الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات

طارق بن عوض الله

ـ[الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات]ـ المؤلف: أبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد الناشر: مكتبة ابن تيمية - القاهرة توزيع: دار زمزم - الرياض الطبعة: الأولى 1417 هـ - 1998 م [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

حق على المحدث؛ أن يتورع في ما يؤديه، وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته. ولا سبيل إلى أن يصير العارف، الذي يُزكي نقلة الأخبار ويجرحهم، جهبذاً؛ إلا بإدمان الطلب، والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة، والسهر، والتيقظ، والفهم، مع التقوى والدين المتين، والإنصاف، والتردد إلى مجالس العلماء، والتحري، والإتقان، وإلا تفعل؛ فدع عنك الكتابة، لست منها ولو سودت وجهك بالمداد قال الله عز وجل: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) . فإن آنست ـ يا هذا ـ من نفسك فهماً، وصدقاً، وديناً، وورعاً، وإلا فلا تَتَعَنَّ. وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب؛ فبالله لا تتعب. وإن عرفت، أنك مُخلط، مُخبط، مُهمل لحدود الله، فأرحنا منك؛ فبعد قليل ينكشف البهرج، وينكب الزَّغَل، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. فقد نصحتك؛ فَعِلْم الحديث صلف، فأين علم الحديث؟! وأين أهله؟! كدت أن لا أراهم إلا في كتاب، أو تحت التراب. الإمام الذهبي " تذكرة الحفاظ " (1/4)

المقدمات

بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71] أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. اللهم صلِّ على محمد، وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمدٍ،

- الاعتبار وأهميته

وعلى آل محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد. لمَّا كان علم الحديث يعتمد على معرفة أحوال الرواة تعديلاً وتجريحاً، وأحوال الروايات تصحيحاً وتعليلاً، وكان السبيل إلى إدراك ذلك، اعتبار الروايات، وعرض بعضها ببعض، ليَظهر ما فيها من اتَّفاقٍ، أو اختلافٍ أو تفردٍ، ليُعامل كلٌّ بحسبه. ولمَّا كان ذلك لا يتحقق إلا بكثرة البحث والتفتيش عن الأسانيد والروايات، في بطون الكتب، وصدور الرجال، كان للاعتبار عند المحدّثين أهميته البالغة، وضرورته القصوى. فبالاعتبار، يُعرف الصحيح من الضعيف من الروايات، وذلك بالنظر في الطرق التي اعتُبِرت وسُبِرت، وعرضها على باقي الطرق والروايات في بابها، فيظهر الاتفاق، والذي هو مظنَّه الحفظ، والاختلاف أو التفرد، واللذان هما مظنَّتا الخطأ. ثم تدور هذه الأحاديث في إطار قواعد وضوابط، تحوطها من كل جانب، وتعالجها من كل جهة، ومن خلالها يظهر الصحيح من الضعيف، والمحفوظ من غيره. وبالاعتبار، يتبين حال رواة الحديث من حيث التوثيق والتجريح، فمن عُهد عليه الإصابة، وكثرة الموافقة للثقات، كان ثقةً مثلهم، ومن عُهِد عليه الخطأ، وكَثْرة المخالفة للثقات، أو التفرد والإِغْراب ورواية ما لا يعرفون، كان ضعيفاً في حفظه، وبقدر الموافقة والمخالفة بقدر ما

- بذل الأئمة كل نفس ونفيس من أجل الاعتبار

يُعرف حفظه وضبطه. *** ولما كان الاعتبار عند المحدثين بهذا الشأن العظيم، بذله من أجله كل نفس ونفيس، وطاف البلدان، وسمعوا من أهل الأمصار، رغبة في تمييز الأحاديث، والوقوف على الصحيح منها والسقيم، ومعرفة ما أصاب فيه الرواة وما أخطئوا فيه. فهذا؛ إمام واحد، من أجل اعتبار حديث واحد، طاف بلدناً شتَّى، ودخل مدائن عدةً حتى وقف على علَّته، وهو الإمام شُعْبة بن الحجاج، عليه رحمة الله تعالى: قال نصْر بن حمَّاد الورَّاق (¬1) : كنا قعوداً على باب شعبة؛ نتذاكر. فقلت: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، قال: كنا نتناوب رعيَّة الإبل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجئتُ ذات يومٍ والنبي - صلى الله عليه وسلم - حوله أصحابه؛ فسمعتُه يقول: " من توضأ، فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين فاستغفر الله؛ إلا غفر له". ¬

_ (¬1) رواه: ابن حبان في "المجروحين" (1/29) ، وابن عبد البر في "التمهيد" (1/48ـ 49) والخطيب في "الرحلة" (59) وكذا في "الكفاية" (ص. 566 ـ 567) والبيهقي في "القراءة خلف الإمام" (ص 207 ـ 208) .

فقلت: بخٍ بخٍ ‍‍‍‍! فجذبني رجل من خلفي، فالتفتُّ؛ فإذا عمر بن الخطاب، فقال الذي قبل أحسن! فقلت: وما قبل؟! قال: قال: "من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ قيل له: ادخل من أي أبواب الجنة شئت". قال: فخرج شعبة؛ فلطمني، ثم رجع فدخل؛ فتنحَّيت من ناحية، قال: ثم خرج؛ فقال: ما له يبكي بعد؟! فقال له عبد الله بن إدريس: إنك أسأت إليه! فقال شعبة: انظر؛ ماذا تحدث! ! إن أبا إسحاق حدثني بهذا الحديث، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، قال: فقلنا لأبي إسحاق: من عبد الله بن عطاء؟ قال: فغضب، ومِسعرُ بن كِدَام حاضر، قال: فقلت له. لتصححن لي هذا، أو لأُحَرِّقن ما كتبتُ عنك! فقال مِسعر: عبد الله بن عطاء بمكة. قال شعبة: فرحلت إلى مكة، لم أُرد الحج، أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء، فسألته، فقال سعد بن إبراهيم حدثني فقال لي مالك بن أنس: سعد بالمدينة، لم يحج العام. قال شعبة: فرحلت إلى المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم، فسألته، فقال الحديث من عندكم؛ زياد بن مِخراق حدثني. قال شعبة: فلما ذكر زياداً، قلت أيُّ شيءٍ هذا الحديث؟ ! بينما

هو كوفي، إذ صار مدنياً، إذ صار بصرياً! ! قال: فرحلت إلى البصرة، فلقيت زياد بن مِحراق، فسألته، فقال: ليس هو من بابَتِك! قلت: حدثني به. قال لا ترده! قلت: حدثني به. قال حدثني شَهْر بن حَوشَب، عن أبي ريحانة، عن عقبة بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال شعبة: فلما ذكر شهر بن حوشب، قلت: دمَّر هذا الحديث؛ لو صح لي مثل هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحب إلى من أهلي ومالي والناس أجمعين! ! وهذا إمام آخر، طاف نحو طَوَفان شعبة بن الحجاج، من أجل اعتبار حديث واحد أيضاً: قال محمود بن غَيْلان (¬1) : سمعت المؤمل ذُكر عنده الحديث الذي يُروى عن أُبيّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في "فضل القرآن"، فقال حدثني رجل ثقة ـ سماه ـ، قال: حدثني رجل ثقة ـ سماه ـ قال: أتيت المدائن، فلقيت الرجل الذي يَروي هذا الحديث، فقلت له: حدِّثني؛ فإني أريد البصرة. فقال: هذا الرجل الذي سمعناه منه هو بواسط في أصحاب القصب! ¬

_ (¬1) "الكفاية" للخطيب (ص 567 ـ 568) ، و (شرح الألفية) للعراقي (1/270 ـ 271) ، وكذا "التقييد والإيضاح" له (ص 134) ، و"النكت" لابن حجر (2/862)

- اعتبار من المخطئ في الرواية

قال: فأتيت واسطاً، فلقيت الشيخ، فقلت: إني كنت بالمدائن، فدلني عليك الشيخ، وإني أريد أن آتي البصرة. قال إن هذا الذي سمعت منه هو بالكَلاء (¬1) ! فأتيت البصرة، فلقيت الشيخ بالكلاء، فقلت له: حدِّثني؛ فإني أريد أن آتي عَبَّادان. فقال إن الشيخ الذي سمعناه منه هو بعَبَّادان! فأتيت عَبَّادان، فلقيت الشخ، فقلت له: اتق الله؛ ما حال هذا الحديث؟ ! ! أتيت المدائن، فقصصت عليه، ثم واسطاً، ثم البصرة، فدُلِلْت عليك، وما ظننت إلا أن هؤلاء كلَّهم قد ماتوا! فأخبرني بقصة هذا الحديث؟ ! فقال: إنا اجتمعنا هنا، فرأينا الناس قد رغبوا عن القرآن، وزهدوا فيه، وأخذوا في هذه الأحاديث، فقعدنا، فوضعنا لهم هذه الفضائل حتى يرغبوا فيه! ! يقول المعلمي ـ رحمه الله ـ معلقاً على هذه القصة (¬2) : "لعل هذا الرجل قطع نحو ثلاثة أشهر مسافراً لتحقيق رواية هذا الحديث الواحد". **** بل؛ قد يكون الواحد منهم قد اعتبر الرواية بالفعل، وعرف ما وقع فيها من الخطأ، وتحقق من كونها غير محفوظة، فيريد أن يتبين: مَن ¬

_ (¬1) "الكلاء": اسم محِّلة مشهورة وسوق بالبصرة. (¬2) في "علم الرجال وأهميته" (ص 23) بتعليقي.

ْ الراوي المخطئ فيها: هل هو فلان، أم فلان؟ فيقطع من أجل تحقيق ذلك مفاوز، ويطوف بلداناً، ويدخل أمصاراً، ليسمع الحديث من غير وجه، ليقابل الأوجه بعضها ببعض، ويَزِنها بميزان الاعتبار، حتى يتحقق من أن المخطئ في الرواية فلان، وليس غيره. يقول محمد بن إبراهيم بن أبي شيخٍ المَلْطي (¬1) : جاء يحيى بن معين إلى عفان بن مسلم؛ ليسمع منه كتب حماد بن سلمة. فقال له: ما سمعتَها من أحد؟ قال: نعم؛ حدثني سبعة عشر نفساً عن حماد بن سلمة. فقال: والله؛ لا حدثتك ‍! فقال: إنما هو درهم، والحدر إلى البصرة، وأسمع من التبوذَكِّي. فقال: شأنك! فانحدر إلى البصرة، وجاء إلى موسى بن إسماعيل. فقال له موسى: لم تسمع هذه الكتب عن أحد؟ قال: سمعتُها على الوجه من سبعة عشر نفساً، وأنت الثامن عشر. فقال: وماذا تصنع بهذا؟ ! فقال: إن حماد بن سلمة كان يخطئ، فأردت أن أميز خطئه من خطأ ¬

_ (¬1) "المجروحين" لابن حبان (1/32) .

- لم يكونوا يتعجلون الحكم على الحديث

غيره: فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء؛ علمت أن الخطأ من حماد نفسه. وإذا اجتمعوا على شيء عنه، وقال واحد منهم بخلافهم؛ علمت أن الخطأ منه لا من حماد؛ فأميز بين ما أخطأ هو بنفسه، وبين ما أُخطِئ عليه. *** ولأجل هذا؛ لم يكونوا يتعجلون الحكم على الحديث، ولا يتسرعون في إطلاق الأحكام على الأسانيد والروايات، ولا يغترون بظواهر الأسانيد، بل كانوا أحياناً يمضون الأيام الكثيرة والأزمنة البعيدة من أجل معرفة ما إذا كان الحديث محفوظاً، أم اعتراه شيء من الخطأ والوهم. يقول الإمام الخطيب البغدادي (¬1) : "من الأحاديث؛ ما تخفى علته، فلا يوقف عليها إلا بعد النظر الشديد، ومُضِيّ زمن بعيد". ثم أسند عن الإمام علي بن المديني، أنه قال: "ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة"! **** ولهذا؛ ما كانوا يسارعون إلى رد نقد النقاد، لمجرد عدم علمهم بأدلتهم، إلا بعد البحث الشديد، واستفراغ الجهد في الوقوف على ما عليه اعتمدوا في نقدهم، فإذا سمعوا منهم حكماً مجملاً، عارياً عن ¬

_ (¬1) "في الجامع" (2/257)

- اعتنوا بجمع الأصول والكتب الحديثية، وتحاكموا إليها

الدليل، فحثوا عن دليله؛ لعلمهم، أن مثل هؤلاء النقاد لا يتكلمون بالمجازفة أو الحدس. روى بن أبي حاتم (¬1) ، عن ابن أبي الثلج، قال: كنا نذكر هذا الحديث ـ يعني: حديث موسى بن أَعْين، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر ـ مرفوعاً ـ: "إن الرجل ليكون من أهل الصوم، والصلاة والزكاة والحج"، حتى ذكر سهام الخير "فما يُجزى يوم القيامة إلا بقدر عقله" ـ، ليحيى بن معين، سنتين أو ثلاثة، فيقول: هو باطل؛ ولا يدفعه بشيء، حتى قدم علينا زكريا بن عدي، فحدثنا بهذا الحديث، عن عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن أبي فروة؛ فأتيناه (¬2) ، فأخبرناه، فقال: هذا بابن أبي فروة أشبه منه بعبيد الله بن عمرو" *** ولم يكونوا يكتفون بالسماع المجرد، وإنما تعدَّوا ذلك، فاعتنوا بجمع الأصول، والوقوف على الكتب الحديثية، فإن الحفظ يخون، بخلاف الكتاب، فإنه أصون وأبعد عن الخطأ والوهم. ولهذا؛ كانوا يرجعون إلى الأصول والكتب إذا استنكروا ما يحدِّث به الراوي من حفظه، فإن وجدوا له أصلاً في كتبه عرفوا أنه صواب، وإلا فلا. ¬

_ (¬1) "العلل" (1879) . (¬2) يعني: ابن معين.

وكانوا ـ أيضاً ـ إذا اختلفوا فيما بينهم في حديثٍ أو أحاديث، رجعوا إلى الكتب، فتحاكموا إلى ما فيها. قال عبد الله بن المبارك (¬1) : "إذا اختلف الناس في حديث شعبة، فكتاب غندر حكم بينهم". ورأى أحمد بن حنبل (¬2) يحيى بن معين في زاوية بصنعاء، وهو يكتب صحيفة: "معمر، عن أبان، عن أنس"، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه. فقال أحمد بن حنبل له: تكتب صحيفة: "معمر، عن أبان، عن أنس"، وتعلم أنها موضوعة؟! فلو قال لك قائل: أنت تتكلم في "أبان"، ثم تكتب حديثه على الوجه؟! قال: رحمك الله؛ يا أبا عبد الله! أكتب هذه الصحيفة "عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبان، عن أنس" وأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة؛ حتى لا يجيء إنسان، فيجعل بدل: "أبان": "ثابتاً"، ويرويها: "عن معمر، عن ثابت، عن أنس"؛ فأقول له: كذبت؛ إنما هي: "أبان" لا "ثابت". وقال الحسين بن الحسن المروزي (¬3) : سمعت عبد الرحمن بن ¬

_ (¬1) "تهذيب الكمال" (25/8) . (¬2) "المجروحين" (1/31-32) . (¬3) "الجامع" للخطيب (2/39) ، و "شرح علل الحديث" (1/535) .

مهدي يقول: كنت عند أبي عَوَانة، فحدَّث بحديث عن الأعمش، فقلتُ: ليس هذا من حديثك. قال: بلى! قلت: بلى! قال: يا سلامة! هات الدَّرج فأخرجت، فنظر فيه، فإذا ليس الحديث فيه. فقال: صدقت! يا أبا سعيد؛ فمن أين أُتيت؟ قلت: ذوكرت به وأنت شاب، ظننت أنك سمعته!! وقال يحيى بن معين (¬1) : حضرتُ نعيم بن حماد ـ بمصر ـ، فجعل يقرأ كتاباً صنَّفه. فقال: حدثنا ابن المبارك، عن ابن عون؛وذكر أحاديث. فقلت: ليس ذا عن ابن المبارك. فغضب؛ وقال: ترد عليَّ؟! قلت: إي! والله؛ أريد زَيْنَك. فأبى أن يرجع. ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (11/89-90) و "الكفاية" (ص 231) .

فلما رأيته لا يرجع، قلت: لا! والله؛ ما سمعت هذه من ابن المبارك، ولا سمعها هو من ابن عون قط! فغضب، وغضب من كان عنده، وقام فدخ؛ فأخرج صحائف، فجعل يقول ـ وهي بيده ـ أين الذين يزعمون أن يحيى بن معين ليس بأمير المؤمنين في الحديث؟ ! نعم! يا أبا زكريا؛ غَلِطتُ، وإنما روى هذه الأحاديث غير ابن المبارك، عن ابن عون! ! وهذا حديث من تلك التي أنكرها ابن معين على نعيم بن حماد، بهذا الإسناد: قال هاشم بن مرثد الطبراني (¬1) : قيل ليحيى بن معين ـ وأنا أسمع ـ: حديث؛ رواه نعيم بن حماد عن ابن المبارك، عن ابن عون، عن محمد بن سرين، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اغْتَلَمَتْ (¬2) آنيتُكُم، فاكسروها بالماء"؟ فقال يحيى بن معين: قال لي نعيم: سمعته (¬3) من ابن المبارك؛ فقلت كَذِبٌ (¬4) فقال لي: اتق الله! ¬

_ (¬1) "تاريخه" (ص 18 ـ 20) (¬2) أي إذا جاوزت حدها الذي لا يسكر، إلى حدها الذي يسكر. نهاية. (¬3) في "المطبوع": "سمعت"! ! (¬4) أي: خطأ.

- معرفة رواة الحديث بشأن نقاده

فقلت: كذب، والله الذي لا إله إلا هو. فذهب، ثم لقيني بعد، فقال: ما وجدت له عندي أصلاً؛ فرجع عنه! ! *** وكان رواة الحديث يعرفون شأن نقاده، ويقدرونهم قدرهم، ويُنزلونهم منزلتهم، فكانوا يرجعون إليهم ويسألونهم عن أحوال أنفسهم وأحاديثهم، وإذا بينوا لهم الخطأ رجعوا عنه، ولم يحدثوا به بعد. فكل راوٍ من الرواة كان يعلم أن نقاد الحديث وجهابذته أعلم بحديثه: صحيحه وسقيمه، ومحفوظه ومنكره؛ وأعلم بحاله: ثقتِه وضعفهِ؛ من نفسه التي بين جنبيه. قال ابن معين (¬1) : قال لي إسماعيل بن عُليَّة يوماً: كيف حديثي؟ ! قلت: أنت مستقيم الحديث. فقال لي: وكيف علمتم ذاك؟ ! قلت له: عارضنا بها أحاديث الناس، فرأيناها مستقيمة. فقال: الحمد لله، فلم يزل يقول: الحمد لله، ويحمد ربه، حتى دخل دار بشر بن معروف ـ أو قال: دار البختري ـ، وأنا معه! ! وقال ابن أبي حاتم (¬2) : رأيت كتاب؛ كتبه عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني المعروف ¬

_ (¬1) "سؤالات ابن محرز" (2/39) . (¬2) "تقدمة الجرح والتعديل" (ص 336) .

- تجريح من لا يبالي بنقد النقاد

بـ "رُوسْتَه"؛ من أصبهان، إلى أبي زرعة ـ بخطه ـ: وإني كنت رويت عندكم عن ابن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "أبردوا بالظُّهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم"، فقلتَ: هذا غلط؛ الناس يروونه "عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". فوقع ذلك من قولك في نفسي، فلم أكن أنساه، حتى قدمت، ونظرت في الأصل، فإذا هو "عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ فإن خَفَّ عليك، فأعْلِم أبا حاتم ـ عافاه الله ـ ومن سألك من أصحابنا؛ فإنك في ذلك مأجور، إن شاء الله؛ والعار خير من النار. *** ولهذا؛ كان أئمة الحديث يجرِّحون الرَّاوي الذي لا يبالي بنقد النقاد، ولا يرجع عن خطئه الذي بينه له أهل العلم، ويقيم على روايته آنفاً من الرجوع عنه. ... قيل للإمام شعبة بن الحجاج (¬1) : من الذي يترك الرواية عنه؟ قال: إذا تمادى في غلط مُجمع عليه، ولم يتَّهم نفسه عند اجتماعهم على خلافه، أو رجل يُتَّهم بالكذب. وقال حمزة بن يوسف السهمي (¬2) : سألت أبا الحسن الدارقطني، عمن يكون كثير الخطأ؟ قال: إن نَبَّهوه عليه، ورجع عنه؛ فلا يسقط، وإن لم ¬

_ (¬1) "المجروحين" (1/7) و "الكفاية" (ص 229) . (¬2) "الكفاية" (ص 232) .

يرجع سقط. وقال ابن معين (¬1) : "ما رأيت على رجل خطأً إلا سترتُه، وأحببت أن أزيِّن أمره، وما استقبل رجلاً في وجهه بأمر يكرهه، ولكن؛ أبيِّن له خطأه فيما بيني وبينه، فإن قبل ذلك؛ وإلا تركته". والترك؛ هنا بمعناه الاصطلاحي، كما تقدم عن شعبة، أي: يترك الرواية عنه، لا أن يتركه وحاله، يروي ما يريد ويحدث بما يشاء من غير أن يبين خطأه للناس، هذا ما يُظَنُّ بابن معين، ولا بغيره من أئمة الدين. قيل لابن خزيمة (¬2) : لِمَ رويت عن أحمد بن عبد الرحمن بن وَهْب، وتركت سفيان بن وكيع؟ فقال: لأن أحمد بن عبد الرحمن لما أنكروا عليه تلك الأحاديث، رجع عنها عن آخرها، إلا حديث مالك، عن الزهري، عن أنس: "إذا حضر العشاء"؛ فإنه ذكر أنه وجده في درج من كتب عمه في قرطاس (¬3) وأما سفيان بن وكيع، فإن ورَّاقه أدخل عليه أحاديث، فرواها، وكلمناه، ¬

_ (¬1) "السير" (11/83) . (¬2) "تهذيب الكمال" (1/389) . (¬3) إنما أنكر الأئمة على أحمد بن عبد الرحمن تحديثه بهذا الحديث عن عمه ابن وهب عن مالك خاصة، وإلا فالحديث صحيح ثابت من حديث الزهري عن أنس، من غير هذا الوجه وقد أخرجه البخاري ومسلم..

- لم يكونوا يتفردون بالقول، ولا يستقلون بالحكم

فلم يرجع عنها، فاستخرت الله وتركت الرواية عنه. *** ومع ما حباهم الله عز وجل به من سعة في الحفظ، ودقة في النقد، وصحة في النظر، وقوة في البحث، وصدق في الرأي؛ ما كانوا يتفردون بالقول، ولا يستقلون بالحكم، بل كانوا يرجعون إلى من هم أعلم منهم، ويسألون من تقدمهم، ويستشيرون من رُزق الذي رُزقوا؛ أهل العلم والحفظ والفهم. يقول الإمام مسلم ـ عليه رحمة الله (¬1) : "عرضت كتابي هذا المسند على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة؛ تركته، وكل ما قال: إنه صحيح وليس علة؛ أخرجته". وقصَّتُهُ مع الإمام البخاري حيه جاءه يسأله عن علة حديث كفارة المجلس، فيها من العبرة لمن بعده، ما لا يوجد في غيرها. قال أبو حامد الأعمش الحافظ، وهو: أحمد بن حمدون (¬2) : كنا عند محمد بن إسماعيل البخاري ـ بنيسابور ـ، فجاء مسلم بن الحجاج، فسأله عن حديث: عبيد الله بن عمر، عن أبي الزبير، عن جابر: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية، ومعنا أبو عبيدة ـ فساق الحديث بطوله. ¬

_ (¬1) "صيانة صحيح مسلم" لابن الصلاح (ص 67) . (¬2) انظر "الإرشاد" للخليلي (3/960 ـ 961) و "السنن الأبين" لان رشيد السبتي (ص 124 ـ 126) و "المعرفة" للحاكم (ص 113 ـ 114) و "تاريخ بغداد" (2/28 ـ 29) (13/102ـ103) و "النكت على ابن الصلاح" (2/716ـ720) ..

فقال محمد بن إسماعيل: حدثنا ابن أبي أويس: حدثني أخي أبو بكر، عن سليمان بن بلال، عن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر ـ القصة بطولها. فقرأ عليه إنسان: حديث: حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة: حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "كفارة المجلس واللغو ... " ـ الحديث. فقال مسلم: في الدنيا أحسن من هذا الحديث! ! ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سيلٍ! ! يُعرف بهذا الإسناد حديث في الدنيا؟ ! . فقال محمد بن إسماعيل: إلا أنه معلول! قال مسلم: لا إله إلا الله ـ وارتعد ـ؛ أخبرني به؟ ! ! قال استُر ما ستر الله! هذا حديث جليل؛ رَوَى عن حجاج بن محمد الخَلْقُ، عن ابن جريج! ، فألح عليه، وقَبَّل رأسه، وكاد أن يبكي! فقال: اكْتُبْ؛ إن كان ولا بد: حدثني موسى بن إسماعيل: حدثنا وُهَيْب: حدثنا موسى بن عقبة، عن عون بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كفارة المجلس". فقال مسلم: لا يبغضك إلاحاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك! وفي رواية:

- التسامح في باب الاعتبار، وشواهده

جاء مسلم بن الحجاج إلى محمد بن إسماعيل البخاري، فقَبَّل بين عينيه، وقال دعني حتى أُقَبِّل رجليك، يا أُستاذ الأُسْتَاذين، سيد المحدثين طبيب الحديث في علله ـ ثم سأله عن الحديث. *** وقد ذكر أئمتنا ـ عليهم رحمة الله تعالى ـ في باب "الاعتبار" من كتب علوم الحديث: أن هذا الباب يُتَسامح فيه في الأسانيد، ولا يُتشدَّد، وأنه يدخل فيه رواية الضعيف القريب الضعف، الذي لا يُحتج به وحده، لو انفرد. وهذه؛ كلمة حق، تَستقيم على مسالك أئمة الحديث في تصانيفهم التي على الأبواب، كمثل "الصحيحين" وغيرهما. وفي ذلك؛ يقول الإمام مسلم، لما بلغه إنكار أبي زرعة الرازي إدخاله في "الصحيح" بعض الضعفاء، مثل أسباط بن نصر، وقَطَن بن نُسَيْر، وأحمد بن عيسى؛ قال (¬1) : "إنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه رُبما وقع إِلَيَّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على ألئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات" ونحو ذلك؛ قول لبن حبان في مقدمة "صحيحه" (¬2) : ¬

_ (¬1) "سؤالات البرذعي" (ص 676) . (¬2) من "الإحسان" (1/162) .

"إذا صح عندي خبر من رواية مدلِّس، أنه بيَّن السماع فيه، لا أبالي أن أذكره من غير بيان السماع في خبره، بعد صحته عندي من طريق آخر". وبناءً على هذا؛ سلك أكثر المحدِّثين بعد الشيخين، في أكثر أحاديث "الصحيحين"مسلك إحسان الظن، وحَمْل ما اشتملت عليه بعض أسانيد كتابيهما من علل توجب ردَّها على أنَّها مجبورة ومدفوعة من أوجه أخرى، اطَّلعا عليها، وخفيت على من بعدهما. يقول ابن رشيد السَّبتي (¬1) ؛ مخاطباً الإمام مسلماً: "وعلى نحو من هذا؛ تأَّول علماء الصنعة بعدكما عليكما ـ أعنيك والبخاري ـ، فيما وقع في كتابيكما من حديث من عُلم بالتدليس، ممن لم يُبَيِّن سماعه في ذلك الإسناد الذي أخرجتما الحديث به، فظنوا بكما ما ينبغي من حسن الظن، والتماس أحسن المخارج، وأصوب المذاهب؛ لتقدمكما في الإمامة، وسعة علمكما وحفظكما، وتمييزكما، ونقدكما، أن ما أخرجتما من الأحاديث عن هذا الضرب مما عرفتما سلامته من التدليس. وكذلك أيضاً؛ حكموا فيما أخرجتما من أحاديث الثقات الذين قد اختلطوا، فحملوا ذلك على أنه مما رُوي عنهم قبل الاختلاط، أو مما سَلِموا فيه عند التحديث. على نظرٍ في هذا القسم الآخر، يحتاج إلى إمعان التأمل؛ فبعض منها توصلوا إلى العلم بالسلامة فيه بطبقة الرواة عنهم، وتمييز وقت ¬

_ (¬1) في "السنن" (ص 143-144) ، وانظر: كتابي "حسم النزاع" (ص 97) .

سماعهم، وبعض أُشْكِلَ؛ وقد كان ينبغي فيما أُشْكِلَ أن يُتوقف فيه؛ لكنهم قنعوا ـ أو أكثرهم ـ بإحسان الظن بكما، فقبلوه، ظناً منهم أنه قد بان عندكما أمره، وحَسْبُنَا الاقتداء بما فعلوا، ولزوم الاتِّباع، ومجانبة الابتداع" اهـ. وهو أيضاً؛ مسلك قد سلكه أئمة الحديث في كثيرٍ من أحكامهم الجزئية على الأحاديث، حيث أُثر عنهم الاستدلال على حفظ الراوي لحديث قد أُنكر عليه، أو يُخشى من وقوع الخلل في الرواية من قِبَله، بأن غيره قد تابعه على حديثه ذاك، وقد يكون من تابعه ثقة، وقد يكون دون ذلك. قال إسحاق ابن هانيء (¬1) : قال لي أبو عبد الله ـ يعني: أحمد بن حنبل ـ: قال لي يحيى بن سعيد ـ يعني: القطان ـ: لا أعلم عبيد الله ـ يعني: ابن عمر ـ أخطأ، إلا في حديث واحد لنافع؛ حديث: عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام". قال أبو عبد الله: فأنكره يحيى بن سعيد عليه. قال أبو عبد الله: فقال لي يحيى بن سعيد: فوجدته، قد حدَّث به العُمَري الصغير (¬2) ، عن نافع، عن ابن عمر ـ مثله. قال أبو عبد الله ك لم يسمعه إلا من عبيد الله، فلما بلغه عن العُمَري صححه (¬3) . ¬

_ (¬1) "مسائله" (2/216) ، وكذا هو في "شرح علل الترمذي" (2/656) . (¬2) يعني: عبد الله بن عمر العمري. (¬3) كذا؛ روى ابن هانىء هذه القصة عن أحمد بن حنبل ويحيى القطان، وسياقه واضح في أن العمري الصغير يروي الحديث مرفوعاً كما يرويه عبيد الله أخوه، وأن القطان صحح الحديث بعد أن وقف على متابعته. لكن؛ روى هذه القصة أيضاً عن أحمد والقطان: عبد الله بن أحمد في "العلل" (2012) وأبو داود في "المسائل" (ص 306) ، وسياقهما لا يدل على ذلك، بل على خلافه. "سمعت أحمد قال: قال يحيى: نظرت في كتاب عبيد الله ـ يعني: ابن عمرـ، فلم أجد شيئاً أنكره إلا حديث: "لا تسافر المرأة ثلاثاً ـ يعني إلا مع ذي محرم" ورواية عبد الله بن أحمد بنحوه. وكذا، نقله الدارقطني في "العلل"؛ كما في "الفتح" لا حجر (2/568) . فروايتهما؛ تدل على أن القطان أنكره، ولم يقوه، وأن أحمد لم يقوه، بل حكى أن أخاه عبد الله يخالفه في رفعه. والله أعلم لكن؛ الحديث صحيح لا غبار عليه، وقد تابع عبيد الله على رفعه الضحاك بن عثمان، وحديثه في مسلم.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل (¬1) : سألت أبي عن الحديث الذي روي ابن المبارك، عن الحسين بن علي، عن وهب بن كيسان، عن جابر ـ يعني: في مواقيت الصلاة ـ: ما ترى فيه؟ وكيف حالك الحسين؟ فقال أبي: أما الحسين؛ هو: أخو أبي جعفر بن محمد بن علي، وحديثه الذي روى في المواقيت، حديث ليس بالمنكر؛ لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره. ¬

_ (¬1) "المسائل" (ص 51) ، وراجع "شرح العلل" لابن رجب (2/656) و "شرح البخاري" له (3/14 ـ 15) .

وقال يوسف بن موسى القطان (¬1) : سئل أبو عبد الله ـ يعني: أحمد بن حنبل ـ عن دية المُعَاهَد؟ قال: على النصف من دية المسلم؛ أذهب إلى حديث عمرو بن شعيب. قيل له: تحتج بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؟ قال: ليس كلها؛ روى هذا فقهاء أهل المدينة قديماً، ويُروى عن عثمان ـ رحمه الله ... وأنكر شعبة على عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزمي حديثه عن عطاء عن جابر في الشفعة، وكان يقول: "لون أن عبد الملك روى حديثاً مثل حديث الشفعة لطرحت حديثه" (¬2) . وهذا؛ يدل على أن الحديث عند منكر لا يحتمل، بحيث لو جاء عبد الملك بمنكر آخر مثله لضَعَّفَ شعبةُ عبدَ الملكِ. وكان شعبة يعلل نكارته، بأنه لم يجد له متابعاً عليه، أو شاهداً يُقويه، ويَشُدُ من عضده. ¬

_ (¬1) "أهل الملل والرد على الزنادقة" للخلال (867) ، ويوسف هذا؛ مترج في "تاريخ بغداد" (14/304) و "المقصد الأرشد" (3/145) ، وهو ثقة صدوق. (¬2) "الكامل" (5/1940) .

- الاعتبار باب عظيم، وهو يمثل جانب التطبيق العملي لهذا العلم

قال وكيع (¬1) : قال لنا شعبة: "لو كان شيئاً (¬2) يُقويه؟! " وهذا؛ يعني: أنه لو جاء ما يقويه ويشهد له، لصححه وأخذ به، ولما أنكره على عبد الملك. *** وهذا؛ باب من أبواب العلم عظيم، ومَزْلَق من مزالقه خطير وجسيم، وهو يمثل إلى حد بعيد الجانب العملي التطبيقي لعلم الحديث، فمن أتقن هذا الباب نظرياً وعملياً، فقد أتقن علم الحديث، ودخله من أوسع أبوابه، ومن لم يتقنه، وقصر في تعلمه، وفتر عن ممارسته، فليس له في علم الحديث حظ، سوى حفظ اسمه، وتخيل رسمه. ولا يتقن هذا الباب، إلا من أتقن جميع علوم الحديث، من الجرح والتعديل، وعلل الأحاديث، ومعرفة المراسيل، والتصحيف والتحريف، والجمع والتفريق، وأسباب الشذوذ والنكارة، وما رُوي بالمعنى وما رُوي باللفظ، وغير ذلك. وأن يكون عالماً بمناهج المحدثين العارفين بالرجال والعلل، مميِّزاً لاصطلاحاتهم، محرِّراً لأصولهم، مدمناً النظر في كلامهم في الرجال والعلل؛ كيحيى القطان، ومن تلقى عنه كأحمد بن حنبل، وابن المديني، وغيرهما، ومن جاء بعدهما وسلك سبيلهما من أئمة هذا الشأن؛ ¬

_ (¬1) "الكامل" (5/1941) . (¬2) كذا

- خطر الاكتفاء بظواهر الأسانيد في هذا الباب

كالبخاري، ومسلم، وأبي حاتم، وأبي زرعة، والنسائي، والدارقطني، وابن عدي، وغيرهم من الأئمة الكبار. ومن تبعهم، وسار على دربهم، وضرب على منوالهم، ممن جاء بعدهم، من المبرِّزين من العلماء المتأخرين؛ كالذهبي، وابن حجر، وابن رجب، وابن عبد الهادي، وغيرهم؛ رحمهم الله جميعاً، ورضي عنهم أجمعين. ولما كان هذا الباب من أبواب علم الحديث، بهذه المكانة الرفيعة وتلك المنزلة الشريفة، مع قلة من تأهل له، أو جمع آلاته، أو أخذ بأسبابه؛ كان مَدْحَضَةَ أفهام، ومزلة أقدام. فإن المتابعات والشواهد، تعتريها ما يعتري أي رواية من العلل الظاهرة والخفية، ما قد يُفضي إلى اطراحها وعدم الاعتداد بها من باب الاعتبار، وإن كانت قبل ظهور هذه العلل فيها صالحة للاعتبار. كما أن الحديث المتصل برجال ثقات، إذا ظهر فيه علة خفية، تبين أنه غير صالح للاحتجاج به، وإن كان قبل ظهور هذه العلة صالحاً لاحتجاج. فمن الخطأ الجسيم، والخطر العظيم، الاكتفاء بظواهر الأسانيد، لتقوية بعضها ببعض، من غير الْتِفَات إلى العلل التي تعتريها، فتُسقِطها عن حد الاعتبار. فإن الاغترار بظواهر الأسانيد، ليس من شأن العلماء العارفين، ولا من شيمة النقاد المحققين، بل هو سمة المقصرين في تعلم العلم ومعرفة

أغواره، وصفة العاجزين عن مسايرة أهله، ومجاراة أربابه. ولله در الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ حيث قال (¬1) بصدد حديث، اغتر البعض بظاهر إسناده: "إن ابن حزم نظر إلى ظاهر السند، فصححه؛ وذلك مما يتناسب مع ظاهريته، أما أهل العلم والنقد، فلا يكتفون بذلك، بل يتتبعون الطرق، ويدرسون أحوال الرواة، وبذلك يتمكنون من معرفة ما إذا كان في الحديث علة أوْ لا؛ ولذلك كان معرفة علل الحديث من أدقِّ علوم الحديث، إن لم يكن أدقَّها إطلاقاً ... ". قال أيضاً (¬2) : " إن الحديث الحسن لغيره، وكذا الحسن لذاته، من أدقِّ علوم الحديث وأصعبها؛ لأن مدارهما على من اختلف فيه العلماء من رواته، ما بين موثق ومضعف، فلا يتمكن من التوفيق بينها، أو ترجيح قول على الأقوال الأخرى، إلا من كان على علم بأصول الحديث وقواعده، ومعرفةٍ قويةٍ بعلم الجرح والتعديل، ومارس ذلك عملياً مدة طويلة من عمره، مستفيداً من كتب التخريجات، ونقد الأئمة النقاد، عارفاً بالمتشددين منهم والمتساهلين، ومن هم وسط بينهم، حتى لا يقع في الإفراط والتفريط، وهذا أمر صعب، قل من يصير له، ويناله ثمرته، فلا جرم أن صار هذا العلم غريباً بين العلماء، والله يختص بفضله من يشاء". ¬

_ (¬1) "الإرواء" (6/57 ـ 58) . (¬2) "الإرواء" (3/363) . وكذا (1/11) .

- وقوع الإسراف من المتأخرين في هذا الباب

وما أحسن قول الحافظ ابن رجب، حيث قال بصدد حديث اتفق أئمة الحديث من السلف على إعلاله، واغتر بعض المتأخرين بظاهر إسناده؛ قال (¬1) : " هذا الحديث؛ مما اتفق أئمة الحديث من السلف على إنكاره على أبي إسحاق (¬2) ... وأما الفقهاء المتأخرون، فكثير منهم نظر إلى ثقة رجاله، فظن صحته، وهؤلاء؛ يظنون أن كل حديث رواه ثقة فهو صحيح، ولا يتفطنون لدقائق علم علل الحديث، ووافقهم طائفة من المحدثين المتأخرين؛ كالطحاوي والحاكم والبيهقيّ ". *** وقد وقع الإسراف لدى المتأخرين من أهل العلم، والمعاصرين منهم على وجه الخصوص، متمثلاً في بعض الباحثين والمعلقين على كتب التراث في إعمال قواعد هذا الباب النظرية؛ دونما نظر في الشرائط المعتبرة التي وضعها أهل العلم لهذه القواعد، ودونما فهم وفقه عند تطبيقها وتنزيلها على الروايات والأسانيد، ودونما اعتبار لأحكام أهل العلم ونقاد الحديث على هذه الأسانيد، وتلك الروايات؛ فجاء كثير من أحكامهم مصادَمة لأحكام أهل العلم ونقاده عليها، وأدخلوا بسبب ذلك في ¬

_ (¬1) "فتح الباري" له (1/362) . (¬2) ذكر منهم: إسماعيل بن أبي خالد، وشعبة، والثوري، ويزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وابن أبي صالح المصري، ومسلم بن الحجاج، والأثرم، والجوزجاني، والترمذي، والدارقطني. والحديث؛ هو حديث أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينام وهو جنب، ولا يمس ماءً".

- خطر تطبيق القاعدة بعيدا عن تطبيقات الأئمة لها

الأحاديث الحسنة، أحاديث منكرة وباطلة، قد فرغ الأئمة من ردها. فإن آفة الآفات في هذا الباب، ومنشأ الخلل الحاصل فيه من قِبل بعض الباحثين هو ممارسة الجانب العملي فيه استقلالاً من دون الرجوع إلى أئمة العلم لمعرفة كيفية ممارساتهم العملية. فكما أن القواعد النظرة لهذا العلم تؤخذ من أهله المتخصصين فيه، فكذلك ينبغي أن يؤخذ الجانب العملي منهم؛ لا أن تؤخذ منهم فقط القواعد النظرية، ثم يتم إعمالها عملياً من غير معرفة بطرائقهم في إعمالها وتطبيقها وتنزيلها على الأحاديث والروايات. فإن أهل مكة أعلم بشعابها، وأهل الدار أدرى بما فيه، وإن أفضل مَنْ يطبق القاعدة هو من وضعها وحررها، ونظم شرائطها، وحدد حدودها. فكان من اللازم الرجوع إلى كتب علل الحديث المتخصصة، والبحث عن أقوال أهل العلم على الأحاديث؛ لمعرفة كيفية تطبيقهم هم لتلك القواعد النظرية، التي يقوم عليها هذا الباب، ومعرفة فه تنزيلها على الروايات والأسانيد. وليس هذا؛ جنوحاً إلى تقليدهم، ولا دعوة إلى تقديس أقوالهم، ولا غلقاً لباب الاجتهاد، ولا قتلاً للقدرات والملكات؛ بل هي دعوة إلى أخذ العلم من أهله، ومعرفته من أربابه، ودخوله في بابه وتحمله على وجهه. فمن يظن، أنه بإمكانه اكتساب ملَكَةِ النقد، وقوة الفهم، وشفوف النظر، بعيداً عنهم، وبمعزل عن علمهم، وبمنأى عن فهمهم؛ فهو

ظالم لنفسه، لم يبذل لها النصح، ولم يبغ لها الصلاح والتوفيق، ولا أنزل القوم منازلهم، ولا قَدَرَهم أقَْدارهم. فهم أهل الفهم، وأصحاب الملكات، وذوو النظر الثاقب، فمن ابتغى من ذلك شيئاً، فها هو عندهم، وهم أربابه، فليأْخذه منهم، وليأخذ بحظ وافر. فمن تضلع في علمهم، واستزاد من خيرهم، وتشربهم من فقههم، واهتدى بهديهم، واسترشد بإرشادهم، سار على دربهم، وضرب على منوالهم؛ فهو الناصح لنفسه، المُبتغي لها الصلاح والتوفيق، وهو من السابقين بالخيرات بإذن الله تعالى. ولله دَرُّ الحافظ ابن رجب الحنبلي، حيث أوضح في كلمات قلائل، أنَّ سبيل تحصيل المَلَكة، إنما هو مداومة النظر في مطالعة كلام الأئمة العارفين، للتفقه بفقههم، والتفهم بفهمهم. يقول ابن رجب (¬1) : " ولا بد في هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عَدِمَ المذاكرة به، فليُكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين؛ كيحيى القطان، ومن تلقى عنه كأحمد وابن المديني وغيرهما؛ فمن رُزِق مطالعة ذلك وفهمه، وفَقُهَتْ نفسه فيه، وصارت له فيه قوة نفس، ومَلَكة، صَلُحَ له أن يتكلم فيه". ¬

_ (¬1) "شرح علل الترمذي" (2/664) .

فاقنع بما قسم المليك، قَسَم الخلائق بيننا علامُها فهم السعاة إذا العشيرة أُفْظِعَت وهم فوارسها، وهم حكامها وهم ربيع للمجاور فيهم والمرملات إذا تطاول عامها وهم العشيرة أن يبَطِّىء حاسد أو أن يلوم مع العدا لُوُّامها هذا؛ وإن علامة صحة الاجتهاد، وعلامة أهلية المجتهد، هو أن تكون أغلب اجتهاداته وأحكامه وأقواله موافقة لاجتهادات وأحكام وأقوال أهل العلم المتخصصين، والذين إليهم المرجع في هذا الباب. وإن علامة صحة القاعدة التي يعتمد عليها الباحث في بحثه، هو أن تكون أكثر النتائج والأحكام المتمخضة عنها على وفق أقوال أهل العلم وأحكامهم. فكما أن الراوي لا يكون ثقة محتجاً به وبحديثه إلا إذا كانت أكثر أحاديثه موافقة لأحاديث الثقات، المفروغ من ثقتهم، والمسلَّم بحفظهم وإتقانهم؛ فكذلك الباحث لا يكون حكمه على الأحاديث ذا قيمة، إلا إذا جاءت أكثر أحكامه على الأحاديث موافقة لأحكام أهل العلم عليها.

وبقدر مخالفته لأهل العلم في أحكامه على الأحاديث، بقدر ما يُعلم قدر الخلل في القاعدة التي اعتمد عليها، أو في تطبيقه هو للقاعدة، وتنزيلها على الأحاديث. فمن وجد من نفسه مخالفة كثيرة لأهل العلم في الحكم على الأحاديث، فليعلم أن هذا إنما أُتي من أمرين، قد يجتمعان، وقد يفترقان. أحدهما: عدم ضبط القاعدة التي بنى عليها حكمه على وفق ضبط أهل العلم لها. ثانيهما: ضبط القاعدة نظرياً فقط، وعدم التفقه في كيفية تطبيقها، كما كان أهل العلم من الفقه والفهم والخبرة، بالقدر الذي يؤهلهم لمعرفة متى وأين تنزل القاعدة، أو لا تنزل. فكان هذا من الدوافع القوية إلى الكتابة في هذا الموضوع؛ لبيان الشرائط التي اشترطها أهل العلم في قواعد هذا الباب، وخطر الإخلال بها؛ مع توضيح شيء من فقه الأئمة عند تطبيقهم لهذه القواعد، وتنزيلها على الأحاديث. لاسيِّما؛ وأنه لا يكاد يوجد كتاب مستقل تناول هذا الباب من أبواب العلم، رابطاً فيه بين الجانب التقعيدي والجانب العملي التطبيقي؛ وإنْ كان فد صدرت في الآونة الأخيرة بعض الكتابات حول هذا الموضوع، إلا أنها تفتقد إلى حد بعيد الجانب العملي المتمثل في تطبيق العلماء المتخصصين لهذه القواعد المتعلقة بهذا الباب.

- تنبيه بعض أفاضل العصر على التساهل الذي وقع فيه المتأخرون، وتحذيرهم منه

*** وقد نبه إلى هذا التساهل كثير من العلماء المحققين، أمثال الشيخ المعلمي اليماني، والشيخ أحمد شاكر، والشيخ الألباني، وحذَّروا منه، ومن الاغترار به. يقول الشيخ المعلمي اليماني (¬1) : "تحسين المتأخرين فيه نظر". ويقول الشيخ أحمد شاكر في "شرح ألفية الحديث" (¬2) للسيوطي مُعقباً عليه تساهله في هذا الباب في كثير من كتبه: "أما إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي، أو اتهامه بالكذب، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع؛ فإنه لا يرقى إلى الحسن، بل يزداد ضعاً إلى ضعف؛ إذ أن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم بحديث لا يرويه غيرهم ـ: يرجِّح عند الباحث المحقق التهمة، يؤيد ضعف روايتهم؛ وبذلك يتبين خطأ المؤلف ـ يعني: السيوطي ـ هنا، وخطؤه في كثير من كتبه في الحكم على أحاديث ضعاف بالترقي إلى الحسن، مع هذه العلة القوية". ويقول الشيخ الألباني (¬3) : ¬

_ (¬1) "الأنوار الكاشفة" (ص 29) . وانظر أيضاً: "الفوائد المجموعة" (ص 100) . (¬2) ص 16) . (¬3) "تمام المنة" (ص 31ـ32) .

"لابد لمن يريد أن يُقوي الحديث بكثرة طرقه أن يقف على رجال كل طريق منها، حتى يتبين له مبلغ الضعف فيها، ومن المؤسف أن القليل جداً من العلماء من يفعل ذلك، ولاسيما المتأخرين منهم؛ فإنهم يذهبون إلى تقوية الحديث لمجرد نقلهم عن غيرهم أن له طرقاً، دون أن يقفوا عليها، ويعرفوا ماهية ضعفها!! والأمثلة على ذلك كثيرة ... ". وذكر الدكتور المرتضى الزين أحمد في كتابه "مناهج المحدثين في تقوية الأحاديث الحسنة والضعيفة" (¬1) ، أنه استشار الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ عن الكتابة في هذا الموضوع، فقال له الشيخ: "هذا موضوع مهم إذا أُتقن؛ لأن الناس يضطربون في هذا الباب كثيراً" ـ أو عبارة نحوها. *** هذا؛ وليس الخطر؛ في الوقوع في الخطأ في إعمال قواعد هذا العلم، حيث يقع الباحث في ذلك أحياناً، فإن هذا لا يكاد يسلم منه أحد؛ وإنما الخطر حيث يصير الخطأ قاعدة مطردة، وسنة متبعة، فتنقلب السنة بدعة، والبدعة سنة ويصير أحق الناس بقوله - صلى الله عليه وسلم - "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء" كمن قال فيهم - صلى الله عليه وسلم - "ومن سن في الإسلام سنة سيئة، ¬

_ (¬1) ص 9) ، وانظر أيضاً: "الضعيفة" (4/7ـ8)

- أثر هذا التساهل في باب البدعة

فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" (¬1) !! . ويصير من اتبع سبيل المؤمنين، وسار على درب العلماء العارفين متبعاً لغير سبيل المؤمنين، وسالكاً غير طريق العلماء العارفين، ومخالفاً لما عليه المحققون، ومناهضاً لما أجمع عليه المحدثون!! . فلا غرو! أن وجدنا أهل البدع والأهواء في كل زمان ومكان قد استغلوا هذا الباب من أبواب العلم لتقوية بدعهم، وتأييد آرائهم الشاذة، وأقوالهم الباطلة، وذلك بتقوية الأحاديث المنكرة والباطلة، بروايات أخرى مثلها أو أشد منها في النكارة والبطلان. وهذا؛ شأن أهل البدع قديماً وحديثاً، يتعلقون بالضعيف والمنكر من الأحاديث، ويُوهمون الناس قوتها، بحجة أن لها شواهد ومتابعات؛ وما هي كذلك. ومن نظر في كتابي "ردع الجاني" وقف على شيء كثير لمبتدع واحد في كتاب واحد، من تقويته لأحاديث بشواهد ومتابعات لا أصل لها، فكيف بباقي كتبه (¬2) ، بل كيف بباقي المبتدعين، الذين هم أكثر تشرباً منه للبدعة، وأكثر توغلاً فيها. والواقع؛ أن هؤلاء المبتدعين يجدون في المتناثر من أحكام بعض ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (6/86 ـ 87) . (¬2) قد بينت كثيراً من ضلالاته في كتبه الأخرى، في كتاب آخر سميته: "صيانة الحديث وأهله من تعدى محمود سعيد وجهله". أسأل الله تعالى أن يعينني على إكماله..

- خطأ من قابل هذا التساهل بالغلو

أهل العلم المتساهلين من المتأخرين والمعاصرين خاصة، ما يؤيدون به قولهم، ويقوُّون به صنيعهم، ويدعمون به باطلهم؛ فصار الخطأ غير المقصود عند ذاك العالم الفاضل، قاعدة مطردة عند هؤلاء المبتدعين، تلقَّفُوه، وأقاموا له الحصون لحمايته، والقصور لصيانته؛ فهم بدون هذه الأُغُلوطات وتلك الهفوات الصادرة من هؤلاء الأفاضل، يقفون حائرين عاجزين، مكتوفي الأيدي، لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً!! *** ووجد ـ في المقابل ـ من يُنكر مبدأ التقوية من أساسه، ولا يعتبر الشواهد والمتابعات، ولا يحتج إلا بما رواه الثقات. وهؤلاء أيضاً؛ أطلقوا حيث ينبغي أن يقيِّدوا، وصادموا بقولهم هذا النصوص الكثيرة والوفيرة عن أئمة الحديث؛ كأحمد والبخاري والترمذي وغيرهم، الدالة على اعتبار الروايات وجَبْر بعضها ببعض، والانتفاع بالشواهد والمتابعات، والاستدلال بها على حفظ الحديث. ولعل هؤلاء لما نظروا إلى التساهل الفاحش الواقع فيه الأولون، سعوا إلى الهروب منه، واجتناب ما وقع فيه غيرهم؛ ولكنهم أسرفوا في الهروب، وبالغوا في الاجتناب والبُعد، فجرهم ذلك إلى الغلو، فقابلوا الجفاء بالغلو، والتساهل بالتشدد، والتفريط بالإفراط. والحق؛ وسط بين الجفاء والغلو؛ يخرج من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشرابين. فهو؛ إثبات للاعتبار، وإعمال للشواهد والمتابعات، وانتفاع بها في

- الأسس التي تقوم عليها قاعدة الاعتبار

تقوية الأحاديث؛ من غير اغترار بأخطاء الرواة في الأسانيد والمتون، ولا التفات للمناكير والشواذ. وهو؛ إعمال لما أعمله أئمة الحديث ونقاده من الروايات، احتجاجاً أو استشهاداً، وإهمال لما أهملوه، وإبطال لما أبطلوه. فما قبلوه يُقْبَل، وما أبطلوه يُبْطل، وما اعتبروه يُعتبر، وما أنكروه يُنكر. *** هذا؛ والقاعدة التي يقوم عليها هذا الباب، ويُعْتّمد عليها في تمييز ما يصلح وما لا يصلح للاعتبار، إنما تقوم على أساسين، صُلبَيْن، متِنين، لا نزاع فيهما، ولا خلاف عليهما. الأساس الأول: أن ثمة فرقاً بين: "الخطأ المحتمل"، و "الخطأ الراجح". فالحديث؛ الذي يُحتمل أن يكون خطأً، ويُحتمل أن يكون صواباً، هو الذي يصلح في باب الاعتبار، أما الذي ترجَّح فيه الخطأ، وكان جانبه أقوى من جانب الإصابة؛ فهو الذي لا يصلح في هذا الباب؛ فلا يُعتبر به، ولا يعرج إليه. فأما "الخطأ المحتمل"؛ فهو أن يوجد في الرواية ما يكون مظنَّة للخطأ، أو سبباً لوقوع الخطأ، أو ما يُخشى وقوع الخطأ من قبله، ولمَّا يُتحقق منه، ولا عُرف بعد. فمثلاً؛ إرسال الحديث، أو سوء حفظ أحد رواته، أو وقوع

الخلاف ـ ولمَّا يظهر بعد رجحان وجه من الوجوه ـ؛ كل هذه الأسباب يُخشى وقوع الخلل في الرواية من قِبَلِها، ولكن الخلل ليس ملازماً لها؛ فقد يكون مخرج المرسل صحيحاً، وقد يكون سيء الحفظ لم يؤثر عليه سوء حفظه في هذا الحديث خاصة، وقد يكون هذا الخلاف الواقع في الرواية من الخلاف الذي لا يقدح، أو يكون الراجح منه ما ينفع الحديث ولا يضره؛ وذلك كله حيث لا يكون في الحديث علة أخرى (¬1) . فإذا كان حال الحديث هكذا، يُحتمل أن يكون صواباً، ويُحتمل أن يكون خطأً، من غير رجحان لجانب من الجانبين، كان ـ حينئذٍ ـ صالحاً للاعتبار. والهدف من اعتبار مثل هذا؛ ترجيح أحد الجانبين، فإذا وُجد متابع يدفع عن الراوي ريبة التفرد، أو شاهد يؤكد حفظه للمتن أو لمعناه، رجح جانب إصابته فيما توبع عليه، أو فيما وُجد له شاهد، من الرواية؛ كلها، أو بعضها. وإذا وُجد مخالف له، ممن تؤثِّر مخالفته، أو شاهد كذلك بخلاف ما روى، ترجح جانب خطئه في روايته، وقوي جانب الرد لها، فتُلحق ـ حينئذٍ ـ بالمناكير والشواذ. وإذا لم يوجد؛ لا هذه، ولا تلك: ما يشهد له، ولا ما يخالفه، كان الحديث فرداً، ورجح جانب الخطأ فيه، فيكون منكراً؛ لتفرد من لا ¬

_ (¬1) راجع: "الموقظة" للذهبي (ص39) و "النكت على ابن الصلاح" لابن حجر (2/569) و "حجاب المرأة المسلمة" للشيخ الألباني (ص19ـ20) و "جلبابها" له أيضاً (ص44) .

يحتمل تفرده به (¬1) . لاسيَّما؛ إذا انضاف إلى ذلك بعض القرائن التي تؤكد عدم حفظ الراوي لما تفرد به؛ كأن يكون المتفرد مُقلاَّ من الحديث، لا يُعرف بكثرة الطلب، ولا بالرحلة، أو يكون إنما تفرد بالحديث عن بعض الحفاظ المكثرين، المعروفين بكثرة الحديث والأصحاب، فإن من عُرف بسوء الحفظ، إذا تفرد وانضاف إلى تفرده مثل هذه القرائن، لا يتردد فاهم في نكارة ما تفرد به (¬2) . وأما "الخطأ الراجح"؛ فالرجحان يكون بأحد أمرين: الأول: متعلق بالراوي. وذلك؛ بأن يكون الراوي المتفرد بالرواية ضعفه شديد؛ لكذب، أو تهمة، أو شدة غفلة. فمثل هذه الرواية، لا تصلح للاعتبار؛ لرجحان جانب الخطأ فيها، من حيث أن مثل هؤلاء الرواة إنما يتفردون في الأعم الأغلب بالكذب ¬

_ (¬1) وقد سبق صنيع شعبة في حديث الشفعة الذي تفرد به عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي؛ لما لم يجد ما يقويه به، أنكره، وكذلك ما سبق معه من صنيع يحيى القطان وأحمد بن حنبل، يفيد هذا المعنى. وقد ذكر الحافظ ابن الصلاح هذا المعنى في "مقدمته" (ص46-47) في مبحث"الحسن"، عندما قسم الحسن إلى قسمين، فذكر ما يدل على أن المستور الذي لا يكون متهماً بكذب أو فسق أو غفلة شديدة، إذا لم يوجد له متابع، أو لحديثه شاهد، تكون روايته شاذة أو منكرة. وكذلك؛ صرح بمثل ذلك في مبحثي "الشاذ" و "المنكر" (ص104-107) . (¬2) راجع: كتابي "لغة المحدث" (ص88-100) ، وسيمر بك ـ إن شاء الله ـ هذا المعنى في كلام كثير من أهل العلم في أثناء هذا الكتاب.

الموضوع، أو الباطل المنكر. والقليل جداً؛ الذي أصابوا فيه، إنما يُعرف من رواية غيرهم من أهل الثقة والصدق، فلم تعد روايتهم ذات فائدة؛ إذا وُجد ما يغني عنها ممن يوثق بدينه وحفظه. يقول الإمام مسلم ـ عليه رحمة الله ـ (¬1) عن روايات هذا النوع من الرواة: "لعلها ـ أو أكثرها ـ أكاذيب، لا أصل لها؛ مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة، ولا مقنع". هذا؛ والقدر القليل الذي يوجد له أصل عند ثقات المحدثين، مما يرويه هؤلاء الكذابون أو المتهمون أو ما شابههم؛ لا يُؤمن أن يكونوا إنما سرقوه من الثقات، وليس مما سمعوه؛ لأن من يُعرف بالكذب، أو يُتهم به، لا يستبعد عليه أن يُجهز أو يسطو على حديث غيره، فيسرقه؛ فكانت رواية هؤلاء وجودها كالعدم؛ لأنها إما مختلفة، وإما مسروقة. الثاني: متعلق بالرواية نفسها. وذلك؛ بأن يكون راوي الرواية، ممن لم يبلغ في الضعف تلك المنزلة، وإنما نشأ ضعفه من سوء حفظه، أو اختلاطه، أو نحو ذلك مما لا يقدح في دين أو عدالة، بل قد يكون ثقة صدوقاً، من جملة ما يحتج بحديثه في الأصل؛ إلا إنه "ترجَّح" أنه أخطأ في هذا الحديث بعينه، في ¬

_ (¬1) " مقدمة الصحيح" (1/22) .

إسناده أو متنه، عن غير قصد أو تعمد، فتكون روايته هذه التي أخطأ فيها من قَبيل "المنكر" أو "الشاذ". والخطأ؛ كنحو: زيادة أو نقصان، أو تقديم أو تأخير، أو إبدال راوٍ براوٍ، أو كلمة بكلمة، أو إسنادٍ في إسناد، أو تصحيف أو تحريف، أو رواية بالمعنى أفسدت معنى الحديث وغيرت نظامه. فإذا ترجح وقوع شيء من هذا في الرواية، كانت الرواية ـ حينئذٍ ـ خطأ، منكرة أو شاذة، لا اعتبار لها، وإنما الاعتبار بأصلها الذي خلا من هذه الآفات؛ إن كان لها أصل. فإن كان أصل الرواية خطأ، فلا تصلح الرواية ـ حينئذٍ ـ للاعتبار بها، بأي جزء منها، وبأي قطعة منها. وإن كانت الرواية من أصلها محفوظة، أو لها من المتابعات والشواهد ما يؤكد كونها محفوظة، إلا جزء منها في الإسناد أو في المتن، ثبت خطؤه، ونكارته، لم يُعتبر بهذا الجزء منها خاصة، وإن اعتُبر بأصل الرواية. فمثلاً؛ إذا اختُلف في وصل رواية وإرسالها، وترجح لدينا أن من وصلها أخطأ، وأن الصواب أنها مرسلة، فالرواية الموصولة غير صالحة للاعتبار بها؟ لأنها خطأ متحقق، فوجودها وعدمها سواء، وإنما يُعتبر بالرواية المرسلة فحسب. وإذا اختُلف في ذكر زيادة معينة في متن حديث، أثبتها بعض الرواة،

ولم يثبتها البعض الآخر، وترجح لدينا أن من أثبتها أخطأ في ذلك، وأن الصواب عدم إثباتها في هذا المتن. فإن وجدت هذه الزيادة في متن آخر، لم يكن ورودها في المتن الأول شاهداً لها في المتن الثاني، لأنه قد تُحقق من أن إدخالها في المتن الأول خطأ من قِبَل بعض الرواة، وأنها مقحمة في هذا المتن، وليست منه، بل قد يكون من زادها في المتن الأول إنما أخذها من المتن الثاني، ثم أقحمها بالأول، من غير تحقيق (¬1) . وهذان الأمران؛ اللذان يترجح بوجودهما في الرواية كونها خطأ، وأنها لا تصلح للاعتبار، هما ما أشار إليه الإمام الترمذي ـ عليه رحمة الله تعالى ـ عند تعريفه للحديث "الحسن" وبيان شرائطه؛ فإنه ذكر: أن كل ما "يُروى من غير وجه" لا يكون "حسناً" حتى يجتمع فيه شرطان. الأول: "لا يكون في إسناده من يُتَّهم بالكذب". فهذا؛ ما يتعلق بحال الراوي. الثاني: "لا يكون الحديث شاذاً". ¬

_ (¬1) انظر: "فصل: الشواهد.. وحديث في حديث". وانظر أيضاً: "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني (1/160) (3/2869) (5/25) (6/107) و "الإرواء" (4/33) (7/120) . وفي "مجموع الفتاوى" (30/372-373) ذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ حديثاً في "المسند" عن بشير بن الخصاصية، وذكر فيه زيادة، ليست هي فيه في "المسند"،ولا غيره، وإنما هي في حديث آخر في بابه. وإنما يقع ذلك، بسبب الاعتماد على الحفظ، وقد كان شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ آية في حفظه، وعجباً من العجب.

وهذا؛ ما يتعلق بحال الرواية نفسها. وكل من تعرض لشرائط اعتضاد الروايات، إنما يدور كلامه في هذا الفلك، وأنه لا بد من تحقق هذين الشرطين فيها جميعاً، فإذا لم يتحقق أحدهما في الرواية، سقطت عن حد الاعتبار، وإن تحقق الآخر (¬1) . فهذا هو الأساس الأول في هذا الباب، وهو ما حرره الحافظ ابن حجر ـعليه رحمة الله ـ، ولخَّصه في قوله (¬2) : "لم يذكر ـ يعني ابن الصلاح ـ للجابر ضابطاً، يُعلم منه ما يصلح أن يكون جابراً، أو لا. والتحرير فيه: أن يقال: إنه يرجع إلى الاحتمال في طرفي القبول والرد: فحيث يستوي الاحتمال فيهما؛ فهو الذي يصلح لأن ينجبر. وحيث يقوى جانب الرد؛ فهو الذي لا ينجبر. وأما إذا رجح جانب القبول؛ فليس من هذا؛ بل ذاك في الحسن الذاتي. والله أعلم ". وهذا التفصيل؛ هو الذي أراده الإمام أحمد ـ عليه رحمة الله ـ، من قول الجامع، والذي هو بمنزلة قاعدة عريضة، ومَثَل سائر؛ حيث يقول (¬3) : "الحديث عن الضعفاء؛ قد يُحتاج إليه في وقت، ¬

_ (¬1) ستأتي ـ إن شاء الله ـ أكثر هذه الأقوال في "فصل: المنكر.. أبداً منكر". (¬2) "النكت" (1/409) ، وسيأتي أيضاً في "فصل: المنكر.. أبداً منكر". (¬3) "العلل" للمروذي (ص287) ، و "مسائل أحمد " لابن هانيء (1925) (1926) ، وسيأتي أيضاً في الفصل المشار إليه.

- الأساس الثاني: أن الخطا في المتن مثل الخطإ في الإسناد من حيث عدم صلاحيته للاعتبار

والمنكَر أبداً منكر". ففَّرق الإمام؛ بين أن يوجد في الرواية ما يكون مظنة لوقوع الخطأ فيها، وهو أن تكون من رواية مَن هو ضعيف الحفظ، وذكر أن هذا النوع "قد يُحتاج إليه في وقت"؛ أي: في باب الاعتبار. وبين أن تكون الرواية في نفسها منكرة، وذلك حيث يترجح وقوع الخطأ فيها، فمثل هذه لا تنفع في الاعتبار، بل هي منكرة أبداً، وجودها كعدمها؛ ولو كانت من رواية من يصلح حديثه للاحتجاج أو للاعتبار في الأصل. الأساس الثاني: أن الخطأ هو الخطأ، مهما كان موضعه، لا فرق بين خطأ في الإسناد وخطأ في المتن، فإذا تُحُقق من وقوع خطأ في الرواية، في إسنادها أو متنها لا يعرج إلى هذا الخطأ، ولا يُعتبر به، بل هو منكر، له ما للمنكر، وعليه ما على المنكر. فإذا كان ما ثبت خطؤه من المتن أو بعض المتن غير صالح للاعتبار؛ فكذلك ما ثبت خطؤه من الإسناد أو بعض الإسناد غير صالح للاعتبار. فالخطأ والنكارة؛ كما يعتريان المتون، فكذلك يعتريان الأسانيد، لا فرق بينهما في ذلك، بل وقوعهما في الأسانيد أكثر، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى. لأن الأسانيد، هي مادة الاعتبار، فالمعتَبِر إنما يعتبر الأسانيد المتعددة لهذا المتن، ويجمعها من بطون الكتب، ثم يضم بعضها إلى

بعض، فيحكم بثبوت المتن، بناءً على أن هذا المتن قد جاء بعدة أسانيد،مختلفة المخارج، وإنْ كان في بعضها ضعف من قِبَل الإرسال أو سوء حفظ بعض الرواة، إلا أن الاجتماع يجبر ذلك الضعف. فصارت هذه الأسانيد ـ مجتمعة ـ هي الحجة التي يقوم عليها ثبوت هذا المتن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأن هذه الأسانيد لو لم توجد، لما كان هناك من حجة لإثبات هذا المتن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإذا تحققنا من أن كل أسانيد هذا المتن وجودها كعدمها؛ لأن كل إسناد من هذه الأسانيد، غنما هو خطأ في ذاته، ومنكر على حدته، وأن وجوده كعدمه؛ سقطت ـ حينئذٍ ـ الحجة التي يقوم عليها ثبوت هذا المتن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لأننا إذا ذهبنا نقوِّي ثبوت هذا المتن بانضمام هذه الأسانيد، التي ثبت لدينا أن كل إسناد منها منكر وخطأ، فقد ذهبنا إلى تقوية المنكر بالمنكر، والخطأ بالخطأ، وانضمام المنكر إلى المنكر لا يدفع النكارة عنه، بل يؤكدها ويثبتها، وما بُني على منكر فهو منكر، وما بُني على باطل فهو باطل. نعم؛ إن كان بعض هذه الأسانيد، من قسم "الخطأ المحتمل"، كان هذا هو الذي يصلح للاعتبار، وينتفع المتن به عند انضمامه إلى ما هو مثله. أما إذا كانت كل الأسانيد هذا المتن من قسم "الخطأ الراجح"، لم

ينتفع المتن بها، ولا بانضمامها؛ لأن المنكر أبداً منكر. وأيضاً؛ ما كان من هذه الأسانيد من القسم الأول، فهو لا ينتفع بأسانيد القسم الثاني، بل إذا وُجد من أسانيد القسم الأول ما يكفي لجَبْرِ المتن وتَقْويته؛ فبها، أما إذا لم تكن بحيث تكفي لذلك، فلا تنفعها أسانيد القسم الثاني بحال؛ لأن " ما ثبت خطؤه لا يُعقل أن يقوى به رواية أخرى في معناها " (¬1) ولو كانت الرواية المقواة صالحة للتقوية، وذلك؛ " أن الشاذ والمنكر مما لا يُعتد به، ولا يُستشهد به، بل إن وجوده وعدمه سواء" (1) . بل؛ لو كان هذا المتن صحيحاً مفروغاً من صحته، لمجيئه من وجه صحيح لذاته، أو أكثر، فإنه لا ينتفع أيضاً بما يجيء له من أسانيد القسم الثاني، بل هو صحيح بإسناده الصحيح، أو بأسانيد الخطأ والمنكرة التي جاءت له. ولهذا؛ لم يصحح الأئمة حديث: " الأعمال بالنيات " إلا من طريق واحدة، وحكموا على سائر طرقه بالخطأ والنكارة، ولم يُقووا الحديث بها، مع أن بعض هذه الأسانيد أخطأ فيها من هو صدوق في الحفظ، وليس ضعيفاً، فضلاً عن أن يكون متوغلاً في الضعف (¬2) ؛ وما ذلك إلا لأنه " ترجَّح " لديهم أن هؤلاء الموصوفين بالصدق قد أخطئوا في هذه ¬

_ (¬1) هذا؛ تضمين من كلام للشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ، وسيأتي بنصه في "فصل: المنكر.. أبداً منكر"، وهو من درر كلامه، فلله دره. (¬2) راجع: المثال الأول في "فصل: المتابعة.. والقلب"، وكذلك المثال الأول أيضاً في "فصل: الشواهد.. وإسناد في إسناد"..

- الإنكار على من لا يعرف النكارة إلا في المتن

الأسانيد، ولم يحفظوها كما ينبغي؛ فكانت أسانيدهم " شاذة ". ولهذا؛ وجدنا الحافظ ابن حجر، بعد أن ذكر أن هذا الحديث مما تفرد به يحيى بن سعيد، ولك من فوقه، قال (¬1) : " قد وردت لهم متابعات، لا يُعتَبر بها؛ لضعفها ". وهكذا؛ الشأن في كثير من الأحاديث، مثل حديث " المغفرة " (¬2) ، وحديث: "نهى عن بيع الولاء وعن هبته " وحديث " المؤمن يأكل في معيٍ واحد "، وحديث " نهى عن الدُّباء والمُزفَّت "، وغير ذلك مما لا يخفى عن مشتغل بهذا العلم الشريف، عالم بأقوال أهل العلم فيه. وهذا الأحاديث وغيرها؛ صحيحة ثابتة من وجه أو أكثر، وسيأتي في الكتاب ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان وجه نكارة الأسانيد التي جاءت لها، وليست هي أسانيدها المحفوظة، بل هي من أخطاء بعض الثقات أو الضعفاء، وموقف أهل العلم منها، المتمثل في عدم الاعتداد بها، ولا الاعتبار بها. *** ومما يؤسف له؛ أن كثيراً من المشتغلين بتخريج الأحاديث، لا يعرفون النكارة إلا في المتن، بينما نكارة الإسناد يغفلون عنها غالباً؛ فإذا بالمتن المنكر ساقط عن حد الاعتبار، وهذا صحيح لا غبار عليه؛ ولكن كذلك الإسناد المنكر ساقط عن حد الاعتبار، لا يُشتغل به، ولا يُلتفت إليه. ¬

_ (¬1) "نزهة النظر" (ص 68) . (¬2) انظر: "النكت" لابن حجر (2/654 ـ 670) .

ومعرفة نكارة الإسناد؛ مما يختص به المحدثون، الحفاظ الناقدون، فلا يعرج على قول غيرهم؛ بخلاف نكارة المتن، فقد يتكلم فيه المحدثون وغيرهم من الفقهاء، أما هذا الباب؛ فهو من أخص علوم الحديث، وأدق مباحث الأسانيد. فإن أئمة الحديث ونقاده، حيث يحكمون على الإسناد بالصحة والاستقامة، وعدم النكارة والسقامة؛ لا يكتفون بالظاهر من اتصاله وثقة رواته؛ بل لهم نظر ثاقب، وفهم راجح، ورأي صادق، مبني على اعتبار معان في الإسناد، حيث وُجدت فيه، أو وجد بعضها؛ دعاهم ذلك إلى إنكاره، والحكم عليه بعدم الاستقامة؛ وإن كانت متصلاً برجال ثقات. وحيث افتُقدت، أو وُجد فيه من المعاني ما يدل على عكس ما تدل عليه المعاني السابقة، من حفظ الحديث وصحته؛ دعاهم ذلك إلى تصحيحه، والحكم عليه بالاستقامة وحفظ الرأي له. وهذه المعاني؛ هي التي يعبر عنها بعض أهل العلم، كالحافظ ابن حجر، والعلائي، وابن رجب، وغيرهم: بـ "القرائن". ويقولون (¬1) : للحفاظ طريق معروفة في الرجوع إلى القرائن في مثل هذا، وإنما يُعول في ذلك على النقاد المطلعين منهم. ويقولون: والقرائن كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الروايات، بل كل رواية يقوم بها ترجيح خاص، لا يخفى على العالم المتخصص، الممارس الفَطِن، الذي أكثر من النظر في العلل والرجال. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح علل الترمذي" لابن رجب (2/582) ، و "النكت على كتاب العلل" لابن حجر (2/778ـ876) .

وفي معرض ذلك يقول الحافظ ابن حجر (¬1) : "وبهذا التقرير؛ يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم؛ بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك، والتسليم لهم فيه ". ويقول الحافظ السخاوي (¬2) : " وهو أمر يهجم على قلوبهم، لا يمكنهم رده، وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها؛ ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث؛ كابن خزيمة، والإسماعيلي، والبيهقي، وابن عبد البر، لا ينكر عليهم، بل يشاركهم ويحذو حذوهم؛ وربما يُطالبهم الفقيه أو الأصولي ـ العاري عن الحديث ـ بالأدلة ". هذا؛ مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح، كما اتفقوا في الرجوع في كل فن إلى أهله؛ ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو مُتَعَنِّي. فلله تعالى؛ بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالاً نقاداً، تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه، وعلله، ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللين. فتقليدهم، والمشي وراءهم، وإمعان النظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت؛ مع الفهم، وجودة التصور، ومدوامة الاشتغال، ¬

_ (¬1) "النكت" (2/726) . (¬2) "فتح المغيث" (1/274) .

وملازمة التقوى والتواضع، يوجب لك ـ إن شاء الله ـ معرفة السنن النبوية، ولا قوة إلا بالله " اهـ. هذا؛ ولسنا في حاجة هاهنا إلى التوسع في بيان هذه القرائن؛ فقد حوى كتابي هذا بين دفتيه الكثير منها، وإن كانت النية منعقدة على التفرغ لبيانها وشرحها والتمثيل لها في كتاب مستقل، أسأل الله تعالى أن يعينني عليه، وقد كنت بينت طرفاً منها في كتابي "لغة المحدث" (¬1) ، فليرجع إليه من شاء. *** فعلى الباحث أن يعامل الإسناد معاملة المتن، وأن كل معنى لا يُقبل في المتن لا ينبغي أن ألا يُقبل مثله في الإسناد، فالإسناد مثل المتن هو من جملة ما رواه الراوي، فالراوي لا يروي متناً فحسب، بل يروي إسناداً ومتناً؛ فهو يخبر بأن شيخه حدثه بهذا الحديث، وأن شيخ شيخه حدث شيخه به، وهكذا إلى آخر الإسناد، وأن هذا المتن هو الذي تحمله بهذا الإسناد. ولا يوصف الراوي بأنه أصاب إلا إذا حدَّث بالحديث على وجهه إسناداً ومتناً، أما إذا أخطأ في الإسناد أو في المتن، أو في بعض الإسناد أو في بعض المتن، فلا يستحق هذا الوصف، اللهم فيما أصاب فيه من بعض الرواية مما لم يُخطىء فيه منها. فإن كان خطؤه في المتن، بأن زاد فيه أو نقص، أو قدَّم فيه أو أخَّر، ¬

_ (¬1) ص 90 ـ 108) .

