الإخنائية أو الرد على الإخنائي ت زهوي

ابن تيمية

كلمات مضيئة

كلمات مضيئة قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65] وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: « ... عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار». حديث صحيح وقال المصنف- رحمه الله-: «الرّادّ على أهل البدع مجاهد، حتى كان يحيى بن يحيى يقول: الذّبّ عن السّنة أفضل من الجهاد». وقال: «ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبارات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحبّ إليك، أو يتكلّم في أهل البدع؟ فقال: إذا صام وصلّى واعتكف فإنّما هو لنفسه، وإذا تكلّم في أهل البدع فإنّما هو للمسلمين، هذا أفضل». «مجموع الفتاوى» (28/ 231).

مقدمة المحقق

بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدمة المحقق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1]. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد؛ فإن من تمام حفظ كتاب الله وحفظ سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، الذب والدفاع عنهما، ودفع كل ما يشوبهما. ولقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على هذا الأساس المتين، فحفظوا وصية نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، فحموا الكتاب والسنة من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهذا بفضل التربية التي رباها إياهم النبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم. ثم سار على هذا المنهج القويم من بعدهم تلاميذهم من التابعين وأئمة الدين. حتى ظهرت نابتة السوء، وبدأت رائحة المبتدعة تفوح؛ فظهر الخوارج المبتدعة الذين كفّروا عليا عليه السلام وحاربوه، ثم ظهر أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الحاقد، الذي ألّب الفتن، ونشر العقائد الفاسدة الباطلة. ثم توالت الفتن، وانتشرت البدع، وكثر المتكلّمون في دين الله بالباطل، كالجهمية الذين عطّلوا الصفات، والمتكلّمين الذين حرّفوا نصوص رب العالمين،

والفلاسفة المهوّسين، والمعتزلة والأشاعرة والمرجئة، وغيرهم من أصحاب المقالات المخالفة لهدي رسول رب العالمين. لكن مع هذا الشرّ المستطير؛ لم يندثر علماء أهل السنة والجماعة، علماء الطائفة المنصورة والفرقة الناجية؛ أهل الحديث والأثر، بل إنهم لكل هؤلاء كانوا بالمرصاد، فقابلوا الباطل بالحق، والجهل بالعلم، والبدعة بالسنة، والكذب بالصدق، والادّعاء بالحجة، وجرّدوا أهل الفتنة والبدعة من سلاحهم، وجاهدوهم بسلاح البيان والعلم، فناظروهم وناقشوهم، وألّفوا الردود على بدعهم وباطلهم، وأظهروا الحق والمحجة الواضحة. وكان من بين أولئك الأئمة العلماء الثقات الأمناء؛ شيخ الإسلام نادرة زمانه، المجدد أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني- رحمه الله-. فقد «قضى جلّ حياته في جهاد أهل الباطل والبدع؛ ببيانه الواضح، وقلمه السيّال، وإمكاناته العقلية الهائلة، وشجاعته النادرة، فأنتج كل ذلك هذه الثروة العظيمة من المؤلفات التي أعلى الله بها منار الحق، ودفع بها الباطل. وكان يركّز في أكثرها على أولئك المبتدعة- من صوفية وأشعرية- والذين يصرّون على الانتساب إلى أهل السنة والجماعة، ذلك الأسلوب الذي خدعوا به الأمة الإسلامية، فأوقعوا أجيالا منهم في أحضان البدع والخرافات المشينة ... لقد كانت كتابات وجهاد ومؤلفات شيخ الإسلام تركّز على فكر ومناهج وعقائد تلك الطوائف المعتزية إلى السنة والجماعة- وهي بعيدة عنها-؛ فألّف في هذا الميدان الكثير والكثير؛ مثل: «در تعارض العقل والنقل» و «بيان تلبيس الجهمية» وجانب كبير من فتاواه، وجانب كبير من كتابه «منهاج السنة» الذي ألّفه ردا على الروافض، ومثل «الحموية» و «الواسطية» و «التدمرية» و «التوسل والوسيلة» و «الرد على البكري» و «الرد على الأخنائي»، وغير هذه؛ مما صبّه حمما على هذه الأصناف الخطيرة ... » «1». ولا شك أن الردّ على المخالفين من المبتدعة وأهل الأهواء؛ فيه حماية للشريعة الغراء، وهو من أصول الاعتقاد، واتباع سير الأسلاف، وفيه قمع للمعاندين والمنافقين، وشدّ أزر الموحّدين، وإعلاء لمنهج سيد الأنبياء والمرسلين «2».

_ (1) من كلام العلامة السّلفي حامل لواء الجرح والتعديل؛ ربيع بن هادي المدخلي- سلّمه الله- في كتابه الماتع: «منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف» ص 102 - 103. بتصرف يسير. (2) ومن أراد الوقوف على أهمية الرد على أهل الأهواء فلينظر «الرد على المخالف من أصول الإسلام» للشيخ بكر أبو زيد.

وهذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم، هو ثمرة أحد هذه الجهود المباركة، التي قام بها شيخ الإسلام، فقد قام فيه بالرد على قاضي المالكية؛ محمد بن أبي بكر الأخنائي «1»، في مسألة زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتفريق في ذلك بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية. وهذه المسألة من المسائل الخطيرة والحسّاسة التي كثر فيها الكلام، وطال حولها النقاش، فمن متّبع لهدي النبيّين والسّلف الصالحين، ومن متّبع لطرق الغاوين المبتدعين، وسبل الشياطين. ولا شك أن مثل هذه المسائل محلّها التشريع، ونحن نؤمن ونعتقد أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، بيّن لنا الحقّ في هذه المسألة، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم مات ولم يترك لنا خيرا إلا دلّنا وأرشدنا عليه، وما من شر إلا وحذّر أمته منه. والمصنف رحمه الله قد بيّن بالأدلة الشرعية؛ من القرآن والسنة الصحيحة، وأقوال العلماء الثقات؛ الهدي الصحيح، والقول الحق المبين في هذه المسألة المهمة. واعلم- رحمني الله وإياك- أيها المسلم؛ أنه قد صنّف في هذه المسألة كتب ومصنفات كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: 1 - «زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور» للمصنف، وهي موجودة في «مجموع الفتاوى». 2 - «شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور» تأليف مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، نشر بمكتبة الباز بمكة المكرمة. 3 - «الصارم المنكي في الرد على السبكي» لابن عبد الهادي، نشر بمؤسسة الريان ببيروت. 4 - «تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد» لمحدث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله. 5 - «تنبيه زائر المدينة إلى الممنوع والمشروع في الزيارة» للعلامة صالح بن غانم السدلان- حفظه الله تعالى- نشر بدار بلنسية بالرياض. 6 - «أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة» للعلامة المحدث أحمد بن يحيى النجمي- حفظه الله ورعاه- نشر بمكتبة الغرباء الأثرية بالمدينة النبوية. وغيرها كثير.

_ (1) ترجمته في «الأعلام» (6/ 56).

منهجي في تحقيق الكتاب

منهجي في تحقيق الكتاب: 1 - تخريج الآيات القرآنية. 2 - تخريج الأحاديث النبوية وبيان درجتها. 3 - ضبط النص؛ بالرجوع إلى المصادر قدر الإمكان، مع العلم أن هذه الطبعة ضبطها من طبعة العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلّمي- رحمه الله- ولم أتمكن من الحصول على مخطوط للكتاب، وقد بذلت ما بقدرتي في ضبط النص، وقد أثبت تعليقات العلامة المعلمي في الهامش. 4 - ترجمت لبعض الأعلام الواردة، وعرّفت ببعض الفرق باختصار. 5 - صنعت فهارس علمية للكتاب. ملاحظة: لم أصنع ترجمة للمصنف- رحمه الله- لسببين اثنين: الأول: شهرته الكبيرة بين الخاصة والعامة. ثانيا: كثرة من ترجم له سواء في مقدمات كتبه المحققة، أو بتراجم مستقلة. وقد أخبرت أن الشيخ بكر أبو زيد ألف في ترجمته وسيرته ترجمة موسّعة على نسق الترجمة التي كتبها لابن القيم- رحمه الله-، لكن لم أوفّق للحصول عليها حتى الآن، فاللهم يسّر لي ذلك. هذا؛ وأسأل الله العليّ العظيم أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وأسأله حسن القبول، كما أسأله أن يوفقني لخدمة هذا الدين، وأن يثبتنا على الحق والصراط المستقيم. اللهم اغفر لي ولوالديّ ولجميع المسلمين، اللهم تجاوز عن سيئاتنا وتقبّل أعمالنا، واهدنا يا أرحم الراحمين، واجمع كلمة المسلمين على الحق والدين. اللهم صلّ على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما مزيدا. كتبه: أبو عبد الله العاملي السّلفي الداني بن منير آل زهوي- كان الله له- الجية؛ منطقة جبل لبنان العاشر من رمضان المبارك لعام إحدى وعشرين وأربعمائة وألف

مقدمة المؤلف

بسم الله الرّحمن الرّحيم [مقدمة المؤلف] الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلّم تسليما. بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا. وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدّقا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنا عليه. وأكمل له ولأمته الدين، وأتمّ عليهم النعمة، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس. وإن أعظم نعمة أنعم الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلّم كتاب الله الذي لا تفنى عجائبه، ولا يحاط بمعجزاته. وقد أوتي صلى الله عليه وسلّم هذا الكتاب ومثله معه من السنّة التي كان ينزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلّم كما كان ينزل بالقرآن فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن «1»، فالذي بلّغه للناس صلى الله عليه وسلّم من آيات ربه وما ثبت عنه في الصحيح من سنّته الشريفة ليس عن هوى النفس، كما أنه ليس من الظن كحال الذين هم له مخالفون، بل هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى [النجم: 4 - 12] أيها الجاهلون، وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ: 6] فهم له يتبعون. فلهذا كان أفضل الخلق وأقربهم من اتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلّم. وأضلهم وأشقاهم من كان أبعد عن ذلك، وهم الأخسرون. وقد يتفق من يكون فيه معرفة لبعض ما جاء به، لكن لم يتّبعه فيكون مشابها لليهود، ومن كان

_ (1) كما جاء في الأثر: «كان جبريل ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالسنة، كما ينزل بالقرآن، يعلمه إياها كما يعلمه القرآن». أخرجه الدارمي في «سننه» (1/ 153/ 588) وأبو داود في «المراسيل» ص 361 رقم (536) والبغدادي في «الفقيه والمتفقه» (1/ 266 - 267/ 268 - 270) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (1/ 93/ 99) وابن نصر المروزي في «السنة» (28، 116). من طريق: الأوزاعي عن حسان بن عطية مرسلا. وقال الحافظ في «فتح الباري» (3/ 350): «أخرجه البيهقي بسند صحيح». وصحّح إسناده العلامة الألباني- رحمه الله- في كتاب «الإيمان» لشيخ الإسلام ص 36.

يخالف ما جاء به جهلا وضلالا كان كالنصارى؛ الذين هم في دينهم يغلون، والله هو المسئول أن يجعلنا وإخواننا من عباده الذين هم بكتاب الله يهتدون، وبرسول الله يؤمنون، وبحبل الله معتصمون، ولأولياء الله يوالون، ولأعدائه يعادون، وفي سبيله يجاهدون، ولطريقي المغضوب عليهم والضالين يجتنبون، وللسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان يتّبعون. أما بعد: فإن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق، وفرّق به بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، وبين الغيّ والرشاد، وبين طريق الجنة وطريق النار، وبين أوليائه وأعدائه، وبين المعروف والمنكر والخبيث والطيب، والحلال والحرام ودين الحق والباطل. فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرّمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله. وليس لأحد من الثقلين الإنس والجن سبيل إلى رضى الله وكرامته ورحمته إلا بالإيمان بمحمد واتّباعه، فإن الله أرسله برسالة عامة إلى جميع الثقلين الجن والإنس في جميع أمور الدين الباطنة والظاهرة بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان إلى علمائهم وعبّادهم وملوكهم وسوقتهم، فليس لأحد وإن عظم علمه وعبادته وملكه وسلطانه أن يعدل عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى ما يخالفه في شيء من الأمور الدينية؛ باطنها وظاهرها، وشرائعها وحقائقها، بل على جميع الخلق أن يتّبعوه ويسلّموا لحكمه. قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65]، وقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] الآية، وقال تعالى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [يونس: 10] كما قال في سورة البقرة: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة: 213] الآية. وفي صحيح مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» «1». وقد علق «2» سبحانه بطاعته، فقال في ذمّ المنافقين: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إلى قوله: فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ إلى قوله: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور: 47 - 54].

_ (1) أخرجه مسلم (770). (2) كذا بالأصل وفي نسخة الشيخ المعلمي: [وقد علق سبحانه بطاعته [الفوز].

وهذا الأصل متفق عليه بين كل من آمن به الإيمان الواجب الذي فرضه الله على الخلق، وكل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]. وهذا تبيين لقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102]. قال ابن مسعود: «حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر» «1». لكن الأمر مشروط بالاستطاعة كما بينه في قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. فقد يخفى على الإنسان بعض سنة الرسول وأمره مع اجتهاده في طاعته، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر». أخرجاه في الصحيحين «2». وقد يقول الرجل ويحكم بغير علم فيأثم على ذلك كما يأثم إذا قال بخلاف ما يعلمه من الحق، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار» «3». وقد ذمّ الله القول بغير علم ونهى عنه في غير موضع من كتابه. قال تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] وقال تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ [الأعراف: 33] الآية وقال تعالى عن الشيطان: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 169] وقال فيها يخاطب به أهل الكتاب: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران: 66] الآية. وقال: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ [الأعراف: 169]. وقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ [النساء: 171]. وجعل العامل بغير علم كاذبا والصادق هو الذي يتكلم بعلم، فقال تعالى: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الأنعام: 143] وقال تعالى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

_ (1) أخرجه الحاكم (2/ 294) والطبراني في «المعجم الكبير» (9/ 92/ 8501 - 8502) وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» (1/ 505) وابن الجوزي في «نواسخ القرآن» رقم (93) - بتحقيقي-، وغيرهم. من طريق: زبيد اليامي، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود موقوفا. وقال الهيثمي في «المجمع» (6/ 326): «رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح، والآخر ضعيف». وصحّح إسناده موقوفا؛ الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (1/ 505). (2) أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716). (3) أخرجه أبو داود (3573) والترمذي (1322) والنسائي في «الكبرى» (3/ 462/ 5922) وابن ماجه (2315) والحاكم (4/ 90) والبيهقي (10/ 116) والطبراني في «المعجم الكبير» (2/ 20 - 21، 1154 - 1156). من طرق: عن عبد الله بن بريدة عن أبيه؛ بريدة بن الحصيب. والحديث صحيح بمجموع طرقه كما تجده في «الإرواء» (2614).

مدار الدين على توحيد الله تعالى

[البقرة: 111]. لا سيما أهل الشرك فإنه وصفهم بالإفك مع الشرك، وقرن الكذب بالشرك كما قرن الصدق بالإخلاص، ولهذا يقرن بين المنافقين أهل الكذب وبين المشركين في مثل قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ إلى قوله: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً [الفتح: 4 - 6]. وقال تعالى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ [الحج: 30، 31]. وقال عن أهل الكهف: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ [الكهف: 15] الآية. وقال عن الخليل: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [العنكبوت: 17]. وقال لأبيه وقومه: ماذا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصافات: 85، 86] ومثل هذا مذكور في غير موضع من القرآن. وكثير من الناس يقع في الشرك والإفك جهلا وضلالا من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع. [مدار الدين على توحيد الله تعالى] والله سبحانه وتعالى قد أرسل جميع رسله وأنزل جميع كتبه بأن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، لا يعبد معه لا ملك ولا نبيّ ولا صالح، ولا تماثيلهم ولا قبورهم، ولا شمس ولا قمر ولا كوكب، ولا ما صنع من التماثيل لأجلهم ولا شيء من الأشياء، وبيّن أن كل ما يعبد من دونه فإنه لا يضر ولا ينفع، وإن كان ملكا أو نبيا، وأن عبادته كفر، فقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا إلى قوله: مَحْذُوراً [الإسراء: 56، 57] بيّن سبحانه أن كل ما يدعى من دونه من الملائكة والجن والإنس لا يملكون كشف الضرّ ولا تحويله، وأن هؤلاء المدعوون «1» من الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه، وكذلك كان قوم من الإنس يعبدون رجالا من الجن فآمنت الجن المعبودون، وبقي عابدوهم يعبدونهم، كما ذكر ذلك ابن مسعود «2». وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ إلى قوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 22، 23]. بيّن سبحانه أن كل ما يدعى من دونه من الملائكة والبشر وغيرهم ليس لهم مثقال ذرة في السماوات والأرض، ولا لهم نصيب فيهم، وليس لله نظير يعاونه من خلقه، وهذه الأقسام الثلاثة هي التي تحصل مع المخلوقين؛ إما أن يكون لغيره ملك دونه، أو يكون شريكا له، أو يكون معينا وظهيرا له. والربّ تعالى ليس له من خلقه مالك ولا شريك ولا ظهير. لم يبق إلا الشفاعة؛ وهو دعاء الشافع وسؤاله لله في المشفوع له. فقال تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. ثم إنه خصّ بالذكر الملائكة

_ (1) كذا، والصواب: المدعوين. (2) انظر «صحيح البخاري» (4714 - 4715) و «صحيح مسلم» (3030).

والأنبياء في قوله: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ إلى قوله: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 79، 80]. بيّن أن اتخاذهم أربابا كفر، وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ إلى قوله: وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة: 72 - 76]. فقد بيّن أن من دعا المسيح وغيره فقد دعا ما لا يملك له ضرا ولا نفعا، وقال لخاتم الرسل: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام: 50]. وقال: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188]. وقال: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [يونس: 49]. وقال: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً [الجن: 21]. وقال: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [آل عمران: 127، 128]. وقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56]. وقال: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ [النحل: 37].

فصل [الكلام على الكتاب المردود عليه]

فصل [الكلام على الكتاب المردود عليه] قد أرسل إليّ بعض أصحابنا جزءا أخبر أنه صنفه بعض القضاة قد تكلم في المسألة التي انتشر الكلام فيها؛ وهي السفر إلى غير المساجد الثلاثة، كالسفر إلى زيارة القبور هل هو محرم أو مباح أو مستحب؟ وهي المسألة التي أجبت فيها من مدّة بضع عشرة سنة بالقاهرة، فأظهرها بعض الناس في هذا الوقت ظنا أن الذي فيها خلاف الإجماع، وأن السفر لمجرّد قبور الأنبياء والصالحين هو مثل السفر المستحب بلا نزاع، وهو السفر إلى مسجد نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم المتضمن لما شرعه الله من السفر إلى مسجده والصلاة فيه والسلام عليه، ومحبته وتعظيمه، وغير ذلك من حقوقه صلى الله عليه وسلّم في مسجده المؤسس على التقوى، المجاور لقبره صلى الله عليه وسلّم، وظنوا أن السفر، إلى زيارة قبور جميع الأنبياء والصالحين مستحبّ مجمع على استحبابه مثل هذا السفر المشروع بالنصّ وإجماع المسلمين إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلّم، سواء سافر مع حج البيت أو بدون حجّ البيت، فإن هذا السفر المشروع إلى مدينته بالنص والإجماع لا يختص بوقت الحج، فإن المسلمين على عهد خلفائه الراشدين كانوا يحجّون ويرجعون إلى أوطانهم، ثم ينشئ السفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم من ينشئه، لأنه عبادة مستقلة بنفسها كالسفر إلى بيت المقدس، والسفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم أفضل من السفر إلى المسجد الأقصى بالنص والإجماع. فظن من ظن أن السفر المشروع هو لمجرّد القبر لا لأجل المسجد، وأن المسجد يدخل ضمنا وتبعا في السفر، وأن قبور سائر الأنبياء كذلك، أو أن المسافرين لمجرد القبور سفرهم مشروع كالسفر إلى المساجد الثلاثة، ومن الناس من ظن أنه أفضل من السفر إلى المساجد الثلاثة، حتى صرحوا بأنه أفضل من الحجّ، وأن الدّعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من الدعاء في المسجد الحرام ومسجد الرسول وعرفة ومزدلفة ومنى، وغير ذلك من المساجد والمشاعر التي أمر الله ورسوله بالعبادة فيها، والدعاء والذكر فيها، وظنّ من ظنّ أن هذا مجمع عليه، وأن من قال السفر لغير المساجد الثلاثة سواء كان لقبر نبي أو غير نبي، منهي عنه أو أنه مباح ليس بمستحب فقد خالف الإجماع، وليس معهم بما ظنوه نقل عن أحد من أئمة الدين الذين لهم في الأمة لسان

المردود عليه عنده شيء من الدين لكن مع جهل وسوء فهم

صدق، ولا حجة من كتاب الله ولا سنة رسوله، بل الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة المشهورون وغيرهم على خلاف ما ظنوه، فإجماع أهل العلم الذين تحكى أقوالهم في مسائل الإجماع والنزاع هو على خلاف ما ظنه الغالطون إجماعا وجرت في ذلك فصول. لكن المقصود هنا أنه أرسل إليّ ما كتبه هذا القاضي وأقسم بالله عليّ أن أكتب عليه شيئا ليظهر للناس جهل مثل هؤلاء الذين يتكلمون في الدين بغير علم، وذلك أنهم رأوا في كلامه من الجهل والكذب والضلال ما لا يظن أن يقع فيه آحاد العلماء الذين يعرفون ما يقولون فكيف بمن سمّي: «قاضي القضاة» «1»! [المردود عليه عنده شيء من الدين لكن مع جهل وسوء فهم] ورأيت كلامه يدل على أن عنده نوعا من الدين، كما عند كثير من الناس نوع من الدين، لكن مع جهل وسوء فهم وقلة علم، حتى قد يجهل دين الرسول الذي هو يؤمن به ويكفّر من قال بقول الرسول وصدّق خبره وأطاع أمره، وقد يجهل أحدهم مذهبه الذي انتسب إليه، كما قد يجهل مذهب مالك وغيره من أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، فإن هذه المسألة التي فيها النزاع وهي التي أجبت فيها وإن كانت في كتب أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وقد ذكروا القولين. وأبو حنيفة مذهبه في ذلك أبلغ من مذهب الشافعي وأحمد، فهي في كلام مالك وأصحابه أكثر، وهي موجودة في كتبهم الصغار والكبار، ومالك نفسه نص على قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم بخصوصه أنه داخل في هذا الحديث، بخلاف كثير من الفقهاء، فإن كلامهم عام، لكن احتجاجهم بالحديث وغيره يبين أنهم قصدوا العموم، وكذلك بيانهم لمأخذ المسألة يقتضي العموم. فهذا المعترض وأمثاله لا عرفوا ما قاله أئمتهم وأصحاب أئمتهم، ولا ما قاله بقية علماء المسلمين، ولا عرفوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وسنة خلفائه الراشدين، ولا ما كان يفعله الصحابة والتابعون لهم بإحسان. ونقل هذا المعارض عن الجواب ما ليس فيه، بل المعروف المتواتر عن المجيب في جميع كتبه وكلامه بخلافه، وليس في الجواب ما يدلّ عليه بل على نقيض ما قاله. وهذا إما أن يكون عن تعمّد للكذب، أو عن سوء فهم مقرون بسوء الظن وما تهوى الأنفس، وهذا أشبه الأمرين به، فإن من الناس من يكون عنده نوع من الدين؛ لكن مع جهل عظيم، فهؤلاء يتكلم أحدهم بلا علم؛ فيخطئ، ويخبر عن الأمور بخلاف ما هي عليه خبرا غير مطابق، ومن تكلم في الدين بغير الاجتهاد المسوغ له الكلام وأخطأ فإنه كاذب آثم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الذي في السنن عن

_ (1) انظر حول تسمية (قاضي القضاة) «معجم المناهي اللفظية» للشيخ بكر أبو زيد ص 195 - 196.

بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة؛ رجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة». فهذا الذي يجهل وإن لم يتعمد خلاف الحق فهو في النار، بخلاف المجتهد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر». فهذا جعل له أجرا مع خطئه، لأنه اجتهد فاتقى الله ما استطاع، بخلاف من قضى بما ليس له به علم وتكلم بدون الاجتهاد المسوّغ له الكلام؛ فإن هذا كما في الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» وفي رواية: «بغير علم» «1». وفي حديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار» «2». وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالما؛ اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا؛ فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلّوا» «3» وفي رواية للبخاري: «فأفتوا برأيهم». وهذا بخلاف المجتهد الذي اتقى الله ما استطاع وابتغى طلب العلم بحسب الإمكان، وتكلم ابتغاء وجه الله، وعلم رجحان دليل على دليل، فقال بموجب

_ (1) أخرجه أحمد (1/ 233، 269، 323، 327) والترمذي (2950، 2951) والنسائي في «الكبرى» (5/ 31/ 8084 - 8085) وأبو يعلى في «مسنده» (4/ 458/ 2585) والطبراني في «المعجم الكبير» (12/ 28/ 12392) وابن بطة في «الإبانة» (799، 805). من طرق: عن عبد الأعلى بن عامر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا. وقال الهيثمي في «المجمع» (1/ 163): «رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير .. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح»!! وصحّحه الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (7/ 643/ 3348) - قرطبة-. لكن الإسناد ضعيف؛ فيه عبد الأعلى بن عامر، ضعّفه أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وابن معين وغيرهم. انظر «تهذيب التهذيب» (2/ 464). والحديث ضعّفه العلامة أحمد شاكر في تحقيقه على «المسند» (2069) والعلامة الألباني في «المشكاة» (234). (2) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (80) وأبو داود (3652) والترمذي (2952) والنسائي في «الكبرى» (5/ 31/ 8086) وأبو يعلى في «مسنده» (3/ 90/ 1520) وفي «المفاريد» (32) والطبراني في «المعجم الكبير» (2/ 163/ 1672) وابن عدي في «الكامل» (3/ 1288) وابن بطة في «الإبانة» (798، 806). من طرق: عن سهيل بن أبي حزم، حدّثنا أبو عمران الجوني، عن جندب بن سمرة مرفوعا. وقال الترمذي: «وقد تكلّم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم». قلت: سهيل بن أبي حزم القطعي؛ ضعفه أحمد والبخاري وأبو حاتم وغيرهم. والحديث ضعّفه الألباني- رحمه الله- في «المشكاة» (235). (3) أخرجه البخاري (100، 7037) ومسلم (2673). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

التحذير من الكلام في دين الله بغير علم

الراجح، فهذا مطيع لله مأجور أجرين إن أصاب، وإن أخطأ أجرا واحدا. ومن قال: كل مجتهد مصيب بمعنى أنه مطيع لله فقد صدق، ومن قال: المصيب لا يكون إلا واحدا، وإن الحق لا يكون إلا واحدا ومن لم يعلمه فقد أخطأ، بمعنى أنه لم يعلم الحق في نفس الأمر فقد صدق، كما بسط هذا في مواضع. [التحذير من الكلام في دين الله بغير علم] والمقصود: أن من تكلم بلا علم يسوغ، وقال غير الحق فإنه يسمى كاذبا، فكيف بمن ينقل عن كلام موجود خلاف ما هو فيه مما يعرف كلّ من تدبر الكلام أن هذا نقل باطل؟ فإن مثل هذا كذب ظاهر، والأول على صاحبه إثم الكذب ويطلق عليه الكذب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «كذب أبو السنابل» «1». وكما قال لما قيل له: إنهم يقولون إن عامرا بطل عمله، قتل نفسه. فقال: «كذب من قال ذلك» «2». وكما قال عبادة: «كذب أبو محمد» لما قال الوتر واجب «3». وقال ابن عباس:

_ (1) قال العلامة المعلمي- رحمه الله-: «في قصة سبيعة الأسلمية لما مات زوجها، فوضعت حملها وتهيأت للخاطبين، فأنكر عليها أبو السنابل، وقال: حتى تعتدّي أربعة أشهر وعشرا. فسألت النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: «كذب أبو السنابل» والقصة في الصحيحين وغيرهما. وأبو السنابل هو: ابن بعك، اسمه حبة أو عمرو، وقيل غير ذلك: اه. من «الإصابة في معرفة الصحابة» بترجمة أبي السنابل. قلت: والقصة أخرجها البخاري برقم (5318) ومسلم برقم (1484) وأحمد (1/ 447) واللفظ له. (2) أخرجه أحمد ضمن قصة طويلة (4/ 51 - 52). (3) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 78/ 14) وأحمد (5/ 315 - 316، 319 - 322) وأبو داود (1420) والنسائي (1/ 230) وابن ماجه (1401) وابن حبان (5/ 21/ 1731 و6/ 174/ 2417) والحميدي في «مسنده» 1/ 191/ 388) والدارمي في «سننه» (1/ 446 - 447/ 1577) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (2/ 296) وابن أبي عاصم في «السنة» (967) وعبد الرزاق في «مصنفه» (3/ 5/ 4575) والبيهقي في «سننه» (1/ 461 و2/ 467). من طرق: عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن رفيع- أو أبي رفيع- المخدجي أنه قال: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت، فقال: يا أبا الوليد، إني سمعت أبا محمد الأنصاري يقول: الوتر واجب. فقال عبادة: كذب أبو محمد؛ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «خمس صلوات كتبهن الله على عباده .. الحديث». وهذا إسناد ضعيف؛ أبو رافع المخدجي مجهول، لم يوثقه غير ابن حبان. لكنه توبع؛ تابعه عبد الله بن الصنابحي عند أحمد (5/ 217) وأبي داود (425) والبيهقي (2/ 215). من طريق: محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله الصنابحي، عن عبادة به. ولكن وقع عند البيهقي: عن أبي عبد الله الصنابحي. وهو الصواب، وأبو عبد الله الصنابحي هو: عبد الرحمن بن عسيلة المرادي. وانظر: «تهذيب التهذيب» (2/ 462 - 463، 533) وتحقيق العلامة أحمد شاكر على «الرسالة» للشافعي ص 217 وما بعدها. وتابعه أيضا: أبو إدريس الخولاني عند الطيالسي (573). فالحديث صحيح بهاتين المتابعتين. وقد صححه الشيخ الألباني في «ظلال الجنة» (967).

«كذب نوف» لما قال: إن موسى صاحب بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر «1»، ومثل هذا كثير. فإذا كان هذا الخبر الذي ليس بمطابق يسمّى كذبا فما هو كذب ظاهر أولى، ومثل هذا إذا حكم بين الناس بالجهل فهو أحد القضاة الثلاثة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلّم: «القضاة ثلاثة؛ قاضيان في النار وقاض في الجنة؛ رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار». وإن قيل فيه: قد يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له، فحكمه الذي أخطأ فيه وخالف فيه النص والإجماع باطل باتفاق العلماء، وكذلك حكم من شاركه في ذلك. وكلام هذا وأمثاله يدلّ على أنهم بعيدون عن معرفة الصواب في هذا الباب، كأنهم غرباء عن دين الإسلام في مثل هذه المسائل لم يتدبّروا القرآن ولا عرفوا السنن ولا آثار الصحابة ولا التابعين ولا كلام أئمة المسلمين، وفي مثل هؤلاء قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» «2». فشريعة الإسلام في هذا الباب غريبة عند هؤلاء لا يعرفونها، فإن هذا وأمثاله لو كان عندهم علم بنوع من أنواع الأدلة الشرعية في هذا الباب لوزعهم ذلك عما وقعوا فيه من الضلال والابتداع ومخالفة دين المرسلين، والخروج عما عليه جميع أئمة الدين، مع ما فيه من الافتراء على الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم وعلى علماء المسلمين وعلى المجيب. والاستدلال على ما ذكروه بما لا يصلح أن يكون دليلا؛ إما حديث صحيح لا يدل على المطلوب وإما خبر معتل مكذوب، والمستدلّ بالحديث عليه أن يبين صحته ويبين دلالته على مطلوبه. وهذا المعترض لم يجمع في حديث واحد بين هذا وهذا، بل إن ذكر حديثا صحيحا لم يكن دالا على محل النزاع، وإن أشار إلى ما يدل؛ لم يكن ثابتا عند أهل العلم بالحديث الذين يعتد بهم في الإجماع والنزاع. فأما ما فيه من الافتراء والكذب على المجيب فليس المقصود الجواب عنه وله أسوة أمثاله من أهل الإفك والزور، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [النور: 11]. بل المقصود الانتصار لله ولكتابه ولرسوله ولدينه، وبيان جهل الجاهل الذي يتكلم في الدين بالباطل وبغير علم. فأذكر ما يتعلق بالمسألة وبالجواب. وليس المقصود أيضا العدوان

_ (1) انظر «صحيح البخاري» (4725). (2) الحديث مروي عن جمع من الصحابة، منهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وأبو هريرة، وسهل بن سعد الساعدي، وعمرو بن عوف، وجابر بن عبد الله، وغيرهم. وهو عند مسلم (146) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

على أحد لا المعترض ولا غيره، ولا بخس حقه، ولا تخصيصه بما لا يختص به، بما يشركه فيه غيره، بل المقصود الكلام بموجب العلم والعدل والدين، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8]. وليس أيضا المقصود ذم شخص معين، بل المقصود بيان ما يذمّ وينهى عنه ويحذر عنه من الخطأ والضلال في هذا الباب، كما كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «ما بال رجال يقولون أو يفعلون كذا» «1». فيذم ذلك الفعل ويحذر عن ذلك النوع، وليس مقصوده إيذاء شخص معيّن. ولكن لما كان هذا صنّف مصنفا وأظهره وشهره؛ لم يكن بد من حكاية ألفاظه والردّ عليه وعلى من هو مثله ممن ينتسب إلى علم ودين، ويتكلم في هذه المسألة بما يناقض دين المسلمين، حيث يجعل ما بعث الله به رسوله كفرا، وهذا رأس هؤلاء المبدّلين، فالرد عليه ردّ عليهم.

_ (1) أخرجه أبو داود (4788) والبيهقي في «دلائل النبوة» (1/ 237). وهو حديث صحيح، انظر «السلسلة الصحيحة» (2064).

فصل [بداية الرد على المعترض]

فصل [بداية الرد على المعترض] قال المعترض: «أما بعد؛ فإن العبد لما وقف على الكلام المنسوب لابن تيمية المنقول عنه من نسخة فتياه ظهر لي- من صريح ذلك القول وفحواه- مقصده السيئ ومغزاه، وهو تحريم زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور والسفر إليها ودعواه أن ذلك معصية محرمة مجمع عليها». فيقال: هذا الكلام مع قلته فيه من الكذب الباطل، والافتراء ما يلحق صاحبه بالكذّابين المردودي الشهادة، أو الجهال البالغين في نقص الفهم والبلادة. وكان ينبغي له أن يحكي لفظ المجيب بعينه ويبين ما فيه من الفساد، وإن ذكر معناه فيسلك طريق الهدى والسداد. فأما أن يذكر عنه ما ليس فيه ولا يذكر ما فيه فهذا خروج عن الصدق والعدل إلى الكذب والظلم. وذلك أن الجواب ليس فيه تحريم زيارة القبور البتة، لا قبور الأنبياء والصالحين ولا غيرهم، ولا كان السؤال عن هذا، وإنما فيه الجواب عن السفر إلى القبور، وذكر قوليّ العلماء في ذلك. والمجيب قد عرفت كتبه، وفتاويه مشحونة باستحباب زيارة القبور، وفي جميع مناسكه، يذكر استحباب زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد، ويذكر زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه وسلّم إذا دخل مسجده، والأدب في ذلك، وما قاله العلماء، وفي نفس الجواب قد ذكر ذلك ولم يذكر قط أن زيارة القبور معصية، ولا حكاه عن أحد، بل كان يعتقد حين كتب هذا الجواب؛ أن زيارة القبور مستحبّة بالإجماع، ثم رأى بعد ذلك فيها نزاعا وهو نزاع مرجوح، والصحيح أنها مستحبة، وهو في هذا الجواب إنما ذكر القولين في السفر إلى القبور، وذكر أحد القولين أن ذلك معصية، ولم يقل إن هذا معصية محرمة مجمع عليها، لكن قال: إذا كان السفر إليها ليس للعلماء فيه إلا قولان: قول من يقول إنه معصية، وقول من يقول إنه ليس بمحرّم؛ بل لا فضيلة فيه وليس بمستحب، فإذن من اعتقد أن السفر لزيارة قبورهم أنه قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع، وإذا سافر لاعتقاده أن ذلك طاعة كان ذلك محرما بالإجماع. فهذا الإجماع حكاه لأن علماء المسلمين الذين رأينا أقوالهم اختلفوا في قوله: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام،

ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» «1». هل هو تحريم لذلك أو نفي لفضيلته على قولين، وعامة المتقدمين على الأول مع اتفاقهم على أن هذا يتناول السفر إلى القبور. فإن الصحابة والتابعين والأئمة لم يعرف عنهم نزاع في أن السفر إلى القبور وآثار الأنبياء داخل في النهي، كالسفر إلى الطور الذي كلّم الله عليه موسى وغيره، وإن كان الله سمّاه الوادي المقدّس وسمّاه البقعة المباركة ونحو ذلك، فلم يعرف عن الصحابة نزاع أن هذا وأمثاله داخل في نهي النبيّ صلى الله عليه وسلّم عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة، كما لم يعرف عنهم نزاع أن ذلك منهيّ عنه، وأن قوله: «لا تشدّ الرحال» نهي بصيغة الخبر، كما قد جاء في الصحيح بصيغة النهي، من حديث أبي سعيد الخدريّ عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تشدّوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» «2». فالصحابة ومن تبعهم لم يعرف عنهم نزاع أن هذا نهي منه، فإن لفظه صلى الله عليه وسلّم صريح في النهي، ولم يعرف عنهم نزاع أن النهي متناول للسفر إلى البقاع المعظمة غير المساجد، سواء كان النهي عنها بطريق فحوى الخطاب، وأنه إذا نهى عن السفر إلى مسجد غير الثلاثة؛ فالنهي عن السفر إلى ما ليس بمسجد أولى، أو كان بطريق شمول اللفظ، فالصحابة الذين رووا هذا الحديث بينوا عمومه لغير المساجد، كما في الموطأ والمسند والسنن عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة: من أين أقبلت؟ قال: من الطّور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجت. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «لا تعمل المطيّ إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، وإلى مسجدي هذا، وإلى مسجد إيليا»، أو قال: «بيت المقدس» «3». وقال أبو زيد عمر بن شبّة النميري «4»، في كتاب «أخبار المدينة النبوية» «5»: حدّثنا هشام بن عبد الملك، حدّثنا عبد الحميد بن بهرام، حدّثنا شهر بن حوشب، سمعت أبا سعيد

_ (1) حديث صحيح متواتر، مروي عن جمع من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهم. وانظر تخريج الحديث في «إرواء الغليل» (773). (2) أخرجه البخاري (1188، 1197، 1864، 1995) ومسلم (827) من حديث أبي سعيد الخدري. (3) أخرجه مالك في «الموطأ» 5 - كتاب الجمعة. (7) باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة (1/ 68/ 16) وأحمد (6/ 7) والنسائي (3/ 114) بإسناد صحيح. (4) هو: عمر بن شبّة بن زيد النميري البصري، نزيل بغداد، ولد سنة ثلاث وسبعين ومائة، وتوفي سنة اثنتين وستين ومائتين. كان من رواة التاريخ والحفاظ للحديث. انظر «تاريخ بغداد» (11/ 208) و «سير أعلام النبلاء» (12/ 369). (5) هذا هو الصواب في اسم الكتاب، لا كما جاء على لوحة الكتاب المطبوع «تاريخ المدينة» وقد حقّق هذا الشيخ بكر أبو زيد في «طبقات النسابين» ص 66. والشيخ مشهور بن حسن آل سلمان في «كتب حذر منها العلماء» (1/ 57).

الخدريّ؛ وذكر عنده الصلاة في الطول فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا ينبغي للمطيّ أن تشدّ رحالها إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» «1». فهذا فيه أنه رواه بلفظ مسجد، وبيّن أن النهي متناول للطور وإن لم يكن مسجدا بطريق الأولى، فإن الذين يقصدون الطور ومثله لا يقصدونه لأنه مسجد، بل ولم يكن هناك قرية يتخذ المسلمون فيها مسجدا، وبناء المسجد حيث لا يصلّى فيه بدعة، وإنما يقصدونه لشرف البقعة، فعلم أن النهي عن المساجد نهي عن غيرها بطريق الأولى. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أحبّ البقاع إلى الله المساجد» «2». فإذا كان قد حرم السفر إلى أحبّ البقاع إلى الله، غير الثلاثة؛ فما دونها في الفضيلة أولى أن ينهى عنه كما قال الصحابة، ومنهم أيضا ابن عمر. قال أبو زيد: حدّثنا ابن أبي الوزير، حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طلق، عن قزعة قال: أتيت ابن عمر فقلت: إني أريد الطور. فقال: «إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور فلا تأته». لكن طائفة من المتأخرين قالوا: ليس هذا نهيا بل هو نفي لاستحباب السفر إلى غير الثلاثة ونفي لوجوب السفر بالنذر إلى غير الثلاثة. وهؤلاء يقولون: إن الحديث عام في السفر إلى قبور الأنبياء وآثارهم وغير ذلك. وقال ابن حزم الظاهري: السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة حرام. وأما السفر إلى آثار الأنبياء فذلك مستحبّ، ولأنه ظاهريّ لا يقول بفحوى الخطاب وهو إحدى الروايتين عن داود الظاهري؛ فلا يقول إن قوله: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ [الإسراء: 23] يدل على النهي عن الضرب والشتم، ولا أن قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء: 31]. يدل على تحريم القتل مع الغنى واليسار، وأمثال ذلك مما يخالفه فيه عامة علماء المسلمين، ويقطعون بخطإ من قال مثل ذلك، فينسبونه إلى عدم الفهم ونقص العقل، ومع هذا فلم أجده ذكر ذلك إلا في آثار الأنبياء لا في القبور. وأما السفر إلى مجرد زيارة القبور؛ فما رأيت أحدا من علماء المسلمين قال إنه مستحب، وإنما تنازعوا هل هو منهي عنه أو مباح، وهذا الإجماع والنزاع لم يتناول المعنى الذي أراده العلماء بقولهم: يستحبّ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا إطلاق القول بأنه

_ (1) الحديث أخرجه أحمد (3/ 64، 93) من طريق: عبد الحميد بن بهرام الحماني، حدّثني شهر بن حوشب، قال: سمعت أبا سعيد الخدري .. وذكره. وإسناده ضعيف، عبد الحميد الحماني وشهر بن حوشب فيهما كلام. لكن الحديث له شواهد يصحّ بها، انظرها في «إرواء الغليل» (773). (2) أخرجه مسلم (671) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها».

يستحب السفر لزيارة قبره كما هو موجود في كلام كثير منهم، فإنهم يذكرون الحج ويقولون يستحب للحاج أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلّم. ومعلوم أن هذا إنما يمكن مع السفر، لم يريدوا بذلك زيارة القريب، بل أرادوا زيارة البعيد، فعلم أنهم قالوا يستحب السفر إلى زيارة قبره؛ لكن مرادهم بذلك هو السفر إلى مسجده، إذ كان المصلون والزوار لا يصلون إلا إلى مسجده لا يصل أحد إلى قبره ولا يدخل إلى حجرته. ولكن قد يقال: هذا في الحقيقة ليس زيارة لقبره، ولهذا كره من كره من العلماء أن يقال زرت قبره، ومنهم من لم يكرهه. والطائفتان متّفقون على أنه لا يزار قبره كما تزار القبور بل إنما يدخل إلى مسجده. وأيضا فالنية في السفر إلى مسجده وزيارة قبره مختلفة. فمن قصد السفر إلى مسجده للصلاة فيه فهذا مشروع بالنص والإجماع، وإن كان لم يقصد إلا القبر، لم يقصد المسجد فهذا مورد النزاع، فمالك والأكثرون يحرمون هذا السفر، وكثير من الذين يحرمونه لا يجوّزون قصر الصلاة فيه. وآخرون يجعلونه سفرا جائزا وإن كان غير مستحب ولا واجب بالنذر. وأما من كان قصده السفر إلى مسجده وقبره معا فهذا قد قصد مستحبا مشروعا بالإجماع، وهذا لم يكن في الجواب تعرض لهذا والجواب في السؤال كان عمن سافر لا يقصد إلا زيارة القبور لا يقصد سفرا شرعيا كالسفر إلى مكة وإلى مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلّم والمسجد الأقصى. ولم يكن السؤال ولا الجواب عمّن سافر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم، وإن قصد مع ذلك السفر إلى قبره، فإن هذا لم تجمع العلماء على أنه سفر غير مستحب، بل أصحاب أحمد لهم في- المسافر إلى القبور هل يقصر الصلاة- أربعة أوجه: قيل: يقصر مطلقا، وقيل: لا يقصر مطلقا، وقيل: لا يقصر إلا إلى قبر نبينا صلى الله عليه وسلّم، وقيل: إلى قبور الأنبياء مطلقا. فهذان الوجهان من لم يعرفهما تخبّط في هذه المسائل، فيعرف العمل الممكن المشروع والقصد في ذلك ليظهر له الفرق بين الرسول وبين غيره من جهة الفعل والقصد، فإن السفر المسمى زيارة له إنما هو سفر إلى مسجده. وقد ثبت بالنص والإجماع أن المسافر ينبغي له أن يقصد السفر إلى مسجده والصلاة فيه، وعلى هذا قد يقال: نهيه عن شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة لا يتناول شدها إلى قبره، فإن ذلك غير ممكن، فلم يبق إلا شدها إلى مسجده، وذلك مشروع بخلاف غيره، فإنه يمكن زيارته فيمكن شد الرحل إليه، لكن يبقى قصد المسافر ونيته ومسمى الزيارة في لغته، هل قصده مجرد القبر أو المسجد أو كلاهما؟ كما قال مالك لمن سأله عمن نذر أن يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم؟ فقال: إن كان أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم فليأته وليصلّ فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء:

«لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد». فهذا السائل من عرفه أن لفظ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم يتناول من أتى المسجد وكان قصده القبر ومن أتاه وقصده المسجد، وهذا عرف عامة الناس المتأخرين يسمون هذا كله زيارة لقبره، ولم يكن هذا لغة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، بل تغير الاصطلاح في مسمى اللفظ والمقصود به، وهو صلى الله عليه وسلّم لا يشرع للقريب من زيارته ما نهى عنه المسافر الذي يشدّ الرحل بخلاف غيره، فلا يقال: إن زيارته بلا شدّ رحل مشروعة ومع شد الرحل منهي عنها، كما يقال في سائر المشاهد وفي قبور الشهداء وغيرهم من أموات المسلمين، إذ لم يشرع للمقيمين بالمدينة من زيارته ما ينهى عنها المسافرون، بل جميع الأمة مشتركون فيما يؤمرون به من حقوقه حيث كانوا، بل قد قيل: إن الأمر بالعكس، وإنه يستحب للمسافر من السلام عليه والوقوف على قبره ما لا يستحب لأهل البلد، وإذا كان لا يمكن إلا العبادة في مسجده، فهذا مشروع لمن شدّ الرحل، ومن لم يشده تبقى النية كما ذكر مالك، وهذه النية التي يقصد صاحبها القبر دون المسجد قد نص مالك وغيره على أنها مكروهة لأهل المدينة قصدا وفعلا فيكره لهم كلما دخلوا المسجد أو خرجوا منه أن يأتوا القبر. وقد ذكر مالك أن هذا بدعة لم يبلغه عن أحد من السلف ونهى عنها، وقال: «لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها». فالذي يقصد مجرد القبر ولا يقصد المسجد خالف الحديث والإجماع، فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أن السفر إلى مسجده مستحب وأن الصلاة فيه بألف صلاة «1». واتّفق المسلمون على ذلك وعلى أن مسجده أفضل المساجد بعد المسجد الحرام. وقال بعضهم إنه أفضل من المسجد الحرام، ومسجده يستحب السفر إليه، والصلاة فيه مفضّلة لخصوص كونه مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم الذي بناه هو وأصحابه وكان يصلّي فيه هو وأصحابه، فهذه الفضيلة ثابتة للمسجد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلّم قبل أن يدفن في حجرة عائشة، وكذلك هي ثابتة بعد موته، ليست فضيلة المسجد لأجل مجاورة القبر، كما أن المسجد الحرام مفضّل لا لأجل قبر؛ وكذلك المسجد الأقصى مفضّل لا لأجل قبر؛ فكيف لا يكون مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم مفضّل لا لأجل قبر؟ فمن ظنّ أن فضيلته لأجل القبر أو أنه إنما يستحب السفر إليه لأجل القبر، فهو جاهل مفرط في الجهل مخالف لإجماع المسلمين، ولما علم من سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلّم، وهذا تنقّص بالرسول وبقوله ودينه، مكذب له فيما قاله، مبطل لما شرعه وإن ظن أنه يعظمه، كما أن النصارى يكذبون كثيرا مما أخبر به المسيح عن ربه عزّ وجلّ ودينه، ويظنون أن ذلك تعظيما له ولدينه، وإنما تعظيم الرسل بتصديقهم فيما أخبروا

_ (1) انظر «صحيح مسلم» رقم (1394).

من قصد السفر إلى المدينة فليقصد السفر إلى المسجد

به عن الله، وطاعتهم فيما أمروا به، ومتابعتهم ومحبتهم وموالاتهم، لا التكذيب بما أرسلوا به، والإشراك بهم والغلوّ فيهم، بل هذا كفر بهم وطعن فيهم ومعاداة لهم. [من قصد السفر إلى المدينة فليقصد السفر إلى المسجد] والمقصود أن كل من قصد السفر إلى المدينة فعليه أن يقصد السفر إلى المسجد والصلاة فيه، كما إذا سافر إلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وإذا قصد السفر إلى القبر دون المسجد وجعل المسجد لا يسافر إليه إلا لأجل القبر، واعتقد أن السفر إليه تبع للقبر كما يسافر إلى قبور سائر الصالحين ويصلي في مساجد هناك، فمن جعل السفر إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم وقبره كالسفر إلى قبور هؤلاء المساجد التي عندهم، فقد خالف إجماع المسلمين وخرج عن شريعة سيد المرسلين، وما سنه لأمته الغرّ الميامين، بخلاف الذي قصد المسجد. وإلا فمن جهة العمل لا يمكن أحدا أن يفعل عند قبره لا سنة ولا بدعة، إنما يفعل ذلك في المسجد، فمن فعل فيه سنة حمد عليها وأجر عليها، ومن فعل فيه بدعة ذمّ ونهي عنها، ففي الصحيحين عنه أنه قال: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» «1». والله سبحانه قد فرق بين قبر رسوله وقبر غيره، فإنهم دفنوه بالحجرة لم يبرزوا قبره كما كانوا يبرزون قبورهم خوفا أن يتخذ مسجدا، ثم إنهم منعوا الناس من زيارته كما يزورون القبور، فلم يكونوا يمكنون الناس من الدخول إلى قبره لزيارته، ثم إنهم سدوا باب الحجرة وبنوا عليها حائطا آخر، فلم يبق أحد متمكنا من زيارته كما تزار القبور. ولهذا لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بهذا الاسم في حقه، فقال: تستحبّ زيارة قبره أو لا تستحب أو نحو ذلك، ولا علق بهذا الاسم حكما شرعيا. وقد كره من كره من العلماء التكلم به، وذلك اسم لا مسمى له ولفظ لا حقيقة له، وإنما تكلّم به من تكلّم من المتأخرين، ومع هذا فلم يريدوا به ما هو المعروف من زيارة القبور، فإنه معلوم أن الذاهب إلى هناك إنما يصل إلى مسجده، ليس هناك زيارة تفعل في غير مسجده، ولو قدّر أنه وقف في الطريق من جهة المشرق وفعل ما فعل لم يكن هناك سنة عند أحد من العلماء، وإذا كان لا بدّ للزائر من المسجد فالمسجد نفسه يشرع إتيانه سواء كان القبر هناك أو لم يكن، وكل ما يشرع فيه من العبادات فإنه مشروع سواء كان القبر هناك أو لم يكن، وسواء تعلق بالرسول كالصلاة والسلام عليه وسؤال الله له الوسيلة والثناء عليه والمحبة والتعظيم والتوقير وغير ذلك من حقوقه صلى الله عليه وسلّم، أو لم يتعلق بالرسول كالصلاة والاعتكاف، مع أنه لا بد في ذلك من ذكر

_ (1) أخرجه البخاري (1870) ومسلم (1370).

الرسول بالشهادة له والسلام عليه وكذلك الصلاة عليه، وهذه العبادات وغيرها وحقوقه وغير حقوقه هي مشروعة في جميع المساجد وإن لم يكن هناك قبره بل في جميع البقاع إلا ما استثناه الشرع. وإذا كان السفر الذي يسمى زيارة لقبره إنما هو سفر إلى مسجده لا إلى غيره، وكان ما شرع فيه مشروعا في ذلك المسجد وفي غيره، وإن لم يكن القبر هناك لم يكن شيء من ذلك مشروعا لأجل القبر ولا مختصا بها. وأما ما يفعله بعض الناس من البدع المختصّة بالقبر فذلك ليس بمشروع بل هو منهيّ عنه. فتبيّن أنه ليس في الشريعة عمل يسمّى زيارة لقبره، وأن هذا الاسم لا مسمّى له، والذين أطلقوا هذا الاسم إن أرادوا به ما يشرع فالمعنى صحيح، لكن عبروا عنه بلفظ لا يدل عليه، ولهذا كره من كره أن يقال لمن سلم عليه هناك زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، وإن أرادوا ما لا يشرع فذاك المعنى خطأ مفهوم ومع هذا فليس هو زيارة، فلو قدّر أن بعض الناس أشرك في مسجده به، واتخذه إلها، وسجد للقبر وطاف به سبعا واستلمه وقبله، لم يكن شيء من ذلك زيارة لقبره، وإن كان محرّما فهذا لفظ لا حقيقة له. بل يقال لمن أطلقه: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النجم: 23]. وهذا بخلاف قبر غيره فإنه ليس على الناس من حقوقه في سائر البقاع ما عليهم من حق النبي صلى الله عليه وسلّم ولا أمروا أن يصلوا عليهم ويسلموا عليهم حيث كانوا كما أمروا بذلك في حق الرسول صلى الله عليه وسلّم مع أنهم حيث صلوا وسلموا عليه بلغه صلاتهم وسلامهم، لا يختص بيته بذلك، كما جاءت بذلك الأحاديث. وغيره يستحب أن يزار فيوصل إلى قبره فيدعى له. والصلاة على القبر مشروعة لمن لم يصل على الميت عند أكثر العلماء كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، وهم متنازعون: إلى كم يصلي على القبر، وأحد القولين في مذهب الشافعيّ وأحمد أنه يصلي عليه أبدا. واتفقوا على أن قبر النبي صلى الله عليه وسلّم لا يصلى عليه كما لم يصلّ عليه أحد من المسلمين بعد أن دفن، فهذا لعلوّ قدره لا لخفضه عن غيره، فإنه قد شرع في حقه من الصلاة والسلام عليه في كل مكان ما هو أعظم من الصلاة عليه عند القبر، والصلاة عليه عند القبر يخاف فيها أن يتّخذ قبره وثنا وعيدا. والرسول صلى الله عليه وسلّم ينبغي أن تكون محبة المؤمن له وتعظيمه له وصلاته وسلامه عليه وسائر حقوقه موجودا معه في جميع البقاع لا يختص القبر بشيء من حقوقه، فمن خصّ القبر بشيء من حقوقه وقصر فيه عند غير القبر فهو مقصر في حق الرسول صلى الله عليه وسلّم مريد لما نهى عنه من اتخاذ قبره عيدا، وذلك يفضي إلى أن يقصر الناس في حقوقه في سائر البقاع، وكذلك ما يفعل عند قبر

غيره من الزيارة، وعند قبره ليس بمأمور ولا مقدور لعلوّ قدره واختصاصه بما ميزه الله على غيره صلى الله عليه وسلّم كما خص بأن دفن في الحجرة ولم يبرزوا قبره. فتبين أن ما في الجواب من قول المجيب السفر لمجرد زيارة قبور الأنبياء، هل هو محرم أم مباح؟ ونحو ذلك لا يتناول قبر النبي صلى الله عليه وسلّم إلا بالنية فقط كما قال مالك، وإلا فذلك أمر ليس بمقدور. وما ليس بمقدور فهو بالضرورة ليس بمشروع ولا مأمور به. وأما السفر المشروع إلى هناك فهذا لا يدخل في هذا اللفظ قطعا فإنه ليس سفرا لمجرد زيارة قبره لا من جهة الفعل ولا من جهة القصد. ومما يبين هذا أن جميع من يسافر لزيارة قبره إنما يصل إلى مسجده ويصلي فيه، لكن من الذين يسافرون إلى هناك من لا يعلم أن الدخول هو إلى المسجد وأن القبر محجوب، ومنهم من قد عرف ذلك لكن قد يظن أن المسجد بني لأجل القبر كما يبنى على بعض القبور مساجد لأجلها فيأتي الزائر فيصلي فيها أولا تحية المسجد أو غيرها، والمقصود هو القبر، وهؤلاء منهم من لا يعرف أن مسجده محترم معظم يقصد لنفسه لا لأجل القبر، ومنهم من لا يعرف أن الصلاة فيه بألف صلاة، ولا أن السفر مشروع إليه كما يشرع إلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، بل يظن كثير منهم أن السفر إنما هو لأجل القبر، ولا يعلم أن السفر إلى مسجده مشروع مستحب مرغب فيه، وأنه أفضل المساجد بعد المسجد الحرام أو مطلقا وأن الصلاة فيه بألف صلاة سواء كان عنده القبر أو لم يكن، كما كانت هذه الفضيلة ثابتة له في حياة الرسول صلى الله عليه وسلّم، بل كان الذين يصلون فيه إذ ذاك أفضل من غيرهم، وكانت الهجرة واجبة له في حياة الرسول قبل فتح مكة على المسلمين أن يهاجروا إلى المدينة دار الهجرة ودار السنة ودار النصرة. ومن كان بها كان عليه أن يصلي في المسجد النبوي ولو لم يكن إلا الجمعة، فإن الجمعة فرض على الأعيان باتفاق الأمة، ولم يكن على عهده بالمدينة مسجد يصلي فيه الجمعة إلا مسجده، وهو أول مسجد أسس على التقوى، وأول مسجد أذّن فيه وأقيم فيه الصلاة. فمن علم فضيلته وفضيلة الصلاة فيه وفضيلة السفر إليه وهو يريد السفر إلى القبر ويعلم أنه إنما يصل إلى مسجده فهذا لا بد إن كان مؤمنا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم أن يقصد السفر إلى مسجده وإن قصد مع ذلك القبر لا يتصور من المؤمن به العالم بشريعته العالم أن المسافر إلى هناك يصل إلى مسجده لا يتصور مع هذا العلم والمعرفة والإيمان أن لا يقصد السفر إلى مسجده بل لا يقصد إلا مجرد القبر، بل الذي يسافر ولا يقصد إلا مجرد القبر إما أن يكون جاهلا بشريعته وفضيلة السفر إليه أو جاهلا بالحال لا يعلم أنه إنما يصل إلى مسجده، أو لا يعلم أن مسجده مؤسس على التقوى مقصود معظم قبل حصول القبر، فإنه لم يبن لأجل القبر ولا حرمته وفضيلته وعظمته لأجله، فلا يتصور أن يقصد مجرد القبر إلا من يكون جاهلا

بهذا أو بهذا أو بهذا، وإن كان عالما بذلك كله، مع هذا ليس قصده إلا السفر إلى القبر كما يسافر إلى قبر من يعظمه من الصالحين وغيرهم، والسفر إلى المسجد ليس له عنده حرمة ولا يعتقد فضيلته ولا يقصد السفر إليه مع علمه أن الرسول صلى الله عليه وسلّم رغّب في ذلك وبين فضل مسجده. فهذا لا يكون إلا كافرا بالرسول، ومثل هذا يقع من المشركين الذين يرون قصد القبور المعظّمة أولى من قصد المساجد، والحج إليها أفضل من الحج إلى مكة، ودعاء الخلق أفضل من دعاء الخالق، والدعاء عندها أفضل من الدعاء في المساجد والمشاعر. ومنهم من يجعل استقبالها في الصلاة أولى من استقبال الكعبة ويقول: هذه القبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة. ومعلوم أن هذا من الكفر بالرسول وبما جاء به الرسول، ومن الشرك بربّ العالمين، لا يفعل هذا من يعلم أن الرسول جاء بخلافه وأن الرسول جاء بالحق الذي لا يسوغ خلافه، بل إنما يفعل هذا من كان جاهلا بسنة الرسول، أو من يجعل له طريقا إلى الله غير متابعة الرّسول، مثل من يجعل الرسول مبعوثا إلى العامة وأنه أو شيخه من الخاصة الذين لا يحتاجون إلى متابعة الرسول، أو أن لهم طريقا أفضل من طريقة الرسول ونحو ذلك! وهؤلاء كلهم كفار، وإن عظّموا قبر الرسول كما يعظمون قبور شيوخهم، ومنهم من يجعل قبر شيخه أعظم من قبر الرسول، ومنهم من يجعل قبر الرسول أعظم ولكن يعظم أصحاب القبور من جهة أنه يعبدهم ليقربوه إلى الله زلفى، لا يعظم الرسول من جهة أنه رسول الله الذي أوجب على جميع الخلق اتباعه وطاعته وسلوك سبيله واتباع ما جاء به، وهذا نعت المؤمن به، والمؤمنون به لا يعرضون عن قصد السفر إلى مسجده مع علمهم أنهم يصلّون إلى مسجده إلا بجهلهم بسنته. فإذا عرفوها دعاهم الإيمان به إلى متابعته صلى الله عليه وسلّم تسليما. والمجيب إنما ذكر النزاع في السفر لمجرد زيارة القبور، فلم يدخل في هذا السفر إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم وهو المراد بالسفر لزيارة قبره، فهل يمكن هذا المعترض أن يحكي عن إمام من أئمة المسلمين أنه قال: يستحب السفر لمجرد زيارة القبور، أو أنه يستحب السفر إلى زيارة قبره بدون الصلاة في مسجده، أو بدون دخوله، هل قال هذا أحد؟ أو أنه يستحبّ السفر إلى القبر دون قصد المسجد؟ مع أنه إنما يصل إلى المسجد، والسفر إليه مستحب بالنص والإجماع والصلاة فيه مفضلة، فهل قال مسلم إن هذا المستحب بالنص والإجماع مع فعل الإنسان له إذا لم يقصده البتة، وإنما قصد مجرد القبر يكون هذا السفر مستحبا بنص أو إجماع، أو هل قال ذلك إمام من أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في الدين؟ وإن لم يكن هنا نصّ ولا إجماع. وهل يترك قصد السفر إلى مسجده للصلاة فيه مع كونه يعلم أنه إنما يصل إلى مسجده إلا من هو جاهل بدينه أو كافر بما جاء به؟ فإن هذا ليس عليه في النية كلفة

أصلا، فإنه إذا كان لا بد له من الوصول إلى المسجد ومن ثم الصلاة فيه لم يبق إلا أنه يقصد ذلك في ابتداء السفر. فإذا لم يقصده فإنه يكون جاهلا بأن ذلك مستحب مشروع كما يوجد عليه كثير من الجهّال يظنّون أن المشروع إنما هو السفر إلى القبر والسفر إلى المسجد تبع للقبر، فإذا عرّف الجاهل بسنته المعلومة عند جميع علماء أمته ثم من بعد ذلك يشاقّ الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين؛ فإن الله يولّيه وما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا. فإذا لم يعرف أن إماما من أهل الاجتهاد قال: إنه يستحبّ السفر إلى مجرد القبر دون المسجد وإن كان المسافر يعلم أنه إنما يصل إلى المسجد وإن سفره مشروع، ثم لا يقصد ذلك فيكون سفره مشروعا مستحبا، هذا مما يقطع بأنه لا يقوله عالم. فإذا لم يثبت ذلك سلم الإجماع المذكور، وإن قدر أن هذا قول ثالث كان ذلك قولا خفيا قاله بعض المتأخرين لم يبلغ المجيب، والمجيب ذكر إجماع العلماء الذين عرفت أقوالهم في هذا الحديث وفي هذه المسألة، وهذا مبسوط في مكان آخر. والمقصود هنا أن ما حكاه عن المجيب أنه يحرم زيارة قبور الأنبياء وزيارة القبور كذب بيّن على المجيب ليس في الجواب، وإنما فيه السفر خاصة. وكلام المجيب فيما لا يحصيه إلا الله يبين كذب النقل وأنه يستحب زيارة قبور المؤمنين عموما فضلا عن الصالحين والأنبياء، بل نفس السفر الذي ذكر فيه القولين، لم يذكر أنه يختار أحد القولين بل ذكر حجة هؤلاء وهؤلاء، فكيف يجوز أن يحكي عنه أنه حرم زيارة قبور الأنبياء والصالحين وسائر القبور، وأنه ادّعى أن ذلك معصية محرمة مجمع عليها؟ من المعلوم لكلّ من قرأ شيئا من العلم ما في كتب العلماء من إباحة زيارة القبور للرجال أو استحباب ذلك، وذكر النزاع في زيارتها للنساء. هذا موجود في الكتب الصغار والكبار، وقد قرأه المجيب وقرئ عليه مرات لا يحصيها إلا الله، وليس هذا مما يخفى على آحاد الطلبة الذين يحضرون عنده. فكيف يحكي إجماع المسلمين على أن زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور معصية محرمة؟ ولو كان لهذا القاضي نوع عقل وحكي له ذلك عن آحاد الطلبة لم يصدقه وقال: هل في الإسلام من ينتسب إلى أدنى علم يقول: إن زيارة القبور معصية محرمة مجمع عليها؟ فهل في الإسلام شخص يحكي الإجماع على تحريم زيارة القبور مطلقا؟ وإذا كان هذا ما يعلم انتفاؤه عن جميع المسلمين كان انتفاؤه عن المجيب أولى؛ فكان الواجب عليه أن يكذّب ناقل ذلك فضلا عن أن يكون هو الناقل عن جواب قد رآه الناس وعلموا أنه ليس فيه ذلك، وإنما فيه ذكر الخلاف في السفر إليها، والسفر إليها مسألة وزيارتها بلا سفر مسألة. وأما قبر النبيّ صلى الله عليه وسلّم فالسفر إلى زيارته هو السفر إلى مسجده، والسفر إلى مسجده

مستحبّ بالإجماع ليس من مسائل النزاع، وكل من علم أنه إنما يصل إلى مسجده وعلم أنه مسجده الذي يصلي فيه هو وأصحابه وأنه أفضل المساجد بعد المسجد الحرام أو مطلقا وأنه صلى الله عليه وسلّم جعل الصلاة فيه بألف صلاة وأنه قال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ونحو ذلك، وهو مؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلّم، فلا بد أن يقصد إذا سافر إلى هناك السفر إلى مسجده لا يمكن مع علمه بذلك وإيمانه بالرسول صلى الله عليه وسلّم أن لا يقصد السفر إلى مسجده، فلا يقصد السفر إلى القبر دون المسجد إلا جاهل أو كافر، لكن كثير من الناس قد عرفوا فضيلة مسجده والسفر إليه فهم يقصدون ذلك ويقصدون السفر إلى القبر أيضا، ثم منهم من يستوي عنده القصدان ومنهم من يكون قصد المسجد أقوى عنده، ومنهم من يكون قصد القبر أقوى عنده. وهؤلاء يظنون أن قصد السفر إلى قبره من المحبة له والتعظيم، وأن ذلك أعظم من قصد السفر إلى مسجده، وهم غالطون في ذلك، فإن السفر إلى المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم والتأسي بإبراهيم فيما كان يفعله هناك من الحج أفضل من زيارة قبر إبراهيم بالكتاب والسنة والإجماع، بل الحج كما حج إبراهيم قد فرضه الله على عباده والسفر إلى غير المساجد الثلاثة قد نهى عنه، وكذلك السفر إلى بيت المقدس هو أفضل من السفر إلى قبر سليمان الذي بناه بعد إبراهيم، وكذلك السفر إلى مسجد نبينا صلى الله عليه وسلّم والتأسي به فيما كان يفعله فيه من العبادات وفعل ما رغب في فعله في المسجد هو الذي يصدر عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلّم ومحبته وتعظيمه دون السفر إلى مجرد قبره، ولو قدر أن شخصا سافر إلى قبر إبراهيم ولم يسافر إلى مسجده- المسجد الحرام- وهو الحج واعتقد أنهما سواء وأن السفر إلى قبره أفضل كان كافرا. وكذلك بيت المقدس من اعتقد أن السفر إلى قبر سليمان أفضل من السفر إليه أو هما سواء كان كافرا، كذلك السفر إلى النبي صلى الله عليه وسلّم من اعتقد أن السفر إلى مجرد القبر أفضل من السفر إلى المسجد أو مثله فهو إما جاهل بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلّم وإما كافر به. وهؤلاء نظير الذي يعتقد أن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين مثل الحج أو أفضل من الحج. وهذا لا يعتقده إلا جاهل مفرط في الجهل بدين الإسلام أو كافر مشاقّ للرسول صلى الله عليه وسلّم من بعد ما تبين له الهدى متّبع غير سبيل المؤمنين. فمن لم يفرّق بين السفر المشروع إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم وزيارة قبره السفر الشرعي والزيارة الشرعية المجمع على استحبابها وبين السفر إلى قبر غيره فهو إما جاهل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم وإما كافر بالرسول صلى الله عليه وسلّم. فإن قيل: كيف يزور قبره مع كونه كافرا به؟ قيل: كثير من الناس يعظّمون الرسول صلى الله عليه وسلّم ويعتقدون أنه من أفضل الناس، ولكن يقولون إنهم ما يجب عليهم اتباعه وطاعته بل لهم طريق إلى الله تغنيهم عنه، وقد يقولون: إن طريقهم أفضل من طريقه، كما يعتقد كثير من اليهود والنصارى أنه

الفرق بين زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبين زيارة قبره

كان مبعوثا إلى الأميين لا إليهم، فهم يعظّمونه ظاهرا وباطنا، لكن يقولون لا يجب علينا اتباعه؛ وهؤلاء كفّار بإجماع المسلمين. وكذلك كثير ممن يظهر الإسلام يثبتون نبوته على رأي الفلاسفة، وأنه كان صاحب قوة قدسية، وقد يفضّلونه على جميع الخلق، ومع هذا لا يقرّون بما جاء به ولا يوجبون على أنفسهم اتّباعه ظاهرا وباطنا، ويقولون هو رسول إلى العامة أو إلى الجميع في الشرائع الظاهرة دون الحقائق الباطنة والحقائق العقلية، كما يقول مثل هذا كثير ممن يظهر الإسلام، وهؤلاء من أشدّ الناس تعظيما للقبور والسفر إليها ودعاء أصحابها، ولهم في ذلك كلام ذكرناه في غير هذا الموضع، وهؤلاء وأمثالهم قد يقولون إن زيارة قبره وقبر من هو دونه أفضل من الحج إلى البيت الحرام ومن صلاة الجمعة والجماعة في مسجده وغير مسجده. [الفرق بين زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم وبين زيارة قبره] والمقصود أن هذا المعترض وأمثاله لم يفرقوا بين السفر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وزيارته المجمع على استحبابها وبين السفر إلى زيارة قبر غيره، وإن كان عنده مسجد فإن ذلك مجمع على عدم استحبابه بل سووا بين المستحب بالنص والإجماع، وبين ما ليس بمستحب بالنص والإجماع، وظنوا أن المجيب سوى بينهما في نفي الاستحباب فقابلوه بأن سووا بينهما في الاستحباب فوقعوا في أنواع من الباطل المخالف للكتاب والسنة والإجماع. ولو قال قائل: إن إتيان المساجد لا يستحب ولا يشرع كان كافرا حلال الدم، ولو قال لا يسافر إلى مسجد إلا إلى ثلاثة مساجد لكان قد قال ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلّم وقاله علماء المسلمين، فمن لم يفرق بين هذا وهذا كان أجهل الناس. وكذلك لو قال: لا يستحب السفر إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم وزيارته المشروعة في المسجد كالصلاة والسلام كان مخالفا للإجماع. لكن من العلماء من لا يسمّي هذا زيارة لقبره ويكره هذه التسمية وهذا القول أشبه بالمعقول والمنقول. ولو قال يستحبّ السفر إلى جميع القبور والصلاة في المساجد المبنية عليها لكان مخالفا للنص والإجماع. وهب أن المعارض سوى بينهما في نظره، وجوابه كيف يحلّ له أن يكذب على غيره ويحكي عنه التسوية بينهما في التحريم ويقول إنه حكى إجماع المسلمين على تحريم الزيارة مطلقا بسفر وغير سفر؟ ونحن نحكي لفظ الجواب الذي اعترض عليه لينظر ما نقله عنه وأبطله منه هل هو صدق وعدل، أم لا؟ ولفظ السؤال: ما تقول السادة العلماء في رجل نوى زيارة قبور الأنبياء والصالحين مثل قبر نبينا صلى الله عليه وسلّم وغيره، فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة؟ وهل

هذه الزيارة شرعية أم لا؟ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» «1» «ومن زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي» «2». وروي عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا». ولفظ الجواب: الحمد لله «3»، أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين.

