الحرب كما حدث في عهده لليهود وفي معاهدة الحديبية وفي غزوة بدر وغيرها من الغزوات، كذلك كان هذا السلطان يتركز في شخص الرسول الذي كان له حق إصدار الأوامر لجميع أفراد الأمة الإسلامية وكان عليهم واجب السمع والطاعة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]. وإذا كانت هذه الأركان الأربعة متوفرة في الوحدة التي ألفها المسلمون برئاسة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد تكونت الدولة الإسلامية بحكم الفقه وبحكم الواقع، والتعلق بعد ذلك بالتنظيمات الداخلية إنما هو تعليق بما لا يفيد ولا ينتج. إن الجهل بالتنظيمات الداخلية لدولة ما ليس حجة على أنها لم تكن دولة، وعدم تدوين تنظيمات هذه الدولة بدقة لا يطعن في وجود هذه الدولة وإلا اضطررنا أن نمحو من سجل الدولة كل دولة لم يثبت المؤرخون تفاصيل تنظيماتها أو لم يثبتوا شيئًا منها.

وإذا كنا لم نعرف تفاصيل النظام الذي كان يتبعه الرسول في تعيين الولاة والقضاة فيكفي أن تعلم أنه عَيَّنَ ولاة وقضاة في جهات معينة، لنعلم أنه كان يفعل ذلك في الجهات الأخرى، وأنه بذلك يباشر سلطان الدولة من الوجهة الداخلية. وليس سكوت الرسول عن التحدث عن نظام الحكم وقواعد الشورى بمؤثر على قيام الدولة التي قامت فعلاً بتوفر أركانها، على أن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسكت عن نظام الحكم بل بينه خير بيان فالقرآن جعل أمر المسلمين شورى بينهم {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وأمر الرسول أن يشاورهم في الأمر {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. والتاريخ حافل بذكر الوقائع التي شاورهم فيها حتى لقد كان يشاورهم في تعيين الولاة ويروى عنه في ذلك قوله: «لَوْ كُنْتُ مُؤَمِّرًا أَحَدًا دُونَ مَشُورَةِ المُؤْمِنِينَ، لأَمَّرْتُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ» وهكذا جاء الرسول بمبدأ الشورى في الحكم وإقامه حكمه عليه، وإذا كان لم ينظم هذا المبدأ تنظيمًا نهائيًا فذلك لأن التنظيمات النهائية يجب أن لا تقبل التعديل بطبيعتها وكل تنظيم لمبدأ الشورى لا يمكن أن يكون إلا مؤقتًا لأن التنظيم ينظر فيه إلى ظروف الأشخاص وظروف الزمان والمكان وهي جميعًا ظروف متغيرة. أما الاحتجاج بعدم وجود ميزانية ودواوين فهو من أعجب صور الاحتجاج، خصوصًا إذا كان هذا المحتج يقرر أن الدولة الإسلامية تكونت يوم استخلف ابو بكر، ولا شك أننا جميعًا نعرف أنه لم تكن ثمة ميزانية في عهد أبي بكر وأن

مدى سلطان رئيس الدولة الإسلامية

الدواوين لم تدون إلا في عهد عمر فأي احتجاج أعجب من هذا الاحتجاج؟ وأي تناقض أبعد من هذا التناقض؟. مَدَى سُلْطَانِ رَئِيسِ الدَّوْلَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ: قلنا أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مع نبوته رئيسًا للدولة وبذلك كان يمثل السلطان الروحي باعتباره نبيًا، ويمثل السلطان المادي باعتباره رئيسًا، وكانت مهمته النبوية أن يبلغ للناس ما يوحى إليه من ربه ويبينه لهم كما علمه الله، أما مهمته باعتباره رئيسًا فهي إقامته الدين والحكم بما أنزل الله وتوجيه أمور الأفراد والجماعة والقيام على شؤونهم جميعًا في حدود ما أنزل الله. وبعد وفاة الرسول انقطع الوحي وتحدد الإسلام فلا زيادة ولا نقص ولا تبديل ولا تعديل، وأصبح السلطان الروحي ممثلاً فيما جاء به الرسول وهو الإسلام، كما أصبح الإسلام محددًا بالقرآن والسنة. وكل من يخلف الرسول على رئاسة الدولة ليس له من سلطان إلا السلطان المادي الذي كان يباشره الرسول باعتباره رئيسًا للدولة، أما السلطان الروحي فهو للقرآن والسنة أي لما جاء به الرسول، على أنه لما كان السلطان المادي في الإسلام يقوم على السطان الروحي ويندمج فيه فإن ريس الدولة الإسلامية حين يباشر وظيفته إنما يباشر سلطانًا ماديًا وسلطانًا روحيًا اندمج كلاهما في الآخر وامتزج به.

الخلافة أو الإمامة العظمى

الخِلاَفَةُ أَوْ الإِمَامَةُ العُظْمَى: مَعْنَى الخِلاَفَةِ: تعني الخلافة أو الإمامة العظمى رئاسة الدولة الإسلامية، فالخليفة أو الإمام الأعظم هو رئيس الدولة الإسلاميةالأعلى. ولما كانت الدولة الإسلامية قائمة على الإسلام الذي يسيطر على الأفراد والجماعات ويوجههم في حياتهم الدنيا وجهات معينة، كان للخليفة في رأي الفقهاء الإسلاميين وظيفتان: الأولى إقامته الدين الإسلامي وتنفيذ أحكامه. والثانية: القيام بسياسة الدولة في الحدود التي رسمها الإسلام، على أننا نستطيع أن نكتفي بالقول بأن وظيفة الخليفة هي إقامة الإسلام، لأن الإسلام كما علمنا دين ودولة فإقامة الإسلام هي إقامة للدين وقيام بشؤون الدولة في الحدود التي رسمها الإسلام. ولقد سبق أن بينا أن وظيفة الحكومة الإسلاميةهي إقامة

أمر الله أي إقامة الإسلام، والخليفة هو رئيس الحكومة الإسلامية فتكون وظيفته هي إقامة الإسلام وإدارة شؤون الدولة في حدود الإسلام. ولقد عرف الفقهاء الخلافة بما لا يخرج عن هذا المعنى، فعرفت بأنها رياسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عرفت بأنها خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة (¬1). وعرف الماوردي الإمامة بأنها موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا (¬2). وعرفها ابن خلدون بأنها حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به (¬3). وظاهر من تعاريف الفقهاء أنهم يعتبرون الخليفة قائمًا مقام النبي في رئاسة الدولة ناظرين في ذلك إلى أن النبي كان له وظيفتان: وظيفة التبليغ عن الله، ووظيفة القيام على أمر الله ¬

_ (¬1) " المواقف ": ص 603، " المسامرة ": جـ 2 ص 141، " أسنى المطالب " و" حاشية الشهاب "، الرملي: جـ 4 ص 108. (¬2) " الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 3. (¬3) " مقدمة " ابن خلدون: ص 180.

وسياسة الدنيا به. فلما توفى الرسول انتهت وظيفة التبليغ، وبقيت الوظيفة الأخرى، فوجب أن يقوم بأدائها من يستطيع القيام بأعبائها، ولأنه يخلف الرسول في هذا الأمر سمي بالخليفة. ولقد سمي أبوبكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بخليفة رسول الله على هذا الأساس، ورأى البعض أن يسميه بخليفة الله ناظرًا في ذلك إلى أن الرسول كان قائمًا على أمر الله وأن أبا بكر قام به أيضًا، فكلاهما يعتبر خليفة الله، ولكن أبا بكر اختار أن يسمى خليفة رسول الله. وبعض الفقهاء يجيز أن يسمى الآدميون خلفاء الله وحجتهم في ذلك أن الله استخلف البشر في الأرض فهم خلفاء الله وأنه جعل داود خليفة لقيامه على أمر الله، وبعض الفقهاء لا يجيز أن يسمى البشر خلفاء وحجتهم أن الاستخلاف يكون في حق الغائب والله لا يغيب، وهذا الرأي الأخير غير صحيح ولا يتفق مع النصوص الصريحة وإذا كان الاستخلاف بالنسبة للبشر لا يكون إلا في حق غائب فإن الاستخلاف بالنسبة لله إنما هو حق حاضر شاهد لا يغيب، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ولما استخلف عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - رأى أن يسمى رئيس الدولة بأمير المؤمنين حتى لا تتكرر الإضافة إلى الخليفة السابق ثم سبقه وهكذا حتى تصل إلى رسول الله فجرى الناس من هذا التاريخ على تسمية رئيس الدولة الإسلامية بأمير المؤمنين

إقامة الخلافة فريضة

ولكن الوظيفة بقيت على تسميتها الأولى الخلافة أو الإمامة، والخلافة أشهر كما أن القائم بشؤون الوظيفة وأن نودي بأمير المؤمنين إلا أنه أصبح يسمى بالخليفة دون إضافة. ويسمى الخليفة أحيانًا بالإمام الأعظم، وهذه التسمية تدخل تحت قوله تعالى {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، ويوصف الإمام بالأعظم تمييزًا له عن أي إمام آخر كالامام الذي يؤم الناس في الصلاة. إِقَامَةُ الخِلاَفَةِ فَرِيضَةٌ: وتعتبر الخلافة فريضة من فروض الكفايات كالجهاد والقضاء، فإذا قام بها من هو أهل لها سقطت الفريضة عن الكافة، وإن لم يقم بها أحد أثم كافة المسلمين حتى يقوم بأمر الخلافة من هو أهل لها. ويرى البعض أن الاثم يلحق فئتين فقط من الأمة الإسلامية أولها أهل الرأي حتى يختاروا خليفة والثانية من تتوفر فيهم شرائط الخلافة حتى يختار أحدهم خليفة (¬1). والحق أن الإثم يلحق الكافة لأن المسلمين جميعًا مخاطبون بالشرع وعليهم إقامته، ومن أول واجباتهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وليس أحدهم مأمور بأن ينظر فقط إلى ¬

_ (¬1) " الأحكام السلطانية " للفراء الحنبلي: ص 3، و" الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 4.

نفسه وما في يده من الأمر، وإنما عليه أن يعمل على إقامة الدين على نفسه وعلى غيره، وعلى ما في يده وعلى ما في يد غيره، وإذا كان الإختيار متروكًا لفئة من الناس، فإن من واجب الأمة كلها أن تحمل هذه الفئة على أداء واجبها وإلا شاركتها في الإثم، بل من واجب الأمة أن تنحي هذه الفئة - إذا لم تقم بواجبها - وأن تقدم غيرها، لأن الأمة اختارتها وألقت إليها بأمرها لتمثل الجماعة الإسلامية فإن لم تؤدي واجبها سقطت عنها صفتها بما ارتكبت من إثم، وزالت عنها صفة النيابة عن الأمة وكان على الأمة أن تختار فئة أخرى تنوب عنها وتمثلها في اختيار الخليفة. ولقد اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وفريضتها، وعلى أن إقامة إمام عادل في الأمة يقيم فيها أمر الله ويسوسها بأحكام الشرعية إنما هو من أوجب الواجبات على الأمة، ولم يشذ عن هذا الرأي من الأمة الإسلامية كلها إلا الأصم من المعتزلة وفريق النجدات من الخوارج وهي فرقة بادت ولم يبق منها أحد، فقد قالوا بأن إقامة الخلافة ليست فريضة وإنما الفريضة هي إقامة الشريعة وإمضاء أحكامها، وحجتهم أن الأمة إذا تواطأت على العدل وتنفيذ أحكام الإسلام، فلا حاجة لإمام، وإذا لم تكن حاجة لإمام فتعيينه غير واجب وإنما هو جائز (¬1). ¬

_ (¬1) " المواقف ": ص 603، " الملل والنحل ": جـ 4 ص 87، " المسامرة ": جـ 2 ص 142، " مقدمة " ابن خلدون: ص 181، 182.

مصدر فرضية الخلافة

وقول هؤلاء فيه ما يكفي للرد عليهم. فإذا كان الواجب بحسب قولهم هو إقامة الشريعة الإسلامية فإن أداء هذا الواجب يقتضي أن تختار الأمة شخصًا تكل إليه القيام بهذا الواجب، إذ لا يمكن عقلاً أن تتواطأ الأمة كلها على إقامة الشريعة، وإذا تواطأت على إقامتها فلا يمكن أن تتفق على طريقة التنفيذ، ولا يمكن أن تنفذ الشريعة وتقام إذا ترك لكل فرد أن يقيمها وينفذها بحسب ما يرى والأراء تختلف بطبيعة الحال، فوجب إذن أن تختار الأمة من تكل إليه إقامة الشريعة وإمضاء أحكامها، وإذا كان اختيار خليفة أو إمام أمرًا واجبًا لإقامة الشريعة وكانت إقامة الشريعة واجبة تعين أن يكون اختيار الإمام أو الخليفة أمرًا واجبًا أيضًا ما دام الواجب وهو إقامة الشريعة لا يتم إلا به وذلك طبقًا لقاعدة «مَا لاَ يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ» وهي قاعدة أساسها المنطق السليم. على أن هؤلاء المخالفين إذا كانوا قد رأوا بصفة عامة أن الإمامة جائزة لا واجبة فإن منهم من أوجبها في بعض الأحوال وهؤلاء الموجبون لها في بعض الأحوال اختلفوا فمنهم من أوجبها عند الأمن وأجازها في الفتنة، ومنهم من أوجبها في الفتنة وأجازها في الأمن، وفي هذا التردد بين الوجوب والجواز وفي الخلاف على وقت الوجوب ووقت الجواز في ذلك كله ما يقطع بين هؤلاء المخالفين قد جانبوا الصواب. مَصْدَرُ فَرْضِيَّةُ الخِلاَفَةِ: المصدر الأول لفرضية الخلافة

هو الشرع، فالخلافة أو الإمامة فريضة شرعية يوجبها الشرع على كل مسلم ومسلمة ويخاطب الجميع بها وعليهم أن يعملوا حتى تؤدى هذه الفريضة فإذا أديت سقطت عنهم حتى تتجدد بعزل الخليفة أو موته، والأدلة على فرضية الخلافة هي: أولاً: الخلافة أو الإمامة سُنَّةٌ فِعْلِيَّةٌ استنها الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسلمين وعليهم أن يقيموا هذه السُنَّةَ ويعملوا بها لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، وقوله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. فالرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَوَّنَ من المسلمين وحدة سياسية وألف منهم جميعًا دولة واحدة كان هو رئيسها وإمامها الأعظم، وكان له وظيفتان: الأولى التبليغ عن الله والثانية القيام على أمر الله وتوجيه سياسته الدولية في حدود الإسلام، وقد انتهى عهد التبليغ بوفاة الرسول وانقطاع الوحي إن لم يكن انتهى يوم نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]. وإذا لم يكن بالناس حاجة إلى التبليغ بعد وفاة الرسول لوجود القرآن والسنة فإنهم في أشد الحاجة إلى من يقوم على القرآن والسنة

ويسوسهم في حدود الإسلام، بعد أن كَوَّنَ الرسول منهم وحدة سياسية، واستن لهم رئاسة الدولة وإمامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بل إن التأسي بالرسول واتباع سنته يقتضي من المسلمين جميعًا أن يُكَوِّنُوا من أنفسهم وحدة سياسية واحدة، وأن يقيموا لهم دولة واحدة تجمعهم، وأن يقيموا على رأسها من يخلف الرسول في إقامة الدين وتوجيه سياسة الدولة توجيهًا إسلاميًا خالصًا. ثانيًا: أجمع المسلمون وأصحاب الرسول خاصة وهم أدرى الناس باتجاهات الإسلام على أن يقيموا على رأس الدولة من يخلف الرسول، وما أن تحقق أبو بكر من وفاة الرسول حتى خرج على الناس يقول لهم «أَلاَ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَلاَ بُدَّ لِهَذَا الدِّينِ مِمَّنْ يَقُومُ بِهِ» فترك الصحابة تجهيز النبي ولم يدفنوه حتى أقاموا أبا بكر خليفة له، والإجماع مصدر من مصادر الشريعة يلزم المسلمين كما يلزم النص، وإذا كان قد جاء بعد العصر الأول من قال بعدم وجوب الخلافة كالأصم فإن هذا لا يطعن في الإجماع الذي انعقد وتواترت به الروايات. وإذا لم يكن هناك إجماع تام فإن اتفاق الصحابة دليل على اقتضاء الشرع لإقامة خليفة لرسول الله، وصحابة الرسول خير من يفهم الإسلام ويعرف الوجوب والجواز ويفرق بين الحلال والحرام. وإذا كان الصحابة قد اختلفوا فيما بعد على الخلافة

فينبغي أن نعلم أن الخلاف كان على الشخص الذي يملأ الوظيفة لا على وجوب الخلافة وفرضيتها وعلى وجوب إقامتها (¬1). ثالثًا: إن الكثير من الواجبات الشرعية يتوقف على إقامة خليفة أو إمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب شرعًا، كما أن في نصب الإمام دفع ضرر وإزالة الضرر تجب شرعًا، وفيه أيضًا جلب منافع للأمة وهو واجب أيضًا، ذلك أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات والمناكحات والجهاد والحدود وشعائر الشرع وغيرها إنما هو مصالح عائدة على الخلق، وهذه المصالح لا تتم إلا بإمام يرجعون إليه فيما يختلفون فيه، وهم مع اختلاف الأهواء وتشتت الآراء قلما ينقاد بعضهم لبعض فيفضي ذلك إلى التنازع والنوائب وربما أدى إلى إهلاكهم جميعًا، والتجربة تشهد بذلك وتشهد بأن عدم إقامة خليفة يؤدي إلى تعطيل الدين والخروج على الإسلام وتفرق المسلمين كما هو حادث الآن (¬2). رابعًا: إن نصوص القرآن والسنة أوجبت إقامة إمام للجماعة الإسلامية (¬3)، من ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] والمقصود بأولي الأمر هم أئمة الدولة الذين يتولون الأمر فيها واحدًا بعد ¬

_ (¬1) " المسامرة ": جـ 2 ص 142، " المواقف ": ص 603، " مقدمة " ابن خلدون: ص 481. (¬2) " المواقف ": ص 604، " الخلافة ": ص 10. (¬3) " المسامرة ": جـ 2 ص 142، " الملل والنحل ": جـ 4 ص 87، " الخلافة ": ص 11، " المحلى ": جـ 9 ص 359، 360.

الآخر والذين قال فيهم الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ مَاتَ [وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ]، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، وقال: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» وقال: «مَنْ بَايَعَ إِمَامًا، فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا رَقَبَةَ الآخَرِ» وقال: «إِنَّ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَنْ تُطِيعُونِي، وَإِنَّ مِنْ طَاعَتِي أَنْ تُطِيعُوا أَئِمَّتَكُمْ»، وقال: «" لاَ نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ "، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: " فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»، وقال: «سَيَلِيكُمْ بَعْدِي وُلاَّةٌ، فَيَلِيَكُمُ البَرُّ بِبِرِّهِ، وَالفَاجِرُ بِفُجُورِهِ، فَاسْمَعُوا لَهُمْ وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الحَقَّ، وَصَلُّوا وَرَاءَهُمْ، فَإِنْ أَحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ»،وقال: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ»، وقال: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا [الآخَرَ] (*) مِنْهُمَا» (¬1). ويؤخذ من هذه النصوص مجتمعة أن على المسلمين أن يختاروا إمامًا لهم أو خليفة عليهم فإن المسلم الذي يموت وليس له إمام يموت ميتة جاهلية، وعليهم أن يختاروا إمامًا واحدًا فإن بويع لاثنين وجب قتل الأخير إن لم يترك الأمر للأول، وكذلك يجب قتل من أراد أن يفرق الجماعة وهي متجمعة على إمام واحد. ¬

_ (¬1) " المسامرة ": جـ 2 ص 142، " الملل والنحل ": جـ 4 ص 87، " الخلافة ": ص 11، " المحلى ": جـ 9 ص 359، 360. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قارن نفس الحديث بما ورد في صفحة 219 من هذا الكتاب.

خامسًا: إن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - جعل المسلمين أمة واحدة على اختلاف لغاتهم وأجناسهم وشعوبهم، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]، {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وواجب على المسلمين أن يتحدوا ويلتفوا حول راية القرآن {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وحرم عليهم التفرق والاختلاف والتنازع {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]، {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، ومقتضى هذه النصوص أن يكونوا أمة واحدة ووحدة سياسية واحدة، وأن يكونوا من أنفسهم دولة واحدة. ويقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يروى عنه «لاَ يَحِلُّ لِثَلاَثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضِ فَلاَةٍ إِلاَّ أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ»، ويقول: «إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» (*). ومدلول هذين الحديثين أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعدًا أن يؤمروا عليهم أحدهم لأن في ذلك السلامة من الخلاف الذي قد يؤدي للقلق إذا استبد كل منهم برأيه وفعل ما يطابق هواه، كما أن اجتماعهم على أحدهم فيه جمع لكلمتهم وتضامن بينهم في مواجهة ما ينزل بهم. وإذا شرع هذا لثلاثة في فلاة من الأرض أو مسافرين فشرعيته أولى لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار ويحتاجون لدفع التظالم والفصل في الخصومات (¬1). ¬

_ (¬1) " نيل الأوطار ": جـ 8 ص 496. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر " سنن " أبي داود، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد: 3/ 36، حديث رقم 2608 نشر المكتبة العصرية، صيدا - بيروت. وفي بقية الروايات: «إِذَا كَانَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ ... ».

الخلافة واجبة عقلا

فيجب إذن تطبيقًا لهذين الحديثين فضلاً عما ذكرنا من أحاديث سابقة أن تقيم الأمة الإسلامية إمامًا لها أو خليفة عليها، وهي باعتبارها أمة واحدة لن تقيم إلا واحدًا ولا يصح لها أن تقيم أكثر من واحد. سادسًا: أن الله وقد جعل المسلمين أمة واحدة وألزمهم أن يكونوا من أنفسهم دولة واحدة قد جعل أمر الحكم شورى بينهم {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وإذا كان المسلمون مقيدين بأن يكونوا أمة واحدة وأن تكون لهم دولة واحدة وأن يختاروا من يلي الحكم منهم، فإنه يتعين عليهم أن يختاروا لرئاسة الدولة الإسلامية إمامًا كلما خلا هذا المنصب، وليس لهم باعتبارهم أمة واحدة ودولة واحدة أن يختاروا إلا إمامًا واحدًا. الخِلاَفَةُ وَاجِبَةٌ عَقْلاً: وكما يوجب الشرع الخلافة فإن العقل يوجبها أيضًا، لأن وجود الحكومة في الجماعة إنما هو ضرورة اجتماعية، فالبشر يستحيل عليهم أن يعيشوا منفردين ولا بد أن يتجمعوا تدفعهم لذلك المصلحة والضرورة، فإذا اجتمعوا تزاحموا وتنافسوا وتغالبوا وفرقت بينهم المصالح والمنافع وقامت بينهم الخصومات، فلا بد من حاكم يتزعمهم ويفصل في خصوماتهم ويحملهم على سلوك السبيل القويم، وإذا كان من أهداف

الجماعة أن تكون متحدة وأن تكون وحدة سياسية واحدة فقد وجب أن يكون لها حاكم واحد تختار الجماعة بدلاً منه كلما خلا منصبه. وإذا كان العقل يقضي بأن عدم قيام الحكومة بين الناس يؤدي إلى الضرر، كانت الخلافة أو الإمامة واجبة عقلاً (¬1) خصوصًا إذا كان من واجب الجماعة أن تعيش متحدة غير متفرقة وأن تكون من نفسها وحدة سياسية واحدة. ¬

_ (¬1) " المواقف ": ص 604، 605، وراجع " مقدمة " ابن خلدون: ص 181.

الشروط الواجبة في الإمام

الشُّرُوطُ الوَاجِبَةُ فِي الإِمَامِ: لا يصلح كل شخص أن يكون إمامًا أو خليفة لأن وظيفة الإمامة بما لها من جلال وخطر تقتضي أن يكون شاغلها حائزًا على صفات معينة، ومن ثم يشترط فيمن يختار إمامًا أو خليفة أو تتوفر فيه الشروط الآتية: 1 - الإِسْلاَمُ: يشترط في الإمام أو الخليفة أن يكون مسلمًا لأن وظيفته نفسها تقتضي هذا، فمهمته إقامة الدين الإسلامي وتوجيه سياسة الدولة في حدود الإسلام، وما يستطيع أن يقوم بذلك على وجهه الصحيح إلا مسلم يؤمن بالإسلام ويعرف مبادئه واتجاهاته، فطبائع الأشياء إذن توجب أن يكون رئيس الدولة الإسلامية مسلمًا. واذا كان هذا هو ما توجبه طبائع الأشياء ومنطق الواقع

2 - الذكورة

فإن الإسلام نفسه يحرم أن يلي أمر المسلمين غير مسلم وذلك ظاهر في قوله تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]. فإذا حرم الإسلام على المؤمنين أن يوالوا غير مؤمن فقد حرم عليهم أن يجعلوه حاكمًا عليهم لأن الحكم ولاية. وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]. وقوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]. 2 - الذُّكُورَةُ: يشترط في الإمام أو الخليفة أن يكون ذكرًا لأن المرأة بطبيعتها لا تصلح لرئاسة الدولة، وما تقتضيه هذه الوظيفة من المتاعب والعمل المستمر وقيادة الجيوش وتدبير الأمور. كما أن الإسلام منع ولاية المرأة بقول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إِلَى امْرَأَةٍ» وفي رواية: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً». 3 - التَّكْلِيفُ: يشترط في الإمام أو الخليفة أن يكون مكلفًا أي بالغًا عاقلاً، فالصغير والمجنون والمعتوه لا يصلحون لرئاسة الدولة، لأن الإمامة ولاية على الغير وهؤلاء لا ولاية لهم على أنفسهم،

4 - العلم

فكيف تكون لهم الولاية على غيرهم، كما أن الصغير والمجنون والمعتوه لا مسؤولية عليهم لقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ النَّائِم حَتَّى [يَسْتَيْقِظ] وَعَنْ المَجْنُون حَتَّى يُفِيق» " ومن لم يكن أهلاً للمسؤولية عن نفسه فهو غير أهل للمسؤولية عن غيره. والأصل في وظيفة الإمام المسؤولية التامة لقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ رَاعٍ عَلَى رَعِيَّتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْهُ». وقوله: «لاَ يَسْتَرْعِي اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَبْدًا رَعِيَّةً، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، إِلاَّ سَأَلَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ، أَقَامَ [فِيهِمْ] أَمْرَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمْ أَضَاعَهُ؟ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ خَاصَّةً». 4 - العِلْمُ: يشترط في الإمام أو الخليفة أن يكون عالمًا، وأول ما يجب عليه علمه هو أحكام الإسلام لأنه يقوم على تنفيذها ويوجه سياسة الدولة في حدودها، فإذا لم يكن عالمًا بأحكام الإسلام لم يصح تقديمه للإمامة. ويرى البعض أنه لا يكفي الإمام من العلم بأحكام الإسلام أن يكون مقلدًا لأن التقليد عندهم نقص ويوجبون أن يكون مجتهدًا لأن الإمامة في رأيهم تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال، ولكن البعض الآخر يجيز أن يكون

5 - العدل

الإمام مقلدًا ولا يستلزم أن يكون مجتهدًا (¬1). ولا يكفي أن يكون الإمام عالمًا بأحكام الإسلام، بل يجب أن يكون مثقفًا ثقافة عالمية مُلِمًّا بأطراف من علوم عصره، إن لم يكن متخصصًا في بعضها، وأن يكون على علم بتاريخ الدول وأخبارها وبالقوانين الدولية والمعاهدات العامة والعلاقات السياسية والتجارية والتاريخية بين مختلف الدول. 5 - العَدْلُ: ويشترط في الإمام أو الخليفة أن يكون عدلاً، لأنه يتولى منصبًا يشرف على كل المناصب التي يشترط فيها العدالة فكان من الأولى أن تشترط العدالة في منصب الإمامة أو الخلافة. والعدالة عند الفقهاء هي التحلي بالفرائض والفضائل والتخلي عن المعاصي والرذائل وعن كل ما يخل بالمروءة، ويشترط بعضهم أن تكون العدالة ملكة لا تكلفًا، ولكن البعض يرى أن التكلف إذا التزم أصبح ملكة وَخُلُقًا (¬2). ¬

_ (¬1) " المواقف ": ص 605، " المحلى ": جـ 9 ص 362، " أسنى المطالب " و" حاشية الشهاب ": ص 108، " الملل والنحل ": جـ 4 ص 166، " الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 4، " الأحكام السلطانية " للفراء: ص 5، " المسامرة ": جـ 2 ص 163، " الخلافة ": ص 16. (¬2) " الملل والنحل ": جـ 4 ص 167، " مقدمة " ابن خلدون ": ص 183، " المواقف ": ص 605، 606، " المسامرة ": جـ 2 ص 162 - 164، " الأحكام السلطانية " للماوردي و" الأحكام السلطانية " للفراء: ص 625.

6 - الكفاية

6 - الكِفَايَةُ: ويشترط في الإمام أو الخليفة أن يكون كُفْؤًا قادرًا على قيادة الناس وتوجيههم قادرًا على معاناة الإدارة والسياسة، فمن قام بالقسط فقد قام بما أمر به (¬1). 7 - السلامة: ويشترط البعض في الإمام أو الخليفة سلامة الحواس والأعضاء من النقص والعطلة كالعمى والصمم والخرس وتجديع الأطراف، وحجتهم أن عدم السلامة على هذا الوجه يقلل من الكفاية في العمل أو من الإتيان به على وجه تام، ولكن البعض يرى أنه لا ضرر من أن يكون في خلق الإمام أو الخليفة عيب كما في الأعمى والأصم والأجذم والأحدب والذي لا يدان له ولا رجلان ومن بلغ الهرم ما دام يعقل، فكل هؤلاء إمامتهم جائزة إذا لم يمنع منها نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا نظر، ولا دخل لهذه العيوب في قيام الإمام أو الخليفة على أمر الله بالحق والعدل والله تعالى يقول {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135]، فمن لم يكن كُفْؤًا لوظيفة ليس له أن يتولاها. 8 - القرشية: وهو شرط مختلف عليه، فالجمهور يشترط أن يكون ¬

_ (¬1) " الملل والنحل ": جـ 4 ص 167، " مقدمة " ابن خلدون: ص 183، " المواقف ": ص 605، 606، " المسامرة ": جـ 2 ص 162 - 164، " الأحكام السلطانية " للماوردي، " الأحكام السلطانية " للفراء: ص 625.

الإمام أو الخليفة من قريش وحجتهم في ذلك ما روي عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أحاديث في هذا الشأن فروي عنه «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ»، وروي «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ مَا إِذَا حَكَمُوا عَدَلُوا»، وروي «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ، إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ، مَا إِنْ اسْتُرْحِمُوا فَرَحِمُوا، وَإِنْ عَاهَدُوا وَفَوْا، وَإِنْ حَكَمُوا عَدَلُوا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالمَلاَئِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، وروي «إِنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ مَا أَطَاعُوا اللهَ وَاسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِهِ»، وروي «إِنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لاَ يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ، إِلاَّ كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ، مَا أَقَامُوا الدِّينَ» وروي «إِنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ مَا إِذَا اسْتُرْحِمُوا رَحِمُوا وَإِذَا حَكَمُوا عَدَلُوا، وَإِذَا قَسَمُوا أَقْسَطُوا فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالمَلاَئِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، وروي «" أَمَّا بَعْدُ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَإِنَّكُمْ أَهْلُ هَذَا الأَمْرِ، مَا لَمْ تَعْصُوا اللَّهَ، فَإِذَا عَصَيْتُمُوهُ بَعَثَ عَلَيْكُمْ مَنْ يَلْحَاكُمْ كَمَا يُلْحَى هَذَا القَضِيبُ " - لقضيب في يده - ثُمَّ لَحَا قَضِيبَهُ فَإِذَا هُوَ أَبْيَضُ يَصْلِدُ»، وروي «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ أَهْلُ هَذَا الأَمْرِ مَا لَمْ تُحْدِثُوا فَإِذَا غَيَّرْتُمْ بَعَثَ اللَّه عَلَيْكُمْ مَنْ يَلْحَاكُمْ كَمَا يُلْحَى القَضِيب»، وروي «اِسْتَقِيمُوا لِقُرَيْشٍ مَا اِسْتَقَامُوا لَكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِيمُوا فَضَعُوا سُيُوفكُمْ عَلَى عَوَاتِقكُمْ فَأُبِيدُوا خَضْرَاءَهُمْ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَكُونُوا [زَرَّاعِينَ] أَشْقِيَاء» وروي «قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلاَ تَقَدَّمُوهَا»، وروي «كَانَ هَذَا الأَمْر فِي حِمْيَر فَنَزَعَهُ اللَّه مِنْهُمْ وَصَيَّرَهُ فِي قُرَيْش وَسَيَعُودُ إِلَيْهِمْ»، وروي «لاَ يَزَال هَذَا الأَمْر فِي قُرَيْش

مَا بَقِيَ مِنْ النَّاس اِثْنَانِ»، وروي «مَا بَقِيَ مِنْهُمْ اِثْنَانِ، وَمَا بَقِيَ مِنْ النَّاس اِثْنَانِ». ويستند الجمهور أيضًا إلى إجماع الصحابة على أن تكون الإمامة في قريش، فقد احتج أبو بكر يوم السقيفة على الأنصار بأن «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» فعدلوا عن المطالبة بالإمامة بعد أن كانوا يقولون منا أمير ومنكم أمير ورضوا بما قاله لهم: «نَحْنُ الأُمَرَاء وَأَنْتُمْ الوُزَرَاء» (¬1). ويرى الخوارج وبعض المعتزلة أنه لا يشترط أن يكون الإمام قرشيًا، وإنما يستحق الإمامة من قام بالكتاب والسنة سواء كان عربيًا أو أعجميًا، ذلك لأنهم يردون حديث «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» بحجة أنه من أحاديث الآحاد. وذهب ضرار بن عمر إلى تولية غير القرشي أولى، لأنه يكون أقل عشيرة فإذا عصى كان أمكن لخلعه (¬2). ولما ضعف أمر قريش وتلاشت عصبيتهم بما نالهم من الترف والنعيم عجرزوا عن حمل الأمر، وتغلب عليهم الأعاجم وصار الحل والعقد لهم، فاشتبه ذلك على كثير من المحققين ¬

_ (¬1) " الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 5، " الأحكام السلطانية " للفراء الحنبلي: ص 4، " الخلافة ": ص 16، " مقدمة " ابن خلدون: ص 183، " المسامرة ": ص 164 جـ 2، " المواقف ": ص 606، " الملل والنحل ": جـ 4 ص 89، " المحلى ": جـ 9 ص 359، " أسنى المطالب ": جـ 4 ص 109. (¬2) " عون الباري " مع " نيل الأوطار ": جـ 8 ص 295.

حتى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشية، واستندوا في ذلك إلى قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» كما استندوا إلى قول عمر: «لَوْ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى حُذَيْفَةَ حَيًّا لَوَلَّيْتُهُ»، وسالم ليس قرشيًا، وإلى ما روي عن عمر: «إِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي وَأَبُو عُبَيْدَة حَيٌّ اِسْتَخْلَفْته، فَإِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي وَقَدْ مَاتَ أَبُو عُبَيْدَة اِسْتَخْلَفْت مُعَاذ بْن جَبَلٍ» (*)، ومعاذ أنصاري لا نسب له في قريش. كذلك استدلوا بتأمير عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة وأسامة بن زيد وغيرهم في الحروب، وممن أسقط شرط القرشية القاضي أبو بكر الباقلاني لما أردك ما عليه أمر قريش من التلاشي والاضمحلال واستبداد الأعاجم بالأمر (¬1). والمتمسكون بشرط القرشية يردون على ذلك بأن الحديث ورد في الإمارات الصغرى لا في الإمامة العظمى، وأن ما روي عن عمر لعله اجتهاد منه تغير بعد ذلك، كما أن تأمير عبد الله بن رواحة وغيره ليس له دخل بالإمامة العظمى. ويعلل ابن خلدون جعل الأمر في قريش بقوة عصبيتهم «لأن قريشًا كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب فيهم، وكان سائر العرب يعترف لهم بذلك، فلو جعل الأمراء من سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم، ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردهم عن الخلاف ولا يحملهم ¬

_ (¬1) " عون الباري " مع " نيل الأوطار ": جـ 8 ص 496، " مقدمة " ابن خلدون: ص 183. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر " فتح الباري بشرح صحيح البخاري " لابن حجر العسقلاني، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، 13/ 119،، طبعة سنة 1379 هـ، نشر دار المعرفة - بيروت.