أو أبدل فيه كلمة بكلمة، أو جملة بجملة، أو صحف فيه أو حرف، أو أدرج فيه ما ليس منه، أو رواه بالمعنى فقلب معناه =حَكمنا ـ حينئذٍ ـ بأن هذا المتن خطأ، أو وقع فيه بعض الخطأ، وإن لم يخطئ الراوي في الإسناد، بل أتى به على الجادة والاستقامة. وكذلك؛ إن كان خطؤه في الإسناد، كأن يكون زاد فيه أو نقص، أو قدم فيه أو أخر، أبو أبدل فيه راوياً براوِ، أو دخل عليه إسناد في إسناد، أو صحف فيه أو حرف، أو أدرج فيه ما ليس منه حكمنا ـ حينئذِ ـ بأن هذا الإسناد خطأ، أو وقع فيه بعض الخطأ، وإن أتى بالمتن على الاستقامة. وإذا كان "المتن" الذي تفرد بروايته بإسناد ما رجل ضعيف، لا يُبل من مثله حتى يجيء له متابع عليه أو شاهد بمعناه، يُثْبِت للفظه أو لمعناه أصلاً لأن الضعيف لا يقبل ما يتفرد به. فكذلك؛ "الإسناد" الذي يتفرد بروايته رجل ضعيف، لا يقبل من مثله حتى يجيء له ما يثبت له أصلاً من رواية غيره. فإن الخطأ في الإسناد، ليس بدون الخطأ في المتن، فمن يُخطيء، يُخطيء في الإسناد والمتن جميعاً، بل إن الخطأ في الأسانيد أكثر وقوعاً منه في المتون؛ لأن الأسانيد متشعبة ومتداخلة ومتشابهة، بخلاف المتون، ولذا؛ تجد كثيراً من الرواة يحسنون حفظ المتون دون الأسانيد، ويكون خطؤهم في الأسانيد أكثر منه في المتون. فدونك؛ إمام في هذه الصنعة: شعبة بن الحجاج، قال فيه إمام عصره

أبو الحسن الدارقطني (¬1) : "كان شعبة يخطئ في أسماء الرجال كثيراً، لتشاغله بحفظ المتون"؛ فإذا كان هذا شأن شعبة بن الحجاج، وهو من هو، فما ظنك بمن هو دونه في الحفظ والإتقان والتثبت؟! . وأكثر أخطاء الرواة تقع في الأسانيد؛ ولهذا تجد أكثر العلل التي ذكر أهل العلم أنها تقع في الروايات، تجده خاصة بالإسناد، والقليل جداً منها مما يقع في المتن، وما يشتركان فيه تجد أمثلته في الأسانيد أكثر منه في المتون. ... فرفع الموقوف، ووصل المرسل، وقلب الرواة، ودخول إسناد في إسناد، وزيادة رجل فيه أو نقصانه، والتصحيف في أسماء الرواة؛ كل ذلك وغيره إنما يعتري الأسانيد، ويختص بها. وأكثر أخطاء الثقات من هذا القبيل، أما الضعفاء، الذين لم يُعرفوا بالحفظ؛ فإن أخطاءهم في الأسانيد أكثر من أن تُحصر؛ ولهذا تجد أئمة الحديث الذين صنفوا في ضعفاء الرواة؛ كالعقيلي وابن عدي وابن حبان، تجدهم يسوقون في تراجم الضعفاء بعض الأحاديث التي أخطئوا فيها، واستُنكرت عليهم؛ والمتتبع لهذه الأخطاء، وتلك المناكير، يجد أكثرها أخطاء في الأسانيد (¬2) والقليل منها مما يتعلق بالمتون. وفي هذا الكتاب الذي بين يديك عشرات من الأحاديث التي أخطأ بعض الثقات أو الضعفاء في أسانيدها، دون متونها، فأتوا لها بأسانيد ¬

_ (¬1) قلت في كتابي "ردع الجاني" (ص 143) : "أبو الفضل الدارقطني"، وهذا سبق قلم مني، لا أدري كيف وقع! إنما هو "أبو الحسن". (¬2) انظر مثلاً "الكامل" (3/1164ـ1178) (4/1419) (5/1809، 1810) .

ليست هي أسانيدها، أو وقع لهم في أسانيدها بعض الأخطاء، وإن أصابوا أصلها؛ كزيادة، أو قلب، أو إدراج، أو تصحيف أو تحريف، أو نحو ذلك. وقد تبين من خلال ما ذكرته من كلام أهل العلم في نقد هذه الأسانيد، أنهم إنما أنكروا الأسانيد فحسب، وأن نقدهم كان منصباً عليها، دون أن تتأثر المتون به. فالرجل الضعيف؛ يحفظ المتن ـ غالباً ـ، وقد يكون فقيهاً فاضلاً يحفظ المتن، إلا أنه ليس بالحافظ للأسانيد، فإذا به يجيء بالمتن المعروف على وجهه، بَيْدَ أنه يخطيء في إسناده، أو يجيء له بإسناد آخر غير إسناده الذي يُعرف به. *** إن الذي يقبل من الضعفاء ـ غير المتهمين ـ ما اتفقوا عليه وتتابعوا على روايته من "متن الحديث" ويرد ولا يقبل ما تفرد به بعضهم من المتن أو بعض المتن، يجب أيضاً أن يزن قبول "الإسناد" ورده بنفس الإسناد. فالضعيف ـ غير المتهم ـ الذي يجيء بإسناد لحديث ما، يتفرد هو بروايته بهذا الإسناد دون غيره، يجب رد ما تفرد به من الإسناد؛ كالمتن سواء بسواء. والضعيف ـ غير المتهم ـ الذي يتفرد بزيادة ما في إسناد ما، لا يُتابع عليها من قِبَل غيره ممن روى الإسناد ذاته، يجب رد تلك الزيادة التي زادها في الإسناد، ولم يتابع عليها؛ كما هو الحال فيما يزيده في المتن.

فإن قبول بعض الرواية دون بعض، والمعنى الذي من أجله رُد ذلك البعض متحقق في الكل غير معقول، ولا مقبول. إن هذا هو الميزان الذي توزن به روايات الثقات ـ إسناداً ومتناً ـ؛ فكيف بالضعفاء؟! أليس يقتضي النظر، فيما تفرد به ضعيف ـ غير متهم ـ من الأسانيد، أن ننظر في حفظه لها قبل الحكم بأنها صالحة للاعتبار، اعتماداً على أن راويها ليس من المتهمين بالكذب. نعم؛ قد يكون راوي الإسناد غير متهم، ولكن روايته تلك شاذة منكرة من حيث الإسناد، والمنكر أبداً منكر، لا اعتداد به في باب الاعتبار. أليس هذا الضعيف بذاته إذا تفرد بمتن لم يُقبل منه؛ لعدم أهليته لقبول ما يتفرد به؟ فما باله إذا تفرد بإسناد، ولم يُتابع عليه قُبل منه؟! *** إن تقوية إسناد يتفرد به ضعيف، بإسناد آخر يتفرد به ضعيف آخر، ليس هو من باب الاستشهاد حتى يُتسامح فيه، بل هو من باب الاحتجاج. فلو جاء متن ـ مثلاً ـ بإسنادين: أحدهما: يرويه ضعيف ـ غير متهم ـ عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثاني يرويه ضعيف آخر مثله، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إن الذي يذهب إلى تقوية هذا بذاك، اعتماداً على أن كلا من

الروايتين قد اتفقتا على المتن، وأنه ليس في الإسنادين من هو متهم بالكذب، بل في كل منهما ضعف هين من قِبل حفظ هذين الضعيفين، فيعتبر أحدهما بالآخر، ويتساهل في شأنهما. إن الذي يفعل ذلك، ظناً منه أن هذا ليس من باب الاحتجاج، بل من باب الاستشهاد، قد جانبه الصواب، وحاد عن النظر الصحيح، والقواعد العلمية، وصنيع أهل العلم. فإن هذين الضعيفين، إنما اتفقا على جزء من الرواية، وليس على الرواية كلها. فهما؛ إنما اتفقا على المتن فحسب، أما الإسناد؛ فقد جاء كل منهما لهذا المتن بإسناد يختلف عن إسناد الآخر. وعليه؛ فمن قوى رواية هذا برواية ذاك، فهو في الواقع قد احتج بما يتفرد به الضعيف. أليس الضعيف الأول هو الذي تفرد بزعمه أن الزهري حدثه بهذا الحديث، عن سالم عن ابن عمر؟! أليس هذا الضعيف لم يتابع على هذا الزعم؟! أليس الضعيف الثاني، هو الذي تفرد بزعمه، بأن ثابتاً البناني حدثه بهذا الحديث، عن أنس بن مالك؟! أليس ثبوت هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرعاً من ثبوته عن صحابييه: ابن عمر، وأنس؛ أو أحدهما؟!

إذ كيف يعقل أن الحديث ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو لم يثبت أصلاً عمن رواه عنه؟! إن هذا غير معقول، ولا مقبول. أليس ثبوت هذا الحديث عن هذين الصحابيين فرعاً من ثبوته عمن رواه عنهما؟! فإذا لم يكن ثبت عمن رواه عنهما، فكيف يثبت عنهما؟! إن هذا دونه خرط القَتَاد!! فالذي يُثبت بمقتضى الرواية الأولى أن الزهري حدث بهذا الحديث عن سالم عن ابن عمر، فهو بذلك قد احتج بالراوي الضعيف في إثبات هذا الإسناد لهذا المتن. وهذا احتجاج؛ ليس من الاستشهاد بسبيل. والذي يثبت بمقتضى الرواية الثانية، أن ثابتاً بالبناني حدث بهذا الحديث عن أنس بن مالك، فهو أيضاً قد احتج بالضعيف. نعم؛ لو أن هذين الضعيفين اتفقا على الإسناد كما اتفقا على المتن، فرويا المتن بإسناد واحد، من شيخهما فصاعداً، لكان لنا معهما شأن آخر، ولاتَّجه بنا البحث وجهة أخرى. لأنهما ـ حينئذ ـ قد اتفقا بالفعل، وتابع كل منهما الآخر على الرواية إسناداً ومتناً، فلم يتفرد أحدهما، لا بالإسناد ولا بالمتن، أما أن يتفرد كل منهما بإسناد للمتن، ونسمي ذلك اتفاقاً؛ فليس بشيء. *** نعم؛ إن التساهل في اعتبارات الروايات، إنما يقل خطره، بل ربما

- شرط المؤلف في هذا الكتاب

يتلاشى أثره، إذا كان الحديث له أصل ثابت قائم بنفسه يُرجع إليه. فإن الحديث الصحيح لذاته أو الحسن لذاته ليس في حاجة إلى شاهد أو متابع يُقوي ثبوته، فما جاء له من شواهد ومتابعات غير ناهضة، ولا معتبرة، إن لم تنفعه لن تضره. لكن؛ إنما يجيء الضرر، ويُوجد الخطر، حيث لا يكون لهذا الحديث أصل ثابت يُرجع إليه في بابه، بل كل رواياته ضعيفة، تدور على الرواة الضعفاء؛ فإن التساهل في اعتبار روايات مثل هذا الباب، وعدم تمييز ما ضعفه محتمل، وما هو منكر لا يحتمل؛ يُفضي إلى إقحام أحاديث منكرة وباطلة في الأحاديث الثابتة؛ وهذا ضرر كبير، وشر مستطير. *** هذا؛ وإنما تركَزَت عنايتي في هذا الكتاب ببيان العلل التي تعتري الشواهد والمتابعات، فتُظهر جانب الخطأ فيها، وترجح جانب الرد لها، وتحقق نكارتها وشذوذها؛ فتوجب اطراحها، وعدم الاعتداد بها في باب الاعتبار. ولم أتناول في هذا الكتاب ما يتعلق بشرائط الاعتداد المتابعة والحكم بما يقتضيه من تقوية الحديث، ودفع الخطأ عن راويه. ففرق بين إثبات المتابعة، وبين الاعتداد بها والحكم بما تقتضيه. فليس كل متابعة ثبتت إلى المتابع تصلح لدفع الخطأ عن المتابع، فمثلاً؛ قد تكون المتابعة من راوٍ كذاب أو متهم، وثبوت متابعة الكذاب أو

المتهم لغيره، لا تكفي لدفع الوهم عن الغير. فثبوت المتابعة؛ يشترط له أمور: الأول: صحة الإسناد إلى المتابِع والمتابَع (¬1) . الثاني: أن تكون الرواية محفوظة إليهما، وليس ذلك من خطأ بعض الرواة عنهما، أو أحدهما؛ فتكون منكرة لا أصل لها (¬2) . الثالث: أن يكون كل من المتابِع والمتابَع قد سمع هذا الحديث من الشيخ الذي اتفقا على روايته عنه. أما إذا كان أحدهما ـ أو كلاهما ـ لم يسمع الحديث منه، فلا تثْبُت هذه المتابعة (¬3) . فهذه؛ هي شروط إثبات المتابعة، بصرف النظر عن كون هذه المتابعة مما ترقى إلى التقوية، فيعتد بها في دفع الخطأ عن المتابَع، أو لا. فهذا؛ هو الذي اعتنيت به في هذا الكتاب خاصة، فقد أبرزت التي تعتري الشواهد والمتابعات، فتدل على عدم ثبوتها من أصلها، أما الشواهد الثابتة، والمتابعات المحفوظة، متى يُعتد بها في دفع التفرد، أو في تقوية الحديث، ومتى لا يعتد بها؛ فلم أتعرض لذلك في هذا الكتاب، وإنما هذا له كتاب آخر. ¬

_ (¬1) انظر: "فصل: ثبت.. ثم انقش". (¬2) هذا الشرط؛ يدل عليه أكثر فصول هذا الكتاب. (¬3) انظر: "فصل: التدليس.. والمتابعة"، والفصول التي بعده، وكذا الفصل الذي قبله.

فالمرسل ـ مثلاً ـ: ما هي شرائط تقويته؟ وهل يشترط في مُرْسِلِه أن يكون من كبار التابعين أم لا؟ وهل يتقوى بالمسند الضعيف أم لا؟ وهل المنقطع والمعضل مثل المرسل في ذلك أم لا؟ وهل الموقوف يقوي المرفوع الضعيف أم لا؟ ومتى تنفع متابعة سيء الحفظ لمثله، ومتى لا تنفع؟ وهل يتقوى الحديث بالقياس أم لا؟ وهل المجهول يعتد بمتابعته أم لا؟ فكل هذا، وما كان بسبيله، لم أتعرض له في هذا الكتاب؛ ولعلي أفرد له كتاباً خاصاً. وبالله التوفيق. *** هذا؛ وإن مما أحب أن أنبه عليه، هو: أن هذه الروايات التي سقتها في أثناء فصول الكتاب، كأمثلة على الأخطاء التي يقع فيه الرواة، في الأسانيد أو المتون، فتفضي إلى اطِّراح هذه الروايات، وعدم الاعتبار بها. إن الحكم على هذه الروايات بالخطأ والنكارة، لا يستلزم ضعف المتن الذي رُوي بهذه الأسانيد؛ لاحتمال أن يكون صحيحاً ثابتاً، ولكن من وجه آخر أو وجوه أخرى. فالأحكام التي ذكرتها، إنما تتعلق بتلك الأسانيد فحسب، وهي غير ضارة أصل الحديث، وإن كان له إسناد آخر صحيح أو حسن، أو له م الشواهد المعتبرة والكافية، ما يُغني عن هذا الإسناد المنكر الخطأ.

- براءة المؤلف من كل من أساء الظن به

واعلم! يا أخي الكريم ـ علمك الله الخير، وجعلك من أهله ـ أن ما كتبته في هذا الكتاب من بحوث وتحقيقات حول هذا الموضوع الهام والخطير، وما ذكرت من أمثلة لأخطاء وقع فيها بعض الأفاضل، لم أقصد بها شخصاً بعينه، ولا باحثاً بذاته، بل غاية قصدي، ونهاية هدفي: نصيحة إخواني المشتغلين بهذا العلم الشريف، وصيانتهم من الوقوع في مثل ما وقع فيه غيرهم؛ فإن "الدين النصيحة؛ لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم "؛ كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولو كان في وسعي، أن لا أسمي أحداً، أو أشير إليه؛ لفعلت؛ لولا الخوف من أن أُنسب إلى الادعاء والتهويل. ولولا آيتان في كتاب الله تعالى ما كتبت ما كتبت، ولا سطرت ما سطرت؛ يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِين َيَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160] . فلا يظنن أحد أنني قصدت من كتابي هذا، أو من الأمثلة التي ذكرتها فيه، التشهير بأصحابها، أو الانتقاص منهم أو من أقدارهم، أو أنسبهم إلى ما لا ينبغي،أن يُنسب إليه آحاد الناس؛ فضلاً عنهم، وهم إما عالم فاضل، وإما باحث مجتهد، وكلهم ـ فيما نحسب وحسابهم على الله ـ إنما يقصدون الحق، ويلتمسون سبيله، اللهم إلا القليل جداً ممن عُرف بنصرة البدعة ومناهضة السنة، فهؤلاء لم آل جهداً في بيان حالهم، وكشف عوارهم.

فليعلم من يبلغ به سوء الظن بأخيه إلى هذا الحد، أنني أبرأ إلى الله عز وجل من ذلك كله، وأبرأ إليه سبحانه من كل مَنْ ظن بي سوء، أو نسب إليّ ما أنا منه بريء. وليحذر امرؤ أن يقف بين يدي أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وقد أتى بصلاة وصيام وزكاة، أتى وقد أساء الظن بأخيه، أو نسب إليه ما ليس فيه، فيؤخذ من حسناته وتُعْطَى لأخيه، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أُخذ من خطاياه، فطرحت عليه، ثم طُرح في النار، نعوذ بالله من دار البوار. فإياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، وإن بعض الظن أثم، نعوذ بالله من حالة تقربنا إلى سخطه، وأليم عذابه. وقولي في ذلك؛ ما قال الحافظ الخطيب البغدادي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه العظيم "مُوضح أوهام الجمع والتفريق" (¬1) ، الذي أفرده لبيان خطأ من أخطأ في هذا الباب ممن تقدمه. قال الخطيب: "ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه، ويقف على ما لكتابنا هذا ضمناه؛ يُلحق سيء الظن بنا، ويرى أن عمدنا إلى الطعن على من تقدمنا، وإظهار العيب لكبراء شيوخنا وعلماء سلفنا؛ وأنى يكون ذلك؟ ‍! وبهم ذًُكرنا، وبشعاع ضيائهم تبصرنا، وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا، وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا، وما مثلهم، ومثلنا إلا ما ذكر أبو عمرو بن العلاء؛ قال: "ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في ¬

_ (¬1) "الموضح" (1/5 ـ 6) .

أصول نخل طوال". ولما جعل الله تعالى في الخلق أعلاماً، ونصب لكل قوم إماماً؛ لزم المهتدين بمبين أنوارهم، والقائمين بالحق في اقتفاء آثارهم، ممن رزق البحث والفهم، وإنعام النظر في العلم بيان ما أهملوا، وتسديد ما أغفلوا. إذ لم يكونوا معصومين من الزلل، ولا آمنين من مفارقة الخطأ والخطل، وذلك حق العالم على المتعلم، وواجب على التالي للمتقدم " اهـ. ولست أدعي لنفسي عصمة من الزلل، ولا أمناً من مفارقة الخطأ والخطل، فحق واجب على من وقف على خطأ، أو وقعت عينه على وهم، أو أداه اجتهاده ونظره إلى ما فيه مخالفة لي، أن يبذل لي النصيحة، مدعمة بالحجة القوية، ومقدَّمة بالأساليب السوية، وبالطريقة المرضية. وإني ـ إن شاء الله تعالى ـ مرحب بكل ملاحظة ونقد، يصدر عن روية ونظر، وليس عن تعصب وهوى، وراجع عن كل خطأ وقعت فيه في حياتي وبعد مماتي. والله من وراء القصد. والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، ورسوله المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تابعهم بإحسان إلى يوم الدين. وكتب أبو معاذ طارق بن عوض الله بن محمد

الإرشادات

لا تنقع باليسير ... ولا تغتر بالكثير إن الأسانيد هي عصب هذا العلم، فبها يُعرف الحديث، وعليها يعتمد في معرفة صحته من ضعفه، وعلى ضوئها، تُعتبر الروايات، ويُعرف مدى تفرد الراوي من موافقته لغيره، أو مخالفته. وكلما أكثر الباحث من تتبع الأسانيد في الجوامع والمسانيد والأجزاء الحديثية، كلما كان بحثه أخصب وأنضج، وأقرب ما يكون إلى الصواب. فربما كان إسناد فيه ضعف، فمن اقتنع به، ولم يستوعب البحث عن غيره، فلربما كان للحديث إسناد آخر صحيح، أو يشهد للأول ويدل على حفظ الراوي له. لربما كان إسناد ظاهره الصحة، فمن اقتنع به، واكتفى به، ولم يستوعب البحث عن غيره فلربما كان للحديث إسناد آخر يُعِل ذاك الأول، ويدل على خطأ الراوي في لحديث. ولهذا؛ تتابعت أقوال أهل العلم على أهمية جمع الطرق واستفراغ الجهد في ذلك، وعدم الاكتفاء بالقليل منها. قال عبد الله بن المبارك (¬1) : "إذا أردت أن يصح لك الحديث، فاضرب بعضه ببعض". ¬

_ (¬1) "الجامع" للخطيب (2/296) .

وقال علي بن المديني (¬1) : "الباب إذا لم تجتمع طرقه، لم يتبين خطؤه". وقال الخطيب البغدادي (¬2) : "والسبيل إلى معرفة علة الحديث: أن يُجمع بين طرقه، ويُنظر في اختلاف رواته، ويُعتبر بمكانهم من الحفظ، ومزلتهم في الإتقان والضبط". وقال الحاكم أبو عبد الله (¬3) : "إن الصحيح لا يُعرف بروايته فقط، وإنما يُعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل العلم والمعرفة، ليظهر ما يخفى من علة الحديث". ويقول الإمام ابن رجب الحنبلي (¬4) : "ولابد في هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدم المذاكرة به، فليكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين؛ كيحيى القطان , ومن تلقى عنه كأحمد وابن المديني وغيرهما؛ فمن رُزق مطالعة ذلك وفهمه، وفقُهَت نفسه فيه، وصارت له فيه قوة نفس وملكة، صلُح له أن يتكلم فيه". ¬

_ (¬1) "مقدمة" ابن الصلاح (ص 117) . (¬2) "الجامع" (2/295) . (¬3) "معرفة علوم الحديث" (ص 59 ـ 60) . (¬4) "شرح العلل" (2/664) .

وكان الإمام أحمد ـ عليه رحمة الله ـ يُنكر على من لا يكتب من الحديث إلا المتصل، ويدع كتابة المراسيل، ويعلل ذلك؛ بأنه ربما كان المرسل أصح من حيث الإسناد، فيكون علة للمتصل، فالذي لا يكتب المراسيل تخفى عليه علل الحديث. قال الميموني (¬1) : تعجَّب إلى أبو عبد الله ـ يعني: أحمد بن حنبل ـ ممن يكتب الإسناد، ويدع المنقطع، ثم قال: وربما كان المنقطع أقوى إسناداً وأكبر. قلت: بَيِنَه لي؛ كيف؟ قال: تكتب الإسناد متصلاً، وهو ضعيف؛ ويكون المنقطع أقوى إسناداً منه؛ وهو يرفعه ثم يسنده (¬2) ، وقد كتبه هو على أنه متصل، وهو يزعم أنه لا يكتب إلا ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... . قال الميموني: معناه: لو كتب الإسنادين جميعاً، عرف المتصل من المنقطع؛ يعني: ضعف ذا وقوة ذا. اهـ. ويندرج تحت هذا: كتابة الموقوف؛ فقد يكون الحديث مما اختلف فيه الرواة، رفعه بعضهم، وأوقفه البعض الآخر، ويكون الصواب الوقف، فالذي لا يكتب إلا المرفوع، تخفى عليه علته. وبهذا؛ ندرك القصور البالغ في الفهارس المتداولة للأحاديث النبوية، والتي كثرت جداً في الآونة الأخيرة، حيث أن أكثر صانعي هذه الفهارس لا يعتنون إلا بفهرسة المرفوعات فحسب، وهي المنسوبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "الجامع" للخطيب (2/191) . (¬2) يعني ـ والله أعلم ـ الراوي الضعيف راوي المتصل.

صراحة، وبهذا يفوِّتون على الباحث الوقوف على الموقوفات، التي ربما يُعل بها المرفوع. وبعض هذه الموقوفات، مما هو في حكم الرفع؛ لأنه مما لا يقال بالرأي، فلا تُسعف تلك الفهارس أو أكثرها في الوقوف على مثل هذا، أو ما كان بسبيله. فلا ينبغي لطالب العلم أن يعتمد على هذه الفهارس اعتماداً كلياً، بل عليه أن يفتش بنفسه عن الحديث في مظانِّه من كتب العلم، حتى يتسنى له معرفة طرقه وأسانيده، وأقوال أهل العلم عليه. هذا؛ وكتابة المراسيل والموقوفات، كما أنها تفيد في معرفة علة الحديث، فهي أيضاً تفيد في تقوية الحديث، حيث تكون مختلفة المخرج عن الموصول أو الموقوف، وقد رأى أهل العلم صحة الحديث مرفوعاً وموقوفاً، أو موصولاً ومرسلاً، فإن تعدد الأسانيد للحديث الواحد يقوِّي بعضها بعضاَ، ويشهد بعضها لبعض. وإذا كان أئمة الحديث ـ عليهم رحمة الله ـ قد حثُّواطلاب العلم على التوسع في الكتابة، وجمع الأسانيد، لإدراك العلة، أو لتقوية بعضها ببعض، فقد حذَّروا غاية التحذير من الاغترار بالشواذ والمناكير التي أخطأ فيها الرواة الثقات أو الضعفاء؛ فإنها كثرة لا تنفع الحديث، ولا تفيده؛ لا في الإعلال، إذ الشواذ والمناكير لا يُعل بها غيرها، بل هي معلولة بغيرها؛ ولا في التقوية؛ إذ الشواذ والمناكير لا تُقوِّي غيرها ولا تتقوى بغيرها. قال الإمام شعبة (¬1) : "لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ". ¬

_ (¬1) "الكفاية" (ص224-225) ، وكذا الأقوال الآتية.

وقال ابن مهدي (¬1) : "لا يكون إماماً في الحديث من يتبع شواذ الحديث". وقال الإمام أحمد ك "شر الحديث الغرائب، التي لا يُعمل بها، ولا يُعتمد عليها". وقال أيضاً: "لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب، فإنها مناكير، وعامتها عن الضعفاء". وكان يقول: "إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا حديث "غريب"، أو "فائدة"، فاعلم أنه خطأ، أو دخل حديث في حديث، أو خطأ من المحدِّث، أو حديث ليس له إسناد، وإن كان قد روى شعبة وسفيان....". ولمَّا سُئل الإمام أحمد عن حديث أبي كُرَيب، عن أبي أسامة، عن بُريد بن عبد الله بن أبي بُردة، عن جده، عن أبيه أبي موسى الأشعري ـ مرفوعاً ـ: "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء". قال الإمام أحمد (¬2) : "يطلبون حديثاً من ثلاثين وجهاً، أحاديث ضعيفة! وجعل يُنكر طلب الطرق نحو هذا، قال: هذا شيء لا تنتفعون به "؛ أو نحو هذا الكلام. ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل" (1/1/36) . (¬2) "مسائل أبي داود" (ص282) .

ولم يكن الإمام أحمد ـ عليه رحمة الله ـ يُنكر تطلب الطرق المستقيمة المحفوظة، كيف؟ ! وقد سبق عنه حثه على كتابة المراسيل وعدم الاكتفاء بالموصولات، وإنما كان إنكاره هاهنا على من يكتب المناكير والشواذ التي أخطأ فيها الرواة، ولو كانوا من الثقات. ولهذا؛ علق الإمام ابن رجب الحنبلي على كلام أحمد هذا؛ بقوله (¬1) : "وإنما كره أحمد تطلب الطرق الغريبة الشاذة المنكرة، وأما الطرق الصحيحة المحفوظة؛ فإنه كان يحث على طلبها". وفي مثل هذا؛ يقول الإمام البغدادي (¬2) : "أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان، يغلب على إرادتهم كَتْبُ الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من روايات المجروحين والضعفاء، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مُجتنباً، والثابت مَصْروفاً عنه مُطَّرِحاً، وذلك كله لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم، ونقصان علمهم بالتمييز، وزهدهم في تعلمه؛ وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين والأعلام من أسلافنا الماضين" وعلق عليه الحافظ ابن رجب الحنبلي؛ قائلاً (¬3) : "وهذا الذي ذكره الخطيب حق، ونجد كثيراً ممن ينتسب إلى ¬

_ (¬1) "شرح العلل" (2/645) . (¬2) "الكفاية" (ص224) . (¬3) "شرح علل الترمذي" (2/624) .

الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح كالكتب الستة ونحوها (¬1) ، ويعتني بالأجزاء الغريبة، وبمثل "مسند البزار" و"معاجم الطبراني" وأفراد الدارقطني"، وهي مجمع الغرائب والمناكير". هذا؛ وقد جاء عن كثير من علماء السلف إطلاق ذم الإكثار من الحديث؛ ومعلوم أن السلف ـ عليهم رحمة الله ورضوانه ـ لا يمكن أن يذموا الإكثار من رواية الأحاديث الصحيحة المحفوظة، فعلم بذلك أنهم ما أرادوا إلا الأحاديث الشاذة والمنكرة، التي أخطأ فيها الرواة. وقد بين الإمام الخطيب البغدادي ـ عليه رحمة الله ـ وشرح مقالات هؤلاء الأئمة من علماء السلف على نحو ما ذكرت. فقد روى في كتابه " شرف أصحاب الحديث " (¬2) ، عن الإمام سفيان الثوري، أنه قال: "لو كان هذا من الخير؛ لنقص كما ينقص الخير" ـ يعني: "الحديث". وبلفظ آخر: "أرى كل شيء من أنواع الخير ينقص، وهذا الحديث إلى زيادة؛ فأظن أنه لو كان من أسباب الخير لنقص أيضاً". ثم قال الخطيب (¬3) : "إن الثوري؛ عنى بقوله الذي تقدم ذكرنا له: غرائب الأحاديث ¬

_ (¬1) اعلم؛ أن صحة الأصول لا تستلزم صحة الأحاديث، ولهذا تجوَّز كثير من هل العلم في إطلاق اسم الصحة على الكتب الستة؛ فتنبه.. (¬2) ص 123) . (¬3) ص 125) .

ومناكيرها، دون معروفها ومشهورها؛ لأن الأخبار الشاذة والأحاديث المنكرة أكثر من أن تحصى، فرأى الثوري أن لا خير فيها؛ إذ رواية الثقات بخلافها، وعمل الفقهاء على ضدها، وقد ورد عن جماعة من العلماء سوى الثوري ـ كراهة الاشتغال بها، وذهاب الأوقات في طلبها". ثم أسند بعض هذه الروايات؛ كمثل قول النخعي: "كانوا يكرهون غريب الكلام، وغريب الحديث" (¬1) ، وقول أحمد: "تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب؛ ما أقل الفقه فيهم". ثم قال الخطيب: "وليس يجوز الظن بالثوري، أنه قصد بقوله الذي ذكرناه: صحاح الأحاديث، ومعروف السنن، وكيف يجوز ذلك، وهو القائل: "أكثروا من الأحاديث؛ فإنها سلاح ". ثم ذكر عن الثوري مقالات أخرى في هذا المعنى، ثم روى: عن عبد الله بن إدريس، أنه قال: "كنا نقول: الإكثار من الحديث جنون". وعن مالك، أنه قال: "ما أكثر أحد من الحديث فأنجح". وعن عبد الرزاق، أنه قال: "كنا نظن أن كثرة الحديث خير، فإذا هو شر كله". ¬

_ (¬1) سيأتي قريباً في فصل: "التنقية.. قبل التقوية".

ثم قال الخطيب (¬1) " وهذا الكلام؛ كله قريب من كلام الثوري، في ذم شواذ الحديث، والمعنى فيهما سواء، إنما كره مالك وابن إدريس وغيرهما: الإكثار من طلب الأسانيد الغريبة، والطرق المستنكرة؛ كأسانيد "حديث الطائر"، وطرق "حديث المغفرة" و "غسل الجمعية"، و"قبض العلم"، و "إن هذه الدرجات"، و"من كذب علي متعمداً"، و"لا نكاح إلا بولي"، وغير ذلك مما يتتبع أصحاب الحديث طرقه، ويُعنون بجمعه؛ والصحيح من طرقه أقلها. وأكثر من يجمع ذلك الأحداث منهم، فيتحفَّظونها ويُذاكرون بها؛ ولعل أحدهم لا يعرف من الصحاح حديثاً، وتراه يذكر من الطرق الغريبة والأسانيد العجيبة، التي أكثرها موضوع، وجلها مصنوع، ما لا يُنتفع به، وقد أذهب من عمره جزءاً في طلبه. وهذه العلة؛ هي التي اقتطعت أكثر مَنْ في عصرنا من طلبة الحديث عن التفقه به، واستنباط ما فيه من الأحكام؛ وقد فعل مُتَفَقِّهة زماننا كفعلهم، وسلكوا في سبيلهم، ورغبوا عن سماع السنن من المحدثين، شغلوا أنفسهم بتصانيف المتكلمين؛ فكلا الطائفتين ضيع ما يعنيه، وأقبل على ما لا فائدة له فيه " اهـ. ¬

_ (¬1) ص 129 ـ 130) .

المنكر.. أبدا منكر

المنكر.. أبداً منكر إن كثيراً من المشتغلين بالحديث، يتكلفون غالباً الربط بين حالك الراوي وحال روايته، ويُعلقون الحكم على الرواية بالحكم عليه. فالراوي الثقة عندهم حديثه صحيح أبداً، والراوي الصدوق حديثه حسن لا غير، والراوي الضعيف حديثه ضعيف، منجبر بغيره ولابد، والراوي الكذاب حديث موضوع ساقط بمرة. هكذا!! دونما نظر في الرواية، وتأمل للعلل الأخرى التي تعتري الروايات، فتستلزم الحكم عليها بالشذوذ والنكارة، بصرف النظر عن حال الراوي. فإن الحديث الذي ثبت شذوذه حديث مردود، ساقط بمرة، لا يصلح للاحتجاج ولا الاعتبار، مهما كان راويه في الأصل ثقة أو صدوقاً؛ لأنه قد ثبت أن هذا الحديث بعينه قد أخطأ فيه هذا الثقة، ولا يُعقل أن يُحتج أو يُعتبر بحديث قد تُحقق من خطئه؛ فإنه ـ والحالة هذه ـ لا وجود له في الواقع، إلا في ذهن وتخيل ذاك الراوي الثقة الذي أخطأ. وكذلك الحديث المنكر، مثل الحديث الشاذ بل أولى (¬1) ؛ لا يصلح للاحتجاج ولا للاعتبار، مهما كان راويه سالماً من الضعف الشديد، غير متهم بكذب أو فسق. ¬

_ (¬1) هذا؛ يدل على قول من يرى المغايرة بينهما، وهو اختلاف لفضي؛ فهما في الحكم سواء،فالشاذ والمنكر هو ما ترجح خطؤه، بصرف النظر عن حال المخطئ فيه.

وهذا أمر معروف عند أهل العلم، لا يُعلم بينهم فيه اختلاف، بل قد نصوا عليه، وحذروا من الغفلة عنه. يقول الإمام الترمذي في تعريفه للحديث الحسن الذي أكثر منه في "جامعه"، يقول (¬1) : "ومما ذَكرنا في هذا الكتاب "حديث حسن"؛ فإنما أردنا به حُسن إسناده عندنا: كل حديث يُروى، لا يكون فيه إسناده من يُتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً، ويُروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حسن". فإذا كان الترمذي يشترط في الحديث لكي يصلح لأن يعتضد بغيره: أن لا يكون في إسناده متهم بالكذب، وألا يكون شاذاً، أدركنا أن الحديث الشاذ لا يصلح لأن يعتضد بتعدد الطرق، كما أن الذي فيه متهم لا يصلح لذلك، ولا تنفعه الطرق المتعددة. وبنحو ذلك؛ صرح ابن الصلاح، فقال (¬2) : "ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمن ضعف يزيله ذلك ... ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب، أو كون الحديث شاذاً ... ". ومثله؛ قول الحافظ العراقي في "الألفية": ¬

_ (¬1) "العلل" في آخر "الجامع" (5/758) . (¬2) في "علوم الحديث" (ص 50) .

وإن يكن لكذب أو شذا أو قوي الضعف؛ فلم يُجبر ذا وقال المرُّوذي (¬1) : "ذكر ـ يعني: أحمد بن حنبل ـ الفوائد، فقال: الحديث عن الضعفاء قد يُحتاج إليه في وقت، والمنكر أبداً منكر". قلت: ومعنى هذا: أن الراوي الضعيف إذا روى حديثاً غير منكر، فإنه يستفاد بروايته تلك في باب الاعتبار، أما إذا جاء المنكر ـ من الضعيف أو الثقة ـ، فإنه لا يُلتفت إليه، ولا يعرج عليه، لأنه قد تُحقق من وقوع الخطأ فيه. وقال الإمام أبو داود (¬2) : "لا يحتج بحديث غريب، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد، والثقات من أئمة العلم، ولو احتج رجل بحديث غريب، وجدت من يطعن فيه، ولا يحتج بالحديث الذي احتج به إذا كان الحديث غريباً شاذاً". وقد ذكر الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ في كتابه "صلاة التراويح" حديثاً خالف فيه ثقة غيره ممن هو أوثق منه، وأكثر عدداً؛ ثم قال (¬3) : "ومن المقرر، في علم "مصطلح الحديث"، أن الشاذ منكر مردود؛ ¬

_ (¬1) "العلل" (ص 287) ، وكذا حكاه عن أحمد إسحاق بن هانئ في "مسائله" (1925ـ 1926) . (¬2) في "رسالته إلى أهل مكة" (ص 29) . (¬3) "صلاة التراويح" (ص 57)

لأنه خطأ، والخطأ لا يُتقوى به! ". ثم قال الشيخ: " ومن الواضح أن سبب رد العلماء للشاذ، إنما هو ظهور خطأها بسبب المخالفة المذكورة، وما ثبت خطؤه فلا يُعقل أن يقوي به رواية أخرى في معناها، فثبت أن الشاذ والمنكر لا يعتد به، ولا يستشهد به، بل إن وجوده وعدمه سواء" (¬1) . هذا؛ وإنما يصلح في هذا الباب ما ترجح جانب إصابة الراوي فيه، فيحتج به، أو كان جانب إصابته مساوياً لجانب خطئه، فيعتبر به. قال الحافظ ابن حجر (¬2) : " لم يذكر ـ يعني: ابن الصلاح ـ للجابر ضابطاً يُعلم منه ما يصلح أن يكون جابراً، أو لا. والتحرير فيه: أن يقال: إنه يرجع إلى الاحتمال في طرفي القبول والرد: فحيث يستوي الاحتمال فيهما؛ فهو الذي يصلح لأن ينجبر. وحيث يقوى جانب الرد؛ فهو الذي لا ينجبر. وأما إذا رجح جانب القبول؛ فليس من هذا، بل ذاك في الحسن الذاتي والله أعلم ". ¬

_ (¬1) وارجع "السلسلة الصحيحية" (6/2/756 ـ 1237) ، و"الضعيفة" (3/318 ـ 321) . (¬2) في " النكت على كتاب ابن الصلاح " (1/ 409) .

ومن المعلوم أن نقاد الحديث كثيراً منا يحكمون على أحاديث أخطأ فيه بعض الرواة، بأنها "ضعيفة جداً"، أو " باطلة "، أو " منكرة "، أو " لا أصل لها "، أو " موضوعة "، مع أن رواتها الذين أخطئوا فيها، لم يبلغوا في الضعف إلى حد أن يُترك حديثهم، بل أحياناً يُطلقون هذه الأحكام الشديدة على أحاديث أخطأ فيها بعض الرواة الثقات، غير متقيدين بحال الراوي المخطيء، بل معتبرين حال الرواية سنداً ومتناً، ونوع الخطأ الواقع فيهما، أو في أحدهما. فمن ذلك: ما رواه الإمام أحمد (¬1) : حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال حدثني عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسال قال: قال رجل من اليهود: انطلق بنا إلى هذا النبي. قال: لا تقل: النبي؛ فإنه لو سمعها كان له أربعة أعين ـ وقص الحديث ـ، فقالا: نشهد أنك رسول الله (¬2) . ذكر عبد الله ابن الإمام أحمد، عن أبيه، أنه قال: " خالف يحيى بن سعيد غير واحد (¬3) ، فقالوا: " نشهد أنك نبي "؛ ولو ¬

_ (¬1) رواه عنه ابنه في "العلل" (4286) ، وهو في "المسند" (4/240) . وذكر الخلال في "جامعه" في كتابه "أهل الملل والردة" (2/373) من طريق عبد الله بن أحمد في "العلل". (¬2) زاد فيه "العلل": " - صلى الله عليه وسلم - "، وأظنها زيادة ناسخ؛ فهي ليست عند الخلال، ولا في "المسند". (¬3) منهم: غندر، ويزيد بن هارون، وعبد الله بن إدريس، وأبو أسامة، والطيالسيان. أخرجه: أحمد (4/239) . والترمذي (2733) ، وابن ماجه (3705) ، والنسائي في "الكبرى" (تحفة 4/192) ، وانظر: المحدث الفاصل "للرامهرمزي" (ص 248) .

قالوا " نشهد أنك رسول الله " كانا قد أسلاما؛ ولكن يحيى أخطأ فيه خطأً قبيحاً ". فأنت ترى الإمام أحمد ـ عليه رحمة الله ـ قد قضى على خطأ يحيى بن سعيد القطان في هذا الحديث، بأنه "خطأ قبيح"؛ ومعنى هذا: أنه فاحش شديد، لا سبيل لقبوله. ويحيى؛ هو يحيى ف الحفظ والإتقان والتثبت، ولكن أحمد لم يعلق الحكم على روايته بما يعرفه من حاله في الحفظ والإتقان، ولو كان كذلك لما تردد في قبولها؛ ولكنه نظر في روايته، وتأملها من حيث المعنى، وقابلها برواية غيره من الثقات؛ فتبين لديه أنها رواية شاذة غير مقبولة، وأن يحيى أخطأ فيها، وإن كان ثقة حافظاً، واعتبره " خطأ قبيحاً " مع أنه من ثقة. هذا؛ وقد علمت أن الخطأ الذي وقع فيه يحيى القطاع خطأ في المتن، أدى إلى فساد المعنى. ومعنى هذا: أن الراوي إذا أخطأ في المتن بما يؤدي إلى فساد معناه كان خطؤه شديداً؛ فلا يحتج بروايته، ولا يُعتبر بها، ولو كان الراوي ثقة. ومثل ذلك: ما حكاه عبد الله ابن أحمد (¬1) ، عن أبيه أيضاً؛ حيث قال: ¬

_ (¬1) " العلل " (4730) .

" سمعت أبي يقول، وذكر يحيى ابن آدم فقال: أخطأ في حديث ابن مبارك، عن خالد، عن أبي قلابة، عن كعب، قال: قال الله عز وجل: أنا أشج وأداوي. قال يحيى ابن آدم ـ وأخطأ خطأً قبيحاً ـ، فقال: أنا أسحر وأداوي " اهـ. ويحيى ابن آدم؛ من الثقات المعروفين، ومع ذلك؛ فقد نعت أحمد خطأه في هذا الحديث بأنه " خطأ قبيح " وذلك؛ لأنه صحَّف في متن الحديث، فأفسد معناه. وقد صحف أيضاً في حديث آخر (¬1) ، لفظه: " لا غرر في الإسلام "، فقال: " لا غُرْل في الإسلام "، فأفسد الحديث، وقلب معناه؛ فإن " الغرل " عدم الاختتان، وهو بخلاف " الغرر " الذي هو الجهالة في البيع (¬2) . ومن ... ذلك: قال الخلال (¬3) : أخبرني الميموني، أن أبا عبد الله ـ يعني: أحمد ابن حنبل ـ قيل له: إن بعض الناس أسند، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلاحظ في الصلاة. فأنكر ذلك إنكاراً شديداً، حتى تغير وجهه، وتغير لونه، وتحرك بدنه، ورأيته في حال ما رأيته في حال قط أسوأ منها، وقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ¬

_ (¬1) " العلل" أيضاً (1749) . (¬2) انظر: ما سيأتي في " فصل.. الشواهد.. وتصحيف المتن ". (¬3) " زاد المعاد " (1/249ـ 250) .

يلاحظ في الصلاة؟! ـ يعني: أنه أنكر ذلك؛ وأحسبه قال: ليس له إسناد (¬1) . وقال: من روى هذا (¬2) ؟! إنما هذا من سعيد ابن المسيب (¬3) . ثم قال لي بعض أصحابنا: إن أبا عبد الله وهَّن حديث سعيد هذا، وضعَّف إسناده، وقال: إنما هو: عن رجل، عن سعيد اهـ. قلت: وهذا الحديث الذي أنكره الإمام أحمد هذا الإنكار الشديد، هو: حديث: الفضل ابن موسى السيناني، عن عبد الله ابن سعيد ابن أبي هند، عن ثور ابن زيد عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يلحظ في صلاته يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره. رواه: جماعة، عن السيناني. أخرجه: أحمد (1/275ـ 306) ، وأبو داود (¬4) والترمذي في ¬

_ (¬1) أي: إسناد محفوظ تقوم به الحجة، وليس مراده نفي جنس الإسناد، وهذا اصطلاح يستعمله الإمام أحمد كثيراً، وكذلك استعمله غيره، وقد بينت ذلك بأمثلة في غير هذا الموضع. (¬2) إما أنه لا يعرفه، أو يعرفه ويقصد بهذا القول تقليل شأنه، وفي كلا الحالتين قد أنكر الحديث، وسيأتي أنه ثقة، فثبت المطلوب من أن الحديث المنكر أبداً منكر بصرف النظر عن حال الراوي.. (¬3) أي: مرسلاً؛ وهذا أخرجه ابن أبي شيبة (1/396) عن هشيم، عن بعض أصحابه، عن الزهري، عن سعيد. (¬4) في راوية أبي الطيب ابن الأشناني، كما في " تحفة الأشراف " (5/117ـ 118) .

" الجامع " (587) و"العلل" (ص 98-99) والنسائي (3/9) (¬1) ، وابن خزيمة (485) (871) والدارقطني (2/83) والبيهقي (2/13) والحاكم (1/236-237) وأبو يعلى (4/463) وابن حبان (2288) . وقال الترمذي: " هذا حديث غريب (¬2) ، وقد خالف وكيع الفضل بن موسى في روايته ". ثم رواه (588) عن وكيع، عن ابن أبي هند، عن بعض أصحاب عكرمة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ فذكره. ¬

_ (¬1) وهو في " الكبرى " أيضاً من حديث إسحاق بن راهويه عن السيناني. وعلى ضوء هذا؛ يفهم ما في " تاريخ بغداد " (6/351) ، في ترجمة إسحاق بن راهويه أنه قال: سألني أحمد بن حنبل عن حديث الفضل ابن موسى، حديث ابن عباس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلحظ في صلاته، ولا يلوي عنقه خلف ظهره. قال: فحدثته [في الأصل: فحدثنيه] ، فقال: رجل يا أبا يعقوب ـ يعني: ابن راهويه ـ، رواه وكيع بخلاف هذا. فقال له أحمد بن حنبل: اسكت! إذا حدثك أبو يعقوب أمير المؤمنين فتمسك به، = = قلت: لا يفهم من هذا؛ أن أحمد يصحح الحديث من رواية الفضل بن موسى السيناني، وإنما يصحح فقط أن ابن راهويه حفظ ذلك عن السيناني، ولم يخطيء فيه عليه، ولا يلزم من ذلك أن السيناني حفظه ولم يخطيء فيه؛ فإن ذلك الرجل الذي عارض رواية ابن راهويه برواية وكيع، كأنه أراد أن يخطيء ابن راهويه في الحديث، فأراد الإمام أحمد تبرأة ابن راهويه من عهدة الحديث، فقال ما قال، والخطأ إنما هو ممن فوقه، وهو السيناني، كما سيأتي. ثم رأيت هذه القصة في " الكامل " (1/116) بسياق مختلف، وفيه نظر، ثم إن ابن عدي لم يسندها بل علقها. والله أعلم. (¬2) انظر: " زاد المعاد " (1/249) وشرح أحمد شاكر على "الترمذي".

وهذا مرسل، بل معضل. وقال في " العلل " " لا أعلم أحداً روى هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند مسنداً مثل ما رواه الفضل بن موسى " وقال الدارقطني: " تفرد به الفضل بن موسى، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند متصلاً، وأرسله غيره ". ثم أسند رواية وكيع أيضاً. وكذلك؛ صنع البيقهي. وهم يشيرون بذلك إلى إعلال رواية السيناني برواية وكيع المرسلة. وهو ما يُفهم من صنيع الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ؛ فإنه لما خرج في " المسند " (2/275) رواية السيناني، أتبعها برواية وكيع المرسلة، وفي هذا إشارة منه إلى إعلال رواية السيناني الموصولة برواية وكيع المرسلة؛ لأن المراسيل ليست من موضوع " المسند " (¬1) . وقد رواه: هناد بن السري، عن وكيع، عن عبد الله بن سعيد، عن رجل، عن عكرمة ـ مرسلاً ـ. أخرجه: أبو داود، وقال: " وهذا أصح ". ¬

_ (¬1) وهذا عادة للإمام أحمد في غير ما موضع في " المسند "، في الإشارة إلى علة الحديث، وقد بينت ذلك بأمثلته في بحث عندي، أعانني الله على إتمامه.

والشاهد من هذا الاستطراد: أن المخطئ في هذا الحديث هو الفضل بن موسى السيناني وهو ثقة من الثقات، ومع ذلك؛ فقد أنكر الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ حديثه هذا الإنكار الشديد؛ فدل ذلك على أن الخطأ إذا تحقق من وقوعه ـ ولو من الثقات ـ كان الحديث شاذاً منكراً، لا يُعتبر به، ولا يُشتغل به. ومن ذلك: قال المروذي (¬1) : " سألت أحمد عن حديث: عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضَمرة، عن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه مسح على الجبائر. فقال: باطل، ليس من هذا شيء؛ من حدث بهذا؟ قلت: ذكروه عن صاحب الزهري. فتكلم فيه بكلام غليظ " اهـ. وصاحب الزهري؛ هو: محمد بن يحيى الذهلي، الإمام الحافظ المعروف، لقب بذلك لجمعه حديث الزهري واعتنائه به، وقد أنكر الإمام أحمد هذا الحديث عليه، بل أنكره قبل أن يسأل عن راويه؛ فثبت المطلوب من أن المنكر أبداً منكر، بصرف النظر عن حال راويه. وقد سئل الإمام ابن معين (¬2) عن هذا الحديث أيضاً، فأجاب بمثل جواب الإمام أحمد. ¬

_ (¬1) " العلل ومعرفة الرجال" (270) . (¬2) فيما حكاه عبد الله بن أحمد في " العلل " (3944) .

" فقال: باطل، ما حدث به معمر قط، عليَّ بدنة مقلدة مجلل إن كان معمر حدث بهذا! هذا باطل! ولو حدث بهذا عبد الرزاق كان حلال الدم!! من حدث بهذا عن عبد الرزاق؟! قالوا له: فلان (¬1) . فقال: لا والله! ما حدث به معمر، وعليّ حجة من هاهنا ـ يعني: المسجد ـ إلى مكة إن كان معمر بهذا" اهـ. فقد أنكره غاية الإنكار، وضعفه هذا الضعف الشديد، وحكم بأنه باطل، وأنكر أن يكون معمر حدث به، فالآفة عنده ممن دون معمر، وليس دونه إلا عبد الرزاق والراوي عن عبد الرزاق، وعبد الرزاق ثقة، والراوي عنه قد علمتَ أنه حافظ ثقة، وابن معين ممن يوثقه، ومع هذا؛ فقد صرح هو بأنه لو أن عبد الرزاق حدث به لكان حلال الدم، مع أن عبد الرزاق من الثقات. وهذا من أدل دليل، على أن الحديث المنكر أبداً منكر، وأنه لا يصلح في الاحتجاج ولا في الاستشهاد، وأن رواية الثقة له لا تدفع نكارته، بل الحديث إذا تُحقق من نكارته ـ إسناداً أو متناً ـ، وكان راويه ثقة، حمل على أنه مما أخطأ فيه الثقة. ومثل صنيع ابن معين في هذا الحديث: صنيعه في حديث أبي الأزهر النيسابوري؛ في الفضائل. ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: " قالوا: محمد بن يحيى "؛ كما في " شرح العلل " (2/754) ، هو: الذهلي، كما تقدم.

وذلك؛ لما حدث أبو الأزهر بحديث: عبد الرزاق، عن معمر عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى علي، فقال: " يا علي! أنت سيد في الدنيا، سيد في الآخر، حبيبك حبيبي، وبغيضك بغيضي ... " ـ الحديث (¬1) . فإن ابن معين؛ لما سمع هذا الحديث، قال: " من الكَذَّاب الذي يحدث عن عبد الرزاق بهذا الحديث "، فقام أبو الأزهر وقال: هو أنا ذا! فقال ابن معين: الذنب لغيرك في هذا الحديث، واعتذر إليه. فرغم أن أبا الأزهر صدوق، وأن ابن معين برأه من عهدة هذا الحديث، إلا أنه حكم بأنه حديث كذب، ولم يرجع عن ذلك رغم أنه علم أن إسناده من رواية الثقات، وذلك لأنه تأمل الرواية، سنداً ومتناً، فرأى أن هذا المتن إنما ألصقه مَن ألصقه بهذا الإسناد النظيف. وهذا الحديث؛ قد تتابع الأئمة على إنكاره، بل حكم بعضهم بوضعه، على الرغم من ثقة رواته، واتصال إسناده. فقد صرح ابن معين هاهنا، بأنه كذب. وقال الذهبي (¬2) : " هذا؛ وإن كان رواته ثقات فهو منكر، ليس ببعيد من الوضع ... " (¬3) . ¬

_ (¬1) راجع: " ردع الجاني " (ص 315-316) . (¬2) في " تلخيص المستدرك " (3/128) . (¬3) وراجع بقية الأقوال حول هذا الحديث في ترجمتي أبي الأزهر وعبد الرزاق من كتب الرجال.

ومن ذلك: حديث؛ رواه ابن أبي زائدة، عن يحيى بن سعيد، عن مسلم بن يسار، قال: رأى ابن عمر رجلاً يعبث في الصلاة بالحصى، فقال: إذا صليت فلا تعبث، واصنع كما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ فذكر الحديث. قال أبو حاتم وأبو زُرعة (¬1) : " هكذا رواه ابن أبي زائدة، وإنما هو: مسلم ابن أبي مريم، عن علي ابن عبد الرحمن المعاوي، عن ابن عمر؛ والوهم من ابن أبي زائدة ". ثم قال أبو زرعة: " ابن أبي زائدة قلما يخطئ فإذا أخطأ أتى بالعظائم ". قلت: وهو ثقة، ورغم قلة أخطائه عند أبي زرعة وهذا يقتضى أنه ثقة أو صدوق عنده، إلا أنه وصف تلك الأخطاء القليلة بأنها " عظائم "، وهذا يقتضي أنها شديدة وفاحشة. وهذا؛ يدل على أنه لم يعلق الحكم على روايته على حاله في الضبط عنده، وإنما تجاوز ذلك إلى التأمل الثاقب فيما يروي. والخطأ الذي وقع فيه ابن أبي زائدة في هذا الحديث، هو خطأ في الإسناد؛ حيث قلب راوياً براوٍ، وأسقط آخر من الإسناد. وهذا؛ يدل على أن هذا النوع من الخطأ إذا وقع فيه الراوي في روايته، فإنه يكون خطأ قبيحاً، يفضي إلى تضعيف تلك الرواية جداً، فلا ¬

_ (¬1) "علل الحديث" (257) .

يُعتبر بها، ولا يُستشهد بها، ولو كان الراوي ثقة. وقد كان بإمكان هذين الإمامين أن يعتبرا هذا الإسناد إسناداً آخر للحديث، ومع ذلك فلم يفعلا، بل اعتبراه خطأ، وأعلاه بالإسناد الآخر المحفوظ، فمن يظن أن أي إسناد سالم من كذاب أو متهم أو متروك يصلح للاستشهاد، فهو من أجهل الناس بالعلم الموروث عن الأئمة والنقاد. ومن ... ذلك: حديث: أبي بكر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر جملاً لأبي جهل. رواه: أبو عبد الله الصوفي، عن سويد ابن سعيد، عن مالك، عن الزهري، عن أنس، عن أبي بكر. قال الإمام الدارقطني (¬1) : " وهَمَ فيه وهماً قبيحاً؛ والصواب: عن مالك، عن عبد الله ابن أبي بكر ـ مرسلاً ـ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ والوَهْم فيه من الصوفي ". قلت: والصوفي هذا ثقة، وثقه الدارقطني نفسه (¬2) ، ومع هذا؛ فقد قضى بأن وهمه في هذا الحديث " وهم قبيح ". نعم؛ يرى الخطيب البغدادي، أن الوهم في هذا الحديث من سويد، وليس من الصوفي، وكذا ابن عبد البر، وهذا لا يدفع ما نستشهد به من صنيع الدارقطني. لأن الصوفي ثقة عند الدارقطني، وقد ذهب هو إلى أنه أخطأ في هذا ¬

_ (¬1) " العلل " (1/226) . (¬2) " تاريخ بغداد " (4/86) .

الحديث " خطأ قبيحاً "، فثبت أن الحكم على الضعف الواقع في الحديث بأنه شديد أو هين، لا يتوقف على حال راويه؛ وهو المطلوب. والخطأ الواقع في هذا الحديث؛ هو دخول حديث في حديث، كما قاله البرقاني (¬1) ، حيث أن المخطئ فيه أبدل إسناد هذا الحديث المرسل، بإسناد آخر متصل، سالكاً فيه الجادة. وهذا؛ يدل على أن هذا النوع من الخطأ، إذا تُحقق من وقوعه في الرواية أفضى إلى اطِّراحها، والحكم عليها بالضعف الشديد، والذي يمنع من الاستشهاد بها، ولو كان المخطئ ثقة. ومن ذلك: قال محمد ابن علي ابن حمزة المروزي (¬2) : " سألت يحيى ابن معين عن هذا الحديث ـ يعني: حديث نعيم ابن حماد، عن عيسى ابن يونس، عن حريز ابن عثمان، عن عبد الرحمن ابن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف ابن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحلون الحرام، ويحرمون الحلال ". قال (¬3) : ليس له أصل. قلت: فنعيم ابن حماد؟ ¬

_ (¬1) " تاريخ بغداد " (4/83) . (¬2) " تاريخ بغداد " (13/307-308) . (¬3) يعني: ابن معين.

قال: نعيم ثقة! قلت: كيف يحدِّث ثقة بباطل؟! قال: شُبِه له " اهـ. قلت: فرغم أن نعيماً عند ابن معين ثقة؛ إلا أنه حكم على حديثه هذا، حيث أخطأ فيه، بأنه " ليس له أصل "، وأنه " باطل "؛ وهذان اللفظان يفيدان الضعف الشديد، وذلك يرجع لشدة الخطأ الذي وقع فيه نعيم في الرواية، بصرف النظر عن حاله هو من حيث الضبط والحفظ. وقوله: " شُبِه له "، مع قوله: " ثقة "، يفيد أن الثقة إذا أخطأ عن غير عمد فإن هذا لا يمنع من الحكم على ما أخطأ فيه بالضعف الشديد، فيكون " باطلاً " و " لا أصل له " (¬1) . وقد أشار الإمام دحيم إلى أن نعيماً انقلب عليه إسناد هذا الحديث، وأنه دخل عليه إسناد في إسناد، فقد سئل عنه، فرده، وقال (¬2) : " هذا حديث صفوان ابن عمرو وحديث معاوية ". ومعنى هذا؛ أن هذا الخطأ إذا وقع في حديث، كان هذا الحديث ضعيفاً جداً، وباطلاً، ولا أصل له، ولو كان الخطأ فيه من الثقات. ومن ... ذلك: قال المروذي (¬3) : ¬

_ (¬1) وانظر: مثله في " ضعفاء " العقيلي (1/228) . (¬2) " تاريخ بغداد " (13/307) . وراجع: " التنكيل " للمعلمي اليماني. (1/68) . (¬3) " علل الحديث " له (280) .

" وذكر ـ يعني: أحمد ابن حنبل ـ لُوَيناً، فقال: حدث حديثاً منكراً عن ابن عيينة، ما له أصل. قلت: أيش هو؟ قال: عن عمرو ابن دينار، عن أبي جعفر، عن إبراهيم ابن سعد، عن أبيه ـ قصة علي ـ: " ما أنا الذي أخرجتكم؛ ولكنَّ الله أخرجكم " ـ؛ فأنكره إنكاراً شديداً، وقال: ما له أصل " اهـ. قلت: ولُوَين، وهو: محمد ابن سليمان المصيصي، وهو ثقة، ومع ذلك؛ فقد ضعف الإمام أحمد حديث هذا تضعيفاً شديداً وأنكره عليه إنكاراً شديداً. وقد ذكر الخطيب البغدادي (¬1) كلام أحمد هذا، ثم قال بعقبه: " أظن أبا عبد الله ـ يعني: أحمد بن حنبل ـ أنكر على لوين روايته متصلاً؛ فإن الحديث محفوظ عن سفيان ابن عيينة، غير أنه مرسل؛ عن إبراهيم بن سعد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم أسنده من غير وجه، عن سفيان مرسلاً. قلت: وهذا يفيد؛ أن مثل هذا الخطأ، إذا تحقق من وقوعه في حديث، كان الحديث " ضعيفاً جداً " و" منكراً " و " ولا أصل له "، لا يصلح للاعتبار، ولو كان المخطئ فيه ثقة. ومن ذلك: روى الربيع بن يحيى الأشناني، عن الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ في الجمع بن الصلاتين. ¬

_ (¬1) " تاريخ بغداد " (5/293-294) .

فقال أبو حاتم الرازي (¬1) : " إنه باطل عندي، هذا الخطأ لم أدخله في التصنيف، أراد " أبا الزبير، عن جابر " أو " أبا الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس "، والخطأ من الربيع " اهـ. قلت: والربيع هذا، قد قال فيه أبو حاتم نفسه: " ثقة ثبت " وقد قضى بأن حديثه هذا " حديث باطل "، وأنه هو المخطئ فيه، وهذا يدل على أن الثقة الثبت إذا أخطأ الخطأ الفاحش كان ما أخطأ فيه " باطلاً "، ولا يشفع له كون المخطئ ثقة ثبتاً. وقوله: " لم أدخله في التصنيف "، يدل على أن الحديث عنده لا يصلح للاستشهاد؛ لأن الحديث إنما يدخل في التصنيف، إما للاحتجاج أو للاستشهاد، وما لا يصلح لذلك لا يدخل في التصنيف. والخطأ الذي وقع فيه الربيع ـ كما يرى أبو حاتم ـ؛ هو أنه دخل عليه حديث في حديث، أو إسناد في إسناد؛ وهذا يدل على أن هذا الخطأ من الخطأ الفاحش، والذي إذا وقع في الرواية كان موجباً لإنكارها والحكم عليها بالبطلان، مهما كان المخطئ ثقة أو غير ثقة. وقد سئل الإمام الدارقطني عن هذا الحديث بعينه، فقضى فيه بنحو ما قضى أبو حاتم الرازي ـ رحمهما الله تعالى ـ. فقد ذكر عنه البرقاني (¬2) ؛ قال: " هذا حديث ليس لمحمد بن المنكدر فيه ناقة ولا جمل ". ¬

_ (¬1) " العلل " لابنه (313) . (¬2) في " سؤالاته " (23) .

وهذا؛ مثل قول أبي حاتم؛ فقد اتفقا على أن الربيع دخل عليه إسناد في إسناد، وأن الحديث ليس من حديث ابن المنكدر، وإنما هو من حديث غيره. وسأله الحاكم أبو عبد الله (¬1) ، عن الربيع بن يحيى صاحب هذا الحديث؛ فقال: " ليس بالقوي؛ يروي عن الثوري، عن ابن المنكدر، عن جابر في الجمع بين الصلاتين، هذا يسقط مائة ألف حديث ". وهذا؛ يدل دلالة قوية على شدة نكارة هذا الحديث؛ فإن ألان القول في حفظه؛ معللاً ذلك بروايته لهذا الحديث المنكر، وهذا يدل على أن نكارة هذا الحديث تعدى أثرها عند الإمام الدارقطني إلى الراوي له، بحيث دلت على عدم تمام ضبطه. ومن ذلك: قال البرذعي (¬2) : " سألت أبا زرعة عن حديث شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس؛ وعن نافع، عن ابن عمر ـ حديث ابن أبي ذئب ـ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلى الركعتين بعد (¬3) المغرب في بيته؟ فأنكر حديث شعبة جداً. ¬

_ (¬1) في " سؤالاته " (319) . (¬2) في "سؤالاته لأبي زرعة " (2/698-699) . (¬3) في المطبوع " قبل " خطأ، وعلى الصواب جاء في " تاريخ بغداد " (11/356) .

وقال: من رواه؟ قلت: علي بن ثابت الجزري، عن ابن أبي ذئب. قال: من عن علي؟ قلت: زياد بن أيوب. فضعف الحديث جداً، وأنكره ". قلت: هكذا أنكر هذا الحديث وضعفه جداً من طريق " شعبة عن ابن عباس " مع أن الإسناد إليه رجاله ثقات، فلم يمنعه ثقة الرواة من إنكار الحديث، والحكم عليه بالضعف الشديد. هذا؛ مع أن متن الحديث محفوظ بإسناد آخر، وقد أتى به هذا الراوي أيضاً، وهو الإسناد الآخر " نافع عن ابن عمر "؛ فإن هذا الحديث قد رواه جماعة كثيرون " عن نافع عن ابن عمر "، وقد أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" (¬1) من هذا الوجه، وعلى الرغم من أن أصل الحديث صحيح ثابت، إلا أن الإمام لم يمنعه ذلك من إنكار هذا الإسناد الآخر والحكم عليه بالضعف الشديد، فكيف إذا لم يكن المتن له أصل صحيح، بل كل طرقه تدور على الرواة الضعفاء؟! وقد روى حديث " نافع عن ابن عمر " غير علي بن ثابت الجزري عن ابن أبي ذئب: رواه: شبابة بن سوار أخرجه: عبد بن حميد (781) . ¬

_ (¬1) البخاري (3/425) (4/50-58) ، ومسلم (3/17) ..

وتابعه على أصله: حجاج بن محمد. أخرجه: الطحاوي في " شرح المعاني " (1/336) . ومن ذلك: قال عبد الله بن علي بن المديني: " سمعت أبي ـ وسألته عن حديث رواه بُنْدار، عن ابن مهدي، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " تسحروا؛ فإن في السحور بركة ". فقال: هذا كذب؛ حدثني أبو داود موقوفاً؛ وأنكره عليه أشد الإنكار ". قلت: وبندار، هو محمد بن بشار، وهو من الثقات المعروفين، وهو وإن تكلم فيه بعضهم، إلا أن كلام من تكلم فيه ليس لتهمة، ومع ذلك قضى الإمام ابن المديني على حديثه هذا، حيث أخطأ في رفعه والصواب وقفه، بأنه حديث " كذب " وأنكره أشد الإنكار (¬1) . هذا؛ مع أن أصل الحديث ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن من حديث أنس، وقد أخرجه البخاري ومسلم (¬2) وغيرهما. ومن ذلك: حديث: ضمرة بن ربيعة، عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال " من ملك ذا رحم محرم فهو عتيق ". ¬

_ (¬1) راجع " العلل " للدارقطني (5/67) . (¬2) البخاري (4/139) ، ومسلم (3/130) .

فهذا الحديث؛ قد أنكره الإمام أحمد غاية الإنكار، وقال: "لو قال رجل: إن هذا كذب لما كان مخطئاً"؛ مع أن راويه المخطىء فيه، وهو ضمرة ابن ربيعة هذا، من الثقات، وقد وثقه الإمام أحمد نفسه. وكذلك؛ أنكره الإمام البيهقي، وذهب إلى أن الراوي دخل عليه، إسناد في إسناد، ووصف هذا الخطأ الواقع في هذا الحديث بأنه "فاحش". وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد، إن شاء الله تعالى، في "فصل: الشواهد.. وإسناد في إسناد". وبالله التوفيق. ومن ذلك: حديث: عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه رأى على عمر ثوباً غسيلاً أو جديداً، فقال: " البس جديدا ً، وعش حميداً، ومت شهيداً ". فقد قال أبو حاتم الرازي (¬1) : " هذا حديث ليس له أصل من حديث الزهري، ولم يرض عبد الرزاق حتى أبع هذا بشيء أنكر من هذا، فقال: حدثنا الثوري، عن عاصم بن عبيد الله، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله، وليس لشيء من هذين أصل، وإنما هو معمر، عن الزهري ـ مرسل ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) " العلل " لابنه (1460) .

وقال في موضع آخر (¬1) : " هذا حديث باطل ". قلت: فقد حكم ببطلانه، وبأنه ليس له أصل، رغم أن المخطئ فيه عنده ـ وهو عبد الرزاق ـ من الثقات. وهذا الحديث؛ قد تتابع الأئمة على إنكاره على عبد الرزاق، منهم: يحيى القطان، وابن معين، وأحمد، والبخاري، والنسائي، وحمزة الكناني، والدارقطني، وغيرهم (¬2) . قال أبو حاتم الرازي أيضاً: " أنكره الناس " ومن ذلك: قال ابن الجنيد (¬3) : " قلت ليحيى: محمد بن كثير الكوفي؟ قال: ما كان به بأس. قلت: إنه روى أحاديث منكرات؟ قال: ما هي؟ ¬

_ (¬1) " العلل " (1470) . (¬2) راجع: " عمل اليوم الليلة " للنسائي (213) ، و" التاريخ الكبير " للبخاري (2/1/356) و " العلل " للدارقطني (2/201) و " العلل الكبير " للترمذي (ص 373) ، و " الكامل " لابن عدي (5/1948) ، و " مسائل أبي داود لأحمد " (ص 315) ، و " البداية والنهاية " لابن كثير (6/232) ، و" تحفة الأشراف " (5/397) ، و " تهذيب التهذيب " (6/315) ، و " شرح العلل " (2/756) . (¬3) في " سؤالاته " (887) .

قلت: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير ـ يرفعه ـ: " نضر الله امراءً سمع مقالتي فبلغ بها "، وبهذا الإسناد مرفوع: " اقرأ القرآن ما نهاك، فإذا لم ينهك فلست تقرؤه ". فقال: إن كان الشيخ روى هذا فهو كذاب، وإلا فإني رأيت حديث الشيخ مستقيماً ". قلت: وإن كان محمد بن كثير هذا ضعيفاً، بل هو ضعيف جداً بمجموع أقوال أهل العلم فيه، إلا أن ابن معين رغم أنه كان لا يرى به بأساً، لاستقامة أحاديثه التي رآها له، إلا أنه لما رأى هذين الحديثين المنكرين كذبه؛ وهذا يدل على أنه رأى الحديثين في غاية النكارة، على الرغم من أن خطأه في هذين الحديثين إنما هو في الإسناد، لا في المتن، وإلا فالمتنان مرويان من غير هذا الوجه، وإن كان المتن الأول صحيحاً، والآخر ضعيفاً. ونكتفي بهذه الأمثلة. ثم أقول: ليس الخوف الذي يعتري الناقد من رواية الضعيف مبعثاً من حال هذا الضعيف فحسب، بل هو يكمن فيما يمكن أن يكون الراوي الضعيف فعله في الرواية؛ فأفسدها. فإن غاية ما يمكن أن يصنعه الراوي المتروك أو الضعيف جداً، بل والكذاب في الرواية، هو أن يقلب إسناداً أو يركب متناً، وهذا قد يقع فيه هين الضعف ـ بل والثقة أحياناً ـ إذا ما أخطأ؛ فقد يدخل عليه حديث في

حديث، وقد يقلب فيبدل كذاباً كان في الإسناد، فيضع مكانه ثقة، خطأ أو عمداً، وقد يأتي إلى حديث معروف بإسناد ضعيف، فيبدل إسناده بإسناد آخر صحيح، وقد يُسقط من الإسناد كذاباً أو متروكاً كان فيه، ويُسوِّي الحديث ثقة عن ثقة، وهْماً لا عمداً؛ كما كان ابن لهيعة يسمع الحديث من إسحاق ابن أبي فروة والمثنى بن الصباح، ـ وهما متروكان ـ ثم يُسقطهما من الإسناد خطأً وغفلة. غاية ما هنالك، أن الثقة قلما يقع منه ذلك، بخلاف الضعيف والمتروك، فإنه كثيراً ما يقع منه ذلك، ولهذا ضعفوا الضعيف، ولم يضعفوا الثقة، وإن كانوا لم يترددوا في الحكم على هذا لقليل الذي أخطأ فيه الثقة بالنكارة والبطلان. يقوم الإمام مسلم في " مقدمة الصحيح " (¬1) : " وعلامة المنكر في حديث المحدث، إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا، خالفت روايتُه روايتهم، أو لم تكد توافقهم، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث، غير مقبوله ولا مستعمله " ومعنى هذا: أن الحديث المنكر، هو الحديث الذي ثبت خطأ الراوي فيه، إما بمخالفته لأهل الحفظ والرضا فيه، أو بعدم موافقته لهم. وعليه؛ فلو أخطأ راوٍ في حديث واحد، واستُدل على خطئه بالمخالفة أو بعدم الموافقة، كان هذا الحديث بعينه منكراً، وإن لم يكن لهذا الراوي منكر سواه. ¬

_ (¬1) ص 90- نووي) .

أما إذا كان أكثر الراوي من رواية المناكير؛ أي: من مخالفة الثقات أو عدم موافقته لهم، فحينئذ يتعدى الحكم على من الرواية إلى الراوي، فيكون الراوي متروكاً، لا يعرج على حديثه، ولا يشتغل به. فالحكم على الرواية بالضعف الهين أو الشديد، لا يتوقف على حال راويها فحسب، بل يتوقف على مدى استقامتها إسناداً ومتناً من عدم ذلك، ونوع الخطأ الذي وقع فيه الراوي عند روايته لها، وإن لم يكن أخطأ إلا فيها. وأختم بحثي هذا، بما رواه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص 270) والعقيلي في " الضعفاء " (1/264) ، عن نوفل بن مطهر، قال: كان بالكوفة رجل، يقال له: حبيب المالكي، وكان رجلاً له فضل وصحبة، فذكرناه لابن المبارك، فأثنى (¬1) عليه. قلت: عند حديث غريب. قال: ما هو؟ قلت: الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: سألت حذيفة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحسن، ولكن ليس من السنة أن تخرج على المسلمين بالسيف. فقال: [هذا حديث] ليس بشيء: قلت له: إنه ,إنه ـ أعنى حبيباً ـ؛ فأبى. فلما أكثرت عليه في [ثنائي عليه] (¬2) قال: عافاه الله في كل شيء إلا ¬

_ (¬1) في " التقدمة ": " فأثنينا ". (¬2) من " التقدمة "، وفي العقيلي: " شأنه ووصف ".

في هذا الحديث؛ هذا [حديث] كنا نستحسنه من حديث سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، عن حذيفة. وموضع الشاهد من هذه الحكاية واضح، والله الموفق، لا رب سواه.

ثبت العرش.. ثم انقش

ثبت العرش.. ثم انقش يكثر في هذا الباب من قِبَل بعض الباحثين التساهل في النظر في أحوال رواة المتابعات والشواهد، خصوصاً إذا كانوا متأخرين في الطبقة، فيثبتون المتابعة التي تفردت بها بعض المصادر المتأخرة، من غير نظر في رجال الإسناد إلى المتابعة، وكثيراً ما يكون راوي هذه المتابعة مطعونا عليه. كمثيل المتابعات التي يتفرد بها الحاكم في " المستدرك "، والبيهقي في " سننه " وغيرها، وابن عساكر، والطحاوي كذلك، والخطيب أيضاً، وأمثال هؤلاء العلماء المتأخرين. فقد يُسنِد بعضهم رواية ويتفرد بها، والآفة فيها من شيخه أو شيخ شيخه، فيغفل البعض عن النظر في حال هؤلاء الشيوخ، ويكتفي بالنظر في رجال الطبقات العليا من الإسناد. وبطبيعة الحال؛ فإن هذا الصنيع سائغ لو أن هذه الرواية بعينها له أصل عند أهل الطبقات العليا، أما إذا كانت الرواية مما تفرد بها بعض المتأخرين وجب النظر في أحوال رواتها كلهم، وبلا استثناء. فمثلاً؛ لو أن حديثاً رواه أبو داود في " السنن " عن شيخ معين، بإسناد معين، ثم وجدنا البيهقي رواه أيضاً من طريق أبي داود؛ فإنه ـ والحالة هذه ـ لا يعنينا حال من بين البيهقي وأبي داود؛ لأن أصل الحديث ثابت عند أبي داود، فالنظر ـ حينئذ ـ إنما يكون فيمن فوق أبي داود من الإسناد.

أما ما يتفرد به البيهقي ـ مثلاً ـ، ولا يوجد له أصل عند من تقدمه، فلابد ـ حينئذ ـ من التحقق من شرط الصحة في إسناد البيهقي كله. وقد سبقني إلى التنبيه على هذا الأمر الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ، فقال في معرض حديثه عن معنى قول الحاكم " صحيح على شرط الشيخين "، قال (¬1) : " ولعلك تنبهت مما سبق؛ أنه لابد لطالب هذا العلم من ملاحظة كون السند من الحاكم إلى شيخ الشيخين في نفسه صحيحاً أيضاً، فقد لاحظنا في كثير من الأحيان تخلف هذا الشرط، والطالب المبتدئ في هذا العلم لا يخطر في باله في مثل هذه الحالة الكشف عن ترجمة شيخ الحاكم مثلاً، أو الذي فوقه، ولو فعل لوجد أنه ممن لا يحتج به، وحينئذ فلا فائدة في قول الحاكم في إسناد الحديث: " إنه صحيح على شرط الشيخين "، وهو كذلك إذا وقفنا بنظرنا عن شيخ صاحبي " الصحيحين " فصاعداً، ولم نتعد به إلى من دونهم من شيخ الحاكم فمن فوقه". قلت: وهذا أمر بدهي، لا ينبغي أن نقف عند طويلاً؛ لأن الراوي إذا لم يكن صح عنه أنه روى الرواية أصلاً، فكيف يصح أن يقال: إنه تابع وتوبع؛ فإن المتابعة فرع من الرواية، فإذا لم تكن الرواية ثابتة، فكيف تثبت المتابعة؟! . وهذا؛ كمثل ما ذكره أهل العلم ـ عليهم رحمة الله تعالى ـ في مبحث " المرسل "، ومن اشترط صحة الإسناد إلى كل من الراويين ¬

_ (¬1) " الصحيحة " (3/66) . وانظر أيضاً " الضعيفة " (4/341) .