_ (1) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (7/ 2480) وابن حبان في «المجروحين» (2/ 73) وابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 597/ 1168). من طريق: محمد بن محمد بن النعمان بن شبل، قال: حدّثنا جدّي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا. قال ابن حبان في ترجمة «النعمان بن شبل» من «المجروحين»: «يأتي على الثقات بالطامات، وعن الأثبات بالمقلوبات». والحديث حكم عليه بالوضع كل من ابن الجوزي والذهبي في «ميزان الاعتدال» (3/ 237) والشوكاني في «الفوائد المجموعة» ص 118 والألباني في «الضعيفة» (45). (2) أخرجه الدارقطني في «سننه» (2/ 278/ 193) والبيهقي في «شعب الإيمان» (3/ 488/ 4151) من طريق: هارون أبي قزعة، عن رجل من آل حاطب، عن حاطب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكره. وهذا إسناد ضعيف؛ هارون بن قزعة، ضعفه يعقوب بن شيبة، وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود في «الضعفاء» وقال البخاري: «لا يتابع عليه» «لسان الميزان» (6/ 238). بل قال الأزدي: «متروك». أضف إلى ذلك جهالة الرجل من آل حاطب. ومع هذا فقد قام أحد المشوهين لعلم الحديث- وهو المدعو: محمود سعيد ممدوح في كتابه المتهافت «رفع المنارة بتخريج أحاديث التوسل والزيارة» بمحاولة يائسة لتحسين الحديث والاعتبار به. فقال ص 274 بعد أن نقل كلام العلماء في تضعيف هارون، «لكن ذكره ابن حبان في «الثقات» (7/ 580)»!!. قلت: وهذا تلبيس وتدليس، فإن ابن حبان ذكره في «الثقات» ولكنه قال: «يروي عن رجل من ولد حاطب المراسيل». ثم هب أن ابن حبان وثقه؛ فمتى كان يعتد بتوثيقه إذا خالفه كبار المجرحين، بل حتى ولو انفرد بالتوثيق؟ وهذا مما اتفق عليه أهل الاصطلاح والحديث. وأغرب من ذلك قوله: «فالرجل ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به»!!. ثم قال: «وقد قال الحافظ الذهبي: أجودها- كذا- (أي أحاديث الزيارة) إسنادا حديث حاطب». قلت: وهذا كذب وتدليس أيضا، فإن الذهبي إنما قال: «أجودهما حديث حاطب هذا». يعني أجود الحديثين (حديث ابن عمر السابق وحديث حاطب) هو حديث حاطب. وكذا قال شيخ الإسلام قبله. وهذا من حيث اعتبار الإسناد، لا يعني تجويد الحديث كما هو واضح. والله المستعان. ولمزيد من الفائدة انظر «السلسلة الضعيفة» (1021). (3) في «مجموعة الفتاوى» (27/ 104): «الحمد لله رب العالمين».

أحدهما: وهو قول متقدمي العلماء الذين لا يجوّزون القصر في سفر المعصية، ويقولون إن هذا سفر معصية؛ كأبي عبد الله بن بطة «1»، وأبي الوفاء بن عقيل «2»، وطوائف كثيرين «3» من العلماء المتقدمين؛ أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر، لأنه سفر منهي عنه. ومذهب الشافعي ومالك وأحمد أن السفر المنهي عنه لا تقصر فيه الصلاة. والقول الثاني: أنه يقصر فيه الصلاة وهذا يقوله من يجوّز القصر في السفر المحرم كأبي حنيفة، ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يجوّز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، كأبي حامد الغزالي، وأبي محمد المقدسي، وأبي الحسن بن عبدوس الحراني، وهؤلاء يقولون: إن هذا السفر ليس بمحرم لعموم قوله: «فزوروا «4» القبور» «5». وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم كقوله: «من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي» رواه الدارقطني. وأما ما يذكره بعض الناس من قوله صلى الله عليه وسلّم: «من حج ولم يزرني فقد جفاني». فهذا لا يرويه أحد من العلماء، وهذا مثل قوله: «من زارني وزار أبي [إبراهيم] في عام واحد ضمنت له على الله الجنة» «6». فإن هذا أيضا باطل باتفاق العلماء لم يروه أحد، ولم يحتج به أحد، وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطني. وقد زاد فيها المجيب حاشية بعد ذلك، ولكن هذا وإن كان لم يروه أحد من العلماء في كتب الفقه والحديث لا محتجا به ولا معتضدا به، ولكن ذكره أبو أحمد بن عديّ في كتاب «الضعفاء» ليبين به ضعف راويه، فذكره من حديث النعمان بن شبل الباهلي المصري

_ (1) هو: الإمام أبو عبد الله؛ عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن عمر، المعروف بابن بطة، العكبري الحنبلي. ولد سنة أربع وثلاثمائة، في «عكبرا» وهي بليدة على نهر دجلة فوق بغداد. له من المصنفات: «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية» و «الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة» و «إبطال الحيل» وغيرها. توفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. انظر: «تاريخ بغداد» (10/ 3721) و «طبقات الحنابلة» (4/ 153) و «البداية والنهاية» (11/ 321) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 529). (2) هو: علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله البغدادي الظّفري، أبو الوفاء الحنبلي. ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، كان من كبار علماء الحنابلة، وله تصانيف كثيرة، أهمها كتاب «الفنون» الذي يقع في أربعمائة مجلد- ولا يزال هذا الكتاب في عالم المخطوطات-. توفي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. انظر ترجمته في: «طبقات الحنابلة» (2/ 259) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 443) و «شذرات الذهب» (4/ 35 - 40). (3) في «مجموعة الفتاوى»: «وطوائف كثيرة». (4) في «مجموعة الفتاوى»: «زوروا القبور». (5) أخرج مسلم في «صحيحه» (977) من حديث بريدة الأسلمي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها .. الحديث». (6) هو حديث موضوع، انظر «الضعيفة» (46).

عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من حج ولم يزرني فقد جفاني». قال ابن عدي: لم يروه عن مالك غير هذا، يعني وقد علم أنه ليس من حديث مالك، فعلم أن الآفة من جهته. قال موسى بن هارون: كان النعمان هذا متهما. وقال أبو حاتم ابن حبان: يأتي عن الثقات بالطامات. وقال الدارقطني: الطعن في هذا الحديث من محمد بن محمد لا من النعمان. وأما الحديث الآخر: «من زارني وزار أبي [إبراهيم] في عام واحد ضمنت له على الله الجنة»؛ فهذا ليس في شيء من الكتب لا بإسناد موضوع ولا غير موضوع، وقد قيل: إن هذا لم يسمع في الإسلام حتى فتح المسلمون بيت المقدس في زمن صلاح الدين، فلهذا لم يذكر أحد من العلماء لا هذا ولا هذا لا على سبيل الاعتقاد ولا على سبيل الاعتماد، بخلاف الحديث الذي تقدم فإنه قد ذكره جماعة ورووه، وهو معروف من حديث حفص بن سليمان الغاضري القاري صاحب عاصم، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» «1». وقد اتفق أهل العلم بالحديث على الطّعن في حديث حفص هذا دون قراءته. قال البيهقي في: «شعب الإيمان» «2»: وقد روى حفص بن أبي داود وهو ضعيف، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من حجّ فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي». قال يحيى بن معين في حفص هذا: ليس بثقة. وهو أصح قراءة من أبي بكر بن عياش وأبو بكر أوثق منه. وفي رواية عنه: كان حفص أقرأ من أبي بكر وكان أبو بكر صدوقا وكان حفص كذّابا. وقال البخاري: تركوه. وقال مسلم بن الحجاج: متروك. وقال علي بن المديني: ضعيف الحديث تركته على عمد. وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه، وقال مرة: متروك. وقال صالح بن محمد البغدادي: لا يكتب حديثه وأحاديثه كلها مناكير. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم الرازي: لا يكتب حديثه وهو ضعيف الحديث لا يصدق متروك الحديث. وقال عبد الرحمن بن خراش: هو كذاب متروك، يضع الحديث. وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال ابن عدي: عامة أحاديثه عمن روى عنه غير محفوظة.

_ (1) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (12/ 310/ 13497) والدارقطني (2/ 278) والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 246) وفي «شعب الإيمان» (3/ 489/ 4154 - 4155) وابن عدي في «الكامل» (2/ 790). وإسناده ضعيف جدا؛ ليث بن أبي سليم، ضعيف من جهة حفظه. وحفص بن سليمان القارئ؛ «متروك الحديث» كما في «التقريب». وانظر «السلسلة الضعيفة» للألباني (47) ففيها بحث ماتع حول هذا الحديث. (2). (3/ 489).

وفي الباب حديث آخر رواه البزار والدارقطني وغيرهما من حديث موسى بن هلال: حدّثنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» «1». قال البيهقي- وقد روى هذا الحديث- ثم قال: «وقد قيل عن موسى عن عبيد الله، قال: وسواء قال عبد الله أو عبيد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر، لم يأت به غيره». وقال العقيلي في موسى بن هلال هذا: لا يتابع على حديثه. وقال أبو حاتم الرازي: هو مجهول. وقال أبو زكريا النووي في «شرح المهذب» «2» لما ذكر قول أبي إسحاق: ويستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، لما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» قال النووي: أما حديث ابن عمر فرواه أبو بكر البزار والدارقطني والبيهقي بإسنادين ضعيفين جدا. هذا آخر الحاشية. قال المجيب في تمام الجواب: وقد احتجّ أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة القبور والمساجد بأنه كان يزور قباء ويزور القبور وأجاب عن حديث «لا تشد الرحال»؛ بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب. وأما الأولون فإنهم يحتجّون بما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحّته والعمل به. فلو نذر الرجل أن يصلّي بمسجد أو مشهد أو يعتكف فيه ويسافر إليه غير المساجد الثلاثة؛ لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة. ولو نذر أن يسافر إلى المسجد الحرام بحج أو عمرة وجب عليه ذلك باتفاق

_ (1) حديث ضعيف جدا؛ أخرجه الدارقطني (2/ 278) والبيهقي في «شعب الإيمان» (3/ 490/ 4159 - 4160) وابن عدي في «الكامل» (6/ 2350) والدولابي في «الكنى» (2/ 64). من طريق: موسى بن هلال العبدي، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا. وإسناده ضعيف جدا؛ موسى بن هلال العبدي؛ قال أبو حاتم: مجهول، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه. وقال الحافظ: «أنكر ما عنده حديثه عن عبد الله بن عمر عن نافع». فذكره وانظر «الجرح والتعديل» (8/ 734) و «لسان الميزان» (6/ 173). وللحديث طريق أخرى عند البزار (2/ 57/ 1198) كشف، عن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعا. قال البزار: «عبد الله بن إبراهيم لم يتابع على هذا، وإنما يكتب ما يتفرّد به». قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 2): «رواه البزار، وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري وهو ضعيف». وقال الحافظ في «التقريب»: «متروك، ونسبه ابن حبان للوضع». وفي الإسناد أيضا، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ ضعيف جدا. فالحديث ضعيف جدا، وانظر «إرواء الغليل» رقم (1128). (2) انظر «المجموع» (8/ 272).

العلماء، ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد، ولم يجب عليه عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع. وأما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة لما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» «1». والسفر إلى المسجدين طاعة فلهذا وجب الوفاء به. وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليها إذا نذره، حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء تستحب زيارته لمن كان بالمدينة، لأن ذلك ليس بشد رحل كما في الحديث الصحيح: «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة» «2». وهذا الحديث رواه أهل السنن كالنسائي وابن ماجه والترمذي «3» وحسنه، وقالوا: لأن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة، وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في «الإبانة الصغرى» من البدع المخالفة للسنة. وبهذا يظهر ضعف حجة أبي محمد المقدسي لأن زيارة النبي صلى الله عليه وسلّم لمسجد قباء لم تكن بشدّ رحل، والسفر إليه لا يجب بالنذر. وقوله في قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا تشد الرحال»، محمول على نفي الاستحباب عنه؛ جوابان: أحدهما: أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا هو من الحسنات. فإذن من اعتقد السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنه قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع وإذا سافر لاعتقاده أنها طاعة كان ذلك محرما بإجماع

_ (1) أخرجه البخاري (6696) وأحمد (6/ 36/ 41، 224) وأبو داود (3289) والنسائي في «الكبرى» (3/ 134/ 4748 - 4749 - 4750)، والترمذي (1526) وابن ماجه (2126) وغيرهم. (2) أخرجه بهذا اللفظ: ابن ماجه (1412) من حديث سهيل بن حنيف. وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 96) وأحمد (3/ 487) والنسائي (2/ 37) وفي «الكبرى» (1/ 258/ 778) والحاكم (3/ 12) والطبراني في «الكبير» (6/ 75/ 5561 - 5562). من طريق: محمد بن سليمان الكرماني، قال سمعت أبا أمامة سهل بن حنيف قال: قال أبي: فذكره مرفوعا، بنحو من هذا اللفظ. ومحمد بن سليمان الكرماني «مقبول» كما في «التقريب». وقد تابعه عليه يوسف بن طهمان كما في «مسند عبد بن حميد» (469). فالحديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (1160). (3) لم أجده في «سنن الترمذي» المطبوع، فلعله في نسخة أخرى، والله أعلم.

المسلمين، فصار التحريم من هذه الجهة. ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك. وأما إذا قدّر أن الرجل سافر إليها لغرض مباح فهذا جائز وليس من هذا الباب. الوجه الثاني: أن هذا الحديث يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم. وما ذكره السائل من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة لم يخرج أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها، ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها، بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلّم. ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم أو مشروعا أو مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكرهه عالم المدينة. والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث إلا حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ما من رجل يسلم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أردّ عليه السلام» «1». وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه. وكذلك مالك في الموطأ روى عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت» ثم ينصرف «2». وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني» «3». وفي «سنن سعيد بن منصور» أن الحسن بن

_ (1) أخرجه أحمد (2/ 227) وأبو داود (2041) والبيهقي (5/ 245) وإسناده حسن كما في «الصحيحة» (2266). (2) أخرجه مالك في «الموطأ» 9 - كتاب: قصر الصلاة، 22 - باب: ما جاء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم (1/ 107/ 68) والبيهقي (5/ 345) والقاضي إسماعيل الجهضمي في «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم» ص 83، 84 رقم (98، 99، 100). من طريقين إسنادهما صحيح، كما قال الألباني في «تحقيقه على فضل الصلاة». (3) أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود (2042) وابن فيل في «جزئه» كما في «جلاء الأفهام» لابن القيم ص 107 والبيهقي في «شعب الإيمان» (3/ 491/ 4162). من طريق: عبد الله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا. وهذا إسناد حسن، عبد الله بن نافع في حفظه لين. وقد حسن إسناده العلامة الألباني في «أحكام الجنائز» ص 280 و «تحذير الساجد» ص 96 - 97. وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (4/ 345). وأبو يعلى في «مسنده» (1/ 361 - 362/ 469). والبزار (1/ 399 - 340/ 707) كشف. والبخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 186). وعبد الرزاق في «مصنفه» (3/ 577/ 6726). والقاضي إسماعيل الجهضمي في «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم» (20).

الحسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلا يختلف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذّر ما فعلوا، قالت عائشة: «ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا» «1». وهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذه مسجدا فيتخذ قبره وثنا. وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك؛ لا يدخل أحد إلى عنده لا لصلاة هناك ولا لتمسّح بالقبر ولا دعاء هناك، بل هذا جميعه إنما يفعلونه في المسجد. وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا على النبي صلى الله عليه وسلّم وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة لم يستقبلوا القبر. وأما وقوف المسلّم عليه، فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة أيضا لا يستقبل القبر. وقال أكثر الأئمة: بل يستقبل القبر عند السلام عليه خاصة. ولم يقل أحد من الأئمة أنه يستقبل القبر عند الدعاء، أي الدعاء الذي يقصده لنفسه، إلا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك، ومذهبه بخلافها. واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وسلّم ولا يقبّله وهذا كله محافظة على التوحيد «2». فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في

_ - من طرق: عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده مرفوعا. وله طريق أخرى عن سهل بن أبي سهيل أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، فالتزمه وتمسح به، قال: فحصبني حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فذكره. أخرجه القاضي إسماعيل في «فضل الصلاة» (30) وابن أبي شيبة (4/ 345) وعبد الرزاق (3/ 577/ 6694) وانظر «تحذير الساجد» ص 95 - 97. وسيأتي تخريج الأحاديث مرة أخرى في الكتاب. (1) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529) وغيرهما. (2) قال العلامة محمد بن سلطان المعصومي الحنفي في كتابه: «المشاهدات المعصومية عند قبر خير البرية»: ويجب على الزائر أن يجتنب لمس الجدار وتقبيله والطواف به والصلاة إليه. قال النووي: لا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله عليه وسلّم، ويكره إلصاق البطن والظهر بجدار القبر، قاله الحليمي وغيره. ويكره مسحه باليد وتقبيله، ومن ظن أن المسح باليد ونحوه أبلغ فيه البركة، فهو من جهالته وغفلته، لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع اه. وفي «الإحياء»: مس المشاهد وتقبيلها عادة النصارى واليهود ويجب اجتناب الانحناء للقبر عند التسليم. قال ابن جماعة: «إنه من البدع المنكرة، ويظن من لا علم له أنه من شعار التعظيم، وأقبح منه تقبيل أرض القبر، فإنه لم يفعله السلف الصالح، والخير كله في اتباعهم، وليس عجبي ممن جهل ذلك فارتكبه، بل عجبي ممن أفتى لتحسينه مع علمه بقبحه ومخالفته لعمل السلف» اه. من كتاب «المجموع المفيد في نقض القبورية ونصرة التوحيد» لمحمد بن عبد الرحمن الخميس ص 267.

أول من وضع أحاديث زيارة المشاهد

قوله تعالى: وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح: 23] قالوا: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. وقد ذكر بعض هذا المعنى البخاري في صحيحه لما ذكر قول ابن عباس: إن هذه الأوثان صارت إلى العرب، وذكره ابن جرير الطبريّ وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف «1». وذكره وثيمة وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق. وقد بسطت الكلام على هذه المسائل في غير هذا الموضع. [أول من وضع أحاديث زيارة المشاهد] وأول من وضع هذه الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي على القبور أهل البدع من الروافض ونحوهم الذين يعطّلون المساجد ويعظّمون المشاهد التي يشرك فيها ويكذّب فيها ويبتدع فيها في دين الله ما لم ينزل الله به سلطانا، فإن الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد دون المشاهد كما قال تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف: 29] وقال: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن: 18] وقال: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 18] وقال: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ [البقرة: 187] وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة: 114]. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلّم أنه كان يقول: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» «2». والله تعالى أعلم. فهذه ألفاظ المجيب، فليتدبّر الإنسان ما تضمّنته، وما عارض به هؤلاء المعارضون مما نقلوه عن الجواب، وما ادّعوا أنه باطل؛ هل هم صادقون مصيبون في هذا أو هذا، أو هم بالعكس؟ والمجيب أجاب بهذا من بضع عشرة سنة بحسب حال السائل واسترشاده، ولم يبسط القول فيها ولا سمّى كلّ من قال بهذا القول، ومن قال بهذا القول بحسب ما تيسّر في هذا الوقت، وإلا فهذان القولان موجودان في كثير من الكتب المصنفة في مذهب مالك والشافعي وأحمد وفي شروح الحديث وغير ذلك. والقول بتحريم السفر إلى غير المساجد الثلاثة وإن كان قبر نبينا صلى الله عليه وسلّم وهو قول مالك وجمهور أصحابه، وكذلك أكثر أصحاب أحمد؛ الحديث عندهم معناه: تحريم السفر إلى غير الثلاثة، لكن منهم من يقول: قبر نبينا صلى الله عليه وسلّم لم يدخل في العموم.

_ (1) انظر «صحيح البخاري» (4920). (2) جزء من حديث أخرجه مسلم في «صحيحه» (532) من حديث جندب بن عبد الله البجلي- رضي الله عنه-.

ثم لهذا القول مأخذان: أحدهما: أن السفر إليه سفر إلى مسجده، وهذا المأخذ هو الصحيح وهو موافق لقول مالك وجمهور أصحابه. والمأخذ الثاني: أن نبيّنا لا يشبّه بغيره من النبيّين، كما قال طائفة من أصحاب أحمد: إنه يحلف به، وإن كان الحلف بالمخلوقات منهيا عنه، وهو رواية عن أحمد. ومن أصحابه من قال في المسألتين: حكم سائر الأنبياء كحكمه، قاله بعضهم في الحلف بهم، وقاله بعضهم: في زيارة قبورهم، وكذلك أبو محمد الجويني ومن وافقه من أصحاب الشافعي على أن الحديث يقتضي تحريم السفر إلى غير الثلاثة. وآخرون من أصحاب الشافعي ومالك وأحمد قالوا: المراد بالحديث نفي الفضيلة والاستحباب، ونفي الوجوب بالنذر لا نفي الجواز، وهذا قول الشيخ أبي حامد وأبي علي وأبي المعالي والغزالي وغيرهم، وهو قول ابن عبد البرّ وأبي محمد المقدسي ومن وافقهما من أصحاب مالك وأحمد. فهذان القولان الموجودان في كتب المسلمين ذكرهما المجيب، ولم يعرف أحدا معروفا من العلماء المسمّين في الكتب أنه يستحبّ السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين. ولو علم أن في المسألة قولا ثالثا لحكاه، لكنه لم يعرف ذلك، وإلى الآن لم يعرف أن أحدا قال ذلك، ولكن أطلق كثير منهم القول باستحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، وحكى بعضهم الإجماع على ذلك. وهذا مما لم يذكر فيه المجيب نزاعا في الجواب، فإنه من المعلوم أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم يستحبّ السّفر إليه بالنص والإجماع، فالمسافر إلى قبره لا بدّ إن كان عالما بالشريعة أن يقصد السفر إلى مسجده، ولا يدخل ذلك في جواب المسألة، فإن الجواب إنما كان عمّن سافر لمجرد زيارة قبورهم، والعالم بالشريعة لا يقع في هذا؛ فإنه يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلّم قد استحب السفر إلى مسجده والصلاة فيه، وهو يسافر إلى مسجده، فكيف لا يقصد السفر إليه؟ وكل من علم ما يفعله باختياره فلا بدّ أن يقصده. وإنما ينتفي القصد مع الجهل؛ إما مع الجهل بأن السفر إلى مسجده مستحبّ لكونه مسجده، لا لأجل القبر، وإما مع الجهل بأن المسافر إنما يصل إلى مسجده. فأما مع العلم بالأمرين فلا بدّ أن يقصد السفر إلى مسجده، ولهذا كان لزيارة قبره حكم ليس لسائر القبور، من وجوه متعددة كما قد بسط في مواضع. وأهل الجهل والضلال يجعلون السفر إلى زيارته كما هو معتاد لهم من السفر إلى زيارة قبر من يعظمونه؛ يسافرون إليه ليدعوه ويدعوا عنده، ويدخلون إلى قبره ويقعدون عنده، ويكون عليه أو عنده مسجد بني لأجل القبر، فيصلون في ذلك المسجد تعظيما لصاحب القبر.

وهذا مما لعن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أهل الكتاب على فعله ونهى أمته عن فعله، فقال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذّر ما فعلوا». وهو في الصحيحين من غير وجه. وقال قبل أن يموت بخمس: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» رواه مسلم. فمن لم يفرق بين ما هو مشروع في زيارة القبور، وما هو منهي عنه لم يعرف دين الإسلام في هذا الباب.

فصل [خلط المردود عليه بين زيارة القبور والسفر إليها]

فصل [خلط المردود عليه بين زيارة القبور والسفر إليها] قال: «فعند ذلك شرح الله صدري للجواب عما نقل فيه من مقالته، وسارعت لإطفاء بدعته وضلالته. فأقول وبالله التوفيق، وأن يوصلنا إليه من أسهل طريق: لقد ضل صاحب هذه المقالة وأضلّ، وركب طريق الجهالة واستقل، وحاد في دعواه عن الحق وما جاد، وجاهر بعداوة الأنبياء وأظهر لهم العناد، فحرّم السفر لزيارة قبره وسائر القبور، وخالف في ذلك الخبر الصحيح المأثور، وهو ما ورد عنه صلى الله عليه وسلّم في الصحيح أنه قال: «زوروا القبور» «1». وورد عنه أنه قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا» «2». فرفع صلى الله عليه وسلّم الحرج عن المكلف بعد ما كان حظر. والمشهور أن الأمر بعد الحظر يقتضي الوجوب. وأقل درجاته أن يلحق بالمباح أو المندوب». والجواب عن هذا من وجوه: الأول: أن في هذا من الجراءة على الله ورسوله وعلماء المسلمين أولهم وآخرهم ما يقتضي أن يعرف من قال هذه المقالة ما فيها من مخالفة دين الإسلام وتكذيب الله ورسوله ويستتاب منها؛ فإن تاب وإلا ضرب عنقه. وذلك أنه ادّعى أنه من حرم السفر إلى غير المساجد الثلاثة، أو حرم السفر لمجرد زيارة القبور فقد جاهر الأنبياء بالعداوة، وأظهر لهم العناد، فحرم السفر لزيارة قبره وسائر القبور. ذكر ذلك بحرف الفاء وليس في كلام المجيب إلا حكاية القولين في السفر لمجرد زيارة القبور. فإذا قيل: إنه جاهر بالعداوة وأظهر العناد لأجل تحريم هذا السفر؛ كان كل من حرّمه مجاهرا للأنبياء بالعداوة مظهرا لهم العناد، ومعلوم أن مجاهرة الأنبياء بالعداوة

_ (1) جزء من حديث أخرجه مسلم (976) من حديث أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه (1569) بلفظ: «زوروا القبور، فإنها تذكّركم الآخرة». (2) أخرجه النسائي (4/ 89) من حديث بريدة بن الحصيب، وفيه: «ونهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجرا». وأصل الحديث عند مسلم؛ انظر «أحكام الجنائز» ص 227 - ط. المعارف.

وإظهار العناد لهم غاية في الكفر، فيكون كل من نهى عن هذا السفر كافرا. وقد نهى عن ذلك عامة أئمة المسلمين، وإمامه مالك صرّح بالنهي عن السفر لمن نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، مع أن النذر يوجب فعل الطاعة عنده فلم يجعله مع النذر مباحا بل جعله محرما منهيا عنه لما سئل عمّن نذر أن يأتي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ فقال: إن كان أراد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فليأته وليصلّ، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد». ومذهبه المعروف في جميع كتب أصحابه الكبار والصغار، كالمدونة لابن القاسم، والتفريع لابن الجلاب؛ أنه من نذر إتيان المدينة النبوية إن كان أراد الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم وفّى بنذره، وإن كان أراد غير ذلك لم يوف بنذره. فالسفر إلى المدينة ليس عنده مستحبا إلا للصلاة في المسجد، فأما من سافر إليها لغير ذلك؛ كزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو زيارة قبور شهداء أحد، أو أهل البقيع، أو مسجد قباء، فإن هذا السفر عنده منهيّ عنه فلا يوف بنذره، فهذا مذهبه في كل منذور من السفر إلى المدينة سوى الصلاة في مسجده. ومسألة إتيان القبر بخصوصه داخلة في ذلك، وقد ذكرها بخصوصها عنه القاضي إسماعيل بن إسحاق محتجا بذلك على ما ذكره فدل على ثبوت ذلك عنده عن مالك. قال في كتابه «المبسوط» لما ذكر قول محمد بن مسلمة: من نذر أن يأتي مسجد قباء فعليه أن يأتيه، قال القاضي إسماعيل: إنما هذا فيمن كان من أهل المدينة وقربها ممن لا يعمل المطي إلى مسجد قباء، لأن إعمال المطي اسم للسفر، ولا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلّم، في نذر ولا غيره. وقد روي عن مالك أنه سئل عمن نذر أن يأتي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: إن كان أراد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فليأته وليصلّ فيه، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد». وهذا يوافق ما في المدونة وغيرها من الكتب، ففي «المدونة» «1» وهي الأم في مذهب مالك: «ومن قال: لله عليّ أن آتي المدينة أو بيت المقدس، أو عليّ المشي إلى المدينة أو إلى بيت المقدس؛ فلا يأتهما حتى ينوي الصلاة في مسجديهما أو يسميهما فيقول: إلى مسجد الرسول أو مسجد إيليا، وإن لم ينو الصلاة فيهما فليأتهما راكبا ولا هدي عليه، وكأنه لما سماهما قال لله عليّ أن أصلي فيهما، ولو نذر الصلاة في غيرهما من مساجد الأمصار صلى في موضعه ولم يأته». وهذه المسائل في الكتب الصغار والكبار، وقد صرّح فيها أن من نذر المشي أو الإتيان إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلّم أو بيت المقدس فلا يأتهما إلا أن يريد الصلاة في المسجدين.

_ (1) «المدونة» (1/ 471) وانظر «بداية المجتهد» لابن رشد (1/ 790) - دار الفكر-.

فتبيّن بهذا أن السفر إلى المدينة أو بيت المقدس في غير الصلاة في المسجدين ليس طاعة ولا مستحبا ولا قربة، بل هو منهيّ عنه وإن نذره، لقوله صلى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» «1» رواه البخاري وغيره، وهو من حديث مالك في الموطأ. فمن سافر لبيت المقدس لغير العبادة المشروعة في المسجد مثل زيارة ما هنالك من مقابر الأنبياء والصالحين وآثارهم كان عاصيا عنده، ولو نذر ذلك لم يجز له الوفاء بنذره، وكذلك من سافر إلى قبر الخليل أو غيره، وكذلك من سافر إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلّم لمجرّد القبر لا للعبادة المشروعة في المسجد كان عاصيا، وإن نذر ذلك لم يوف بنذره؛ سواء سافر لأجل قبره أو لأجل ما هنالك من المقابر والآثار أو مسجد قباء، أو غير ذلك. وقال القاضي عبد الوهاب في «الفروق»: «يلزم المشي إلى بيت الله الحرام ولا يلزم ذلك إلى المدينة ولا بيت المقدس، والكل مواضع يتقرب بإتيانها إلى الله. والفرق بينهما: أن المشي إلى بيت الله طاعة فيلزمه، والمدينة وبيت المقدس الطاعة في الصلاة في مسجديهما فقط، فلم يلزم نذر المشي لأنه لا طاعة فيه، ألا ترى أن من نذر الصلاة في مسجديهما لزمه ذلك، ولو نذر أن يأتي المسجد لغير صلاة لم يلزمه». فإذا كان إمامه ينهى عن السفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم دون إتيان مسجده، ونهى الناذر لذلك أن يوفي بنذره، والمالكية- بل الأئمة الأربعة- وغيرهم متّفقون على أن ذلك لا يوفي بنذره، بل مالك والجمهور نهوا عن الوفاء بنذره لكونه عندهم معصية، فيلزم هذا المفتري أن يكون مالك وأصحابه مجاهرين بالعداوة للأنبياء مظهرين لهم العناد، وكذلك سائر الأئمة والجمهور؛ الذين حرّموا السّفر لغير المساجد الثلاثة، وإن كان المسافر قصده الصلاة في مسجد آخر. ومعلوم أن المساجد أحبّ البقاع إلى الله، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أحبّ البقاع إلى الله المساجد، وأبغضها إلى الله الأسواق» «2». والأئمة الأربعة متفقون على أن السفر إلى مسجد غير الثلاثة لا يلزم بالنذر، ولا يسنّ، وليس مستحبا، ولا طاعة ولا برّا ولا قربة، وجمهورهم يقولون: إنه حرام، مع أن قصد المساجد للصلاة فيها والدعاء أفضل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم واتفاق علماء أمته من قصد قبور الأنبياء والصالحين والدعاء عندها، بل هذا محرم نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم

_ (1) أخرجه البخاري (6696، 6700) ومالك في «الموطأ» - 22 - كتاب الأيمان والنذور، 2 - باب ما لا يجوز من النذور في معصية الله (2/ 27) وأبو داود (3289) والترمذي (1526) وابن ماجه (2126) وأحمد (6/ 36) وغيرهم. من حديث عائشة رضي الله عنها. (2) أخرجه مسلم (671) من حديث أبي هريرة بلفظ: «أحبّ البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها».

ولعن أهل الكتاب على فعله تحذيرا لأمته؛ ففي الصحيح أنه قال قبل أن يموت بخمس: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك». وفي الصحاح من غير وجه أنه قال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد- يحذّر ما فعلوا» قالت عائشة: «ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا». فمقابر الأنبياء والصالحين لا يجوز اتخاذها مساجد بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم واتفاق أئمة المسلمين على ذلك، من كره الصلاة في المقبرة ومن لم يكره؛ فإن الذين لم يكرهوها قالوا: سبب الكراهة هو نجاسة التراب، فإذا كان طاهرا لم يكره. وأما اتخاذ القبور مساجد بسبب تعظيم صاحب القبر حتى يتّخذ قبره وثنا. وهذه علة أخرى علل بها طوائف من المسلمين من فقهاء المدينة والكوفة وفقهاء الحديث من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم، كما ذكرت أقوالهم في غير هذا الموضع. بل صاحب الشرع صلى الله عليه وسلّم الذي حرم هذا السفر يلزم هذا المفتري الجاهل أن يكون مجاهرا للأنبياء بالعداوة والعناد، بل المساجد غير الثلاثة نهى عن السفر إليها. وأما إتيانها بلا سفر للصلاة والدعاء فمن أعظم العبادات، والعبادات والقربات تكون واجبا تارة ومستحبا أخرى. وأما قبور الأنبياء والصالحين فلا يستحبّ إتيانها للصلاة عندها، والدعاء عند أحد من أئمة الدين، بل ذلك منهيّ عنه في الأحاديث الصحيحة كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء، ولكن يجوز أن تزار القبور للدعاء لها كما كان النبي صلى الله عليه وسلّم يزور أهل البقيع. وأما قبره خصوصا فحجب الناس عنه ومنعوا من الدخول إليه، وقال صلى الله عليه وسلّم: «لا تتخذوا قبري- وفي رواية بيتي- عيدا، وصلوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» «1» وكذلك قال في السلام عليه. والله أمر بالصلاة والسلام عليه مطلقا، وذلك مأمور به في جميع البقاع لا يختص قبره باستحباب ذلك، بل هو مستحبّ مشروع في جميع البقاع، وتخصيص القبر بذلك منهي عنه. فالذين نهوا عن هذا السفر إنما نهوا عنه طاعة لله ورسوله فهم قاصدون بذلك طاعة الله واتباع رسوله، ولو كانوا مخطئين لم يكن القاصد لطاعة الأنبياء معاديا لهم لا سرا ولا جهرا، ولا معاندا لهم، بل موجبا لطاعتهم والإيمان بهم، ومواليا لهم ومسلما لحكمهم، ولو كان مخطئا فإن هذا كان قصده، فكيف يجعل معاديا لهم لا سيما مع أنه مصيب موافق لهم باطنا وظاهرا؟ ولو قدّر أن المجيب حرّم زيارة القبور مطلقا سفرا وغير سفر فهذا قول طائفة من السلف مثل الشعبي والنخعي وابن سيرين، كما ذكر ذلك عنهم غير واحد، منهم ابن بطّال في «شرح البخاري». وهؤلاء من أجلّ علماء المسلمين في زمن التابعين باتفاق المسلمين، ويحكى قولا في مذهب مالك. ومن قال ذلك لم يكن معاديا للأنبياء لا

_ (1) تقدم تخريجه.

لا يوجد في الكتاب ولا في السنة دليل على استحباب زيارة قبور الأنبياء

سرا ولا جهرا، ولا معاندا لهم لا باطنا ولا ظاهرا. ومن قال عن علماء المسلمين الذين اتفق المسلمون على إمامتهم إنهم كانوا معاندين للأنبياء؛ فإنه يستحق عقوبة مثله. ولا خلاف بين المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان قد نهى عن زيارة القبور أولا، فكان ذلك محرما في أول الإسلام، وقد اعترف هذا المعترض بذلك. فهل يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلّم لما حرم زيارة القبور كان مجاهرا للأنبياء بالعداوة مظهرا لهم العناد؟! وكذلك سائر الشرع المنسوخ؛ ليس فيه معاداة للأنبياء ولا معاندة لهم، لا سرا ولا جهرا، فإن الله لم يشرع معاداة أنبيائه ولا معاندتهم قط، بل الإيمان بجميع الأنبياء كالتوحيد لا بد منه في كل شرعة، ودين الأنبياء واحد، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد» «1». وقال تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً الآية إلى قوله: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [المؤمنون: 51، 52]. قال عامة المفسرين: على ملة واحدة وعلى دين واحد «2». وقد قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ إلى قوله: وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران: 81]. فأمر متقدّمهم أن يؤمن بمتأخرهم كما أمر متأخرهم أن يؤمن بمتقدمهم. فكل ما شرع في وقت لا يكون مقصوده معاداة للأنبياء، كما لا يكون مقصوده شركا، فإن الله لم يشرع الشرك قط، ولا شرع معاداة الأنبياء قط، لكن من تمسك بالمنسوخ مع علمه بأنه منسوخ يكون مكذبا، ثم معاداة الأنبياء ومعاندتهم هي كفر بهم وتكذيب لهم. [لا يوجد في الكتاب ولا في السنة دليل على استحباب زيارة قبور الأنبياء] فأين في كتاب الله وسنة رسوله أنه يستحب السفر لمجرد زيارة قبورهم أو قبور غيرهم، حتى يكون مخالف ذلك مخالفا لذلك النص؟ ولو قدّر أنه خالف نصا لم يبلغه، أو رجح غيره عليه؛ لم يكن ذلك معاداة لهم ولا معاندة، ولكن الجهال وأهل الضلال يظنون أن السفر إلى قبورهم من حقوقهم التي تجب على الخلق، وأنها من الإيمان بهم. أو يظنون أن زيارة قبورهم من باب التعظيم لهم، وتعظيم أقدارهم وجاههم عند الله، وأن الزائر إذا دعاهم وتضرع لهم وسألهم حصل مطلوبه؛ إما بشفاعتهم له، وإما لمجرد عظم قدرهم عند الله، يعطى سؤله إذا دعاهم، وإما أن

_ (1) أخرج نحوه البخاري (3443) ومسلم (2365) وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلّات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد». (2) انظر «فتح القدير» للشوكاني (3/ 573)، وفيه: «وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: «إن هذه أمتكم أمة واحدة». قال: «إن هذا دينكم دينا واحدا».

يقول: يفيض على الداعي من جهتهم ما يطلب من غير علم منهم ولا قصد، كشعاع الشمس الذي يظهر في الماء، وبواسطة الماء يظهر في الحائط، وإن كانت الشمس لا تدري بذلك. وهذا قول طائفة من المتفلسفة المنتسبين إلى الملل. وقد ذكره صاحب «الكتب المضنون بها على غير أهلها» «1» وغيره، كما بسط الكلام على ذلك في موضع آخر. ومعلوم أن زيارة القبور بهذا القصد وعلى هذا الوجه ليست من شريعة الإسلام، بل من دين المشركين والمعطّلين. والرسول لم يشرع مثل هذا لأمته، ولا فعله أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان، ولا استحبّه أحد من أئمة المسلمين، بل النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلّم تنهى عما قد يفضي إلى هذا، فكيف إلى هذا؟ فإنه صلى الله عليه وسلّم لعن الذين يتخذون قبور الأنبياء مساجد يحذر ما فعلوا. وقال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» وخص بيته بأن قال: «لا تتخذوا قبري عيدا» وفي رواية: «بيتي عيدا». وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». فإذا كان قد حرّم أن تتخذ مسجدا يعبد الله فيها لئلا يفضي إلى دعائه، فكيف إذا كان المقصود بالزيارة هو دعاء صاحب القبر؟ وذلك هو المقصود بالسفر إلى قبره. وقد قال تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 80]. والمشرك يقصد فيما يشرك به أن يشفع له أو يتقرّب بعبادته إلى الله أو يكون قد أحبه كما يحب الله. والمشركون بالقبور توجد فيهم الأنواع الثلاثة؛ قال الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] الآية. وقال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3]. وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165]. وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا إلى قوله: مَحْذُوراً [الإسراء: 56، 57]. وقوله تعالى:

_ (1) قال المعلمي اليماني- رحمه الله-: «كتاب المضنون به على غير أهله»، منحول للغزالي، وليس له. ونقل ابن السبكي في «طبقات الشافعية» (4/ 131) عن ابن الصلاح أنه قال عن كتاب المضنون به: منسوب إلى أبي حامد الغزالي، ومعاذ الله أن يكون له. وبيّن سبب كونه مختلقا موضوعا عليه، قال: والأمر كما قال. وقد اشتمل المضنون على التصريح بقدم العالم ونفي علم القديم بالجزئيات، ونفي الصفات. وكل واحد من هذه يكفّر الغزالي قائلها، هو وأهل السنة أجمعون. انتهى. وانظر «كشف الظنون» (2/ 451) طبعة سنة 1311. والتعليق على كتاب «التوسل والوسيلة» لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 80 طبع المكتبة السلفية سنة 1384. ولأن شيخ الإسلام لا يرى أن المضنون للغزالي، لم يسمّ مؤلفه هنا ولا في «التوسل والوسيلة» اه. قلت: قال الصنعاني: «ولا أظنه من مؤلفاته، وإنما هو مكذوب عليه». «كتب حذر منها العلماء» للبحّاثة مشهور بن حسن- سلّمه الله- (1/ 45) وانظر (1/ 143) من الكتاب نفسه.

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ إلى قوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 22، 23]. حتى إن الملائكة إذا قضي الأمر صعقوا، ولا يعلمون ما قضاه حتى يفزّع عن قلوبهم؛ أي يزول عنها الفزع، حينئذ يعلمون ما قضاه وما قاله، فكيف يشفعون عنده ابتداء قال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء: 28] الآية. وقال: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً [النجم: 26] الآية. وكذلك من ظن أن السفر إلى قبورهم من حقوقهم التي تجب على الخلق؛ فهذا الظن ليس هو دين أحد من المسلمين، ولم يقل أحد إن السفر إلى المسجد النبويّ أو المسجد الأقصى واجب، مع أن النبي صلى الله عليه وسلّم قد شرع السفر إليهما، وقال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا». فكيف بما دون ذلك من القبور والآثار؟ لم يقل أحد من علماء المسلمين إن السفر إلى ذلك واجب، بل ولا عرف عنهم القول بالاستحباب. بل السلف والقدماء على تحريم ذلك، والمتأخرون متنازعون، فأحد القولين أن ذلك جائز لا فضيلة فيه. والآخر أنه ينهى عنه. وعلى هذا القول دلّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأقوال الصحابة وسلف الأمة، فإنه ثبت عنه أنه قال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد». وهذه صيغة خبر معناه النهي. ولكن من قال ليست نهيا بل نفيا للفضيلة، وهذا الاحتمال وإن كان باطلا فإنما يقدح في رواية أبي هريرة. والحديث في الصحيحين من رواية أبي هريرة ومن رواية أبي سعيد الخدري. ولفظ حديث أبي سعيد: عن قزعة عن أبي سعيد قال: سمعت منه حديثا فأعجبني، فقلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قال: فأقول عليه ما لم أسمع؟ سمعته يقول: «لا تشدّوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى». وسمعته يقول: «لا تسافر المرأة يوما من الدهر إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها». ولفظ أبي سعيد هو الثابت في الصّحاح؛ صريح في النهي، وهو صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن السفر إلى غير الثلاثة. وتبين بذلك أن من قال السفر إلى غيرها جائز أو غير مكروه فهو مخطئ، والله أعلم. وإذا كان ذلك ليس بواجب ولا مستحب؛ بل هو منهيّ عنه، لم يكن من حقوقهم التي أوجبها الله ولا دعا عباده إليها، فأي معاداة وأيّ معاندة لمن نهى عن شيء ليس من حقوقهم ولا مما أوجبوه ولا دعوا إليه؟ بل هو ناه عما نهوا عنه آمر بما أمروا به، مطيع لهم متبع لهم، قصده متابعتهم، فكيف يكون مع متابعتهم قصدا وقولا وعملا معاديا ومعاندا؟ لو قدّر أنه متأوّل مخطئ؛ فكيف إذا كان قد ذكر قوليّ علماء المسلمين الذين نهوا والذين أباحوا وحجة كل قول؟ والسلف على النهي، وكلام علماء المسلمين مالك وغيره موجود في كتب كثيرة، فكفى بقاض مالكي جهلا

وضلالا أن يقول بكفر من قال بقول إمامه وأصحابه، بل كفى بمن قال ذلك جهلا وضلالا سواء كان مالكيا أو غير مالكيّ مع عظم قدر مالك بإجماع أهل الإسلام الخاص منهم والعام، بل لم يكن في وقته مثله. وقد روى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة» «1». قال غير واحد: كانوا يرونه مالك بن أنس، فلو كان ما قاله هو وأصحابه مما خالفهم فيه بقية الأئمة لم يكن ذلك من مسائل التكفير، ولا من معاداة الأنبياء ومعاندتهم. فكيف والذي قاله مالك بن أنس هو قول سائر الأئمة كما يدل عليه كلامهم وأصحابهم ومسائلهم؟ والذين خالفوه غايتهم أن قالوا: إن السفر جائز. ولو قدر أن بعضهم قالوا: هو مستحب؛ فليس فيهم من يجعل أصحاب ذلك القول ممن تنقّص الأنبياء أو عاداهم أو عاندهم، بل قائل هذا من أجهل الناس. وهو في هذه المقالة بالنصارى أشبه منه بالمسلمين. وقد ذكر إسماعيل بن إسحاق- وهو من أجلّ علماء المسلمين ومن أجل من قلد قضاء القضاة، حتى كان المتولي لذلك وحده في جميع بلاد بني العباس في خلافة المعتضد- ذكر في كتابه «المبسوط» ما تقدم ذكره في باب إتيان مسجد قباء والصلاة

_ (1) حديث ضعيف. أخرجه أحمد (2/ 299) والترمذي (2680) والحاكم في «المستدرك» (1/ 90 - 91) وابن حبان (9/ 52/ 3736) وابن أبي حاتم في تقدمة «الجرح والتعديل» (ص 11 - 12) والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 386) والخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (5/ 306) (6/ 376) و (13/ 17) والفسوي في «المعرفة والتأريخ» (1/ 346 - 347) وابن عدي في «الكامل» (1/ 101) وابن الجوزي في «مثير العزم الساكن» (2/ 284/ 460) وابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 85) وفي «الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء» (ص 20 - 21) والذهبي في «السير» (8/ 55) وغيرهم. من طريق: سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا. قال الترمذي: «حديث حسن». وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه». ووافقه الذهبي في «التلخيص». لكن ذكر ابن الملقن في «مختصر استدراك الذهبي على المستدرك» (1/ 84) عن الذهبي قوله: «قلت: إنما لم يخرجه مسلم؛ لأنه سأل البخاري عنه، فقال: له علّة؛ وهي أن أبا الزبير لم يسمع من أبي صالح». قلت: الإسناد ضعيف؛ فإن ابن جريج مدلّس وكذا أبا الزبير، ولم يصرّح أحدهما بالتحديث في شيء من طرق الحديث. قال الدارقطني: «تجنّب تدليس ابن جريج فإن تدليسه قبيح، لا يدلّس إلا فيما سمعه من مجروح». أضف إلى ذلك العلّة التي ذكرها الذهبي وهي: عدم سماع أبي الزبير من أبي صالح. فالعجيب من صنيع المحدث أحمد شاكر- رحمه الله- في تحقيقه على «المسند» (15/ 135) إذ قال: «إسناده صحيح»!. والحديث ضعفه المحدث العلامة محمد ناصر الدين الألباني- رحمه الله- في تحقيقه على «المشكاة» رقم (246).

فيه، لما ذكر محمد بن مسلمة: أن من نذر أن يأتي مسجد قباء فعليه أن يأتيه. قال: إنما هذا فيمن كان من أهل المدينة وقربها ممن لا يعمل المطيّ إلى مسجد قباء، لأن إعمال المطيّ اسم للسفر؛ ولا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلّم في نذر ولا غيره. قال: وقد روي عن مالك أنه سئل عمن نذر أن يأتي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: إن كان أراد المسجد فليأته وليصلّ فيه، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد» الحديث. وذكر فيه عن مالك أنه قال فيمن نذر أن يمشي إلى مسجد من المساجد ليصلي فيه قال: فإني أكره له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلّم: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى ومسجدي هذا». وتقدم أن في «المدونة» وسائر الكتب ما يوافق ذلك. قال في «المدونة» «1»: ومن قال: «لله عليّ أن آتي المدينة أو بيت المقدس، أو المشي إلى المدينة أو بيت المقدس، فلا يأتيهما أصلا، إلا أن ينوي الصلاة في مسجديهما أو يسمّيهما فيقول: إلى مسجد الرسول، أو مسجد إيليا، وإن لم ينو الصلاة فليأتهما راكبا ولا هدي عليه» وكأنه لما سماهما قال: لله عليّ أن أصلي فيهما. ولو نذر الصلاة في غيرهما من مساجد الأمصار صلّى في موضعه ولم يأته، فقد تبين أنه إن نوى الصلاة في المسجدين وفّى بنذره، وكذلك إن سمّى المسجدين فإن المسجد إنما يؤتى للصلاة، وأما إذا نذر إتيان نفس البلد فليس عليه أن يأتيه، وهذا يتناول إتيانه لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم وقبور الشهداء وأهل البقيع، وإتيان مسجد قباء، كما يتناول النهي عن السفر إلى بيت المقدس لزيارة القبور والآثار التي هناك من آثار الأنبياء، وإتيان المسجد لغير الصلاة كالتمسح بالصخرة وتقبيلها، أو إتيانه للوقوف عشية عرفة، والطواف بالصخرة، أو لغير ذلك مما يظنه بعض الناس عبادة وليس بعبادة، ومما هو عبادة للقريب ولا يسافر لأجله؛ كزيارة قبور المسلمين للدعاء لهم والاستغفار، فإن هذا مستحبّ لمن خرج إلى المقبرة من البلد ولمن اجتاز به، ولا يشرع السفر لذلك. فمالك وغيره نهوا عن السفر إلى المدينة أو إلى بيت المقدس لغير العبادة المشروعة في المسجدين سواء كان المسافر يسافر لأمر غير مشروع بحال، أو لما هو مشروع للقريب ولا يشرع السفر لأجله، وكذلك مذهب مالك أنه لا يسافر إلى المدينة لشيء من ذلك بل هذا السفر منهي عنه والسفر المنهي عنه عنده لا تقصر فيه الصلاة لكن بعض أصحابه وهو محمد بن مسلمة استثنى مسجد قباء، وابن عبد البر جعل السفر مباحا إلى غير الثلاثة المساجد ولا يلزم بالنذر لأنه ليس بقربة كما يقوله بعض أصحاب الشافعي وأحمد.

_ (1) «المدونة» (1/ 471).

إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل القبر ليس بطاعة

وأما جمهور أصحاب مالك فعلى قوله في أن السفر لغير المساجد الثلاثة محرّم لا يجوز أن يفعل ولو نذره فلا يستحب عند أحد منهم. وقال القاضي عياض: لا يباح السفر لغير المساجد الثلاثة لا لناذر ولا لمتطوع. وقال أبو الوليد الباجي «1» قبله في السفر إلى مسجد قباء: إنه منهيّ عنه. قال القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي «2» في «الفروق»: فرق بين مسألتين يلزم نذر المشي إلى البيت الحرام ولا يلزم ذلك إلى المدينة ولا بيت المقدس، والكل مواضع يتقرب بإتيانها إلى الله. قال: والفرق بينهما: أن المشي إلى بيت الله طاعة تلزمه، والمدينة وبيت المقدس الصلاة في مسجديهما فقط، فلم يلزم نذر المشي لأنه لا طاعة فيه. ألا ترى أن من نذر الصلاة في مسجديهما لزمه ذلك، ولو نذر أن يأتي المسجد لغير صلاة لم يلزمه أن يأتي، فقد صرّح بأن المدينة وبيت المقدس لا طاعة في المشي إليهما إنما الطاعة الصلاة في مسجديهما فقط، وأنه لو نذر أن يأتي المسجد لغير صلاة لم يلزمه ذلك بناء على أنه ليس بطاعة. [إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم لأجل القبر ليس بطاعة] فتبين أن من أتى مسجد الرسول لغير الصلاة؛ أنه ليس بطاعة ولا يلزم بالنذر. وتبين أن السفر إليه وإتيانه لأجل القبر ليس بطاعة كما ذكر ذلك مالك وسائر أصحابه.

_ (1) هو: سليمان بن خلف بن سعد التجيبي القرطبي؛ أبو الوليد الباجي المالكي. من كبار فقهاء المالكية، ومن علماء الفقه والحديث، أصله من بطليوس، ومولده في باجة، من بلاد الأندلس. ولد سنة (403) وتوفي سنة (474). له من التصانيف: «إحكام الفصول في أحكام الأصول» و «اختلاف الموطآت» و «الحدود» و «المنتقى» و «شرح المدونة» وغيرها. انظر ترجمته في: «الأنساب» للسمعاني (2/ 19) و «نفح الطيب» (2/ 67) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 535) و «العبر» (3/ 281) و «تذكرة الحفاظ» (3/ 1178) و «البداية والنهاية» (12/ 122 - 123)، و «الديباج المذهب» (1/ 377 - 385) و «شذرات الذهب» (3/ 344 - 345) و «الأعلام» (3/ 125). (2) هو: القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي، أبو محمد المالكي. من فقهاء المالكية وقضاتها الكبار في بغداد. ولد ببغداد سنة (362) وتوفي بمصر سنة (422). له من المصنفات؛ «التلقين» و «شرح المدونة» و «الإشراف على مسائل الخلاف» و «شرح فصول الأحكام» وغيرها. ترجمته في: «تاريخ بغداد» (11/ 31 - 32) و «ترتيب المدارك» (7/ 220) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 429) و «العبر» (3/ 149) و «البداية والنهاية» (12/ 32) و «النجوم الزاهرة» (4/ 276) و «شذرات الذهب» (3/ 223). وانظر مقدمة كتابه «الإشراف على نكت مسائل الخلاف» حيث صنع له المحقق: الحبيب بن طاهر ترجمة وافية.

التفريق بين الغرباء والمقيمين في المدينة في السلام عليه خارج الحجرة

ولا يرد على هذا الاعتكاف؛ فإن المعتكف عنده لا بد أن يصلي، وكذلك من دخله لتعلّم العلم أو تعليمه فإنه يصلي فيه أولا. والمقصود أن هذه المسألة مذكورة في المختصرات؛ ذكرها أبو القاسم بن الجلاب في «التفريع» قال: ومن قال عليّ المشي إلى المدينة أو بيت المقدس فإن أراد الصلاة في مسجديهما لزمه إتيانهما راكبا والصلاة فيهما، وإن لم ينو ذلك فلا شيء عليه. ولو قال: لله عليّ المشي إلى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس لزمه إتيانهما راكبا والصلاة فيهما. وإن نذر السفر إلى مسجد سوى المسجد الحرام أو مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس فإن كان قريبا لا يحتاج إلى راحلة مضى إليه وصلّى فيه، وإن كان بعيدا لا ينال إلا براحلة صلّى في مكانه ولا شيء عليه. وهذا الفرق الذي ذكره ابن الجلاب في سائر المساجد من القريب والبعيد ذكره قبله محمد بن المواز في الموازية وغيره قال: أما السفر إلى المدينتين؛ مدينة الرسول صلى الله عليه وسلّم وبيت المقدس لغير الصلاة في المسجدين فإنه لا يستحبّ عند أحد منهم، بل جمهورهم نهوا عنه وحرّموه موافقة لمالك، لنهي النبي صلى الله عليه وسلّم أن تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وقد ذكر ذلك ابن بشير في تنبيهه والقيرواني في تقريبه، وغيرهما من أصحاب مالك. فهذا نصّ مالك الإمام وأصحابه على أن من نذر إتيان المدينة لغير الصلاة في مسجدها ولو أنه لزيارة أهل البقيع وشهداء أحد وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فإنه لا يأتيها ولا يوف بنذره، بل السفر لذلك منهيّ عنه لقوله: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد». بل السفر إلى ما يظن أنه زيارة لقبر النبي صلى الله عليه وسلّم وليس بزيارة لقبره أولى بالنهي عن السفر لزيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد ومسجد قباء. وهذه الأماكن يستحبّ لأهل المدينة إتيانها وإن لم يقدموا من سفر، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلّم حيث كان يخرج إلى القبور يدعو لهم، وكان يأتي قباء كل سبت راكبا وماشيا «1». [التفريق بين الغرباء والمقيمين في المدينة في السلام عليه خارج الحجرة] وأما ما يظنّ أنه زيارة لقبره مثل الوقوف خارج الحجرة للسلام والدعاء؛ فهذا لا يستحبّ لأهل المدينة بل ينهون عنه، لأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان- الخلفاء الراشدين وغيرهم- كانوا يدخلون إلى مسجده للصلوات الخمس وغير ذلك، والقبر عند جدار المسجد ولم يكونوا يذهبون إليه ولا يقفون عنده، فإذا كان السفر لما شرع لأهل المدينة في غير المساجد منهيا عنه،

_ (1) أخرجه البخاري (1193) ومسلم (1399) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

فالنهي عن السفر لما ليس بمشروع مما يسمى زيارة لقبره وليس زيارة أولى وأحرى. وقد ذكر هذا مالك وغيره من العلماء؛ ذكروا أنه لا يستحب بل يكره للمقيمين بالمدينة الوقوف عند القبر للسلام أو غيره، لأن السلف من الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك إذا دخلوا المسجد للصلوات الخمس وغيرها على عهد الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يصلّون بالناس في المسجد؛ أبو بكر وعمر فصليا بالناس إلى حين ماتا، وعثمان إلى أن حصر، وعلي صلّى فيه مدة مقامه بالمدينة إلى أن خرج إلى العراق. وكان الناس يقدمون عليهم من الأمصار يصلّون معهم. ومعلوم أنه لو كان مستحبا لهم أن يقفوا حذاء القبر ويسلّموا أو يدعوا أو يفعلوا غير ذلك لفعلوا ذلك. ولو فعلوه لكثر وظهر واشتهر، لكن مالك وغيره خصّوا سن ذلك عند السفر لما نقل عن ابن عمر. قال القاضي عياض: قال مالك في «المبسوط»: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف للقبر. وإنما ذلك للغرباء. وقال فيه أيضا: ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فيصلّي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر. قيل له: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة أو المرتين أو أكثر من ذلك عند القبر، يسلّمون ويدعون ساعة. فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك. ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده، وإنما اشتهر هذا عن ابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر أتى القبر فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت. وممن رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب «الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم» قال: حدّثنا سليمان بن حرب، قال: حدّثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر؛ كان إذا قدم من سفر أتى المسجد ثم أتى القبر فقال: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه» «1». فإن قيل: مالك وغيره استحبوا للغرباء كلما دخلوا المسجد أن يأتوا القبر، وهذا يناقض ما ذكر عنهم من النهي عن السفر لأجل القبر، فإنهم خصّوا الغرباء المسافرين بقصد القبر، فيكون لهم في المسألة روايتان. قيل: ليس الأمر كذلك؛ بل هم استحبوا للغرباء الذين قدموا لأجل الصلاة في المسجد أن يقفوا بالقبر ويسلّموا، كما استحبوا لهم أن يأتوا مسجد قباء، وأن يزوروا

_ (1) تقدم تخريجه.

أهل البقيع وشهداء أحد، وهم لو قصدوا السفر لأجل أهل البقيع والشهداء أو لموضع غير مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم كان ذلك منهيا عنه عندهم، لكن إذا سافروا لأجل المسجد والصلاة فيه أتوا القبر وزاروا قبور الشهداء وأهل البقيع ومسجد قباء ضمنا وتبعا، كما أن الرجل ينهى أن يسافر إلى غير المساجد الثلاثة، فلو سافر إلى بلد لتجارة أو طلب علم أو نحو ذلك كان يأتي مسجده ويزور قبره، وإن كان لم يسافر لأجل ذلك، وإنما الرخصة في هذا للغرباء دون أهل المدينة، فأهل المدينة يفعلون ذلك عند السفر فيحصل مقصودهم، والغرباء إنما يقيمون بالمدينة أياما. وصار هذا مثل صلاة التطوع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفي المسجد الحرام، فإنهم يستحبون للغرباء أن يتطوعوا فيه. وأما أهل البلد فتطوعهم في البيوت أفضل. قال مالك: التنفل فيه للغرباء أحبّ إليّ من التنفل في البيوت. وحجتهم في ذلك أن الصلاة فيه بألف صلاة في غيره من المساجد، وأهل البلد يصلّون فيه دائما الفرض، فيحصل مقصودهم بذلك، وتطوعهم في البيوت أفضل لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أيها الناس؛ أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» «1». وقال صلى الله عليه وسلّم في النساء: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن» «2». وأما الغرباء فلا يمكنهم أن يصلّوا الفرض فيه دائما، لأن الفرائض لها أوقات محدودة، فيستكثروا من التنفل فيه، وكذلك المسجد الحرام. ولهذا استحبّوا في المسجد الحرام الطواف للغرباء وفضّلوه على الصلاة. قال ابن القاسم: «الطواف بالبيت للغرباء أحب إليّ من الصلاة» «3». وذلك لأن الغرباء لا يمكنهم الطواف كل وقت، بخلاف أهل البلد فإنه يمكنهم ذلك في جميع الأوقات. وإذا خرجوا من البلد ثم رجعوا اعتمروا. ولهذا قال ابن عباس: يا أهل مكة؛ لا عمرة عليكم، إنما عمرتكم الطواف بالبيت. وقد نص أحمد على مثل ما قال ابن عباس مع قوله بوجوب العمرة على غيرهم في المشهور عنه. ومن أصحابه من جعل الفرق رواية ثالثة، ومنهم من تأولها، ولكن المنصوص عنه الفرق كقول ابن عباس. ولكن الأثر المنقول عن ابن عمر ليس فيه أنه كان يفعل ذلك إلا إذا قدم من سفر ليس فيه أنه كان يفعل ذلك عند إرادة السفر.

_ (1) أخرجه البخاري (731، 6113، 7290) ومسلم (781) وأحمد (5/ 182، 186) وأبو داود (1044) والنسائي (3/ 197 - 198) وفي «الكبرى» (1/ رقم: 1291) والترمذي (450) وغيرهم. من طريق: بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت مرفوعا. (2) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (2/ 76، 77) وأبو داود (567) والحاكم (1/ 209) والبيهقي (3/ 131) وغيرهم. من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر مرفوعا. وهو حديث صحيح؛ انظر «إرواء الغليل» للمحدث الألباني (2/ 293/ 515). وأصل الحديث في «الصحيحين» لكن دون لفظ: «وبيوتهن خير لهن». (3) «المدونة» (1/ 407).