على الكره، فتفترق الجماعة وتختلف الكلمة، والشارع محذر من ذلك حريص على اتفاقهم، بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش لأنهم قادرون على سوق الناس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من أحد خلاف عليهم ولا فرقة لأنهم كفيلون حينئذٍ بدفعها ومنع الناس منها، فاشترط نسبهم القرشي في هذا المنصب وهم أهل العصبية القوية ليكون أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكلمة، وإذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مضر أجمع فأذعن لهم سائر العرب وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملة، ووطئت جنودهم قاصية البلاد كما وقع في أيام الفتوحات واستمر بعدها في الدولتين الى أن اضمحل أمر الخلافة وتلاشت عصبية العرب، فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب، وعلمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة، علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها وطلبنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية، وهي وجود العصبية، فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية غالبة على من معها لعصرها، وإذا نظرت سِرَّ اللهِ في الخلافة لم تعد هذا لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائبًا عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردهم عن مضارهم، وهو مخاطب بذلك ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه، ثم إن الوجود شاهد بذلك فإنه لا يقوم بأمر أمة أو جيل إلا من غلب

عليهم، وقل أن يكون الأمر الشرعي مخالفًا للأمر الوجودي» (¬1). وظاهر مِمَّا سبق أن ابن خلدون يرى أن الإمامة جعلت في قريش لقوتها وغلبتها وأن حقها في الإمامة زال بزوال قوتها وغلبتها، ومعنى ذلك أن يفسر القرشية بالعصبية الغالبة. ويرى الدكتور طة حسين أن أبا بكر حينما قال للأنصار: «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» لم يفكر في إطلاق الإمامة لقريش كلها دون تحديد، وإنما كان يفكر هو وعمر وأبو عبيدة في المهاجرين الذين سبقوا إلى الإسلام فآمنوا به قبل أن يؤمن غيرهم، وآزروا النبي بأنفسهم وأموالهم على نشر دعوته في مكة أيام الجهد والشدة والضيق، فأبو بكر حينما قال للأنصار أن الأئمة من قريش كان يقصد إلى هذه الطبقة الممتازة من قريش طبقة الذين سبقوا إلى الإسلام وجاهدوا مع النبي في مكة والمدينة (¬2). ومعنى هذا الذي يقوله الدكتور طة حسين أن شرط القرشية لا محل له بعد انتهاء الطبقة الممتازة من قريش أولئك الذين سبقوا إلى الإسلام وجاهدوا مع النبي في مكة أثناء الفتنة وجاهدوا معه في المدينة أثناء القوة. ويلاحظ أخيرًا أن الأحاديث التي سبق ذكرها معناها جميعًا واحد من حيث أنها جعلت الإمامة في قريش ولكن في بعضها زيادة مقبولة تقطع بأن الأمر لم يجعل في قريش مطلقًا من ¬

_ (¬1) " مقدمة " ابن خلدون: ص 184، 185. (¬2) " الفتنة الكبرى ": جـ 1 ص 35، 36.

كل قيد، وإنما هو لقريش ما أطاعوا الله واستقاموا على أمره، فإذا عصو سقط حقهم في الإمامة (¬1) وحديث «لاَ يَزَال [هَذَا] الأَمْر فِي قُرَيْش مَا بَقِيَ مِنْ النَّاس اِثْنَانِ» جاء مطلقًا كحديث «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» إلا أن كليهما مقيد بما اشترط في الأحاديث الأخرى من طاعة الله والقيام على أمره، وسقوط حق قريش في الإمامة ليس معناه أن لا يكون إمام من قريش وإنما معناه أن لا تكون الإمامة محصورة في قريش فيجوز أن يكون الإمام قرشيًا أو غير قرشي. ويبقى بعد ذلك أن يقال إن الأحاديث كلها وردت بصيغة الخبر عدا حديث «اِسْتَقِيمُوا لِقُرَيْشٍ مَا اِسْتَقَامُوا لَكُمْ»، وحديث «قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلاَ تَقَدَّمُوهَا» فإنهما وَرَدَا بصيغة الأمر، والأحاديث الواردة بصيغة الخبر ليست أحكامًا، وإنما هي أخبار عن حال قريش وما يحدث لها، ومجموعها يفيد أن الإمامة ستكون فيهم ما أطاعوا الله ولو بقي من الناس اثنان، فإذا عصوا الله بعث عليهم من يقصيهم عنها، أما الحديثان الواردان بصيغة الأمر فقد جاءا ببيان ما يجب على الأمة من معاملة قريش ما دامت مستقيمة على أمر الله. هذان رأيان يمكن أن يقالا في تفسير الأحاديث الواردة في إمامة قريش وقد بنيا على جمع الأحاديث واستخراج معناها جملة، ولعل هذا هو أصح طريق في تفسير هذه الأحاديث ما دامت هذه الأحاديث جميعًا في درجة واحدة تقريبًا وبعضها ¬

_ (¬1) راجع " عون الباري ": جـ 8 ص 493، 494.

يقوي البعض الآخر وليس فيها ما ينسخ شيئًا منها. ولا يفوتنا هنا أن ننبه إلى جمهور الأمة المتمسكين بشرط القرشية أجازوا خلافة المتغلب ولو لم يكن قرشيًا، وفي هذا ما يناقض التمسك بشرط القرشية، ولكنهم عللوا ذلك بالضرورة. * * * هذه هي الشروط التي يجب أن تتوفر في الإمام الأعظم أو الخليفة، وليس ثمة ما يمنع من اشتراط شروط أخرى إذا اقتضتها المصلحة العامة، فيجوز مثلاً أن يشترط في الإمام أن يكون قد بلغ سِنًّا معينة، ويجوز أن يشترط فيه الحصول على درجات علمية معينة، ويجوز أن يشترط فيه أي شرط آخر إذا دعت لذلك الشرط مصلحة الجماعة أو اقتضته ظروف الحياة التي تتغير بمرور الأيام.

انعقاد الإمامة أو الخلافة

اِنْعِقَادُ الإِمَامَةِ أَوْ الخِلاَفَةِ: الطَّرِيقُ الشَّرْعِيُّ لِلإِمَامَةِ: تنعقد الإمامة عن طريق واحد مشروع لا ثاني له، وهو اختيار أهل الحل والعقد للإمام أو الخليفة وقبول الإمام أو الخليفة لمنصب الخلافة. فالإمامة أو الخلافة ليست إلا عقدًا طرفاه الخليفة من ناحية وأولو الرأي في الأمة من الناحية الأخرى، ولا ينعقد العقد إلا بالإيجاب وقبول: الإيجاب من أولي الرأي في الأمة أو أهل الشورى، وهو عبارة عن اختيار الخليفة، والقبول من جانب الخليفة الذي اختاره أولو الرأي في الأمة. على هذا جرى الأمر بعد وفاة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبهذه الطريقة بويع الخلفاء الراشدون جميعًا، ونستطيع

بيعة أبي بكر

أن نتبين ذلك إذا رجعنا الى الوقائع التي قامت عليها بيعة كل منهم، والظروف التي تمت فيها، وحللناها تحليلاً علميًا ومنطقيًا. بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ: لما توفي الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة وأخرجوا سعد بن عبادة ليولوه الأمر، وسمع عمر بن الخطاب بالخبر فأخبر أبا بكر، وذهبا ومعهما أبو عبيدة إلى السقيفة فخطب أبو بكر في الحاضرين وعرض عليهم أن يختاروا عمر أو أبا عبيدة، فقالاَ: والله لا نتولى هذا الأمر عليك وأنت أفضل المهاجرين وخليفة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة، أبسط يدك نبايعك، فلما ذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد من الأنصار فبايعه، وتتابع الناس فبايعوه من كل جانب، فلما كان الغد جلس أبو بكر على المنبر وبايعه الناس بيعة عامة، ثم قام فخطبهم خطبة منها «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي»، ومنها: «أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصْيَتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلاَ طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ» (¬1). هذه هي بيعة أبي بكر لم تتم إلا باختيار المهاجرين والأنصار وأولي الرأي في الأمة، وبقبول أبي بكر لهذا الاختيار وإقراره له. ¬

_ (¬1) " الكامل " لابن الأثير: جـ 2 ص 135، 138.

بيعة عمر

واختيار أبي بكر على هذا الوجه يتفق مع قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. وأهم أمور المسلمين وأحقها بالشورى هو أمر الحكم، فعلى المسلمين أن يختاروا من يلي أمرهم ويقوم على شؤونهم وينفذ أمر الله فيهم، ليحققوا ما وصفهم الله به من أن أمرهم شورى بينهم. وقد بَيَّنَ أبو بكر في خطبته الحدود العامة للعقد الذي تم بينه وبين أولي الرأي في الأمة الذين اختاروا للخلافة، فقال إن من حقه عليهم أن يعينوه ويتعاونوا معه إذا أحسن عمله، وإن من حقهم أن يقوموه ويسددوه إذا أساء أو أخطأ، وإن طاعته واجبة عليهم ما دام لم يخرج على كتاب الله ولا سنة رسوله، فإن خرج فما عليهم من طاعة، وليس له أن يبقى في منصبه. بَيْعَةُ عُمَرَ: ولما حضرت الوفاة أبا بكر استشار كثيرًا من الصحابة في تولية عمر، ثم كتب للناس خطابًا جاء فيه: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، وَلَمْ آلُكُمْ خَيْرًا». وأمر به أن يقرأ على الناس فجمعوا وقرئ عليهم، وكان أبو بكر قد أشرف عليه فقال «أَتَرْضُونَ بِمَنِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ؟ فَإِنِّي مَا اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ ذَا قَرَابَةٍ، وَإِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، فَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا». ولما استشار أبو بكر بعض الصحابة في عمر قبل أن يكتب

للناس قال: «لَوْ تَرَكْتُهُ مَا عَدَوْتُ عُثْمَانَ، وَالْخِيرَةُ لَهُ - أي لعمر - أَنْ لاَ يَلِيَ مِنْ أُمُورِكُمْ شَيْئًا» (¬1). فهذا أبو بكر لا يفتات على الناس فهو يختار لهم ويجعل اختياره متوقفًا على رضائهم به ومتوقفًا على رضاء عمر، ولو رفض عمر ما وسعه أن يلزمه، ولو رفض الناس تولية عمر لما ألزمهم إياه، وإنما أحسن أبو بكر الاختيار ووثق به المسلمون وبحسن اختياره فكانوا عند حسن ظنه بهم، ولولا أنه كان يعلم الحق أنه نصح واجتهد للمسلمين في اختيار عمر لما فعلها. ومن الخطأ أن نعتبر ما حدث من أبي بكر اختيارًا للخليفة من بعده، فلو كَانَ فِعْلُ أبي بكر في حقيقته اختيارًا لما سأل الناس أيرضون بعمر أم لا يرضون، وإنما كان فعل أبي بكر في حقيقته ترشيحًا لمن يراه أقدر على القيام بأمر الناس، وإذا كان الترشيح ممن يحسن الناس به الظن ويأمنونه على مصالحهم يعتبر في حكم الاختيار إلا أنه ليس ترشيحًا في واقع الأمور وفي فقه الفقهاء، والاختيار لا يكون ولا يصح إلا ممن لهم حق الاختيار. وأبو بكر لا يملك أن يختار الخليفة بعده وإن كان يقوم على أمر الجماعة، لأنه نائب الجماعة استخلفه عليها لمهمة معينة يراعى فيها شخصية النائب، وليس للنائب أن يختار غيره ¬

_ (¬1) " الكامل " لابن الأثير: جـ 2 ص 178، 179.

بيعة عثمان

ما دامت النيابة ملحوظًا فيها شخصية النائب، كذلك فإن الجماعة استخلفت أبا بكر لمدة حياته فإذا صح له أن يختار من ينوب عنه في حياته فليس له أن يختار من يقوم مقامه بعد وفاته، لأن نيابته تنتهي بوفاته فإذا اختار من يقوم على أمر الأمة بعد وفاته فقد خرج على حدود نيابته، أو لا يكون اختياره إلا ترشيحًا إن شاءت الجماعة التي هي صاحبة الحق في الاختيار أن تأخذ به فعلت، وإن شاءت رفضت ولا تثريب عليها. ولو كان فعل أبي بكر اختيارًا واستخلافًا فعليًا لما كان هناك ما يدعو لأن يبايع الناس عمر بعد ذلك، فبيعة الناس لعمر هي التي جعلته خليفة وما انعقدت خلافته إلا بهذا دون غيره. وإذا كان ما فعله أبو بكر ليس إلا ترشيحًا فينبغي أن نعلم أن أبا بكر لم يرشح عمر للخلافة إلا بعد أن استشار خاصة الصحابة، فلما قبلوا هذا الترشيح كتب وعلق الأمر على اختيار عامة الناس. وبعد فإن أبا بكر أبر وأتقى من أن يعطل قول الله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، واختيار الخليفة القائم لمن يتولى بعده دون رجوع أهل الرأي وتكينهم من الاختيار في حرية تامة ليس إلا تعطيلاً صريحًا لهذا النص الذي أوجب الله على الأمة العمل به. بَيْعَةُ عُثْمَانَ: ولما طعن عمر طلب منه المسلمون أن يستخلف، فقال:

«وَأَنْظُرُ فَإِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، وَلَنْ يُضَيِّعَ اللَّهُ دِينَهُ». فخرجوا ثم عادوا فقالوا له يا أمير المؤمنين: لو عهدت عهدًا، فقال: «مَا أَرَدْتُ أَنْ أَتَحَمَّلَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا، عَلَيْكُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ "، وَهُمْ عَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَسَعْدٌ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَلْيَخْتَارُوا مِنْهُمْ رَجُلاً، فَإِذَا وَلَّوْا وَالِيًا فَأَحْسِنُوا مُوَازَرَتَهُ وَأَعِينُوهُ». فلما مات عمر جمع المقداد أهل الشورى في حجرة السيدة عائشة بإذنها وطلحة غائب فتنافسوا في الأمر، فقال عبد الرحمن: «أَيُّكُمْ يُخْرِجُ مِنْهَا نَفْسَهُ وَيَتَقَلَّدُهَا عَلَى أَنْ يُوَلِّيَهَا أَفْضَلَكُمْ؟» فلم يجب أحد، فقال: «أَنَا أَنْخَلِعُ مِنْهَا» فرضوا به وأعطوه موثقهم على أن يكونوا معه على من بَدَّلَ وَغَيَّرَ، وأن يرضوا من يختاره لهم. وأعطاهم موثقة ألا يخص ذا رحم وألا يألوا المسلمين نُصْحًا. وبقي عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها يلقى أصحاب الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن في المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم في الأمر، حتى أنه لم ينم في الليلة الأخيرة، وظل يجتمع بهذا وبذاك حتى صلاة الصبح، وفي صباح اليوم الرابع جمع المهاجرين والأنصار وأهل الفضل والسابقة وأمراء الأجناد فاجتمعوا حتى التحم المسجد بأهله، ثم قال: «أَيُّهَا النَّاسُ أَشِيرُوا عَلَيَّ»، فقال عمار بن ياسر: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ لاَ يَخْتَلِفَ الْمُسْلِمُونَ فَبَايِعْ عَلِيًّا»، وأيد المقداد بن الأسود رأي عمار، وقال ابن

أبي سرح: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ لاَ تَخْتَلِفَ قُرَيْشٌ فَبَايِعْ عُثْمَانَ»، وأيد هذا الرأي عبد الله بن أبي ربيعة، واختلف الناس، فقال عبد الرحمن: «إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ وَشَاوَرْتُ، فَلَا تَجْعَلُنَّ أَيُّهَا الرَّهْطُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ سَبِيلاً»، ودعا عليًا وقال: «عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَتَعْمَلَنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ الخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ»، قال: «أَرْجُو أَنْ أَفْعَلَ فَأَعْمَلَ بِمَبْلَغِ عِلْمِي وَطَاقَتِي»، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال: «نَعَمْ» فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال: «اللَّهُمَّ اسْمَعْ وَاشْهَدْ. اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ مَا فِي رَقَبَتِي مِنْ ذَلِكَ فِي رَقَبَةِ عُثْمَانَ»، ثم بايعه فبايع الناس جميعًا (¬1). وقدم طلحة في يوم المبايعة وبعد تمامها، فقال له عثمان: «أَنْتَ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكَ وَإِنْ أَبَيْتَ رَدَدْتُهَا»، قال: «أَتَرُدُّهَا؟»، قال: «نَعَمْ»، قال: «أَكُلُّ النَّاسِ بَايَعُوكَ؟»، قال: «نَعَمْ»، قال: «قَدْ رَضِيتُ لاَ أَرْغَبُ عَمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ». هذه هي الوقائع فلننظر فيها لنراها على حقيقتها، وأول ما يطالعنا فيها أن الناس طلبوا من عمر أن يستخلف فاختار لهم ستة أشخاص ليختاروا من بينهم رجلاً واحدًا يلي أمر الأمة، وتعبير الكتب التاريخية يوهم أن الناس طلبوا من عمر أن يختار لهم الخليفة بعده، ولكنهم في الحقيقة لم يطلبوا منه إلا أن يرشح لهم من يخلفه كما فعل أبو بكر، لأن الخليفة القائم لا يملك أن يختار خلفه كما قررنا من قبل وإنما يملك أن يرشح للخلافة من ¬

_ (¬1) " الكامل " لابن الأثير: جـ 3 ص 27، 32.

يراه أقدر عليها، ولأن الخلافة لا تنعقد إلا ببيعة أهل الرأي في الأمة، فكل ما يحدث من الاختيار قبل البيعة ليس إلا ترشيحًا للخلافة قد يأخذ ذَوُو الرأي به وقد يهملونه. ولقد كان اختيار عمر ترشيحًا لا شك فيه، لأنه اختار ستة أشخاص وما يصح أن يلي الأمر إلا واحد منهم، وإذا كان عمر قد ترك لهم أن يختاروا من بينهم فإن اختيارهم هذا ليس إلا ترشيحًا ثانيًا، أي أن عمر رشح ستة للخلافة على أن يرشحوا من بينهم واحدًا، ولو كان الرأي لهؤلاء الستة فقط لما كان عبد الرحمن في حاجة إلى أن يستشير المهاجرين والأنصار والأشراف وأمراء الجند ثلاثة أيام بلياليها حتى لقد ذكر أنه لم ينم في الليلة الأخيرة، ولما كان في حاجة لأن يجمع الناس في المسجد بعد الصلاة ويسألهم أن يشيروا عليه، ولو كان الرأي لهؤلاء الستة دون غيرهم لانعقدت الخلافة بمبايعة خمسة منهم لسادسهم، ولما كان هناك ما يدعو لأن يبايع الناس جميعًا. فاختيار عمر إذن كان ترشيحًا، واختيار عبد الرحمن كان ترشيحًا، ولم تنعقد البيعة لعثمان إلا برضاء الجماعة عنه ومبايعتهم إياه، وإذا كان عبد الرحمن قد اختار عثمان وبايعه فتابعه الناس على ما رأى فما ذلك إلا لأنهم يثقون في عبد الرحمن وتلك طبيعة البشر في كل الأزمان يتابعون من يثقون فيه ويحسنون به الظن.

بيعة علي

بَيْعَةُ عَلِيٍّ: ولما قتل عثمان ذهب أصحاب الرسول من المهاجرين والأنصار إلى علي يعرضون عليه أن يبايعوه، فقال: «لاَ حَاجَةَ لِي فِي أَمْرِكُمْ» فترددوا عليه مرارا وصمموا على مبايعته، فقال: «إِذَنْ فَفِي المَسْجِدِ»، فاجتمع الناس وبايعوه (¬1). ومع أن جمهور أهل المدينة بايعوا عَلِيًّا ألا أن الكثيرين لم يبايعوه، لأن الناس لم يجتمعوا عليه، وكانت تلك حجة لبعض من انتقضوا عليه بل كانت حجة طلحة والزبير أنهما بايعا كارهين فلم تصح بيعتهما. وظاهر من هذا أن الخلافة لا تكون إلا ببيعة عامة للناس بيعة عن رضا واختيار. نَتِيجَةٌ لاَ شَكَّ فِي صِحَّتِهَا: هذه هي الوقائع التاريخية لبيعة الخلفاء الراشدين الأربعة تؤدي دراستها دراسة تحليلية إلى نتيجة واحدة لا شك في صحتها، وهي أن البيعة لا تتم إلا باختيار عامة أهل الرأي أو أغلبهم للخليفة ورضاء الخليفة بذلك، وأن اختيار الخليفة القائم لمن يأتي بعده ليس إلا ترشيحًا متوقفًا على قبول أهل الرأي، فإن قبلوا هذا الترشيح بايعوا المرشح وإلا رفضوه ورشحوا غيره. ¬

_ (¬1) " الكامل " لابن الأثير: جـ 3 ص 80.

وهذا هو نفسه ما فهمه عمر بن عبد العزيز حينما عهد إليه سليمان بن عبد الملك فقد اختاره خليفة من بعده وكتب بذلك كتابا ختمه بخاتمه، وأمر رجاء بن حياة بأن يجمع أهل بيته ليبايعوا لمن في الكتاب دون معرفة اسمه فبايعوا. وبعد أن مات سليمان جمع رجاء الناس في مسجد دابق وطلب منهم المبايعة على من سمي في هذا الكتاب المختوم فبايعوا، فلما بايعوا فض الكتاب وقرأه عليهم فاذا فيه:" هذا الكتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز. اني قد وليته الخلافة بعدي ومن بعده يزيد بن عبد الملك فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم "، فلما قرئ الكتاب صعد عمر بن عبد العزيز المنبر وقال:" اني والله ما استؤمرت في هذا الأمر وأنت بالخيار "، وفي رواية أخرى " يا أيها الناس اني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وأني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم " (¬1). فعمر بن عبد العزيز وهو من خيرة المسلمين علما وفقها ودينا يرى أن بيعة الخليفة لا تكون إلا باختياره من جانب أولي الرأي في الأمة، وبقبول من جانبه هو، كما يرى أن اختيار الخليفة السابق ليس ببيعة، وأن مبايعة الناس لمجهول ليست بيعة صحيحة، ولذلك كله رد الأمر للناس ليختاروه ان شاءوا راضين غير مكرهين وقد فعلوا. ¬

_ (¬1) " سيرة عمر بن عبد العزيز ": ص 48 - 54.

تجوز لا محل له

تَجَوُّزٌ لاَ مَحَلَّ لَهُ: ولقد تجوز أكثر الفقهاء في التعبير وسموا ما حدث من ترشيح أبي بكر لعمر بيعة، ورتبوا على ذلك نتيجة غير صحيحة تخالف كل المخالفة نصوص الشريعة الإسلامية وروحها، حيث أجازوا للإمام القائم أن يعقد البيعة لمن يخلفه بعهد منه، حتى لقد قالوا هذه المسألة مِمَّا انعقد الإجماع على جوازها ووقع الاتفاق على صحتها واستدلوا على ذلك بأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروها، أحدهما: أن أبا بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عهد بها إلى عمر فأثبت المسلمون إمامة عمر بعهد أبي بكر، وثانيهما: أن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عهد بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها وهم أعيان العصر، اعتقادًا بصحة العهد بها، وخرج باقي الصحابة منها حتى قال علي للعباس حين عاتبه على الدخول في الشورى: «كَانَ أَمْرًا عَظِيمًا مِنْ أُمُورِ الإِسْلاَمِ لَمْ أَرَ لِنَفْسِي الخُرُوجَ مِنْهُ» (¬1). وما استدل به الفقهاء لا يؤدي إلى إعطاء الإمام القائم حق عقد البيعة لمن يخلفه، ويكفي في التدليل على ذلك ما قالوه من أن أبا بكر عهد بالخلافة لعمر فأثبت المسلمون إمامة عمر بعهد ¬

_ (¬1) " الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 9، "الأحكام السلطانية " للفراء: ص 9، " المسامرة ": جـ 2 ص 171، " مقدمة " ابن خلدون: ص 198، 200، " الملل والنحل ": جـ 4 ص 167 وما بعدها، " المواقف ": ص 606، 607، " حاشية ابن عابدين ": جـ 4 ص 428.

أبي بكر، ومعنى ذلك أن عهد أبي بكر لم يجعل عمر إمامًا وإنما صار عمر إمامًا حيث أثبت المسلمون إمامته بناء على عهد أبي بكر، إذن فعهد أبي بكر لم يكن إلا ترشيحًا، والأمر في عهد عمر للستة أظهر من أن يكون محلاً للاشتباه، فهذا العهد لا يمكن أن يكون إلا ترشيحًا إذ المقصود منه تحديد الأشخاص الذين رأى عمر أنهم يصلحون لتولي الخلافة، ولو كان عهد عمر عقد بيعة لما اختار ستة إذ البيعة لا تكون إلا لواحد فقط. فعهد أبي بكر لعمر وعهد عمر للستة إنما كان كلاهما ترشيحًا، وقبول الأمة لهذا الترشيح يعتبر سابقة تقرر للخليفة القائم حق ترشيح من يخلفه على أن يكون المرشح واحدًا أو أكثر، وللأمة أن توافق على المرشح أو ترشح غيره، وما يعطي ترشيح الخليفة القائم لغيره أي حق، ولا يجعل له فضلاً على أي مرشح آخر. وهذا الذي نقوله قد قاله بعض الفقهاء، حيث رأى أنه ليس من الضروري استشارة أهل الحل والعقد وقت العهد، لأن عهد الإمام القائم لغيره ليس بعقد للإمامة، بدليل أنه لو كان عقدًا لأفضى إلى اجتماع إمامين في عصر واحد وهذا غير جائز، وإذا لم يكن العهد عقدًا فلا يعتبر حضور أهل الحل والعقد وقت العهد، وإنما يعتبر بعد موت الإمام، هذا القول صريح في أن العهد ترشيح وليس بيعة (¬1). ¬

_ (¬1) " الأحكام السلطانية " للفراء: ص 9، " الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 9.

ولكن الفريق الآخر الذي نقضنا كلامه يرى بغير حق أن الخلافة تنعقد بالعهد، لكن تصرف الخليفة الجديد يكون موقوفًا على موت الخليفة القائم، فالبيعة في هذه الحالة تشبه وكالة أنجزت وعلق تصرفها على شرط، فالخليفة الجديد خليفة حالاً ولكن تصرفه هو المعلق. ومع أن هذا الفريق يرى انعقاد الخلافة بعهد الخليفة القائم إلا أنه يشترط أن يكون الخليفة العاهد جامعًا لكل شروط الخلافة، فإن لم يكن كذلك فلا يجوز له أن يعهد لغيره (¬1)، فإن عهد لغيره فعهده غير صحيح، ولا يجوز تنفيذه، والقائلون بهذا ينتقدون العلماء وأصحاب الرأي في الأمة لقبولهم تنفيذ عهود بني أمية وبني العباس وهي غير صحيحة لعدم استجماع خلفائهم لكل شروط الخلافة، ويعللون سكوت العلماء على تنفيذ هذه العهود مع عدم صحتها بشوكة الخلفاء وقوتهم وبخشية العلماء من الفتنة. ويرى السيد محمد رشيد رضا - رَحِمَهُ اللهُ - أن للإمام أن يستخلف غيره بشرط أن يكون الإمام جامعًا لشروط الإمامة ولكن الاستخلاف يكون متوقفًا على إقرار أهل الحل والعقد له، كما يرى أن استدلال الفقهاء يقتضي هذا الرأي وإن كانوا لم يصرحوا به (¬2). ¬

_ (¬1) " تحفة المحتاج ": جـ 4 ص 116، " أسنى المطالب " و" حاشية الشهاب ": جـ 4 ص 109. (¬2) " الخلافة ": ص 33، 35.

ولاية العهد

وِلاَيَةُ العَهْدِ: تختلف ولاية العهد عن الاستخلاف بعض الشيء وإن كان حكمها واحدًا، فالأصل أن الاستخلاف لا يكون إلا عندما تحضر الوفاة الخليفة، فيستخلف غيره أي يرشحه للخلافة كما فعل أبوبكر وعمر فإنهما لم يستخلفا إلا لما حضرتهما الوفاة، ولا يقصد الخليفة من الاستخلاف إلا توجيه أهل الحل والعقد إلى الرجل الصالح للخلافة على أن لا يألو الخليفة جهدًا في الاختيار، وأن لا يختار من ذوي قرباه. أما ولاية العهد فتكون والخليفة في صحته وعافيته، وتحدث غالبًا قبل وفاته بزمن طويل أو على أثر توليه الخلافة، ولا يقصد من ولاية العهد إلا ايثار ذوي القربى بالخلافة، وحفظ الخلافة في أسرة بعينها دون رعاية لمصلحة الأمة. وإذا كان الاستخلاف سُنَّةً حَسَنَةً سَنَّهَا أبو بكر وتبعه فيها عمر، فان ولاية العهد بدعة ابتدعها معاوية، ليمكن لولده يزيد الفاسق من رقاب المسلمين، وليحول الخلافة مُلْكًا عَضُوضًا مستقرًا في غلمان بني أمية وَفُسَّاقِهَا. ولقد بذل معاوية في سبيل أخذ العهد لولده يزيد ما بذل من الدهاء والخديعة والرشوة، ثم لجأ أخيرًا إلى التهديد والإكراه والادعاء بأن كبار أبناء الصحابة كالحسين وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بايعوا يزيد وهم لم يبايعوه، حتى إذا ظن أنه مكن لولده يزيد كان قد مكن للفساد والفتنة، وأقام أمر الأمة

الإسلاميةعلى المحاباة والظلم وإهدار الحقوق، وقضى على الشورى وعطل قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وَحَوَّلَ الحكم الفاضل العادل النظيف إلى حكم قذر قائم على الأهواء والشهوات، ووجه الناس إلى النفاق والذلة وَالصَّغَارِ. ومن المحتمل أن يكون معاوية قد أدرك نتائج فعلته، ومن المحتمل أن تكون قد فاتته، ولكن الذي لاشك فيه أن كل من جاءوا بعده إلى عصرنا هذا قد عملوا بسنته وتشبثوا ببدعته حاشا عمر بن عبد العزيز، فعلى معاوية وقد استن هذه السنة السيئة اثمها واثم من عمل بها إلى يوم القيامة إن لم يكن قد اجتهد فأخطأ. وولاية العهد ليست إلا استخلافًا لمن يلي الخليفة القائم على ما بين الاستخلاف وولاية العهد من فروق، فإذا كان الاستخلاف في حقيقته ترشيحًا للخلافة فإن ولاية العهد ليست إلا ترشيحًا للخلافة أيضا، وليس لها في ذاتها أي أثر شرعي، فلا يمكن أن يكون ولي العهد إماما إلا باختيار الأمة له بعد وفاة الإمام الذي عهد إليه، أما الاختيار الذي يحدث في حياة العاهد فليس اختيارًا صحيحًا، لأنه يحدث عادة تحت التهديد والإكراه، ولأنه سابق لأوانه، إذ أن ولي العهد لن يصبح خليفة إلا بعد وفاة الخليفة الذي عهد إليه وإلا اجتمع خليفتان، وربما لا تتوفر فيه شروط الخلافة وقت العهد إليه كأن يكون صغيرًا، أو لا تتوفر فيه وقت توليته الخلافة كأن يكون فاسقًا، وفضلاً عن ذلك فإن الإمام وهو نائب الأمة ليس له أن يأخذ

الأمة التي أنابته في إدارة شؤونها والقيام على أمرها باختيار من ينوب عنها بعده، فذلك خروج عن حدود نيابته، وتدخل منه فيما هو من شأن الأمة الخاص، خصوصًا أن النيابة عن الأمة تستلزم شروطًا خاصة يجب توفرها في شخص النائب، والقاعدة أنه إذا روعي في النيابة شخصية النائب فليس للنائب أن ينيب عنه أحدًا كذلك فإن النيابة مرتبطة بالحاجة إليها وما دامت الأمة في غير حاجة إلى من ينوب عنها بقيام خليفة على أمرها فليس ثمة ما يدعو لاختيار خلف له لانعدام الحاجة إليه، فإذا توفي الإمام القائم قامت الحاجة لاختيار غيره وكان للأمة أن تختار من تراه صالحًا للنيابة عنها. وقد تَجَوَّزَ الفقهاء في ولاية العهد كما تجوزوا في الاستخلاف واعتبروا ولاية العهد عقدًا للإمامة، ولكنهم اشترطوا أن يعهد الإمام إلى من هو أحق بالإمامة وأقوم بها، ثم اختلفوا بعد ذلك، ففريق اشترط أن يرضى أهل الاختيار لتلزم البيعة الأمة، لأن اختيار الخليفة حق للأمة فلا تلتزم الأمة بخليفة إلا إذا رضيته واختارته، وفريق رأى لزوم البيعة للأمة باختيار الخليفة القائم دون حاجة إلى أن تختار هي، وحجة هذا الفريق أن بيعة أبي بكر لعمر لزمت الأمة ولم تتوقف على رضائها، وهذا خطأ لا شك فيه أو مغالطة في التدليل - كما بَيَّنَّا ذلك من قبل - قصد منها إرضاء الملوك والخلفاء وتبرير خروجهم على أحكام الإسلام. واختلفوا بعد ذلك في جعل ولاية العهد للأبناء، فالذين

يستلزمون الرجوع للأمة ويجعلون البيعة متوقفة على رضاها واختيارها يجيزون أن يعهد الخليفة إلى من ينتسب إليه ببنوة إذا كان المعهود إليه على صفات الأئمة، وحجتهم أن الإمامة لا تنعقد للمعهود إليه بنفس العهد، وإنما تنعقد باختيار المسلمين للمعهود إليه، ومن ثم تنتفي التهمة عن الخليفة العاهد. أما الذين يرون انعقاد البيعة بالعهد ولا يستلزمون الرجوع للأمة فيوجبون في حالة العهد الى ولد أو والد الرجوع للأمة، ولا يجيزون للخليفة أن ينفرد بعقد البيعة لولد ولا لوالد حتى يشاور فيه أهل الاختيار فيروه أهلاً لها، فيصح حينئذ عقد البيعة. على أن من هؤلاء من يرى أن للخليفة أن ينفرد بعقد البيعة لولده أو والده ويكون عقده صحيحًا، وهم بعد ذلك قسمان: قسم يرى رضاء أهل الاختيار بعد صحة العهد معتبرًا في لزومه للأمة، وقسم يرى العهد ملزمًا للأمة دون حاجة للرجوع إليها. والجميع يشترطون رضاء المعهود إليه به، ولكنهم اختلفوا في زمان القبول ففريق رأى أن القبول لا يكون إلا بعد وفاة العاهد في الوقت الذي يصح فيه للمعهود إليه أن يتولى الأمر، وفريق رأى أن القبول يكون فيما بين العهد والموت. ويشترط في المعهود إليه اتفاقًا توفر شروط الإمامة فيه وقت العهد إليه، واستدامتها إلى ما بعد موت العاهد، فإن كان المعهود إليه صغيرًا أو فاسقًا وقت العهد وبالغًا عدلاً وقت

نتائج الاستخلاف وولاية العهد

وفاة العاهد لم تصح خلافة المعهود إليه إلا إذا استأنف أهل الاختيار بيعته (¬1). نَتَائِجُ الاِسْتِخْلاَفِ وَوِلاَيَةِ العَهْدِ: كان الاستخلاف في أول الأمر مقصودًا به النصح للأمة وحفظ مصلحتها وجمع كلمتها على خليفة عادل تقي قوي، وهذا ما رمى إليه أبو بكر حين استخلف عمر وما رمى إليه عمر حين اختار أهل الشورى، ولكن أصحاب المآرب استغلوا هاتين السابقتين الكريميتين ليقولوا بولاية العهد وليزينوا لمعاوية أن يؤثر بها ولده يزيد من دون الناس، فلما فعلها معاوية خلق سابقة جديدة تختلف كل الاختلاف عن سابقة الاستخلاف وإن كان معاوية قد حاول جهده أن يبين للناس أنه لم يفعل أكثر مِمَّا فعل سابقوه. والفرق بين الاستخلاف وولاية العهد ظاهر، فالاستخلاف يقوم على ترشيح الخليفة القائم رجلاً أو أكثر لولاية أمر الأمة بعده على أن يجتهد الخليفة في الاختيار وأن لا يكون بينه وبين المرشح صلة، أما ولاية العهد فهي ترشيح الخليفة القائم ولده أو إحدى ذوي قرباه ليتولى أمر الأمة بعده بقصد حفظ الأمر ¬

_ (¬1) " الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 9، 10،" الأحكام السلطانية " للفراء: ص 9، 10، " الملل والنحل ": جـ 4 ص 167، " المسامرة ": جـ 2 ص 171، " مقدمة " ابن خلدون ": ص 198، 200، " المواقف ": ص 606، 607، " حاشية ابن عابدين ": جـ 4 ص 408، " الخلافة ": ص 34، 35.