المرسِلَيْن حتى يصح اعتضاد كل من مرسليهما بالآخر، بالشرائط الأخرى المعتبرة (¬1) . لأنه إذا لم تكن الرواية قد صحت إلى كل من المرسِلين، فلم يصح أنهما ـ أو من لم تصح روايته عنه ـ قد أرسلا هذا الحديث أصلاً، والاعتبار إنما هو بما صح أنه مرسل، وليس بما زعم زاعم خطأً أنه مرسل. بل ينبغي أيضاً؛ أن يُعرف حال صاحب الكتاب، وهل هو ممن يحتج به أم لا؛ فإن هناك من المصنفين من ضعفهم العلماء، كالواقدي صاحب " المغازي " وغيره. وكذلك؛ رواة الكتب، فقد يكون الكتاب معروفاً مشهوراً عن مؤلفه، إلا أن بعض رواة الكتاب عنه ربما يخطئ في بعض أحاديث الكتاب، فيزيد فيه أو ينقص، أو يصحف فيه أو يحرف، بما لا يكون معروفاً عن صاحب الكتاب من رواية غير هذا الراوي عنه (¬2) . هذا؛ وقد وقع الإخلال في التحقق من ذلك من قِبَلِ بعض الباحثين في بعض الأحاديث. مثال ذلك: حديث: عبد الرزاق، عم معمر، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد ¬

_ (¬1) راجع: " النكت على كتاب ابن الصلاح " (2/569) ، و " الموقظة " (ص 39) ، و " حجاب المرأة المسلمة " للشيخ الألباني (ص 19 - 20) ، و" جلبابها " له أيضاً (ص 44) . (¬2) راجع: حديث " كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع "، في " فصل: الإقران.. والمخالفة ".

ابن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أدري تُبَّعاً ألعينا كان أم لا؟ وما أدري ذا القرنين أنبياً كان أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟ ". أجرجه: أبو داود (4674) ، والحاكم (1/36) ، والبيهقي (8/329) ، والبزار (1543) ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " (ص 351) وابن عساكر (11/4) (17/377) ، وأبو القاسم الحنَّائي في " الفوائد " (16/ أ) والدارقطني في " الأفراد " (294 / ب ـ أطرافه) . منهم من يتمه، ومنهم من يختصره. وقال الحاكم: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعلم له علة، ولم يخرجاه ". كذا قال! وهو معلول؛ كما سيأتي، إن شاء الله تعالى، بل أعله أحد الشيخين، وهو الإمام البخاري ـ رحمه الله تعالى. وقال البزار: " لا نعلم راوه عن ابن أبي ذئب إلا معمراً ". " وقال الدارقطني: " تفرد به معمر بن راشد، عن ابن أبي ذئب، عنه ". وقال ابن عساكر: " تفرد به عبد الرزاق ".

وقال ابن كثير (¬1) : " هذا غريب من هذا الوجه ". وقال الحنائي: " غريب؛ رواه هشام بن يوسف الصنعاني، عن معمر، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً؛ وهو الأصح ". وكذلك؛ حكى البيهقي مثل ذلك عن البخاري، وهو في " التاريخ الكبير " (1/1/153) ، ولفظه: " والأول ـ يعني المرسل ـ أصح؛ ولا يثبت هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الحدود كفارة " (¬2) . يشير إلى ما أخرجه في " صحيحه " (12/84) من حديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ، قال كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس، فقال: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا " وقرأ الآية كلها (¬3) ـ، " فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستر الله عليه، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه ". وكذلك؛ فعل ابن عبد البر، عارض الحديث بحديث عبادة بن الصامت، وأعله به. ¬

_ (¬1) في " البداية والنهاية " (2/103) . (¬2) وانظر " فتح الباري " لابن رجب (1/73) . (¬3) يعني: آية بيعة النساء [الممتحنة: 12] .

قال في " الجامع ": " حديث عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فيه: أن الحدود كفارة، وهو أثبت وأصح إسناداً من حديث أبي هريرة هذا ". فهكذا؛ تتابع الأئمة على إنكار هذا الحديث، والحكم بأنه مما تفرد به معمر بن راشد، عن ابن أبي ذئب. لكن؛ جاءت متابعة لمعمر: قال الحاكم في " المستدرك " (2/455) : " حدثنا عبد الرحمن بن الحسن القاضي بهمذان: ثنا إبراهيم بن الحسين ـ هو: ابن ديزيل ـ: ثنا آدم بن أبي إياس: ثنا ابن أبي ذئبٍ ... "، به. ومن طريق الحاكم: أخرجه: البيهقي (8/329) . وقال الحاكم: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "! كذا قال! وهذا غريب جداً؛ فإن شيخ الحاكم هذا، وهو عبد الرحمن بن الحسن الهمذاني، قد كذبوه، واتهموه بادعاء السماع من ابن ديزيل ـ شيخه في الإسناد ـ، مع أنه لم يلقه، ولم يسمع منه، بل لم يدركه أصلاً. وترجمته: في " تاريخ بغداد " (10/292-293) و " الإرشاد " للخليلي (2/659 - 660) و " السير" (16/15) و " الميزان " (2/556 - 557) و " اللسان " (3/411 - 412) .

فهذه المتابعة في غاية السقوط؛ فكيف وقد صرح العلماء بأن الحديث مما تفرد به معمر عن ابن أبي ذئب، فهذا مما يزيد من وهن هذه المتابعة، ويؤكد أنها مما لا أصل له. وبهذا؛ تعلم خطأ كل من قوى رواية معمر الموصلة بهذا المتابعة، من غير تأمل في إسنادها، ولا نظر في أحوال رواتها؛ كالحافظ ابن حجر في " الفتح " (1/66) (¬1) ، وابن التركماني في " الجوهر النقي " (8/329) ، والشيخ الألباني في " السلسلة الصحيحة " (2217) . مثال آخر: حديث: يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، قال بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل فتية من بني هاشم فلما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - اغرورقت عيناه، وتغير لونه، قال: فقلت: ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكره! فقال: " إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريداً وتطريداً، حتى يأتي قوم من قِبَل المشرق، معهم رايات سود، فيسألون الخير، فلا يُعطونه، فيقاتلون فيُنصرون، فيُعطون ما سألوا، فلا يقبلونه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها قسطاً، كما ملؤوها جوراً، فمن أدرك ذلك منكم، فليأتهم، ولو حبواً على الثلج ". أجرجه: ابن ماجه (4082) والبزار (1556) وابن عدي في " الكامل " (7/275 - 276) في ترجمة يزيد. ¬

_ (¬1) وانظر أيضاً: (8/571) و " التلخيص الحبير " (3/287) .

وهذا الحديث مما تفرد به يزيد هذا، وأنكره عليه جماعة من أهل العلم. قال ابن عدي: " لا أعلم يرويه بهذا الإسناد، عن إبراهيم، غير يزيد بن أبي زياد ". وقال عبد الله بن أحمد في " العلل " (5985) ، عن أبيه: " حديث إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، ليس بشيء ـ يعني: حديث يزيد بن أبي زياد ". وروى هذا: العقيلي في " الضعفاء " (4/381) عن عبد الله بن أحمد ابن حنبل، ثم قال: " قلت لعبد الله: " الرايات السود "؟ قال: نعم ". ثم روى بإسناده عن أسامة، أنه قال: " لو حلف ـ يعني: يزيد ـ عندي خمسين يميناً قسامة، ما صدقته! أهذا مذهب إبراهيم؟! أهذا مذهب علقمة؟! أهذا مذهب عبد الله؟! ". لكن؛ قال البوصيري في " زوائد ابن ماجه ": " لم ينفرد به يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم؛ فقد رواه الحاكم في " المستدرك " من طريق عمرو بن قيس، عن الحكم، عن إبراهيم، به " قلت: هذه المتابعة مما لا يلتفت إليها، ولا يعول عليها؛ فإنها في " المستدرك " (4/464) من طريق حنان (¬1) بن سدير، عن عمرو بن قيس، ¬

_ (¬1) في الأصل " حبان "، وانظر: " اللسان " (2/166/739) .

عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة وعبيدة السلماني، عن ابن مسعود (¬1) . وحنان هذا؛ قال فيه الدارقطني: " من شيوخ الشيعة " (¬2) . وذكره الذهبي في " الميزان " (¬3) ، وسماه "حبان بن يزيد "، وذكر عن الأزدي، أنه قال: " ليس بالقوي عندهم "، ثم ساق له هذا الحديث، لكنه عنده: " عن عمرو بن قيس، عن الحسن (¬4) ، عن عبيدة، عن ابن مسعود " وقال الذهبي في " تلخيص المستدرك ". " هذا موضوع ". قلت: فلعله سرقه من يزيد. والله أعلم. مثال آخر: حديث: إسماعيل بن عُلية، عن زياد بن مِخراق، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله؛ إني لأذبح الشاة، وأنا أرحمها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " والشاة؛ إن رحمتها، رحمك الله ". أخرجه: أحمد (3/34) والبخاري في " الأدب " (373) ¬

_ (¬1) وكذلك؛ أخرجه الدارقطني في " المؤتلف " (1/430) ، وليس عنده ذكر " علقمة ". (¬2) كما في " المؤتلف " و " اللسان " (2/367 - 368) . (¬3) " الميزان " (1/449) . (¬4) فلعل " الحكم " تصحف إلى " الحسن "، والله أعلم.

والطبراني (19/23) والبزار (1221- كشف) . وفي " تهذيب الكمال " (¬1) : " قال أبو بكر الأثرم: سألت أحمد بن حنبل، عن زياد بن مخراق؟ فقال: ما أدري. قلت له: يروي أحد حديث معاوية بن قرة عن أبيه ـ يعني: هذا الحديث ـ يُسند غير إسماعيل؟ قال: ما أري؛ ما سمعته من غيره. قلت له: حماد بن سلمة يرويه عن زياد، عن معاوية بن قرة ـ مرسل ". وقد توبع إسماعيل من قِبل مالك، إلا أنها متابعة لا يُعتدُ بها؛ لكونها غير محفوظة عن مالك. فقد رواه: بشر بن علي بن بشر العمي الأنطاكي، عن عبد الله بن نصر، عن إسحاق بن عيسى بن الطباع، عن مالك، عن زياد، به. أخرجه: الطبراني في " الكبير " (19/23) و " الأوسط " (3070) و " الصغير " (1/109) وأبو نعيم في " الحلية " (2/302) (6/343) . وقال الطبراني: " لم يره عن مالك، إلا إسحاق الطباع، تفرد به: عبد الله بن نصر ". ¬

_ (¬1) 9/509 - 510) .

وقال أبو نعيم: " غريب من حديث مالك، تفرد به: عبد الله بن نصر ". وقال في الموضع الآخر: " مشهور ثابت من حديث زياد، غريب من حديث مالك، لم نكتبه إلا من حديث بشر الأنطاكي ". قلت: وعبد الله بن نصر هذا، متروك الحديث؛ فلم يثبت ذلك عن مالك. والله أعلم. وتوبع أيضاً زياد بمتابعات غير محفوظة: فقد رواه: عدي بن الفضل، عن يونس بن عبيد، عن معاوية ابن قرة، به. أخرجه: الحاكم (3/586 - 587) والبزار (1222 - كشف) والطبراني في " الأوسط " (2736) وأبو نعيم (2/302) وابن عدي (5/376) . وقال الطبراني: " لم يروه عن يونس إلا عدي ". وقال الذهبي في " تلخيص المستدرك ". " عدي هالك ". وقال ابن عدي:

" وهذا الحديث لا يرويه عن يونس بن عبيد غير عدي بن الفضل، وهذا الحديث يُعرف بزياد بن مخراق، عن معاوية بن قرة؛ ورواه عن زياد ابن مخراق: إسماعيل بن عُلية ". ورواه أيضاً: على بن حميد الواسطي، عن أسلم بن سهل الواسطي، عن أحمد بن محمد بن أبي حنيفة، عن أبيه، عن حماد بن سلمة، عن حجاج الأسود وعبد الله بن المختار، عن معاوية، به. أخرجه: أبو نعيم (2/302) . وقال أبو نعيم: " عبد الله بن المختار بصري، عزيز الحديث.، ولم نكتبه إلا من حديث حماد بن سلمة، عنه " (¬1) . قلت: والمحفوظ عن حماد بن سلمة: عن زياد بن مخراق، عن معاوية ـ مرسلاً ـ؛ كما سبق في قول أبي بكر الأثرم. والله أعلم. والخلاصة: أن هذا الحديث لم يروه ـ موصولاً ـ عن معاوية بن قرة إلا زياد بن مخراق، ولم يروه عنه إلا إسماعيل بن عُلية، ولا يصح ـ موصولاً ـ عن غير زياد، ولا عن غير إسماعيل. فمن يظن ـ بما تُوهمه هذه الطرق ـ أن الحديث مشهور عن معاوية ابن قرة، فهو مخطئ، بل الحديث غريب عنه، لأن الطرق الأخرى غير ¬

_ (¬1) كذا السياق، والأشبه: " ولم نكتبه من حديث حماد بن سلمة إلا عنه "؛ وإلا فقد كتبه من غير حديث حماد، كما تقدم

محفوظة، والمحفوظ طريق واحد، هو وحده إسناد هذا الحديث. مثال آخر: حديث: الوليد بن محمد الموقري، عن الزهري، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما مثل المريض إذا برأ وصح كالبردة تقع من السماء في صفائها ولونها ". أخرجه: الترمذي (2086) والعقيلي (4/318) وابن حبان في " المجروحين " (3/77) وابن عدي (7/72) والطبراني في " الأوسط " (5166) والبزار (762 - كشف) والدارقطني في " الأفراد " (1217 - أطرافه) وابن الجوزي في " الموضوعات " (3/200 - 201) والبيهقي في " الشعب " (9841) . فهذا الحديث؛ مما تفرد الوقري به عن الزهري. والموقري هذا؛ ضعيف جداً، وقد أنكره عليه أهل العلم، وأدخلوه في ترجمته من كتب الضعفاء ضمن مناكيره. وقال الطبراني: " تفرد به الموقري عنه ". وقال العقيلي: " وللموقري عن الزهري مناكير، لا يُتابع عليها، ولا تُعرف إلا به ".

وقال البزار: " والموقري لين الحديث؛ حدث عن الزهري بأحاديث لم يتابع عليها ". وقال البيهقي: " هذا يُعرف بالموقري، وهو ضعيف ". وقال ابن عدي: " وهذا لا يرويه عن الزهري غير الموقري ". وقد جاءت متابعات عدة للموقري على هذا الحديث، فلم يعتد بها أهل العلم، وصرحوا بإعلالها، وبأن الحديث حديث الموقري، لا يصح عن أحد غيره عن الزهري. فقد رواه: عبد الوهاب بن الضحاك، عن بقية بن الوليد، عن الزبيدي، عن الزهري، عن أنس بن مالك، به. أخرجه: البيهقي في " الشعب " (9842) ، عقب قوله المذكور من أن هذا الحديث يُعرف بالموقري؛ وفي هذا إشارة منه إلى أنه لا يعرف من حديث الزبيدي. وقد صرح ابن عدي بذلك؛ فإنه أشار إلى هذا الطريق بعدما قال ذكرناه عنه من أنه لا يرويه عن الزهري إلا الموقري، ثم قال: " وأبطل عبد الوهاب فيه؛ لأن الزبيدي لا يُحتمل، والموقري يُحتمل ". وعبد الوهاب هذا، متروك الحديث. ورواه أيضاً: سعيد بن هاشم بن صالح المخزومي، عن ابن أخي

الزهري وعبد الله بن عامر، عن الزهري، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه: ابن عدي (3/407) في ترجمة سعيد هذا. وقال " وهذا الحديث؛ قدا رواه عن الزهري الموقري ـ أيضاً ـ، وهو معروف به ". قلت: وسعيد بن هاشم، ضعيف. ورواه أيضاً: سفيان بن محمد الفزاري، عن ابن وهب، عن يونس ابن يزيد، عن الزهري، عن أنس ـ أيضاً. وسفيان الفزاري هذا؛ اتَّهمه ابن عدي بسرقة الأحاديث، وتسوية الأسانيد؛ وهذا عين ما فعله في هذا الحديث. وأخرجه: ابن حبان في " المجروحين " (1/354) في ترجمة هذا الفزاري. وقال: " وهذا خبر باطل؛ إنما هو: قول الزهري، لم يرفعه عن الزهري إلى الموقري " قلت: هذا هو الصواب، أن الحديث حديث الموقري عن الزهري، هو المتفرد به، وهو المخطئ فيه، ليس لغيره من أصحاب الزهري فيه نصيب، وإنما أخطأ من أخطأ عليهم، حيث رواه من غير طريق الموقري عن الزهري، فكل من رواه عن الزهري من غير طريق الموقري، فهو إما سارق أو واهم (¬1) . والله أعلم. ¬

_ (¬1) وسيأتي مثال آخر؛ وهو حديث قبيعة سيف النبي - صلى الله عليه وسلم -، في " فصل: الإقران.. والمخالفة ".

التنقية.. قبل التقوية

التنقية.. قبل التقوية يجب على الباحث قبل الاعتبار بالرواية، وضمها إلى غيرها لإحداث التقوية والاعتضاد، يجب عليه أن يُوفِي الرواية حقها من النقد الخاص؛ وذلك بالنظر في رواتها، وهل فيهم من هو متهم بالكذب أو غير ذلك مما يُفضي إلى اطراح روايته وعدم الاعتبار بها. وأيضاً إذا كان الراوي غير متهم، ولا مغفَّل، يُنظر في مدى حفظه للإسناد، وهل أخطأ فيه خطأ فاحشاً، يقدح في الاعتبار به، كأن يكون ـ مثلاً ـ دخل عليه حديث في حديث، أو إسناد في إسناد، فيظهر بذلك أن روايته تلك منكرة بهذا الإسناد الذي جاء به. وقد يكون أسقط من الإسناد كذاباً أو متروكاً كان فيه ـ إما غفلة، أو تدليساً ـ، فيظهر بذلك، أو الرواية راجعة إلى رواية كذاب أو متروك، فلا يعتبر بها. وقد ينقلب عليه راوٍ براوٍ آخر، وقد يكون راوي الحديث كذاباً أو متروكاً، فينقلب عليه بثقة، إما لاشتباه الأسماء، أو بسبب تصحيف، أو غير ذلك، فيظهر أن صواب الرواية أنها من رواية ذاك الكذاب أو المتروك، وليس من رواية الثقة، فتسقط عن حد الاعتبار. وقد يكون أصل الحديث معروفاً مشهوراً؛ إلا أن هذا الراوي زاد في المتن زيادة منكرة ليست هي من الحديث، فهذه الزيادة بخصوصها لا يعتبر

بها؛ لأنها منكرة، ليس لذكرها في الحديث أصل يرجع إليه. المهم؛ أن يُولي الباحث الرواية حقها من البحث الذاتي قبل الاعتبار بغيرها، مكتفياً بحال الراوي فحسب. فإن التقوية ليست للراوي، بل لروايته، فقد يكون الراوي ضَعْفُهُ هين، ولكن روايته تلك راوية منكرة، ثبت خطؤه في إسنادها أو متنها، فالرواية ساقطة عن حد الاعتبار، ولا ينفعها حينئذ حال راويها. كما أن الثقة إذا ثبت خطؤه في رواية بعينها، كانت روايته تلك شاذة، ساقطة عن حد الاعتبار، ولا ينفعها ثقة راويها. مثال آخر: حديث: مروان بن عثمان، عن عمارة بن عامر، عن أم الطفيل ـ امرأة أُبي بن كعب ـ أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر أنه، رأى ربه في المنام في صورة شاب مُوَفِّر، رجلاه في حضر، عليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب " (¬1) ! فهذا حديث؛ باطل منكر، لا يشك من اشتم رائحة العلم في ذلك. وقد أنكره جماعة من أهل العلم: فقد سُئل عنه الإمام أحمد (¬2) ، فحول وجهه عن السائل، ثم قال: ¬

_ (¬1) والله! لولا الرغبة في نفي الكذب عن رسول الله، وفي الباطل عنه، وتحذير إخوتي من التساهل المفضي إلى قبول مثل هذا الباطل ما كتبت هذا بيدي، والله! إن يدي لتقشعر، وإن شعري ليقف، وأنا أكتبه، فأستغفر الله العظيم (¬2) كما في " المنتخب من علل الخلال " (183) بتحقيقي.

" هذا منكر؛ مروان بن عثمان هذا رجل مجهول، وعمارة بن عامر هذا الذي روى عنه مروان لا يعرف " وقال النسائي: " ومن مروان بن عثمان حتى يصدق على الله عز وجل؟! ". وقال عبد الخالق بن منصور (¬1) : " رأيت يحيى بن معين كأنه يهجن نعيم بن حماد في حديث أم الطفيل حديث الرؤية ـ يعني: هذا الحديث ـ، ويقول: ما كان ينبغي له أن يحدث بمثل هذا الحديث ". قلت: يعني ـ والله أعلم ـ: أنه ما كان لنعيم ـ وهو من أهل السنة ـ أن يحدث بهذا الحديث المنكر، الذي تشتم منه رائحة التجسيم. وقال ابن حبان في ترجمة عمارة بن عامر من " الثقات " (¬2) : " يروي عن أم الطفيل ـ امرأة أُبي بن كعب ـ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال " رأيت ربي " ـ حديثاً منكراً، لم يسمع عمارة من أم الطفيل؛ وإنما ذكرته لكي لا يغتر الناظر فيه، فيحتج به من حديث أهل مصر ". وقال الحافظ ابن حجر (¬3) : " وهو متن منكر ". وقد أخرجه: ابن أبي عاصم في " السنة " (471) بإسناده مختصراً، ¬

_ (¬1) " تاريخ بغداد " (13/311) و " العلل التناهية " (1/29 - 30) . (¬2) " الثقات " (5/245) . (¬3) في " التهذيب " (10/95) .

فحذف القدر المنكر منه، واكتفى بقوله: " رأيت ربي في المنام في أحسن صورة "، وقال " وذكر كلاماً ". فلم يَتَنَبَّه بعض أفاضل أهل العلم لنكارة متنه، فاعتبره صحيحاً بالأحاديث التي قبله، والتي فيها: " رأيت ربي في أحسن صورة ". وهذا؛ من عيب الاختصار من جهة، ومن جهة أخرى من عيب تقوية الرواية بغيرها من الشواهد التي توافقها في المعنى، قبل النظر في حال الرواية بذاتها، واستفراغ البحث في نقدها بخصوصها، وهل هي منكرة، أم محتملة، لأنه إذا ثبت أنها منكرة، وأن الراوي أخطأ في المتن، فأتى به بلفظ منكر، فما المانع من أن يكون قد أخطأ في السند أيضاً، وأتى به على غير وجهه، وهو قد تفرد بالإسناد والمتن معاً. ومعلوم؛ أن الخطأ في الأسانيد أكثر من الخطأ في المتون، فإن الأسانيد كثيرة ومتشعبة، بخلاف المتون، ولذا تجد الرواة كثيراً ما يتفقون على المتن، وإن اختلفوا في إسناده، بل كثيراً ما يجيء الضعفاء بأسانيد متعددة لمتن واحد، فيتفقون في المتن، وإن تفرد كل منهم بإسناد له. فما ثبت في متنه نكارة، لا ينفع إسناده في باب الشواهد، إذا كان راويه قد تفرد بالإسناد والمتن معاً. وبالله التوفيق. مثال آخر: حديث: عبد الله بن بُديل، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، أن

عمر ـ رضي الله عنه ـ جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية في ليلة أو يوماً عند الكعبة، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " اعتكف وصم ". أخرجه: أبو داود (2474) (2475) والنسائي في " الكبرى " (¬1) والدارقطني (2/200) والحاكم (1/439) . ورواه مرة، فقال: عن ابن عمر، عن عمر، أنه نذر ـ الحديث. أخرجه ابن عدي (4/1529) والبزار (142) والبيهقي (4/316) . فهذا الحديث؛ قد أنكره جماعة من أهل العلم على عبد الله بن بديل هذا؛ فقد تفرد به عن ابن دينار، ولم يتابعه عليه أحد من أصحابه، ثم إنه قد اضطرب في إسناده، فتارة يرويه فيجعله من مسند ابن عمر، وتارة يجعله من رواية ابن عمر عن عمر، وهو رجل ضعيف لا يعتمد عليه؛ لاسيما إذا تفرد عن مثل ابن دينار، على كثرة أصحابه العارفين بحديثه؛ فكيف إذا اضطرب أيضاً؟ ‍‍! قال الدارقطني: " تفرد به ابن بديل عن عمرو، وهو ضعيف الحديث ". قال: " وسمعت أبا بكر النيسابوي يقول: هذا حديث منكر؛ لأن الثقات من أصحاب عمرو بن دينار لم يذكروه، منهم: ابن جريج، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وغيرهم؛ وابن بديل ضعيف الحديث ". ¬

_ (¬1) كما في " تحفة الأشراف " (6/18 - 19/7354) .

وذكر البيهقي قولهما؛ معتمداً عليه، مقراً له. وذكره الدارقطني في " العلل " (¬1) ، وقال: " يرويه عبد الله بن بديل، وكان ضعيفاً، ولم يتابع عليه، ولا يُعرف هذا الحديث عن أحد من أصحاب عمرو بن دينار. ورواه نافع، عن ابن عمر، فلم يذكر فيه " الصيام " وهو أصح من قول ابن بديل عن عمرو " وعده ابن عدي من مناكير ابن بديل في ترجمته من " الكامل "، ثم قال: " لا أعلم ذُكِر في الإسناد ذِكْرُ " الصوم " مع الاعتكاف، إلا من رواية عبد الله بن بديل، عن عمرو بن دينار ". ثم قال في آخر الترجمة: " وعبد الله بن بديل، له غير ما ذكرت مما ينكر عليه، من الزيادة في مت أو إسناد، ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً فأذكره ". قلت: كونه لم ير للمتقدمين فيه كلاماً، ومع ذلك أدخله في الضعفاء، مستدلاً على ضعفه بما يرويه من المناكير، مثل هذا الحديث وغيره، يدل على أن هذه الأحاديث التي أنكرها عليه ـ ومنها هذا الحديث ـ عند ابن عدي في غاية النكارة؛ حيث إنه لم يضعفها فحسب، بل استدل بها على ضعف راويها المتفرد بها، والذي لا يعلم للمتقدمين فيه كلاماً. فهذا هو شأن هذا الحديث عند نقاد الحديث، أنه حديث منكر، أخطأ فيه ¬

_ (¬1) 2/26 - 27) .

عبد الله بن بديل المتفرد به عن ابن دينار، أو على الأقل أخطأ في ذكر " الصوم "، والصواب أن هذه الزيادة غير محفوظة، وأنها ليست في الحديث. فجاء بعض إخواننا من المشتغلين بالحديث (¬1) ، فحكم على هذه الرواية بمقتضى حال راويها فحسب، فذهب إلى أنها صالحة للاعتضاد، على أساس أن عبد الله بن بديل ليس متهماً بكذب أو فسق، وغفل عن أن روايته تلك منكرة، وأن الأئمة أنكروها عليه، بصرف النظر عن راويها، والمنكر أبداً منكر. ثم إنه جاء لها برواية أخرى كشاهد، وهذه الرواية الأخرى منكرة أيضاً، وذِكر "الصوم" الوارد فيها خطأ من راويها، وقد أنكره عليه أهل العلم أيضاً، هذا فضلاً عن كون هذا الشاهد قاصراً عن الشهادة، كما سيأتي. وهذا الشاهد؛ هو: ما رواه: سعيد بن بشير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر نذر أن يعتكف في الشرك ويصوم، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد إسلامه، فقال: "أوف بنذرك". أخرجه: الدارقطني (2/201) ، ثم قال: "وهذا إسناد حسن؛ تفرد بهذا اللفظ سعيد بن بشير، عن عبيد الله". وسعيد بن بشير؛ ضعيف معروف بالضعف، وتفرده بهذا الحديث ¬

_ (¬1) في " الإنصاف في أحكام الاعتكاف " (ص 18) ..

عن عبيد الله بن عمر على كثرة أصحابه العارفين بحديثه مما يُعد منكراً عند أهل العلم (¬1) ؛ لاسيِّما وأنه قد رواه غيره من أصحاب عبيد الله بن عمر الثقات، بدون ذِكر "الصوم" في الحديث، وهذا أكبر دليل على أن ذِكر "الصوم" منكر في هذا الحديث، وسيأتي تفصيل ذلك، وكلام أهل العلم في إنكار هذه الزيادة عليه في الحديث. وقبل ذلك، ينبغي أن نقف قليلاً عند قول الإمام الدارقطني: "هذا إسناد حسن ... ". فقد فهم منه أخونا الفاضل المعنى المتبادر، والمقرر عند العلماء المتأخرين من هذا المصطلح " الحسن "، ففهم أن الإمام الدارقطني يثبت الحديث بمقتضى هذا، ثم ذهب في موضع آخر (¬2) إلى أن تحسين الإمام الدارقطني هذا الحديث لسعيد بن بشير مما يرفع من حاله، وينفعه في التوثيق. وفي كل هذا نظر ‍! ! فأولاً: لو سلمنا بأن الإمام الدارقطني قصد " الحسن " بمعناه عن المتأخرين لما كان تحسينه لهذا الحديث مما ينفع سعيد بن بشير، ويرفعه فوق المكانة التي أنزله عليها الأئمة، وهو أنه ضعيف الحفظ، لا يحتج بما ¬

_ (¬1) وهذا؛ ما أشار إليه الإمام مسلم في "مقدمة الصحيح" (1/5-6) وانظر: "لسان الميزان" (2/402-403) ، وما سيأتي في المثال الأول من "فصل: الشواهد.. وتصحيف المتن". (¬2) في كتابه " قرة العينين.. " (ص 37) .

تفرد به؛ وذلك لأمرين: الأول: أن الدارقطني قد صرح في موضوع آخر من " سننه " بحال سعيد ابن بشير عنده، فقال (¬1) : " سعيد بن بشير.. ليس بقوي في الحديث ". وهذا القول؛ يقتضي ضعف سعيد بن بشير عنده، وهذا يتنافى مع تحسين ما تفرد به. الثاني: أن تحسين الناقد للحديث أو تصحيحه له، لا يكفي بفرده للدلالة على أن الراوي المتفرد بد صدوق في الحفظ، أو ثقة فيه، عند هذا الناقد. فقد يكون لكل حديث من حديث هذا الراوي حكم يخصه، فيطلع فيه الناقد على ما يفهم منه حفظ الراوي له، ويثير ظناً خاصاً في حسن ذلك الحديث أو صحته، فيحسنه الناقد أو يصححه اعتماداً على ما احتفَّ به من القرائن، لا عن مجرد صدق الراوي أو ثقته. وكذلك؛ فقد يُضَعَّف الناقد حديثاً تفرد بروايته بعض الثقات، فتضعيف هذا الناقد لهذا الحديث، لا يكفي بمفرده للدلالة على ضعف ذاك المتفرد به عند هذا الناقد، فقد يكون ثقة عنده، بل قد ينص هو على ذلك، لكنه يرى ـ لضميمة ـ أن هذه الرواية ضعيفة، قد أخطأ فيها هذا الراوي الثقة. وقد صرح أخونا الفاضل في بعض ما كتب بمثل هذا: ¬

_ (¬1) " سنن الدارقطني " (1/135) .

فقد قال في توجيه صنيع الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ، حيث اعتبر عنعنة بعض المدلسين، فأعل بها بعض الأحاديث، ومشَّاها في حديث آخر، ولم يجعلها علة تقدح فيه، فقال في غضون كلامه (¬1) . " إن هذه أمور تنقدح في قلب الناقد حسب مرجحات تقوم عنده، فلا يلزم أن يكون هذا الشيء موجوداً عنده في كل حديث ". ثانياً: أن لفظ " الحسن " هاهنا، لم يُرِد به الإمام الدارقطني المعنى المتبادر والمتقرر لهذا المصطلح لدى العلماء المتأخرين، والذي يقتضي ثبوت الحديث، وصدق الراوي المتفرد به في الحفظ. وإنما أراد به أحد معنيين، لا ثالث لهما، من المعاني التي يعنيها العلماء المتقدمون عند إطلاق هذا اللفظ، وكلاهما لا يدل على ثبوت الحديث، ولا على صدق الراوي، عند من أرادهما أو أحدهما (¬2) . والمعنى الأول: الحسن المعنوي. أي: أن المعنى الذي تضمنته رواية سعيد بن بشير معنى حسن ¬

_ (¬1) " كشف المعلم ... " (ص 97) . (¬2) ليس معنى هذا أن المتقدمين لا يطلقون هذا المصطلح على المعنى المتقرر عند المتأخرين، أي:الحسن لذاته والحسن لغيره، وإنما أعني أن هناك معاني أخرى أرادها المتقدمون من إطلاق هذا المصطلح أحياناً، ولم يجر عليها عرف المتأخرين أو أكثرهم. وقد ذكرت في كتابي " لغة المحدث " (ص 54 - 58) أمثلة على إطلاق المتقدمين " الحسن " على الصحيح، وعلى الحسن الذاتي، وأيضاً على الحسن لغيره، والإمام الترمذي ـ وهو متقدم ـ من أكثر الذين أطلقوا " الحسن " على إرادة " الحسن لغيره " كما هو معلوم.

مقبول؛ صحت الرواية به، أو لم تصح. ولعل ما يُقوي هذا: أن الدارقطني نفسه قد تعرض لرواية سعيد بن بشير هذه في " العلل " (¬1) ، فقال: " إن كان سعيد بن بشير ضبط هذا، فهو صحيح، إذا كان في عقد نذره الصوم مع الاعتكاف ". وقول الدارقطني هذا؛ لا يدل على صحة رواية سعيد بن بشير عنده؛ لأنه قال: " إن كان ضبط هذا فهو صحيح "؛ فقد علق صحته على شرط، فإن لم يحصل الشرط لم يحصل ما عُلِّق عليه، وسيأتي أنه قد خالفه أصحاب عبيد الله بن عمر في ذكر " الصوم " في الحديث، فهذا يدل على أنه لم يضبط حديثه هذا، فليس هو بصحيح. وإنما غاية ما يدل عليه كلام الدارقطني: أن هذا المعنى صحيح؛ ولكن ليس على سبيل اشتراط الصوم للاعتكاف، بل على من جمع في عقد نذره الصوم مع الاعتكاف. ورواية سعيد تساعد على هذا المعنى؛ لأنها ليس فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالصوم، كما جاء في رواية عبد الله بن بديل، وإنما في رواية سعيد أنه ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نذر أن يعتكف ويصوم، فقد جمع في عقد نذره الصوم مع الاعتكاف، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوفي بنذره؛ أي: على الصفة التي عقد نذره عليها (¬2) . ¬

_ (¬1) 2/27) . (¬2) سيأتي ما يؤكد أن الدراقطني ضعف هذه الزيادة في رواية سعيد أيضاً.

وبهذا ينجلي لك؛ أن حديث سعيد بن بشير هذا لا يصلح كشاهد لحديث عبد الله بن بديل، لأنه قاصر عنه، فحديث ابن بديل فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترط للمعتكف الصوم، بينما حديث سعيد بن بشير ليس فيه اشتراط الصوم؛ كما علمت. المعنى الثاني: الحسن بمعنى الغريب والمنكر. وبيان ذلك: أن هذا الحديث الذي حسن إسناده الدارقطني لسعيد بن بشير، قد اشتمل على زيادة استغربها أهل العلم، واستنكروها على سعيد بن بشير، وهي زيادة ذكر " الصوم " مع الاعتكاف. وقد أشار إلى ذلك الدارقطني، بقوله: " ... تفرد بهذا اللفظ سعيد بن بشير.. " وقال البيهقي (¬1) : " ذكر نذر الصوم مع الاعتكاف غريب؛ تفرد به سعيد بن بشير عن عبيد الله ". وكذا؛ أنكره عبد الحق الإشبيلي (¬2) . وضعف ابن الجوزي في " التحقيق " هذا الحديث من أجله. يعني: ضعف زيادة ذكر " الصوم " من أجل تفرد سعيد بن بشير بها. ¬

_ (¬1) " السنن الكبرى " (4/317) . (¬2) " التلخيص الحبير " (2/232) .

قلت: وقد رواه أصحاب عبيد الله بن عمر، بدون هذه الزيادة؛ منهم: شعبة، ويحيى القطان، وأبو أسامة، وابن المبارك، وعبد الوهاب الثقفي، وحفص بن غياث، وعبدة بن سليمان. أخرجه: البخاري (2042) (2043) (6697) ومسلم (5/88 - 89) والنسائي (7/22) وابن ماجه (2129) وأحمد (2/20 - 82) وابن خزيمة (2239) وابن حبان (4379) (4380) والدارمي (2/183) وغيرهم. وكذلك؛ رواه أيوب، عن نافع؛ بدونها. أخرجه: أحمد (2/10) والحميدي (691) والنسائي (7/21) . وهذا كله؛ يدل على نكارة هذه الزيادة، عن عبيد الله، وأيضاً عن نافع، وعلى خطأ سعيد بن بشير حيث زادها في الحديث. فإن قيل: أليس من الممكن أن يكون تحسين الدارقطني لحديث سعيد؛ لِما انضم إليه من رواية ابن بديل، فيكون ذكر " الصوم " " حسناً " عند بانضمام الطريقين؟ قلت: لو صح هذا؛ لكان أدل على أن سعيد بن بشير عند ليس صدوقاً في الحفظ؛ لأن الصدوق لا يحتاج إلى انضمام شيء إليه ليحسن حديثه. ومع هذا؛ فهذا الحمل أبعد ما يكون؛ لأن الدارقطني وغيره ممن ذكرنا قد أنكروا رواية ابن بديل، فلا معنى بعد ذلك لتقويتها برواية سعيد؛ لأن المنكر أبداً منكر.

وأيضاً؛ فإن رواية سعيد قد أنكروها عليه، بل إن مخالفته لأصحاب عبيد الله، ثم لأصحاب نافع، لهو أدل دليل على نكارة روايته، والمنكر لا يتقوى بالمنكر، بل لا يتقوى أبداً. هذا؛ فضلاً عن أن رواية سعيد قاصرة عن الشهادة لرواية ابن بديل ـ كما سبق ـ فهي إن لم تخالفها، لا توافقها. وقد أشار الدارقطني نفسه إلى إعلال روايتي ابن بديل وسعيد بن بشير، بالرواية المحفوظة والتي لم يذكر فيها " الصوم ". فقد تقدم؛ أن الإمام الدارقطني أعل رواية ابن بديل عن عمرو بن دينار بقوله: " ورواه نافع عن ابن عمر، فلم يذكر فيه " الصيام "؛ وهو أصح من قول ابن بديل عن عمرو " وحديث " نافع عن ابن عمر "، هو أصل حديث سعيد بن بشير هذا؛ لكن من رواية الثقات، كما سبق. فإذا كان الدارقطني يستدل برواية " نافع عن ابن عمر " والتي ليس فيها ذكر " الصوم "، على إعلال رواية " ابن بديل عن عمرو بن دينار "، فهي أدل على إعلال رواية سعيد بن بشير، والتي زاد فيها ذكر " الصيام ". لأن الرواية إذا استُدل بها على خطأ لفظة وردت في رواية أخرى، فمن باب أولى أن يُستدل بها على خطأ هذه اللفظة إذا زادها راوٍ في الرواية نفسها؛ وهذا واضح. والحاصل: أن تحسين الإمام الدارقطني لحديث سعيد بن بشير

، ليس من باب التحسين المصطلح عليه، والذي جرى عليه عرف الأئمة المتأخرين، والذي يقتضي أن الراوي المتفرد بالحديث صدوق الحفظ، وأن الحديث حجة وثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وإنما هو تحسين جارٍ على اصطلاح العلماء المتقدمين، حيث يطلقون " الحسن " أحياناً ويريدون به الحسن المعنوي، وأحياناً أخرى يريدون به الغرابة والنكارة. وكلا المعنيين لا يدل على ثبوت الحديث الذي وصفوه بهذا الوصف " الحسن "، ولا على صدق الراوي الذي تفرد به في حفظه وضبطه. هذا؛ ولنذكر أمثلة من كلام الأئمة، لما أطلقوا فيه لفظ " الحسن " على إرادة الحسن المعنوي، أو إرادة الغريب والمنكر. ولنبدأ بذكر أمثلة عن الأئمة عامة، ثم نردفها بأمثلة عن الإمام الدارقطني خاصة. فمن ذلك: أن الخطيب البغدادي روى في كتابه " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " (¬1) عن إبراهيم بن يزيد النخعي، أنه قال: " كانوا يكرهون إذا اجتمعوا، أن يخرج الرجل أحسن حديثه، أو أحسن ما عنده ". قال الخطيب: " عنى إبراهيم بالأحسن: الغريب؛ لأن الغريب غير المألوف يُستحسن أكثر من المشهور المعروف، وأصحاب الحديث يُعبِّرون عن المناكير ¬

_ (¬1) " الجامع " (2/101) .

بهذه العبارة ". ثم روى بإسناده إلى أمية بن خالد، قال: قيل لشعبة: ما لك لا تروى عن عبد الملك بن أبي سليمان ـ يعني: العرْزمي ـ وهو حسن الحديث؟ فقال: من حُسْنِها فررت! وكذا؛ صنع ابن السمعاني في كتابه " أدب الإملاء والاستملاء ". (ص 59) ، ذكر ما ذكره الخطيب، وقال كما قال. ومما يؤكد صحة تفسير الخطيب البغدادي للفظ " الحسن " في كلمة النخعي هذه بـ " الغريب " و " المنكر"؛ أمران: الأول: أن الإمام أبا داود ذكر كلمة النخعي هذه في " رسالته إلى أهل مكة " (¬1) ، بلفظ: " كانوا يكرهون الغريب من الحديث ". ورواه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " (ص 125 - 126) ؛ بلفظ: " كانوا يكرهون غريب الكلام، وغريب الحديث ". فإن كان اللفظان من قول النخعي، فهذا خير ما يُفَسَرُ به؛ وإن كان لفظ " الغريب " من تصرف بعض الرواة عنه، فهذا يدل على أن إطلاق " الحسن " على " الغريب " كان معروفاً؛ وإن كان من تصرف أبي داود نفسه، فهذا تفسير من أبي داود " للحسن " بأنه مرادف " للغريب " وحسبك به. ¬

_ (¬1) ص 29) .

الثاني: أن الرامهرمزي ذكرها في " المحدث الفاصل " (¬1) في " باب: من كره أن يروي أحسن ما عنده "، مع ما نصوص أخرى عن أهل العلم في ذم الغرائب والمناكير. هذا؛ فضلاً عن دلالة السياق؛ فإن " الحسن " الاصطلاحي لا يكره أحد روايته ولا التحديث به، بينما هذا شأنهم مع المنكر. ومن ذلك: ما ذكره الرامهرمزي في هذا الباب أيضاً: عن عبد الله بن داود ـ هو: الخُرَيْبي ـ، قال: قلت لسفيان: يا أبا عبد الله ‍‍‍! حديث مجوس هجر؟ قال: فنظر إليّ، ثم أعرض عني. فقلت: يا أبا عبد الله ‍! حديث مجوس هجر؟ قال: فنظر إليّ، ثم أعرض عني. ثم سألته، فقال له رجل جنبه؛ فحدثني به. وكان إذا كان الحديث " حسناً: لم يكد يحدث به. و" الحسن " هاهنا بمعني " منكر "؛ كما هو واضح. ولعل هذا الحديث هو ما سأله عنه يحيى القطان: وذلك؛ فيما قال يحيى القطان: سألت سفيان عن حديث حماد، عن إبراهيم في الرجل يتزوج المجوسية، فجعل لا يحدثني به، مَطَلَني به ¬

_ (¬1) ص 561 - 562) .

أياماً، ثم قال: إنما حدثني به جابر ـ يعين: الجعفي ـ، عن حماد؛ ما ترجو به؟ ‍! أخرجه: ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص 69) والعقيلي (1/195) . والله أعلم. ومن ذلك: روى: ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " (ص 94 - 95) حديث معاذ ـ مرفوعاً ـ: " تعلموا العلم؛ فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة ... " ـ الحديث. ثم قال ابن عبد البر: " حديث حسن جداً ‍! ولكن ليس له إسناد قوي " ‍! ‍! قال العراقي في " التقييد والإيضاح " (¬1) : " أراد بـ " الحسن " حسن اللفظ قطعاً؛ فإنه من رواية موسى بن محمد البلقاوي عن عبد الرحيم بن زيد العمي. والبلقاوي هذا كذاب؛ كذبه أبو زرعة وأبو حاتم، ونسبه ابن حبان والعقيلي إلى وضع الحديث؛ والظاهر أن هذا الحديث مما صنعت يداه. وعبد الرحيم بن زيد العمي متروك الحديث أيضاً " وساق في " التمهيد " (¬2) حديثاً منكراً: ¬

_ (¬1) " التقييد " (ص 60) . (¬2) 6/54 - 55) .

يرويه: بعض الضعفاء، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر ـ مرفوعاً ـ: " من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله الحق المبين ... " الحديث. ثم قال: " وهذا لا يرويه عن مالك من يوثق به، ولا هو معروف من حديث، وهو حديث حسن، ترجى بركته، إن شاء الله تعالى " ‍! ومن ذلك: ذكر الذهبي في ترجمة عباس الدوري من " السير " (¬1) ، عن الأصم، أنه قال فيه: " لم أر في مشايخي أحسن حديثاً منه ". ثم قال الذهبي: " يُحتمل أنه أراد بـ " حُسن الحديث ": الإتقان، أو أنه يتبع المتون المليحة، فيرويها، أو أنه أراد علو الإسناد، أو نظافة الإسناد، وتركه رواية الشاذ والمنكر، والمنسوخ، ونحو ذلك؛ فهذه أمور تقتضي للمحدث إذا لازمها أن يقال: ما أحسن حديثه ". وساق الذهبي في " السير " (¬2) حديثاً: يرويه: أبو صالح ذكوان، عن صهيب مولى العباس ¬

_ (¬1) 12/523) . وانظر أيضاً: (9/569) منه. (¬2) " السير " (2/94) .

، ثم قال الذهبي: " إسناده حسن، وصهيب لا أعرفه " ‍! ومن ذلك: ذكر الإمام علي بن المديني في " العلل " (¬1) حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إني ممسك بحُجزكم من النار ". وهو من رواية: يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال ابن المديني: " هذا حديث حسن الإسناد؛ وحفص بن حميد مجهول، لا أعلم أحداً روى عنه إلا يعقوب القمي، ولم نجد هذا الحديث عن عمر إلا من هذا الطريق؛ وإنما يرويه أهل الحجاز من حديث أبي هريرة ". قلت: ومقتضى هذا؛ أن الحديث منكر عنده من هذا الوجه، وبهذا يظهر معنى قوله: " حسن الإسناد ". وقد قال يعقوب بن شيبة مثل قول ابن المديني في " مسند عمر بن الخطاب " (¬2) ؛ فانظره. ومن ذلك: قال الفضل بن موسى (¬3) : قال عبد الله بن المبارك: اخرج إلى هذا ¬

_ (¬1) ص 94) . (¬2) ص 82 - 83) . (¬3) " الضعفاء " للعقيلي (4/84) و " تهذيب الكمال " (25/361) ..

الشيخ، فائتني بحديثه ـ يعني: محمد بن شجاع ـ، قال: فذهبت أنا وأبو تُمَيلة، فأتيته بحديثه، فنظر ابن المبارك في حديث، فقال:لا إله إلا الله! ما أحسن حديثه!! أي ما أنكرها، وأبعدها عن الصحة. ويدل على ذلك أمور: الأول: أن نعيم بن حماد حكى هذه القصة، وذكر أن ابن المبارك أنكر أحاديثه، وضعفه من أجلها. قال نعيم بن حماد (¬1) : محمد بن شجاع؛ ضعيف، أخذ ابن المبارك كتبه، وأراد أن يسمع منه، فرأى منكرات، فلم يسمع منه. الثاني: أن ابن المبارك، قد صرح في رواية أخرى بضعف محمد بن شجاع هذا، بل بضعفه جداً؛ فقال: " محمد بن شجاع؛ ليس بشيء، ولا يعرف الحديث ". الثالث: أن غيره من الأئمة قد ضعفوه جداً. قال البخاري وأبو حاتم: " سكتوا عنه ". وقال أبو علي محمد بن علي بن حمزة: " ضعيف الحديث، وقد تركوه ". ومن ذلك: روى النسائي في " السنن "، عن أبي بكر بن خلاد، عن ¬

_ (¬1) " السنن " (4/142) .

محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ـ مرفوعاً ـ: " تسحروا؛ فإن في السحور بركة ". ثم قال النسائي: " حديث يحيى بن سعيد هذا؛ إسناده حسن، وهو منكر، أخاف أن يكون الغلط من محمد بن فضيل ". و" الحسن " هنا بمعنى الغريب؛ لأن " الحسن " الاصطلاحي لا يجامع " المنكر " ولا " الغلط ". ولا يقال: لعل الإمام النسائي إنما يصف الإسناد بالحسن، والمتن بالنكارة وأن الضمير في قوله: " هو " عائد إلى المتن، وكما هو معلوم لا تلازم بين الحكم على الإسناد والحكم على المتن. لا يقال ذلك؛ لأن هذه الأوصاف الثلاث " الحسن " و " المنكر " و" الغلط "، إنما أطلقها النسائي على إسناد هذا الحديث دون متنه؛ فإن هذا المتن صحيح ثابت، وقد أخرجه البخاري ومسلم (¬1) من غير هذا الوجه عن رسول الله ‍ - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك؛ أخرجه النسائي في أول الباب من هذا الوجه الصحيح؛ ويُستبعد على مثل الإمام النسائي أن يخفى عليه صحة هذا المتن؛ لاسيما مع قوله: " أخاف أن يكون الغلط من محمد بن فضيل "؛ فإن ابن فضيل لم يتفرد بالمتن، وإنما تفرد بهذا الإسناد فقط؛ فالإمام النسائي إنما ينكر رواية هذا المتن بهذا الإسناد، ويرى أن ابن فضيل أخطأ ¬

_ (¬1) البخاري (4/139) ، ومسلم (3/130) من حديث أنس.

في إسناده، دخل عليه إسناد حديث في إسناد حديث آخر. والله أعلم. ومن ذلك: ذكر ابن عدي " سلام بن سليمان المدائني " في " الكامل " (¬1) ، وقال " هو عندي منكر الحديث " ثم ذكر له أحاديث كثيرة، وختم الترجمة بقوله: " ولسلام غير ما ذكرت، وعامة ما يرويه حِسان، إلا أنه لا يتابع عليه ". وأدخل أيضاً في " الكامل ": " الضحاك بن حمرة "، ونقل عن غير واحد من أهل العلم تضعيفه، ثم ساق له عدة أحاديث مما أنكر عليه، ثم قال في آخر الترجمة (¬2) : " وله غير ما ذكرت من الحديث، وليس بالكثير، وأحاديثه حسان غرائب ". ومن ذلك: قال البرذعي (¬3) : " قال لي أبو زرعة: خالد بن يزيد المصري وسعيد بن أبي هلال صدوقان؛ وربما في قلبي من حسن حديثهما". ¬

_ (¬1) " الكامل " (3/1156) . وانظر أيضاً (3/1155) و (5/1696) منه (¬2) " الكامل " (4/1418) . (¬3) 2/361) .

يعني: لكونها غرائب؛ لأن الغرائب هي التي يُخشى من الخطأ فيها، بخلاف الأحاديث المشاهير المتابع عليها. وحكى البرذعي (¬1) أيضاً عن أبي زرعة، أنه قال: " زياد البكائي، يهم كثيراً، وهو حسن الحديث ". ومن يهم كثيراً، فهو ضعيف. وقال أبو حاتم الرازي (¬2) : " أبو إسرائيل المُلائي، حسن الحديث، جيد اللقاء، له أغاليط، لا يحتج بحديثه، ويُكتب حديثه، وهو سيء الحفظ ". ومن ذلك: روى الخليلي في الإرشاد (¬3) : عن محمد بن موسى الباشاني، عن الفضل بن خالد أبي معاذ، عن نوح بن أبي مريم، عن داود بن أبي هند، عن النعمان بن سالم، عن يعقوب بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو ـ مرفوعاً ـ: "يخرج الدجال في آخر الزمان، فيلبث أربعين ... " ـ الحديث. ثم قال الخليلي: "لم يروه عن داود إلا نوح ـ وإن كان ضعيفاً (¬4) ـ، والحديث غريب جداً، حسن، لم يروه غير الباشاني". ¬

_ (¬1) 2/368) . (¬2) " الجرح والتعديل " (1/1/166) . (¬3) 3/912 - 913) . (¬4) بل؛ هو كذاب معروف.

وهذه أمثلة عن الإمام الدارقطني: فمن ذلك: أخرج في " السنن " (¬1) : حديث: الوليد بن مسلم: أخبرني ابن لهيعة: أخبرني جعفر بن ربيعة، عن يعقوب بن الأشج، عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ في التشهد ـ: " التحيات لله، والصلوات الطيبات المباركات لله ". ثم قال: " هذا إسناد حسن، وابن لهيعة ليس بالقوي ". وقوله: " إسناد حسن " بمعنى: غريب منكر. ويدل على ذلك: أنه أخرجه في كتاب " الغرائب والأفراد " (¬2) ، وقال: " غريب من حديث عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن حديث ابن عباس عنه، ولم يروه غير جعفر بن ربيعة عن يعقوب بن الأشج، ولا نعلم أحداً رواه غير الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة، وتابعه عبد الله بن يوسف التَّنَّيسي". يعني: تابع الوليد؛ فالحديث مما تفرد به ابن لهيعة. وقال نحو هذا في " العلل " (¬3) ؛ وزاد: " ... ولا نعلم رفعه عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير ابن لهيعة، ¬

_ (¬1) 1/351) . (¬2) " أطراف الغرائب " لابن طاهر (32/1 - 2) . (¬3) 2/82- 83) .

والمحفوظ ما رواه عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أن عمر كان يعلِّم الناس التشهد ـ من قوله؛ غير مرفوع ". قلت: وهذا يدل على أن رواية ابن ليهعة عند شاذة أو منكرة؛ لتفرده برفع الحديث عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لمخالفته للمحفوظ عند الدارقطني، وهو وقف الحديث. ومن ذلك: أخرج الدارقطني في " السنن " (¬1) : عن عبد الله بن سالم: عن الزبيدي: حدثني الزهري، عن أبي سلمة وسعيد، عن أبي هريرة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته، وقال: " آمين ". ثم قال الدارقطني: " هذا إسناد حسن ". ولم يرد الدارقطني من قوله هذا تثبيت الحديث؛ بدليل أنه ذكر هذا الحديث في " العلل " (¬2) ، وذكر أوجه الخلاف فيه سنداً ومتناً، ثم قال: " والمحفوظ: من قول الزهري مرسلاً ". ومن ذلك: أخرج في " السنن " (¬3) : حديث: محمد بن عقيل بن خويلد، عن حفص بن عبد الله، عن ¬

_ (¬1) " السنن " (1/335) . (¬2) 8/84-92) . (¬3) " السنن " (1/48) .

إبراهيم بن طهمان، عن أيوب، عن ابن عمر ـ مرفوعاً ـ: " أيُما إهاب دُبغ فقد طهُر ". ثم قال الدراقطني: " إسناد حسن ". أي: غريب؛ بدليل: أن هذا الحديث ـ مع أحاديث أخرى ـ مما استنكروه على ابن خويلد هذا، وهو وإن كان من جملة الثقات، إلا أنه أخطأ في إسناد هذا الحديث. قال أبو أحمد الحاكم: " حدث عن حفص بن عبد الله بحديثين، لم يتابع عليهما، ويقال: دخل له حديث في حديث، وكان أحد الثقات النبلاء ". وقال ابن حبان في " الثقات " (¬1) : " ربما أخطأ؛ حدَّث بالعراق بمقدار عشرة أحاديث مقلوبة ". وذكره الذهبي في " الميزان " (¬2) ، وقال: " معروف، لا بأس به، إلا أنه تفرد بهذا ". ثم ذكر له هذا الحديث بعينه، وأتبعه بقول الدارقطني! هذا؛ وإنما يعرف هذا المتن من حديث عبد الرحمن بن وعلة، عن ابن عباس، وقد أخرجه مسلم (1/191) وغيره. ¬

_ (¬1) " الثقات " (9/139-147) . (¬2) 3/649-650) .

راجع: "غاية المرام " (28) للشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى. ومن ذلك: أخرج في " السنن " (¬1) : حديث: ابن أبي مسرة، عن يحيى بن محمد الجاري، عن زكريا ابن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر ـ مرفوعاً ـ: " من شرب في إناء من ذهب أو فضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم ". ثم قال: " إسناده حسن ". وقول الدارقطني هذا، لا يمكن حمله على " الحسن " الاصطلاحي؛ وإنما هذا بمعنى الغريب أو المنكر، على نحو ما يُعرف عن المتقدمين. وذلك لأمور: الأول: أن يحيى الجاري هذا؛ لا يرقى حديثه إلى رتبة الحسن، بل هو إلى الضعيف أقرب (¬2) . قال البخاري: " يتكلمون فيه ". وأدخله ابن حبان في " الثقات "، وقال " يُغْرب ". ثم أدخله في " المجروحين "، وقال: ¬

_ (¬1) 1/40) . (¬2) وانظر: " السلسلة الصحيحة " للشيخ الألباني (2/343) .

" كان ممن ينفرد بأشياء لا يتابع عليها، على قلة روايته، كأنه كان يَهِم كثيراً؛ فمن هنا وقع المناكير في روايته، يجب التكُّبُ عما انفرد من الروايات، وإن احتج به محتج فيما وافق الثقات، لم أر بذلك بأساً ". ووثقه العجلي، وقال ابن عدي: " ليس بحديثه بأس ". الثاني: أن زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، مجهول الحال، وكذا أبوه (¬1) . الثالث: أن زيادة " أو إناء فيه شيء من ذلك "، زيادة منكرة في هذا الحديث، وقد صرح بذلك، الإمام الذهبي، حيث أدخل الحديث في ترجمة يحيى الجاري من " الميزان "، ثم قال: " هذا حديث منكر، أخرجه الدارقطني، وزكريا ليس بالمشهور ". وجزم شيخ الإسلام ابن تيمية بضعف هذه الزيادة، فقال (¬2) : " إسناده ضعيف ". وإنما هذه الزيادة تصح عن ابن عمر، من فعله هو، وقد بين ذلك الحافظ البيهقي في " السنن الكبرى: و " الخلافيات ". وأشار إليه الحاكم في " معرفة علوم الحديث " (¬3) . ¬

_ (¬1) " فتح الباري " لابن حجر (10101) ، و " الجوهر النقي " (1/29) . (¬2) " مجموع الفتاوى " (21/85) . (¬3) " الكبرى " (1/29) ، و" الخلافيات " (1/274-278) و " المعرفة " (ص 131) . هذا؛ وقد استفدت كثيراً من مادة هذا الحديث، مما علقه أخونا مشهور حسن على " الخلافيات " فجزاه الله خيراً.

فالحاصل؛ أن إطلاق الدارقطني لفظ " الحسن " على هذا الحديث، ليس من باب الإطلاق الاصطلاحي، بل بمعنى الغريب والمنكر، كما سبق. وبالله التوفيق.

المتابعة.. وظن الرجل رجلين

المتابعة.. وظن الرجل رجلين المتابعة التي يعتد بها العلماء، ويقوون بها الرواية، هي المتابعة الحقيقية، وليس المتابعة الناتجة عن التخليط بين الرواة، من ظن الرجل رجلين، والواحد اثنين. كأن يكون الحديث حديث رجل واحد، هو المتفرد به، إلا أنه ذُكر مرة باسمه، ومرة بكنيته، فاشتبه ذلك: هل هو واحد، أم اثنان؟ فقد ينطلي ذلك على البعض، فيظن أنهما اثنان، فيجعل كلاً منهما متابعاً للآخر، والصواب أنه رجل واحد، ذُكر مرة باسمه، ومرة بكنيته، وأنه لا متابعة. مثال ذلك: قال ابن أبي حاتم (¬1) : " سألت أبي عن حديث؛ رواه: إسماعيل بن أبان الوراق، عن جعفر الأحمر، عن أبي خالد، عن أبي هاشم الرماني، عن زاذان، عن سلمان، أنه رعف، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أحدث وضوءاً ". فقال أبي: أبو خالد هذا؛ عمرو بن خالد، متروك الحديث، لا يُشتغل بهذا الحديث. قلت لأبي: فإن الرمادي حدثنا عن إسحاق بن منصور، عن هُريم، ¬

_ (¬1) في " العلل " (112) .

عن عمرو القرشي، عن أبي هاشم الرماني؛ هذا الحديث؟ فقال: هو عمرو بن خالد " اهـ. مثال آخر: حديث: يحيى بن عبدويه، عن قيس بن الربيع، عن السدي، عن زيد بن وهب، عن وابصة بن معبد، أن رجلاً صلى خلف الصف وحده، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا دخلت في الصف، أو جذبت رجلاً صلى معك! أعد الصلاة ". أجرجه: ابن الأعرابي في " معجمه " (¬1) . ويحيى بن عبدويه هذا، أثنى عليه أحمد، لكن كذبه ابن معين. لكن؛ روى هذا الحديث أبو الشيخ الأصبهاني في " طبقاته " (2/292) وعنه أبو نعيم في " أخبار أصبهان" (2/364) ، عن عقيل بن يحيى: حدثنا: الطائي ـ شيخ قدم علينا أيام أبي داود ـ: ثنا قيس، به. وقد أدخلا هذا الحديث في ترجمة " الطائي " هذا، ولم يسمياه. وهذا الطائي، هو نفسه يحيى بن عبدويه. فقد حكى أبو نعيم عقبة عن أبي الشيخ، أنه قال: " هذا الشيخ؛ أُراه يحيى بن عبدويه البغدادي؛ لأن هذا الحديث معروف به ". ¬

_ (¬1) كما ورد في " الإرواء " (2/326) .

قلت: فلا متابعة. ولذا؛ قال الشيخ الألباني (¬1) : " وأورداه في ترجمة الطائي هذا، فقد يُتوهم أنه متابع لابد عبدويه هذا، وليس كذلك، بل هو هو ". ثم نقل كلام أبي الشيخ، ثم قال: " وعلى هذا يدل صنيع الحافظ في " التلخيص " (2/37) ؛ فإنه عزا الحديث لأبي نعيم في ترجمة يحيى بن عبدويه، وهو إنما أورده في ترجمة الطائي ـ كما سبق ـ، ولكنه ختمها بقول ابن حبان ـ يعني: أبا الشيخ ـ هذا، فدل ذلك على أن الحافظ يرى ما أُريه أبو الشيخ، وهو الظاهر. والله أعلم ". مثال آخر: حديث: حكيم بن نافع الرقي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سجدتا السهو تجزيء في الصلاة من كل زيادة ونقصان ". أخرجه: أبو يعلى (8/68-140) والبزار (574- كشف) وابن عدي (2/639) والطبراني في " الأوسط " (5133) (7154) والخطيب في " تاريخ " (8/262) ، من طرق، عن حكيم بن نافع، به. وقال الطبراني: " لم يرو هذا الحديث عن هشام بن عروة، إلا حكيم بن نافع ". ¬

_ (¬1) في " الإرواء " (2/326-327) .

وقال ابن عدي: " لا أعلم رواه عن هشام بن عروة، غير حكيم بن نافع ". وحكيم هذا؛ ضعيف، وقد تفرد بهذا الحديث عن هشام بن عروة وهذا مما لا يُحْتَمَل، لأن هشام من المكثرين حديثاً وأصحاباً، فتفرد مثل هذا عنه مما يُعد منكراً؛ ولهذا عده ابن عدي من مناكيره في ترجمته. لكن؛ جاءت له متابعة. فقد رواه: علي بن محمد الحنظلي المنجوري، عن أبي جعفر الرازي، عن هشام بن عروة، به. أخرجه: الخطيب في " تاريخ " (10/80) . والمنجوري هذا؛ فيه ضعف؛ فهذه متابعة لا تصح. لكن؛ قال ابن عدي: " ورُوي عن أبي جعفر الرازي، عن هشان بن عروة؛ ويقال: إن " أبا جعفر " هو كنية " حكيم بن نافع " فكأن الحديث رجع إلى أنه لم يروه عن هشام غير حكيم ". قلت: فإن صح هذا، فلا متابعة، بل هو راوٍ واحد، ذُكر مرة باسمه، ومرة بكنيته؛ لاسيما وأنهم لم يذكروا هشام بن عروة في شيوخ أبي جعفر الرازي، واسمه: عيسى بن ماهان. فمن قوى الحديث بمجموع الروايتين، مع وجود هذا الاحتمال، فقد أبعد النُّجعة جداً. لاسيما؛ وأن رواية أبي جعفر الرازي ـ إن صح أنه غيره؛ أي: أنه

عيسى بن ماهان ـ لم تصح إليه، لأنها من رواية مضعَّف عنه، ثم إن أبا جعفر ضعيف أيضاً، وتفرد ضعيف عن ضعيف عن مثل هشام بن عروة، بهذا الإسناد المشهور، مما يُستكر، إذ يستبعد أن يخفى مثل هذا على أصحاب هشام، ولا يحفظه إلا الضعفاء. مثال آخر: حديث: الحسين بن محمد، عن دُوَيد، عن أبي إسحاق، عن زرعة، عن عائشة ـ مرفوعاً ـ: " الدنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له ". أخرجه: أحمد في " المسند " (6/71) ، وأيضاً؛ الخلال في " علله " (¬1) من طريق حنبل، عن أحمد، عن الحسين، به. ونقل عن أحمد، أنه قال: " هذا حديث منكر " فهذا الحديث؛ هكذا رواه الإمام أحمد، وسمى فيه شيخ الحسين: " دُوَيْداً ". وقد رواه ابن أبي الدنيا في " ذم الدنيا " (182) ، عنه البيهقي في " الشعب " (10638) من طريق أخرى، عن الحسين بن محمد أيضاً، عن أبي سليمان النصيبي، عن أبي إسحاق، به. فلم يسم شيخه في هذا الرواية، بل كناه بـ " أبي سليمان النصيبي ". وقد ذهب بعض أفاضل العصر إلى أن " دُوَيداً " هو " دويد بن نافع " ¬

_ (¬1) من " المنتخب له " لابن قدامة (رقم: 5) بتحقيقي.

المترجم في " التهذيب، وأن " أبا سليمان النصيبي " هذا غيره، فهو متابع له، وعليه؛ أثبت الحديث عن أبي إسحاق السبيعي؛ لمتابعة كل منهما للآخر ـ في ظنه ـ ثم أعله بعد ذلك بعنعنة أبي إسحاق واختلاطه. ولسنا نوافق ذلك الفاضل على شيء مما ذهب إليه في ذلك كله؛ فليس " دُويد " هذا هو " ابن نافع "، ولا " النصيبي " متابعاً له، بل هو " دويد " نفسه، ذُكر مرة باسمه، ومرة بكنيته ونسبه. وعليه؛ فهو متفرد به عن أبي إسحاق، لم يتابعه أحد، فلا يصح الحديث عن أبي إسحاق؛ لأن " دويداً " هذا مجهول وقد تفرد به عن أبي إسحاق في جلالة قدره وكثرة أصحابه، وهذا معنى إنكار الإمام أحمد ـ عليه رحمة الله تعالى. وقد ذكر الدارقطني في " المؤتلف " (2/1008-1009) : " دويد بن نافع "، وقال: " يروي عن الزهري وضبارة بن عبد الله بن أبي السليك، روى عنه بقية بن الوليد ". ثم ذكر بعده: " دويد، لم يُنْسب، يروي عن أبي إسحاق، عن زرعة، عن عائشة: الدنيا دارة ما لا دار له، ولها يجمع ما لا عقل له ". وقال: " وله أحاديث نحو هذا في الزهد ". فصنيع الدارقطني؛ يدل على أن " دويداً " صاحبنا، ليس هو " دويد بن نافع "، بل هو آخر غير منسوب، وهو لا يعرف. ويدل عليه؛ أنهم لم يذكروا في ترجمة " ابن نافع " له رواية عن أبي إسحاق، ولا للحسين رواية عنه.

وذكر ابن ماكولا (¬1) : " دُويد بن سليمان ... روى عنه حسين بن محمد المروزي ". وهذا؛ يفيد أن " دويداً " الذي يروي عنه الحسين بن محمد، ليس بابن نافع، وإنما هو " ابن سليمان ". فالذي يترجح، أن " دويداً " صاحب هذا الحديث، هو نفسه " أبو سليمان النصيبي "؛ فالحسين يروي الحديث عنهما جميعاً، والحديث واحد، وشيخهما واحد، والراوي يُذكر مرة باسمه، ومرة بكنيته. ثم وجدت الحافظ ابن حجر قال (¬2) : " دويد؛ هو داود بن سليمان النصيبي ". وهذا يؤكد ما حققته، وهو يدل على أن " دويداً " لقب، وأن اسمه: " داود بن سليمان " (¬3) . وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) في " الإكمال " (3/386) . (¬2) في " نزهة الألباب " (1077) . (¬3) راجع: تعليقي على " المنتخب " " والسلسلة الضعيفة " (1933) .

المتابعة.. والرواية بالمعنى

المتابعة.. والرواية بالمعنى قد يقع اسم الراوي في الإسناد غير منسوب، فيشتبه على بعض من دونه بغيره ممن هو في طبقته؛ فينسبه اجتهاداً منه، فيخطئ، ولا يبين أن هذه النسبة إنما هي اجتهاد منه، وليست رواية، حتى تعامل بقدرها. فإذا جاء هذا الحديث من رواية أخرى، ونُسب فيها الراوي على الصواب، قد يغتر البعض، فيظن أن النسبتين صواب، وأن الحديث لرجلين وليس لرجل واحد، فيثبت بمقتضى ذلك المتابعة، وليس الأمر كذلك، بل الحديث لرجل واحد، هو المتفرد به. مثال ذلك: روى: حسان بن إبراهيم الكرماني ـ وهو صدوق ـ حديثاً، عن أبي سعيد الخدري ـ مرفوعاً ـ: " مفتاح الصلاة الوضوء، والتكبير تحريمها، والتسليم تحليلها ". فقال مرة: " عن سفيان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد ". وأبو سفيان هذا؛ هو طريف بن شهاب العدوي، وهو المتفرد بهذا الحديث، وهو رجل ضعيف واهي. غير أنه لما كان مذكوراً في حديث الكرماني بكنيته " أبو سفيان "، ظنه الكرماني والد سفيان الثوري، واسمه: " سعيد بن مسروق "، فرواه مرة أخرى على ما توهم، فقال: " عن سعد بن مسروق، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد ".

فربما توهم متوهم أن طريفاً العدوي لم يتفرد بالحديث، بل تابعه عليه سعيد بن مسروق الثوري، بمقتضى هذه الرواية، وليس الأمر كذلك، بل هو كما ذكرت، إنما هو حديث العدوي، ليس لوالد الثوري فيه خف ولا حافر. وقد بين ذلك ابن عدي في " الكامل " (2/783 - 784) وابن حبان في " المجروحين " (1/377) ، واعتمده الحافظ ابن حجر في " التلخيص الحبير " (1/229) . مثال آخر: روى: الحاكم في " مستدركه " (2/379) ، عن عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه وخلف بن خليفة، عن حميد بن قيس، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يوم كلم الله موسى كانت عليه جبة صوف، وكساء صوف، وسراويل صوف، وكمه صوف، ونعلاه من جلد حمار غير ذكي ". وقال الحاكم: " هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجه "!! فتعقبه الذهبي، قائلاً: " ليس على شرط البخاري، وإنما غره أن في الإسناد " حميد بن قيس "، كذا! وهو خطأ، إنما هو: حميد الأعرج الكوفي ابن علي أو ابن عمار، أحمد المتروكين؛ فظنه: المكي الصادق ".

وقال الحافظ (¬1) . " رواه الحاكم في " المستدرك "، ظناً منه أن حميداً الأعرج هو: حميد ابن قيس المكي الثقة؛ وهو وهم منه". والعجب! أن الحاكم قد فرق بينهما، وصرح بأن صاحب هذا الحديث هو " ابن علي " الضعيف، وليس " ابن قيس " الثقة. فقد رواه في " المستدرك " أيضاً (1/28) من طريق سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، به. ثم قال: " حميد هذا، ليس بابي قيس الأعرج؛ قال البخاري في " التاريخ " حميد بن علي الأعرج الكوفي، منكر الحديث ... " (¬2) . مثال آخر: روى: الحاكم في " المستدرك " (1/354) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة: ثنا أبو معاوية: ثنا أبو بردة بريد بن عبد الله، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: لما أخذوا في غُسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هم يمنادٍ من الداخل: لا تنزعوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه. هكذا؛ وقع في هذه الرواية نسب " أبي بردة " هذا، بأنه: " بريد بن عبد الله "، وهو خطأ؛ إما من الحاكم أو من أحد ممن فوقه، وإنما ¬

_ (¬1) في " اللسان " (4/113) . (¬2) وانظر " البحر الزخار " للبزار (2031) .

الصواب: أن أبا بردة هذا هو " عمرو بن يزيد "، فالحديث حديثه، وبه يُعرف. وقد ساقه الذهبي في ترجمته من " الميزان " (¬1) ، وقال: " حديث منكر؛ والمشهور: حديث ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه، عن عائشة ". قلت: وهذا؛ وجه أخرجه: أبو داود (3141) بمعناه. ثم وجدت الحاكم رواه مرة أخرى (1/362) ، من هذا الطريق وطريق أخرى، عن أبي معاوية: ثنا أبوبردة، عن علقمة، به. هكذا جاء عنده هنا غير منسوب. وقال الحاكم: " وأبو بردة هذا: يزيد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ". قلت: وهذا مما يرجح أن نسبه في الموضع الأول إنما هو من الحاكم اجتهاداً منه، لا رواية، والله أعلم. مثال آخر: حديث: أحمد بن يحيى الصوفي: ثنا زيد بن الحباب: حدَّثني حميد مولى آل علقمة المكي: ثنا عطاء، عن أبي هريرة: حدَّثني سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال: اللهم إني أُشهدك، وأُشهد ¬

_ (¬1) " الميزان " (3/294) .

ملائكتك وحملة عرشك، وأُشهد من في السماوات ومن في الأرض، أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأُكَفِّر مَنْ أبى من الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، من قالها مرة عُتق ثلثه من النار، ومن قالها مرتين عُتق ثلثاه من النار، ومن قالها ثلاثة عُتق كله من النار". أخرجه: ابن عدي (2/689 - 690) والطبراني في "الكبير" (6/220) والبزار (2531) . وحميد المكي هذا؛ مجهول؛ لم يرو عنه إلا زيد بن الحباب، وما رواه عنه فمنكر كله، وهي نحو ثلاثة أحاديث، أنكرها عليه البخاري في "التاريخ الصغير" (2/133 - 134) وابن عدي وغيرهما؛ وهذا منها. ولذا؛ أعله الحافظ ابن حجر في "مختصر الزوائد" (2089) بحميد هذا، وكذا فعل الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/86) . لكن؛ روى الحاكم في "المستدرك" (1/523) هذا الحديث من طريق أبي عبد الله أحمد بن يحيى الحجري: ثنا حميد بن مهران: ثنا عطاء، به. فهذه الرواية؛ تقتضي أن حميداً المكي لم يتفرد بهذا الحديث، وإنما تابعه عليه حميد بن مهران، وابن مهران ثقة. وليس الأمر كذلك. بل الصواب؛ أن الحديث حديث المكي، وليس حديث ابن مهران، وأن ما وقع في رواية الحاكم خطأ من أحد الرواة. وقد اغتر بظاهر هذا الإسناد الحاكم، فصححه، وكذلك الشيخ

الألباني في "السلسلة الصحيحة" (267) . وممن يرجع إليه الفضل ـ بعد الله عز وجل ـ في بيان علة هذا الحديث شيخنا الشيخ محمد عمرو بن عبد اللطيف في كتابه "حديث. قلب القرآن يس؛ في الميزان"، فقد فصَّل القول في طرق هذا الحديث، ثم قال (ص 36) : "معلوم بداهةً أن الصدوق، بل الثقة الحافظ يهم، ويخطىء، ويخالف؛ فإن لم يكن الوهم في تسمية شيخ زيد بن الحباب من الحاكم نفسه أو شيخه الأصم، فهو من أحمد بن يحيى الحجري. يؤيد ذلك قرائن شتَّى؛ منها: 1ـ أن الحديث معدود في مناكير حميد المكي، وبه يُعرف؛ ولذلك ساقه في ترجمته: البخاري، وابن عدي، والذهبي نفسه. 2ـ أن المتن منكر ـ لا محالة ـ فلا يتناسب، بل لا يستحق أن يرد بهذا الإسناد النظيف. 3ـ أن حميد بن مهران ـ وهو الكندي البصري الخياط ـ، لم يذكر أحد ـ علمته ـ روايته عن عطاء بن أبي رباح، أو رواية زيد بن الحباب عنه؛ وإن كان من نفس طبقة الآخر" اهـ. مثال آخر: حديث: صدقة بن يزيد الخرساني، قال: حدَّثنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "قال الله تعالى: إن عبداً صححته، ووسعت عليه، لم يزرني في كل خمسة أعوام لمحروم".

أخرجه: العقيلي (2/206 - 207) وابن عدي (4/1396) ، كلاهما في ترجمة صدقة بن يزيد هذا. قال ابن عدي: "وهذا عن العلاء منكر ـ كما قاله البخاري (¬1) ـ، ولا أعلم يرويه عن العلاء غير صدقة؛ وإنما يروي هذا خلف بن خليفة ـ وهو مشهور به، ورُوي عن الثوري أيضاً ـ، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". قال: "فلعل صدقة هذا سمع بذكر "العلاء"، فظن أنه "العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة "؛ وكان هذا الطريق أسهل عليه؛ وإنما هو: العلاء بن المسيب، عن أبيه، عن أبي سعيد" اهـ. قال الشيخ الألباني (¬2) : "وصدقة هذا ضعَّفه جمع، فهو بمثل هذا النقد حري". مثال آخر (¬3) : حديث: حماد بن سلمة، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار". أخرجه: أبو داود (641) والترمذي (377) وابن ماجه (655) وأحمد (6/150-218-259) وابن خزيمة (775) وابن حبان (1711) (1712) ¬

_ (¬1) "التاريخ الكبير" (2/2/295) ، وهو أيضاً في "الكامل". (¬2) في "الصحيحة" (4/223) . (¬3) أرشدني إلى هذا المثال أخي الفاضل عادل محمد.

والحاكم (1/251) والبيهقي (2/233) وابن الجارود (173-غوث المكدود) من طرق، عن حماد بن سلمة، به. وهذا الحديث قد خولف فيه حماد بن سلمة، في رفعه ووصله، ورجح الدارقطني فيه الإرسال، كما في "نصب الراية" (1/295-296) . لكن؛ جاء ما أوهم عدم تفرد حماد بن سلمة، ومتابعة حماد بن زيد له: فقد روى ابن حزم في "المحلى" (1/90) (3/219) من طريق ابن الأعرابي: ثنا محمد ابن جارود القطان: ثنا عفان بن مسلم: ثنا حماد بن زيد: ثنا قتادة، عن محمد بن سيرين، عن صفية بنت الحارث، به. هكذا؛ وقع عند ابن حزم في "المحلى"، فأوهم أن حماد بن زيد متابع لحماد بن سلمة في هذا الحديث عن قتادة. وليس الأمر كذلك؛ بل ذِكْر "حماد بن زيد " هاهنا خطأ، والصواب أنه حماد بن سلمة؛ وذلك لأمور: الأول: أن الحديث مشهور من حديث حماد بن سلمة، لا ابن زيد، فقد رواه الناس عنه، ولم تأت رواية بن زيد إلا في هذا الموضع ن هذا؛ فضلاً عن أن الأئمة صرَّحوا بأن الحديث حديثه، وأنه هو المتفرد به، والمخطىء فيه. فالظاهر؛ أن من نسبه أخطأ، ظنه "ابن زيد"، ثم نسبه اجتهاداً، وإنما هو "ابن سلمة" ولعل ذلك من ابن حزم.