وقد يستحبّ للقادم من السفر ما لا يستحب لغيره، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلّم كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين. ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلّم أنه كان يودّعه. وكذلك طواف القدوم الذي يطوفه القادم إلى مكة يستحب فيه الرمل أولا لأن النبيّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه فعلوا ذلك في عمرتهم، وفي حجة الوداع، ولا يستحبّ ذلك لأهل مكة لأنه لا قدوم عليهم. وكذلك الاضطباع يستحب فيه عند الجمهور؛ أبي حنيفة والشافعي وأحمد. وقال مالك: ليس بسنة. فما نقل عن ابن عمر من تخصيصه الوقوف عند القبر والسلام بما إذا قدم من سفر هو- والله أعلم- لكون ذلك تحية مجيئه إذا قدم من السفر، كما أن طواف القدوم يسمى طواف التحية وفيه الرمل والاضطباع، وليس ذلك مشروعا لأهل مكة، وكذلك طواف الوداع لا يشرع لأهل مكة، إذ لا وداع في حقهم. فتفريقهم بين الغرباء وبين المقيمين له نظير في الشرع، لكن أصل استحبابهم ما استحبوه من فعل ابن عمر. وقد احتجّ أحمد وغيره مع ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما من رجل يسلم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أردّ عليه السلام» رواه أبو داود وغيره، وهو على شرط مسلم، وفي رواته أبو صخر حميد بن زياد وهو مختلف فيه، ضعّفه ابن معين، ووافقه النسائي، ومرة وثقه، ووافقه أحمد «1». فمالك وأحمد وغيرهما احتجوا بفعل ابن عمر. وقد احتجّ أحمد وأبو داود وابن حبيب وغيرهم بحديث أبي هريرة هذا. وفي هذا نزاع مذكور في غير هذا الموضع. والمقصود هنا بيان قول مالك وغيره من أهل العلم، وأنهم لم يتناقضوا حيث منعوا من السفر إلى غير المساجد الثلاثة، وأنه لا يسافر إلى المدينة إلى غير المسجد، لا للقبر وغيره. وأن السفر إلى غير الثلاثة منهيّ عنه، وإن كان قد نذره، فإن قوله: «لا تشدّ الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة» إذا كان متناولا بالإجماع السفر إلى سائر المساجد، مع أنها أحبّ البقاع إلى الله، فالسفر إلى المقابر أولى بالنهي أو بعدم الفضيلة. وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يأتي المدينة لزيارة قبور أهل البقيع أو الشهداء أو غيرهم لم يوف بنذره. وقال مالك والأكثرون؛ قالوا: لا يجوز أن يوفي بنذره فإنه معصية. ولو نذر السفر إلى نفس المسجد للصلاة فيه لم يحرم عليه الوفاء بالإجماع، بل يستحب الوفاء «2». وقيل: يجب على قولين للشافعي، والوجوب مذهب مالك وأحمد، ونفي الوجوب مذهب أبي حنيفة.

_ (1) وقد تقدم تخريج الحديث، وانظر للكلام عليه «السلسلة الصحيحة» رقم (2266). (2) انظر: «موسوعة الإجماع لشيخ الإسلام ابن تيمية» جمع وترتيب: عبد الله بن مبارك البوصي. ص 640 - وما بعدها.

فظهر أن أقوال أئمة المسلمين موافقة لما دلّت عليه السنة من الفرق بين السفر إلى المدينة لأجل مسجد الرسول والصلاة فيه، والسفر إليها لغير مسجده؛ كالسفر لأجل مسجد قباء، أو لزيارة القبور التي فيها؛ قبر الرسول صلى الله عليه وسلّم وقبور من فيها من السابقين الأوّلين وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين. وظهر أنه إذا نهي عن السفر إلى ما يستحبّ لأهل المدينة إتيانه بلا سفر كزيارة مسجد قباء وشهداء أحد والبقيع؛ فالنهي عما يكره لأهل المدينة إتيانه أولى وأحرى. والله سبحانه خصّ رسوله بما خصّه به تفضيلا له وتكريما لما يجب من حقّه على كل مسلم في كل موضع، فإن الله أوجب الإيمان به ومحبته وموالاته ونصره وطاعته واتباعه على كل أحد في كل مكان، وأمر من الصلاة عليه والسلام عليه في كل مكان، ومن سؤال الوسيلة له عند كل أذان، ومن ذكر فضائله ومناقبه وما يعرف به قدر نعمة الله به على أهل الأرض، وأن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلّم إليهم، وأنه هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأنه لا يؤمن العبد حتى يكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين «1»، بل حتى يكون أحب إليه من نفسه «2». إلى غير ذلك من حقوقه المبسوطة في غير هذا الموضع «3». وكل هذه مشروعة في جميع البقاع ليس منها شيء يختصّ بالقبر ولا بما هو قريب من القبر. ولا شرع للناس أن يكون قيامهم بهذه الحقوق عند القبر أفضل من قيامهم بها في بلادهم، بل المشروع أن يقوموا بها في كل مكان. ومن قام بها عند القبر وفتر عن القيام بها في بلده، كما يوجد في بعض الناس يوجد من محبته وتعظيمه وثنائه ودعائه للرسول عند قبره أعظم مما يوجد في بلده وطريقه. وهذه حالة منقوصة غير محمودة، وصاحبها منحوس الحظ، ناقص النصيب، وهو ناقص الدين والإيمان؛ إما بترك واجب يأثم بتركه، وإما بترك مستحبّ تنقص درجته بتركه، بخلاف من منّ الله عليه فجعل محبته وثناءه وتعظيمه ودعاءه للرسول في بلده مثل ما إذا كان بالمدينة عند قبره أو أعظم. فهذه هي الحالة المحمودة المشروعة وهي حال الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة، ولا يعرف عن أحد منهم أنه كان يزيد حبه وتعظيمه

_ (1) كما في «صحيح البخاري» (15) ومسلم (44) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) كما في «البخاري» (6632) من حديث عبد الله بن هشام، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله؛ لأنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا والذي نفسي بيده؛ حتى أكون أحبّ إليك من نفسك». فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحبّ إليّ من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «الآن يا عمر». قال الحافظ في «فتح الباري» (11/ 536): «أي الآن عرفت فنطقت بما يجب». (3) انظر في ذلك «حقوق النبي صلى الله عليه وسلّم على أمته» للدكتور محمد بن خليفة التميمي. طبع دار أضواء السلف بالرياض.

قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم أن يزار كسائر القبور

ودعاؤه وثناؤه عند القبر. ولهذا لم يكونوا يأتونه، لأن قيامهم بما يجب من حقوق الرسول في جميع الأمكنة سواء. وقد نهى عن تخصيص القبر بذلك وأن يتخذوه عيدا ومسجدا لأنه مظنة أن يتخذ وثنا ويفضي إلى الشرك، ومظنّة أن ينقص قيامهم بحقه في سائر البقاع إذا خصوا تلك البقعة بمزيد القيام، كما أن المشاعر لما خصّت بالعبادات؛ فالمؤمن تجد إيمانه فيها أعظم من إيمانه في غيرها، والرسول صلى الله عليه وسلّم حقه في جميع البقاع سواء، ولكن تتنوع حقوقه بحسب الأحوال، ولهذا إذا اعتبرت أحوال الناس كان من يعظم الميت عند قبره مقصّرا في حقوقه التي أمر بها في سائر البقاع بحسب ما زاد عند القبر. وهذا أمر مطّرد معروف من جميع أحوال الناس. ولما كان السابقون الأولون أقوم بحقوقه في جميع المواضع؛ كانوا أبعد الناس عن تخصيص القبر بشيء، والخلفاء الراشدون ونحوهم لما كانوا أقوم بحقوقه من غيرهم لم يفعلوا ما فعله ابن عمر ونحوه، فأبوه عمر كان أقوم بحقه صلى الله عليه وسلّم منه وكان ينهى أن يقصد الصلاة في موضع صلى فيه، خلاف ما فعله ابنه عبد الله مع فضله ودينه رضي الله عنهم أجمعين. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا أن قول القائل: «من حرّم السفر إلى زيارة قبره وسائر القبور فقد جاهر الأنبياء بالعداوة، وأظهر لهم العناد». يستلزم أن يكون كذلك إمامه مالك؛ بل وإمام غيره من المسلمين، فإنه من أجل أئمة المسلمين وهو أحد أئمتنا الكبار، فإن جميع أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة أئمة لنا رضي الله عنهم أجمعين. فإنه قد صرّح في هذا الباب بما يبطل قول هذا الجاهل أكثر من تصريح غيره. [قبر الرسول صلى الله عليه وسلّم أجل وأعظم أن يزار كسائر القبور] الوجه الثاني: من الجواب: أن قول القائل: إن الناهي عن السفر لزيارة القبور؛ قبور الأنبياء وغيرهم، قد جاهر الأنبياء بالعداوة وأظهر لهم العناد، إنما يتوجه إذا كانت زيارة القبور التي جاءت بها الشريعة؛ هي من باب خضوع الزائر للمزور وذلّه وتواضعه له واستسلامه وانقياده لعظمة قدر المزور، وجاهه عند الله وقربه إليه. فإذا كان المقصود بالزيارة مثل هذا كان النهي عن ذلك تنقيصا لهم وغضا من أقدارهم، كالذي يزور معظّما في الدين أو الدنيا، زيارة خاضع له متواضع له متبرك به. فإذا قيل له: هذا لا ينبغي زيارته، أمكن أن يقال: هذا تنقص لقدره وخفض من منزلته. والزيارة التي جاءت بها الشريعة وذكرها الأئمة من قول النبي صلى الله عليه وسلّم وفعله ليست من هذا النوع، بل مقصودها الدعاء للميت، كالصلاة على جنازته. وقد يكون الزائر فيها أعظم قدرا من المزور، كما كان النبي صلى الله عليه وسلّم أعظم قدرا من كل من زار قبره؛ كأهل

البقيع، وشهداء أحد وأمه. وقد يكون الزائر دون المزور كما في «صحيح مسلم» عن بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» «1». وفي حديث عائشة في الصحيح: «ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين» «2». وفي حديث آخر: «اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنّا بعدهم» «3». فالدعاء الذي أمر به بعد السلام من جنس الدعاء في صلاة الجنازة، وفي صلاة الجنازة قد يكون المصلي أفضل من الميت كما كان النبي صلى الله عليه وسلّم أفضل من الذين صلّى عليهم. وكذلك السابقون من أصحابه أفضل ممن صلّوا عليهم من غيرهم. وقد يكون المصلّى عليه أفضل؛ كالنبيّ صلى الله عليه وسلّم لما مات وصلّى عليه المسلمون أفذاذا، وهو أفضل من كل من صلّى عليه. وكذلك أبو بكر وعمر صلّى عليهما المسلمون وهما أفضل ممن صلّى عليهما. وأما الرسول صلى الله عليه وسلّم فقبره أجل وأعظم من أن يزار كما تزار قبور سائر المؤمنين، فإن أولئك إذا حصل الزائر عند قبورهم وشاهد القبر فإنه يحصل له من الرغبة في الدعاء للميت والترحم عليه، والمحبة والمودة، ما قد يكون أعظم مما لو كان غائبا. ولهذا شرعت الصلاة على قبره. واختلف العلماء هل تشرع على القبر مطلقا؟ على قولين في مذهب الشافعي وأحمد، مع اتفاقهم على أنه لا يصلّى على قبر النبيّ صلى الله عليه وسلّم. وذلك لعظم قدره وحقه، لا لنقص ذلك، فإن الناس مأمورون أن يحبّوه ويعظّموه، ويذكروه ويذكروا ما منّ الله به عليه، وما منّ به عليهم بسببه، ويصلّوا عليه ويسلّموا عليه في كل مكان، وأن لا يفعلوا ذلك عند قبره أعظم مما يفعلونه في سائر البقاع، فإنه يفضي إلى نقص ذلك في سائر البقاع إذا خص قبره بما لا يوجد عند غيره. ومعلوم أنه لا يمكن أن يكون أحد عند قبره في كل وقت، لو كان مما يوصل إليه، فكيف إذا كان محجوبا؟ فتخصيص قبره بصلاة عليه أو سلام أو دعاء أو ثناء، يقتضي هضم ذلك ونقصه في سائر البقاع، فينقص إيمانهم به وتوسلهم بالإيمان به، ويفوتهم حظ عظيم من كرامة الله لهم بقيامهم بحقّه، مع أن ذلك ذريعة إلى الشرك. فكان في تخصيص قبره بما يخصّ به قبر غيره مفسدة وفوات مصلحة.

_ (1) أخرجه مسلم (975). (2) أخرجه مسلم (974). (3) انظر «الموطأ» (1/ 148) - 16 - كتاب الجنائز، (6) باب ما يقول المصلي على الجنازة. و «سنن أبي داود» (3201) و «صحيح ابن حبان» (7/ 342/ 3073) و «أحكام الجنائز» ص 158.

المقصود الشرعي من زيارة القبور

ولهذا جاءت سنته بأن لا يزار قبره كما تزار القبور؛ لعظم قدره وحقّه كما بينا. وأما من زار قبره أو قبر غيره ليشرك به ويدعوه من دون الله فهذا حرام كله، وهو مع كونه شركا بالله فهو ترك لما يجب من حقه صلى الله عليه وسلّم وطلب منه ما ليس إليه بل إلى الله، وأين من يطيعه ويعينه على ما أمر الله به ويقوم بما يجب عليه من حقه ممن يقصّر في حقه وطاعته وإعانته، ويقصر في عبادة الله وتوحيده ودعائه، ويكلّف المخلوق بما لا يقدر عليه إلا الخالق سبحانه وتعالى، فيؤذيه بذلك ويؤذي الله بالشرك به؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «ما أحد أصبر على أذّى يسمعه من الله، يجعلون له ندّا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم» «1». وقد قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56] فهذا حقّه صلى الله عليه وسلّم. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب: 57] الآية. [المقصود الشرعي من زيارة القبور] وأهل البدع والجهل يفعلون ما هو من جنس الأذى لله ورسوله، ويدعون ما أمر الله به من حقوقه وهم يظنّون أنهم يعظّمونه؛ كما تفعل النصارى بالمسيح، فيضلهم الشيطان كما أضل النصارى، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. والذين يزورون قبور الأنبياء والصالحين ويحجّون إليها ليدعوهم ويسألوهم، أو ليعبدوهم ويدعوهم من دون الله؛ هم مشركون. وهم إذا قالوا نحن نحبّهم، فهم إن كانوا صادقين هم يحبونهم مع الله، لا يحبونهم لله كمحبة أهل الشرك للأنداد، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165]. والحب لله؛ أن يكون الله هو المحبوب لذاته ويحب أنبياءه لأنه يحبهم، وعلامة محبتهم متابعتهم، كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] فمن اتّبع الرسول فهو الذي يحبه الله، وأما من قال إنه يحبه وإن غلا فيه وأشرك به، إذا لم يتبعه فإن الله لا يحبه، بل إذا خالفه أبغضه بحسب ذلك، وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأحقاف: 19]. وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46]. فالزيارة للقبور التي شرعها الرسول هي من جنس الصلاة على الجنائز، سواء كان الداعي فاضلا أو مفضولا. فليس المقصود بها الخضوع للميت والتواضع له كما يقصد بتصديق الأنبياء وطاعتهم، ولا شرعت لكون المزور ذا جاه عند الله ومنزلة، بل هي مشروعة في حق كل مؤمن.

_ (1) أخرجه البخاري (6099) و (7378) ومسلم (2804).

وجائز أيضا زيارة قبر الكافر لتذكر الموت. ولكن شاع لفظ الزيارة في المعنى الأول عند كثير من المتأخرين، ولم يكن هذا معروفا في السلف، وما صاروا يفهمون من إطلاق اللفظ بزيارة قبور الأنبياء والصالحين، إلا أنها زيارة لقبورهم لعظم قدرهم وجاههم، وعلوّ منزلتهم عند الله، كما تزور النصارى قبور من يعظّمونه، وكما يتوجّهون إلى صورته المصورة ويتشفعون به. ومن هؤلاء من يظن أن القبر إذا كان في مدينة أو قرية فإنهم ببركته يرزقون وينصرون، وأنه يندفع عنهم الأعداء والبلاء بسببه. ويقولون عمن يعظّمونه: إنه خفير البلد الفلاني، كما يقولون: السيدة نفيسة «1» خفيرة مصر القاهرة، وفلان وفلان خفراء دمشق أو غيرها، وفلان خفير حرّان أو غيرها، وفلان وفلان خفراء بغداد أو غيرها.

_ (1) هي: نفيسة بنت الحسن بن زيد بن السيد سبط النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، الحسن بن علي بن أبي طالب. زوجة الشريف إسحاق بن الإمام جعفر بن محمد الصادق. ولدت بمكة سنة خمس وأربعين ومائة (145) ونشأت بالمدينة، ثم انتقل بها زوجها إلى مصر، وتوفيت فيها سنة ثمان ومائتين (208). كانت صالحة زاهدة عابدة، من الصوّامات القوّامات، رضي الله عنها وأرضاها. انظر ترجمتها في: «وفيات الأعيان» (3/ 210 - 211) و «سير أعلام النبلاء» (10/ 106 - 107) و «العبر» (1/ 355) و «البداية والنهاية» (10/ 262) و «النجوم الزاهرة» (2/ 185) و «شذرات الذهب» (2/ 21) القديمة و (3/ 42) - ابن كثير-. قال الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (10/ 106): «ولجهلة المصريين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف، ولا يجوز مما فيه من الشرك، ويسجدون لها، ويلتمسون منها المغفرة، وكان ذلك من دسائس العبيدية». وقال الحافظ ابن كثير- رحمه الله- في «البداية والنهاية» (10/ 262): «وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيرا جدا، ولا سيما عوام مصر، فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظ ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز، وربما نسبها بعضهم إلى زين العابدين وليست من سلالته، والذي ينبغي أن يعتقد فيها ما يليق بمثلها من النساء الصالحات. وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بتسوية القبور وطمسها. والمغالاة في البشر حرام، ومن زعم أنها تفك من الخشب، أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك، رحمها الله وأكرمها». ملاحظة: قال الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (10/ 107): «وقيل: كانت من الصالحات العوابد، والدعاء مستجاب عند قبرها، بل وعند قبور الأنبياء والصالحين»! قلت: وهذا ما لا دليل عليه شرعا، ومحلّ هذا؛ التشريع، لأن الدعاء عبادة؛ ولم يثبت هذا عن نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا عن السلف بعده. وقد نبّه العلّامة المتقن الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ- حفظه الله تعالى- أن للحافظ الذهبي بعض الزلّات في كتابه «سير أعلام النبلاء» وخاصة في ما يتعلّق بأمور توحيد العبادة، والتوسل، والاعتقاد في الأولياء، والكمال لله وحده. ولا يعني هذا التنقّص من الحافظ الذهبي؛ فلا والله، ولكن «كل بني آدم خطّاء»، ومن ذا يسلم من الخطأ. فلعلّ الله ييسّر لنا إخراج هذه الأخطاء وبيانها، والله أعلم.

ويظنون أن البلاء يندفع عن هذه المدائن والقرى بمن عندهم من قبور الصالحين أو الأنبياء. ثم قد يكون في البلد من قبور الصحابة والتابعين من هو أفضل من ذلك الذي جعلوه خفيرا، كما أن فيهم من الصحابة والتابعين وغيرهم من هو أفضل من نفيسة بكثير. وبدمشق من الصحابة والتابعين من هو أفضل من بعض من يجعلونه خفيرا، أو يقصدون الدعاء عند قبره، كرابعة في باب الصغير، وكرسلان التركماني وغيرهم. وقد نزل عدو كافر بالبلد فتمثّل له الشيطان بصورة ذلك الخفير، وأنه يضربه بعكازه أو غيره، ويقول: ارحل من عندي، فيرحل ذلك الملك الكافر لما رآه، فيظن أولئك أن نفس الشيخ الميت أو سرّه أتاه فدفع عنه. وفي المدفونين بالبلد من هو أفضل من ذلك بكثير. وهذا مما لم يكن معروفا على عهد الصحابة والتابعين، ولكن حدث بعدهم. ومن أقدم ما روي في ذلك ما ذكره أبو عبد الرحمن السّلمي «1» قال: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت عبد الله بن موسى الطّلحي يقول: سمعت أحمد بن العباس يقول: خرجت من بغداد هاربا منها، فاستقبلني رجل عليه أثر العبادة فقال لي: من أين خرجت؟ فقلت: من بغداد، وهربت منها لما رأيت فيها من الفساد، خفت أن يخسف بأهلها. فقال: ارجع ولا تخف، فإن فيها قبور أربعة من أولياء الله، هم حصن لها من جميع البلايا. قلت: من هم؟ قال: الإمام أحمد بن حنبل، ومعروف الكرخي، وبشر بن الحارث الحافي، ومنصور بن عمار الواعظ. فرجعت ولم أخرج. وهذا الشخص الذي قال هذا هو مجهول لا يعرف؛ وقد يكون جنيا وقد يكون إنسيا. فإن الجن كثيرا ما يتصورون في صورة الإنس. ويقول أحدهم: لن ينفرد به في البرية أنا النبي فلان، أو الشيخ فلان، أو الخضر. ومثل هذا كثير معروف تطول حكاية آحاده فإنها لا تحصى لكثرتها. وهؤلاء قد يظنّون أن وجود النبيّ صلى الله عليه وسلّم مقبورا بينهم مثل وجوده في حياته، والله تعالى يقول: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33]. وهذا غلط عظيم؛ فقد روى الترمذي: حدّثنا سفيان بن وكيع،

_ (1) قال العلّامة المعلّمي: «هو محمد بن الحسين الصوفي (325 - 412) تكلّموا فيه حتى رمي بأنه كان يضع» اه. انظر ترجمته في: «تذكرة الحفاظ» (3/ 1046 - 1047) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 247) و «العبر» (3/ 109) و «البداية والنهاية» (12/ 12 - 13) و «شذرات الذهب» (3/ 196) - القديمة- و (5/ 67) - ابن كثير- و «النجوم الزاهرة» (4/ 256).

حدّثنا ابن نمير، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبّاد بن يوسف، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أنزل الله عليّ أمانين لأمتي: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فإذا مضيت تركت فيكم الاستغفار» «1». فقد بيّن صلى الله عليه وسلّم أن الأمان بوجوده هو في حياته، وأنه بعد موته لم يبق إلّا الاستغفار، ليس في وجود القبور أمان. وكذلك في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» «2». ومما يوضّح الأمر في ذلك أنه من المعلوم أن بيت المقدس وما حوله من قبور الأنبياء ما هو أكثر من غيره، فإنه قد قيل: إن بني إسرائيل بعث فيهم ألف نبي، ومع هذا فقد قال الله تعالى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ إلى قوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء: 4 - 8]. فقد بيّن الله أنهم إذا علوا وأفسدوا عاقبهم الله بذنوبهم، وسلّط عليهم العدوّ الذي جاس خلال الديار ودخل المسجد، وقتل فيهم من لا يحصي عدده إلا الله، ولم يخفرهم أحد من قبور الأنبياء التي كانت هناك، وإنما الناس يجزون بأعمالهم، والله تعالى هو الذي يرزقهم وينصرهم، لا رازق غيره ولا ناصر إلا هو. قال تعالى: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ [الملك: 20] الآيتين. فليس للعباد من دون الله لا رازق ولا ناصر. وقد قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ [الإسراء: 58] الآية. فأخبر أنه لا بد لكل قرية من هلاك أو عذاب شديد بدون الهلاك، وذلك بذنوبهم بعد إرسال الرسل لهم. قال الله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ [الشعراء: 208، 209]. وكان أهل المدينة النبوية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعهد خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أحسن أهل المدائن حالا، ونعمة الله عليهم أعظم النعم لكونهم كانوا مطيعين لله ورسوله، وكانت الخلفاء تسوسهم سياسة نبوية، فلما تغيروا وقتل بينهم عثمان رضي الله عنه تغيّر الأمر وحصل لهم من الخوف والذل، ثم أصابهم من السيف ما أصابهم ورسول الله صلى الله عليه وسلّم مدفون بالحجرة، وهو قد بلّغهم الرسالة وأدّى الأمانة،

_ (1) أخرجه الترمذي (3082) وضعّف إسناده المحدث الألباني في «ضعيف سنن الترمذي» (597). (2) أخرجه مسلم (2531).

اعتقاد النفع بالقبور هو كاتخاذها أوثانا

ولم يضمن لهم أنه لوجود قبره أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين يندفع البلاء، وإنما يندفع البلاء بطاعة الرسل لا بقبورهم، فمن أطاعهم كان سعيدا في الدنيا والآخرة، ومن عصاهم استحقّ ما يستحقه أمثاله، وإن كان عنده ما شاء الله من قبورهم. وكانت حفصة أم المؤمنين تتأوّل فيهم قوله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ [النحل: 112] الآية كما رواه ابن أبي حاتم وغيره من حديث ابن وهب، حدّثنا ابن شريح، عن عبد الكريم بن الحارث، سمعه يحدث عن مشرح بن هاعان، عن سليم بن عتر قال: صحبت حفصة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلّم وهي خارجة من مكة إلى المدينة، فأخبرت أن عثمان قد قتل. فرجعت حفصة فقالت: ارجعوا بي عن المدينة؛ فو الذي نفسي بيده إنها للقرية التي قال الله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً [النحل: 112] الآية «1». ولم ترد حفصة رضي الله عنها أن الآية خصّت المدينة بالذكر، بل هذا مثل ضربه الله لمن كان كذلك. وكان أهل مكة لما كانوا كفّارا كذلك فأصابهم ما أصابهم، فلما قتل عثمان علمت حفصة أنه سيصيب أهل المدينة من البلاء ما يناسب حالهم بعد ما كانوا فيه من الأمن والطمأنينة، وإتيان رزقهم رغدا من كل مكان، فذكرت ذلك على سبيل التمثيل بالمدينة، لا على سبيل الحصر فيها. وأهل بغداد أصابهم ما أصابهم من السيف العام وعندهم قبور ألوف من أولياء الله، زيادة على قبور الأربعة، فلم تغن عنهم من الله شيئا. [اعتقاد النفع بالقبور هو كاتخاذها أوثانا] وهؤلاء الذين يعتقدون أن القبور تنفعهم وتدفع البلاء عنهم؛ قد اتخذوها

_ (1) أخرجه ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (5/ 173) و «تفسير القرآن العظيم» للحافظ ابن كثير (2/ 767). وإسناده حسن إن شاء الله. ابن شريح؛ هو: عبد الرحمن بن شريح بن عبيد الله المعافري؛ ثقة فاضل. وعبد الكريم بن الحارث؛ هو: ابن يزيد الحضرمي؛ أبو الحارث المصري؛ ثقة عابد. مشرح بن هاعان؛ وثقه ابن معين والعجلي والذهبي وغيرهم. وقال الحافظ في «التقريب»: «مقبول». والأرجح أنه «صدوق حسن الحديث»، وانظر «تحرير تقريب التهذيب» (3/ 380/ 6679). وسليم بن عتر المصري ذكره ابن حبان في «الثقات» (4/ 329) والبخاري في «التاريخ الكبير» (4/ 125) وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (4/ 211 - 212). تنبيه: وقع في المطبوعة هنا: «سليم بن عفير» وفي مطبوعة ابن أبي حاتم من التفسير (7/ 2305): «سليم بن عمر» وفي مطبوعة «تفسير القرآن العظيم» - الريان- (2/ 767): «سليم بن نمير»!. وكل هذا تصحيف صوابه ما أثبتناه هنا.

أوثانا من دون الله، وصاروا يظنّون فيها ما يظنه أهل الأوثان في أوثانهم، فإنهم كانوا يرجونها ويخافونها ويظنون أنها تنفع وتضر. ولهذا قالوا لهود عليه السلام: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: 54] فقال هود: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إلى قوله: فَكِيدُونِي جَمِيعاً [هود: 54، 55] إلى قوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 56]. وقد قال الله تعالى في قصة الخليل: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ إلى قوله: مُهْتَدُونَ [الأنعام: 80 - 82]. وقال الله تعالى لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلّم بعد أن خاطب المشركين فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إلى قوله: فَلا تُنْظِرُونِ [الأعراف: 194، 195]. وقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إلى قوله: حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: 36 - 38]. وأول ما ظهر الشرك بمكة من عمرو بن لحي سيد خزاعة، وكانت خزاعة ولاة البيت بعد جرهم، وقيل: قريش، فجاء إلى البلقاء فرآهم يعبدون الأصنام، وزعموا أنها تنفعهم فجلب أصناما إلى مكة ونصبها حول الكعبة «1». قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «رأيت عمرو بن لحي وهو يجر قصبه في النار- أي أمعاءه- وهو أول من غيّر دين إبراهيم عليه السلام» «2». وإذا كان كذلك؛ فمعلوم أنه لو نهى عن زيارة القبور مطلقا كما نهى عن ذلك في أول الإسلام، وكما هو أحد قولي العلماء؛ لم يكن في ذلك معاداة لأهل القبور ولا معاندة، فكيف إذا كان النهي إنما هو عن السفر لزيارة القبور؟ وهو نهي عام لا تختصّ به الأنبياء والصالحون، بل كما نهى عن السفر إلى مسجد غير الثلاثة، فهل يقول عاقل إن هذا من باب الاستهانة بالمساجد والاستخفاف بها، كالذي يمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه؟ بل النهي عن السفر إليها مع إتيانها وعمارتها بالعبادات من أفضل الطاعات، فليس في ذلك نقص لقدرها، وكذلك إذا نهى عن السفر مع جواز زيارتها بلا سفر، واستحباب ذلك، فإنه لا يكون تنقّصا بأهل القبور بطريق الأولى، إذا كان جنس النهي عن زيارتها ليس تنقصا بهم، بخلاف النهي عن عمارة المساجد وإتيانها للصلاة والذكر

_ (1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 111) - ط. إحياء التراث العربي-. (2) أخرجه ابن إسحاق كما في «السيرة النبوية» (1/ 111) والحاكم في «المستدرك» (4/ 605). وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». ووافقه الذهبي. وإنما هو حسن فقط، كما بيّنته في تحقيقي على «السيرة» - يسّر الله إتمامه- وانظر «السلسلة الصحيحة» (1677).

شد الرحال لزيارة قبور الصالحين هو من جنس عمل المشركين

والدعاء كان من أظلم الناس، فإن من نهى عن ذلك كان كافرا. كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة: 114] الآية. ولو نهى عن السفر إليها كما نهى النبي صلى الله عليه وسلّم وأئمة المسلمين وقال: من نذر السفر إليها لا يوف بنذره؛ لم يكن تنقصا بالقبور، التي لو نهى عن زيارتها لم يكن متنقصا بها، فإذا نهى عن السفر إليها لم يكن متنقصا بها بطريق الأولى والأحرى، وهذا بيّن لمن تدبّر. [شد الرحال لزيارة قبور الصالحين هو من جنس عمل المشركين] الوجه الثالث: أن يقال: لا ريب أن أهل البدع يحجّون إلى قبور الأنبياء والصالحين، ويزورونها غير الزيارة الشرعية لا يقصدون الدعاء لهم كالصلاة على جنائزهم، بل الزيارة عندهم والسفر لذلك من باب تعظيمهم لعظم جاههم وقدرهم عند الله، ومقصودهم دعاؤهم أو الدعاء بهم أو عندهم، وطلب الحوائج منهم، وغير ذلك مما يقصد بعبادة الله تعالى، ولهذا يقولون: إن من نهى عن ذلك فقد تنقّص بهم، فهذا القول مبنيّ على ذلك الاعتقاد والقصد والظن. والنصارى يحجّون إلى الكنائس لأجل ما فيها من التماثيل، ولأجل من بنيت لأجله، كما يحجّون إلى موضع قبر المسيح عندهم الكنيسة، التي يقال: إنها بنيت على قبره موضع الصّلب بزعمهم. وهم يبنون الكنائس على من يعظّمونه مثل جرجس وغيره، فيتّخذون المعابد على القبور، وهم ممن لعنهم النبي صلى الله عليه وسلّم على ذلك تحذيرا لأمته وقال لأمته: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» رواه مسلم. والكنيسة التي بنيت موضع ولادته المسماة ببيت لحم، وكنائس أخر التي يسمونها القيامة. وكان صاحب الفيل قد بنى كنيسة باليمن وأراد أن يصرف حجّ العرب عن الكعبة إليها، فدخلها بعض العرب وأحدث فيها، فغضب وجمع الجنود وسار بالفيل ليهدم الكعبة حتى فعل الله به ما فعل. وكذلك كان بالطائف اللات وكانوا يحجّون إليها. وفي حديث أبي سفيان عن أمية بن أبي الصلت لما أخبر عن العالم الراهب أنه قد أظل زمان نبيّ يبعث من العرب، وطمع أمية بن أبي الصلت أن يكون إياه، وقال له ذلك العالم: إنه من أهل بيت يحجّه العرب، فقال: إنا معشر ثقيف فينا بيت يحجّه العرب، قال: إنه ليس منكم، إنه من إخوانكم من قريش. وذلك البيت هو بيت اللات المذكور في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19، 20]. والطائف ومكة هما القريتان اللتان قالوا فيهما: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31]. وآخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلّم من غزوات القتال هي غزوة الطائف ولم يفتحها، ثم إن أهلها

أسلموا وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلّم أن يمتعهم باللات حولا، فامتنع من ذلك وهدمها، وأمر ببناء المسجد موضعها، واستعمل عليهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، وهذا معروف عند أهل العلم. والمقصود أنهم كانوا يسمّون السفر إلى مثل ذلك حجّا، ويقولون: إن بيت اللات يحج كما تحج الكعبة، وكانوا يحجّون إلى العزّى وكانت عند عرفات، ويحجّون إلى مناة الثالثة الأخرى، وهي حذو قديد، فكان لكل مدينة من مدائن الحجاز وثن يحجون إليه، فاللات بالطائف، والعزّى عند مكة، ومناة لأهل المدينة، كانوا يهلون لها، وهؤلاء الذين يحجّون إلى القبور يقصدون ما يقصده المشركون، الذين يقصدون بعبادة المخلوق ما يقصد العابدون لله. منهم من قصده قضاء حاجته وإجابة سؤاله. يقول: هؤلاء أقرب إلى الله مني؛ فأنا أتوسّل بهم، فهم يتوسطون لي في قضاء حاجتي، كما يتوسط خواص الملك لمن يكون بعيدا عنهم، وقد ينذر لهم، أو يأتي بقربان بلا نذر، ويتقربون إليهم بما ينذرونه ويهدونه إلى قبورهم، كما يتقرب المسلمون بما يتقربون به إلى الله من الصدقات والضحايا، وكما يهدون إلى مكة أنواع الهدي. ومنهم من يجعل لصاحب القبر نصيبا من ماله أو بعض ماله، أو يجعل ولده له كما كان المشركون يفعلون بآلهتهم. ومنهم من يسيب لهم السوائب، فلا يذبح ولا يركب ما يسيب لهم من بقر وغيرها، كما كان المشركون يسيبون لطواغيتهم، فهذا صنف. وصنف ثان يحجّون إلى قبورهم لما عندهم من المحبة للميت والشوق إليه، أو التعظيم والخضوع له، فيجعلون السفر إلى قبره أو إلى صورته الممثّلة تقوم مقام السفر إلى نفسه لو كان حيا، ويجدون بذلك أنسا في قلوبهم وطمأنينة وراحة، كما يحصل لكثير من المحبين إذا رأى قبر محبوبه، وكما يحصل للقريب والصديق إذا رأى قبر قريبه وصديقه، لكن ذاك حبّ وتعظيم ديني، فهو أعظم تأثيرا في النفوس، ولهذا يجد كل قوم عند قبر من يحبّونه ويعظّمونه ما لا يجدونه عند قبر غيره، وإن كان أفضل. وكثير من أتباع المشايخ والأئمة يجدون عند قبر شيخه وإمامه ما لا يجده عند قبور الأنبياء؛ لا نبينا ولا غيره. وذلك لأن الوجد الذي يجدونه ليس سببه نفس فضيلة المزور، بل سببه ما قام بنفوسهم من حبّه وتعظيمه، وإن كان هو لا يستحقّ ذلك، بل قد يكون المزور كافرا مشركا، أو كتابيا، والمحبّون له المعظّمون يجدون مثل ذلك. وهذا كما أن عبّاد الأوثان الذين جعلوهم أندادا لله يحبونهم كحبّ الله؛ يجدون عند الأوثان مثل ذلك. وكذلك عبّاد العجل؛ قال الله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة: 93] أي: حبّ العجل، هذا قول الأكثرين. وموسى حرّقه ثم نسفه، فإنه كان قد صار

فحما. وقيل: بل أشربوا برادته التي كانت في الماء، وإن موسى برده لكونه كان ذهبا. والأول عليه الجمهور وهو أصح «1». وقد سئل سفيان بن عيينة عن أهل البدع والأهواء أن عندهم حبا لذلك؟ فأجاب السائل: بأن ذلك كقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165]. وقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93]. والله تعالى قد ذكر حبّ المشركين آلهتهم في كتابه، وبيّن أن من الناس من يتخذ إلهه هواه، أي يجعل ما يألهه ويعبده هو ما يهواه، فالذي يهواه ويحبه هو الذي يعبده، ولهذا ينتقل من إله إلى إله، كالذي ينتقل من محبوب إلى محبوب، إذ كان لم يحب بعلم وهدى ما يستحق أن يحب، ولا عبد من يستحق أن يعبد، بل عبد وأحبّ ما أحبه من غير علم ولا هدى ولا كتاب منزل، قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا إلى قوله: سَبِيلًا [الفرقان: 43، 44]. وقال: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [الجاثية: 23]. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ذاك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان «2». وقال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه رماه وعبد الآخر «3». وقال الحسن البصري: ذاك المنافق نصّب هواه، فما هوي من شيء ركبه. وقال قتادة: أي والله كلما هوي شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى. رواهنّ ابن أبي حاتم وغيره. وقد قال تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ

_ (1) انظر في ذلك: «تفسير ابن أبي حاتم» (1/ 176) و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (2/ 31 - 32 و «تفسير ابن كثير» (1/ 168). (2) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (25/ 90) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (1/ 309/ 234) وابن أبي حاتم كما في «فتح القدير» (5/ 12) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (3/ 625/ 1003) وابن بطة العكبري في «الإبانة» - الكتاب الثاني- القدر- (2/ 160/ 1622). وفيه: «أضله على علم قد علمه عنده». بإسناد ضعيف جدا. (3) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (25/ 91) عن سعيد بن جبير، بإسناد ضعيف. لكن الأثر صحّ عن ابن عباس؛ أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (6/ 457/ 11485) - كتاب التفسير- والحاكم في «المستدرك» (2/ 452 - 453). من طريق: مطرّف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه». ووافقه الذهبي. قلت: إنّما هو حسن فقط. فجعفر بن أبي المغيرة الخزاعي؛ «صدوق يهم» ووقع عند الحاكم: «جعفر بن إياس» بدل «جعفر بن أبي المغيرة» وهو خطأ. ذلك أن جعفر بن إياس لم يرو عنه مطرف بن طريف، إنما يروي مطرف عن جعفر بن أبي المغيرة، فتنبّه.

[الأنعام: 119] الآية. وقال تعالى: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إلى قوله: بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص: 49، 50]. وقال تعالى عن المشركين: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ إلى قوله تعالى: فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 68 - 71]. وقال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا إلى قوله تعالى: يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 22، 23]. فالذين يحجّون إلى القبور هم من جنس الذين يحجّون إلى الأوثان. والمشركون يدعون مع الله إلها آخر؛ يدعونه كما يدعون الله. وأهل التوحيد لا يدعون إلا الله، لا يدعون مع الله إلها آخر، لا دعاء سؤال وطلب، ولا دعاء عبادة وتألّه. والمشركون يقصدون هذا وهذا، وكذلك الحجاج إلى القبور يقصدون هذا وهذا، ومنهم من يصوّر مثال الميت ويجعل دعاءه ومحبته والأنس به قائما مقام صاحب الصورة، سواء كان نبيّا أو رجلا صالحا أو غير صالح، وقد يصوّر المثال له أيضا- كما يفعل النصارى- وكثيرا ما يظنون في قبر أنه قبر نبيّ أو رجل صالح، ولا يكون ذلك قبره بل قبر غيره «1»، أو لا يكون قبرا وربما كان قبر كافر، وقد يحسنون الظن بمن يظنونه رجلا صالحا وليّا ويكون كافرا أو فاجرا، كما يوجد عند المشركين وأهل الكتاب وبعض الضّلّال من أهل القبلة. وهذا الجنس من الزيارة ليس مما شرّعه الرسول صلى الله عليه وسلّم لا إباحة ولا ندبا، ولا استحبه أحد من أئمة الدين، بل هم متّفقون على النّهي، عن هذا الجنس كله. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الأحاديث المستفيضة الصحيحة ما هو أقرب من هؤلاء، وهم الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذّر ما فعلوا، وأخبر أن من كان قبلنا كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. وقال: «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك». فإذا كان قد نهى ولعن من يتّخذها مسجدا يعبد الله فيه ويدعو، لأن ذلك ذريعة ومظنة إلى دعاء المخلوق صاحب القبر وعبادته، فكيف بنفس الشرك الذي سدّ ذريعته ونهى عن اتخاذها مساجد لئلّا يفضي ذلك إليه؟ فمعلوم أن صاحبه أحق باللعنة والنهي، وهذا كما أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وقال: «فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار» «2». ونهى عن تحرّي الصلاة في هذا الوقت لما فيه من مشابهة الكفار في الصورة، وإن كان المصلّي يقصد السجود لله لا للشمس، لكن نهى عن المشابهة في الصورة لئلا يفضي إلى المشاركة في القصد «3». فإذا قصد الإنسان السجود للشمس وقت طلوع

_ (1) قال المعلّمي: «كالقبر المنسوب لأمير المؤمنين علي في النجف، هو في الواقع قبر المغيرة بن شعبة» اه. (2) جزء من حديث عمرو بن عبسة السّلمي؛ أخرجه مسلم (832) وغيره. (3) قارن ب «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 194 - 195).

الشمس ووقت غروبها؛ كان أحق بالنهي والذم والعقاب ولهذا يكون هذا كافرا. كذلك من دعا غير الله وحجّ إلى غير الله؛ هو أيضا مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد يكون عالما بأن هذا شرك محرّم، كما أن كثيرا من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم، وعندهم أصنام لهم صغار من لبد وغيره، وهم يتقرّبون إليها ويعظّمونها، ولا يعلمون أن ذلك محرّم في دين الإسلام، ويتقرّبون إلى النار أيضا، ولا يعلمون أن ذلك محرّم؛ فكثير من أنواع الشرك قد يخفى على بعض من دخل في الإسلام ولا يعلم أنه شرك، فهذا ضالّ وعمله الذي أشرك فيه باطل، لكن لا يستحقّ العقوبة حتى تقوم عليه الحجة. قال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22]. وفي صحيح ابن أبي حاتم وغيره، عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل» فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! كيف ننجو منه؟ قال: «قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم» «1».

_ (1) حديث حسن بالشواهد. أخرجه: أبو بكر المروزي في «مسند الصديق» (ص 55) وإسحاق بن راهويه كما في «المطالب العالية» (13/ 418/ 3212) - العاصمة- و «إتحاف الخيرة المهرة» (1/ 257/ 394). من طريق: جرير، عن ليث بن أبي سليم، عمن حدّثه عن معقل بن يسار، عن أبي بكر الصديق به مرفوعا. وإسناده ضعيف. قال الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية»: «قلت: ليث؛ ضعيف لسوء حفظه واختلاطه وشيخه مبهم». وأخرجه: أبو يعلى في «مسنده» (1/ 60 - 61/ 58) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (286). من طريق: ابن جريج، أخبرني ليث بن أبي سليم، عن أبي محمد، عن حذيفة، عن أبي بكر به. ووقع عند ابن السني: «عن أبي مجلز» بدل «عن أبي محمد» وهو خطأ. وإسناده ضعيف كسابقه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 224): «رواه أبو يعلى من رواية ليث بن أبي سليم عن أبي محمد، عن حذيفة. وليث مدلّس، وأبو محمد؛ إن كان هو الذي روى عن ابن مسعود، أو الذي روى عن عثمان بن عفان؛ فقد وثّقه ابن حبان، وإن كان غيرهما؛ فلم أعرفه، وبقيّة رجاله رجال الصحيح». قلت: أبو محمد هذا «مجهول». وأخرجه: هناد في «الزهد» (2/ 434) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 339). من طريق: ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي بكر به مرفوعا. وأعلّه الحافظ ابن الجوزي بالاضطراب والإرسال. وأخرجه: ابن حبان في «المجروحين» (3/ 130) والبغوي كما في «تفسير ابن كثير» (2/ 643) وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 112) وابن عدي في «الكامل» (7/ 2695) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 240). من طريق: شيبان بن فرّوخ، عن يحيى بن كثير، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر الصديق به مرفوعا. وإسناده ضعيف جدا؛ فيه: يحيى بن كثير؛ أبو النضر. قال ابن حبان: «شيخ يروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد». وقال الحافظ ابن كثير: «قال الدارقطني: يحيى بن كثير هذا؛ يقال له: أبو النضر؛ متروك الحديث».-

وكذلك كثير من الداخلين في الإسلام يعتقدون أن الحج إلى قبر بعض الأئمة والشيوخ أفضل من الحج أو مثله، ولا يعلمون أن ذلك محرّم، ولا بلّغهم أحد أن هذا شرك محرم لا يجوز، وقد بسطنا الكلام في هذا في مواضع. والمقصود هنا أن هؤلاء المشركين الذين يجعلون أصحاب القبور وسائط يشركون بهم كما يشرك أصحاب الأوثان بأوثانهم، يدعونهم ويستشفعون بهم ويرجونهم ويخافونهم، وقد جعلوهم أندادا يحبونهم كحبّ الله؛ هم الذين يقولون لمن نهى عن هذا الشرك وأمر بعبادة الله وحده؛ أنه تنقّصهم وعاداهم وعاندهم، كما يزعم النصارى أن من جعل المسيح عبدا لله، ولا يملك ضرا ولا نفعا؛ أنه قد تنقّص المسيح وعاداه وسبّه وعانده!

_ - وانظر «العلل» للدارقطني (1/ 193). وله شاهد من حديث عائشة وأبي موسى: أما حديث عائشة؛ فأخرجه: ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 632/ 3399) والحاكم في «المستدرك» (2/ 291) والبزار (4/ 217/ 3566) - كشف الأستار- وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 368 و9/ 253) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 338). من طريق: عبد الأعلى بن أعين، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحبّ على شيء من الجور، وتبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب والبغض. قال الله عزّ وجلّ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ. وإسناده ضعيف جدا. قال الحاكم: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه»!. فتعقّبه الذهبي بقوله: «فيه عبد الأعلى؛ قال الدارقطني: ليس بثقة». وقال ابن أبي حاتم: «قال أبو زرعة: هذا حديث منكر، وعبد الأعلى منكر الحديث ضعيف». وقال الهيثمي في «المجمع» (10/ 223): «رواه البزار، وفيه عبد الأعلى بن أعين؛ وهو ضعيف». وقال ابن الجوزي: «هذا حديث لا يصح، قال ابن حبان: عبد الأعلى يروي عن يحيى بن أبي كثير ما ليس من حديثه، لا يجوز الاحتجاج به بحال». أما حديث أبي موسى الأشعري؛ فأخرجه: أحمد (4/ 403) وابن أبي شيبة في «المصنف» (10/ 337 - 338/ 9596) والطبراني في «الأوسط» (4/ 10/ 3479) والبخاري في «التاريخ الكبير» - كتاب الكنى- (8/ 58) معلقا. من طريق: عبد الملك بن أبي سليمان، عن أبي علي- رجل من بني كاهل- قال: خطبنا أبو موسى الأشعري فقال: فذكره مرفوعا، وفيه قصة. قال المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 76): «رواه أحمد والطبراني، ورواته إلى أبي علي محتجّ بهم في الصحيح، وأبو علي وثّقه ابن حبان، ولم أر من جرّحه». وكذا قال الهيثمي في «المجمع» (10/ 226 - 227). والحديث حسّنه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» ص 91 رقم (33)، وصحّحه في «صحيح الجامع» (3730) وأحال هناك إلى «الضعيفة» رقم (3755) فانظره هناك. خلاصة القول: إن الحديث حسن بالشواهد، والله تعالى أعلم.

واجب المؤمن تجاه النبي صلى الله عليه وسلم

وأما من عرف أن الأنبياء نهوا عن هذا الشرك، فأطاعهم واتبع سبيلهم وعبد الله وحده؛ فهذا يمتنع أن يقول: هذا تنقّص ومعاداة، فهذا الفرقان هو الذي يفصل بين عباد الرحمن وعباد الشيطان. [واجب المؤمن تجاه النبي صلى الله عليه وسلّم] والأنبياء تجب محبّتهم وموالاتهم وتعزيرهم وتوقيرهم، لا سيما خاتم الرسل صلوات الله عليهم أجمعين. وقد ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» «1». وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم» الحديث «2». وفي البخاري عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك». فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «الآن يا عمر» «3». وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث من كنّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان؛ من كان الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار» «4». وفي بعض طرق البخاري: «لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله» وذكر الحديث. وتصديق هذه الأحاديث في كتاب الله تعالى؛ قال تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ [التوبة: 24] الآية. ومحبة الرسول هي من محبة الله، فهي حبّ لله وفي الله، ليست محبة محبوب مع الله، كالذين قال الله فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. والحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان كما جاء في الحديث «5». وحبّ ندّ مع الله؛ شرك لا يغفره الله، فأين هذا من هذا؟ والمحبة التي أوجبها الله لرسوله وللمؤمنين لا تختص ببقعة ولا تختص بقبورهم ولا غيرها، وكذلك سائر حقوقهم من الإيمان بهم وما يدخل في ذلك، فإن ذلك

_ (1) أخرجه البخاري (15) ومسلم (44). (2) أخرجه البخاري (14). (3) تقدم تخريجه. (4) أخرجه البخاري (16، 21، 6041، 6941) ومسلم (43). (5) حديث صحيح؛ انظر «الصحيحة» (998، 1727).

عداوة الأنبياء بمخالفتهم لا بموافقتهم

واجب في كل موضع، وكذلك الصلاة والسلام على الرسول وغير ذلك. فمن يجد قلبه عند قبر الرسول أكثر محبة له وتعظيما، ولسانه أكثر صلاة عليه وتسليما مما يجده في سائر المواضع؛ كان ذلك دليلا على أنه ناقص الحظ منحوس النصيب من كمال المحبة والتعظيم، وكان فيه من نقص الإيمان وانخفاض الدرجة بحسب هذا التفاوت، بل المأمور به أن تكون محبته وتعظيمه وصلاته وتسليمه عند غير القبر أعظم، فإن القبر قد حيل بين الناس وبينه، وقد نهى أن يتخذ عيدا، ودعا الله أن لا يجعل قبره وثنا، فإن لم يجد إيمانه به ومحبته له وتعظيمه له وصلاته عليه وتسليمه عليه إذا كان في بلده أعظم مما يكون لو كان في نفس الحجرة من داخل؛ لكان ناقص الحظ من الدين وكمال الإيمان واليقين، فكيف إذا لم يكن من داخل بل من خارج؟ فهذا هذا، والله أعلم. [عداوة الأنبياء بمخالفتهم لا بموافقتهم] الوجه الرابع: أن يقال: عداوة الأنبياء وعنادهم هو بمخالفتهم لا بموافقتهم كمن نهى عما أمروا به من عبادة الله وحده، وأمر بما نهوا عنه من الشرك بالمخلوقات كلها بالملائكة والأنبياء والشمس والقمر والتماثيل المصورة لهؤلاء، وغير ذلك. ومن كذّبهم فيما أخبروا به من إرسال الله لهم وما أخبروا به عن الله من أسمائه وصفاته وتوحيده وملائكته وعرشه، وما أخبروا به من الجنة والنار والوعد والوعيد، فلا ريب أن من كذّب ما أخبروا به ونهى عما أمروا به، وأمر بما نهوا عنه؛ فقد عاداهم وعاندهم. وأما من صدّقهم فيما أخبروا به وأطاعهم فيما أمروا به، فهذا هو المؤمن ولي الله الذي والاهم واتبعهم. وإذا كان كذلك؛ فننظر فيما جاء عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم وغيره من الأنبياء، إن كانوا أمروا بالسفر إلى القبور كما يسافر المسافرون لزيارتها يدعون ويستغيثون بها، ويطلبون منها الحوائج، ويتضرّعون لها- أي لأصحابها- ويرون السفر إليها من جنس الحج أو فوقه أو قريبا منه، فمن نهى عما أمر به الرسول ورغّب فيه يكون مخالفا له، وقد يكون بعد ظهور قوله له: وإصراره على مخالفته معاديا ومعاندا، كما قال تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى [النساء: 115] الآية. وإن كان الرسول لم يأمر بشيء من ذلك، ولكن شرع السفر إلى المساجد الثلاثة، وقال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى». ونهى عن اتخاذ القبور مساجد ولعن من فعل ذلك، وهو أهون من الحجّ إليها ومن دعاء أصحابها من دون الله، فإن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء دون ذاك. فالمخالف للرسول الآمر بما نهى عنه من شدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، الآمر بالسفر إلى زيارة القبور؛ قبور الأنبياء والصالحين، وهذا السفر قد علم أنه من

جنس الحج، وعلم أن أصحابه يقصدون به الشرك أعظم مما يقصدون الذين يتخذون القبور مساجد، الذي لا ينهى عما نهى عنه الرسول من اتخاذ القبور مساجد، واتخاذها عيدا وأوثانا، المعادي لمن وافق الرسول، فأمر بما أمر، ونهى عما نهى، المكفّر لمن وافق الرسول، المستحل دمه؛ هو أحق بأن يكون معاديا للرسول، معاندا له مجاهرا بعداوة أولياء الرسول وحزبه، ومن كان كذلك كان هو المستحق لجهاده وعقوبته بعد إقامة الحجة عليه، وبيان ما جاء به الرسول، دون الموافق للرسول الناصر لسنته وشريعته وما بعثه الله به من الإسلام والقرآن. ولكن هذا من جنس أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويعادون من خالفها، وينسبونها إلى الرسول افتراء وجهلا؛ كالرافضة «1» الذين يقولون: إن المهاجرين والأنصار عادوا الرسول وارتدّوا عن دينه، وأنهم هم أولياء الله، والخوارج «2» المارقين الذين يدّعون أن عثمان وعليا ومن والاهما كفّار بالقرآن الذي جاء به الرسول، ويستحلّون دماء المسلمين بهذا الضلال. ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بقتالهم وأخبر بما سيكون منهم، وقال فيهم: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السّهم من الرميّة. أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله» «3». وقال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» «4». والأحاديث فيهم كثيرة، وعظم ذنبهم بتكفير المسلمين

_ (1) الرفض في اللغة: التّرك. وتطلق هذه التسمية على الفرقة التي رفضت إمامة زيد بن علي، ورفض إمامة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ورفضهم للصحابة، وإخراجهم من الدين. ولهم معتقدات مخالفة للقرآن الكريم والسنة النبوية، وهم فرق كثيرة. انظر عن هذه الفرقة: «مقالات الإسلاميين» (1/ 89 - وما بعدها) و «الفصل في الفرق والنحل» لابن حزم (4/ 185) و «الفرق بين الفرق» ص 16، 36 وما بعدها. و «فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام» (1/ 206). (2) هم فرقة خرجت لقتال علي بن أبي طالب عليه السلام بسبب التحكيم، ومذهبهم البراءة من عثمان وعلي رضي الله عنهما، والخروج على الإمام إن كان ظالما أو فاسقا، وتكفير مرتكب الكبيرة والقول بتخليده في النار، إلى غير ذلك من معتقداتهم. وهم فرق كثيرة، منهم: الأزارقة، والإباضية والحرورية والخمرية .. وغيرهم. انظر: «الملل والنحل» للشهرستاني (1/ 131 - 159) و «مقالات الإسلاميين» (1/ 167 - 211) و «اعتقادات فرق المسلمين والمشركين» لفخر الدين الرازي ص 49. و «الفرق بين الفرق» ص 49 و «فرق معاصرة تنتسب للإسلام» للدكتور غالب بن علي العواجي (1/ 87 - 161). (3) أصل الحديث في البخاري (6931، 6933) ومسلم (1064، 1065). وبنحوه مع الشطر الأخير عند البخاري (5057، 6930) ومسلم (1066) وأحمد (1/ 81، 131). وقد خرّجته في «خصائص علي بن أبي طالب» رقم (178). (4) انظر ما قبله.

واستحلال دمائهم وأموالهم «1»، وإلا فلو لم يفعلوا ذلك لكان لهم أسوة بأمثالهم من أهل الخطأ والضّلال. ومعلوم أن الشرك بالله وعبادة ما سواه أعظم الذنوب، والدعاء إليه والأمر به من أعظم الخطايا، ومعاداة من ينهى عنه ويأمر بالتوحيد وطاعة الرسول أعظم من معاداة من هو دونه. ولولا بعد عهد الناس بأول الإسلام وحال المهاجرين والأنصار، ونقص العلم وظهور الجهل، واشتباه الأمر على كثير من الناس؛ لكان هؤلاء المشركون والآمرون بالشرك مما يظهر كفرهم وضلالهم للخاصة والعامة، أعظم مما يظهر من ضلال الخوارج والرافضة، فإن أولئك تشبثوا بأشياء من الكتاب والسنة، وخفي عليهم بعض السنة، اللهم إلا من كان منافقا زنديقا في الباطن مثل بعض الرافضة، ويقال: إن أول من ابتدعه كان منافقا زنديقا، فإن هؤلاء من جنس أمثالهم من الزنادقة والمنافقين، بخلاف الخوارج فإنهم لم يكونوا زنادقة منافقين، بل كان قصدهم اتباع القرآن، لكن لم يكونوا يفهمونه، كما قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلّم: «يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم». فالمبتدع العابد الجاهل يشبههم من هذا الوجه. وأما الحجّاج إلى القبور والمتّخذون لها أوثانا ومساجد وأعيادا؛ فهؤلاء لم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم منهم طائفة تعرف، ولا كان في الإسلام قبر ولا مشهد يحجّ إليه، بل هذا إنما ظهر بعد القرون الثلاثة. والبدعة كلما كانت أظهر مخالفة للرسول يتأخّر ظهورها، وإنما يحدث أولا ما كان أخفى مخالفة للكتاب والسنة كبدعة الخوارج، ومع هذا فقد جاءت الأحاديث الصحيحة فيها بذمّهم وعقابهم، وأجمع الصحابة على ذلك. قال الإمام أحمد: صحّ فيهم الحديث من عشرة أوجه. وقد رواها صاحبه مسلم كلها في صحيحه، وروى البخاري قطعة منها. وأما بدع أهل الشرك وعبّاد القبور والحجّاج إليها فهذا ما كان يظهر في القرون الثلاثة لكل أحد مخالفته للرسول، فلم يتجرّأ أحد أن يظهر ذلك في القرون الثلاثة. وبسط هذا له موضع آخر، ولكن نبّهنا على ما به يعرف ما وقع فيه مثل هذا المعترض وأمثاله من الضلال والجهل ومعاداة سنّة الرسول ومتبعيها، وموالاة أعداء الرسول وغير ذلك مما يبعدهم عن الله ورسوله. ثم من قامت عليه الحجة استحقّ العقوبة، وإلا كانت أعماله البدعية المنهي عنها باطلة لا ثواب فيها، وكانت منقصة له خافضة له بحسب بعده عن السنة، فإن هذا حكم أهل الضّلال، وهو البعد عن الصراط المستقيم، وما يستحقه أهله من الكرامة.

_ (1) وهذا الوعيد الذي في تلك الأحاديث ينطبق على الخوارج العصريين (جماعة التكفير والهجرة) التي كفّرت المسلمين بغير بيّنة واستحلّت دماءهم. نعوذ بالله من الفتن.

الكلام في الأحكام الشرعية لا يستدل عليه إلا بالأدلة الشرعية

ثم من قامت عليه الحجة استحقّ العقوبة، وإلا كان بعده ونقصه وانخفاض درجته وما يلحق في الدنيا والآخرة من انخفاض منزلته وسقوط حرمته وانحطاط درجته هو جزاؤه، والله حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة وهو عليم حكيم لطيف لما يشاء، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون. [الكلام في الأحكام الشرعية لا يستدلّ عليه إلا بالأدلة الشرعية] الوجه الخامس: أن الكلام في الأحكام الشرعية مثل كون الفعل واجبا أو مستحبا أو محرما أو مباحا لا يستدلّ عليه إلا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار. والأدلة الشرعية كلها مأخوذة عن الرسول صلى الله عليه وسلّم فالمتكلّمون فيها سواء اتفقوا أو اختلفوا كلهم متفقون على الإيمان بالرسول وبما جاء به ووجوب اتباعه وأن الحلال ما حلّله، والحرام ما حرّمه، والدين ما شرّعه، فالكلام فيها يستلزم الإيمان بالأنبياء وموالاتهم، ووجوب تصديقهم واتباعهم فيما أوجبوه وحرّموه، والقائل منهم عن فعل إنه حرام أو مباح أو واجب؛ إنما يقول: إن الرسول حرّمه أو أباحه أو أوجبه، ولو أضاف الإيجاب والتحريم والإباحة إلى غير الرسول لم يلتفت إليه، ولم يكن من علماء المسلمين. وأهل الإسلام متفقون على هذا الأصل سنّيهم وبدعيهم؛ كلّهم متّفقون على وجوب اتباع ما بلغه الرسول عن الله، وعلى الاستدلال بالقرآن والسنة المعلومة المفسرة لمجمل القرآن. وأما المخالفة لظاهر القرآن فمن الخوارج من نازع فيها، وهو فاسد من وجوه كثيرة. ومن ردّ نصا إنما يرده؛ إما لكونه لم يثبت عنده عن الرسول، أو لكونه غير دال عنده على محل النزاع، أو لاعتقاده أنه منسوخ، ونحو ذلك. كما قد بسطت الكلام فيه على ما كتبته في (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وبيّنت أعذارهم في هذا الباب، وإن كان الواجب هو اتباع ما علم من الصواب مطلقا. والكلام في ذلك سواء تعلق بحقوق الرب أو حقوق رسوله أو غير ذلك، لا يدخل شيء من ذلك في مسائل سبّ الأنبياء وتنقّصهم ومعاداتهم، وإن كان المتكلم من هؤلاء مخطئا، فإن مصيبهم ومخطئهم إنما مقصوده اتباع الرسول، وتحريم ما حرّمه، وإيجاب ما أوجبه، وتحليل ما حلّله، وهذا مستلزم لإيمانه بالرسول وموالاته وتعظيمه، فكيف يتصوّر مع ذلك أن يكون قاصدا لمعاداته أو سبّه أو التنقص به، أو غير ذلك؟ هذا ممتنع. ولهذا لم يكن في المسلمين من جعل أحدا من هؤلاء سبّابا للأنبياء معاديا لهم، وإن قدّر أنهم أخطئوا، وهذا أمر واضح يعرفه آحاد الطلبة.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، واختلاف العلماء في وجوبها

[الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم في الصلاة، واختلاف العلماء في وجوبها] فإذا تكلّم العلماء في الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلّم؛ هل هي واجبة في الصلاة، أو غير واجبة في الصلاة- كقول الجمهور- لم يقل أحد: إن من لم يوجبها فقد تنقّص الرسول أو سبّه أو عاداه، والذين لم يوجبوها في الصلاة؛ منهم من أوجبها خارج الصلاة، ومنهم من لم يوجبها بحال، وجعل الأمر في الآية أمر ندب، وحكى الإجماع على ذلك. وقد بالغ القاضي عياض في تضعيف قول الشافعي بإيجابها في الصلاة وقال: حكى الإمام أبو جعفر الطبري والطحاوي وغيرهما إجماع جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم في التشهد غير واجبة. قال: وشذّ الشافعي في ذلك، فقال: من لم يصلّ على النبيّ صلى الله عليه وسلّم بعد التشهد الأخير وقبل السلام فصلاته فاسدة، وإن صلى عليه قبل ذلك لم يجزه. قال: ولا سلف له في هذا القول، ولا سنة يتبعها، قال: وقد بالغ في إنكار هذه المسألة عليه بمخالفته فيها من تقدّمه جماعة، وشنعوا عليه الخلاف الحاصل فيها، منهم الطبري والقشيري وغير واحد، قال: وقال أبو بكر بن المنذر: يستحبّ أن لا يصلي أحد صلاة إلّا صلّى فيها على النبيّ صلى الله عليه وسلّم، فإن ترك تارك ذلك؛ فصلاته مجزية في مذهب مالك وأهل المدينة والثوري وأهل الكوفة من أهل الرأي وغيرهم، وهو قول جملة أهل العلم، وحكي عن مالك وسفيان أنها في التشهد الأخير مستحبة، وأن تاركها في التشهد مسيء. قال: وشذّ الشافعي فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة، وأوجب إسحاق الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان. قلت: وأحمد عنه في المسألة ثلاث روايات كالأقوال الثلاثة، اختار كل رواية طائفة من أصحابه. وذكر محمد بن المواز قولا له كقول الشافعي، قال: وقال الخطابي: ليست بواجبة في الصلاة، وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي، قال: ولا أعلم له فيها قدوة. وحكي الوجوب عن أبي جعفر الباقر، وأنه قال: لو صلّيت صلاة لم أصلّ فيها على النبي صلى الله عليه وسلّم وأهل بيته لرأيت أنها لم تتم. وقال القاضي عياض: اعلم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم فرض على الجملة مرغّب فيه غير محدود بوقت، لأمر الله تعالى بالصلاة عليه، وحمل الأئمة والعلماء له على الوجوب وأجمعوا عليه. قال: وحكى أبو جعفر الطبري أن محمل الآية عنده على الندب وادّعى فيه الإجماع «1».

_ (1) هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم؛ فمنهم من أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم في التشهد، ومنهم من استحبّ ذلك. والمشهور في مذهب أحمد؛ القول بأنها ركن أو واجبة، وهي رواية عن أحمد.-

فهذا بعض كلام العلماء في مثل هذه، وحكايات إجماعهم متناقضة، ومع هذا فلم يقل أحد: إن من لم يوجب الصلاة عليه فقد تنقّصه أو سبّه أو عاداه أو نحو ذلك، فإنهم كلهم قصدهم متابعته، كلّ بحسب اجتهاده رضي الله عنهم أجمعين. وكذلك تنازعوا؛ هل تكره الصلاة عليه عند الذبح؟ فكره ذلك مالك وأحمد وغيرهما. قال القاضي عياض: وكره ابن حبيب ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلّم عند الذبح، وكره سحنون الصلاة عليه عند التعجّب. قال: ولا يصلّى عليه إلا على طريق الاستحباب

_ - انظر «الهداية» (1/ 24) و «الكافي» (1/ 142) و «شرح الزركشي على مختصر الخرقي» (2/ 634) و «المغني» لابن قدامة (1/ 679 - 580). وذهب الشافعي إلى الوجوب أيضا كما في «الأم» (1/ 140). وقال الآجري في «الشريعة» (2/ 242) - قرطبة-: «لو أن مصليا صلّى صلاة؛ فلم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلّم فيها في تشهده الأخير وجب عليه إعادة الصلاة». ومن القائلين بالوجوب: ابن العربي المالكي كما في «أحكام القرآن» (3/ 1584) والصنعاني في «سبل السلام» (2/ 319 - 323) والحافظ ابن حجر العسقلاني في «بلوغ المرام» ونقل في «الفتح» (11/ 169) عن البيهقي في «الخلافيات» بسند قوي عن الشعبي- وهو من كبار التابعين- قال: «من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلّم في التشهد فليعد صلاته». وانظر «فتح الباري» (11/ 157 - وما بعدها). وذهب إلى وجوبها المحدث أحمد شاكر كما في «التعليقات الرضية على الروضة الندية» (1/ 272) والمحدث الألباني في كتابه الماتع «صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلّم» ص 181 - 182. والشيخ عبد الله البسام في «تيسير العلام شرح عمدة الأحكام» (1/ 286). ونسب الطحاوي في «مشكل الآثار» (6/ 22 - 24) والقاضي عياض في «الشفا» (2/ 142) وابن المنذر في «الأوسط» (3/ 213 - 214) الشذوذ إلى من قال بوجوب ذلك! قال الحافظ ابن كثير في «المسائل الفقهية التي انفرد بها الإمام الشافعي من دون إخوانه من الأئمة» ص 84 - 85. وذلك بواسطة حاشية الشيخ مشهور بن حسن على «جلاء الأفهام» ص 475 - : «ومذهب وقد ادّعى بعضهم أن الشافعي- رحمه الله- تفرّد بهذا المذهب دون العلماء، ولا سلف له فيه. وليس كما قالوا؛ بل قد روي هذا عن ابن مسعود، وجابر، وابن عمر، وأبي مجلز، والشعبي، والباقر، وغيرهم. وهو الذي اختاره الإمام أحمد بن حنبل في آخر أمره، وصار إليه. وذهب إليه ابن المواز من المالكية .. » وانظر «جلاء الأفهام» ص 463 - وما بعدها. وذهب النووي إلى أنها فرض كما في «المجموع» (3/ 447 - 450) لكنه أغرب بالتفريق بين الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم وبين الصلاة على الآل. وقد تعقبه الصنعاني في «سبل السلام». وممن ذهب إلى الاستحباب أو أنها سنة، ابن حزم كما في «المحلى» (4/ 163)، وابن عبد البر في «التمهيد» (16/ 191 - 196) وصديق حسن خان في «الروضة الندية» (1/ 251) - الحلاق- والشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين في «الشرح الممتع على زاد المستقنع» (3/ 425). والراجح أنها واجبة؛ انظر «جلاء الأفهام» ص 463 - وما بعدها. و «مجموع الفتاوى» (20/ 248) و «تفسير القرآن العظيم» للحفاظ ابن كثير (3/ 665) و «فتح الباري» (11/ 157 - وما بعدها) و «صفة الصلاة» ص 181 - 182.