في أسرة الخليفة، وبغض النظر عما إذا كان المرشح صالحًا أو غير صالح. وهكذا ينظر في الاستخلاف إلى مصلحة الأمة، وينظر في ولاية العهد إلى مصلحة أسرة الخليفة، ويقوم الاستخلاف على التجرد، وتقوم ولاية العهد على المحاباة، ويرمي الاستخلاف إلى إقامة الشورى التي فرضها الله والخلافة التي يتميز بها الإسلام أما ولاية العهد فترمي إلى إقامة الملك العضوض الذي يبغضه الله، والتمكين للاستبداد والاستعلاء الذي يحرمه الإسلام. ولقد تطورت بدعة ولاية العهد أكثر من مرة فيوم ابتدعها معاوية كان العهد لشخص مكلف ولم ير معاوية بُدًّا من أن يأخذ الناس ببيعة ولي العهد طوعًا أو كرهًا مستعينًا في ذلك بالرشوة والخديعة وبما يملك من سلطان على الناس، ولكن من جاءوا بعد معاوية عهدوا إلى الأطفال وهو عهد غير صحيح وكانوا يأخذون لهم البيعة وقت العهد على أن تصحح البيعة بعد توليتهم الحكم وهو تصحيح شكلي محض فما كان ثمة من يجرؤ على مقاومة من تولى الحكم فعلاً أو يجرؤ على رفض البيعة له، وهكذا تبدأ البيعة باطلة ثم تصحح في ظل البطش والإكراه وبعد أن يتولى السطان الفعلي ذلك الذي لم تصح له بيعة، ثم تطورت ولاية العهد وتطورت حتى انتهت إلى أن يكون العهد بقانون إلى أطفال لم يولدوا بعد وإنما يعرفون بأوصافهم ودرجاتهم دون حاجة إلى بيعة في الحال أو في المستقبل.

ولقد كان للفقه أثره في تطور الاستخلاف إلى ولاية العهد، وفي تطور ولاية العهد من شكل إلى شكل آخر، فلعل بعض الفقهاء الذين باعوا الدنيا بالآخرة هم الذين أشاروا على معاوية بولاية العهد لولده يزيد وهم الذين زينوا له هذا الأمر وقربوا ما بين ولاية العهد والاستخلاف من بون شاسع، أو لعل معاوية هو الذي فكر في ولاية العهد فلما حقق ما أراد أخذ بعض الفقهاء تحت تأثير المجاملة أو الخوف يقيسون ولاية العهد بالاستخلاف وَيُحَمِّلُونَ الاستخلاف ما لا يحمله من المعاني ويرتبون عليه ما لا يترتب من النتائج ولما حاول بعض الحكام أن يعهدوا إلى الأطفال وجدوا من يفتيهم بجواز العهد إلى الأطفال، ولما حاول بعض الحكام أن يرجعوا إلى الأمة وجدوا من يفتيهم بأن عهد الحاكم يلزم الأمة وأن لا حاجة للرجوع إليها. وهكذا تضافر الحكام المسلمون وبعض الفقهاء المسلمين - وَكِلاَ الفريقين أمين على مصالح الأمة - تضافروا جميعًا على خيانة الأمة الإسلامية، وسلبها حقوقها التي فرضها الإسلام، فالإسلام يعطي للأمة حق اختيار حكامها وعزلهم، ويجعلهم بمثابة النواب عنها، ولكن الحكام وبعض الفقهاء تآمروا على الأمة الإسلامية فسلبوها كل حقوقها، وجعلوا من أفرادها عبيدًا ومن الحكام سادة يأمرون فلا يرد لهم أمر ويتصرفون في حقوق الأمة ومستقبلها وأرواح أبنائها دون حسيب ولا رقيب.

وقد شارك في هذه الخيانة جماهير المسلمين بسكوتهم على الباطل، وبرضاء بعضهم به، وبعدم ثورتهم عليه، فتمت بذلك المؤامرة الكبرى التي أوشكت أن تقضي على الإسلام، والتي عطلت سيره وأوقفت اندفاعه من مئات السنين، وخان المسلمون جميعهم - عن جهل أو عمد - الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وتعرض لحملها الإنسان على ما فيه من جهل وظلم: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72]. خان المسلمون أمانة خلافة الله في الأرض وكفروا بأنعمه عليهم، فلم يقيموا أمر الله فيما بينهم ولم يهتدوا بهديه، ولم ينتهوا عن نهيه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]. وخانوا أمانة الاستخلاف في الحكم بعد أن مكن الله لهم، فلم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة ولم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]. ونسي الحكام المسلمون أن الحكم أمانة في عنق الحاكم: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ لَضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ» (¬1). ¬

_ (¬1) سأل أبو ذر رسول الله أن يستعمله، فقال له: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ =

وخانوا الله الذي جعلهم في مركز الهداة للبشرية، المعلمين لدين الله والقائمين بدعوة الله والمتوسطين بين الأمرين يكشفون لهذا الطرف عن باطله، ولذاك الطرف عن باطله، ويدعونهما إلى الحق الذي هم عليه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. وارتكب المسلمون حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ هذه الخيانات وقد نهاهم الله عن خيانة الأمانات وحذرهم منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، فجزاهم الله المهانة في الأرض، وسلط عليهم أعداءهم يملكون بلادهم، ويتقاسمون أوطانهم، وَيَحُولُونَ بينهم وبين نعيم الحياة ونعمة الكرامة والحرية. ولقد انتهى هذا كله إلى أسوأ النهايات، فقد فسدت أداة الحكم في الدولة الإسلامية وتحولت عن غايتها التي رسمها الإسلام، وأصبحت مهمة الحكام أن يحكموا في حدود الهوى والمنفعة، وابتغاء الاستعلاء والسيطرة أو ابتغاء رضاء المستعمرين، بعد أن كان واجبهم الأول أن يحكموا في حدود الإسلام ابتغاء مصلحة الجماعة وابتغاء وجه الله. ¬

_ = وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الذِي عَلَيْهِ فِيهَا».

وحينما انفلت الحكام من حدود الدين انقلبت الموازين في أيديهم واختلطت الأوضاع عليهم، فهم لا يميزون الطيب من الخبيث ولا يعرفون الحق من الباطل ولا يفرقون بين الضار والنافع، لأنهم يتبعون أهواءهم، ويتخذون منها آلهة لهم {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان: 43]. وترتب على فساد الحكم وخروج الحكام على حدود الدين أن ابتعد الناس عن الدين، وفسدت الأخلاق، وشاعت الفاحشة، وضعف المسلمون، وتصدعت وحدتهم، وتعددت أحزابهم واتجاهاتهم، بما اتبعوا من أهوائهم، حتى أصبحت الفوضى شعارهم، والتفرق الذي نهوا عنه يميزهم عن غيرهم وحتى انتهوا إلى ما هم فيه من الاستعباد والذلة، يستعبدهم المستذلون ويغلبهم على أمرهم المشردون المغلوبون. إن الفتن والانقلابات والحروب الداخلية في داخل البلاد الإسلامية ابتداء من فتنة عثمان، وحروب الخوارج وانقلاب بني العباس حتى فتنة عُرَابِي والثورة العربية، والإنقلاب التركي والإنقلابات السورية الأخيرة، كل ذلك إنما يرجع في الحقيقة لسبب واحد هو الانحراف عن الإسلام، وإذا كان هذا الانحراف قد بدأ بما نسب إلى عثمان من إيثار بعض ذوي قرباه ببعض وظائف الدولة، وَمِنْ مَنْحِهِ بعض الناس شيئًا من مال الدولة، فإن الانحراف قد انتهى إلى أسوأ نهاية إذ

إمامة المتغلب

انتهى باستبدال الحكام بكل أمور الأمة، وبإهمال مصالحها، وبالاستعلاء عليها، وحرمانها من استعمال حق الشورى استعمالاً صحيحًا، كما انتهى بالحيف على حقوق الأفراد، والاستئثار بالأمور العامة، وإقامة أمر الأمة على الأثرة والمحاباة والظلم والجور، حتى لقد أصبحت الحكومات الإسلامية مضرب المثل في العالم كله على الظلم والإستبداد، وأصبحت الشعوب الإسلامية مضرب المثل في العالم كله على التأخر والانحطاط. إِمَامَةُ المُتَغَلِّبِ: ويرى بعض الفقهاء أن الإمامة تثبت أيضًا بطريق التغلب كما تثبت باختيار أهل الرأي، ويسمون هذا النوع من الإمامة بإمامة المتغلب أو إمامة الضرورة لأنها تقبل تحت تأثير الضرورة خشية الفتنة ونتيجة لتغلب شخص ذي عصبية على الحكم (¬1)، ويرتبون على التغلب طاعة المتغلب والاعتراف بإمامته ولو لم تتوفر فيه شروط الإمامة إذا كان في صرفه عن الإمامة فتنة لا تطاق، فإن لم يترتب على صرفه فتنة أو كان في صرفه أخف الضررين وجب صرفه عن الإمامة وإخراجه منها. ويمثل الفقهاء لإمامة المتغلب بما حدث من عبد الملك بن مروان حين خرج على عبد الله بن الزبير فقتله، واستولى على ¬

_ (¬1) " المسامرة ": جـ 2 ص 168، " الأحكام السلطانية " للفراء: ص 7.

البلاد، وحمل أهلها على مبايعته طوعًا وكرهًا وعلى أن يدعوه إمامًا. ويشبه البعض إمامة المتغلب بأكل الميتة ولحم الخنزير عند الضرورة ويرى أن السعي واجب دائمًا لإزالتها عند الإمكان ولا يجوز أن توطن الأنفس على دوامها (¬1). ولقد قبل الفقهاء إمامة المتغلب اتقاء للفتنة وخشية الفرقة، ولكنها أدت إلى أشد الفتن وإلى تفريق الجماعة الإسلامية وإضعاف المسلمين وهدم قواعد الإسلام ولو علم الفقهاء الذين أجازوا ما سوف تؤدي إليه لما أجازوها لحظة واحدة، فالمتغلب الذي يطلب السلطان على الأمة من غير طريق الشورى إنما هو رجل لا يؤمن بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، ومن كان لا يؤمن بقول الله فليس أهلاً لولاية أمر المسلمين، فما يقوم أمر المسلمين إلا على إقامة أمر الله، والمتغلب الذي تسلط على المسلمين بما ينافي أمر الله ليرضي أهواء نفسه لن يتأخر عن إرضاء نفسه في كل وقت وعلى حساب أمر الله كلما نازعه إلى ذلك هواه. إن المسلمين رضوا بولاية العهد، وبإمامة المتغلب، وبالسكوت على الأئمة الظلمة والفسقة، وكان رضاؤهم يرجع إلى الخشية من الفتنة، وما علموا أنهم في الفتنة سقطوا بما رضوا من الخروج على أمر الله، وبما سكتوا عن إقامة أمر الله. ¬

_ (¬1) " الخلافة ": ص 37، 38.

إن الفتنة كل الفتنة هي الرضا بالخروج على أمر الله، وإقامة أمور الدنيا أو الدين على غير ما أقامها الله، وما يصح لمسلم ولا مسلمة أن يرضى بغير ما رضيه الله، أو يتقاعد عن إقامة أمر الله ففيم جاء الإسلام وعلام جالد المسلمون الأوائل وفتنوا وعذبوا وقتلوا إن كان خوف الفتنة مِمَّا يقبض أيدي المسلمين عن إقامة الإسلام ويرضيهم بأوضاع لا تتفق مع الأوضاع التي يفرضها الإسلام؟ إن كل وضع مخالف للإسلام يجب أن يزول مهما كلف ذلك من تضحية لأن في ذلك إقامة للإسلام والله قد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ليقيموا بها الإسلام، فما يملكون أن يتأخروا عن تضحية أموالهم وأولادهم وأنفسهم في ذلك السبيل.

مركز الخليفة أو الإمام في الأمة

مَرْكَزُ الخَلِيفَةِ أَوْ الإِمَامِ فِي الأُمَّةِ: الخَلِيفَةُ فَرْدٌ يَنُوبُ عَنْ الأُمَّةِ: علمنا مِمَّا سبق أن البشر جميعًا مستخلفون في الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وظاهر النص أنهم استخلفوا في الأرض واستعمروا فيها بصفتهم الآدمية لا بأية صفة أخرى، وهم في صفة الآدمية سواء لا فرق بين صغيرهم وكبيرهم ولا غنيهم وفقيرهم. ولما كان الخليفة أحد أبناء آدم فهو لايزيد من هذه الوجهة عن أي آدمي آخر. وعلمنا أيضًا أن استخلاف البشر في الأرض معناه النيابة عن الله - عَزَّ وَجَلَّ - وأن البشر مكلفون بالقيام على أمره ونهيه {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]. ولكن البشر بطبيعة الحال لا يستطيعون أن يقيموا أمر الله على ما ينبغي إذا كانوا أفرادًا

لا تربطهم رابطة ولا يجمعهم سلطان يخضع له قويهم ويفيء إليه ضعيفهم، فاقتضى أمر أن يقيموا لهم حكومة تفصل في مشاكلهم وتنوب عنهم جميعًا في إقامة أمرهم في حدود ما أنزل الله. وقد أقام القرآن أمر المسلمين كله على الشورى فأمر الله ورسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يشاورهم في الأمر {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وهو غني بالوحي، وبالتوجيه الإلهي عن مشورتهم، وكان الرسول يشاورهم في كل أمورهم إلا فيما كان يوحى إليه من ربه وهو في الغالب خاص بالتشريع، حتى لقد كان الرسول يشاورهم في تأمير الأمراء ولا يقطع ذلك دونهم وهو رئيس الدولة، يدل على ذلك ما روي عنه من قوله «لَوْ كُنْتُ مُؤَمِّرًا أَحَدًا دُونَ مَشُورَةِ المُؤْمِنِينَ، لأَمَّرْتُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ» كذلك جعل القرآن الشورى من لوازم الإيمان حيث جعلها صفة من الصفات اللاصقة بالمؤمنين والمميزة للجماعة الإسلامية {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]. فلا يكمل إيمان المسلمين إلا بقيام الشورى فيهم، ولا يجوز لجماعة مسلمة أن تقيم أو ترضى إقامة أمرها على غير الشورى. وأهم المسلمين وأحقها بالشورى هو أمر الحكم، فإذا ما أوجبت ظروف الأحوال وطبائع الأشياء أن يقيم

المسلمون لأنفسهم حكومة فقد وجب أن تقوم على الشورى، وعن طريق الشورى، فيختار أصحاب الرأي من المسلمين حكامها، ويلتزم الحكام في مباشرة شؤون الحكم أن يرجعوا إلى أهل الشورى في كل ما يقتضي الرجوع إلى الأمة أو الاستئناس برأيها فيه. ووظيفة الحكومة الإسلامية هي كما علمنا القيام على أمر الله وسياسة أمور الدولة في حدود ما أنزل الله وهي الوظيفة نفسها التي يجب على كل فرد أن يقوم بها باعتباره مستخلفًا في الأرض استخلافًا عامًا، فكل فرد عليه أن يقيم أمر الله وأن يوجه أموره في حدود ما أنزل الله أي عليه أن يهتدي بهدى الله وينتهي عما نهى عنه الله. وإذا كانت الجماعة تختار الحكومة لتقوم بالواجب المفروض على الأفراد نفسه فالحكومة تعتبر نائبة عن الجماعة كلها وعن كل فرد منها. وإذا كان رئيس الحكومة هو ممثلها والنائب عنها فالرئيس في الدولة الإسلامية وهو الخليفة أو الإمام الأعظم يعتبر نائبًا عن الأمة الإسلامية كلها وممثلاً عنها. فسلطان الخليفة أو الإمام الأعظم مستمد من النيابة عن الأمة الإسلامية، ومدى هذا السلطان يرجع فيه إلى الأمة التي منحته النيابة عنها والتي يمثلها، وتستطيع الأمة بما لها من حق اختيار النائب عنها أن توسع هذا السلطان أو تضيق فيه أو تقيده

بقيود كلما رأت في ذلك مصلحة عامة أو ضمانًا لحسن القيام على أمر الله وعدم الخروج عليه. وإذا وسعت الأمة في سلطان خليفة ما فإن ذلك لا يقيدها بالنسبة لغيره فلها أن تضيق في سلطان من يخلفه، ولها أن تقيد سلطانه بقيود معينة، وليس له أن يحتج بما منح الخلفاء قبله من سلطان واسع، فما هو إلا نائب عن الأمة، والنائب مقيد في سلطانه بأمر من أنابه ليس له أن يخرج عنه. فمركز الخليفة أو الإمام الأعظم في الأمة الإسلامية هو مركز النائب عنها، لا المتسلط عليها، والمنفذ لأمرها لا المستبد به، وكل أعمال الخليفة أو الإمام تقوم على أساس نيابته عن الأمة، فما جاء منها داخلاً في حدود نيابته، موافقًا لرأي الأمة فهو صحيح واجب الاحترام، وما جاء خارجًا على حدود النيابة، أو مُهْمِلاً لرأي الأمة، فهو باطل بطلانًا لا شك يجعله لا يستحق الاحترام ولا تجب له الطاعة. والخليفة أو الإمام الأعظم لا يستطيع بطبيعة الحال أن يقوم بشؤون الأمة وحده ما دامت الأمة قد أنابته عنها في القيام بكل شؤونها فله أن يستعين بغيره فيما لا يستطيع أن يقوم به بنفسه، له أن يستعين بوزراء ومديرين وقضاة وموظفين من كل نوع ويعين لكل منهم العمل الذي يقوم به، وهؤلاء إن اعتبروا نوابًا عن الخليفة فإنهم يعتبرون أيضًا نوابًا عن الأمة بمجرد تعيينهم في وظائفهم، وله هو الإشراف عليهم باعتباره

الإسلام لا يقدس الخلفاء

ممثل الدولة ونائب الأمة الأول، ويترتب على اعتبارهم نوابًا عن الأمة أنهم لا ينعزلون بعزل الخليفة أو موته، ولو كانوا نوابًا عن الخليفة دون الأمة لانعزلوا بعزله وبموته. ويترتب أيضًا على اعتبارهم نوابًا عن الأمة أنه لا يجوز للخليفة أن يعزلهم ما داموا قائمين بعملهم على وجهه الصحيح. ويعتبر الموظفون نوابًا عن الأمة شرعًا بالرغم من أن الخليفة هو الذي اختارهم، لأنه اختارهم بصفته نائبًا عن الأمة، واختارهم ليعملوا للأمة لا له، ولأن وجودهم ضروري للقيام على أمر الأمة، ولا يغني وجود الخليفة عن وجودهم شيئًا. الإِسْلاَمُ لاَ يُقَدِّسُ الخُلَفَاءَ: ورئيس الدولة الإسلامية وهو القائم على أمر الإسلام لا يعفيه الإسلام من أخطائه، ولا يخفف من مسؤوليته، ولا يميزه عن أي شخص، ولذلك كان الخلفاء والأئمة أشخاصًا لا قداسة لهم ولا يتميزون على غيرهم، وإذا ارتكب أحدهم جريمة عوقب عليها كما يعاقب أي فرد آخر يرتكبها. ولقد كان الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو نبي ورئيس دولة لا يدعي لنفسه قداسة ولا امتيازًا، وكان يردد قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [فصلت: 6]، وقوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: 93]. وكان قدوة حسنة لخلفائه وللمسلمين في توكيد المساواة بين الحكام والمحكومين ورؤساء الدول والرعايا. دخل عليه

أعرابي فأخذته هيبة الرسول، فقال - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَأْكُلُ القَدِيدَ» وتقاضاه غريم له دينًا فأغلظ عليه، فَهَمَّ بِهِ عمر بن الخطاب، فقال الرسول: «مَهْ يَا عُمَرُ كُنْتَ أَحْوَجَ إِلَى أَنْ تَأْمُرَنِي بِالوَفَاءِ وَكَانَ أَحْوَجَ إِلَى أَنْ تَأْمُرَهُ بِالصَّبْرِ» (¬1). وخرج أثناء مرضه الأخير بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب حتى جلس على المنبر، ثم قال: أَيُّهَا النَّاسُ، ... مَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ أَخَذْتُ لَهُ مَالاً فَهَذَا مَالِي فَلْيَأْخُذْ مِنْهُ، وَلاَ يَخْشَ الشَّحْنَاءَ مِنْ قِبَلِي، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَأْنِي، أَلاَ وَإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ مَنْ أَخَذَ مِنِّي حَقًّا إِنْ كَانَ لَهُ، أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ رَبِّي وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ». ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى المِنْبَرِ، فَعَادَ لِمَقَالَتِهِ الأُولَى (¬2). وكان يكره أن يتميز على المسلمين، من ذلك أنه كان يطوف بالبيت، فأتى السقاية فَقَالَ: «اسْقُونِي»، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا يَخُوضُهُ النَّاسُ، وَلَكِنَّا نَأْتِيكَ بِهِ مِنَ البَيْتِ، فَقَالَ: «لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ، اسْقُونِي مِمَّا يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ»، وكان يكره أن يوصف بغير ما وصفه الله به من أنه بشر رسول، ويحذر المسلمين من أن يطروه فيقول لهم: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ¬

_ (¬1) " زاد المعاد ": جـ 1 ص 59، " التشريع الجنائي الإسلامي ": ص 317 وما بعدها. (¬2) " الكامل " لابن الأثير: جـ 2 ص 132.

عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ». وجاء خلفاء الرسول فنسجوا على منواله، واهتدوا بهديه، فهذا أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يصعد المنبر بعد أن بويع بالخلافة فتكون أول كلمة يقولها توكيدًا لمعنى المساواة، ونفيًا لمعنى الامتياز. قال: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي». وهذا عمر بن الخطاب يولى الخلافة فيكون أشد تمسكًا بهذه المعاني حتى أنه ليرى قتل الخليفة الظالم، خطب يومًا فقال: «لَوَدِدْتُ أَنِّي وَإِيَّاكُمْ فِي سَفِينَةٍ فِي لُجَّةِ البَحْرِ تَذْهَبُ بِنَا شَرْقًا وَغَرْبًا، فَلَنْ يَعْجِزَ المُسْلِمُونَ أَنْ يُوَلُّوا رَجُلاً مِنْهُمْ فَإِنْ اسْتَقَامَ اتَّبَعُوهُ وَإِنْ جَنَفَ قَتَلُوهُ، فَقَالَ طَلْحَةُ:" وَمَا عَلَيْكَ لَوْ قُلْتَ وَإِنْ تَعَوَّجَ عَزَلُوهُ؟ قَالَ: لاَ، القَتْلُ أَنْكَى لِمَنْ بَعْدَهُ "» (¬1). وأعطى أبو بكر القود من نفسه، وأقاد للرعية من الولاة، وفعل عمر بن الخطاب مثل ذلك وتشدد فيه، فأعطى القود من نفسه أكثر من مرة، ولما قيل له في ذلك قال: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي القَوَدَ مِنْ نَفْسِهِ , وَأَبَا بَكْرٍ يُعْطِي القَوَدَ مِنْ نَفْسِهِ , وَأَنَا أُعْطِي القَوَدَ مِنْ نَفْسِي». وأخذ عمر الولاة بما أخذ به نفسه، فما ظلم وَالٍ رَعِيَّتَهُ إلا قاد من الوالي للمظلوم وأعلن على رؤوس الأشهاد مبدأه ¬

_ (¬1) " التشريع الجنائي الإسلامي ": جـ 1 ص 318.

هذا في موسم الحج، حيث طلب من ولاة الأمصار أن يوافوه في الموسم، فلما اجتمعوا خطبهم وخطب الناس قال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي مَا أُرْسِلُ عُمَّالاً عَلَيْكُمْ لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ، وَلاَ لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ، وَإِنَّمَا أُرْسِلُهُمْ إِلَيْكُمْ لِيُعَلِّمُوكُمْ دِينَكُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، فَمَنْ فُعِلَ بِهِ شَيْءٌ سِوَى ذَلِكَ فَلْيَرْفَعْهُ إِلَيَّ، فَوَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لأَقُصَّنَّهُ مِنْهُ، فَوَثَبَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ، فَقَالَ: " يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى رَعِيَّةٍ، فَأَدَّبَ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ، أَئِنَّكَ لَتَقُصَّنَّهُ مِنْهُ؟ قَالَ: إِي وَالذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ، إِذًا لأَقُصَّنَّهُ مِنْهُ، وَكَيْفَ لاَ أَقُصُّهُ مِنْهُ!، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُصُّ مِنْ نَفْسِهِ» (¬1). ولقد جرى العمل، يوم كان المسلمون لا يعرفون لهم قانونًا إلا الشريعة الإسلامية، على أن يتحاكم الخلفاء والملوك والولاة إلى القضاء العادي، وأن يحاكموا أمامه، فهذا علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يفقد درعا في خلافته ويجدها مع يهودي يَدَّعِي ملكيتها، فيرفع الأمر إلى القاضي ليحكم لصالح اليهودي ضد علي أمير المؤمنين وخليفتهم. وهذا هو المغيرة والي الكوفة يتهم بالزنا، فيحاكم على الجريمة المنسوبة إليه بالطريق العادي، ولا ينقذه من العقوبة إلا أن الدليل لم يكن كافيًا لاثبات التهمة. ويقص علينا التاريخ أن المأمون اختصم مع رجل بين يدي ¬

_ (¬1) المرجع السابق: ص 319.

يحيى بن أكثم قاضي بغداد، فدخل المأمون إلى مجلس يحيى وخلفه خادم يحمل طنفسه لجلوس الخليفة، فرفض يحيى أن يميز الخليفة عن أفراد رعيته، وقال: يا أمير المؤمنين لا تأخذ على صاحبك شرف المجلس دونه، فدعا المأمون للرجل بطنفسة أخرى. وبعض الخصومات التي كانت تثور بين الخليفة والولاة والأفراد كانت تفض بطريق شرعي بحت هو التحكيم، «كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَقَدْ أَخَذَ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ عَلَى سَوْمٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلاً فَعَطِبَ، فَخَاصَمَ الرَّجُلُ عُمَرَ, فَقَالَ عُمَرُ: " اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ رَجُلاً " , فَقَالَ الرَّجُلُ: فَإِنِّي أَرْضَى بِشُرَيْحٍ العِرَاقِيِّ , فَقَالَ شُرَيْحٌ لِعُمَرَ: أَخَذْتَهُ صَحِيحًا سَلِيمًا وَأَنْتَ لَهُ ضَامِنٌ حَتَّى تَرُدَّهُ صَحِيحًا سَلِيمًا» , وَكَانَ هَذَا الحُكْمُ الذِي صَدَرَ مِنْهُ ضِدَّ عُمَرَ هُوَ الذِي حَفَزَ عُمَرَ لِتَعْيِينِ شُرَيْحٍ قَاضِيًا (¬1). وفقهاء الشريعة الإسلامية وإن كانوا يشترطون في الإمام أو الخليفة شروطًا لا تتوفر في كل شخص إلا أنهم يسوونه بجمهور الناس أمام الشريعة، ولا يميزونه عنهم في شيء، وهم يستندون في هذه التسوية إلى قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. وإلى قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ المُشْطِ ¬

_ (¬1) المرجع نفسه: ص 320.

الوَاحِدِ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلاَّ بِالتَّقْوَى» وإلى ما ثبت عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه رؤي وهو يقص من نفسه، وإلى أن نصوص الشريعة في العقوبات وغيرها جاءت عامة فتسري على الجميع دون استثناء. ولكن الفقهاء بالرغم من اتفاقهم على ما سبق اختلفوا في عقاب الخليفة والإمام الأعظم في بعض الجرائم، واتفقوا على عقابه في بعضها الآخر ولهم في ذلك نظريتان: النظرية الأولى: وهي نظرية أبي حنيفة، وخلاصتها أن الجرائم التي تمس حقوق الجماعة كالزنا والشرب لا يعاقب عليها الخليفة، لا لأنه معفى من العقاب ولكن لتعذر إقامة العقوبة عليه، إذ أنه صاحب الولاية على غيره وليس لغيره ولاية عليه حتى يقيم عليه العقوبة، وإذا كانت ولاية العقاب للإمام والخليفة في الجرائم التي تمس حقوق الجماعة، فلا يعقل أن يعرض الإمام نفسه للخزي والنكال بإقامة الحد على نفسه، وإذا امتنع تنفيذ العقوبة فقد امتنع الواجب وهو العقاب، وإذا امتنع الواجب لم يعد واجبًا. فالفعل المحرم في رأي أبي حنيفة يظل محرمًا ويعتبر جريمة ولكن لا يعاقب عليه لعدم إمكان العقاب. ويترتب على اعتبار الفعل محرمًا أن الإمام لو زنا وهو محصن فقتله أي فرد من الأفراد فإن القاتل لا يعاقب على القتل لأنه قتل شخصًا مباح الدم، إذ أن الزنا من محصن عقوبته الموت،

ولما كانت عقوبة الزنا من الحدود، والحدود لا يجوز تأخيرها ولا العفو عنها، فإن قتل الزاني المحصن يعتبر واجبًا لا بد منه إزالة للمنكر وتنفيذًا لحدود الله، فمن يقتل الزاني المحصن يؤدي واجبًا عليه ومن ثم فلا يمكن اعتباره قاتلاً (¬1). أما الجرائم التي تمس حقوق الأفراد كالقتل والجرح فيرى أبو حنيفة أن الخليفة يؤخذ بها ويعاقب عليها، لأن حق استيفاء العقوبة ليس له أصلاً وإنما هو للمجني عليهم وأوليائهم، وإذا قام الخليفة بتنفيذ العقوبة فإنما يقوم به نيابة عن الأفراد، فإذا ارتكب الخليفة جريمة من هذا النوع كان للأفراد، أصحاب الحق الأصلي في استيفاء العقوبة، أن يستوفوها من الخليفة مستعينين في ذلك بالقضاء وبالجماعة وإذا استوفى الأفراد العقوبة الواجبة من غير طريق القضاء كأن قتلوا الخليفة اقتصاصًا لقتله شخصًا آخر فلا حرج عليهم لأنهم فعلوا ما هو حقهم. على أن بعض الحنفيين يرون أن الخليفة إذا ولى قاضيًا للحكم في كل الجرائم كان من حق القاضي أن يأخذ الخليفة بكل جريمة ارتكبها سواء أمست حقًا لله أم حقًا للأفراد (¬2). ويؤخذ على نظرية أبي حنيفة أنها تقوم على أساس ضعيف، لأن الخليفة أو الإمام ليس إلا نائبًا عن الجماعة، ولأن الخطاب ¬

_ (¬1) " شرح فتح القدير ": جـ 4 ص 160، 161، " البحر الرائق ": جـ 5 ص 187، " حاشية الطهطاوي ": جـ 4 ص 260. (¬2) " شرح فتح القدير ": جـ 4 ص 161.

في التشريع الإسلامي موجه للجماعة وليس للخليفة أو الإمام، وإنما أقامت الجماعة الخليفة ليقيم أحكام الشريعة نيابة عن الجماعة، فإذا ارتكب الإمام جريمة كان للجماعة - وهي صاحبة الحق الأول - أن تعاقبه على ما فعل تنفيذًا لما هي مخاطبة به ومسؤولة عنه. ويستطيع القاضي المختص بنظر الجريمة أن يحكم على الخليفة أو الإمام بعقوبتها ولو كان الخليفة الذي ارتكب الجريمة هو الذي عين القاضي، لأن الخليفة عينه باعتباره نائبًا عن الجماعة فهو قاض ينوب عن الجماعة ولا ينوب عن الخليفة، ويستمد سلطانه من الجماعة لا من الخليفة الذي عينه. النظرية الثانية: وهي النظرية التي يقول بها جمهور الفقهاء وخصوصًا مالك والشافعي وأحمد وأصحاب المذهب الظاهري فهؤلاء جميعًا لا يفرقون بين جريمة وجريمة ويرون الخليفة أو الإمام مسؤولاً عن كل جريمة يرتكبها سواء تعلقت بحق الله أو بحق للفرد، لأن النصوص عامة، والجرائم محرمة على الكافة بما فيهم رئيس الدولة فيعاقب عليها من يرتكبها ولو كان الخليفة، ولا ينظر هؤلاء الفقهاء إلى إمكان تنفيذ العقوبة كما يفعل أبو حنيفة لأن تنفيذ العقوبات ليس للخليفة وحده وإنما له باعتباره نائبًا عن الأمة ولنوابه الذين يعتبرون أيضًا نوابًا عن الأمة، فإذا ارتكب الخليفة جريمة وحكم عليه

مدة الخلافة

بعقوبتها نفذ عليه العقوبة أحد من ينوبون عنه وعن الأمة ممن لهم حق تنفيذ تلك العقوبة (¬1). مُدَّةُ الخِلاَفَةِ: وإذا كان الخليفة يعتبر شرعًا نائبًا عن الأمة في إقامة أمر الله وفي القيام على شؤون الأمة في حدود أمر الله وكان هذان العملان واجبين على الأمة بصفة دائمة، فإن نيابة الخليفة عن الأمة ليست موقوتة بمدة معينة، ولكنها تمتد ما طال عمر الخليفة وكان قادرًا على مباشرة عمله ولم يأت بما يستوجب عزله من النيابة، إذ لا معنى لتحديد مدة نيابة الخليفة ما دامت واجبة، وما دام هو قادرًا عليها صالحًا للقيام بشؤونها. ولقد جرت السوابق الإسلامية على أن يبقى الخليفة في منصبه مدى حياته ما لم يرغب هو في اعتزال المنصب كما فعل الحسن بن علي ومعاوية بن يزيد، أو لم يعزل من منصبه لسبب ما كما عزل ابراهيم بن الوليد ومروان بن محمد الأمويان. والواقع الذي تؤيده التجارب التاريخية أن بقاء الخليفة في ¬

_ (¬1) " المدونة ": جـ 16 ص 57، " مواهب الجليل ": جـ 6 ص 242، 296، 297، " الإقناع ": جـ 4 ص 244، 245، " الشرح الكبير ": جـ 9 ص 342، 343، " المهذب ": جـ 2 ص 189، " الأم ": جـ 6 ص 36، " فقه القرآن والسنة ": ص 97، " المحلى ": ص 361، 362، " الملل والنحل ": جـ 4 ص 175، 176.