وبذلك؛ جزم الشيخ أحمد شاكر ـ عليه رحمة الله تعالى ـ في تعليقه على "المحلى". الثاني: أن الإمام أحمد، قد رواه في "المسند" (6/150-218) من طريق عفان بن مسلم، عن "حماد بن سلمة"، لا عن "ابن زيد". وكذا؛ رواه: ابن عبد البر في "التمهيد" (6/368) . وعفان بن مسلم، هو راويه عن حماد عند ابن الأعرابي وابن حزم؛ كما تقدم. الثالث: أن حماد ابن زيد ليست له رواية عن قتادة أصلاً، ولم يذكروا ذلك في ترجمته، ولو كان يروي عنه، لما أغفلوا ذكره؛ فإنهما إمامان مشهوران ـ أعني: قتادة وحماد بن زيد ـ، فلو كان ابن زيد يروي عن قتادة لما أهملوا ذكر ذلك. ثم أوقفني بعض ... إخواني (¬1) على ما يؤكد هذا، ويقطع به: وذلك؛ ما رواه المقدمي في "تاريخه" (1017) ، عن سليمان بن حرب، قال: سمعت حماد بن زيد يقول: "كنت هيأت الصحف لقدوم قتادة من واسط، من عند خالد بن عبد الله القسري، لأكتب عنه، فمات بواسط، وذلك في سنة سبع عشرة ومائة". قلت: وهذا من أدل دليل على أن حماد بن زيد لم يسمع عن قتادة، ولم يلتق به أصلاً. ¬

_ (¬1) هو: أخي أبو يحيى الجزائري.

والحاصل؛ أن هذا الحديث حديث "حماد بن سلمة" وحده، وأن ما وقع في "المحلى" مما أوهم متابعة "حماد بن زيد" له؛ خطأ، لا وجه له من الصحة (¬1) . وبالله التوفيق. مثال آخر: حديث: حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن الحسن بن صالح، عن هارون أبي محمد، عن مقاتل بن حيان، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لكل شيء قلب، وقلب القرآن يس". أخرجه:الترمذي (2887) والدارمي (2/456) . ومقاتل بن حيان ثقة؛ لكن أعله الإمام أبو حاتم الرازي بعلة دقيقة: فقال ابن أبي حاتم في "العلل" (¬2) : "سألت أبي عن حديث رواه قُتَيبة بن سعيد وابن أبي شيبة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن هارون أبي محمد، عن مقاتل [قلت: لم ينسبه] ، عن قتادة ـ فذكره. قال أبي: مقاتل هذا، هو: مقاتل بن سليمان؛ رأيت هذا الحديث في أول كتاب وضعه مقاتل بن سليمان، وهو حديث باطل، لا أصل له". ومعنى هذا: أن مقاتلاً الذي في الإسناد، هو: ابن سليمان ¬

_ (¬1) انظر: مثالاً شبيهاً بهذا في "غاية المرام" (46) ، وآخر في "الإرواء" (1382) للشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ وقد بينهما الشيخ، فجزاه الله خيراً. (¬2) "علل الحديث" (1652) .

ـ الكذاب المعروف ـ، وليس هو: ابن حيان الثقة. فلعل الحديث كان "عن مقاتل" غير منسوب، فأخطأ من نسبه، فقال "مقاتل بن حيان"، وإنما هو "ابن سليمان". وقد سئل الإمام أحمد عن هذا الحديث، فقال (¬1) : "هذا كلام موضوع". ¬

_ (¬1) "المنتخب من علل الخلال" (50) بتحقيقي. وراجع: "السلسلة الضعيفة" للشيخ الألباني (169) ، وكذا رسالة شيخنا محمد عمرو بن عبد اللطيف في تخريج هذا الحديث (ص9-19) . وربما يكون الراوي منسوباً في الرواية، ثم يأتي من يذكره باسمه دون نسبه، فيُشتبه عليه أو على غيره براوٍ آخر يشترك معه في الاسم والطبقة. كما وقع ذلك؛ في حديث رواه: أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/357) من طريق علي بن هاشم، عن إبراهيم بن يزيد، عن أبي الزبير، عن جابر ـ مرفوعاً ـ: "لا تأذنوا لمن لم يبدأ بالسلام". هكذا؛ وقع عنده: "إبراهيم ابن يزيد"؛ منسوباً؛ وهو الخوزي، وهو ضعيف جداً. فنقل بعض الباحثين الإسناد من نفس الموضع، لكن اختصر نسب "إبراهيم" هذا، فقال: "عن إبراهيم"، ثم اشتبه عليه، فظن "إبراهيم بن طهمان" الثقة المعروف، فقال: "إبراهيم" هو: ابن طهمان، ثقة من رجال الشيخين!! مع أنه؛ لو كان غير منسوب في الإسناد لكان تعينه بابن طهمان خطأ، لأن علي بن هاشم ـ وهو: ابن البريد ـ، لا يروي عن ابن طهمان، بل عن الخوزي. وراجع "الصحيحة" للشيخ الألباني (817) . وانظر أيضاً: مثالاً يصلح في هذا الفصل، في "الكامل" (2/649) ، وآخر في "علل الحديث" للرازي (1502) .

الشواهد.. والرواية بالمعنى

الشواهد.. والرواية بالمعنى وتقع أيضاً الرواية بالمعنى في المتون، فقد يُحدِّث الراوي بالمتن لا بلفظه الذي تحمَّله به، بل بالمعنى الذي فهمه منه، وقد يختصره أيضاً، فيرويه بلفظ مختصر، يرى هو أنه يؤدي نفس المعنى الذي يؤديه لفظ الحديث المطوَّل، وليس كذلك، فقد يكون لفظه أعم أو أخص من لفظ الرواية. فالذي لا يفطن لهذه العلة، ربما استدل بروايته على معنى، لا تساعده ولا تدل عليه الرواية الأصلية. مثال ذلك: حديث: عبيد الله بن القبطية، عن جابر بن سمرة، قال: كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله ـ وأشار بيده إلى الجانبين ـ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "علامَ تومئون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؛ إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله". أخرجه: مسلم (2/29-30) والبخاري في "جزء رفع اليدين" (38) والحميدي (896) وأحمد (5/86-88-102-107) وأبو داود (998) (999) والنسائي (3/4-61) وابن خزيمة (733) وابن حبان (1880) (1881) . فهذا الحديث؛ واضح مبين مفسر، في أن الصحابة كانوا يرفعون

أيديهم حالة السلام من الصلاة، ويشيرون بها إلى الجانبين، يريدون بذلك السلام على من عن الجانبين، فأنكر ذلك عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونهاهم عنه. لكن؛ جاءت رواية مختصرة لهذا الحديث، أُطلق فيها النهي عن رفع اليدين، ولم يقيَد فيها بحالة السلام، فاحتج بها بعض الكوفيين لمذهبهم في المنع من رفع اليدين عند الركوع والرفع منه. وهذه الرواية؛ هي رواية الأعمش، عن المسيَّب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة، قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة". أخرجه: مسلم (2/29) وأحمد (5/93-101-107) وأبو داود (912) (1000) والنسائي (3/4) وابن حبان (1878) (1879) . فهذه؛ رواية مختصرة، فينبغي حملها على الرواية الأولى المفصلة، والمبينة أن هذا الرفع كان في التشهد والتسليم، وليس في الركوع أو الرفع منه. ولهذا؛ قال ابن حبان في "الصحيح" (¬1) ، بعد أن خرج هذه الرواية المختصرة: "ذِكْر الخبر المقتضي للفظة المختصرة، التي تقدم ذكرنا لها، بأن القوم إنما أُمروا بالسكون في الصلاة عند الإشارة بالتسليم، دون رفع اليدين عند الركوع". ¬

_ (¬1) "الإحسان" (5/199) .

ثم روى الرواية المبينة، رواية ابن القبطية، عن جابر بن سمرة. وقال البخاري في "جزئه" (¬1) : "إنما كان هذا في التشهد، لا في القيام، كان يسلم بعضهم على بعض، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رفع الأيدي في التشهد، ولا يحتج بهذا من له حظ من العلم، هذا معروف مشهور، لا اختلاف فيه، ولو كان كما ذهب إليه، لكان رفع الأيدي في أول التكبيرة، وأيضاً تكبيرات العيد؛ منهياً عنها؛ لأنه لم يستثن رفعاً دون رفع". مثال آخر: حديث: يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن حارث بن جَزْء، قال: أنا أول من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يبولن أحدكم مستقبل القبلة"، وأنا أول من حدَّث الناس بذلك. رواه عن يزيد: الليث بن سعد، وعبد الحميد بن جعفر، وعمرو ابن الحارث. أخرجه: ابن ماجه (317) وأحمد (4/190) والطحاوي في "شرح المعاني" (4/232) . ورواه: عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن جبلة بن نافع (¬2) ، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، به. ... ¬

_ (¬1) "جزء رفع اليدين" (ص124-125) . (¬2) كذا؛ جاء اسم أبيه في "شرح العلل" لابن رجب (1/424) و"الثقات" (4/109) ، وجاء عند الطحاوي: "رافع". والله أعلم.

فزاد في إسناده رجلاً. أخرجه: الطحاوي (4/233) . وانفرد بن لهيعة بروايته، عن عبيد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن حارث بن جزء، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبول مستقبل القبلة؛ وأنا أول من حدَّث الناس بذلك (¬1) . فقلب متن الحديث ولفظه؛ وإنما لفظه المعروف هو ما رواه الجماعة، في النهي عن ذلك. فقد يغتر البعض فيجعل الحديث، بهذا اللفظ المقلوب، شاهداً لأحاديث الرخصة في استقبال القبلة حال البول؛ بينما لفظ الحديث المعروف ينص على خلاف ذلك. وقد أغرب جداً الهيثمي، حيث استدل بهذا اللفظ المقلوب على نسخ النهي عن استقبال القبلة حال البول، فقال في "مجمع الزوائد"، بعد أن ساقه بهذا اللفظ المقلوب: "روى له ـ أي: لعبد الله بن حارث بن جزء ـ ابن ماجه، أنه أول من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن ذلك؛ وهذا يدل على النسخ"!! وقد روى ابن لهيعة أيضاً، هذا المتن المقلوب بإسناد آخر، عن ¬

_ (¬1) ذكره ابن رجب الحنبلي في "شرح علل الترمذي" (1/424) ، وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/205-206) لأحمد في "المسند"، ولو أجده فيه، ولا ذكره ابن حجر في "أطرافه" وإنما الذي في "المسند" (4/191) بهذا الإسناد باللفظ المعروف. والله أعلم.

صحابي آخر، وتفرد به أيضاً، وقد خطَّأه العلماء في ذلك. رواه مرة، عن أبي الزبير، عن أبي قتادة الأنصاري، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يبول مستقبل القبلة. أخرجه: الترمذي (10) ، وضعَّفه؛ وكذلك ضعَّفه ابن عبد البر في "التمهيد" (1/312) . وهذا؛ يدل على اضطراب ابن لهيعة، وعدم ضبطه لإسناد الحديث ومتنه. مثال آخر: حديث: علي بن عياش، عن شعيب ابن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ، قال: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار. أخرجه: أبو داود (192) والنسائي (108) . فهذا الحديث؛ استُدل به على نسخ الوضوء مما مست النار، وجعله بعض من كتب في "الناسخ والمنسوخ" مثالاً على ما يعرف فيه النسخ بتنصيص الصحابي على كونه متأخراً. وليس كذلك؛ فإن هذا الحديث مختصر من قصة طويلة، لا تدل على معنى النسخ. قال الإمام أبو داود بعقبه: "هذا اختصار من الحديث الأول". يعني: الحديث الذي رواه قبله (191) من طريق الحجاج، عن ابن

جريج، عن ابن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قرَّبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خبزاً ولحماً، فأكل، ثم دعا بوضوء، فتوضأ به، ثم صلى الظهر، ثم دعا بفضل طعامه، فأكل، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ. وبهذا أيضاً؛ أعله الإمام أبو حاتم الرازي؛ قال (¬1) : "هذا حديث مضطرب المتن؛ إنما هو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل كتفاً ولم يتوضأ؛ كذا رواه الثقات عن ابن المنكدر، عن جابر؛ ويحتمل أن يكون شعيب حدَّث به من حفظه، فوهم فيه" (¬2) . قلت: ووجه الاختصار: أن قول شعيب في روايته: "آخر الأمرين"، ليس على معنى التراخي، فيكون الفعل المتأخر ناسخاً للمتقدم؛ وإنما معناه: آخر الفعلين في هذه الواقعة المعيَّنة: كان عمله الأول فيها أنه توضأ بعد أكله مما مست النار، وعمله الثاني أنه صلى بعد أكله دون أن يتوضأ، وقد يكون إنما توضأ في الأولى للحدث لا للأكل، وعليه؛ فلا دلالة في الحديث على النسخ. وقد قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (¬3) ، شارحاً لإعلال أبي داود وغيره لهذا الحديث بالاختصار؛ قال: "قال أبو داود وغيره: إن المراد بالأمر هنا: الشأن والقصة، لا ¬

_ (¬1) "علل الحديث" لابنه (168) . (¬2) وكذلك؛ ذهب ابن حبان في "الصحيح" (3/417) إلى كونه مختصر. (¬3) "فتح الباري" (1/311) .

المرأة التي صنعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاة، فأكل منها، ثم توضأ وصلى الظهر؛ ثم أكل منها، وصلى العصر ولم يتوضأ؛ فيحتمل أن تكون هذه القصة وقعت قبل الأمر بالوضوء مما مست النار، وأن الوضوء لصلاة الظهر كان عن حدث، لا بسبب الأكل من الشاة". قلت: وقد جاءت رواية لهذا الحديث، تنص على أن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الظهر كان بسبب الحدث، إلا أن في إسنادها نظراً. فقد رواه: أحمد في "المسند" (3/374-375) من طريق محمد بن إسحاق، عن ابن عقيل، عن جابر، فذكره مطولاً، وفيه: "فأُتي بغداء من خبز ولحم، قد صُنع له، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكل القوم معه. قال: ثم بال، ثم توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للظهر، وتوضأ القوم معه. قال: ثم صلى بهم الظهر ... " ـ وذكر الحديث. وبالله التوفيق. مثال آخر: قال البخاري (¬1) : "طلحة بن يحيى؛ منكر الحديث؛ يروي عن عروة، عن عائشة ـ مرفوعاً ـ: "الغسل يوم الجمعة واجب"؛ والمعروف عن عروة وعمرة، عن عائشة: كان الناس عمال أنفسهم، فقيل لهم: "لو اغتسلتم". فلعل طلحة بن يحيى هذا، فهم من قوله: "لو اغتسلتم" الوجوب، فرواه بلفظ: "واجب"، بحسب فهمه؛ وإلا فاللفظ الصحيح لا ¬

_ (¬1) "الكامل" (4/1431) .

يدل على الوجوب (¬1) . وروايتا عروة وعمرة؛ في "الصحيحين": البخاري (2/8) (3/74) ومسلم (3/3) ، وغيرهما (¬2) ¬

_ (¬1) راجع: "فتح الباري" لابن رجب (5/413) . (¬2) وانظر: مثالاً آخر في "الكفاية" للخطيب (ص260) ، وآخر في "جامع الترمذي" (1532) و " الإرواء " (2570) .

المتابعة.. وتصحيف الأسماء

المتابعة.. وتصحيف الأسماء أشد ما يكون التصحيف في الأعلام: أسماء، وكنى، وأنساباً، وألقاباً؛ وأثره كبير وخطير، حيث يؤدي في بعض الأحيان إلى الخلط بين الثقات والضعفاء، وأحياناً أخرى إلى إيهام تعدد رواة الحديث، بينما هو من رواية واحد فقط. انظر ـ مثلاً: "عبد الله بن عمر العمري"، و "عبيد الله بن عمر العمري"؛ هما أخوان ويشتركان في بعض الشيوخ والرواة، فإذا تصحف أحدهما على الآخر اشتد على الباحث، وصعب عليه إدراك الصواب إلا بعد البحث والتفتيش، وربما انطلى ذلك عليه، وظن أن الحديث محفوظ عنهما جميعاً، فإذا عرفت أن الأول ضعيف والآخر ثقة، أدركت خطر هذا التصحيف. وانظر ـ أيضاً: "شعبة" و "سعيد"؛ فإنهما كثيراً ما يتصحف أحدهما بالآخر، وإذا رويا عن قتادة، فلأمر يزداد صعوبة، لأن قتادة يروي عنه "سعيد بن أبي عروبة" ـ وهو ثقة من كبار أصحاب قتادة ـ، ويروي عنه أيضاً " سعيد بن بشير" ـ وهو ضعيف، صاحب مناكير ـ، فإذا كان راوي الحديث عن قتادة هو "سعيد بن بشير"، ولم يُنسب، ثم تصحف إلى "شعبة" كان الخطر عظيماً، وإذا كان راويه عن قتادة هو "سعيد بن أبي عروبة"، فإن ابن أبي

عروبة قد اختلط في آخر حياته، فإذا تصحف إلى "شعبة" لم يقِلَّ خطره عن خطر الأول. وقد يغتر البعض بذلك، ويظن أن الحديث يرويه شعبة وسعيد كلاهما عن قتادة، وليس الأمر كذلك. وإلى هذا المعنى أشار ابن حبان في مقدمة كتاب "المجروحين" له، فقال (¬1) : "حتى إذا قال عبد الرزاق: "حدثنا عبيد الله عن نافع"، و "عبد الله عن نافع"؛ ميَّزوا حديث هذا من حديث ذاك؛ لأن أحدهما ثقة والآخر ضعيف. فإن أُسقط من اسم "عبيد الله": "ياء"، علموا أنه ليس من حديث "عبد الله بن عمر"؛ وإذا زيد في اسم "عبد الله": "ياء"، قالوا: ليس هذا من حديث "عبيد الله بن عمر"، حتى خلصوا الصحيح من السقيم. وإذا قال ابن أبي عدي: "حدثنا شعبة عن قتادة"، و "حدثنا سعيد عن قتادة"؛ فإذا التزق حرف الدال في بعض الكتب، حتى يصير "سعيد" "شعبة"، خلصوه، وقالوا: ليس هذا من حديث شعبة، إنما هو لسعيد. وإن انفتح من "الهاء" فرجة، حتى صار "شعبة" "سعيداً" ميزوه، وقالوا: ليس هذا من حديث سعيد، هذا من حديث شعبة. وإذا كان الحديث عند ابن أبي عدي ويزيد ابن زريع وغندر، عن سعيد وشعبة جميعاً، عن قتادة، ميزوه، حتى خلصوا ما عند يزيد بن ¬

_ (¬1) "المجروحين" (1/58-60) . ووقع في المطبوع بعض السقط، استدركته من أصل مخطوط عندي.

زريع، عن سعيد، عن قتادة، مما عند غندر من شعبة، عن قتادة؛ وفصلوا بين ما عند غندر، عن سعيد، عن قتادة، وبين ما عند يزيد بن زريع، عن شعبة، عن قتادة. لأن سعيد اختلط في آخر عمره، فليس حديث المتأخرين عنه بمستقيم، وشعبة إمام متقن، ما اختلط ولا تغير. وإذا قال عبيد الله بن موسى: " حدثنا سفيان، عن منصور " (¬1) ، و " حدثنا شيبان، عن منصور "، ميزوا بين ما انفرد الثوري عن منصور، وبين ما انفرد شيبان عن منصور. حتى إذا صَغُرَت " الفاء " من " سفيان " في الكتابة، واشتبهت بـ " شيبان " ميزوا، وقالوا: هذا من حديث سفيان، لا شيبان. وإذا عَظُمَت " الياء من " شيبان "، حتى صار شبيهاً بـ " سفيان " قالوا: هذا من حديث شيبان، لا سفيان. وميزوا بين ما روى عبيد الله بن موسى، " عن شيبان "، عن جابر (¬2) ، وبين ما روى عن " سفيان " عن جابر؛ في أشباه هذا؛ يكثُر ذكره " اهـ. هذا؛ وقد يُصحف الراوي الاسم، ثم بعد أن يصحفه ينسبه اجتهادا ¬

_ (¬1) في المخطوط: " فراس " مكان " منصور " في المواضع كلها؛ وكلاهما يصلح في التمثيل، فكلاهما يروي عنهما سفيان وشيبان. (¬2) " جابر "، هو الجعفي، وهو يروي عنه شيبان وسفيان جميعاً، وفي المطبوع مكانه: " معمر "، ومعمر هو ابن راشد وهو لا يروي عن شيبان، بل سفيان فقط. أما قول المعلق على " المجروحين ": " إن صح ـ يعني: جابراً ـ، فهو أبو الشعثاء جابر بن زيد "، فليس بشيء؛ لأن أبا الشعثاء ليس من شيوخ سفيان ولا شيبان.

ً منه، فيقع في خطأين: التصحيف، والرواية بالمعنى. وهاك بعض أمثلة التصحيف. مثال ذلك: قالت أبو يعلى الخليلي في " الإرشاد " (¬1) : " سمعت أبا القاسم ابن ثابت الحافظ يقول: أملى علينا أبو الحسين ابن حرارة الحافظة بأرْدَبِيل حديثاً، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الواحد بن شريك البزار، عن سليمان بن عبد الرحمن، عن سعيد بن يحيى، عن يحيى بن سعيد، عن علقمة بن مرثد، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه ". وقال: " هذا حديث غريب من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري عن علقمة ". قال: " فلما خرجت إلى الدِّيْنور، وعرضته على عمر بن سهل، فقال: ويحك! غلط شيخك ـ مع حفظه ـ، وشيخ شيخك، وإنما " يحيى ابن شعيب أبو اليسع "، وصحف من قال " يحيى بن سعيد ". قال " فكتب ذلك إلى ابن حرارة، فقال " جزاك الله يا أبا جعفر عنا خيراً، ورجع إلى قوله " اهـ. مثال آخر: حديث لعاصم الأحول، رواه بعضهم فقال: " عن واصل الأحدب "، فذكر الدارقطني، أنه من تصحيف السمع. ¬

_ (¬1) " الإرشاد " (2/629) .

ذكر ابن الصلاح (¬1) ، ثم قال: " ذكر الدارقطني أنه من تصحيف السمع لا من تصحيف البصر، كأنه ذهب ـ والله أعلم ـ إلى أن ذلك مما لا يشتبه من حيث الكتابة، وإنما أخطأ فيه سَمْع من رواه ". مثال آخر: الحديث: الذي رواه الحاكم في " المعرفة " (ص 150 - 151) ، قال: حدثني عمرو بن جعفر البصري، قال: حدثنا عبدان، قال: حدثنا معمر بن سهل، قال: ثنا عامر بن مدرك، عن الحسن بن صالح، عن أُكيل، عن ابن أبي نُعْم، عن المغيرة بن شعبة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على الخفين. قال الحاكم: " صحف الأهوازيون في " أكيل "، وإنما يرويه الحسن بن صالح عن " بكير " بن عامر البجلي، عن ابن أبي نُعْم، فكأن الراوي أخذه إملاءً؛ سمع بكيراً، فتوهمه أكيلاً ". مثال آخر: روى: سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي نعامة، عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن، ولا أبو بكر، ولا عمر يجهرون بـ " بسم الله الرحمن الرحيم ". كذا؛ رواه غير واحد عن سفيان، وكذا هو في كتاب ¬

_ (¬1) في " علوم الحديث " (ص 284) .

الأشجعي عن سفيان. وخالفهم يحيى بن آدم، فرواه عن سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أنس. ووهم فيه؛ إنما هو: " أبو نَعامة ". قاله ـ: الإمام أحمد، وابن المديني، والدارقطني (¬1) . وأبو نعامة، اسمه: قيس بن عباية، وأبو قلابة، اسمه: لاحق بن حميد. مثال آخر: قال ابن عدي في " الكامل " (4/1420) في ترجمة ضرار بن عمر الملطي: حدثنا القاسم بن الليث بن مسرور: حدثنا عبد الله بن معاوية: حدثنا عبد العزيز بن مسلم ـ هو: القَسْمَليُ ـ، عن ضرار بن عمرو، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أهل الجنة عشرون ومائة صف، هذه الأمة منها ثمانون ". قلت: وضرار بن عمر هذا؛ ضعيف، وابن عدي إنما ساق هذا الحديث في ترجمته مُنْكِرَاً عليه. لكن؛ رواه أحمد في " المسند " (5/347 - 355) من طريق عفان بن ¬

_ (¬1) انطر: " أطراف الغرائب " لابن طاهر (1358) و " شرح البخاري " لابن رجب (4/373) و " النكت على ابن الصلاح " لابن حجر (2/751 - 752) .

مسلم وعبد الصمد، عن عبد العزيز بن مسلم القسملي، عن أبي سنان، عن محارب، به. وأبو سنان؛ هو ضرار بن مرة، وصرح به في الموضع الثاني. وضرار بن مرة، غير ضرار بن عمرو، والأول ثقة، بينما الثاني ضعيف، كما سبق. فقد يقال: لعل أحدهما تابع الآخر. وهذا يقتضي رد إنكار ابن عدي للحديث على ابن عمرو الملطي. وقد يُقال: لعل ابن عمرو إنما سرق الحديث من ابن مرة. وعليه؛ يكون معنى إنكار ابن عدي، هو اتهام بان عمرو بسرقته، وليس إنكاراً لأصل الحديث. وكل ذلك محتمل. لكن؛ الظاهر: أن هذا خطأٌ من القسملي أو ممن هو دونه، فإن القسملي يروي عنهما جميعاً، فقد يكون أحد ممن دون القسملي صحف اسمه، فقال: " ابن عمرو " بدل " ابن مرة " ثم نسبه اجتهاداً، فقال: " الملطي ". والله أعلم. ويؤكد أن الحديث حديث ابن مرة، وليس ابن عمرو: أن محمد بن فضيل رواه أيضاً عن ابن مرة، به. أخرجه: الترمذي (2546)

، وقال " حديث حسن ". مثال آخر: حديث: يعلى بن عبيد، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " البيعان بالخيار ". قال أبو يعلى الخليلي (¬1) : " هذا خطأ، وقع على يعلى بن عبيد، وهو ثقة متفق عليه، والصواب فيه: عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان، عنه، عن عبد الله بن دينار ". مثال آخر: حديث: يرويه أبو الأشعث ـ وهو: أحمد بن المقدام العجلي ـ، عن عبيد بن القاسم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن ابن أبي أوفى، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الولاء لُحمة كلحمة النسب، لا يُباع ولا يُوهب ". أخرجه: ابن عدي في ترجمة عبيد بن القاسم هذا من " الكامل " (5/1988) ، ثم قال: " لا يرويه عن ابن أبي خالد غير عبيد ". قلت: وعبيد بن القاسم؛ متروك الحديث. لكن؛ ذكر ابن التركماني له متابعاً ثقة، فقال (¬2) : " وقد رُوي الحديث من وجه آخر، بسند رجاله ثقات؛ قال ابن جرير ¬

_ (¬1) في " الإرشاد " (1/341) . (¬2) في " الجوهر النقي " (10/294) .

الطبري في " تهذيب الآثار ": حدثني موسى بن سهل الرملي: ثنا محمد ابن عيسى ـ يعني: الطباع ـ: ثنا عبثر بن القاسم، عن إسماعيل بن أبي خالد " ـ به. و" عبثر بن القاسم " ثقة، لكنه مصحف، والصواب " عبيد بن القاسم "؛ كما عند ابن عدي، وقد صرح ابن عدي بأنه لم يروه غيره. وقد بين ذلك الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ، فقال (¬1) : " وقد تحرف اسم " عبيد " على البعض إلى " عبثر "، وعبثر هذا ثقة، وكذلك وثق رجاله ابن التركماني ـ كما رأيت ـ، وتبعه السيوطي في " الجامع الكبير " (1/ 383 / 1) ، والظن أنه هو الذي تصحف عليه ذلك التصحيف؛ فإن عبثر هذا، وإن كان من طبقة عبيد بن القاسم، ومشاركاً له في الرواية عن إسماعيل بن أبي خالد، فإن الراوي عنه عند ابن جرير " محمد بن عيسى الطباع " ـ كما رأيت ـ، ولم يُذكر في جملة الرواة عن عبثر، وإنما عن عبيد، فتعين أنه هو ". قلت ومما يؤكد هذا: أن الطبراني خرج الحديث في " الكبير "، وعنده: " عبيد بن القاسم ". فقد ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (4/231) ، وقال: " رواه الطبراني، وفيه: عبيد بن القاسم، وهو كذاب ". وكذلك؛ خرجه أبو نعيم في " معرفة الصحابة ". وبهذا؛ تدرك خطأ الحافظ في " التلخيص " (¬2) ؛ حيث اغتر ¬

_ (¬1) في " الإرواء " (6/113) . (¬2) " التلخيص " (4/235)

بهذا التصحيف، فقال: " ظاهر إسناده الصحة ". فإنه ظن أن الحديث عند هؤلاء " عن عبثر "، كما وقع في " تهذيب الآثار " للطبري. وبالله التوفيق. مثال آخر: حديث: معاوية بن صالح، عن أبي حلبس يزيد بن ميسرة، أنه سمع أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - ـ لم أسمعه يكنيه قبلها ولا بعدها ـ يقول: " إن الله عز وجل قال: يا عيسى بن مريم! إني باعث بعدك أمة، إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم. قال: يا رب! كيف يكون هذا لهم، ولا حلم ولا علم؟! قال أُعطيهم من حلمي وعلمي". أخرجه: أحمد (6/450) والبخاري في " التاريخ الكبير " (4 / 4 /355 - 356) والدولابي في " الكنى" (1 /156) والطبراني في " الأوسط " (3252) " والشاميين " (2050) والحاكم (1/348) وأبو نعيم في " الحلية " (1/227) (5/243) . وأدخله البخاري في ترجمة " أبي حلبس يزيد بن ميسرة ". وقال الطبراني: " لم يروه عن أم الدرداء إلا يزيد ميسرة، تفرد به معاوية بن صالح ".

فالحديث؛ حديث يزيد بن ميسرة؛ وهو مجهول. لكن؛ تصحف على البزار، فرواه من نفس الوجه في " مسنده " (2845- كشف) ، فتصحف فيه " يزيد" إلى " يونس "، فجاء: " يونس بن ميسرة ". ويونس بن ميسرة، ثقة. وهو أخو يزيد، ويشتركان في الرواية عن أم الدرداء، ويروي عنهما معاوية بن صالح، وكلاهما يكنى بـ " أبي حلبس "، إلا أن يونس أشهر من أخيه يزيد، وهذا الحديث حديث يزيد، لا يونس. وقد اغتر بذلك البزار، فقال: " لا نعلم رواه من الصحابة إلا أبو الدرداء، ومعاوية ويونس شاميان ثقتان، وإسناده حسن ". وقد وقع في نفس التصحيف محقق كتاب " الأربعين الصغرى " للبيهقي (47) ـ طبعة دار الكتاب العربي ـ وصحح الحديث اغتراراً بذلك، مع أنه خرج الحديث من عدة مصادر، وهو فيها كلها عن " يزيد " وليس عن " يونس ". وهو في طبعة دار الكتب العلمية " للأربعين " (62) على الصواب: " يزيد ". وكذلك؛ أخرجه البيهقي في " الشعب " (4482) ، بنفس الإسناد، فجاء فيه على الصواب. هذا؛ وحكم عليه الشيخ الألباني في " ضعيف الجامع " (4056) بأنه

حديث موضوع. مثال آخر روى: ابن أبي ذئب، عن عجلان بن المشمعل، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا تساب وأنت صائم، وإن سابك إنسان فقل: إني صائم، وإن كنت قائماً فاجلس". أخرجه: أحمد (2/428) والنسائي في "الكبرى" (¬1) وابن خزيمة (1994) وابن حبان (3483) . يرويه عن ابن أبي ذئب: يحيى بن سعيد، وابن المبارك، وعثمان بن عمر. وليس في رواية يحيى بن سعيد "وإن كنت قائماً فاجلس"، ولا أدري أهي في رواية ابن المبارك أم لا؛ فإن روايته في "سنن النسائي الكبرى"، ولا تطولها يدي الآن. لكن؛ وقع في موضع آخر من "المسند" ما يوهم عدم تفرد عجلان بهذه الزيادة. ففي "المسند" المطبوع (2/505) : "ثنا يزيد: أنا ابن أبي ذئب، عن المقبري ـ وأبو عاصم: مولى حكيم، وقال أحمد الزبيري: مولى حسام ـ، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تساب وأنت صائم، فإن شتمك أحد فقل: إني صائم، وإن كنت قائماً فاقعد، والذي نفس محمد بيده! لخلوف فم الصائم أطيب عند ¬

_ (¬1) كما في "تحفة الأشراف" (10/253) .

الله من ريح المسك". وهذا الذي في "المسند" المطبوع؛ قد وقع فيه خلل في عدة مواضع: فأولاً: قوله: "أبو عاصم"، صوابه: "أبو عامر"، وهو العقدي شيخ أحمد. كما هو في "أطراف المسند" لابن حجر (7/407) ، وفي إحدى نسخ "المسند"، كما ذكر صاحب "المسند الجامع" (17/138) . وعليه؛ يكون قد سقط لفظه "قال"، ويكون الصواب: "وقال أبو عامر: مولى حكيم"؛ فتكون جملة "مولى حكيم" من مقول قول أبي عامر العقدي. ثانياً: قوله: "مولى حسام"؛ صوابه: "مولى حماس". وهو أيضاً كذلك في بعض نسخ "المسند". ثالثاً: وهو اللغز الذي احترت في الجواب عليه: وهو: قوله: "عن المقبري". وذكر المقبري هاهنا مشكل. ذلك؛ لأمرين: الأول: أن الحافظ بن حجر ذكر هذا الحديث في "أطراف المسند" (7/407) برواية هؤلاء الثلاثة: يزيد، وأبي عامر، وأبي أحمد الزبيري؛ عن ابن أبي ذئب، في ترجمة "عجلان مولى المشمعل، عن أبي هريرة"، ولم يذكره من رواية واحد منهم في ترجمة "سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة".

الثاني: أن هذه الأقوال: "مولى حكيم" و "مولى حماس"، إنما قيلت في اسم "عجلان" هذا، ولا ذكر لها في ترجمة المقبري، فكيف يستقيم ذكرها في هذا الحديث، وهو من رواية المقبري، وليس من رواية عجلان؟! فالذي يترجح عندي ـ والله أعلم ـ: أن ذكر "المقبري" في هذا الحديث خطأ، والصواب ذكر "عجلان مولى المشمعل" مكانه. ولعل ذلك وقع خطأ من الكاتب، كأن يكون حرَّف "عجلان"، فقال: "المقبري" ـ وهو ما أستبعده هنا ـ، أو يكون وقع سقط في نسخة "المسند"،، نشأ عن انتقال نظر الكاتب؛ فإن الحديث الذي قبل هذا الحديث في "المسند" من رواية "يزيد، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة"؛ فلعل الكاتب انتقل نظره،نن وهذا أقرب والله أعلم. ثم وقفت على الخبر اليقين، بفضل من الله تعالى، وكرم منه ونعمة. فقد رأيت الحافظ المزي ذكر هذا الحديث من هذا الموضع من "المسند"، وجاء به على الصواب، مصلحاً ما أفسده النساخ، مما أحدثوه في الحديث من تحريف وإقحام وحذف. فقد رواه في ترجمة "عجلان" في "تهذيب الكمال" (19/518) ،من طريق "المسند"، فوقع عنده هكذا: " ... حدثنا يزيد وأبو عامر، قالا: أخبرنا ابن أبي ذئب، عن عجلان مولى المشمعل ـ قال: وقال أبو عامر: مولى حكيم، وقال: أبو

أحمد الزبيري: مولى حماس ـ، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا تساب وأنت صائم.." ـ الحديث. فقطعت جهيزة قول كل خطيب. وقد انطلى هذا الخطأ الواقع في "المسند" على كل من الشيخ الألباني في "الإرواء" (4/35) ، وكذا المعلق على "صحيح ابن حبان"، فأثبتا متابعة المقبري لعجلان بمقتضى هذه الرواية. وكذا؛ انطلى على صانعي: "المسند الجامع" حيث جعلوه فيه (17/137-138) من رواية المقبري عن أبي هريرة، وأفردوه عن رواية عجلان مولى المشمعل عن أبي هريرة. لكن؛ الشيخ الألباني: ـ حفظه الله تعالى ـ وقع في خطأ آخر مبني على الخطأ الأول، وذلك؛ أنه اعتبر "أبو عاصم" الذي وقع في "المسند" كنية "عجلان مولى المشمعل". وهذا لا يؤيده أصلاً السياق الذي في "المسند" ـ على ما فيه من خطأ ـ؛ لأن "أبو عاصم" جاءت مرفوعة، فهي معطوفة على ما جاء مرفوعاً قبلها، أي: ابن أبي ذئب، أو يزيد. ولكي تكون كنية عجلان، فلا بد وأن تجيء مجرورة، عطفاً على المقبري. وثمة خطأ آخر: وهو أنه نقل عن ابن حبان، أنه قال في "الثقات" (5/278) في ترجمة "عجلان مولى المشمعل":

" كنيته أبو محمد، وليس هو والد محمد ". يعني: أنه ليس هو " عجلان مولى فاطمة " والد محمد بن عجلان، وإن كان يكنى بـ " أبي محمد ". فقال الشيخ: " فلعل له كنيتان (¬1) كما هو الشأن في بعض الرواة ". قلت: هو لا يكنى أصلاً، لا بـ " أبي عاصم "، ولا بـ " أبي محمد "، وإنما الذي يكنيه بـ " أبي محمد " آدم بن أبي إياس، في روايته عن ابن أبي ذئب، وآدم كناه بذلك ظناً منه أنه والد محمد بن عجلان، فغلطه العلماء في ذلك (¬2) . مثال آخر: قال الطبراني في " المعجم الكبير " (11 / 134) : " حدثنا محمد بن جابان الجنديسابوري: ثنا محمود بن غيلان: ثنا مؤمل بن إسماعيل: ثنا حماد بن سلمة: ثنا الطويل، عن طلق بن حبيب، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أربع من أُعطيهن أُعطي خير الدنيا والآخرة: قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وبدناً على البلاء صابراً، وزوجة لا تبغيه خوناً في نفسها ولا ماله ". فهذا الحديث؛ هكذا يرويه الطبراني في " الكبير " بهذا الإسناد، من حديث مؤمل بن إسماعيل، وهو ضعيف سيئ الحفظ. ¬

_ (¬1) كذا، والصواب: " كنيتين ". (¬2) راجع " التاريخ الكبير " للبخاري (4 / 1 /61) ، و " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم (3 / 2 / 18) و " تهذيب التهذيب " لابن حجر (7 / 162) .

وقد رواه أيضاً في " الأوسط " (7212) بنفس السند؛ لكن وقع فيه: " موسى " بدل " مؤمل "؛ وكذا وقع في " مجمع البحرين " (2249) . وما وقع في " الأوسط " تصحيف، والصواب " مؤمل " كما في الكبير وقد رُوي من غير هذا الوجه عن " المؤمل ". وقد بين ذلك تفصيلاً الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ في " الضعيفة " (¬1) ، بما لا يحتاج إلى مزيد، فجزاه الله خيراً، ونفع به وبعلمه. ومما يقوي هذا: أن محمود بن غيلان؛ لم يذكروا رواية له عن موسى بن إسماعيل ـ وهو التبوذكي ـ؛ بينما ذكروا أنه يروي عن مؤمل ابن إسماعيل فقط. وقد تورط في هذا جماعة من أهل العلم؛ منهم: المنذري، والهيثمي، والسيوطي، والمناوي، وقلدهم في ذلك الغماري؛ فحكموا على إسناد " الأوسط " بغير ما حكموا به على إسناد " الكبير " مع أنه هو هو من شيخ الطبراني فصاعداً ‍! وانظر: أقوالهم في " الضعيفة ". مثال آخر: حديث: محمد بن أبان البلخي، قال: نبأنا عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن محرر بن أبي هريرة، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " ما أهل مُهِل قط إلا آبت الشمس بذنوبه ". ¬

_ (¬1) " الضعيفة " (1066) . وعليه يصحح ما في نسختنا من " الأوسط ".

أخرجه الخطيب في " تاريخ " (2/79) ، وقال: " تفرد بروايته محمد بن أبان، عن عبد الرزاق، عن الثوري، وخالفه الحسن بن أبي الربيع الجرجاني؛ فرواه عن عبد الرزاق، عن ياسين الزيات، عن ابن المنكدر ". ثم أسند رواية الجرجاني. قلت: ويشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون محمد بن أبان البلخي كان في كتابه: " عن ياسين "، فصحف، فقال " عن سفيان "، ثم نسبه اجتهاداً منه. لاسيما؛ وأن " سفيان " تكتب في الكتب القديمة بغير الألف، هكذا: " سفين "، فيه ـ حينئذٍ ـ يسهل أن تشتبه بـ " ياسين " إذا ما كتبت هي الأخرى بغير الألف. وفي ترجمة محمد بن أبان هذا من " تاريخ بغداد " حديث آخر، أخطأ فيه، وذهب الإمام أحمد إلى أنه وقع له فيه تصحيف. مثال آخر: حديث: محمد بن منصور الجواز، عن أبن عيينة، عن بيان بن بشر، عن موسى بن طلحة، عن ابن الحوتكية، عن أبي ذر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: " عليك بصيام ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة ". أخرجه: النسائي (4/223) . وفي هذا الحديث خطأ وتصحيف؛ فإن ابن عيينة إنما يروي هذا الحديث، فيقول: " حدثنا اثنان "، وتارة يقول: " حدثنا اثنان وثلاثة " وتارة " رجلان " وتارة يسميهما، فيقول " رجلان: محمد وحكيم ".

ومحمد، هو: ابن عبد الرحمن مولى آل طلحة، وحكيم هو: ابن جبير. أخرجه: الحميدي (136) وأحمد (5 / 150) والنسائي (4 / 223) (7 / 196 - 197) وابن خزيمة (2127) . فصحف محمد بن منصور في الحديث، فقال " بيان "، والصواب " اثنان "، ثم نسبه اجتهاداً منه، لا رواية، فقال: " ابن بشر ". قال الإمام النسائي: " هذا خطأ، ليس من حديث " بيان "؛ ولعل سفيان قال " حدثنا اثنان " فسقط الألف، فصار: بيان ". وقال الدارقطني (¬1) : " وصحف الجواز في قوله " بيان "، وإنما كان ابن عيينة يقول: " حدثني اثنان، عن موسى بن طلحة " ـ يعني: محمد بن عبد الرحمن مولى آله طلحة، وحكيم بن جبير ـ، فجعله الجواز: عن بيان " (¬2) . ¬

_ (¬1) " العلل " (2 / 228 - 229) . (¬2) وانظر: مثالاً آخر في " الكامل " (5 /1876 - 1877) .

الشواهد.. وتصحيف الأسماء

الشواهد.. وتصحيف الأسماء وقد يقع التصحيف في اسم الصحابي، فيظنه من لا يفطن له حديثاً آخر، عن صحابي آخر، فيجعله شاهداً للأول؛ وإنما هو حديث واحد، عن صحابي واحد، لا شأن للصحابي الآخر به. مثال ذلك: ... حديث: بقية بن الوليد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب العتكي، عن صفية بنت حيي، أنها دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ أو دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ في يوم جمعة، وهي صائمة، فقال لها: "صمت أمس؟ " قالت: لا. قال: "فتصومين غداً؟ " قالت: لا. قال: "فأفطري". قال الحاكم (¬1) : "صحف بقية بن الوليد في ذكر "صفية"، ولم يتابع عليه؛ والحديث عند يحيى بن سعيد وغندر والناس، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب العتكي، عن جويرية بنت الحارث، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ نحوه". مثال آخر: وقد وقع مثل هذا التصحيف من بقية في حديث آخر. وهو حديث: جبير بن نفير، عن عمرو بن الحمق، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) في "معرفة علوم الحديث" (ص151) .

قال: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً عسله"، فقيل: وما عسله؟ قال: "يفتح له عملاً صالحاً بين يدي موته، حتى يرضى عنه من حوله". أخرجه: أحمد (5/224) وابن حبان (342) (343) البزار (2155-كشف) والحاكم (1/340) . فهذا الحديث؛ رواه بقية بن الوليد، فقال: عن جبير بن نفير، عن عمر الجمعي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه: أحمد (4/135) وابن عاصم في "الآحاد والمثاني" (2705) . وهذا؛ مما صحف فيه بقية، والصواب: أنه حديث عمرو بن الحمق وليس حديث عمر الجمعي. وقد نص على ذلك البخاري، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو نعيم الأصبهاني، والبغوي، وابن منده، وابن عساكر، وغيرهم (¬1) . مثال آخر: وقد وقع مثل هذا التصحيف من بقية في حديث آخر. وهو حديث: جبير بن نفير، عن عمرو بن الحمق، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أراد الله بعبد خيراً عَسَلَهُ "، فقيل: وما عسله؟ قال: " يفتح له عملاً صالحاً بين يدي موته، حتى يرضى عنه من حوله ". أخرجه: أحمد (5/224) وابن حبان (342) (343) والبزار (2155 - كشف) والحاكم (1 /340) . فهذا الحديث؛ رواه بقية بن الوليد، فقال: عن جبير بن نفير، عن عمر الجمعي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه: أحمد (4/135) وابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " (2705) . وهذا؛ مما صحف فيه بقية، والصواب: أنه من حديث عمرو بن الحمق، وليس عمر الجمعي. وقد نص على ذلك البخاري، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو نعيم الأصبهاني، والبغوي، وابن منده، وابن عساكر، وغيرهم (¬2) . مثال آخر: حديث: أبي الأحوص سلام بن سليم، عن سماك بن حرب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بردة بن نيار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اشربوا في الظروف، ولا تسكروا ". أخرجه: النسائي (8 / 319) ، وقال: " هذا حديث منكر، غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم، لا نعلم ¬

_ (¬1) راجع: "التاريخ الكبير" (3/2/313-314) و "الإصابة" (4/596-597) و "تعجيل المنفعة" (ص318) و "توضيح المشتبه" لابن باصر الدين (2/426-427) و "ترتيب أسماء الصحابة في المسند" لابن عساكر (ص87) و "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني (3/109) . (¬2) راجع " التاريخ الكبير " (3 / 2 - 314) و " الإصابة " (4 / 596 -597) و " تعجيل المنفعة " (ص 318) و " توضيح المشتبه " لا ناصر الدين (2 / 426 - 427) و " ترتيب أسماء الصحابة في المسند " لابن عساكر (ص 87) و " السلسلة الصحيحة " للشيخ الألباني (3 /109) .

أن أحداً تابعه عليه من أصحاب سماك بن حرب، وسماك ليس بالقوي، وكان يقبل التلقين. قال أحمد بن حنبل: كان أبو الأحوص يخطئ في هذا الحديث، خالفه شريك في إسناده ولفظه ". ثم رواه من طريق شريك، عن سماك، عن ابن بريدة، عن أبيه ـ وهو: بريدة بن الحصيب ـ، بلفظ: ... " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمُزَفَّت ". وحكى أبو داود في " مسائل أحمد " (¬1) ، عن أحمد، أنه قال: " يخطئ فيه أبو الأحوص، يقول عن " أبي بريدة "، فقالوا: ابن نيار؟ فقال نعم؛ ومر فيه، فاحتج به أصحاب الأشربة؛ وإنما الحديث حديث " ابن بريدة ". وقال أبو زرعة (¬2) : " وهِم أبو الأحوص، فقال: " عن سماك، عن القاسم، عن أبيه، عن أبي بريدة "؛ قَلَبَ من الإسناد موضعاً، وصحف في موضع: أما القلب؛ فقوله: " عن أبي بريدة "، أراد: " عن ابن بريدة "، ثم احتاج أن يقول: " ابن بريدة عن أبيه "، فقلب الإسناد بأسره، وأفحش في الخطأ. وأفحش من ذلك وأشنع: تصحيفه في متنه: " اشربوا في الظروف، ولا تُسكروا "؛ وقد روى هذا الحديث ـ عن ابن بريدة، عن أبيه ـ: ¬

_ (¬1) " مسائل أحمد " (ص 288- 289) . (¬2) " العلل " لابن أبي حاتم (1549 - 1551) .

أبو سنان ضرار بن مرة، وزبيد اليامي عن محارب بن دثار، وسماك بن حرب، والمغيرة بن سبيع، وعلقمة بن مرثد، والزبير بن عدي، وعطاء الخراساني، وسلمة بن كهيل؛ كلهم عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء؛ فاشربوا في الأسقية، ولا تشربوا مُسكراً "، وفي حديث بعضهم " واجتنبوا كل مسكر "؛ ولم يقل أحد منهم: " ولا تسكروا "، وقد بان وهم حديث أبي الأحوص من اتفاق هؤلاء على ما ذكرناه من خلافه ". قال: " سمعت أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ يقول: حديث أبي الأحوص، عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بردة؛ خطأ الإسناد والكلام: فأما الإسناد؛ فإن شريكاً، وأيوب ومحمداً ابن جابر؛ رووه عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ كما رواه الناس ـ: "فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكراً ". قال أبو زرعة: " كذا أقول: هذا خطأٌ؛ أما الصحيح: حديث بريدة عن أبيه " اهـ. وكذا ذهب أبو داود في شرحه لكلام أحمد في " المسائل " إلى أن هذا الحديث خطأ الإسناد والمتن، إلا أنه ذهب إلى أن الخطأ في المتن من سماك، بينما الخطأ في الإسناد من أبي الأحوص. فنخلص من ذلك: أن هذا الحديث من مسند " بريدة بن الحصيب "، وليس من مسند " أبي بردة بن نيار "، فمن جعل حديث ابن نيار حديثا

ً آخر في هذا الباب فقد أخطأ. ومما يؤكد أن الحديث حديث ابن بريدة، عن أبيه، وليس هو من حديث أبي بردة بن نيار: ما جاء عن شعبة من إنكاره لهذا الحديث عن ابن بريدة، وقوله: " لم يجيء بالرخصة في نبيد الجر ابن عمر وابن عباس، اللذان بحثا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن جاء به ابن بريدة من خراسان!! ". ذكره: أبو داود في " المسائل ". مثال آخر: حديث: موسى بن طلحة، عن ابن الحوتكية، عن أبي ذر ـ في صيام الأيام البيض؛ الذي تقدم في آخر الفصل السابق. فقد رواه بعضهم فقال: " عن ابن الحوتكية، عن أُبي ". أخرجه: النسائي (4/223) ، وقال: " الصواب: " عن أبي ذر "؛ ويشبه أن يكون وقع من الكتاب " ذر "، فقل: " أبي " (¬1) اهـ. مثال آخر: حديث: سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عنبسة، عن عبد الله بن غنام ـ رضي الله عنه ـ، أن ¬

_ (¬1) وقع نحو هذا في حديث آخر، انظره في " العلل " للدارقطني (4/422) .

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قال حيث يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك، لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر ذلك اليوم ". أخرجه: أبو داود (5073) والنسائي في " الكبرى " والبخاري في " التاريخ الكبير " (4 / 2 /443) وابن الأثير في " أسد الغابة " (3 /362) . فهذا الحديث؛ قد رواه جماعة، عن سليمان بن بلال هكذا، جعلوه كلهم من مسند " عبد الله بن غنام ". وخالفهم: عبد الله بن وهب؛ فرواه عن سليمان بن بلال، فجعله من مسند " عبد الله بن عباس ". أخرج حديثه: ابن حبان (861) ، وتابعه: سعيد بن أبي مريم، عن سليمان بن بلال. أخرج حديثه: الطبراني في " الدعاء " (306) . ولم يثبت ابن وهب على ذلك؛ فقد رواه مرة أخرى على الصواب " عن ابن غنام " لا " عن ابن عباس ". أخرج حديثه: ابن السني في " اليوم والليلة " (41) والطبراني (307) ، والصواب: قول من قال: " ابن غنام "، ومن قال: " ابن عباس " فقد صحف. قاله غير واحد من أهل العلم؛ منهم: أبو نعيم، وابن عساكر وغيرهما (¬1) . ¬

_ (¬1) راجع: " تحفة الأشراف " (6/403 - 404) و " الإصابة " (4 / 207) و " تهذيب الكمال " (15 / 390 - 391 - 424) و " الجرح والتعديل " (2/2/123) (4/2/325) و " الميزان " (2/469) و " نتائج الأفكار " لابن حجر (2/359 - 361) و " جامع العلوم والحكم " (2/62 - 63) بتحقيقي.

مثال آخر: حديث: علي بن عياش، عن الوليد بن كامل، عن المهلب بن حُجر البهراني، عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود، عن أبيها: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلى إلى عود، ولا إلى عمود، ولا إلى شجرة؛ إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمداً. أخرجه الإمام أحمد أيضاً، من طريق بقية بن الوليد، عن الوليد ابن كامل، عن حُجر ـ أو ابن حجر ـ بن المهلب، عن ضبيعة بن المقداد بن معدي كرب، عن أبيها، بنحوه. فجعله من مسند " المقدام ـ بالميم ـ بن معدي كري "، وليس من مسند " المقداد بن الأسود ". قال الإمام ابن رجب (¬1) : " ولعل هذه الرواية ـ يعني: رواية بقية ـ أشبه؛ وكلام ابن معين وأبي حاتم الرازي يشهد له ". قال: " والشاميون كانوا يسمون المقدام بن معدي كرب: " المقداد "، ولا ينسبونه أحياناً، فيظن من سمعه غير منسوب أنه " ابن الأسود "، وإنما هو " ابن معدي كرب "، وقد وقع هذا الاختلاف لهم في غير حديث من رواياتهم " اهـ. ¬

_ (¬1) في " شرح البخاري " له (2/646 - 647) .

مثال آخر " قال ابن أبي حاتم في " العلل " (¬1) : "سألت أبي عن حديث، رواه حماد بن سلمة، عن الحجاج، عن حبيب بن أبي ثابت، عن محمد بن علي بن أبي طالب، عن علي بن أبي طالب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان إذا قام من الليل ـ فذكر الحديث في صلاة الليل. قال أبي: هذا خطأ؛ إنما هو: محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده؛ والوهم من حماد" اهـ. قلت: وحديث بن عباس هذا؛ يرويه حصين بن عبد الرحمن وسفيان الثوري، كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت، به. أخرجه: مسلم (2/182) وأبو داود (58) (1353) (1354) والنسائي (3/236-237) وأحمد (1/350-373) . فلعل الحديث، كان عند حماد بن سلمة هكذا: "عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده"، فظنه حماد بن سلمة أنه "محمد بن علي بن أبي طالب"، ثم بنى على ذلك أن أباه علي بن أبي طالب، فقلب الإسناد. والله أعلم. ¬

_ (¬1) 20) .

مثال آخر: روى: جماعة، عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين من خلفه، وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الأصنام قبل، فلم يعد يشهد مع المشركين مشاهدهم. أخرجه: أبو يعلى (3/398) وابن عدي (4/1447) والعقيلي (3/222-223) وعبد الله بن أحمد في "العلل" (5167) والبيهقي في "الدلائل" (2/35) والخطيب في "التاريخ" (11/285-286) وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (265) . وهذا الحديث؛ مما أنكره الأئمة على عثمان بن أبي شيبة، وحكموا بخطئه فيه: فقد أنكره الإمام أحمد إنكاراً شديداً على عثمان بن أبي شيبة، وقال ـ وقد سأله ابنه عبد الله عن هذا الحديث مع أحاديث أخرى ـ، قال: "هذه أحاديث موضوعة ـ أو كأنها موضوعة، كان أخوه ـ يعني: أبا بكر ـ لا يطنف (¬1) نفسه بشيء من هذه الأحاديث، نسأل الله السلامة في الدين والدنيا، نراه يتوهم هذه الأحاديث، نسأل الله السلامة، اللهم سلِّم سلِّم". ¬

_ (¬1) أي: لا يدنس.

وقال الخطيب: "قد رواه أبو زرعة الرازي، عن عثمان، فخالف الجماعة في إسناده؛ قال: "عن سفيان بن عبد الله بن زياد بن حدير" بدل: "سفيان الثوري"، وعندي: أن هذا أشبه بالصواب. والله أعلم. ثم أسند هذا الوجه عن أبي زرعة. وقد رواه: أبو يعلى في "مسنده" بعقب الأول (3/399-400) ، فقال: حدثنا عثمان: حدثنا جرير، عن سفيان، عن عبد الله بن زياد بن حدير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ مثله. وهذا مرسل؛ إلا أنه يتفق مع رواية أبي زرعة في أن الحديث ليس عن "عبد الله بن محمد بن عقيل". وهذه الرواية المرسلة، قد ذكر عبد الله بن الإمام أحمد، أن غير عثمان بن أبي شيبة رواه عن جرير بها. فقال في "العلل" (5167) : "وإنما كان يُحدث به جرير، عن سفيان، عن عبد الله بن حدير (¬1) بن زياد القمي ـ مرسل". وكذلك قال الدارقطني، قال (¬2) : " يقال: إن عثمان بن أبي شيبة وهم في إسناده، وغيره يرويه عن ¬

_ (¬1) في الأصل "جرير"، وهو تصحيف، على أن "حدير" أيضاً مشكل، فإنه يقتضي أنه مقلوب؛ فإنه "زياد بن حدير" وليس العكس، اللهم إلا أن يكون "جرير" مصحفاً من "محمد"؛ فإنه "سفيان بن عبد الله بن محمد بن زياد بن حدير"، كما في "التاريخ" للبخاري و "الثقات"، وكما سيأتي. والله أعلم. (¬2) نقله ابن الجوزي في " العلل المتناهية " (1/173) .

جرير، عن سفيان بن عبد الله بن محمد بن زياد بن حدير ـ مرسلاً ـ، وهو الصواب (¬1) . كذا قال: " سفيان بن عبد الله "، ولم يقل " سفيان عن عبد الله "، وهذا هو الصواب، أنه " سفيان بن عبد الله بن محمد بن حدير "، وأن ما جاء في رواية أبي زرعة وأبي يعلى، وكلام عبد الله بن أحمد، الظاهر أنه تصحيف ناسخ أو طابع، صفح " بن " فقال " عن ". وقد يكون ذلك من عثمان نفسه، إلا أن هذا لا يكون في كلام عبد الله بن أحمد؛ لأنه إنما يحكي ما رواه غير عثمان عن جرير. وإنما رجحتُ أنه " سفيان بن عبد الله " كما جاء في كلام الدارقطني ¬

_ (¬1) قلت: هذه الروايات، وتلك النقول؛ تدل على أن الرواية المرسلة رواها جمع عن جرير، وأنها مشهورة عنه، وأن الحديث ليس من حديث الثوري، بل من حديث سفيان بن عبد الله بن حدير وفي ذلك؛ رد على صاحب كتاب " صحيح السيرة النبوية " الشيخ الفاضل محمد ابن رزق ابن طرهوني (1/325) ؛ حيث أوهم أنه لم يروه هكذا إلا أبو زرعة وأن السند إليه في نظر، ثم حسن الحديث. وقد علمتَ؛ أن أبا يعلى أيضاً قد روى الوجهين عن عثمان، ولا أدري؟ كيف لم يقف الشيخ الفاضل على رواية أبي يعلى المرسلة؛ فإنها عقب الرواية الموصولة في " مسنده " وقد وقف هو عليها. فأين تفرد أبي زرعة؟ ثم كيف وقد اشتهر إرسال الحديث عن جرير من غير طريق عثمان؟! ورواية أبي يعلى للحديث عن عثمان على الوجهين؛ يدل على أن الاضطراب فيه من عثمان نفسه، وليس من أحد ممن دونه. وأي شيء ينفع كثرة من رواه عن عثمان موصولاً؛ إذا كان عثمان نفسه هو المخطئ في الحديث، والمضطرب فيه؟! وأنه كما رواه موصولاً، رواه أيضاً مرسلاً، وأنه تُوبع معلى إرساله ولم يتابع على وصله؟!

؛ لأن سفيان هذا هو الذي ترجم له البخاري في " التاريخ الكبير " (2 / 2/94) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (2 / 2 221) وابن حبان في " الثقات " (6 / 405) ، وذكروا أنه يروي عنه جرير بن عبد الحميد، راوي هذا الحديث عنه. ولم يذكروا: " عبد الله بن محمد بن زياد بن حدير "، ولا " عبد الله بن زياد بن حدير "، ولا عبد الله بن حدير بن زياد ". قال الشيخ المعلمي (¬1) : " كأن جريراً روى هذا: فقال: " سفيان بن عبد الله بن محمد، عن جابر "، فتحرفت على عثمان كلمة "بن" فصارت " عن " فصار " سفيان عن عبد الله بن محمد " فظن عثمان أن " سفيان " هو الثوري؛ لأن جريراً إذا روى عن سفيان وأطلق فهو الثوري، وظن أن " عبد الله بن محمد " هو ابن عقيل، لأنه المشهور بعبد الله بن محمد في شيوخ الثوري " (¬2) . مثال آخر: حديث: يزيد بن زريع، قال: ثنا حميد الطويل، عن يوسف بن ماهك المكي، قال: كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم، فأداها إليهم، فأدركت لهم من مالهم مثليها، قال: قلت: أقبض الألف الذي ذهبوا به منك؟ قال: لا؛ حدثني أبي، أنه سمع ¬

_ (¬1) في تعليقه على " التاريخ الكبير " راجع " لسان الميزان (3/53) .. (¬2) وقد وقع مثل هذا في حديث آخر لبعض أهل العلم، وقد بينه الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ في " السلسلة الصحيحة " (6 / 2 / 1103) .

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أد الأمانة إلى من أئتمنك، ولا تخن من خانك ". أخرجه: أبو داود (3534) ، وعنه البيهقي (10/270) . وكذلك؛ رواه: محمد بن أبي عدي، عن حميد. أخرجه: أحمد (4/414) . فسياق هذه الرواية؛ أنها عن يوسف بن ماهك، عن رجل، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا؛ ساقه المزي في " أطرافه " (11/237) في فصل: " ما رواه من لم يسم، عمن لم يسم ". لكن؛ رواه محمد بن ميمون الزعفراني، عن حميد الطويل، عن يوسف بن يعقوب، عن رجل من قريش، عن أُبي بن كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه: الدارقطني (3/35) ، فخالفهما في موضعين: الأول: في يوسف بن ماهك، إذ قال فيه: " يوسف بن يعقوب ". الثاني: في جعله الحديث من مسند " أُبي بن كعب "، لا من مسند هذا المبهم. والظاهر؛ أنه تصحف عليه " أبي " بفتح الألف وكسر الباء، إلى " أبي " بضم الألف وفتح الباء، ثم رواه بالمعنى، فنسبه اجتهاداً لا رواية، فقال " أبي بن كعب ".

مثال آخر: وقريب من هذا التصحيف الذي وقع لهذا الزعفراني؛ ما وقع لبعض الأفاضل المعاصرين، في: حديث: " إذا زوقتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم، فالدمار (¬1) عليكم ". فقد عزاه لأبي أبي شيبة في " المصنف " (1 100 / 2 ـ مخطوطة الظاهرية) ، هكذا " أبو خالد الأحمر، عن محمد بن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد ـ مرفوعاً ". ثم قال: " وهذا إسناد مرسل حسن ". ثم جاء له بشاهد موقوف على أبي الدرداء، وقواه به. قلت: وما نقله عن " المصنف " خطأ، وإنما الذي فيه هكذا (8799) : " حدثنا أبو خالد الأحمر، عن محمد بن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد عن أُبي، قال.. " ـ فذكره موقوفاً. فالحديث في " المصنف " ـ كما ترى ـ ليس من رواية سعيد بن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ مرفوعاً مرسلاً ـ، كما توهم ذلك الفاضل؛ وإنما هو من رواية سعيد بن أبي سعيد، عن أبي ـ وهو: أُبي بن كعب الصحابي المعروف ـ، موقوفاً عليه. فكأن " عن أبي " تصحفت على ذلك الفاضل، فظنها " عن النبي " فاختصرها، وقال " مرفوعاً " بناء على ما ظن. وبهذا يتبين أن الحديث في " المصنف " موقوف على " أُبي "، وعليه؛ فلا معنى لتقوية رفعه بالشاهد الموقوف على أبي الدرداء. ومما يؤكد صحة ما قلت: أن أبا داود رواه في " المصاحف " (ص 150) من طريقين، عن أبي خالد، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أُبي بن كعب ¬

_ (¬1) ذكر ابن الأثير في "النهاية " بلفظ: " الدبار " بالباء الموحدة، وقال " هو: الهلاك ".

ـ موقوفاً. هكذا جاء عنده: " أبي بن كعب "، منسوباً (¬1) والله التوفيق (¬2) . ¬

_ (¬1) وراجع " السلسلة الصحيحة " (1351) . وقد وقع بعض الأفاضل في مثل هذا الخطأ، في تعليقه على بعض الكتب، وقد بين الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ خطأه، وصححه في " السلسلة الصحيحة " (1/478) ، فجزاه الله خيراً. (¬2) انظر: مثالاً آخر في " الكامل " (2/633) .

الشواهد.. وتصحيف المتن

الشواهد.. وتصحيف المتن قد يقع تصحيف من قبل بعض الرواة في متن الحديث، فيقلب معناه، وربما أدى ذلك إلى إدخال الحديث في باب فقهي غير بابه، ثم يأتي من يغتر بذلك، فيجعله شاهداً لأحاديث الباب الآخر، والصواب أنه لا علاقة له بهذا الباب من قريب أو بعيد، وإنما نشأ ذلك بسبب ما وقع في متنه من تصحيف أفسد معناه. مثال ذلك: حديث: عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " العجماء جرحها جُبَار، والمعدن جبار، والنار جبار، وفي الركز الخُمُس ". أخرجه: الدارقطني (3/153) والبيهقي (8/344- 345) . فقوله في هذا الحديث " النار جبار " خطأ وتصحيف؛ وقد قال فيه معمر راويه ـ: " لا أُراه إلا وهماً ". ذكره الدارقطني والبيهقي. وذكرا أيضاً عن أحمد بن حنبل، أنه قال: " النار جبار، ليس بشيء، لم يكن في الكتب، باطل ليس بصحيح ". وأنه قال أيضاً: " أهل اليمن يكتبون النار ": " النير " ويكتبون " البير " ـ يعني: مثل

ذلك؛ يعني: فهو تصحيف ". زاد الدارقطني: " وإنما لُقن عبد الرزاق: النار جبار ". يعني: أن الذي في الكتاب " البير "، وأهل اليمن يكتبون " النار " بالياء لا بالألف، فظن بعضهم " البير " بالباء الموحد، ظنها " النير " بالنون، فقال: " النار " ورواها كذلك. وقال الأثرم (¬1) : سمعت أبا عبد الله ـ يعني: أحمد بن حنبل ـ يُسأل عن حديث: " النار جبار "؟ فقال: هذا باطل؛ ليس من هذا بشيء. ثم قال: ومن يُحدث به عن عبد الرزاق؟ قلت:حدثني أحمد بن شبويه. قال: هؤلاء سمعوا بعدما عمي، كان يُلقن فَلُقِّنه، وليس هو في كتبه، وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه، كان يلقنها بعدما عمي. اهـ. وعلق عليه الذهبي في "السير" (¬2) قائلاً: "أظنها تصحفت عليهم؛ فإن "النار" قد تكتب: "النير" على الإمالة بياء على هيئة: "البير"؛ فوقع التصحيف". ونقل ابن عبد البر (¬3) عن ابن معين، أنه قال: "أصله: "البيرجبار"، ولكنه صحفه معمر". ¬

_ (¬1) " تهذيب الكمال " (18/57) و " شرح العلل " (2/752 - 753) . (¬2) "السير" (9/569) . (¬3) في "التمهيد" (6/26) .

لكن؛ تعقبه ابن عبد البر، فقال: "في قول ابن معين هذا نظر، ولا يسلَّم له حتى يتضح". فتعقبه الحافظ بن حجر؛ قائلاً (¬1) : "ويؤيد ما قال ابن معين: اتفاق الحفاظ من أصحاب أبي هريرة على ذكر "البئر"، دون "النار"؛ وقد ذكر مسلم: أن علامة المنكر في حديث المحدث: أن يعمد إلى مشهور بكثرة الحديث والأصحاب، فيأتي عنه بما ليس عندهم؛ وهذا من ذاك". قال: "ويؤيد أيضاً: أنه وقع عند أحمد من حديث جابر، بلفظ: "والجب جبار"، بجيم مضمومة وموحدة ثقيلة، وهي: البئر" (¬2) اهـ. مثال آخر: حديث: قبيصة بن عقبة، عن سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم، عن عياض الفهري، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا نوَّرثه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ يعني: الجد. فهذا الحديث؛ صحف فيه قبيصة، فقال: "كنا نورثه"، والصواب: "كنا نؤديه"، ثم رواه بالمعنى الذي فهمه منه بعد تصحيفه إياه، فقال: "يعني الجد"، والصواب: "يعني: صدقة الفطر". ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم، منهم: الإمام مسلم، والإمام ¬

_ (¬1) في "فتح الباري" (12/355-356) . (¬2) وحكى الخطابي في "الغريب" (1/601) عن ابن المنذر، أنه ذهب أيضاً إلى أنها مصحفة.

أبو زرعة الرازي، وكذا الإمام ابن رجب الحنبلي (¬1) . ونص الإمام مسلم: " هذا خبر صحف فيه قبيصة، وإنما كان الحديث بهذا الإسناد، عن عياض [يعني: عن أبي سعيد] ، قال: كنا نؤديه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ يعني: في الطعام وغيره في زكاة الفطر ـ؛ فم يُقِر قراءته، فقلب قوله، إلى أن قال: " نورثه "، ثم قلب له معنى، فقال: " يعني الجد " اهـ. قلت: وخفيت هذه العلة على الشيخ الفاضل مقبل بن هادي الوادعي، فأدخل هذا الحديث في كتابه: " الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين " (1 /290 رقم: 395) ، وقال: " حديث صحيح "! مثال آخر: (¬2) : حديث: " إذا زار أحدكم أخاه، فلا يقومن حتى يستأذنه ". أخرجه: أبو الشيخ في " طبقات الأصبهانين " (199) : حدثنا إسحاق ابن محمد بن حكيم، قال: ثنا يحيى بن واقد، قال: ثنا ابن أبي غَنِيَّة، قال: ثنا أبي، قال: ثنا جبلة بن سحيم، عن ابن عمر ـ مرفوعاً. وقوله: " فلا يقومن " تصحيف؛ تصحف على بعض الرواة، والصواب: " فلا يقرنن ". ¬

_ (¬1) راجع: "التمييز" لمسلم (ص190) و "علل الحديث" للرازي (1641) و "شرح علل الترمذي" لابن رجب (1/428) . (¬2) أرشدني إلى هذا المثال شيخنا الشيخ الفاضل محمد عمرو بن عبد اللطيف، فجزاه الله خيراً.

من الإقران؛ أي الجمع بين التمرتين. فقد أخرجه أحمد في المسند (2/131) عن ابن غنية أيضاً، به، بهذا اللفظ: " فلا يقرنن ". ويؤكده؛ أن الحديث مشهور عن جبلة، بهذا اللفظ، رواه عنه سفيان وشعبة وغيرهما كذلك. أخرجه البخاري (3/181) ومسلم (6/123) وأبو داود (3834) والترمذي (1814) وابن ماجه (3331) وأحمد (2/60) والدارمي (2/103) والبيهقي (7/281) . وفي بعض ألفاظه: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرن الرجل بين التمرتين، حتى يستأذن صاحبه ". وفي بعضها: " كان ابن الزبير يرزقنا التمر، وقد كان أصاب الناس يومئذ جهد، وكنا نأكل، فيمر علينا ابن عمر ونحن نأكل، فيقول: لا نقارنوا؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الإقران، إلا أن يستأذن الرجل أخاه " (¬1) . وبالله التوفيق. مثال آخر: حديث موسى بن عقبة، عن سالم أبي النضر، عن بُسر بن ¬

_ (¬1) وقد توسع الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ في تخريج طرق هذا الحديث في " السلسلة الصحيحة " (182) (2323) ، فليراجعه من شاء.

سعيد، عن زيد بن ثابت، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حُجْرة من حصير في رمضان ـ الحديث. أخرجه البخاري (731) (7290) . ورواه: عبد الله بن سعيد، عن سالم، به، بلفظ: " احتجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. ". وهو أيضاً في البخاري (6113) . وقوله " احتجر "، أي: اتخذ حجرة؛ كما في الرواية الأولى، فجاء عبد الله بن لهيعة، فروى الحديث عن موسى بن عقبة، بهذا الإسناد، وذكر أن موسى كتب به إليه، واختصر الحديث وصحفه فقال: " احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ". وقوله " احتجم " غلط فاحش؛ وإنما هو: " احتجر "، أي: اتخذ حجرة (¬1) . مثال آخر: روى: مندل بن علي، عن عمر بن صهبان، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدوا يوم الفطر حتى يُغَدِّي أصحابه من صدقة الفطر. أخرجه: ابن ماجه (1755) والعقيلي (3/173) . ¬

_ (¬1) وراجع: " فتح الباري " لابن رجب الحنبلي (4/282) و " التمييز " (ص 178 - 188) .

وقال العقيلي: " وقد روى موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الإمام؛ وهذه الرواية أولى " (¬1) . قلت: فلعل " تُؤدي " تصحفت على بعض الرواة إلى " يغدي "، فانقلب الحديث، وفسد معناه. والله أعلم. مثال آخر: حديث أبي الدرداء، مرفوعاً: " لا تأكل متكئاً........ ". أخرجه الطبراني في " الأوسط " (23) وابن عساكر (45/408) وابن حبان في " المجروحين " (1/297) . فقد تصحف في بعض الكتب " متكئاً " إلى " منكباً "، ففسد معناه. وقد جاء على الصواب في المصادر المشار إليها، وكذلك في " مجمع البحرين " (987) (4038) و " مجمع الزوائد " (5/24) و " الجامع الكبير " للسيوطي. وعليه؛ فلا يصلح هذا الحديث شاهداً لحديث ابن عمر ـ عند أبي داود (3774) وابن ماجه (3370) ـ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يأكل الرجل هو منبطح على بطنه. كما بين ذلك الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ بياناً شافياً في ¬

_ (¬1) وراجع: " شرح البخاري " لابن رجب (6/90) .

" السلسلة الصحيحة " (2394) (¬1) ومن لطيف ما يحكى في ذلك: قال البرذعي (¬2) : قلت لأبي زرعة: بشر بن يحيى بن حسان؟ قال خراساني من أصحاب الرأي، كان لا يقبل العلم، وكان أعلى أصحاب الرأي بخراسان، فقدم علينا، فكتبنا عنه، وكان يناظر، احتجوا عليه بطاوس، فقال ـ بالفارسية ـ: يحتجون علينا بالطيور! قال أبو زرعة: كان جاهلاً؛ بلغني أنه ناظر إسحاق بن راهويه في القُرْعة، فاحتج عليه إسحاق بتلك الأخبار الصحاح، فأفحمه، فانصرف ففتش كتبه، فوجد في كتبه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه نهى عن القَزَع (¬3) ، فقال لأصحابه: قد وجدت حديثاً أكسر به ظهره، فأتى إسحاق، فأخبره، فقال إسحاق: إنما هو القزع، أنه يُحلق بعض رأس الصبي، ويُترك البعض! ¬

_ (¬1) وانظر: مثالاً آخر في " الصحيحة " أيضاً (6 / / 1140 - 1141) وآخر في " الضعيفة " (3/186) . (¬2) 2/334 - 335) و " الكفاية " (ص 254) . (¬3) يعني: فظنه " القُرع "، جمع " قرعة "..

المتابعة ... والقلب

المتابعة ... والقلب مما لا شك فيه؛ أن اتفاق الرواة على رواية حديث، من غير اختلاف بينهم، يدل على حفظهم للحديث، وعدم خطئهم فيه؛ فإن الخطأ غالباً ما يكون في الحديث الفرد، وهو عن الجماعة أبعد. ومما لا شلك فيه، أن معرفة كون الراوي تابع غيره فيما روى فرع من ثبوت الرواية عن كل من المتابِع والمتابَع، أما مع عد صحة الرواية إليهما، أو إلى أحدهما، فلا سبيل لإثبات المتابعة؛ إذ ما بُني على خطأ فهو خطأ (¬1) . وكثيراً ما يجيء الخلل في إثبات المتابعة من هذا الباب، وذلك بأن يكون الحديث معروفاً من رواية راو معين، فيأتي بعض من لم يحفظ الحديث على وجهه، فيبدل الراوي براو آخر مشارك له في الطبقة. كخبر مشهور عن " سالم " يجعله عن " نافع "، وآخر مشهور عن " مالك "، يجعله عن " عبيد الله بن عمر " ونحو ذلك. فيظن من لم يفطن لذلك، أن هؤلاء جميعاً قد رووا الحديث، فيثبت بمقتضى ذلك المتابعة، ويدفع التفرد. مثال ذلك: حديث: " الأعمال بالنيات ". ¬

_ (¬1) راجع: ما تقد في " فصل: ثبت العرش ... ثم انقش ".

وهو حديث صحيح ثابت متفق عليه، والأئمة إنما صححوه من طريق واحدة، من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا يصح إلا من هذا الطريق؛ هكذا قال أهل العلم وأئمته (¬1) . ومع ذلك؛ فقد جاءت متابعة ليحيى بن سعيد الأنصاري، بإسناد حسن في الظاهر، فلم يعتد بها أهل العلم، وتتابعوا على إنكارها. وذلك؛ فيما رواه محمد بن عبيد الهمداني: حدثنا الربيع بن زياد الضبي: حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن محمد بن إبراهيم التيمي، به. أخرجه: ابن حبان في ترجمة الربيع هذا من " الثقات " (6/298- 299) ، وقال: " يُغرب ". وكذلك؛ ابن عدي في ترجمته من " الكامل " (3/997) ، وقال: " هذا لا أصل له عن محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم؛ لم يروه عنه غير الربيع بن زياد، وقد روى الربيع بن زياد عن غير محمد بن عمرو من أهل المدينة أحاديث لا يتابع عليها، وعند محمد بن عبيد، عن الربيع الهمداني أحاديث لا يتابع عليها ". وكذا؛ أخرجه الخليلي في ترجمة الربيع من " الإرشاد " (¬2) ، وقال: ¬

_ (¬1) راجع " ما سيأتي حول هذا الحديث في " فصل: الشواهد ... وإسناد في إسناد ". (¬2) " الإرشاد " (2/631- 632) .