الحلف بالملائكة والأنبياء

وطلب الثواب. وقال أصبغ عن ابن القاسم: موطنان لا يذكر فيهما إلا الله؛ الذبح والعطاس فلا يقال فيهما بعد ذكر الله: محمد رسول الله، ولو قال بعد ذكر الله: محمد رسول الله، لم يكره تسميته له مع الله. وقال أشهب: لا ينبغي أن تجعل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم استنانا. قلت: والشافعي لم يكره ذلك، بل قال: هو من الإيمان، وهو قول طائفة من أصحاب أحمد كأبي إسحاق وابن شاقلا. [الحلف بالملائكة والأنبياء] وكذلك تكلّموا في الحلف بالملائكة والأنبياء؛ أما الملائكة فاتفق المسلمون على أنه لا يحلف بأحد منهم، ولا تنعقد اليمين إذا حلف به، وهذا أيضا قول الجمهور في الأنبياء كلهم؛ نبينا وغيره، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وعنه أنها تنعقد بالنبي صلى الله عليه وسلّم خاصة، اختارها طائفة من أصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى وغيره، وخصوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلّم، وابن عقيل عدّى ذلك إلى سائر الأنبياء. والصواب: قول الجمهور؛ وأنه لا تنعقد اليمين بمخلوق لا بنبي ولا غيره، بل ينهى عن الحلف به. فإذا قيل: لا يحلف به، أو لا يحلف بالأنبياء ولا بالملائكة؛ لم يكن هذا معاداة لهم ولا سبا، ولا تنقّصا بهم عند أحد من المسلمين، وكذلك سائر خصائص الرب إذا نفيت عنهم فقيل: لا تعبد الملائكة ولا الأنبياء، ولا يسجد لهم، ولا يصلّى لهم، ولا يدعون من دون الله، ونحو ذلك؛ كان هذا توحيدا وإيمانا ولم يكن هذا تنقيصا بهم، ولا سبّا لهم، ولا معاداة، كما قال تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ إلى قوله: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران 79، 80]. فإذا قيل: لا يجوز لأحد أن يتخذ الملائكة والنبيين أربابا، كما ذكر الله ذلك في القرآن، ولم يقل مسلم هذا معاداة لهم ولا منقصة ولا سب. وكذلك إذا قيل: إنهم عباد الله، وإن المسيح وغيره عباد لله؛ كان هذا توحيدا وإيمانا، لم يكن ذلك تنقصا ولا سبّا ولا معاداة، قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ إلى قوله: وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [النساء: 171 - 173]. وقد ذكر أهل التفسير أن أهل نجران قالوا: يا محمّد إنك تعيب صاحبنا فتقول: إنه عبد الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنه ليس بعار بعيسى أن يكون عبدا لله» فنزل: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ [النساء: 172]. أي: لن يأنف ويتعظم عن ذلك.

فمن جعل تحقيق التوحيد تنقصا بالأنبياء، أو سبّا أو معاداة؛ فهو من جنس هؤلاء النصارى. والنهي عن اتخاذ قبورهم مساجد والسفر إليها واتخاذها أوثانا وعيدا فهو من هذا الباب؛ من باب تحقيق التوحيد. وفي مثل هذا المقام يقال: إن كل ما يدعى من دون الله من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إلى قوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 22، 23]. فلا تنفع شفاعة ملك ولا نبي إلا بإذن الله، كما قال: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255]. وقال:* وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النجم: 26]. ولم يكن هذا القول ونحوه تنقصا بالملائكة ولا سبّا لهم ولا معاداة لهم، بل الملائكة والأنبياء يعادون من أشرك بهم، ويوالون أهل التوحيد الذين ينزّلونهم منازلهم، وهم برآء ممن يغلو فيهم ويشرك بهم، قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ [سبأ: 40، 41] الآية. وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ إلى قوله: نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً [الفرقان: 17 - 19] وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إلى قوله: نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة: 72 - 76]. وهذا بيان أن المسيح وغيره من المخلوقين لا يملكون للناس ضرّا ولا نفعا. ولا يجوز أن يقال هذا معاداة له أو سب أو تنقص. وقد أمر الله سبحانه خاتم الرسل بأن يقول ما ذكره عنه من قوله: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ [الأعراف: 188]. الآية. وقال تعالى: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً [الجن: 21]. وقال تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام: 50]. ومثل هذا في القرآن كثير يعم ويخص، فالأول كقول صاحب يس: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [يس: 22، 23] الآية. وقوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ إلى قوله: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: 36 - 38] وقال تعالى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ إلى قوله: فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [يونس: 106، 107]. وهذا باب واسع. والمقصود: أن أدنى من يعد من طلبة العلم يعلم أن أفعال العباد إذا تكلم فيها بالأمر والنهي والإيجاب والتحريم، وهل هذا السفر جائز أو مستحب أو محرم أو

مكروه، سواء كان إلى مسجد أو إلى قبر نبي أو غير ذلك؛ لم يدخل شيء من هذا في مسائل تنقيص الأنبياء وسبهم، بل أبلغ من هذا أنه إذا تكلم في مسائل العصمة، وهل يجوز على الأنبياء الذنوب أو لا يجوز «1»، واختار مختار أحد القولين لم يقل أحد من المسلمين إن هذا تنقّص وسبّ ومعاداة، وكذلك السؤال بالأنبياء في الدعاء، مثل أن يقول الداعي: أسألك بحقّ الأنبياء عليك، نهى أبو حنيفة عنه، وطائفة ترخص في هذا. ولم يقل أحد إن كل من نهى عن ذلك قد تنقّص بالأنبياء وعاداهم. والقاضي عياض رحمه الله مع أنه أبلغ الناس في مسائل العصمة وفي مسائل السبّ، قد ذكر هذا لئلا يقع فيه هؤلاء الجهال الذين يجعلون الكلام العلمي والاستدلال بالأدلة الشرعية، والاجتهاد في متابعة الرسول والأنبياء، من باب المعاداة والسب والتنقّص، ولا ريب أن هذا الباب إن كان فيه معاداة وتنقّص لهم؛ فمن خالفهم وأمر بما نهوا عنه ونهى عما أمروا به، وقال عنهم الكذب، ونسب إليهم ما نزّههم الله منه، مثل هؤلاء الجهّال المفترين، كان هو أولى بالمعاداة والسب والتنقص، كما قد بسط في مواضع آخر. إذ المقصود هنا ما ذكره القاضي عياض رحمه الله قال: لما ذكر قسم الكلام في

_ (1) ذهب بعض العلماء إلى القول بأنه لا يجوز الوقوع من قبل الأنبياء في الكبائر والصغائر مطلقا، لا على جهة العمد ولا السهو. وقد أجمع العلماء على انتفاء وقوع الكبائر من الأنبياء، لكن اختلفوا في الصغائر؛ هل تقع منهم؟ قال البعض بجواز وقوع ذلك منهم سهوا. وقال البعض الآخر: إن الخطأ يقع في الأفعال دون أمور التبليغ والديانة. وشذّ قوم فقالوا بإمكان وقوع الكبائر منهم سهوا! ولتفصيل المسألة؛ انظر: «المحصول» للرازي (3/ 225 - 228) و «التحصيل من المحصول» للأرموي (1/ 433 - 434) و «نفائس الأصول في شرح المحصول» للقرافي (5/ 2392 - 2397) ونهاية الوصول في دراية الأصول «لصفي الدين الهندي» (5/ 2113 - 2120) و «نهاية السئول في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول» للأسنوي (2/ 641 - 643) و «الأحكام» للآمدي (1/ 170). ومن المهم ذكره في هذا المقام أن كثيرا من علماء الإمامية! يشنعون على علماء أهل السنة القائلين بجواز وقوع السهو والخطأ من الأنبياء- بالضوابط التي يذكرونها- وتراهم يكيلون لهم السّباب والشتائم. مع أن كثيرا من علمائهم المتقدمين يقولون هذا القول، ولا تراهم يذكرونهم بأي سوء! فمن القائلين بجواز السهو والخطأ على الأنبياء من علماء الإمامية: الشيخ الصدوق، والشريف المرتضى، الذي يرى جواز غلبة النوم على الأنبياء في أوقات الصلوات فيقضونها، ولا يعد ذلك عيبا ولا نقصا. انظر «الأنوار النعمانية» (4/ 34) - الأعلمي- وأقرّه نعمة الله الجزائري في المصدر السابق. والخوئي يقول: «إن القدر المتيقن من السهو الممنوع على المعصوم هو السهو في غير الموضوعات الخارجية» «صراط النجاة»! (1/ 462).

مسائل السب وما يشتبه ممال ليس بسب قال: الوجه السابع: أن يذكر ما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلّم أو يختلف في جوازه عليه، وما يطرأ من الأمور البشرية به ويمكن إضافتها إليه، أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات الله على شدته، من مقاساة أعدائه وأذاهم له، ومعرفة ابتداء حاله وسيرته، وما لقيه من بؤس زمنه، ومرّ عليه من معاناة عيشته، كل هذا على طريق الرواية ومذاكرة العلم، ومعرفة ما صحّت منه العصمة للأنبياء وما يجوز عليهم، فهذا فنّ خارج عن هذه الفنون الستة، إذ ليس فيه غمص ولا نقص ولا إزراء ولا استخفاف، لا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ. قال: لكن يجب أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم وفهماء طلبة الدين ممن يفهم مقاصده، ويحققون فوائده، ويجنب ذلك من عساه لا يفقه، أو يخشى به فتنة، فقد كره بعض السلف تعليم النساء سورة يوسف لما انطوت عليه من تلك القصص، لضعف معرفتهن ونقص عقولهن وإدراكهن. فقد قال صلى الله عليه وسلّم مخبرا عن نفسه باستئجاره لرعاية الغنم في ابتداء حاله وقال صلى الله عليه وسلّم: «ما من نبي إلا وقد رعى الغنم» «1». وأخبرنا الله بذلك عن موسى. فهذا لا غضاضة فيه جملة واحدة لمن ذكره على وجهه، بخلاف من قصد الغضاضة والتحقير، بل كانت عادة جميع العرب. نعم في ذلك للأنبياء حكمة بالغة وتدريج من الله تعالى لهم إلى كرامته، وتدريب برعايتها لسياسة أممهم من خلقه بما سبق لهم من الكرامة في الأزل ومتقدم العلم بذلك، وكذلك قد ذكر الله يتمه وعيلته على طريق المنة عليه والتعريف بكرامته له، فذكر الذّاكر لها على وجه تعريف حاله والخبر عن مبتدئه، والتعجّب من منح الله قبله؛ وعظيم منن الله عنده، ليس فيه غضاضة، بل فيه دلالة على نبوته صلى الله عليه وسلّم وصحة دعوته، إذ أظهره الله تعالى بعد هذا على صناديد العرب ومن ناوأه من أشرافهم شيئا فشيئا، ونمى أمره صلى الله عليه وسلّم حتى قهرهم وتمكّن من ملك مقاليدهم، واستباحة ممالك كثيرة من الأمم غيرهم، بإظهار الله له وتأييده بنصره وبالمؤمنين، وألّف بين قلوبهم، وإمداده بالملائكة المسوّمين. ولو كان ابن ملك أو ذا أشياع متقدّمين لحسب كثير من الجهال أن ذلك موجب ظهوره ومقتضى علوّه، ولهذا قال هرقل- حين سأل أبا سفيان بن حرب عنه صلى الله عليه وسلّم- هل من آبائه ملك؟ فقال: لا، ثم قال: وقلت لو كان من آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه «2». وإذا اليتم من صفته، وإحدى علاماته في الكتب المتقدمة وأخبار الأمم السالفة. وكذا وقع ذكره في كتاب أرميا، وبهذا وصفه ابن ذي يزن لعبد المطلب، وبحيرا لأبي طالب.

_ (1) أخرجه مالك بلاغا في «الموطأ» (2/ 365) - 54 - كتاب الاستئذان. (6) باب ما جاء في أمر الغنم. وأخرجه البخاري (2262) من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» الحديث. (2) القصة في «صحيح البخاري» برقم (7) وانظر أطرافه هناك.

أفضل الناس مع أنبيائهم هم الصحابة

وكذلك إذا وصف صلى الله عليه وسلّم بأنه أمّيّ كما وصفه الله بذلك؛ فهي مدحة له وفضيلة ثابتة فيه، وقاعدة معجزته، إذ معجزته العظيمة من القرآن العظيم إنما هي متعلقة بطريق المعارف والعلوم، مع ما منح صلى الله عليه وسلّم وفضّل به من ذلك، كما قدمناه في القسم الأول. ووجود مثل ذلك من رجل لم يقرأ ولم يكتب ولم يدارس ولا لقّن بمقتضى العجب، ومنتهى العبر، ومعجزة البشر. وليس ذلك نقيصة، إذ المطلوب من الكتابة والقراءة؛ المعرفة، وإنما هي آلة لها وواسطة موصلة إليها مرادة في نفسها، فإذا حصلت الثمرة والمطلوب استغنى عن الواسطة والسبب؛ والأمية في غيره نقيصة لأنها سبب الجهالة وعنوان الغباوة. فسبحان من باين أمره من أمر غيره، وجعل شرفه فيما فيه محطة سواه، وحياته فيما فيه هلاك من عداه. وهكذا شقّ قلبه وإخراج حشوته، كان تمام حياته وغاية قوة نفسه وثبات روعه، وهو فيمن سواه منتهى هلاكه وحتم موته وفنائه، وهلم جرا، إلى سائر ما روي من أخباره صلى الله عليه وسلّم وسيره، وتقلله من الدنيا، ومن الملبس والمطعم والمركب، وتواضعه، ومهنته نفسه في أموره، وخدمة بيته، زهدا ورغبة عن الدنيا وتسوية بين حقيرها وخطيرها، لسرعة فناء أمورها وتقلب أحوالها، كل هذا من فضائله صلى الله عليه وسلّم ومآثره وشرفه، كما ذكرناه. فمن أورد شيئا من ذلك موارده وقصد به مقصده كان حسنا. ومن أورد ذلك على غير وجهه وعلم منه بذلك سوء قصده لحق بالفصول التي قدمناها. هذا كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى يفرق فيما يظن أن فيه غضاضة ونقصا وعيبا وليس هو في نفس الأمر كذلك، وبين من يذكره على وجهه لبيان العلم والدين ومعرفة حقائق الأمور، وبين من يقصد به العيب والإزراء وإن كان لا عيب في ذلك، بل هو من الفضائل والمناقب وهكذا سائر ما فيه هذا. [أفضل الناس مع أنبيائهم هم الصحابة] وحينئذ فأعظم أحوال الناس مع الأنبياء وأفضلها وأكملها هو حال الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلّم لا سيما أبو بكر وعمر، وهو تصديقه في كل ما يخبر به من الغيب، وطاعته وامتثال أمره في كل ما يوجبه ويأمر به، وأن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وأهله وماله، وأن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم أحب إليه مما سواهما، وأن يتحرّى متابعة الرسول صلى الله عليه وسلّم، فيعبد الله بما شرّعه وسنّه من واجب ومستحب، لا يعبده بعبادة نهى عنها، وببدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وإن ظنّ أن في ذلك تعظيما للرسول صلى الله عليه وسلّم وتعظيما لقدره، كما ظنه النصارى في المسيح، وكما ظنوه في اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وكما ظن الذين اتخذوا الملائكة والنبيين أربابا، فإن الأمر بالعكس؛ بل كل عبد صالح من الملائكة والأنبياء فإنما يحب ما أحبه الله من

عبادته وحده، وإخلاص الدين له، ويوالي من كان كذلك، ويعادي من أشرك، ولو كان المشرك معظّما له غاليا فيه فإن هذا يضره ولا ينفعه، لا عند الله ولا عند الذي غلا فيه وأشرك به واتخذه ندا لله يحبه كحب الله، واتخذه شفيعا يظن أنه إذا استشفع به يشفع له بغير إذن، أو اتخذه قربانا يظن أنه إذا عبده قرّبه إلى الله، فهذه كلها ظنون المشركين. قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [يونس: 18]. وقال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3]. وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] وقال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى إلى قوله: يَفْتَرُونَ [الأحقاف: 27، 28]. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلّم في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين أنزل الله عليه وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] فقال: «يا معشر قريش؛ اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف؛ لا أغني عنكم من الله شيئا، يا صفية عمّة رسول الله؛ لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد؛ لا أغني عنك من الله شيئا، سليني من مالي ما شئت» «1». وفي الصحيحين أنه قال: «لا ألفينّ أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، أو رقاع تخفق، يقول: يا رسول الله؛ أغثني أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك» «2». وهذا باب واسع. الوجه السادس: أن هذا المعترض سوّى بين السفر إلى زيارة قبره صلى الله عليه وسلّم وسائر القبور، وذكر أن المجيب حرّم السّفر لزيارة قبره وسائر القبور، وهذا يقتضي أن المجيب حرّم السفر إلى مسجده، وهذا كذب على المجيب، فإن الذين قالوا من علماء المسلمين إنه يستحبّ زيارة قبره، أو حكوا على ذلك الإجماع؛ لو قدّر أنهم صرّحوا باستحباب السفر إليه فمرادهم السفر إلى مسجده. فإن هذا هو المقدور وهو المشروع، فإن كل مسافر وزائر يذهب إلى هناك إنما يصل إلى مسجده، ويشرع له الصلاة في مسجده بالاتفاق، وكل من ذكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم ذكروا أنه يبدأ بالصلاة في مسجده، ثم بعد ذلك يسلّم عليه، وهذا هو المنصوص عن الأئمة؛ كمالك وأحمد وغيرهما. ففي «العتبية» عن مالك قال: يبدأ بالركوع قبل السلام في مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم. قال: وأحبّ مواضع التنفل فيه مصلّى النبي صلى الله عليه وسلّم حيث العمود المخلق. قال: وأما الفريضة فالتقدم إلى الصفوف. والتنفل فيه للغرباء أحبّ إلي من التنفّل في البيوت.

_ (1) أخرجه البخاري (3527، 4770، 4771) ومسلم (204). (2) أخرجه البخاري (3073) ومسلم (1831).

وقد روي عن مالك رواية أخرى أنه لم يحدّد للتنفل موضعا من المسجد، بل سوّى بين الجميع. وكذلك قال أحمد وابن حبيب وسائر العلماء؛ إنه يبدأ بالركوع في المسجد. وهذا مذهب السلف والخلف- أهل المذاهب الأربعة وغيرهم- لكن منهم من يختار الصلاة في الروضة، كما ذكر ذلك أحمد وابن حبيب وغيرهما. وما علمت نزاعا في أنه يصلي في المسجد أولا إلا ما رأيته في المناسك لأبي القاسم بن حباب السعدي في آداب الإحرام والمجاورة والزيارة، قال فيه: فإذا دخل الداخل المسجد فهل يبدأ بحقوق المسجد أو بحقوق المصطفى وهو التأدّب بآداب الزيارة؟ اختلف العلماء في ذلك؛ فمن قائل يقول: يبدأ بحقوق المسجد أولا لأنه أوّل البقعة يلاقيها قبل لقاء المصطفى، فيقيم آداب المسجد بصلاة ركعتين قبل الزيارة، قالوا: ولا يزيد بزيارته ميتا على زيارته حيّا، وقد كانت صحابته إذا دخلوا للقائه في المسجد يبدءون بتحية المسجد قبل لقائه، بأمر منه واقتداء منهم. وقال آخرون: دخول المسجد إنما كان لزيارة المصطفى، فالقسم الأول زيارته، والثاني حقوق المسجد، فيبدأ بحقوقه قبل حقوق المسجد. والصحيح الأول. قلت: هذا القول لم يقله عالم معروف يحكى قوله، إنما قاله: بعض من لا يعرف شريعة الإسلام، ولهذا علّله بقوله: دخول المسجد إنما كان لزيارة المصطفى، فإن هذا التعليل يدلّ على جهله بسنته صلى الله عليه وسلّم المتواترة التي أجمع المسلمون عليها، وهو أن المسجد شرع دخوله للصلاة فيه، وإن لم يكن هناك قبره كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم وعهد خلفائه، والرحال تشدّ إليه كما قال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا». وهذا متفق عليه بين المسلمين. والسفر لقبره لو كان مشروعا لكان يسافر لهذا ولهذا. فالذي يقول: إن السفر للقبر دون المسجد هو المشروع، فمن قال: هذا؛ فإنه لا يعرف دين الإسلام، فإن أصر على مشاقة الرسول واتّباع غير سبيل المؤمنين تعيّن قتله. فكيف إذا كان المشروع هو السفر إلى مسجده وقد نهى عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة كما قد ذكره السلف والأئمة، وهذا مبسوط في موضع آخر. والمقصود هنا؛ أن الزائر إنما يصل إلى مسجده ويشرع له الصلاة في مسجده بالاتفاق، والصلاة والسلام عليه والثناء وتعزيره وتوقيره وذكر ما منّ الله عليه به، ومنّ على الناس به. فأما الوصول إلى قبره أو الدخول إلى حجرته؛ فهذا غير ممكن ولا مقدور، ولا هو من المشروع المأمور، بخلاف سائر القبور. وإذا كان المراد بزيارة قبره والسفر إليه هو السفر إلى مسجده وفعل ما يشرع هناك؛ فالمجيب قد ذكر أن هذا مستحبّ بالنصّ والإجماع، وما حكاه عن المجيب

يقتضي أنه حرّم مثل هذا السفر، ويقتضي أن السفر إليه والسفر إلى قبر غيره سواء، وهذا غلط عظيم على شرع الرسول وعلى المجيب وغيره. الوجه السابع: أنه إذا كان المراد بالسفر إليه وزيارته هو السفر إلى مسجده؛ وهذا سفر مستحبّ بالنصّ والإجماع، والسفر لزيارة سائر القبور ليس مستحبا بالنص والإجماع، وهذا المعترض قد سوّى بينهما، فقد خالف النصّ والإجماع. الوجه الثامن: أن يقال: المراد بزيارته المستحبة وبالسفر إليها هو السفر إلى مسجده باتفاق المسلمين، ثم جميع ما يشرع هناك من الصلاة والسلام عليه والدّعاء له والثناء عليه، هو مشروع في مسجده وسائر المساجد، وسائر البقاع باتفاق المسلمين، فلم يبق لنفس القبر اختصاص بعبادة من العبادات، بخلاف قبر غيره؛ فإنه إذا استحبّ زيارة قبور أحد المؤمنين للدعاء له والاستغفار؛ استحب أن يصلي إلى قبره ويدعو له هناك، كما يصلي على قبره، فإن قبره بارز يمكن الوصول إليه، والرسول حجب قبره ولم يبرزوه، فلا يشرع ولا يقدر أحد على زيارته كما يشرع ويقدر على زيارة قبر غيره، بل زيارته التي يشرع لها السفر إنما هي السفر إلى مسجده، ولهذا كان أهل مدينته يكره لهم كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه أن يأتوا إلى قبره، بخلاف مسجده؛ فإنه مشروع لهم إتيانه والصلاة فيه، كما يشرع في سائر المساجد، والصلاة فيه أفضل. والغرباء يستحبّ لهم صلاة التطوع في مسجده بخلاف أهل البلد، فإنه قد ثبت عنه أنه قال لأهل المدينة: «أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» «1». فعلم أن الذي ذكروه من استحباب زيارة قبره إنما هو السفر إلى مسجده، ليس هو زيارة قبره كما تزار القبور، فإن ذلك غير مشروع ولا مقدور، والمجيب قد ذكر هذا الفرق وذكر استحباب السفر إلى مسجده بالنص والإجماع وما استحبه العلماء من زيارة قبره، وهذا المعترض سوّى بينهما، وذكر عن المجيب أنه حرّم السفر لزيارة قبره وسائر القبور، ولم يذكر عنه أنه استحبّ السفر إلى مسجده وزيارته الزيارة الشرعية، فتبين بطلان ما نقله عنه. مع أن نفس زيارة القبور مختلف في جوازها؛ قال ابن بطال في «شرح البخاري»: كره قوم زيارة القبور لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أحاديث في النهي عنها. وقال الشعبي: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابني. قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون زيارة القبور، وعن ابن سيرين مثله، قال: وفي

_ (1) جزء من حديث أخرجه البخاري (731، 6113، 7290) ومسلم (781) وغيرهما، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.

المجموعة قال علي بن زياد: سئل مالك عن زيارة القبور، فقال: كان قد نهى عنه عليه السلام ثم أذن فيه، فلو فعل إنسان ولم يقل إلا خيرا لم أر بذلك بأسا، وليس من عمل الناس. وروي عنه أنه كان يضعّف زيارتها. فهذا قول طائفة من السلف، ومالك في القول الذي رخّص فيها يقول: ليس من عمل الناس، وفي الآخر ضعّفها. فلم يستحبها لا في هذا ولا في هذا. وهذا هو القول الذي حكاه المعترض عن المجيب؛ من أنه حرّم زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور مطلقا. والمجيب لم يذكره ولم يحكه، ولكن حكاه وقاله غيره ممن هم من أكابر علماء المسلمين، فهل يقول عاقل: إن هؤلاء كانوا مجاهرين للأنبياء بالعداوة معاندين لهم؟

فصل [الأحاديث التي احتج بها المعترض على جواز شد الرحال للقبور، والرد على ذلك]

فصل [الأحاديث التي احتج بها المعترض على جواز شدّ الرحال للقبور، والرد على ذلك] وأما ما احتجّ به من الأحاديث الواردة في زيارة القبور فعنها أجوبة: أحدها: أن يقال: ليس فيما ذكرته ما يدلّ على استحباب زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلّم ولا غيره من القبور. وأما قوله: «فزوروا القبور». فالأمر بمطلق الزيارة أو استحبابها أو إباحتها لا يستلزم السفر إلى ذلك، لا استحبابا به ولا إباحته، كما أن ذلك لا يتناول زيارتها لمن ينوح عندها ويقول الهجر، ولا زيارتها لمن يشرك عندها ويدعوها، ويفعل عندها من البدع ما نهى عنه، كما أن قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [البقرة: 196] لا يتناول أيام الحيض، ولا يومي العيدين، وقوله صلى الله عليه وسلّم: «صلاة الرجل في مسجده تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة» «1». لا يقتضي أن يسافر إلى المسجد ليصلي، بل يقتضي إتيانه من بيته ومكان قريب بلا سفر. وقوله: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» «2». وقوله: «إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها» «3». لا يقتضي أنها تسافر من غير زوج ولا ذي محرم، ولا على أن على زوجها أن يأذن لها إذا أرادت السفر إلى أحد المساجد، ولو كان مع زوج أو ذي محرم. إنما عليه الإذن في الفرض وهو الحج، مع قوله صلى الله عليه وسلّم: «إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد» فلا يقال: إنه عام في السفر وغيره. فإن قيل: هذه المواضع قد عرف أنه أراد الإتيان إلى المسجد من البيت لم يرد السفر، لأن هذا هو المعروف بينهم. قيل: وكذلك زيارة القبور لم يكونوا يعرفونها إلا من المدينة إلى مقابرها، وإذا جازوا بها، لم يعرف قط أن أحدا من الصحابة والتابعين وتابعيهم سافروا لزيارة قبر.

_ (1) أخرجه البخاري (477) ومسلم (649). (2) تقدم. (3) أخرجه البخاري (873) ومسلم (442).

الجواب الثاني: وهو أنه خاطبهم بما كانوا يعرفونه من الزيارة، وهم لم يكونوا يعرفون زيارة القبور إلا كما يعرفون اتّباع الجنائز، يتّبعون الجنازة من البيت إلى المقبرة، وكذلك يخرج أحدهم لزيارة القبور من البيت إلى المقبرة، أو يمرّ بالقبر مرورا، فهذا هو الذي كانوا يعرفونه ويفهمونه من قوله. قال أحمد بن القاسم: سئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن الرجل يزور قبر أخيه الصالح ويتعمّد إتيانه؟ قال: وما بأس بذلك؟ قد زار الناس القبور. قال: وقد ذهبنا نحن إلى قبر عبد الله بن المبارك، وقال حنبل: سئل أبو عبد الله عن زيارة القبور، فقال: قد رخّص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأذن فيها بعد، فلا بأس أن يأتي الرجل قبر أبيه أو أمه أو ذي قرابته؛ فيدعو له ويستغفر له فينصرف. قال علي بن سعد: سألت أحمد؛ قلت: زيارة القبور تركها أفضل عندك أم زيارتها؟ قال: زيارتها. ولهذا إنما زار النبي صلى الله عليه وسلّم قبر أمه لما سافر لفتح مكة، فزارها في الطريق، لم يسافر لذلك، ولا كان أحد على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ولا عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم يسافر لزيارة قبر، لا قبر نبيّ ولا صالح ولا غيرهما، لا قبر نبينا صلى الله عليه وسلّم ولا إبراهيم عليه السلام، ولا غيره، بل هذا إنما حدث بعد ذلك، ولا كان في الإسلام مشهد على قبر أو أثر نبي أو رجل صالح يسافر إليه، بل ولا يزار للصلاة والدعاء عنده، بل هذا كله محدث. بل ولا كانوا يزورون القبور للتبرّك بالميت ودعائه والدعاء به، وإنما كانوا يزورونه إن كان مؤمنا للدعاء له والاستغفار، كما يصلّون على جنازته، وإن كان غير مسلم زاروه رقّة عليه، كما زار النبي صلى الله عليه وسلّم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال في الحديث الصحيح: الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي» «1». ومن هنا يظهر الجواب الثالث: وهو أن الزيارة التي أذن فيها الرسول أو ندب إليها أو فعلها مقصودها نفع الميت والإحسان إليه بالدعاء له والاستغفار، ومقصودها تذكّر الموت أو الرقة على الميت، لم يكن مقصودها أن تعود بركة الميت المزور على الحيّ الزائر، ولا أن يدعوه ويسأله ويستشفع به، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم لما زار قبور أهل البقيع وقبور الشهداء لم يكن هذا مقصوده. ومن قال هذا؛ فقد أعظم الفرية على الرسول صلى الله عليه وسلّم وجعله مستشفعا بأصحابه الموتى داعيا مستغيثا مستجيرا بهم، وهذا لا

_ (1) أخرجه مسلم (976).

يقوله مسلم، بل جعله مستغيثا مستجيرا بأمه التي منع من الاستغفار لها بخلاف المؤمن، فلم يكن في زيارة النبي صلى الله عليه وسلّم التي شرعها لأمته بقوله وفعله طلب حاجة من الميت، ولا القصد بها تعظيمه وعبادته أو التوسل به أو دعائه، بل المقصود بها نفعه؛ كالصلاة على جنازته والصلاة على قبره حيث شرع ذلك. وكذلك ما علّمه لأصحابه أن يقولوه إذا زاروا القبور؛ إنما فيه السلام عليهم والدعاء لهم والاستغفار، كما في الصلاة على جنائزهم. ففي صحيح مسلم وغيره عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: «السلام على أهل الديار (وفي لفظ) السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» «1». وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج إلى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» «2». وفيه أيضا عن عائشة رضي الله عنها في حديث طويل، قال: «إن جبريل أتاني فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم». قال: قلت: يا رسول الله؛ كيف أقول؟ قال: قولي: «السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» «3». وفي «سنن ابن ماجه» في هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدته صلى الله عليه وسلّم فإذا هو بالبقيع، فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط ونحن بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم» «4». وفي المسند والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه، فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلف لنا ونحن بالأثر» «5». قال الترمذي: حديث حسن غريب. فزيارة القبور المشروعة من جنس الصلاة على الميت، أما الصلاة عليه إذا كان ظاهرا أو على قبره، لكن الصلاة عليه هي صلاة ذات تحليل وتحريم واصطفاف وتكبيرات، والزيارة المطلقة دعاء لهم. وفي الصحيحين: أنه صلّى على شهداء أحد بعد ثماني سنين، كصلاته على الميت «6».

_ (1) أخرجه مسلم (975). (2) أخرجه مسلم (249). (3) أخرجه مسلم (974). (4) أخرجه ابن ماجه (1546) بإسناد ضعيف كما في «الإرواء» (3/ 237). لكن للحديث شواهد يصحّ بها إن شاء الله. (5) أخرجه الترمذي (1053) والطبراني في «المعجم الكبير» (12/ رقم: 12613). وضعفه الألباني في «أحكام الجنائز» ص 250. (6) أخرجه البخاري (1344) - وانظر أطرافه هناك- ومسلم (2296).

الفرق بين الزيارة الشرعية وبين الزيارة البدعية

قال أبو بكر بن المنذر: ولا بأس بزيارة القبور، ويستغفر للميت، ويرقّ قلب الزائر، ويذكر الآخرة، فهذا الذي سنّه الرسول لأمته بقوله وفعله في موتى المسلمين، وأما هو نفسه فلقبره حكم آخر، فإن قبور المؤمنين ظاهرة بارزة وهو دفن في حجرته، ومنع الناس من الوصول إلى قبره، وقال: «لا تتخذوا قبري عيدا، وصلّوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني». وكذلك قال في السلام. وقال: «إن لله ملائكة سيّاحين يبلغوني عن أمتي السلام». وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». ولهذا لم يصلّ أحد على قبره ولا شرع الصلاة على قبره عند أحد من العلماء، بل أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد أنه يصلّى على قبور المؤمنين دائما، وأما هو فلا يصلّى على قبره بالإجماع؛ لأن المقصود بالصلاة على القبور وزيارتها هو الدعاء، والرسول قد أمرنا بالصلاة والسلام عليه وطلب الوسيلة له، وغير ذلك في جميع المواضع، وهذا أعظم مما يفعل عند قبر غيره، وأمر الناس أن تكون محبته وتعظيمه وما يقوم بقلوبهم معهم أينما كانوا، فلا ينقص ما يستحقه من المحبة والتعظيم والصلاة والتسليم إذا كانوا في سائر المواضع، عما يفعل في بيته وعند قبره من ذلك، ولهذا نهى عن اتخاذ بيته عيدا، وفي لفظ: قبره. فلا يخصّ بيته وقبره بشيء من ذلك، فيكون في سائر البقاع ناقصا عما يكون عند القبر، فإن ذلك يتضمن نقص حقّه وبخسه إياه، وهذا من تنقيص حقه المنهي عنه. والجهّال يظنون أن النهي عنه تنقيص لحقه، ولا يعلمون أن هذا أعظم لقدره ولحقه من وجوه متعددة. وأيضا فهذا فيه مفسدة اتخاذ قبره عيدا ووثنا ومسجدا، فنهى صلى الله عليه وسلّم عنه لما فيه من المفسدة وعدم المصلحة، فهو صلى الله عليه وسلّم له خاصة في علو قدره وحقه لا يشركه فيها غيره؛ الزيارة التي شرعها لعموم المؤمنين، وهو إنما خاف أن يتخذ قبره وثنا وعيدا؛ بخلاف قبور عموم المؤمنين، لكن ما عظّم من القبور حتى صار وثنا وعيدا فإنه ينهى عن ذلك ويزال ما حصل به، حتى إنه يحرم أن يبنى عليه مسجد «1». [الفرق بين الزيارة الشرعية وبين الزيارة البدعية] والمقصود: أن ما سنّه لأمته نوع غير النوع الذي يقصده أهل البدع؛ من السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فإنهم لا يسافرون لأجل ما شرع من الدعاء لهم والاستغفار، بل لأجل دعائهم والدعاء بهم، والاستشفاع بهم، فيتخذون قبورهم مساجد وأوثانا وعيدا يجتمعون فيه.

_ (1) وانظر في ذلك كتاب «تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد» لمحدّث الدنيا العلامة محمد ناصر الدين الألباني- رحمه الله تعالى- طبع المكتب الإسلامي بيروت.

وهذا كله مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الأحاديث الصحيحة، فكيف يشبّه ما نهى عنه وحرّمه بما سنّه وفعله؟ وهذا الموضع يغلط فيه هذا المعترض وأمثاله، ليس الغلط فيه من خصائصه، ونحن نعدل فيه ونقصد قول الحق والعدل فيه، كما أمر الله تعالى؛ فإنه أمر بالقسط على أعدائنا الكفار، فقال سبحانه وتعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا [المائدة: 8]. فكيف بإخواننا المسلمين، والمسلمون إخوة، والله يغفر له ويسدّده ويوفقه وسائر إخواننا المسلمين. الجواب الرابع: أنه لو قدّر أن هذا اللفظ عام؛ فأحاديث النهي عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة تخصّص هذا، كما تخصّص إتيان المساجد، ومعلوم أن إتيان المساجد أفضل من إتيان المقابر ونحوها، والسفر إليها أفضل. فإذا كان قد نهي عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة؛ فالنهي عما يكون إتيانه والسفر إليه دون إتيان المساجد أولى، ولهذا لم يقل أحد من المسلمين إنه يسافر إلى القبور دون المساجد بخلاف العكس، فإنه يحكى عن الليث بن سعد. الجواب الخامس: أن يقال: ليس فيما ذكرته ما يقتضي أن السفر إليها مستحبّ بل ولا زيارتها من قوله صلى الله عليه وسلّم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها». وفي لفظ: «ولا تقولوا هجرا، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا، ولا تشربوا مسكرا، وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فادّخروا ما بدا لكم». رواه مسلم في صحيحه عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن الانتباذ إلا في سقاء فاشربوا في الأوعية كلها ولا تشربوا مسكرا» «1». وقد اتفق المسلمون على أن الانتباذ في الأوعية والادخار أراد به إباحة ذلك بعد حظره، لم يرد به الندب إلى ذلك، فكذلك قوله صلى الله عليه وسلّم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» قد يقال: لم يرد به الندب، ولا يلزم من إباحتها ولا من الندب إليها إباحة السفر، كإتيان المساجد. وقوله- أعني المعترض-: المشهور أن الأمر بعد الحظر يقتضي الوجوب. يقال له: الجواب من وجهين: أحدهما: أن المعروف عن السلف والأئمة أن صيغة «افعل» بعد الحظر ترفع الحظر المتقدم، وتعيد الفعل إلى ما كان عليه «2»، بهذا جاء الكتاب والسنة؛ كقوله

_ (1) أخرجه مسلم (977). (2) ذهب إلى هذا القول أكثر الحنابلة، وهو اختيار الزركشي، والكمال بن الهمام من الحنفية، وبه قال الأرموي.-

تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: 2] وقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة: 222] وقوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 10] وقوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ إلى قوله: مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187]. فإن هذا لما جاء بعد حظر الجماع والأكل بعد النوم ليلة الصيام أفاد الإباحة، وهذا بخلاف قوله تعالى: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ [الأحزاب: 53] فإن الانتشار هنا قبل ذلك لم يكن واجبا فإنه أذن لهم في الدخول، لم يوجبه عليهم. وأما قوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5]. فإنه أيضا لرفع الحظر وإعادة الأمر إلى ما كان قبل الأشهر، وهو أنه كان مأمورا به. وقد ورد الأمر المطلق؛ لكن في زيارة قبر أمه كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلّم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: «استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزورها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكّر الموت». ومعلوم أن استئذانه ربه طلب إباحة الزيارة لا طلب استحبابها، فلما أذن له كانت زيارته لأمه مباحة، فقوله: «فزوروها» ورد على هذا السبب، فلا بدّ أن يتناوله، فيدخل في ذلك زيارة القريب الكافر من غير دعاء له ولا استغفار، ومعلوم أن هذه الزيارة ليست مثل ما كان يفعله بأهل البقيع وشهداء أحد، ونحو ذلك من زيارة قبور المؤمنين التي تتضمن الدعاء لهم، ولا يلزم إذا كانت تلك مستحبة لما فيها من نفع المؤمنين؛ كالصلاة على جنائزهم، أن تكون هذه مستحبة. وقوله صلى الله عليه وسلّم: «فإنها تذكّر الموت»؛ هو بيان لجهة المصلحة المعارضة للمفسدة التي أوجبت النهي فإنها تذكر الموت، وإن كانت قد تورث جزعا، ففيهما من

_ - وذهب الإمام أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني والفخر الرازي والبيضاوي، وأكثر الحنفية، والباجي من المالكية، وأبو حامد الأسفراييني وغيرهم، إلى القول بأن الأمر بعد التحريم يفيد الوجوب. وذهب الشافعي والآمدي والقاضي عبد الوهاب المالكي وابن خويزمنداد وابن الحاجب وابن قدامة وغيرهم إلى أنه يفيد الإباحة. واختار إمام الحرمين والغزالي الوقف بين الإباحة والوجوب. وانظر لتفصيل المسألة: «المستصفى» للغزالي (1/ 263) و «أصول السرخسي» (1/ 19) و «المحصول» للرازي (2/ 96 - 98) و «نفائس الأصول في شرح المحصول» للقرافي (3/ 1321) و «نهاية الوصول في دراية الأصول» للأرموي (3/ 915 - 921) و «الأحكام للآمدي» (2/ 178) و «نهاية السئول في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول» للأسنوي (1/ 415 - 417) و «روضة الناظر» لابن قدامة (1/ 559 - 563) و «التحقيقات في شرح الورقات» لابن قاوان (ص 189 - 190) و «التمهيد في أصول الفقه» للكلوذاني الحنبلي (1/ 179 - 186) و «القواعد والفوائد الأصولية» لابن اللّحام (228 - 230).

المصلحة ما عارض المفسدة، وحينئذ فإن كانت مباحة حصل المقصود، واستحباب مثل هذه الزيارة يفتقر إلى دليل آخر، فالفرق بين زيارة المؤمنين والكفار فرق معلوم، فإن الدعاء للمؤمنين حقّ لهم؛ كعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم، ونحن إن جوّزنا أن يعاد المريض الذميّ فليس ذلك حقا له كالمسلم، وأما جنازته فإن السنة أن يركب ويمشي أمامها فإنه لا يكون تابعا لها، كما نقل مثل ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودلّ عليه حديث المغيرة بن شعبة؛ الراكب خلف الجنازة وعن يمينها ويسارها، وقريبا منها، رواه الترمذي. وفي الحديث الآخر الذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلّم: ليس منها من تقدمها، فإذا ركب وتقدّمها لم يكن تابعا لها. ولو قدّر أن الأمر بعد الحظر يقتضي عند الإطلاق الوجوب؛ ففي هذا الحديث قد اتفق المسلمون على أنه ليس للوجوب، لا سيما وسببه زيارة قبر أمه. ولا يجب على المسلمين زيارة أقاربهم الكفار باتفاق المسلمين. وأما النزاع بين المسلمين؛ هل زيارة القبور مستحبة أو مباحة أو منهي عنها؟ لم يقل أحد بوجوبها. فتبين أن ما ذكره ليس فيه ما يدلّ على محل النزاع؛ وهو استحباب السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين لدعائهم والرغبة إليهم، إذ هذا مقصود المسافرين، ليس مقصودهم الدعاء لهم والاستغفار لهم، بل قد ينهون عن ذلك، ويستعظمون أن مثل هؤلاء يحتاجون إلى دعاء الأحياء، ومنهم من إذا قيل له: سلّم على فلان. ينهى عن ذلك، ويقول: السلام علينا من فلان، فيتخذونهم أربابا. فإنه لا يجيب الدعوات، ويفرج الكربات، وينزّل الرزق، ويهدي القلوب، ويغفر الذنوب، إلا الله وحده لا شريك له. كما قال تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 135]. وقال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ إلى قوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ. وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ. إلى قوله: مَحْذُوراً [الإسراء: 56، 57]. وهذه تتناول كل من يدعى من دون الله ممن هو مؤمن من الملائكة والإنس والجن، وقد فسّرها السلف بهذا كله. وقال ابن مسعود: «كان أناس من الإنس يعبدون قوما من الجن، فأسلم الجن وتمسّك الآخرون بعبادتهم، فنزلت هذه الآية» «1». وقال السدي أيضا: عن أبي صالح عن ابن عباس: هو عيسى وأمه وعزير. وقال السدي أيضا: ذكروا أنهم اتخذوا الآلهة، وهو حين عبدوا الملائكة والمسيح عليه السلام وعزير. فقال الله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء: 57]. وقد قال تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ

_ (1) أخرجه البخاري (4714، 4725) ومسلم (3030).

إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 80]. وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 22، 23] فتبيّن أن من دعي في زعمهم من دون الله فإنه لا يملك شيئا ولا له شرك مع الله، ولا هو معين ولا ظهير، ولم يبق إلا الشفاعة. فقال: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255]. ولهذا كان أوجه الشفعاء وأول شافع وأول مشفّع صلى الله عليه وسلّم إذا جاء الخلق يوم القيامة إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم إلى موسى ثم عيسى ليشفعوا لهم، فكل منهم يردّه إلى الآخر ويعتذرون، فإذا أتوا المسيح قال: اذهبوا إلى محمد عبد غفر له من ذنبه ما تقدم وما تأخر، قال صلى الله عليه وسلّم: «فأذهب إلى ربّي، فإذا رأيته خررت له ساجدا فأحمده بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد؛ ارفع رأسك، قل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفّع. قال: فيحدّ لي حدّا، فأدخلهم الجنة». والحديث في الصحيحين «1». بيّن أنه إذا رأى ربه لا يبتدئ بالشفاعة بل يسجد ويحمد، حتى يؤذن له، ثم يؤذن له في حدّ محدود طبقة بعد طبقة، كما في الحديث. وذلك مبسوط في مواضع.

_ (1) أخرجه البخاري (4476) ومسلم (193) وغيرهما، من حديث أنس بن مالك. والحديث مروي عن غير واحد من الصحابة، وانظر كتاب «الشفاعة» لمحدّث الديار اليمنية العلامة مقبل بن هادي الوادعي- سلّمه الله-.

فصل [المصنف لا يحرم زيارة القبور الزيارة الشرعية]

فصل [المصنف لا يحرم زيارة القبور الزيارة الشرعية] ثم قال المعترض: وصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه خرج إلى زيارة قتلى أحد وإلى بقيع الغرقد. وهذا الأمر لا ينكره من أئمة النقل أحد. وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلّم استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له، وأجيب في ذلك لما سأله. فعلام يحمل هذا القائل زيارته لقبر أمه ومشيه الذي منه صدر؟ فإن حمله على التحريم فقد ضلّ وكفر، وإن حمله على الجواز والندب فقد لزمته الحجة والتقم الحجر. يقال: هذا الكلام مبنيّ على افترائه المتقدم، وهو أن المجيب يحرّم زيارة القبور مطلقا، وقد تقدم أن هذا افتراء عليه، بل هو يجوّز زيارة قبور المؤمنين للدعاء لهم والاستغفار، ويجوز زيارة قبر الكافر للرقة والاعتبار؛ كزيارة النبي صلى الله عليه وسلّم قبر أمه. ثم يقال له: أولا: النبي صلى الله عليه وسلّم لم يسافر لزيارتها بل ذلك في طريقه لما فتح مكة. ويقال له: من أين لك أنه مشى إلى قبر أمه؟ وإن كان المشي جائزا فإنه إنما زارها في طريقه في السفر، وكان راكبا وقبرها كان بارزا، فعله لما نزل عنده، وقبرها كان بالأبواء، بل نزل عنده لم يحتج إلى المشي إليه، ولكن هذا لا خبرة له بالنصوص كيف قيلت، ولا بتفصيل أفعال النبي صلى الله عليه وسلّم. ويقال له: هذه الزيارة ليست من جنس زيارة قبور الأنبياء والصالحين التي يقصد بها التبرك بهم، ودعاؤهم والاستشفاع بهم، فإن هذا لا يجوز أن يقصده النبي صلى الله عليه وسلّم بزيارة أهل البقيع وقتلى أحد، فكيف بقبر أمه؟ بل هذه الزيارة للرقة والاعتبار، وهذه جائزة ما زال المجيب يجوّز هذه وأمثالها، وهذا مذكور في عامة كتبه وفتاويه، معروف عنه عند كل من يعرف ما يقول في هذا الباب. وليس في جواب الفتيا المتنازع فيها نهي عن هذا، ولا حكاية النهي فيها عن أحد. والحديث قد رواه مسلم في صحيحه من وجهين عن أبي هريرة، قال في أحدهما: «استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي». وقال في الآخر: زار النبي صلى الله عليه وسلّم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال صلى الله عليه وسلّم: «استأذنت ربّي في أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها؛ فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكّركم الموت». وهذه الزيارة كانت عام الفتح في سفره.

فصل [هل وردت أحاديث صحيحة في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم؟]

فصل [هل وردت أحاديث صحيحة في زيارة قبره صلى الله عليه وسلّم؟] قال المعترض: وورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة وغيرها مما لم يبلغ درجة الصحيح، لكنها يجوز الاستدلال بها على الأحكام الشرعية ويحصل بها الترجيح. والجواب: من وجوه: أحدها: أن يقال: لو ورد من ذلك ما هو صحيح لكان إنما يدل على مطلق الزيارة، وليس في جواب الاستفتاء نهي عن مطلق الزيارة، ولا حكى نزاع في ذلك الجواب، وإنما فيها ذكر النزاع فيمن لم يكن سفره إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وحينئذ فلو كان في هذا الباب حديث صحيح لم يتناول محل النزاع، ولا فيه رد على ما ذكره المجيب من النزاع والإجماع. الثاني: أنه لو قدّر أنه ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة؛ لكان المراد بها هو المراد بقول من قال من العلماء: إنه يستحبّ زيارة قبره، ومرادهم بذلك السفر إلى مسجده، وفي مسجده يسلّم عليه ويصلّى عليه، ويدعى له ويثنى عليه، ليس المراد أنه يدخل إلى قبره ويوصل إليه، وحينئذ فهذا المراد قد استحبه المجيب، وذكر أنه مستحبّ بالنص والإجماع، فمن حكى عن المجيب أنه لا يستحب ما استحبه علماء المسلمين من زيارة قبره على الوجه المشروع؛ فقد استحق ما يستحقه الكاذب المفتري. وإذا كان يستحب هذا وهو المراد بزيارة قبره، فزيارة قبره بهذا المعنى من مواقع الإجماع، لا من موارد النزاع. الثالث: أن نقول: قول القائل: إنه ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة؛ قول لم يذكر عليه دليلا، فإذا قيل له: لا نسلّم أنه ورد في ذلك حديث صحيح احتاج إلى الجواب، وهو لم يذكر شيئا من تلك الأحاديث، كما ذكر قوله: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها». وكما ذكر زيارته لأهل البقيع وأحد، فإن هذا صحيح، وهنا لم يذكر شيئا من الحديث الصحيح، فبقي ما ذكره دعوى مجردة تقابل بالمنع. الوجه الرابع: أن نقول: هذا قول باطل لم يقله أحد من علماء المسلمين العارفين بالصحيح، وليس في الأحاديث التي رويت بلفظ زيارة قبره حديث صحيح عند أهل المعرفة، ولم يخرّج أرباب الصحيح شيئا من ذلك، ولا أرباب السنن

المعتمدة؛ كسنن أبي داود والنسائي والترمذي ونحوهم، ولا أهل المساند التي من هذا الجنس؛ كمسند أحمد وغيره. ولا في موطأ مالك، ولا مسند الشافعي ونحو ذلك، شيء من ذلك، ولا احتجّ إمام من أئمة المسلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيره بحديث فيه ذكر زيارة قبره، فكيف تكون في ذلك أحاديث صحيحة ولم يعرفها أحد من أئمة الدين ولا علماء الحديث؟ ومن أين لهذا وأمثاله أن تلك الأحاديث صحيحة، وهو لا يعرف هذا الشأن؟ الوجه الخامس: قوله: وغيرها مما لم تبلغ درجة الصحيح، لكنها يجوز الاستدلال بها على الأحكام الشرعية، ويحصل بها الترجيح. فيقال له: اصطلاح الترمذي ومن بعده؛ أن الحديث ثلاثة أقسام: صحيح، وحسن، وضعيف. والضعيف قد يكون موضوعا يعلم أنه كذب، وقد لا يكون كذلك، فما ليس بصحيح وكان حسنا على هذا الاصطلاح احتجّ به. وهو لم يذكر حديثا، وبيّن أنه حسن يجوز الاستدلال به. فنقول له: لا نسلّم أنه ورد من ذلك ما يجوز الاستدلال به، وهو لم يذكر إلا دعوى مجرّدة، فيقابل بالمنع. الوجه السادس: أن يقال: ليس في هذا الباب ما يجوز الاستدلال به، بل كلها ضعيفة؛ بل موضوعة، كما قد بسط في مواضع، وذكرت هذه الأحاديث وذكرت كلام الأئمة عليها حديثا حديثا، بل ولا أعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلّم بلفظ زيارة قبره البتة، فلم يكن هذا اللفظ معروفا عندهم. ولهذا كره مالك التكلم به، بخلاف لفظ زيارة القبور مطلقا. فإن هذا اللفظ معروف عن النبي صلى الله عليه وسلّم وعن أصحابه وفي القرآن: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ [التكاثر: 1، 2]. لكن معناه عند الأكثرين الموت، وعند طائفة هي زيارتها للتفاخر بالموتى والتكاثر. وأما لفظ قبر النبي صلى الله عليه وسلّم على الخصوص فلا يعرف لا عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولا عن أصحابه، وكل ما روي فيه فهو ضعيف، بل هو كذب موضوع، عند أهل العلم بالحديث، كما قد بسط هذا في مواضع. الوجه السابع: أن يقال: الذين أثبتوا استحباب السلام عليه عند الحجرة كمالك وابن حبيب وأحمد بن حنبل وأبي داود؛ احتجّوا إما بفعل ابن عمر كما احتج به مالك وأحمد وغيرهم، وإما بالحديث الذي رواه أبو داود وغيره بإسناد جيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من رجل يسلم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أردّ عليه السلام». فهذا عمدة أحمد وأبي داود وابن حبيب وأمثالهم، وليس في لفظ الحديث المعروف في السنن والمسند (عند قبري) لكن عرفوا أن هذا هو المراد، وأنه لم يرد على كل مسلّم عليه في كل صلاة في شرق الأرض وغربها، مع أن هذا المعنى إن كان هو المراد بطل الاستدلال بالحديث من كل وجه على اختصاص تلك البقعة بالسلام،

وإن كان المراد هو السلام عليه عند قبره كما فهمه عامة العلماء، فهل يدخل فيه من سلّم من خارج الحجرة؟ فهذا مما تنازع فيه الناس، وقد توزّعوا في دلالته، فمن الناس من يقول: هذا إنما يتناول من سلّم عليه عند قبره، كما كانوا يدخلون الحجرة على زمن عائشة فيسلّمون على النبيّ صلى الله عليه وسلّم، فكان يرد عليهم، فأولئك سلموا عليه عند قبره وكان يردّ عليهم. وهذا قد جاء عموما في حق المؤمنين؛ «ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام» «1». قالوا: فأما من كان في المسجد فهؤلاء لم يسلّموا عليه عند قبره، بل سلامهم عليه كالسلام عليه في الصلاة، وكالسلام عليه إذا دخل المسلّم المسجد وخرج منه، وهذا هو السلام الذي أمر الله به في حقه، بقوله: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً وهذا السلام قد ورد: أنه «من سلّم عليه مرة سلّم الله عليه عشرا» كما أنه من صلّى عليه مرة صلّى الله عليه بها عشرا. فأما أثر: «من صلّى عليه مرة صلّى الله عليه عشرا» فهذا ثابت من وجوه؛ بعضها في الصحيح، كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ، فإنه من صلّى عليّ مرّة صلّى الله بها عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت عليه شفاعتي» «2». وهذا مرويّ عن النبي صلى الله عليه وسلّم من غير هذا الوجه، كما في حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى عليّ واحدة صلّى الله عليه عشرا» «3». وأما السلام؛ فقد جاء أيضا في أحاديث، من أشهرها حديث عبد الله بن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن سليمان مولى الحسن بن علي، عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ أنه جاء ذات يوم والبشرى ترى في وجهه فقال: «إنه جاءني جبرائيل فقال: أما يرضيك يا محمد، أنه لا يصلّي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا؟ أو لا يسلّم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا» «4».

_ (1) حديث ضعيف؛ ذكره الديلمي في «الفردوس» (6055) والغزالي في «الإحياء» (4/ 475). قال الحافظ العراقي: «رواه ابن أبي الدنيا في القبور، وفيه عبد الله بن سمعان، ولم أقف على حاله. ورواه ابن عبد البر في «التمهيد» من حديث ابن عباس نحوه». وعزاه السيوطي للخطيب وابن عساكر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وضعّفه المحدث الألباني في «ضعيف الجامع» رقم (5208). (2) أخرجه مسلم (384). (3) أخرجه مسلم (408). (4) أخرجه أحمد (4/ 30) والنسائي (3/ 445) وفي «الكبرى» رقم (1115) و (1127) والحاكم (2/ 420) والقاضي إسماعيل الجهضمي في «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم» (2) وابن حبان (3/ رقم: 915) وصححه الألباني- رحمه الله-.

وقد روي في عدة أحاديث: أن الله يصلّي على كل من صلّى عليه، ويسلّم على من يسلّم عليه. ولم يذكر عددا، لكن الحسنة بعشر أمثالها، فالمقيد يفسّر المطلق. قال القاضي عياض: من رواية عبد الرحمن بن عوف عنه عليه السلام قال: «لقيت جبريل فقال لي: أبشرك أن الله يقول: من سلّم عليك سلّمت عليه، ومن صلّى عليك صليت عليه». قال: ونحوه من رواية أبي هريرة ومالك بن أوس بن الحدثان وعبيد الله بن أبي طلحة «1». قلت: وبسط الكلام على هذه الأحاديث له موضع آخر. والمقصود هنا؛ أن ما أمر الله به من الصلاة والسلام عليه هو كما أمر به صلى الله عليه وسلّم من الدعاء له بالوسيلة، وهذا أمر اختصّ هو به، فإن الله أمر بذلك في حقّه بعينه مخصوصا بذلك، وإن كان السلام على جميع عباد الله الصالحين مشروعا على وجه العموم، وقد قيل: إن الصلاة تكره على غير الأنبياء، وغلا بعضهم فقال: تكره على غيره، وكذلك قال بعض المتأخّرين: في السلام. ولكن الصواب الذي عليه عامة العلماء؛ أنه يسلّم على غيره، وأما الصلاة فقد جوّزها أحمد وغيره، والنزاع فيها معروف. وفي تفسير شيبان عن قتادة قال: حدّث أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا سلّمتم عليّ فسلّموا على المرسلين، فإنما أنا رسول من المرسلين» «2». وقد قال الله في كتابه: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 59] وقال: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الصافات: 181، 182]. وقال: لما ذكر نوحا وإبراهيم وموسى وهارون وإلياسين: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات: 78، 79]. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات: 108، 109]. وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ

_ (1) انظر هذه الروايات وتخريجها في الكتاب الماتع «جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام» للإمام العلامة ابن قيم الجوزية، حققه: البحّاثة الفاضل مشهور بن حسن آل سلمان- حفظه الله- ونشر بدار ابن الجوزي. (2) أخرجه أبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصبهان» (2/ 10 - 11/ 92) وأبو نعيم في «ذكر أخبار أصبهان» (2/ 335) بإسناد فيه مجهول. وأخرجه الخطيب في «تاريخه» (7/ 380) بإسناد فيه مجهول أيضا. وأخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» كما في «تفسير ابن كثير» (4/ 34). من طريق: شيبان، عن قتادة، قال: حدّثنا أنس بن مالك، عن أبي طلحة: فذكره مرفوعا. وأخرجه ابن أبي عاصم في «الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم» (69 - 70) من طريق: ابن أبي عروبة، عن قتادة عن أنس مرفوعا بلفظ: «إذا صليتم على المرسلين فصلّوا عليّ معهم، فإني رسول من المرسلين». وإسناده ظاهره الصحة كما قال الشيخ مشهور بن حسن- حفظه الله- في تحقيقه على «جلاء الأفهام» ص 635. ومنه استفدت التخريج السابق، فله الفضل والأجر إن شاء الله.

[الصافات: 119، 120]. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ [الصافات: 129، 130]. والمقصود هنا؛ أن هذا السلام المأمور به خصوصا هو المشروع في الصلاة وغيرها عموما على كل عبد صالح، كقول المصلي: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين». فإن هذا ثابت في التشهدات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلّم كلها، مثل حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين، وحديث أبي موسى، وابن عباس، اللّذين رواهما مسلم، وحديث ابن عمر، وعائشة، وجابر، وغيرهم، التي في المساند والسنن «1». وهذا السلام لا يقتضي ردا من المسلم عليه، بل هو بمنزلة دعاء المؤمن للمؤمنين واستغفاره لهم، فيه الأجر والثواب من الله، وليس على المدعو لهم مثل ذلك الدعاء، بخلاف سلام التحية؛ فإنه مشروع بالنص والإجماع في حق كل مسلم، وعلى المسلّم عليه أن يردّ السلام ولو كان المسلّم عليه كافرا، فإن هذا من العدل الواجب، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلّم يرد على اليهود إذا سلموا عليه بقوله: «وعليكم» «2». وإذا سلّم على معيّن تعيّن الرد «3»، وإذا سلّم على الجماعة؛ فهل ردّهم فرض على الأعيان أو على الكفاية؟ على قولين مشهورين لأهل العلم «4». والابتداء به عند اللقاء سنة مؤكدة، وهل هي واجبة؟ على قولين معروفين وهما قولان في مذهب أحمد وغيره «5». وسلام الزائر للقبر على الميت المؤمن هو من هذا الباب، ولهذا روي أن الميت

_ (1) انظرها في «صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلّم» لمحدث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني- رحمه الله-. (2) انظر «صحيح البخاري» (6256، 6257، 6258، 6928) و «صحيح مسلم» (2163). (3) دليل ذلك قوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النساء: 86]. ومن السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز». أخرجه مسلم (2162). ولإجماع الأمة على ذلك، كما حكاه «ابن العربي» في «أحكام القرآن» (1/ 467) والقرطبي في «تفسيره» (5/ 298) والحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (11/ 6). وانظر «شرح صحيح مسلم» للنووي (14/ 140) و «نهاية المحتاج» (8/ 47). (4) قال الإمام النووي في «شرحه على مسلم» (14/ 140): «وإن كانوا جماعة؛ كان رد السلام فرض كفاية عليهم، فإن ردّ واحد منهم سقط الحرج عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم، وإن ردّوا كلهم فهو النهاية في الكمال والفضيلة». ولتفصيل المسألة؛ انظر «فتح السلام في أحكام السلام» لمساعد بن قاسم الفالح، نشر مكتبة العبيكان بالرياض- ص 29 - 42. (5) انظر «فتح السلام» ص 29. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (5/ 298) حيث نقل الإجماع على أن الابتداء بالسلام سنة مرغّب فيها. وكذلك النووي ذهب إلى هذا في «شرح مسلم» و «الأذكار». وحكاه الحافظ في «الفتح» (11/ 4) أيضا.

يردّ السلام مطلقا «1». فالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلّم في مسجده وسائر المساجد وسائر البقاع؛ مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، وأما السلام عليه عند قبره من داخل الحجرة فهذا كان مشروعا لما كان ممكنا بدخول من يدخل على عائشة، وأما تخصيص هذا السلام أو الصلاة بالمكان القريب من الحجرة؛ فهذا محلّ النزاع. وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: منهم من ذكر استحباب السلام أو الصلاة والسلام عليه إذا دخل المسجد، ثم بعد أن يصلّي في المسجد استحب أيضا أن يأتي إلى الحجرة ويصلّي ويسلم كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، ومنهم من لم يذكر إلا الثاني فقط. وكثير من السلف لم يذكروا إلا النوع الأول فقط. فأما النوع الأول فهو المشروع لأهل البلد وللغرباء في هذا المسجد وغير هذا المسجد. وأما النوع الثاني فهو الذي فرّق من استحبه بين أهل البلد والغرباء، سواء فعله مع الأول أو مجردا عنه، كما ذكر ابن حبيب وغيره، إذا دخل مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم قال: بسم الله وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، السلام علينا من ربنا، وصلى الله وملائكته على محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وجنتك، وجنّبني من الشيطان الرجيم. ثم اقصد إلى الروضة، وهي ما بين القبر والمنبر، فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر، تحمد الله فيهما، وتسأل تمام ما خرجت إليه، وتسأل العون عليه، وإن كانت ركعتاك في غير الروضة أجزأتاك، وفي الروضة أفضل. وقد قال صلى الله عليه وسلّم: «ما بين قبري ومنبري على ترعة من ترع الجنة» «2». ثم تقف بالقبر متواضعا وتصلّي عليه

_ (1) ولم يصح هذا، وقد أحسن المصنف- رحمه الله- بإيراده بصيغة «روي» التي تفيد التمريض. (2) حديث صحيح مروي عن جمع من الصحابة. وأخرجه البخاري (1195) ومسلم (1390) من حديث عبد الله بن زيد. وأخرجه البخاري (1196) ومسلم (1390) من حديث أبي هريرة. ولفظه عندهما: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة». وأما اللفظ الذي ذكره المصنف- رحمه الله- فقد قال المحدث الألباني في كتابه الماتع «تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد» ص 135 - 136. «وأما اللفظ المشهور على الألسنة: «قبري»، فهو خطأ من بعض الرواة، كما جزم به القرطبي وابن تيمية والعسقلاني وغيرهم، ولذلك لم يخرج في شيء من الصحاح، ووروده في بعض الروايات لا يصيّره صحيحا، لأنه رواية بالمعنى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «القاعدة الجليلة» (ص 74) بعد أن ذكر الحديث: «هذا هو الثابت في الصحيح، ولكن بعضهم رواه بالمعنى فقال: «قبري» وهو صلى الله عليه وسلّم حين قال هذا القول لم يكن قد قبر صلى الله عليه وسلّم، ولهذا لم يحتجّ به أحد من الصحابة حينما تنازعوا في موضع دفنه، ولو كان هذا عندهم لكان نصا في محل النزاع، ولكن دفن في حجرة عائشة، في الموضع الذي مات فيه، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه» اه.-

وتثني بما يحضر، وتسلّم على أبي بكر وعمر وتدعو لهما، وأكثر من الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم بالليل والنهار، ولا تدع أن تأتي مسجد قباء وقبور الشهداء. قلت: وهذا الذي ذكره من استحباب الصلاة في الروضة قول طائفة، وهو المنقول عن الإمام أحمد في مناسك المروذي، وأما مالك فنقل عنه أنه يستحبّ التطوّع في موضع صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وقيل: لا يتعيّن لذلك موضع من المسجد، وأما الفرض فيصلّيه في الصف الأول مع الإمام بلا ريب. والذي ثبت في الصحيح عن سلمة بن الأكوع عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه كان يتحرّى الصلاة عند الأسطوانة «1». وأما قصد تخصيصه بالصّلاة فيه فالصلاة أفضل، وأما مقامه فإنما كان يقوم فيه إذا كان إماما يصلّي بهم الفرض، والسنة أن يقف الإمام وسط المسجد أمام القوم، فلما زيد في المسجد صار موقف الإمام في الزيادة. والمقصود؛ معرفة ما ورد عن السلف من الصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد وعند القبر. ففي مسند أبي يعلى: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، أخبرنا زيد بن الحباب، أخبرنا جعفر بن إبراهيم؛ من ولد ذي الجناحين حدّثنا علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن الحسين، أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فيدخل فيها، فنهاه، فقال: ألا أحدّثكم حديثا سمعته من أبي، عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم» «2». وهذا الحديث مما خرّجه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي

_ - قال الشيخ الألباني أيضا: «تنبيه: ومن أوهام العلماء أن النووي في «المجموع» عزا الحديث للشيخين بلفظ «قبري»، ولا أصل له عندهما، فاقتضى التنبيه» .. (1) أخرجه البخاري (502). (2) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (2/ 375) وأبو يعلى في «مسنده» (1/ 361 - 362/ 469) والبخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 186) والبزار (1/ 339/ 707) والخطيب البغدادي في «الموضح لأوهام الجمع والتفريق» (2/ 52 - 53) والضياء في «المختارة» (1/ 154) وإسماعيل الجهضمي في «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم» رقم (20). من طريق: جعفر بن إبراهيم- من ولد ذي الجناحين- حدّثني علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن الحسين رضي الله عنهما به. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 3): «رواه أبو يعلى؛ وفيه حفص-[كذا وصوابه: جعفر] بن إبراهيم الجعفري، ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا، وبقية رجاله ثقات». وقال الألباني في «تحذير الساجد» ص 95: «وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم، إلا أن أحدهم- وهو علي بن عمر- مستور، كما قال الحافظ في «التقريب». وللحديث شواهد كثيرة يصحّ بها». انظر «تحذير الساجد» للمحدّث الألباني.