عزل الخليفة

منصبه إلى وفاته يؤدي إلى استقرار أمور الأمة وَيَحُولُ دون الخلاف على شخص الخليفة أو التنافس على منصب الخلافة إلا للضرورة القصوى، ويحصر هذه الضرورة في حالات ثلاث هي: حالة الموت وحالة العزل وحالة الاستقالة، والحالتان الأخيرتان نادرتان. وليس ثمة نصوص صريحة توجب أن يكون الخليفة في منصبه إلى وفاته، ولكن إجماع الأمة على هذا يقوم مقام النص، لأن الإجماع من مصادر الشريعة الإسلامية. عَزْلُ الخَلِيفَةِ: وإذا كان من حق الخليفة أن يبقى في منصبه طول حياته فإن من حق الأمة أن تعزله إذا تغير حاله، لأن اختياره للخلافة مشروط بتوفر شروط معينة فيه، فإذا ظلت هذه الشروط قائمة فيه فهو قائم في منصبه، وإذا انتفت عنه كان أهلاً لأن ينفى عن المنصب. وتتغير حال الخليفة أو الإمام الأعظم إما بجرح في عدالته أو بنقص في بدنه على ما يرى أبو الحسن الماوردي. الجَرْحُ فِي العَدَالَةِ: هو الفسق، وهو على ضربين: أحدهما ما تابع فيه

الشهوة، والثاني ما تعلق فيه بشبهة (¬1). فالأول متعلق بأفعال الجوارح، وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيمًا للشهوة وانقيادًا للهوى كالزنا وشرب الخمر والغصب، فهذا نوع من الفسق يمنع من انعقاد الإمامة ويمنع من استدامتها، وإذا طرأ على من انعقدت له الإمامة انعزل بفسقه، فإذا عاد إلى العدالة لم يعد للإمامة إلا بعقد جديد على رأي الماوردي وبعض الفقهاء، وإن كان من يرى أنه يعود للإمامة دون عقد ولا بيعة ما دام يعزل فعلاً. أما الضرب الثاني من الفسق فمتعلق بالاعتقاد والمتأول بشبهة تعترض فيتناول لها خلاف الحق، ومن رأي الماوردي وغيره أن فسق الاعتقاد حكمه حكم فسق الجوارح يمنع من انعقاد الإمامة ويمنع من استدامتها، على حين يرى بعض علماء البصرة أن الفسق المتعلق بالاعتقاد لا يؤدي إلى عزل الإمام، بل هناك من يرى أن الفسق بنوعيه لا يترتب عليه العزل ما لم يكن كفرًا. وقد استدل من قال بعزل الخليفة بالكفر دون المعصية بحديث عُبادة بن الصامت قال: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -, عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا , وَأَثَرَةً عَلَيْنَا , وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا , عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ». ¬

_ (¬1) " الأحكام السلطانية ": ص 16.

والقائلون بالعزل يرون أن المقصود بالكفر هو المعصية، خصوصًا وقد ذكرت روايات أخرى للحديث بلفظ المعصية والإثم بدل الكفر، فما دام الخليفة أو الإمام قد أتى منكرًا محققًا يعلمه الناس من قواعد الإسلام فلهم أن ينكروا ذلك، وأن يتنازعوا ولاة الأمر في ولايتهم وأحقيتهم لها (¬1). وجمهورا لفقهاء يرون، كقاعدة عامة، أن للمسلمين عزل الخليفة للفسق، ولأي سبب آخر يوجب العزل، مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين كما كان لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها. وإذا كانت القاعدة عند جمهور الفقهاء أن للأمة خلع الخليفة أو عزله بسبب يوجبه، إلا أنهم اختلفوا في حالة ما إذا استلزم العزل فتنة، فرأى فريق أن يعزل الخليفة لسبب يوجبه ولو أدى ذلك إلى فتنة، ورأى فريق أنه إذا أدى العزل لفتنة احتمل أدنى المضرتين، ورأى الفريق الثالث أن لا يعزل الخليفة إذا استلزم العزل فتنة ولو أنه مستحق العزل بفعله (¬2). ¬

_ (¬1) " نيل الأوطار ": جـ 7 ص 81 وما بعدها، " الخلافة ": ص 38 وما بعدها، " الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 16، " الأحكام السلطانية " للفراء: ص 4، " المسامرة ": جـ 2 ص 167. (¬2) " شرح الزرقاني ": جـ 8 ص 60. " حاشية ابن عابدين ": جـ 3 ص 429، " أسنى المطالب " و" حاشية الرملي ": جـ 4 ص 111، " كشاف القناع ": جـ 4 ص 95، " المواقف ": ص607، " الملل والنحل ": جـ 4 ص 175، 176، " المحلى ": جـ 4 ص 175، 176 و " المحلى ": جـ 9 ص 361، 362.

ونرى أن أصح هذه الآراء الثلاثة هو الرأي الأول الذي يرى عزل الخليفة للفسق ولأي سبب آخر يوجب العزل ولو أدى العزل إلى فتنة، لأن هذا الذي سيؤدي إليه العزل ليس في حقيقته فتنة، وإنما حركة إصلاح وإعلاء لكلمة الحق وتمكين للإسلام وقطع لدابر الفساق، وما الفتنة إلا في إتيان الخليفة ما يوجب العزل والسكوت عليه، فتلك هي الفتنة التي إذا لم يوصد بابها تفتح منها كل يوم باب والتي تنتهي دون شك بالقضاء على الإسلام، وكل مسلم مطالب بإقامة الإسلام وحفظه. ولقد دعا أصحاب الرأيين الأخيرين إلى ما اتجهوا إليه ما صح عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حثه على ترك قتال الأئمة والخلفاء، وعلى عدم مفارقة الجماعة، مثل قوله: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا، فَمَاتَ، فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» وقوله: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ»، قَالُوا: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لاَ، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ، لاَ، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ، أَلاَ مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلاَ يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» (*) ومثل حديث عبادة بن الصامت وقد أوردناه فيما سبق. وهذه الأحاديث يجب ألا تؤخذ على ظاهرها. وأن تفسر على هدى ما أوجبه القرآن والأحاديث الأخرى على كل مسلم من إقامة الإسلام والجهاد ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر " الجامع الصحيح " للإمام مسلم، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي: (33) كتاب الإمارة (17) باب خيار الأئمة وشرارهم، حديث رقم 1855، 3/ 1482. الطبعة الثانية: 1972 م، نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان.

في إقامته بالنفس والمال، وعدم موادة من يكره الإسلام ويعمل على إضعافه، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقتال الباغين فإذا فسرت هذه الأحاديث على هذا الوجه كان معناها وجوب الصبر على الأئمة فيما لا يضر بالإسلام وعامة المسلمين، وفيما لا يمس التحليل والتحريم، وفيما يستطاع فيه حمل الأئمة بالحسنى على التزام الحق والرجوع إليه. ولقد استعرض ابن حزم هذه الأحاديث وغيرها مِمَّا يماثلها وَبَيَّنَ أنها لا تؤدي لما فهمه بعض الفقهاء منها، وأن من الواجب على المسلمين «إذا وقع شيء من الجور ولو قل أن يكلموا الإمام في ذلك ويمنعوه منه، فإن اقتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء، ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه وهو إمام كما كان لا يحل خلعه، فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع» (¬1). ولو أننا أخذنا رأي الفقهاء القائلين باحتمال أدنى المضرتين إذا أدى العزل لفتنة وفسرنا هذا الرأي على ضوء التجارب التاريخية وعلى الواقع الذي يعيش فيه السلام لتبين لكل ذي ¬

_ (¬1) " الملل والنحل ": جـ 4 ص 171 - 176.

نقص البدن

بصر أن أدنى المضرتين في كل الأحوال هي العزل ولا شيء غيره، إذ أن عدم العزل يؤدي إلى الإضرار بالإسلام وإضعاف سلطانه وتلك المضرة العظمى بلا جدال. وأخيرًا قد انتهينا إلى عصر أصبحت فيه الكلمة للشعوب ولم يعد فيه لرؤساء الدول سلطان أمام سلطان الأمة، فلم يعد ثمة محل للخوف من أن تصاحب العزل فتنة إذا رأت الأمة الإسلامية عزل الخليفة لم يعد هناك محل إلا لرأي واحد هو رأي جمهور الفقهاء الذين يجمعون على عزل الخليفة أو الإمام كلما أتى عملاً يستوجب عزله، وهو رأي الفريق الأول من جمهور الفقهاء الذي يقول بعزل الخليفة لسبب يستوجب العزل أيا كانت الظروف والأحوال. نَقْصُ البَدَنِ: أما ما يطرأ على الخليفة فيغير حالة ويدعو إلى عزله فينقسم ثلاثة أقسام على ما يرى الماوردي والفراء: الأول: نقص الحواس: ومنه ما يمنع عقد الإمامة أو استدامتها وهو زوال البصر أما الصمم والخرس فيمنعان من عقد الإمامة ولكن اختلف في منعها من استدامتها. الثاني: فقد الأعضاء ومنه ما يمنع من عقد الإمامة ومن استدامتها وهو ما يمنع العمل كذهاب اليدين أو يمنع من

النهوض كذهاب الرجلين، واختلف فيما منع من بعض العمل وبعض النهوض، فقيل يمنع من استدامة الإمامة، وقيل لا يمنع. الثالث: نقص التصرف: وهو نوعان حجر وقهر. فأما الحجر فهو أن يستولي عليه أحد أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصيته ولا مجاهرة بمشاقة، فلا يمنع ذلك من إمامته ولكن ينظر في أفعال من استولى على أموره فإن كانت جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل جاز إقراره عليها، وإن كانت أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل لم يجز إقراره عليها، ولزمه أن يستنصر من يقبض يده ويزيل تغلبه. وأما القهر فهو أن يصير مقهورًا في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه فيمنع ذلك من عقد الإمامة له لعجزه عن النظر في أمور المسلمين ويمنع من استدامتها لليأس من خلاصة وللأمة فسحة في اختيار غيره (¬1). وإذا كان هذا هو ما يراه الماوردي والفراء فإن ابن حزم يرى أنه «لا يضر الإمام أن يكون في خلقه عيب كالأعمى والأصم والأجدع والأحدب، والذين لا يدان له ولا رجلان، ومن بلغ الهرم ما دام يعقل ولو أنه ابن مائة عام، ومن يعرض ¬

_ (¬1) " الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 15 - 20، " الأحكام السلطانية " للفراء: ص 4 - 6.

له الصرع ثم يفيق، ومن بويع إثر بلوغه الحلم وهو مستوف لشروط الإمامة، فكل هؤلاء إمامتهم جائزة إذ لم يمنع منها نص القرآن ولا سنة ولا إجماع ولا نظر ولا دليل أصلاً، بل قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] فمن قام بالقسط فقد أدى ما أمر به. ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها، ولا في أنها لا تجوز لمن لم يبلغ» (¬1). ¬

_ (¬1) " الملل والنحل ": جـ 4 ص 167.

الشورى

الشُّورَى: الشُّورَى مِنَ الإِيمَانِ: الشورى دعامة من دعائم الإيمان، وصفة من الصفات المميزة للمسلمين، سَوَّى اللهُ بينها وبين الصلاة والإنفاق في قوله: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]. فجعل للاستجابة لله نتائج وَبَيَّنَ لنا أبرزها وأظهرها، وهي إقامة الصلاة والشورى والإنفاق. وإذا كانت الشورى من الإيمان فإنه لا يكمل إيمان قوم يتركون الشورى، لا يحسن إسلامهم إذا لم يقيموا الشورى إقامة صحيحة. وما دامت الشورى صفة لازمة للمسلم لا يكمل إيمانه إلا

بتوفرها، فهي إذن فريضة إسلامية واجبة على الحاكمين والمحكومين، فعلى الحاكم أن يستشير في كل أمور الحكم والإدارة والسياسة والتشريع، وكل ما يتعلق بمصلحة الأفراد أو المصلحة العامة وعلى المحكومين أن يشيروا على الحاكم بما يرونه في هذه المسائل كلها، سواء استشارهم الحاكم أو لم يستشرهم. ولقد أوجب الله على رسوله - وهو الذي ينزل عليه الوحي بالتشريع والتوجيه وحل المشكلات - أن يستشير المسلمين فقال - جَلَّ شَأْنُهُ - {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. فأمره أمرًا جازمًا بأن يستشيرهم، وما أمر الله نبيه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشورة من الفضل، وأن يحملهم على الاقتداء بالرسول، وأن يرفع من أقدارهم بإشراكهم في الحكم، وتعويدهم على مراقبة الحكام، وأن يَحُولَ بين الحكام والاستئثار بالحكم والتعالي على الناس. وروي عن الرسول أنه لما نزلت {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال: «أَمَا إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ لَغَنِيَّانِ عَنْهَا - أي المشورة - وَلَكِنْ جَعَلَهَا اللهُ رَحْمَةً لأُمَّتِي فَمَنْ اسْتَشَارَ مِنْهُمْ لَمْ يُعْدَمْ رُشْدًا وَمَنْ تَرَكَهَا لَمْ يُعْدَمْ غَيًّا» وفي هذا الحديث حض شديد على الشورى، فهو يبين لنا أن الشورى تهدي إلى الرشاد، وأن الاستبداد بالرأي يهدي إلى الغي والضلال، وروي عن الحسن

نطاق الشورى

أنه قال في تفسير {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]: «قد علم الله ما به إليهم من حاجة ولكنه أراد أن يستن برسوله من بعده». وللرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحاديث أخرى في الحض على الشورى، فيروى عنه أنه قال: «مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلاَ نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ» وقال: «المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» وقال: «مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إِلاَّ هُدُوا [لأَرْشَدِ] أَمَرِهِمْ» (**). وقد تنبه الفقهاء لهذا كله ولم يفتهم ما تحمل هذه النصوص جميعًا من المعاني فقرروا أن الشورى من أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها، ومن عزائم الأحكام التي لا بد من نفاذها، ورتبوا على ذلك أن من ترك الشورى من الأحكام فعزله واجب دون خلاف (¬1). نِطَاقُ الشُّورَى: والشورى وإن كانت من الإيمان فإنها ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة بنصوص التشريع الإسلامي وروحه، فما جاء فيه نص فقد قضى فيه النص وخرج من اختصاص البشر فلا يمكن أن يكون محلاً للشورى، إلا أن تكون الشورى مقصودًا منها التنفيذ أي تنفيذ ما جاء به النص ففي هذه الحالة تجوز ¬

_ (¬1) " تفسير القرطبي ": جـ 4 ص 249 - 251، " مفاتيح الغيب " للرازي: الجزء الثالث، ص 120 - 122. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد بهذه الصيغة «مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلاَ نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ»، انظر " المعجم الصغير " للطبراني، تحقيق محمد شكور محمود الحاج أمرير، 2/ 175، حديث رقم 980، الطبعة الأولى: 1405 هـ - 1985 م، نشر المكتب الإسلامي. بيروت - دار عمار. عَمَّان. (**) مأثور عن الحسن البصري وليس حديثا مرفوعًا.

الشورى بشرط أن لا يخرج التنفيذ عن معنى النص وروح التشريع. وأما ما لم يرد فيه نص فكله محل للشورى، وللمسلمين أن ينتهوا منه إلى ما يرون من رأي، فإن رأت جماعتهم رأيًا وجب تنفيذ هذا الرأي بشرط أن لا يخرج الرأي على مبادئ الإسلام العامة وروحه التشريعية. وإذا كانت النصوص التي وردت في الشورى قد جاءت عامة إلا أنها خصصت بالنصوص التي استأثرت بالحكم في مسائل بعينها، كما أنها خصصت بفعل الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث كان لا يشاور فيما نزل أو ينزل الوحي بحكمه، ولو أن الشورى تجوز في كل شيء لما كان هناك محل لغير النصوص التي وردت في الشورى إذ أن كل ما عداها يكون عبثًا. ويمكن القول بأن الإسلام قد جاءت نصوصه بالمبادئ الكلية والمناهج العامة ولم يأتنا بالتفصيل والدقائق إلا في حالات قليلة تعتبر بذاتها مبادئ عامة بالنسبة لغيرها أو تطبيقًا للمبادئ والمناهج العامة، وهذا هو الذي يخرج من نطاق الشورى ولا يدخلها إلا بقصد إقامته وتنفيذه، أما ما عداه فكله محل للشورى موضوعًا وتنفيذًا في حدود مبادئ الإسلام العامة وروحه التشريعية. وإذا كان كل ما قضى فيه الإسلام بحكم خارجًا عن نطاق

الشورى وما عداه داخلاً في نطاقها بشرط أن لا تخرج عن حدود الإسلام، فمعنى ذلك أن الشورى مقيدة بالإسلام تسير في نطاقه، وتماشي مبادئه، وتخدم أهدافه، في كل الظروف والأحوال. والإسلام يعمل على تحقيق المساواة بين البشر وتحرير عقولهم من الجهل، ونفوسهم من الذل، وقواهم من الاستغلال، كما يعمل على إقامة المجتمع على التعاون والتضامن والحب والتراحم والإيثار، وتلك هي بعض الأسس التي يشيد عليها بناء المجتمع الإسلامي، وما هي إلا بعض المبادئ الإنسانية العليا التي تطمح الإنسانية إلى تحقيقها. ويود عقلاء البشر وحكماؤهم أن تتصل حياة الناس بها، وبهذه المبادئ الإنسانية العليا وبمثلها جاءت نصوص الإسلام وعليها أقام حياة الناس وثقافتهم ونشاطهم ومعاملاتهم، كما ربط بها بين نفوسهم وعقولهم وقلوبهم. وإذا كان الإسلام قد أخرج النصوص التي جاءت بهذا كله وبأمثاله من نطاق الشورى فإنما أخرج من يد البشر ما لا يحسنون القيام به، ولا يستطيعون الإتيان به على وجهه، وحال بينهم وبين أن يتسلطوا على الأسس التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي، والأجهزة التي توجهه، والقوى التي تبعث فيه الحياة الصالحة، وتنمي في أفراده ومجموعه النزعة إلى الخير والفضيلة وتنتهي بهم جميعًا إلى السعادة المنشودة.

القواعد التي تقوم عليها الشورى

وإذا كان الإسلام قد ترك الكثير للشورى فقد تركه للناس مقيدًا بألا يخرج عن حدود الإسلام، ولا يفسد النظام الاجتماعي الذي أقامه، وما على هذا النظام الاجتماعي من شهوات البشر وأهوائهم إذا جرى كل شيء في المجرى الذي خطه الإسلام، وسار في الطريق المستقيم الذي رسمه، فإن الإسلام قد وضع أمام الشهوات والأهواء من السدود والقيود ما يفل حدها، ويضعف حدتها، ويحطم قوتها إذا تمسك الناس بإسلامهم ولم يفرطوا في أمر دينهم. القَوَاعِدُ التِي تَقُومُ عَلَيْهَا الشُّورَى: جاء الإسلام فقرر مبدأ الشورى في قوله تعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وفي قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. ولم يكن تقرير الشورى تمشيًا مع حال الجماعة ولا نتيجة لرقيها وتقدمها، فقد جاء الإسلام والعرب في أدنى دركات الجهل، وفي غاية التأخر والانحطاط. وإنما قرر الإسلام نظرية الشورى، لأنها قبل كل شيء من مستلزمات الشريعة الكاملة الدائمة المستعصية على التعديل والتبديل، ولأن تقرير النظرية يؤدي بذاته إلى رفع مستوى الجماعة وحملهم على التفكير في المسائل العامة والاهتمام بها، والنظر إلى مستقبل الأمة نظرة جدية، والاشتراك في الحكم بطريق غير مباشر، وتوجيههم إلى مراقبة الحكام ومحاسبتهم

والحد من سلطانهم، فنظرية الشورى إذن مقررة لتكميل الشريعة الإسلامية ولتوجيه الجماعة ورفع مستواها. وظاهر من صيغة النصين المقررين لمبدأ الشورى أنهما عامان مرنان آخر حدود العموم والمرونة، بحيث لا يمكن أن يحتاج الأمر إلى تعديلها أو تبديلها في المستقبل، وفي هذا وما سبق بيان لما يجب أن يعرفه كل إنسان من أن الشريعة الإسلامية تتميز بصفتي الكمال والدوام، وأن نصوصها من العموم والمرونة بحيث تستعصي على التبديل والتعديل. وكما جاءنا الإسلام بالشورى مبدأ عامًا يقوم عليه أمر المسلمين فإنه جاءنا أيضًا بالقواعد الأساسية التي يقوم عليها المبدأ والحدود التي ينطبق فيها، ولم يترك هذه القواعد الأساسية لأولي الأمر والرأي في الأمة، إن كان قد ترك لهم ما عداها من قواعد وعلى الأخص ما يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والجماعات. والقواعد الأساسية التي يقوم عليها مبدأ الشورى حكمها حكم المبدأ نفسه لا تقبل التبديل ولا التعديل، لأنها أما قواعد يقتضيها النصان المقرران للشورى وأما قواعد جاءت بها نصوص أخرى، والقواعد التي جاء بها الإسلام لا تقبل التبديل ولا التعديل. والقواعد الأساسية التي يقوم عليها مبدأ الشورى هي: أولاً: أن الشورى حق مقرر للحاكمين والمحكومين،

وليس أحد الطرفين أحق به من الآخر، فكما يستطيع الحاكمون أن يبدوا رأيهم في كل أمر من أمور الأمة يستطيع كل فرد من المحكومين أن يبدي رأيه في كل أمر من أمور الأمة. وحق الحاكمين والمحكومين مستمد من قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، فقد وصف الله الأمر بأنه أمرهم جميعًا، وإذا كان الأمر للجميع استوى في استحقاقه والقيام عليه الحاكم والمحكوم، فليس لأحد الفريقين أن يستأثر به أو ينكره على الآخر. أما تنظيم استعمال هذا الحق فهو أمر يختلف باختلاف الزمان والمكان والجماعات ولذلك ترك أمره لأولي الأمر والرأي في الجماعة الإسلامية ينظمونه بما يتفق مع ظروفهم وفي حدود استطاعتهم. ثانيًا: إن عرض كل أمور الأمة على الشورى من واجبات الحكام وليس حقًا لهم قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]، فالنص يوجب على الحاكم أن يستشير في كل أمر للأمة صغر هذا الأمر أو كبر، فإذا لم يعرض الحاكم الأمر على الأمة فقد أخل بواجبه، وللأمة أن تستعمل حقها في الشورى فتشير بما تراه وتطلب من الحكام أن يضعوا رأيها حيث وضعه الله، ولها أن تطلب من الحكام أن يعرضوا عليها كل أمر لم يعرضوه، وأن يبينوا رأيهم فيه لتستطيع الأمة بعد ذلك أن تبدي رأيها على خير وجه تراه.

ثالثًا: إن الشورى يجب أن تقوم على الإخلاص لله والرغبة فيما عنده والعمل لرفع شأن الإسلام دون نظر إلى [النظرات] الشخصية والمنافع الذاتية والعصبيات القبلية والاقليمية، فلا يقبل الله من الناس إلا ما خلص له وحده وقصد به وجهه {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]. وما يسلك في سلك المؤمنين إلا من اعتصم بالله وأخلص الدين لله {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146]. ولا يصح أن تقوم الشورى على كذب أو غش أو خداع أو إكراه أو رشوة فكل ذلك يحرمه الإسلام لذاته، ومن يفعله في الشورى فإنما هو خائن لله ولرسوله وخائن للأمانة التي حمله الله إياها فوق كذبه أو غشه أو ما ارتكب من خداع أو إكراه أو رشوة، ذلك أن الشورى أمانة في عنق صاحبها وَ «المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» كما يقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن خان أمانته فقد أتى ما حرمه الله عليه وخان الله ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]. رابعًا: ليس من الضروري أن يجمع أهل الرأي على رأي واحد وإنما الرأي ما اتفقت عليه أكثرية المسلمين بجماعتهم بدليل حديث حذيفة المشهور الذي أخبر فيه الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يكون

من الفتن في الأمة، قال حذيفة: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا» فالجماعة في هذا الحديث ليست كل المسلمين وإنما هي أكثر المسلمين، وقد اعتبرت على الحق دون غيرها. وربما صح عقلاً أن يأتي رأي الأكثرين خاطئًا ورأي الأقلين صوابًا ولكن هذا نادر، والنادر لا حكم له، والمفروض شرعًا أن رأي الأكثرين هو الصواب ما دام كلهم يبدي رأيه مجردًا لله وما دامت الآراء جميعًا تناقش دون تعصب لها أو لأصحابها، وأساس ذلك قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ»، «يَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ فَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ»، وفي رواية أخرى: «سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ [يَجْمَعَ] أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ فَأَعْطَانِيهَا» (*)، فالله يسدد دائمًا خطأ الجماعة ويوجهها إلى الرأي السديد. والواقع أن الشورى لن يكون لها معنى إذا لم يؤخذ برأي الأكثرية، ووجوب الشورى على الأمة الإسلامية يقتضي التزام رأي الأكثرية، وقد سن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنة التزام رأي الأكثرية في خروجه لغزوة أُحُدٍ فقد استشار المسلمين أيخرج إلى كفار قريش الذين نزلوا قريبًا من جبل أحد أم يمكث في المدينة، وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها، فإن دخلها الكفار قاتلهم الرجال على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي عَبْدِ اللهِ ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر " المسند " للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط - عادل مرشد، وآخرون، 45/ 200، حديث رقم 27224، الطبعة الأولى: 1421 هـ - 2001 م، نشر مؤسسة الرسالة.

ابْنَ أُبَيٍّ وبعض الصحابة، ولكن جماعة الصحابة أشاروا بالخروج وألحوا عليه في ذلك، فكان الرسول أول من التزم رأي الأكثرية وأول من تجهز للخروج إلى أُحُدٍ. خامسًا: أن تكون الأقلية التي لم يؤخذ برأيها أول من يسارع إلى تنفيذ رأي الأكثرية، وأن تنفذه بإخلاص باعتباره الرأي الذي يجب اتباعه ولا يصح اتباع غيره وأن تدافع عنه كلما دافعت عنه الأغلبية، وليس للأقلية أن تناقش من جديد رأيًا اجتاز دور المناقشة أو تشكك في رأي وضع موضع التنفيذ، وتلك هي سنة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي سنها للناس، والتي يجب على كل مسلم اتباعها طبقًا لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب: 21]. ولقد استن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه السنة بعد أن استشار أصحابه ورأى أكثرهم للخروج لأُحُدٍ، فكان الرسول أول من وضع رأي الأكثرية موضع التنفيذ إذ نهض من المجلس فدخل بيته ولبس لأْمَتَهُ وخرج ليقود الأقلية والأكثرية إلى لقاء العدو خارج المدينة، وقد سارع الرسول بتنفيذ رأي الأغلبية بالرغم من مخالفته لرأيه الخاص الذي أظهرت الحوادث أنه كان الرأي الأحق بالاتباع. وعمل أصحاب الرسول بهذه السنة بعد وفاته في حروب

في الشورى صلاح العالم

الردة، فقد كان رأي الأكثرية أول الأمر مُتَّجِهًا إلى عدم محاربة المرتدين ومسالمتهم، وكان رأي الأقلية وعلى رأسهم أبوبكر مُتَّجِهًا إلى محاربة المرتدين وعدم التسامح معهم، وانتهت المناقشة بجنوح الأكثرين إلى رأي أبي بكر بعد اقتناعهم به، فلما وضع هذا الرأي موضع التنفيذ كان المخالفون في الرأي هم أول المنفذين له والمضحين في سبيل تنفيذه بأموالهم وأنفسهم. هذه هي القواعد الأساسية التي تقوم عليها الشورى في الإسلام، وهي في الواقع تكمل مبدأ الشورى وتعتبر جزءًا منه. فِي الشُّورَى صَلاَحُ العَالَمِ: والشورى كما جاء بها الإسلام فيها صلاح العالم وعلاجه من أمراضه الاجتماعية وفيها بيان لمواطن النقص في النظم الديموقراطية والديكتاتورية. فالبلاد التي تطبق النظم الديموقراطية فشلت فشلاً ذريعًا في تطبيق مبدأ الشورى لسببين أولهما أنهم يؤثرون المنافع الشخصية والعصبيات الحزبية على المصالح العامة، وثانيهما أنهم يسمحون للأقلية أن تناقش الرأي الذي أقرته الأغلبية بعد انتهاء دور المناقشة، وأن تشكك في قيمته وصلاحيته أثناء

تنفيذه، بل إن الرأي يظل موضع الانتقاد والسخرية حتى بعد تمام تنفيذه. ولما كانت القاعدة أن فريق الأغلبية هو الذي يتولى الحكم، فإن آراء هذا الفريق وأعماله لا تقابل بما يجب لها من الاحترام، بل تكون دائمًا محل تشكيك وسخرية، ويطعن عليها بتفاهتها، وعدم صلاحيتها، بل قد يحدث أن تمتنع الأقلية عن تنفيذ القوانين التي تسنها الغالبية حسدًا لمكانتها وتعجيلاً لنهايتها، وتظل الحال على ذلك حتى ينقلب الوضع فيصبح فريق الحاكمين أقلية فيترك الحكم ليتولاه فريق الأكثرية التي تقابل آراؤه وأعماله بمثل ما قوبل به فريق الأكثرية السابق، وهكذا لا يتولى الحكم فريق إلا كانت آراؤه وأعماله محل النقد والتشكيك والسخرية. وقد يكون النقد سبيلاً من سبل الإصلاح إذا أبدى الناقد رأيه وقت المناقشة متجردًا عن الهوى، أو نقد آراء لم تناقش من قبل، أما نقد الآراء التي نوقشت والتشكيك فيها بعد أن وضعت موضع التنفيذ فذلك هو الفساد عينه. إن نقد الآراء بعد مناقشتها وبعد وضعها موضع التنفيذ يتناقض مع الأساس الذي تقوم عليه الشورى، فأساس الشورى هو أن يحكم الشعب طبقًا لما رأته الأغلبية المتجردة عن الهوى، ومعنى ذلك أن الأغلبية إذا اجتمعت على رأي كان رأيها قانونًا أو حكمًا تجب له الطاعة والاحترام.

ولقد أدى موقف الأقلية من الأغلبية إلى نتيجته الطبيعية، فظهر أولو الأمر وأولو الرأي في البلاد الديموقراطية بمظهر العاجز الذي لا يحسن التصرف، وفقد الأفراد ثقتهم في الزعماء والأحزاب، وأصبحوا يتشككون في قدرتهم على حكم الشعب وإدارة أموره، وحق لهم أن يفقدوا ثقتهم فيمن تصدوا لقيادتهم فلم يسمعوا عنهم في يوم ما أنهم ارتأوا رأيًا فكان موضع التقدير، أو جاءوا بفكرة لم تكن موضع السخرية أو قاموا بعمل لم يكن موضع النقد والتشكيك. وإذا كان فشل البلاد الديموقراطية في تطبيق مبدأ الشورى قد أدى إلى انعدام الثقة فيمن يتصدون لقيادة الشعب، إلا أن تفشي هذا الفشل في كل البلاد الديموقراطية جعل الناس يعتقدون أن مبدأ الشورى نفسه غير صالح للتطبيق، فانتقل الشك وعدم الثقة من القائمين على تطبيق المبدأ إلى ذات المبدأ، واعتنق كثير من البلاد الديموقراطية مبدأ الديكتاتورية وهم يظنون أنهم سيجدون فيه علاجًا لحالة الشك وعدم الثقة التي تعيش فيها الشعوب. ولكن التجارب الحديثة أثبتت أن الديكتاتورية تنتهي بفشل أفظع من فشل الديموقراطية، لأن من طبيعتها أن تكم الأفواه وتعطل حرية الرأي وحرية الاختيار، كما أنها تؤدي إلى انعدام الثقة بين الشعوب والحكام وتوريط الشعوب والحكومات فيما لا تريده أو فيما لا يعود عليها إلا بالضرر.

وإذا كانت الديكتاتورية تبدأ غالبًا بالنجاح إذا استبدلت بالديموقراطية الفاشلة، فإن النجاح لا يرجع إلى النظام ذاته، وإنما يرجع كما أثبتت التجارب إلى ثقة المحكومين بأشخاص الحكام وتعضيدهم إياهم، وإلى حرص الحكام على صالح الجماعة، فإذا ما تغير الحكام الموثوق بهم أو فشلوا في القيام بمهمتهم انعدمت الثقة بين الحكام والمحكومين، وابتدأ الفساد يدب في النظام الديكتاتوري، وكان ذلك إيذانًا بتغيير نظام الحكم، وإن كان التغيير في ذاته يتوقف على عوامل مختلفة أظهرها ضعف الحاكمين، وشجاعة وقوة المحكومين. ونستطيع أن نقول بحق إن النظام الإسلامي هو أصلح نظام يرضي أصحاب الميول الحرة، وهو في الوقت ذاته يعتبر صمام الأمن الذي يحمي الأمم من الديكتاتورية، إذ أن النظام الإسلامي يحفظ للشورى قيمتها النظرية ويحقق صلاحيتها العملية، ويجيش كل القوى لخدمة الجماعة ويدعو إلى الثقة بالشورى والقائمين على أمرها، ويسد الطريق على الاستبداد والاستعلاء والفساد. ونستطيع أن نقول أيضًا إن النظام الديموقراطي يقوم في أصله على الشورى والتعاون، ولكنه ينتهي بعدم التجرد وبسوء التطبيق إلى تسليط المحكومين على الحاكمين وانعدام التعاون بينهما، وأن النظام الديكتاتوري يقوم في أصله على السمع والطاعة والثقة بين الحاكمين والمحكومين، ولكنه ينتهي بعدم

أهل الشورى

التجرد وبسوء التطبيق إلى تسليط الحاكمين على المحكومين وانعدام الثقة بينهما. أما النظام الإسلامي فيقوم على الشورى والتعاون والتجرد في مرحلة الاستشارة، وعلى السمع والطاعة والثقة في مرحلة التنفيذ، ولا تسمح قواعده بتسليط فريق على فريق، وبهذا جمع النظام الإسلامي بين ما ينسب إلى الديموقراطية من فضائل، وما ينسب إلى الديكتاتورية من مزايا ومحاسن، ثم هو في الوقت نفسه بريء من العيوب التي تنسب للديموقراطية والديكتاتورية مَعًا. أَهْلُ الشُّورَى: هم أهل الحل والعقد وَذَوُو الرَّأْيِ في الأمة الإسلامية، وعدد هؤلاء محدود بالنسبة لعدد الأمة بطبيعة الحال، فلا يمكن أن يكون أهل الشورى هم كل الأمة لأن الاستشارة لا توجه إلا إلى كل شخص ناضج يستطيع أن يعطي رأيًا صحيحًا، ولأن المشورة لا يعتد بها إلا إذا جاءت من ذوي الرأي الناضج وذوي الخبرة بالأمور التي تعرض للشورى. وإذا كان منطق الحال يقتضي أن يكون أهل الشورى محدودين فإن منطق الإسلام يقتضي أن يكون جميع أهل الشورى أو أكثرهم ممن لهم إلمام تام بالشريعة الإسلامية إذ الشورى مقيدة بألا تخرج على نصوص الشريعة الإسلامية ولا روحها التشريعية.