" هو من غرائب حديثه، تفرد به عن محمد بن عمرو بن علقمة، والمحفوظ هذا من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، وعند الربيع لهذا أخوات ". وقال الذهبي في " تذكرة الحفاظ " (¬1) : " غريب جداً من حديث محمد بن عمرو، تفرد به عنه الربيع بن زياد، وما أظن رواه عنه غير ابن عبيد، وهو صدوق ". وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة الربيع من " اللسان " (¬2) ، بعد أن ذكر عن ابن حبان، أنه ساق له هذا الحديث في " الثقات "، وقال " يُغْرب ". قال الحافظ: " وهو من غرائبه، والظاهر أنه إنما سمعه من يحيى بن سعيد، فحدث به عن محمد بن عمرو (¬3) على سبيل الخطأ ". فهكذا؛ تتابع الأئمة على إنكار هذه المتابعة، وتخطئة الراوي الذي جاء بها، وعدم الاعتداد بها في دفع التفرد، على الرغم من أن أصل الحديث صحيحة، وراوي المتابعة صدوق لا بأس به، وهو لم يخالف، بل تفرد فحسب، وقد كان بإمكان الأئمة أن يتسامحوا في إثبات هذه المتابعة التي جاء بها، ومع ذلك فلم يفعلوا، بل فعلوا عكس ذلك تماماً، وأنكروا عليه ¬

_ (¬1) " تذكرة الحفاظ " (2/774) . (¬2) " اللسان " (2/ 444 - 445) . (¬3) في المطبوع من " اللسان ": " محمد ابن إبراهيم "، وهو خطأ.

هذه المتابعة، ولم يدفعوا بها التفرد، وأصروا على تفرد يحيى الأنصاري بالحديث. وهذا؛ من أدل دليل على أنه ليس كل متابعة تجيء يعتد بها، بل ذلك راجع إلى اعتبار حفظ الراوي لها، وعدم خطئه فيها، ولو كان ممن يحتج بحديثه في الأصل. مثال آخر: حديث: أحمد بن صالح المصري، عن عنبسة بن خالد، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: زعم عبد الله بن عروة، أن أبا هريرة قال: سمعت سهل بن أبي خيثمة ـ الحديث في القسامة. أخرجه: الطبراني في " الأوسط " (3539) . وهذا إسناد ـ في الظاهر ـ حسن، ومع ذلك فقد أنكره أئمة الحديث من حديث الزهري على عنبسة هذا، منهم: أبو حاتم وأبو زرعة (¬1) . وقد ذهب أبو حاتم إلى أن أصل هذا الحديث من حديث خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه، عن عبد الله بن عروة، به. فلا شأن للزهري بهذا الحديث. مثال آخر: حديث: بكير بن عمرو، عن مِشْرَح بن هاعان، عن عقبة بن عامر ـ مرفوعاً ـ: " لو كان بعدي نبي، لكان عمر ". ¬

_ (¬1) " علل الحديث " لابن أبي حاتم (1383) .

أخرجه: الترمذي (3686) وأحمد (4/154) والحاكم (3/85) والطبراني (17/298) والخطيب في " الموضح " (2/414) . وسئل الإمام أحمد عن هذا الحديث (¬1) ، فقال: " اضرب عليه؛ فإنه عندي منكر ". وقال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث مشرح بن هاعان ". فمحصلة القولين: أن هذا الحديث خطأ، وأن المخطئ فيه مشرح هذا؛ لأنه هو المتفرد به. ومشرح هذا؛ وإن كان من جملة الثقات، إلا أنهم تكلموا في حفظه، وقد ذكره ابن حبان في " الثقات " (5/452) ، وقال: " يُخطئ ويُخالف ". وقال في " المجروحين " (3/28) : " يروي عن عقبة بن عامر أحاديث مناكير، لا يتابع عليها، والصواب في أمره: ترك ما انفرد من الروايات، والاعتبار بما وافق الثقات ". قلت: وهذا من حديثه عن عقبة بن عامر، ومما تفرد به، ولم يتابع عليه من قِبَل الثقات ولا غيرهم، وقد أُنكر عليه كما سبق. لكن؛ جاءت متابعة له من أبي عشانة واسمه: حي بن يومن، غي ¬

_ (¬1) " المنتخب من علل الخلال " (106) بتحقيقي.

ر أنها متابعة لا تصح من جهة إسنادها، ثم إن راويها اضطرب فيها، فروى الحديث مرة أخرى عن مشرح على الصواب، لا عن أبي عشانة. فقد رواه: يحيى بن كثير الناجي، عن ابن لهيعة، عن أبي عشانة، عن عقبة بن عامر، به. أخرجه: الطبراني (17/310) . وهذا؛ لا ينفع لإثبات المتابعة لمشرح، ودفع تفرده بالحديث فابن لهيعة ضعيف الحفظ، وقد اضطرب فيه، فرواه مرة أخرى عن مشرح، عن عقبة، به. أخرجه: أبو بكر النجاد في " الفوائد المنتقاة " ـ كما في " السلسلة الصحيحة " للشيخ الألباني (327) . وهذا هو الصواب، فالحديث حديث مشرح. والله أعلم. مثال آخر: وقد اضطرب ابن لهيعة في حديث آخر بنحو هذا الاضطراب. وهو حديث: " أكثر منافقي أمتي قراؤها ". فقد رواه مرة، فقال: عن أبي عشانة، عن عقبة بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه: الطبراني (17/305) . وقال مرة أخرى: عن مشرح بن هاعان، عن عقبة.

أخرجه أحمد (4/151) والفريابي في "صفة النفاق " (30 - 31 - 32) وابن عدي (4/148) والخطيب في "التاريخ " (1/357) والذهبي في " السير " (88 / 27 - 28، 396) . وهكذا؛ اضطرب ابن لهيعة في هذا الحديث؛ إلا أن الوجه الأخير أشبه بالصواب؛ فقد توبع عليه: تابعه: الوليد بن المغيرة، عن مشرح، به. أخرجه: أحمد (4/155) والفريابي (33) . وقد استدل الإمام الذهبي ـ عليه رحمة الله ـ بهذه المتابعة على صحة هذا الوجه فقال في " السير " (8/27- 28) : " هذا حديث محفوظ؛ قد تابع فيه الوليد بن المغيرة ابن لهيعة، عن مشرح ". قلت: فعاد الحديث إلى حديث مشرح، وقد عرفتَ حاله في المثال السابق. مثال آخر: حديث: حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود ـ مرفوعاً ـ: " من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خموش، أو خدوش، أو كدوح في وجهه "، فقال: يا رسول الله، وما الغنى؟ قال: " خمسون درهماً، أو قيمتها من الذهب ". أخرجه: أبو داود (1626) والترمذي (650) والنسائي (5/97) وابن ماجه (1840) وأحمد (1/388-441) .

فهذا؛ مما تفرد به حكيم بن جبير هذا، وتكلم فيه شعبة وغيره من أجل هذا الحديث. لكن؛ رواه يحيى بن آدم، عن سفيان الثوري، عن زُبيد اليامي، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. أخرجوه أيضاً؛ إلا أحمد. فهذه الرواية؛ فيما متابعة لحكيم من زبيد. إلا أن النقاد ـ عليهم رحمة الله تعالى ـ لم يعتدوا بتلك المتابعة، وأصروا على الحكم بتفرد حكيم بالحديث، وحكموا على هذه المتابعة بالخطأ والنكارة، وصرح بعضهم بأن الخطأ فيه من يحيى بن آدم، وهو وإن كان من الثقات، إلا أنه ليس من المبرزين من أصحاب الثوري (¬1) . قال عباس الدوري (¬2) : " سمعت يحيى ـ وسألته عن حديث حكيم بن جبير، حديث ابن مسعود: " لا تحل الصدقة لمن كان عند خمسون درهماً " ـ " يرويه أحد غير حكيم؟ فقال يحيى بن معين: نعم، يرويه يحيى بن آدم، عن سفيان، عن زبيد، ولا نعلم أحداً يرويه إلا يحيى بن آدم، وهذا وهم؛ لو كان هذا هكذا لحدث به الناس جميعاً عن سفيان، ولكنه منكر ـ هذا الكلام قاله يحيى أو نحوه ". وقال أبو بكر الأثرم (¬3) : ¬

_ (¬1) الفسوي (1/717) . (¬2) " تاريخه " (1671) و " الكامل " (2/634) . (¬3) " الكامل " (2/636) .

قلت لأحمد: حديث حكيم بن جبير في الصدقة، رواه زبيد أيضاً؟ فقال: كذا قال يحيى بن آدم ... ". وقال الإمام النسائي (¬1) : " لا نعلم أحداً قال في هذا الحديث: " عن زبيد " غير يحيى بن آدم، ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم بن جبير، وحكيم ضعيف ". وقال ابن حبان (¬2) ؛ معلقاً على بعض رواياته: " ليس له طريق يُعرف ولا رواية، إلا من حديث حكيم بن جبير ". وقد جاء لحكيم متابع آخر، من طريق غير محفوظ أيضاً: فقد رواه: محمد بن مصعب القرقساني، عن حماد بن سلمة، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. قال الإمام الدارقطني (¬3) : " ووهم ـ يعني: القرقساني ـ في قوله: " عن أبي إسحاق "، وإنما رواه إسرائيل عن حكيم بن جبير " (¬4) . قلت: فعاد الحديث إلى حكيم بن جبير؛ فلا متابعة. مثال آخر: حديث: " ماء زمزم لما شرب له ". ¬

_ (¬1) " تحفة الأشراف " (7/85) . (¬2) " المجروحين " (1/247) . (¬3) " العلل " (5/216) ، وراجع " تهذيب السنن " للمنذري (1559) . (¬4) وراجع " المجروحين " (1/247) .

أخرجه: أحمد (3/357- 372) وابن ماجه (3062) والعقيلي (2/303) وابن عدي (4/1455) والطبراني في " الأوسط " (849) (9027) والبيهقي (5/148) وغيرهم. من طريق: عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذا الحديث؛ يرويه: عبد الله المؤمل، وقد تفرد به بهذا الإسناد، لم يتابع عليه من وجه يصح؛ قال ذلك غير واحد من الحفاظ؛ كالعقيلي، والبيهقي، وابن عدي، والطبراني، وابن حجر، وغيرهم. وقد رواه: البيهقي في " السنن الكبرى " (5/202) من طريق فيه نظر، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر، به، فذكر متابعة ابن طهمان لابن مؤمل. قال الحافظ ابن حجر (¬1) : " وقيل: إن راويها سقط عليه " عبد الله بن المؤمل "، ومن ثم قال البيهقي: إن ابن المؤمل تفرد به، وقد جرت عادة كثير من الحفاظ إطلاق التفرد مع أن مرادهم فيه تفرد الثقة ". وجزم بذلك في " التلخيص " (¬2) ، فقال: " قلت: لا يصح عن إبراهيم؛ إنما سمعه إبراهيم من ابن المؤمل ". ¬

_ (¬1) في " جزئه " في هذا الحديث (ص 25) . (¬2) " التلخيص " (2/510) .

قلت: صدق الحافظ ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله: " لا يصح عن إبراهيم "، أما أنه أخذه من ابن المؤمل، فهذا أمر وارد، ولكنه بعيد هنا؛ لأنه لو كان كذلك لرواه أصحابه الثقات ـ أو بعضهم ـ عنه. والحاصل؛ أن متابعة إبراهيم لابن المؤمل لا تصح، فيبقى ابن المؤمل متفرداً بالحديث؛ وبهذا يَسْلَم حكم البيهقي بتفرده به، ولا يصح تعقب ابن التركماني له برواية ابن طهمان، لاسيما؛ وأنه لم يتفرد بقوله هذا، بل سبقه به غير واحد من الحفاظ، وقد سبقت الإشارة إليهم. وقد جاءت متابعة أخرى لابن المؤمل؛ وهي لا تصح أيضاً: فقد رواه: عبد الرحمن بن المغيرة، عن حمزة الزيات، عن أبي الزبير، به. أخرجه الطبراني في " الأوسط " (3815) ، وقال: " لم يرو هذا الحديث عن حمزة الزيات، إلا عبد الرحمن بن المغيرة ". ... قال الحافظ ابن حجر (¬1) : " ومن طريق حمزة هذه؛ رويناها في " الأوسط " للطبراني؛ وأخطأ فيه راويه؛ إنما هو: عن عبد الله بن المؤمل، فهو المتفرد به ". مثال آخر: حديث: عبد الله بن دينار، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وعن هبته ". ¬

_ (¬1) في " جزئه " (ص 25) .

فهذا الحديث؛ حديث ابن دينار، عن ابن عمر، هو المتفرد به عنه، لا يصح إلا من هذا الوجه. هكذا؛ قال الأئمة، عليهم رحمة الله تعالى. وقد رواه بعضهم، فقال: عن نافع عن ابن عمر؛ فخطأه الأئمة في ذلك. فقد رواه: يحيى بن سليم الطائفي ـ وهو صدوق في حفظه ضعف ـ عن عبيد الله بن عمر وإسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر. قال الترمذي (¬1) : " وهم فيه يحيى بن سليم، والصحيح: هو عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ هكذا روى عبد الوهاب الثقفي وعبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر" اهـ. وقال أبو يعلى الخليلي (¬2) : " أخطأ فيه يحيى؛ لأن هذا رواه عبيد الله وغيره، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ وليس هو من حديث نافع ". وقال ابن رجب (¬3) : " لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى من هذا الوجه ـ يعني: عن ابن دينار ـ، ومن رواه من غيره فقد وهم وغلط". ¬

_ (¬1) في آخر " الجامع " (5/759) ، وكذلك في " العلل الكبير " (ص 181- 182) . (¬2) في " الإرشاد " (1/386-387) وانظر " الأوسط " للطبراني (1319) . (¬3) في " شرح العلل " (2/629) .

ورُوي من وجه آخر عن نافع، وهو خطأ أيضاً: فقد رواه: سعيد بن يحيى الأموي، عن أبيه، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، به. قال أبو حاتم الرازي (¬1) : " نافع؛ أخذ هذا الحديث عن عبد الله بن دينار؛ ولكن هكذا قال ". ورواه أبو حاتم الرازي، عن قبيصة بن عقبة، عن سفيان الثوري، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه الخليلي في " الإرشاد " (2/572) . وقال الخليلي: " وهذا مما نُقِمَ على أبي حاتم؛ فليس هذا من حديث نافع عن ابن عمر؛ إنما هو عند سفيان: عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، ورواه عبيد الله بن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ ونافع هاهنا خطأ، وقد حدث به غير أبي حاتم، عن قبيصة، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ على الصواب ". وذكر الحافظ ابن حجر في " النكت " (¬2) رواية قَبيصة هذه، ثم قال: " وقد وهم فيه قبيصة؛ فقد خرجه الشيخان في " الصحيحين " من حديث الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، على المحفوظ ". ¬

_ (¬1) في " العلل " (1107) . (¬2) " النكت على كتاب ابن الصلاح " (2/671- 672) .

قال: " وعلى تقدير أن يكون محفوظاً، فقد سقط منه " عبد الله بن دينار " بين نافع وابن عمر؛ كما أشار إليه أبو حاتم قبل " اهـ. قلت: وهذا من الأخطاء التي تتوارد عليها الأذهان، ويتفق على الخطأ فيها الرواة، لكونها جارية على الجادة المعهودة. وقد رواه بعضهم، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمرو. رواه هكذا: أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، عن أبيه، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار، به. أخرجه: الطبراني في " الأوسط " (50) . وقال: " لم يتفرد عن سفيان، عن عمرو بن دينار؛ إلا يحيى بن حمزة، تفرد به ولده عنه؛ ورواه الناس، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار ". قال الحافظ (¬1) : " وهو وهم؛ والمحفوظ من حديث الثوري، عن عبد الله بن دينار، كما تقدم. والله أعلم ". قلت: وقد وقع يحيى بن حمزة في حديث آخر في مثل هذه الخطأ، فراجعه في كتابي " ردع الجاني " (ص 124) . ولعل وقوع ذلك بسبب التصحيف، فإن تصحيف " عبد الله " إلى " عمرو " سهل؛ لاسيما وأنهما مشهوران بالرواية عن ابن عمر، وبرواية ¬

_ (¬1) في " النكت " (2/672) .

الثوري عنهما. وقد أبدل أحدهما بالآخر في حديث " البيعان بالخيار "، وقد سبق الكلام فيه في موضعه (¬1) . مثال آخر: حديث: صدقة بن موسى الدقيقي، عن فرقد السبخي، عن إبراهيم عن علقمة، عن ابن مسعود ـ مرفوعاً ـ: " كل معروف صَنَعْتَه إلى غني أو فقير، فهو صدقة ". أخرجه: الطبراني في " الكبير " (10/110) وكذا في " مكارم الأخلاق " (112) وابن عدي (4/1395) والبزار (1582) والدارقطني في " الأفراد " (213/ب ـ أطرافه) وأبو نعيم في " الحلية " (3/49) . وقال ابن عدي ـ في ترجمة صدقة ـ: " وهذا الحديث عن فرقد؛ لا أعلم يرويه عنه غير صدقة بن موسى ". وقال البزار: " وهذا الحديث، لا نعلمه يُروى عن عبد الله، إلا من هذا الوجه، بهذا الإسناد ". وقال الدارقطني: " غريب من حديث فرقد السبخي عن إبراهيم، تفرد به: صدقة بن موسى الدقيقي ". ¬

_ (¬1) راجع: " فصل: المتابعة.. والتصحيف ".

وقال أبو نعيم: " غريب من حديث فرقد، تفرد به عن فرقد: صدقة بن موسى " (¬1) . فأنت ترى الأئمة قد تتابعوا على أن صدقة بن موسى الدقيقي هو المتفرد بهذا الحديث عن فرقد السبخي، وقد اتفقوا على ذلك، واجتمعت عليه كلمتهم. لكن؛ رواه أبو نعيم في " الحلية " (7/194) ، من طريق مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، عن شعبة، عن فرقد، به. وقال أبو نعيم: " غريب؛ تفرد به مسلم عن شعبة، ولا أعرف لشعبة عن فرقد غيره ". قلت: وهو خطأ قطعاً، ويدل عليه أمور: الأول: اتفاق الأئمة على أن هذا الحديث مما تفرد به صدقة الدقيقي عن فرقد. الثاني: أن شعبة لا يروي عن فرقد السبخي، إلا ما جاء في هذا الموضع؛ كما ذكر أبو نعيم. الثالث: أن المعروف عن شعبة بغير هذا الإسناد؛ فقد رواه جماعة من أصحاب شعبة، فقالوا: " عن شعبة، عن أبي مالك، عن ربعي، عن حذيفة ". وقد ذكره أبو نعيم قبل هذا، وقال: " مشهور عن شعبة ". ¬

_ (¬1) وراجع " العلل " للدارقطني (5/152) و " السلسلة الصحيحة " (2040) .

ولا أستبعد أن يكون " صدقة " تصحف إلى " شعبة "؛ فإن مسلم بن إبراهيم الفراهيدي يروي عن صدقة، كما يروي عن شعبة. وإن صح هذا؛ فالخطأ في هذا الحديث ممن دون مسلم الفراهيدي في الإسناد. والله أعلم. ومن لطيف ما جاء في ذلك: قال البرذعي (¬1) : " شهدت أبا زرعة، وذكر له صالح جزرة رجلاً ـ سماه له، أُنسيت اسمه ـ، فقال له صالح: روى شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس: " أبردوها بماء زمزم "، فوقع على أبي زرعة الضحك العظيم مما قال؛ وذاك أن هذا ليس من حديث شعبة، إنما رواه همام ". قلت: وحديث همام؛ أخرجه البخاري (4/146) . وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) في " سؤالاته لأبي زرعة " (2/577-578) .

الشواهد ... والقلب

الشواهد ... والقلب وقد يقع ذلك القلب أيضاً في طبقة الصحابة؛ كأن يكون الحديث مشهوراً من حديث صحابي معين، فيجعل من حديث صحابي آخر، فيظن من لا يفطن لهذا أنهما حديثان عن صحابيين، فيجعل كلاً منهما شاهداً للآخر، وليس الأمر كذلك؛ بل هو حديث واحد، عن صحابي واحد، أخطأ من جعله عن الصحابي الآخر. مثال ذلك: حديث: النهاس بن قهم، عن شداد أبي عمار، عن معاذ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ست من أشراط الساعة: موتي، وفتح بيت المقدس، وموت يأخذ في الناس كقعاص الغنم، وفتنة يدخل حربها بيت كل مسلم، وأن يُعطى الرجل الألف دينار فيتسخطها، وأن تغدر الروم فيسيرون في ثمانين بنداً، تحت كل بند اثنا عشر ألفاً ". أخرجه: أحمد في " المسند " (5/228) . فهذا المتن؛ صحيح ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن من حديث عوف بن مالك. أخرجه البخاري (4/123) وغيره. وأما من حديث معاذ، فهو غريب، تفرد به النهاس بن قهم هذا، وهو ضعيف.

وقد ذكر الإمام أحمد (¬1) هذا الحديث، ثم أعله بقوله: " إنما هو: عن عوف بن مالك ". أي: لا شأن لمعاذ بهذا الحديث، وإنما هو عوف بن مالك، فلعل النهاس دخل عليه إسناد في إسناد، أو لعله أراد أن يقول: " عن عوف بن مالك " فأخطأ وقال: " عن معاذ ". ويؤيد ذلك: أن شداداً هذا لا يعرف بالرواية عن معاذ؛ فهذا إسناد غريب. ثم وجدت الإمام ابن أبي عاصم قال في كتاب " الآحاد والمثاني " ... (1846) . " وليس يصح عن معاذ ـ رضي الله عنه ـ إلا ما روى عنه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو قدماء تابعي الشام، وأجلتهم " (¬2) . مثال آخر " حديث: عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، أن عمر بن الخطاب قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن لله لأُناساً، ما هو بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة يمكانهم من الله تعالى " ـ الحديث. أخرجه: أبو داود (3527) والطبري في " التفسير " (11/132) والبيهقي في " الشعب " (8998) من طريق جرير بن عبد الحميد، عن عمارة، به. ¬

_ (¬1) " المنتخب من علل الخلال " (195) . (¬2) وراجع " السلسلة الصحيحة " (1883) .

وهذا منقطع؛ أبو زرعة لم يدرك عمر. لكن؛ رواه قيس بن الربيع، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن عمرو بن جرير، عن عمر. أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " (1/5) . هكذا؛ " عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير ". فإن لم تكن " عن " هذه تصحيف ناسخ أو طابع، فهي تصحيف من قيس بن الربيع نفسه؛ فإنه كان ضعيفاً. لكن؛ رواه محمد بن فضيل، فأخطأ فيه خطأ آخر. فرواه: عن أبيه، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة. فجعله من مسند " أبي هريرة "، وليس من مسند " عمر "، سالكاً فيه الجادة؛ لأن أبا زرعة أكثر ما يروي عن أبي هريرة. أخرجه: ابن حبان (573) والطبري (11/132) والبيهقي (8997) ، وهذا خطأ؛ والصواب أنه من مسند " عمر "، لا من مسند " أبي هريرة ". قال البيهقي: " كذا قال: " عن أبي هريرة "، وهو وهم؛ والمحفوظ: عن أبي زرعة، عن " عمر بن الخطاب ". وأبو زرعة، عن عمر ـ مرسلاً ". قلت: فرجع الحديث إلى الطريق الأول، وهو الصواب

وقد سبق أنه منقطع. وبهذا؛ تدرك الخطأ الذي وقع فيه المعلق على " صحيح ابن حبان " حيث اعتبر حديث أبي هريرة غير حديث عمر بن الخطاب، ثم ذهب؛ فجعل كلاً منهما شاهداً للآخر!! مثال آخر: قال ابن ماجه (1660) : حدثنا محمد بن عمر المقرئ: حدثنا إسحاق بن عيسى: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تُضحون ". قال الشيخ الألباني (¬1) : " هذا سند رجاله كلهم ثقات، غير محمد بن عمر المقرئ، ولا يعرف ـ كما في " التقريب " ـ، وأرى أنه وهم في قوله: " محمد بن سيرين "، وإنما هو " محمد بن المنكدر ". هكذا؛ رواه العباس بن محمد بن هارون وعلى بن سهل، قالا: نا إسحاق بن عيسى الطباع، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن المنكدر، عن أبي هريرة، به. أخرجه: الدارقطني في " سننه " (2/224) . وهكذا؛ رواه محمد بن عبيد ـ وهو: ابن حساب، ثقة من رجال مسلم ـ عن حماد بن زيد، به. ¬

_ (¬1) في " السلسلة الصحيحة " (1/390-391) .

أخرجه: أبو داود (2324) : حدثنا محمد بن عبيد، به. وهكذا؛ رواه روح بن القاسم وعبد الوارث ومعمر، عن محمد بن المنكدر، به. أخرجه: الدارقطني وأبو علي الهروي في " الأول من الثاني من الفوائد " (ق 20/1) ، عن روح. وأخرجه: البيهقي (4/252) عن عبد الوارث. وأخرجه: الهروي، عن معمر، قرنه مع روح، رواه عنهما يزيد بن زريع. وقد خالفه في رويته عن معمر: يحيى بن اليمان، فقال: عن معمر، عن محمد بن المنكدر، عن عائشة ... أخرجه: الترمذي (802) والدارقطني (2/225) . وهو عندي ضعيف من هذا الوجه؛ لأن يحيى بن اليمان ضعيف من قِبل حفظه، وفي " التقريب ": " صدوق عابد، يخطئ كثيراً، وقد تغير ". قلت: ومع ذلك؛ فقد خالفه يزيد بن زريع، وهو ثقة ثبت، فقال: عن معمر، عن محمد بن المنكدر، عن أبي هريرة. وهذا هو الصواب بلا ريب، أنه من مسند أبي هريرة، ليس من مسند عائشة " اهـ. انتهى كلام الشيخ الألباني حفظه الله تعالى. ويتبين مما سبق: أن هذا الحديث أخطأ فيه الرواة في موضعين؛

كلاهما أوهم التعدد: الأول: إبدال " محمد بن المنكدر " بـ " محمد بن سيرين "؛ والصواب: " ابن المنكدر ". الثاني: إبدال " أبي هريرة " بـ " عائشة "؛ والصواب: " أبوهريرة ". ثم قال الشيخ الألباني: " ومما سبق يتبين؛ أن رواية محمد بن عمر المقرئ عند ابن ماجه، منكرة؛ لجهالته، ولمخالفته الثقات؛ فقول أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ في تعليقه على " مختصر السنن " (3/213) : " وهذا إسناد صحيح جداً على شرط الشيخين " مما لا يخفى فساده " (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) وانظر " مثالاً آخر في " الإرواء " (6/352) .

المتابعة ... والإقران

المتابعة ... والإقران قد يكون الحديث حديث رجل واحد، هو المتفرد به، فيأتي بعض من يروي الحديث عنه، فيقرن معه رجلاً آخر أو أكثر، والصواب أن الحديث ليس من حديث من قرن معه، بل هو حديثه، ليس من حديث غيره. فمن لا يفطن لذلك، يظن أن الحديث من رواية هؤلاء جميعاً، فيدفع التفرد، ويثبت المتابعة، وليس الأمر كذلك. مثال ذلك: حديث: أبي أمية الطرسوسي، عن عاصم، عن ابن جريج، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن ". هذا الحديث؛ سيأتي (¬1) أن أبا عاصم أخطأ في متنه، وأن الصواب بهذا الإسناد متن: " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن، يجهر به ". إلا أن أبا أمية الطرسوسي أخطأ على أبي عاصم في هذا الحديث خطأ آخر، حيث جعله من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة ـ كلاهما ـ، عن أبي هريرة، والصواب: أنه حديث أبي سلمة وحده عنه، ¬

_ (¬1) انظر: المثال الأول من " فصل ... شاهد اللفظ ... وشاهد المعنى ".

ليس هو من حديث سعيد. قال أبو علي النيسابوري (¬1) : " قول أبي أمية: " عن سعيد بن المسيب " وهم منه في هذا الحديث ". وقال الخطيب عقبه: " روى هذا الحديث عبد الرزاق بن همام، وحجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وحده ". قلت: وكذلك أخرجه أحمد (2/285) من طريق محمد بن بكر البرساني، عن ابن جريج، مثل رواية عبد الرزاق وحجاج بن محمد. وقال الدارقطني (¬2) : " وقع في إسناده وهم من أبي أمية، وهو قوله: " عن سعيد بن المسيب " مع أبي سلمة ". مثال آخر: حديث: عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن ثابت، عن أنس، قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ لهم في الصلاة فقرأ بها، افتت بـ {قل هو الله أحد} حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها ـ الحديث. أخرجه: الترمذي (2901) عن البخاري، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن الدراوردي، به. ¬

_ (¬1) " تاريخ بغداد " (1/395) . (¬2) في " العلل " (9/240) .

وقد علقه البخاري في نفسه في " الصحيح " (2/255) ، فقال: " وقال عبيد الله بن عمر، عن ثابت ... " ـ فذكره. ورواه عنه؛ مصعب بن عبد الله الزبيري. أخرج حديثه: أبو يعلى (6/83) وابن حبان (794) والطبراني في " الأوسط " (898) . وكذلك؛ رواه محرز بن سلمة، عن الدراوردي. أخرج حديثه: البيهقي (2/61) . وكذلك؛ إبراهيم بن حمزة. أخرج حديثه: ابن خزيمة (537) والبيهقي. وهذا الحديث؛ مما تفرد به عبد العزيز الدراوردي عن عبيد الله بن عمر، هكذا قال غير واحد من أهل العلم. قال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه، من حديث عبيد الله بن عمر، عن ثابت ". وقال الطبراني: " لم يرو هذا الحديث عن عبيد الله إلا عبد العزيز " (¬1) . ¬

_ (¬1) وهو في " الفتح " لابن حجر (2/257) .

وقال الدارقطني: " غريب من حديث عبيد الله، عن ثابت؛ تفرد به عبد العزيز الدراوردي، عنه ". وقال ابن خزيمة: " غريب غريب ". لكن؛ رواه يحيى بن أبي طالب، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن عبد العزيز بن محمد وسليمان بن بلال ـ كلاهما ـ، عن عبيد الله بن عمر ". ذكر ذلك: المزي في " تحفة الأشراف " (1/147) . فهذا الوجه؛ يوهم أن الدراوردي لم يتفرد به عن عبيد الله بن عمر، وإنما وافقه عليه سليمان بن بلال. وليس الأمر كذلك؛ فإن هذه الرواية خطأ، أخطأ فيها يحيى بن أبي طالب هذا، وليس لذكر: " سليمان بن بلال " هاهنا معنى، وإنما هو حديث الدراوردي فقط. وذلك لأمور: الأول: أن البخاري رواه ـ كما تقدم ـ عن إسماعيل بن أبي أويس بالإسناد، ولم يذكر: " سليمان بن بلال "؛ والبخاري أتقن من مئتين من مثل يحيى بن أبي طالب وذويه. الثاني: أن الأئمة قد صرحوا بأن عبد العزيز الدراوردي قد تفرد به عن

عبيد الله، منهم: الدارقطني، والطبراني، والترمذي، وغيرهم، وقد سبق كلامهم. الثالث: أن الحديث قد رواه غير ابن أبي أويس، عن الدراوردي فقط، منهم: مصعب الزبيري، ومحرز بن سلمة، وإبراهيم ابن حمزة ـ كما سبق ـ ولم يقل واحد منهم: " وعن سليمان بن بلال ". والله أعلم. مثال آخر: حديث: عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلِي، عن المستورد بن شداد، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره. رواه عن ابن لهيعة: جماعة، منهم: قتيبة بن سعيد، وحسن بن موسى الأشيب، وموسى بن داود، ومحمد بن حمير، وأسد بن موسى. أخرجه: أبو داود (148) والترمذي (40) وابن ماجه (446) وأحمد (4/229) والطبراني (20/306) والبغوي في " شرح السنة " (1/419) . وقال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة ". لكن؛ رواه أحمد بن عبد الرحمن بن أخي أبن وهب، عن عمه عبد الله بن وهب، فقال:

" حدثنا الليث بن سعد، وابن لهيعة، وعمرو بن الحارث، عن يزيد ـ به. ". فقرن مع ابن لهيعة: الليث ابن سعد، وعمرو بن الحارث. أخرجه: البيهقي (1/76) وابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص 31 - 32) . فظاهر هذه الرواية؛ يوهم أن ابن لهيعة لم يتفرد بهذا الحديث، وإنما هو متابع من قِِبل هذين اللذين قرنا معه. وليس الأمر كذلك؛ فإن هذه الرواية خطأ، ليس لليث ولا لعمرو شأن بهذا الحديث، وإنما أخطأ ابن أخي ابن وهب حيث قرنهما معه في هذا الحديث. وابن وهب؛ كان يجمع بين هؤلاء في بعض الأحاديث التي اتفقوا على روايتها، فظن ابن أخيه أحمد بن عبد الرحمن أن هذا الحديث من تلك؛ وليس كذلك، بل هذا مما تفرد به ابن لهيعة. ويدل على ذلك أمور: الأول: أن ابن أخي ابن وهب، تكلموا فيه؛ وقال ابن يونس ـ وهو من أعلم الناس بالمصريين ـ: " لا تقوم بحديثه حجة ". الثاني: أنه خالفه ثقتان، روياه عن ابن وهب، عن ابن لهيعة وحده، مثل رواية الناس. وهذان الثقتان، هما: محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وبحر بن نصر،

أخرج حديثهما البيهقي (1/76) . فرواية ابن أخي ابن وهب بمقتضى هذا، تكون شاذة أو منكرة. الثالث: قول الترمذي " لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة "، يدل على أن الحديث حديثه، ليس حديث غيره (¬1) . ومما يؤكد خطأ ابن أخي ابن وهب: أنه رواه مرة أخرى، عن هؤلاء الثلاثة، فاضطرب فيه، حيث رواه عنهم بإسناد آخر، فقال: عنهم، عن أبي عشانة، عن عقبة بن عامر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه: أبو يعلى الخليلي في " الإرشاد " (1/399- 414) . والله أعلم. ¬

_ (¬1) وراجع " التلخيص الحبير " (1/105) .

الإقران.. والمخالفة

الإقران.. والمخالفة وقد يكون من قُرِنَ معه يروي الحديث أيضاً، ولكنه يخالفه في إسناد الحديث أو متنه، فيجيء من يروي الحديث عنهما، ويقرن بينهما في روايته، فيحمل رواية أحدهما على رواية الآخر على الاتفاق، خطأ منه، والصواب أن بين روايتيهما اختلافاً. فمن لا يفطن لذلك، يحسب الرواة متفقين، بينما هم في الواقع مختلفون؛ فهي مخالفة، وليست متابعة. ولهذه العلة؛ لم يقبل الأئمة من كل أحد الجمع بين الرواة في الأسانيد، اللهم إلا أن يكون الراوي ممن اشتهر بالحفظ وبرز فيه، بحيث لا يختلط عليه حديث شيخ بحديث شيخ آخر، بل يميز بين ذلك. وقد كان ابن عيينة يروي عن ليث ابن أبي نجيح جميعاً، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن علي؛ حديث القيام للجنازة. قال الحميدي: فكنا إذا وقفناه عليه، لم يدخل في الإسناد: " أبا معمر "، إلا في حديث ليث خاصة (¬1) . وقال أبو يعلى الخليلي (¬2) : " ذاكرت يوماً بعض الحفاظ، فقلت: البخاري لم يخرج حماد بن سلمة في " الصحيح "، وهو زاهد ثقة؟! ¬

_ (¬1) " شرح علل الترمذي " (2/865-866) . (¬2) في " الإرشاد " (1/417-418) .

فقال: لأنه جمع بين جماعة من أصحاب أنس،فيقول: حدثنا قتادة وثابت وعبد العزيز وصهيب "، وربما يخالف في بعض ذلك! فقلت: أليس ابن وهب اتفقوا عليه، وهو يجمع بين أسانيد؛ فيقول: " حدثنا مالك وعمرو بن الحارث والليث بن سعد والأوزاعي "، ويجمع بين جماعة غيرهم؟! فقال: ابن وهب؛ أتقن لما يرويه، وأحفظ له " اهـ. ... وهكذا؛ يدل على أن الجمع بين الرواة في الأسانيد، لا يقبل من كل أحد، ولا من كل ثقة، لاسيما من عُهد عليه الخطأ في مثل ذلك، وجُرب عليه (¬1) . وبالله التوفيق. مثال آخر: وهذا؛ أحد أنواع الإدراج في الإسناد، وقد مثل له ابن الصلاح: بحديث: عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن كثير العبدي، عن الثوري، عن منصور والأعمش وواصل الأحدب، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن ابن مسعود، قلت: يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ ـ الحديث. قال ابن الصلاح (¬2) : " وواصل؛ إنما رواه عن أبي وائل، عن عبد الله، من غير ذكر ¬

_ (¬1) وقد توسع الحافظ ابن رجب الحنبلي في ذكر أمثلة ذلك في كتابه " شرح العلل " (2/813-817) ؛ فراجعه؛ فإنه مهم. (¬2) " المقدمة " (ص 129-130) .

" عمرو بن شرحبيل " بينهما ". مثال آخر: وذكرالحافظ ابن حجر (¬1) مثالاً آخر، وهو: ما رواه: عثمان بن عمر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن حلام، عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ، قال خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيت سودة ـ رضي الله عنها ـ فإذا امرأة على الطريق قد تشوقت، ترجو أن يتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: " إذا رأى أحدكم امرأة تعجبه، فليأت أهله؛ فإن معها مثل الذي معها ". قال الحافظ: " فظاهر هذا السياق؛ يوهم أن أبا إسحاق رواه عن أبي عبد الرحمن وعبد الله بن حلام جميعاً، عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ؛ وليس كذلك، وإنما رواه أبو إسحاق، عن أبي عبد الرحمن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وعن عبد الله بن حلام، عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ متصلاً؛ بينه عبيد الله بن موسى وقبيصة ومعاوية بن هشام، عن الثوري متصلاً ". مثال آخر: روى ... : عبد الرزاق (6/184) ، عن معمر، عن ثابت وأبان، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا شغار في الإسلام ـ والشغار ¬

_ (¬1) في " النكت " (2/833-834) .

أن يبدل الرجلُ الرجلَ بأخته بغير صداق ـ ولا إسعاد في الإسلام، ولا جَلَبَ في الإسلام، ولا جَنَبَ ". وقد أنكر الإمام أحمد وأبو حاتم الرازي وغيرهما هذا الحديث عن ثابت، وأنه إنما هو من حديث أبان فقط، لا شأن لثابت به. والظاهر؛ أن ثابتاً إنما روى عن أنس تفسير الشغار فقط، من قوله ليس مرفوعاً، وأما الحديث؛ فإنما يرويه أبان، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخطأ عبد الرزاق ـ أو معمر ـ، حيث حمل رواية ثابت على رواية أبان وساقهما على الاتفاق، مُدْرجاً الموقوف الذي رواه ثابت بالمرفوع الذي جاء به أبان. ومما يقوي ذلك؛ أن عبد الرزاق روى تفسير الشغار، عن معمر، عن ثابت، عن أنس، من قوله بعده بأحاديث، من غير ذكر القدر المرفوع في روايته. وراجع كتابي في علل الأحاديث، فقد بينت فيه علة هذا الحديث، وشرحتها شرحاً مفصلاً. والله الموفق. مثال آخر: ما يرويه: عمرو بن عاصم، عن همام وجرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتجم في الأخدعين والكاهل. أخرجه: الترمذي في " الجامع " (2051) و " الشمائل " (357) والحاكم (4/210) .

وهذا؛ يوهم أن هماماً يروي الحديث كمثل ما يرويه جرير بن حازم، من غير اختلاف بين روايتيهما، وليس كذلك؛ وإنما يرويه همام بن يحيى، عن قتادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، بدون ذكر " أنس بن مالك " في الإسناد. هكذا؛ رواه عنه: عفان بن مسلم. أخرجه: ابن سعد (1/2/145) ويؤكد ذلك؛ أن الأئمة أنكروا وصل هذا الحديث على جرير بن حازم، وذكروا أن الصواب فيه الإرسال. قال ابن رجب (¬1) : " وقد أنكروا عليه ـ يعني: جريراً ـ أحمد ويحيى وغيرهما من الأئمة أحاديث متعددة، يرويها عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكروا أن بعضها مراسيل أسندها؛ فمنها: حديثه بهذا الإسناد في الذي توضأ وترك على قدمه لمعة لم يصبها الماء. ومنها: حديثه في قَبِيعة سيف النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها كانت من فضة، ومنها: حديثه في الحجامة في الأخدعين والكاهل " اهـ. مثال آخر: وقد وقع عمرو بن عاصم في نفس الخطأ في حديث قبيعة سيف النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ذكره الإمام ابن رجب، وذكر عن الأئمة أنهم أعلوه بالإرسال. فقد رواه: عمرو بن عاصم، فقال: حدثنا همام وجرير، قالا: حدثنا قتادة، عن أنس، ـ فذكره. ¬

_ (¬1) في " شرح علل الترمذي " (2/784- 785) .

أخرجه: النسائي (8/219) وابن سعد (1/2/172) . وأيضاً الطحاوي في " المشكل " (1399) ؛ لكن ليس عنده ذكر جرير. والصواب؛ الذي رجحه أهل العلم: أن الذي يرويه هكذا هو جرير فقط، وأنه هو المتفرد به عن قتادة، وأنه أخطأ فيه، والصواب الذي يرويه أصحاب قتادة: عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، قال: كانت قبيعة سيف النبي - صلى الله عليه وسلم - فضة ـ أي: مرسلاً. فقد أنكره العقيلي على جرير في ترجمته من "الضعفاء" (1/199) ، وابن عدي (2/550) أيضاً. وقال البيهقي (¬1) : "تفرد به جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس؛ والحديث معلول". ثم ذكره من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن ـ مرسلاً (¬2) . ثم قال: "وهذا مرسل وهو المحفوظ". وقد أنكره أيضاً وجزي نصر بن طريف على جرير بن حازم، وذكر أن الصواب أنه عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً. ذكر ذلك عبد الله بن أحمد، عن أبيه في "العلل" (312) (1288) ، وعنه العقيلي في ترجمة جرير (1/199) . وأبو جزي، وإن كان ضعيفاً؛ إلا أن الإمام أحمد قال عقب قوله ¬

_ (¬1) في "السنن الكبرى" (4/143) . (¬2) وهو عند ابن سعد أيضاً.

وإنكاره على جرير: "وهو قول أبي جزي ـ يعني: أصاب ـ، وأخطأ جرير". وقال الدارمي (¬1) ، بعد أن خرج رواية جرير الموصولة: "هشام الدستوائي خالفه؛ قال: قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وزعم الناس أنه هو المحفوظ". وكذلك؛ ذهب إلى الحكم بأن الحديث مرسل الإمام أبو حاتم الرازي (¬2) . وقد سبق؛ أن الذي يرويه عن قتادة مرسلاً هشام الدستوائي، وأضاف إليه العقيلي (1/199) شعبة بن الحجاج، وهما من أثبت أصحاب قتادة ومن أعرف الناس بحديثه. وأيضاً: أبو داود رجح الرواية المرسلة: فقد أسند في " سننه " (3/68-69) في " باب: في السيف يحلى " ثلاثة أحاديث. الأول: حديث جرير هذا، برقم (2583) . والثاني: حديث سعيد بن أبي الحسن المرسل، برقم (2584) . والثالث: حديث عثمان بن سعد، عن أنس ـ بمثله، برقم (2585) . ثم قال: " أقوى هذه الأحاديث: حديث سعيد بن أبي الحسن، والباقية ¬

_ (¬1) في "السنن" (2/221) . (¬2) كما في "العلل" لابنه (938) .

ضعاف ". ومما يؤكد ذلك: أن في رواية أبي داود لحديث قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن: زيادة من قول قتادة، وهي: " قال قتادة: وما علمت أحداً تابعه على ذلك ". يعني: سعيد بن أبي الحسن. وهذا؛ يقتضي أن قتادة لا يعرف هذا الحديث إلا عن سعيد بن أبي الحسن، ولو أنه كان عنده موصولاً عن أنس، لما جاز له أن يقول ذلك. فإن قيل: إن أبا عوانة قد رواه أيضاً، عن قتادة، عن أنس. أخرج حديثه: الطحاوي في " المشكل " (1398) . قلت: ليس: هذا بذاك؛ فإن راويه عن أبي عوانة عند الطحاوي، هو: هلال بن يحيى الرأي، وهو ضعيف، لا يعتد بروايته. وقد ذكره ابن حبان في " المجروحين " (3/87-88) ، وساق له هذا الحديث بعينه، وأنكره عليه، وقال: " كان يخطئ كثيراً على قلة روايته، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد "!

فهذا؛ ليس له أصل عن أبي عوانة (¬1) . ومما يُتعجب له: صنيع المعلق على " المشكل " للطحاوي؛ فإنه ذكر إنكار ابن حبان لرواية أبي عوانة على هلال الرأي، وساق كلامه من " المجروحين " ثم أهمله واتخذه وراءه ظهرياً، فجعل أبا عوانة متابعاً لجرير بن حازم معتمداً على رواية هلال الرأي، وهذا من أعجب ما نراه في حواشي المطبوعات!! مثال آخر: ما أخرجه: البيهقي في " السنن الكبرى " (9/329) من طريق الحسن ابن سلام وجعفر الصائغ كلاهما، عن عفان، عن شعبة، عن عدي بن ثابت وأبي إسحاق، عن البراء بن عازب وعبد الله بن أبي أوفى ـ رضي الله عنهما ـ، أنهم أصابوا يوم خيبر حمراً، فطبخوها، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن أكفئوها. فهذه الرواية؛ تُوهِم أن كلاً من عدي بن ثابت وأبي إسحاق قد روى هذا الحديث عن كلٍ من البراء وابن أبي أوفى؛ وليس الأمر كذلك. وإنما الذي يرويه عنهما جميعاً هو عدي بن ثابت فقط، أما أبو إسحاق، فهو إنما يرويه عن البراء فقط، ليس يرويه عن ابن أبي أوفى. وحديث عدي؛ أخرجه: البخاري (5/173) ومسلم (6/64) (7/123) وغيرهما. ¬

_ (¬1) وراجع: " إرواء الغليل " (822) .

ثم إن أبا إسحاق لم يسمع هذا الحديث من البراء. فقد رواه: الفسوي في " المعرفة " (2/622-623) من حديث معاذ بن معاذ، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء ـ ولم نسمعه من البراء ـ أنهم أصابوا يوم حنين أو خيبر حمراً ـ فذكره. فقد صرح أبو إسحاق هاهنا بأنه لم يسمعه من البراء. وبهذا؛ أعله أبو السعود الدمشقي (¬1) . مثال آخر: حديث: صفوان بن عمرو، عن يحيى بن جابر، عن النواس بن سمعان، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم؟ فقال: " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس ". فهذا الحديث؛ يرويه عن صفوان هكذا: أبو اليمان الحكم بن نافع، وأبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، وإسماعيل بن عياش. فحديث أبي اليمان: أخرجه: الفسوي (2/339) . وحديث أبي المغيرة: أخرجه: أحمد (4/182) والدارمي (2/322) . وحديث إسماعيل بن عياش: سيأتي الكلام ابن أبي حاتم. لكن؛ رواه أبو المغيرة ـ مرة ـ، فذكر لفظ السماع بين يحيى بن جابر والنواس. قال ابن أبي حاتم (¬2) : ¬

_ (¬1) كما في هامش " تحفة الأشراف " (2/56) . (¬2) في " العلل " (1849) .

" سمعت أبي وذكر حديثاً: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، عن صفوان بن عمرو، عن يحيى ابن جابر الطائي، قال: سمعت النواس بن سمعان، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإثم والبر ـ (فذكره) . فسمعت أبي يقول: هذا حديث خطأ؛ لم يلق ابن جابر النواس. قلت: الخطأ؛ يدل أنه من أبي المغيرة، فيما قال: " سمعت النواس ". وذلك؛ أن إسماعيل بن عياش روى عن صفوان بن عمرو، عن يحيى بن جابر، عن النواس؟ لم يذكر السماع؛ فيحتمل أن يكون أرسله. ويحيى بن جابر؛ كان قاضي حمص يروي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس " اهـ. لكن؛ رواه الطبراني في " مسند الشاميين " (980) من طريق أبي اليمان وأبي المغيرة ـ قرنهما ـ، عن صفوان، به؛ إلا أنه وقع عنده لفظ السماع بين يحيى بن جابر والنواس بن سمعان. وقال الطبراني: " زاد أبو اليمان في حديثه: قال صفوان: وحدثني عبد الرحمن بن

جبير، عن النواس بن سمعان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ مثل ذلك ". قلت: والوجه الأول عند الطبراني، يقتضي أن أبا اليمان تابع أبا المغيرة على ذكر لفظ السماع، ولم يتفرد به، كما سبق. لكن؛ الظاهر أن الطبراني ـ عليه رحمة الله ـ حمل رواية أبي اليمان على رواية أبي المغيرة، ولم يميز مَن ذكر السماع منهما ممن لم يذكره. هذا؛ ما استظهرته عند تعليقي على " جامع العلوم والحكم " لابن رجب (2/78) ؛ إستناداً إلى الروايات الأخرى المفصلة، وإلى ما تقدم عن أبي حاتم وابنه. ثم وجدت الإمام البخاري ـ عليه رحمة الله ـ ذكر في " التاريخ الكبير " (4/2/126) روايتيهما، وقرن بينهما أيضاً، إلا أنه فَصَّلَ رواية كلٍ منهما فقال: " وعن أبي اليمان وأبي المغيرة، عن صفوان: قال أبو اليمان: عن عبد الرحمن بن جبير، ويحيى بن جابر، عن النواس، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال المغيرة: حدثنا صفوان، عن ابن جابر، قال: سمعت النواس، قال سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - " اهـ. فقد بين البخاري ـ كما ترى ـ أن الذي ذكر لفظ السماع، إنما هو أبو المغيرة فقط، وهذا من دقته ـ عليه رحمة الله ـ وشفوف نظره. هذا؛ والوجه الثاني، الذي عند الطبراني، وهو ما زاده أبو اليمان، من أن صفوان بن عمرو روى الحديث أيضاً عن عبد الرحمن بن جبير

، عن النواس؛ فهو يقتضي أن لصفوان في هذا الحديث شيخين، وإسنادين: الأول: عن يحيى بن جابر، عن النواس. الثاني: عن عبد الرحمن بن جبير، عن النواس. وهذا؛ قد ذكره البخاري أيضاً، فيما نقلناه عنه آنفاً. لكن؛ إذا وضعنا في اعتبارنا قول أبي حاتم السابق: "لم يلق ابن جابر النواس". وقول ابنه: "ويحيى بن جابر، يروي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس" إذا وضعنا في اعتبارنا ذلك؛ تبين لنا أن الإسنادين يرجعان إلى أصل واحد ومخرج واحد، وأن الظاهر أن يحيى بن جابر إنما أخذه عن عبد الرحمن بن جبير. ولهذا؛ اعتبر الإمام المزي رواية يحيى بن جابر عن النواس، من قبيل المرسل، في ترجمة يحيى (¬1) . والله أعلم. وقد أخطأ أبو المغيرة نحو هذا الخطأ أيضاً في حديث آخر، سيأتي في "فصل: التدليس.. والسماع". مثال آخر: حديث: سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب ¬

_ (¬1) "تهذيب الكمال" (31/249) .

،عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا اشتد الحر فأدبروا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم. واشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف؛ فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير". أخرجه: البخاري (2/18) والحميدي (942) وأحمد (2/238) وغيرهم. فهكذا؛ يرويه ابن عيينة، عن الزهري، عن "سعيد" عن أبي هريرة، وجمع في حديثه بين هذين المتنين: "إذا اشتد الحر فأدبروا بالصلاة ... " و "اشتكت النار إلى ربها ... ". وعامة أصحاب الزهري؛ لا يروون الحديث عن الزهري هكذا، وإنما يروون المتن الأول منه فقط، عن "سعيد وأبي سلمة"، عن أبي هريرة. منهم من جمع بينهما، ومنهم من ذكر أبا سلمة وحده، ومنهم من قال: أحدهما أو كلاهما. أما المتن الثاني ـ أعني: حديث: "اشتكت النار" ـ، فلم يروه أحد من أصحاب الزهري عن "سعيد"، وإنما رواه شعيب بن أبي حمزة ويونس بن يزيد، عن الزهري، عن "أبي سلمة"، عن أبي هريرة (¬1) . إلا ما يروى عن جعفر بن برقان، حيث تابع ابن عيينة على رواية المتن الثاني، عن الزهري، عن "سعيد". ¬

_ (¬1) انظر: "العلل" للدارقطني (9/392) .

وجعفر بن برقان؛ في الزهري ليس بشيء، فلا تنفع متابعته. فظهر بهذا؛ مخالفة ابن عيينة لأصحاب الزهري؛ حيث حمل إسناد المتن الثاني على إسناد المتن الأول، وجعل المتنين من حديث "سعيد"؛ والأمر ليس كذلك؛ بل المتن الأول من حديث "سعيد وأبي سلمة" جميعاً، بينما الثاني من حديث "أبي سلمة" فقط. والفضل في معرفة علة هذه المتابعة يرجع ـ بعد الله عز وجل ـ إلى الإمام أحمد بن حنبل ـ عليه رحمة الله ورضوانه ـ، فقد قال ـ فيما حكاه عنه أبو طالب (¬1) . "سفيان بن عيينة في قلة ما روى نحو من خمسة عشر حديثاً، أخطأ فيها في أحاديث الزهري، فذكر منها: حديث: "اشتكت النار إلى ربها"؛ إنما هو عن أبي سلمة". وهذا من شفوف نظر الإمام أحمد ودقة نقده، عليه رحمة الله تعالى. وقد سُئل الإمام الدارقطني في "العلل" (9/390) عن حديث "الإبراد" خاصة، فذكر أوجه الخلاف فيه على الزهري، ثم قال: "والقولان محفوظان عن الزهري". يعني: عن سعيد وأبي سلمة جميعاً. وإنما يقصد الإمام الدارقطني بتصحيح القولين عن الزهري، أي ¬

_ (¬1) هو في "المنتخب من علل الخلال" (186) .

: في حديث "الإبراد" خاصة؛ لأنه قال هذا في معرض الكلام عليه والسؤال عنه، دون حديث "اشتكت النار" (¬1) . وصنيع الإمام البخاري في "الصحيح" يدل على ذلك أيضاً: فإنه خرج حديث: "اشتكت النار" مع حديث "الإبراد" من رواية ابن عيينة، من حديث "سعيد" في كتاب "المواقيت" في "باب: الإبراد بالظهر في شدة الحر"، وذِكْر حديث "اشتكت النار" في هذا الباب ليس مقصوداً، وإنما خرجه البخاري عرضاً؛ لأن ابن عيينة هكذا جمع في روايته بين المتنين، والمقصود في هذا الباب إنما هو حديث "الإبراد" خاصة. بينما في كتاب "بدء الخلق" في "باب: صفة النار" خرج حديث "اشتكت النار" من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن أبي سلمة وحده؛ وهذا بابه. وفي هذا؛ إشارة إلى أن حديث: "اشتكت النار" ليس من حديث "سعيد"، بل من حديث "أبي سلمة"، وهو ما خرجه في "المواقيت" من حديث "سعيد"، إلا لمجيئه مع حديث "الإبراد" في رواية سفيان بن عيينة. والله أعلم. مثال آخر: حديث: يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري وشعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السُلَمي، عن ¬

_ (¬1) واعلم؛ أن المتابعات التي ساقها الحافظ ابن حجر وكذا ابن رجب في شرحهما للحديث، إنما هي لحديث "الإبراد" خاصة؛ فتنبه.

عثمان بن عفان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". فهذا الحديث؛ هكذا رواه يحيى القطان، عن شعبة وسفيان، على الاتفاق. وهذا مما خطَّأ فيه الأئمة يحيى القطان؛ وحكموا بأنه حمل رواية الثوري على رواية شعبة، وهو إنما يخالفه في هذا الحديث؛ فإن أصحاب الثوري لا يذكرون في هذا الحديث "سعد بن عبيدة" في إسناده، عن الثوري، وإنما يذكره فقط أصحاب شعبة، عن شعبة. وقال ابن عدي: "يقال: لا يُعرَف ليحيى بن سعيد خطأ غيره" (¬1) . مثال آخر: قال الترمذي في "الجامع" (2107) : "حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي وغير واحد، قالوا: حدثنا سفيان، عن الزهري ـ ح. وحدثنا علي بن حجر: أخبرنا هشيم، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم". فظاهر سياق الترمذي؛ أن هشيماً يرويه كما يرويه سفيان بهذا اللفظ. وهذا خطأ؛ فإن هشيماً لا يرويه بهذا اللفظ، إنما يرويه بلفظ: "لا ¬

_ (¬1) راجع "الجامع" للترمذي (3908) و "الكامل" لابن عدي (3/1234) و "تحفة الأشراف" (7/257-258) .

يتوارث أهل ملتين". هكذا؛ رواه عنه علي بن حجر ومسعود بن جويرية الموصلي؛ وحديثهما عند النسائي. إلا أن الترمذي أخطأ حيث حمل رواية هشيم على رواية سفيان. قال ذلك الحافظ المزي في "تحفة الأشراف" (1/56) . وشبيه بهذا: وقع في "مقدمة صحيح مسلم" (1/8) ما صورته: "حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري: حدثنا أبي ـ ح. وحدثنا محمد بن المثنى: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ـ، قالا: حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع". وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا علي بن حفص: حدثنا شعبة، عن خُبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ بمثل ذلك" اهـ. فظاهر هذا السياق؛ يوهم أن هؤلاء الثلاثة: معاذ بن معاذ العنبري، وابن مهدي، وعلي بن حفص؛ متفقون على رواية الحديث، عن شعبة بهذا الإسناد.

وليس الأمر كذلك؛ وإنما الذي يرويه بهذا الإسناد هو علي بن حفص فقط، وأما معاذ العنبري وابن مهدي، فيرويانه، عن شعبة بدون ذكر "أبي هريرة" في إسناده؛ أي: مرسلاً. وليس هذا الخطأ من الإمام مسلم ـ عليه رحمة الله ـ، بل من أحد رواة "الصحيح" عنه. وقد نبه على هذا الخطأ الإمام المازري في "المعلم بفائد مسلم" (ص184) ، فقال: "رواه شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ، فأتى به مرسلاً، لم يذكر فيه " أبا هريرة "؛ هكذا روي هذا من حديث معاذ بن معاذ وغندر وعبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة. وفي نسخة أبي العباس الرازي وحده في هذا الإسناد: " عن شعبة، عن خبيب، عن حفص، عن أبي هريرة " ـ مسنداً؛ ولا يثبت هذا ". قال: " وقد أسنده مسلم بعد ذلك من طريق علي بن حفص المدائني عن شعبة ". قال: " قال علي بن عمر الدارقطني: والصواب أنه مرسل عن شعبة، كما رواه معاذ وغندر وابن مهدي" اهـ. وكذلك؛ أشار إليه الإمام المنذري في " مختصر السنن " (7/181) . والنووي؛ في " شرح مسلم " (1/74) ، صرح بأن مسلماً أخرجه من طريقين: أحدهما مرسل، والآخر متصل؛ وأن المرسل عنده من طريق معاذ وعبد الرحمن بن مهدي؛ وهذا يدل على أن النسخة التي اعتمد عليها

النووي ليس الحديث فيها متصلاً من الطريقين. وقد صرح الدارقطني في " التتبع " (ص 175-176) بأن الذي يرويه موصولاً، هو على بن حفص فقط، وأن معاذاً وابن مهدي وغندراً يروونه مرسلاً، وأنه هو الصواب (¬1) . فقد صرح بأن حديث معاذ وابن مهدي مرسل، وليس متصلاً. وقال أبو داود: " لم يسنده إلا هذا الشيخ ـ يعني: علي بن حفص المدائني ". قلت: فقد تبين بهذا، أن معاذاً وابن مهدي لم يوصلا الحديث عن شعبة، وإنما الذي وصله بذكر " أبي هريرة " ¬

_ (¬1) وراجع " العلل " (10/275-276) أيضاً. وكذلك؛ " الصحيحة " (2025) .

المتابعة.. وما لا يجيء

هو علي بن حفص فقط، وأن ما وقع في " مقدمة مسلم " إنما هو خطأ من أحد رواة " الصحيح "، لا ذنب لمسلم فيه، بدليل أن غيره من رواة " الصحيح " رووه مرسلاً على الصواب، كما ذكر أهل العلم. ويؤكده: اتفاق الأئمة على أن علي بن حفص هو المتفرد بوصل هذا الحديث عن شعبة، لم يتابعه أحد على وصله، وأن سائر أصحاب شعبة ـ بما فيهم معاذ العنبري وابن مهدي ـ إنما رووه عنه مرسلاً، بدون ذكر " أبي هريرة " (¬1) . *** المتابعة.. وما لا يجيء قد تجيء متابعة من راو لآخر عن شيخ من الشيوخ، فيرى أهل العلم أن هذه المتابعة خطأ، والصواب أن الحديث حديث الرجل الأول؛ وهذا تقدم التنبيه عليه. لكن؛ أحياناً يستدل أئمة الحديث على عدم صحة هذه المتابعة بغرابة الإسناد، من حيث أن رواية هذا المتابع عن هذا الشيخ لا تعرف، ولا تجيء في الأحاديث، فيقولون في إعلال مثل ذلك: " فلان عن فلان لا يجيء "، أو " فلان لا يُعرف بالأخذ عن فلان " ونحو هذا. ويقوي الإعلال بذلك؛ حيث يكون هذا الراوي المتابع مشهوراً، معروفاً بكثرة الحديث والأصحاب، ثم لا يجيء روايته عن هذا الشيخ إلا من طريق غريبة، يتفرد بها من ليس معروفاً بالحفظ، أو ليس من أصحابه الملازمين له، والعارفين بحديثه. فالذي لا يفطن لذلك، يظن أن الحديث ثابت عن الرجلين، فيثبت بمقتضى ذلك المتابعة، ويدفع التفرد؛ وليس كذلك. وبطبيعة الحال؛ فإن الأئمة لا يقصدون في هذه المواضع إعلال الحديث بالانقطاع بين هذا الراوي المتابِع وبين شيخه، وإنما العلة عندهم ممن دون هذا الراوي، فهو لم يثبت عنه حتى يُعل بعدم سماعه من شيخه. ¬

_ (¬1) انظر: مثالاً آخر في " الكامل " (5/1745) .

فالذي يتعقب الأئمة في هذه المواطن، بأن المعاصرة متحققة بين الراوي والشيخ، وشرط مسلم الاكتفاء بإمكانية السماع وإن لم يصرح به الراوي في حديث من حديث، إنما يتعقب الأئمة فيما لم يقصدوه من كلامهم، فكلامهم في واد، وكلامه في واد آخر. مثال ذلك: حديث: ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " ما اصطدتموه وهو حي فكلوه، وما وجدتموه ميتاً طافياً فلا تأكلوه ". فهذا الحديث؛ يرويه الحسين بن يزيد الطحان، عن حفص بن غياث، عن ابن أبي ذئب، به. أخرجه: الترمذي في " العلل الكبير " (ص 242) والطبراني في " الأوسط " (5656) والخطيب في " التاريخ " (10/148) . وقال الطبراني: " لم يرو هذا الحديث عن ابن أبي ذئب إلا حفص، تفرد به الحسين ابن يزيد ". وقال الترمذي: " سألت محمد ـ يعني: البخاري ـ عن هذا الحديث؟ فقال: ليس هذا بمحفوظ، ويُروى عن جابر خلاف هذا، ولا أعرف لابن أبي ذئب عن أبي الزبير شيئاً ". قلت: يشير الإمام البخاري بقوله: " ولا أعرف لابن أبي ذئب عن

أبي الزبير شيئاً " إلى أن الخطأ في هذا الحديث ممن هو دون ابن أبي ذئب؛ وذلك لغرابة هذا الإسناد، حيث إن رواية ابن أبي ذئب عن أبي الزبير غير معروفة إلا في هذا الإسناد، فالظاهر أن الراوي الذي أخطأ دخل عليه إسناد في إسناد، أو قلب راوياً براوٍ. ولعل الخطأ من الحسين بن يزيد هذا؛ فقد قال فيه أبو حاتم الرازي: " لين الحديث ". ثم إن رواية حفص بن غياث عن ابن أبي ذئب لم يذكروها أيضاً؛ فإن صح أنه لا يروي عنه كان ذلك أقوى في الدلالة على أن الخطأ من الحسين. والله أعلم. هذا هو المعنى الذي أنكره البخاري ـ عليه رحمة الله تعالى ـ في هذا الإسناد، وهو أنه إسناد مركب من رواة لا يُعرف رواية بعضهم عن بعض، فلو كانت رواية بعضهم عن بعض ثابتة، فما بالها لا تجيء إلا في هذه الرواية الغريبة. لكن؛ رأيت التركماني والزيلعي لم يفهما كلام البخاري على وجهه، فتعقباه بما لا يغني، ولا يدفع إعلاله. قال التركماني في " الجوهر النقي " (9/256) والزيلعي في " نصب الراية " (4/203) : " قول البخاري: " لا أعرف لابن أبي ذئب عن الزبير شيئاً "؛ هو على مذهبه في أنه يشترط لاتصال الإسناد المعنعن ثبوت السماع، وقد أنكر مسلم ذلك إنكاراً شديداً، وزعم أنه قول مخترع، وأن المتفق عليه أنه

يكفي للاتصال إمكان اللقاء والسماع؛ وابن أبي ذئب أدرك زمان أبي الزبير بلا خلاف، وسماعه منه ممكن ". قلت: بصرف النظر عن الراجح في مسألة عنعنة المعاصر؛ فإن تعقب البخاري بقول مسلم فيها دليل على عدم فهم وجه إعلال الإمام البخاري لهذا الحديث. فإن البخاري ـ عليه رحمة الله ـ لا يقصد إعلال الحديث بالانقطاع بين ابن أبي ذئب وأبي الزبير، حتى لا يصح أن يرد عليه بأن إمكانية سماعه منه كافية للحكم بالاتصال. بل لو ذكر الراوي لفظ السماع بينهما، فقال ـ مثلاً ـ: " عن ابن أبي ذئب: حدثنا أبو الزبير "، لما صحح البخاري الحديث أيضاً؛ ولما كان مجيء لفظ السماع دافعاً للعلة التي أعل البخاري الحديث بها. ذلك؛ لأن البخاري يُخَطِّئ في هذا الحديث واحداً ممن دون ابن أبي ذئب في الإسناد، فمهما ذكر ذلك المخطئ في روايته تصريح ابن أبي ذئب بالسماع من أبي الزبير، فإن ذلك لا يدفع عنه الخطأ عند الإمام البخاري. بل لو ذكر لفظ السماع بينهما، لكان ذلك أدل عند البخاري على خطئه في روايته تلك، لتأكيده موجب الإنكار عند البخاري. فموجب الإنكار في هذه الرواية عند البخاري ـ عليه رحمة الله ـ يتلخص في أمرين: الأول: تفرد الحسين بن يزيد به. وقد تقدم عن أبي حاتم الرازي، أنه لين الحديث، ولم يوثقه مُعتبر

، لاسيما؛ وأنه تفرد به عن حفص، عن ابن أبي ذئب؛ وذلك مما يُستغرب. ذلك؛ لأن ابن أبي ذئب من الحفاظ المكثرين حديثاً وتلامذة، وحفص ليس من المعروفين بملازمته والأخذ عنه، بل لم يذكروه في الرواة عنه أصلاً ـ كما سبق ـ فكيف يتفرد مثل هذا عن ابن أبي ذئب بحديث ولا يعرفه أصحابه العارفون بحديثه، أمثال: ابن المبارك، وأبي نعيم، وابن أبي فديك، ووكيع، والقطان، مع كثرة ملازمتهم له، واختصاصهم به؟! وحفص بن غياث؛ يشترك أيضاً مع ابن أبي ذئب في هذا الأمر؛ فإنه أيضاً من المكثرين أصحاباً وحديثاً، ولم يُعرف هذا الحديث عند أصحابه، مثل: ابن راهويه، وأبي خيثمة، وأبي بكر بن أبي شيبة، وابن نمير، وأمثالهم. الثاني: غرابة الإسناد. ومراد البخاري: أن رواية ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير ـ سواء بالعنعنة أو بالتصريح ـ غير معروفة في غير هذا الحديث، فهذه التركيبة الإسنادية مما تُستغرب. وقد كان طلبة الحديث على وجه العموم يعجبهم سماع الأحاديث العالية والغرائب، وكانوا يسمونها بـ " الفوائد "، ويحرصون على كتابتها، ويتهافتون على سماعها، فلو حدث ابن أبي ذئب بهذا الحديث عن أبي الزبير، لسمعه منه أمم؛ لعلوه ولغرابة إسناده.

فالظاهر من صنيع البخاري؛ أنه يرى أن هذا الحديث لم يحدث به ـ عن أبي الزبير ـ ابن أبي ذئب أصلاً، وأنه لا معنى لذكر: " ابن أبي ذئب " في الإسناد، وقد يكون الحديث من حديث غير ابن أبي ذئب عن أبي الزبير، فأخطأ الراوي حيث جعله من حديثه عنه. وقد رواه البيهقي (9/255) من أوجه أخرى عن أبي الزبير، عن جابر، وإن كانت كلها معلولة بالوقف. ومثل ذلك: وقع لراوٍ آخر، في حديث آخر؛ فأعله إمام آخر بمثل إعلال الإمام البخاري لهذا الحديث: روى: أبو يعلى الخليلي في " الإرشاد " (2/495) : عن موسى بن الحسن الثقفي: حدثنا حفص بن عمر الحوضي: حدثنا شعبة، عن أبي الزبير، عن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اشتمال الصماء ـ الحديث. ثم قال أبو يعلى: " شعبة لا يروي عن أبي الزبير شيئاً؛ وهذا خطأ من موسى بن الحسن هذا؛ سألت عنه عبد الله بن محمد القاضي، فقال: حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار، قال: حدثنا به موسى كذا، ثم رجع إلينا في المجلس الثاني معه كتابه، فقال: أخطأت؛ إنما حدثنا حفص بن عمر، هشام الدستوائي، عن أبي الزبير، عن جابر ". فواضح جداً من كلام الخليلي، أنه لا يقصد من قوله: " شعبة لا

يروي عن أبي الزبير شيئاً " إعلال الحديث بالانقطاع؛ وإلا فما معنى قوله " هذا خطأ من موسى بن الحسن "، لاسيما؛ وأن شعبة لا يحدث إلا بما كان مسموعاً له. وإنما مراده: أن موسى بن الحسن أخطأ حيث جعل الحديث من حديث شعبة عن أبي الزبير، وأن الصواب أن الحديث من حديث غيره ـ وهو: الدستوائي ـ عن أبي الزبير. واستدل على وقوع هذا الخطأ بأن " شعبة لا يروي عن أبي الزبير شيئاً "، فغرابة الإسناد دليله على خطأ الراوي الذي جاء به، فلا شأن للانقطاع هاهنا (¬1) . مثال آخر: قال الخليلي أيضاً (2/802-803) . أخبرني أبو بكر بن عبدان الحافظ ـ فيما كتب إلى ـ: حدثنا عبد الله بن شاهين: حدثنا محمد بن يزيد السلمي: حدثنا الحسين بن الوليد: حدثنا أبو حنيفة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من كان مصلياً بعد الجمعة، فليصل بعدها أربعاً ". قال الخليلي: " هذا خطأ؛ أخطأ فيه من روى عن الحسين، ولا يعرف لأبي حنيفة عن سهيل ". فظاهر جداً من كلامه؛ أنه لا يعل الحديث بالانقطاع بين أبي حنيفة ¬

_ (¬1) وأما رواية شعبة عنه، فانظر: " الكامل " (6/2137) و " تغليق التعليق " (2/467-477) .

وسهيل، وإن كان استغرب روايته عنه؛ وذلك لقوله: " أخطأ فيه من روى عن الحسين "، فقوله هذا يدل على أن الخطأ عنه ممن دون موضع الانقطاع. ثم قال الخليلي: " سمعت أبا علي عبد الرحمن بن محمد النيسابوري يقول: لما سمعت من ابن عبدان " حديث أبي حنيفة عن سهيل "، رجعت إلى البصرة، فقال لي علي بن محمد بن موسى ـ غلام عبيد ـ بالبصرة: يا أبا علي: سمعتَ من ابن عبدان " حديث أبي حنيفة عن سهيل "؟ فقلت: نعم. فتبسم، وقال: قال لي أبو العباس ابن عقدة: إنما وقع هذا الغلط على من روى عن الحسين بن الوليد؛ فلم يلق الحسين أبا حنيفة؛ فهذا لا يُفرح به ". وهذا في غاية الوضوح. هذا؛ وقول ابن عقدة: " لم يلق الحسين أبا حنيفة "، مع أن الحسين صرح بالسماع من أبي حنيفة في الحديث، يدل على أنه لم يقصد إعلال الحديث بالانقطاع، بل هو يوهِّم من روى الحديث عن الحسين، ويراه أخطأ في موضعين: الأول: في روايته الحديث عن أبي حنيفة عن سهيل. الثاني: في روايته له عن الحسين بن الوليد عن أبي حنيفة. وقد استدل على وقوع الخطأ في الموضعين، بعدم معرفة الراوي

بالأخذ عن فوقه في الإسناد. وهذا؛ كمثل صنيع البخاري في المثال الأول، وقد رأيتَ كيف أن ابن عقدة لم يعتد بلفظ السماع المذكور في الإسناد بين الحسين وأبي حنيفة، وأصر على أنه لم يلقه، وهذا ذهاب منه إلى توهيم من ذكر لفظ السماع بينهما، وهو من أدل دليل على أنه لم يقصد إعلال الحديث بالانقطاع، بل بغرابة الإسناد. مثال آخر: سأل ابن أبي حاتم أباه (¬1) : عن حديث: رواه أبو سعيد الأشج، عن الحسين بن عيسى الحنفي، عن معمر، عن الزهري، عن أبي حازم، عن ابن عباس، قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة؛ إذ قال: " الله أكبر، الله أكبر، جاء نصر الله، وجاء الفتح، وجاء أهل اليمن، قوم قلوبهم لينة، طاعتهم الإيمان، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية "؟ فقال أبو حاتم: " هذا حديث باطل، ليس له أصل؛ الزهري عن أبي حازم لا يجيء " اهـ. وهذا الحديث؛ قد أنكره غير أبي حاتم على الحسين هذا، وهو ضعيف، روى أحاديث قليلة، وهي منكرة. ¬

_ (¬1) " علل الحديث " (1968) .

وقد أخرجه: البزار في " مسنده " (2837-كشف) , وقال: " لا نعلم أسند الزهري عن أبي حازم غير هذا ". وهذا يؤكد قول أبي حاتم. وأخرجه أيضاً: ابن عدي في ترجمة الحسين هذا من " الكامل " (2/766) ، وقال: " وهذا الحديث قد رُوي عن الحسين أيضاً، عن معمر، عن الزهري، عن عكرمة، عن ابن عباس، وكلا الروايتين عن معمر عن الزهري ـ فسواء: عن عكرمة، أو عن أبي حازم، عن ابن عباس ـ؛ منكر جداً ". وهذا؛ يؤكد أن الخطأ في الحديث ممن دون الزهري، وهو من الحسين هذا على وجه التحديد، فليس مراد أبي حاتم من قوله إعلال الحديث بالانقطاع. مثال آخر: سأل ابن أبي حاتم أباه (¬1) : عن حديث: هارون بن إسحاق الهمداني، عن عبد الله بن نمير، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن نافع، عن ابن عمر، أن المهاجرين لما أقبلوا من مكة إلى المدينة نزلوا بقباء، فأمهم سالم مولى أبي حذيفة، لأنه كان أكثرهم قرآناً، وفيهم عمر ابن الخطاب، وأبو سلمة بن عبد الأسد. ¬

_ (¬1) " علل الحديث " (253) .

فقال أبو حاتم: " هذا خطأ؛ ليس هذا عبد الملك بن أبي سليمان؛ ولا أعلم روى عبد الملك بن أبي سليمان عن نافع شيئاً؛ إنما هو: عبد الملك بن جريج ". فأبو حاتم ـ رحمه الله تعالى ـ لا يريد بقوله: " لا أعلم روى عبد الملك بن أبي سليمان عن نافع شيئاً "، أن يعل الحديث بالانقطاع؛ وإلا فلماذا قال: " إنما هو عبد الملك بن جريج "؟! بل الظاهر؛ أنه إنما يعل الحديث بالقلب، وأن بعض الرواة ممن دون " عبد الملك " أخطأ، فقال " عن عبد الملك بن أبي سليمان "، والصواب: " عبد الملك بن جريج "؛ فأبدل راوياً بنظيره في الإسناد. واستدل أبو حاتم على وقوع هذا الخطأ؛ بأن هذا الراوي المذكور في الإسناد ـ وهو: عبد الملك بن أبي سليمان ـ لا يعرف بالرواية عن شيخه المذكور في الإسناد ـ وهو: نافع. فأبو حاتم؛ يستدل على وقوع الخطأ ـ وهو: القلب ـ بعدم العلم بالأخذ، لا أنه يرى الرواية محفوظة عن ابن أبي سليمان، غير أنه يعلها بالانقطاع. مثال آخر: سأل ابن أبي حاتم أباه (¬1) : عن حديث، رواه أبو خالد الأحمر، عن ابن جريج، عن ¬

_ (¬1) " علل الحديث " (805) .

عبد الكريم بن مالك، عن عكرمة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال لرجل يسوق بدنة: " اركبها ". فقال أبو حاتم: " عكرمة عن أنس؛ ليس له نظام، وهذا حديث لا أدري ما هو؟! " وهذا واضح. وقد بين ابن عدي علته، فقال (¬1) : " هذا الحديث في الأصل: عن عكرمة: مُرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ مرسلاً ". فَذِكرُ " أنس " في الإسناد خطأ، والصواب أن مرسل. والخطأ من أبي خالد الأحمر، كما يُفهم من صنيع ابن عدي، حيث إنه ذكر هذا في ترجمته في " الكامل ". مثال آخر: روى: محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن دينار، قال: سمعت (¬2) أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن بين يدي الساعة سنين خداعة، يُكَذََّب فيه الصادق، ويُصدق فيها الكذاب " ـ الحديث، وفيه: ذكر الرويبضة: الفاسق يتكلم في أمر العامة. أخرجه: أحمد (3/220) والبزار (4/132) . ¬

_ (¬1) " الكامل " (3/1131) . وراجع: " أطراف الغرائب " (965) . (¬2) تأمل؛ قوله " سمعت " هنا.