فيما اختاره من الأحاديث الجياد المختارة الزائدة على ما في الصحيحين، وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم، وهو قريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي ونحوهما، فإن الغلط في هذا قليل، ليس هو مثل تصحيح الحاكم، فإن فيه أحاديث كثيرة يظهر أنها كذب موضوعة، فلهذا انحطّت درجته عن درجة غيره. فهذا عليّ بن الحسين زين العابدين «1» وهو من أجلّ التابعين علما ودينا، حتى قال الزهري: ما رأيت هاشميا مثله، وهو يذكر هذا الحديث بإسناده ولفظه: «لا تتخذوا بيتي عيدا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم». وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام عليه عند بيته، كما لا مزية للصلاة عليه عند بيته، بل قد نهى عن تخصيص بيته بهذا وهذا. وحديث الصلاة مشهور في سنن أبي داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» «2».

_ (1) هو الإمام الزاهد السيد علي بن الإمام سبط رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام أجمعين. ولد سنة ثمان وثلاثين (38). حدّث عن أبيه السبط الشهيد الحسين عليه السلام، وشهد معه كربلاء، لكنه كان موعوكا فلم يقاتل، ولم يتعرضوا له، بل أحضروه مع آله إلى دمشق، وكان له من العمر آنذاك ثلاثا وعشرين سنة. كان إذا أراد أن يتوضأ اصفرّ لونه، وإذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له في ذلك؟ فقال: تدرون بين يدي من أقوم، ومن أناجي؟! وكان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتّبع المساكين في الظّلمة، ويقول: إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب. وكان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين، فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل. ولما مات وجدوا بظهره أثرا مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل والمساكين. قلت: هكذا كان أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أتقياء أصحاب ورع، يذهبون بأنفسهم في الظلام يتفقدون المساكين. أما من يسمّون اليوم ب «الأسياد» ويدّعون نسبتهم إلى أهل البيت، فيجلسون في أحسن القصور ويركبون أفخم السيارات، والناس تأتيهم بالأموال تدفعها لهم باسم «الخمس»! وباسم حق الرسول! فإنا لله وإنا إليه راجعون. توفي الإمام زين العابدين سنة أربع وتسعين (94). ترجمته في: «طبقات ابن سعد» (5/ 211) و «سير أعلام النبلاء» (4/ 386) و «تذكرة الحفاظ» (1/ 70) و «البداية والنهاية» (9/ 103) و «النجوم الزاهرة» (1/ 229) و «سير السلف الصالحين» (3/ 867). (2) أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود (2042). وإسناده حسن؛ لأجل عبد الله بن نافع، ففي حفظه لين كما ذكر المصنف هنا.-

وهذا حديث حسن ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ؛ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به، قال يحيى بن معين: هو موثقه، وحسبك بابن معين موثقا. وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ هو لين تعرف وتنكر «1». قلت: ومثل هذا يخاف أن يغلط أحيانا، فإذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة قد بسطت في غير هذا الموضع. كما رواه سعيد بن منصور في سننه حدّثنا حبان بن علي حدّثني محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا، وصلّوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني» «2». وقال سعيد أيضا: حدّثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشّى، فقال: هلمّ إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: إذا دخلت المسجد فسلّم عليه، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا بيوتكم قبورا، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء «3». ورواه القاضي، إسماعيل بن إسحاق في كتاب «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم» ولم يذكر هذه الزيادة وهي قوله: «ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء». لأن مذهبه أن القادم من سفر والمريد للسفر سلامه هناك أفضل، وأن الغرباء يسلّمون إذا دخلوا وخرجوا، ولهذه مزية على من بالأندلس. والحسن بن الحسن وغيره لا يفرّقون بين أهل المدينة والغرباء ولا بين المسافر وغيره، فرواه القاضي إسماعيل عن إبراهيم بن حمزة حدّثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي سهيل قال: جئت أسلّم على

_ - وقد حسّن إسناده المصنف هنا وفي «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 659 - 660). وصحّحه النووي في «الأذكار» وفي «المجموع» (8/ 275)، وحسّنه المحدث الألباني في «تحذير الساجد» ص 97. وقد تقدم تخريج الحديث والكلام عليه في أول الكتاب. (1) «الجرح والتعديل» (5/ 183 - 184). (2) وأخرجه ابن أبي شيبة (4/ 345). وإسناده مرسل ضعيف، لكن هو صحيح بالشواهد. وانظر «الاقتضاء» (2/ 661 - 662). (3) أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 345) وعبد الرزاق في «مصنفه» (3/ 577/ 6694) والقاضي إسماعيل الجهضمي (30). وهو مرسل، لكنه صحيح بالشواهد. وانظر «تحذير الساجد» ص 96.

النبي صلى الله عليه وسلّم، وحسن بن حسن يتعشّى في بيت عند بيت النبي صلى الله عليه وسلّم، فدعاني فجئته فقال: ادن فتعشّ، قال: قلت: لا أريده، قال لي: ما لي رأيتك وقفت؟ قلت: وقفت أسلّم على النبي صلى الله عليه وسلّم. قال: إذا دخلت المسجد فسلّم عليه؛ ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «صلّوا في بيوتكم ولا تجعلوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم». ولم يذكر قول الحسن؛ فهذا فيه أنه أمره أن يسلّم عند دخول المسجد، وهو السلام المشروع الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وجماعة من السلف؛ كانوا يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد، وهذا مشروع في كل مسجد. وهذا الحسن بن الحسن هو الحسن المثنى وهو من التابعين وهو نظير علي بن الحسين؛ هذا ابن الحسين وهذا ابن الحسن. وقد ذكر القاضي عياض رحمه الله هذا عن الحسن بن علي نفسه رضي الله عنهم أجمعين فقال: وعن الحسن بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «حيثما كنتم فصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني» «1». قال: وعن الحسن بن علي قال: إذا دخلت المسجد فسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلّم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلّوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم». قلت: والصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد مأثور عنه صلى الله عليه وسلّم وعن غير واحد من الصحابة والتابعين، مثل الحديث الذي في المسند والترمذي وابن ماجه عن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد صلّى على محمد وسلم وقال: «رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك» وإذا خرج صلّى على محمد وسلّم، وقال: «رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك» «2». هذا لفظ الترمذي، وفي غيره أنه صلى الله عليه وسلّم أمر بذلك. وفي سنن أبي داود عن أبي أسيد- أو أبي حميد- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلّم وليصلّ على النبي صلى الله عليه وسلّم ثم ليقل» - وذكر الحديث «3».

_ (1) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (3/ رقم: 2729) وفي «الأوسط» (367) والدولابي في «الذرية الطاهرة» (119). من طريق: سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر، أخبرنا حميد بن أبي زينب، عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، عن أبيه مرفوعا. وإسناده ضعيف، لأجل جهالة حميد بن أبي زينب. انظر «مجمع الزوائد» (10/ 162). (2) أخرجه أحمد (6/ 282) والترمذي (314) وابن ماجه (771)، وصحّحه الألباني في تحقيقه على «فضل الصلاة» ص 72 - 73. (3) أخرجه مسلم (713) وأبو داود (465) والنسائي (2/ 53) وابن ماجه (772) وأحمد (5/ 425) وغيرهم.

قال القاضي عياض: ومن مواطن الصلاة والسلام عليه دخول المسجد. قال أبو إسحاق بن شعبان: وينبغي لمن دخل المسجد أن يصلّي- على النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى آله، ويترحّم عليه صلى الله عليه وسلّم وعلى آله، ويبارك عليه صلى الله عليه وسلّم وعلى آله ويسلم عليه تسليما ويقول: «اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك». قال: وقال عمرو بن دينار في قوله: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النور: 61] فقال: إن لم يكن في البيت أحد فقل: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته». قال: وقال ابن عباس: المراد بالبيوت هنا المساجد «1». وقال النخعي: إذا لم يكن في المسجد أحد فقل: السلام على رسول الله، وإذا لم يكن في البيت أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قال: وعن علقمة قال: إذا دخلت المسجد أقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، صلّى الله وملائكته على محمد صلى الله عليه وسلّم. قال: ونحوه عن كعب؛ إذا دخل وإذا خرج، ولم يذكر الصلاة. قال: واحتجّ ابن شعبان لما ذكره بحديث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يفعله إذا دخل المسجد، قال: ومثله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وذكر السلام والرحمة. قال: وروى ابن وهب عن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلّم أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخلت المسجد فصلّ على النبيّ صلى الله عليه وسلّم وقل: اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك- وفي رواية أخرى- فليسلّم وليصل ويقول إذا خرج: اللهم إني أسألك من فضلك- وفي أخرى- اللهم احفظني من الشيطان». وعن محمد بن سيرين: «كان الناس يقولون إذا دخلوا المسجد: صلى الله وملائكته على محمد، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، بسم الله دخلنا، وبسم الله خرجنا، وعلى الله توكلنا» وكانوا يقولون: إذا خرجوا مثل ذلك. قلت: هذا فيه حديث مرفوع في سنن أبي داود وغيره أنه يقال عند دخول المسجد: «اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، بسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا وعلى الله توكّلنا» «2».

_ (1) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/ 401) والبيهقي في «شعب الإيمان» (6/ 446/ 8836) وغيرهما. (2) حديث ضعيف. أخرجه أبو داود (5096) والطبراني في «المعجم الكبير» (3/ رقم: 3452) وفي «مسند الشاميين» (1674) والحافظ ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 172). من طريق: محمد بن إسماعيل، حدّثني أبي، حدّثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري مرفوعا.-

قال القاضي عياض: وعن أبي هريرة: «إذا دخل أحدكم المسجد فليصلّ على النبي صلى الله عليه وسلّم وليقل: اللهم افتح لي ... » «1».

_ - وإسناده ضعيف، فيه علتان: الأولى: محمد بن إسماعيل لم يسمع من أبيه. الثانية: رواية شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري مرسلة. قال المنذري في «مختصره على سنن أبي داود» (8/ 4): «في إسناده محمد بن إسماعيل وأبوه؛ وفيهما مقال». وقال الحافظ في «نتائج الأفكار» (1/ 172): «هذا حديث غريب». وقال بعد أن ذكر قول الإمام النووي في «الأذكار»: «لم يضعّفه أبو داود». قال: «يريد: في السنن، وإلا فقد ضعّف راويه في أسئلة الآجري، فقال: محمد بن إسماعيل بن عياش، ليس بذاك، وسألت عنه عمرو بن عثمان؛ فدفعه. وقال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه، فحملوه على أن حدّث عنه. قلت:- القائل الحافظ ابن حجر- ولعلّه كانت له من أبيه إجازة، فأطلق فيها التحديث، أو تجوّز في إطلاق التحديث على الوجادة. وقد أخرج أبو داود بهذا الإسناد أربعة أحاديث يقول في كل منها: قال محمد بن عوف: وقرأته في أصل إسماعيل بن عياش، وإسماعيل وإن كان فيه مقال، لكن هذا من روايته من شامي، فتقبل عند الجمهور. وفي السند علّة أخرى؛ قال أبو حاتم: رواية شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري مرسلة. وقد حكى الشيخ الخلاف في اسم أبي مالك؛ وبقي منه أنه قيل: عامر، وقيل: عبيد الله، بالإضافة، ومن سمّاه كعبا قال: ابن عاصم، وقال بعضهم: كعب بن كعب. والتحقيق: أن أبا مالك الأشعري ثلاثة: الحارث بن الحارث، وكعب بن عاصم، وهذان مشهوران باسمهما، ولا اختلاف في كنيتهما، والثالث هو المختلف في اسمه، وأكثر ما يرد في الروايات بكنيته؛ وهو راوي هذا الحديث. وقد أخرجه الطبراني في مسند الحارث بن الحارث؛ فوهم، فإنه غيره، والله أعلم» اه. قلت: وكلام الحافظ هذا نفيس ومتين. يدل على سعة علمه وحفظه- رحمه الله-. ومنه تعلم وهم من حسّن الحديث أو صحّحه. وممن وقع في هذا الوهم؛ الشيخ عبد القادر الأرناءوط في تحقيقه على «الأذكار» للإمام النووي ص (50) حيث حسن الحديث. وصحّح إسناده هو وشعيب الأرناءوط في «زاد المعاد» (2/ 282) - الرسالة-. وقد أحسن القائمون على تحقيق «زاد المعاد» - ط. مؤسسة الريان- (2/ 299) فأشاروا إلى تضعيف الشيخ ناصر الدين الألباني للحديث بعزو ذلك إلى ضعيف سنن أبي داود. فالشيخ- رحمه الله- كان قد مال إلى تصحيح الحديث- كما في «الكلم الطيب» ص (50) رقم (61) و «السلسلة الصحيحة» (225) - الطبعة القديمة- و «صحيح الجامع» (839). ولكنه تراجع عن هذا التصحيح وضعّف الحديث في «ضعيف سنن أبي داود» (1091) وحذفه من الطبعة الجديدة لكل من «صحيح الكلم الطيب» و «السلسلة الصحيحة» طبعة- مكتبة المعارف. تنبيه: وهم المصنف- رحمه الله- هنا بقوله: «أنه يقال عند دخول المسجد ... ». فالحديث وارد في دخول البيت كما بوّب له أبو داود والنووي وغيرهما، فليتنبّه لهذا. وقد نبّه على هذا الوهم العلامة الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/ 395) - الطبعة القديمة- ط. المكتب الإسلامي. (1) أخرجه النسائي في «الكبرى» - كتاب عمل اليوم والليلة- (6/ 27 - 28/ 9918 - 9920) وابن ماجه (773) وابن خزيمة في «صحيحه» رقم (452) والطبراني في «الدعاء» (2/ 994/ 427) وابن السني في-

قلت: وروى ابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري، عن صفوان بن مرة، عن مجاهد في هذه الآية: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً [النور: 61] قال: إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وإذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلّم: وإذا دخلت على أهلك فقل: السلام عليكم. قلت: والآثار مبسوطة في مواضع. والمقصود هنا أن يعرف ما كان عليه السلف من الفرق بين ما أمر الله به من الصلاة والسلام عليه، وبين سلام التحية الموجب للرد الذي يشترك فيه كل مؤمن حيّ وميت، ويرد فيه على الكافر، ولهذا كان الصحابة بالمدينة على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم إذا دخلوا المسجد لصلاة، واعتكاف، أو تعليم، أو تعلّم، أو ذكر لله ودعاء له، ونحو ذلك مما شرع في المساجد لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك، ولا يقفون خارج الحجرة كما لم يكونوا يدخلون الحجرة أيضا لزيارة

_ - «عمل اليوم والليلة» (86) والحاكم (1/ 207) والبيهقي في «سننه» (2/ 542) وابن حبان في «صحيحه» (2047، 2050) وابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 275). من طريق: أبي بكر الحنفي، حدّثنا الضحاك بن عثمان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا. وصحّح إسناده الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وكذا صحّحه البوصيري في «مصباح الزجاجة». قلت: وتصحيح الحاكم له على شرط الشيخين فيه نظر؛ فإن الضحاك بن عثمان من رجال مسلم وحده، هذا أولا. ثانيا: الحديث فيه علّة. قال الحافظ في «نتائج الأفكار»: «ورجال هذا الحديث من رجال الصحيح؛ لكن أعلّه النسائي، فأخرجه من طريق محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن كعب الأحبار أنه قال له: أوصيك باثنين، فذكر هذا الحديث بنحوه. ومن طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن كعب كذلك. قال النسائي: ابن أبي ذئب أثبت عندنا من الضحاك بن عثمان ومن محمد بن عجلان، وحديثه أولى بالصواب. قلت: ورواية ابن عجلان أخرجها عبد الرزاق [في «مصنفه» (1671)]. وابن أبي شيبة في مصنفيهما كذلك. [«مصنف ابن أبي شيبة» (10/ 406/ 29767)]. وأخرجه عبد الرزاق عن أبي معشر، عن سعيد المقبري؛ أن كعبا قال لأبي هريرة: فذكره. فهؤلاء ثلاثة خالفوا الضحاك في رفعه، وزاد ابن أبي ذئب في السند راويا. وخفيت هذه العلة على من صحّح الحديث من طريق الضحاك. وفي الجملة هو حسن لشواهده، والله أعلم» اه. قلت: وقد أشار إلى علّة هذا الإسناد العلامة المحدث مقبل بن هادي الوادعي في كتابه الماتع «أحاديث معلّلة ظاهرها الصحة» ص 434 رقم (465)، وكذا الشيخ مشهور بن حسن- حفظه الله- في تحقيقه على «جلاء الأفهام» ص 106 - 107.

زيارة القبور ليست من باب الإكرام والتعظيم

قبره، فلم تكن الصحابة بالمدينة يزورون قبره صلى الله عليه وسلّم لا من المسجد خارج الحجرة ولا داخل الحجرة، ولا كانوا أيضا يأتون من بيوتهم لمجرّد زيارة قبره صلى الله عليه وسلّم، بل هذا من البدع التي أنكرها الأئمة والعلماء، وإن كان الزائر منهم ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه وبينوا أن السلف لم يفعلوها كما ذكره مالك في المبسوط، وقد ذكره أصحابه كأبي الوليد الباجي والقاضي عياض وغيرهما، قيل لمالك: إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك- أي يقفون على قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فيصلّون عليه، ويدعون له- ولأبي بكر وعمر- يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة أو المرتين، أو أكثر عند القبر، يسلّمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني هذا عن أول هذه الأمة وصدرها؛ أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. فقد كره مالك رحمه الله هذا وبيّن أنه لم يبلغه هذا عن أهل العلم بالمدينة، ولا عن صدر هذه الأمة وأولها، وهم الصحابة، وإن ذلك يكره لأهل المدينة إلا عند السفر، ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم، بل هم في ذلك ليسوا بدون سائر الأمصار، فإذا لم يكن لأولئك الامتناع عن زيارة القبور، بل يستحبّ عند جمهور العلماء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلّم يفعل، فأهل المدينة أولى أن لا يكره؛ بل يستحب لهم زيارة القبور، كما يستحبّ لغيرهم، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلّم، ولكن قبر النبي صلى الله عليه وسلّم خصّ بالمنع شرعا وحسّا. كما دفن في الحجرة ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة، كما تزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر، وقبر النبي صلى الله عليه وسلّم ليس كذلك، فلا تستحبّ هذه الزيارة في حقّه، ولا تمكن، وهذا لعلوّ قدره وشرفه، لا لكون أن غيره أفضل منه، فإن هذا لا يقوله أحد من المسلمين، فضلا عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين بالمدينة وغيرها. ومن هنا غلط طائفة من الناس يقولون إذا كانت زيارة قبر آحاد الناس مستحبة فكيف بقبر سيد الأولين والآخرين. [زيارة القبور ليست من باب الإكرام والتعظيم] وهؤلاء ظنّوا أن زيارة قبر الميت مطلقا هو من باب الإكرام والتعظيم له، والرسول أحق بالإكرام والتعظيم من كل أحد، وظنوا أن ترك الزيارة له فيه تنقّص لكرامته، فغلطوا وخالفوا السنة وإجماع الأئمة، سلفها وخلفها، فقولهم نظير قول من يقول: إذا كانت زيارة القبور يصل الزائر فيها إلى قبر المزور؛ فإن ذلك أبلغ في الدعاء له. وإن كان مقصوده دعاءه كما يقصده أهل البدع فهو أبلغ في دعائه، فالرسول أولى أن نصل إلى قبره إذا زرناه.

وقد ثبت بالتواتر وإجماع الأمة أن الرسول لا يشرع الوصول إلى قبره لا للدعاء، ولا لدعائه ولا لغير ذلك، بل غيره يصلّى على قبره عند أكثر السلف كما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة، والصلاة على القبر كالصلاة على الجنازة؛ تشرع مع القرب والمشاهدة، وهو بالإجماع لا يصلّى على قبره، سواء كان للصلاة حدّ محدود، أو كان يصلّي على القبر مطلقا، ولم يعرف أن أحدا من الصحابة الغائبين لما قدم صلى على قبره صلى الله عليه وسلّم. وزيارة القبور المشروعة هي مشروعة مع الوصول إلى القبر بمشاهدته، وهذه الزيارة غير مشروعة في حقه بالنص والإجماع ولا هي أيضا ممكنة. فتبين غلط هؤلاء الذين قاسوه على عموم المؤمنين، وهذا من باب القياس الفاسد، ومن قاس قياس الأولى ولم يعلم ما اختص به كل واحد من المقيس والمقيس به؛ كان قياسه من جنس قياس المشركين الذين كانوا يقيسون الميتة على المذكي، ويقولون للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟ فأنزل الله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121]. وكذلك لما أخبر الله أن الأصنام التي تعبد هي وعابدوها حصب جهنم، قاس ابن الزّبعري قبل أن يسلم هو وغيره من المشركين عيسى بها، وقالوا: فيجب أن يعذب عيسى. قال تعالى:* وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: 57، 58] ثم قال: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف: 59]. وبيّن تعالى الفرق بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] بيّن أن من كان صالحا؛ نبيا أو غير نبي، لم يعذب لأجل من أشرك به وعبده، وهو بريء من إشراكهم به. وأما الأصنام فهي حجارة تجعل حصبا للنار، وقد قيل: إنها من الحجارة التي قال الله: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة: 24] وقال تعالى: وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن: 15] وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا؛ أن يعرف أن ما مضت به سنته وكان عليه خلفاؤه وأصحابه وأهل العلم والدين بالمدينة؛ تركهم لزيارة قبره أكمل في القيام بحقّ الله وحق رسوله، فهو أكمل وأفضل وأحسن مما يفعل مع غيره، وهو أيضا في حق الله وتوحيده أكمل وأتم وأبلغ. أما كونه أتم في حق الله؛ فلأن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا

به شيئا، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلّم «1». ويدخل في العبادة جميع خصائص الرب، فلا يتقى غيره ولا يخاف غيره، ولا يتوكّل على غيره، ولا يدعى غيره، ولا يصلّى لغيره، ولا يصام لغيره، ولا يتصدّق إلا له، ولا يحجّ إلا إلى بيته. قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [النور: 52]. فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ [التوبة: 59] فجعل الإيتاء لله والرسول، كما قال تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] وجعل التوكل والرغبة إلى الله وحده. وقال تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح: 7، 8] وقال تعالى:* وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النحل: 51، 52] الآية. وقال تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة: 44] وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا [الإسراء: 56] وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ [الأحقاف: 4] الآية. وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: 22] إلى قوله: لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] وهذا باب واسع. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» «2». وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلّم في صفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، قال: «هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيّرون، وعلى ربهم يتوكّلون» «3».

_ (1) أخرجه البخاري (128) - وانظر أطرافه هناك- ومسلم (30). (2) أخرجه أحمد (1/ 393) والترمذي (2516) وأبو يعلى في «مسنده» (4/ 430/ 2556) والطبراني في «الكبير» (12/ رقم: 12988) وفي «الدعاء» (2/ رقم: 42) وابن أبي عاصم في «السنة» (1/ 225/ 325) - معلقا- وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (425) والبيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 217/ 195). من طريق: الليث بن سعد، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: .. فذكره. وإسناده صحيح. والحديث صححه الألباني في «ظلال الجنة في تخريج السنة» رقم (316) وله طرق أخرى في بعضها ضعف، وبعضها صحيح، وبالجملة فالحديث صحيح ثابت. وللحافظ ابن رجب الحنبلي- رحمه الله- شرح ماتع على الحديث وسمه ب «نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلّم لابن عباس» حققها: محمد بن ناصر العجمي- سلّمه الله- ونشرت بدار البشائر الإسلامية ببيروت. (3) أخرجه البخاري (3410، 5705، 5752، 6472، 6541) ومسلم (220) من حديث عبد الله بن عباس.

فهم لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم؛ والرقية دعاء، فكيف بما هو أبلغ من ذلك؟ ومعلوم أنه لو اتّخذ قبره عيدا ومسجدا ووثنا وصار الناس يدعونه ويتضرعون إليه، ويسألونه ويتوكلون عليه، ويستغيثون ويستجيرون به، وربما سجدوا له وطافوا به، وصاروا يحجون إليه؛ وهذه كلها من حقوق الله وحده لا يشركه فيها مخلوق، فكان من حكمة الله دفنه في حجرته، ومنع الناس من مشاهدة قبره والعكوف عليه، والزيارة له، ونحو ذلك، لتحقيق توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص الدين لله. وأما قبور أهل البقيع ونحوهم من المؤمنين فلا يجعل ذلك عندها، وإذا قدّر أن ذلك فعل عندها؛ منع من يفعل ذلك، وهدم ما يتخذ عليها من المساجد. وإن لم تزل الفتنة إلا بتعفية قبره وتعميته فعل ذلك، كما فعله الصحابة بأمر عمر بن الخطاب في قبر دانيال «1». وأما كون ذلك أعظم لقدره وأعلى لدرجته؛ فلأن المقصود المشروع بزيارة قبور المؤمنين كأهل البقيع وشهداء أحد، هو الدعاء لهم، كما كان هو يفعل ذلك إذا زارهم، وكما سنّه لأمته، فلو سنّ للأمة أن يزوروا قبره للصلاة عليه والسلام عليه والدعاء له، كما كان بعض أهل المدينة يفعل ذلك أحيانا- وبيّن مالك أنه بدعة لم يبلغه عن صدر هذه الأمة، ولا عن أهل العلم بالمدينة، وأنها مكروهة، فإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها- لكان بعض الناس يزوره، ثم لتعظيمه في القلوب، وعلم الخلق بأنه أفضل الرسل وأعظمهم جاها، وأنه أوجه الشفعاء إلى ربه؛ يدعو النفس إلى أن تطلب منه حاجاتها وأغراضها وتعرض عن حقه الذي هو له من الصلاة والسلام عليه والدعاء له، فإن الناس مع ربهم كذلك، إلا من أنعم الله عليه بحقيقة الإيمان، إنما يعظّمون الله عند ضرورتهم إليه، كما قال تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] الآية. وقال تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] الآية. وقال تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ [الزمر: 8] الآية. ونظائر هذا في القرآن متعددة. فإذا كانوا إلا من شاء الله؛ إنما يعظمون ربهم ويوحّدونه ويذكرونه عند ضرورتهم لأغراضهم، ولا يعرفون حقّه إذا خلّصهم فلا يحبّونه ويعبدونه، ولا يشكرونه ولا يقومون بطاعته، فكيف يكونون مع المخلوق؟

_ (1) انظر «البداية والنهاية» (2/ 37 - 38) و «دلائل النبوة» للبيهقي (1/ 381). وقال الحافظ ابن كثير: «إسناده صحيح إلى أبي العالية».

فهم يطلبون من الأنبياء والصالحين أغراضهم، وذلك مقدّم عندهم على حقوق الأنبياء والصالحين، فإذا أيقنوا أن في زيارة قبر نبيّ أو صالح تحصيل أغراضهم بسؤاله ودعائه وجاهه وشفاعته؛ أعرضوا عن حقه واشتغلوا بأغراضهم، كما هو الموجود في عامة الذين يحجّون إلى القبور المعظّمة ويقصدونها لطلب الحوائج، فلو أذن الرسول لهم في زيارة قبره ومكّنهم من ذلك؛ لأعرضوا عن حقّ الله الذي يستحقّه من عبادته وحده، وعن حقّ الرسول الذي يستحقّه من الصلاة والسلام عليه والدعاء له، بل ومن جعله واسطة بينهم وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وخبره. فكانوا يهضمون حقّ الله وحقّ الرسول، كما فعلت النصارى، فإنهم بغلوّهم في المسيح تركوا حقّ الله من عبادته وحده، وتركوا حقّ المسيح، فهم لا يدعون له؛ بل هو عندهم ربّ يدعى، ولا يقومون بحق رسالته؛ فينظرون ما أمر به وما أخبر به، بل اشتغلوا بالشّرك به وبغيره، وطلب حوائجهم ممن يستشفعون به من الملائكة والأنبياء، وصالحيهم، عما يجب من حقوقهم. وأيضا فلو جعلت الصلاة والسلام عليه والدعاء له عند قبره أفضل منها في غير تلك البقعة، كما قد يكون الدعاء للميت عند قبره أفضل؛ لكانوا يخصّون تلك البقعة بزيادة الدعاء له، وإذا غابوا عنها تنقص صلاتهم وسلامهم ودعاؤهم له، فإن الإنسان لا يجتهد في الدعاء في المكان المفضول، كما يجتهد فيه في المكان الفاضل، وهم قد أمروا أن يقوموا بحق الرسول في كل مكان، وأن لا يكون البعيد عن قبره أنقص إيمانا وقياما بحقّه، من المجاور لقبره، وقال لهم صلى الله عليه وسلّم: «لا تتخذوا قبري عيدا وصلّوا عليّ حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني». وقد شرع لهم أن يصلّوا عليه ويسألوا له الوسيلة إذا سمعوا المؤذّن حيث كانوا، وأن يسلّموا عليه في كل صلاة، ويصلّوا عليه في الصلاة، ويسلّموا عليه إذا دخلوا المسجد وإذا خرجوا منه، فهذا الذي أمروا به عام في كل مكان، وهو يوجب من القيام بحقّه، ورفع درجته، وإعلاء منزلته، ما لا يحصل لو جعل ذلك عند قبره أفضل، ولا إذا سوّي بين قبره وقبر غيره، بل إنما يحصل كمال حقه مع حق ربه بفعل ما شرعه وسنّه لأمته، من واجب ومستحبّ، وهو أن يقوموا بحقّ الله ثم بحق رسوله حيث كانوا؛ من المحبة والموالاة والطاعة، وغير ذلك من الصلاة والسلام والدعاء، وغيره ذلك. ولا يقصدون تخصيص القبر لما يفضي إليه ذلك من ترك حقّ الله وحق رسوله. فهذا وغيره مما يبين أن ما نهي عنه الناس ومنعوا منه، وكان السلف لا يفعلونه من زيارة قبره، وإن كانت زيارة قبره غير مستحبة؛ فهو أعظم لقدره، وأرفع لدرجته، وأعلى في منزلته، وإن ذلك أقوم بحق الله، وأتم وأكمل في عبادته وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له، ففي ذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وإن أهل البدع الذين فعلوا ما لم يشرعه، بل ما نهى عنه، وخالفوا الصحابة

والتابعين لهم بإحسان فاستحبوا ما كان أولئك يكرهونه ويمنعون منه؛ هم مضاهون للنصارى، وإنهم نقصوا من تحقيق الإيمان بالله وبرسوله والقيام بحق الله وحق رسوله بقدر ما دخلوا فيه من البدعة، التي ضاهوا بها النصارى، فهذا هذا، والله أعلم. وأيضا فإنه إذا أطيع أمره، واتّبعت سنّته؛ كان له من الأجر بقدر أجر من أطاعه واتّبع سنّته، لقوله صلى الله عليه وسلّم: «من دعا إلى هدى؛ كان له من الأجر مثل أجور من اتّبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء» «1». وقوله: «من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» «2». وأما البدع التي لم يشرعها بل نهى عنها، وإن كانت متضمّنة للغلوّ فيه، والشرك به، والإطراء له، كما فعلت النصارى؛ فإنه لا يحصل بها أجر لمن عمل بها، فلا يكون للرسول فيها منفعة، بل صاحبها إن عذر كان ضالا لا أجر له فيها، وإن قامت عليه الحجة استحق العذاب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» «3». فإن قال هؤلاء الذين قاسوا زيارة قبره على زيارة سائر القبور: إن الناس منعوا من الوصول إليه تعظيما لقدره، وجعل سلامهم وخطابهم له من الحجرة لأن ذلك أبلغ في الأدب والتعظيم. قيل: فهذا يوجب الفرق؛ فإن الزيارة المشروعة إن كان مقصودها الدعاء له؛ فكون ذلك قريبا من الحجرة أفضل منه في سائر المساجد والبقاع، فالذي يدعو له داخل الحجرة أقرب، وإن كان القرب مستحبا، فكلما كان أقرب كان أفضل، كسائر القبور. وإن كان مقصودها ما يقوله أهل الشرك والضلال من دعائه؛ ودعاؤه من القرب أولى، فينبغي أن يكون من داخل الحجرة أولى، ولما ثبت بالنصّ والإجماع أن هذا القرب من القبر ممنوع منه وهو أيضا غير مقدور عليه، علم أن القرب من ذلك ليس بمستحبّ، بخلاف زيارة قبر غيره والصلاة على قبره، فإن القرب منه مستحبّ إذا لم يفض إلى مفسدة من شرك أو بدعة أو نياحة، فإن أفضى إلى ذلك منع من ذلك. ومما يوضّح هذا؛ أن الشخص الذي يقصد أتباعه زيارة قبره؛ يجعلون قبره بحيث يمكن زيارته، فيكون له باب يدخل منه إلى القبر، ويجعل عند القبر مكان للزائر إذا دخل، بحيث يتمكّن من القعود فيه، بل يوسع المكان ليسع الزائرين، ومن

_ (1) أخرجه مسلم (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم (1017، 2673) من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاري (3445، 6830) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

الأنبياء والأولياء الذين عبدوا من دون الله لا إثم عليهم، إنما الإثم على من عبدهم

اتخذه مسجدا جعل عنده صورة محراب أو قريبا منه، وإذا كان الباب مغلقا جعل له شبّاكا على الطريق ليراه الناس فيه، فيدعونه. وقبر النبي صلى الله عليه وسلّم بخلاف هذا كله، لم يجعل للزوّار طريق إليه بوجه من الوجوه، ولا قبر في مكان كبير يسع الزوّار، ولا جعل للمكان شبّاك يرى منه القبر، بل منع الناس من الوصول إليه والمشاهدة. ومن أعظم ما منّ الله به على رسوله وعلى أمته واستجاب فيه دعاءه؛ أن دفن في بيته بجانب مسجده، فلا يقدر أحد أن يصلّي إلا إلى المسجد. والعبادة المشروعة في المسجد معروفة، بخلاف ما لو كان قبره منفردا عن المسجد. والمسافر إليه إنما يسافر إلى المسجد، وإذا سمّي هذا زيارة لقبره فهو اسم لا مسمّى له، إنما هو إتيان إلى مسجده، ولهذا لم يطلق السلف هذا اللفظ. ولا عند قبره قناديل معلّقة، ولا ستور مسبلة، بل إنما تعلّق القناديل في المسجد المؤسّس على التقوى، ولا يقدر أحد أن يخلّق نفس قبره بزعفران أو غيره من الخلوق، ولا ينذر له زيتا ولا شمعا ولا سترا، ولا غير ذلك مما ينذر لغير قبره، وإن كان فعل شيء من ذلك في ظاهر الحجرة، أو كان في بعض الأحوال قد ستر بعض الناس الحجرة، أو خلّقها بعضهم بزعفران؛ فهذا إنما هو للحائط الذي يلي المسجد، لا من باطن الحجرة والقبر، كما يفعل بقبر غيره. فعلم أن الله سبحانه استجاب دعاءه حيث قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» وإن كان كثير من الناس يريدون أن يجعلوه وثنا، ويعتقدون أن ذلك تعظيم له، كما يريدون ذلك ويعتقدونه في قبر غيره، فهم لا يتمكّنون من ذلك، بل هذا القصد والاعتقاد خيال في أنفسهم لا حقيقة له في الخارج، بخلاف القبر الذي جعله وثنا. [الأنبياء والأولياء الذين عبدوا من دون الله لا إثم عليهم، إنما الإثم على من عبدهم] وإن كان الميت وليا لله لا إثم عليه من فعل من أشرك به، كما لا إثم على المسيح من فعل من أشرك به، كما قال تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ إلى قوله: عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: 116، 117]. وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [المائدة: 72] وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ إلى قوله: نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً [الفرقان: 17 - 19].

فالمعبودون من دون الله سواء كانوا أولياء كالملائكة والأنبياء والصالحين، أو كانوا أوثانا؛ قد تبرّءوا ممّن عبدهم وبيّنوا أنه ليس لهم أن يوالوا من عبدهم ولا أن يواليهم من عبدهم، فالمسيح وغيره كانوا برآء من المشرك بهم ومن إثمه، لكن المقصود بيان ما فضّل الله به محمدا وأمته وأنعم به عليهم من إقامته التوحيد لله؛ والدعوة إلى عبادته وحده، وإعلاء كلمته ودينه، وإظهار ما بعثه الله به من الهدى ودين الحقّ، وما صانه الله به وصان قبره من أن يتّخذ مسجدا. فإن هذا من أقوى أسباب ضلال أهل الكتاب، ولهذا لعنهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم على ذلك تحذيرا لأمته، وبيّن أن هؤلاء شرار الخلق عند الله يوم القيامة. ولما كان أصحابه أعلم الناس بدينه وأطوعهم له؛ لم يظهر فيهم من البدع ما ظهر فيمن بعدهم، لا في أمر القبور ولا غيرها، فلا يعرف من الصحابة من كان يتعمّد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه من تعمّد الكذب على نبيّهم، وكذلك البدع الظاهرة المشهورة؛ مثل بدعة الخوارج، والروافض، والقدرية «1»، والمرجئة «2»، لم يعرف

_ (1) القدرية: هم أتباع معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، والجعد بن درهم، وسمّوا بالقدرية من باب تسمية الشيء بضده، فهم نفاة القدر والمشيئة عن الله، وزعموا أن العبد مستقل بإرادته وقدرته، ليس لله في فعله مشيئة. وهم مجوس هذه الأمة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلّم، وسمّوا بذلك لأنهم يشبهون المجوس القائلين بأن للعالم خالقين: النور يخلق الخير، والظلام وهو يخلق الشر. وكذلك القدرية قالوا: إن للحوادث خالقين، فالحوادث التي من فعل العبد يخلقها العبد، والتي من فعل الله يخلقها الله. انظر «الفرق بين الفرق» (ص 14) و «مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين» (4/ 229 - وما بعدها). (2) الإرجاء في اللغة: يأتي بمعنى التأخير، أو بمعنى: إعطاء الرجاء. والمرجئة: هم الذين قالوا بإرجاء الأعمال عن الإيمان، أي: أن الإيمان مجرد التصديق، وأن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، ثم فرعوا على ذلك فروعا. وهم فرق كثيرة، ولهم اعتقادات أخرى. انظر عنهم: «الملل والنحل» (1/ 161 - وما بعدها) - المعرفة- و «الفرق بين الفرق» (ص 151) و «مقالات الإسلاميين» (1/ 213 - وما بعدها) و «فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام» (2/ 923 - وما بعدها). تنبيه: لم أجعل من مراجعي عن المرجئة هنا كتاب الشيخ سفر الحوالي «ظاهرة الإرجاء» مع ما فيه من نبذ عن المرجئة، وبعض الفوائد- وهذا لا يخلو منه كتاب- وذلك أن الكتاب فيه تقرير لبعض مناهج الخوارج والقطبيين ومدح لرموزهم، وفيه طعن بالعلماء السلفيين- وعلى رأسهم المحدث الألباني- هذا أولا. وثانيا: أن العلماء قد حذّروا من هذا الكتاب؛ فقد قال عنه المحدث الألباني- رحمه الله-: «هذا كتاب غاية في السوء، ما كنت أظنّ أن الأمر يصل بصاحبه إلى هذا الحد». انظر: «مع شيخنا ناصر السنة والدين» للشيخ علي بن حسن الحلبي سلّمه الله من كل سوء ص 49. وللشيخ الألباني ردّ على هذا الكتاب، يسّر الله طبعه ونشره. وانظر «مسائل علمية في الدعوة والسياسة الشرعية» للشيخ علي بن حسن- حفظه الله وأيّده- ص 30 - 31.

عن أحد من الصحابة شيء من ذلك، بل النقول الثابتة عنهم تدلّ على موافقتهم للكتاب والسنة. وكذلك اجتماع رجال الغيب بهم أو الخضر أو غيره، وكذلك مجيء الأنبياء إليهم في اليقظة، وحمل من يحمل منهم إلى عرفات، ونحو ذلك مما وقع فيه كثير من العباد، وظنوا أنه كرامة من الله، وكان من إضلال الشياطين لهم ما لم تطمع الشياطين أن توقع الصحابة في مثل هذا، فإنهم كانوا يعلمون أن هذا كله من الشيطان، ورجال الغيب هم الجن، قال تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً [الجن: 6]. وكذلك الشرك بأهل القبور، لم يطمع الشيطان أن يوقعهم فيه، فلم يكن على عهدهم في الإسلام قبر يسافر إليه ولا يقصد للدعاء عنده، أو لطلب بركة شفاعته، وغير ذلك، بل أفضل الخلق محمد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلّم وقبره عندهم محجوب- لا يقصده أحد منهم لشيء من ذلك، وكذلك التابعون لهم بإحسان ومن بعدهم من أئمة المسلمين. وإنما تكلم العلماء والسلف في الدعاء للرسول عند قبره؛ منهم من نهى عن الوقوف للدعاء له دون السلام عليه، ومنهم من رخّص في هذا وهذا. وأما دعاؤه هو وطلب استغفاره وشفاعته بعد موته؛ فهذا لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين الأربعة ولا غيرهم. بل الأدعية التي ذكروها خالية من ذلك. أما مالك رضي الله عنه فقد قال القاضي عياض: وقال مالك في «المبسوط»: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلّم يدعو، لكن يسلّم ويمضي. وهذا الذي نقله القاضي عياض ذكره إسماعيل بن إسحاق في «المبسوط» قال: وقال مالك: لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبيّ صلى الله عليه وسلّم يدعو، ولكن يسلّم على النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم يمضي. وقال مالك رضي الله عنه ذلك لأن هذا هو المنقول عن ابن عمر أنه كان يقول: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت- أو يا أبتاه-». ثم ينصرف، ولا يقف يدعو. فرأى مالك ذلك من البدع. قال: وقال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلّم على النبي صلى الله عليه وسلّم ودعا يقف ووجهه إلى القبر، لا إلى القبلة، ويدنو ويسلّم ولا يمسّ القبر بيده. فقوله في هذه الرواية: «إذا سلّم ودعا» قد يريد بالدعاء السلام؛ فإنه قال: «يدنو ويسلّم ولا يمسّ القبر بيده» ويؤيد ذلك أنه قال في رواية ابن وهب: يقول السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، وقد يريد؛ أنه يدعو له بلفظ الصلاة، كما ذكر في الموطأ من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر؛ أنه كان يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلّم وعلى

أبي بكر وعمر. وفي رواية يحيى بن يحيى «1». وقد غلّطه ابن عبد البر وغيره، وقالوا: إنما لفظ الرواية ما ذكره ابن القاسم والقعنبي وغيرهما: يصلّي على النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى أبي بكر وعمر. قال أبو الوليد الباجي: وعندي أنه يدعو للنبي صلى الله عليه وسلّم بلفظ الصلاة، ولأبي بكر وعمر، لما في حديث ابن عمر من الخلاف. قال القاضي عياض: وقال في «المبسوط»: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فيصلّي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر. فإن كان أراد بالدعاء السلام أو الصلاة فهو موافق لتلك الرواية، وإن كان أراد دعاء زائدا؛ فهي رواية أخرى، وبكل حال فإنما أراد الدعاء اليسير. وأما ابن حبيب فقال: ثم يقف بالقبر متواضعا موقرا فيصلي عليه ويثني بما يحضر، ويسلّم على أبي بكر وعمر. فلم يذكر إلا الثناء عليه مع الصلاة. والإمام أحمد ذكر مع الثناء عليه بلفظ الشهادة له بذلك مع الدعاء له بغير الصلاة مع دعاء الداعي لنفسه أيضا، ولم يذكر أن يطلب منه شيئا ولا يقرأ عند القبر قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 64] ولم يذكر ذلك مالك والمتقدمون من أصحابه، ولا جمهورهم، بل قال في منسك المروذي: «ثم ائت الروضة، وهي بين القبر والمنبر، فصلّ فيها وادع بما شئت، ثم ائت قبر النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقل: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا محمد بن عبد الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، وأشهد أنك بلّغت رسالة ربك ونصحت لأمتك، وجاهدت في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته، ورفع درجتك العليا، وتقبّل شفاعتك الكبرى، وأعطاك سؤلك في الآخرة والأولى كما تقبّل من إبراهيم، اللهم احشرنا في زمرته، وتوفّنا على سنته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه مشربا رويا لا نظمأ بعدها أبدا». وما من دعاء أو شهادة وثناء يذكر عند القبر إلا قد وردت السنة بذلك أو ما هو أحق منه في سائر البقاع، لا يمكن أحد أن يأتي بذكر يشرع عند القبر دون غيره، وهذا تحقيق لنهيه صلى الله عليه وسلّم أن يتّخذ قبره أو بيته عيدا، فلا يقصد تخصيصه بشيء من الدعاء للرسول فضلا عن الدعاء لغيره، بل يدعى بذلك للرسول حيث كان الداعي، فإن ذلك

_ (1) قال الشيخ المعلّمي- رحمه الله تعالى-: «يظهر أن هنا سقطا، وفي «الموطأ» - رواية يحيى بن يحيى- عن مالك، عن عبد الله بن دينار، قال: ورأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، فيصلّي على النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى أبي بكر وعمر» اه. وقد تقدم تخريج الأثر في أول الكتاب.

يصل إليه صلى الله عليه وسلّم تسليما، وهذا بخلاف ما شرع عند قبر غيره، لقوله: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين». فإن هذا لا يشرع إلا عند القبور، لا يشرع عند غيرها، وهذا مما يظهر الفرق بينه وبين غيره، وأن ما شرعه وفعله أصحابه من المنع من زيارة قبره كما تزار القبور هو من فضائله، وهو رحمة لأمته، ومن تمام نعمة الله عليها، فالسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله شيئا ولا يطلب منه ما يطلب منه في حياته، ويطلب منه يوم القيامة؛ لا شفاعة ولا استغفارا ولا غير ذلك، وإنما كان نزاعهم في الوقوف للدعاء له والسلام عليه عند الحجرة، فبعضهم رأى هذا من السلام الداخل في قوله صلى الله عليه وسلّم: «ما من رجل يسلّم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» واستحبه لذلك، وبعضهم لم يستحبه؛ إما لعدم دخوله، وإما لأن السلام المأمور به في القرآن مع الصلاة، وهو الصلاة والسلام الذي لا يوجب الرد أفضل من السلام الموجب للرد، فإن هذا مما دلّ عليه الكتاب والسنة واتّفق عليه السلف، فإن السلام المأمور به في القرآن كالصلاة المأمور بها في القرآن، كلاهما لا يوجب الرد، بل الله تعالى يصلّي على من صلّى عليه، ويسلّم على من سلّم عليه، ولأن السلام الذي يوجب الرّدّ هو حق المسلم، كما قال تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النساء: 86]. ولهذا يردّ السلام على من سلّم وإن كان كافرا، فكان اليهود إذا سلموا عليه يقول: «وعليكم، أو عليكم». وأمر أمته بذلك، وإنما قال صلى الله عليه وسلّم: «عليكم» لأنهم قد يقولون: السام عليك. والسام: الموت. فيقال: عليكم، قال صلى الله عليه وسلّم: «يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا» ولما قالت عائشة رضي الله عنها: وعليكم السام واللعنة؛ قال: «مهلا يا عائشة؛ فإن الله رفيق يحبّ الرفق في الأمر كله، أو لم تسمعي ما قلت لهم- يعني رددت عليهم- فقلت: عليكم» «1». فإذا قالوا: السام، قال: عليكم. وأما إذا علم أنهم قالوا السلام فلا يخصون بالرد فيقال: عليكم، فيصير المعنى السلام عليكم لا علينا، بل يقال: وعليكم. وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلّم وأمته لهم: «وعليكم» فإنما هو جزاء دعائهم وهو دعاء بالسلامة، والسلام أمان فقد يكون المستجاب هو سلامتهم منا أي من ظلمنا وعدواننا. وكذلك كل من رد السلام على غيره فإنما دعا له بسلام، وهذا مجمل، ومن الممتنع أن يكون كل من ردّ عليه النبي صلى الله عليه وسلّم السلام من الخلق دعا له بالسلامة من عذاب الدنيا والآخرة، فقد كان المنافقون يسلّمون عليه ويرد عليهم، ويرد على المسلمين أصحاب الذنوب وغيرهم، ولكن السلام فيه أمان. فلهذا لا يبتدأ الكافر

_ (1) تقدّم.

الحربي بالسلام «1»، بل لما كتب النبيّ صلى الله عليه وسلّم إلى قيصر قال فيه: «من محمد رسول الله إلى قيصر عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى» كما قال موسى لفرعون. والحديث في الصحيحين من رواية ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب في قصته المشهورة لما قرأ قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلّم وسأله عن أحواله «2». وقد نهى صلى الله عليه وسلّم عن ابتداء اليهود بالسلام، فمن العلماء من حمل ذلك على العموم، ومنهم من رخّص إذا كانت للمسلم إليه حاجة أن يبتدئه بالسلام، بخلاف اللقاء، والكفار كاليهودي والنصراني يسلّمون عليه وعلى أمته سلام التحية الموجب للرد، وأما السلام المطلق فهو كالصلاة عليه إنما يصلي عليه ويسلم عليه أمته، فاليهود والنصارى لا يصلون ويسلمون عليه، وكانوا إذا رأوه يسلّمون عليه، فذاك الذي يختص به المؤمنون ابتداء وجوابا أفضل من هذا الذي يفعله الكفار معه ومع أمته ابتداء وجوابا، ولا يجوز أن يقال: إن الكفار إذا سلموا عليه سلام التحية فإن الله يسلم عليهم عشرا، فإنه يجيبهم على ذلك فيوفّيهم، كما لو كان له دين فقضاه. وأما ما يختص بالمؤمنين فإذا صلّوا عليه صلّى الله على من صلّى عليه عشرا وإذا سلّم عليه سلّم الله عليه عشرا، وهذه الصلاة والسلام هو المشروع في كل مكان بالكتاب والسنة والإجماع، بل هو مأمور به من الله سبحانه وتعالى، لا فرق في هذا بين الغرباء وأهل المدينة عند القبر، وأما السلام عند القبر فقد عرف أن الصحابة والتابعين المقيمين بالمدينة لم يكونوا يفعلونه إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولو كان هذا كالسلام عليه لو كان حيا لكانوا يفعلونه كلّما دخلوا المسجد وخرجوا منه، كما لو دخلوا المسجد في حياته وهو فيه، فإنه مشروع لهم كلما رأوه أن يسلّموا عليه، بل السنة لمن جاء إلى قوم أن يسلّم عليهم إذا قدم وإذا قام كما أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بذلك وقال: «ليست الأولى بأحق من الآخرة» «3». فهو حين كان حيا كان أحدهم إذا أتى يسلم وإذا قام يسلم، ومثل هذا لا يشرع عند القبر باتفاق المسلمين، وهو معلوم بالاضطرار من عادة الصحابة. ولو كان سلام التحية خارج الحجرة مستحبا؛ لكان مستحبا لكل أحد، ولهذا كان أكثر السلف لا يفرّقون بين الغرباء وأهل المدينة، ولا بين حال السفر وغيره، فإن استحباب هذا

_ (1) ولا الذّمي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام .. الحديث». وانظر «فتح السلام في أحكام السلام» ص 99 - 103. (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه أحمد (2/ 230، 287، 439) وأبو داود (5208) والترمذي (2707) والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (369) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: «حديث حسن». وحسنه الشيخ الألباني- رحمه الله-.

لهؤلاء وكراهته لهؤلاء حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، ولا يمكن أحدا أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه شرع لأهل المدينة الإتيان عند الوداع للقبر، وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر، وشرع للغرباء تكرير ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولم يشرع ذلك لأهل المدينة. فمثل هذه الشريعة ليس منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولا عن خلفائه، ولا هو معروف من عمل الصحابة، وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر، وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة، كما كان ابن عمر يتحرّى الصلاة والنزول والمرور حيث حل ونزل وعبر في السفر، وجمهور الصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك، بل أبوه عمر كان ينهى عن مثل ذلك. روى سعيد بن منصور في سننه حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن عمر قال: خرجنا معه في حجة حجّها فقرأ بنا في صلاة الفجر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الفيل: 1]. ولِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش: 1] في الثانية. فلما رجع من حجّه رأى الناس ابتدروا المسجد فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «هذا ملّة أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصلّ ومن لم تعرض له فليمض» «1». وما اتفق عليه الصحابة ابن عمر وغيره من أنه لا يستحبّ لأهل المدينة الوقوف عند القبر للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا، بل يكره ذلك، فتبين ضعف حجّة من احتج بقوله: «ما من رجل يسلّم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أردّ عليه السلام». فإن هذا لو دل على استحباب السلام عليه من المسجد لما اتفق الصحابة على ترك ذلك، ولم يفرق في ذلك بين القادم من السفر وغيره، فلما اتفقوا على ترك ذلك مع تيسّره علم أنه غير مستحب، بل لو كان جائزا لفعله بعضهم، فدل على أنه كان عندهم من المنهيّ عنه، كما دلت عليه سائر الأحاديث. وعلى هذا فالجواب عن الحديث؛ إما بتضعيفه على قول من يضعّفه، وإما بأن ذلك يوجب فضيلة الرسول بالرد لا فضيلة المسلّم بالرد عليه، إذ كان هذا من باب المكافأة والجزاء، حتى أنه يشرع للبر والفاجر، وإما بأن يقال: هذا إنما هو فيمن سلّم عليه من قريب، والقريب أن يكون في بيته، فإنه إن لم يحدّ بذلك لم يبق له حد محدود من جهة الشرع، كما تقدم ذكر هذا. وأما الوجه الثاني: فتوجيهه؛ أن الحديث ليس فيه ثناء على المسلّم ولا مدح

_ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (2/ 84) وعبد الرزاق (1/ 118 - 119/ 2734) وسعيد بن منصور. بإسناد صحيح على شرط الشيخين، كما قال المحدث الألباني في «تحذير الساجد» ص (93).

له، ولا ترغيب له في ذلك، ولا ذكر أجر له، كما جاء في الصلاة والسلام المأمور بهما، فإنه قد وعد أن من صلّى عليه مرة صلّى الله عليه عشرا، وكذلك من سلّم عليه، وأيضا فهما مأمور بهما، وكل مأمور به ففعله محمود مشكور مأجور. وأما قوله: «ما من رجل يمر بقبر الرجل فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام، وما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام». فإنما فيه مدح المسلّم عليه، والإخبار بسماعه السلام، وأنه يرد السلام، فيكافئ المسلّم عليه لا يبقى للمسلم عليه فضل فإنه بالرد تحصل المكافأة، كما قال تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النساء: 86] ولهذا كان الرد من باب العدل المأمور به الواجب لكل مسلم إذا كان سلامه مشروعا، وهذا كقوله: «من سألنا أعطيناه ومن لم يسألنا أحبّ إلينا» «1». هو إخبار بإعطائه السائل، ليس هذا أمرا بالسؤال، وإن كان السلام ليس مثل السؤال، لكن هذا اللفظ إنما يدل على مدح الراد، وأما المسلّم فيقف الأمر فيه على الدليل. وإذا كان المشروع لأهل مدينته أن لا يقفوا عند الحجرة ويسلّموا عليه، علم قطعا أن الحديث لم يرغّب في ذلك.

_ (1) أخرجه بهذا اللفظ: ابن أبي الدنيا في «القناعة» (76) والحارث بن أبي أسامة في مسنده كما في «الإتحاف» (9/ 305). وقال العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» رقم (3976): «وفيه حصن بن هلال-[كذا، وصوابه: هلال بن حصن]- لم أر من تكلّم فيه، وباقيهم ثقات». وأخرجه أحمد في «المسند» (3/ 44) قال: حدثنا محمد بن جعفر وحجاج، قالا: حدثنا شعبة؛ قال: سمعت أبا جمرة يحدّث عن هلال بن حصن، قال: نزلت على أبي سعيد الخدري؛ فضمّني وإياه المجلس، قال: فحدّث أنه أصبح ذات يوم وقد عصب على بطنه حجرا من الجوع، فقالت له امرأته أو أمه: ائت النبي صلى الله عليه وسلّم فاسأله، فقد أتاه فلان فسأله فأعطاه، وأتاه فلان فسأله فأعطاه، فقال: قلت: حتى ألتمس شيئا، قال: فالتمست؛- فأتيته، قال: حجاج: فلم أجد شيئا، فأتيته- وهو يخطب، فأدركت من قوله وهو يقول: «من استعفّ يعفه الله، ومن استغنى يغنه الله، ومن سألنا؛ إما أن نبذل له، وإما أن نواسيه- أبو جمرة الشاك- ومن يستعفّ عنا أو يستغني أحبّ إلينا ممن يسألنا». قال: فرجعت فما سألته شيئا، فما زال الله عزّ وجلّ يرزقنا حتى ما أعلم في الأنصار أهل بيت أكثر أموالا منا. قلت: وإسناده رجاله ثقات، وهلال بن حصن، ذكره البخاري في «التاريخ الكبير» (8/ 204) وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (9/ 73) ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا. وذكره ابن حبان في «الثقات» (5/ 504). وللحديث طرق أخرى عن أبي سعيد. فقد أخرجه أحمد (3/ 3) والطيالسي (2161). من طريق: أبي بشر، عن نضرة، عن سعيد به، بنحو منه. وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد (3/ 4) من طريق: عبد الرحمن بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن معاوية، عن الحارث مولى ابن سباع، عن أبي سعيد به، بنحو منه. وإسناده حسن بالشواهد.

ومما يبين ذلك أن مسجده كسائر المساجد لم يختصّ بجنس من العبادات لا يشرع في غيره، وكذلك المسجد الأقصى، ولكن خصّا بأن العبادة فيهما أفضل، بخلاف المسجد الحرام، فإنه مخصوص بالطواف واستلام الركن وتقبيل الحجر وغير ذلك، وأما المسجدان الآخران فما يشرع فيهما من صلاة وذكر واعتكاف، وتعلّم وتعليم، وثناء على الرسول، وصلاة عليه، وتسليم عليه، وغير ذلك من العبادات، فهو مشروع في سائر المساجد، والعمل الذي يسمّى زيارة لقبره لا يكون إلا في مسجده، لا خارجا عن المسجد. فعلم أن المشروع من ذلك العمل مشروع في سائر المساجد لا اختصاص لقبره بجنس من أجناس العبادات، ولكن العبادة في مسجده أفضل منها في غيره، لأجل المسجد لا لأجل القبر. ومما يوضّح هذا؛ أنه لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلّم باسم زيارة قبره؛ لا ترغيبا في ذلك، ولا غير ترغيب، فعلم أن مسمى هذا الاسم لم يكن له حقيقة عندهم، ولهذا كره من كره من العلماء إطلاق هذا الاسم، والذين أطلقوا هذا الاسم من العلماء إنما أرادوا به إتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه، إما قريبا من الحجرة، وإما بعيدا عنها، إما مستقبلا للقبلة وإما مستقبلا للحجرة. وليس في أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم من احتج على ذلك بلفظ روي في زيارة قبره، بل إنما يحتجون بفعل ابن عمر مثلا، وهو أنه كان يسلّم، أو بما روي عنه من قوله صلى الله عليه وسلّم: «ما من رجل يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام». وذلك احتجاج بلفظ السلام لا بلفظ الزيارة. وليس في شيء من مصنفات المسلمين التي يعتمدون عليها في الحديث والفقه أصل عن الرسول ولا عن أصحابه في زيارة قبره. أما أكثر مصنفات جمهور العلماء فليس فيها استحباب شيء من ذلك، بل يذكرون المدينة وفضائلها وأنها حرم، ويذكرون مسجده وفضله وفضل الصلاة فيه والسفر إليه وإلى المسجد الحرام، ونذر ذلك ونحو ذلك من المسائل، ولا يذكرون استحباب زيارة قبره لا بهذا اللفظ ولا بغيره. فليس في الصحيحين وأمثالهما شيء من ذلك، ولا في عامة السنن مثل: النسائي والترمذي وغيرهما، ولا في مسند الشافعي وأحمد وإسحاق وأمثالهم من الأئمة. وطائفة أخرى ذكروا ما يتعلق بالقبر لكن بغير لفظ زيارة قبره، كما روى مالك في الموطأ عن ابن عمر أنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى أبي بكر وعمر. وكما قال أبو داود في «سننه»: باب ما جاء في زيارة القبر وذكر قوله: «ما من رجل يسلّم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام».

ولهذا أكثر كتب الفقه المختصرة التي تحفظ ليس فيها استحباب زيارة قبره، مع ما يذكرونه من أحكام المدينة، وإنما يذكر ذلك قليل منهم، والذين يذكرون ذلك يفسّرونه بإتيان المسجد كما تقدم. ومعلوم أنه لو كان هذا من سنته المعروفة عند أمته المعمول بها من زمن الصحابة والتابعين لكان ذكر ذلك مشهورا عند علماء الإسلام في كل زمان، كما اشتهر ذكر الصلاة عليه والسلام عليه، كما اشتهر عندهم ذكر مسجده وفضل الصلاة فيه، فلا يكاد يعرف مصنّف للمسلمين في الحديث والفقه إلا وفيه ذكر الصلاة والسلام عليه، وذكر فضل مدينته والصلاة في مسجده. ولهذا لما احتاج المنازعون في هذه المسألة إلى ذكر سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وسنة خلفائه وما كان عليه أصحابه؛ لم يقدر أحد منهم على أن يستدلّ في ذلك بحديث منقول عنه إلا وهو حديث ضعيف؛ بل موضوع مكتوب. وليس معهم بذلك نقل عن الصحابة ولا عن أئمة المسلمين، فلا يقدر أحد أن ينقل عن إمام من أئمة المسلمين أنه قال يستحبّ السفر إلى مجرّد زيارة القبور، ولا السفر إلى مجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ولا السفر لمجرد زيارة قبره بدون الصلاة في مسجده، بل كثير من المصنفات ليس فيها إلا ذكر المسجد والصلاة فيه، وهي الأمهات؛ كالصحيحين ومسانيد الأئمة، وغيرهما. وفيها ما فيه ذكر السلام عند الحجرة، كما جاء عن ابن عمر، وكما فهموه من قوله، ومنها ما يذكر فيه لفظ زيارة قبره والصلاة في مسجده، وفيها ما يطلق فيه زيارة قبره ويفسر ذلك بإتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه. وأما التصريح باستحباب السفر لمجرد زيارة قبره دون مسجده فهذا لم أره عن أحد من أئمة المسلمين، ولا رأيت أحدا من علمائهم صرّح به، وإنما غاية الذي يدّعي ذلك أنه يأخذه من لفظ مجمل قاله بعض المتأخرين. مع أن صاحب ذلك اللفظ قد يكون صرّح بأنه لا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة، أو أن السفر إلى غيرها منهيّ عنه، فإذا جمع كلامه علم أن الذي استحبّه ليس هو السفر لمجرد القبر بل للمسجد. ولكن قد يقال: إن كلام بعضهم ظاهر في استحباب السفر لمجرد الزيارة. فيقال: هذا الظهور إنما كان لما فهم المستمع من زيارة قبره ما يفهم من زيارة سائر القبور. فمن قال: إنه يستحبّ زيارة قبره كما يستحبّ زيارة سائر القبور، وأطلق هذا؛ كان ذلك متضمنا لاستحباب السفر لمجرّد القبر، فإن الحجّاج وغيرهم لا يمكنهم زيارة قبره إلا بالسفر إليه، لكن قد علم أن الزيارة المعهودة من القبور ممتنعة في قبره فليست من العمل المقدور ولا المأمور به، فامتنع أن يكون أحد من العلماء

يقصد بزيارة قبره هذه الزيارة، وإنما أرادوا السفر إلى مسجده والصلاة والسلام عليه والثناء عليه هناك، لكن سموا هذا زيارة لقبره كما اعتادوه. ولو سلكوا مسلك التحقيق الذي سلكه الصحابة ومن تبعهم لم يسمّوا هذا زيارة لقبره، وإنما هو زيارة لمسجده وصلاة وسلام عليه، ودعاء له وثناء عليه في مسجده، سواء كان القبر هناك أو لم يكن. ثم كثير من المتأخرين لما رويت أحاديث في زيارة قبره ظن أنها أو بعضها صحيح، فتركّب من إجمال اللفظ ورواية هذه الأحاديث الموضوعة غلط من غلط في استحباب السفر لمجرد زيارة القبر، وإلا فليس هذا قولا منقولا عن إمام من أئمة المسلمين. وإن قدر أنه قاله بعض العلماء كان هذا قولا ثالثا في هذه المسألة. فإن الناس في السفر لمجرد زيارة القبور لهم قولان: النهي والإباحة. فإذا كان قول من عالم مجتهد ممن يعتدّ به في الإجماع إن ذلك مستحبّ صارت الأقوال ثلاثة، ثم ترجع إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59]. والمقصود؛ أن هذا كلّه يبيّن ضعف حجّة المفرّق بين الصادر من المدينة والوارد عليها، والوارد على مسجده من الغرباء، والصادر عنه، وذلك أنه يمتنع أن يقال: إنه يرد على هؤلاء ولا يرد على أحد من أهل المدينة المقيمين فيها، فإن أولئك هم أفضل منه وخواصها؛ وهم الذين خاطبهم بهذا، فيمتنع أن يكون المعنى: من سلّم منكم يا أهل المدينة لم أردّ عليه ما دمتم مقيمين بها! فإن المقام بها هو غالب أوقاتهم، وليس في الحديث تخصيص، ولا روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم ما يدل على ذلك. يبين هذا؛ أن الحجرة لما كانت مفتوحة وكانوا يدخلون على عائشة لبعض الأمور ويسلّمون عليه، إنما كان يردّ عليهم إذا سلموا. إن قيل: إنه لم يكن يرد عليهم فهذا تعطيل للحديث. وإن قيل: كان يرد عليهم من هناك ولا يرد إذا سلّموا من خارج؛ فقد ظهر الفرق. وإن قيل: بل هو يرد على الجميع؛ فحينئذ إن كان رده لا يقتضي استحباب هذا السلام بطل الاستدلال به، وإن كان رده يقتضي الاستحباب وهو من سلّم من خارج؛ لزم أن يستحب لأهل المدينة السلام كلما دخلوا المسجد وخرجوا، وهو خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان؛ وخلاف قول المفرّقين. ومن أهل المدينة من قد لا يسافر منها أو لا يسافر إلا للحج، والقادم قد يقيم بالمدينة العشر والشهر، فهذا يرد عليه في اليوم والليلة عشر مرات وأكثر، كلما دخل

وكلما خرج، وذاك المدني المقيم لا يرد عليه قط، أو لا يرد عليه في عمره إلا مرة. وأيضا فاستحباب هذا للوارد والصادر؛ تشبيه له بالطواف الذي يشرع للحاج عند الورود إلى مكة، وهو الذي يسمّى طواف القدوم وطواف التحية وطواف الورود، وعند الصدور وهو الذي يسمى طواف الوداع. وهذا تشبيه لبيت المخلوق ببيت الخالق، ولهذا لا يجوز الطواف بالحجرة بالإجماع، بل ولا الصلاة إليها؛ لما ثبت عنه في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أنه قال صلى الله عليه وسلّم: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها» «1». وأيضا فالطواف بالبيت يشرع لأهل مكة وغيرهم كلما دخلوا المسجد، والوقوف عند القبر كلما دخل المدني لا يشرع بالاتفاق، فلم يبق الفرق بين المدني وغير المدني له أصل في السنة، ولا نظير في الشريعة، ولا هو مما سنّه الخلفاء الراشدون، وعمل به عامة الصحابة؛ فلا يجوز أن يجعل هذا من شريعته وسنته، وإذا فعله من الصحابة الواحد والاثنان والثلاثة وأكثر دون غيرهم؛ كان غايته أن يثبت به التسويغ، بحيث يكون هذا مانعا من دعوى الإجماع على خلافه، بل يكون كسائر المسائل التي ساغ فيها الاجتهاد لبعض العلماء، أما أن يجعل من سنة الرسول وشريعته وحكمه ما لم تدل عليه سنته، لكون بعض السلف فعل ذلك؛ فهذا لا يجوز. ونظير هذا مسحه للقبر. قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله- يعني أحمد بن حنبل-: قبر النبي صلى الله عليه وسلّم يلمس ويتمسح به؟ فقال: ما أعرف هذا. قلت له: فالمنبر؟ قال: أما المنبر فنعم؛ قد جاء فيه. قال أبو عبد الله: شيء يروونه عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن عمر أنه مسح على المنبر. قال: فيروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة. قلت: ويروى عن يحيى بن سعيد- يعني الأنصاري- شيخ مالك وغيره أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا، فرأيته استحسن ذلك، ثم قال: لعله عند الضرورة والمشي. قلت لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر. وقلت له: ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسّونه، ويقومون ناحية فيسلّمون. فقال أبو عبد الله: نعم؛ وهكذا كان ابن عمر يفعل. ثم قال أبو عبد الله: بأبي وأمي صلى الله عليه وسلّم.