ولما كانت الحياة قد تعقدت وكان للمسائل غير وجهها التشريعي وجوهًا أخرى فنية فقد وجب أن يكون أهل الشورى الملمين بالشريعة الإسلامية وبالعلوم والفنون والصناعات وغيرها مِمَّا يتعلق بمصالح الأمة، وليس ثمة ما يمنع أن يقوم اختيار أهل الشورى على التخصص بشرط أن لا يكون لغير الملمين بالشريعة رأي فيما يتعلق بالشريعة الإسلامية، أو بشرط أن تكون هناك هيئة خاصة لترد كل ما يخرج على حدود الشريعة أو روحها إلى موضعه الصحيح داخل نطاق الشريعة، ويستوي أن تكون هذه الهيئة لجنة خاصة من أهل الشورى أنفسهم أو هيئة أخرى قضائية كمحكمة مثلاً، وكل ذلك متروك لأولي الأمر وأولي الرأي في الأمة ينظمونه على حسب الظروف والأحوال وبالطريقة التي تحفظ مصالح الأمة. ولم تحدد الشريعة الإسلامية عدد أهل الشورى ولا طريقة اختيارهم، وإنما يرجع ذلك إلى ظروف الزمان والمكان، وقديمًا كان أهل الشورى هم المقيمين بالمدينة من المهاجرين والأنصار وأشراف الناس، ثم أضيف إليهم الحكام ورؤساء الجيوش في مختلف البلاد الإسلامية، ثم تطور الأمر فأصبح أهل الشورى هم أصحاب الرسول وذوي النفوذ والمكانة في كل قطر وأمراء السرايا والجيوش والحكام الإداريين في كل البلاد الإسلامية. ويلاحظ أن السوابق الإسلامية جرت على اعتبار الحكام ورؤساء الأجناد بصفة عامة من أهل الشورى، ولكن السوابق

الشروط الواجبة في أهل الشورى

ليس لها قوة تشريعية ما لم تكن إجماعًا. فإن لم تكن كذلك كان العمل بها أو إهمالها متعلقًا بالمصلحة العامة. الشُّرُوطُ الوَاجِبَةُ فِي أَهْلِ الشُّورَى: وليكون الشخص من أهل الشورى يجب أن تتوفر فيه الشروط الآتية: 1 - العدالة: يشترط فيمن يصلح للشورى أن يكون عدلاً، والعدالة هي التحلي بالفرائض والفضائل والتخلي عن المعاصي والرذائل، وعما يخل بالمروءة أيضًا، ويرى بعض الفقهاء أن تكون العدالة ملكة لا تكلفًا، وهو رأي لا محل له لأن التكلف اذا التزم صار خلقا. 2 - العلم: يشترط أن يتوفر العلم في أهل الشورى، والعلم المقصود هو العلم بمعناه الواسع فيدخل فيه علم الدين وعلم السياسة وغيرهما من العلوم، ولا يشترط أن يكون العالم منهم مُلِمًّا بكل أنواع العلوم بل يكفي أن يكون مُلِمًّا بفرع من العلوم كالهندسة أو الطب أو غير ذلك، وليس من الضروري أن يكون العلماء جميعًا مجتهدين فيكفي أن يتوفر الاجتهاد في مجموعتهم لا في كل فرد منهم. وإذا توفر في جماعتهم العلم جاز أن يكون فيهم غير عالم، ولا بأس أن يكون ذا ثقافة تؤهله لأن يدرك ما يعرض عليه إدراكًا يمكنه من الحكم عليه وإبداء الرأي فيه.

سلطان الأمة

3 - الرأي والحكمة: ويشترط فيمن يصلح للشورى أن يكون ممن عرف بجودة الرأي والحكمة، ولا يشترط فيه أن يكون من ذوي العصبية، لأن أساس الشورى هو الرأي الصحيح الحكيم المتفق مع الشرع المجرد من الهوى والعصبية (¬1). سُلْطَانُ الأُمَّةِ: قلنا فيما سبق أن الشورى صفة لازمة للمسلم لا يكمل إيمانه إلا بتوفرها، وأنها فريضة إسلامية واجبة على الحاكمين والمحكومين، وإذا كانت الشورى فريضة قد وجب أن يكون لأهل الشورى السمع والطاعة على كل أفراد الأمة من حاكمين ومحكومين، وهذا السلطان الذي تعطيه الشورى لأهل الشورى ليس سلطانهم وحدهم وإنما هو سلطان الأمة كلها، إذ أن أهل الشورى ليسوا في الواقع إلا نواب الأمة وأصحاب الرأي والنفوذ فيها اختيروا ليمثلوا الأمة في إبداء رأيها في أمورها التي جعلها الله شورى بين المسلمين جميعًا. وإذا كان الحكام كما رأينا ملزمين بتنفيذ ما تفضي إليه الشورى وبإقامته على الوجه الذي ارتضاه ممثلو الأمة، فالحكام يكونون من هذه الوجهة خدامًا للأمة ومنفذين لإرادتها وتكون الأمة هي مصدر سلطانهم فيما يفعلون وما يدعون تنفيذًا لما أفضت إليه الشورى. ¬

_ (¬1) " الخلافة ": ص 15 وما بعدها، " الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 4.

ويستدل البعض على سلطان الأمة بأن الله أمر بطاعة أولي الأمر ولا يطاع الواحد منهم إلا بتأييد جماعة المسلمين له، فهم الذين اختاروه وبايعوه وطاعته تابعة لطاعتهم واجتماع كلمتهم كما ورد في الأحاديث الصحيحة الخاصة بالتزام الجماعة كحديث: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا [يَكْرَهُهُ] فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، وحديث حذيفة بن اليمان الذي قال فيه الرسول: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، قال حذيفة: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا». فهذان الحديثان يدلان على انعدام السلطة بانعدام الجماعة، ووجودها بوجود الجماعة وإذا كانت السلطة لا توجد إلا بوجود الجماعة، فالجماعة هي مصدر السلطان، ويمثلها أولو الأمر من المسلمين وأهل الحل والعقد والرأي والمطاع (¬1). ويدللون أيضًا على سلطان الأمة بما روي عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ» وفي رواية أخرى: «سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ [يَجْمَعَ] أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ فَأَعْطَانِيهَا» (*). ومقتضى الحديث أن الاجتماع على رأي يجعله ملزمًا، وإذا كان الرأي ملزمًا فصاحبه ذو سلطان. ويدللون كذلك على سلطان الأمة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. ¬

_ (¬1) " الخلافة ": ص 14. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر الحديث بصيغته في صفحة 202 من هذا الكتاب.

وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. ويفسرون أولي الأمر بأنهم أهل الحل والعقد من المسلمين، ويدخل فيهم الأمراء والحكام والعلماء والرؤساء عامة ورؤساء الجند خاصة والزعماء الذين يرجع إليهم في الحاجات والمصالح العامة، ويقولون: إن هؤلاء إذا اتفقوا على أمر أو حكم وجب أن يطاعوا فيه بشرط أن يكونوا منا، وأن لا يخالفوا أمر الله ولا سنة رسوله، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر واتفاقهم عليه، وأن يكون ما يتفقون عليه من المصالح العامة التي لأولي الأمر سلطة فيها ووقوف عليها. أما ما يؤخذ عن الله ورسوله فقط فليس لأحد رأي فيه إلا ما يكون في فهمه أو تنفيذه. ويدللون على صحة تفسير أولي الأمر الواردة في الآية الأولى بالمعنى السالف بما تدل عليه عبارة أولي الأمر في الآية الثانية. وإذا كان لأولي الأمر على هذا المعنى سلطان واجب النفاذ وهو ممثلو الأمة فالسلطان لمن يمثلون وهي الأمة، وما جاءهم السلطان إلا عن طريقها بصفتهم نوابًا عنها وممثلين لها (¬1). ¬

_ (¬1) " الخلافة ": ص 13 وما بعدها، " تفسير المنار ": جـ 5 ص 181، 299 وما بعدها.

اختيار الخليفة أو الإمام

اخْتِيَارُ الخَلِيفَةِ أَوْ الإِمَامِ: كَيْفِيَّةُ الاِخْتِيَارِ: اختيار رئيس الدولة الإسلامية من أمور الأمة التي جعلها الله شورى بين المسلمين إن لم يكن من أهم أمورها، فللأمة أن تختار رئيسًا للدولة كلما خلا منصب الرئاسة بموت أو عزل أو استقالة، ولا يجوز أن يفتات عليها في ذلك بأي وجه من الوجوه وألا تعطل قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. ولم تأت الشريعة الإسلامية بنصوص خاصة بتنظيم الاختيار وبكيفيته، لأن الأمر في هذه المسألة يختلف باختلاف ظروف الأحوال من الزمان والمكان، وقدرة الأشخاص على الانتقال والاتصال، ومن ثم كان للمسلمين أن ينظموا أمر الاختيار بما يلائم ظروفهم، وبما يتفق مع التطورات التي تطرأ حينئذ على وسائل الانتقال والاتصال.

وفي أول عهد الإسلام كان يكتفي بأخذ رأي أهل الشورى المقيمين بعاصمة الخلافة لوجود أغلب صحابة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة ولوجود المرشحين للخلافة بها أيضًا، ثم تطور الأمر بعد تفرق الصحابة في الأمصار، فكان يؤخذ أولاً رأي المقيمين بعاصمة الخلافة، لا لتميزهم على غيرهم وإنما لسبق علمهم بخلو منصب الخلافة، ولا مكان أخذ رأيهم قبل غيرهم، فإذا اختاروا خليفة أخذت البيعة له ممن في بقية الأمصار، وكان المقيمون في الأمصار يتابعون أهل العاصمة، وهكذا كان الاختيار عُرْفًا لاَ شَرْعًا للمقيمين في العاصمة، وكان المقيمون في غيرها متابعين في الواقع لا مختارين، وكانت العلة في حرمان أهل الأمصار من الاختيار الصحيح صعوبة جمع أهل الشورى في مكان واحد واستحالة معرفة رأيهم في وقت واحد مع بقاء كل منهم في مكانه. أما اليوم وقد وجدت السكك الحديدية والسيارات والطائرات والسفن البخارية والتلغرافات واللاسلكي، فمن الممكن أن يختار أهل الشورى اختيارًا صحيحًا، وأن يعرف رأيهم في كل مصر وكل قطر في الوقت نفسه الذي يعرف فيه رأي المقيمين بعاصمة الخلافة. وإذا رجعنا إلى السوابق التاريخية وجدنا أن اختيار أبي بكر تم في اجتماع السقيفة أولاً ثم كانت البيعة العامة في المسجد في اليوم التالي، ولم يتخلف عنها أحد من أصحاب الرأي من الأنصار والمهاجرين إلا أشخاص لا يبلغ عددهم عدد

أصابع اليد الواحدة، وبويع عمر بناء على ترشيح أبي بكر له وما تخلف عن مبايعته أحد من أهل الرأي أنصارًا أو مهاجرين ممن قرئ عليهم خطاب أبي بكر في المسجد أو ممن لم يشهدوا اجتماع المسجد، وبويع عثمان في المسجد لم يتخلف عن مبايعته أحد من أهل الرأي المقيمين في المدينة بعد أن قبل ما لم يقبله علي بن أبي طالب من اقتراح عبد الرحمن بن عوف، وبويع علي بن أبي طالب من أكثر أهل الرأي في المدينة ولم يتخلف عن بيعته إلا بضعة أشخاص (¬1). ومع أن الفقهاء متفقون على أن اختيار الإمام لا يكون إلا عن طريق أهل الشورى، وأن بيعته لا تتم إلا إذا تم الاختيار على هذا الوجه، إلا أن الفقهاء قد اختلفوا في دلالة السوابق التاريخية التي ذكرناها كما اختلفوا في النتائج المترتبة عليها. فمنهم من رأى - وهؤلاء هم أصحاب الرأي الصحيح - أن الإمامة لا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد في كل بلد ولم يشأ أن يجعل لهذه السوابق أثرًا ما على القاعدة العامة المتفق عليها. ومنهم من تجاهل القاعدة ورأى أن يتخذ من هذه السوابق أحكامًا يسار عليها في اختيار الإمام، وهؤلاء اختلفوا بدورهم فمنهم من رأى الاكتفاء باختيار الحاضرين من أهل الشورى في عاصمة الخلافة دون انتظار لغائب ودون اهتمام برأي ¬

_ (¬1) راجع ما سبق فقد بسطنا فيه كيف تمت البيعة للخلفاء الأربعة.

المقيمين في الأمصار، وأصحاب هذا الرأي متأثرون بصعوبة الانتقال ولا يريدون التعلق بما يشق على الناس أو بما ليس في الإمكان. ومنهم من قال يكتفي باختيار خمسة يجتمعون على عقد البيعة لشخص معين أو يعقدها أحدهم برضا الآخرين، وأصحاب الرأي يستدلون على صحة رأيهم بأن بيعة أبي بكر تمت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس وهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسعد بن خضير وبشر بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة، كما يستدلون بأن عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضى الخمسة، وأصحاب هذا الرأي مخطئون في استدلالهم، فما اجتمع الخمسة الذين ذكروا على بيعة أبي بكر ولا اتفقوا عليها، وإنما كانوا أول من بايع أبا بكر، ولو انعقدت البيعة باختيارهم لما كان هناك ضرورة لمبايعة غيرهم وللبيعة العامة التي تمت في المسجد في اليوم التالي، كذلك فإن اختيار عمر للستة لم يكن إلا ترشيحًا ولم تنعقد البيعة إلا باختيار جمهور أهل الشورى الذين حضروا في المسجد وبايعوا عثمان على ما بَيَّنَّا من قبل. وقال البعض تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين لأن البيعة عقد فتصح بعاقد وشاهدين كعقد النكاح يصح بولي

وحدة الإمامة

وشاهدين، وقال آخرون تنعقد بواحد لأن الأمر فيها لا يحتاج لشهود (¬1). وكل هذه الآراء لا تتفق مع قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، فلا يكون الأمر شورى إذا اكتفى برأي واحد أو اثنين أو خمسة، وإنما يجب أن يقوم على رأي كل من يستطاع أخذ رأيه، ولعل أقرب هذه الآراء جميعًا للصحة هو الرأي الذي كان يرى الاكتفاء برأي أهل الشورى في عاصمة الخلافة لصعوبة الحصول في الوقت المناسب على رأي الآخرين، ولكن ظروف العصر لا تجعل لهذا الرأي محلاً اليوم، فلا بد إذن أن يقوم الاختيار على رأي أهل الشورى في جميع البلاد الإسلامية ما دام في الاستطاعة أن يُبْدُوا رأيهم جميعًا في وقت مناسب، فإذا اجتمعوا جميعًا أو أكثرهم على اختيار شخص انعقدت له الإمامة باختيار الجميع أو كثرتهم. وَحْدَةُ الإِمَامَةِ: المقصود بوحدة الإمامة أنه لا يختار لرئاسة الدولة الإسلامية إلا شخص واحد وأنه لا يجوز أن يكون للمسلمين إلا دولة واحدة، وذلك أن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - جعل المسلمين أمة موحدة ¬

_ (¬1) " الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 5، 6، " الأحكام السلطانية " للفراء: ص 7، " الملل والنحل ": جـ 4 ص 167، 171، " المسامرة ": جـ 2 ص 171، 173، " المواقف ": ص 606، " أسنى المطالب ": جـ 4 ص 109.

وما يكون للأمة الموحدة إلا رئيس واحد ودولة واحدة: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]. والله يوجب على المسلمين أن يتحدوا ويلتفوا حول راية القرآن ويحرم عليهم التفرق والاختلاف، ولا يتم اتحادهم ويمتنع تفرقهم واختلافهم إلا إذا كانوا أمة موحدة تكون دولة واحدة لها رئيس واحد {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]. وما يصدق على المسلمين أنهم معتصمون بحبل الله غير متفرقين ولا مختلفين إذا كانوا شعوبًا متفرقة ودولاً متعددة. ولقد أكد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه المعاني في قوله: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا» فالرسول يرى أن يكون للمسلمين جميعًا خليفة واحد وإذا بويع لاثنين قتل الآخر منهما حفظًا لوحدة الأمة، وهذا إذا لم ينزل هو عن التمسك ببيعته. وفي مثل هذا المعنى قوله: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ [جَمِيعٌ] عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ» (*) وقوله: «إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَهِيَ [جَمِيعٌ]، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ»،. فهذه الأحاديث قاطعة في أن الأمة الإسلامية أمة موحدة تكون دولة واحدة لها رئيس واحد ولا يجوز للأمة بأي حال أن تتفرق وتتوزعها الحكومات والأئمة. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قارن نفس الحديث بما ورد في صفحة 130 من هذا الكتاب.

وليس ثمة ما يمنع أن يتعدد المرشحون للخلافة، ولكن لا يصح أن يختار منهم جميعًا إلا واحدًا، وأهل الشورى مقيدون باختيارهم بأن يختاروا واحدًا توفرت فيه شروط الخلافة فإن توفرت الشروط في أكثر من واحد قدم أهل الشورى أكثرهم فضلاً وأكملهم شروطًا، وليس لهم أن يختاروا من أَدَّاهُمْ اجْتِهَادُهُمْ إلى اختياره قبل أن يعرضوا الأمر عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها، وإن امتنع عن الإمامة ولم يجب إليها لم يجبر عليها وعدل إلى سواء ممن تتوفر فيه شروطها. وإذا تكافأ في شروط الإمامة اثنان قدم أسنهما وإن لم يكن ذلك شرطًا، فإن بويع أصغرهما جاز، فإن كان أحدهما أعلم والآخر أشجع روعي في الاختيار ما توجبه الظروف، فإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى كان الأعلم أحق. وإذا تعين لأهل الشورى واحد هو أفضل الجماعة فبايعوه على الإمامة ثم وجد بعده من هو أفضل منه انعقدت ببيعتهم إمامة الأول ولم يجز العدول عنه إلى من هو أفضل منه. أما إذا ابتدأوا بيعة المفضول مع وجود الأفضل فإن كان ذلك لعذر دعا إليه من كون الأفضل غائبًا أو مريضًا أو كون المفضول أطوع الناس وأقرب إلى القلوب انعقدت بيعة المفضول وصحت إمامته، فإن بويع لغير عذر فقد اختلف في انعقاد بيعته وصحة إمامته فذهبت طائفة إلى أن بيعته لا تنعقد

لأن الاختيار إذا دعا إلى أولي الأمرين لم يجز العدول عنه إلى غيره مِمَّا ليس بأولى، وقال أكثر الفقهاء تجوز الإمامة وتصح البيعة ولا يكون وجود الأفضل مانعًا من إمامة المفضول إذا لم يكن مُقَصِّرًا عن شروط الإمامة لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار وليست معتبرة في شروط استحقاق الإمامة. ولا يجوز أن تعقد الإمامة لشخصين، فإن حدث ذلك في عقد واحد فالعقد باطل لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد وإن شذ قوم فجوزوه،، وإذا بطل العقد تعين أن يستأنف الاختيار، وكان على أهل الشورى أن يختاروا من جديد أحدهما أو شخصًا غيرهما. وإذا عقدت الإمامة لشخصين في وقت واحد وكان العقد لكل منهما على انفراد، فالإمام في رأي الغزالي من انعقدت له البيعة من الأكثرين أي من اختاره أكثر أهل الشورى، أما جمهور الفقهاء فيرون أن الإمام هو من سبقت له البيعة سواء اختاره الكثيرون أو القليلون، فإن جهل السابق بطل العقدان واستؤنف الاختيار على رأي، أو أقرع على رأي آخر. وَرَأْيُ حجة الإسلام الغزالي يتفق مع أوضاعنا العصرية. فيما تجري عليه من انعقاد النيابة لأعضاء مجالس الشورى بأكثر الأصوات، وفيما تأخذ به الدول الجمهورية من اختيار من نال أكثر أصوات الناخبين رئيسًا لها. أما رأي القائلين بالأسبقية فهو رأي لا يقوم على سند

صحيح من المنطق أو الفقه إذ أن اختيار الإمام إنما هو من الأمة التي ينوب عنها أهل الشورى ولا يمكن عقلاً أو منطقًا أن يقال أهل الشورى اختاروا إذا اختار أحدهم أو بعضهم، وإنما يصح أن يقال إنهم اختاروا إذا اختار كلهم أو أكثرهم شخصًا بعينه، ولما كان إجماعهم غير متيسر وجب أن يختار أكثرهم أو يرضى بمن اختير، والبيعة ليست إلا مظهر الاختيار فيجب أن يبايع الأكثرون لتنعقد الإمامة، فمن لم يبايعه إلا القلة لم تنعقد إمامته خصوصًا إذا لم ترض الكثرة ببيعته أو بايعت غيره. ويلاحظ أن الذين أجازوا وجود إمامين في وقت واحد إنما أجازوا ذلك للضرورة، وبعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه واستقلال بعض ذوي العصبية ببعض الأقطار والتفرد بحكمها لا لمصلحة الإسلام وإنما لاستغلال هذه الأقطار والاستعلاء على سكانها (¬1). فالذين أجازوا تعدد الإمامة لم يجيزوا ذلك لأن الإسلام يجيزه، وإنما أجازوه للضرورة وهم يسلمون بوجوب الوحدة والاتحاد. وإذا قامت هذه الضرورة قديمًا على بعد المسافات وتعذر المواصلات وصعوبة تنفيذ الأحكام ومباشرة السلطان ¬

_ (¬1) " الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 6، 7، " الأحكام السلطانية " للفراء: ص 8، 9، " الخلافة ": ص 48 - 51، " الملل والنحل ": جـ 4 ص 163 وما بعدها.

(*) فانها قد سقطت اليوم، ولم يعد ثمة مبرر لتفرق المسلمين وتمزيق وحدتهم بعد أن قربت المسافات وسهلت المواصلات وتطورت الأفكار وأصبح الضعفاء في هذه الدنيا مطمعًا للأقوياء وهدفًا للاستغلال والاستذلال، وبعد أن علم الناس كافة أن القوة والكرامة والسعادة والسيادة إنما هي في الوحدة والاتحاد، وأن الأمر للأمم والشعوب وليس للحكام والأفراد، وبعد أن بلغت الأمم من الرشد ما هيأ لها أن تتخلص من استبداد الأفراد واستغلال الأسر وذوي العصبيات. وإذا كانت الأمم الأوروبية تحاول أن تحمي نفسها من الضعف بتكوين دولة موحدة منها على ما بينها من ترات وأحقاد، وعلى ما بينها من اختلاف في اللغات والآداب والمذاهب الدينية والاجتماعية، فأولى بالشعوب الإسلامية أن تكون دولة موحدة أو واحدة، وَحَّدَهَا الدِّينُ والتاريخ والثقافة، وألف بين قلوب أبنائها الإسلام. وإذا كانت الأمم الأوروبية تستجيب فيما تحاول لمصلحتها فإن الأمم الإسلامية حينما تكون دولة واحدة إنما تستجيب للمصلحة وتلبي أوامر الدين، وتنشد القوة والعزة والكرامة، وتتخلص من الاستذلال والاستغلال، وتحمي نفسها من الاستبداد والاستعلاء، وتمهد طريق العودة إلى قيادة العالم وتوجيهه إلى الخير والسعادة. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) في الكتاب المطبوع أعيد تكرار الجملة الأخيرة من الصفحة السابقة: في السطر الأول من هذه الصفحة: (وتعذر المواصلات وصعوبة تنفيذ الأحكام ومباشرة السلطان).

المبايعة

المُبَايَعَةُ: قلنا فيما سبق أن الإمامة أو الخلافة ليست عقدًا طرفاه الخليفة من ناحية وأولو الرأي في الأمة من الناحية الأخرى، ولا ينعقد العقد إلا بإيجاب وقبول: الإيجاب من أولي الرأي في الأمة أو أهل الشورى وهو عبارة عن اختيار الخليفة، والقبول من جانب الخليفة الذي اختاره أولو الرأي في الأمة. ونستطيع هنا أن نقول أن الإمامة تمر في ثلاث مراحل: أولها: مرحلة الترشيح للامامة، فيرشح الإمام السابق، أو أحد أهل الرأي الإمام اللاحق. ومن الأمثلة على ذلك ترشيح أبي بكر لعمر أو أبي عبيدة في اجتماع السقيفة وترشيح عمر لأبي بكر بعد أن رفض عمر وأبوعبيدة ترشيح أبي بكر لهما، وكذلك ترشيح أبي بكر لعمر عندما حضرته الوفاة وترشيح عمر للستة بعد أن طعن. ثانيهما: مرحلة الاختيار أو قبول الترشيح، وفي هذه المرلحة يختار أهل الشورى واحدًا من المرشحين إذا تعدد المرشحون، أو يوافقون على اختيار المرشح إذا كان واحدًا. ومن الأمثلة على ذلك موافقة الناس على ترشيح أبي بكر لما قرئ عليهم خطاب أبي بكر، واختيار عبد الرحمن بن عوف لعثمان بن عفان ومتابعة الناس له في هذا الاختيار. ثالثها: مرحلة البيعة، وهي مظهر الاختيار والدليل

عليه، وقد تندمج مرحلة البيعة في مرحلة الاختيار فلا يكون بينهما فاصل زمني كما حدث في بيعة أبي بكر فقد رشحه عمر وقال له: «أُمْدُدْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ»، فبايعه وتتابع الناس على ذلك. والبيعة تقليد إسلامي أثر عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأول بيعة في الإسلام ذات شأن هي بيعة الأنصار في مكة وتسمى بيعة العقبة بايع فيها سبعون أنصاريًا رسولَ الله كما قال لهم: «عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي العُسْرِ وَاليُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَأَنْ [تَقُولُوا] فِي اللَّهِ، لاَ تَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي، فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ، وَأَزْوَاجَكُمْ، وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الجَنَّةُ». وقد نزل القرآن ببيعة النساء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12]. وكان الصحابة يبايعون الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الإسلام وعلى الهجرة وعلى الجهاد، بل بايعوه على عدم الفرار من القتال كما حدث في الحديبية. وَرُوِيَ عَنْ ابْنَ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يُلَقِّنُنَا هُوَ «فِيمَا اسْتَطَعْتَ».

والأصل في البيعة أن تكون على الكتاب والسنة وإقامة الحق والعدل من قبل الإمام، وعلى السمع والطاعة في المعروف من قبل أهل الشورى، وتتم المبايعة إذا بايع جميع أهل الشورى أو أكثرهم. وإذا تمت المبايعة انعقدت الإمامة، ووجب على الإمام أن يقوم بأمر الله في المسلمين، وأن يقيم فيهم كتاب الله وسنة رسوله، لا يألو جهدًا في إحقاق الحق وتحقيق العدل، وكان على أهل الشورى وعلى الأمة بصفة عامة أن يسمعوا للإمام ويطيعوه في حدود طاعة الله، أما أهل الشورى فعليهم ذلك التزامًا بالبيعة التي بايعوا، وأما أفراد الأمة فالتزامًا ببيعة نوابهم الذين ينوبون عنهم ويمثلونهم وهم أهل الشورى، وليس لأحد الفريقين أن ينزع يَدًا من طاعة ما لم يحدث الإمام ما يقتضي الخروج على طاعته، وقد حرم الإسلام هذا واعتبره غدرًا في قول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً يُعْرَفُ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، وَإِنَّ أَكْبَرَ الغَدْرِ غَدْرُ أَمِيرِ عَامَّةٍ» وقوله: «مَنْ نَزَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، فَلاَ حُجَّةَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ». والأصل أن يضع المبايع يده في يد من يبايعه ثم يأتي بعبارة البيعة، وقد سجل القرآن شكل البيعة في قول الله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]. كذلك سجل الحديث هذا الشكل في قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَايَعَ إِمَامًا، فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ».

طلب الولاية

وقد أثر عن الرسول أنه كان يضع يده في يد المبايعين، وأنه انتدب عمر ليأخذ بيعة النساء، وجرى الأمر بعد الرسول على أن يتقبل الخلفاء البيعة من الحاضرين، وأن يتقبلها نوابهم ممن لم يحضر مجلس الخليفة. طَلَبُ الوِلاَيَةِ: ويجمل بأهل الشورى أن لا يختاروا أو يبايعوا من يطلب الإمامة أو يحرص عليها، فإن طلب الولاية والحرص عليها مكروه في الإسلام إن لم يكن محرمًا، وأغلب طلاب الولاية الحريصين عليها إنما يطلبونها للسلطان والجاه والاستعلاء على الناس، وما تؤدي ولاية هؤلاء غالبًا إلا إلى الفساد والإفساد. وقد نهى الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن طلب الامارة والحرص عليها ومنعها من طالبيها، فَعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَخَلَ رَجُلاَنِ مِنْ بَنِي عَمِّهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاَّكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِنَّا وَاللهِ لاَ نُوَلِّي عَلَى هَذَا العَمَلِ أَحَدًا [سَأَلَهُ]، وَلاَ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ». وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ».

وأولى بالمنع من الولاية من طلبها وهو ضعيف ليس أهلاً لها ولا يقدر على القيام بحقها، ولقد منعها الرسول أبا ذر لضعفه فيروى عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟ [قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي]، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ القِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الذِي عَلَيْهِ فِيهَا».

السلطات في الدولة الإسلامية

السُّلُطَاتُ فِي الدَّوْلَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ: تكاد السلطات في الدولة الإسلامية لا تخرج عن خمس: هي: السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة المالية وسلطة المراقبة والتقويم. ويقوم الإمام باعتباره نائبًا عن الأمة في مباشرة هذه السلطات في حدود ما أمر الله به من جعل كل أمور الحكم شورى بين المسلمين، وفي حدود ما أمر الله به الحاكم من استشارة أهل الرأي في كل أمور الحكم، وسنتكلم فيما يأتي على هذه السلطات واحدة واحدة. أَوَّلاً: السُّلْطَةُ التَّنْفِيذِيَّةُ: يقوم عليها رئيس الدولة وهو الإمام، ويختص بها وحده، فمن واجبه القيام بكل الأعمال التنفيذية لإقامة الإسلام وإدارة

شؤون الدولة في حدود الإسلام، ويدخل في هذا التعبير العام اختصاصات شتى أهمها تعيين الموظفين وعزلهم وتوجيههم ومراقبة أعمالهم، وقيادة الجيش وإعلان الحرب وعقد الصلح والهدنة وإبرام المعاهدات، وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام، وولاية الصلاة والحج وحمل الناس على ما يصلح أمورهم ويوجههم وجهة الإسلام صحيحة بما يسنه من لوائح ويصدره من أوامر، والعفو عما يجوز العفو عنه من الجرائم والعقوبات. والأصل في الإسلام أن الإمام هو رئيس الدولة ومصرف أمورها والمسؤول الأول عن أعمالها، ومسؤولية الإمام ليست محدودة، وإنما هي مسؤولية تامة فهو الذي يضع سياسة الدولة ويشرف على تنفيذها وهو الذي يهيمن على كل أمور الدولة ومصائرها. وللإمام أن يستعين بالوزراء في القيام على شؤون الدولة وتوجيه أمورها، ولكنهم مسؤولون أمامه عن أعمالهم وليس لهم سوى تنفيذ سياسته واتباع أوامره، ومركزهم منه مركز النواب عنه يعينهم ويقيلهم، وهم أفراد أو مجموعات، يستمدون سلطانهم منه وينوبون عنه فيما يباشرون من أعمالهم، وكل منهم يعتبر رئيسًا إداريًا للوزارة التي يشرف عليها، وآراؤهم وسياستهم لا تقيد رئيس الدولة ما لم يسكت عليهم حتى ينفذوها فيتقيد بما تم تنفيذه منها. وإذا كان هذا هو الأصل في سلطة الإمام وسلطة الوزراء

فإن التطورات التاريخية قد انتهت بجعل الوزارة على ضربين: وزارة تفويض ووزارة تنفيذ: فأما وزارة التفويض فهي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده، ووزير التفويض له اختصاص عام إلا أن عليه أن يطالع الإمام بما أمضاه من تدبير وأنفذه من عمل، لأنه مسؤول عن كل عمله وليس له أن يستبد بعمله على الإمام. وللامام من جهته أن يتصفح أعمال الوزير وتدبيره الأمور ليقر منها ما وافق الصواب ويستدرك ما خالفه (¬1). وأما وزارة التنفيذ فالنظر فيها مقصود على رأي الإمام وتدبيره، وما الوزير إلا وسيط بينه وبين الرعايا والولاة يؤدي عنه ما أمر وينفذ ما ذكر ويمضي ما حكم ويعرض على الإمام ما ورد من الرعايا والولاة وما استجد من أحداث ليعمل فيها بما يؤمر به، فهو معين في تنفيذ الأمور وليس بِوَالٍ عَلَيْهَا ولا متقلد لها (¬2). ويفرقون بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ من أربعة وجوه: ¬

_ (¬1) " الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 21 وما بعدها، " الأحكام السلطانية " للفراء: ص 15 وما بعدها. (¬2) " الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 25 وما بعدها، " الأحكام السلطانية " للفراء: ص 15 وما بعدها.