قال يحيى بن معين (¬1) : " لم نسمع عن عبد الله بن دينار عن أنس؛ إلا الحديث الذي يحدث به محمد بن إسحاق " ـ يعني: حديث الرويبضة. فابن معين ـ عليه رحمة الله ـ لا يريد من قوله هذا إعلال الحديث بالانقطاع بين عبد الله بن دينار وأنس؛ وإنما مراده الاستدلال بغرابة هذا الإسناد على خطأ ابن إسحاق المتفرد به. ذلك؛ لأن عبد الله بن دينار ثقة حافظ، من المكثرين أصحاباً وحديثاً، فلو كان هذا الحديث من حديثه فعلاً لحدث به أصحابه المختصون به، والملازمون له، ولما تفرد به ابن إسحاق من دونهم، لاسيما والإسناد غريب، وهذا مما تجتمع الهمم على سماعه وروايته، كما سبق. ولذا؛ لما سأل ابن أبي حاتم (¬2) أباه عن هذا الحديث؛ أجابه قائلاً: " لا أعلم أحداً روى عن عبد الله بن دينار هذا الحديث غير محمد بن إسحاق..... ولو كان صحيحاً لكان قد رواه الثقات عنه " (¬3) . ¬

_ (¬1) " تاريخ الدوري " (565) و " الكامل " (6/2118) . (¬2) " علل الحديث " (2792) . (¬3) انظر: مثالاً آخر في " الكامل " (6/2298) .

المتابعة.. والمخالفة

المتابعة.. والمخالفة مما لا شك فيه، الراوي إذا روى ما يتابعه عليه غيره، فإن هذا يكون أدل على ضبطه لما روى. أما إذا روى ما يخالفه فيه غيره، فإنه إن كان ممن لا تؤثر فيه المخالفة، لم يضره ذلك، أما إن كان ممن لم يبلغ في الحفظ والإتقان هذه المكانة، كانت المخالفة ـ حينئذ ـ قادحة في روايته، إذا كانت المخالفة ممن تؤثر مخالفته. وربما جاءت روايات ظاهرة الاتفاق، ثم بعد التتبع والسبر، يتبين أن هذه الروايات ليست متفقة فيما بينها، بل هي مختلفة، فلا يحكم لها حكم الاتفاق، بل حكم الاختلاف. وذلك؛ فيما إذا رُوي عن راويين حديث واحد، على الاتفاق في الإسناد والمتن معاً، ثم يتبين بعد السبر، أن بعض من دون أحد هذين الراويين أخطأ عليه، حيث روى حديثه مثل رواية الراوي الآخر، والصواب الذي يُعرف عند أصحاب هذا الراوي، أنه يروي الحديث على خلاف رواية الراوي الآخر، في الإسناد أو في المتن، فتبين بذلك أن المتابعة المزعومة معلولة بالمخالفة، وأن هذين الراويين مختلفان فيما بينهما في إسناد الحديث في أو متنه، وليسا متفقين. وقد يقع ذلك حيث يقرن الراوي بين الراويين في الرواية، فيحمل رواية أحدهما على رواية الآخر على الاتفاق وهماً.

وقد سبق ذكر أمثلة ذلك في " الإقران.. والمخالفة ". وقد يقع ذلك أيضاً بدون الإقران؛ فلنذكر لذلك مثالاً: مثال ذلك: روى: أبو الزبير، عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل ". أخرجه: مسلم (4/3) وأحمد (3/323) . فهذا الحديث؛ حديث أبي الزبير عن جابر. لكن؛ روى محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ مثله. أخرجه: الطبراني في " الأوسط " (9322) . وهذا الإسناد: يوهم أن عمرو بن دينار، إنما يروي الحديث عن جابر، كما يرويه عنه أبو الزبير، وعليه؛ يكون عمرو متابعاً لأبي الزبير. وليس الأمر كذلك. بل إن هذا مما أخطأ فيه محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار، وهو وإن كان صدوقاً، إلا أنه صاحب أوهام عن عمرو بن دينار. وقد خالفه جماعة من أصحاب عمرو بن دينار في إسناد هذا الحديث، فقالوا جميعاً: " عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن عبد الله بن عباس

، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". فدل ذلك؛ على أن عمرو بن دينار غير موافق في روايته لأبي الزبير عن جابر، وإنما هو يرويه بإسناد آخر يختلف عن إسناد أبي الزبير، فلا متابعة. وممن رواه عن عمرو بن دينار؛ هكذا: سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وشعبة، وحماد بن زيد، وأيوب السختياني، وابن جريج، وهشيم بن بشير، وسعيد بن زيد، وأشعث بن سوار. وقد خرجت أحاديثهم في كتابي " ردع الجاني " (¬1) ، فراجعه. مثال آخر: وقد وقع نحو هذا الخطأ لمحمد بن مسلم الطائفي، في حديث آخر، يرويه أبو الزبير عن جابر أيضاً. فقد روى: أبو الزبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: " ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة.. " ـ الحديث. أخرجه: مسلم (3/67) وابن خزيمة (2299) . فرواه: محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن جابر ـ مثله. أخرجه: عبد الرزاق (4/14) وأحمد (3/296) وابن ماجه ¬

_ (¬1) ص 149-151) .

(1794) وعبد بن حميد (1103) وابن خزيمة (2304) (2305) . فأوهم ذلك؛ أن عمرو بن دينار متابع لأبي الزبير، في رواية هذا الحديث عن جابر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وليس الأمر كذلك ‍‍! فقد رواه: عبد الملك بن جريج المكي، عن عمرو بن دينار، قال: سمعته ـ عن جابر بن عبد الله ـ عن غير واحد، عن جابر بن عبد الله، قال: فذكره موقوفاً عليه؛ غير مرفوع. أخرجه: عبد الرزاق في "المصنف" (4/139) والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/1/224) وابن خزيمة (2306) . وقال البخاري: "هذا أصح؛ مرسل". وبهذا؛ يظهر أن عمرو بن دينار مخالف لأبي الزبير في رفع الحديث، وليس موافقاً له، كما زعم ذلك الطائفي عنه. هذا؛ فضلاً عن أن عمراً لم يسمعه من جابر، كما في رواية ابن جريج، وإنما أخذه عن غير واحد عنه. ولهذا؛ قال ابن خزيمة: "هذا الخبر لم يسمعه عمرو بن دينار من جابر". ثم أسند رواية ابن جريج، ثم قال: "هذا هو الصحيح، لا رواية محمد بن مسلم الطائفي؛ وابن جريج

أحفظ من عدد مثل محمد بن مسلم". ولهذا؛ لمَّا تعرض ابن عبد البر لرواية الطائفي هذه، أعلها بقوله (¬1) : "انفرد به محمد بن مسلم من بين أصحاب عمرو بن دينار، وما انفرد به فليس بالقوي" (¬2) . وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (13/116-117) . (¬2) وتابع ابن جريج على وقف الحديث أبو جعفر الرازي، إلا أنه خالفه فوصله؛ جعله "عن عمرو، عن جابر"، ولم يذكر بينهما أحد. أخرج حديثه: البخاري في "التاريخ". وأبو جعفر الرازي؛ ضعيف، فتقبل موافقته، وترد مخالفته. هذا؛ وقول البخاري "مرسل"، هو على حقيقته، أي: منقطع؛ ووجهه: أن أكثر أهل العلم المتقدمين يرون أن قول الراوي: "عن رجل، عن فلان" هو من قبيل المرسل أو المنقطع، كما هو مبين في مبحث "المرسل" و "المنقطع" من كتب علوم الحديث؛ لاسيما كتاب الحاكم، ودليلهم في ذلك واضح، وهو أن الحكم بسماع راو معين من شيخ معين فرع من معرفتنا بهذا الراوي وهذا الشيخ، وعدم معرفتنا بالشيخ يمنع الحكم بسماع الراوي عنه منه. وانظر أيضاً: "العلل" لابن المديني (ص101) . وقد وقع في إسناد بن جريج في "التاريخ" للبخاري تقديم وـاخير، أدى إلى خلل في الرواية، جعلها في صورة المتصل، مما اضطرني في كتابي "ردع الجاني" (ص153) إلى حمل قول البخاري "مرسل" على أنه بمعنى "موقوف". ثم تبين لي الصواب، وكان مما دلني على ذلك، رواية "المصنف" وكذا رواية "ابن خزيمة"، مع قوله عليها. وهذه فرصة، انتهزتها لتصحيح ما أخطأت فيه؛ لاسيما وأن ثمة أخاً لي تعرض في كتاب له في نفس موضوع كتابي لهذا الحديث، وقلدني في خطئي، من غير تحقيق. وبالله التوفيق.

الشواهد.. والاضطراب

الشواهد.. والاضطراب الحافظ المكثر الثبت كالزهري وأمثاله، إذا روى حديثاً بأكثر من إسناد، حمل ذلك على سعة روايته، وكثرة محفوظاته، أما إذا وقع ذلك ممن لم يبلغ في الحفظ والإتقان هذا المنزلة، فإنه حينئذٍ يحمل على اضطرابه وعدم حفظه لإسناد الحديث، لاسيما إذا كان ضعيفاً سيء الحفظ؛ بل إنه ـ حينئذٍ ـ يكون دليلاً على ضعفه وسوء حفظه (¬1) . وعليه؛ فإذا جاء راو ضعيف بعدة أسانيد لمتن واحد؛ فإن هذه الأسانيد لا يقوي بعضها بعضاً، بل يعل بعضها بعضاً، وإن كان راويها في الأصل يصلح حديثه للاعتبار، لكن لما اضطرب في إسناد الحديث عرفنا أنه لم يحفظه كما ينبغي. فإن وجدنا أحداً من الثقات تابعه على وجه من الوجوه التي ذكرها، علمنا أن هذا الوجه هو الصواب، وأن ما عداه مما تفرد به، ولم يتابع عليه، خطأ غير محفوظ. أما إذا تفرد بكل رواياته لهذا المتن، ولم يتابع على شيء منها، فلا يُقبل ـ حينئذٍ ـ منها شيء، ولا يقوى بعضها ببعض، كما سبق. مثال ذلك: حديث: "يطَّلِع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان ... ". ¬

_ (¬1) بعد كتابة هذا؛ وقفت ـ بفضل الله تعالى ـ على كلام للحافظ ابن حجر شبيه به، فلله الحمد والمنة، وانظر في "إواء الغليل" للشيخ الألباني (4/120) .

فهذا الحديث؛ قد اضطرب فيه عبد الله بن لهيعة، فرواه بأربعة أسانيد، عن ثلاثة من الصحابة، تفرد بها كلها، ولم يتابع على شيء منها. 1ـ فقال مرة: عن الزبير بن سليم، عن الضحاك بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي موسى، مرفوعاً. 2ـ وقال مرة: عن الضحاك بن أيمن، عن الضحاك بن عبد الرحمن ابن عرزب، عن أبي موسى، مرفوعاً. 3ـ وقال مرة: عن عبد الرحمن بن أنعم، عن عباد بن نسي، عن كثير بن مرة، عن عوف بن مالك، مرفوعاً. 4 ـ وقال مرة: عن حُيَيَّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُلبي، عن عبد الله بن عمرو، مرفوعاً. وهذا؛ من اضطراب بن لهيعة بلا شك، ولا يمكن أن يكون حفظ الحديث بهذه الأسانيد كلها، رغم أنه لم يتابع عليها، مع ما عرف من ضعفه وسوء حفظه. ولهذا؛ بعد أن بين الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى (¬1) ـ هذه الأوجه، وعزاها لمخرجيها، قال: "وهذا مما يدل على ضعف ابن لهيعة، وعدم ضبطه؛ فقد اضطرب في روايته هذا الحديث على وجوه أربعة". مثال آخر: حديث: تكبير العيد، وأنه سبع تكبيرات في الركعة الأولى، ¬

_ (¬1) في "الصحيحة" (1144) (1563) .

وخمس في الآخرة. فهذا الحديث؛ قد تفرد ابن لهيعة وحده، بروايته بسبعة أسانيد، لا يتابعه عليها ـ ولا بعضها ـ أحد. 1ـ فقال مرة: عن خالد بن يزيد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة،مرفوعاً. أخرجه: أبو داود (1150) وابن ماجه (1280) وأحمد (6/70) والدارقطني (2/47) والبيهقي (3/287) والطحاوي (4/344) . 2ـ وقال مرة: عن عقيل، عن ابن شهاب. فأسقط: "خالد بن يزيد"! أخرجه: أبو داود (1149) والحاكم (1/298) والدارقطني (2/46) والبيهقي (3/286-287) والطحاوي (4/344) . 3ـ وقال مرة: عن خالد بن يزيد، عن ابن شهاب. فأسقط: "عقيلاً". أخرجه: الدارقطني (2/47) . ورواه مرة أخرى بهذا الإسناد، بلفظ آخر، والمعنى واحد. أخرجه: الدارقطني (2/46) . 4ـ وقال مرة: عن يزيد بن أبي حبيب ويونس، عن الزهري. أخرجه الدارقطني. 5ـ وقال مرة: عن أبي الأسود، عن عروة، عن أبي واقد الليثي.

ذكره: ابن أبي حاتم في "العلل" (598) ، وحكى عن أبيه، أنه قال: "هذا حديث باطل بهذا الإسناد". 6ـ وقال مرة: عن أبي الأسود، عن عروة، عن أبي واقد الليثي وعائشة، مرفوعاً. أخرجه: الطحاوي (4/343) . 7ـ وقال مرة: عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعاً. أخرجه: أحمد (2/356-357) . فهذه سبعة أوجه، تفرد بها ابن لهيعة لهذا الحديث الواحد، فهو اضطراب منه. قال الدارقطني في "العلل" (¬1) : "الاضطراب فيه من ابن لهيعة". وقال الطحاوي: "حديث ابن لهيعة ـ يعني: هذا ـ بَيِّن الاضطراب". وقال الترمذي (¬2) : "سألت محمداً ـ يعني: البخاري ـ عن هذا الحديث، فضعفه. قلت له: رواه غير ابن لهيعة؟ قال: لا أعلمه". ¬

_ (¬1) كما في "التعليق المغني" للعظيم آبادي (2/46) . (¬2) في "العلل الكبير" (ص94) .

مثال آخر: حديث: "من قال في دبر صلاة الفجر قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له ... " ـ الحديث. فهذا الحديث؛ رواه سهر بن حوشب، واضطرب فيه: 1ـ فقال مرة: عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر، مرفوعاً. أخرجه: الترمذي (3474) والنسائي في "اليوم والليلة" (127) والبزار (2/196) (¬1) والخطيب (14/34) . 2ـ وقال مرة: عن ابن غنم، عن معاذ بن جبل. أخرجه البزار (2/47) والنسائي في "اليوم والليلة" (126) وابن السني أيضاً (139) والطبراني (20/65) . 3ـ وقال مرة: عن ابن غنم، عن أبي هريرة. ذكره: الدارقطني في "العلل" (6/45-248) . 4ـ وقال مرة: عن أم سلمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ذكره: الدارقطني أيضاً. 5ـ وقال مرة: عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ذكره: الدارقطني أيضاً. قال الدارقطني: "الاضطراب فيه من شهر". ¬

_ (¬1) كما ذكر المعلق على "العلل" للدارقطني.

هذا؛ مع اضطرابه أيضاً في متنه؛ ففي بعض رواياته: "وهو ثان رجله"، وليست هي في بعضها، وفي بعضها: "صلاة المغرب والصبح"، وفي بعضها: "صلاة العصر" بدل "صلاة المغرب". ولهذا؛ قال الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ (¬1) : "هو إسناد ضعيف؛ لتفرد شهر به، وإنما صح هذا الورد في الصباح والمساء مطلقاً، غير مقيد بالصلاة، ولا بثني الرجلين" (¬2) . مثال آخر: حديث: "الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر، من شربها وقع على أمه وخالته وعمته". يرويه ابن لهيعة ويضطرب فيه. 1ـ فقال مرة: عن أبي صخر (¬3) ، عن عبد الكريم بن أمية، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، مرفوعاً. أخرجه: الطبراني في "الأوسط" (3134) والدارقطني في "السنن" (4/247) . وتابعه على هذا الوجه: رشدين بن سعد. أخرجه: الطبراني في "الكبير" (11/164، 203) . ¬

_ (¬1) في تعليقه على "المشكاة" (1/309) . وقارن بـ"الصحيحة" (2664) و "تمام المنة" (ص228-229) . (¬2) وراجع: "شرح البخاري" لابن رجب الحنبلي (5/260-261) . (¬3) سقط ذكره عند الطبراني، وهو خطأ، فهو عند الدارقطني بنفس إسناد الطبراني.

ورشدين ضعيف، وأبو أمية كذلك. 2ـ وقال مرة: عن أبي صخر، عن عتاب بن عامر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، مرفوعاً. أخرجه: الطبراني في "الكبير" (154-قطعة منه) . وعتاب هذا، لا يعرف؛ كما قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/68) . فمن قوى الحديث بمجموع هذين الطريقين، فقد جانبه الصواب؛ لأن هذا ليس تعدداً، بل هو اضطراب. وإن صح الوجه الأول؛ لمتابعة رشدين له عليه، فهو لم يتابع على الوجه الآخر، والوجه الأول فيه أبو أمية وهو ضعيف، فيبقى الحديث على ضعفه، ولا تنفعه المتابعة التي في الوجه الآخر؛ لأن ابن لهيعة لم يتابع عليها، فضلاً عن اضطرابه، وإن كان رشدين لا تنفع متابعته؛ لأنه أشد ضعفاً من ابن لهيعة. والله أعلم. 3ـ ورواه ابن لهيعة مرة أخرى على وجه آخر: فقال: عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو ـ مرفوعاً ـ: "الخمر أم الخبائث" ـ لم يزد. أخرجه: الدارقطني (4/247) . وهذا؛ مما يزيد في الاضطراب (¬1) . ¬

_ (¬1) وراجع: "السلسلة الصحيحة" (1853) .

مثال آخر: حديث: مُجَّاعة بن الزبير، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله، قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "استكثروا من النعال؛ فإن الرَجُل لا يزال راكباً ما دام منتعلاً". أخرجه: البخاري في "التاريخ الكبير" (4/2/44) وابن عدي في "الكامل" (6/2419) . ومجاعة هذا، ضعيف من قِبَل حفظه. وقد رواه مرة أخرى، فقال: عن الحسن، عن عمران بن حصين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه: العقيلي (4/255) وابن عدي أيضاً والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/404-405) . فهذا؛ اضطراب من مجاعة: مرة جعله من مسند "جابر بن عبد الله"، ومرة جعله من مسند "عمران بن حصين"، وهو لم يتابع على قول من هذين القولين عن الحسن، فمن ثم لم يحكم لأحدهما، ومن ثم؛ فإن الأئمة قد تتابعوا على ذكر هذا الحديث في ترجمته من كتب الضعفاء، إشعاراً بأن هذا الحديث مما يستنكر من حديثه؛ لاسيما وابن عدي ساق الوجهين، ليظهر الاضطراب الواقع فيه. فالذي يظن أن هذين إسنادان لهذا الحديث، عن صحابيين مختلفين، فيجعل أحدهما شاهداً للآخر، يكون قد أتى بشاذ من القول، ومنكر من الفعل.

ومما يتعجب له!! أن جاء بعض من لا علم له بهذا الشأن، فأثبت بمقتضى الوجه الأول متابعة الحسن البصري لأبي الزبير المكي، في هذا الحديث، حيث قد رواه أبو الزبير عن جابر؛ ثم اعتبر ذلك المذكور الوجه الثاني شاهداً للحديث (¬1) ! وهذا عجب من العجب!! ¬

_ (¬1) راجع: كتابي "ردع الجاني" (ص128-129، 154-160) . وانظر: مثالاً آخر في "الصحيحة" (1604) .

المتابعة.. والجادة

المتابعة.. والجادة قد يتتابع بعض الرواة على رواية حديث إسناداً ومتناً، ويخالفهم من هم أولى بالحفظ منهم، فيرجح الأئمة رواية الحفاظ، وإن كان الأولون جماعة يبعد على مثلهم الخطأ عادة. إلا أن الأئمة يرون أن هؤلاء الجماعة وإن اتفقوا، إلا أن ما اتفقوا عليه مما يسهل أن تتوارد عليه الأذهان، وأن يتفق على الخطأ فيه الجماعة، كأن تكون روايتهم جارية على الجادة المعهودة، ورواية الحفاظ على خلاف الجادة. فحماد بن سلمة ـ مثلاً ـ؛ إذا روى عن ثابت البناني، غالباً ما يكون الحديث: "عن ثابت، عن أنس"، فإذا روى حافظ أو أكثر عن حماد بن سلمة حديثاً عن ثابت مرسلاً، ووجدنا عدداً من الضعفاء، أو ممن ليسوا مبرزين في الحفظ؛ رووا الحديث، فقالوا: "عن حماد، عن ثابت، عن أنس"، عرفنا أن من وصل الحديث بذكر أنس إنما سلك الجادة، فأخطأ، وأن من لم يسلكها إنما حفظ الحديث على وجهه. ويقع ذلك أيضاً بكثرة في مثل: "محمد بن المنكدر، عن جابر"، و "الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة"، و "مالك، عن نافع، عن ابن عمر"، و "الزهري، عن سالم، عن ابن عمر"، وأمثلة هذا كثيرة، يعرفها من له اعتناء بهذا الباب.

وقد قال الإمام أحمد (¬1) : " وأهل المدينة، إذا كان حديث غلط، يقولون: "ابن المنكدر عن جابر"، وأهل البصرة يقولون: " ثابت عن أنس "؛ يحيلون عليهما ". فإذا توارد عدد من الرواة، لاسيما إذا كانوا ضعفاء، أو ليسوا من المبرزين في الحفظ، وكان ما تواردوا عليه مما يجري على الجادة الغالبة، وخالفهم حافظ أو أكثر، كان الغالب أن الصواب مع من عُرِفَ بالحفظ والإتقان، وأن ما تتابع عليه هؤلاء خطأ. مثال ذلك: سأل ابن أبي حاتم (¬2) أباه وأبا زرعة: عن حديث؛ رواه عبد الله بن رجاء وسهل بن حماد العنقزي أبو عتاب، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ـ موقوف ـ، قال لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً. ورويا: عن شعبة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ بنحوه. فقالا: أكثر أصحاب شعبة الحفاظ منهم يرفعون حديث عدي بن ثابت، ولا يقولون في حديث سماك: " ابن عباس "، إنما يقولون " سماك، عن عكرمة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وهذا صحيح. ¬

_ (¬1) "الكامل" (4/1616) . (¬2) في " العلل " (2192) ، وانظر " شرح البخاري لابن رجب (3/265) .

قلت إنما اتفقوا؟! فقالا: شيخين صالحين، أوقفا ما رفعه الحفاظ، ووصلا ما يرسله الحفاظ اهـ. مثال آخر: وقال ابن أبي حاتم أيضاً (¬1) : سألت أبي (¬2) عن حديث رواه معتمر بن سليمان، عن حميد الطويل، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرخص في الحجامة والمباشرة للصائم. فقالا: هذا خطأ؛ إنما هو: عن أبي سعيد ـ قوله؛ رواه قتادة وجماعة من الحفاظ، عن حميد، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد ـ قوله. قلت: إن إسحاق الأزرق رواه عن الثوري، عن حميد، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قالا: وَهِمَ إسحاق في الحديث. قلت: قد تابعه معتمر؟ قالا: وَهِمَ فيه أيضاً معتمر اهـ. مثال آخر: وقال ابن أبي حاتم (¬3) : حدثنا أبو زرعة، قال: سمعت نوح بن حبيب يقول: حضرنا ¬

_ (¬1) " العلل " (676) . (¬2) لعله سقط من هاهنا: " وأبو زرعة " بدلالة ما سيأتي ما بعده. (¬3) في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص 255) .

عبد الرحمن بن مهدي، فحدثنا عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى ـ في قوله عز وجل: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} . فقال له رجل حضر معنا: يا أبا سعيد! حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى. قال: فسكت عبد الرحمن. وقال له آخر: يا أبا سعيد! حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى. قال: فسكت؛ وقال حافظان! ثم قال: دعوه! قال نوح: ثم أتوا يحيى بن سعيد، فأخبروه أن عبد الرحمن بن مهدي حدث بهذا الحديث، عن الثوري، عن منصور، عن أبي الضحى، فأُخبر أنك تخالفه ويخالفه وكيع، فأمسك عنه، وقال: حافظان. قال: فدخل يحيى بن سعيد، ففتش كتبه، فخرج وقال: هو كما قال عبد الرحمن، عن سفيان، عن منصور. قال نوح: فأُخبر وكيع بقصة عبد الرحمن، والحديث، وقوله: حافظان. فقال وكيع: عافى الله أبا سعيد، لا ينبغي أن يقبل الكذب علينا. قال: ثم نظر وكيع، فقال: هو كما قال عبد الرحمن، اجعلوه عن منصور اهـ. مثال آخر: ساق ابن عبد البر (¬1) حديث مالك، عن جعفر بن محمد، عن ¬

_ (¬1) في " التمهيد " (2/134-135) .

أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد ـ يعنى مرسلاً. ثم قال: " هذا الحديث في " الموطأ " عن مالك مرسل، عند جماعة رواته، وقد رُوي عنه مسنداً ". ثم ذكر ممن أسنده عنه أربعة أنفس: عثمان بن خالد المدني العثماني، وإسماعيل بن موسى الكوفي، ومحمد بن عبد الرحمن رداد، ومسكين بن بكير. الأولان؛ وصلاه بذكر " جابر بن عبد الله "، والآخران؛ وصلاه بذكر " علي بن أبي طالب ". ثم قال ابن عبد البر: " والصحيح فيه عن مالك، أنه مرسل في روايته ". مثال آخر: وقال أبو يعلى الخليلي (¬1) : " وإذا أُسند لك الحديث عن الزهري، أو غيره من الأئمة، فلا تحكم بصحته بمجرد الإسناد، فقد يُخطئ الثقة، ومثاله: حديث مالك، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع "، وهذا صحيح متفق عليه من حديث الزهري (¬2) ، وقد صح أيضاً عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر ـ قوله؛ رواه عنه الشافعي وغيره من الأئمة ". ¬

_ (¬1) في " الإرشاد " (1/202-204) . (¬2) يعني: من طريق مالك.

قال: " وقد أخطأ فيه رزق الله بن موسى ـ وهو صالح ـ، من حديث يحيى بن سعيد القطان، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به مجوَّداً (¬1) ، وتابعه على خطئه داود بن عبد الله ـ هو أبو الكرم الجعفري، عن مالك ـ مثله " اهـ. ثم ذكر أن سهل بن فرخان الأصبهاني الزاهد، رواه أيضاً مرفوعاً، من حديثه عن الربيع بن سليمان، عن الشافعي، عن مالك، ونقل عن الحاكم أنه خَطَّأ فيه سهلاً هذا، ثم قال: " فهذا مما أخطأ فيه هؤلاء، ولم يتعمدوا الكذب ". مثال آخر: حديث: " النوم أخو الموت، ولا ينام أهل الجنة ". فهذا الحديث؛ يرويه الثوري، واختلف عليه: فرواه: كبار أصحابه، عنه، عن محمد بن المنكدر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ مرسلاً. منهم: عبد الله بن المبارك، ووكيع، وقطبة بن العلاء، وعبيد الله ابن موسى، والأشجعي، ومخلد بن يزيد، وغيرهم. أخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (279) وأحمد أيضاً في " الزهد " (ص 9) والعقيلي في " الضعفاء " (2/301) . ورواه: الفريابي، وجماعة آخرون ـ بعضهم ضعفاء، وبعضهم يرويه ¬

_ (¬1) أي: مرفوعاً.

عنهم ضعفاء ـ؛ رووه، عن الثوري، عن ابن المنكدر، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) . فهؤلاء الذين وصلوه بذكر " جابر " في الإسناد، وإن كانوا جماعة، إلا أنهم ـ كما سبق ـ يدورون بين ضعيف، وبين من راويه عنه ضعيف، وأفضل من رواه عن الثوري موصولاً هو الفريابي، وهو معروف بأخطائه في حديث الثوري، وهذا منها، فكيف إذا انضاف إلى ذلك مخالفة كبار أصحاب الثوري لهم حيث لم يوصلوا الحديث، خصوصاً وأن وصل مثل هذا مما يجري على الجادة، كما سبق. ولهذا؛ رجح العقيلي الإرسال، وقال في الموصول: " لا أصل له ". وكذلك؛ رجح الإرسال أبو حاتم الرازي، فقال (¬2) : " الصحيح: ابن المنكدر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ليس فيه: جابر ". وبالله التوفيق. مثال آخر: سُئل الدارقطني (¬3) : عن حديث أبي إدريس الخولاني، عن معاذ بن جبل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قال الله: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتزاورين فيَّ " ـ الحديث. ¬

_ (¬1) راجع " السلسلة الصحيحة " (1087) . (¬2) " العلل " لابنه (2147) . (¬3) في " العلل " (6/69-71) .

فقال الدارقطني: " يرويه: جماعة من أهل الحجاز والشام، عن أبي إدريس، منهم: أبو حازم سلمة بن دينار، والوليد بن عبد الرحمن ابن الزجاج، ومحمد ابن قيس القاص، وشهر بن حوشب.....، وعطاء الخراساني، ويزيد ابن أبي مريم، ويونس بن ميسرة بن حلبس؛ كلهم عن أبي إدريس، عن معاذ بن جبل، وكلهم ذكروا أن أبا إدريس سمعه من معاذ ". قال: " وخالفهم: محمد بن مسلم الزهري ـ وهو أحفظ من جميعهم ـ؛ فرواه عن أبي إدريس الخولاني، قال: أدركت عبادة بن الصامت ووعيت عنه، وأدركت شداد بن أوس ووعيت عنه ـ وعد نفراً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ، قال: وفاتني معاذ بن جبل وأُخبرت عنه ". قال: " والقول قول الزهري؛ لأنه أحفظ الجماعة " اهـ. مثال آخر: حديث: الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بالدلجة؛ فإن الأرض تطوى ليلاً ". فهذا الحديث؛ يُروى عن الليث من وجهين: الأول: يرويه: رويم بن يزيد، عنه. أخرجه: أبو يعلى (6/301) وابن خزيمة (2555) والبزار (1196- كشف) والحاكم (1/445) والخطيب (8/429) والطحاوي في " مشكل الآثار " (113) والبيهقي (5/256) . الثاني: يرويه: محمد بن أسلم الطوسي، عن قبيصة بن عقبة، عنه.

أخرجه أيضاً: ابن خزيمة والحاكم، وكذا أبو نعيم في " الحلية " (9/250) . وهذا مما تتابع ثقتان على الخطأ فيه. سُئل الدراقطني عن هذا الحديث، فذكر رواية رويم هذه، ومتابعة محمد بن أسلم عن قبيصة له، ثم قال (¬1) : " والمحفوظ: عن ليث، عن عقيل، عن الزهري ـ مرسل ". وقال أبو حاتم (¬2) : " سمعت أحمد بن سلمة النيسابوري يقول: ذاكرت أبا زرعة بحديث رواه قبيصة بن عقبة، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس ـ (فذكره) . فقال: أعرفه من حديث رويم بن يزيد، عن الليث هكذا، فَمَنْ رواه عن قبيصة؟ فقلت: حدثني محمد بن أسلم، عن قبيصة هكذا. فقال: محمد بن أسلم ثقة. فذاكرت به مسلم بن الحجاج، فقال: أخرج إلى عبد الملك بن شعيب بن الليث كتاب جده، فرأيت في كتاب الليث على ما رواه قتيبة (¬3) . ¬

_ (¬1) " تاريخ بغداد " (8/429) . وكذا ذكر روايتهما في " الأفراد " (86أـ أطرافه) (¬2) في " العلل " (2256) . (¬3) يعني: مرسلاً؛ كما سيأتي عقبه.

قال أبو الفضل ـ هو: أحمد بن سلمة النيسابوري ـ: حدثنا قتيبة عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بالدلجة " ـ الحديث " اهـ. قلت: وإنما رجح الأئمة الإرسال؛ لأنه هو الذي ثبت في كتاب الليث بن سعد، ومعلوم أن الحفظ يخون بخلاف الكتاب؛ فإنه أثبت، لاسيما وأن قتيبة بن سعيد ـ وهو من المتثبتين في الليث ـ رواه مرسلاً، كما في كتاب الليث. وقد تابعه أيضاً على إرساله: عبد الله بن صالح كاتب الليث. أخرج حديث: الطحاوي في " المشكل " (114) (¬1) . مثال آخر: حديث: عمر بن الخطاب ـ موقوفاً عليه ـ: " من وهب هبة، فهو أحق بها، ما لم يُثَبْ منها ". فهذا الحديث؛ يُروى موقوفاً على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ من عدة أوجه؛ بنحوه. رواه: مالك في " الموطأ " (ص 470) ، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طريف المري، عن عمر ـ قوله. ومن طريق مالك؛ رواه: البيهقي في " السنن الكبرى " (6/182) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (4/81) . ¬

_ (¬1) وراجع: " الصحيحة " (681) .

ورواه: عمرو بن دينار، عن سالم، عن ابن عمر، عن عمر ـ قوله. أخرجه: البيهقي والطحاوي. وكذلك؛ رواه: حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم، عن ابن عمر، عن عمر ـ قوله. رواه عن حنظلة: مكي بن إبراهيم، وعبد الله بن وهب. أخرجه: البيهقي والطحاوي. لكن؛ اختُلت فيه على حنظلة. فرواه: الحاكم في: " المستدرك " (2/52) : حدثنا أبو أحمد إسحاق ابن محمد بن خالد الهاشمي ـ بالكوفة ـ: ثنا أحمد بن حازم بن أبي عزرة: ثنا عبيد الله بن موسى: ثنا حنظلة بن أبي سفيان، قال: سمعت سالم بن عبد الله يحدث عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " ـ فذكره مرفوعاً من مسند ابن عمر. ومن طريق الحاكم؛ أخرجه البيهقي. وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه؛ إلا أن نَكِلَ الحمل فيه على شيخنا ". ووافقه الذهبي، بل ذكر شيخه هذا في " الميزان " (¬1) ، ولم يزد في ¬

_ (¬1) " الميزان " (1/199) .

ترجمته على قوله: " روى عنه الحاكم، واتهمه ". يعني: في هذا الحديث، ومعلوم أن تخطئة الحاكم له لا تفيد التهمة الاصطلاحية، وإن كان هو يوهمه في رفع الحديث. ولذا؛ قال الحافظ بن حجر في " اللسان " (¬1) : " الحمل فيه عليه بلا ريب، وهذا الكلام معروف من قول ابن عمر، غير مرفوع ". على أن شيخ الحاكم لم يتفرد برفع هذا: فقد رفعه أيضاً: على بن سهل بن المغيرة، عن عبيد الله بن موسى، به. أخرجه: الدارقطني (3/43) والبيهقي. وقال الدارقطني: " لا يثبت هذا مرفوعاً، والصواب: عن ابن عمر، عن عمر ـ موقوفاً ". وقال في العلل: (¬2) " حدث به علي بن سهل بن المغيرة ـ وكان ثقة ـ عن عبيد الله بن موسى، عن حنظلة، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووهم فيه؛ وإنما هو: عن ابن عمر، عن عمر " ـ يعني موقوفاً. ¬

_ (¬1) " اللسان " (1/375) . (¬2) " العلل " (2/58) .

وقال البيهقي: " وهو وهم؛ وإنما المحفوظ: عن حنظلة، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: من وهب هبة ... " ـ فذكره موقوفاً. وقال في " المعرفة " (¬1) : " وغلط فيه عبيد الله بن موسى؛ فرواه عن حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.. والصحيح: رواية عبد الله بن وهب، عن حنظلة، عن سالم، عن أبيه، عن عمر ". فحمل البيهقي الخطأ في الحديث على عبيد الله بن موسى، والأشبه حمله على من دونه، وهو علي بن سهل بن المغيرة، ولا تنفعه متابعة ابن أبي عزرة عليه ـ كما في رواية الحاكم ـ بعد أن تبين أن روايها عنه ـ وهو شيخ الحاكم ـ قد أخطأ في هذا الحديث أيضاً. ومهما يكن من أمر؛ فرفع الحديث خطأ، بصرف النظر عن المخطئ فيه. لكن؛ تعقب ابن التركماني البيهقي في ترجيح الوقف، وعدم الاعتداد بالرواية المرفوعة، مع كونها جاءت من طريقين عن عبيد الله بن موسى، فقال: " المرفوع؛ رواته ثقات، كذا قال عبد الحق في " الأحكام " وصححه ابن حزم.. وقد تُوبع راويه عليه كما ذكر البيهقي ... ، فلا ¬

_ (¬1) " معرفة السنن والآثار " (5/18-19) .

حمل إذاً على شيخ الحاكم، ولا نسلم للبيهقي أنه وهم؛ بل يُحمل على أن لعبيد الله (¬1) فيه إسنادين ". وفي هذا التعقيب بُعْدٌ عن التحقيق، ومجافاة لأصول الحديث، وهجران للموروث عن أهل النقد في علم الحديث، الذين هم أهل الاختصاص، وإليهم يكون المرجع والمهرب عند الاختلاف. ولقد أشبع الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ في الرد على ابن التركماني، وبيان بطلان تعقبه، وبُعْده عن الأصول العلمية، فقال (¬2) : " يحتمل أن يكون الوهم عندي من علي بن سهل؛ فإنه دون عبيد الله في الحفظ والضبط، وإن كان ثقة. ولا يفيده متابعة أحمد بن حازم بن أبي عزرة له؛ لأن الراوي عنه ـ شيخ الحاكم ـ لم يثبت عدالته ـ كما عرفتَ من ترجمته. فلا تغتر إذاً بمحاولة ابن التركماني في رده على البيهقي لتقوية الحديث؛ فإنها محاولة فاشلة، لا تستند على سند من القواعد العلمية الحديثية. فإن رواية عبيد الله بن موسى المرفوعة، لا يشك باحث في شذوذها؛ لمخالفتها لرواية الثقتين: مكي بن إبراهيم، وعبد الله بن وهب، اللذين رويا الحديث عن حنظلة به موقوفاً، وشد من عضد وقفه، وأيد شذوذ تلك [الطريق] الطريق الأخرى الموقوفة عند مالك ". ¬

_ (¬1) لعله يقصد: " لسالم " أو " لعبد الله " يعني: ابن عمر. والله أعلم. (¬2) في " إرواء الغليل " (6/57-58) .

قال الشيخ: " وأما قول ابن التركماني: " المرفوع رواته ثقات، كذا قال عبد الحق في " الأحكام "، وصححه ابن حزم "؛ فالجواب من وجهين: الأول: أن ابن حزم نظر إلى ظاهر السند فصححه، وذلك مما يتناسب مع ظاهريته، أما أهل العلم والنقد، فلا يكتفون بذلك، بل يتتبعون الطرق، ويدرسون أحوال الرواة، وبذلك يتمكنون من معرفة ما إذا كان في الحديث علة أو لا، ولذلك كان معرفة علل الحديث من أدق علوم الحديث، إن يكن أدقها إطلاقاً؛ لذلك رأينا أهل العلم والنقد منهم قد حكموا على الحديث بأنه وهم، وأن الصواب فيه الوقف، منهم: الدارقطني والبيهقي والعسقلاني، وغيرهم ممن نقل كلامهم وأقرهم عليه كالزيلعي؛ فأين يقع تصحيح ابن حزم من تضعيف هؤلاء؟ ! والوجه الآخر: أن عبد الحق لم يقتصر على القول الذي نقله عنه ابن التركماني فقط! بل أتبع ذلك بقوله ـ بعد أن كان عزاه للدارقطني ـ: " لكنه جعله وهماً قال: والصواب، عن ابن عمر، عن عمر ـ قوله ".هكذا هو في كتاب " الأحكام " (ق 165/1) . فلا أدري؛ كيف استجاز ابن التركماني أن يذكر منه بعضه دون البعض الآخر المتمم له، والذي بدونه يفهم الواقف عليه أن عبد الحق يذهب إلى تصحيح الحديث، بينما هو مع الدارقطني، الذي ضعفه وصحح وقفه!!! ". انتهى كلام الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى.

هذا؛ ومما يؤكد خطأ هذين في رفع الحديث، وإن كانا قد اتفقا في ذلك: ما ذكره الإمام العلائي في حديث آخر، وقع فيه مثل هذا الخطأ، في حديث عن ابن عمر، عن عمر موقوفاً أيضاً، قال (¬1) : " ومما يقوي القول بالتعليل فيه بالوقف: ما إذا كان قد زِيدَ في الإسناد عوضاً عن ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابي آخر.. ووجهه: غلبة الظن بغلط من رفعه، حيث اشتبه عليه قول ابن عمر: " عن عمر " ـ رضي الله عنهما ـ، بأنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ فلما جاءه بعد الصحابي صحابي آخر، والحديث هو قوله، اشتبه ذلك على الراوي " ¬

_ (¬1) " النكت على ابن الصلاح " (2/780-781) .

المتابعة.. والإبهام

المتابعة.. والإبهام الإبهام؛ هو أن يُسمي الراوي اختصاراً من الراوي عنه، فيقول مثلاً: " أخبرني فلان، أو شيخ، أو رجل، أو بعضهم "؛ وهو ذلك. والإبهام؛ علة إسنادية، توجب التوقف في الحديث وعدم الاحتجاج به؛ لاحتمال أن يكون ذلك المبهم ضعيفاً أو كذاباً. ويستدل على معرفة اسم المبهم؛ بوروده من طريق أخرى مسمى فيها، بشرط أن تكون هذه التسمية محفوظة، وليست خطأ من قِبَل بعض الرواة، فربما سُمِّي المبهم في رواية أخرى، ولا يكون ذلك محفوظاً، إنما المحفوظ عدم تسميته. مثال ذلك: ما روى: جماعة من أصحاب الزهري، عن الزهري، قال: حدثني رجال من الأنصار ـ لم يسمهم ـ، أن عثمان دخل على أبي بكر ـ الحديث؛ في نجاة هذا الأمر. فقد رواه: عبد الله بن بشر الرقي، عن الزهري، فقال: " عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عثمان، عن أبي بكر ". هكذا؛ سمى شيخ الزهري: " سعيد بن المسيب "، وأخطأ في ذلك، والصواب: أنه غير مسمى ـ: قاله أبو زرعة والدارقطني (¬1) . ¬

_ (¬1) " علل الحديث " لابن أبي حاتم (1970) و " العلل " للدارقطني " (1/173) .

وزاد الدارقطني: " وكذلك رُوي عن مالك بن أنس، وعن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عثمان، عن أبي بكر؛ ولا يصح عنهما، وكل ذلك وهْم ". وإذا كانت التسمية محفوظة، وأن هذا المبهم هو ذاك المسمى في الرواية الأخرى، فلا يصح بداهة أن تقوى الرواية المبهمة بالرواية المبينة، أو العكس؛ لأنه ـ والحالة هذه ـ يكون من باب تقوية الحديث بنفسه. وهذا؛ أمر واضح لا خفاء به، غير أني رأيت بعض من أقحم نفسه في العلم، ممن لا يفرق بين البقرة والبعرة، جاء إلى رواية فيها راوٍ ضعيف، فقواها برواية أخرى أُبهم فيها ذلك الضعيف، فأتى بشاردة عجيبة، وشاذة غريبة! وذلك؛ هو المدعو محمود سعيد ممدوح، حيث ذكر (¬1) حديث ابن أبي فديك، عن أبي المثنى بن يزيد الكعبي، عن أنس بن مالك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من زارني بالمدينة محتسباً، كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة ". أخرجه: البيهقي في " الشعب " (4157) والسهمي في " تاريخ جرجان " (ص 220) . ثم يقل أقوال أهل العلم في تضعيف أبي المثنى هذا، ثم أعله بعلة أخرى وهي الانقطاع بين أبي المثنى وأنس، لأنه من أتباع التابعين. ¬

_ (¬1) في " رفع المنارة " (ص 262-369) .

ثم ساق له طريقاً أخرى فيها مبهم، وقوى به الحديث، وهو ما ذكر أنه يرويه إسحاق بن راهويه في " مسنده " (¬1) ، عن عيسى بن يونس، عن ثور بن يزيد: حدثني شيخ، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، به. ثم قال المدعو: " لولا الشيخ المبهم الذي لم يسم لكان السند في أعلى درجات الصحة، لكن هذا الطريق إذا ضُم لسابقة استفاد الحديث قوة "!! وهذا؛ من عجائب الدنيا! فإن أحداً لا يشك في أن هذا المبهم هو نفسه المسمى في الرواية الأولى، فانظر لمن يقوي الرواية بنفسها!! ثم؛ إن أسلمنا بأن الشيخ المبهم غير المسمى في الرواية الأولى، فلا يُدرى أسمع من أنس أم لا، وعليه؛ فيكون الحديث منقطاً في روايتيه في موضع واحد؛ لأن أبا المثنى الكعبي لم يلق أنساً كما ذكر محمود سعيد نفسه، فالروايتان راجعتان إلى مخرج واحد، ولا بد. والأعجب! أن هذا المتهم قد التزم في موضع آخر بالقواعد العلمية، حيث لم يكن محتاجاً لتصحيح الحديث، فذكر في تعليقه على " النقد الصحيح " للعلائي (¬2) طريقين لحديث آخر: في أحدهما: يعلى بن أبي يحيى، وهو مجهول، وفي الآخر: شيخ غير مسمى، فلم يقو هذا ¬

_ (¬1) لم أتحقق بعد من صحة هذا العزو، وإن بوادر التهمة لتلوح، فإني لم أجده في كتاب السبكي " شفاء السقام " وهو يعزو لمسند إسحاق فيه كثيراً، ولا ذكره ابن عبد الهادي في رده عليه، بل لم يذكرا لهذا الحديث سوى الإسناد الأول! وما زلت أبحث عنه، والله المستعان (¬2) ص 58-59) .

بذاك، للعلة التي ذكرناها، فقال: " إن فيه مبهماً، ولا يفيده شيئاً إن كان المبهم هو يعلى بن أبي يحيى، بل يخشى أن يكون الطريقان يرجعان إلى طريق واحد، وهو الذي استظهره المصنف ـ رحمه الله ". وهذا؛ غيض من فيض، من تناقضاته وتخبطاته، وقد بينت الكثير منها في ردي عليه المسمى: " صيانة الحديث وأهله من تعدي محمود سعيد وجهله "، أسأل الله أن يعينني على إنجازه.

الشك.. والجزم

الشك.. والجزم قد يجيء في الحديث، شك الراوي وتردده في بعض الإسناد، فيقول ـ مثلاً ـ: " حدثني فلان أو فلان " أو: " عن الزهري عن فلان أو فلان "، أو " عن الزهري أحسبه عن فلان "، أو: " عن أبي هريرة أحسبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "، ونحو ذلك. والشك في تعيين راوي الحديث: هل هو فلان أو فلان، علة في الحديث، توجب التوقف عن الاحتجاج به، إذا كان الرجلان المتردَّدُ أيهما صاحب الحديث، أحدهما ثقة والآخر ضعيف؛ لاحتمال أن يكون الضعيف هو صاحب الحديث، وليس الثقة (¬1) . وكذا؛ إذا قال: " عن فلان أو فلان "، وهو لم يسمع من أحدهما؛ لاحتمال أن يكون من لم يسمع منه هو صاحب الحديث، فيكون منقطعاً. وكذا؛ إذا كان الحديث عن أحدهما يقتضي الاتصال، وعن الآخر لا يقتضيه؛ كأن يقول: " حدثني فلان أو فلان، عن فلان "، ولا يكون: أحد شيخيه قد سمع من الشيخ الأعلى، فيكون منقطعاً أيضاً، ليس بينه وبين شيخه، ولكن بين الشيخ وشيخه. وكذا؛ إذا أبهم أحدهما؛ كأن يقول: " حدثني فلان أو غيره "؛ إذ لا يُعلم من هذا المبهم، وقد يكون هو صاحب الحديث، وحينئذ قد يكون ¬

_ (¬1) انظر " الكفاية " (ص 534) .

ضعيفاً لا تقوم بروايته حجة. وقد يكون ثقة، إلا أنه لم يسمع ممن فوقه في الإسناد، فترجع للحديث علة الانقطاع. وقد يقع التردد أيضاً في بعض المتن؛ كأن يتردد الراوي في كلمة معينة، أو جملة معينة، هل هي من الحديث أم لا، أو يتردد بين كلمتين أو جملتين أيتهما التي في الحديث؛ وهكذا. وإنما تُدفع علة الشك في الرواية بالجزم بأحد الاحتمالين في رواية أخرى، كأن يروي هذا الراوي نفسه ـ أو غيره ـ الحديث نفسه جازماً بأنه " عن فلان " بعينه، وليس عن الآخر، أو جازماً برفعه، إن كان قد وقع التردد في رفعه ووقفه. وذلك؛ شريطة أن تكون الرواية الجازمة محفوظة، وليست مما أخطأ فيه بعض الرواة الثقات أو الضعفاء، وأن صواب الرواية أنها بالشك وليست بالجزم. فقد يقع الجزم من قِبَل بعض الرواة خطأً منهم، ويكون الصواب التردد والشك، فحينئذ لا اعتبار بالرواية الجازمة، ولا يُدفع الشك بها؛ لأنها خطأ، والخطأ لا يعتبر به. مثال ذلك: حديث: ابن جريج: سمع جابراً سُئل عن المُهَلِّ، فقال سمعت ـ أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ فقال: " مُهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الأخرى الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق ... "

الحديث. أخرجه: مسلم في " الصحيح " (4/7) . وأعله في " التمييز " بالشك في رفعه، فقال (¬1) : " فأما الأحاديث التي ذكرناها من قبل، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ذات عرق، فليس منها واحد يثبت؛ وذلك أن ابن جريج قال في حديث أبي الزبير عن جابر ". إلى هنا انتهى كلام الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ المتعلق بعلة هذا الحديث، ثم أتبعه ببيان العلل الواردة على الأحاديث الأخرى التي في الباب. ومراد الإمام ـ والله أعلم ـ: أن رواية ابن جريج هذه ليس فيها التصريح برفع الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل فيها التردد في ذلك. وقد ذكره الدارقطني في " التتبع " (¬2) ، مقتصراً على قوله: " ويُهل أهل العراق من ذات عرق "، وقال: " وفي هذا نظر ". وذكره بعد ذلك أيضاً (¬3) ، فقال: " وأخرج مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر: " مهل أهل العراق من ذات عرق ". قال: وفي حديث ابن عمر: لم يكن عراق يومئذ ". فهذا؛ هو النظر الذي عناه ـ والله أعلم ـ في الموضع الأول. ¬

_ (¬1) ص 214-215) . (¬2) ص 477) . (¬3) ص 555) .

وقال الإمام النووي في " شرح مسلم ": " لا يحتج بهذا الحديث؛ لكونه لم يجزم برفعه ". وقال ابن خزيمة في " الصحيح " (4/159) : " باب ذكر ميقات أهل العراق؛ إن ثبت الخبر مسنداً ". ثم خرج حديث ابن جريج هذا؛ ثم قال: " قد رُوي في ذات عرق، أنه ميقات أهل العراق أخبار ـ غير ابن جريج ـ، لا يثبت عند أهل الحديث شيء منها ". وقال ابن المنذر (¬1) : " لم نجد في ذات عرق حديثاً ثابتاً ". فهذه؛ هي علة الحديث، وهي الشك في رفعه. لكن؛ رواه: عبد الله بن لهيعة وإبراهيم بن يزيد الخوزي، عن أبي الزبير؛ فجزما برفعه. أخرج حديث الخوزي: ابن ماجه (2915) . وأخرج حديث ابن لهيعة: أحمد (3/336) ، والبيهقي (5/27) . ثم قال البيهقي: " كذا قاله عبد الله بن لهيعة، وكذا قيل عن ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزبير؛ والصحيح: رواية ابن جريج ". ¬

_ (¬1) " الفتح " (3/390) .

يعني: رواية الشك في رفعه. ولا يقال: إن الذي لم يشك معه من العلم ما ليس مع من شك، ومن علم حجة على من لم يعلم؛ فهذا ليس موضعه، وإنما يقال هذا حيث تتساوى الروايات في القوة، والخوزي ضعيف جداً، وابن لهيعة ضعيف أيضاً، ومهما تسامحنا في حاله، فلن يكون أبداً بمنزلة من تقدم روايته عند المخالفة، لاسيما إذا كان المخالف له ذلك الثقة الحافظ ابن جريج. وهذا الحديث، مما يرويه ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر؛ وقد سأل الدارمي ابن معين في " تاريخه " (533) ، فقال: " قلت: كيف رواية ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر؟ فقال: ابن لهيعة ضعيف الحديث ". وهذا؛ يشير إلى أن لابن لهيعة بهذه الترجمة مناكير، ضُعف من أجلها؛ وهذا منها. هذا؛ وأكثر أهل العلم على أن الذي وقت ذات عرق لأهل العراق هو عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، ولم يكن ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) . مثال آخر: حديث ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، قال: أكبر علمي، والذي يخطر على بالي؛ أن أبا الشعثاء أخبرني، أن ابن عباس ¬

_ (¬1) وانظر: " الفتح " لابن حجر (3/389) .

أخبره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة. أخرجه: مسلم (1/177) وأحمد (1/366) وابن خزيمة (108) وأبو عوانة (1/284) والدارقطني (1/53) والبيهقي (1/188) والطبراني (23/426) . قال الحافظ ابن حجر (¬1) : " أعله قوم؛ لتردد وقع في رواية عمرو بن دينار؛ حيث قال: " علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني ـ وذكر الحديث "؛ وقد ورد من طريق أخرى بلا تردد؛ لكن راويها غير ضابط وقد خُولف ". مثال آخر: حديث: عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة أو غيره. عن عائشة، قالت: ما كان خلقٌ أبغض إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - من الكذب، ولقد كان الرجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكذب عنده الكذبة، فما يزال في نفسه حتى يعلم أن قد أحدث منها توبة. فهذا الحديث؛ هكذا رواه معمر بالشك: هل هو من حديث ابن أبي مليكة، أم غيره؟ ورُوي عنه بدون شك، وهو خطأ؛ ثم تبين من غير رواية معمر، أنه من حديث ذلك الغير، وليس من حديث ابن أبي مليكة؛ وبمعرفتنا ذلك الغير، تبين أنه لم يسمع من عائشة، فصار الحديث منقطعاً. وتفصيلاً لذلك؛ أقول: ¬

_ (¬1) في " فحت الباري " (1/300) . وانظر: " فتح الباري " لابن رجب (1/255) .

هذا الحديث؛ اخُتلف فيه على عبد الرزاق: فرواه عنه بعضهم بالشك، كما هنا؛ منهم: أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن إبراهيم الدبري (¬1) . أخرجه: أحمد (6/152) والبيهقي في " الشعب " (4817) . وهو كذلك بالشك في " المصنف " (11/158) . ورواه عنه بعضهم بدون شك، منهم: يحيى بن موسى، وأحمد بن منصور الرمادي، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه. أخرجه: الترمذي (1973) وابن حبان (5736) والبيهقي في " السنن الكبرى " (10/196) و" الشعب " (4861) . ثم حكى البيهقي عن الرمادي، أنه قال: " كان في نسختنا عن عبد الرازق هذا الحديث " عن ابن أبي مليكة، أو غيره "؛ فحدثنا عبد الرزاق بغير شك، فقال: عن ابن أبي مليكة، ولم يذكر: أو غيره ". قلت: وهذا؛ يدل على أن الصواب في حديث معمر، أنه بالشك؛ لأنه هو الموافق لما في كتاب عبد الرزاق ومعلوم أن عبد الرزاق كان يخطئ إذا حدث مِن حفظه، لاسيما وأن أحمد ابن حنبل روى الحديث عنه بالشك، وأحمد إنما سمع من عبد الرزاق قديماً ومن كتابه، وقد ¬

_ (¬1) لكن وقعت روايته في " شرح السنة " للبغوي (13/155) بدون شك، إلا أن البغوي قرن بين روايته ورواية أحمد بن منصور الرمادي، ورواية الرمادي بدون شك ـ كما سيأتي ـ، فلعل البغوي حمل روايته على روايته. والله أعلم.

أخبر الرمادي أن عبد الرزاق حدثهم بدون الشك من حفظه وليس من كتابه وأن الذي في الكتاب بالشك. فهذا؛ هو المحفوظ عن معمر؛ أنه قال: " عن أيوب، عن ابن مليكة أو غيره، عن عائشة " (¬1) . ثم نظرنا؛ فوجدنا أن الصواب في هذا الحديث، أنه من حديث ذلك الغير، وليس من حديث ابن أبي مليكة. فقد قال البيهقي في " الشعب ": " هكذا رواه معمر؛ ورواه: محمد بن أبي بكر، عن أيوب، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عائشة ... ". فهذه؛ إشارة منه إلى أن الحديث حديث أيوب، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عائشة، وليس حديث أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، وأن إبراهيم بن ميسرة هو ذاك الغير الذي لم يحفظه معمر، واشتبه عليه: هل الحديث حديث، أم حديث ابن أبي مليكة؟ ... وكذلك؛ رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عائشة (¬2) : ¬

_ (¬1) ورواه محمد بن مسلم، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة. أخرجه البيهقي (10/196) . وهذا غير محفوظ. وقد اضطرب فيه محمد مسلم؛ فرواه مرة عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عائشة. أخرجه الحاكم (4/98) . وقال البيهقي في " الشعب " (4818) : " لا يصح ". (¬2) وسرقه بعض الكذابين، فرواه عن حماد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة. أخرجه بن عدي (6/2292) ؛ وأنكره. ورواه ضعيف آخر، عن حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وهذا؛ منكر بهذا الإسناد. أخرجه العقيلي (1/9) (4/430) وابن عبد البر في " التمهيد " (1/69) وأنكره العقيلي.

أخرجه: ابن سعد في " الطبقات " (¬1) . وكذلك رواه روح بن قاسم، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عائشة. أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " (139) . وكل ذلك؛ يدل على أن الحديث حديث إبراهيم ابن ميسرة، وليس هو من حديث ابن أبي مليكة، وقد جزم البخاري بأنه لا يصح من حديث ابن أبي مليكة؛ كما سيأتي. ثم نظرنا؛ فوجدنا أن إبراهيم بن ميسرة، وإن كان ثقة، إلا أنه لم يسمع من عائشة، فروايته عنها منقطعة؛ وبهذا؛ علمنا أن بمعرفتنا بهذا الغير وأنه إبراهيم بن ميسرة، استطعنا أن نقف على علة الحديث، وأنه منقطع غير موصول. فقد قال البيهقي، عقب قوله السابق: " قال البخاري: هو مرسل ـ يعني: بين إبراهيم بن ميسرة وعائشة ـ؛ ولا يصح حديث ابن أبي مليكة. قال البخاري: ما أعجب حديث معمر، عن غير الزهري؛ فإنه لا يكاد يوجد فيه حديث صحيح " ¬

_ (¬1) وراجع: " الصحيحة " (2052) .

الشواهد.. وإسناد في إسناد

الشواهد.. وإسناد في إسناد كثيراً ما يساق في باب الاعتبار أسانيد متعددة لمتن واحد، ولا شك أن تعدد الأسانيد للمتن الواحد مما يقويه، ويؤكد كونه محفوظاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إلا أنه يكثر في هذا الباب التساهل في الأسانيد، وعدم مراعاة العلل الخفية التي تفضي إلى اطراح هذه الأسانيد ـ أو بعضها ـ، وعدم اعتبارها، أو الاعتداد بها، لتقوية الحديث. وذلك؛ كأن يكون المتن مشهوراً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسناد معين، فيخطئ بعض الرواة، فيرويه بإسناد آخر، يُروى به متن آخر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فيظن الناظر أنهما إسنادان لمتن واحد، ولا يفطن لكون هذا الإسناد الآخر خطأ، وأنه مركب على هذا المتن، وليس هو إسناده. فهذا الإسناد الآخر؛ قد يكون في نفسه صحيحاً؛ لاتصاله وثقة رواته، والمتن كذلك قد يكون صحيحاً مستقيماً بإسناده المعروف به، إلا أن العلة عند أهل العلم في رواية هذا المتن بهذا الإسناد خاصة. وقد لا يكون المتن صحيحاً بإسناده الذي يُعرف به؛ لعلة فيه من ضعف في بعض رواته، أو انقطاع في إسناده؛ فلما رواه ذاك المخطئ ذلك الإسناد الصحيح، ظهر وكأنه إسناد آخر للحديث، فيصحح به، وليس الأمر كذلك؛ لما سبق.

وقد يكون هذا الإسناد الآخر، الذي أُلصق بهذا المتن، فيه نوع ضعف مما لا يُسقطه عن حد الاعتبار، فيظهر وللحديث إسنادان، قد يغتر بهما بعض من لم يفطن للعلة المشار إليها، فيقوي الحديث باجتماعهما. والواقع؛ أن الحديث إنما يحكم عليه بإسناده المعروف به، أما هذا الإسناد الذي ألصقه ذلك المخطئ بهذا المتن، بل لمتن آخر، فلا اعتبار به في هذا المتن خاصة. وفي مثل ذلك؛ يقول أهل العلم: " لا أصل له بهذا الإسناد " أو " هذا منكر بهذا الإسناد "، ونحو هذا. وربما أطلقوا، فيقولون ـ مثلاً ـ: " لا أصل له "، أو " هذا منكر " يقصدون بهذا الإسناد خاصة، اللهم إلا أن لا يكون للمتن إسناد آخر، فحينئذ يحمل على إطلاقه. وهذا النوع من الخطأ له صورتان: ** الصورة الأولى: تغيير الإسناد، دون مخرج الحديث. وذلك؛ كأن يأتي إلى حديث يرويه الزهري ـ مثلاً ـ بإسناد معين فيرويه هو عن الزهري بإسناد آخر. فهو لم يخالف في أن الحديث حديث الزهري، وإنما خالف فيمن فوق الزهري من الإسناد. فإن كان الزهري يروي الحديث ـ مثلاً ـ، " عن سعيد بن المسيب،

عن أبي هريرة "، فروى ذلك المخطئ الحديث بعينه، فقال " عن الزهري عن سالم، عن ابن عمر ". فهو لم يخطئ في جعله الحديث من حديث الزهري، ,إنما أخطأ فقط في قوله " عن سالم عن ابن عمر ". وهذه الصورة؛ أمثلتها كثيرة ومتداولة، وقلما تخفى على طالب العلم اليقظ، فأكتفي بذكر مثال واحد، هو من أشهر أمثلتها. مثال ذلك: حديث: " إنما الأعمال بالنيات ". فهذا الحديث؛ صحيح ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من حديث: يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هكذا؛ أخرجه: البخاري ومسلم وغيرهما، من هذا الوجه. ورواه عن يحيى الأنصاري: جماعة كثيرون؛ فهو مشهور عنه. وممن رواه عنه: مالك ابن أنس؛ ورواه عن مالك: جماعة من أصحابه الثقات. وخالفهم: عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، فرواه عن مالك، فجاء له بإسناد آخر؛ فقال: " عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ".

أخرجه: الخليلي في " الإرشاد " (1/167-133) والخطابي في " أعلام الحديث " (1/111) وأبو نعيم في " الحلية " (6/342) . وعبد المجيد بن أبي رواد هذا؛ صدوق، إلا أنه أخطأ في إسناد هذا الحديث عن مالك، والصواب: أن مالكاً يرويه كما يرويه الناس، عن يحيى الأنصاري، بالإسناد الأول. هكذا؛ قال أهل العلم. قال أبو حاتم الرازي (¬1) : " هذا حديث باطل، لا أصل له؛ إنما هو: مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". وقال أبو يعلى الخليلي (¬2) : " أخطأ فيه عبد المجيد، وهو غير محفوظ من حديث زيد بن أسلم بوجه، وهذا أصل من أصول الدين، ومداره على يحيى بن سعيد؛ فهذا مما أخطأ فيه الثقة عن الثقة ". وقال الخطابي: " هذا عند أهل المعرفة بالحديث مقلوب؛ وإنما هو إسناد حديث آخر أُلصق به هذا المتن ". ¬

_ (¬1) " علل الحديث " (362) . (¬2) بتصرف.

وقال أبو نعيم: " غريب من حديث مالك عن زيد، تفرد به عبد المجيد؛ ومشهوره وصحيحه: ما في " الموطأ " عن يحيى بن سعيد. وقال الدارقطني (¬1) : " لم يتابع عليه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد؛ وأما أصحاب مالك الحفاظ عنه، فرووه: عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد ابن إبراهيم، عن علقمة بن وقاص، عن عمر؛ وهو الصواب ". ** الصورة الثانية: تغيير الإسناد، والمخرج أيضاً: وذلك؛ بأن يأتي إلى حديث معروف بإسناد معين، ورجال معينين، فإذا به يروي نفس الحديث، ولكن بإسناد آخر، لا يتفق مع الإسناد الأول في رجل من رجاله. وهذا الخطأ؛ هو الذي يعبر عنه الأئمة غالباً بقولهم: " دخل عليه حديث في حديث "، أو " إسناد في إسناد ". فالذي لا يفطن لذلك، يظن أن الإسناد الآخر إسناد مستقل للحديث، فيجعله شاهداً للأول؛ وليس الأمر كذلك. وهذا؛ يقع من الثقات وغيرهم، ووقوعه من غير الثقات أكثر؛ وغالب هذه الأسانيد يستغربها العلماء ويستنكرونها على أصحابها، وربما ¬

_ (¬1) في "العلل " (2/193-194) . وراجع: ما تقدم حول هذا الحديث في " فصل: المتابعة.. والقلب ".

ضعفوا راويها بها، لاسيما إذا كان ممن يُكْثِر من الوقوع في هذا النوع من الخطأ؛ لفحشه، ويسوقون مثل هذه الأسانيد في تراجم الرواة من كتب الضعفاء؛ مثل: " الضعفاء " للعقيلي، و " الكامل " لابن عدي، و " المجروحين " لابن حبان وغيرها، لا يقصدون إنكار المتن، بل قد يكون صحيحاً بالإسناد المعروف المشهور، وإنما يقصدون إنكار تلك الأسانيد لهذه المتون خاصة. ومن هنا؛ ندرك خطأ من يتتبع هذه الأسانيد من هذه الكتب وأمثالها، ثم يجعلها في صعيد واحد، ويُقوي بعضها ببعض، فإنه بذلك إنما يقوي المنكر بالمنكر، من حيث لا يدري. هذا؛ وهذا النوع من الخطأ يقع أحياناً بسبب التحديث من الحفظ، فيشتبه على الراوي إسناد حديث بإسناد حديث آخر، وأحيانا بسبب انتقال نظر الراوي، حيث يروي من كتابه، فينتقل نظره من إسناد إلى إسناد بعده لحديث آخر في الكتاب؛ وأمثلة هذا وذاك كثيرة. مثال ذلك: حديث: جرير بن حازم، عن ثابت، عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني ". فهذا المتن؛ معروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حديث يحيى ابن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرج البخاري (1/164) (2/9) ومسلم (2/101) من هذا الوجه.

أما حديث أنس هذا؛ فلا يُعرف إلا من هذا الوجه، تفرد به جرير ابن حازم ـ وهو صدوق ـ وقد خطأه جماعة من أهل العلم في ذلك، وأنكروا عليه روايته لهذا المتن بهذا الإسناد، منهم: البخاري، والترمذي، وأبو داود، وابن عدي، والدارقطني، وغيرهم (¬1) . وقد بين حماد بن زيد سبب وقوع هذا الخطأ لجرير بن حازم فقال ـ فيما رواه عنه أبو داود في " المراسيل " (¬2) بإسناد صحيح عنه ـ، قال: " كنت أنا وجرير بن حازم عند ثابت البناني، فحدث حجاج بن أبي عثمان، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أُقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني "؛ فظن جرير أنه إنما حدث به ثابت عن أنس ". قلت: فهذا مما يؤكد أن جريراً قد أخطأ في إسناد هذا الحديث وأنه دخل عليه حديث في حديث، وأن هذا المتن لا أصل له من حديث ثابت، ولا من حديث أنس، إنما هو حديث أبي قتادة الأنصاري، لا يصح إلا من حديثه. وقد أشار إلى ذلك البخاري بقوله (¬3) : " وَهِمَ جرير بن حازم في هذا الحديث؛ والصحيح: ما رُوي عن ثابت، عن أنس، قال: " أقيمت الصلاة، فأخذ رجل بيد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما زال يكلمه حتى نعس بعض القوم ". ¬

_ (¬1) راجع: " شرح علل الترمذي " (2/645) . (¬2) 64) . (¬3) حكاه عنه الترمذي في " الجامع " (517) .

قال البخاري: " والحديث هو هذا، وجرير بن حازم ربما يهم في الشيء، وهو صدوق " ز وهذا؛ ذهاب من البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ إلى أن جريراً قد دخل عليه حديث في حديث، وأن هذا الإسناد الذي ذكره لمتن " إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني "؛ ليس هو إسناد هذا المتن، إنما هو إسناد لمتن آخر، وهو المتن الذي ذكره البخاري ـ رحمه الله. مثال آخر: حديث: أبي كريب، عن أسامة، عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن جده، عن أبيه أبي موسى الأشعري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ". فهذا؛ إسناد ـ في الظاهر ـ صحيح. لكن؛ قال الحافظ ابن رجب الحنبلي (¬1) : " هذا المتن معروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة، وقد خرجاه في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما حديث أبي موسى هذا؛ فخرجه مسلم، عن أبي كريب، وقد استغربه غير واحد من هذا الوجه، وذكروا أن أبا كريب تفرد به، منهم: ¬

_ (¬1) " شرح العلل " (2/645) .

البخاري، وأبو زرعة ". قال الترمذي في " العلل " (¬1) : " هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من قبل إسناده، وقد رُوي من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا، وإنما يُستغرب من حديث أبي موسى. سألت محمود بن غيلان عن هذا الحديث، فقال: " هذا حديث أبي كريب عن أبي أسامة. وسألت محمد بن إسماعيل ـ هو: البخاري ـ عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث أبي كريب، عن أبي أسامة، لم نعرفه إلا من حديث أبي كريب، عن أبي أسامة. فقلت له: حدثنا غير واحد عن أبي أسامة بهذا (¬2) . فجعل يتعجب، وقال: ما علمت أحداً حدث هذا غير أبي كريب. وقال محمد: كنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا الحديث عن أبي أسامة في المذاكرة " اهـ. وقال البرذعي (¬3) : " سألت أبا زرعة عن حديث بريدة بن أبي بردة، عن أبي موسى: ¬

_ (¬1) في آخر " الجامع " (5/760) . (¬2) ذكرهم الترمذي قبل ذلك، هم: أبو كريب، وأبو هشام الرفاعي، وأبو السائب، والحسين بن الأسود. (¬3) 2/581-582) ، وهو في " تاريخ بغداد " (9/148) .

" المؤمن يأكل في معي واحد "؟ فقال: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة. فقلت له: حدثنا به أبو السائب سلم بن جنادة السوائي، عن أبي أسامة؟ فقال: أبو السائب؛ روى هذا؟! فقلت: نعم! هو حدثنا به! وقال لي أبو زرعة: كان أبو هشام الرفاعي يرويه أيضاً، فسألت أبا هشام أن يخرج إلى الكتاب؛ ففعل، فرأيته في كتابه بين سطرين بخط غير الخط الذي في الكتاب. ثم قال لي: ما ظننت أن أبا السائب يروي مثل هذا ـ أو نحو ما قال أبو زرعة. وأعاد عليَّ غير مرة: هذا حديث أبي كريب " اهـ. فأنت ترى الأئمة قد تتابعوا على إنكار هذا الحديث على أبي كريب، وعلى التصريح بأنه حديثه، ليس حديث غيره، وأنه هو المخطئ فيه، رغم أنه المتن محفوظ ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومع ذلك؛ فقد جاءت متابعات لأبي كريب، وقد وقف عليها الإمام البخاري وكذا أبو زرعة، كما تقدم، ومع ذلك فلم يعتدا بها، ولا دفعا بمقتضاها التفرد عن أبي كريب، ولا قويا روايته بها، بل صرحا ـ مع ذلك ـ بأن الحديث حديثه، وأشارا إلى أن من رواه عن أبي أسامة غير

أبي كريب، فهو واهم أو سارق. وكذلك؛ قال الإمام ابن رجب في " شرح علل الترمذي " (¬1) . قلت: وأبو السائب سلم بن جنادة، أحد الثقات، ومع ذلك فلم يعتد الإمام أبو زرعة، وكذا البخاري بمتابعته، فالظاهر أنهما ذهبا إلى أنه أخطأ في ادعائه سماعه لهذا الحديث من أبي أسامة. وهذا من أدل دليل على أنه ليس كل متابعة تجيء يحتج بها، أو يعتمد عليها، لاسيما فيما صرح أهل العلم بتفرد الراوي به. وأما أبو هشام الرفاعي؛ فهو معروف بسرقة الأحاديث، فروايته لحديث غيره، وادعاؤه سماع ما لم يسمع، ليس جديداً عليه، بل هو معروف عنه، مشهور به. والحسين بن الأسود؛ ضعيف أيضاً، واتهمه ابن عدي بسرقة الحديث؛ فالظاهر أنه سرق هذا هو أيضاً. قال ابن رجب: " وظاهر كلام أحمد يدل على استنكار هذا الحديث أيضاً: قال أبو داود (¬2) : سمعت أحمد، وذكر له حديث بريد هذا، فقال أحمد: يطلبون حديثاً من ثلاثين وجهاً، أحاديث ضعيفة! وجعل ينكر طلب الطرق نحو هذا. قال: هذا شيء لا تنتفعون به؛ أو نحو هذا الكلام " اهـ. ¬

_ (¬1) 2/646) . (¬2) هو في " مسائله " (ص 282) .

قال ابن رجب: " وإنما كره أحم تطلب الطرق الغريبة الشاذة المنكرة، وأما الطرق الصحيحة المحفوظة، فإنه كان يحث على طلبها ". قلت: هذا؛ مع أن هذه الطرق من حيث الظاهر صحيحة، ولم يخالف أبو كريب فيها، بل تفرد بها فحسب، وهو ثقة، ومع ذلك قد أنكرها أحمد ـ كما ترى ـ غاية الإنكار، وذكر ابن رجب في شرحه لكلامه أن هذه الطريق شاذة منكرة، ومعنى ذلك: أنها خطأ لا شك في ذلك، عليه؛ فلا اعتبار بها ولا اعتداد. وقد قال البخاري: " كنا نرى؛ أن أبا كريب أخذ هذا عن أبي أسامة في المذاكرة ". قال ابن رجب: " قول البخاري هاهنا تعليل للحديث؛ فإن أبا أسامة لم يرو هذا الحديث عنه أحد من الثقات غير أبي كريب، والمذاكرة يحصل فيها تسامح؛ بخلاف حال السماع والإملاء ". مثال آخر: حديث: شبابة، عن شعبة، عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه نهى عن الدباء والمزفت. فإن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الانتباذ في الدباء والمزفت؛ صحيح ثابت عنه؛ رواه جماعة من أصحابه ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ، وأما رواية عبد الرحمن بن يعمر عنه، فغريبة جداً، ولا تعرف إلا بهذا الإسناد

، تفرد به شبابة، عن شعبة، عن بكير بن عطاء، عنه. وهذا إسناد؛ من حيث الظاهر صحيح؛ لاتصاله وثقة رواته، ومع ذلك فقد أنكر هذا الإسناد طوائف من أئمة الحديث على شبابة، منهم: الإمام أحمد، والبخاري، وأبو حاتم، وابن عدي، وغيرهم (¬1) . قال الإمام أحمد: " إنما روى شعبة بهذا الإسناد حديث: الحج عرفة ". قال الحافظ ابن رجب الحنبلي (¬2) : " يشير إلى أنه لا يُعرف بهذا الإسناد غير حديث " الحج "، فهذا المتن هو الذي يُعرف بهذا الإسناد ". قلت: وكذا قال ابن عدي (4/1366) والترمذي في " العلل " في آخر " الجامع " (5/761) . وراجع أيضاً: " الضعفاء " للعقيلي (2/196) . وقال أبوحاتم الرازي (¬3) : " هذا حديث منكر؛ لم يروه غير شبابة، ولا نعرف له أصل ". وأما قول الإمام علي بن المديني (¬4) : " أي شيء نقدر نقول في ذاك ـ يعني: شبابة ـ، كان شيخاً صدوقا ¬

_ (¬1) راجع " شرح علل الترمذي " لابن رجب (2/648) . (¬2) " شرح علل الحديث " (2/648) . (¬3) " العلل " لابنه (1557) . (¬4) " الكامل " (4/1365) .

ً؛ إلا أنه كان يقول بالإرجاء، ولا ينكر لرجل سمع من رجل ألفاً أو ألفين، أن يجيء بحديث غريب ". فليس هذا القول من الإمام تصحيحاً منه للحديث، بل غاية ما يدل عليه، هو أنه لا ينبغي أن يضعف شبابة لمجرد خطئه في حديث واحد عمن هو مكثر من الرواية عنه. وهذا؛ ما فهمه الإمام ابن عدي، فقد قال في آخر ترجمته: " وشبابة ـ عندي ـ إنما ذمه الناس للإرجاء الذي كان فيه، وأما في الحديث؛ فإنه لا بأس به، كما قال علي ابن المديني، والذي أُنكر عليه الخطأ، ولعله حدث به حفظاً ". فكون الحديث خطأ شيء، وكون رواية المخطئ فيه يضعف به شيء آخر، ولا تلازم بينهما، كما هو معلوم. وبالله التوفيق. مثال آخر: حديث: سعيد بن أوس النحوي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: يا بلال! أسفر بالصبح؛ فإنه أعظم للأجر ". أخرجه: ابن حبان في ترجمة سعيد هذا من " المجروحين " (¬1) ، ثم قال: " ليس هذا من حديث ابن عون، ولا ابن سيرين، ولا أبي هريرة ¬

_ (¬1) 1/320-321) .