_ (1) أخرجه مسلم (972).

وقد ذكر أحمد بن حنبل أيضا في منسك المروذي نظير ما نقل عن ابن عمر وابن المسيب ويحيى بن سعيد، وهذا كله يدل على التسويغ، وأن هذا مما فعله بعض الصحابة، فلا يقال: الفقد إجماعهم على تركه؛ بحيث يكون فعل من فعل ذلك اقتداء ببعض السلف لم يبتدع هو شيئا من عنده، وأما أن يقال: إن الرسول ندب إلى ذلك ورغّب فيه، وجعله عبادة وطاعة يشرع فعلها؛ فهذا يحتاج إلى دليل شرعي، لا يكفي في ذلك فعل بعض السلف. ولا يجوز أن يقال: إن الله ورسوله يحبّ ذلك أو يكرهه، وإنه سنّ ذلك وشرعه، أو نهى عن ذلك وكرهه، ونحو ذلك إلا بدليل يدل على ذلك، لا سيما إذا عرف أن جمهور أصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك؛ فيقال: لو كان هو ندبهم إلى ذلك وأحبه لهم لفعلوه، فإنهم كانوا أحرص الناس على الخير. ونظائر هذا متعددة، والله أعلم. والمؤمن قد يتحرّى الصلاة أو الدعاء في مكان دون مكان لاجتماع قلبه فيه وحصول خشوعه فيه، لا لأنه يرى أن الشارع فضّل ذلك المكان؛ كصلاة الذي يكون في بيته ونحو ذلك. فمثل هذا إذا لم يكن منهيا عنه لا بأس به، ويكون ذلك مستحبا في حق ذلك الشخص لكون عبادته فيه أفضل، كما إذا صلّى القوم خلف إمام يحبونه كانت صلاتهم أفضل من أن يصلوا خلف من هم له كارهون، وقد يكون العمل المفضول في حق بعض الناس أفضل، لكونه أنفع له وكونه أرغب فيه، وهو أحبّ إليه من عمل أفضل منه لكونه يعجز عنه أو لم يتيسر له، فهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص، وهو غير ما ثبت فضل جنسه بالشرع؛ كما ثبت أن الصلاة أفضل، ثم القراءة، ثم الذكر بالأدلة الشرعية، مع أن العمل المفضول في مكانه هو أفضل من الفاضل في غير مكانه، كفضيلة الذكر والدعاء والقراءة بعد الفجر والعصر، على الصلاة المنهيّ عنها في هذا الوقت، وكفضيلة التسبيح في الركوع والسجود على القراءة لأنه نهى أن يقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، وكفضيلة الدعاء في آخر الصلاة على القراءة هناك لأنه موطن الدعاء، ونظائره متعددة، وبسط هذا له موضع آخر. ولكن المقصود هنا أن يعلم أن ما قيل إنه مستحبّ للأمة قد ندبهم إليه الرسول ورغّبهم فيه، فلا بدّ له من دليل يدل على ذلك، ولا يضاف إلى الرسول إلا ما صدر عنه، والرسول هو الذي فرض الله على جميع الخلق الإيمان به، وطاعته، واتباعه، وإيجاب ما أوجبه، وتحريم ما حرّمه، وشرع ما شرّعه، وبه فرق الله بين الهدى والضلال، والرشاد والغي، والحق والباطل، والمعروف والمنكر، وهو الذي شهد الله له بأنه يدعو إليه بإذنه ويهدي إلى صراط مستقيم، وأنه على صراط مستقيم. وهو الذي جعل الرب طاعته طاعة له، في مثل قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64]

وهو الذي لا سبيل لأحد إلى النجاة إلا بطاعته، ولا يسأل الناس يوم القيامة إلا عن الإيمان به واتباعه وطاعته، وبه يمتحنون في القبور، قال تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] وهو الذي أخذ الله له الميثاق على النبيين وأمرهم أن يأخذوا على أممهم الميثاق، أنه إذا جاءهم أن يؤمنوا به ويصدّقوه وينصروه، وهو الذي فرّق الله به بين أهل الجنة وأهل النار؛ فمن آمن به وأطاعه كان من أهل الجنة، ومن كذّبه وعصاه كان من أهل النار، قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء: 13، 14] الآية. والوعد بسعادة الدنيا والآخرة والوعيد بشقاء الدنيا والآخرة معلّق بطاعته، فطاعته هي الصراط المستقيم وهي حبل الله المتين، وهي العروة الوثقى، وأصحابها هم أولياء الله المتقون وحزبه المفلحون وجنده الغالبون، والمخالفون له هم أعداء الله حزب إبليس اللعين، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان: 27] إلى قوله: خَذُولًا [الفرقان: 29]. وقال تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا [الأحزاب: 66، 67] إلى قوله: لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب: 68]. وقال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ [آل عمران: 32]. وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65]. وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]. وقال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69] وجميع الرسل أخبروا أن الله أمر بطاعتهم، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64]، يأمرون بعبادة الله وحده، وخشيته وحده، وتقواه وحده، ويأمرون بطاعتهم، كما قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [النور: 52] وقال نوح عليه السلام: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح: 3] وقال في سورة الشعراء: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء: 126] وكذلك قال هود وصالح وشعيب ولوط. والناس محتاجون إلى الإيمان بالرسول وطاعته في كل مكان وزمان، ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، سرّا وعلانية، جماعة وفرادى، وهم أحوج إلى ذلك من الطعام والشراب بل من النفس، فإنهم متى فقدوا ذلك فالنار جزاء من كذّب بالرسول، وتولّى عن طاعته، كما قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 14 - 16] أي: كذّب به وتولى عن طاعته، كما قال في موضع آخر: فَلا

صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 31 - 32] وقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا [المزمل: 15 - 16]. وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41]. وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النساء: 42] والله تعالى قد سمّاه سراجا منيرا، وسمى الشمس سراجا وهاجا، والناس إلى هذا السراج المنير أحوج منهم إلى السراج الوهاج، فإنهم محتاجون إليه سرا وعلانية، ليلا ونهارا، بخلاف الوهّاج، وهو أنفع لهم فإنه منير ليس فيه أذى؛ بخلاف الوهّاج فإنه ينفع تارة ويضر أخرى. ولما كانت حاجة الناس إلى الرسول والإيمان به، وطاعته ومحبته، وموالاته وتعظيمه، وتعزيره وتوقيره، عامة في كل زمان ومكان؛ كان ما يؤمر به من حقوق عاما لا يختص بغيره، فمن خصّ قبره بشيء من الحقوق كان جاهلا بقدر الرسول صلى الله عليه وسلّم وقدر ما أمر الله به من حقوقه. وكل من اشتغل بما أمر الله به من طاعته شغله ذلك عما نهى عنه من البدع المتعلقة بقبره وقبر غيره، ومن اشتغل بالبدع المنهيّ عنها ترك ما أمر به الرسول من حقه، فطاعته هي مناط السعادة والنجاة. والذين يحجّون إلى القبور ويدعون الموتى من الأنبياء وغيرهم عصوا الرسول وأشركوا بالرب، ففاتهم ما أمروا به من تحقيق التوحيد والإيمان بالرسول، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وجميع الخلق يأتون يوم القيامة فيسألون عن هذين الأصلين: «ماذا كنتم تعبدون، وبماذا أجبتم المرسلين؟» كما بسط هذا في موضعه. والمقصود؛ أن الصحابة كانوا في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين يدخلون المسجد ويصلّون فيه الصلوات الخمس، ويصلّون على النبي صلى الله عليه وسلّم ويسلمون عليه عند دخول المسجد، ولم يكونوا يذهبون يقفون إلى جانب الحجرة ويسلّمون هناك، وكانت على عهد الخلفاء الراشدين والصحابة حجرته خارجة عن المسجد ولم يكن بينهم وبينه إلا الجدار. ثم إنه إنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان من آخرهم موتا جابر بن عبد الله وهو توفي في خلافة عبد الملك قبل خلافة الوليد، فإنه توفي سنة بضع وسبعين، والوليد تولى سنة بضع وثمانين، وتوفي سنة بضع وتسعين. فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك «1».

_ (1) قال المعلّمي: انظر «الجواب الباهر» «للمؤلف ص 9 و26 و59».

وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري في كتاب «أخبار المدينة» مدينة الرسول صلى الله عليه وسلّم من أشياخه وعمن حدّثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائبا للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هجرية هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة المطابقة، وقصّه وعمله بالفسيفساء «1» وبالمرمر، وعمل سقفه بالساج «2» وماء الذهب، وهدم حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم فأدخلها في المسجد، وأدخل القبر فيه، ونقل لبن المسجد ولبن الحجرات فبنى به داره في الحرة، فهو فيها اليوم بياض على اللبن. وقال: حدّثنا محمد بن يحيى، عن إسحاق بن إبراهيم، عن هارون بن كثير قال: بنى عمر من حجارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم مدماكين في أعلى مسجد بني حرام الذي في الشعب. والمدماك الساف «3». قال أبو زيد: حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثني عبد العزيز بن عمران، عن جعفر بن وردان، عن أبيه قال: لما استعمل الوليد عمر بن عبد العزيز أمره بالزيادة في المسجد وبنيانه، فاشترى ما حواليه من الشرق والغرب والشام، فلما خلص إلى القبلة قال له عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: لسنا نبيعه هو من حق حفصة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم يسكنها. فقال عمر بن عبد العزيز: ما أنا بتارككم أو أدخلها في المسجد. فلما كثر الكلام بينهما قال له عمر: أجعل لكم في المسجد بابا تدخلون منه، وأعطيكم دار الرقيق مكان هذه الطريق وما بقي من الدار فهو لكم، فقبلوا، فأخرج بابهم من المسجد، وهي الخوخة التي في المسجد تخرج من دار حفصة بنت عمر، وأعطاهم دار الرقيق وقدّم الجدار في موضعه اليوم، وزاد من الشرق ما بين الأسطوانة المربعة إلى جدار المسجد اليوم، وهو عشرة أساطين من مربعة القبر إلى الرحبة إلى الشام ومده من الغرب أسطوانتين، وأدخل فيه حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم، وأدخل فيه دور عبد الرحمن بن عوف الثلاث التي يقال لهن القرائن، قال: فلما قدم الوليد حاجا جعل يطوف في المسجد وينظر إليه ويقول: هاهنا، ومعه أبان بن عثمان فلما استنفد الوليد النظر إلى المسجد التفت إلى أبان بن عثمان فقال: أين بناؤنا من بنائكم. فقال أبان: إنا بنيناه بناء المساجد، وبنيتموه بناء الكنائس، قال: ومكث عمر في بنائه ثلاث سنين. قال أبو زيد: قال أبو غسان: وسمعناه يحدث أن الوليد قال لعمر: ما منعك أن تجعل جدار المسجد على بناء جدار

_ (1) «تقصيص البناء: تجصيصه. والفسيفساء: ألوان من الخرز يركب في حيطان البيوت» قاموس اه (م). (2) الساج: «ضرب عظيم من الشجر، أسود رزين، يشبه الآبنوس، وهو أقل منه سوادا، ولا تكاد الأرض تبليه، ولا يجلب إلا من الهند» اه. (3) «الساف: من البناء كل طبقة من اللبن» اه (م).

القبلة وأن تجعل سقفه على عمد السقيفة التي على المنبر؟ فقال: وهل تدري كم أنفقت على جدار القبلة وهاتين السقيفتين؟ قال: كم أنفقت؟ قال: خمسة وأربعين ألف درهم، وقال بعضهم: أربعة آلاف دينار، فقال: والله لكأنك أنفقتها من مالك، قال أبو غسان: وقد جاءنا أن القبلة على بناء عثمان، ولم يزد فيها أحد. وجاء هذا الحديث، فالله أعلم أي ذلك الحق. غير أن الأقوى عندنا أنها على بناء عثمان، قال: وقد سمعنا أن الذي كلم به عمر بن عبد العزيز آل عمر منزل حفصة من الحجرات، وإنما أعطاهم عمر الخوخة لما أعطوه من ذلك المنزل. وسمعنا من يقول إنما أعطوه مربدا «1» كان لحفصة فأدخله في المسجد، وأن ذلك المربد كان وراء منزلها من الحجرات في الزاوية التي عند القبر من ناحية المنارة، فأعطوه ذلك المربد وفتح لهم الخوخة. قلت: قول من قال إن القبلة على بناء عثمان لم يزد فيها أحد صحيح، وما ذكر من فعل عمر بن عبد العزيز صحيح أيضا، فإن عمر إنما بنى جدار القبلة على موضع جدار عثمان، لكنه زاد من المشرق الزيادة التي قدام حجرة عائشة وهو منزل حفصة، فكانت زيادته لما زاد من الشرق أيضا في الجدار القبلي بقدر تلك الزيادة، والجدار القبلي بالغ في تزويقه أكثر من الجدر الثلاثة. فقال له الوليد: ألا جعلت الجدر كلها مثله وجعلت سقفه مثل السقيفة التي على القبر، فذكر عمر أن ذلك كان يذهب فيه مال كثير. قال أبو زيد: حدّثنا محمد بن يحيى، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن عمار، عن جدّه قال: لما صار عمر إلى جدار القبلة دعا مشيخة من أهل المدينة من قريش والأنصار والعرب والموالي فقال: تعالوا احضروا بنيان قبلتكم، لا تقولوا عمر غيّر قبلتنا، فجعل لا ينزع حجرا إلا وضع مكانه حجرا، فكانت زيادة الوليد من المشرق إلى المغرب ست أساطين وزاد إلى الشام من الأسطوانة المربعة التي في القبر أربع عشرة أسطوانة منها عشر في الرحبة وأربع في السقايف الأول التي كانت قبل، وزاد من الأسطوانة التي دون المربعة إلى الشرق أربع أساطين، فدخل بيت النبي صلى الله عليه وسلّم في المسجد. فهذا قد بيّن أن الجدار الذي بناه عمر هو موضع الجدار الذي بناه عثمان وهو الجدار اليوم، وأن الزيادة من الشرق أربع أساطين، فدخلت حجرة عائشة وما قدامها وهو حجرة حفصة، وهناك زاد الجدار القبلي أيضا. قال أبو زيد قال أبو غسان: وحدّثني عدة من مشايخ البلد أن عمر لما جاءه كتاب الوليد بهدم المسجد أرسل إلى عدة من آل عمر فقال: إن أمير المؤمنين قد كتب إليّ أن أبتاع بيت حفصة، وكان عن يمين الخوخة قريبا من منزل عائشة الذي فيه

_ (1) «المريد: موقف الإبل، وموضع التمر» (م).

القبر، وكانتا يتهاديان الكلام وهما في منزليهما من قرب ما بينهما، فلما دعاهم إلى ذلك قالوا: ما نبيعه شيئا، قال: إذن أدخله في المسجد، قالوا: أنت وذاك فأما طريقها فلا تقطعها، فهدم البيت وأعطاهم الطريق ووسّعها لهم حتى انتهى بها إلى الأسطوانة، وكانت قبل ذلك ضيّقة بقدر ما يمر الرجل منحرفا. قال أبو غسان: ثم سام عمر بني عبد الرحمن بن عوف بدارهم فأبوا، فهدمها عليهم وأدخلها في المسجد. وقال عبد الرحمن بن حميد: فذهب لنا متاع كثير من هدمهم. قال: وأدخل حجرات النبي صلى الله عليه وسلّم مما يلي الشرق ومن الشام. وقال أبو غسان: أخبرني عبد العزيز بن عمران عن عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري عن شيخ من مواليهم أدرك عثمان بن حنيف قال: لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلّم من خيبر وزاد في مسجده البنية الثانية ضرب الحجرات ما بين القبلة إلى الشام، ولم يضربها غربيه وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من الغرب، وكانت لها أبواب في المسجد. قال أبو زيد: حدّثنا القعنبي وأبو غسان، عن مالك قال: كان الناس يدخلون حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم يصلّون فيها يوم الجمعة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم، وكان المسجد يضيق بأهله، ولم تكن في المسجد، وكانت أبوابها في المسجد، قال أبو غسان: أخبرني مخبر من آل عمران؛ أن حجرة حفصة كانت ما بين الخوخة التي يقال لها اليوم خوخة آل عمر، إلى بيت عائشة وهو القبر، وإن موضع سرير النبي صلى الله عليه وسلّم الذي كان يضطجع عليه في بيت حفصة ما بين الأسطوانة الثانية من الأسطوانات التي تلي الخوخة الشرقية إلى الأسطوانة التي تليها، وإن سائر الحجرات كانت تواليه بعد بيت عائشة، فأتموا بها إلى القبلة وآخرها قباله وكانت من جريد عليها شعر، وكانت البيوت من مدر «1». قال أبو غسان: أخبرني ابن أبي فديك سألت محمد بن هلال عن باب بيت عائشة أين كان؟ قال: مما يلي الشام، قلت: أكان مصراعين أم فردا؟ قال: كان فردا. قلت: مم كان؟ قال: كان من عرعر أو ساج «2». قلت: سائر الروايات فيها أن أبوابها مستورة بالمسوح. قال أبو زيد: حدّثني هارون بن معروف حدّثنا ضمرة بن ربيعة، عن عثمان، عن عطاء، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب قال: وددت لو تركوا لنا مسجد نبينا على حاله وبيوت أزواجه رضي الله عنهن ومنبره ليقدم القادم فيعتبر. قال ابن عطاء: عن أبيه وكانت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم يقوم الرجل فيمسّ سقف البيت والحجرات سقف عليها المسوح.

_ (1) «المدر: قطع القطين، أو الطين العلك» (م). (2) «العرعر: شجر السرو، وتقدم تفسير الساج قريبا» (م).

قال أبو زيد: حدّثنا محمد بن يحيى، عن الواقدي، عن عبد الله بن زيد الهذلي، قال: رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت باللبن ولها حجر من جريد مطرود بالطين، عددت تسعة أبيات بحجراتها وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي صلى الله عليه وسلّم إلى منزل أسماء بنت الحسن اليوم. ورأيت بيت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم وحجرتها من لبن، فسألت ابن ابنها فقال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلّم غزوة دومة الجندل، بنت حجرتها بلبن، فلما نظر إلى اللبن فدخل عليها أول نسائه فقال: «ما هذا البناء؟» فقالت: أردت أن أكف أبصار الناس، فقال: «يا أم سلمة؛ إن شر ما ذهبت فيه أموال الناس البناء». قال الواقدي: فحدثت بهذا الحديث معاذ بن محمد الأنصاري فقال: سمعت عطاء الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس، يقول وهو بين القبر والمنبر: أدركت حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد يقرأ، فأمر بإدخالها في المسجد، فما رأيت يوما كان أكثر من ذلك اليوم باكيا. فسمعت سعيد بن المسيب يقول: «والله لوددت أنهم تركوها على حالها ينشأ ناس من المدينة ويقدم قادم من الأفق فيرى ما أكرم به النبي صلى الله عليه وسلّم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر». قال: فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمران بن أبي أنس: كان فيها أربعة أبيات بلبن له حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها على أبوابها مسوح الشعر ذرعت الستر، فوجدته ثلاث أذرع في ذراع وعظم الذراع. فأما ما ذكرت من كثرة البكاء فلقد رأيتني وأنا في المسجد فيه نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، وخارجة بن زيد، وإنهم يبكون حتى أخضل الدمع لحاهم، وقال يومئذ أبو أمامة: «ليتها تركت حتى يقصر الناس عن البناء ويرى الناس ما رضي الله لنبيه وخزائن الدنيا بيده». قلت: قوله في هذه الرواية: إن فيهم نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إن كان هذا محفوظا فمراده من كان صغيرا في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم مثل أبي أمامة بن سهل بن حنيف، ومثل محمود بن الربيع، ومثل السائب بن يزيد، وعبد الله بن أبي طلحة، فأما من كان مميزا على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يكن بقي منهم أحد، لكن في سهل بن سعد خلاف قيل توفي سنة ثمان وثمانين فيكون قد مات قبل ذلك أو سنة إحدى وتسعين. ولفظ الحجرة في هذه الآثار لا يراد به جملة المبيت، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] بل يراد ما يتّخذ حجرة للبيت عند بابه، مثل الحرم للبيت، وكانت هذه من جريد النخل بخلاف الحجر التي هي المساكن فإنها كانت من اللبن؛ وأم سلمة جعلت حجرتها من لبن كما يروى أن بعضهن كانت له حجرة وبعضهن لم يكن له حجرة والأبواب مستورة بستور الشعر،

وكان بيت علي الذي يسكن فيه هو وفاطمة خلف حجرة عائشة رضي الله عنها، لم يزل حتى أدخله الوليد في المسجد. ومما يوضح مسمى الحجرة التي قدام البيت ما في سنن أبي داود وغيره عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها» «1». فبين أنه كلما كان المكان أستر لها فصلاتها فيه أفضل، فالخدع أستر من البيت الذي يقعد فيه، والبيت أستر من الحجرة التي هي أقرب إلى الباب والطريق. قال أبو زيد: حدّثنا محمد بن يحيى حدّثني عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن أبي عائشة، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبيه قال: زاد عثمان بن عفان في المسجد قبل أن يقتل بأربع سنين، فزاد قبة من ناحية القبلة موضع جداره على جدار المقصورة اليوم، وزاد فيه من المغرب أسطوانة بعد المربعة، وزاد فيه من الشام خمسين ذراعا ولم يزد فيه من الشرق شيئا. قال أبو غسان: وأخبرني غير واحد من ثقات أهل البلد أن عثمان زاد في القبلة إلى موضع القبلة اليوم ثم لم يغير ذلك إلى اليوم. قال أبو زيد: حدّثنا محمد بن يحيى، عن عبد الرحمن بن سعد، عن أشياخه أن عثمان أدخل فيه دار العباس بن عبد المطلب مما يلي القبلة والشام والغرب، وأدخل بعض بيوت حفصة بنت عمر مما يلي القبلة، فأقام المسجد على تلك الحال حتى زاد فيه الوليد بن عبد الملك. وحدّثنا محمد بن يحيى، عن رجل، عن ابن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد قال: قدم عثمان المسجد وزاد في قبليه ولم يزد في شرقيه وزاد في غربيه قدر أسطوانة وبناه بالحجارة المنقوشة والقصّة «2» وبيضه بالقصّة، وقدر زيد بن ثابت أساطينه فجعلها على قدر النخل وجعل فيه طيقانا مما يلي الشرق والغرب، وذلك قبل أن يقتل عثمان بأربع سنين، فزاد فيه إلى الشام خمسين ذراعا. قلت: حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم لم يبنهن كلهن مع بناء المسجد أولا، فإنه لم يكن حينئذ متزوّجا بتسع بل بنى بعائشة وكان قد تزوجها بمكة، وكذلك سودة ثم بحفصة، فلهذا كانت حجرهن لاصقة بالمسجد، وآخر من تزوجها صفية بنت حيي لما فتح خيبر سنة تسع من الهجرة وحينئذ اتخذ لها بيتا، وكان بيتها أبعد من المسجد من

_ (1) أخرجه أبو داود (570) وغيره من حديث عبد الله بن مسعود، لا من حديث ابن عمر كما ذكر المصنف. وإسناده صحيح على شرط الشيخين كما قال الألباني في تحقيقه على المشكاة (1/ 334/ 1063). (2) «القصّة:- بالفتح- الجصّ، بلغة الحجاز» (م).

غيره، كما في الصحيحين عن علي بن الحسين عن صفية بنت حيي أم المؤمنين قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم معتكفا فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني «1» - وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد-، فمرّ رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلّم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «على رسلكما؛ إنها صفية بنت حيي» فقالا: سبحان الله يا رسول الله. فقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا، أو شيئا» «2». ففي هذا الحديث أن مسكنها كان في دار أسامة بن زيد وأن النبي صلى الله عليه وسلّم قام معها ليقلبها إلى مسكنها، وأنه مرّ به رجلان من الأنصار، ولو كان منزلها متصلا بالمسجد لم يحتج إلى شيء من ذلك، فإن المسجد لم يكن فيه ما يخافه، ولكن خرج معها من المسجد ليوصلها إلى مسكنها، والرجلان مرّا به في الطريق لم يكن مرورهما في المسجد، فإن المسجد لم يكن طريقا بالليل، ولو رأياه في المسجد لم يحتج أن يقول ما قال، بل رأياه ومعه امرأة خارجا من المسجد، فقال ما قال لئلا يقذف الشيطان في قلوبهما شيئا من الظن السيّئ فيهلكا بذلك. وأما ما ذكروه من أن عثمان زاد في المسجد من جهة الشام مع أنه لم يأخذ شيئا من جهة الحجر فعلم أن من الحجر ما لم يكن ملتصقا بالمسجد، فإن الناس بنوا دورهم متصلة بالمسجد قبل أن يتزوج جويرية وصفية وغيرهما، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلّم ليزاحم أحدا في داره، فكان يتخذ الحجرة شامي المسجد وإن لم تكن متصلة به، ولهذا ذكروا أن عثمان زاد من جهة الشام خمسين ذراعا ولم يأخذ شيئا من الحجر، بل الوليد زاد على ذلك بأخذ الحجر، فكانت الحجر كما ذكروا من ناحية الشرق مع الاتصال، وحجرة حفصة شرقية وقبلية، فإن حجرة عائشة هي التي كانت مسامتة لم تتقدم المسجد، وأما حجرة حفصة فكانت فاضلة عن المسجد من مقدمه، ولهذا زادوها مع الزيادة في المسجد، وكذلك الحجر التي كانت في الشام كانت شرقية وشامية، لكن الشامي لم يكن ملتصقا بالمسجد فلهذا قال من قال؛ كانت الحجرة من قبليه وشرقيه ولم يذكر الشام، وذكر آخرون أن منها ما كان من الشام ولا منافاة بين القولين، فإن صاحب القول الأول أراد ما يتصل بالمسجد، وما كان شام المسجد بقليل كان شرقية أيضا فكانت هذه شرقية شامية، ومن قال شامية فمعناه أنها من جهة شام الشرق وإن لم تكن متصلة بالمسجد، فكثير من الروايات من هذا الباب قد ظن بها تناقضا فإن كانت متناقضة فما ناقض الصحيح فهو باطل، وإن كان المعنى متفقا فلا تناقض، وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده حكم المزيد تضعف فيه

_ (1) أي: ليرجعني إلى بيتي. (2) أخرجه البخاري (2035) - وانظر أطرافه هناك- ومسلم (2175).

الصلاة بألف صلاة كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد فيجوز الطواف فيه، والطواف لا يكون إلا في المسجد لا خارجا منه، ولهذا اتفق الصحابة على أنّهم يصلّون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر ثم عثمان، وعلى ذلك عمل المسلمين كلهم، فلولا أن حكمه حكم مسجده لكانت تلك صلاة في غير مسجده، والصحابة وسائر المسلمين بعدهم لا يحافظون على العدول عن مسجده إلى غير مسجده ويأمرون بذلك. قال أبو زيد: حدّثني محمد بن يحيى حدّثني من أثق به أن عمر زاد في المسجد من القبلة إلى موضع المقصورة التي هي به اليوم، قال: فأما الذي لا يشك فيه أهل بلدنا أن عثمان رضي الله عنه هو الذي وضع القبلة في موضعها اليوم، ثم لم تغير بعد ذلك. قال أبو زيد: حدّثنا محمد بن يحيى، عن محمد بن عثمان، عن مصعب بن ثابت، عن خباب أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال يوما وهو في مصلّاه: «لو زدنا في مسجدنا» وأشار بيده نحو القبلة، فلما ولي عمر قال: إن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لو زدنا في مسجدنا» وأشار بيده نحو القبلة فأدخلوا رجلا مصلّى النبي صلى الله عليه وسلّم وأجلسوه، ثم رفعوا يد الرجل وخفضوها حتى إذا رأوا ذلك نحو ما رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلّم رفع يده، ثم مدوا مقاطا «1» فوضعوا طرفه بيد الرجل، ثم مدوا فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا ذلك شبيها بما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الزيادة فقدم عمر القبلة، فكان موضع جدار عمر في موضع عيدان المقصورة «2». وقال: حدّثنا محمد بن يحيى، عن محمد بن إسماعيل، عن ابن أبي ذئب قال: قال عمر لو مدّ مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم إلى ذي الحليفة لكان منه. حدّثنا محمد بن يحيى، عن سعد بن سعيد، عن أخيه، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي» فكان أبو هريرة يقول: «والله لو مدّ هذا المسجد إلى باب داري ما عدوت أن أصلي فيه» «3». حدّثنا محمد حدّثني عبد العزيز، عن عمران، عن فليح بن سليمان، عن ابن أبي عمرة قال: زاد عمر في المسجد في شاميّة، ثم قال: «لو زدنا فيه حتى بلغ الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجاءه الله بعامر». وهذا الذي جاءت به الآثار، وهو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين وعملهم فإنهم قالوا: إن صلاة الفرض خلف الإمام أفضل.

_ (1) «المقاط- بوزن عماد- الحبل الصغير الشديد الفتل. كما في النهاية» (م). انظر «النهاية في غريب الحديث والأثر» (4/ 296). (2) حديث ضعيف جدا؛ انظر «السلسلة الضعيفة» (974). (3) حديث ضعيف جدا؛ انظر «السلسلة الضعيفة» (973).

وهذا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة، وكذلك كان الأمر على عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، فإن كلاهما زاد من قبلي المسجد، فكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة، وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع، وإذا كان كذلك فيمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده، وأن يكون الخلفاء والصفوف الأول كانوا يصلون في غير مسجده، وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا. لكن رأيت بعض المتأخرين قد ذكر أن الزيادة ليست من مسجده، وما علمت لمن ذكر ذلك سلفا من العلماء. وقد ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلّم زاد فيه لما قدم من خيبر، قال أبو غسان: حدّثني غير واحد ولا اثنين ممن يوثق به من أهل العلم من أهل البلد أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ترك المسجد من القبلة في تلك البنية على حده الأول فأخذت الأساطين من الشرق إلى الأسطوانة التي دون المربعة التي عند القبر التي لها نجاف طالع «1»، وأثبت من الشام لم يزد فيه شيء ومن الغرب إلى الأسطوانة التي دون المربعة الغربية. ومن بيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعتكف في موضع مجلس آل عبد الرحمن بن هشام، وأن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رأسه وهو في بيتها وهو معتكف في المسجد. وهذه الأمور نبهنا عليها هاهنا، فإنه يحتاج إلى معرفتها، وأكثر الناس لا يعرفون الأمر كيف كان ولا حكم الله ورسوله في كثير من ذلك، وكان من المقصود أن المسجد لما زاد فيه الوليد وأدخلت فيه الحجرة كان قد مات عامة الصحابة ولم يبق إلا من أدرك النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يبلغ سنّ التمييز الذي يؤمر فيه بالطهارة والصلاة، وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع» «2». ومن المعلوم بالتواتر أن ذلك كان في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان بعد بضع وثمانين. وقد ذكروا أن ذلك كان سنة إحدى وتسعين وأن عمر بن عبد العزيز مكث في بنائه ثلاث سنين. وسنة ثلاث وتسعين مات فيها خلق كثير من التابعين مثل سعيد بن المسيب وغيره من الفقهاء السبعة «3»، ويقال لها سنة الفقهاء. وجابر بن

_ (1) «النجاف: الباب والغار ونحوهما» (م). (2) أخرجه أبو داود (494) والترمذي (407) وأحمد (2/ 187) وغيرهم. وهو حديث صحيح، صحّحه النووي في «المجموع» (3/ 10) والألباني في «إرواء الغليل» (1/ 266/ 247). (3) الفقهاء السبعة هم: 1 - سعيد بن المسيب. 2 - عروة بن الزبير. 3 - القاسم بن محمد. 4 - عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. 5 - سليمان بن يسار.-

عبد الله كان من السابقين الأولين ممن بايع بالعقبة وتحت الشجرة، ولم يكن بقي من هؤلاء غيره لما مات وذلك قبل تغيير المسجد بسنتين، ولم يبق بعده ممن كان بالغا حين موت النبي صلى الله عليه وسلّم إلا سهل بن سعد الساعدي فإنه توفّي سنة ثمان وثمانين، وقيل سنة إحدى وتسعين. ولهذا قيل فيه إنه آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم كما قاله أبو حاتم البستي وغيره. وأما من مات بعد ذلك فكانوا صغارا، مثل السائب بن يزيد الكندي ابن أخت عمر، فإنه مات بالمدينة سنة إحدى وتسعين، وقيل: إنه مات بعده عبد الله بن أبي طلحة الذي حنّكه النبي صلى الله عليه وسلّم، وكذلك محمود بن الربيع الذي عقل مجّة مجّها رسول الله صلى الله عليه وسلّم في وجهه من بئر كان في دارهم وله خمس سنين، مات سنة تسع وستين. ومحمود بن الربيع مات سنة ثلاث وتسعين. وأبو أمامة بن سهل بن حنيف سمّاه النبي صلى الله عليه وسلّم أسعد باسم أسعد بن زرارة مات سنة مائة، لكن هؤلاء لم يكن لهم في حياته صلى الله عليه وسلّم من التمييز ما ينقلون عنه أقواله وأفعاله التي ينقلها الصحابة؛ مثل ما ينقلها جابر وسهل بن سعد وغيرهما. وأما ابن عمر فكان قد مات قبل ذلك عام قتل ابن الزبير بمكة سنة ثنتين وسبعين، وابن عباس مات قبل ذلك بالطائف سنة بضع وستين، فهؤلاء وأمثالهم من الصحابة لم يدرك أحد منهم تغيير المسجد وإدخال الحجر فيه، وأنس بن مالك كان بالبصرة لم يكن بالمدينة، وقد قيل: إنه آخر من مات بها من الصحابة، وكانت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم شرقي المسجد وقبليه، وقيل وشامية فاشتريت من ملّاكها ورثة أزواجه صلى الله عليه وسلّم، وزيدت في المسجد فدخلت حجرة عائشة. وكان الذي تولّى ذلك عمر بن عبد العزيز نائب الوليد على المدينة، فسدّ باب الحجرة وبنى حائطا آخر عليها غير الحائط القديم، فصار المسلّم عليه من وراء جدار أبعد من المسلم عليه لما كان جدارا واحدا. قال هؤلاء: ولو كان سلام التحية الذي يرده على صاحبه مشروعا في المسجد كان له حدّ ذراع أو ذراعين أو ثلاثة، فلا يعرف الفرق بين المكان الذي يستحبّ فيه هذا السلام، والمكان الذي لا يستحب. فإن قيل: من سلّم عليه عند الحائط الغربي رد عليه. قيل: وكذلك من كان خارج المسجد، وإلا فما الفرق؟ وحينئذ فيلزم أن يرد على جميع أهل الأرض، وعلى كل مصل في كل صلاة كما ظنه بعض الغالطين، ومعلوم بطلان ذلك. وإن قيل: يختص بقدر بين المسلم وبين الحجرة. قيل: فما حدّ ذلك؟ وهم لهم قولان: منهم من يستحب القرب من الحجرة،

_ - 6 - خارجة بن زيد بن ثابت. 7 - أبو بكر بن عبد الرحمن. وانظر «أعلام الموقعين» لابن قيم الجوزية (1/ 23).

كما استحب ذلك مالك وغيره، ولكن يقال فما حدّ ذلك القرب؟ وإذا جعل له حدّ فهل يكون من خرج عن الحدّ فعل المستحب؟ وآخرون من المتأخّرين يستحبّون التباعد عن الحجرة، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهم، فهل هو بذراع أو باع أو أكثر؟ وقدره من قدره من أصحاب أبي حنيفة بأربع أذرع، فإنهم قالوا: يكون حين يسلم عليه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره ولا يدنو أكثر من ذلك. وهذا والله أعلم قاله المتقدمون لأن المقصود به السلام المأمور به في القرآن كالصلاة عليه ليس المقصود سلام التحية الذي يرد جوابه المسلم عليه، فإن هذا لا يشرع فيه هذا البعد، ولا يستقبل به القبلة، ولا يسمع إذا كان بالصوت المعتاد، وبالجملة فمن قال إنه يسلّم سلام التحية الذي يقصد به الرد فلا بد له من أن يحدّ مكان ذلك، يقال: إلى أين يسمع ويرد السلام؟ فإن حدّ في ذلك ذراعا أو ذراعين أو عشر أذرع أو قال: إن ذلك في المسجد كله أو خارج المسجد فلا بد له من دليل، والأحاديث الثابتة منه فيها: «أن الملائكة يبلغونه صلاة من يصلي عليه، وسلام من يسلم عليه» ليس في شيء منها أنه يسمع بنفسه صلى الله عليه وسلّم ذلك، فمن زعم أنه يسمع ويرد من خارج الحجرة من مكان دون مكان فلا بد له من حدّ. ومعلوم أنه ليس في ذلك حدّ شرعي ولا أحد يحدّ في ذلك حدا إلا عورض بمن يزيده أو ينقصه ولا فرق. وأيضا فذلك يختلف بارتفاع الأصوات وانخفاضها، والسّنة في السلام عليه خفض الصوت، ورفع الصوت في مسجده منهي عنه بالسلام والصلاة وغير ذلك، بخلاف المسلّم من الحجرة فإنه فرق ظاهر بينه وبين المسلم عليه من المسجد ثم السنة لمن دخل مسجده أن يخفض صوته، فإن المسلم عليه إن رفع الصوت أساء الأدب برفع الصوت في المسجد، وإن لم يرفع لم يصل الصوت إلى داخل الحجرة، وهذا بخلاف السلام الذي أمر الله به ورسوله الذي يسلم الله على صاحبه كما يصلي على من يصلّي عليه، فإن هذا مشروع في كل مكان لا يختص بالقبر. وبالجملة فهذا الموضع فيه نزاع قديم بين العلماء، وعلى كل تقدير فلم يكن عند أحد من العلماء الذين استحبوا سلام التحية في المسجد حديث في استحباب زيارة قبره يحتجون به، فعلم أن هذه الأحاديث ليست مما يعرفه أهل العلم. ولهذا لما تتبعت وجدت رواتها إما كذّاب وإما ضعيف سيئ الحفظ ونحو ذلك، كما قد بيّن في غير هذا الموضع، وهذا الحديث الذي فيه: «ما من رجل يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» قد احتج به أحمد وغيره من العلماء، وقيل: هو على شرط مسلم، ليس على شرط البخاري، وهو معروف من حديث حياة بن شريح المصري؛ الرجل الصالح الثقة عن أبي صخر، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة. وقد أخرج مسلم حديثا بهذا الإسناد وأبو صخر هذا متوسط. ولهذا

اختلف فيه عن يحيى بن معين، فمرة قال: هو ضعيف، ووافقه النسائي، ومرة قال: لا بأس به، ووافقه أحمد. فلو قدّر أن هذا الحديث مخالف لما هو أصح منه وجب تقديم ذاك عليه، ولكن السلام على الميت ورده السلام على من سلم عليه قد جاء في غير هذا الحديث. ولو أريد إثبات سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بمثل هذا الحديث لكان هذا مختلفا فيه، فالنزاع في إسناده وفي دلالة متنه. ومسلم روى بهذا الإسناد قوله صلى الله عليه وسلّم: «من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها ثم اتبعها حتى تدفن كان له قيراطان من الأجر كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد» «1». وهذا الحديث قد رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما من غير هذا الطريق. ومسلم قد يروي عن الرجل في المتابعات ما لا يرويه فيما انفرد به، وهذا معروف منه في عدة رجال، يفرّق بين من يروي عنه ما هو معروف من رواية غيره، وبين من يعتمد عليه فيما ينفرد به، ولهذا كان كثير من أهل العلم يمتنعون أن يقولوا في مثل ذلك هو على شرط مسلم أو البخاري كما بسط هذا في موضعه. الوجه الثامن: أنه لو كان في هذا الباب حديث صحيح لم يخف على الصحابة والتابعين بالمدينة ولو كان ذلك معروفا عندهم لم يكره أهل العلم بالمدينة- مالك وغيره- أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، فلما كرهوا هذا القول دلّ على أنه ليس عندهم فيه أثر، لا عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم. الوجه التاسع: أن الذين كرهوا هذا القول والذين لم يكرهوه من العلماء متفقون على أن السفر إلى زيارة قبره صلى الله عليه وسلّم إنما هو سفر إلى مسجده، ولو لم يقصد إلا السفر للقبر لم يمكنه أن يسافر إلا إلى المسجد، لكن قد يختلف الحكم بنيته كما تقدم. وأما زيارة قبره كما هو معروف في زيارة القبور فهذا ممتنع غير مقدور ولا مشروع، وبهذا يظهر أن قول الذين كرهوا أن يسمي هذا زيارة لقبره صلى الله عليه وسلّم قولهم أولى بالصواب، فإن هذا ليس زيارة لقبره ولا فيه ما يختص بالقبر، بل كل ما يفعل فإنما هو عبادة تفعل في المساجد كلها، وفي غير المساجد أيضا. ومعلوم أن زيارة القبر لها اختصاص بالقبر، ولما كانت زيارة قبره المشروعة إنما هي سفر إلى مسجده، وعبادة في مسجده، ليس فيها ما يختص بالقبر؛ كان قول من كره أن يسمّي هذا زيارة لقبره أولى بالشرع والعقل واللغة، ولم يبق إلا السفر إلى مسجده، وهذا مشروع بالنص

_ (1) أخرجه مسلم (945)

والإجماع. والذين قالوا: تستحب زيارة قبره إنما أرادوا هذا. فليس بين العلماء خلاف بالمعنى بل في التسمية والإطلاق، والمجيب لم يحك نزاعا في استحباب هذه الزيارة الشرعية التي تكون في مسجده، وبعضهم يسميها زيارة لقبره، وبعضهم يكره أن تسمّى زيارة لقبره، وإذا كان المجيب يستحب ما يستحب بالنص والإجماع وقد ذكر ما فيه النزاع، كان الحاكي عنه خلاف ذلك كاذبا مفتريا يستحق ما يستحقه أمثاله من المفترين.

فصل [حديث «من صلى علي عند قبري سمعته»]

فصل [حديث «من صلّى عليّ عند قبري سمعته»] قال المعترض: «وتضافرت النقول عن الصحابة والتابعين وعن السادة العلماء المجتهدين، بالحضّ إلى ذلك والندب إليه، والغبطة لمن سارع لذلك وداوم عليه، حتى نحا بعضهم في ذلك إلى الوجوب، ورفعه عن درجة المباح والمندوب، ولم يزل الناس مطبقين على ذلك عملا وقولا، لا يشكّون في ندبه ولا يبغون عنه حولا، وفي مسند ابن أبي شيبة: «من صلّى عليّ عند قبري سمعته ومن صلّى عليّ نائيا سمعته». هكذا في النسخة التي أحضرت إليّ مكتوبة عن المعترض، وقد صحّح على قوله: سمعته، وهو غلط فإن لفظ الحديث: «من صلّى عليّ عند قبري سمعته ومن صلى علي نائيا بلغته». هكذا ذكره الناس وهكذا ذكره القاضي عياض عن ابن أبي شيبة، وهذا المعترض عمدته في مثل هذا الكتاب القاضي عياض. وهذا الحديث قد رواه البيهقي وغيره من حديث العلاء بن عمرو الحنفي، حدّثنا أبو عبد الرحمن، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلّى عليّ نائيا بلغته» «1». قال البيهقي: أبو عبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى، وفيه نظر وقد مضى ما يؤكّده. قلت: هو تبليغ صلاة أمته وسلامهم عليه كما في الأحاديث المعروفة مثل الحديث الذي في سنن أبي داود وغيره عن حسين الجعفي. حدّثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن [أبي] أوس الثقفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه

_ (1) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 218/ 1583) والخطيب البغدادي في «تاريخه» (3/ 291 - 292) وابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 38/ 562) والعقيلي في «الضعفاء» (4/ 136 - 137/ 1696) وأبو الشيخ في «الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم» كما في «جلاء الأفهام» ص 109. وهو حديث ضعيف جدا. قال الحافظ ابن القيم: «هذا الحديث غريب جدا». وقال العقيلي: «لا أصل له من حديث الأعمش، وليس بمحفوظ». وانظر «تفسير القرآن العظيم» للحافظ ابن كثير (3/ 675) و «ميزان الاعتدال» (3/ 32 - 33/ 8154) و «الفوائد المجموعة» (ص 235) و «السلسلة الضعيفة» (203).

خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ». قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت، يقولون بليت؟ فقال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» «1». وهذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ورواه أبو حاتم، قال البيهقي: وله شواهد، وروى حديثين عن ابن مسعود وأبي أمامة، وله شواهد أجود مما ذكرها البيهقي. منها ما رواه ابن ماجه: حدّثنا عمرو بن سوّاد البصري حدّثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أيمن، عن عبادة بن نسيّ الكندي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة، فإنه مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدا لم يصل عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ منها». قال: قلت: وبعد الموت؟ وقال: «وبعد الموت؛ إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» «2». ورواه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تهذيب الآثار من حديث سعيد بن أبي هلال كما تقدم. ومنها ما رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تتخذوا قبري عيدا وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» «3». وهذا له شواهد مراسيل من وجوه مختلفة يصدّق بعضها بعضا؛ منها ما رواه سعيد بن منصور في «سننه»: حدّثنا حباب بن علي حدّثنا محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلّوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» «4». وقال سعيد: حدّثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر؛ فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشّى فقال: «هلم إلى العشاء» فقلت: لا أريده. فقال: «ما لي رأيتك عند القبر؟»

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 8) وأبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/ 91 - 92) وابن ماجه (1626) والحاكم (1/ 278). والحديث صحّحه الألباني في «الصحيحة» (1527). (2) أخرجه ابن ماجه (1637) وابن جرير في «تفسيره» (30/ 131) والمزي في «تهذيب الكمال» (10/ 23 - 24). وإسناده ضعيف لانقطاعه. قال البوصيري في «مصباح الزجاجة»: «هذا إسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع في موضعين: عبادة بن نسيّ روايته عن أبي الدرداء مرسلة؛ قاله العلائي. وزيد بن أيمن عن عبادة بن نسي مرسلة؛ قاله البخاري». وانظر «إرواء الغليل» (1/ 35). (3) تقدّم. (4) تقدم تخريجه.

فقلت: سلّمت على النبي صلى الله عليه وسلّم. فقال: «إذا دخلت المسجد فسلم عليه». ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم». ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء «1». ورواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتاب «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم» ولفظه قال: ما لي رأيتك وقفت؟ قلت: وقفت أسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلّم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلّم، وذكر الحديث، ولم يذكر قول الحسن. وقال إسماعيل: حدّثنا إبراهيم بن الحجاج، عن وهيب، عن أيوب السختياني قال: بلغني والله أعلم أن ملكا موكّل بكل من صلّى على النبي صلى الله عليه وسلّم حتى يبلغه «2». وأما السلام؛ ففي النسائي وغيره من حديث سفيان الثوري، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام» «3». وفي الحديث الذي تقدم من رواية أبي يعلى الموصلي، وقد تقدم إسناده عن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فيدخل فيها، فنهاه وقال: ألا أحدّثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم». فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم التي جاءت من وجوه حسان، يصدّق بعضها بعضا وهي متفقة على أنه من صلّى عليه وسلم عليه من أمته فإن ذلك يبلغه ويعرض عليه، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلّي والمسلم بنفسه، إنما فيها أن ذلك يعرض عليه ويبلغه صلى الله عليه وسلّم في مدينته ومسجده أو مكان آخر. فعلم أن ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه، وأما من سلّم عليه عند قبره فإنه يرد عليه ذلك كالسلام على سائر المؤمنين؛ ليس هو من خصائصه، ولا هو السلام المأمور به الذي يسلّم الله على صاحبه عشرا، كما يصلّي على من صلّى عليه عشرا، فإن هذا هو الذي أمر الله به في القرآن، وهو لا يختصّ بمكان دون مكان.

_ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه القاضي إسماعيل بن إسحاق الجهضمي في «فضل الصلاة» (24). وقال الشيخ الألباني: إسناده إلى أيوب- وهو السختياني- صحيح، وهو مرفوع في صورة مقطوع، لأنه لا يقال بالرأي». (3) أخرجه أحمد (1/ 387، 441، 452) والنسائي (3/ 43) وفي «الكبرى» (1/ 380/ 1205) و (6/ 22/ 8994) وابن حبان (3/ رقم: 914) والحاكم (2/ 421) وغيرهم. من طريق: سفيان الثوري به. وإسناده صحيح كما قال ابن القيم في «جلاء الأفهام» (ص 120).

وقد تقدّم حديث أبي هريرة أنه يردّ السلام على من سلّم عليه، والمراد عند قبره، لكن النزاع في معنى كونه عند القبر، هل المراد به في بيته، كما يراد مثل ذلك في سائر ما أخبر به من سماع الموتى إنما هو لمن كان عند قبورهم قريبا منها، أو يراد به من كان في المسجد أيضا قريبا من الحجرة، كما قاله طائفة من السلف والخلف، وهل يستحبّ ذلك عند الحجرة لمن قدم من سفر أو لمن أراده من أهل المدينة أو لا يستحب بحال؟ وليس الاعتماد في سماعه ما يبلغه من صلاة أمته وسلامهم إلا على هذه الأحاديث الثابتة. فأما ذاك الحديث وإن كان معناه صحيحا فإسناده لا يحتجّ به، وإنما يثبت معناه بأحاديث أخر، فإنه لا يعرف إلا من حديث محمد بن مروان السّدي الصغير، عن الأعمش كما ظنه البيهقي، وما ظنه في هذا هو متفق عليه عند أهل المعرفة بالحديث، وهو عندهم موضوع على الأعمش، قال عباس الدوري عن يحيى بن معين: محمد بن مروان ليس بثقة. وقال البخاري: سكتوا عنه، لا يكتب حديثه البتة «1». وقال الجوزجاني: ذاهب الحديث «2». وقال النسائي: متروك الحديث «3». وقال صالح جزرة: كان يضع الحديث [و] قال أبو حاتم الرازي والأزدي: متروك الحديث «4». وقال الدارقطني: ضعيف «5». وقال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه لا اعتبارا ولا للاحتجاج به بحال «6». وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ، والضعف على روايته بين. فهذا الكلام على ما ذكره من الحديث مع أنّا قد بيّنا صحّة معناه بأحاديث أخر، وهو لو كان صحيحا فإنما فيه أنه يبلغ صلاة من صلّى عليه نائيا ليس فيه أنه يسمع ذلك، كما وجدته منقولا عن هذا المعترض، فإن هذا لم يقله أحد من أهل العلم ولا يعرف في شيء من الحديث، وإنما يقوله بعض المتأخرين الجهال، يقولون: إنه ليلة الجمعة ويوم الجمعة يسمع بأذنيه صلاة من يصلي عليه. فالقول إنه يسمع ذلك من نفس المصلّي باطل، وإنما في الأحاديث المعروفة أنه يبلّغ ذلك ويعرض عليه، وكذلك السلام تبلّغه إياه الملائكة. وقول القائل: إنه يسمع الصلاة من البعيد ممتنع، فإنه إن أراد وصول صوت المصلّي إليه فهذه مكابرة، وإن أراد أنه هو يكون بحيث

_ (1) انظر «الضعفاء الصغير» ترجمة رقم (340). (2) «أحوال الرجال» ترجمة رقم (50). (3) «الضعفاء والمتروكون» ترجمة رقم (538). (4) «الجرح والتعديل» (8/ ترجمة رقم: 364). (5) «الضعفاء والمتروكون» ترجمة رقم (470). (6) «المجروحين» (2/ 286).

يسمع أصوات الخلائق من بعيد، فليس هذا إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم. قال تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] وقال: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ [المجادلة: 7] الآية. وليس أحد من البشر بل ولا من الخلق يسمع أصوات العباد كلهم، ومن قال هذا في بشر فقوله من جنس قول النصارى الذين يقولون إن المسيح هو الله، وإنه يعلم ما يفعله العباد ويسمع أصواتهم ويجيب دعاءهم، قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 72] إلى قوله: وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة: 76]. فلا المسيح ولا غيره من البشر ولا أحد من الخلق يملك لأحد من الخلق لا ضرا ولا نفعا، بل ولا لنفسه؛ وإن كان أفضل الخلائق، قال تعالى: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً [الجن: 21] وقال: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام: 50] الآية. وقال: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف: 188] الآية. وقوله: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فيه قولان، قيل: هو استثناء متصل وأنه يملك من ذلك ما ملّكه الله، وقيل هو منقطع، والمخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا بحال. فقوله: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ استثناء منقطع، أي لكن يكون من ذلك ما شاء الله، كقول الخليل عليه السلام: وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ [الأنعام: 80] ثم قال: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً [الأنعام: 80] أي: لا أخاف أن تفعلوا شيئا، لكن إن شاء ربي شيئا كان وإلا لم يكن، وإلا فهم لا يفعلون شيئا. وكذلك قوله: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ ثم قال: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ [الزخرف: 86] فيه قولان؛ أصحهما أنه استثناء منقطع؛ أي: لكن من شهد بالحق تنفعه الشفاعة وتنفع شفاعته، كقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] وقال: قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً [الزمر: 44]. وبسط هذا له موضع آخر.

فصل [مذهب السلف في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم]

فصل [مذهب السلف في زيارة قبره صلى الله عليه وسلّم] وأما ما ذكره من تضافر النقول عن السلف بالحضّ على ذلك وإطباق الناس عليه قولا وعملا. فيقال: الذي اتفق عليه السلف والخلف وجاءت به الأحاديث الصحيحة هو السفر إلى مسجده والصلاة والسلام عليه في مسجده وطلب الوسيلة له وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله، فهذا السفر مشروع باتفاق المسلمين سلفهم وخلفهم وهذا هو مراد العلماء الذين قالوا إنه يستحبّ السفر إلى زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلّم، فإن مرادهم بالسفر إلى زيارته هو السفر إلى مسجده، وذكروا في مناسك الحج أنه يستحب زيارة قبره، وهذا هو مراد من ذكر الإجماع على ذلك، كما ذكر القاضي عياض قال: «وزيارة قبره سنة بين المسلمين مجمع عليها، وفضيلة مرغب فيها». فمرادهم الزيارة التي بيّنوها وشرحوها كما ذكر القاضي عياض في هذا الفصل؛ فصل زيارة قبره، وقال إسحاق بن إبراهيم الفقيه: ومما لم يزل من شأن من حجّ المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم والتبرك برؤية روضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه، وملامس يديه، ومواطئ قدميه، والعمود الذي كان يستند إليه وينزل جبريل بالوحي فيه عليه، وبمن عمره وقصده من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، والاعتبار بذلك كله. قلت: وذلك أن لفظ زيارة قبره ليس المراد بها نظير المراد بزيارة قبر غيره، فإن قبر غيره يوصل إليه ويجلس عنده ويتمكن الزائر مما يفعله الزائرون للقبور عندها من سنة وبدعة، وأما هو صلى الله عليه وسلّم فلا سبيل لأحد يصل إلى مسجده أن يدخل بيته ولا يصل إلى قبره، بل دفنوه في بيته بخلاف غيره، فإنهم دفنوا في الصحراء. كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذّر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره. ولكن خشي أن يتّخذ مسجدا، فدفن في بيته لئلا يتخذ قبره مسجدا ولا عيدا ولا وثنا. فإن في سنن أبي داود من حديث أحمد بن صالح، عن عبد الله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:

«لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم». وفي الموطأ وغيره عنه أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وفي صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك». فلما لعن من يتخذ القبور مساجد تحذيرا لأمته من ذلك ونهاهم عن ذلك، ونهاهم أن يتخذوا قبره عيدا ودفن في حجرته، لئلا يتمكن أحد من ذلك، وكانت عائشة ساكنة فيها، فلم يكن في حياتها يدخل أحد لذلك، إنما يدخلون إليها هي، ولما توفّيت لم يبق بها أحد. ثم لما أدخلت في المسجد سدّت وبني الجدار البرّاني عليها فما بقي أحد يتمكن من زيارة قبره كالزيارة المعروفة عند قبر غيره، سواء كانت سنيّة أو بدعية، بل إنما يصل الناس إلى مسجده، ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبره البتة ولم يتكلّموا بذلك، وكذلك عامة التابعين لا يعرف هذا من كلامهم، فإن هذا المعنى ممتنع عندهم فلا يعبّر عن وجوده وهو قد نهى عن اتخاذ بيته وقبره عيدا. وسأل الله أن لا يجعل قبره وثنا ونهى عن اتخاذ القبور مساجد فقال: «اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». ولهذا كره مالك وغيره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلّم. ولو كان السلف ينطقون بهذا لم يكرهه مالك، وقد باشر التابعين بالمدينة وهو أعلم الناس بمثل ذلك، ولو كان في هذا حديث معروف عن النبي صلى الله عليه وسلّم لعرفه هؤلاء ولم يكره مالك وأمثاله من علماء المدينة، الإخبار بلفظ تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلّم، فقد كان رضي الله عنه يتحرى ألفاظ الرسول في الحديث، فكيف يكره النطق بلفظه؟ ولكن طائفة من العلماء سمّوا هذا زيارة لقبره وهم لا يخالفون مالكا ومن معه في المعنى، بل الذي يستحبه أولئك من الصلاة والسلام وطلب الوسيلة له صلى الله عليه وسلّم ونحو ذلك في مسجده يستحبه هؤلاء، لكن هؤلاء سمّوا هذا زيارة لقبره وأولئك كرهوا أن يسمّى هذا زيارة لقبره. وقد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحد من الأئمة الأربعة كسؤاله الاستغفار. وزاد بعض جهّال العامة ما هو محرم أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها، وأمثال ذلك مما ليس هذا موضعه. ومبدأ ذلك من الذين ظنوا أن هذا زيارة لقبره فظن هؤلاء أن الأنبياء والصالحين تزار قبورهم لدعائهم والطلب منهم واتخاذ قبورهم أوثانا حتى يفضلون تلك البقعة على المساجد، وإن بني عليها مسجد فضلوه على المساجد التي بنيت لله، وحتى قد يفضلون الحج إلى قبر من يعظمونه على الحج إلى البيت العتيق، إلى غير ذلك مما هو كفر وردة عن الإسلام باتفاق المسلمين.

فالذي تضافرت به النقول عن السلف قاطبة وأطبقت عليه الأمة قولا وعملا هو السفر إلى مسجده المجاور لقبره والقيام بما أمر الله به من حقوقه في مسجده، كما يقام بذلك في غير مسجده، لكن مسجده أفضل المساجد بعد المسجد الحرام عند الجمهور، وقيل: إنه أفضل مطلقا؛ كما نقل عن مالك وغيره. ولم يتطابق السلف والخلف على إطلاق زيارة قبره، ولا ورد بذلك حديث صحيح، ولا نقل معروف عن أحد من الصحابة، ولا كان الصحابة المقيمون بالمدينة من المهاجرين والأنصار إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه يجيئون إلى القبر ويقفون عنده ويزورونه، فهذا لم يعرف عن أحد من الصحابة. وقد ذكر مالك وغيره أن هذا من البدع التي لم تنقل عن السلف، وأن هذا منهيّ عنه وهذا الذي قاله مالك مما يعرفه أهل العلم الذين لهم عناية بهذا الشأن، يعرفون أن أصحابه لم يكونوا يزورون قبره لعلمهم بأنه قد نهى عن ذلك، ولو كان قبره يزار كما تزار القبور قبور أهل البقيع والشهداء شهداء أحد؛ لكان الصحابة يفعلون ذلك، إما بالدخول إلى حجرته، وإما بالوقوف عند قبره إذا دخلوا المسجد وهم لم يكونوا يفعلون لا هذا ولا هذا، بل هذا من البدع كما بين ذلك أئمة العلم، وهذا مما ذكره القاضي عياض وهو الذي قال: «زيارة قبره سنة مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها». وهو في هذا الفصل ذكر عن مالك أنه كره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلّم. وذكر فيه أيضا: «قال مالك في «المبسوط»: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر وإنما ذلك للغرباء. وقال مالك في المبسوط أيضا: ولا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلّم ويدعو له ولأبي بكر وعمر. قيل له: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة أو المرتين أو أكثر عند القبر فيسلّمون ويدعون ساعة؟ فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده». فقد بيّن مالك أنه لم يبلغه عن السلف من الصحابة المقيمين بالمدينة أنهم كانوا يقفون بالقبر عند دخول المسجد إلا لمن قدم من سفر، مع أن الذي يقصد السفر فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع. وقد ذكر القاضي عياض عن أبي الوليد الباجي أنه احتجّ لما كره مالك فقال: أهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم وقال صلى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وقال: «لا تجعلوا قبري عيدا». قلت: فهذا يبيّن أن وقوف أهل المدينة بالقبر وهو الذي يسمي زيارة لقبره من

البدع التي لم يفعلها الصحابة، وأن ذلك منهي عنه لقوله صلى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وقوله صلى الله عليه وسلّم: «لا تتخذوا قبري عيدا». وإذا كانت هذه الزيارة مما نهي عنها في الأحاديث فالصحابة أعلم بنهيه وأطوع له، فلهذا لم يكن بالمدينة منهم من يزور قبره باتفاق العلماء، وهذا الوقوف الذي يسميه غير مالك زيارة لقبره الذي بين مالك وغيره أنه بدعة لم يفعلها الصحابة؛ هي زيارة مقصود صاحبها الصلاة والسلام، كما بين ذلك في السؤال لمالك، لكن لما قال صلى الله عليه وسلّم: «لا تتخذوا قبري عيدا وصلّوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني». وروي مثل ذلك في السلام عليه؛ علم أنه كره تخصيص تلك البقعة بالصلاة والسلام، بل يصلّي عليه ويسلّم في جميع المواضع وذلك واصل إليه. فإذا كان مثل هذه الزيارة للقبر بدعة منهيا عنها فكيف من يقصد ما يقصده من قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم ويستغيث بهم ليس قصده الدعاء لهم. ومعلوم أن هذا أعظم في كونه بدعة وضلالا، فالسلف والخلف إنما تطابقوا على زيارة قبره بالمعنى المجمع عليه من قصد مسجده والصلاة فيه كما تقدم، وهذا فرق بينه وبين سائر قبور الأنبياء الصالحين، فإنه يشرع السفر إلى عند قبره لمسجده الذي أسّس على التقوى، فهذا السفر مشروع باتفاق المسلمين والصلاة مقصورة فيه باتفاق المسلمين. ومن قال: إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وليس ذلك سفرا لمجرد القبر، بل لا بد أن يقصد إتيان المسجد والصلاة فيه، وإن لم يقصد إلا القبر فهذا يندرج في كلام المجيب، حيث قال: أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين فهو ذكر القولين فيمن سافر لمجرّد قصد زيارة القبور، وأما من سافر لقصد الصلاة في مسجده عند حجرته التي فيها قبره فهذا سفر مشروع مستحب باتفاق المسلمين، وقد تقدم قول مالك للسائل الذي سأله عمن نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال: إن كان أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم فليأته وليصل فيه، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد». فالسائل سأله عن من نذر أن يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، ففصّل مالك في الجواب بين أن يريد القبر أو المسجد، مع أن اللفظ إنما هو نذر أن يأتي القبر، فعلم أن لفظ إتيان القبر وزيارة القبر والسفر إلى القبر ونحو ذلك يتناول من يقصد المسجد، وهذا مشروع يتناول من لم يقصد إلا القبر، وهذا منهي عنه كما دلّت عليه النصوص وبينه العلماء مالك وغيره. فمن نقل عن السلف أنهم استحبوا السفر لمجرد القبر دون المسجد بحيث لا يقصد المسافر المسجد ولا الصلاة فيه، بل إنما يقصد القبر كالصورة التي نهى عنها

مالك، فهذا لا يوجد في كلام أحد من علماء السلف استحباب ذلك فضلا عن إجماعهم عليه، وهذا الموضع يجب على المسلمين عامة وعلمائهم تحقيقه ومعرفة ما هو المشروع والمأمور به الذي هو عبادة الله وحده وطاعة له ولرسوله وبر وتقوى وقيام بحق الرسول، وما هو شرك وبدعة وضلالة منهي عنها لئلا يلتبس هذا بهذا، فإن السفر إلى مسجد المدينة مشروع باتفاق المسلمين، لكن إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، وقد تقدم عن مالك وغيره أنه إذا نذر إتيان المدينة إن كان قصده الصلاة في المسجد يوف بنذره وإلا لم يوف بنذره، وأما إذا نذر إتيان المسجد لزمه لأنه إنما يقصد الصلاة، فلم يجعل إلى المدينة سفرا مأمورا به إلا سفر من قصد الصلاة في المسجد، وهو الذي يؤمر به الناذر بخلاف غيره، لقوله صلى الله عليه وسلّم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى». وجعل من سافر إلى المدينة أو إلى بيت المقدس لغير العبادة الشرعية في المسجدين سفرا منهيا عنه لا يجوز أن يفعله وإن نذره، وهذا قول جمهور العلماء، فمن سافر إلى مدينة الرسول أو بيت المقدس لقصد زيارة ما هناك من القبور أو من آثار الأنبياء والصالحين؛ كان سفره محرما عند مالك والأكثرين، وقيل: إنه سفر مباح ليس بقربة، كما قاله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، وهو قول ابن عبد البر، وما علمنا أحدا من علماء المسلمين المجتهدين الذين تذكر أقوالهم في مسائل الإجماع والنزاع ذكر أن ذلك مستحب، فدعوى من ادّعى أن السفر إلى مجرد القبور مستحب عند جميع علماء المسلمين كذب ظاهر. وكذلك إن ادّعى أن هذا قول الأئمة الأربعة أو جمهور أصحابهم، أو جمهور علماء المسلمين فهو كذب بلا ريب، وكذلك إن ادّعى أن هذا قول عالم معروف من الأئمة المجتهدين، وإن قال: إن هذا قول بعض المتأخرين أمكن أن يصدّق في ذلك، وهو بعد أن يعرف صحة نقله؛ نقل قولا شاذا مخالفا لإجماع السلف مخالفا لنصوص الرسول، فكفى بقول فسادا أن يكون قولا مبتدعا في الإسلام مخالفا للسنة والجماعة لما سنّه الرسول ولما اجتمع عليه سلف الأمة وأئمتها، والنقل عن علماء السلف يوافق ما قاله مالك، فمن نقل عنهم ضد ذلك فقد كذب، وأقل ما في الباب أنه يجعل ممن طولب بصحة نقله والألفاظ المجملة التي يقولها طائفة قد عرف مرادهم. وعياض نفسه الذي ذكر أن زيارته سنة مجمع عليها قد بين الزيارة المشروعة في ذلك، وقد ذكر عياض في قوله: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ما هو ظاهر مذهب مالك أن السفر إلى غيرها محرّم، كما قاله مالك فهو أيضا يقول إن السفر لمجرد زيارة القبور محرم، كما قاله مالك وسائر أصحابه مع ما ذكره من استحباب الزيارة الشرعية ومع ما ذكره من كراهة مالك أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلّم.