ثانيا: السلطة التشريعية

أحدها: أنه يجوز لوزير التفويض مباشرة الحكم والنظر في المظالم وليس ذلك لوزير التنفيذ. والثاني: أنه يجوز لوزير التفويض أن يستبد بتقليد الولاة والموظفين وليس ذلك لوزير التنفيذ. والثالث: أنه يجوز لوزير التفويض أن ينفرد بتسيير الجيوش وتدبير الحروب وليس ذلك لوزير التنفيذ. والرابع: أنه يجوز لوزير التفويض أن يتصرف في أموال بيت المال بقبض ما يستحق له ودفع ما يجب عليه وليس ذلك لوزير التنفيذ. وسواء كان الوزراء مفوضين أو منفذين فهم مسؤولون أمام رئيس الدولة وله أن يقيلهم كلما خرجوا على أوامره وتوجيهاته أو انحرفوا عن سياسته في إدارة شؤون الدولة. ورئيس الدولة بدوره مسؤول عن سياسته لأمور الدولة أمام أفراد الأمة بصفة عامة وأمام أهل الشورى بصفة خاصة. ثَانِيًا: السُّلْطَةُ التَّشْرِيعِيَّةُ: الأصل في الشريعة الإسلامية أنها جاءت للناس لتحكمهم في كل حالاتهم، وليحكموها في شؤون دنياهم وآخرتهم، ولكن الشريعة مع هذا لم تأت بنصوص تفصيلية تبين حكم كل الحالات الجزئية والفرعية، وإنما اكتفت الشريعة في أغلب الأحوال

بإيراد الأحكام الكلية والمبادئ العامة، فإذا تعرضت لحكم فرعي فنصت عليه فإنما تنص عليه لأنه يعتبر حُكْمًا كُلِّيًّا أو مبدأ عامًا بالنسبة لما يدخل تحته من فروع أخرى. والأحكام الكلية والمبادئ العامة التي نصت عليها الشريعة تعتبر بحق القواعد العامة للتشريع الإسلامي، والهيكل الذي يمثل معالم التشريع الإسلامي، والضوابط التي تحكم التشريع الإسلامي. وقد تركت الشريعة لأولي الأمر والرأي في الأمة أن يتموا بناء التشريع على هذه القواعد، وأن يستكملوا هذا الهيكل فيبينوا دقائقه وتفاصيله في حدود المبادئ والضوابط التي جاءت بها الشريعة. والطريقة التي التزمتها الشريعة في التشريع هي الطريقة الوحيدة التي تتلاءهم مع شريعة كُتِبَ لها الدوام وجعل من صفاتها السمو والكمال، فصفة الدوام تقتضي أن لا ينص على حالات مؤقتة تتغير أحكامها بتغير الظروف وتوالي الأيام. والسمو والكمال يقتضيان النص على المبادئ والنظريات الإنسانية والاجتماعية التي تكفل حياة سعيدة للجماعة، وتحقق العدل والمساواة والبر والتراحم بين أفرادها. وإذا كانت الشريعة قد أعطت أولي الأمر والرأي في الأمة حق التشريع فإنها لم تعطهم هذا الحق مطلقًا من كل قيد، فحق هؤلاء التشريع مقيد بأن يكون ما يصنعونه من

التشريعات متفقًا مع نصوص الشريعة ومبادئها العامة وروحها التشريعية. وتقييد حقهم في التشريع على هذا الوجه يجعل حقهم مقصورًا على نوعين من التشريع: [أ] تشريعات تنفيذية: يقصد بها ضمان تنفيذ نصوص الشريعة الإسلامية، والتشريع على هذا الوجه يعتبر بمثابة اللوائح والقرارات التي يصدرها الوزراء اليوم كل في حدود اختصاصه لضمان تنفيذ القوانين الوضعية. [ب] تشريعات تنظيمية: يقصد بها تنظيم الجماعة وحمايتها وسد حاجتها على أساس مبادئ الشريعة العامة، وهذه التشريعات لا تكون إلا فيما سكتت عنه الشريعة فلم تأت فيه بنصوص خاصة: ويشترط في هذا النوع من التشريعات أن يكون قبل كل شيء متفقًا مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية، وإلا كان باطلاً بطلانا مطلقًا، فليس لأحد أن ينفذه وليس لأحد أن يطيعه. ويمارس الإمام وحده السلطة التشريعية فيما يصدر من تشريعات تنفيذية، لأنها تعتبر من أعمال التنفيذ الحقيقية وإن كانت في شكلها تشريعًا. ويمارس الإمام بالاشتراك مع أهل الشورى السلطة التشريعية فيما عدا ذلك في حدود الشورى وبقيودها التي سبق

ثالثا: السلطة القضائية

بيانها، فإذا ما انتهت بهم الشورى إلى إقرار تشريع ما استقل الإمام بتنفيذه، لأنه هو القائم على سلطة التنفيذ. ثَالِثًا: السُّلْطَةُ القَضَائِيَّةُ: مهمة هذه السلطة هي توزيع العدالة بين الناس والحكم في المنازعات والخصومات والجرائم والمظالم، واستيفاء الحقوق ممن مطل بها وإيصالها إلى مستحقيها والولاية على فاقدي الأهلية والسفهاء والمفلسين، والنظر في الأوقاف وأموالها وغلاتها إلى غير ذلك مِمَّا يعرض على القضاء. والإسلام يوجب على القضاة أن لا يجعلوا لأحد عليهم سلطانًا في قضائهم، وأن لا يتأثروا بغير الحق والعدل، وأن يتجردوا عن الهوى وأن يسووا بين الناس جميعا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135]. وتاريخ القضاء الإسلامي قاطع في أن القضاة كانوا دائمًا مستقلين في عملهم لا سلطان لأحد عليهم إلا الله، ولا يخضعون

في قضائهم إلا لما يقضي به الحق والعدل. من ذلك أن ابراهيم بن اسحق قاضي مصر سنة 204 هـ اختصم إليه رجلان فقضي على أحدهما فشفع إلى الوالي فأمره الوالي أن يتوقف في تنفيذ الحكم، فجلس القاضي في منزله حتى ركب إليه الوالي وسأله الرجوع إلى عمله، قال: لا أعود إلى ذلك المجلس أبدًا، ليس في الحكم شفاعة. ووقع بين أم المهدي وبين أبي جعفر المنصور خصومة، فتحاكما إلى غوث بن سليمان قاضي مصر، فحكم لصالح أم المهدي ضد الخليفة. وقضي خير بن نعيم على أحد الجنود بالحبس فأخرجه الوالي من المحبس، فاعتزل خير بن نعيم وجلس في بيته فلما طلب منه الوالي الرجوع لعمله قال: لا حتى يعود الجندي إلى المحبس. ولقد قضى شريح على عمر بن الخطاب في خلافته، وقضى ضد علي بن أبي طالب في خلافته، وكلاهما ترافع إليه وهو يعتقد أنه على حق، والأمثلة من هذا النوع كثيرة جدًا. والإمام هو الذي يولي القضاة بصفته نائبًا عن الأمة، وله الإشراف عليهم وعزلهم بهذه الصفة ولا يعتبر القضاة بمجرد تعيينهم نوابًا عن الإمام، إنما يعتبرون نوابًا عن الأمة، ولذلك لا يعزلون عن عملهم بموت الإمام أو عزله،

القضاة وشرعية القوانين

كما أن الإمام لا يملك عزلهم لغير سبب يوجب العزل. وعلى هذا الأساس يعتبر القضاة سلطة مستقلة مصدرها الأمة، وإذا كان الإشراف على هذه السلطة للإمام فإنما يشرف عليها بصفته نائبًا عن الأمة. ويلاحظ أن التقاليد الإسلامية جرت من أول عهد الإسلام على أن يباشر رئيس الدولة القضاء، فقد كان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقضي بين الناس وكذلك كان الخلفاء الراشدون، وكان المتفقهون من الخلفاء بعدهم يقضون، ثم انتهى الأمر إلى ترك القضاء للقضاة المختصين به، ولعل ذلك راجع إلى عدم إلمام الخلفاء بالفقه أو عدم مرانهم على القضاء. القضاة وشرعية القوانين: ويوجب الإسلام على القضاة أن يتصدوا لشرعية القوانين والنصوص، وأن لا يحكموا إلا بما أنزل الله، وبما هو تطبيق لمبادئ الإسلام العامة، وذلك قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]. وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]. ويحرم الإسلام على المسلمين أن يحكموا بغير ما أنزل الله، ويعتبر من لم يحكم بما أنزل الله كافرًا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ

رابعا: السلطة المالية

بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. وهكذا نزلت نصوص القرآن بوجوب تصدي القضاة لشرعية القوانين التي يطلب إليهم تطبيقها، فإن كانت شرعية طبقوها وإلا أهملوها وطبقوا نصوص الشريعة أو تطبيقًا لمبادئها العامة وروحها التشريعية. وبذلك سبق الإسلام القوانين الوضعية بحوالي ثلاثة عشر قرنًا في تقرير نظرية شرعية القوانين أو ما نسميه اليوم في عرفنا القانوني بنظرية دستورية القوانين. رَابِعًا: السُّلْطَةُ المَالِيَّةُ: ولقد أوجد الإسلام من يوم إنشاء الدولة الإسلامية سلطة مستقلة أخرى لم تكن معروفة من قبل ولم يعرفها العالم كله إلا في هذا القرن، تلك هي السلطة المالية، فقد كان الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَيِّنُ عُمَّالاً يستقلون بأمر القضاء. وَعُمَّالاً يستقلون بأمر الإدارة وَعُمَّالاً يستقلون بأمر الصدقات يجمعونها من الأغنياء في كل منطقة ليردوها على فقراء المنطقة، فما بقي منها نقل إلى بيت المال. ولما فتح الله على المسلمين اتسع اختصاص القائمين على السلطة المالية فكان يشمل الصدقات والخراج والجزية والفيء والغنيمة، وكان المال الذي يجمع من هذه المصادر يوزع طبقًا

لما جاء في كتاب الله وعلى ما جرت به سنة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فما كان من نصيب أفراد معيين وطوائف معينة وزع عليهم، وما كان من حق الجميع أرسل إلى بيت المال ليوزع على الجميع وليأخذ كل منه بنصيب حتى لقد فرض عمر في بيت المال فروضًا شهرية لكل رجل ولكل امرأة ولكل كبير وصغير، بل إنه فرض لكل طفل يولد بمجرد ولادته، وظلت هذه الفروض قائمة في بيت المال زمنًا طويلاً. ولقد كان عمر بن الخطاب يحلف على أيمان ثلاث يقول: «وَاللَّهِ مَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا المَالِ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا أَنَا بِأَحَقَّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إِلاَّ وَلَهُ فِي هَذَا المَالِ نَصِيبٌ إِلاَّ عَبْدًا مَمْلُوكًا، وَلَكِنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَسْمِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالرَّجُلُ وَبَلاؤُهُ فِي الإِسْلامِ، وَالرَّجُلُ وَقَدَمُهُ فِي الإِسْلامِ، وَالرَّجُلُ وَغَنَاؤُهُ فِي الإِسْلامِ، وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ، وَوَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَهُمْ، لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِيَ بِجَبَلِ صَنْعَاءَ حَظُّهُ مِنْ هَذَا المَالِ وَهُوَ يَرْعَى مَكَانَهُ». وإذا كان عمر قد ميز بالسابقة والقدم في الإسلام، فميز المهاجرين على الأنصار وأصحاب بدر على غيرهم وهكذا، إلا أنه رأى أخيرًا أن يعدل عن هذا التمييز ويعود إلى ما كان يفعله أبو بكر من التسوية بين الجميع. وكان أبو بكر وعلي يسويان بين الناس في قسمة المال العام، أما عثمان فكان على ما كان عليه عمر من المفاضلة

والتمييز، وكان أبو بكر يقسم بين الحر والعبد، أما عمر فمنع العبيد اجتهادًا لأنهم لا ملك لهم، على أن الثابت أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الأَمَةَ ولا فرق بين الأَمَةِ وَالعَبْدِ. والتسوية أقرب إلى عمل رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقوله، فَقَدْ سَأَلَهُ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَكُونُ حَامِيَةَ القَوْمِ، أَيَكُونُ سَهْمُهُ وَسَهْمُ غَيْرِهِ سَوَاءً؟ قَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ سَعْدٍ، وَهَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ». أما اعتبار المال مال الله ليس أحد أحق به من غيره فهو قوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أُعْطِيكُمْ وَلاَ أَمْنَعُكُمْ، إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ» وعن الرسول أخذ عمر مقالته، وعنه قال علي بن أبي طالب ما أثر عنه: «أَلاَ إِنَّ مَفَاتِيحَ مَالِكُمْ مَعِي أَلاَ وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي أَنْ آخُذَ مِنْهُ دِرْهَمًا دُونَكُمْ». والإمام بصفته نائبًا عن الأمة كلها هو المشرف على القائمين على السلطة المالية، يوليهم ويعزلهم ويراقبهم بصفته هذه، ولكنهم يعتبرون نوابًا عن الأمة لا عنه بمجرد تعيينهم كما هو شأن القضاة، فما يعزلون بموت الإمام ولا يجوز له عزل أحدهم إلا بسبب يوجبه، ومِمَّا يؤثر في هذا الباب أن خازن بيت المال في عهد عثمان اعترض على صرف أموال لم ير جواز صرفها، فقال له عثمان: إنك خازن، فرد عليه بأنه خازن بيت مال المسلمين لا خازنه الخاص.

خامسا: سلطة المراقبة والتقويم

فالقائمون على السلطة المالية مستقلون في عملهم ليس لأحد عليهم سلطان إلا ما جاء به القرآن والسنة، فهو رائدهم يتبعونه ويلتزمونه، وعلى هذا جرى العمل حتى انحرف الحكام بالإسلام عن طريقه وحرفوا أحكامه. والأموال التي تحصل محدودة النسب معلومة المقادير في الأموال العادية، ويمكن زيادتها في الأموال الاستثنائية بموافقة أهل الشورى إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة، وليس للقائمين على السلطة المالية أو للإمام وهو المشرف عليهم أن يتصرفوا بأي حال في هذه الأموال إلا في الوجوه التي حددها الإسلام، وليس لهم أن يأخذوا منها لأنفسهم أكثر من مرتباتهم التي تحدد لهم في حدود حاجاتهم المختلفة وفي حدود قول الرسول: «مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلاً فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا». قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أُخْبِرْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اتَّخَذَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ أَوْ سَارِقٌ» وفي حدود قول الرسول: «مَنِ [اسْتَعْمَلْنَاهُ] عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ». خَامِسًا: سُلْطَةُ المُرَاقَبَةِ وَالتَّقْوِيمِ: هذه هي سلطة الأمة جمعاء في مراقبة الحكام وتقويمهم، وينوب عن الأمة في القيام بها أهل الشورى والعلماء والفقهاء.

وهذه السلطة مقررة للأمة من وجهين: أحدهما: أن الأمة يجب عليها مراقبة الحكام وتقويمهم بما أوجب الله على الأمة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. ولقد بين لنا الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى الفساد فقال: «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ، ثُمَّ يَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ» وأوجب على كل قادر على تغيير المنكر أن يغيره ما استطاع لذلك سبيلاً، وجعل أدنى درجات التغيير عند العاجز أن يكره المنكر بقلبه، وأن يبغض فاعليه ويمقتهم عليه: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ». وثانيهما: أن الأمة هي مصدر سلطان الحكام باعتبارهم نوابًا عنها، وبما يلزم الله الحكام من الرجوع إلى الأمة واستشارتها في كل أمور الحكم والتزام ما يراه ممثلوها: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].

وإذا كانت الأمة هي مصدر سلطان الحكام، وكان الحكام نوابًا عنها، فللأمة أن تراقبهم في كل أعمالهم، وأن تردهم إلى الصواب كلما أخطأوا، وتقومهم كلما اعوجوا. وسلطة الأمة في مراقبة الحكام وتقويمهم ليست محل جدل، فالنصوص التي جاءت بها قاطعة في دلالتها وصراحتها، وخلفاء الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا أول من عمل بها وطبقها، وما عطل هذه النصوص وأنكر سلطان الأمة إلا الذين فسقوا عن أمر الله، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، نصبوا من أنفسهم جبابرة على هذه الأمة يسلبونها حقوقها، وينكرون سلطانها، ويستعملون عليها وما فعلوا ذلك وما جرأهم عليه إلا سكوت الأمة عن إقامة أمر ربها، وتهاونها في الدفاع عن حقوقها والتمسك بسلطانها. ولقد ولى أبو بكر الحكم بعد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان أول ما تفوه به هو اعترافه بسلطان الأمة عليه وحقها في تقويم إعوجاجه. خطب أول خطبة له بعد المبايعة فقال فيها: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي». وولى عمر الحكم فكان يقول في خطبة: «مَنْ رَأَى فِيَّ اعْوِجَاجًا فَلْيُقَوِّمْهُ» حَتَّى قَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: «وَاللهِ لَوْ رَأَيْنَا فِيكَ اعْوِجَاجًا لَقَوَّمْنَاهُ بِسُيُوفِنَا». وكان عثمان يقول: «إِنْ وَجَدْتُمْ فِي كِتَاب اللهِ أَنْ تَضَعُوا

رِجْلَيَّ فِي القَيْدِ، فَضَعُوا رِجْلَيَّ فِي القَيْدِ». وكان أول ما قاله علي: «إِنَّ هَذَا أَمْرُكُمْ لَيْسَ لأَحَدٍ فِيهِ حَقٌّ إِلاَّ مَنْ أَمَرْتُمْ. أَلاَ إِنَّهُ لَيْسَ لِي أَمْرٌ دُونَكُمْ». بل كان عليه صلحاء الأمة في العصور الأولى فما كانوا يتأخرون في الدفاع عن حقوق الأمة وسلطانها كلما واتتهم الفرصة. كان بين عمر بن الخطاب ورجل كلام في شيء فقال له الرجل: «اِتَّقِ اللهَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ»، فَقَالَ لَهُ رَجِلَ مِنْ القَوْمِ: «أَتَقَُولُ لأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ اِتَّقِ اللهَ؟»، فَقَالَ عُمَرُ: «دَعْهُ فَلْيَقُلْهَا لِي نِعْمَ مَا قََالَ. لاَ خَيْرَ فِيكُمْ إِذَا لَمْ تَقَُولُوهَا لَنَا، وَلاَ خَيْرَ فِينَا إِذَا لَمْ نَقْبَلْهَا مِنْكُمْ». وَصَعَدَ عُمَرُ المِنْبَرَ يَوْمًا وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ - وَالحُلَّةُ ثَوْبَانِ - فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ تَسْمَعُونَ؟»، فَقَالَ سَلْمَانُ: «لاَ نَسْمَعُ»، فَقَالَ عُمَرُ: «وَلِمَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟»، قَالَ: «إنَّك قَسَّمْت عَلَيْنَا ثَوْبًا ثَوْبًا وَعَلَيْك حُلَّةٌ»، فَقَالَ: «لاَ تَعْجَلْ. يَا أبَا عَبْدِ اللَّهِ»، ثُمَّ نَادَى عَبْدَ اللَّهِ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ»، فَقَالَ: «لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ»، فَقَالَ: «نَشَدْتُك اللَّهَ الثَّوْبُ الذِي ائْتَزَرْتُ بِهِ أَهْوَ ثَوْبُكَ؟»، قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ»، فَقَالَ سَلْمَانُ: «أَمَّا الآنَ فَقُلْ نَسْمَعْ». وحبس معاوية العطاء عن الناس ذات مرة فقام إليه أَبُو مُسْلِمٍ الخَوْلاَنِيِّ، فَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَاوِيَةُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّكَ وَلاَ مِنْ كَدِّ

أَبِيكَ وَلاَ كَدِّ أُمِّكَ»، فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ وَنَزَلَ عَنْ المِنْبَرِ، وَقَالَ لِلْنَّاسِ: «مَكَانَكُمْ»، وَغَابَ عَنْهُمْ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ اغْتَسَلَ، فَقَالَ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَلَّمَنِي بِكَلاَمٍ أَغْضَبَنِي، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ"، وَإِنِّ دَخَلْتُ فَاغْتَسَلْتُ، وَصَدَقَ أَبُو مُسْلِمٍ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّي وَلاَ مِنْ كَدِّ أَبِي فَهَلُمُّوا إِلَى عَطَائِكُمْ». وأدخل سفيان الثوري على أبي جعفر المنصور، فقال له: «ارْفَعْ إِلَيْنَا حَاجَتَكَ»، فقال: «اتَّقِ اللهَ فَقَدْ مَلأْتَ الأَرْضَ ظُلْمًا وَجَوْرًا»، فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَهُ فَقَالَ: «ارْفَعْ إِلَيْنَا حَاجَتَكَ»، فَقَالَ: «إِنَّمَا أُنْزِلْتَ فِي هَذِهِ المَنْزِلَةِ بِسُيُوفِ المُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَارِ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَمُوتُونَ جُوعًا فَاتَّقِ اللهَ وَأَوْصِلْ إِلَيْهِم حُقُوقَهُم»، فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَهُ فَقَالَ: «ارْفَعْ إِلَيْنَا حَاجَتَكَ»، فَقَالَ: «حَجَّ عُمَرُ فَقَالَ لِخَازِنِهِ: " كَمْ أَنْفَقْتَ؟ "»، قَالَ: «بِضْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا أَرَى هَاهُنَا أَمْوَالاً لاَ تُطِيقُ الجِمَالُ حَمْلَهَا»، ثُمَّ خَرَجَ. فهؤلاء لم يواجهوا الخلفاء هذه المواجهة إلا بما للأمة من سلطان مراقبة الحكام وتقويم اعوجاجهم، وما قبل منهم الخلفاء هذا التحدي وما استجابوا لهم إلا لعلمهم أن للأمة سلطانًا، وأن عليهم أن يطأطئوا رؤوسهم لهذا السلطان.

واجبات الامام وحقوقه

وَاجِبَاتُ الإِمَامِ وَحُقُوقِهِ: إذا اختار أهل الشورى إمامًا وبايعوه، ثبتت له الإمامة بالبيعة، وثبوت الإمامة له يلزمه واجبات يسأل عن أدائها، ويجعل عليه مسؤوليات لا حصر لها، ولكنه في الوقت نفسه يرتب له حقوقًا على الأمة تظل قائمة ما قام الإمام بواجباته ولم يقصر في القيام على مسؤولياته. وَاجِبَاتُ الإِمَامِ: تنحصر واجبات الإمام على كثرتها في واجبين أحدهما إقامة الإسلام، والآخر إدارة شؤون الدولة في حدود الإسلام. وإذا قلنا أن من واجب الإمام إدارة الدولة في حدود الإسلام، فمعنى ذلك أن من واجبه أن يدير شؤون الدولة في حدود الشورى، لأن الإسلام يجعل الشورى فريضة على

المسلمين، ويلزم الحكام أن يستشيروا المحكومين في كل أمور الحكم ويأخذوا برأيهم أو برأي أكثريتهم إن لم يجمعوا على رأي واحد. وقد حاول بعض الفقهاء أن يعدد واجبات الإمام فحصرها في عشرة أشياء (¬1): أحدهما: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة أي إقامة الدين على وجهه الصحيح بتعبيرنا العصري. الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بينهم، أي إقامة العدل بين الناس وتنفيذ الأحكام. الثالث: حماية البيضة والذب عن الحوزة ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين، أي نشر الأمن في الداخل. الرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك. أي تنفيذ عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص. الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا يظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرمًا ويسفكون فيها دَمًا ¬

_ (¬1) " الأحكام السلطانية " للفراء: ص 11، و" الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 15.

مسؤولية الإمام في أداء واجباته

لمسلم أو معاهد. أي حماية الأمن الخارجي بالعدة والاستعداد الدائمين. السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة. السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًا واجتهادًا من غير عسف. الثامن: تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير. التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد العظماء فيما يفوضه إليهم من الأعمال. العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة. هذه هي واجبات الإمام كما حددها بعض الفقهاء وهي تدخل جميعًا تحت واجبين اثنين هما إقامة الدين وإدارة شؤون الدولة في حدوده. مَسْؤُولِيَةُ الإِمَامِ فِي أَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ: والإمام في أدائه لواجباته مسؤول عن أخطائه وإهماله وتقصيره وسوء استعماله للسلطة الممنوحة له، فضلاً عما يتعمده من خروج على حدود سلطاته وما يرتكبه من جور أو

عسف أو ظلم، وهو في هذا كله خاضع للنصوص العامة، لأن الإسلام لا يفرق بين فرد وفرد، ولا بين حاكم ومحكوم بل الكل سواء يسري على هذا ما يسري على ذاك دون تمييز. ويؤكد مسؤولية الإمام وعدم تمييزه عن أي فرد آخر من أفراد الأمة قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ رَاعٍ عَلَى رَعِيَّتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْهُ» وقوله: «لاَ يَسْتَرْعِي اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَبْدًا رَعِيَّةً، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، إِلاَّ سَأَلَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ، أَقَامَ فِيهِمْ أَمْرَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمْ أَضَاعَهُ؟ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ خَاصَّةً» وقوله: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ» وفي رواية «فَلَمْ يَحُطْهَا بِنُصْحِهِ لَمْ [يَجِدْ] رَائِحَةَ الجَنَّة» وقوله: «مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أُمُورَ المُسْلِمينَ، ثُمَّ لا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ لَهُمْ، إلا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الجَنَّةَ». بل أن أحاديث الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تؤكد أن مسؤولية الإمام أكثر من مسؤولية أي فرد عادي وذلك ظاهر مِمَّا سبق ومن قوله «مَنْ وَلاهُ اللهُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ المُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وقوله: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ هَذِهِ الأُمَّةِ [قَلَّتْ أَمْ كَثُرَتْ] فَلاَ يَعْدِلُ فِيهِمْ إِلاَّ كَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ»، وقوله:

«مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلاَّ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مَغْلُولًا، لاَ يَفُكُّهُ إِلاَّ الْعَدْلُ». وَمِمَّا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ بِشْرَ بْنَ عَاصِمٍ عَلَى صَدَقَاتِ هَوَازِنَ فَتَخَلُّفِ بِشْرٌ، فَلَقِيَهُ عُمَرُ فَقَالَ: مَا خَلَّفَكَ؟ أَمَا لَنَا عَلَيْكَ سَمْعٌ وَطَاعَةٌ؟ فَقَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أُتِيَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُوقَفَ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ، فَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَجَا، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا انْحَرَفَ الجِسْرُ فَهَوَى فِيهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا». فَخَرَجَ عُمَرُ كَئِيبًا [حَزِينًا]، فَلَقِيَهُ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ كَئِيبًا حَزِينًا؟ قَالَ: [وَمَا يَمْنَعُنِي] أَنْ أَكُونَ كَئِيبًا حَزِينًا، وَقَدْ سَمِعْتُ بِشْرَ بْنَ عَاصِمٍ يَقُولُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَذَا، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: وَمَا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ وَلِيَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ , أُتِيَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ , حَتَّى يُوقَفَ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ، فَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَجَا، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا انْخَرَقَ الجِسْرُ , فَهَوَى سَبْعِينَ خَرِيفًا، وَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ»، فَأَيُّ الْحَدِيثَيْنِ أَوْجَعُ لِقَلْبِكَ؟ قَالَ: كِلاَهُمَا قَدْ أَوْجَعَ قَلْبِي، فَمَنْ يَأْخُذُ بِمَا فِيهَا؟ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: مَنْ سَلَتَ (¬1) اللَّهُ أَنْفَهُ، وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالأَرْضِ أَمَا إِنَّا لاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا وَعَسَى إِنْ وُلِّيتُهَا مَنْ لاَ يَعْدِلُ فِيهَا , أَنْ لاَ تَنْجُوَ مِنْ إثْمِهَا. ¬

_ (¬1) جدع أنفه.

وعمر بن الخطاب الذي أوجع قلبه هذا الحديث هو الذي كان يقول: «لَوْ مَاتَتْ شَاةٌ عَلَى شَطِّ الفُرَاتِ ضَائِعَةً لَظَنَنْتُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَائِلِي عَنْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ». وهو الذي رآه على ابن أبي طالب على قتب يغدو فقال له: «يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَيْنَ تَذْهَبُ؟»، فَقَالَ: «بَعِيرٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ أَطْلُبُهُ»، فَقَالَ عَلِيٌّ: «لَقَدْ أَذْلَلْتَ الخُلَفَاءَ بَعْدَكَ»، قَالَ: «لاَ تَلُمْنِي يَا أَبَا الحَسَنِ فَوَالذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالنَّبَوَّةِ لَوْ أَنَّ عِنَاقًا ذَهَبَتْ بِشَاطِئِ الفُرَاتِ لأُخِذَ بِهَا عُمَرُ يَوْمَ القِيَامَةِ». عمر بن الخطاب الذي أوجع قلبه هذا الحديث هو الذي كان يهنأ بنفسه إبل الصدقة، وهو الذي كان يقتص من نفسه ويقتص من عُمَّالِهِ، وهو الذي عزل أحد عُمَّالِهِ لأنه لاَ يُقَبِّلُ وَلَدَهُ، وهو الذي عزل أحد قواده لأنه أنزل جنديا في الماء يرتاد مخاضة ليجوز منها الجيش فمات الجندي من البرد ولم يترك عمر القائد حتى ألزمه الدية. عمر بن الخطاب الذي أوجع قلبه هذا الحديث هو الذي لاَنَ قلبه في الله حتى لهو ألين من الزبد، واشتد قلبه في الله حتى لهو أشد من الحجر، وهو الذي قال فيه رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ». كان إذا أتاه الخصمان برك على ركبتيه وقال: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُرِيدُنِي عَلَى دِينِي». وكلمته امرأته في أحد عماله فقال: «يَا عَدُوَّةَ اللَّهِ، وَفِيمَ أَنْتِ وَهَذَا، إِنَّمَا أَنْتِ لُعْبَةٌ يُلْعَبُ بِكِ، ثُمَّ تُتْرَكِينَ». وأرسل إليه عامله على أذربيجان

سفطين من الخبيص فلما ذاقه وجد شيئًا حلوًا، فقال للرسول: «أَكُلَّ الْمُسْلِمِينَ يَشْبَعُ مَنْ هَذَا فِي رَحْلِهِ؟» قَالَ: لاَ، قال: «أَمَّا لاَ فَارْدُدْهُمَا»، ثم كتب إلى عامله: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّكَ وَلَا مِنْ كَدِّ أَبِيكَ، وَلَا مِنْ كَدِّ أُمِّكَ أَشْبِعِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي رَحْلِكَ». وأرسل إلى امرأة بلغه أن الرجال يتحدثون عنها، فلما جاءها الرسول ضربها المخاض من الخوف فألقت غلاما، فوداه عمر لا من بيت المال وإنما من مال عاقلته. والقاعدة في الشريعة أن الإمام يقتص منه في كل ما تعمده من جور فجار به على الناس، فإذا قتل إنسانا قتل به وإذا قطع إنسانا قطع به سواء باشر الفعل كأن ضربه بسيف أو تسبب فيه كأن حكم عليه ظلمًا بالقتل أو القطع. ولكن الإمام لا يسأل جنائيًا إذا أدى عمله طبقًا للحدود المرسومة للعمل، أما إذا تعدى هذه الحدود فهو مسؤول جنائيًا عن عمله إذا كان يعلم أن لا حق له فيه، أما إذا حسنت نيته فأتى العمل وهو يعتقد أن من واجبه إتيانه فلا مسؤولية عليه من الناحية الجنائية. وكما يسأل الإمام عن عمده يسأل عن خطأه، لكنهم اختلفوا في ضمان الخطأ فرأى البعض أن الضمان على الإمام وعاقلته لأنه ضمان وجب بخطئه فمسؤوليته عنه كمسؤولية أي مخطئ، ورأى البعض أن ضمان الخطأ في بيت المال لأن خطأ الإمام يكثر فلو وجب الضمان في ماله ومال عاقلته لأجحف

حقوق الإمام

بهم فضلاً عن أن الحاكم يعمل للجماعة وليس لنفسه (¬1). حُقُوقُ الإِمَامِ: وللإمام حقان في مقابل قيامه بواجباته، أحدهما حق له على الناس، والثاني حق له في مال المسلمين. حَقُّ الإِمَامِ عَلَى النَّاسِ: وحق الإمام على الناس هو حق السمع والطاعة، ولكن هذا الحق ليس حقًا مطلقًا وإنما هو مقيد بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. فالطاعة واجبة لأولي الأمر في حدود ما أنزل الله بدليل أن ما يتنازع فيه يرد إلى أمر الله ورسوله، فمن أمر منهم بما يتفق مع ما أنزل الله فطاعته واجبة ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة. وقد بين الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدود طاعة الناس لأولي الأمر فقال «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ» وقال: ¬

_ (¬1) " المغني ": جـ 1 ص 334، 335، " المهذب ": جـ 2 ص 228، " الأم ": جـ 6 ص 170، 171، " مواهب الجليل ": جـ 6 ص 242، " شرح فتح القدير ": جـ 4 ص 160، 161.

حق الإمام في مال المسلمين

«إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ» وقال: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ» وقال: «إِنَّهُ سَيَلِي أَمْرَكُمْ مِنْ بَعْدِي رِجَالٌ يُطْفِئُونَ السُّنَّةَ، وَيُحْدِثُونَ بِدْعَةً، وَيُؤَخِّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا»، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِي إِذَا أَدْرَكْتُهُمْ؟ قَالَ: «لَيْسَ يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ طَاعَةٌ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ». قَالَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. وهكذا قطع القرآن والسنة في أن طاعة أولي الأمر لا تجب إلا في طاعة الله، وأن ليس لأحد أن يطيع فيما يخالف كتاب الله وسنة رسوله. حَقُّ الإِمَامِ فِي مَالِ المُسْلِمِينَ: عرفنا أن الإمام نائب عن الأمة، والنيابة لا تقتضي بطبيعتها أن يأخذ النائب أجرًا على عمله، ولكن لما كان تفرغ الإمام للنيابة يمنعه من تحصيل عيشه فقد رؤي أن يفرض للإمام من بيت مال المسلمين ما يقوم بعيشه وعيش أهله الذين يعولهم فضلاً عما يصيبه كفرد من الأموال العامة التي تقسم بين الجميع كنصيبه في الفيء وحقه في العطاء. ولم يكن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو رئيس الدولة يختص نفسه بشيء من الأموال العامة مقابل تفرغه لشؤون الدولة، وكان يكتفي بما أفاء الله عليه من أموال بني النضير، بل كان لا يستبقي من هذا الفيء لنفسه وأهله إلا القليل، أما

الباقي فينفقه في سبيل الله وعلى ذوي الحاجة وما عرض له محتاج إلا آثره على نفسه، تارة بطعامه وتارة بلباسه، بل كان ينفق ما في يده وهو وأهله في حاجة إليه. ولما ولي أبو بكر مكث ستة أشهر يدير شؤون الدولة ويقوم بعمله الخاص وهو التجارة التي كان يزاولها قبل أن يكون خليفة، ثم رأى أن أمور الناس لا تصلح مع التجارة، وأنه ما يصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم، فَحَدَّثَ المُسْلِمِينَ وَحَدَّثُوهُ في ذلك، ورأوا أن يتفرغ لشؤون الدولة، فقال لهم لا بد لعيالي مِمَّا يصلحهم، ففرضوا في كل سنة ستة آلاف درهم وهو ما يقوم بحاجته وحاجة عياله مقابل تفرغه لشؤون الدولة، ولكن لما حضرته الوفاة، قال لأهله: انظروا كم أنفقت منذ وليت من بيت المال فاقضوه عني، فوجدوه ثمانية آلاف درهم، فأمر بأن يعطي بيت المال أرضًا يملكها مقابل ما أخذ من المال. وقال لابنته عائشة عند موته: «إنَّا مُنْذُ وُلِيِّنَا أَمْرَ المُسْلِمِينَ لَمْ نَأْكُلْ لَهُمْ دِينارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وَلَكِنَّنَا قَدْ أَكَلْنَا جَرِيشَ طَعَامِهِمْ وَلَبِسْنَا خَشِنَ ثِيَابِهِمْ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ فَيْءِ المُسْلِمِينَ إلاَّ هَذَا العَبْدُ وَهَذَا البَعيرُ وَهَذِهِ القَطِيفَةَ، فَإِذَا مِتُّ فَاِبْعَثِي بِالجَمِيعِ إِلَى عُمَرَ». فلما مات بعثته إلى عمر، فجعل يبكي ويقول: «رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ»، وعرض عبد الرحمن بن عوف على عمر أن يرد هذه الأشياء على عيال أبي

بكر، فقال: «وَالذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا، لاَ يَكُونُ هَذَا فِي وِلاَيَتِي، يَخْرُجُ أَبُو بَكْرٍ مِنْهُ وَأَتَقَلَّدُهُ أَنَا». فهذا أبو بكر يعمل للمسلمين ستة أشهر بلا مقابل، وسنة وأربعة أشهر بمقابل يرده عند وفاته، وهذا عمر يرفض أن يمنح عيال أبي بكر عبدًا وقطعة قطيفة أمر أبو بكر بردها لبيت المال، ولو كان غير أبي بكر من حكام هذا الزمان لأتخم نفسه ثروة في ولايته، ولو كان غير عمر من حكام هذا الزمان لمنح عيال سلفه معاشًا أو أقطعهم إقطاعًا. ثم يلي عمر أمر المسلمين بعد أبي بكر فيمكث زمانًا لا يأكل من مال المسلمين شيئًا حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، فأرسل إلى أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستشارهم فقال: «قَدْ شَغَلْتُ نَفْسِي بِهَذَا الأَمْرِ فَمَا يَصْلُحُ لِي مِنْهُ؟» فَقَالَ عُثْمَانُ: «كُلْ وَأَطْعِمْ»، وَقَالَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنَ زَيْدٍ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ: «مَا تَقُولُ أَنْتَ؟» قَالَ: «غَدَاءٌ وَعَشَاءٌ»، فَأَخَذَ عُمَرُ بِمَا قَالَ عَلِيٌّ، وفي رواية أخرى أن عليًا قال له: «لَيْسَ لَكَ فِي هَذَا المَالِ إِلاَّ مَا أَصْلَحَكَ وَأَصْلَحَ أَهْلَكَ بِالمَعْرُوفِ»، فَقَالَ عُمَرُ: «القَوْلُ مَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ». وتساءل البعض ماذا يحل لأمير المؤمنين من مال الله أي مال الدولة فسمع عمر فقال: «أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا أَسْتَحِلُّ مِنْهُ، تَحِلُّ لِي حُلَّتَانِ حُلَّةٌ فِي الشِّتَاءِ وَحُلَّةٌ فِي القَيْظِ، وَمَا أَحُجُّ عَلَيْهِ وَأَعْتَمِرُ مِنَ الظُّهْرِ، وَقُوتِي وَقُوتِ أَهْلِي كَقُوتِ رَجُلٍ مِنْ