؛ إنما هذا المتن من حديث رافع بن خديج فقط ". قلت: وسعيد هذا، صدوق؛ إلا أن هذا الحديث من أوهامه دخل عليه إسناد حديث في إسناد آخر. ولهذا؛ قال الذهبي في " الميزان " (¬1) : " ذكره ابن حبان ملينا له؛ لأنه وهم في سند حديث: أسفروا بالفجر ". مثال آخر: روى: زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، أنه اطلع على أبي بكر وهو آخذ بلسانه، فقال: لساني هذا أوردني الموارد. رواه: الناس، عن زيد بن أسلم، وإن كانوا قد اختلفوا عليه في إسناده، إلا أنهم اتفقوا على أنه من حديثه، وليس من حديث غيره. فجاء النضر بن إسماعيل أبو المغيرة القاص، وفيه ضعف، فرواه بإسناد آخر، يختلف عن هذا تماماً. فقال: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر، به. وهذا الإسناد؛ من حيث الظاهر يصلح للاعتبار، فربما جاء من يقوي حديث زيد بن أسلم. لكن؛ انظر كيف كان نقد الإمام أحمد ـ عليه رحمة الله ـ لهذا الإسناد؟ قال (¬2) : " لم يكن ـ يعني النضر بن إسماعيل هذا ـ يحفظ الإسناد؛ روى عن إسماعيل حديثاً منكراً، عن قيس: رأيت أبا بكر أخذ بلسانه! ونحن نروي هذا، وإنما هذا حديث زيد بن أسلم " اهـ. ¬

_ (¬1) 2/126) . هذا؛ وقد استوعب الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ طرق حديث رافع لهذا المتن في " الإرواء " (258) . (¬2) " العلل " لابنه عبد الله (5319) .

فقول الإمام أحمد: " روى حديثاً منكراً "، بعد قوله " لم يكن يحفظ الإسناد "؛ يدل على أن النكارة هاهنا متعلقة بالإسناد، لا بالمتن. ثم قوله: " إنما هذا حديث زيد بن أسلم "، يشير إلى أن أبا المغيرة القاص دخل عليه حديث في حديث، وأن الحديث هو كما يرويه زيد بن أسلم، لا كما قال أبو المغيرة هذا، وعليه؛ فلا اعتبار بإسناد أبي المغيرة هذا؛ لأنه إسناد خطأ منكر، لا علاقة له بهذا المتن. وفي ظني ـ والله أعلم ـ؛ أنه دخل عليه إسناد حديث أبي بكر: " إياكم والكذب، فإنه مجانب الإيمان "، في إسناد هذا الحديث؛ فإن هذا قد رواه جماعة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر ـ رضي الله عنه (¬1) ـ، وهما حديثان من الممكن أن يشتبها على من ليس راسخاً في الضبط والإتقان؛ فهما عن صحابي واحد، وفي باب واحد. ¬

_ (¬1) راجع: " العلل " للدارقطني (1/258) .

ويشبه أن يكون سبب ذلك؛ هو أن يكون حدث بالحديث حفظاً، وهو ليس بحافظ، فدخل عليه إسناد هذا في إسناد ذاك، أو أن الحديثين كانا في كتابه، يتلو أحدهما الآخر، فكتب أبو المغيرة إسناد حديث " إياكم والكذب ... " ثم زاغ نظره، فنزل إلى متن حديث " لساني هذا ... ". فتركب متن هذا على إسناد ذاك. والله أعلم. وقد وقع مثل ذلك في غير ما حديث، سيأتي ذكر بعضها ـ إن شاء الله تعالى. مثال آخر: حديث: همام بن يحيى، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء وضع خاتمه. أخرجه: أبو داود (19) والترمذي (1746) والنسائي (8/155) وابن ماجه (303) والبيهقي (1/95) . قال النسائي (¬1) : "هذا حديث غير محفوظ". وقال أبو داود: "هذا حديث منكر؛ وإنما يُعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه"؛ والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام". ¬

_ (¬1) كما في "تحفة الأشراف" (1/185) .

وذكر البيهقي قول أبو داود هذا، ثم قال: "هذا هو المشهور عن ابن جريج، دون حديث همام". قلت: وهذا؛ معناه: أن هماماً دخل له حديث في حديث. ولعل سبب وقوع همام في هذا الخطأ؛ هو تشابه المتنين، فكلاهما فيه ذكر الخاتم، وفي مثل ذلك يقع الاشتباه. والله أعلم. مثال آخر: حديث: محمد بن عبد الله الأنصاري، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم. وفي رواية: "وهو محرم صائم". أخرجه: الترمذي (776) والنسائي في "الكبرى" (¬1) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (2/101) والخطيب في " التاريخ " (5/409) و " الموضح " (2/40) . وهذا الحديث؛ إسناده صحيح في الظاهر، ومع ذلك؛ فقد أنكره جماعة من أهل العلم على محمد بن عبد الله الأنصاري، ورأوا أنه دخل عليه حديث في حديث، فأراد أن يحدث بحديث زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بميمونة، فأخطأ وقال: احتجم وهو محرم صائم. قال عبد الله بن أحمد (¬2) . ¬

_ (¬1) كما في "تحفة الأشراف" (5/253-254) . (¬2) في " العلل " (556 وهو في " تاريخ بغداد " (5/409-410) .

" قال أبي: وقال أبو خيثمة: أنكر معاذ ـ يعني: ابن معاذ العنبري ـ ويحيى بن سعيد ـ يعني: القطان ـ حديث الأنصاري ـ يعني: محمد بن عبد الله ـ، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس: احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم صائم (¬1) . وقال أبو بكر الأثرم (¬2) : " سمعت أبا عبد الله ذكر الحديث الذي رواه الأنصاري، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم فضعفه، وقال: كانت ذَهَبَتْ كتب الأنصاري، فكان بعد يحدث من كتب غلامه: أبي حكيم أُراه. قال: فكان هذا من تلك ". وقال في رواية مهنا (¬3) . " ليس بصحيح؛ وقد أنكره يحيى بن سعيد [على] (¬4) الأنصاري ". وسُئل علي بن المديني، عن هذا الحديث، فقال (¬5) : " ليس من ذلك شيء؛ إنما أراد حديث حبيب، عن ميمون، عن يزيد بن الأصم: تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة محرماً". ¬

_ (¬1) في " تاريخ بغداد ": " محرم صائم " وكذا في " تهذيب الكمال " (25/543) و " السير " (9/534) . (¬2) " تاريخ بغداد ". (¬3) " الفتاوى " لابن تيمية (25/253) و " زاد المعاد " لابن القيم (2/62) . (¬4) زيادة متعينة، فيحيى هذا هو القطان وليس الأنصاري. ثم وجدته في " شرح العمدة " لشيخ الإسلام (1/440 ـ صيام) على الصواب. (¬5) " تاريخ بغداد " (5/410) .

يعني: أنه دخل عليه حديث في حديث. وبمثل هذا؛ أعلَّه النسائي، فقال: "هذا حديث منكر؛ لا أعلم أحداً رواه عن حبيب غير الأنصاري، ولعله أراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة". وبمثل ذلك أيضاً؛ أعله الخطيب في "التاريخ" (¬1) . وكذلك؛ الذهبي في "الميزان" (¬2) . مثال آخر: قال عبد الله بن أحمد (¬3) : "عرضت على أبي حيث: عبيد الله بن موسى، عن سفيان، عن حكيم بن الديلم، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع، فقال: "إن الله لا ينام". فقال أبي: هذا حديث الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى؛ هذا لفظ حديث عمرو بن مرة، أراه دخل لعبيد الله بن موسى إسناد حديث في إسناد حديث" اهـ. مثال آخر: حديث: أبي عمير بن النحاس، عن ضمرة بن ربيعة، عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ملك ذا ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" (5/410) . (¬2) "الميزان" (3/601) . (¬3) "العلل" (1327) .

رحم محرم، فهو عتيق". ذكره: الترمذي في "الجامع" (¬1) ؛ ثم قال: "ولم يتابع ضمرة على هذا الحديث، وهو حديث خطأ عند أهل الحديث". وقد بيَّن البيهقي في "السنن الكبرى" (¬2) وجه ذلك الخطأ، وأنه دخل على الراوي حديث في حديث، فقال: "وهم فيه راويه، والمحفوظ بهذا الإسناد حديث: " نهى عن بيع الولاء وعن هبته. وقال في " معرفة السنن والآثار " (¬3) : " هذا وهم فاحش، والمحفوظ بهذا الإسناد حديث: النهي عن بيع الولاء وعن هبته ". وحكى أبو داود في " المسائل " (¬4) عن الإمام أحمد، أنه قال في هذا الحديث " ليس من ذا شيء؛ وهم ضمرة ". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/638) . (¬2) "السنن الكبرى" (10/289-290) . (¬3) " المعرفة " (7/505) . (¬4) " المسائل " (ص 314) .

وقال أبو زرعة الدمشقي في " تاريخ " (¬1) : " قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: فإن ضمرة يحدث عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من ملك ذا رحم فهو حر "؟ فرده رداً شديداً ". وذكره الحافظ ابن رجب في " التهذيب " (¬2) عن أحمد، وزاد: " وقال: لو قال رجل: إن هذا كب لما كان مخطئاً ". هذا؛ مع أن ضمرة هذا عند الإمام أحمد " صالح الحديث من الثقات المأمونين " (¬3) ، وهذا مما يُستدل به على أن الخطأ ـ إسناداً أو متناً ـ منكر لا أصل له، لا يعتبر به ولا يستشهد، ولو كان راويه ثقة، كما سبق في فصل " المنكر.. أبداً منكر ". وقد رُوي هذا المتن بإسناد آخر، وهو خطأ أيضاً: رواه: حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة ـ مرفوعاً. واختلف فيه على حماد: فقيل: عنه، كذلك، وقيل: عنه، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة ـ فيما يحسب حماد. ¬

_ (¬1) " تاريخه " (1168) (2294) . (¬2) " تهذيب التهذيب " (4/461) ، وانظر " الإرشاد " للخليلي " (2/476) . (¬3) " العلل " لعبد الله بن أحمد (2624) (3604) و " تهذيب الكمال " (13/319) .

أي: بشكه في ذكر " سمرة " في إسناده. وقد خالفه: سعيد بن أبي عروبة، فقال: عن قتادة، عن الحسن، عن عمر ـ قوله. وهذا أشبه؛ لأن ابن أبي عروبة من أثبت الناس في قتادة؛ وفي المقابل، فإن حماد بن سلمة له أوهام معروفة عن قتادة، فكيف وهو قد شك في روايته، ولم يثبت عليها. ولذا؛ قال البيهقي (¬1) : " والحديث إذا انفرد به حماد بن سلمة، ثم يشك فيه، ثم يخالفه فيه من هو أحفظ منه، وجب التوقف فيه ". وقد أشار البخاري، والترمذي، وأبو داود (¬2) إلى تضعيف حديث حماد بن سلمة هذا. وقال علي بن المديني (¬3) : " هذا عندي منكر ". مثال آخر: حديث: محمود بن محمد أبي يزيد الظفري، عن أيوب بن النجار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما توضأ من لم يذكر اسم الله ". الحديث. ¬

_ (¬1) " المعرفة " (7/504-505) وانظر " السنن الكبرى " (10/289) . (¬2) " الجامع " للترمذي (1365) و " العلل الكبير " (ص 211) و " السنن " لأبي داود (3949) . (¬3) " المعرفة " للبيهقي.

أخرجه: الدارقطني (1/71) والبيهقي (1/44) . قال البيهقي: " هذا الحديث؛ لا يعرف من حديث يحيى بن أبن كثير، عن أبي سلمة، إلا من هذا الوجه، وكان أيوب بن النجار يقول: لم أسمع من يحيى بن أبي كثير إلا حديثاً واحداً، وهو حديث: " الْتَقَى آدم وموسى " ـ: ذكره يحيى بن معين، فيما رواه عنه ابن أبي مريم (¬1) ؛ فكان حديثه هذا منقطعاً. والله أعلم ". وقال الحافظ بن حجر (¬2) : " ... فعلى هذا يكون في السند انقطاع؛ إن لم يكن الظفري دخل عليه إسناد في إسناد ". والظفري هذا؛ قال فيه الدارقطني: " ليس بالقوي، فيه نظر ". مثال آخر: حديث: عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، عن السائب بن يزيد، عن رافع بن خديج، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال " أفطر الحاجم والمحجوم ". أخرجه: في " مصنفه " (4/210) ، وعنه الترمذي في " الجامع " (774) و " العلل " (ص 121 - 122) وأحمد (3/465) وابن خزيمة (1964) وابن حبان (3535) والطبراني (4/242) والحاكم (1/428) ¬

_ (¬1) وهو في " تهذيب الكمال " (3/500) . (¬2) في " نتائج الأفكار " (1/226-227) .

والبيهقي (4/265) . فهذا الحديث؛ قد ذُكِرَ عن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني، أنه أصح شيء في بابه. حكاه الترمذي (¬1) ، عن أحمد، وحكاه عباس العنبري، عن ابن المديني. ذكره عن عباس: ابن خزيمة في " صحيحه "، وعنه الحاكم في " المستدرك " والبيهقي في " السنن " (¬2) . ورُوي عنهما أيضاً خلاف ذلك. فروى البيهقي (4/267) ، عن علي بن سعيد النسوي، أنه قال: " سمعت أحمد بن حنبل، وقد سُئل: أيما حديث أصح عندك في " أفطر الحاجم والمحجوم "؟ فقال: حديث ثوبان؛ من حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان. فقيل لأحمد بن حنبل: فحديث رافع بن خديج؟ قال: ذاك تفرد به معمر ". ومثل ذلك؛ حكى عنه غير واحد، كم في " شرح العمدة " لشيخ الإسلام (1/411 ـ صيام) . ¬

_ (¬1) في " الجامع " (3/136) . (¬2) " صحيح ابن خزيمة " (3/227) و " المستدرك " (1/428) و " السنن الكبرى " للبيهقي (4/267) .

وحكى الترمذي أيضاً عن علي بن المديني، أنه قال: " أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان وشداد بن أوس ... ". هذا؛ وقد صرح غيرهما من النقاد بضعف حديث رافع في هذا الباب، وأنه دخل على راويه حديث في حديث. قال ابن معين: " هو أضعف أحاديث الباب " (¬1) . وحكى الترمذي في " العلل " عن البخاري، أنه قال: " هو غير محفوظ ". وقال الترمذي: " وسألت إسحاق بن منصور عنه، فأبى أن يحدث به عن الرزاق، وقال: هو غلط. قلت له: ما علته؟ قال: روى عنه هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، عن السائب ابن يزيد، عن رافع بن خديج، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " كسب الحجام خبيث، ومهر البغي خبيث، وثمن الكلب خبيث ". وحكى ابن أبي حاتم (¬2) ، عن أبيه، أنه قال: " إنما يروي هذا الحديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، واغتر أحمد بن حنبل بأن قال: الحديثين (¬3) ¬

_ (¬1) ذكره ابن حجر في " الفتح " (4/177) و " التلخيص " (2/205) . (¬2) في " العلل " (732) . (¬3) كذا.

عنده (¬1) . وإنما يُروى بذلك الإسناد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه نهى عن كسب الحجام، ومهر البغي؛ وهذا الحديث في " يفطر الحاجم والمحجوم " عندي باطل ". فقد تبين بهذا؛ أن معمراً دخل عليه حديث في حديث، فأخطأ، والصواب بهذا الإسناد حديث: النهي عن كسب الحجام. ولذا؛ قال الحافظ بن حجر (¬2) : " فهذا هو المحفوظ عن يحيى؛ فكأنه دخل لمعمر حديث في حديث. والله أعلم ". مثال آخر: حديث: محمد بن غالب المعروف بـ " تمتام "، عن محمد بن جعفر الوركاني، عن حماد بن يحيى الأبح، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عمران بن حصين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " شيبتني هود وأخواتها ". وهذا الإسناد؛ يمكن أن يحسن بمفرده، بل قد حسنه فعلاً بعض العلماء الأفاضل، اغتراراً بظاهر الإسناد، فأخطأ؛ حيث إنه إسناد لا أصل لهذا المتن به. وهذا المتن؛ مروي بأسانيد كثيرة، عن أبي إسحاق السبيعي ولا يصح منها إلا مرسلاً، أي: عن أبي إسحاق، عن عكرمة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) يعني: عند ابن أبي كثير.وقد سبق أن أحمد لم يثبت على تصحيحه. (¬2) في " فتح الباري " (4/177) .

وروي أيضاً عن حماد بن يحيى الأبح، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، ويزيد الرقاشي ضعيف جداً. وأما بهذا الإسناد؛ فهو مما أخطأ فيه تمتام هذا، وهو ثقة، إلا أن هذا مما أخطأ فيه. وقد أنكره عليه موسى بن هارون وغيره؛ ذكر ذلك حمزة بن يوسف السهمي في "سؤالاته" (¬1) ، ثم ذكر عن الدارقطني، أ، هـ قال: "والصواب: أن الوركاني حدَّث بهذا الإسناد، عن عمران بن حصين، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وحدَّث على أثره: ع حماد بن يحيى الأبح، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شيبتني هود"؛ فيشبه أن يكون التمتام كتب إسناد الأول ومتن الأخير، وقرأه على الوركاني فلم يتنبه عليه" (¬2) . * تنبيه: حكى السهمي في الموضع المشار إليه: أن تمتاماً لما أنكر عليه موسى بن هارون وغيره هذا الحديث، "جاء بأصله إلى إسماعيل بن إسحاق القاضي، فأوقفه عليه، فقال إسماعيل ¬

_ (¬1) "سؤالات السهمي" (9) . (¬2) وراجع: "العلل" للدارقطني (1/193-211) و"السلسلة الصحيحة" (955) . هذا؛ وقد وقع تمتام في نحو هذا الخطأ أيضاً في حديث آخر، فانظره في "السلسلة الضعيفة" للشيخ الألباني (943) .

القاضي: ربما وقع الخطأ للناس في الحداثة، فلو تركته لم يضرك. فقال تمتام: لا أرجع عما في أصل كتابي". وحكى السهمي أيضاً عن الدارقطني، بعد كلامه السابق والمتضمن إعلال الحديث بدخول إسناد في إسناد على تمتام، قال الدارقطني: " وأما لزوم تمتام كتابه وتثبته فلا ينكر، ولا ينكر طلبه، وحرصه على الكتابة ". ثم قال الدارقطني: شيبتني هود والواقعة؛ معتلة كلها ". والذي أريد أن أنبه عليه: أن عدم إنكار الدارقطني لزوم تمتام لكتابه، لا يعني تصحيحه لحديثه هذا، وعدم تخطئة تمتام فيه، كيف وقد صرح هو بخطئه فيما سبق. وإنما معنى هذا؛ أن تمتاماً يُعذر في هذا الخطأ، ولا يضعف من أجله؛ فقد عُلم من قواعد علوم الحديث من حال المصر على الخطأ، أن من بين له نقاد الحديث خطأه في حديث ما، ثم أصر على روايته، غير ملتفت لإنكار أهل الاختصاص، أنه يُضعف بذلك، بل ويترك؛ لتعمده رواية ما تبين له فيه الخطأ، اللهم إلا أن يكون له عذر في ذلك، كما هو حال تمتام؛ فإن الحديث في كتابه، وكتابه لم يعهد فيه الخطأ، فكان جانب توقف تمتام في تخطئة النقاد عنده قوياً، فعذره الدارقطني بذلك

، ولم يضعفه، وإن كان الحديث خطأ (¬1) . والله أعلم. مثال آخر: سأل ابن أبي حاتم أباه (¬2) : عن حديث: رواه: هشام بن إسماعيل، عن محمد بن شعيب بن شابور، عن عبد الله بن العلاء بن زبر، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه صلى، فترك آية، فلما انصرف قال: "أفيكم أُبَي؟ " ـ وذكر الحديث فقال أبو حاتم: "هذا وهم، دخل لهشام بن إسماعيل حديث في حديث؛ نظرت في بعض أصناف محمد بن شعيب، فوجدت هذا الحديث، رواه محمد بن شعيب، عن محمد بن يزيد البصري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى، فترك آية؛ هكذا مرسل. ورأيت بجنبه: حديث عبد الله بن العلاء، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه سُئل عن صلاة الليل، فقال " مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح "؛ فعلمت أنه سقط على هشام بن إسماعيل متن حديث عبد الله بن العلاء، وبقي إسناده؛ وسقط إسناد حديث محمد بن يزيد البصري؛ فصار متن حديث محمد بن يزيد البصري بإسناد حديث عبد الله بن العلاء بن زَبْر؛ وهذا حديث ¬

_ (¬1) كما فعل الإمام ابن خزيمة مع أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب، انظر: " تهذيب الكمال " (1/389) ، وتقد في مقدمة الكتاب. (¬2) في "العلل" (207) .

مشهور، يرويه الناس عن هشام بن عروة ". قال أبو حاتم: " فلما قدمت السفرة الثانية، رأيت هشام بن عمار يحدث به عن محمد بن شعيب، فظننت أن بعض البغداديين أدخلوه عليه، فقلت له: يا أبا الوليد! ليس هذا من حديثك! فقال: أنت كتبت حديثي كله؟! فقلت: أما حديث محمد بن شعيب؛ فإني قدمت عليك سنة بضعة عشر، فسألتني أن أُخرج لك مسند محمد بن شعيب، فأخرجت إليَّ حديث محمد بن شعيب، فكتبت لك مسنده. فقال: نعم؛ هي عندي بخطك، قد أَعْلَمْتُ الناس أن هذا بخط أبي حاتم. فسكت " اهـ. مثال آخر: حديث: ابن صاعد، عن محمد بن يحيى القطعي، عن عاصم بن هلال البارقي، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا طلاق ولا عتق، إلا بعد نكاح ". فهذا المتن؛ مشهور من حديث: عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ هكذا يرويه الناس. أخرجه: أحمد (2/189 -190 - 207) وأبو داود (2190)

(2191) (2192) والترمذي (1181) وابن ماجه (2047) وغيرهم. أما بهذا الإسناد، فهو مما لا يعرف إلا من هذا الوجه، وهو خطأ لا أصل له. وقد بين ابن عدي (¬1) سبب الخطأ، وأنه كان في كتاب القطعي حديث: عاصم بن هلال، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير قوله تعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} ، وبعقبه حديث: عمرو بن شعيب عن أبيه 'ن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا طلاق ... " فدخل على ابن صاعد إسناد الحديث الأول بمتن الحديث الثاني. وقد حكى أبو يعلى الخليلي (¬2) ، عن أبي عروبة الحراني، أنه قال: " لو كان هذا الحديث عند أيوب عن نافع؛ لا يحتج (¬3) به الناس منذ مائتي سنة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدة ". يعني: لو كان هذا الحديث ثابتاً بهذا الإسناد " عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر "، لما تركه الناس واحتجوا في هذا الباب بما هو دونه في الصحة، أي: بإسناد " عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ". وهذا؛ يدل على أنه ليس له أصل من حديث أيوب، ولا من حديث نافع، ولا ابن عمر، وإنما إسناده الذي يُروى به ويُعرف به، هو: " عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن حده ". ¬

_ (¬1) في " الكامل " (5/1783 - 1874) . (¬2) في " الإرشاد " (1/459) . (¬3) لعل الأشبه: " لما احتج "، والمعنى مفهوم.

فهذا؛ هو الإسناد الذي يحكم بمقتضاه على هذا المتن، ولا اعتبار بهذا الإسناد الآخر. فانظر؛ إلى دقة نقد أئمة الحديث، ومدى أهمية الكتاب لمعرفة ما إذا كان الحديث محفوظاً أم خطأ، وهذا مما يسلَّم لهم فيه؛ لأن الكتب والأصول ليست في حوزتنا كما كانت في حوزتهم، وقد كان أسهل عليهم أن يعتبروا بحديث عاصم بن هلال هذا، ويجعلوه شاهداً لحديث عمرو بن شعيب، فرحمهم الله تعالى، وجزاهم الله خيراً على سعيهم ونصحهم للأمة. مثال آخر: حديث: محمد بن عبد الرحيم المعروف بـ " صاعقة "، عن أبي المنذر إسماعيل بن عمر، عن ورقاء، عن سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط ولا بول؛ ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". أخرجه: الطبراني (4/137) وابن عدي في "الكامل" (3/1189) والدارقطني (1/60) والخطيب في "تاريخ بغداد" (2/363) (¬1) . قال الدارقطني في "العلل" (¬2) : "لم يحدِّث به ـ فيما أعلم ـ إلا صاعقة". وقد بين الإمام ابن عدي وجه الخطأ في رواية هذا المتن بهذا ¬

_ (¬1) استفدت مواضع تخريج هذا الحديث من: "الإرواء" (1/99) ، و "بذل الإحسان" لأخي الفاضل أبي إسحاق الحويني (1/217-218) . (¬2) 6/116) .

الإسناد، فقال بعد أن ذكر بعقبه بهذا الإسناد متن: "من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال، فهو صائم الدهر". قال ابن عدي: "حديث سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب: "من صام رمضان"، فهو مشهور، ومدار هذا الحديث عليه؛ قد حدَّث به عنه: يحيى بن سعيد أخوه، وشعبة، والثوري، وابن عيينة، وغيرهم من ثقات الناس". قال: "وحديث ورقاء، عن سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تستقبلوا القبلة"، فهو غريب؛ غريب هذا المتن بهذا الإسناد؛ لأن بهذا الإسناد لا يُعرف إلا "من صام رمضان"، وفي حديث ورقاء قد جمع بين المتنين "لا تستقبلوا القبلة"، وهو غريب، و "من صام رمضان"، وهو مشهور" اهـ. مثال آخر: حديث: يحيى بن يمان، عن الثوري، عن منصور، عن خالد بن سعد، عن أبي مسعود، قال: عطش النبي - صلى الله عليه وسلم - حول الكعبة، فاستسقى، فأتى بنبيذ من السقاية، فشمه، فقطب، فقال: "عَلَيَّ بذنوب من زمزم"، فصب عليه ثم شرب. فقال رجل: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا". أخرجه: النسائي (8/325) . وهذا الحديث؛ أنكره أهل العلم على يحيى بن يمان، منهم:

أحمد، والنسائي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وابن عدي، وغيرهم (¬1) . وقالوا: هذا المتن إنما يرويه الثوري، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب بن أبي وداعة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والكلبي، متروك الحديث. وقد بين وجه الخطأ فيه أبو حاتم الرازي، فقال (¬2) : "والذي عندي؛ أن يحيى بن يمان دخل حديث له في حديث: رواه الثوري، عن منصور، عن خالد بن سعد مولى أبي مسعود، أنه كان يشرب نبيذ الجر ـ وعن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان يطوف بالبيت ـ الحديث (¬3) ؛ فسقط عنه إسناد الكلبي، فجعل إسناد منصور، عن خالد، عن أبي مسعود امتن حديث الكلبي". ونحو ذلك؛ قال الدارقطني في "العلل" (¬4) . مثال آخر: حديث: ابن لهيعة، عن محمد بن زيد بن المهاجر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صعد المنبر سلم. فهذا الحديث؛ مما أخرجته له الأرض من أفلاذ أكبادها، فإن هذا ¬

_ (¬1) انظر: "علل الحديث" للدارقطني (6/192) ، والتعليق عليه. (¬2) كما في "العلل" لابنه (675) . (¬3) يعني: حديثنا هذا. (¬4) " العلل " (6/193) ، وانظر " الكامل " لابن عدي (3/900) (7/2691) .

الباب إنما يقوم على موقوفات على الصحابة وبعض التابعين، فقد رُوي ذلك عن عثمان وابن عباس وابن الزبير، ثم عن عمر بن عبد العزيز. ورُوي مرسلاً، من مرسل الشعبي وعطاء (¬1) . فهذا؛ أعلى ما في الباب، فإذا بابن لهيعة يأبى إلا أن يأتي به مسنداً مرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والعجب!! أنه جاء له بإسناد كالشمس، فقال: " عن محمد بن المنكدر عن جابر "، ولو كان هذا الحديث من حديث ابن المنكدر، وأنه حدث به فعلاً، لرواه عنه أصحابه العارفون به ـ أو بعضهم على الأقل ـ كالسفيانين وغيرهما.د ولهذا؛ عده ابن عدي من مناكيره في ترجمته من " الكامل " (¬2) . ولما سأل ابن أبي حاتم أباه عنه (¬3) ، قال أبو حاتم: " هذه حديث موضوع ". وهذا الحديث؛ قد رواه ضعيف آخر، واسمه: عيسى بن عبد الله الأنصاري، فجاء له بإسناد آخر، فقال: " عن نافع، عن ابن عمر "، وهذا من أنكر شيء يُروى، فلو كان هذا من حديث نافع لما تفرد هذا الضعيف به عنه؛ ولهذا أنكره عليه ابن حبان في " المجروحين " (1/121) وابن عدي ¬

_ (¬1) راجع " المصنف " لعبد الرزاق (3/193) و " السنن الكبرى " للبيهقي (3/205) و " شرح السنة للبغوي " (4/212) و " الصحيحة " للشيخ الألباني (2076) . (¬2) " الكامل " (4/1465) . (¬3) في " العلل " (590) .

في " الكامل " (5/1893) (¬1) . وهكذا؛ شأن الضعفاء حيث يخطئون، يأتون بأسانيد غريبة لمتون قد تكون ثابتة بغير هذه الأسانيد، وقد لا تكون معروفة أصلاً إلا من أحاديث الضعفاء؛ ولهذا نجد أهل العلم يضعفونهم مستدلين على ضعفهم بمثل هذه الغرائب والمناكير الإسنادية أو المتنية، أو الإسنادية والمتنية معاً. وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) وأخرجه الطبراني في " الأوسط " (6677) .

الشواهد.. وحديث في حديث

الشواهد.. وحديث في حديث قد تكون لفظة ـ أو جملة ـ معروفة في حديث من رواية صحابي معين، فيأتي بعض من لم يحفظ، فيروي حديثاً آخر، عن صحابي آخر، بإسناد آخر، فيزيد هذه اللفظة ـ أو تلك الجملة ـ فيه، والصواب أنه في الحديث الأول، وليست في الحديث الآخر، وإنما اشتبه ذلك على الراوي. فمن لا يفطن لذلك، يظن أن هذه اللفظة ـ أو تلك الجملة ـ محفوظة بإسنادين، فيجعل أحدهما شاهداً للآخر؛ وليس الأمر كذلك. وهذا خطأ؛ من أنواع الإدراج في المتون، وقد ذكر الحافظ بن حجر له مثالين: قال في " النكت على ابن الصلاح " (¬1) : " وربما وقع الحكم بالإدراج في حديث، ويكون ذلك اللفظ المدرج ثابتاً من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لكن من رواية أخرى. كما في حديث أبي موسى: " إن بين يدي الساعة أياماً، يُرفع فيها العلم، ويظهر فيها الهرج، والهرج القتل ". فصله بعض الحفاظ من الرواة، وبين أن قوله: " والهرج القتل " من ¬

_ (¬1) " النكت " (2/819 - 820) .

كلام أبي موسى. ومع ذلك؛ فقد ثبت تفسيره بذلك من وجه آخر مرفوعاً في حديث سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنهم " اهـ. قلت: فتلك اللفظة " والهرج القتل "، إنما هي من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة خاصة، وليست من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي موسى، بل هي في حديثه من قول أبي موسى موقوفة عليه، فمن ظن أنها محفوظة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من حديث الصحابيين عنه، فقد أخطأ. المثال الثاني: قال الحافظ: " ومثل ذلك حديث: " أسبغوا الوضوء "، كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ". يعني: بعد ذلك (¬1) ، فقد ذكر أن هذه الجملة مدرجة في حديث أبي هريرة، ليست هي في حديثه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما من قول أبي هريرة نفسه. ثم قال الحافظ. " على أن قوله: " أسبغوا الوضوء "، قد ثبت من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حديث عبد الله بن عمرو، في " الصحيح " اهـ. يعني " صحيح مسلم " (1/147 - 148) . ¬

_ (¬1) " النكت " (2/824) .

مثال آخر: وذكر له ابن الصلاح مثالاً آخر، فقال (¬1) : " مثاله: رواية سعيد بن أبي مريم، عن مالك، عن الزهري، عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تباغضوا، ولا تحاسدوا ولا تدابروا، ولا تنافسوا " ـ الحديث. فقوله: " لا تنافسوا "؛ أدرجه ابن أبي مريم من متن حديث آخر، رواه مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، فيه " لا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا ". والله أعلم " اهـ. مثال آخر: حديث: التلبية في الحج. فقد رُوي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، أن تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ". أخرجه: البخاري (3/408) ومسلم (4/7) وغيرهما. فهذا حديث ابن عمر، بهذا اللفظ. وروى الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي عطية، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، أنها قالت: إني لأعلم كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك له لبيك، إن الحمد والنعمة لك ". ¬

_ (¬1) " علوم الحديث " (ص 129) .

أخرجه: أيضاً البخاري (3/408) . فهذا؛ لفظ حديث عائشة، ليس فيه ما في حديث ابن عمر من قوله: " والملك لا شريك لك ". لكن؛ روى محمد بن فضيل حديث عائشة هذا، عن الأعمش، فزاد في حديثها تلك الزيادة. أخرجه: أحمد في " المسند " (6/32) . وهذا: خطأ من محمد بن فضيل، حمل لفظ حديث عائشة على لفظ حديث ابن عمر، والصواب أن حديث عائشة ليس فيه تلك الزيادة. وقد أنكر ذلك عليه الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى. قال أحمد (¬1) : " وهم ابن فضيل في هذه الزيادة، ولا تُعرف هذه عن عائشة، إنما تعرف عن ابن عمر " اهـ. مثال آخر: قال البزار في " مسنده " (1925) . حدثنا يوسف بن موسى، قال: نا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود، عن سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله ـ يعين: ابن مسعود ـ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام ". ¬

_ (¬1) " شرح علل الترمذي " لابن رجب (2/633) .

قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " حياتي خير لكم، تُحدثون ونُحدث لكم، ووفاتي خير لكم، تُعرض على أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم ". وقال البزار: " وهذا الحديث؛ آخره لا نعلمه يُروى عن عبد الله؛ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد ". فالجزء الثاني من هذا الحديث، وهو قوله: " حياتي خير لك لكم ... "؛ إنما أدمجه بالجزء الأول ابن أبي رواد، وليس الحديث عند أصحاب سفيان هكذا؛ إنما يَروي أصحاب سفيان بهذا الإسناد الجزء الأول فقط، وأما الجزء الثاني فلا يعرف عن سفيان إلا من هذا الوجه، كما ذكر البزار. وممن روى الجزء الأول عن سفيان: وكيع، وعبد الرزاق، وابن المبارك، وابن نمير، ومعاذ بن معاذ، والفريابي، وغيرهم. أخرجه: النسائي في " السنن " (3/43) و " اليوم والليلة " (66) وأحمد (1/387 - 441 - 452) وعبد الرزاق (2/215) وابن حبان (914) والدارمي (2/317) وغيرهم. ورواه: بعضهم، فقرن مع الثوري: الأعمش. أخرجه: الطبراني في " الكبير " (10/271) وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " (2/205) .

وأما الجزء الثاني من الحديث: فهو يُروى من أوجه أخرى، عن بكر المزني مرسلاً؛ هكذا يُعرف. وهو مروي عنه من ثلاثة أوجه: الأول: عن غالب القطان، عنه. أخرجه: إسماعيل القاضي في " فضل صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " (25) وابن سعد في " طبقاته " (2/2/2) . وإسناده؛ صحيح إلى بكر المزني. الثاني: عن كثير أبي الفضل، عنه. أخرجه: القاضي أيضاً (26) . وهذا أيضاً؛ صحيح إليه. الثالث: عن جسر بن فرقد، عنه. أخرج الحارث بن أبي أسامة في " مسنده " (957 ـ زوائد) . وهذا؛ ضعيف. فهذا؛ هو أصل الحديث؛ أن الجزء الأول منه هو فقط الذي يُعرف بهذا الإسناد عن ابن مسعود، أما الجزء الثاني، فهو إنما يعرف مرسلاً من مرسل بكر المزني، وأن من أدمجه بالجزء الأول، فهو مخطئ، دخل عليه حديث في حديث. ويرجع الفضل في بيان علة هذا الحديث ـ بعد الله عز وجل ـ إلى الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ، فإنه بين في " السلسلة الضعيفة "

(975) طرق الحديث بجزأيه بنحو ما ذكرت، وقال: " فاتفاق جماعة من الثقات على رواية الحديث عن سفيان، دو آخر الحدي " حيات ... " ثم متابعة الأعمش له على ذلك، مما يدل عندي على شذوذ هذه الزيادة؛ لتفرد عبد المجيد بن عبد العزيز بها، لاسيما وهو متكلم فيه من قبل حفظه، مع أنه من رجال مسلم ... ". ثم قال: " فلعل هذا الحديث ـ يعني الجزء الثاني منه ـ الذي رواه عبد المجيد موصولاً عن ابن مسعود، أصله هذا المرسل عن بكر، أخطأ فيه عبد المجيد فوصله عن ابن مسعود، ملحقاً إياه بحديثه الأول عنه. والله أعلم " (¬1) مثال آخر " حديث: الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن محمد بن أبي عائشة، عن ¬

_ (¬1) قلت: ووقع نحو هذا في حديث آخر، بينه البيهقي في " السنن الكبرى " (1/431) .

أبي هريرة ـ وعن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ـ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " إذا تشهد أحدكم، فليستعذ بالله من أربع؛ يقول: الله؛ إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ". أخرجه: مسلم (2/93) ، عن الأوزعي. فظاهر هذه الرواية؛ أن هذا اللفظ، مروي بإسنادين: الأول: عن حسان بن عطية، عن محمد بن أبي عائشة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وليس كذلك! بل هذا لفظ حديث حسان بن عطية، عن ابن أبي عائشة خاصة، أما لفظ حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فليس فيه أن الدعاء كان يقوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التشهد أو في الصلاة. وهذا لفظه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوا: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ". وقد أخرجه البخاري (3/241) ومسلم أيضاً (2 /93 - 94) . ولذا؛ قال الإمام ابن رجب في " شرح البخاري " (¬1) : " هذا يدل على أن رواية الأوزاعي حُمل فيها حديث يحيى بن أبي سلمة، على لفظ حديث حسان عن ابن أبي عائشة؛ ولعل البخاري لم يخرجه لذلك؛ فإن المعروف ذكر الصلاة في رواية ابن أبي عائشة خاصة، ولم يخرج له البخاري ". مثال آخر: حديث: عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن أنس، أن أعرابياً بال في المسجد، فقال عليه السلام: ¬

_ (¬1) " فتح الباري " لابن رجب (5/183) .

" احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذنوباً من ماء ". قال الإمام الدارقطني (¬1) : " وهم عبد الجبار على ابن عيينة؛ لأن أصحاب ابن عيينة الحفاظ رووه، عنه، عن يحيى بن سعيد، بدون " الحفر "، وإنما روى ابن عيينة هذا، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " احفروا مكانه "؛ مرسلاً " اهـ. قلت: دل ذلك على أن ذكر " الحفر " بهذا الإسناد المتصل خطأ، وإنما هو بذاك الإسناد الآخر المرسل. مثال آخر: ما رواه: محمد بن مصعب القرقساني: حدثنا الأوزاعي، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بشاة ميتة، قد ألقاها أهلها، فقال: " والذي نفسي بيده! للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها " وهذا الإسناد؛ لا بأس به في الشواهد ـ من حيث الظاهر ـ والمتن صحيح محفوظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير هذا الوجه، عن غير هذا الصحابي؛ فقد أخرجه مسلم (8/210 - 211) بغير هذا الإسناد، عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ؛ وأما بهذا الإسناد، فهو خطأ، دخل على محمد بن مصعب هذا حديث في حديث. قال الإمام أحمد (¬2) : " هو عندي خطأ ". ¬

_ (¬1) " نصب الراية " (1/212) . (¬2) " المنتخب من علل الخلال " لابن قدامة (رقم: 4 بتحقيقي)

ووجه الخطأ: أن هذا المتن؛ إنما يعرف بغير هذا الإسناد، وهذا الإسناد؛ إنما هو لغير هذا المتن، وهو متن شبيه بهذا المتن، فالظاهر أن الراوي ـ وهو محمد بن مصعب هذا ـ دخل عليه حديث في حديث، فلما حدث بالإسناد، وشرع في المتن، انتقل ذهنه إلى المتن الآخر الشبيه به، فذكره، غافلاً عن المتن الحقيقي الذي يُروى بهذا الإسناد. وقد بين ذلك غير واحد من أهل العلم: قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان (¬1) : " هذا خطأ من القرقساني؛ إنما هو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة ميتة، فقال: " ما على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها؟ ‍! ". وكذلك؛ قال ابن حبان، فقد ساق هذا الحديث في ترجمة القرقساني من " المجروحين " (¬2) ، وقال: " هذا المتن بهذا الإسناد باطل، إنما الناس رووا هذا الخبر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة ميتة، قال: " أولا انتفعتم بإهابها؟ " قالوا: إنها ميتة؟! قال: " إنما حُرم أكلها " اهـ. وهذا؛ مثل قول الرازيين سواء بسواء. وقد وافقه الدارقطني على ذلك في " تعليقاته على المجروحين " (¬3) ¬

_ (¬1) " العلل " (1897) . (¬2) 2/294) . (¬3) 2/294) .

، وقال: " وهم في متنه محمد بن مصعب ". فقد تبين بهذا؛ أن هذا الإسناد جاء به القرقساني وإن كان مستقيماً في نفسه، إلا أنه لا أصل لهذا المتن به، وإنما هو خطأ منه حيث أقحمه به، والصواب: أنه إسناد المتن الآخر. فالذي يجيء فيجعل هذا الإسناد شاهداً للحديث، فيضمه إلى إسناد مسلم لهذا المتن، يكون قد أغرب جداً، وأتى بشاذ من القول. مثال آخر: حديث: نهى عن ثمن الكلب، إلا كلب الصيد. فهذا المتن؛ رواه حماد بن سلمة بإسنادين: الأول: عن أبي المُهَزَّم، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه: الترمذي (1281) . الثاني: عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه: النسائي (7/ 190 -309) . فالناظر في هذين الإسنادين، يظن من أول وهلة، أن هذا المتن بهذا اللفظ يُحكم عليه بمقتضى هذين الإسنادين. والإسناد الأول فيه أبو المهزم، وهو متروك الحديث، لكن الإسناد الثاني ظاهر الصحة، فيذهب إلى تصحيح الحديث.

وليس الأمر كذلك! فإن اللفظ المذكور؛ إنما هو لحديث أبي المهزم خاصة، عن أبي هريرة. أما حديث جابر؛ فليس فيه هذا الاستثناء المذكور، وهو قوله: " إلا كلب صيد ". ذلك؛ لأن غير حماد بن سلمة روى حديث جابر هذا، عن أبي الزبير، عنه؛ دون ذكر هذا الاستثناء في الحديث. منهم: معقل بن عبيد الله، وابن لهيعة، وعمر بن زيد الصنعاني. أخرجه: مسلم (5/35) وأحمد (3/386) وابنه في " زوائده " (3/297) وأبو داود (3480) والترمذي (1820) وابن ماجه (2161) وغيرهم. فالظاهر؛ أن حماد بن سلمة حمل لفظ حديث جابر على لفظ حديث أبي هريرة، فأخطأ، وإنما هذا الاستثناء ليس في حديث جابر، بل في حديث أبي هريرة خاصة، وقد علمت أنه من رواية أبي المهزم، وهو ضعيف متروك، ويؤكد ذلك؛ أن الحديثين كانا عند حماد، كما سبق. ولذا؛ قال الإمام النسائي بعقب رواية حماد، لحديث جابر: " ليس هو بصحيح ". وقال في الموضع الثاني: " هذا منكر ".

وقال الترمذي عقبة رواية المهزم: " هذا حديث لا يصح من هذا الوجه، وأبو المهزم، اسمه: يزيد ابن سفيان، وتكلم فيه شعبة بن الحجاج، وضعفه ". قال: " وقد رُوي عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا، ولا يصح إسناده أيضاً " (¬1) هذا؛ وقد ذهب البيهقي (¬2) إلى أن إمكانية أن يكون من ذكر الاستثناء في هذا الحديث، إنما أخذه من الأحاديث الأخرى الصحيحة في النهي عن اقتناء الكلب؛ فإن فيها هذا الاستثناء. قال البيهقي: " والأحاديث الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن ثمن الكلب خالية عن هذا الاستثناء؛ وإنما الاستثناء في الأحاديث الصحاح في النهي عن الاقتناء؛ ولعله شُبِّه على من ذكره في حديث النهي عن ثمنه من هؤلاء الرواة، الذين هم دون الصحابة والتابعين. والله أعلم ". مثال آخر: حديث: أن جبريل كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية الكلبي. فهذا؛ جاء من حديث جابر، وأنس، وعائشة، وأم سلمة. ¬

_ (¬1) توسع الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ في تخريج هذا الحديث في " السلسلة الصحيحة " (2971) (2990) ؛ فراجعه، وكذا " زاد المعاد " ( 5/770 -771) . (¬2) في " السنن الكبرى " (6/ 6 - 7) ، و " معرفة السنن والآثار " (4/399) .

وحديث جابر: عند مسلم (1/106) ، وحديث عائشة: عند أحمد (6/142) ، وكذا حديث أم سلمة (6/146) . وهي؛ في ترجمة دحية الكلبي من " طبقات ابن سعد " (4/1/184) و " تاريخ دمشق " (17/211-214) . ورُوي أيضاً؛ من مرسل الشعبي، وأبي وائل، ومجاهد، والزهري (¬1) . لكن؛ وقع في بعض روايات حديث جبريل الطويل في الإسلام والإيمان والإحسان، أن جبريل جاء يومئذ في صورة دحية الكلبي. وهذا خطأ في هذا الحديث على وجه الخصوص. وذلك لأمرين: الأمر الأول: أن أكثر روايات هذه القصة، ليس فيها هذا الوصف لجبريل، فهي زيادة شاذة لا تصح. وبيان ذلك: * جاء هذا الوصف في حديث ابن عمر من طريق: حماد بن سلمة، عن إسحاق بن سويد، عن يحيى بن معمر، عن ابن عمر، قال: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية الكلبي، فقال: يا محمد! ما الإسلام؟ ـ حتى ذكر الحديث بتمامه. أخرجه أحمد (2/107) وابن سعد (4/1/184) ومحمد بن نصر في " تعظيم قدر الصلاة " (372) وابن عساكر (17/214) . ¬

_ (¬1) وراجع: " الصحيحة " (1111) (1857) .

وهذه الزيادة؛ لم يذكرها في هذا الحديث عن يحيى بن معمر، إلا إسحاق بن سويد، فقد رواه غيره بدونها؛ منهم: سليمان بن بريدة، وعلي بن زيد، والركين بن الربيع، وعطاء الخراساني. أخرج حديثهم: أبو داود (4697) والنسائي في " الكبرى " (¬1) وأحمد (1/52- 53) ومحمد بن نصر المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (368) (369) (370) (371) والطبراني في " الشاميين " (2451) وأبو نعيم في " الحلية " (5/207 - 208) . على أن أصل الحديث؛ لا يصح عن ابن عمر سماعاً له من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما الصحيح المعروف: عن ابن عمر، عن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال غير واحد من أهل العلم؛ منهم: مسلم، والترمذي، والنسائي (¬2) . * وكذلك جاء هذا الوصف في بعض طرق حديث أبي هريرة. وذلك؛ فيما رواه النسائي (8/101 - 103) عن محمد بن قدامة، والمروزي (378) عن إسحاق بن راهويه ـ كلاهما ـ من حديث جرير بن عبد الحميد، عن أبي فروة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة وأبي ذر ـ فذكر الحديث، وفي آخره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " والذي بعث محمداً بالحق هدى وبشيراً، ما كنت بأعلم به من رجل ¬

_ (¬1) كما في " تحفة الأشراف " (5/444) . (¬2) انظر " التمييز " لمسلم (ص 198-199) و " الجامع " للترمذي (5/41) و " تحفة الأشراف " (5/444) ، وكذا شرح الشيخ أحمد شاكر على " المسند " (1/314) .

منكم، وإنه لجبريل عليه السلام، نزل في صورة دحية الكلبي ". فقوله في هذه الرواية " نزل في صورة دحية الكلبي "؛ زيادة خطأ من قِبل بعض الرواة. فقد رواه: محمد بن سلام البيكندي، وعثمان بن أبي شيبة، كلاهما عن جرير، عن أبي فروة، به؛ بدونها. أخرجه: البخاري في " خلق أفعال العباد " (25) (¬1) وأبو داود (4698) . ورواه: إسحاق أيضاً، عن جرير، عن أبي حيان التيمي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة وحده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ بدونها. أخرجه البخاري في " الصحيح " (8/513) والمروزي (379) . وكذلك؛رواه: إسماعيل بن علية، عن أبي حيان؛ بدونها. أخرجه: البخاري (1/114) ومسلم (1/30) وابن ماجه (64) (4044) وأحمد (2/426) وابن خزيمة (4/5) . وأيضاً؛ محمد بن بشر، عن أبي حيان. أخرجه مسلم وابن خزيمة. وأيضاً؛ أبو أسامة حماد بن أسامة. أخرجه: ابن خزيمة. وكذلك؛ رواه عماد بن القعقاع، عن أبي زرعة؛ بدونها. ¬

_ (¬1) من هامش كتاب المروزي.

أخرجه: مسلم والمروزي (380) . وكل ذلك؛ يدل على أن هذه الزيادة في حديث جبريل هذا، خطأ من قبل بعض الرواة، حيث أدرجها فيه، وإنما هي ثابتة صحيحة، ولكن في غير هذا الحديث. الأمر الثاني: أن روايات هذه القصة الصحيحة دلت على أن جبريل لم يعرفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أصحابه رضي الله عنهم، إلا بعد أن انصرف. ففي حديث عمر: " بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، إذ طلع علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد ... ". فلو كان في صورة دحية الكلبي، لظنوه هو؛ لأن دحية الكلبي معروف لديهم. وفي آخره: " ثم قال لي يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم ... " ولهذا؛ قال الحافظ بن حجر (¬1) : " دلت الروايات التي ذكرناها، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما عرف أنه جبريل إلا في آخر الحال، وأن جبريل أتاه في صورة رجل حسن الهيئة، ¬

_ (¬1) في " الفتح " (1/125) .

لكنه غير معروف لديهم. وأما ما وقع في رواية النسائي من طريق أبي فروة في آخر الحديث: " وإنه لجبريل نزل في صورة دحية الكلبي "؛ فإن قوله " نزل في صورة دحية الكلبي "، وهم؛ لأن دحية معروف عندهم، وقد قال عمر: " ما يعرف منا أحد. وقد أخرجه محمد بن نصر المروزي في " كتاب الإيمان " له من الوجه الذي أخرجه منه النسائي، فقال في آخره: " فإنه جبريل جاء ليعلمكم دينكم "، حسب، وهذه الرواية هي المحفوظة؛ لموافقتها باقي الروايات " (¬1) . وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) انظر مثالاً في كتابي " ردع الجاني " (ص 93) وآخر في " التتبع " للدارقطني (ص 319-320 رقم 86) .

شاهد اللفظ.. وشاهد المعنى

شاهد اللفظ.. وشاهد المعنى مما لا شك فيه؛ أن الشاهد إذا كان لفظه مثل لفظ المشهود له، يكون أقوى في الشهادة مما لو وافقه في المعنى فقط، دون اللفظ. فكثيراً؛ ما يكون الشاهد أخص من المشهود له، بينما الموافقة في اللفظ يؤمن معها ذلك. ومما ينبغي أن يتنبه له هنا: أنه قد يكون حديثان في الباب، يتفقان في المعنى دون اللفظ، فيأتي بعض من لم يحفظ الحديث على وجهه، فيروي أحد الحديثين بإسناد الحديث الآخر، فيظهر لمن لا يفطن لذلك، وكأن الحديثين يتفقان في اللفظ أيضاً. مثال ذلك: حديث: أبي عاصم النبيل، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن". هذا الحديث؛ أخرجه: البخاري (13/501) ؛ وانتُقد عليه. قال الدارقطني (¬1) : "هذا يقال: إن أبا عاصم وهم فيه. والصواب: ما رواه الزهري ومحمد بن إبراهيم ويحيى بن أبي كثير ¬

_ (¬1) في "التتبع" (ص170-171) ، وكذا في "العلل" (9/240-241) .

ومحمد بن عمرو وغيرهم، عن أبي سلمة، هن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أذن الله لشيء إذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن، يجهر به"؛ وقول أبي عاصم وهم. وقد رواه عقيل ويونس وعمرو بن الحارث وعمرو بن دينار وعمرو بن عطية وإسحاق بن راشد ومعمر وغيرهم، عن الزهري، بخلاف ما رواه أبو عاصم، عن ابن جريج باللفظ الذي قدمنا ذكره. وإنما روى ابن جريج هذا اللفظ الذي ذكره أبو عاصم عنه، بإسناد آخر؛ رواه عن ابن أبي مليكة، عن ابن أبي نهيك، عن سعد؛ قاله ابن عيينة عنه" اهـ. وقال الخطيب (¬1) : "روى هذا الحديث: عبد الرزاق بن همام وحجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وحده (¬2) ، وكذلك رواه الأوزاعي، وعمرو بن الحارث، ومحمد بن الوليد الزبيدي، وشعيب بن أبي حمزة، ومعمر بن راشد، وعقيل بن خالد، ويونس بن زيد، وعبيد الله بن أبي زياد، وإسحاق بن راشد، ومعاوية بن يحيى الصدفي، والوليد بن محمد الموقري، عن الزهري؛ واتفقوا كلهم ـ وابن جريج منهم ـ على أن لفظه: "ما أذن الله لسيء ما أذن انبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن". ¬

_ (¬1) في "التاريخ" (1/295) . (¬2) يعني: بلفظ: "ما أذن الله لشيء ... "، كما سيأتي. وهو في "المصنف" (2/482) وأخرجه أيضاً أحمد في "المسند" (2/285) عن عبد الرزاق ومحمد بن بكر البرساني بهذا اللفظ.

قال: "وأما المتن الذي ذكره أبو عاصم؛ فإنما يُروى عن ابن أبي مليكة، عن ابن أبي نهيك، عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " اهـ. وقال أبو علي النيسابوري (¬1) : "قول أبي عاصم فيه: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن"، وهم من أبي عاصم؛ لكثرة من رواه عنه هكذا". وقد أخطأ أبو أمية الطرسوسي فيه خطأ آخر عن أبي عاصم؛ إلا أنه في الإسناد، وقد تقدم في موضعه (¬2) . مثال آخر حديث: رواه: الحسين بن عيسى البسامي، عن علي بن الحسن بن شقيق، عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحسب المال، والكرم التقوى". أخرجه: القضاعي في "مسند الشهاب" (20) . وهذا اللفظ؛ ليس يُعرف بهذا الإسناد، وإنما الذي يُعرف بهذا الإسناد لفظه: "إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه هذا المال". هكذا يرويه؛ غير واحد، عن الحسين بن واقد. أخرجه: النسائي (6/64) وأحمد (5/353-361) وابن حبان ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" (1/395) . (¬2) انظر: المثال الأول من "فصل: المتابعة..والإقران".

(699) (700) والحاكم (2/163) والدارقطني (3/304) والبيهقي (7/135) والخطيب (1/318) والقضاعي (982) . وأما اللفظ الأول؛ فهو يعرف بإسناد آخر، يرويه: سلام بن أبي مطيع، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه: الترمذي (3271) وابن ماجه (4219) وأحمد (5/10) والحاكم (2/163) (4/425) والدارقطني (3/302) والبيهقي (7/135-136) والطبراني (7/219) وأبو نعيم في "الحلية" (6/190) والبغوي في "شرح السنة" (13/125) وابن الجوزي في "الواهيات" (1002) . قلت: فالظاهر، أن بعض الرواة دخل عليه لفظ حديث سمرة في الباب في لفظ هذا الحديث. والله أعلم. ولعل ذلك؛ من الحسين بن عيسى هذا، أو من أحد ممن دونه. فقد رواه: الإمام أحمد (5/361) عن علي بن الحسن بن شقيق؛ بالإسناد، بلفظ حديث بريدة على الصواب، وليس بلفظ حديث سمرة، كما وقع عند القضاعي. والحسين هذا؛ لم أعرفه؛ اللهم أن يكون "البسامي" مصحفاً من "البسطامي"، فإن كان كذلك، فهو صدوق، كما قال أبو حاتم، وأدخله ابن حبان في "الثقات". ومهما يكن من أمر؛ فإنه لا يقارن بأحمد بن حنبل في تثبته وإتقانه، فكيف إذا كان الحديث مشهوراً عن بريدة باللفظ الآخر، وليس باللفظ الذي جاء به الحسين هذا؟ ! وقد يكون الخطأ ممن دون الحسين.

وبهذا؛ يعلم خطأ المعلق على "مسند الشهاب"، حيث اعتبر الحديث بلفظه الأول محفوظاً بالإسنادين، فجعل أحدهما شاهداً باللفظ الثاني (¬1) . مثال آخر: قال ابن أبي حاتم (¬2) : "سألت أبي عن حديث؛ رواه: قبيصة، عن الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوصي امرءاً بأمه"؟ قال أبي: هذا خطأ ـ يعني: أنه غلط في المتن ـ، يريد: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وأبواي يبكيان. وإنما روى ذلك الحديث "أوصي امرءاً بأمه": سفيان، عن منصور، عن عبيد الله بن علي، عن خداش أبي سلامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبي: فهذا الذي أراد قبيصة؛ دخل له حديث في حديث" (¬3) اهـ. مثال آخر: حديث: "الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب". فهذا الحديث؛ قد رواه بعضهم بإسناد حديث: "نهى عن بيع الولاء وعن هبته". ¬

_ (¬1) وراجع: "الإرواء" (1870) . (¬2) في "العلل" (1982) . (¬3) راجع: "الإرواء" (3/322-323) .

فقال: "عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر". وإنما الصواب: أن هذا الإسناد إسناد حديث "نهى عن بيع الولاء وعن هبته"، وأما حديث "الولاء لحمة.."، فهو يعرف بغير هذا الإسناد، عن الحسن البصري مرسلاً. وقد أشار إلى ذلك أبو زرعة الرازي ـ كما في "العلل" (1645) ـ وابن عدي في "الكامل" (6/2036-2037) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/292-293) و "معرفة السنن والآثار" (7/507) (¬1) . مثال آخر: حديث: محمد بن محمد بن حيان التمار، عن أبي الوليد الطيالسي، قال: حدثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: " ما عاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه ". قال الحاكم في " معرفة علوم الحديث " (ص 59) : " هذا إسناد تداوله الأئمة الثقات، وهو باطل من حديث مالك، وإنما أريد بهذا الإسناد: " ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده امرأة قط، وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله، فينتقم لله بها ". ولقد جهدت جهدي أن أقف على الواهم فيه، من هو؟ فلم أقف عليه، اللهم إلا أن أكبر الظن على ابن حيان البصري، على أنه صدوق مقبول ". ¬

_ (¬1) وراجع: "إرواء الغليل" (1668) .

مثال آخر: حديث: شريك، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ـ مرفوعاً ـ: " المؤذن أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة.. ". أخرجه: ابن عدي (4/1427) ؛ وقال: " هذا ـ بهذا اللفظ ـ؛ لا يُروى إلا عن شريك، من رواية يحيى بن إسحاق عنه؛ وإنما رواه الناس: عن الأعمش، بلفظ آخر، وهو: " الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن " اهـ. قلت: واللفظ الأول؛ إنما يعرف بإسناد آخر، عن علي بن أبي طالب، موقوفاً عليه، غير مرفوع. أخرجه: الطحاوي في " المشكل " (5/441) والبيهقي (2/19) ، من طريق: شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي. ثم قال البيهقي: " ورُوي عن شريك، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ـ مرفوعاً ـ؛ وليس بمحفوظ " (¬1) ¬

_ (¬1) راجع: " فتح الباري " لابن رجب (3/534) . وانظر مثالاً آخر في " علل ابن عمار الشهيد " (ص 96-97) .

الشواهد.. المعلة

الشواهد.. المُعَلَّة قد يُحتاج شاهد لحديث، فيوجد ذلك الشاهد في حديث، إلا أن موضع الشاهد في هذا الحديث مما وقع الاختلاف في ذكره بين الرواة، والراجح عدم ذكره في الحديث، فيكون موضع الشاهد ـ حينئذ ـ معلولاً غير محفوظ، فلا يصلح ـ حينئذ ـ للاستشهاد به للحديث الأول. مثال ذلك: روى: بشير بن المهاجر، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! إني ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني، فرده، فلما كان من الغد، أتاه، فقال يا رسول الله! إني زنيت، فرده الثانية ـ الحديث، وفيه: " فلما كان الرابعة حفر له حفرة، ثم أمر به فرجم ". فذك " الحفر " في قصة ماعز هذه خطأ من بشير بن المهاجر، أنكره عليه عدد من أهل العلم. راجع: كتابي " ردع الجاني " (ص 93 - 177) . فذهب ذاهب إلى البحث عن شاهد للحفر للمرجوم، ليدفع به الخطأ عن بشير بن المهاجر، فساق عدة شواهد فيها ذكر الحفر للمرجوم، منها: ما أخرجه: أبو داود (4435) والنسائي في " الكبرى " وأحمد

(3/479) من طريق حَرَمي بن حفص، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن علاثة، ثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، أن خالد بن اللجلاج حدثه، أن اللجلاج أباه أخبره. أنه كان قاعداً يعتمل في السوق، فمرة امرأة تحمل صبياً، فثار الناس معها، وثرتُ فيمن ثار، فانتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: " من أبو هذا معك؟ " فسكتت، فقال شاب: خذوها؛ أنا أبوه يا رسول الله، فأقبل عليها، فقال: " من أبو هذا معك؟ " قال الفتى: أنا أبوه يا رسول الله، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض من حوله يسألهم عنه، فقالوا: ما علمنا إلا خيراً. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أُحصنت؟ " قال: نعم، فأمر به فرجم. قال: فخرجنا فحفرنا له حتى أمكنا، ثم رميناه بالحجارة حتى هدأ، فجاء رجل يسأل عن المرجوم، فانطلقنا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: هذا جاء يسأل عن الخبيث! فقال - صلى الله عليه وسلم -: " لهو أطيب عند الله عز وجل من ريح المسك "، فإذا هو أبوه، فأعناه على غُسله وتكفينه ودفنه. فهذه القصة ـ كما ترى ـ؛ فيها ذكر الحفر، فهل هي تصلح كشاهد لحديث بشير بن المهاجر في الحفر للمرجوم؟ إذا نظرنا؛ وجدنا أن محمد بن علاثة قد خُولف في هذا الحديث في إسناده، وفي متنه أيضاً. فقد رواه: محمد بن عبد الله الشعيثي، عن مسلمة بن عبد الله الجهني، عن خالد بن اللجلاج، عن أبيه، قال: كنا غلماناً نعمل في السوق، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل فرجم، فجاء

رجل يسألنا أن ندله على مكانه، فأتينا به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: إن هذا سألنا عن ذلك الخبيث الذي رُجم اليوم! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقولوا خبيث؛ فوالله لهو أطيب عند الله من ريح المسك ". أخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " (4/1/250) وأبو داود (4436) ـ عقب حديث ابن علاثة، إلا أنه أشار إلى المتن ولم يسقْه ـ وكذا؛ أخرجه الطبراني (19/220) وابن عساكر (16/441- 442) من طرق، عن الشعيثي، به. فإذا نظرنا في الحديثين؛ فسنجد اختلافاً في الإسناد والمتن. فأما الإسناد؛ فقد ذكر الشعيثي: " مسلمة بن عبد الله الجهني " بدلاً من " عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز "، الذي ذكره ابن علاثة. وهذا أرجح؛ لأمور: الأول: أن الشعيثي أوثق من ابن علاثة (¬1) . الثاني: قال أبو زرعة الدمشقي في " تاريخ " (1/361) بعد أن تكلم عن " مسلمة " هذا: " و [مسلمة] هذا، هو صاحب حديث خالد بن اللجلاج؛ حديث أبيه في الرجم ". وهذا؛ يدل على أن الحديث معروف من حديث مسلمة، فالحديث حديثه، ليس حديث غيره. الثالث: أن الإمام أبا نعيم الأصبهاني روى حديث ابن علاثة في ترجمة ¬

_ (¬1) راجع: " ردع الجاني " (ص 180) .

اللجلاج من كتابه " معرفة الصحابة " (3 / 169 / 2) ، ثم قال: " غريب من حديث عبد العزيز؛ تفرد به ابن علاثة ". ثم ذكره من طرق، عن الشعيثي، عن مسلمة، به. وصنيعة هذا؛ يدل على أنه خطأ ابن علاثة في روايته، وأن رواية الشعيثي هي المقدَّمة عنده، لأنه حكم على حديث " عبد العزيز " بالغرابة، ثم علل ذلك بكون ابن علاثة تفرد به، فكأنه يقول: إن ذكر " عبد العزيز " في هذا الحديث غير محفوظ. ثم إن ذكره رواية الشعيثي بعقب هذا، كالنص على أن هذه الرواية هي المحفوظة عنده، لا ما قاله ابن علاثة. وبعد أن عاد الحديث إلى حديث " مسلمة "، فاعلم؛ أن مسلمة هذا مجهول الحال، وعلىفرض ثقته، فلا يصلح حديثه هذا كشاهد لحديث بشير بن المهاجر؛ للآتي: وأما المتن؛ فليس في رواية الشعيثي ذكر للحفر، الذي ذكره ابن علاثة في حديثه، وعليه؛ يكون ذكر الحفر في حديث اللجلاج هذا خطأ من ابن علاثة، فلا يصلح شاهداً لحديث بشير بن المهاجر. وبالله التوفيق. ومما يؤكد نكارة ذكر الحفر في قصة ماعز، أن أبا سعيد الخدري قال: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نرجمه، فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد، فما أوثقناه ولا حفرنا له، فرميناه بالعظم والمدر والخزف، فاشتد واشتددنا

خلفه، حتى أتى عُرْضَ الحرة، فانتصب لنا، فرميناه بجلاميد الحرة (يعني الحجارة) حتى سكت ... ". أخرجه: مسلم (5/118) . ***

الشواهد.. القاصرة

الشواهد.. القاصرة لا يشهد حديث لآخر، إلا في القدر الذي اشترك فيه الحديثان، لفظاً أو معنى، أما إذا كان الشاهد قاصراً على المشهود له، فلا يكون شاهداً له فيما لم يشتركا فيه من اللفظ أو المعنى. وهذا؛ أمر بدهي، لا يخفى على أهل اليقظة، لكن أذكر مثالاً أو أكثر مما خفي على البعض. مثال ذلك: حديث: أبي سعيد الخدري مرفوعاً: " إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ينشر سرها ". فهذا الحديث؛ مما تفرد به عمر بن حمزة العمري، عن عبد الرحمن بن سعد، عن أبي سعيد. وقال الذهبي (¬1) : " هذا مما استُنكر لعمر ". فذهب ذاهب إلى رد النكارة، بأن جاء للحديث بشواهد تشهد له؛ ولكنها شواهد قاصرة عن المشهود له. فها هي الشواهد فلننظر فيها. ¬

_ (¬1) في " الميزان " (3/192) .

الشاهد الأول: عن أبي نضرة: حدثني شيخ من طفاوة، قال: تثوَّيْتُ أبا هريرة بالمدينة ... وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هل منك الرجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه، وألقى عليه ستره، واستتر بستر الله؟ " قالوا نعم. قال: " ثم يجلس بعد ذلك فيقول: فعلت كذا، فعلت كذا؟ " قال فسكتوا. قال فأقبل على النساء، فقال: " هل منكن من تحدث؟ " فسكتن، فجثت فتاة على إحدى ركبتيها، وتطاولت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليراها ويسمع كلامها، فقالت: يا رسول الله؛ إنهم ليتحدثون، وإنهن ليتحدثنه. فقال: " هل تدرون ما مثل ذلك؟ " فقال: " إنما ذلك مثل شيطانة لقيت شيطاناً في السكة، فقضى منها حاجته، والناس ينظرون.. ". أخرجه: أبو داود (2174) وأحمد (2/540) . الشاهد الثاني: عن أسماء بنت زيد، أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والرجال والنساء قعود، فقال: " لعل رجلاً يقول ما يفعله بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها؟! " فأرَمَّ القوم: فقلت إي والله يا رسول الله! إنهن ليقلن، وإنهم ليفعلون. قال: " فلا تفعلوا؛ فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق، فغشيها والناس ينظرون ". أخرجه: أحمد (6/456-457) . الشاهد الثاني: عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " ألا يخشى أحدكم أن يخلو

بأهله، يُغلق باباً، ثم يرخي ستراً، ثم يقضي حاجته، ثم إذا خرج حدث أصحابه بذلك؟! ألا تخشى إحداكن أن تغلق بابها، وترخي سترها، فإذا قضت حاجتها حدثت صواحبها؟! " فقالت امرأة سفعاء الخدين: والله! يا رسول الله، إنهن ليفعلن، وإنهم ليفعلون. قال: " فلا تفعلوا؛ فإنما مثل ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة على قارعة الطريق، فقضى حاجته منها، ثم انصرف وتركها ". أخرجه البزار (1450 ـ كشف الأستار) . فهذه الشواهد؛ قاصرة عن المشهود له، فإنها وإن اشتركت معه في قُبح هذا الفعل، وذم من يفعله، إلا أنها ليس فيها ما فيه من أن الذي يفعل ذلك الفعل يكون " من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة ". فعدم وجود شاهد لهذه الزيادة، مما يدل على نكارتها؛ لتفرد عمر ابن حمزة بها ـ على ضعفه ـ، وعدم موافقة أحد من الثقات له عليها، وأصحاب سالم ـ شيخه في هذا الحديث ـ الثقات كثيرون، ولا يحفظه إلا من هو دونهم بكثير، حتى هذا الذي تفرد به، ليس له في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يوافقه في معناه، وما جاء في السنة ليس فيه هذا القدر الذي تفرد به، مما يدل على نكارته فعالاً، وعلى صحة إنكار الإمام الذهبي لحديثه ذلك. وبالله التوفيق (¬1) ¬

_ (¬1) أمثلة هذا الفصل كثيرة جداً، وهو من الواضح بحيث لا يحتاج إلى كثير تمثيل، وإن كان الإخلال به يقع كثيراً من قبل بعض الباحثين , وانظر " ردع الجاني " (ص 176 - 184) .

التدليس.. والسماع

التدليس.. والسماع ومن طرق الاعتبار، والتي يتسامح في أسانيدها البعض، هو أن يكون الحديث معروفاً من رواية راوٍ معروف بالتدليس، وقد رواه بالعنعنة، فإن هذا يقتضي التوقف في روايته، وعدم الاحتجاج بها حتى يصرح بالسماع. فيأتي بعض الضعفاء ممن لم يحفظ الإسناد على وجهه، فيذكر في الإسناد لفظ السماع بين ذاك المدلس وشيخه. فيجيء بعض الباحثين، فيعتمد على هذه الرواية، لإثبات سماع هذا المدلس لهذا الحديث من ذاك الشيخ، ويدفع عنه ـ بمقتضاها ـ شبهة تدليسه لحديثه هذا. وهذا ليس بشيء! ذلك؛ لأن لفظ السماع لم يذكر إلا في هذه الرواية التي تفرد بها ذاك الضعيف، فهو متفرد بتلك الزيادة ـ أعني بالزيادة: لفظ السماع. فأولاً: هي زيادة ضعيفة؛ لتفرد ذلك الضعيف بها. فمن يثبت بمقتضاها السماع ويدفع التدليس، فهو بذلك يحتج بالضعيف. ثانياً: هي زيادة منكرة؛ وذلك من وجهين:

الأول: تفرد الضعيف بها. الثاني: مخالفته لغيره ممن لم يذكروها. فالذي يحتج بمثل هذا لإثبات السماع، فهو محتج بالمنكر؛ مخالفاً بذلك الأصول العلمية المتقررة. وليس هذا من باب الاستشهاد حتى يتسامح في إسناده، بل من باب الاحتجاج؛ لأن لفظ السماع لم يجيء إلا في تلك الرواية التي جاء بها ذاك الضعيف. وأئمة الحديث ـ عليهم رحمة الله ـ عندما يريدون أن يتحققوا من سماع راو من شيخه في حديث معين؛ ينظرون: هل صرح ذلك الراوي بالسماع من ذاك الشيخ في هذا الحديث؛ أم لا؟ فإن وجدوا تصريحاً بالسماع منه، لم يعتدوا به، إلا بعد التحقق من عدة أمور: ** الأمر الأول: صحة الإسناد إلى هذا الراوي الذي يريدون التحقق من سماعه هذا الحديث من شيخه. وهذا شرط واضح لا خفاء به، ولا تخفى ضرورته وأهميته؛ فإن الإسناد الضعيف لا تقوم به الحجة لإثبات الرواية، فكيف بإثبات السماع، الذي هو أخص من مجرد الرواية؟!

روى ابن أبي حاتم (¬1) ، عن أبيه، أنه قال: " سألت أبا مسهر: هل سمع مكحول من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: سمع من أنس بن مالك. فقلت له: سمع من أبي هند الداري؟ فقال: من رواه؟ قلت: حيوة بن شريح، عن أبي صخر، عن مكحول، أنه سمع أبا هند الداري يقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -. فكأنه لم يلتفت إلى ذلك. فقلت له: واثلة بن الأسقع؟ فقال: من؟ قلت: حدثنا أبو صالح كاتب الليث: حدثني معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع. فقلت: كأنه أومأ برأسه، كأنه قبل ذلك " اهـ. فانظر إلى أبي مسهر؛ كيف أن حكمه بإثبات السماع ونفيه ينبني على إسناد الرواية التي جاء فيها ذكر السماع، فليس كل ما جاء فيه لفظ السماع يقبله، حتى يكون إسناده صالحاً للاحتجاج به على ذلك. وأحمد بن صالح المصري؛ له موقف مثل هذا الموقف، يدل على ¬

_ (¬1) في " تقدمة الجرح والتعديل " (291-292) .

اعتماد الأئمة في إثبات السماع على صحة الإسناد إلى المصرح. قال أبو زرعة الدمشقي في " تاريخ " (¬1) : " وسمعت أبا مسهر يُسأل عن مكحول: هل لقي أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لم يلق منهم أحداً؛ غير أنس بن مالك. فقلت له: إنهم يزعمون أنه لقي أبا هند الداري؟ فقال: ما أدري. قال أبو زرعة: فذكرت كلام أبي مسهر هذا لأحمد بن صالح ـ مقدمه دمشق سنة سبعة عشرة ومائتين، وهو يومئذ باق (¬2) ـ، فحدثني عن ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع " اهـ. قلت: وهذا ظاهر. وكأن سؤال أبي حاتم السابق كان بعد سؤال أبي زرعة هذا؛ لأن أبا مسهر نفى هنا أن يكون مكحول لقي غير أنس؛ وهناك رضي أن يكون قد سمع من واثلة؛ لمقتضى نفس الرواية التي احتج بها أحمد بن صالح. لكن؛ قد يعكر على هذا: قول أبي حاتم (¬3) : " سألت أبا مسهر: هل سمع مكحول من أحد من أصحاب النبي ¬

_ (¬1) " تاريخ " (1/326 - 327) . (¬2) يعني: أبا مسهر. (¬3) " المراسيل " لابنه (ص 211) .

- صلى الله عليه وسلم - " قال: ما صح عندنا؛ إلا أنس بن مالك. قلت: واثلة؟ فأنكره ". كذا قال أبو حاتم هنا، مع أن أبا حاتم فهم من أبي مسهر هناك، أنه رضي وقبل أن يكون مكحول سمع من واثلة. فقد يقال: هذا من اختلاف الاجتهاد. والأقرب: أنه لا منافاة أبداً؛ فكأنه قَبِلَ في المرة الأولى صحة الرواية؛ لصحة إسنادها، وهنا لم يقبلها، لا لطعن في إسنادها وثبوتها، وإنما لعدم دلالتها على السماع، لأن غاية ما تدل عليه هو مجرد ثبوت اللقاء بينهما، ودخول مكحول على واثلة، وهذا لا يستلزم السماع منه كما لا يخفى. وكثيراً ما يصرح الأئمة بلقاء راوٍ بشيخه، ثم يصرحون بأنه لم يسمع منه. كما قال أبو حاتم (¬1) في إبراهيم النخعي: " لم يلق أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا عائشة؛ ولم يسمع منها شيئاً؛ فإنه دخل عليها وهو صغير ". فأثبت له لقاءه بعائشة ـ رضي الله عنها ـ، ولم يثبت له السماع منها. وهذا؛ أمثلته كثيرة. وهذا؛ ما فهمه أبو حاتم هاهنا، فكان إذا سُئل نفس سؤاله لأبي ¬

_ (¬1) " المراسيل " (ص 9) .

مسهر، أثبت مجرد الدخول، ونفى السماع. قال ابن أبو حاتم (¬1) : " سمعت أبي يقول: لم يسمع مكحول من واثلة بن الأسقع ". وقال أيضاً (¬2) : " سمعت أبي يقول: مكحول لم يسمع من معاوية، ودخل على واثلة بن الأسقع ". وبهذا؛ يظهر لنا: أن الأئمة ـ عليهم رحمة الله ـ وإن اختلفوا في إثبات سماعه ونفيه، إلا أن المثبت منهم والنافي، إنما يعتمد في إثبات السماع أو نفيه، على صحة الإسناد أو عدمه؛ وهذا محل الشاهد من هذا الاستطراد. وبالله التوفيق. ومن ذلك: حكى ابن أبي حاتم (¬3) ، عن أبيه، أنه قال في " سلامة بن قيصر الحضرمي ": " ليس حديثه بشيء من وجه يصح ذكر صحبته ". قال ابن أبي حاتم: " وذلك؛ أنه روى ابن لهيعة، عن زبان بن فائد، عن لهيعة بن ¬

_ (¬1) " المراسيل " (ص 213) . (¬2) " المراسيل " (ص 212) . (¬3) في " الجرح والتعديل " (2/299-300) .

عقبة، عن عمرو بن ربيعة، عن سلامة بن قيصر، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من صام يوماً ابتغاء وجه الله ... "؛ ليس هذا الإسناد مشهوراً، قال أبو زرعة: سلامة بن قيصر ليست له صحبة ... ". وقال أيضاً: " سألت أبي عن حديث؛ رواه: الحكم بن هشام، قال: حدثنا يحيى بن سعيد بن أبان القرشي، عن أبي فروة، عن أبي خلاد ـ وكانت له صحبة ـ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ فذكر حديثاً. قال أبي: حدثنا بهذا الحديث ابن الطباع، عن يحيى بن سعيد الأموي، عن أبي فروة يزيد بن سنان، عن أبي مريم، عن أبي خلاد. قلت لأبي: يصح لأبي خلاد صحبة؟ فقال: ليس له إسناد " اهـ. يعني: إسناداً صحيحاً؛ وإلا فإنه قد جاء بهذا الإسناد (¬1) . ** الأمر الثاني: أن لا يكون ذكر السماع في هذا الموضع، مما زاده بعض الرواة الثقات خطأ ووهماً، فيكون ذلك لفظ السماع حينئذ شاذاً غير محفوظ، ويكون المحفوظ عدم ذكره. ولأئمة الحديث في إدراك ذلك طرق متعددة، لا يدركها إلا نقاد الحديث وجهابذته. ¬

_ (¬1) وانظر: مثالاً آخر في " تهذيب التهذيب " (1/112) و " الكامل " لابن (1/258) .