فصل [خلط المعترض بين زيارة الأحياء وبين زيارة القبور]

فصل [خلط المعترض بين زيارة الأحياء وبين زيارة القبور] قال المعارض المناقض: وروى مسلم في صحيحه في الذي سافر لزيارة أخ له في الله ولفظ الحديث: «إن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في تلك القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا؛ إلا أني أحببته في الله. فقال: إني رسول الله إليك فإن الله أحبك كما أحببته فيه» «1». وفي موطأ مالك عن معاذ بن جبل في حديث ذكر فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: أي عن الله «وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتجالسين فيّ والمتزاورين فيّ والمتباذلين فيّ» «2». قال: «فقد علمت أيها الأخ بهذا فضيلة زيارة الإخوان وما أعد الله بها للزائرين من الفضل والإحسان، فكيف بزيارة من هو حي الدارين وإمام الثقلين الذي جعل الله حرمته في حال مماته كحرمته في حال حياته؟ ومن شرّفه الحق بما أعطاه من جميل صفاته، ومن هدانا ببركته إلى الصراط المستقيم، وعصمنا به من الشيطان الرجيم، ومن هو آخذ بحجزنا أن نقتحم في نار الجحيم، ومن هو بالمؤمنين رءوف رحيم؟». والجواب: أما زيارة الأخ الحيّ في الله كما في الحديث فهذا نظير زيارته في حياته يكون الإنسان بذلك من أصحابه وهم خير القرون، وأما جعل زيارة القبر كزيارته حيا كما قاسه هذا المعترض فهذا قياس ما علمت أحدا من علماء المسلمين قاسه، ولا علمت أحدا منهم احتج في زيارة قبره صلى الله عليه وسلّم بالقياس على زيارة الحي المحبوب في الله. وهذا من أفسد القياس. فإنه من المعلوم أنه من زار الحيّ حصل له بمشاهدته وسماع كلامه ومخاطبته وسؤاله وجوابه وغير ذلك ما لا يحصل لمن لم يشاهده ولم يسمع كلامه، وليس رؤية قبره أو رؤية ظاهر الجدار الذي بني على بيته

_ (1) أخرجه مسلم (2567). (2) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 354) - 51 - كتاب الشعر- (5) باب ما جاء في المتحابين في الله. وصحّح إسناده الحافظ ابن عبد البر- رحمه الله تعالى-.

بمنزلة رؤيته ومشاهدته ومجالسته وسماع كلامه، ولو كان هذا مثل هذا كان كل من زار قبره مثل واحد من أصحابه، ومعلوم أن هذا من أبطل الباطل. وأيضا فالسفر إليه في حياته؛ إما أن يكون لما كانت الهجرة إليه واجبة كالسفر قبل الفتح، فيكون المسافر إليه مسافرا للمقام عنده بالمدينة مهاجرا من المهاجرين إليه، وهذا السفر انقطع بفتح مكة قال صلى الله عليه وسلّم: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» «1». ولهذا لما جاء صفوان بن أمية مهاجرا أمره أن يرجع إلى مكة، وكذلك سائر الطّلقاء كانوا بمكة لم يهاجروا. وإما أن يكون المسافر إليه وافدا إليه ليسلّم عليه ويتعلّم منه ما يبلّغه قومه؛ كالوفود الذين كانوا يفدون إليه- لا سيما سنة عشر- سنة الوفود. وقد أوصى في مرضه قبل أن يموت بثلاث فقال: «أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفود بنحو مما كنت أجيزهم» «2». ومن الوفود وفد عبد القيس لما قدموا عليه ورجعوا إلى قومهم بالبحرين، لكن هؤلاء أسلموا قديما قبل فتح مكة، وقالوا: لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام لأن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وهم أهل نجد كأسد وغطفان وتميم وغيرهم، فإنهم لم يكونوا قد أسلموا بعد. وكان السفر إليه في حياته لتعلّم الإسلام والدين ولمشاهدته وسماع كلامه، وكان خيرا محضا، لم يكن أحد من الأنبياء والصالحين عبده في حياته بحضرته، فإنه كان ينهى من يفعل ما هو دون ذلك من المعاصي فكيف بالشرك؟ كما نهى الذين سجدوا له، والذين صلّوا خلفه قياما، وقال: «إن كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم، فلا تفعلوا» رواه مسلم «3». وفي المسند بإسناد صحيح عن أنس قال: «لم يكن شخص أحبّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك» «4». وفي الصحيح أن جارية قالت عنده: وفينا نبي يعلم ما في غد فقال: «دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين» «5».

_ (1) أخرجه البخاري (3077) ومسلم (1864) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (2) أخرجه البخاري (3053، 3168، 4431) ومسلم (1637) من حديث ابن عباس، ضمن حديث طويل وفيه: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم». (3) في «صحيحه» برقم (413). (4) أخرجه أحمد (3/ 132، 134، 151، 250) والبخاري في «الأدب المفرد» (946) والترمذي (2754). وهو حديث صحيح: انظر «الصحيحة» (358) و «الأدب المفرد» بتحقيق الشيخ الألباني (ص 334 - 335). (5) أخرجه البخاري (5147).

ومثل هذا كثير من نهيه عن المنكر بحضرته، فكل من رآه في حياته لم يتمكن أن يفعل بحضرته منكرا يقر عليه. وأما الذين يزورون القبور فيفعلون عندها من أنواع المنكرات ما لا يضبط، كما يفعل المشركون والنصارى وأهل البدع عند قبر من يعظّمونه من أنواع الشرك والغلو، وبحسبك أنه صلى الله عليه وسلّم لعن اليهود والنصارى لأجل اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، فإذا اتّخذ القبر مسجدا فقد لعن صاحبه. ومعلوم أنه لو كان حيا في المسجد لكان قصده في المسجد من أفضل العبادات، وقصد القبر الذي اتخذ مسجدا مما نهى عنه ولعن أهل الكتاب على فعله، وأيضا فليس عند قبره مصلحة من مصالح الدين وقربة إلى رب العالمين إلا وهي مشروعة في جميع البقاع، فلا ينبغي أن يكون صاحبها غير معظّم للرسول التعظيم التام والمحبة التامة إلا عند قبره، بل هو مأمور بهذا في كل مكان. فكانت زيارته في حياته مصلحة راجحة لا مفسدة فيها، والسفر إلى القبر لمجرده بالعكس مفسدة راجحة لا مصلحة فيها، بخلاف السفر إلى مسجده فإنه مصلحة راجحة وهناك يفعل من حقوقه ما يشرع كما في سائر المساجد. وهذا مما يبين به كذب الحديث الذي فيه: «من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي» «1». وهذا الحديث معروف من رواية حفص بن سليمان الغاضري، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من حجّ فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي». وقد رواه عنه غير واحد، وهو عندهم معروف من طريقه، وهو عندهم ضعيف في الحديث إلى الغاية حجة في القراءة. قال يحيى بن معين: حفص ليس بثقة. وقال الجوزجاني: قد فرغ منه منذ دهر «2». وقال البخاري: تركوه. وقال مسلم بن الحجاج: متروك. وقال علي بن المديني: ضعيف الحديث، وتركته على عمد. وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال مرة: متروك. وقال صالح بن محمد: لا يكتب حديثه، وأحاديثه كلها مناكير. وقال زكريا الساجي: يحدث عن سماك وغيره، أحاديثه بواطيل. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: لا يكتب حديثه، هو ضعيف لا يصدق متروك الحديث. وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال الدارقطني ضعيف. وقال ابن عدي: وعامة أحاديثه عمن يروي عنه غير محفوظة. وقد رواه الطبراني في «المعجم» من حديث الليث بن بنت ليث بن أبي سليم،

_ (1) تقدم تخريجه والكلام عليه. (2) «أحوال الرجال» ترجمة رقم (174).

عن زوجة جده عائشة، عن ليث. وهذا الليث وزوجة جده مجهولان لأن ليثا غير معروف بضبط ولا عدالة مع غرابتهما، ونفس المتن باطل. فإن الأعمال التي فرضها الله ورسوله لا يكون الرجل بها مثل الواحد من الصحابة. بل في الصحيحين عنه أنه قال: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» «1». فالجهاد والحج ونحوهما أفضل من زيارة قبره باتفاق المسلمين، ولا يكون الرجل بهما كمن سافر إليه في حياته ورآه، كيف وذاك إما أن يكون مهاجرا إليه كما كانت الهجرة قبل الفتح، أو من الوفود الذين كانوا يفدون إليه يتعلّمون الإسلام ويبلّغونه عنه إلى قومهم، وهذا عمل لا يمكن أحدا بعدهم أن يفعل مثله. ومن شبّه من زار قبر شخص بمن كان يزوره في حياته فهو مصاب في عقله ودينه. والزيارة الشرعية لقبر الميت مقصودها الدعاء له والاستغفار كالصلاة على جنازته، والدعاء المشروع المأمور به في حق نبينا- كالصلاة عليه والسلام عليه وطلب الوسيلة له- مشروع في جميع الأمكنة لا يختصّ بقبره، فليس عند قبره عمل صالح تمتاز به تلك البقعة، بل كل عمل صالح يمكن فعله هناك يمكن فعله في سائر البقاع، لكن مسجده أفضل من غيره. فللعبادة فيه فضيلة بكونها في مسجده، كما قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» «2». والعبادات المشروعة فيه بعد دفنه مشروعة فيه قبل أن يدفن النبي صلى الله عليه وسلّم في حجرته، وقبل أن تدخل حجرته في المسجد، ولم يتجدد بعد ذلك فيه عبادة غير العبادات التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم وغير ما شرعه هو لأمته ورغّبهم فيه ودعاهم إليه، وما يشرع للزائر من صلاة وسلام ودعاء له وثناء عليه كل ذلك مشروع في مسجده في حياته، وهي مشروعة في سائر المساجد، بل وفي سائر البقاع التي تجوز فيها الصلاة، وهو صلى الله عليه وسلّم قد جعلت له ولأمته الأرض مسجدا وطهورا، فحيثما أدركت أحدا الصلاة فليصلّ فإنه مسجد، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلّم «3». ومن ظن زيارة القبر تختص بجنس من العبادة لم تكن مشروعة في المسجد، وإنما شرعت لأجل القبر فقد أخطأ، لم يقل هذا أحد من الصحابة والتابعين، وإنما غلط في بعض هذا بعض المتأخرين، وغاية ما نقل عن بعض الصحابة- كابن عمر- أنه كان إذا قدم من سفر يقف عند القبر ويسلم، وجنس السلام عليه مشروع في

_ (1) أخرجه البخاري (3673) ومسلم (2540) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاري (1190) ومسلم (1394) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) انظر البخاري (335، 438، 3122) ومسلم (521).

المسجد وغير المسجد قبل السفر وبعده، وأما كونه عند القبر فهذا كان يفعله ابن عمر إذا قدم من سفر. وكذلك الذين استحبوه من العلماء استحبوه للصادر والوارد من المدينة وإليها من أهلها، أو الوارد والصادر من المسجد من الغرباء، مع أن أكثر الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك، ولا فرّق أكثر السلف بين الصادر والوارد، بل كلهم ينهون عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وقد قال أبو الوليد الباجي: إنما فرّق بين أهل المدينة وغيرها لأن الغرباء قصدوا لذلك وأهل المدينة يقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم. وقال: قال صلى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وقال: «لا تجعلوا قبري عيدا»، وهذا الذي ذكره من أوله سواء في النهي. فإن قوله: «لا تجعلوا- أو: لا تتخذوا- بيتي عيدا» نهي لكل أمته؛ أهل المدينة والقادمين إليها، وكذلك نهيه عن اتخاذ القبور مساجد وخبره بأن غضب الله اشتدّ على من فعل ذلك هو متناول للجميع، وكذلك دعاؤه بأن لا يتّخذ قبره وثنا عام. وما ذكره من أن الغرباء قصدوا لذلك تعليقا على العلة ضد مقتضاها، فإن القصد لذلك منهيّ عنه، كما صرّح به مالك وجمهور أصحابه، وكما نهى عنه وليس بقربة وإذا كان منهيا عنه لم يشرع الإعانة عليه، وكذلك إذا لم يكن قربة. وابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يسافر إلى المدينة لأجل القبر بل المدينة وطنه، وكان يخرج عنها لبعض الأمور ثم يرجع إلى وطنه، فيأتي المسجد فيصلي فيه ويسلّم، فأما السفر لأجل القبور فلم يعرف عن أحد من الصحابة؛ بل ابن عمر كان يقدم إلى بيت المقدس فلا يزور قبر الخليل. وكذلك أبوه عمر ومن معه من المهاجرين والأنصار قدموا إلى بيت المقدس ولم يذهبوا إلى قبر الخليل، وسائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر إلى قبر الخليل ولا غيره، كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر كما تقدم. وما كان قربة للغرباء فهو قربة لأهل المدينة كإتيان قبور الشهداء وأهل البقيع، وما لم يكن قربة لأهل المدينة لم يكن لغيرهم؛ كاتخاذ بيته عيدا واتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا، وكالصلاة إلى الحجرة والتمسح بها وإلصاق البطن بها والطواف بها، وغير ذلك مما يفعله جهال القادمين فإن هذا بإجماع المسلمين ينهى عنه الغرباء كما نهي عنه أهل المدينة، ينهون عنه صادرين وواردين باتفاق المسلمين، وبالجملة فجنس الصلاة والسلام عليه والثناء عليه ونحو ذلك مما استحبه بعض العلماء عند القبر الواردين أو الصادرين هو مشروع في مسجده وسائر المساجد. وأما ما كان سؤالا له فهذا لم يستحبه أحد من السلف لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم. ثم بعض من يستحب هذا من المتأخرين يدعونه مع الغيب، فلا يختص هذا

عندهم بالقبر، وأما نفس داخل بيته عند قبره فلا يمكن أحدا الوصول إلى هناك، ولم يشرع هناك عمل يكون هناك أفضل منه في غيره، ولو شرع لفتح باب الحجرة للأمة، بل قد قال: «لا تتخذوا بيتي عيدا وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم». وقد تقدم ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن عبد العزيز الدراوردي، عن سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فناداني فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلّمت على النبي صلى الله عليه وسلّم. فقال: إذا دخل المسجد فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلّوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني». ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء. وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وغيرها من الشام؛ مثل معاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء. وغيرهم لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر لقبر من القبور التي بالشام لا قبر الخليل ولا غيره، كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وكذلك الصحابة الذين كانوا بالحجاز والعراق وسائر البلاد كما قد بسط في غير هذا الموضع. وروى سعيد بن منصور في سننه أن رجلا كان ينتاب قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال له حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب: يا هذا؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تتخذوا قبري عيدا وصلّوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني». فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء. فإن قيل: الزائر في الحياة إنما أحبه الله لكونه يحبه في الله، والمؤمنون يحبون الرسول أعظم، وكذلك يحبون سائر الأنبياء والصالحين، فإذا زاروهم أثيبوا على هذه المحبة. قيل: حب الرسول من أعظم واجبات الدين. وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «ثلاث من كنّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان؛ من كان الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، ومن كان يحبّ المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار» «1». وفي الحديث الصحيح، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» «2». وفي البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم وهو آخذ بيد عمر فقال: يا رسول الله؛ لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا والذي نفسي بيده؛ حتى أكون أحبّ إليك من نفسك». فقال له عمر: إنه الآن والله لأنت إليّ أحب من نفسي. قال: «الآن يا عمر» «3». وتصديق هذا في القرآن في قوله: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ

_ (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم تخريجهما. (3) تقدم تخريجهما.

مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6] وفي قوله: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ [التوبة: 24] الآية. وقال: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] إلى قوله: بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22]. وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6] وأما من مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه» «1». وفي حديث آخر: «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به» «2». لكن حبّه وطاعته وتعزيره وتوقيره، وسائر ما أمر الله به من حقوقه؛ مأمور به في كل مكان، لا يختص بمكان دون مكان، وليس من كان في المسجد عند القبر بأولى بهذه الحقوق ووجوبها عليه ممن كان في موضع آخر. ومعلوم أن زيارة قبره كالزيارة المعروفة للقبور غير مشروعة ولا ممكنة. ولو كان في زيارة قبره عبادة زائدة للأمة لفتح باب الحجرة ومكّنوا من فعل تلك العبادة عند قبره، وهم لم يمكّنوا إلا من الدخول إلى مسجده. والذي يشرع في مسجده

_ (1) أخرجه البخاري (2399، 4781). (2) أخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخه» (4/ 369) والبغوي في «شرح السنة» (1/ 212 - 213/ 104) وابن أبي عاصم في «السنة» (15) وابن بطة في «الإبانة» - الكتاب الأول- (1/ 387 - 388/ 279) وأبو إسماعيل الهروي في «ذم الكلام وأهله» (2/ 254 - 255/ 320) والحسن بن سفيان النسوي في «الأربعين» رقم (9) وأبو القاسم الأصبهاني في «الحجة في بيان المحجة» (1/ 251/ 103) والبيهقي في «المدخل» (209) والسّلفي في «معجم السفر» (1265) - الفكر- وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 22 - 23) - العلمية-. من طريق: نعيم بن حماد، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو بن العاص به مرفوعا. وإسناده ضعيف. نعيم بن حماد: «صدوق يخطئ كثيرا» وقد تفرّد به، واختلف فيه عليه؛ فمرة يرويه عبد الوهاب عن هشام. ومرة يقول: حدّثنا بعض مشايخنا أو مشيختنا- هشام أو غيره .. وعبد الوهاب الثقفي؛ قال ابن سعد: «كان ثقة، وفيه ضعف». ووثقه ابن حبان وغيره. قلت: والحديث صحّحه الحافظ النووي في «الأربعين النووية». وقال الحافظ في «الفتح» (13/ 302): «أخرجه الحسن بن سفيان، ورجاله ثقات، وقد صحّحه النووي في آخر الأربعين». وليس كما قالا؛ فالحديث معلّ. وقد تكلم الحافظ النقّاد ابن رجب الحنبلي- رحمه الله- على علل الحديث بما فيه الكفاية في «جامع العلوم والحكم» (ص 724 - 725) - ابن الجوزي- و (2/ 394 - 395) - الرسالة-. وقال: «صحيح هذا الحديث بعيد جدا في وجوه .. » ثم ذكرها، فانظره لزاما. والحديث ضعفه المحدث الألباني في «المشكاة» (167) وفي «ظلال الجنة» (15).

يشرع في سائر المساجد، لكن مسجده أفضل من سائرها غير المسجد الحرام على نزاع في ذلك، وما يجده المسلم في قلبه من محبّته والشوق إليه، والأنس بذكره، وذكر أحواله، فهو مشروع له في كل مكان، وليس في مجرد زيارة ظاهر الحجرة ما يوجب عبادة لا تفعل بدون ذلك، بل نهى عن أن يتّخذ ذلك المكان عيدا وأن يصلّى عليه حيث كان العبد، ويسلّم عليه، فلا يخصّ بيته وقبره لا بصلاة عليه ولا بسلام عليه، فكيف بما ليس كذلك؟ وإذا خصّ قبره بذلك صار ذلك في سائر الأمكنة دون ما هو عند قبره ينقص حبه وتعظيمه وتعزيره وموالاته والثناء عليه عند غير قبره، كما يفعل عند قبره كما يجده الناس في قلوبهم إذا رأوا من يحبونه ويعظّمونه يجدون في قلوبهم عند قبره مودة له ورحمة ومحبة أعظم مما يكونون بخلاف ذلك. والرسول هو الواسطة بينهم وبين الله في كل مكان وزمان، فلا يؤمرون بما يوجب نقص محبتهم وإيمانهم في عامة البقاع والأزمنة، مع أن ذلك لو شرع لهم لأشغلوا بحقوقهم عن حقّه، واشتغلوا بطلب الحوائج منه كما هو الواقع، فيدخلون في الشرك بالخالق وفي ترك حق المخلوق. فينقض تحقيق الشهادتين؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وأما ما شرعه لهم من الصلاة والسلام عليه في كل مكان، وأن لا يتخذوا بيته عيدا ولا مسجدا، ومنعهم من أن يدخلوا إليه ويزوروه كما تزار القبور؛ فهذا يوجب كمال توحيدهم للرب، وكمال إيمانهم بالرسول ومحبته وتعظيمه، حيث كانوا واهتمامهم بما أمروا به من طاعته، فإن طاعته هي مدار السعادة وهي الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار، فأهل طاعته هم أولياء الله المتقون وجنده المفلحون وحزبه الغالبون، وأهل مخالفته ومعصيته بخلاف ذلك «1». والذين يقصدون الحج إلى قبره وقبر غيره ويدعونهم ويتخذونهم أندادا؛ هم من أهل معصيته ومخالفته، لا من أهل طاعته وموافقته، فهم في هذا الفعل من جنس أعدائه لا من جنس أوليائه. وإن ظنوا أن هذا من موالاته ومحبته، كما يظن النصارى أن ما هم عليه من الغلوّ في المسيح والشّرك به من جنس محبته وموالاته. وكذلك دعاؤهم للأنبياء والموتى؛ كإبراهيم وموسى وغيرهما، ويظنون أن هذا من محبتهم وموالاتهم، وإنما هو من جنس معاداتهم. ولهذا يتبرّءون منهم يوم القيامة، وكذلك الرسول يتبرأ ممن عصاه، وإن كان قصده تعظيمه والغلو فيه. قال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] إلى قوله: تَعْمَلُونَ [الشعراء: 216].

_ (1) وانظر في ذلك «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» للمصنف- رحمه الله تعالى-.

فقد أمر الله المؤمنين أن يتبرءوا من كل معبود غير الله ومن كل من عبده، قال تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4]. وكذلك سائر الموتى ليس في مجرد رؤية قبورهم ما يوجب لهم زيادة المحبة إلا لمن عرف أحوالهم بدون ذلك فيتذكر أحوالهم فيحبهم، والرسول يذكر المسلمون أحواله ومحاسنه وفضائله وما منّ الله به عليه ومنّ به على أمته، فبذلك يزداد حبهم له وتعظيمهم له لا بنفس رؤية القبر، ولهذا تجد العاكفين على قبور الأنبياء والصالحين من أبعد الناس عن سيرتهم ومتابعتهم. وإنما قصد جمهورهم التأكّل والترؤس بهم، فيذكرون فضائلهم ليحصل لهم بذلك رئاسة أو مأكلة، لا ليزدادوا لهم حبا وخيرا. وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن من شرار النّاس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتّخذون القبور مساجد» «1». وما ذكره هذا من فضائله فبعض ما يستحقه صلى الله عليه وسلّم، والأمر فوق ما ذكره أضعافا مضاعفة، لكن هذا يوجب إيماننا به، وطاعتنا له، واتباع سنته، والتأسي به والاقتداء،

_ (1) أخرجه أحمد (1/ 405، 435) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (4/ 140) وابن حبان في «صحيحه» (15/ 260 - 261/ 6847) والطبراني في «المعجم الكبير» (10/ رقم: 10413) والبزار (4/ 151/ 3420) - كشف- وابن خزيمة في «صحيحه» (789) وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (1/ 142). من طريق: زائدة، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود مرفوعا. وإسناده حسن. عاصم بن أبي النجود؛ روى له البخاري ومسلم مقرونا، فحديثه حسن. وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين. والحديث علّقه البخاري في «صحيحه» رقم (7067) قال: «وقال أبو عوانة: عن عاصم ... » فذكره. وأخرجه أحمد (1/ 454) والبزار (4/ 151/ 2421) من طريق: قيس بن الربيع الأسدي، عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن عبيدة السلماني، عن ابن مسعود به. وهو حسن بما قبله كما قال الشيخ الألباني. والحديث قال عنه الهيثمي في «المجمع» (2/ 27): «رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن». وقال أيضا (8/ 13): «رواه البزار بإسنادين في أحدهما عاصم بن بهدلة، وهو ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح». وفاته عزو الحديث لأحمد في الموضعين. وقال شيخ الإسلام في «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 674): «إسناده جيد». وقال المحدث أحمد شاكر- رحمه الله- في تحقيقه على «المسند» (3844): «إسناده صحيح»! وإنما هو حسن الإسناد. وحسن إسناده الألباني في «تحذير الساجد» (ص 19) و «أحكام الجنائز» (ص 278).

ومحبتنا له، وتعظيمنا له، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، ومتابعة سنته، فإذا هذا هو طريق النجاة والسعادة، وهو سبيل الخلق ووسيلتهم إلى الله تعالى. ليس في هذا ما يوجب معصيته ومخالفة أمره، والشرك بالله، واتباع غير سبيل المؤمنين السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان. وهو قد قال: «لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد». وقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يحذّر ما فعلوا. وقال: «لا تتخذوا قبري عيدا وصلّوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني». وقال: «خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها وكلّ بدعة ضلالة» رواه مسلم «1». وقال: «إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كلّ بدعة ضلالة» «2» رواه أهل السنن، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. إلى غير ذلك من الأدلة التي تبين أن الحجّاج إلى قبورهم من المخالفين للرسول صلى الله عليه وسلّم الخارجين عن شريعته وسنته، لا من الموافقين له المطيعين له، كما بسط في غير هذا الموضع.

_ (1) في «صحيحه» رقم (868). (2) أخرجه أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود (4607) وابن بطة في «الإبانة» (1/ 305/ 142) وابن حبان (1/ 187/ 5) والدارمي في «سننه» (1/ 57/ 95) والآجري في «الشريعة» (1/ 171/ 92، 93) وابن أبي عاصم في «السنة» (32). من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عمر السّلمي وحجر بن حجر الكلاعي، عن العرباض بن سارية مرفوعا. وأخرجه أحمد (4/ 126) والترمذي (2678) وابن ماجه (43) والطبراني في «المعجم الكبير» (18/ رقم: 617) والحاكم (1/ 96) والآجري في «الشريعة» (1/ 172/ 94) وابن أبي عاصم في «السنة» (33). من طريق: معاوية بن صالح، عن صخرة بن حبيب، عن عبد الرحمن بن عمرو السّلمي، عن العرباض بن سارية به مرفوعا. والحديث صحيح كما قال الحاكم، ووافقه عليه الذهبي. وصححه الألباني في «الصحيحة» رقم (937).

فصل [تعدي المعترض على المصنف، وجواب المصنف عليه]

فصل [تعدّي المعترض على المصنف، وجواب المصنف عليه] ثم قال المعترض: «وقد ذكر هذا القائل أن السفر إلى زيارة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلّم معصية يحرّم فيه القصر، فارتكب بذلك أمرا عظيما، وخالف فيه السادة العلماء وأئمة العصر، فمقتضى ذلك أن يسوّي بينه وبين السفر لقتل النفوس، والحامل له على ذلك سوء معتقده وذهنه المعكوس، فهو كمن أضلّه الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فقلبه لا يقبل الحق لما نازله من الظلمة والغشاوة». والجواب أن يقال: ما في هذا الكلام من السبّ والشتم ليس هو علما يستحق الجواب عليه، ويمكن الإنسان أن يقابله بأضعاف ذلك ويكون صادقا لا يكون كاذبا مثله، ويتبين أنه من أجهل الناس وأسوئهم فهما وأقلهم علما، وأنه إلى التفهيم والتعليم أحوج منه إلى خروجه عن الصراط المستقيم، وهو إلى التعزير والتأديب والتقويم أحوج منه إلى أن يقفو ما ليس له به علم، ويقول على الله ما لا يعلم، وقد قال تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف: 33] الآية، وهؤلاء الذين يستحبون الحج إلى القبور ودعاء أهلها من دون الله يشركون بالله ما لم ينزّل به سلطانا، ويقولون على الله ما لا يعلمون، ويجعلون ذلك من جنس حج بيت الله ويقرنونه به، وهو لما ذكر الحج، قال: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ [الحج: 26] إلى قوله: عَمِيقٍ [الحج: 27]. ولما ذكر تعظيم حرماته وشعائره في الحج قال: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج: 30] إلى قوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الحج: 35]. فهو قد ذكر التوحيد هاهنا وأمر باجتناب الشرك واجتناب قول الزور فقرن بينهما، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» «1». وهؤلاء الضّلال

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 321) وأبو داود (3599) والترمذي (2300) وابن ماجه (2372) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (17/ 112) والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 223 - 224/ 4861) والطبراني في «الكبير» (4/ رقم: 4162) والمزي في «تهذيب الكمال» (3/ 446 - 447).

لهم نصيب من الشّرك بالله، ونصيب من قول الزور: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج: 71]. وهذا المعترض لم يفهم ما قاله المجيب، بل كذب عليه كذبا يعلم جميع الناس أنه كذب، ولم يعرف ما قاله العلماء لا مالك ولا غيره، ونفس الذي أنكره على المجيب صرّح به مالك تصريحا لم يصرح مثله المجيب، فإن المجيب لم يذكر أن السفر إلى مسجده وزيارته على الوجه المشروع معصية، ولا ذكر أن ما يريده العلماء بالسفر إلى قبره وهو السفر إلى مسجده معصية. بل قد صرّح بأنه سفر طاعة مستحبّ، وكذلك ذكر ما ذكره العلماء من استحباب زيارته والدعاء وما يتعلق بذلك. وذكر لفظا عاما فيمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وحكى قولين معروفين عند أهل العلم؛ وهما قولان معروفان عند أصحاب الشافعي وأحمد. ومالك وأصحابه رضي الله عنهم أظهر قولا بتحريم السفر إلى زيارة القبور، وقد صرّح مالك بأن قبر

_ - من طريق: محمد بن عبيد، حدّثني سفيان بن زياد العصفري، عن أبيه، عن حبيب بن النعمان الأسدي، عن خريم بن فاتك مرفوعا. وإسناده ضعيف؛ فيه علتان: الأولى: جهالة حبيب بن النعمان الأسدي. الثانية: الاضطراب؛ فقد خالف مروان بن معاوية الفزاري محمد بن عبيد فيه؛ فرواه عن سفيان بن زياد، عن فاتك بن فضالة، عن أيمن بن خريم مرفوعا. أخرجه أحمد (4/ 178، 233، 322) والترمذي (2299) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (17/ 112) وابن قانع في «معجم الصحابة» (2/ 492/ 86) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (2/ 374/ 996) والمزي في «تهذيب الكمال» (3/ 446) وابن الأثير في «أسد الغابة» (1/ 188) - ووقع عنده: «سفيان عن زياد» وهو تصحيف-. قال الترمذي: «هذا حديث غريب؛ إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد، واختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي صلى الله عليه وسلّم». قلت: وفاتك بن فضالة مجهول الحال. والحديث ضعفه المحدث الألباني في «السلسلة الضعيفة» (1110). قلت: لكن له شاهد- لم يذكره الشيخ- رحمه الله- وهو من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 224/ 4862) والطبراني في «المعجم الكبير» (9/ رقم: 8569). من طريق: سفيان الثوري، عن عاصم بن أبي النجود، عن وائل بن ربيعة، عن عبد الله بن مسعود به مرفوعا. وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 201): «وإسناده حسن». وعاصم بن أبي النجود؛ تقدم أنه حسن الحديث. والحديث صحّحه المصنف في «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 758). وإنما هو حسن فقط، باعتبار شاهد حديث ابن مسعود، والله أعلم بالصواب.

النبي صلى الله عليه وسلّم هو مما نهي عن شدّ الرحال إليه، وأن من نذر ذلك لا يجوز أن يوفي بنذره، بل مذهبه المعروف عنه في عامة كتب أصحابه أولهم وآخرهم، في الكتب الصغار والكبار؛ أن السفر إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلّم وإلى بيت المقدس لغير الصلاة في المسجدين منهيّ عنه، وإن نذره ناذر لم يكن له أن يفعله لأنه منهي عنه، فلا يجوز عنده السفر إلى هاتين المدينتين إلا لأجل الصلاة في المسجدين، لا لأجل زيارة قبر ولا مسجد آخر، ولا أثر من الآثار، ولا غير ذلك مما يقصد به فضل مكان معين. وأما من سافر لتجارة أو طلب علم أو غير ذلك فليس هذا من هذا الباب. فإن هذا ليس قصده متعلقا بعين المكان. وأما السفر إلى سائر الأمصار لأجل مساجدها أو قبر فيها فلا يجوز عنده بحال، ثم إن مذهبه أن السفر المحرم لا تقصر فيه الصلاة. وأما المجيب فلم يجزم بأن الصلاة لا تقصر فيه كما ذكره هذا المفتري، بل ذكر قول هؤلاء وقول هؤلاء، ولم يرجّح قول من منع القصر، ولكن ذكر حجة من نهى عن السفر إلى غير الثلاثة فلما ذكرها تبيّن أنها الراجحة، وأنه ليس مع أولئك ما يعارضها. وأما قوله: إنه خالف في ذلك السادة العلماء وأئمة العصر. فيقال: هذا باطل؛ فإنه لم يخالف في ذلك أحدا من علماء المسلمين، وأئمة الدين المعروفين عند المسلمين بأنهم أئمة الدين. وأما من تكلم بلا علم أو تكلّم بالهوى والجهل، فهذا ليس من أئمة الدين، ولا يذكر المسلمون قول مثل هذا في كتبهم على أن يتبع ويقتدى به، بل قال تعالى للخليل لما قال: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124]. فبيّن أن عهده بالإمامة لا ينال ظالما، فلا يكون الظالم إماما للمتقين، بل قال تعالى: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ [السجدة: 24] فالأئمة الذين يهدون بأمر الله هم أهل الصبر واليقين، والله تعالى أخبر أنه جعل إبراهيم وإسحاق ويعقوب أئمة يهدون بأمره، وإبراهيم إمام الحنفاء والداعي إلى توحيد الله وعبادته وحده، والتبرؤ من عبادة ما سوى الله ومن العابدين لغيره وقد أخبر الله أنه لا يرغب عن ملته إلا من كان سفيها جاهلا، وقال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120] والأمة هو: القدوة الذي يؤتم به. وكان ابن مسعود يقول: إن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا، فيقولون: إن إبراهيم. فيقول: إن معاذا. فيعلمون أنه لم يرد التلاوة، وإنما أراد أن يعرّفهم أن معاذا كان إماما. وكل من جعله الله إماما فإنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن دعاء ما سواه، لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة، ينهون عن دعاء الملائكة والأنبياء فضلا عمن سواهم. وبهذا بعث الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب، وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، قال تعالى:

وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45]. وقال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36]. وقال تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران: 79] إلى قوله: مُسْلِمُونَ [آل عمران: 80]. والحج إلى قبورهم ودعاؤهم من دون الله من الشرك بهم واتخاذهم أربابا، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [الأنعام: 161] إلى قوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 163]. فمن أمر الناس أن يحجّوا إلى قبر مخلوق أو يدعوه؛ فقد أمرهم أن يجعلوا صلاتهم ونسكهم لغير الله، وهذا من الأئمة الذين يدعون إلى النار، لا من أئمة الهدى والتقى. فالقولان اللذان ذكرهما هما القولان المعروفان عن علماء المسلمين وأئمة الدين، وما عرف لهم قول ثالث. فمن قال قولا ثالثا فحسبه أن يحكي قوله ويبيّن خطؤه، لا يجعل قوله مقدّما على أقوال السلف الماضين وأئمة الدين وعلماء المسلمين. ولم يخالفهم أحد بحجة في الدين، ولا نقل قوله عن أحد من أئمة المسلمين، ولكن حججهم من جنس هذا وأمثاله. وقد صنف من هو أفضل منه، مصنفا أكبر من مصنفه، وحججهم كلها يشبه بعضها بعضا، ليست من حجج علماء المسلمين ولا ينقلونها، ولا موجبها عن أحد من أئمة الدين، بل هي من جنس حجج النصارى والمشركين، إما نقل عن الأنبياء هو كذب عليهم، كالأحاديث التي يحتجون بها في أنه رغّب في زيارة قبره، وكلها كذب، كما يحتج النصارى وأهل البدع بما يفعلونه من الكذب على الأنبياء. وإما ألفاظ متشابهة يحرفون فيها الكلم عن مواضعه، ويضعونها على غير مواضعها، ويدعون المحكم المنصوص كما تفعل النصارى وأهل البدع؛ يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ويدعون المحكم المبين الذي هو أم الكتاب. وإما احتجاجهم بقول من ليس قوله حجة ولا يجب اتباعه. وإما أحوال شيطانية؛ وهذه حجج النصارى وأمثالهم، وأهل الضلال المخالفين للأنبياء وأئمة الهدى، كما قال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] فلا نقل مصدّق ولا بحث محقّق، بل هذيان مزوّق، يروج على هذا وأمثاله من الجهّال الذين لا يعرفون دين المسلمين في هذه المسألة وأمثالها، ولا يفرّقون بين عبادة الرحمن وعبادة الشيطان، ولا بين الأنبياء والمرسلين أهل التوحيد والإيمان، وبين أهل البدع المضاهين لعبّاد الصلبان. وأما قوله: «فمقتضى ذلك أن يسوّى بينه وبين السفر لقتل النفوس إلخ».

من اعتقد أن السفر إلى قبر شيخ أو إمام أفضل من الحج فهو كافر

فعنه أجوبة، أحدها: أن هذا يلزم مثله فيمن سافر إلى المساجد للصلاة كمن سافر من مصر إلى الشام ليصلي في جامع دمشق، أو سافر من الشام ليصلي في جامع مصر، فهذا السفر منهي عنه أو غير مستحب عند الأئمة، وهو سفر معصية عند مالك وجمهور أصحابه، والأكثرين لا تقصر فيه الصلاة بمقتضى هذا الحديث، فقد سوّى بينه وبين السفر لقتل النفوس. الثاني: أن المحرمات إذا اشتركت في جنس التحريم كان الشرك محرما والنظرة محرمة، ولم يلزم من ذلك أن يسوّى بين الكفر بالمعاصي ولا الكبائر بالصغائر. الثالث: أن يقال: بل قد يكون الحج إلى القبور أعظم من قتل النفوس، وقد يكون شركا ينقل عن الملة، فإن كثيرا من هؤلاء يعتقد أن السفر إلى قبر الشيخ أو الإمام أو النبي أفضل من الحج، ويسمّونه الحج الأكبر، وينادي مناديهم من أراد الحج الأكبر أي السفر لزيارة بعض القبور المنسوبة إلى بعض أهل البيت، ومنهم من يقول له صاحبه: تبيعني زيارتك للشيخ بكذا وكذا حجّة، فلا يفعل. ويصنّف علماؤهم كتبا في مناسك حج المشاهد، كما صنّف المفيد بن النعمان. ومن الناس من يحج إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم ثم يرجع من هناك لا يحج إلى البيت العتيق، ويقول: هذا هو المقصود. ومنهم من يحلف فيقول: وحقّ النبي الذي تحج المطايا إليه، ومنهم من يصلّي إلى قبر شيخه ويستقبله في الصلاة، ويقول: هذه قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة! وأنا أعرف من فعل هذا وهذا وهذا، وهم قوم لهم عبدة وزهد ودين، لكن فيهم جهل وضلال، كما أن رهبان النصارى وغيرهم هم من أزهد الناس وأعظمهم اجتهادا في العبادة، لكن بجهل وضلال، والله تعالى قد أمرنا أن نقول في صلاتنا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6، 7]. وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون» «1». قال الترمذي: حديث حسن. وهكذا قال السلف. قال ابن أبي حاتم في تفسيره: لا أعلم خلافا في هذا الحرف بين المفسرين «2». [من اعتقد أن السفر إلى قبر شيخ أو إمام أفضل من الحج فهو كافر] ومعلوم أن من اعتقد أن السفر إلى قبر شيخ أو إمام أو نبي أفضل من الحج؛

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 378) والترمذي (2953، 3954) وابن حبان (16/ رقم: 7206) وغيرهم. مطولا ومختصرا. وصححه الشيخ الألباني في تخريج «الطحاوية» رقم (811). (2) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (1/ 31/ 40).

فهو كافر، ولو قتل نفسا مع اعتقاده أن ذلك محرّم وأنه مذنب لكان ذنبه أخفّ من ذنب من جعل الحجّ إلى الأوثان أفضل من الحج إلى بيت الرحمن. وقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» دليل على أن القبور قد تجعل أوثانا، وهو صلى الله عليه وسلّم خاف من ذلك فدعا الله أن لا يفعله بقبره، واستجاب الله دعاءه رغم أنف المشركين الضّالين الذين يشبّهون قبر غيره بقبره، ويريدون أن يجعلوه وثنا يحجّ إليه ويدعى من دون الله. والله قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، فلا يقدر أحد من البشر أن يصل إلا إلى مسجده الذي هو بيت الله تعالى الذي بني لعبادة الله وحده، لا يصل إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلّم البتة، ولو كان قصده بيت المخلوق دون بيت الخالق فالله تعالى لا يوصله إلا إلى بيت الخالق رحمة من الله بهذه الأمة، وإجابة لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلّم تسليما. فإذا فعل في بيت الله من الشرك والبدع ما لا يجوز فهذا يختص به، كما كان المشركون يشركون عند البيت، ليس هذا الضّلال متعلقا بقبره، ولا يمكن أن يفعل في نفس قبر الرسول وبيته ما يمكن أهل الشرك والضلال أن يفعلوه عند القبور، والحمد لله رب العالمين. ولكن عند قبر غيره قد يفعلون ما هو من جنس فعل النصارى، بل حتى قد يفضّل هذا الشرك على التوحيد، فما كفاهم جعل الشرك كالتوحيد بل جعلوا الشرك أفضل من التوحيد، وقد قال سفيان الثوري: «البدعة أحبّ إلى إبليس من المعصية، لأن المعصية قد يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها» «1». وقد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم رجل يشرب الخمر، يقال له عبد الله [وكان يلقب] حمارا، فلعنه رجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تلعنه فإنه يحبّ الله ورسوله» رواه البخاري «2». ولما أتى ذو الخويصرة- وهو رجل ناتئ الجبين، غائر العينين، كثّ اللحية- وقال: يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل! فأراد بعض الصحابة قتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «دعه؛ فإنه يخرج من ضئضئ «3» هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن

_ (1) قال المعلّمي- رحمه الله-: «لأن صاحبها يراها قربة» اه. والأثر أخرجه: اللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (1/ 149/ 238) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (7/ 26) وعلي بن الجعد في «مسنده» (1885) وابن الجوزي في «تلبيس إبليس» (ص 27) - دار الخير- وذكره البغوي في «شرح السنة» (1/ 216) والسيوطي في «الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع» ص 67. (2) في «صحيحه» رقم (6780). (3) «الضئضئ: الأصل» (م).

لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السّهم من الرّميّة» وهذا الحديث في الصحيحين وغيرهما «1». فهذا العابد الظاهر العبادة هو ومن اتبعه لما خالفوا سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم واستحلّوا دماء من لم يوافقهم على بدعتهم؛ أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بقتالهم. وذاك الشارب الخمر لما كان محبا للرسول صلى الله عليه وسلّم ولسنته، لكنه قد ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلّم عن لعنته، وقال: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله».

_ (1) أخرجه البخاري (6933) ومسلم (1064) وأحمد (3/ 56) وغيرهم، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

فصل [المردود عليه وأسجاعه الفارغة]

فصل [المردود عليه وأسجاعه الفارغة] قال: «واعلم أن الزيارة لا يتصوّر أن تكون منفكّة عن الحرمة من مكان إلى مكان، ولو حصل ذلك بطي الأرض أو الطيران فإن حصولها بغير ذلك أمر لا تقبله الأذهان، واعتقاده ضرب من الهذيان. لأن الزائر لا يطلق عليه زائر إلا بعد حركته وانتقاله وخروجه عن محله وارتحاله وكيف تكون الرحلة إلى القربة معصية محرّمة، والقصد المطلوب طاعة معظّمة؟ فالسفر إلى القبر من باب الوسائل إلى الطاعات، كنقل الخطأ إلى المساجد والجماعات، فلو علم هذا القائل ما في كلامه من الخطأ والزلل، وما اشتمل عليه قوله من المناقضة والخلل، لما أبدى لهم عواره، ولستر عنهم شناره». يقال: هذا المعترض كثير الألفاظ والإسجاع، قليل الفائدة التي يحصل بها الانتفاع. أسجاع كأسجاع الكهّان، ليس فيها برهان ولا بيان. لا استدلال بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع، ولا نقل لقول أئمة الدين أهل الإجماع والنزاع. بل يطوّل الكلام فيما يفهمه الأغنام، ويجعل عدّته انتهاك أعراض أئمة الإسلام، والطعن على شريعة خير الأنام، بقلة علم وسوء فهم وإعراض عن التفقه والتعلم والتفهم والإعلام. وهذه المسألة المتنازع فيها وفيما يناسبها عن النبي صلى الله عليه وسلّم أحاديث صحيحة محكمة، وفيها لأئمة الدين أقوال صريحة مفهمة. لم يذكر شيئا من ذلك، بل عمدته اتباع ما تشابه من القول، يبتغي الفتنة ويبتغي تأويله، وليس من الراسخين في العلم الذين يعرفون تأويله؛ الذي هو تفسيره ومعناه، وإن كان له تأويل آخر استأثر به الله، وكلا القولين في الوقف والابتداء منقولان عن السلف الأتقياء، وكل من القولين قاله طائفة من السلف العلماء. وأهل الضلال كالنصارى، وأهل البدع كالخوارج والرافضة والجهمية والقدرية؛ يتّبعون ما تشابه عليهم معناه، ويدعون المحكم المنصوص الذي بينه الله، ويقولون لمن اتبع المسيح وآمن بما قاله من أنه عبد الله ورسوله- كما صرح به في غير موضع من إنجيله- إنه قد شتم المسيح وتنقصه وعابه وعاداه، وهم قد شتموا الله وأشركوا به وكذّبوا المسيح وعصوه، فكفروا بالله ورسوله. وهكذا الغلاة في عليّ؛ يقولون لمن اتبع عليا فيما أخبر به عن نفسه، واتبع الرسول فيما قاله عن

علي وغيره؛ إنه شتم عليا وآذاه، وهم الذين كذّبوا عليّا وخالفوه، بل خالفوا الرسول الذي به آمن عليّ، وعمدتهم التمسك بأحاديث بعضها ضعيف أو مكذوب، وبعضها متشابه لا يدل على المطلوب. كالنصارى تارة ينقلون عن المسيح وغيره من الأنبياء أقوالا باطلة، وتارة يتمسكون بألفاظ متشابهة، لا تدل على ما ابتدعوه. وهكذا أهل البدع الذين يدعون أهل القبور ويحجّون إليها ويجعلون أصحابها أندادا لله، حتى يقول بعضهم: إن الحج إليها أفضل من الحج إلى بيت الله. وأهل البدع في القبور أنواع متعددة قد بسطت في غير هذا الموضع، لكن عمدتهم إما أحاديث مكذوبة، وإما ألفاظ مجملة متشابهة؛ كلفظ زيارة القبور ونحوه مما يراد به أنواع من الأمور، وحصل فيها اشتباه ونزاع بين العلماء والجمهور، ويدعون الصحيح المنصوص المحكم الثابت من الأحاديث عن خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه التي ليس في سندها ولا فيما يستدل به من معناها نزاع بين العلماء، كما في الصحيحين عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى». ولفظ أبي سعيد الذي في صحيح مسلم وغيره: «لا تشدّوا الرّحال» بصيغة النهي. وهو أيضا مروي عنه من وجوه أخر، كما رواه مالك وأهل السنن والمسانيد عن بصرة بن أبي بصرة، عن النبي صلى الله عليه وسلّم، ولفظه أنه قال: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد» «1». فإن هذا الحديث قد اتفق علماء المسلمين على صحة إسناده، واتفقوا على وجوب العمل بمعناه. واتفقوا على تناوله لمحل النزاع وهو السفر إلى القبور، ثم تنازعوا هل مراده النهي، أو مراده نفي الاستحباب والفضيلة؟ وما اتفقوا عليه كاف في الاحتجاج في مسألة النزاع. وأما السلف من الصحابة والتابعين والأئمة فلم يعرف بينهم نزاع أنه نهى عن السفر إلى غير الثلاثة. والحديث قد جاء في الصحيح بصيغة النهي الصريح، فقال: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» وأبو سعيد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلّم، هكذا في الصحيح أنه سمعه منه لم يسمعه من غيره، بخلاف رواية أبي هريرة فإنها مطلقة، وأبو هريرة كان يروي الحديث، ثم يقول حدّثني فلان، كما في حديث صوم الجنب، فقال: حدّثنيه الفضل بن عباس. ومثل ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت

_ (1) تقدم تخريجه.

عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا. وفي الصحيحين أيضا عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله «1» صلى الله عليه وسلّم طفق يطرح خميصة «2» له على وجهه فإذا اغتمّ بها كشفها، فقال وهو كذلك: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذّر ما صنعوا. فإذا كان قد لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد يحذر أمته أن يفعلوا ذلك، مع أن المساجد إنما تكون لعبادة الله، لكن إذا اتّخذت القبور مساجد للعبادة؛ صار ذلك ذريعة إلى قصد القبر ودعاء صاحبه واتخاذه وثنا، فإذا كان قد لعن من يفعل الوسيلة إلى الشرك، فكيف بمن أتى بالشرك الصريح؟ وإذا كان هذا حال من دعا أهل القبور من غير حجّ إليه، فكيف بمن حجّ إليه أو جعل الحج إليهم أفضل من الحج إلى بيت الله؟ بل الحج إلى آثارهم مثل مكان نزلوا به، ويلبي ويحرم إذا حج إلى آثارهم، كما كان بعض الشيوخ بمصر يحرم إذا حج إلى مسجد يوسف، وكما حج مرة إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلّم، ثم رجع ولم يحج إلى مكة، وقال: حصل المقصود بهذا. وهو صلى الله عليه وسلّم في مرضه يكرر تحذير أمته فينهاهم علانية في المسجد، ثم لعن من يفعل ذلك. وهو منزول به في السياق حرصا على هذه الأمة، وتحذيرا لأمته من مظان الشرك وأسبابه، إذ كان جماع الدين هو عبادة الله وحده، وأعظم الذنوب الشرك، والقرآن مملوء من تعظيم التوحيد بالدعاء إليه والترغيب فيه، وبيان سعادة أهله، وتعظيم الشرك بالنهي عنه والتحذير منه وبيان شقاوة أهله. ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متّخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» «3». فهذا نهيه قبل أن يموت بخمس ولعنه في مرضه من يفعل ذلك، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «قاتل الله اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وفي لفظ مسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها؛ أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة، ذكرتا من حسنها وتصاوير فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن أولئك كانوا إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات؛ بنوا على قبره

_ (1) «يعني: المرض» (م). (2) «الخميصة: ثوب خز أو صوف معلّم، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلّمة» (م). (3) أخرجه مسلم (2383).

مسجدا وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» «1». ذمهم على هذا وهذا، ولهذا نهى أمته عن هذا وهذا. وفي صحيح مسلم عن أبي الهيّاج الأسدي «2» قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ أمرني أن لا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته» «3». فأمره طمس التماثيل، وتسوية القبور العالية المشرفة. إذ كان الضالون أهل الكتاب أشركوا بهذا وبهذا؛ بتماثيل الأنبياء والصالحين وبقبورهم. وفي المسند وصحيح ابن أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» «4». وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تضلّوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» «5». وبسط هذا له موضع آخر. ولكن نبهنا هنا على مثل هذا لأن هذا المعترض لم يأت في كلامه بعلم ولا حجة ولا دليل، بل حجّته من جنس ما ذكره هنا، أن الزيارة لا بدّ فيها من الحركة والانتقال، وهذا معلوم لكل أحد، فقوله والزيارة نفسها قربة، والوسيلة إلى القربة قربة؛ هذا مضمون كلامه. ونسب المجيب إلى التناقض حيث أباح الزيارة، ومنع من الوسيلة إليها وهو السفر، ولهذا قال: «فلو علم هذا القائل ما في كلامه من الخطأ والزلل، وما اشتمل عليه كلامه من المناقضة والخلل، لما أبدي لهم عواره، ولستر عنهم شناره». وجواب هذا من وجوه: أحدها: أن يقال: أنت المتناقض فيما حكيته عنه، فإنك في أول كلامك قلت أنه ظهر لك من صريح كلامه وفحواه؛ مقصده السيئ ومغزاه، وهو تحريم زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور والسفر إليها، ودعوى أن ذلك معصية محرّمة مجمع عليها. وقد علم كل من وقف على الجواب أنه لم يحرم الزيارة مطلقا، ولا حكى ذلك عن أحد فضلا عن أن يحكيه إجماعا، لكن هذا قول طائفة من السلف حرّموا زيارة القبور مطلقا، كما نقل عن الشعبي والنخعي وابن سيرين، لكن المجيب لم يذكر هذا القول، فإنه قول مرجوح، ولو قدّر أنه حكاه لم يحك الإجماع على التحريم. فإن بطلان هذا لا يخفى على آحاد طلبة العلم، إذ كانت كتب العلماء مشحونة بذكر جواز زيارة القبور للرجال أو استحباب ذلك. ثم هناك جعلت المجيب يجوّز الزيارة وينهى عن الوسيلة

_ (1) أخرجه البخاري (427، 434، 1341، 3878) ومسلم (528). (2) «اسمه حيان بن حصين، كان من خواص علي رضي الله عنه، وولاه القضاء في العراق» (م). (3) أخرجه مسلم (2240). (4) تقدم تخريجه. (5) أخرجه مسلم (972).

إليها وهو السفر، فجعلته متناقضا. وكذلك قلت بعدها: «لأنه نقل الجواز عن الأئمة المرجوع إليهم في علوم الدين والفتوى المشتهرين بالزهادة والتقوى، الذين لا يعتدّ بخلاف من سواهم، ولا يرجع في ذلك لمن عداهم، ونقل عدم الجواز- إن صح نقله- عمن لا يعتمد عليه ولا يعتد بخلافه ولا يعرج عليه». فإذا كان قد نقل الجواز عن هؤلاء؛ وهو جواز السفر للزيارة، فكيف يحكى عنه أنه جعل كل زيارة القبور معصية محرمة مجمعا عليها؟ هذا هو التناقض. ثم نسبته إلى التناقض وأنت المتناقض، فقلت: «ثم قال في آخر كلامه: إن ما ادّعاه مجمع على أنه حرام. وهذه مناقضة لما تقدم منه في الكلام، فليت شعري حين قال هذا أكان به جنة أم أدركته من الله محنة»؟ فيقال لك: المستحق للطعن في عقله ودينه من جعل المستقيم أعوج، وزاغ عن سواء المنهج، وتناقض فيما يقول، وجعل غيره هو المتناقض، كما قيل في المثل السائر: «رمتني بدائها وانسلّت». ولكن أهل البدع المخالفين لما جاءت به الرسل يضاهئون أعداء الرسل الذين نسبوهم إلى الجنون، قال تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: 52]، وقال تعالى عن قوم نوح: وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر: 54]، وقال فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27]، وقال تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الذاريات: 6]. فيقال: لفظ الجواب: أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين. وقوله: من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء؛ احترازا عن السفر المشروع، كالسفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، إذا سافر السفر المشروع فسافر إلى مسجده وصلّى فيه، وصلّى عليه، وسلّم عليه، ودعا وأثنى كما يحبه الله ورسوله؛ فهذا سفر مشروع مستحب باتفاق المسلمين، وليس فيه نزاع، فإن هذا لم يسافر لمجرد زيارة القبور بل للصلاة في المسجد، فإن المسلمين متفقون على أن السفر الذي يسمى زيارة لا بد فيه من أن يقصد المسجد ويصلّي فيه، لقوله صلى الله عليه وسلّم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه». ولقوله: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا». والسؤال والجواب لم يكن المقصود فيه خصوص السفر إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلّم، فإن هذا السفر على هذا الوجه مشروع مستحب باتفاق المسلمين، ولم يقل أحد من المسلمين إن السفر إلى زيارة قبره، محرم مطلقا، بل من سافر إلى مسجده وصلّى فيه، وفعل ما يؤمر به من حقوق الرسول صلى الله عليه وسلّم؛ كان هذا مستحبا مشروعا باتفاق المسلمين، لم يكن هذا مكروها عند أحد منهم. لكن السلف لم يكونوا يسمون هذا زيارة لقبره، وقد كره من كره من أئمة العلماء أن يقال: زرت

قبر النبي صلى الله عليه وسلّم. وآخرون يسمّون هذا زيارة لقبره صلى الله عليه وسلّم، لكنهم يعلمون ويقولون إنه إنما يصل إلى مسجده. وعلى اصطلاح هؤلاء؛ من سافر إلى مسجده وصلى فيه وزار قبره صلى الله عليه وسلّم الزيارة الشرعية، لم يكن هذا محرما عند أحد من المسلمين، بخلاف السفر إلى زيارة قبر غيره من الأنبياء والصالحين، فإنه ليس عنده مسجد يسافر إليه. فالسؤال والجواب كان من جنس السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين، كما يفعل أهل البدع، ويجعلون ذلك حجّا أو أفضل من الحج أو قريبا من الحج، حتى يروي بعضهم حديثا ذكره بعض المصنّفين في زماننا في فضل من زار الخليل قال فيه: وقال وهب بن منبه: إذا كان آخر الزمان حيل بين الناس وبين الحج، فمن لم يحج ولحق ذلك ولحق بقبر إبراهيم، فإن زيارته تعدل حجة. وهذا كذب على وهب بن منبه. كما أن قوله: «من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة» «1». كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذا الحديث إنما افتراه الكاذبون لما فتح بيت المقدس، واستنقذ من أيدي النصارى على يد صلاح الدين سنة بضع وثمانين وخمسمائة، فإن النصارى نقبوا قبر الخليل وصار الناس يتمكّنون من الدخول إلى الحظيرة. وأما على عهد الصحابة والتابعين- وهب بن منبه وغيره- فلم يكن هذا ممكنا ولا عرف عن أحد من الصحابة والتابعين أنه سافر إلى قبر الخليل عليه السلام، بل ولا قبر غيره من الأنبياء، ولا من أهل البيت، ولا من المشايخ ولا غيرهم، ووهب بن منبه «2» كان باليمن لم يكن بالشام، ولكن كان من المحدثين عن بني إسرائيل والأنبياء المتقدمين مثل كعب الأحبار ومحمد بن إسحاق ونحوهما. وقد ذكر العلماء ما ذكره وهب في قصة الخليل وليس فيه شيء من هذا. ولكن أهل الضلال افتروا آثارا مكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلّم وعلى الصحابة والتابعين توافق بدعهم، وقد رووا عن أهل البيت وغيرهم من الأكاذيب ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وغرض أولئك الحج إلى قبر علي أو الحسين رضي الله عنهما، أو إلى قبور

_ (1) تقدم في أول الكتاب. (2) هو: وهب بن منبه بن كامل بن سيج بن ذي كبار، أبو عبد الله اليماني الصنعاني. مولده سنة أربع وثلاثين. أخذ عن ابن عباس وأبي سعيد وابن عمر وجابر بن عبد الله، وغيرهم. من أقواله: «إذا سمعت من يمدحك بما ليس فيك، فلا تأمنه أن يذمك بما ليس فيك». وفاته سنة أربع عشرة ومائة (114). ترجمته في: «طبقات ابن سعد» (5/ 543) و «سير أعلام النبلاء» (4/ 544) و «تذكرة الحفاظ» (1/ 95) و «العبر» (1/ 143) و «البداية والنهاية» (9/ 276).

الأئمة كموسى «1» والجواد «2» وموسى بن جعفر «3» وغيرهم من الأئمة الأحد عشر، فإن الثاني عشر دخل السرداب وهو عندهم حي إلى الآن ينتظر «4»، ليس له غرض في الحج إلى قبر الخليل.

_ (1) «لعله: كالرضا» (م). قلت: وهو الصواب. والرضا؛ هو: الإمام السيد أبو الحسن؛ علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. مولده بالمدينة سنة (148) ثمان وأربعين ومائة. كان إماما عالما من أهل التقى والسؤدد. قال الذهبي: «وقد كان علي الرضى كبير الشأن، أهلا للخلافة، ولكن كذبت عليه وفيه الرافضة، وأطروه بما لا يجوز، وادّعوا فيه العصمة، وغلت فيه، وقد جعل الله لكل شيء قدرا». وقد مات رضي الله عنه مسموما سنة ثلاث ومائتين (203) وقد خلّف من الولد: محمدا والحسن وجعفرا وإبراهيم والحسين وعائشة. ترجمته في: «تاريخ الطبري» (8/ 554 - 568) و «سير أعلام النبلاء» (9/ 387) و «العبر» (1/ 340) و «شذرات الذهب» (2/ 602) و «البداية والنهاية» (10/ 250). (2) هو: محمد بن علي الرضى بن موسى الكاظم الهاشمي القرشي، أبو جعفر الجواد. تاسع الأئمة الاثنى عشر عند الإمامية. كان رفيع القدر ذكيا، طلق اللسان. ولد بالمدينة سنة خمس وتسعين ومائة (195) ووفاته سنة (220). قلت: فمن الملاحظ أن مولده كان قبل وفاة أبيه بثمان سنين، أي: أنه كان إماما بعد أبيه- وهو ابن ثمان سنين! عند من يقول ويعتقد بالإمامة!! فالسؤال: هل يصح إمامة من في هذا السن، وكيف سيرشد الأمة ويدبّر أمورها؟! لعل أهل العقول والألباب يعطونا جوابا. وانظر ترجمته في: «تاريخ بغداد» (3/ 54) و «شذرات الذهب» (2/ 48) و «النجوم الزاهرة» (2/ 231) و «الذريعة» (1/ 315). (3) هو: موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر؛ أبو الحسن، المعروف بالكاظم. سابع الأئمة عند الإمامية. ولد سنة ثمان وعشرين ومائة (128) بالأبواء قرب المدينة. توفي في حبسه ببغداد سنة (183). ترجمته في: «وفيات الأعيان» (3/ 155) و «البداية والنهاية» (10/ 183) و «تاريخ بغداد» (13/ 27) و «العبر» للذهبي (1/ 287) و «تاريخ ابن خلدون» (4/ 115) و «الأعلام» (7/ 321) وغيرها. (4) قال المعلمي- رحمه الله-: «وهو عندنا لم يولد قط، ومات أبوه- رحمه الله- عقيما». قلت: ذكر الكليني في «أصول الكافي» - كتاب الحجة- (1/ 505) حديثا طويلا، وفيه أنه لما توفي الحسن العسكري، لم ير له أثر ولد، وأنه صلّى عليه أبو عيسى بن المتوكل، وأنه قسّم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر .. وهذا ما ذكره النوبختي أيضا في «فرق الشيعة» ص 96 - ط. دار الأضواء- والمفيد في «الإرشاد» ص 339 - ط. إيران- الحجرية- والأردبيلي في «كشف الغمة» ج 3 ص 408 والطبرسي في «أعلام الورى» ص 377 - ط. دار الكتب الإسلامية بإيران- والحر العاملي في «الفصول المهملة» ص 289 -

وهؤلاء من جنس المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا. فلكل قوم هدي يخالف هدي الآخرين، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] إلى قوله: فَرِحُونَ [الروم: 32]. وهؤلاء تارة يجعلون الحج إلى قبورهم أفضل من الحج، وتارة نظير الحج، وتارة بدلا عن الحج. فالجواب كان عن مثل هؤلاء، ولكن ذكر قبر نبينا صلى الله عليه وسلّم لشمول الأدلة الشرعية: فإنه إذا احتج بقوله صلى الله عليه وسلّم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» كان مقتضى هذا أنه لا يسافر إلا إلى المسجد، لا إلى مجرد القبر، كما قال مالك رضي الله عنه للسائل الذي سأله عمن نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إن كان أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم فليأته وليصلّ فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء: «لا تعمل المطيّ إلا إلى ثلاثة مساجد». وهذا كما لو نهى الناس أن يحلفوا بالمخلوقات، وذكر لهم قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» «1». وقوله صلى الله عليه وسلّم: «لا تحلفوا إلا بالله» «2» ونحو ذلك.

_ - ط. قم بإيران- وابن حزم في «الفصل في الملل والنحل» (4/ 181) وغيرهم. فأين ادّعاء أنه ولد، وأنه غاب، وأنه في السرداب؟! .. إلخ. ثم الذين ادّعوا أنه ولد تناقضوا تناقضا شديدا في عدة أمور، وكلامهم مردود من عدة وجوه: 1 - أنهم يقولون: إن الإمام لا بدّ أن يغسّله إمام وأن يصلي عليه إمام، وهذا لم يحصل كما تقدم. 2 - أنهم اختلفوا في سنة مولده، فاضطربت الأقوال في ذلك، وهذا دليل الكذب والادّعاء؛ فقال بعضهم أنه ولد بعد وفاة أبيه بثمانية أشهر! (فرق الشيعة ص 126). وقال الأربلي: ولد في الثالث والعشرين من رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين (258)، (كشف الغمة ج 3 ص 227). وقال القمي: ولد سنة ست وخمسين ومائتين (256). وقال المفيد في «الإرشاد» ص 246 والطبرسي في «أعلام الورى» ص 419: «ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين (255). 3 - اختلفوا في اسم الجارية التي قالوا إنها ولدته. فقال المفيد: اسمها: نرجس. (الإرشاد، ص 346). وقال في «كشف الغمة» (3/ 227): «اسمها صقيل أو صيقل». وقيل: حكيمة. وأهل السنة أهل الحديث؛ يقولون: إن المهدي سيخرج في آخر الزمان كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلّى الله عليه وآله وسلّم، واسمه يوافق اسم النبي صلى الله عليه وسلّم، واسم أبيه يوافق اسم أبيه، يعني أن اسمه: محمد بن عبد الله، وهو من ولد فاطمة عليها السلام، كما صحّت بذلك الأخبار. انظر «المهدي حقيقة لا خرافة» للشيخ محمد بن إسماعيل المقدم. نشر دار الإيمان بالإسكندرية. و «المهدي المنتظر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة» للدكتور عبد العليم عبد العظيم البستوي. نشر المكتبة المكية ودار ابن حزم. و «عقيدة أهل الأثر في المهدي المنتظر» للعلامة عبد المحسن العباد- حفظه الله ورعاه. (1) أخرجه البخاري (6646) ومسلم (1646). (2) جزء من حديث أخرجه أبو داود (3248) والنسائي (7/ 5) وابن حبان (10/ 199/ 4357) من حديث أبي هريرة، ولفظه: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون». وهو حديث صحيح.

وقيل: إنه لا يجوز الحلف بالملائكة ولا الكعبة ولا الأنبياء ولا غيرهم. فإذا قيل: ولا بالنبي صلى الله عليه وسلّم لزم طرد الدليل. فقيل: ولا يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلّم كما قاله جمهور العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين. ومن الناس من يستثني نبينا كما استثناه طائفة من الخلف، فجوزوا الحالف به، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه؛ كالقاضي أبي يعلى وأتباعه، وخصّوه بذلك. وبعضهم طرد ذلك في الأنبياء، وهو قول ابن عقيل في كتابه المفردات، لكن قول الجمهور أصح «1». لأن النهي هو الحلف بالمخلوقات كائنا من كان، كما وقع النهي عن عبادة المخلوق، وعن تقواه وخشيته والتوكّل عليه، وجعله ندا لله، وهذا متناول لكل مخلوق؛ نبينا وسائر الأنبياء، والملائكة وغيرهم. فكذلك الحلف بهم، والنذر لهم أعظم من الحلف بهم، والحج إلى قبورهم أعظم من الحلف بهم والنذر لهم. وكذلك السفر إلى زيارة القبور وقصر الصلاة فيه. ولأصحاب أحمد فيه أربعة أقوال؛ قيل: يقصر الصلاة مطلقا في كل سفر لزيارة القبور. وقيل: لا يقصر مطلقا في شيء من ذلك. وقيل: يقصر في السفر لزيارة قبر نبينا خاصة. وقيل: بل لزيارة قبره صلى الله عليه وسلّم وقبور سائر الأنبياء. فالذين استثنوا نبينا قد يعلّلون ذلك بأن السفر هو إلى مسجده، وذلك مشروع مستحب بالاتفاق، فتقصر فيه الصلاة، بخلاف السفر إلى قبر غيره فإنه سفر لمجرّد القبر. وقد يستثنونه من العموم كما استثناه من استثناه منهم في الحلف، ثم ظن بعضهم أن العلة هي النبوة فطرد ذلك في الأنبياء. والصواب أن السفر إلى قبره إنما يستثنى لأنه سفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلّم. ثم إن الناس أقسام؛ منهم من يقصد السفر الشرعي إلى مسجده، ثم إذا صار في مسجده فعل في مسجده المجاور لبيته الذي فيه قبره ما هو مشروع، فهذا سفر مجمع على استحبابه وقصر الصلاة فيه. ومنهم من لا يقصد إلا مجرد القبر، ولا يقصد الصلاة في المسجد أو لا يصلي فيه، فهذا لا ريب أنه ليس بمشروع. ومنهم من يقصد هذا وهذا، فهذا لم يذكر في الجواب، إنما ذكر في الجواب من لم يسافر إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين. ومن الناس من لا يقصد إلا القبر؛ لكن إذا أتى المسجد صلّى فيه، فهذا أيضا يثاب على ما فعله من المشروع كالصلاة في المسجد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم والسلام عليه، ونحو ذلك من الدعاء والثناء عليه، ومحبته وموالاته، والشهادة له بالرسالة

_ (1) قال الشيخ سليمان بن عبد الله- رحمه الله- في «تيسير العزيز الحميد» ص 590 - ط. المكتب الإسلامي-: «أجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله أو بصفاته، وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره. قال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع» اه.