قُرَيْشٍ لَيْسَ بِأَغْنَاهُمْ وَلاَ أَفْقَرِهِمْ، ثَمَّ أَنَا بَعْدَ رَجُلٍ مِنْ المُسْلِمِينَ يُصِيبُنِي مَا أَصَابَهُمْ»، وَقَالَ أَيْضًا: «لاَ يَحِلُ لِي مِنْ هَذَا المَالِ إلاَّ مَا كُنْتُ آكِلاً مِنْ صُلْبِ مَالِي». وكان عمر ينفق كل يوم درهمين له ولعياله وأنفق في حجته ثماني ومائة درهم. وكان يقول: «إِنِّي أَنْزَلْتُ مَالَ اللهِ - أي مال الدولة - مِنِّي بِمَنْزِلَةِ مَالِ اليَتِيمِ، فَإِنْ اسْتَغْنَيْتُ عَفَفْتُ عَنْهُ، وَإِنْ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ بِالمَعْرُوفِ»، وكان ينظر في هذا إلى قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. وجيء لعمر بمال فبلغ ذلك حفصة أم المؤمنين، فجاءت فقالت: يا أمير الؤمنين حق أقربائك من هذا المال، قد أوصى الله بالأقربين. قال: يا بنية حق أقربائي في مالي، وأما هذا ففيء المسلمين، غششت أباك ونصحت أقرباءك، قومي. فقامت تجر ذيلها. ورأى عمر في سكة من سكك المدينة صبية تطيش على وجه الأرض تقوم مرة وتقع أخرى، فقال عمر: «يَا وَيْحَهَا يَا بُؤْسَهَا مَنْ يَعْرِفُ هَذِهِ مِنْكُمْ؟»، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنَ عُمَرَ: «أَوَ مَا تَعْرِفُهَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟»، قَالَ: «لاَ وَمَنْ هِيَ؟»: قَالَ: «هَذِهِ إِحْدَى بَنَاتِكَ، هَذِهِ فُلاَنَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ»، قَالَ: «وَيْحُكَ وَمَا صَيَّرَهَا إِلَى مَا أَرَى؟»، قَالَ: «مَنْعُكَ مَا عِنْدَكَ»، قَالَ: «وَمَنْعِي مَا عِنْدِي مَنَعَكَ أَنْ تَطْلُبَ لِبَنَاتِكَ مَا يَكْسِبُ الأَقْوِيَاءُ لِبَنَاتِهِمْ؟ إِنَّهُ وَاللهِ مَالَكَ عِنْدِي غَيْرَ

سَهْمِكَ فِي المُسْلِمِينَ وَسِعَكَ أَوْ عَجَزَ عَنْكَ، هَذَا كِتَابُ اللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ». وكان عمر يقول: «إِنَّ اللهَ جَعَلَنِي خَازِنًا لِهَذَا المَالِ وَلَمْ يَجْعَلْنِي قَاسِمًا بَلْ اللهُ يُقَسِّمُهُ». ويقول: «مَا مَثَلِي وَمَثَلُ هَؤُلاَءِ إِلاَّ كَقَوْمٍ ساَفَرُوا فَدَفَعُوا نَفَقَاتِهِمْ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَقَالُوا لَهُ: أَنْفِقْ عَلَيْنَا، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ مِنْهَا بِشَيْءٍ؟»،قَالُوا: لاَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. قال: «فَكَذَلِكَ مَثَلِي وَمَثَلُهُمْ». ولم يكن أبو بكر وعمر فيما فَعَلاَ مبتدعين وحاشاهما أن يفعلا، وإنما كانا فيما فَعَلاَ متبعين لرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعاملين بسنته، وبما جاء من عند ربه، ذلك أن الإسلام جعل الاستخلاف في الأرض والاستخلاف في الحكم أمانة. {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72]. وقد أمر الله المسلمين بأداء الأمانات إلى أهلها، وليس ثمة أمانة كالحقوق، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. وحرم عليهم خيانة الله ورسوله بعصيان أمر الله، كما حرم عليهم خيانة أماناتهم في الحكم والعدل وغير ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27]. كذلك حرم الله على المسلم أن يغل، والغلول هو الأثرة على الناس، أو عدم القسمة بالعدل، أو

الخيانة {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]. ولقد قامت رسالة محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على العدل بين الناس {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]. وجعل الله من سيرة رسوله في الناس أسوة حسنة لهم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وما يعدل بين الناس ولايكون لهم أسوة حسنة من يؤثر نفسه عليهم، أو يمز بعضهم على بعض. وإذا كان الحكم أمانة وكان على الحاكم أن يؤدي أمانته فلا يخون الناس ولا يؤثر نفسه بشيء دونهم، وكان عليه أن يعدل بينهم في كل شيء، وأن يتأسى بسيرة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسيسير بمثلها في الناس، إذا كان هذا من واجب الحكام فما فعل أبوبكر وعمر إلا أنهما أَدَّيَا ما أوجبه الله عليهما، وَتَأَسَّيَا بسيرة رسول الله وَتَابَعَا فعله. وَعَمَلُ الرَّسُولِ وَقَوْلُهُ في الأموال العامة معروف مشهور، فعن عمر بن الخطاب قال: «كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا لَمْ يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ، وَلاَ رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، - وفي لفظ: يَحْبِسُ لأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ - وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلاَحِ وَالكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وَعَنْ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

كَانَ إِذَا أَتَاهُ الفَيْءُ قَسَمَهُ فِي يَوْمِهِ، فَأَعْطَى الآهِلَ حَظَّيْنِ، وَأَعْطَى العَزَبَ حَظًّا». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا أُعْطِيكُمْ وَلاَ أَمْنَعُكُمْ، إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ» ويحتج بهذا الحديث في أن الفيء مَالٌ عَامٌّ جعلت قسمته للرسول على الوجه الذي أراه الله. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي قِصَّةِ هَوَازِنَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَنَا مِنْ بَعِيرٍ فَأَخَذَ وَبَرَةً مِنْ سَنَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ لَيْسَ لِي مِنْ هَذَا الْفَيْءُ شَيْءٌ وَلاَ هَذِهِ إلاَّ الخُمُسَ، وَالخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ فَأَدُّوا الخَيْطَ وَالمِخْيَطَ». ويروى عن علي بن أبي طالب أنه سمع رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لاَ يَحِلُّ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ مَالِ اللَّهِ، إِلاَّ قَصْعَتَانِ، قَصْعَةٌ يَأْكُلُهَا هُوَ وَأَهْلُهُ، وَقَصْعَةٌ يَضَعُهَا بَيْنَ يَدَيِ النَّاسِ». فالإمام ليس له من مال الدولة إلا ما يسد حاجته وما يصلح عياله وما زاد عن ذلك فهو خيانة وغلول. وقد يكون أحد الأئمة كثير العيال فيحتاج إلى أكثر مِمَّا يحتاجه غيره، ولكن هذا وذاك لا يصح أن يأخذ مِمَّا يسد حاجته وحاجة عياله. فقد كان أبو بكر يأخذ ستة آلاف درهم

في العام وكان عمر يأخذ كل يوم درهمين على كثرة الأموال العامة في عهد عمر وازدياد الفيء أضعافًا مضاعفة. على هذا الهدى سار الأئمة المهديون وبه تمسكوا، فهذا علي بن أبي طالب يموت وهو خليفة المسلمين فما يترك صفراء ولا بيضاء كما قال ابنه الحسن إلا ثمانية مائة أو سبعمائة درهم أرصدها لخادمه. ولقد كان علي وهو خليفة يلبس إزارًا غليظًا اشتراه بخمسة دراهم، وكانت حمائل سيفه من الليف، وعرض سيفه للبيع ليشتري لنفسه إزارًا، وكان يقول: «مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي هَذَا السَّيْفَ؟ فَوَالذِي فَلَقَ الحَبَّةَ لَطَالَمَا كَشَفْتُ بِهِ الكَرْبَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ كَانَ عِنْدِي ثَمَنُ إِزَارٍ مَا بِعْتُهُ». وما كان المال بعيدًا عن علي بن أبي طالب لو حرص على المال، فقد كان يربط الحجر على بطنه من الجوع، ويعرض سيفه للبيع ليشتري به إزارًا، في حين أن الإيراد اليومي للأموال التي تصدق بها وأوقفها صدقة جارية على الفقراء أربعة آلاف دينار. وما كان المال بعيدًا عن علي لو رضى أن يمد يده للأموال العامة ويأخذ منها حاجته (كما فعل من سبقه من الخلفاء) ولكنه حرم نفسه ذلك يوم بويع للخلافة حيث قال: «أَلاَ وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي أَمْرٌ دُونَكُمْ، أَلاَ إِنَّ مَفَاتِيحَ مَالِكُمْ مَعِي، أَلاَ وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي أَنْ آخُذَ مِنْهُ دِرْهَمًا دُونَكُمْ، أَرَضِيتُمْ؟» قَالُوا: نعم،

قال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ». وكما حرم على نفسه أن يأخذ شيئًا من المال العام فإنه حرم على نفسه أن يبقى على شيء من ماله الخاص، فقد كانت يده تمتلئ بماله الخاص فينفقه كله في سبيل الله، وعلى الفقراء، وَلاَ يُبْقِي لنفسه إلا ما دون الكفاف. وجاء عمر بن عبد العزيز خليفة على المسلمين فلم يرتزق من بيت مال المسلمين شيئًا ولم يرزأه حتى مات، بل لقد رد عمر كل ما كان يملكه قبل أن يكون خليفة إلى بيت مال المسلمين ولم يترك لنفسه إلا عينًا بالسويداء كان استنبطها بعطائه، فكان يأتيه من غلتها كل سنة مائة وخمسون دينارًا أو أقل أو أكثر وكان أكثر طعامه العدس، ولم يكن له إلا ثوب واحد، وبلغ من ورعه أنه كان يطفئ شمعة بيت المال إذا ما انتهى من عمل الدولة ويجلس في سراجه الخاص ورفض أن يتوضأ أو يغتسل بماء ساخن على حجر مطبخ بيت المال إلا بعد أن دفع ثمن الحطب كله، بالرغم من أن صاحب المطبخ أخبره أن الماء سخن على حجر ولو ترك لخمد حتى يصير رمادًا. ونخرج مِمَّا سبق بأن الإمام إذا كان له مال يقوم بحاجته وحاجة عياله فليس له أن يأخذ من مال المسلمين إلا بمقدار ما يأخذ أي فرد آخر، فإذا كان ماله لا يكفي حاجته أخذ من بيت المال ما ينقصه وإن لم يكن له مال أصلاً أخذ من بيت المال ما يقوم بحاجته وحاجة عياله كرجل من أوسط الناس ليس بأغناهم ولا أفقرهم.

حقوق الأفراد في الإسلام

حُقُوقُ الأَفْرَادِ فِي الإِسْلاَمِ: قرر الإسلام من يوم نزوله حقوقًا للأفراد على الجماعة لم تعرفها القوانين الوضعية إلا بعد أن أتى بها الإسلام بثلاثة عشر قرنًا تقريبًا، وهذه الحقوق يقصد منها رفع مستوى الأفراد وتمكينهم من المشاركة في العمل لخير الجماعة وإسعادهم، والاحتفاظ للفرد بكرامته الإنسانية، وتنمية مواهب الأفراد، ومساعدتهم على استغلال قواهم العقلية والجسمانية. وأهم الحقوق التي قررها الإسلام للأفراد هي المساواة، والحرية. المُسَاوَاةُ: يقرر الإسلام أن المساواة بين البشر جميعًا ويفرضها على

المسلمين فرضًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وفي قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ المُشْطِ الوَاحِدِ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلاَّ بِالتَّقْوَى»، وقوله: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ بِالإِسْلاَمِ نَخْوَةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَفَاخُرِهِمْ بِآبَائِهِمْ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، وَأَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ». ويلاحظ على هذه النصوص أنها فرضت المساواة بصفة مطلقة، فلا قيود ولا استثناءات، وأنها فرضت المساواة على الناس كافة أي على العالم كله، فلا فضل لفرض على فرض، ولا لجماعه على جماعه، ولا لجنس على جنس، ولا لون على لون، ولا لسيد على مسود، ولا لحاكم على محكوم وهذا هو نص القرآن يذكر الناس أنهم خلقوا من أصل واحد من ذكر وأنثى، ولا تفاضل إذا تساوت الأصول وإنما مساواة، وهذا هو قول الرسول يذكر الناس أنهم جميعًا ينتمون إلى رجل واحد فهم إخوة متساوون ويشبههم في تساويهم بأسنان المشط الواحد، وما تفضل سن المشط سنه الأخرى بحال. وإذا كان البشر أبناء رجل واحد وامرأة واحدة فإن وحدة أصلهم ترشحهم إلى المساواة في حقوقهم وواجباتهم ومسؤولياتهم، فلا فضل لرجل على رجل كما يفضل اليوم أبناء إنجلترا وفرنسا على أبناء المستعمرات التابعه لهاتين الدولتين،

ولا فضل لأبيض على اسود كما يفضل اليوم الأمريكي الأبيض على الأمريكي الأسود، ولا فضل لجنس على جنس كما ادعت ألمانيا وغيرها أفضليتها على سائر الأجناس. وجميع المسلمين على اختلاف ألوانهم وثقافاتهم وبلادهم سواء أمام الإسلام، فحقوقهم الشرعيه واحدة، وواجباتهم واحدة، وهم متساوون أمام الدولة، وأمام القضاء، وليس لأحدهم من الحقوق أكثر مِمَّا للآخر، ولا يلزم أحدهم بواجبات أكثر مِمَّا يلزم به غيره لو كان في مركزه. ويسوي الإسلام بين المسلمين والذميين في كل مكان فيه متساوين، ولا يختلف المسلمون عن الذميين إلا فيما يتصل بالعقيده، ولذلك كان كل ما يتصل بالعقيده لا مساواة فيه، لأن معني المساواة هو حمل المسلمين على ما يتفق مع عقيدتهم وحمل الذميين على ما يختلف مع عقيدتهم والقاعدة في الإسلام أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، مع تركهم وما يدينون حيث {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. وإذا كان الإسلام يترك الذميين وما يدينون وينزلهم فيما عدا ذلك منزلة المسلمين، فمعنى هذا أن اليهود والمسيحيين في أرض الإسلام يكادون لا يخضعون في الحقيقه إلا لأحكام دينهم، ذلك أنه من أصول الإسلام الإيمان بكل الرسالات والكتب السابقه: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى

الحرية

وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]. وما جاء القرآن إلا مصدقًا لما سبقه من الكتب ومهيمنًا عليها {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]. فإذا ترك الذميون وما يدينون فيما يخالف الإسلام وطبق عليهم حكم الإسلام في كل الذي لا يدينون به، فما حكموا إلا دينهم وما حكم عليهم بغير شريعتهم، وهم في هذا لا يختلفون عن المسلمين الذين يحكمون الإسلام في كل ما شجر بينهم، كِلاَ الفريقين يحكم دينه ولا يخضع لما يخالف شريعته هي المساواة التي ما بعدها مساواة. الحُرِّيَّةُ: وجاء الإسلام معلنا حرية الأفراد في أروع مظاهرها، فأعلن حرية التفكير، وحرية الاعتقاد، وحرية القول، وحرية العلم، وحرية التملك. حُرِّيَّةُ التَّفْكِيرِ: جاء الإسلام معلنًا حرية التفكير محررًا العقول من الأوهام والخرافات والتقاليد داعيًا إلى نبذ كل ما لا يقبله العقل، ولقد قامت الدعوة الإسلامية نفسها على أساس العقل، فالقرآن يعتمد في إثبات وجود الله ويعتمد في إقناع الناس بالإسلام على

استثارة تفكيرهم، وإيقاظ عقولهم فيدعوهم إلى التفكير في خلق السماوات والأرض، وفي خلق أنفسهم ويدعوهم الى التفكير فيما تقع عليه أبصارهم، وما تسمعه آذانهم ليصلوا من وراء ذلك الى معرفة الخالق، وليستطيعوا التمييز بين الحق والباطل. ويعيب القرآن على الناس أن يلغوا عقولهم، ويعطلوا تفكيرهم، ويقلدوا غيرهم، ويؤمنوا بالخرافات والأوهام، ويتمسكوا بالعادات والتقاليد، دون تفكير فيما يأتون وما يدعون، ويصف من كانوا كذلك بأنهم كالأنعام بل أضل سبيلاً من الأنعام. ونصوص القرآن صريحه في تقرير هذه المعاني واقرأ إن شئت قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46]. {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّض بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم: 8]. {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ

حرية الاعتقاد

يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. حُرِّيَّةُ الاعْتِقَادِ: وشريعة الإسلام هي أول شريعة أباحت حرية الاعتقاد، وعملت على صيانة هذه الحرية وحمايتها إلى آخر الحدود. فلكل إنسان طبقًا للشريعة الإسلامية أن يعتنق من العقائد ما شاء، وليس لأحد أن يحمله على ترك عقيدته أو اعتناق غيرها. وكانت الشريعة الإسلامية عملية حين قررت حرية العقيدة، فلم تكتف بإعلان هذه الحرية، وإنما اتخذت طريقين: أحدهما: إلزام الناس أن يحترموا حق الغير في اعتقاد ما يشاء وفي تركه يعمل طبقًا لعقيدته، فإن كان ثمة معارضة فلتكن بالحسنى ولبيان وجه الخطأ فإن قبل صاحب العقيدة أن يغيرها عن اقتناع فلا حرج، وإن لم يقبل فلا يجوز إكراهه ولا تهديده، واقرأ هذا المعنى صريحًا في قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. الثاني: إلزام صاحب العقيدة أن يعمل على حماية عقيدته،

حرية القول

وأن لا يقف موقفا سلبيًا، فإذا عجز عن حماية نفسه كان عليه أن يهاجر إلى بلد آخر يحترم أهله العقيدة ويتمكن فيه من إعلان ما يعتقد، فإن لم يهاجر وهو قادر على الهجرة فقد ظلم نفسه وارتكب إثمًا عظيمًا {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً [النساء: 97، 98]. حُرِّيَّةُ القَوْلِ: جعلت الشريعة الإسلامية حرية القول حقًا لكل إنسان، بل جعلت القول واجبًا على المسلم في كل ما يمس الأخلاق والمصالح العامة والنظام العام، وفي كل ما أوجبت فيه الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. وإذا كان لكل إنسان أن يقول ما يعتقد أنه الحق، ويدافع بلسانه وقلمه عما يعتقده، فإن حرية القول ليست خارجًا على نصوص الشريعة وروحها.

ولقد قررت الشريعة حرية القول من يوم نزولها، وقيدت في الوقت نفسه هذه الحرية بالقيود التي تمنع من العدوان وإساءة الاستعمال، وكان أول من قيدت حريته في القول محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو رسول الله الذي جاء مبشرًا بالحرية وداعيًا لها، ليكون قوله وعمله مثلاً يحتذى، وليعلم الناس أن لا يمكن أن يعفى أحد من هذه القيود إذا كان رسول الله أولى من قيد بها على ما وصفه به ربه من قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. لقد أمر الله رسوله أن يبلغ رسالته للناس، وأن يدعوهم جميعًا إلى الإيمان بالله وأن يحاج الكفار والمكذبين، ويخاطب عقولهم وقلوبهم، ولكن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - لم يترك لرسوله حرية القول على إطلاقها، فرسم له طريق الدعوة، وبين له منهاج القول والحجاج، وأوجب عليه أن يعتمد في دعوته على الحكمة والموعظة الحسنة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وأمره أن يعرض عن الجاهلين {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وأن لا يجهر بالسوء من القول {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، وأن لا يسب الذين يدعون من دون الله {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. وحرية القول في هذه الحدود تعود على الأفراد والأمم

حرية التعليم

بالنفع، وتؤدي إلى نمو الإخاء والاحترام بين الأفراد والهيئات، وتجمع الكلمة على الحق، وتجعل الجماعة في حالة تعاون دائم، وتقضي على النعرات الشخصية والطائفية .. وهذا كله ينقص العالم اليوم أو يبحث عنه العالم فلا يهتدي إليه. حُرِّيَّةُ التَّعْلِيمِ: ولا يكتفي الإسلام بأن يقرر حرية التعليم، بل يجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة في قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122]، وفي قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» وقوله أيضًا: «اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ». ولقد رفع الإسلام من قدر العلم ما لم يرفع من شيء آخر، فقال - جَلَّ شَأْنُهُ -: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وفرق الله بين العالم والجاهل بالعلم وحده في قوله: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وجعل الإسلام العلم وسيلة لمعرفة الله وخشيته {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، ولمعرفة حقائق الأشياء والأفعال {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، بل جعل الإسلام العلم الوسيلة الوحيدة لفهم كتاب الله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف: 52]، {بَلْ هُوَ آيَاتٌ

حرية التملك

بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] واعتبر الإسلام العلم طريقًا للخير، فقال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَيُلْهِمْهُ رُشْدَهُ»، واعتبر العلماء ورثة الأنبياء، فوضعهم في أسمى المراتب، اذ لا رتبة فوق رتبة النبوة، وذلك قول الرسول: «العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ». وإذا كان الإسلام قد جعل طلب العلم فريضة ووضع العلم هذا الموضع السامي فقد أصبح من واجب كل فرد أن يتعلم ما استطاع للعلم سبيلاً، ووجب على الحكومة الإسلامية نشر العلم والقيام على أمره وتمكين الجميع منه. ولقد سن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحكومة الإسلامية كل هذا يوم جعل فداء الأسرى المتعلمين أَنْ يُعَلِّمَ كل منهم عددًا من أبناء المسلمين الكتابة والقراءة. حُرِّيَّةُ التَّمَلُّكِ: وقد أطلق الإسلام الحرية للبشر في أن يتملكوا ما يشاؤون من العقار والمنقول والأشياء ذات القيمة في حدود نظرية الإسلام في ملكية المال، فلكل إنسان أن يملك أي قدر شاء من الأموال على اختلاف أشكالها وأنواعها على أن لا يكون له إلا ملكية الانتفاع بها، وعلى أن ينتفع منها بقدر حاجته في غير سرف ولا تقتير، وعلى أن يؤدي ما يوجبه الإسلام للغير في المال من حقوق على الوجه الذي بَيَّنَّا في صدر هذا الكتاب.

وحدة الأمة الاسلامية

وَحْدَةُ الأُمَّةِ الإِسْلاَمِيَّةِ: جعل الإسلام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أمة واحدة على تعدد أوطانهم واختلاف ألوانهم وألسنتهم {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]، وأمرهم بالاتحاد والالتفاف حول راية القرآن {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. وحرم عليهم التنازع وَبَيَّنَ لهم أنه يفضي الي الإخفاق والضعف {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، وحذرهم من أن يؤدي بهم الخلاف إلى الفرقه كما حدث للذين من قبلهم {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]، وأوصاهم إذا تنازعوا في شيء أو اختلفوا فيه أن يردوه إلى الله وإلى ما جاء به الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويأخذوا فيه

بحكم الله وحده، فيقضى بذلك على الخلاف والنزاع، وتبقى الوحدة قائمة والصفوف سليمة، ولا يكون للأهواء والأغراض من سبيل على المسلمين {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]. ولقد صنع الإسلام للوحدة الإسلامية كل ما يقتضيه التوحيد، وأقام الوحدة على دعائم ثابتة دائمة لا يتطرق إليها الخلل ما دام المسلمون متمسكين بدينهم حريصين على طاعة ربهم. وحد الإسلام بين المسلمين جميعًا بما أوجب عليهم من الإيمان برب واحد، والخضوع لإله واحد، واتباع كتاب واحد، وشرع واحد، وبما جعل للأمة الإسلامية على تعدد أفرادها من هدف واحد، وتفكير واحد، ونهج واحد، وبما طبع عليه المسلمين من آداب واحدة، وسياسة واحدة، وسلوك واحد، وأمر لا يختلف عن أصوله اثنان. وآخى الإسلام بعد ذلك بين المسلمين، وأقام المجتمع الإسلامي على أساس متين من الأخوة الإسلامية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، تلك الأخوة الإسلامية التي تربط بين المسلمين، وتوحد اتجاهاتهم، وتقوي صفوفهم، وتجعلهم

أهلاً للتعاون والتضامن والبر والتراحم. وفرض الإسلام على المسلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى وطاعة الله، وحرم عليهم أن يتعاونوا على إثم أو عدوان {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. وجعل الإسلام المسلمين متضامنين في الدعوة إلى الخير، وعمل الخير، والأمر بالطاعات، والنهي عن المحرمات وتغييرها {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]، {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122]. وجعل الإسلام المسلمين متضامنين في كل ما يصيبهم من خير وما يحيق بهم من شر، حتى لقد اعتبرهم كالبنيان يشد بعضه بعضًا ويمسك بعضه البعض الآخر أن يميل أو يقع، بل اعتبرهم كـ «الجَسَدِ الوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، وذلك قول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، وقوله: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ الوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى»، وقوله «المُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ».

وألزم الإسلام كل مسلم أن يحفظ أخاه المسلم، فلا يضيعه ولا يظلمه، ولا يتهاون في أمره ولا يخذله، ولا يحقره، كما ألزم كل مسلم أن يعين أخاه المسلم وأن يرحمه، وأن يكون في حاجته أن يستر عليه، وأن يحوطه من ورائه، وذلك قول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»، وقوله: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ - التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، يُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثًا، بِحَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ»، وقوله: «المُؤْمِنُ مِرْآةُ المُؤْمِنِ، وَالمُؤْمِنُ أَخُو المُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ»، وقوله: «مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ». وحرم الإسلام على المسلمين أن يسخر بعضهم من بعض، أو يتجسس بعضهم على بعض، كما حرم عليهم الغيبة والتنافس والتحاسد والتباغض والتدابر والتنابز بالألقاب والسباب، وذلك [في] قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11]، وقوله: {وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ

بَعْضًا} [الحجرات: 12]. وذلك قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَنَافَسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا»، وقوله: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ». تلك هي الأمة الإسلامية، وحدها الله وجمعها على كلمة التقوى، وأقام وحدتها على دعائم ثابتة من الأخوة والتعاون والتضامن والتراحم والأخلاق الكريمة. وفي سبيل حفظ هذه الوحدة قضى الإسلام على الحواجز الجغرافية والعصبيات الإقليمية والقبلية، وقضى على اختلافات اللغة والجنس واللون، فسوى بين المسلمين تسوية عامة مطلقة غير مقيدة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. وجعلهم في التسوية بينهم كأسنان المشط الواحد، فلا يفضل أحدهم أخاه إلا بقدر ما تفضل سن المشط الأخرى، ولا فضل بين السنين وذلك قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ المُشْطِ الوَاحِدِ». لقد وضع الإسلام الأحساب والأنساب ولم يجعل لهم في ميزان التفاضل نصيبًا، وحطم العصبية والجنس ولم يجعل لهما في الإسلام شأنًا، وأقام التفاضل على الدين والعمل الصالح والتقوى، وجعل التفاخر بالأحساب والأنساب والعصبيات

والأجناس والألوان عملاً جاهليًا ليس من الإسلام في شيء، وفي ذلك كله يقول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ أَنْسَابَكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِسِبَابٍ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ وَلَدُ آدَمَ، طَفُّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلَئُوهُ، لَيْسَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلاَّ بِالدِّينِ أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ» ويقول: «انْظُرْ فإنَّكَ لَسْتَ بِخَيْرٍ مِنْ أحَمَرَ ولا أسْودَ إلاَّ أنْ تَفْضُلَهُ بِتَقْوَى». ويقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلاَّ بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ»، ويقول: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عَيْبَةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، النَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْخَرُونَ بِرِجَالٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الجِعْلاَنِ التِي تَدْفَعُ النَّتِنَ بِأَنْفِهَا»، ويقول: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» ويقول: «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِلْعَصَبِيَّةِ، أَوْ يُقَاتِلُ لِلْعَصَبِيَّةِ فَلَيْسَ مِنْ أٌمَّتِي». هذا هو حكم الإسلام في المسلمين، جعلهم أمة واحدة وجعل منهم دولة واحدة، وجعل لهم إمامًا واحدًا يحكم هذه الدولة الواحدة وتلك الأمة الواحدة يقيم فيها الإسلام ويصرف شؤونها في حدود الإسلام.

إقليم الدولة الإسلامية

إِقْلِيمُ الدَّوْلَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ: وإذا كان الإسلام يوجب أن يكون المسلمون أمة واحدة لهم دولة واحدة فإن هذا يقتضي أن يكون إقليم الدولة الإسلامية شاملاً لكل البلاد الإسلامية. والأصل في الإسلام أنه شريعة عالمية لا مكانية، جاءت للعالم كله لا لجزء منه، وللناس جميعًا لا لبعضهم، وهو شريعة الكافة، لا يختص بها قوم دون قوم، ولا جنس دون جنس، ولا قارة دون قارة، وهو شريعة العالم كله، يخاطب بها المسلم وغير المسلم، ولكن لما كان الناس جميعًا لا يؤمنون بها، ولا يمكن فرضها عليهم فرضًا فقد قضت ظروف الإمكان أن لا تطبق الشريعة إلا على البلاد التي يدخلها سلطان المسلمين دون غيرها من البلاد، وهكذا أصبح تطبيق الشريعة الإسلامية مرتبطًا بسلطان المسلمين وقوتهم، فكلما اتسعت الأقاليم التي يتسلط انكمش سلطانها، فالظروف والضرورة هي التي جعلت من الشريعة الإسلامية شريعة إقليمية، وإن كانت الشريعة في أصلها عالمية. وقد نظر الفقهاء إلى هذا الاعتبار حين قسموا العالم كله إلى قسمين لا ثالث لهما، الأول يشمل كل بلاد الإسلام ويسمى دار الإسلام، والثاني يشمل كل البلاد الأخرى ويسمى دار الحرب.

دار الاسلام

دَارُ الإِسْلاَمِ: تشمل دار الإسلام البلاد التي تظهر فيها أحكام الإسلام أو يستطيع سكانها المسلمون أن يظهروا فيها أحكام الإسلام، فيدخل في دار الإسلام كل بلد سكانه أو أغلبهم مسلمون، وكل بلد يحكمه المسلمون، ولو كانت غالبية سكانه من غير المسلمين. دَارُ الحَرْبِ: وتشمل دار الحرب كل البلاد غير الإسلامية التي لا تدخل تحت سلطان المسلمين ولا تظهر فيها أحكام الإسلام، سواء أكانت هذه البلاد تحكمها دولة واحدة أو تحكمها دول متعددة، ويستوي أن يكون بين سكانها المقيمين بها إقامة دائمة مسلمون، أو لا يكون ما دام المسلمون عاجزين عن إظهار أحكام الإسلام. والمقصود من تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب إنما هو تقسيم العالم إلى قسمين: أحدهما دار أمن وسلام للمسلمين، والثاني دار خوف وعداء للمسلمين، وبيان الأحكام التي تسري على المسلمين في كل دار. وقد اعتبرت البلاد الإسلاميةعلى تعددها واتساعها دار واحدة، لأنها محكومة بقانون واحد هو الشريعة الإسلامية، ولأنها تخضع لدولة واحدة هي الدولة الإسلامية فهي من هذه

الجنسية في الإسلام

الوجهة وحدة سياسية ووحدة قانونية لا تتعدد فيها الحكومات، ولا تختلف فيها الأحكام باختلاف الجهات. أما البلاد غير الإسلامية فانها تعتبر دارًا واحدة لأن الأحكام التي تسري عليها طبقًا للشريعة الإسلامية أحكام واحدة لا تختلف باختلاف الجهات، ولا باختلاف الحكومات. الجِنْسِيَّةُ فِي الإِسْلاَمِ: وتقوم الجنسية في الإسلام على أساس الدار، فأهل دار الإسلام لهم جنسية واحدة هي الجنسية الإسلامية، سواء أكانوا مسلمين أو ذميين، ومهما تميز المصري عن السوري، أو العراقي، أو المغربي، فذلك تمييز محلي لا ينبني عليه حكم شرعي ولا يؤدي إلى تمييز في الخارج. وأهل دار الحرب لهم جنسية واحدة مهما تعددت بلادهم وحكوماتهم، ومهما تميز الإنجليزي عن الفرنسي أو الأمريكي فذلك تمييز داخلي بينهم، ولكن أحكام الإسلام واحدة بالنسبة لهم جميعًا. على أن الإسلام لا يمنع من النظر إلى الدول الأجنبية المختلفة كل على حدة بحسب ظروفها، فيجوز أن يكون بين المسلمين وبين الإنجليز حرب، ويجوز أن يكون بين المسلمين وبين الأمريكيين عهد أو هدنة. وأساس الجنسية في دار الإسلام هو اعتناق الإسلام، أو التزام أحكامه، فمن اعتنق الإسلام فهو مسلم، ومن التزم

أحكام الإسلام ولم يسلم فهو ذمي، وكلا المسلم والذمي رعية من رعايا الدولة الإسلامية، وجنسية كل منهما الجنسية الإسلامية.

أين أوضاعنا الحالية من الإسلام؟

أَيْنَ أَوْضَاعُنَا الحَالِيَّةُ مِنَ الإِسْلاَمِ؟: نحن معشر المسلمين في العالم كله ننتسب للإسلام، ونحرص على الانتساب إليه، ونفخر بهذا النسب الإلهي الكريم، ولكنا مع الأسف لا نعرف كثيرًا عن الإسلام، ولا يعرف أكثرنا حقائق الإسلام، ويكاد الإسلام لا يتصل بقلوبنا وأعمالنا وإن اتصل بألسنتنا وأقوالنا. وليس يهمنا أن نعرف كيف وصل المسلمون إلى هذه الحال، ما دمنا نعرف أن الجهل بالإسلام يؤدي إلى البعد عن أحكام الإسلام، وأن البعد عن الإسلام وهجر بعض أحكامه يؤدي إلى الخروج على الإسلام، بل يؤدي إلى هدم الإسلام. ولقد جهل أكثر المسلمين الإسلام حتى بعدوا عن حقائق الإسلام وأحكامه، وبعد المسلمون عامة عن الإسلام وهجروا أحكامه حتى خرجوا على الإسلام وهدموا معالم الإسلام.