* فمنها: مخالفة الأوثق، أو الأكثر عدداً. ففي " تهذيب التهذيب " (¬1) : " قال أحمد بن حنبل: ما أُراه ـ يعني: الزهري ـ سمع من عبد الرحمن بن أزهر، إنما يقول الزهري: كان عبد الرحمن بن أزهر يحدث؛ فيقول معمر وأسامة عنه: عبد الرحمن!! ولم يصنعا عندي شيئاً ". فانظر؛ كيف لم يقبل ذكر معمر وأسامة لفظ السماع بين الزهري وعبد الرحمن بن أزهر، مع أنهما من جملة الثقات، وقد اتفقا، وما ذلك إلا لأنهما قد خالفا من هم أرجح منهما حفظاً، وأكثر منهما عدداً، فلم يذكروا لفظ السماع! وقد أخطأ أسامة هذا مثل هذا الخطأ في حديث آخر عن الزهري أيضاً؛ فقد روى حديثاً عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، فذكر بينهما لفظ السماع، بينما لم يذكره غيره من أصحاب الزهري، فأنكر ذلك عليه يحيى القطان. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في " التهذيب " (¬2) : " أراد ذلك في حديث مخصوص، يتبين من سياقه اتفاق أصحاب الزهري على روايته عنه، عن سعيد بن المسيب بالعنعنة، وشذ أسامة، فقال: " عن الزهري: سمعت سعيد بن المسيب "؛ فأنكر عليه القطان هذا لا غير ". ¬

_ (¬1) " تهذيب التهذيب " (9/450) . (¬2) " تهذيب التهذيب " (1/210) .

ومن ذلك: ما في ترجمة إسماعيل بن عبد الكريم الصنعاني من " تهذيب الكمال " (¬1) ، عن ابن معين، أنه قال في حقه: " ثقة، رجل صدق، والصحيفة التي يرويها عن وهب، عن جابر، ليست بشيء، إنما هو كتاب وقع إليهم، ولم يسمع وهب من جابر شيئاً ". فتعقبه المزي، فذكر إسناد هذه الصحيفة من طريق إسماعيل هذا، وفيها: تصريح وهب بالسماع من جابر بن عبد الله، ففيها: ".. عن وهب بن منبه، قال: هذا ما سألت عنه جابر بن عبد الله ... ". ثم قال المزي: " وهذا إسناد صحيح إلى وهب بن منبه، وفيه رد على من قال: إنه لم يسمع من جابر؛ فإن الشهادة على الإثبات مقدمة على الشهادة على النفي، وصحيفة همام عن أبي هريرة مشهورة عند أهل العلم، ووفاة أبي هريرة قبل وفاة جابر، فكيف يُستنكر سماعه منه، وكانا جميعاً في بلد واحد؟! ". فقال الحافظ ابن حجر (¬2) ؛ معقباً عليه: " أما إمكان السماع فلا ريب فيه، ولكن هذا في همام، فأما أخوه وهب الذي وقع فيه البحث، فلا ملازمة بينهما، ولا يحسن الاعتراض على ابن معين بذلك الإسناد؛ فإن الظاهر أن ابن معين كان يُغَلِّط إسماعيل ¬

_ (¬1) " تهذيب الكمال " (3/140) . (¬2) " تهذيب التهذيب " (1/316) .

في هذه اللفظة عن وهب: " سألت جابراً "، والصواب عند: " عن جابر ". والله أعلم " اهـ. ففي رد المزي على ابن معين في نفيه السماع، بكون الإسناد قد صح إلى المصرح ـ: شاهد جيد للأمر الأول. ثم في توثيق ابن معين للراوي، مع توهين ذكره لفظ السماع في تلك الرواية، ودفاع الحافظ ـ: شاهد جيد أيضاً للأمر الثاني. ومن ذلك: روى جماعة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر ـ مرفوعاً ـ: " ليس على المنتهب قطع "، فلم يذكروا سماع ابن جريج من أبي الزبير، بينما ذكره اثنان، وهما: أبو عاصم؛ أخرج حديثه الدارمي (¬1) . ابن المبارك؛ أخرج حديثه النسائي في " الكبرى " (¬2) من طريق محمد ابن حاتم، عن سويد بن نصر، عنه. وقد وهَّم الأئمة هذه الرواية التي فيها ذكر التصريح بالسماع، ورأوا أنه غلط. فقال أبو داود (¬3) : " هذا الحديث؛ لم يسمعه ابن جريج عن أبي الزبير؛ وبلغني عن أحمد بن حنبل، أنه قال: إنما سمعه ابن جريج من ياسين الزيات ". ¬

_ (¬1) " السنن " (2/175) . (¬2) " تحفة الأشراف " (2/315) . (¬3) " السنن " (4391) .

وقال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان (¬1) : " لم يسمع ابن جريج هذا الحديث من أبي الزبير؛ يُقال: إنه سمعه من ياسين: أنا حَدَّثْتُ به ابن جريج عن أبي الزبير.. ". وقال النسائي: " وقد روى هذا الحديث عن ابن جريج: عيسى بن يونس، والفضل ابن موسى، وابن وهب، ومحمد بن ربيعة، ومخلد بن يزيد، وسلمة ابن سعيد البصري؛ فلم يقل أحد منهم: " حدثني أبو الزبير "، ولا أحسبه سمعه من أبي الزبير. والله أعلم ". وقال أبو يعلى الخليلي (¬2) : " يقال: إن هذا لم يسمعه من أبي الزبير، لكنه أخذه عن ياسين الزيات ـ وهو ضعيف جداً ـ عن أبي الزبير، وابن جريج يدلس في أحاديث، ولا يخفى ذلك على الحفاظ ". فهكذا؛ تتابع الأئمة على نفي سماع ابن جريج لهذا الحديث من أبي الزبير، وتوهيم من ذكر لفظ السماع بينهما؛ لمخالفته للأكثر. ومن ذلك: قال أحمد بن حنبل: " كان مبارك بن فضالة يقول في غير حديث عن الحسن: " قال حدثنا عمران. وقال: حدثنا ابن مغفل "؛ وأصحاب الحسن ¬

_ (¬1) " علل الحديث " (1353) . (¬2) " الإرشاد " (352 - 353) .

لا يقولون ذلك ". قال الحافظ ابن حجر (¬1) : " يعني: أنه يصرح بسماع الحسن من هؤلاء؛ وأصحاب الحسن يذكرونه عندهم بالعنعنة ". ومن ذلك: روى: أبو المغيرة، عن سليمان بن سليم الحمصي، قال: حدثنا يحيى بن جابر، قال: حدثنا المقدام بن معد يكرب، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه؛ فإن كان لا محالة، فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث لنَفَسِهِ ". أخرجه: أحمد (4/132) والحاكم (4/331-332) . هكذا؛ رواه أبو المغيرة، بذكر لفظ السماع بين ابن جابر والمقدام. لكنه؛ لم يثبت على ذلك؛ فقد رواه مرة أخرى، فلم يذكر لفظ السماع بينهما. أخرجه: الطبراني في " المعجم الكبير " (20/272-273) وفي " مسند الشاميين " (1375) . ومما يؤكد خطأه في ذكر لفظ السماع بينهما: أن ابن أبي حاتم قال (¬2) : ¬

_ (¬1) " تهذيب التهذيب " (10/29) . (¬2) في " المراسيل " (ص 244) .

" سألت أبي: هل لقي يحيى بن جابر المقدام بن معد يكرب؟ قال أبي: يحيى عن المقدام مرسل ". واعتمده المزي في " تهذيب الكمال " (31/249) والعلائي في " جامع التحصيل " (ص 367) وابن حجر في " تهذيبه " (11/191) . هذا؛ وقد رواه غير أبي المغيرة، عن سليمان، بدون ذكر لفظ السماع. منهم: إسماعيل بن عياش. أخرجه: الترمذي (2380) وابن المبارك في " الزهد " (603) والبيهقي في " الشعب " (5648) (5650) والطبراني في " الكبير " (20/274) والبغوي في " شرح السنة " (14/249) . وأخرجه: الطبراني أيضاً في " الكبير " (20/273 - 274) و " مسند الشاميين " (1116) من طريق إسماعيل، فقال: عن أبي سلمة ـ هو: سليمان بن سليم ـ وحبيب بن صالح، عن يحيى بن جابر، به؛ ولم يذكر سماعاً أيضاً. فزاد: " حبيب بن صالح ". ومنهم: بقية بن الوليد. أخرجه: النسائي في " الكبرى ". ومنهم: محمد بن حرب الأبرش. قاله ـ: حاجب بن الوليد، عنه. أخرجه: البيهقي في " الشعب " (5649) .

إلا أنه اختلف على الأبرش: فرواه: عمرو بن عثمان، عن الأبرش، عن سليمان، عن يحيى بن جابر، عن صالح بن يحيى بن المقدام، عند جده المقدام. فزاد: " صالح بن يحيى "، بين يحيى بن جابر والمقدام. أخرجه: الطبراني في " مسند الشاميين " (1376) . وهذا؛ يؤكد عدم السماع، ويبين الواسطة؛ إن كان محفوظاً. وأخرجه النسائي في " الكبرى "، من طريق عمرو بن عثمان، به؛ إلا أنه لم يذكر " يحيى بن جابر " أصلاً. ورواه: ابن أبي السري، عن الأبرش، عن سليمان، عن صالح بن يحيى المقدام، عن أبيه، عن جده. فوافق الرواية السابقة في عدم ذكر " يحيى بن جابر "؛ لكنه زاد: " عن أبيه ". أخرجه: ابن حبان (5236) والبيهقي (5649) . ورواه: هشام بن عبد الملك، عن الأبرش، عن أمه، عن أمها، عن المقدام. أخرجه: ابن ماجه (3349) . ومن فوق الأبرش لا يُعرفون، وهذا اختلاف عليه لا يُحتمل، ورواية إسماعيل ومن تابعه أرجح. وكذلك؛ رواه غير سليمان، عن يحيى بن جابر، بدون ذكر

لفظ السماع. فقد رواه: معاوية بن صالح، عن يحيى بن جابر، عن المقدام؛ لم يذكر سماعاً. أخرجه: النسائي في " الكبرى " والحاكم في " المستدرك " (4/121) والطبراني في " الكبير " (20/273) والله أعلم (¬1) . * ومنها: أن يكون الأئمة قد اتفقوا على عدم سماع هذا الراوي من ذاك الشيخ، فيُستدل على خطأ من ذكر لفظ السماع بينهما بإجماعهم على عدم سماعه. حكى ابن أبي حاتم في " المراسيل " (¬2) ، عن أبيه، أنه قال: " الزهري؛ لم يسمع من أبان بن عثمان شيئاً، لا أنه لم يدركه، قد أدركه، وأدرك من هو أكبر منه؛ ولكن لا يثبت له السماع منه؛ كما أن حبيب بن أبي ثابت لا يثبت له السماع من عروة بن الزبير، وهو قد سمع ممن هو أكبر منه؛ غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاق أهل الحديث على شيء يكون حجة ". * ومنها: مخالفة الواقع؛ كأن يكون الراوي الذي ذُكر عنه التصريح بالسماع من ¬

_ (¬1) وانظر أمثلة أخرى: في " تهذيب التهذيب " (6/90) و " شرح علل الترمذي " لابن رجب (2/592-594) وكتابي "حسم النزاع في مسألة السماع " (ص 31-32) (¬2) " المراسيل " (ص 192) .

شيخه لم يدرك شيخه أصلاً، أو كان صغيراً وقت وفاة شيخه، لا يمكنه السماع منه. فمن ذلك: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل (¬1) : سمعت أبي يقول: قال رجل لسفيان بن عيينة: يا أبا محمد؛ عندنا رجل يُقال له: خلف بن خليفة، زعم أنه رأى عمرو بن حريث؟! فقال كَذَبَ (¬2) ، ولعله رأى جعفر بن عمرو بن حريث. وقال أبو الحسن الميموني: سمعت أبا عبد الله ـ يعني: أحمد بن حنبل ـ يُسأل: رأى خلف بن خليفة عمرو بن حريث؟ قال: لا ولكنه ـ عندي ـ شُبِّه عليه حين قال: " رأيت عمرو بن حريث ". قال أبو عبد الله: هذا ابن عيينة، وشعبة، والحجاج لم يروا عمرو بن حريث، يراه خلف؟! ما ـ عندي ـ إلا شبه عليه. روى: الوليد بن مسلم، عن تميم بن عطية، عن مكحول، قال " جالست شريحاً ستة أشهر، ما أسأله عن شيء، إنما أكتفي بما يقضي به بين الناس " ((¬3) ، ذكر عن ¬

_ (¬1) " تهذيب الكمال " (8/286-287) . (¬2) الكذب هنا بمعنى الخطأ، وهذا معروف لغة واصطلاحاً، وقوله: " لعله ... " يؤكد هذا. والله أعلم ( 3) وانظر: " الإيمان " لأبي خيثمة رقم (42) . (¬3) 1) . ذكر ذلك ابن أبي حاتم، عن أبيه في " المراسيل " ¬" المراسيل " (ص 213) .

أبيه، أنه قال: " لم يدرك مكحول شريحاً؛ هذا وهم ". ثم عده من مناكير تميم بن عطية،فقال (¬1) : " محلة الصدق، وما أنكرت من حديثه إلا شيئاً؛ روى إسماعيل بن عياش، عنه، مكحول، قال: جالست شريحاً كذا شهراً؛ وما أدري مكحولاً رأى شريحاً بعينه قط، ويدل حديث على ضعف شديد ". ومن ذلك: قال ابن أبي حاتم (¬2) : " سألت أبي عن حديثين؛ رواهما: همام، عن قتادة، عن عزرة، عن الشعبي، أن أسامة بن زيد حدثه، أنه كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - عشية عرفة. هل أدرك الشعبي أسامة؟ قال: لا يمكن أن يكون الشعبي سمع من أسامة هذا، ولا أدرك الشعبي الفضل بن العباس " اهـ وكذا؛ حكى عن أبيه في " العلل " (¬3) ؛ نحو هذا. قلت: هذا الحديث؛ أخرجه: الطيالسي (635) وأحمد (1/213 - 214) (5/206) ، وفيه ذكر لفظ التحديث من الشعبي عن الفضل أيضاً؛ ولهذا قال أبو حاتم مضعفاً له: " ولا أدرك الشعبي الفضل بن العباس ". ¬

_ (¬1) في " الجرح والتعديل " لابنه (1/1/443) . (¬2) في " المراسيل " (509) . (¬3) " العلل " (821) (822) .

فلفظ التحديث المذكور في هذه الرواية، عن الشعبي أن الفضل بن العباس حدثه؛ خطأ لا شك فيه؛ لأنه تاريخياً لا يمكن للشعبي أن يسمع من الفضل بن العباس. ذلك؛ لأن الفضل مات سنة (18) في خلافة عمر، بل جزم البخاري في " التاريخ الكبير " (4/1/114) بأنه مات في خلافة أبي بكر وحكى القولين في " التاريخ الصغير " (1/61 - 77) ؛ والشعبي وُلد سنة (19) ، فقد وُلد بعد وفاته، فكيف يمكن أن يسمع منه؟! وأما عدم سماعه من أسامة بن زيد؛ فقد جزم به أبو حاتم وغيره، كابن معين ـ فيما حكاه الدوري عنه (3055) ـ، وأحمد حنبل وابن المديني ـ كما في " المراسيل " (595) ـ، والحاكم ـ كما في " علوم الحديث " له (ص 111) . وقال ابن أبي حاتم في " المراسيل " (¬1) : " ذكر أبي، عن إسحاق بن منصور، قلت ليحيى: قال الشعبي: إن الفضل حدثه، وإن أسامه حدثه؟ قال: لا شيء. وقال أحمد وعلي: لا شيء ". وهو مبني على أدلة تاريخية أيضاً. فإن الشعبي؛ وإن كان بين ولادته ووفاة أسامة أكثر من ثلاثين سنة، إلا أنه كان بالكوفة، بينما كان أسامة بالمدينة، وما زال الأئمة يستدلون ببعد الشقة على انتفاء السماع ¬

_ (¬1) " المراسيل " (595) .

ثم إن أهل الكوفة لم يكن الواحد منهم يسمع الحديث إلا بعد استكماله عشرين سنة، ويشتغل قبل ذلك بحفظ القرآن وبالتعبد، كما في " الكفاية " للخطيب البغدادي (ص 103) . ومعلوم؛ أنهم ما كانوا يبدءون بالرحلة من أول الطلب، بل كانوا يسمعون من أهل بلدهم أولاً، ثم إذا فرغوا وحصلوا ما عندهم بدءوا في الرحلة. ثم الراوي وقع في الخطأ البين في الرواية بذكر لفظ التحديث بين الشعبي والفضل، مع أنه لا يمكن تاريخياً أن يسمع منه، فوقوعه في الخطأ بذكره لفظ التحديث بين الشعبي وأسامة بن زيد أولى؛ لأن الأمر فيه محتمل، فإذا كان الراوي أخطأ فيما لا احتمال فيه، فكيف بالمحتمل؟! فإن الظاهر أن الراوي لم يحفظ الرواية كما ينبغي (¬1) . والله أعلم. ** الأمر الثالث: أن لا يكون ذلك المصرح بالسماع ممن له اصطلاح خاص بألفاظ السماع، يتنافى مع الاتصال، كأن يكون ممن يرى جواز إطلاق لفظ التحديث في الإجازة أو الوجادة، كما ذُكر ذلك عن أبي نعيم الأصبهاني، أو ممن يرى التسامح في هذه الألفاظ، بإطلاقها في موضع السماع وغيره، كما ذكر الإمام أبو بكر الإسماعيلي أن المصريين والشاميين يتسامحون في قولهم: " حدثنا " من غير صحة السماع، منهم: يحيى بن ¬

_ (¬1) وانظر: تعليق الشيخ أحمد شاكر ـ عليه رحمه الله ـ على " المسند " (1829) .

أيوب المصري (¬1) . ونقل عبد الله بن أحمد بن حنبل (¬2) ، عن أبيه، أنه قال: كان سجية في جرير بن حازم، يقول: " حدثنا الحسن، قال: حدثنا عمرو بن تغلب "؛ وأبو الأشهب يقول: " عن الحسن، قال: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمرو بن تغلب ". قال ابن رجب الحنبلي (¬3) : " يريد: أن قول جرير بن حازم: " حدثنا الحسن: حدثنا عمرو بن تغلب " كانت عادة له، لا يرجع فيها إلى تحقيق ". وقد ذكر أبو حاتم نحو هذا في أصحاب بقية بن الوليد، أنهم يَرْوُون عنه، عن شيوخه، ويصرحون بتحديثه عنهم، من غير سماع له منهم (¬4) . وكذلك؛ قال يحيى بن سعيد القطان في فِطْر بن خليفة: أنه كان يقول: " حدثنا فلان بحديث "، ثم يدخل بينه وبينه رجلاً آخر، كان ذلك سجيه منه. ذكره العقيلي في " ضعفائه " (¬5) . ¬

_ (¬1) انظر: " فتح الباري " لابن رجب (2/284-317) (3/200) (4/42) (6/138) ولابن حجر (1/498-506) . (¬2) في " العلل " (389) . (¬3) في " شرح البخاري " له (5/479-480) . (¬4) انظر" العلل " لابن أبي حاتم (2394) ، وأشار ابن حبان في " المجروحين " (1/201) إلى ذلك، وكذلك صرح به أبو زرعة كما في " العلل " (6/25) أيضاً (¬5) " الضعفاء " له (3/465) .

وكذلك؛ من كان في اصطلاحه إطلاق لفظ السماع على ضرب من التأويل، كمن يقول ـ مثلاً ـ: " حدثنا فلان "، أو " خطبنا فلان "، ويعني: أنه حدث قومه أو خطبهم، لا أنه سمع منه ما يحدث به عنه. قال الحافظ ابن حجر (¬1) : " قد يدلس [الراوي] الصيغة، فيرتكب المجاز، كما يقول ـ مثلاً ـ: " حدثنا " , وينوي: حدث قومنا، أو أهل قريتنا، ونحو ذلك. وقد ذكر الطحاوي منه أمثلة: من ذلك: حديث مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة، قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنا وإياكم نُدعى بني عبد مناف " ـ الحديث. قال (¬2) : وأراد بذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لقومه، أما هو فلم ير النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال طاوس: " قدم علينا معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ وإنما أراد قدم بلدنا. وقال الحسن: " خطبنا عتبة بن غزوان ". يريد؛ أنه خطب أهل البصرة، والحسن لم يكن بالبصرة لما خطب عتبة ". ثم قال الحافظ: " ومن أمثلة ذلك: قول ثابت البناني: " خطبنا عمران بن ¬

_ (¬1) في " النكت على ابن الصلاح " (2/625 -626) . (¬2) يعني: الطحاوي.

حصين ـ رضي الله عنه ". وقوله: " خطبنا ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ والله أعلم ". وقال البزار (¬1) : " سمع الحسن البصري من جماعة، وروى عن آخرين لم يدركهم، وكان يتأول فيقول: " حدثنا " و" خطبنا "؛ يعني: قومه الذين حُدثوا وخُطبوا بالبصرة ". ** الأمر الرابع: أن يكون ذلك الراوي الذي ثبت عنه أنه صرح بالسماع من شيخه؛ بصحة الإسناد له، وسلامته من ورود الخطأ عليه من أحد ممن دونه، أن يكون في ذاته ثقة، لا ضعيفاً؛ فإن الضعيف إذا روى عن شيخ بلفظ السماع، فقد يكون أخطأ هو في ذلك التصريح، ويكون إنما أخذ الحديث عن هذا الشيخ بواسطة، ثم أسقطها، وزاد من كيسه لفظ السماع خطأ ووهماً، فالضعيف يخطئ بأشد من هذا. وقد لا يكون تحمل الحديث من طريق هذا الشيخ أصلاً، وإنما دخل عليه حديث في حديث. وروايته عن هذا الشيخ، إنما جاءت من طريقه، وهو ضعيف سيئ الحفظ، لا يوثق بأي شيء يجيء به، ولو قبلنا منه بعض روايته ـ أعني: ما ذكره من لفظ السماع ـ، لزمنا قبول الباقي من روايته؛ إذ هو المتفرد بالكل. ¬

_ (¬1) " تهذيب التهذيب " (2/269) . وكذلك؛ " الصحيحة " (4/292) .

ولهذه العلة؛ لم يقبل أهل العلم من ابن لهيعة تصريحه بالسماع فيما يرويه عن عمرو بن شعيب، وقالوا: لم يسمع ابن لهيعة منه شيئاً، مع أن كان يصرح بالسماع منه، بل كان ينكر على من أنكر عليه سماع هذه الأحاديث من عمرو بن شعيب. قال يحيى بن بكير: " قيل لابن لهيعة: إن ابن وهب يزعم أنك لم تسمع هذه الأحاديث من عمرو بن شعيب، فضاق ابن لهيعة، وقال: ما يُدري ابن وهب؛ سمعت هذه الأحاديث من عمرو بن شعيب قبل أن يلتقي أبواه "!! ومع ذلك؛ فلم يعرج أهل العلم على تصريحه، وصرحوا بعدم سماعه منه. وفي " المراسيل " لابن أبي حاتم (¬1) ، عن حرب بن إسماعيل، عن أحمد بن حنبل، قال: " قال وهيب: أتيت عطاء بن السائب، فقلت له: كم سمعت من عبيدة؟ قال: ثلاثين حديثاً. قال: ولم يسمع من عبيدة شيئاً. قال: ويدل على ذلك أنه قد تغير ". ولعله؛ لهذه العلة، اشترط الإمام مسلم ـ عليه رحمة الله ـ لقبول عنعنة المعاصر غير المدلس، إذا كان لقاؤه بشيخه ممكنا ـ أن يكون هو في نفسه ثقة، فقال في " مقدمة الصحيح " (ص 23) : " إن كل رجل ثقة، روى عن مثله حديثاً، وجائز ممكن له لقاؤه ¬

_ (¬1) " المراسيل " (ص 157) .

والسماع منه؛ لكونهما جميعاً كانا في عصر واحد ـ وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام ـ، فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة؛ إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئاً ... ". والله الموفق؛ لا رب سواه.

التدليس.. والمتابعة

التدليس.. والمتابعة المدلِّس؛ إذا روى حديثاً، ولم يصرح بالسماع فيه من شيخه، فأردنا أن ندفع شبهة تدليسه لهذا الحديث، فلابد حينئذ بأن يجيء في رواية أخرى لهذا الحديث تصريح هذا المدلس بسماعه له من شيخه المذكور؛ بشرط أن يكون ذلك التصريح الوارد في الرواية الأخرى محفوظاً، وليس خطأ من قِبل بعض الرواة؛ كما سبق. ولا تنفع حينئذ متابعة غيره له على رواية هذا الحديث عن هذا الشيخ، ولا أن يكون لمعنى حديثه من الشواهد ما يؤكد صحة المتن، بل لابد لإثبات سماعه للحديث أن يصرح بالسماع من شيخه في بعض الروايات. وقد قال ابن رجب الحنبلي (¬1) : " وكلام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم في هذا المعنى كثير جداً، يطول الكتاب بذكره، وكله يدور على أن مجرد ثبوت الرواية لا يكفي في ثبوت السماع، وأن السماع لا يثبت بدون التصريح به، وأن رواية من روى عمن عاصره، تارة بواسطة، وتارة بغير واسطة، يدل على أنه لم يسمع منه، إلا أن يثبت له السماع من وجه ". وذلك؛ لأن المدلس إذا لم نتحقق من سماعه لهذا الحديث بعينه من شيخه، ثم تابعه على رواية هذا الحديث عن هذا الشيخ غيره، لم تكن المتابعة ـ حينئذ ـ لذلك المدلس، بل للواسطة التي أسقطها بينه وبين شيخه. ¬

_ (¬1) في " شرح العلل " (2/595) .

وقد يكون الرجل الذي أسقطه المدلس بينه وبين شيخه هو نفسه ذلك المتابع، كأن يكون المدلس إنما أخذ الحديث عن ذلك المتابع، عن شيخه، ثم أسقطه وارتقى بالحديث إلى شيخه، فرواه عنه مباشرة مدلساً إياه، وعليه؛ يعود الحديث إلى ذلك المتابع، ويبقى فرداً لا تعدد فيه، ولا متابعة. فإذا انضاف إلى ذلك، أن يكون ذلك المتابع ضعيفاً، فقد رجع الحديث إلى مخرج ضعيف، لا تقوم به الحجة، وذلك يؤكد ضعف مخرج رواية المدلس (¬1) . والشواهد أيضاً؛ لا تنفع في دفع التدليس؛ لأن الشواهد إنما تؤكد حفظ الراوي للمتن، أو لمعناه، والتدليس علة إسنادية، وحفظ الراوي للمتن أو معناه، لا يستلزم حفظه للإسناد، فإن صحة المتن واستقامة معناه، لا تستلزم صحة كل إسناد يُروى به هذا المتن (¬2) . فمثال المتابعة: حديث: عمرو بن شعيب، قال: طاف محمد ـ جده ـ مع أبيه عبد الله بن عمرو، فلما كان سبعهما، قال محمد لعبد الله حيث يتعوذون: استعذ. فقال عبد الله: أعوذ بالله من الشيطان. فلما استلم الركن تعوذ بين الركن والباب، وألصق جبهته وصدره بالبيت، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع هذا. ¬

_ (¬1) وهذا يقال في كل صور السقط، كالانقطاع وغيره. وانظر: " العلل " لعبد الله بن أحمد (2625) . (¬2) انظر: " ردع الجاني " (ص 134) .

فهذا الحديث؛ يرويه ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو. أخرجه: عبد الرزاق في " المصنف " (5/75) وتابعه: المثنى بن الصباح، عن عمرو. أخرجه: أبو داود (1899) . قال الشيخ الألباني ـ حفظه الله ـ في " الصحيحة " (¬1) : " ابن جريج مدلس، ومن الممكن أن تكون الواسطة بينه وبين عمرو ابن شعيب هو المثنى نفسه، فلا يتقوى الحديث بطريقيه عن عمرو ". قلت: هذا الاحتمال هو الذي نجزم به، فقد رواه عبد الرزاق مرة أخرى، عن المثنى، عن عمرو بن شعيب، به. أخرجه: في " المصنف " (5/74) (¬2) ، وابن ماجه (2962) . مثال آخر: حديث: خالد بن عمرو، عن سفيان الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي ـ مرفوعاً ـ: " ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس ". فهذا الحديث؛ قد رواه خالد بن عمرو هذا عن الثوري، وخالد هذا متروك الحديث، وقد كذبه غير واحد من الأئمة. ¬

_ (¬1) " السلسلة الصحيحة " (2138) . (¬2) وتصحف عنده: " المثنى " إلى " ابن التيمي ".

وتفرد مثل هذا، عن مثل الثوري، بمثل هذا الإسناد، مما يكفي لسقوطه واطراحه. ولهذا؛ أنكره عليه الإمام أحمد بن حنبل (¬1) ، وكذا العقيلي وابن عدي وغيرهم من النقاد. وخفي على الحاكم أمره، فصحح إسناده في " المستدرك " (4/313) ، فتعقبه الذهبي قائلاً: " خالد وضاع ". لكن؛ رواه غير خالد هذا عن الثوري، وتبين بالتتبع أن من تابعه، إنما أخذ الحديث منه، ثم دلسه، وارتقى بالحديث إلى الثوري، فعاد الحديث حينئذ إلى حديث خالد، فلا تعدد ولا متابعة. فمن هؤلاء: محمد بن كثير الصنعاني. قال العقيلي في ترجمة خالد بن عمرو (¬2) : " ليس له من حديث الثوري أصل، وقد تابعه محمد بن كثير الصنعاني، ولعله أخذه عنه ودلسه؛ لأن المشهور به خالد هذا ". وقال ابن عدي (¬3) : " لا أدري ما أقول في رواية ابن كثير عن الثوري لهذا الحديث؛ فإن ابن كثير ثقة، وهذا الحديث عن الثوري منكر ". ¬

_ (¬1) كما في " المنتخب من علل الخلال " (رقم: 1) بتحقيقي. (¬2) في " الضعفاء " له (2/11) . (¬3) في " الكامل " (3/902) .

كذا؛ قال ابن عدي: " إن ابن كثير ثقة "! وليس كذلك؛ فإن الثقة آخر، وهو العبدي، أما هذا الصنعاني فليس بثقة. نبه على ذلك؛ الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ في " السلسلة الصحيحة " (944) . وقد نسبه الدارقطني في " الأفراد " (2154 ـ أطرافه) : " مصيصياً "، وهذا يؤكد ما قال الشيخ الألباني (¬1) . وسأل ابن أبي حاتم (¬2) أباه عن حديث محمد بن كثير هذا ¬

_ (¬1) ووقع الحافظ ابن حجر ـ عليه رحمة الله ـ في مثل هذا، في حديث عائشة في كفارة المجلس، فقال في " النكت على ابن الصلاح " (2/734) : " أخرجه: أبو أحمد العسال في " كتاب الأبواب "، من طريق عمرو بن قيس، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ؛ وإسناده حسن ". وكنت أتعجب من هذا الإسناد؛ كيف لم يشتهر مع نظافته وثقة رواته، وكان مما يزيدني تعجباً تحسين الحافظ بن حجر له. ثم وقفت على علته بفضل الله تعالى. فقد وجدت الدارقطني أخرجه في " الأفراد " (344/أـ أطرافه) من هذا الوجه، وقال: " غريب من حديث أبي إسحاق عنه، تفرد به عمرو بن قيس، وتفرد به محمد بن كثير الكوفي عنه ". فظهر بهذا؛ أن الحديث يرويه هذا الكوفي عن عمرو بن قيس، وهو المتفرد به عن عمرو، والكوفي هذا متروك، وهو مترجم له في " تهذيب التهذيب " ـ تمييزاً ـ و " اللسان ". ولعل الحافظ ابن حجر اشتبه عليه بـ " محمد بن كثير العبدي " الثقة، فلم يبرزه في الإسناد على أساس أنه ثقة، ولا يخشى من جانبه. والله أعلم. ووقع أيضاً نحو هذا الاشتباه على بعض الرواة، وقد بين ذلك أبو زرعة الرازي؛ فيما حكاه عنه البرذعي (2/734-735) . ووبالله التوفيق. (¬2) في " العلل " (1815) .

، فقال: " هذا حديث باطل ـ يعني: بهذا الإسناد ". قلت: فهذه متابعة محمد بن كثير، تبين أن مخرجها عن خالد بن عمرو الكذاب، فلا اعتداد بها. وممن رواه أيضاً عن الثوري: أبو قتادة الحراني. أخرج حديثه: البيهقي في " الشعب " (10525) ومحمد بن عبد الواحد المقدسي في " المنتقى من حديث أبي علي الإوقي " (3/2) ـ كما في " السلسلة الصحيحة " (2/662) . وأبو قتادة هذا؛ هو عبد الله بن واقد، وهو متروك، وكان الإمام أحمد يثني عليه، وقال: " لعله كبر واختلط "، وكان يدلس أيضاً. فالظاهر؛ أنه تلقاه أيضاً من خالد بن عمرو، ثم دلسه عنه، كما قال العقيلي في متابعة ابن كثير. قاله الشيخ الألباني في " الصحيحة ". قلت: وهذه ـ أيضاً ـ متابعة أبي قتادة الحراني، قد آلت إلى حديث خالد بن عمرو، فثبت أن الحديث حديث خالد هذا، وأنه متفرد به عن الثوري، وأن من رواه عن الثوري سواه، إنما أخذه عنه (¬1) . ¬

_ (¬1) وهناك ثالث؛ وهو مهران بن أبي عمر الرازي. ذكره الخطيب؛ كما في " جامع العلوم والحكم " (2/175) . ومهران هذا؛ ضعيف الحفظ، لاسيما في حديث الثوري؛ فإنه يضطرب فيه، كما قال ابن معين وغيره.

وقد جاء لهذا الحديث شاهد أيضاً من حديث أنس بن مالك؛ لكنه معلول. رواه إبراهيم بن أدهم، واختلف عليه: فرواه: أبو حفص عمر بن إبراهيم المستملي: ثنا أبو عبيدة بن أبي السفر: ثنا الحسن بن الربيع: ثنا المفضل بن يونس: ثنا إبراهيم بن أدهم، عن منصور، عن مجاهد، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " (8/41) ، وقال: " ذكر " أنس " في هذا الحديث وهم من عمرو أو أبي أحمد (¬1) ؛ فقد رواه الأثبات عن الحسن بن الربيع، فلم يجاوز فيه: مجاهداً ". ورواه: أبو سليمان ابن زبر الدمشقي في " مسند إبراهيم بن أدهم " من رواية معاوية بن حفص، عن إبراهيم بن أدهم، عن منصور، عن ربعي ابن حراش، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ مرسلاً. فجعله عن " ربعي "؛ لا عن " مجاهد ". ذكره: ابن رجب في " جامع العلوم والحكم " (2/176) . ورواه: علي بن بكار، عن إبراهيم بن أدهم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا معضل؛ ليس فيه " منصور " ولا " ربعي ". ¬

_ (¬1) هو: إبراهيم بن محمد بن أحمد الهمداني، راويه عن عمر بن إبراهيم المستملي.

أخرجه: ابن أبي الدنيا في " ذم الدنيا " ـ كما في " جامع العلوم " لابن رجب. وتابعه: طالوت على ذلك. قاله: أبو نعيم في " الحلية " (8/42) . فتبين؛ أن هذا الشاهد، لا يصح موصولاً، وأن الصواب فيه الإرسال، أو الإعضال. هذا؛ وقد ذكر الشيخ الألباني ـ أكرمه الله تعالى ـ هذه الطرق في " السلسلة الصحيحة "، (944) ، وبين عللها، ثم قال: " قد تقدم حديث سفيان من طرق عنه، وهي وإن كانت ضعيفة، ولكنها ليست شديدة الضعف ـ باستثناء رواية خالد بن عمرو الوضاع ـ؛ فهي لذلك صالحة للاعتبار، فالحديث قوي بها، ويزداد قوة بهذا الشاهد المرسل؛ فإن رجاله كلهم ثقات ". قلت: وفي كلام الشيخ نظر؛ فإن رواة هذا الحديث عن سفيان ـ غير خالد بن عمرو ـ كلهم ضعفاء، ومنه من هو ضعيف جداً، ولم يتابعهم واحد من الثقات من أصحاب الثوري، وهذا مما لا يحتمل، فإن كثرة الرواة للحديث مشعرة بشهرته، فكيف يشتهر الحديث عن سفيان، ولا يجئ من رواية أصحابه الثقات، الملازمين له، والعارفين بحديثه؟! وقد سبق إنكار الأئمة لهذا الحديث عن الثوري، على كل من رواه عنه؛ لاسيما قول العقيلي " ليس له من حديث الثوري أصل "، وقول ابن عدي: " هذا الحديث عن الثوري منكر "، وقول أبي حاتم: " هذا

حديث باطل بهذا الإسناد ". فالحديث؛ ليس من حديث الثوري أصلاً. على أنه لو كان من رواه عن الثوري ـ غير خالد ـ ثقةً؛ لما صح؛ ـ والحالة هذه ـ أن تصحح رواياتهم، أو يقوى بعضها بعضاً؛ لما سبق من أن كل من رواه عن الثوري ـ غير خالد ـ، إنما أخذه عن خالد، ثم دلسه، فعاد الحديث حينئذ إلى خالد الوضاع، وصارت هذه المتابعات صورية، لا حقيقة لها في الواقع، فكيف وهو ضعفاء؟! وقد سبق الإشارة إلى أن الشيخ الألباني ـ حفظه الله ـ قد أعل هذه المتابعات بتلك العلة، وأنه قال في متابعة أبي قتادة الحراني ما نصه: " يحتمل احتمالاً قوياً أن يكون تلقاه عن خالد بن عمرو، ثم دلسه، كما قال ابن عدي (¬1) في متابعة ابن كثير ". وأما المرسل المذكور؛ فلو صح أنه مرسل، وليس معضلاً كما في بعض الروايات، لما صلح أيضاً لتقوية الحديث؛ لتقاعد الروايات الأخرى عن حد الاعتبار. بل الظاهر؛ أن هذا المرسل هو أصل هذا الحديث، وأنه لا يصح إلا مرسلاً (¬2) . ومثال الشاهد: حديث: أبي الزبير، عن جابر، أن أم مالك كانت تُهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) كذا؛ وقائل هذا إنما هو العقيلي، فتنبه. (¬2) انظر: أمثلة أخرى، في " الضعيفة " (2/88-96-97) و " المنار المنيف " (ص 22) .

في عكة لها سمناً، فيأتيها بنوها، فيسألون الأدم، وليس عندهم شيء، فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتجد فيه سمناً، فما زال يقيم أدم بيتها حتى عصرته، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " عصرتيها؟ " قالت: نعم. قال: " لو تركتيها ما زال قائماً ". أخرجه: مسلم (7/59) وأحمد (3/340) . فهذا الحديث؛ قد خلط فيه بعض أدعياء العلم (¬1) عدة تخليطات. فأولاً: أراد أن يدفع شبهة تدليس أبي الزبير له عن جابر، فجاء له بشاهد معناه. وهذا الشاهد؛ هو ما أخرجه: ابن أبي شيبة (31760) والطبراني في " الكبير " (25/145 - 146) من حديث محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن يحيى بن جعدة، عن رجل حدثه، عن أم مالك الأنصارية، أنها جاءت بعكة سمن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فعصرها، ثم رفعها إليه، فرجعت، فإذا هي مملوءة، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنزل في شيء يا رسول الله؟ قال: " وما ذاك، يا أم مالك؟ " قالت: رددت علي هديتي. قال: فدعا بلالاً فسأله عن ذلك، فقال: والذي بعثك بالحق، لقد عصرتها حتى استحييت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هنيئاً لك: يا أم مالك! هذه بركة عجل الله ثوابها "، ثم علمها أن في دبر كل صلاة: سبحان الله ـ عشراً ـ، والحمد لله ـ عشراً ـ والله أكبر ـ عشراً ـ. وهذا كما ترى؛ إنما هو شاهد بالمعنى، يشهد لمتن الحديث؛ ¬

_ (¬1) راجع: كتابي " ردع الجاني " (ص 134) .

لكن ما دَخْلُ هذا في إثبات السماع من عدمه؟! ثانياً: أن هذا الشاهد؛ فيه عطاء بن السائب، وكان قد اختلط، وفيه أيضاً ذاك الذي لم يسم. فأراد ذلك الدعي أن يدفع ذلك الضعف الذي في إسناد الشاهد بمجرد مجيء متن الحديث أو معناه في حديث جابر السابق؛ وهذا خطأ مركب. لأنه جعل المشهود له شاهداً، ولأن كون المتن له ما يشهد له، فأين الذي يشهد لهذا السند الذي جاء به عطاء بن السائب، ولم يتابع عليه؟! والعجب في قوله: " عطاء بن السائب لم يختلط في هذا الحديث؛ لأن له شواهد كثيرة؛ منها حديث جابر المذكور ". وأبو حاتم الرازي يقول: " وما روى عنه ابن فضيل، ففيه غلط واضطراب ". فهذا؛ حكم من أبي حاتم ـ رحمه الله ـ على هذه الرواية وأمثالها مما رواه محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب. بل إن تفرد عطاء بهذا الإسناد ـ على اختلاطه ـ دون غيره من الثقات، لهو أكبر دليل على أن هذا الإسناد لهذا المتن غير محفوظ،ولو كان محفوظاً لواه غيره من الثقات! ثالثاً: أنه جعل اشتمال هذا الحديث على شيء متواتر دليلاً على سماع

أبي الزبير له من جابر! وهذا في غاية العجب. فقد قال: " لم أجد لأبي الزبير تصريحاً بالسماع، لكن أحاديث زيادة الطعام ببركته - صلى الله عليه وسلم - متواترة، لا تحتاج لما يقويها ". وهذه؛ حيدة وخروج عن محل البحث؛ لأن كون الحديث قد اشتمل على بعض ما هو متواتر، لا يستلزم صحة هذا الحديث بعينه، فضلاً عن ثبوت سماع أحد رواته له من شيخه. * وهاهنا أمر في غاية الأهمية: ذلك؛ أن الأئمة ـ عليهم رحمة الله ـ قد يطلقون على باب من الأبواب، أو حكم من الأحكام، أو أمر من الأمور، بأنه متواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ بناء على كثرة الأخبار الصحيحة التي تضمنت هذا الحكم، أو ذاك الأمر. فيأتي بعض من لم يحسن تصور هذا الباب، فيحكم على كل حديث جاء فيه هذا الأمر، أو تضمن هذا الحكم، بالصحة، بل بالتواتر؛ بناء على ثبوت تواتر هذه الحكم أو ذاك الأمر الذي تضمنه هذا الحديث. وهذا؛ ليس بشيء! لأن تواتر هذا الحكم، أو ذاك الأمر؛ لكثرة ما جاء فيه من روايات، لا يستلزم تواتر كل أفراد الروايات؛ لأن الحكم بالتواتر إنما هو حكم للقاسم المشترك بين هذه الروايات فقط، دون ما تفردت به كل رواية من هذه الروايات.

ولنضرب مثالاً يوضح المقام. ذكروا مما تواتر معنى: رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه عند الدعاء؛ بناء على كثرة الروايات الصحيحة التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقائع مختلفة، والتي تضمنت هذا الأمر. وهذه الروايات؛ وإن تضمنت هذا الأمر، فقد تضمنت كل رواية من هذه الروايات شيئاً زائداً على هذا القاسم المشترك؛ من كونه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه في مكان معين، أو في ساعة معينة، أو على هيئة معينة، أو قال في دعائه قولاً معيناً، أو غير ذلك. ولا شك؛ أن هذه الزيادات التي تفردت كل رواية ببعضها لم تتواتر، ولا اجتمع لها ما اجتمع لرفعه - صلى الله عليه وسلم - يديه عند الدعاء. فالشيء المتواتر من تلك الروايات، هو القدر المشترك بينها فقط، وهو رفعه - صلى الله عليه وسلم - يديه عند الدعاء، أما باقي التفاصيل التي تفردت بها كل رواية عن الأخرى فهي صحيحة؛ لصحة الرواية التي تضمنتها بمفردها، وليست بمتواترة. وعليه؛ فلو جاءت رواية أخرى ضعيفة في نفسها؛ لعدم توفر شرائط الصحة فيها، وتضمنت أيضاً رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه عبد الدعاء، مع زيادات أخرى وتفاصيل مختلفة؛ فإنه لا يصح ـ والحالة هذه ـ أن تصحح تلك الرواية بناء على أن هذه الجزء منها قد تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم -. لأن تواتر هذا الجزء من تلك الرواية، إنما يدل على صحته في ذاته،

ولكنه لا يدل على صحة باقي التفاصيل التي تضمنتها الرواية أيضاً؛ لعدم صحة هذه الرواية التي تضمنتها. والله أعلم.

المتابعة.. والسرقة

المتابعة.. والسرقة من عُرف بسرقة الحديث، وادعاء سماع ما لم يسمع، لا يصلح حديثه في باب الاعتبار، ومتابعته لغيره لا تنفعه بقدر ما تضره، فإنها تؤكد سرقته لحديث غيره، وروايته من غير سماع. فإن السارق للحديث ـ غالباً ـ لا يختلق متناً، ولا يركب إسناداً حتى يُبَرأ من تهمة الحديث حيث يتابعه عليه غيره. وإنما السارق، يأتي إلى أحاديث يرويها غيره بالفعل، عن شيخ من الشيوخ، فيسمعها هو من بعض أصحاب ذلك الشيخ، ثم يسقط الواسطة، ويرتقي بالحديث إلى الشيخ نفسه، مصرحاً بالسماع منه، وهو لم يسمعه منه، فيدعي سماع ما لم يسمع. والفرق بين السرقة والتدليس واضح؛ فإن المدلس لا يصرح بالسماع، بل يأتي بصيغة محتملة، بخلاف السارق؛ فإنه يصرح بالسماع ويكذب في ذلك. وفي " تاريخ بغداد " (¬1) . عن حسين بن إدريس، قال: سألت عثمان بن أبي شيبة، عن أبي هشام الرفاعي، فقال: لا تخبر هؤلاء، إنه يسرق حديث غيره، فيرويه. قلت: أعلى وجه التدليس، أو على وجه الكذب؟ فقال: كيف يكون ¬

_ (¬1) 3/376) .

تدليساً، وهو يقول: حدثنا؟! فهذا ـ كما ترى ـ لا يتفرد، بل يروي ما يرويه غيره، غير أن غيره سمع، وهو لم يسمع، فيظهر وكأنه لم يتفرد، بل توبع، وليس الأمر كذلك، فإن هذه متابعة صورية، لا حقيقة لها. فمتابعة السارق؛ لا تدفع عنه تهمة السرقة، بل تؤكد التهمة عليه، وأنه إنما أخذ حديث غيره، فرواه؛ مدعياً سماعه (¬1) . وهذا؛ والأصل في السارق أنه متهم؛ لادعائه سماع ما لم يسمع، لكن؛ قد يقع من بعض الثقات وبعض أهل الصدق ممن لا يُتهمون ـ ما صورته كصورة السرقة، لا عن قصد؛ بل عن خطأ، أو عن تساهل في استعمال ألفاظ الأداء في غير معناها الاصطلاحي. فمثل هذه الروايات تعامل مثل السرقة، من حيث عدم الاعتداد بها في باب الاعتبار ودفع التفرد، غير أنه لا يثتهم في صدقه من وقع في مثل ذلك من أهل الصدق، بل يحمل ذلك على الخطأ أو التساهل. وقد تقدمت أمثلة ذلك في " فصل: التدليس.. والسماع " (¬2) . وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) ونقل أخونا على الحلبي في " نكته على النزهة " (ص 53-54) ، عن الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ، أنه قال: " إن من عمل بعض الكذابين: أن يسرق الحديث من غيره من أمثاله، وبطريق السرقة هذه تتعدد الطرق، وكلها في الحقيقة ترجع إلى طريق واحد، آفته ذلك الكذاب الأول؛ فتنبه لهذا؛ فإنه أمر دقيق ". (¬2) وانظر: كتابي " لغة المحدث " (ص 71-72) .

مثال ذلك: حديث: قزعة بن سويد، عن عاصم بن مخلد (¬1) ، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قرض بين شعر بعد عشاء الآخر، لم تُقبل له صلاة تلك الليلة ". أخرجه: أحمد (4/125) والطبراني (7/278) والبزار (2094 - كشف) والعقيلي (3/339) والبيهقي في " الشعب " (5089) وابن الجوزي في " الموضوعات " (1/261) . وقال البزار: " لا نعلمه يُروى إلا من هذا الوجه، وعاصم لا نعلم روى عنه إلا قزعة، وقزعة ليس به بأس، ولكن ليس بالقوي ... ". وقال العقيلي: " لا يتابع عاصم عليه، ولا يُعرف إلا به ". وقال ابن الجوزي: " هذا حديث موضوع.. وعاصم في عداد المجهولين ". ثم نقل قول أحمد وابن حبان في تضعيف قزعة. وقد تُوبع عاصم على هذا الحديث؛ إلا أنها متابعة واهية، لا يعتد بها. ¬

_ (¬1) وفي بعض الروايات " أبو عاصم " وفي بعضها: " أبو عاصم الأحول ". انظر كتاب " المنتخب من علل الخلال " (رقم: 45) بتحقيقي.

قال البيهقي: " وكذلك رواه عبد القدوس بن حبيب، عن أبي الأشعث ". ووصله: البغوي في " الجعديات " (3492) (¬1) . قلت: وعبد القدوس هذا متروك، فلا تنفع متابعته. وقد قال الحافظ ابن حجر في "تعجيل المنفعة" (¬2) . "لكن عاصماً أصلح من عبد القدوس بن حبيب، فكأن عبد القدوس سرقه منه". قلت: وهذا هو التحقيق، أن متابعة عبد القدوس راجعة إلى رواية عاصم، فيبقى عاصم متفرداً بالحديث، ويبقى إعلال الأئمة السابقين في موضعه. لكن؛ خالف ذلك الحافظ ابن حجر في موضع آخر، فتعقب الإمام ابن الجوزي حكمه على هذا الحديث بالوضع، فقال في "القول المسدد" (¬3) : "ليس في شيء من هذا ما يقضي على هذا الحديث بالوضع؛ إلا أن يكون استنكر عدم القبول من أجل فعل المباح؛ لأن قرض الشعر مباح، فكيف يعاقب فاعله بأن لا تقبل له صلاة؟ ! فلو علل بهذا لكان أليق به من تعليله بعاصم وقزعة؛ لأن عاصماً ما هو من المجهولين، كما قال؛ بل ¬

_ (¬1) وهي في " الميزان " (2/643) عن " الجعديات ". (¬2) "التعجيل" (ص204) . (¬3) "القول المسدد" (ص75-76) .

ذكره ابن حبان في "الثقات". وأما كونه تفرد برواية هذا عن أبي الأشعت، فليس كذلك؛ فقد تابعه عليه عبد القدوس بن حبيب، عن أبي الأشعت، رويناه في "الجعديات" عن أبي القاسم البغوي ... ولكن عبد القدوس ضعيف جداً؛ كذبه ابن المبارك، فكأن العقيلي لم يعتد بمتابعته ". ثم أخذ يدافع عن قزعة، وانتهى إلى " أن حديثه في مرتبة الحسن ". قلت: وعلى هذا التعقب مؤاخذات: فإنه لو سلم للحافظ ـ عليه رحمة الله ـ ما قاله، لما سَلِم له دفاعه عن الحديث، والعجب أنه سلم في أول كلامه بأن متنه منكر، فما العجب إذن في الحكم بالوضع على حديث منكر المتن (¬1) ؟! ولو سلمنا له كلامه في قزعة، وتجاوزنا عما فيه من تساهل واضح؛ فإننا لا نسلم له أبداً ما قاله في دفاعه عن عاصم. فقوله: " ما هو من المجهولين "، اعتماداً على ذكر ابن حبان له في " الثقات "؛ في غاية العجب! فإن ذكر ابن حبان لمثل هذا الراوي في " ثقاته "، إن لم يؤكد جهالته، فهو لا يرفعها؛ لما عُرف من قاعدته في توثيق المجاهيل، والحافظ ابن حجر من أعلم الناس بذلك. وأما متابعة عبد القدوس؛ فقد سبق ما فيها، فهي متابعة وجودها كالعدم. على أن عاصماً رغم أنه تفرد به عن أبي الأشعث، إلا أنه قد خولف أيضاً؛ خالفه من هو أولى منه بطبقات؛ في موضعين: ¬

_ (¬1) انظر مقدمة " الفوائد المجموعة " للشيخ المعلمي (ص 7-9) .

الأول: في اسم صحابيِّه. الثاني: في رفعه. فقد قال ابن أبي حاتم في " العلل " (¬1) : " سألت أبي، وذكر حديثاً رواه موسى بن أيوب، عن الوليد بن مسلم، عن الوليد بن سليمان، عن أبي الأشعث، عن عبد الله بن عمرو ـ يرفعه ـ (فذكره) ؟ قال أبي: هذا خطأ؛ الناس يروون هذا الحديث، لا يرفعونه؛ يقولون: عن عبد الله بن عمرو فقط. قلت: الغلط ممن هو؟ قال: من موسى؛ لا أدري من أين جاء بهذا مرفوعاً " اهـ. قلت: فقد خالف الوليد بن سليمان ـ وهو: ابن أبي السائب القرشي ـ، وهو ثقة، في رواية الناس عنه، خالف عاصماً في جعله الحديث من مسند " عبد الله بن عمرو "، بدلاً من " شداد بن أوس "، وأيضاً في رفعه؛ حيث أوقفه هو ـ على ما رجح أبو حاتم. والعجب من الحافظ بن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ حيث ساق كلام أبي حاتم هذا، ولم يستفد منه، ولم يعل الحديث بما يقتضيه هذا الوجه (¬2) . وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) " العلل " (2285) . (¬2) وانظر: " الضعيفة " (2428) .

مثال آخر: حديث: مصعب بن سلام، عن شعبة، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، قال: لما طلق حفص بن المغيرة امرأته فاطمة، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لزوجها " متعها "، قال: لا أجد ما أمتعها. قال " فإنه لابد من المتاع "، قال: " متعها؛ ولو نصف صاع من تمر ". أخرجه: البيهقي (7/257) من طريق علي بن عبد الصمد، عن الوليد بن شجاع السكوني، عن مصعب، به. ورواه: الخطيب أيضاً (3/71 - 72) من طريق أبي الفتح الأزدي ـ الإمام المعروف ـ، عن محمد بن علي بن سُهيل الحصيب، عن الوليد، به. وقال الأزدي: " لم يكن هذا الشيخ ـ يعين: الحصيب ـ مرضياً؛ سرقه، هو عند علي بن أحمد النضر؛ وأصله عن شعبة باطل، إنما هو عن الحسن بن عمارة ". وقد تعقب الأزدي الشيخ الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ، في " السلسلة الصحيحة " (¬1) , فقال: " كذا قال الأزدي، وهو مردود بمتابعة علي بن عبد الصمد الثقة لمحمد بن علي بن سهيل الحصيب؛ فانتفت شبهة سرقته، واندفع إعلال ¬

_ (¬1) " الصحيحة " (2281) .

الأزدي إياه بالسرقة، ولاسيما والأزدي نفسه متكلم فيه، على حفظه ". قلت: وفي هذا التعقيب نظر؛ من وجوه: الأول: أن رواية الحصيب، إنما جاءت من طريق الأزدي؛ فالحصيب يرويها عن الأزدي، عنه، فإذا كان الأزدي " مُتكلماً فيه " فكيف يُعتمد على روايته؛ لإثبات متابعة الحصيب لعلي بن عبد الصمد؟ وإذا رُد نقد الأزدي للرواية لكونه " مُتكلماً فيه "، فمن باب أولى أن تُرد روايته، فلا يُعتمد عليها في إثبات تلك المتابعة. الثاني: دفع اتهام الأزدي للحصيب بسرقة هذا الحديث، بمجرد متابعة على بن عبد الصمد الثقة له، لا يستقيم؛ لما ذكرناه سابقاً من أن المتابعة لا تنفع السارق، ولا تدفع عنه تهمة السرقة، بل تؤكدها. والأزدي نفسه يعلم أنه لم يتفرد، فقد ذكر في كلامه أن الحديث عند علي بن أحمد بن النضر (¬1) ، ومع ذلك اتهم الحصيب بسرقته، فكأنه يرى أنه سمعه منه، ثم ادعى سماعه من الوليد. الثالث: أن الأزدي لا ينازع في صحة الرواية عن مصعب بن سلام؛ إنما ينازع في سماع بعض من دونه في الإسناد له من شيخه، وهذا ـ بطبيعة الحال ـ نقد جزئي للرواية، أما أصل الرواية، فقد أعلها بما يقدح في أصل صحة الحديث، وذلك بقوله: " وأصله عن شعبة باطل؛ إنما هو عن الحسن بن عمارة ". يعني: أنه مقلوب؛ قلبه مصعب بن سلام، فليس هو من حديث ¬

_ (¬1) ضعفه الدارقطني؛ كما في " تاريخ بغداد " (11/316) .

شعبة، بل من حديث الحسن بن عمارة المتروك، وهذا يقدح في الحديث من أصله. ولا يقال: إن هذا زعم، لا يقوم على دليل. لأن مصعب بن سلام معروف بهذا النوع من القلب في الأسانيد. قال الإمام أحمد (¬1) : " انقلبت عليه أحاديث يوسف بن صهيب، جعلها عن الزبرقان السراج، وقدم ابن أبي شيبة مرة، فجعل يذاكر عنه أحاديث شعبة، هي أحاديث الحسن بن عمارة؛ انقلبت عليه أيضاً ". وقال ابن معين (¬2) : " صدوق؛ كان هاهنا ـ يعني: ببغداد ـ، فأعطوه كتاباً للحسن بن عمارة، فحدث به عن شعبة، ثم رجع عنه ". وقال أبو بكر بن أبي شيبة (¬3) : " مصعب بن سلام؛ تركنا حديثه، وذلك أنه جعل يُملي علينا عن شعبة أحاديث: حدثنا شعبة، حدثنا شعبة! فذهبت إلى وكيع، فألقيتها عليه. قال: من حدثك بهذا؟ فقلت: شيخ هاهنا. قال: هذه الأحاديث كلها حدثنا بها الحسن بن عمارة؛ فإذ الشيخ قد نسخ حديث الحسن بن عمارة في حديث شعبة!! ". ¬

_ (¬1) " العلل " لعبد الله بن أحمد (5317) . (¬2) " سؤالات ابن الجنيد " (253) . (¬3) " معرفة الرجال " لابن محرز (2/213) .

قلت: وهذا ما أشار إليه الإمام أحمد في قوله: " ... وقدم ابن أبي شيبة مرة ... ". فأنت ترى؛ أن الأزدي، لم يتفرد بقوله: " أصله عن شعبة باطل، وإنما هو عن الحسن بن عمارة "، حيث إن هؤلاء الأئمة قد سبقوه إلى القول إجمالاً. وأنظر: أمثلة من تلك الأحاديث التي انقلبت عليه، في ترجمته من " الضعفاء " للعقيلي (4/195) و" الكامل " لابن عدي (6/2160) و " سؤالات أبي زرعة " للبرذعي (2/331 - 332) . وبهذا؛ تدرك مدى تسامح الحافظ ابن حجر ـ عليه رحمة الله ـ في " التقريب "؛ حيث قال في مصعب بن سلام " صدوق له أوهام "؛ فإن هذا القول على ما فيه من تسامح واضح، غير موفٍ بحال الرجل؛ لأن خطأه من نوع خاص، فكان على الحافظ أن يبين هذا النوع من خطئه في عبارته، حتى يتجنب ما كان بسبيله. هذا؛ ولو كان هذا الحديث من حديث شعبة؛ لعرف عند أصحابه الثقات ـ وما أكثرهم ـ؛ ولما تفرد به مصعب بن سلام عنه، مع ما عُلم من خفة ضبطه في الجملة، وفي تخليطه إذا روى عن شعبة خاصة. وبالله التوفيق (¬1) . ¬

_ (¬1) ومن الأمثلة أيضاً: حديث " أنا مدينة العلم وعلى بابها ". وانظر: " الفوائد المجموعة " (ص 348 - 352) بتعليق المعلمي اليماني، وكذا " المجروحين " (2/151-152) و " سؤالات البرذعي " (2/519-520) . وانظر: أمثلة أخرى في " الضعيفة " (583) (1334) (2271) .

المتابعة.. والتلقين

المتابعة.. والتلقين من عُرف بقبول التلقين، لا يصلح حديثه للاعتضاد، وإن كان قابل التلقين غير متهم، لأن الخلل الحاصل من قبوله التلقين، يفضي إلى طرح حديثه، وعدم اعتباره. وذلك من وجهين: الأول: أن قبول التلقين " مظنة رواية الموضوع؛ فإن معنى قبول التلقين، أنه قد يقال له: " أحدثك فلان عن فلان بكيت وكيت؟ " فيقول " نعم؛ حدثني فلان عن فلان بكيت وكيت "، مع أنه ليس لذلك أصل، وإنما تلقنه وتوهم أنه من حديثه، وبهذا يتمكن الوضاعون أن يضعوا ما شاءوا، ويأتوا إلى هذا المسكين، فيلقنونه فيتلقن، ويروي ما وضعوه " (¬1) . وقال الحميدي عبد الله بن الزبير (¬2) : " فإن قال قائل: فما الشيء الذي إذا ظهر لك في المحدث، أو من حدث عنه، لم يكن مقبولاً؟ قلنا: أن يكون في إسناده رجل غير رضا، بأمر يصح ذلك عليه، بكذب أو جرحة في نفسه، تُرد بمثلها الشهادة، أو غلطاً فاحشاً لا يشبه ¬

_ (¬1) قاله: الشيخ المعلمي ـ عليه رحمة الله ـ في تعليقه على " الفوائد المجموعة " (ص 408) . (¬2) " الجرح والتعديل " (1/1/33-34) و " الكفاية " (ص 233- 235) .

مثله، وما أشبه ذلك. فإن قال: فما الغفلة التي تُردُ بها حديث الرجل الرضا، الذي لا يعرف بكذب؟ قلت: هو أن يكون في كتابه غلط، فيقال له في ذلك، فيترك ما في كتابه ويحدث بما قالوا، أو بغيره في كتابه بقولهم، لا يعقل فرق ما بين ذلك، أو يصحف تصحيفاً فاحشاً، فيقلب المعنى، لا يعقل ذلك فيكف عنه. وكذلك؛ من لُقِّن فتلقن التلقين، يُرد حديثه الذي لُقن فيه، وأُخذ عنه ما أتقن حفظه، إذا عُلم أن ذلك التلقين حادث في حفظه لا يعرف به قديماً، فأما من عُرف به قديماً في جميع حديثه، فلا يُقبل حديثه، ولا يؤمن أن يكون ما حفظ مما لُقن " اهـ. الوجه الثاني: أن الملقِّن قد يجيء ذاك الشيخ بحديث يرويه غيره، ويلقنه إياه على أنه من حديثه هو، ويقول له: " حدثك فلان عن فلان بكيت وكيت "، فيقول " نعم "، فيرويه هو، أو يجيز غيره روايته عنه، وليس هو من حديثه، بل من حديث غيره، والواقع أن الحديث حديث غيره، وليس حديثه هو، فلا تنفع تلك المتابعة. مثال ذلك: حديث عبد الله بن معاوية الغاضري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " ثلاث من فعلهن فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمان: من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله،

وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام، ولا يُعطي الهَرَمَة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولا الشرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره ". يرويه: أبو داود في " السنن " (1582) ؛ قال: " وقرأت في كتاب عبد الله بن سالم بحمص ـ عند آل عمرو بن الحارث الحمصي ـ: عن الزبيدي، قال: وأخبرني يحيى بن جابر، عن جبير بن نفير، عن عبد الله بن معاوية الغاضري ـ عن (¬1) غاضرة قيس ـ قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ـ فذكره. فهذا الإسناد منقطع؛ لأن يحيى بن جابر لم يدرك جبير بن نفير، إنما يروي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عنه. لكن؛ جاءت رواية أخرى بإثبات " عبد الرحمن بن جبير بن نفير "، بينهما. فقد رواه: إسحاق بن إبراهيم بن العلاء ـ المعروف بـ " ابن زبريق " ـ، عن عمرو بن الحارث، عن عبد الله بن سالم، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن يحيى بن جابر الطائي، أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه، أن أباه حدث، أن عبد الله بن معاوية الغاضري حدثهم ـ فذكره. أخرجه: البخاري في " التاريخ الكبير " (3/1/31-32) والطبراني في " الكبير " ـ كما في " تحفة الأشراف " (7/171-172) ـ والفسوي في " المعرفة والتاريخ " (1/269) والبيهقي (4/95-96) . ¬

_ (¬1) " عن " بمعنى " من " أو تكون مصحفة من " من "

وهذه الرواية؛ لا تصلح للاحتجاج بها لإثبات ذكر " عبد الرحمن بن جبير بن نفير " في الإسناد؛ فإن ابن زبريق هذا ضعيف؛ بل قال الذهبي في " الميزان " (¬1) في ترجمة " عمرو بن الحارث ": " تفرد بالرواية عنه إسحاق ابن إبراهيم ـ زبريق ـ، ومولاة له اسمها علوة؛ فهو معروف العدالة، وابن زبريق ضعيف ". قلت: وأبو داود؛ إنما رجع إلى كتاب عبد الله بن سالم، والكتاب أتقن، فكيف إذا كان المخالف ضعيفاً، وقد حدث من حفظه؟! لكن؛ جاءت متابعة لعمرو بن الحارث على ذلك " عبد الرحمن بن جبير بن نفير " في الإسناد. فقد رواه: أبو التقي عبد الحميد بن إبراهيم، عن عبد الله بن سالم ـ بمثله. أخرجه: الطبراني في " الصغير (1/201) . وقال الطبراني: " لا يُروى هذا الحديث عن ابن معاوية إلا بهذا الإسناد، تفرد به الزبيدي، ولا نعرف لعبد الله بن معاوية الغاضري حديثاً مسنداً غير هذا ". وهذه المتابعة لا تنفع؛ لأمرين: الأول: أن أبا التقي هذا ضعيف جداً. الثاني: أنها راجعة إلى رواية ابن زبريق. ¬

_ (¬1) " الميزان " (3/251) .

فقد ذكر الأئمة أن تلك الأحاديث التي يرويها أبو التقي عن عبد الله بن سالم، إنما أخذها من كتاب ابن زبريق، وأنه لُقن إياها، ولم يكن يحفظ. قال أبو حاتم الرازي: " كان في بعض قرى حمص، لم أخرج إليه، وكان ذكر أنه سمع كتب عبد الله بن سالم الزبيدي، إلا أنها ذهبت كتبه، فقال: لا أحفظها، فأرادوا أن يعرضوا عليه، فقال: لا أحفظ، فلم يزالوا به حتى لان، ثم قدمتُ حمص بعد ذلك بأكثر من ثلاثين سنة، فإذا القوم يروون عنه هذا الكتاب، وقالوا: عُرض عليه كتاب ابن زبريق ولقنوه، فحدثهم بهذا، وليس هذا عندي بشيء؛ رجل لا يحفظ، وليس عند كتاب!! ". حكاه: ابن أبي حاتم عن أبيه في " الجرح والتعديل " (¬1) ، وحكى أيضاً نحوه عن محمد بن عوف الحمصي. فهذا؛ يدل على أن متابعة أبي التقي راجعة إلى رواية ابن زبريق، فلا متابعة، وابن زبريق قد عرفت حاله وحال روايته. وبهذا؛ لا يعتمد على الرواية الزائدة (¬2) . لكن؛ قال المزي في ترجمة " يحيى بن جابر الطائي " (¬3) : ¬

_ (¬1) " الجرح والتعديل " (3/1/8) . (¬2) ولأبي التقي حديث آخر، شأنه كشأن هذا، واغتر بعض الأفاضل فأثبت المتابعة بمقتضى روايته. راجع: " صحيح ابن حبان " (6761) و " الصحيحة " (1163) . (¬3) " تهذيب الكمال " (31/249) .

" روى عن جبير بن نفير، والصحيح: أن بينهما عبد الرحمن بن جبير بن نفير ". قلت:وهذه عادة جماعة من متأخري المحدثين: إذا كان الحديث قد اختلف في إثبات زيادة رجل في إسناده وإسقاطه، وكان الحديث بإسقاطه منقطعاً، ذهب إلى ترجيح إثبات الزيادة؛ ليسلم الحديث من الانقطاع، أو لأن الزيادة حينئذ تكون بمنزل تفسير المبهم؛ حيث قد تحققنا من وجود واسطة، لم تُذكر في الرواية الناقصة. وصنيع من تقدم من الحفاظ، يدل على خلاف ذلك، وأن ذلك ليس قاعدة مطردة، لاسيما مع اتحاد المخرج؛ فمع اتحاده يُلجأُ إلى الترجيح، لا إلى الجمع؛ فالتحقق من سقوط واسطة شيء، وتعيينها شيء آخر. ومثل صنيع المزي في هذا الحديث؛ ما صنعه بعض أهل العلم في حديث: الزهري عن سهل بن سعد في " الماء من الماء "؛ كما بينته في تعليقي على " فتح الباري " لابن رجب الحنبلي (1/381) . ومثله أيضاً؛ ما صنعه الإمام العلائي في حديث: ابن أبي ليلى، عن بلال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والخمار "؛ فقد رواه بعضهم، فزاد " كعب بن عجرة " بين ابن أبي ليلى وبلال، فقال العلائي (¬1) : " هو الصحيح ". وليس كذلك؛ بل الصحيح عدم ذكر أحد بينهما، وهذا ما ذهب إليه ¬

_ (¬1) " جامع التحصيل " (ص 276) .

أبو حاتم وأبو زرعة وابن عمار الشهيد (¬1) ؛ فالحديث منقطع؛ لأن ابن أبي ليلى لم يلق بلالاً. وقد يكون هذا التعيين المذكور في الرواية المزيدة من قِبَل بعد الرواة اجتهاداً منه؛ رأى أن ابن أبي ليلى إذا روى عن بلال فغالباً ما يكون بينهما " كعب بن عجرة "، فظن أن هذا من ذاك. ولعل مما يقوي ذلك؛ أن بعضهم زاد بينهما " البراء " بدلاً من " كعب "، فكل زاد ما أداه إليه اجتهاده. والله أعلم. *** وقد يكون الراوي ثقة، ولا يعرف بقبول التلقين، إلا أن نقاد الحديث، قد يستظهرون في حديث بعينه، أنه مما أُدخل على ذلك الثقة، فظنه من حديثه، فحدث به، وما هو من حديثه. مثال ذلك: إشارة البخاري إلى إعلال حديث " الجمع بن الصلاتين "، بأن قتيبة لما كتبه عن الليث كان معه خالد المدائني، وكان خالد يدخل الأحاديث على الشيوخ. كما في " المعرفة " للحاكم (ص 120 -121) (¬2) . ¬

_ (¬1) " علل الرازي " (12) , " علل أحاديث مسلم " لابن عمار الشهيد (ص 62-66) . (¬2) وراجع: مقدمة المعلمي على " الفوائد المجموعة " (ص 8) .

مثال آخر: ما ذكره أبو حامد ابن الشرقي في حديث أبي الأزهر، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري ـ الحديث في الفضائل. قال ابن الشرقي: " هذا باطل، والسبب فيه أن معمراً كان له ابن أخ رافضي، وكان معمر يمكنه من كتبه، فأدخل عليه هذا الحديث،وكان معمر مهيباً، لا يقدر أحد على مراجعته، فسمعه عبد الرزاق في كتاب ابن أخي معمر ". ولم يوافق الذهبي على ذلك، كما في " سير الأعلام " (9/575 - 576) , وإن كان هو يرى أن الحديث منكر ليس ببعيد عن الوضع، كما في " تلخيص المستدرك " (3/128) ، لكنه يحمل فيه على عبد الرزاق (¬1) . ¬

_ (¬1) راجع: ما تقدم في " فصل المنكر.. أبداً منكر "، حول هذا الحديث.

المتابعة.. والتقليد

المتابعة.. والتقليد وقد يروى الثقة حديثاً على الاستقامة والإصابة، فيخالفه فيه من هو أثبت منه وأتقن في الجملة، إلا أن هذا الأتقن أخطأ في هذا الحديث بعينه، فيترك ذاك الثقة ما عنده من الصواب، إلى ما عند غيره من الخطأ، تقليداً منه له، ظناً منه أنه الصواب، فيظهر وكأن هذين الثقتين قد تتابعا على الرواية، فيستبعد ما مثلهما أن يتفقا على الخطأ، وليس الأمر كذلك؛ بل رواية أحدهما راجعة إلى رواية الآخر، فلا متابعة، ولا تعدد. مثال ذلك: ما رواه: شعبة وأبو عوانة، عن مالك بن عرفطة، عن عبد خير عن عائشة، قالت: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأوعية ـ الحديث. قال أبو حاتم الرازي (¬1) : " كان شعبة يخطئ في اسم " خالد بن علقمة "، وكان أبو عوانة يقول: " خالد بن علقمة "، فقال شعبة: لم يكن بـ " خالد بن علقمة "، وإنما هو: " مالك بن عرفطة "، فلقنه الخطأ، وترك الصواب، وتلقن [ما] قال شعبة؛ لم يجسر أن يخالفه ". وقد اتفق علماء الحديث على أن شعبة ـ وكذا من تابعه ـ قد أخطأ ¬

_ (¬1) " علل الحديث " (1563) . وراجع: " تهذيب الكمال " (8/135-137) مع هامش محققه. و" الكامل " (3/1153) .

في اسم هذا الراوي، وأن الصواب في اسمه " خالد بن علقمة ". مثال آخر: حديث: يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس، عن أبي رزين ـ رجل من بني عقيل ـ، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءاً من النبوة، ما لم يحدث بها، فإذا حدث بها، فلا يحدث بها إلا حبيباً، أو لبيباً ". فقد اختلف الرواة في اسم والد وكيع هذا: فقال شعبة وهشيم: " وكيع بن عدس "؛ بالعين المهملة. وقال حماد بن سلمة وسفيان: " وكيع بن حدس " بالحاء المهملة. وجاء عن أبي عوانة الوجهان. قال الإمام أحمد: " أرى الصواب ما قال حماد وأبو عوانة وسفيان، وكان الخطأ عند ما قال هشيم وشعبة. وقال: هشيم كان يُتابع شعبة ". وقال أيضاً " هشيم يقول: " عدس " يتبع شعبة، وكان كثيراً ما يتبعه ". وكذلك قال غير واحد من الأئمة (¬1) . مثال آخر: روى: شعبة بن الحجاج، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت ¬

_ (¬1) راجع: " المنتخب من علل الخلال " (175) بتحقيقي.

حفص بن عاصم، قال: سمعت رجلاً من الأزد، يُقال له: مالك بن بحينة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً وقد أقيمت الصلاة يُصلي ركعتين ـ الحديث. قال الحافظ ابن حجر (¬1) : " قوله: " يُقال له مالك بن بحينة "، هكذا يقول شعبة في هذا الصحابي،وتابعه على ذلك: أبو عوانة وحماد بن سلمة، وحكم الحفاظ: يحيى بن معين، وأحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، والإسماعيلي، وابن الشرقي، والدارقطني، وأبو مسعود، وآخرون عليهم بالوهم فيه من موضعين: أحدهما: أن بحينة والدة عبد الله، لا مالك.، وثانيهما: أن الصحبة والرواية لعبد الله، لا لمالك ". وهكذا؛ قال ابن رجب الحنبلي في " شرح البخاري " (¬2) له، وحكى توهيمهم في ذلك أيضاً عن أبي زرعة، والترمذي، والبيهقي، وغيرهم. *** وبعض الرواة كان يتساهل في تحمل الحديث، يجلس في مجلس السماع، لا يكتب ولا يحفظ، ثم بعد انقضاء المجلس يأخذ كتاب غيره فيروي منه، متكلاً على سماع غيره، معتمداً على كتابه. وبطبيعة الحال؛ فإنه إذا كان ذلك الغير قد أخطأ في حديث ما، فإنه صادف موافقة ذلك المتساهل له فيه، فيظهر وكأنهما قد اتفقا على ذلك ¬

_ (¬1) في " الفتح " (2/149) . (¬2) " فتح الباري " له (4/69-70) .

الحديث، فيستبعد في مثله وقوع الخطأ؛ لاتفاق هذين عليه، وليس الأمر كذلك، بل رواية أحدهما راجعة إلى رواية الآخر (¬1) . مثال ذلك: روى: عبد الله بن المبارك، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن عبد الله بن صفوان، عن عبد الله بن يزيد، قال: كنا وقوفاً بعرفات، فجاء ابن مربع، فقال: كونوا على مشاعركم ـ الحديث. قال يعقوب الفسوي (¬2) : " فذكرت ذلك لصدقة بن الفضل. فقال: هذا من ابن المبارك؛ غَلِطَ فيه. قلت له: فإن علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعته من سفيان مثله؟ فقال صدقة: اتَّكَل على سماع غيره ". قلت: والمحفوظ عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية، عن يزيد بن شيبان، قال: أتانا ابن مربع الأنصاري ـ الحديث. أخرجه: أبو داود (1919) والترمذي (883) والنسائي (5/255) ¬

_ (¬1) انظر: " الكفاية " للخطيب (ص 237 - 238) . (¬2) في " المعرفة " (2/210-211) . وانظر " الإصابة " (5/219) .

وابن ماجه (3011) والفسوي (2/210) . *** وبعض الرواة؛ كان يُمكن غيره من كتبه، فيزيد هذا الغير في كتابه ما ليس منه؛ ثم يحدث صاحب الكتاب بما في الكتاب من غير أن يميز بين حديثه وبين ما ليس من حديثه. كما ذكروا ذلك في ترجمة: سفيان بن وكيع. وبعضهم؛ كانت قد ضاعت كتبه؛ فصار يحدث من كتب غيره، فوقع التخليط في حديثه؛ إذ ليس باللازم أن يكون في كتابه كل ما في كتاب غيره. وقد تقدم في " فصل: الشواهد.. وإسناد في إسناد "؛ قول الإمام أحمد في حديث: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم "، وأن محمد بن عبد الله الأنصاري المتفرد به، كانت ذهبت كتبه، فكان بعد يحدث من كتب غلامه أبي حكيم، وأن هذا الحديث من ذاك. وبالله التوفيق.

§1/1