وإن شئنا أن نعرف إلى أي حد بعدنا عن الإسلام فلقد رأينا فيما سبق كثيرًا من أحكام الإسلام فلننظر أين نحن من هذه الأحكام؟ إن الإسلام يجعل من المسلمين وحدة سياسية واحدة، ولقد كَوَّنَ المسلمون هذه الوحدة وحرصوا عليها من يوم أن تجمع المسلمون في المدينة، وظلت هذه الوحدة تتسع وتقوى حتى بلغت من المنعة والقوة ما لم تبلغه أية وحدة سياسة أخرى قبلها، ثم أخذ المسلمون بعد ذلك يستجيبون للأهواء والمطامع، ويفتنهم عن دينهم الحكم والسلطان، وتحركهم المنافع الشخصية والعصبيات القبلية، فانقضوا على هذه الوحدة المقدسة التي صنعها الله وأمر بالمحافظة عليها فمزقوها شر ممزق، وقطعوها إمارات وسلطنات وممالك وجمهوريات باسم الإسلام وباسم الاستقلال في ظاهر الأمر وباسم الاستغلال وباسم الاستعلاء وباسم العصبيات في حقيقته، وما فعلوا إلا أن مزقوا قوتهم ومنعتهم، وأضعفوا ملكهم وسلطانهم، هيأوا لأعداء الإسلام أن ينالوا من الإسلام، وأن يضعوا أيديهم على هذه الإمارات والسلطنات والممالك والجمهوريات باسم الاحتلال وباسم الحماية وباسم الانتداب وباسم التحالف وبغير ذلك من الأسماء التي يستظل بها الاستعباد ويستتر فيها الاستعمار، ويستعان بها على إذلال الشعوب وإخضاع الأمم. ويوم كان للمسلمين دولة واحدة كانت دول الأرض

جميعًا تخافهم وترجوهم وتتود إليهم وتتهافت عليهم، وكانت كلمة هذه الدولة الواحدة هي الكلمة العليا في السياسة الدولية، بل كانت سياستها هي السياسة العالمية، أما اليوم ودول الإسلام بضع عشرة دولة عدا الإمارات والسلطنات فقد خفت صوت الإسلام والمسلمين وأصبح المسلمون سخرية أهل الأرض، وأهونهم على الناس، وأضيعهم في ميدان السياسة الدولية، وما نفعتهم هذه الدول المتعددة شيئًا وما حفظت لهم حقًا ولا ردت عنهم حيفًا، وما كانت إلا ذيلاً لغيرها من الدول تستتبع فتتبع، ويشار إليها فتخضع. ولقد تغير الزمن فأخذ الأقوياء يتوحدون خشية الاستضعاف ويتكتلون رجاء الانتصاف ويواجهون أعداءهم الأقوياء بمثل قوتهم وبما هو أكثر منها، ولكن المسلمين لا يزالون في غمرتهم ساهون، يتفرقون ولا يتوحدون والأصل فيهم التوحد، ويتمزقون ولايتكتلون والأصل فيهم التكتل، كل وحدة وحداتهم تؤول إلى وحدات وكل دولة إلى دويلات وكل جماعة إلى جماعات وكل حزب إلى أحزاب، حتى ضيعوا قوتهم وأهلكوا أنفسهم، ومكنوا لأعدائهم بأيديهم. والإسلام يجعل من المسلمين إخوانا متحدين متعاونين متضامنين متراحمين، ولكن المسلمين خرجوا على مبادئ الإسلام فاتخذوا لهم من أنفسهم أعداء يناوئ بعضهم بعضًا،

ويحسد بعضهم بعضًا، ويتجسس بعضهم على بعض، ويتحسس بعضهم على البعض الآخر ويغتابه ويقع في عرضه، فهم في تقاطع وتدابر متنافرين متنابذين، بأسهم بينهم شديد لا تجتمع كلمتهم إلا على هوى، وما تفترق إلا على هوى، لا يتعاونون وقد فرض عليهم الإسلام التعاون، ولا يتضامنون وقد أوجب عليهم الإسلام التضامن، ولا يتراحمون وقام الإسلام على التراحم، وليس هذا شأن الأفراد وحدهم وإنما هو شأن الدول الإسلامية أيضًا، فهي على تقاطع وتدابر لا تجتمع إلا على هوى وما تفرقت إلا عن هوى، ليس لها منهج تسير عليه، ولا هدف تنظر إليه، ولا تتعاون في أمر الإسلام الذي تنتسب إليه. والإسلام يفرض على المسلمين أن يكون لهم إمام واحد، ويوجب قتل من ينازعه في إمامته أو يشاركه فيها أو يعمل على تمزيق وحدة الجماعة، ولكن أئمة المسلمين اليوم لا تعد كثرة حتى لقد خال أحدهم في معرض السخرية أن الإسلام جعل للمسلمين إمامًا واحدًا وجعل للكفر أئمة، فإذا زاد عدد أئمة المسلمين عن واحد فهم أئمة الكفر، وهذه السخرية لا تبعد عن الحقيقة فما ليس إسلامًا فهو كفر، وإذا أوجب الإسلام على المسلمين أن تكون لهم دولة واحدة وإمام واحد فلم يفعلوا ما يوجبه عليهم إسلامهم وجعلوا لأنفسهم دولاً وأئمة فما هم بمسلمين حقيقين بوصف الإسلام، وعملهم كفر خالص إن فعلوه متعمدين غير متأولين.

والإسلام يوجب على المسلمين أن يكون أمرهم شورى بينهم، وأن يختاروا رئيس الدولة الأعلى، ولكن أكثر رؤساء الدول الإسلامية لا يختارهم المسلمون، إنما يفرضون على المسلمين فرضًا بقوة القانون أو بقوة العصبية أو بقوة الاستعمار وما في ذلك كله من الشورى شيء. ورئيس الدولة الأعلى يستمد سلطانه من الأمة ويستند في وظيفته إلى رضاء الأمة عنه وهذا هو الأصل في الإسلام، ولكن التاريخ يشهد أن أكثر رؤساء الدول الإسلامية لم يستمدوا سلطانهم من الأمة ولم يعتمدوا عليها ولم يستندوا في بقائهم في مناصبهم إليها، وإذا كان بعضهم استمد سلطانه من قوته أو استند إلى عصبيته، فإن الكثيرين استمدوا سلطانهم من أعداء الإسلام واستندوا في مناصبهم إلى قوة الاستعمار، ولقد طال ما عمل الاستعمار على اقتطاع بعض أجزاء الدولة الإسلامية ليجعل منها إمارات ودويلات ويقيم فيها أمراء ورؤساء يسبحون بحمده، ويعتبرهم بعض جنده، بل لقد حرص الاستعمار من زمن طويل على أن يوقع بين الشعوب ورؤسائها حتى إذا وقعت الواقعه تدخل الاستعمار لحماية الرؤساء من الأمة ولحماية الأمة من الرؤساء، فأما من يخضع له الرئيس فيسنده ويؤيده، وأما من يأبى يجيء بغيره ممن يعتبر نفسه مدينًا بمنصبه للاستعمار أو ممن يعجز عن مناهضة الاستعمار.

والإسلام يجعل مهمة رئيس الدولة أن يقيم الإسلام وأن يدير شؤون الدولة في حدوده، ولكنا لا نجد دولة إسلامية واحدة تقيم الإسلام أو تعنى بأمره أو تجعل له صلة بشؤون الدولة والحكم، حتى أصبح الإسلام مضيعًا في بلاده مهملاً من المنتسبين إليه. والإسلام يوجب أن يكون أمر الحكم شورى بين الناس، ولكن الحكم في البلاد الإسلامية قائم على الهوى والاستبداد، وإن اصطنعت أكثر البلاد الإسلامية لنفسها نظمًا ديمقراطية، ففي كل الأحوال يستبد الرؤساء والحكام والزعماء بأمور الشعب ولا يتركون له من أمره شيئًا، ولا يجعلون له إلى الشورى الصحيحه سبيلاً. والإسلام يحرم استغلال الأفراد للأفراد، ويحرم استغلال الشعوب للشعوب ويحرم استغلال الحكام للمحكومين، ويحرم الاستغلال من أي نوع كان، ولكن المسلمين اليوم تقوم حياتهم ونظامهم على الاستغلال الذي حرمه الإسلام، فالقوي يستغل الضعيف والغني يستغل حاجة الضعيف، والحاكم يستغل المحكوم، والشعوب الإسلامية على تعددها يستغلها المستعمرون، ويستأثر بخيراتها وأقوات أبنائها الإنجليز والفرنسيون وغيرهم من الأوروبيين والغربيين. والإسلام يوجب على المسلمين أن يكونوا أقوياء أعزاء،

وأن يعدوا لعدوهم ما استطاعوا من القوة ليرهبوا عدو الله وعدوهم، وليخيفوا من تحدثه نفسه بالاعتداء عليهم، فيظل في أمن وسلام وقوة وعزة، ولكن المسلمين تركوا أمر الله فلم يعدوا ولم يستعدوا حتى أخذتهم الصيحه من كل مكان، فتغلب عليهم أعداؤهم، واحتلوا بلادهم وتقاسموا خيراتهم وأصبح المسلمون ضعفاء أذلاء لا حول لهم ولا قوة، ولا عاصم لهم مِمَّا هُمْ فيه إلا أن يرجعوا إلى الله وأن يعملوا بكتابه، وأن يطيعوا أمره، وأن يعدوا لعدوهم ويعملوا على إخراجه من بلادهم. والإسلام يوجب على المسلمين أن يحاربوا أعداء الإسلام حتى يستسلموا كارهين ويعطوا الجزية صاغرين، ولكن المسلمين اليوم يسالمون أعداء الإسلام الذين يحاربونهم ويستسلمون لهاؤلاء الأعداء وهم يستطيعون أن يمتنعوا منهم، ويتخذون من هؤلاء الأعداء أئمة يأتون بهم ويأتمرون بأمرهم، ويطيعونهم حتى في أنفسهم وكرامتهم، ويحكمونهم في أموالهم وأوطانهم، بعد أن أطاعوهم في الله وفي الإسلام، وحكموهم في كتاب الله وفي تعاليم الإسلام. والإسلام يوجب على المسلمين أن يحكموا بما أنزل الله ويحكموا في كل شؤونهم كتاب الله، ويجعل من لم يحكم بما انزل الله كافرًا، وهو ينفى الإيمان عمن لا يتحاكم إلى كتاب الله، ولكن المسلمين في كل بقاع الأرض تقريبًا يحكمون بغير

ما أنزل الله، ويتحاكمون إلى أهوائهم وشهواتهم يصوغونها قوانين ومراسيم ولوائح وغيرها من المسميات، حتى أحلوا لأنفسهم ما حرمه الله وحرموا على الناس ما أحله الله. والإسلام يوجب على المسلمين أن يدعوا للخير وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ولكن المسلمين تخلوا عن هذا الواجب كما تخلوا عن كل واجباتهم الإسلامية فهم لا يدعون إلى الخير وقد فشى فيهم الشر، ولا يأمرون بالمعروف وهم في أشد الحاجه الى الأمر بالمعروف، ولا يتناهون عن المنكر وقد عمهم الفساد وضلوا سبيل الرشاد. والإسلام يجعل المساواة فريضة من فرائضه والعدالة دعامة من دعائمه، ولكن المسلمين وهو القوام على الإسلام لم يتركوا فريضة من فرائض الإسلام إلا وضعوها، ولا دعامة من دعائمه إلا هدموها، فليس في البلاد الإسلامية اليوم مساواة، وليس فيها عدالة، وإنما فيها أثرة كاملة ومحاباة صارخة، وفيها استعلاء على الضعفاء واستطالة على الفقراء، وفيها عون للباطل ومناهضة للحق، وفيها ظلم فادح وجور فاضح. والإسلام يجعل المال كله لله، ويجعل للبشر المستخلفين في الأرض الانتفاع به، في حدود أمر الله، وبعد أن يؤدوا للغير حقه في هذا المال، ولكن المسلمين جعلوا لأنفسهم مال الله وحرموا الغير حقه في هذا المال، حتى أصبح المال دُولَةً بين أغنيائهم ممنوعًا عن فقرائهم، وحتى ضاق الفقراء بالفقر

وبالأغنياء، ويا ويل أمة يمنع أغنياؤها حقوق فقرائها، ويضيق فقراؤها بأغنيائها. والإسلام جاء لمحاربة الظلم والاستبداد والإقطاع، ولكن علماء السوء وحكام آخر الزمان أرادوا أن يجعلوا من الإسلام سندًا للظلم ودعامة للاستبداد والإقطاع ومورد رزق حرام للمفتين المأجورين الذين يسودون أوراقهم ليسكتوا المسلمين عن محاربة الظلم ومقاومة الاستبداد وقطع دابر الإقطاع، وما كان الإسلام ليقيم ما جاء بحربه والقضاء عليه، ولكنها عقلية الحكام الظالمين والمفتين المأجورين لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ومن شأنها أن تظل مغلقة لا تتقبل الحقائق ولا تتفتح على الواقع حتى يأتيهم الطوفان وتأخذهم الصيحة من كل مكان. هذا هو بعض شأن الإسلام الذي اختاره الله للناس دِينًا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]. ورضي للناس أن يتدينوا به. {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، وأعلمهم أنه لن يتقبل منهم دينًا غيره: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وحذرهم من أن يموتوا على غيره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. هذا هو بعض شأن الإسلام الذي جعله الله نورًا يخرج الناس من الظلمات، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، ويردهم

عن سبيل الضلال والهلاك إلى سبل الرشاد والسلام " {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16]. لقد علمنا الله - جَلَّ شَأْنُهُ - أن الحق شيء واحد لا يتعدد، وأنه ليس في الدنيا إلا حق أو باطل، وأنه ليس بعد الحق إلا الباطل وليس بعد الهدى إلا الضلال {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]. وعلمنا الله - جَلَّ شَأْنُهُ - أنه لم يرسل رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلينا إلا بالحق، وأن الكتاب الذي أنزل عليه هو الحق، وأن الدين الذي جاء به هو دين الحق. {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء: 105]. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33]. فإذا كان محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد جاء بالهدى ودين الحق فكل ما خالف الإسلام فهو الضلال ودين الباطل، وإذا كان في غير الإسلام شيء يشبه الإسلام وشيء يختلف عنه، فما يماثل الإسلام حق وما يخالف الإسلام باطل، وهذا وذاك في مجموعة حق تلبس بباطل، وباطل تلبس بحق، وقديمًا فعل الناس هذا ولايزالون يفعلونه كلما أرادوا أن يخرجوا على أمر الله ويخرجوا عن طاعته، وقد نهى الله عن هذا وحرمه في قوله: {وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42]، وكفل

للذين لا يلبسون الحق بالباطل والإيمان بالكفر أن يرزقهم الأمن والهداية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]. وإذا كان الإسلام هو الدين الذي رضيه لنا الله، وهو الحق الخالص الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو النور الذي يخرج الناس من الظلمات والهدى الذي يخرجهم من الضلال، إذا كان الإسلام هو هذا، فما بالنا معشر المسلمين نحول وجوهنا شطر أوروبا وأمريكا نطلب منها النور وما فيهما إلا الظلام، ونرجو منهما الهداية وما عندهما إلا الضلال، ونبحث عندهما عن الحق وما يعرفان إلا الباطل أو الحق متلبسًا بالباطل. لقد غشيتنا الظلمات يوم أدرنا ظهرنا للإسلام، وولينا وجوهنا شطر أوروبا وأمريكا، ودخلنا المتاهة يوم تركنا القرآن طريق الله المستقيم، وتعلقت أبصارنا بالمذاهب الأوروبية من ديموقراطية واشتراكية وشيوعية وغيرها، وضاع منا الحق يوم هجرنا كتاب الله الذي أنزله على رسوله بالحق، وتعلقنا بكتب جان جاك روسو وكارل ماركس ولينين وأشباههم من الفسقة الكفرة أئمة الكفر والضلال. وما فعل بنا هذا وصيرنا إليه في أكثر الأحوال إلا جهل أكثر المسلمين للاسلام، ذلك الجهل الذي بلغ ببعض المسلمين أن يؤمنوا بالديموقراطية أو بالاشتراكية أو بالشيوعية وهم

في الوقت نفسه يؤمنون بالإسلام، ويتعبدون به في حدود علمهم ويرجون في كل صباح ومساء أن يلقوا الله عليه، وما يتفق الإسلام مع أحد هذه المذاهب ولا هي منه في شيء، وإذا كان فيها من الحق الذي جاء به الإسلام شيء ففيها من الباطل أشياء، بل فيها كل الباطل وما تقوم في واقع الأمر على الباطل. ولقد بلغ الجهل ببعض المسلمين أن يقرن الإسلام بهذه المذاهب القائمة على الهوى والضلال فيقول: ديموقراطية الإسلام، واشتراكية الإسلام، وشيوعية الإسلام، وهو يقوله ليروج للاسلام ويرفع منه في أعين الناس، وهو دون شك يظلم الإسلام بهذه التسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان، إذ الإسلام أرفع وأفضل من الديموقراطية والاشتراكية والشيوعية متفرقة ومتجمعة، وهو أوسع منها جميعًا وأجمع للخير، وأنه ليجمع كل ما في هذه المذاهب من خير قليل إلى ما فيه من خير كثير لا يحصى ولا يستقصى، كما أنه يخلو من الأهواء والأباطيل والشرور التي تعج بها هذه المذاهب وتقوم عليها، وأن الإسلام مشتق من السلام وكل ما فيه يدعو إلى السلام، وما جاء إلا ليحقق السلام، وليس في هذه المذاهب ما يحقق السلام ولا ما يدعو إليه، وإنما تدعو هذه المذاهب جميعًا إلى الحرب والفتنة والفساد في الأرض، وإحياء طائفة وإماتة أخرى، وإسقاط جماعة لإعلاء أخرى، وتاريخ هذه المذاهب يشهد عليها أنها لا شيء، فقد نشأت الديموقراطية لمحاربة الفساد

وإصلاح الجماعات وإسعاد الناس، فزادتهم فسادًا على فسادهم وشقاء على شقائهم، فاتخذ البعض الاشتراكية مذهبًا لاصلاح ما عجزت عنه الديموقراطية، فكانت الاشتراكية أعجر من الديموقراطية، فاصطنع بعض الشيوعية فكانت أبعد المذاهب عن الإصلاح، وأعونها على الفساد والإفساد، وما أن وقفت على قدميها في روسيا بفضل البطش والإرهاب حتى غشي العالم كله الشقاء وغرق في بحر من الدماء. ولو عرف المسلمون حقائق الإسلام لتورعوا عن أن يقرنوا عمل الناس بعمل الله، وتسميات الناس بتسميات الله، ودين الحق بأهواء الشر وضلالاتهم.

من المسؤول عما نحن فيه؟

مَنْ المَسْؤُولُ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ؟: إن المسلمين جميعًا مسؤولون عما نحن فيه وعما انتهى إليه أمر الإسلام، وقد تختلف مسؤولية بعضهم عن مسؤولية بعض، فتخف مسؤولية فريق وتشتد مسؤولية فريق، ولكنهم جميعًا مسؤولون عما هم فيه من جهل وفسق وكفر، وعما هم فيه من تفرق وضعف وذلة، وعما يعانون من فقر واستغلال، وعما يحملون من نير الاستعمار وبلاء الاحتلال. مَسْؤُولِِيَّةُ الجَمَاهِيرِ: إن جماهير المسلمين مسؤولة عما انتهى إليه أمر الإسلام، فما وصل إلى هذا الذي هو فيه إلا بجهل هذه الجماهير للإسلام، وبانحرافها شيئًا فشيئًا عن الإسلام حتى كادت تنسلخ عنه دون أن تدري أنها انسلخت عن الإسلام.

إن جماهير المسلمين قد ألفت الفسق والكفر والإلحاد حتى أصبحت ترى كل ذلك فتظنه أوضاعًا لا تخالف الإسلام، أو تظن أن الإسلام لا يعنى بمحاربة الفسق والكفر والإلحاد، ولا يعنيه من أمر ذلك كله شيء. إن الإسلام يوجب على المسلمين أن يتعلموا الإسلام وأن يتفقهوا فيه وأن يُعَلِّمَ بعضهم بعضًا {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122]، ولقد طالما نفرت طوائف من المسلمين فأنذروا قومهم وحاولوا تفقيههم في الدين، ولكن الحكومات الإسلامية أخذت على نفسها أن تحارب هذه الطوائف، وأن تحول بينها وبين ما يوجبه الإسلام إرضاء للاستعمار، وإطاعة للطواغيت، وموالاة لأعداء الإسلام، ورضيت الجماهير هذا الوضع من الحكومات وما كان لها أن ترضاه، فشارك الجمهور الحكومات في خنق الإسلام وهدم الجماعات العاملة للاسلام. إن جماهير المسلمين قد فقدوا القوة والعزة والكرامة فهم يعيشون عبيدًا للأقوياء، عبيدًا للاستعمار، وعبيدًا للحكام، يسلبونهم أقواتهم، ويستنزفون قواهم، ويدوسون كرامتهم، ويهدرون حريتهم، وما أتى المسلمون إلا من تركهم دينهم دين القوة والعزة والكرامة، ولو عادوا له لعادت لهم القوة التي فقدوها، والعزة التي حرموها، والكرامة التي يتطلعون إليها.

مسؤولية الحكومات الإسلامية

إن جماهير المسلمين في غفلة قاتلة: إنهم في غفلة عن دينهم، في غفلة عن دنياهم، وفي غفلة عن أنفسهم، ويوم تتفتح أعينهم على الحقائق سيعلمون أنهم خسروا دنياهم وآخرتهم بما فرطوا في جنب الله، وبما انحرفوا عن كتاب الله. مَسْؤُولِيَّةُ الحُكُومَاتِ الإِسْلاَمِيَّةِ: والحكومات الإسلامية مسؤولة إلى أكبر حد عما أصاب الإسلام من الهوان، وعما أصاب المسلمين من الذل والخبال. إن الحكومات الإسلامية قد أبعدت الإسلام عن شؤون الحياة، واختارت للمسلمين ما حرمه عليهم الله، وحكمت فيهم بغير حكم الله. إن الحكومات الإسلامية تدفع المسلمين إلى الضلالات الأوروبية، وتدفعهم عن الهداية الربانية، فتحكم بحكم القوانين الوضعية، ولا تحكم فيهم بحكم الشريعة الإسلامية. إن الحكومات الإسلامية خرجت على الإسلام في الحكم والسياسة والإدارة، وخرجت على مبادئ الإسلام فلا حرية ولا مساواة ولا عدالة، ونبذت ما يوجبه الإسلام فلا تعاون بين المسلمين ولا تضامن ولا تراحم، وشجعت ما يحرمه الإسلام من الظلم والمحاباة، ومن الاستغلال والإقطاع، وأقامت المجتمع الإسلامي على الفساد والإفساد، وعلى الفسوق والعصيان، وعلى الأثرة والطغيان.

مسؤولية رؤساء الدول

إن الحكومات الإسلامية تحول دون المسلمين أن يتعلموا دينهم، ويعرفوا ربهم، ويؤدوا واجباتهم. إن الحكومات الإسلامية توالي أعداء الإسلام، وقد حرم عليها الإسلام أن توالي أعداءه، وتطيع في المسلمين أعداء الله وما لهم عليها من طاعة. إن الحكومات الإسلامية هي التي أورثت المسلمين الضعف والذل، وجلبت عليهم الاستغلال والفقر، وأشاعت فيهم الفسد والبغي. مَسْؤُولِيَةُ رُؤَسَاءِ الدُّوَلِ: ورؤساء الدول الإسلامية هم أكثر الناس مسؤولية عن الإسلام، وعما أصاب الإسلام، وإذا أعفتهم القوانين الوضعية من المسؤولية فما يعفيهم الإسلام أن يسألوا عن صغير الأمور وكبيرها، وما يمنع إنسانًا أن يواجههم بالواقع، ويفتح عيونهم على الحقائق. إن في يدكم معشر الرؤساء الحكم والسلطان، لكم القوة وفيكم القدرة على أن تعودوا بالإسلام إلى ما كان عليه، ولكنكم ورثتم أوضاعًا مخالفة للإسلام عن أسلافكم فأنتم تعيشون فيها، وتقيموا سلطانكم عليها، على علم أو جهل بمخالفتها للإسلام، وهذه الأوضاع الموروثة هي أول ما يضعف الإسلام ويؤخر أهله عن النهوض، وكل ضعف للإسلام عائد عليكم،

وكل قوة له إنما هي قوتكم، وإنه لخير لكم أن تكونوا أفرادًا من الأفراد في دولة قوية من أن تكونوا ملوكًا وأمراء ورؤساء في دولة ضعيفة مستعبدة يتسلط عليها موظف صغير من موظفي الدولة المستعمرة، يأمر وينهى، فيسقط الحكومات ويقيمها، ويهز أمره العروش، ويزلزل أقدام الرؤساء والأمراء. إنكم معشر الرؤساء متفرقون! ومن الخير لكم وللإسلام أن تتجمع قواكم، وإنكم متنابذون أو متباعدون، ومن الخير لكم وللإسلام أن تتعاونوا وأن تتحدوا وإنه أن يخضع بعضكم لبعض ويتولى بعضكم بعضًا خير لكم وأهدى من أن تخضعوا جميعًا للاستعمار ويتولاكم المستعمرون. إنكم معشر الرؤساء مسلمون من قبل كل شيء، فضعوا الإسلام فوق كل شيء، وحكموه في أنفسكم، واجعلوه أساس حكمكم، وأقيموا عليه الدولة الإسلامية، ولا تجعلوا أشخاصكم حجر عثرة في سبيل قيام هذه الدولة، فأشخاصكم فانية وليس بعد الموت إلا الجنة أو النار، ولن ينفع أحدكم ملكه أو ماله أو أهله، إنما ينفعه العمل الصالح والقيام على أمر الله، وإنه لخير لكم أن يذكر لكم التاريخ أنكم عاونتم على إعادة الدولة الإسلامية والحكم الإسلامي، وإنكم لم تؤخروا قيام هذه الدولة بتشبثكم بمناصبكم وبأوضاعكم التي لا يرضاها الإسلام للمسلمين.

وان الأمر كله لن يحتاج إلا قوة عزائمكم، والتغلب على أنفسكم، فإن تتغلبوا على أنفسكم فقد تغلبتم على كل شيء، وإن تضعفوا أمام منافعكم وأمام مغريات الحكم والسلطان فسيظل المسلمون جميعًا في فرقة وتخاذل وضعف وذلة، يتسلط عليكم وعليهم الأقوياء، يخيفكم المستعمرون، ويحرككم ويحركهم الدول ذات المطامع والنفوذ، ويستغلكم ويستغلهم أولئك الذين عرفوا حق المعرفة أن القوة في الاتحاد، وأن الغلبة لأصحاب القوة. أيها الرؤساء لا تحرصوا على الإمارة والسلطان، ولا تتشبثوا بالألقاب والتيجان فإن هذا الحرص هو الذي أذل المسلمين وأضعف فيهم روح الإسلام، ومزقهم ممالك ضعيفة، ودويلات صغيرة، وإمارات لا تدفع عن نفسها عدوًا، ولا تحمي لنفسها حَقًّا، حتى أصبح المسلمون على كثرة عددهم، واتساع أقطارهم، وتوفر المواد الخام والأيدي العاملة في بلادهم، وتهيؤ أسباب السيادة والعزة لهم ... أصبح المسلمون مع كل هذا أضعف أهل الأرض وأذلهم وأهونهم على الدول شأنًا. فإذا غلبكم الحرص على منافعكم وعلى مناصبكم وعلى ألقابكم وسلطانكم، فاحرصوا على أن تتجمعوا في شكل من الأشكال، وأن تتحدوا وتوحدوا قوة بلادكم، ليكون المسلمون جميعًا قوة واحدة، ويدًا واحدة.

مسؤولية علماء الإسلام

يا رؤساء الدول الإسلامية: إن مناصبكم وألقابكم لن تغني عنكم من الله شيئًا، وإن الله سائلكم وأسلافكم عن الإسلام والمسلمين، سيسألكم عن الإسلام الذي أصبح غريبًا في بلادكم، مهملاً في حكمكم. وسيسألكم عن المسلمين الذين فرقتهم وحدتهم، وضيعتم قوتهم، ومزقتم دولتهم وجعلتموهم أنتم وأسلافكم مثلاً على الفرقة المصطنعة، والقوة الضعيفة، والكرامة المهدرة، والأطماع التي تذل الرجال الكرام، توطئ ظهور الأبطال، وتضع أنوف السادة في الرغام. يا رؤساء الدول الإسلامية لا تحرصوا على الإمارة والسلطان فإن مُحَمَّدًا - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ». واعلموا أن الإمارة أمانة، فمن أخذها بحقها، أدى ما يجب عليه فيها سلم يوم القيامة، فأدوا الأمانات الى أهلها فإن الله سائلكم عنها، واذكروا قول الرسول الكريم لأبي ذر لما سأله أن يستعمله،: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ القِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الذِي عَلَيْهِ فِيهَا». مَسْؤُولِيَّةُ عُلَمَاءِ الإِسْلاَمِ: وعلماء الإسلام يحملون وِزْرَ ما نحن فيه وإثم ما أصيب

به الإسلام ... يحملون أوزار المستعمرين والاستعمار، وأوزار الحكام والحكومات ... وأوزار الجماهير الغافلة عن الإسلام والخارجة عليه. وعلماء الإسلام أهل لأن ينسب لهم هذا، لأنهم يظاهرون الاستعمار أو يسكتون عليه، ولأنهم يظاهرون الحكومات الإسلامية حينًا ويسكتون عليها حينًا، ولأنهم تركوا جماهير المسلمين جاهلة بأهم أحكام الإسلام، غافلة عما يراد بالإسلام. وعلماء الإسلام بهذا قد حالوا بين المسلمين والإسلام لأنهم لم يبنوا لجماهير المسلمين حكم الإسلام في الاستعمار والمستعمرين، وحكم الإسلام في الحكومات التي تظاهر الاستعمار وتوالي المستعمرين، فسكنت الجماهير إلى الاستعمار، وأطاعت الحكومات التي تخدم الاستعمار، وضاع الإسلام بسكوت السادة العلماء، ورضيت الجماهير بضياع الإسلام وساعدت عليه، لأنها تعتقد أن علماء الإسلام لا يسكتون إلا على ما يتفق مع الإسلام وَيُرْضِي رَبَّ الأَنَامِ. إن علماء الإسلام أغمضوا أعينهم وأطبقوا أفواههم ووضعوا أصابعهم في آذانهم وناموا عن الإسلام ولما استيقظوا من عدة قرون فنام وراءهم المسلمون، وهم يعتقدون أن الإسلام في أمان وإلا ما نام عنه علماؤه الأعلام. إن علماء الإسلام ناموا عن الإسلام من زمن طويل فما

هاجموا وضعًا من الأوضاع المخالفة للإسلام، ولا حاولوا إيقاف أمر أو حكم مخالف لأحكام الإسلام، وما اجتمعوا مرة يطالبون بالرجوع لأحكام الإسلام. لقد ارتكب الحكام المظالم، واستحلوا المحارم، وأراقوا الدماء، وانتهكوا الأعراض، وأفسدوا في الأرض، وتعدوا حدود الله، فما تحرك العلماء للمظالم، لا غضبوا من استحلال المحارم، كأن الإسلام لا يطلب إليهم شيئًا، ولا يفرض عليهم فرضًا ولا يوجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يلزمهم نصيحة الحكام والمطالبة بالرجوع لأحكام الإسلام. واحتلت مصر مثلاً فما غضب علماؤها على الاحتلال، ولا بينوا للناس حكم القرآن والسنة في جهاد المحتلين ومقاومة الاحتلال وفي مسألة المحتلين وموالاة الاحتلال. وكان المفروض في علماء الإسلام أن يقاطعوا المحتلين الكفار، ولكنهم مع الأسف والوا أعداء الإسلام واتخذوا من دار عميد الدولة المحتلة مَقَرًّا لإحياء بعض مواسم الإسلام. ونفذت القوانين الوضعية في مصر وغيرها من بلاد الإسلام، وهي تخالف أحكام الإسلام، وأدى تنفيذها إلى تعطيل الإسلام، وإباحة ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، فما انزعج العلماء لتحطيم الإسلام، وغضبوا لمستقبلهم وهم يطعمون ويلبسون ويعيشون على حساب الإسلام، ولا اجتمعوا وتشاوروا فيما يحفظ مستقبلهم ومستقبل الإسلام.

وانتشر الفجور والاباحة، وأنشئت الحانات والمراقص، ورخصت الحكومات الإسلامية للمسلمات بالدعارة، وجهر الناس بما يخالف الإسلام، فانكمش العلماء واكتفوا بهز الرؤوس ومصمصة الشفاه. وأنشئت المدارس المدنية وهي لا تعترف بتعليم الدين، فكان علماء الدين أول من أقبل عليها وأدخل أولاده فيها، وأنشئت المدارس التبشيرية التي تبشر بالمسيحية وتفتن أبناء المسلمين عن الإسلام، فأدخل السادة العلماء بناتهم فيها ليرطن بلغة أجنبية وليتعلمن الرقص والديانة المسيحية. وكلما حزب الأمر إحدى الحكومات لجأت إلى علماء الإسلام فأسرعوا يردون المسلمين إلى طاعة الحكومات التي تبيح الخمر والزنا والربا والكفر والفسق، وتستبدل بحكم الإسلام أهواء الناس ونزوات الحكام والأحزاب. وطال هذا الأمر بالمسلمين حتى ظن جمهرة المسلمين أن ما نحن فيه من فسوق وعصيان هم الإسلام الصحيح، ففشا الفسق والفجور وعم الفساد وعز الإصلاح، وكل ذلك بفضل علماء الإسلام وتهاونهم في إقامة أحكام الإسلام. إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وما يليق بالعلماء أن يقفوا هذا الموقف من ميراث الأنبياء، ولقد فرض الإسلام على العلماء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن يقوم بهذا الواجب إذا أهمله السادة العلماء؟

ولكن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - قد فتح على علماء مصر فتكلموا أخيرًا وانطلقوا على غير عادتهم يتجمعون ويخطبون، ويدعون إلى الإضراب والاعتصام. أفترى ذلك كان من أجل الإسلام وإقامة أحكام الله؟ لا والله، ولكنهم ثأروا لأجل المرتبات والعلاوات والدرجات المالية، والكرامة الشخصية، وأصدروا في سبيل ذلك البيانات، وعقدوا الاجتماعات، وتشدقوا بالخطب وزينوها بالأحاديث والآيات. إنهم فعلوا هذا من أجل أنفسهم ولحفظ كراماتهم، ولم يفعلوه من أجل الإسلام كان الإسلام أهون عليهم من أنفسهم وكأن كرامته أدنى من كراماتهم، ومن المؤلم أن بعضهم أراد في هذه الاجتماعات أن يذكرهم بالإسلام، وأن يوجه هذه الغضبة للإسلام، فأسكتوه وأنكروا ما أتاه، كأن العمل للإسلام منكر في نظر علماء الإسلام. يا علماء الإسلام اتقوا الله في أنفسكم وفي الإسلام. يا علماء الإسلام إنكم لم تهونوا على الدول والحكام إلا بعد أن هان عليكم الإسلام. يا علماء الإسلام ان عزتكم من عزة الإسلام، وقوتكم من قوة الإسلام، فإن شئتم أن تشعروا بالعزة والقوة فاعملوا لعزة الإسلام ولقوة الإسلام. يا علماء الإسلام ليس من الإسلام في شيء أن تمسكوا

ألسنتكم عن بيان حكم الله وتغضوا أبصاركم عن أعداء الله حتى ينتهكوا حرمات الله. يا علماء الإسلام ليس من الإسلام في شيء أن تقوموا في المعاهد لتعلموا طلبتها أحكام الإسلام في حين أن الحكومات لا تقيم هذه الأحكام. يا علماء الإسلام ليس من الإسلام أن تقفوا على المنابر لتعلموا الناس محاسن الأخلاق وأداء العبادات، وتتركوهم جهالاً بما يوجبه الإسلام في الحكم والحكام والتشريع والقضاء وفي الاقتصاد والاجتماع، وفي معاملة الأعداء والأصدقاء. لماذا لا تبينون للناس ووظيفتكم البيان؟ لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام في الاحتلال، ومن يولونه ويوادونه، ومن يحاربونه ويمقتونه؟ لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام في الحكام الذين يلزمون المسلمين ما يخالف الإسلام وهل يوجب الإسلام طاعتهم واتباع أهوائهم، أم يجب عصيانهم والخروج عليهم؟ لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام في القوانين الوضعية، وما يوجبه على المسلمين من طاعتها أو عصيانها؟ لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام في المال وفي الاستغلال والاحتكار، مع تطبيق هذا الحكم على أوضاعنا المالية وأحوالنا الاقتصادية؟

لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام في هذا الغنى الفاحش، وفي ذاك الفقر القاتل؟ لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام فيمن يحارب دعاة الإسلام، ويعين على حرب العاملين للاسلام؟ لماذا لا تبينون حكم الإسلام فيما يخالفه من أوضاع، وهل يوجب السكوت عليها أم يوجب محاربتها وهدمها؟ لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام في النصيحة والبيان، وهل لا يجب أحدهما إلا مرة واحدة طول الحياة، أم التكرار واجب كلما استمر ما يستوجب النصيحة والبيان ليذكر الناس حكم الإسلام في كل وقت وآن؟ لماذا لا تبينون للناس حكم الإسلام في المسلم الذي يطالب باحترام شخصه، ويرفض أن يطالب باحترام الإسلام؟ أيها العلماء إني لا أنكر عليكم أن فيكم فئة قليلة كريمة عملت بكتاب الله، واستقامت على أمره، وإن منكم من بذلوا من علمهم وقوتهم وحياتهم في سبيل إقامة حكم القرآن، لم تأخذهم في الله لومة لائم، ولكنها والله قلة يسوءها أن تحسب عليكم وأن تنتسب إليكم، وما يغير عمل هذه الفئة القليلة الخيرة من سوء عملكم، ولا يهون من أوزاركم، ولا يرفع عنكم وصمة التفريط والإهمال.

أيها العلماء تشبهوا بهذه الفئة الصالحة، وسيروا على أثرها، واعملوا للإسلام فقد طال مَا سَكَتُّمْ عن الإسلام، وإن هذا والله لهو الخير لكم وللإسلام. * * *

§1/1