والبلاغ، وسؤال الله الوسيلة له، ونحو ذلك مما هو من حقوقه المشروعة في مسجده- بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلّم-. ومن الناس من لا يتصور ما هو الممكن المشروع من الزيارة حتى يرى المسجد والحجرة بل يسمع لفظ زيارة قبره، فيظن ذلك؛ كما هو المعروف المعهود من زيارة القبور أنه يصل إلى القبر ويجلس عنده، ويفعل ما يفعله من زيارة شرعية أو بدعية، فإذا رأى المسجد والحجرة تبيّن له أنه لا سبيل لأحد أن يزور قبره كالزيارة المعهودة عند قبر غيره، وإنما يمكن الوصول إلى مسجده والصلاة فيه وفعل ما يشرع للزائر في المسجد لا في الحجرة عند القبر، بخلاف قبر غيره. فإذا عرف معنى أول الجواب؛ فالمجيب لمّا ذكر القولين وحجّة كل منهما وذكر أنه يحمل قوله صلى الله عليه وسلّم: «لا تشد الرحال» على نفي الاستحباب، وأن أصحاب القول الآخر يجيبون عنه بوجهين: أحدهما: أن هذا تسليم لكون هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات، فإذا من اعتقد أن السفر لقبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع، وإذا سافر لاعتقاده أن ذلك طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين، فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك. وأما إذا قدر أن الرجل يسافر إليها لغرض مباح فهذا جائز وليس من ذاك. الوجه الثاني: أن النفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم، فهذا الإجماع المحكي هنا هو فيمن اعتقد أن ذلك طاعة وقربة وسافر لاعتقاده أن ذلك طاعة، فإن الذين قالوا بالجواز، قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلّم: «لا تشد الرحال إلخ» يقتضي أن السفر إليها ليس بمستحب، وليس هو واجب بالاتفاق، فلا يكون قربة وطاعة، فإن القربة والطاعة إما واجب وإما مستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب فليس قربة ولا طاعة بالإجماع. فمن اعتقد أن ذلك قربة وطاعة، أو قال: إنه قربة وطاعة، أو فعله لأنه قربة وطاعة؛ فقد خالف هذا الإجماع. ولكن من علم أن الفعل ليس بطاعة ولا قربة امتنع أن يعتقده قربة وطاعة، فإن ذلك جمع بين اعتقادين متناقضين وامتنع من أن يفعله لذلك. وإنما يعتقده قربة ويفعله على وجه التقرب من لا يعلم أنه ليس بقربة، ويكون مخطئا في هذا الاعتقاد؛ وإن كان خطؤه مغفورا له، وهذا لا يعاقب على هذا الفعل، لأنه لم يعلم تحريمه كسائر المتقربين بما نهي عنه قبل العلم بالنهي، كمن كان يصلّي إلى بيت المقدس قبل العلم بالنهي، وكمن صلّى في أوقات النهي ولم يعلم بالنهي، فإن الله عزّ وجلّ يقول: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15]. لكن الأفعال التي ليست واجبة ولا مستحبة لا ثواب فيها؛ فهؤلاء لا يثابون ولا يعاقبون. وهذا الإجماع المذكور فيمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، لم يدخل فيه السفر لزيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلّم على الوجه المشروع، فإن هذا السفر مستحب

بإجماع المسلمين. فمن ظن أن هذا يقتضي أنه لا يستحبّ سفر أحد إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلّم ولا مسجده ولا قبره؛ فقد غلط، فإن هذا لم يقله أحد، والقولان حكيا في جواز القصر لمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فإنهما قولان معروفان في مذهب مالك والشافعي وأحمد، ومالك وجمهور أصحابه يقولون: إن السفر لغير المساجد الثلاثة كقبور الأنبياء وغيرها محرّم حتى قبر نبينا، كما صرح به مالك، ونهى الناذر عن الوفاء به. وابن عبد البر ومن وافقه جعلوا ذلك جائزا لا يجب بالنذر، لكن لو فعله جاز، واستدلوا بإتيان مسجد قباء. وكذلك طائفة من أصحاب أحمد؛ كأبي محمد المقدسي، وطائفة من أصحاب الشافعي كأبي المعالي والغزالي والرافعي، حملوا هذا الحديث على نفي الاستحباب والفضيلة. وكذلك أبو حامد الأسفراييني وأبو علي بن أبي هريرة ومن اتبعهما. قال أبو المعالي: كان شيخي- يعني أبا محمد الجويني- يفتي بالمنع من شدّ الرحال إلى غير هذه المساجد الثلاثة. وربما كان يقول: يحرم، قال: والظاهر أنه ليس فيه تحريم ولا كراهة، وبه قال الشيخ أبو علي. ومقصود الحديث تخصيص القربة بالمساجد الثلاثة. وقال الشيخ أبو حامد في توجيه أحد قولي الشافعي: إنه لا يجب بالنذر؛ قال: يحتمل أن يريد به لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد واجبا، ويحتمل أن يريد به لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مواضع مستحبا، فيحمل الحديث على نفي الوجوب مع النذر، أو نفي الاستحباب. وأما قدماء أصحاب أحمد فقولهم كقول مالك، وعليه يدل كلام أحمد. وكذلك أبو محمد الجويني وغيره من أصحاب الشافعي، وأبو محمد الجويني من أصحاب الوجوه. والوجهان في مذهب الشافعي ذكرهما أبو المعالي والرافعي وغيرهما، كما ذكر القولين أبو زكريا النووي في شرح مسلم فقال: «واختلف العلماء في شدّ الرحال وإعمال المطيّ إلى غير المساجد الثلاثة؛ كالذهاب إلى قبور الصالحين، وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك، فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا: هو حرام، وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره. قال: والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين، والمحققون؛ أنه لا يحرّم ولا يكره» «1». قلت: والقاضي عياض مع مالك وجمهور أصحابه يقولون: إن السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرّم كقبور الأنبياء. فقول القاضي عياض: إن زيارة قبره سنة مجمع عليها، وفضيلة مرغّب فيها؛ أراد به الزيارة الشرعية، كما ذكره مالك وأصحابه من أنه يسافر إلى مسجده ثم يصلّي عليه ويسلّم عليه، كما ذكروه في كتبهم. وقد قال القاضي

_ (1) انظر «شرح صحيح مسلم» (9/ 106).

عياض في هذا الفصل- فصل الزيارة- قال بعضهم: رأيت أنس بن مالك أتى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة، فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلّم ثم انصرف. قال: وقال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلّم على النبي صلى الله عليه وسلّم ودعا يقف بوجهه إلى القبر، لا إلى القبلة، ويدنو ويسلّم ولا يمس القبر بيده. وقال في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلّم يدعو، ولكن يسلّم ويمضي. فهذا مالك لم يستحبّ إلا السلام خاصة، كما كان ابن عمر يفعل. قال نافع: رأيت ابن عمر يسلّم على القبر، رأيته مائة مرة وأكثر يجيء إلى القبر فيقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف. قال مالك في رواية ابن وهب يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. قال القاضي عياض: وعن ابن قسط والقعنبي: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا دخلوا المسجد مسّوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعون. فهذا المنقول عن الصحابة أنهم كانوا يدعون في الروضة من ناحية المنبر، لا من ناحية الحجرة، ويمسكون بميامنهم رمانة المنبر، وقد ذكرنا في مواضع اختلاف العلماء عند السلام عليه هل يستقبل الحجرة ويستدبر القبلة كما قال مالك، أو يستقبل القبلة كما قال أبو حنيفة؟ وفي مذهب أحمد نزاع. والمشهور عند أصحابه كما قال مالك، وفي منسك المروزي الذي نقله عن أحمد أنه قال في السلام على النبي صلى الله عليه وسلّم: ولا تستقبل الحائط، خذ مما يلي صحن المسجد فسلم على أبي بكر وعمر. وقال: فإذا أردت الخروج فائت المسجد وصلّ ركعتين، وودّع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمثل سلامك الأول، وسلّم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وحوّل وجهك إلى القبلة، وسل الله حاجتك متوسلا إليه بنبيه صلى الله عليه وسلّم تقض من الله عزّ وجلّ. فقد نهاه عن استقبال حائط القبر، وأمره إذا سلّم على الشيخين أن يأخذ مما يلي صحن المسجد، وهذا يقتضي أن يسلّم عليهم مستقبل الحجرة، بحيث يكون مستقبلا للمغرب مستدبرا للمشرق، والقبلة عن يمينه، ويسلّم عليه عند رأسه. فإذا أراد السلام على الشيخين أخذ مما يلي صحن المسجد لا يستقبل حائط المسجد من جهة القبلة، بل ينصرف عن يساره إلى رأسيهما فيسلم عليهما هناك. وهذا السلام واستقبال القبلة هو الذي يفهم من سلام ابن عمر، فإنه كان يسلّم قبل أن تدخل الحجرة في المسجد، ولم يكن حينئذ يمكن أحد أن يستقبل الحجرة ويستدبر القبلة، فإن قبلي الحجرة لم يكن من المسجد، ولا كان منفصلا طريقا، بل كان متصلا بحجرة حفصة وغيرها. فعلم أن ابن عمر وغيره من الصحابة لم يكن يمكنهم السلام من جهة القبلة جهة الوجه، بل كانوا يكونون إما مستقبلا أحدهم للقبلة والحجرة النبوية عن يساره، كما قال أبو حنيفة، أو يستقبل الحجرة ويستدبر المغرب كما قال أحمد. وهذا يوافق سلام ابن عمر وغيره من

الصحابة، فإنهم لم يكونوا يسلّمون عند وجهه. وما ذكره القاضي عياض عن أنس بن مالك لا يدل على هذا القول، بل يدل على قول أبي حنيفة؛ فإنه ذكر عن بعضهم قال: رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة فسلم على النبي صلى الله عليه وسلّم ثم انصرف. فقول الراوي: إنه رفع يديه حق ظننت أنه افتتح الصلاة؛ دليل على أنه كان مستقبل القبلة، فإن المصلي لا بد أن يستقبلها، ولو كان يستقبل الحائط من ناحية القبلة أو من الغرب لم يظن أنه يصلي، فإن أحدا لا يصلي إلى الشمال، ولا إلى الشرق، لكن روى القاضي إسماعيل بن إسحاق في المصنف الذي له في «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم» قال: حدّثني إسحاق بن محمد الفروي حدّثنا عبيد الله بن عمر حدّثنا نافع: أن ابن عمر كان إذا قدم من سفر صلّى السجدتين في المسجد، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فيضع يده اليمنى على قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، ويستدبر القبلة، ثم يسلّم على النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم يسلم على أبي بكر وعمر «1». فهذه الرواية فيها نظر، فإن فيها خلاف ما قد جاء عن مالك وأحمد من فعل ابن عمر أنه كان يدنو إلى القبر ولا يمسه. وحديث ابن عمر هذا رواه مالك عن نافع وعن عبد الله بن دينار، ورواه عن نافع أيوب السختياني وغيره، وعن أيوب حماد بن زيد ومعمر. وقد ذكر ذلك مالك وغيره أنه لا يمس القبر، وكذلك كان سائر علماء المدينة. وكذلك قال أحمد أن ابن عمر فعل ذلك. قال أبو بكر الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: قبر النبي صلى الله عليه وسلّم يمسّ ويتمسّح به؟ فقال: ما أعرف هذا. قلت له: فالمنبر؟ قال: أما المنبر فنعم قد جاء فيه- قال أبو عبد الله- شيء يروونه عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن عمر أنه كان يمسح على المنبر، وقال: ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة. قلت: ويروونه عن يحيى بن سعيد أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسنه، ثم قال: لعله عند الضرورة والشيء. قيل لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر. وقلت له: رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يرونه، ويقومون ناحية فيسلمون عليه. فقال أبو عبد الله: نعم؛ وهكذا كان ابن عمر يفعل، ثم قال أبو عبد الله: بأبي وأمي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.

_ (1) أخرجه القاضي إسماعيل برقم (101). وقال الشيخ الألباني هناك: «إسناده موقوف ضعيف، وقوله: «ويضع يمينه على قبر النبي صلى الله عليه وسلّم» منكر؛ تفرّد به عبد الله بن عمر هذا، عن نافع؛ وهو العمري المكبر، وهو ضعيف. والراوي عنه إسحاق بن محمد؛ هو: الفروي، وهو وإن كان روى له البخاري؛ ففيه ضعف، قال أبو حاتم: «كان صدوقا، ولكن ذهب بصره فربما تلقن، وكتبه صحيحة. وقال مرة: يضطرب» ووهّاه أبو داود جدا. فهذه الزيادة المنكرة منه أو من شيخه» اه.

وقد يقال: هذه الرواية لا تخالف ما عليه الأئمة من أنه لا يتمسح بالقبر، فإن ابن عمر لم يكن يتمسح بالقبر، بل كان يريد أن يسلم من جهة الوجه فلا يمكنه أن يستقبل الوجه، فكان يحاذي ما يكون مستقبل الوجه ليكون أقرب إلى الاستقبال، ويضع يده على الحائط ليعتمد عليها ويكون أبلغ في القرب إلى القبر، لكن هذه الرواية تخالف ما قيل إنه كان يقف ناحية. إلا أن يقال: كان يتقدم إلى القبر فيكون ناحية بهذا الاعتبار. وبسط هذا له موضع آخر. والصواب أن هذه الزيادة انفرد بها إسحاق بن محمد الفروي، عن عبيد الله بن عمر، غلط فيها وخالف فيها من هو أوثق منه عن ابن عمر، فإن أيوبا رواه عن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر خلاف ما رواه إسحاق، مع أن رواية أيوب عن نافع رواها حماد بن زيد ومعمر وغيرهما. ورواية مالك عن نافع مشهورة، وكذلك روايته عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر ليس في شيء منها ما ذكره إسحاق بن محمد الفروي. ولا يقال إنه ثقة انفرد بزيادة، لوجهين: أحدهما: أنه خالف من هو أوثق منه، كما رواه يحيى بن معين قال: حدّثنا أبو أسامة، عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يكره مسّ قبر النبي صلى الله عليه وسلّم. وممن ذكر هذا الشيخ الصالح الزاهد شيخ العراق في زمنه عند العامة والخاصة أبو الحسن علي بن عمر القزويني في «أماليه» قال: قرأت على عبيد الله الزهري حدثك أبوك قال: حدّثنا عبد الله بن جعفر، عن أبي داود الطيالسي، عن يحيى بن معين، فذكره. وهذا أبو أسامة يروي عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يكره مسّ قبر النبي صلى الله عليه وسلّم. وهذا موافق لما ذكره الأئمة أحمد وغيره عن ابن عمر، كما دلّت عليه سائر الروايات. فلو لم يكن إلا معارضة هذه لرواية إسحاق الفروي وكلاهما عن عبيد الله، لوجب التوقف فيها، كيف وأبو أسامة أوثق من الفروي؟ وقد روى ما وافقته العلماء عليه ولم يزد شيئا انفرد به كما في رواية الفروي. الثاني: أن الفروي وإن كان في نفسه صدوقا وكتبه صحيحة، فإنه أضرّ في آخر عمره فكان ربما حدّث من حفظه فيغلط، وربما لقّن فيلقّن. ولهذا كانوا ينكرون عليه روايته للحديث على خلاف ما يرويه الناس، مثل ما روى حديث الإفك على خلاف ما رواه الناس، وكذلك حديث ابن عمر هذا رواه على خلاف ما رواه الناس. وقد روى عنه البخاري في صحيحه. وقال أبو حاتم الرازي: «كان صدوقا وذهب بصره وربما لقن وكتبه صحيحة» وقال مرة: «مضطرب» «1» وقال أبو عبيد الآجرّي: سألت أبا داود عنه فوهّاه جدا. وقال النسائي: ليس بثقة. وذكره

_ (1) «الجرح والتعديل» (2/ 233/ 819).

أبو حاتم بن حبان في كتاب «الثقات» «1». وقال الدارقطني: لا يترك ومما أنكر عليه حديث الإفك، فإنه رواه غير ما رواه الناس. فهذا كلام الأئمة يبيّن ما ذكرناه فيه من التفصيل. وبذلك يعرف ضعف ما ذكره من حديث ابن عمر، يبيّن ذلك اتفاق العلماء على كراهة مس قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، فكيف يكون ابن عمر قد مسّه ولا يعرفون ذلك كما عرفوا مسه لمنبره؟ وقد ثبت عن ابن عمر أنه كره مسه. وروى أبو الحسن علي بن عمر القزويني أيضا في «أماليه» قال: قرأت على عبيد الله الزهري قلت له: حدّثك أبوك قال: حدّثني عبد الله بن أحمد قال: حدّثني أبي قال: سمعت أبا زيد حماد بن دليل قال لسفيان- يعني ابن عيينة- قال: أكان أحد يتمسح بالقبر؟ قال: لا؛ ولا يلتزم القبر ولكن يدنو. قال أبي: يعني إلا عظاما لرسول الله صلى الله عليه وسلّم. وحماد بن دليل هذا الذي سمعه أحمد يسأل ابن عيينة هو معروف من أهل العلم، روى عنه أبو داود وكان قاضي المدائن. وروى أيضا أبو الحسن القزويني عن الزهري عن نوح بن يزيد قال: أخبرنا أبو إسحاق، يعني إبراهيم بن سعد، قال: ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، وكان يكره إتيانه. ونوح بن يزيد بن سيار المؤدب هذا الراوي عن إبراهيم بن سعد هو ثقة معروف بصحبة إبراهيم وله اختصاص به، روى عنه أحمد بن حنبل وأبو داود وغيرهما. قال أبو بكر الأثرم: ذكر لي أبو عبد الله نوح بن يزيد المؤدب فقال: هذا شيخ كبير، أخرج إليّ كتاب إبراهيم بن سعد فرأيت فيه ألفاظا. وقال محمد بن المثنى: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: اكتب عنه فإنه ثقة حجّ مع إبراهيم بن سعد وكان يؤدب ولده. وذكره ابن حبان في «الثقات» «2». وأما إبراهيم بن سعد فهو من أكابر علماء المدينة وأكثرهم علما وأوثقهم، وكان قد خرج إلى بغداد. روى عنه الناس؛ أحمد بن حنبل وطبقته، ومن سعة علمه روى عنه الليث بن سعد، وهو أقدم وأجل منه. وأما أبوه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الذي ذكر عنه ابنه إبراهيم أنه قال: ما رأيت أبي قط أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم وكان يكره إتيانه. وهو من أفضل أهل المدينة في زمن التابعين ومن أصلحهم وأعبدهم، وكان قاضي المدينة في زمن التابعين في زمن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأمثاله، وهو أدرك بناء الوليد بن عبد الملك المسجد وإدخال الحجرة فيه، وأدرك ما كان عليه السلف قبل

_ (1). (8/ 114). (2). (9/ 211).

ذلك من الصحابة والتابعين. قال أبو حاتم الرازي «1»: وهو من جلة أهل المدينة وقدماء شيوخهم، كان على القضاء. وقد ذكروا أنه رأى عبد الله بن عمر، وروى عن عبد الله بن جعفر، وفي سماعه منه نظر، ومات قديما بعد القاسم بن محمد بقليل، فإن القاسم توفي سنة إحدى وعشرين ومائة وهذا توفي سنة ست وعشرين ومائة، وقد خرج من المدينة غير مرة تارة إلى الحج، وتارة كان قد استعمل على الصدقات، ومرة خرج إلى العراق وإلى واسط، فروى عنه سفيان الثوري وشعبة والعراقيون، وهو الذي روى حديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد» «2» عن القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم. وقد أدرك بالمدينة جابر بن عبد الله وسهل بن سعد الساعدي وغيرهما من الصحابة، ورأى أكابر التابعين مثل سعيد بن المسيب وسائر الفقهاء السبعة، ومعلوم أنه لم يكن ليخالفهم فيما اتفقوا عليه، بل قد يخالف ابن عمر فإنه ما نقله عنه ابنه يقتضي أنه كان لا يأتيه لا عند السفر ولا غيره، بل يكره إتيانه مطلقا، كما كان جمهور الصحابة على ذلك لما فهموا من نهيه صلى الله عليه وسلّم عن ذلك وأنه أمر بالصلاة والسلام عليه في كل زمان ومكان، وقال صلى الله عليه وسلّم: «لا تتخذوا قبري عيدا». وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد». كما قد بيّن هذا في مواضع. مع أن سعد بن إبراهيم هذا في دينه وعبادته وصيامه وتلاوته للقرآن بحيث كان يختم باليوم والليلة كثيرا. وأبو الحسن علي بن عمر القزويني وغيره من أهل العلم والدين ذكروا هذه الآثار عن الصحابة والتابعين وتابعيهم ليبينوا للناس كيف كان السلف يفعلون في مثل ذلك، وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود أن ما حكى القاضي عياض الإجماع فيه لم ينه عنه في الجواب، بل السفر إلى مسجده وزيارته التي يسميها بعضهم زيارة وبعضهم يكره أن تسمى زيارة على الوجه المشروع سنة مجمع عليها، كما ذكره القاضي عياض، ولا يدخل في ذلك السفر إلى غير المساجد الثلاثة؛ كالسفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، ولا من سافر لمجرد قبره فلم يزر زيارة شرعية بل بدعية، فهذا لا يقول أحد أنه مجمع على أنه سنة، ولكن هذا الموضع مما يشكل على كثير من الناس. فينبغي لمن أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص النبوية، ويعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون، وما قاله أئمة المسلمين، ليعرف المجمع عليه من المتنازع فيه، فإن في الزيارة مسائل متعددة تنازعوا فيها، لكن لم يتنازعوا في استحباب السفر إلى مسجده واستحباب الصلاة والسلام عليه، ونحو ذلك مما شرعه الله في مسجده. ولم يتنازع الأئمة الأربعة والجمهور في أن السفر إلى غير الثلاثة ليس بمستحب، لا لقبور الأنبياء والصالحين ولا لغير ذلك.

_ (1) «الجرح والتعديل» (4/ 79). (2) أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718).

فإن قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا تشدّ الرحال» حديث متفق على صحته وعلى العمل به عند الأئمة المشهورين، وعلى أن السفر إلى زيارة القبور داخل فيه، فإما أن يكون نهيا وإما أن يكون نفيا للاستحباب. وقد جاء في الصحيح بصيغة النهي صريحا، فتعين أنه نهي، فهذان طريقان لا أعلم فيهما نزاعا بين الأئمة الأربعة. والجمهور والأئمة الأربعة، وسائر العلماء؛ لا يوجبون الوفاء بالنذر على من نذر أن يسافر إلى أثر نبي من الأنبياء قبورهم أو غير قبورهم، وما علمت أحدا أوجبه إلا ابن حزم فإنه أوجب الوفاء على من نذر مشيا أو ركوبا أو نهوضا إلى مكة أو إلى المدينة أو بيت المقدس قال: وكذلك إلى أثر من آثار الأنبياء. قال: فإن نذر مشيا أو نهوضا أو ركوبا إلى مسجد من المساجد غير الثلاثة لم يلزمه. وهذا عكس قول الليث بن سعد فإنه قال: من نذر المشي إلى مسجد من المساجد مشى إلى ذلك المسجد. وابن حزم فهم من قوله: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» أي لا تشد إلى مسجد. وهو لا يقول بفحوى الخطاب وشبهه، فلا يجعل هذا نهيا عما هو دون المساجد في الفضيلة بطريق الأولى، بل يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه» «1» أنه لو بال ثم صب البول فيه لم يكن منهيا عن الاغتسال فيه «2». وداود الظاهري عنه في فحوى الخطاب روايتان وهذه إحداهما. وابن حزم ومن قال بإحدى روايتي داود يقولون إن قوله: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ [الإسراء: 23] لا يدل على تحريم الشتم والضرب. وهذا قول ضعيف جدا في غاية الفساد عند عامة العلماء، فإنهم يقولون: إذا كان البائل الذي يحتاج إلى البول قد نهي أن يبول فيه ثم يغتسل فيه فالذي بال في إناء ثم صبّه فيه أولى بالنهي. كما أنه لما نهي عن الاستجمار بطعام الجن وطعام دوابهم العظام والروث كان ذلك تنبيها على النهي عن الاستجمار بطعام الإنس بطريق الأولى، وكل ما نهي عن الاستجمار به فتلطيخه بالعذرة أولى بالنهي، فإنه لا حاجة إلى ذلك. فلهذا فهم الصحابة من نهيه أن يسافر إلى غير المساجد الثلاثة أن السفر إلى طور سيناء داخل في النهي، وإن لم يكن مسجدا، كما جاء عن بصرة بن أبي بصرة وأبي سعيد وابن عمر وغيرهم. والصحابة الذين سمعوا هذا الحديث من الرسول صلى الله عليه وسلّم وغيرهم أدخلوا غير المساجد الثلاثة في النهي، ونهوا أن تشدّ الرحال إلى الطور الذي كلّم الله عليه موسى

_ (1) أخرجه البخاري (239) ومسلم (95) وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) انظر «المحلى» (1/ 166).

مع أن الله لم يعظّم في القرآن جبلا أعظم منه، وسماه الوادي المقدس والبقعة المباركة. فإذا كان مثل هذا الجبل لا تشدّ الرّحال إليه فإنه لا تشدّ الرحال إلى ما يعظم من الغيران «1»، والجبال؛ مثل جبل لبنان وقاسيون ونحوهما بالشام، وجبل الفتح ونحوه بصعيد مصر؛ بطريق الأولى. بل إذا كان الصحابة لم يكونوا يسافرون إلى الطور ونحوه، بل ولا يزورون إذا قدموا مكة لا جبل حراء الذي نزل فيه الوحي ابتداء، ولا غار ثور المذكور في القرآن الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلّم وصاحبه والله ثالثهما. وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلّم لأبي بكر: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40]. والنبي صلى الله عليه وسلّم بعد نزول الوحي عليه لم يقرب ذلك الغار ولا غيره مما بمكة إلا المسجد الحرام والمشاعر. وكذلك لما حجّ إنما ذهب إلى المسجد الحرام والمشاعر. وقد ثبت في الصحيح أنها أحب البقاع إلى الله تعالى، فأغنى ذلك عن غيرها، ولهذا لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد باتفاق الأئمة، ولو نذره في غير مسجد لم يوف بنذره فإنه غير جائز. وقد تقدم عن الصحابة؛ أبي سعيد وابن عمر وبصرة بن أبي بصرة أنهم نهوا عن السفر إلى الطور لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد». ولفظ أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم وغيره: «لا تشدّوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» بصيغة النهي الصريحة، ورواه أحمد في «المسند» من حديث أبي هريرة من طريقين. والأماكن التي ينهى عن الصلاة فيها كأعطان الإبل والحمام هي مأوى الشياطين، وكذلك ما يسافر إليه بعض الناس من المغارات ونحوه من الجبال، قاصدين لتعظيم تلك البقعة بالشام ومصر والجزيرة وخراسان وغيرها، وكل موضع تعظّمه الناس غير المساجد ومشاعر الحج فإنه مأوى الشياطين، ويتصورون بصورة بني آدم أحيانا حتى يظنّ كثير من الناس أنهم من الإنس وأنهم رجال الغيب، ويقولون: الأربعون الأبدال بجبل لبنان أو غيره من الجبال، وهي مأوى الجن وهم رجال الغيب، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً [الجن: 6] سماهم الله رجالا، وسمّوا جنا لأنهم يجتنون عن الأبصار؛ أي: يستترون، كما تسمّى الإنس إنسا؛ لأنهم يؤنسون أي: يبصرون، كما قال موسى عليه السلام: إِنِّي آنَسْتُ ناراً [طه: 10] أي: أبصرت نارا. والحكايات عنهم في هذا الباب كثيرة معروفة، لكن كثير من الناس يعتقد أنهم من الإنس، وأنهم صالحون يغيبون عن أبصار الخلائق، ولا ريب أن بعض الإنس قد يحجبه الله أحيانا عن أبصار بعض الناس إما إكراما له، أو منعا له من ظلمهم إن كان

_ (1) «جمع غار، مثل غار حراء الذي كان يتحنث فيه النبي صلى الله عليه وسلّم قبل النبوة» (م).

وليا، وأما احتجاب إنسي طول عمره عن جميع الإنس؛ فهذا لم يقع، بل هذا نعت الجن الذين قال الله فيهم: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف: 27]. والمسافرون إلى هذه الجبال إنما يسافرون إلى مأوى الشياطين، وما يرونه من الخوارق هناك هو من إضلال الشياطين لهم، كما تفعله الشياطين عند الأصنام؛ فإنهم يضلّون عابديها بأنواع حتى قد يظن أن الصنم كلّمه، وقد يظهرون للسدنة أحيانا كما كانوا في الجاهلية. وكذلك يوجد عند النصارى من هذا كثير، وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا؛ أن الصحابة كأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر، وبصرة بن أبي بصرة؛ فهموا من الحديث شموله لغير المساجد كالطور، وحديث بصرة معروف في السنن والموطأ، قال لأبي هريرة وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «لا تعمل المطيّ إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى». وأما ابن عمر فروى أبو زيد عمر بن شبه النميري في كتاب «أخبار المدينة». حدّثنا ابن أبي الوزير حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طلق، عن قزعة قال: أتيت ابن عمر فقلت: إني أريد الطور؟ فقال: «لا؛ إنما تشدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطّور لا تأته» «1» رواه أحمد بن حنبل في «مسنده». وهذا النهي من بصرة وابن عمر، ثم موافقة أبي هريرة؛ يدل على أنهم فهموا من حديث النبي صلى الله عليه وسلّم النهي، فلذلك نهوا عنه، لم يحملوه على مجرد نفي الفضيلة. وكذلك أبو سعيد الخدري وهو راوية أيضا وحديثه في الصحيحين، فروى أبو زيد حدّثنا هشام بن عبد الملك حدّثنا عبد الحميد بن بهرام حدّثنا شهر بن حوشب، سمعت أبا سعيد وذكر عنده الصلاة في الطور فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا ينبغي للمطي أن تشدّ رحالها إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» «2». فأبو سعيد جعل الطور مما نهي عن شدّ الرحال إليه، مع أن اللفظ الذي ذكره إنما فيه النهي عن شدّها إلى المساجد، فدل على أنه علم أن غير المساجد أولى

_ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (2/ 38/ 2) كما في «تحذير الساجد» والأزرقي في «تاريخ مكة» (2/ 445). من طريق: سفيان به. وإسناده صحيح، كما قال الألباني في «تحذير الساجد» ص 95. (2) تقدم تخريجه في أول الكتاب.

بالنهي، والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة، وأن الله سماه الوادي المقدس، والبقعة المباركة، وكلّم الله موسى هناك. وما علمت المسلمين بنوا هناك مسجدا، فإنه ليس هناك قرية للمسلمين وإن كان هناك مسجد. فإذا نهي الصحابة عن السفر إلى تلك البقعة وفيها مسجد، فإذا لم يكن فيها مسجد كان النهي عنها أقوى، وهذا ظاهر لا يخفى على أحد. فالصحابة الذين سمعوا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلّم فهموا منه النهي، وفهموا منه تناوله لغير المساجد، وهم أعلم بما سمعوه، وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا، ذكر ما تنازع فيه الأئمة المشهورون أو غيرهم وما لم يتنازعوا فيه، فإن بين الطرفين اللذين لم تتنازع فيهما الأئمة مسائل متعددة فيها نزاع، ولكن طائفة من المتأخرين يستحبون السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ويفعلون ذلك، ويعظّمونه، لكن هل في هؤلاء أحد من المجتهدين الذين تحكى أقوالهم وتجعل خلافا على من قبلهم من أئمة المسلمين؟ هذا مما يجب النظر فيه. وأيضا فالذين قالوا: السفر إليها جائز ليس بمحرّم ولا مكروه؛ قد يفهم منه أنه مستحب، لأن الذين يفعلون ذلك إنما يفعلونه لأنه قربة، فإذا قيل في ذلك إنه جائز، قد تقولون: نحن قلنا هو جائز مباح، لم نقل إنه مستحب، ولا قلنا إن التقرب به جائز، فمن جعله قربة فقد خالف قولنا الصريح، فقد يفهم منه أن التقرب بذلك جائز، لكن قولهم مع ذلك إنه ليس بمستحب ولا فضيلة فيه لأجل الحديث ينفي ذلك، فلا بدّ لهم من اتباع الحديث، فصار في قولهم تناقض. وهذا مما احتجّ به عليهم أهل القول بالتحريم. فهذا الجواب على ما ادّعاه من التناقض في نقل الخلاف والإجماع.

فصل [كلام المصنف على حديث النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة]

فصل [كلام المصنف على حديث النهي عن شدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة] وأما قوله: «إن الزيارة إذا كانت جائزة فالوسيلة إليها جائزة فيجوز السفر». فيقال له: هذا باطل؛ فليس كل ما كان جائزا أو مستحبا أو واجبا جاز التوسل إليه بكل طريق، بل العموم يدّعى في النهي، فما كان منهيا عنه كان التوسل إليه محرما، ومن هذا سد الذرائع. وأما ما كان مأمورا به فلا بدّ أن يكون له طريق، لكن لا يجب أن يجوّز التوسل إليه بكل طريق، بل لو توسّل الإنسان إلى الطاعة بما حرّمه الله؛ مثل الفواحش، والبغي، والشرك به، والقول عليه بغير علم؛ لم يجز ذلك. فلو أراد أن يفعل فاحشة وزعم أنها تفضي إلى طاعة؛ لم يكن له ذلك. وكذلك لو أراد أن يشرك بالله ببطانه ويقول عليه ما لم يعلم، نعم يجوز أن يقول بلسانه ما لا يعتقده عند الإكراه، وأن يستعمل المعاريض عند الحاجة. وإتيان المساجد للجمعة والجماعة من أفضل القربات وأعظم الطاعات، وهو إما واجب أو سنة مؤكّدة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة» «1». ولو أراد مع هذا أن يسافر إلى غير المساجد الثلاثة ليصلّي هناك جمعة أو جماعة؛ لم يكن هذا مشروعا، بل كان محرّما عند الأئمة والجمهور، ولو نذر ذلك لم يوف بنذره عند أحد من الأئمة الأربعة وعامة علماء المسلمين، وليس فيه إلا ما حكي عن الليث بن سعد، مع أن لفظه مجمل. بل ولا يجوز أن يوفي بنذره عند الأكثرين، كما قاله مالك وغيره، لقوله: «لا تشدّ الرحال» وقوله في الحديث الصحيح: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» «2». وقد اتفق العلماء على أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، وإن كان صاحبه يعتقد أنه نذر طاعة، كما لو نذر ذبح نفسه أو ولده، لكن تنازعوا فيما إذا نذر ذبح ولده؛ هل عليه ذبح كبش أو كفارة يمين أو لا شيء عليه؟ على ثلاثة أقوال مشهورة،

_ (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم تخريجه.

وهي ثلاث روايات عن أحمد، لكن ظاهر مذهبه كالأول وهو قول أبي حنيفة، ومذهب الشافعي لا شيء عليه. وكذلك سائر المعاصي قيل فيها كفارة يمين وهو ظاهر مذهب أحمد. وقيل: لا شيء فيها، وهو المنقول عن الشافعي ومالك، وقيل: إن قصد بها اليمين لزمته كفارة يمين، وهو مذهب أبي حنيفة والخراسانيين من أصحاب الشافعي. فالجمهور لما اعتقدوا أن قوله: «لا تشد الرحال» مراده النهي، قالوا: هو سفر معصية، فلا يجوز الوفاء به وإن اعتقده الناذر قربة كما قاله مالك والأكثرون، ولهذا قالوا: لا يجوز السفر لمن قصد القبر سواء كان قبر النبي صلى الله عليه وسلّم أو غيره وإن نذره، ومن قال السفر إلى غير المساجد الثلاثة ليس بمنهي عنه ولا هو طاعة ولا قربة، قال: لا يجب الوفاء به لكنه جائز. ومن هنا يعرف مذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما، فإن قالوا: إن من نذر السفر إلى غير الثلاثة يجوز له السفر، وإن لم يجب عليه كان قولهم بجواز السفر، وأن الحديث لنفي الفضيلة، كما قاله من قاله من المتأخرين. وإن قالوا: إن هذا النذر لا يوفى به بحال لنهي النبي صلى الله عليه وسلّم أن يسافر إلى غير الثلاثة، كما قاله مالك وغيره؛ دل على تحريم السفر إلى غير الثلاثة، وهو لو نذر السفر للصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم أو المسجد الأقصى جاز له السفر باتفاقهم، وإنما تنازعوا في الوجوب؛ فمذهب مالك وأحمد أنه يجب، ومذهب أبي حنيفة لا يجب، وللشافعي قولان. وقوله: «كيف تكون الرحلة إلى القربة معصية محرمة»؟ يقال له: هذا كثير في الشريعة؛ كالرحلة للصلاة والاعتكاف والقراءة والذكر في غير المساجد الثلاثة، فإن هذا معصية عند مالك والأكثرين، وكما لو رحلت المرأة إلى أمر غير واجب بدون إذن الزوج؛ كحج التطوع فإنها رحلة إلى قربة وهي معصية محرمة بالاتفاق. وكذلك العبد لو رحل إلى الحج بدون إذن سيّده كان رحيله إلى قربة وكان معصية محرمة بالإجماع. وكذلك المرأة إذا رحلت بغير زوج ولا ذي محرم لزيارة غير واجبة، ومثل هذا كثير. ولو كان الطريق يحصل فيه ضرر في دينه لم يكن له أن يسافر لا للحج ولا لإتيان المسجد وإن كان ذلك قربة، والمرأة بلا سفر لها أن تشهد العيد والجمعة بل والجماعة بلا سفر، وليس لها أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم. ومن طولب بقضاء دين لزمه قضاؤه ولم يكن له أن يسافر بالمال الذي يجب صرفه في قضاء دينه، وإن كان قصده أن يتوسل بذلك السفر إلى الحج وغيره. ففي مواضع كثيرة يكون العمل طاعة إذا أمكن بلا سفر، ومع السفر لا يجوز. وصاحب الشرع قد قال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي

هذا، والمسجد الأقصى». ومعلوم أن سائر المساجد يستحبّ إتيانها بلا سفر، فهذا الفرق ثابت بنص الرسول صلى الله عليه وسلّم. فإن قيل: ما رحل إليه هؤلاء المنهيون عن السفر ليس بقربة في حقهم. قيل له: ومن رحل لزيارة القبور لم يكن ما رحل إليه قربة في حقه. فزيارة القبور بالرحلة كالصلاة في غير المساجد الثلاثة، فالرحلة ليست بقربة ولا طاعة، بل معصية محرمة عند الأئمة الذين صرّحوا بذلك ومن وافقهم. وأما نقل الخطا إلى المساجد، فهو إتيان إليها بغير سفر، وهذا مشروع، فهو نظير نقل النبي صلى الله عليه وسلّم خطاه إلى زيارة أهل البقيع فإن ذلك عمل صالح، وكذلك الزيارة المستحبة من البلد نقل الخطا فيها عمل صالح. فقد تبين أنه لا مناقضة في ذلك، ولو قدّر أن هذا تناقض كان تناقضا ممن قال ذلك؛ مثل مالك وجمهور أصحابه، ومثل من قاله من أصحاب الشافعي وأحمد، فإن المجيب ذكر القولين. فإن كان هنا عوار وشنار في القول بالتحريم كان هذا لازما لمالك الإمام ومن وافقه، وحاشى لله أن يلزم مالكا ومن وافقه تناقض فيها. في هذا وهم متّبعون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم. لكن هذا المعترض الجاهل تارة يجعل قول المتبعين للسنة كمالك وغيره تناقضا، وتارة يجعله مجاهرة للأنبياء بالعداوة وإظهارا لعنادهم، وهو يضيف ذلك إلى المجيب، والمجيب لم يقل إلا ما قاله هؤلاء، بل حكى قولهم وقول غيرهم وذكر حجّة القولين بخلاف مالك وأتباعه فإنهم جزموا بالتحريم ولم يلتفتوا إلى قول من حمل الحديث على نفي الاستحباب؛ لظهور فساد هذا القول وتناقضه. وأيضا فهذا الذي ذكره إنما يتصوّر في زيارة غير قبر النبي صلى الله عليه وسلّم كأهل البقيع وشهداء أحد وسائر المؤمنين المدفونين في بلادهم. ومع هذا ما علمنا أحدا أنه قال يستحبّ السفر لمجرّد هذه الزيارة، بل إما أن يكون محرّما وإما أن يكون مباحا، وإن كانت الزيارة من البلد مستحبة، وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم فله شأن آخر؛ فضّله الله على غيره، فإن الله أمرنا بالصلاة والسلام مطلقا وأن تطلب له الوسيلة. ومحبته وتعظيمه فرض على كل أحد بل فرض على كل أحد أن يكون الرسول أحب إليه من ولده ووالده، وهو أولى بكل مؤمن من نفسه، فحقوقه وشريعته إيجابا واستحبابا لا يختص ببقعة، بل هي مشروعة في جميع البقاع، لا فرق في ذلك بين أهل المدينة وغيرهم. وقد نهى أن يتّخذ قبره عيدا، وقال: «صلوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني». وقال في السلام مثل ذلك، وأخبر أن «لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام». وهو قد حيل بين قبره وبين الناس ومنعوا من الوصول إليه، إذ لم يكن داخل الحجرة عبادة مستحبة هناك دون المسجد، بل كل ما يفعل هناك ففعله في المسجد أفضل من صلاة

وتسليم عليه وغير ذلك، ولهذا لم تكن الصحابة والتابعون بالمدينة إذا دخلوا المسجد وخرجوا يقفون عند قبره لا لصلاة ولا دعاء ولا سلام ولا غير ذلك. وقد ذكر أهل العلم مالك وغيره أن هذا يكره، ولم يكن السلف يفعلونه، وإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. ومعلوم أنه لو كان الإتيان إلى عند القبر مستحبا لأهل المدينة لكان الصحابة والتابعون أعلم بذلك وأتبع له من غيرهم. ومالك وأمثاله ممن أدرك التابعين من أعلم الناس بمثل هذا، وقد ذكر أنه لم يبلغه عن أحد من صدر هذه الأمة من أهل المدينة أنه كان يقف عند القبر لا لسلام ولا لغيره. وذكر مالك أن ذلك يكره إلا عند السفر، لما نقل عن ابن عمر، وقد كره مالك وغيره أن يسمي هذا زيارة لقبره. وحينئذ فيقال: أهل المدينة يكره لهم ما تسمّيه أنت زيارة لقبره، فلم يبق هذا مشروعا بلا سفر حتى يقال: إن السفر إليه وسيلة إلى المستحب، وإنما استحبه مالك وأحمد وغيرهما لمن سافر لأجل المسجد، فإذا صار في المسجد فيفعل ذلك، بل المستحب لأهل المدينة لا يستحب السفر له بل إذا سافر إليها فعله، فإذا صار بالمدينة زار أهل البقيع وشهداء أحد وزار مسجد قباء، وإن كان لم يسافر لأجل ذلك، فما لا يستحب لأهل المدينة أولى أن لا يستحبّ السفر إليه. وابن عمر إنما كان يقف عند القبر ويسلم إذا قدم من سفر وقدومه لم يكن لأجل الزيارة بل كانت المدينة وطنه، فيدخل المسجد فيصلي فيه ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلّم.

فصل [الرد على المعترض فيما افتراه على أئمة المسلمين في أنهم يجوزون السفر إلى زيارة القبور]

فصل [الرد على المعترض فيما افتراه على أئمة المسلمين في أنهم يجوّزون السفر إلى زيارة القبور] وأما قول المعترض: «إنه نقل الجواز عن الأئمة المرجوع إليهم في علوم الدين والفتوى، المشتهرين بالزهادة والتقوى، الذين لا يعتد بخلاف من سواهم، ولا يرجع في ذلك لمن عداهم، ونقل عدم الجواز- إن صح نقله- عن من لا يعتمد عليه، ولا يعتدّ بخلافه، ولا يعرّج عليه، بل هو ملحق بصاحب هذه المقالة في الخطأ والطغيان والجراءة على مرتبة النبيين الموجبة للخسران». فيقال: أولا: قائل هذا هو إلى التعزير والتأديب والأمر بتعلم العلم وأن يقال له: تعلم ثم تكلم؛ أحوج منه إلى أن يناظر ويردّ عليه، فإنه لا يعرف قدر العلماء ولا يعرف ما قاله مالك وهو إمام الأمة في زمنه، ولا يعرف ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلّم. وكلامه يقتضي أن مالكا وأمثاله ممن لا يعتمد عليه ولا يعتدّ بخلافه، وأنه من أهل الخطأ والطغيان، وأهل الجراءة على النبيين الموجبة للخسران، ومعلوم أن من قال هذا في علماء المسلمين كمالك ونحوه استحق العقوبة البليغة. فإن هذا قول يلزم منه أن مالكا وأمثاله من الأئمة هم من الذين جاهروا بالعداوة للأنبياء وأظهروا لهم العناد، وأن فيهم جراءة على مرتبة النبيين توجب الخسران؟ ومعلوم أن هذا من أعظم الافتراء عليهم والاجتراء. ثم إنه قال ذلك فيما اتبعوا فيه الرسول صلى الله عليه وسلّم وأطاعوا فيه أمره ونهيه، ونهوا عما نهى وأمروا بما أمر، فصار حقيقته أنه من أطاع الله ورسوله ونهى عما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلّم؛ كالسفر إلى غير المساجد الثلاثة هو كافر معاند للأنبياء. ومعلوم أن من قال مثل هذا فإنه يستتاب فإنه تاب وإلا قتل، وإذا لم يعرف أن قوله يتضمن هذا ويستلزمه عرّف ذلك ويبين له، فإن أصرّ استحق العقوبة، ولو عرف أن هذا يلزم قوله لكان كافرا مرتدا، لكنه جاهل لم يعرف أن هذا يلزم قوله، فإنه لم يعرف مذهب مالك ولا غيره من الأئمة في مسألة النزاع، ولا عرف ما فيها من الأدلة الشرعية، ولا تدبّر ما ذكره المجيب؛ بل تكلّم بظنه وهواه، وأعرض عن سبيل الهدى الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلّم، قال تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى [النجم: 23].

ثم يقال ثانيا: هب أن الذين نقل عنهم الجواز أفضل أهل الأرض فالمجيب؛ ذكر القولين وذكر حجة كل واحد من نصر الجواز سوغ له المجيب ذلك، فإنه قد قاله جماعة من العلماء لكن هؤلاء المعارضون خرقوا إجماع الطائفتين وقالوا: إنه يستحبّ السفر لمجرد زيارة القبور، فقالوا: إنه يستحب السفر إلى غير المساجد الثلاثة، وعلى ذلك فيجب بالنذر على قول الجمهور الذين يوجبون الوفاء بنذر الطاعة كمن نذر السفر إلى المدينة وبيت المقدس، وهو قول مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه. فهؤلاء خرقوا إجماع الطائفتين وما كفاهم ذلك حتى ادعوا أن هذا الخرق للإجماع إجماع، وحتى سعوا في عقوبة من قال يقول إحدى الطائفتين، إما الجواز وإما التحريم، بل استحلوا تكفيره والسعي في قتله، فهؤلاء من أعظم أهل البدع والضلال كالخوارج والروافض، وأمثالهم من الجهال الذين يخالفون السنة وإجماع السلف، ويعادون من قال بالسنة وإجماع السلف لشبه باطلة كأحاديث مفتراة وألفاظ مجملة لم يفهموها. ويقال ثالثا: المجيب سمى من المجوزين ثلاثة: أبو حامد الغزالي من أصحاب الشافعي، وأبو الحسن بن عبدوس وأبو محمد المقدسي من أصحاب أحمد، وسمى من المانعين؛ أبا عبد الله بن بطة وأبا الوفاء بن عقيل ولكن ليس هذا قولهما فقط بل هو قول مالك. صرح بذلك في قبر النبي صلى الله عليه وسلّم وغيره، وهؤلاء ذكروا ذلك على وجه التعميم. قال أبو الوفاء بن عقيل في كتابه المشهور المسمى بالفصول وبكفاية المفتى: فصل: فإن سافر إلى زيارة المقابر كهذه المشاهد المحدثة كمشهد الكوفة وسامرّاء وطوس والمدائن وأوانا «1»، كقبر مصعب بن عمير وطلحة والزبير بالبصرة، بينه وبينها مسافة القصر، لم يستبح رخصة السفر لأن شد الرحال نحوها منهي عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا». والنهي يمنع أن يكون هذا سفرا شرعيا، والترخّص بما نهي عنه لا يجوز. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد» والميزة معتبرة بالشرع، قال: «فإن سافر أحد إلى أحد هذه المواضع في تجارة أو زيارة نظرت، فإن كان قصده التجارة والزيارة تابعة جاز القصر، وإن كان أكثر قصده الزيارة وكان قصده لهما متساويا فلا يستبيح ذلك لأنه سفر منهي عنه أشبه سفر المعصية». فابن عقيل ذكر المنع من السفر إلى القبور عموما، لكن احتج بحجة مالك: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد». وكذلك أبو محمد الجويني وغيره من أصحاب الشافعي صرّحوا بتحريم السفر إلى غير الثلاثة عموما، لأجل الحديث، وهو قوله

_ (1) «بالفتح والنون؛ بليدة كثيرة البساتين والشجر، نزهة من نواحي دجيل بغداد، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ» (م).

صلى الله عليه وسلّم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد». فقولهم كقول مالك يوجب التحريم إلى ما سوى الثلاثة من زيارة القبور وغيرها. وأما ابن بطة فإنه ذكر ذلك في الإبانة الصغرى التي يذكر فيها جل أقوال أهل السنة وما خالفها من البدع «البناء على القبور وتجصيصها وشد الرحال إلى زيارتها» فذكر ذلك أيضا عموما، وقوله: وشدّ الرحال إلى زيارتها يبين أن هذا الشد داخل عنده في قوله صلى الله عليه وسلّم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» كما أن تجصيصها داخل في نهيه صلى الله عليه وسلّم عن تجصيص القبور. وليس هؤلاء القائلون بالتحريم بدون أولئك، بل هم أجلّ قدرا وأحق بمنصب الاجتهاد من أولئك، فإن مالكا إمام عظيم. ثم قوله: هذا قد وافقه عليه أصحابه مع كثرتهم وكثرة علمائهم، وقوله الذي صرح فيه بالنهي عن الوفاء بالنذر لمن نذر إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلّم ذكره القاضي إسماعيل بن إسحاق مقررا له، وهو أولى بمنصب الاجتهاد من أولئك وهو أعلم بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين ممن خالفه من أصحاب الشافعي وأحمد، فإن المخالفين فيها مثل أبي المعالي والغزالي ونحوهما، وهؤلاء ليس فيهم عند أصحاب الشافعي من له وجه في مذهب الشافعي فضلا عن أن يكون مجتهدا بخلاف أبي محمد الجويني والد أبي المعالي فإنه صاحب وجه في مذهب الشافعي. وكان يقال: لو جاز أن يبعث الله نبيا في زمنه لبعثه في علمه ودينه وحسن طريقته، وابنه أبو المعالي إنما تخرّج به وهو معظّم لوالده غاية التعظيم؛ ولكن قول أبي المعالي مأثور عن الشيخ أبي حامد وأبي علي بن أبي هريرة وهما من أصحاب الوجوه، ولهذا كان في المسألة وجهان، وقد وافق فيها ابن عبد البر وطائفة، ولكن مالك وجمهور أصحابه مع من وافقهم من السلف والأئمة أجلّ قدرا من المخالفين لهم. وقد تقدم أن مالكا وأصحابه ينهون عن الوفاء بنذر ذلك وأنه من نذر إتيان المدينة أو بيت المقدس لغير الصلاة في المسجد؛ لم يجز له الوفاء بنذره، لأن السفر لغير المسجد منهي عنه، سواء سافر لزيارة ما هناك من قبور الصالحين أو غير ذلك. وابن بطة العكبري من أعلم الناس بالسنة والآثار وأتبعهم لها، ومن أزهد الناس، وهو معروف بأن دعاءه مستجاب. وقد رأى النبيّ صلى الله عليه وسلّم في منامه الحسين بن علي الجوهري أخو أبي محمد الجوهري الحسن فقال: يا رسول الله قد اشتبهت علينا المذاهب. فقال: عليك بهذا الشيخ يعني ابن بطة، فانحدر إلى عكبرا فلما رآه أبو عبد الله تبسم، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم «1». وعلمه بالسنة وزهده ودينه غاية. وأبو الوفاء بن عقيل مبرّز في زمانه تعظمه الطوائف كلها لبراعته وفطنته وفهمه، وهو أعلم بالفقه والكلام والحديث ومعاني القرآن من أبي حامد، وهو في الدين من أحسن

_ (1) «سير أعلام النبلاء» (16/ 530).

الناس دينا. ولكن أبا حامد دخل في أشياء من الفلسفة هي عند ابن عقيل زندقة، وقد رد عليه بعض ما دخل فيه من تأويلات الفلاسفة. وابن عقيل يزن كلام الصوفية بالأدلة الشرعية أكثر مما يزنه أبو حامد «1». ففي الجملة من عرف أقدار العلماء تبين له أن القائلين بالتحريم للسفر إلى غير المساجد الثلاثة؛ القبور وغيرها، هم أجل قدرا عند الأمة من القائلين بالجواز. والذين سماهم المجيب سمّى من حضره قوله وقت الجواب من هؤلاء وهؤلاء، ولم يتعرض لتفضيل أحد الصنفين، بل ذكر حجة هؤلاء وهؤلاء على عادة العلماء، فإن الأحكام الشرعية تقوم عليها أدلة شرعية فيمكن معرفة الحق فيها بالعلم والعدل. وأما تفضيل الأشخاص بعضهم على بعض ففي كثير من المواضع لا يسلم صاحبه عن قول بلا علم واتباع لهواه، فللشيطان فيه مجال رحب. والمجيب لم يتعرّض لذلك، ولو قدّر أن المنازع واحد فالاعتبار في موارد النزاع بالحجة، كما قال تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء: 59]. وقول هذا المعترض:- أنه نقل الجواز عن الأئمة المرجوع إليهم في علوم الدين والفتوى، المشتهرين بالزهادة والتقوى، الذين لا يعتدّ بخلاف من سواهم ولا يرجع في ذلك لمن عداهم-. كلام باطل، صدر عن متكلّم بلا علم، توغّل في الجهل فليس في الأمة من هو بهذه الصفة بل هذا من خصائص الرسول، فهو الذي لا يعتدّ بخلاف من سواه، وكل من سوى الرسول يؤخذ من قوله ويترك، كما نقل ذلك عن مالك قال: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر. ولو قيل مثل هذا في الأئمة المجتهدين كالأربعة كان منكرا من القول وزورا. فلو قال قائل: الأئمة الأربعة لا يعتدّ بخلاف من سواهم، فإذا خالفهم الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وأبو عبيد ونحوهم، أو خالفهم سعيد بن المسيب والحسن البصري وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح، أو خالفهم ابن عمر أو ابن عباس أو أبو هريرة وعائشة ونحوهم لم يعتد بخلافهم لكان هذا منكرا من القول وزورا. فكيف يقال لبعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد، وهم قد خالفوا شيوخهم؛ إن هؤلاء لا يعتدّ بخلاف من سواهم ولا يرجع في ذلك لمن عداهم؟

_ (1) «لأن ابن عقيل أعلم بنصوص السنة من أبي حامد» (م).

فصل [زعم المعترض أن المؤلف خرق الإجماع]

فصل [زعم المعترض أن المؤلف خرق الإجماع] قال المعترض: «ثم يلزم من دعواه أن ذلك مجمع على تحريمه؛ أن تكون السادة الصحابة مع التابعين ومن بعدهم من العلماء المجتهدين، للإجماع خارقين، مصرّين على تقرير الحرام، مرتكبين بأنفسهم وفتاويهم ما لا يجوز، مجمعين على الضلالة، سالكين طريق العماية والجهالة». فيقال: هذا من نمط ما قبله، وفيه من القول المنكر والزور ما لا يحيط بتفصيله إلا رب العالمين. وذلك أن الجواب ليس فيه إلا الإجماع على أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة كزيارة القبور ليس مستحبا ولا قربة ولا طاعة، ولم ينقل خلاف هذا عن أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، أن السفر لمجرد زيارة القبور مستحبّ، هذا لا يمكن أحد أن ينقله عن أحد من السلف والأئمة الأربعة ولا غيرهم، بل ولا كان على عهد الصحابة رضي الله عنهم في ديار الإسلام قبر ولا مشهد ولا أثر يسافر إليه، ولم يكن أحد على عهد الصحابة والتابعين يسافر إلى قبر الخليل ولا كان ظاهرا، بل كان في المغارة التي بني عليها البناء الذي يمنعه. وقيل: إن سليمان عليه السلام بناه كما بنيت الحجرة على قبر نبينا صلى الله عليه وسلّم وكان الصحابة والتابعون يسافرون إلى بيت المقدس ولم يكونوا يسافرون إلى قبر الخليل، وقبر يوسف نفسه إنما ظهر في خلافة المقتدر أظهره بعض العجائز المتصلة بدار الخلافة ولا كان لتلك البنية باب حتى استولى الكفار الفرنج على البلاد، فهم نقبوا نقبا ودخلوا فيه وصار ذلك مثل الباب، ثم لما فتح المسلمون البلاد لم يسد ذلك النقب. فالسنة أن يسدّ ولا يدخل أحد إلى هناك لا لصلاة ولا غيرها، كما كان عليه الأمر على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الصحابة والتابعين، فمتى أقر الصحابة والتابعون أحدا على شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، القبور أو غيرها؟! وبصرة لما رأى أبا هريرة قادما من الطور الذي كلّم الله عليه موسى قال: لو أدركتك قبل أن تذهب إليه لم تذهب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد» ووافقه أبو هريرة على ذلك. هكذا رواه أهل السنن والموطأ وفي الصحيحين أن أبا هريرة رضي الله عنه روى هذا وذلك الحديث، فإما أن يكون أبو

هريرة قد نسي الحديث، أو يقال لم يكن سمعه وهو ضعيف، أو يكون ما في الصحيحين هو الصواب دون قصة بصرة بن أبي بصرة. نعم الذي أقرّ عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين هو السفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم وهذا مستحب مشروع بالنص والإجماع. والإنسان إذا أتى مسجده فصلى في مسجده ما يشرع له من الصلاة والصلاة على الرسول والتسليم والثناء عليه ونشر فضائله ومناقبه وسننه وما يوجب محبته وتعظيمه والإيمان به وطاعته، فهذا كله مشروع مستحب في مسجده، هذا هو المقصود من الزيارة الشرعية. والسفر إلى مسجده للصلاة فيه وما يتبع ذلك مستحب بالنص والإجماع. ولكن كلام المعترض يشعر بأن المجيب ينهى عن السفر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وزيارته الزيارة الشرعية، وأنه حكى في ذلك قولين، وبهذا يشنّع بعض الناس ممن له غرض فاسد، أو جهل بما يقال، أو جمع الأمرين وهذا باطل، وكلام المجيب في أجوبته الكثيرة ومصنفاته كلها بيّن أن السفر إلى مسجده وزيارته الشرعية مستحبّ باتفاق المسلمين لم ينه عنه أحد. وهذا الذي اتّفق عليه المسلمون وإن تنازعوا في بعض تفاصيل الزيارة الشرعية، فثم أمور يستحبها بعضهم وينهى عنها بعضهم، قد ذكرت في مواضع. فمواضع النزاع لا يصح فيها دعوى الإجماع ومحل النزاع لم يذكر في الجواب فيه نزاع، فإن كان هذا المعترض ظنّ أنه حكى الإجماع على تحريم السفر إلى مسجده وزيارته الشرعية؛ فهذا خطأ منه، ليس في الجواب شيء من هذا، بل فيه تقرير السفر إلى مسجده والزيارة الشرعية، فإنه جعل عمدة المتنازعين قوله صلى الله عليه وسلّم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا». وقد ذكر المجيب أن هذا الحديث مما اتفق الأئمة على صحّته والعمل به. فلو نذر الرجل أن يصلي بمسجد أو مشهد أو يعتكف فيه ويسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة الأربعة، ولو نذر أن يسافر ويأتي إلى المسجد الحرام بحج أو عمرة وجب ذلك باتفاق العلماء، ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم والمسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد، ولم يجب عليه عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده الوفاء بالنذر إلا فيما كان من جنسه واجب بالشرع. وأما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة، كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه». والسفر إلى المسجدين طاعة، فلهذا وجب الوفاء به. وأما السفر إلى غير المساجد الثلاثة؛ فلم يوجبه أحد من العلماء، هكذا في الجواب، والشافعي رحمه الله في القول الذي لا يوجب فيه السفر إلى المسجدين

يستحبه بخلاف ما سوى المساجد الثلاثة؛ فإنه لا يوجبه ولا يستحبه، وهذا معروف من كلامه وكلام أصحابه الذين شرحوا كلامه، مثل تعليقة الشيخ أبي حامد وغيرها، وقد نقل عن الليث كلام قد بسط الكلام عليه في مواضع أخرى. فهذا في نفس الجواب أن السفر إلى المساجد الثلاثة باتفاق العلماء، كما دل عليه الحديث الصحيح الذي اتفقوا على صحته، ولكن تنازعوا في وجوب ذلك بالنذر، مع أن الذين قالوا لا يجب السفر إلى المسجدين قالوا: إنه يستحبّ بخلاف ما سوى المساجد الثلاثة؛ فلا يجب ولا يستحب عند أحد منهم، بل صرّح بالتحريم من صرّح منه كمالك وغيره، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد. قال الشافعي في مختصر المزني: «ولو قال لله عليّ أن أمشي لم يكن عليه شيء حتى يكون برا، فإن لم يكن برا فلا شيء عليه لأنه ليس في المشي إلى غير المواضع الثلاثة بر، وذلك مثل المسجد الحرام، قال: وأحب لو نذر إلى مسجد المدينة، أو إلى بيت المقدس أو يمشي» «1». قال الشيخ أبو حامد الأسفرائيني: إذا نذر مشيا فلا يخلو إما أن يعيّن الموضع الذي يمشي إليه أو لا يعين؛ فإن لم يعيّن الموضع فإن هذا النذر لا ينعقد لأن المشي في نفسه ليس بقربة، وإنما يلزمه إذا نذر المشي إلى قربة؛ كالحج والعمرة والجهاد، وإن عيّن الموضع الذي يمشي إليه فلا يخلو إما أن يقول: لله عليّ أن أمشي إلى بيت الله الحرام، أو إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم، أو المسجد الأقصى، أو إلى أحد المساجد، قال الشافعي: كمسجد مصر أو إفريقية، فإذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام انعقد نذره. وإن نذر المشي إلى مسجد الرسول أو إلى المسجد الأقصى فالذي في «الأم» أنه لا يلزمه لأنه قال: وأحبّ لو نذر المشي إلى مسجد المدينة. وقال في البويطي: يلزمه المشي إليه وهو قول مالك. وعلل أبو حامد القولين وقال في توجيه منع اللزوم: فيحمل على أنه أراد لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد واجبا، ويحتمل لا تشدّ مستحبا لكنه وجوبا أو استحبابا، فتبين أنه لا يستحبّ السفر إلى غير المواضع الثلاثة، قال: أما إذا نذر أن يمشي إلى مسجد من المساجد سوى الثلاثة مثل مسجد مصر وإفريقية، فإن هذا لا يلزمه وإن نذر أن يصلي في مسجد منها معين لزمه الصلاة ولا يتعين الموضع، وله أن يصلي في أي مسجد شاء، لأن المشي في نفسه ليس بقربة. وإنما يلزمه إذا نذر المشي إلى ما هو قربة، ومعلوم أنه ليس لغير هذه الثلاثة مزيّة بعضها على بعض في القربة، فلم يتعيّن المشي إليه أو الصلاة فيه بالنذر. فإذا كان هذا في الفتيا فكيف يجوز أن يظنّ أن فيها النهي عن ما فعله الصحابة

_ (1) «هذا النص في مختصر المزني بهامش «الأم» ج 5 ص 238» (م).

والتابعون وأئمة المسلمين من السفر إلى مسجده؟ وقد صرح فيها بأن ذلك طاعة مشروعة بالنص والإجماع. وأما زيارته ففي نفس الجواب. وما ذكره السائل من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فكلّها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها، ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها، بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل: زرت قبر النبيّ صلى الله عليه وسلّم، ولو كان هذا اللفظ مشروعا عندهم أو معروفا أو مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكرهه عالم المدينة. والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك؛ أي عن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث إلا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ما من أحد يسلّم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أردّ عليه السلام». وعلى هذا اعتمد أبو داود في «سننه»، وكذلك مالك في «الموطأ» روى عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت» ثم ينصرف. فهذا قد ذكر في الجواب؛ أن الأحاديث المروية في زيارة قبره كلها ضعيفة، لم تعتمد الأئمة على شيء منها، بل مالك كره أن يقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، ولكن أحمد وغيره كأبي داود وعبد الملك بن حبيب اعتمدوا في زيارة قبره على قوله صلى الله عليه وسلّم: «ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام». ومالك وأحمد وغيرهما احتجّوا بحديث ابن عمر أنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر، فكان عند الأئمة كمالك وأحمد من المأثور في ذلك السلام عليه، وهذا هو الذي يسمى زيارة قبره، فأحمد وأبو داود وغيرهما يسمون السلام عليه زيارة لقبره صلى الله عليه وسلّم، وكذلك ترجم أبو داود عليه: باب ما جاء في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم. وأما مالك فإنه يستحب هذا السلام ولا يسميه زيارة لقبره، ومالك قد تقدم كلامه وأنه في مواضع لم يستحب سوى السلام كما جاء عن ابن عمر، وقد ذكر في الجواب. وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا عليه وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر. وأما وقوف المسلّم عليه، فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة أيضا ولا يستقبل القبر. وقال أكثر الأئمة: بل يستقبل القبر عند السلام عليه خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة أنه يستقبل القبر عند الدعاء يعني لنفسه، كما يفعله المستغيثون بالميت، ولم يقل أحد من الأئمة أنه يستقبل القبر في هذه الحال إلا في حكاية مكذوبة تروى عن

مالك ومذهبه بخلافها «1». واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وسلّم بيده ولا يقبّله. فقد ذكر ما ذكره العلماء في زيارته والسلام عليه، وأين يسلّم عليه وأين يدعو، وهذا كله إنما يكون في المسجد. وقد تقدّم أن السفر إلى المسجد مستحبّ مشروع بالنص والإجماع، فهذا الذي أجمع عليه المسلمون ذكر في الجواب أنه مستحبّ، فهذا الذي يزعم أن في الجواب ما يقتضي إجماع الصحابة والأئمة على تقرير الحرام قول باطل ظاهر البطلان، بل في الجواب ذكر ما أجمع عليه وما نوزع فيه، والمجمع عليه من الزيارة والسفر ذكره، وذكر أنه ثابت بالنص والإجماع.

_ (1) «انظر كتاب «التوسل والوسيلة» للمؤلف ص 67 إلى 82 وص 154. طبع السلفية سنة 1374» (م). قلت: وقد قام على تحقيق الكتاب العلامة ربيع بن هادي المدخلي- سلّمه الله من كيد الأعادي- ونشر قديما بمكتبة لينة بدمنهور بمصر. وهي نسخة كاملة مضبوطة ومحققة تحقيقا علميا قويا.

فصل [افتراء المعترض على المصنف]

فصل [افتراء المعترض على المصنف] قال المعترض: «لكن كم لصاحب هذه المقالة من مسائل خرق فيها الإجماع، وفتاوى أباح فيها ما حرّم الله من الإبضاع، وتعرّض لتنقيص الأنبياء، وحطّ من مقادير الصحابة والأولياء، فلقد تجرأ بما ادّعاه وقاله، على تنقيص الأنبياء لا محالة، فتعين مجاهدته والقيام عليه، والقصد بسيف الشريعة المحمدية إليه، وإقامة ما يجب بسبب مقالته نصرة للأنبياء والمرسلين، ليكون عبرة للمعتبرين. وليرتدع به أمثاله من المتمرّدين. والحمد لله رب العالمين». آخر كلامه. والكلام على هذا من وجوه: أحدها: أن هذا ليس كلاما في المسألة العلمية التي وقع فيها النزاع، ولا عينت مسألة أخرى حتى يتكلم فيها بما قاله العلماء ودل عليه الكتاب والسنة، وإنما هو دعاوى مجردة على شخص معين. ومعلوم أن مثل هذا غير مقبول بالإجماع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدّعى عليه» «1». الوجه الثاني: أن يقال: ثم من المعلوم أنه ما من أهل ضلالة إلا وهم يدّعون على أهل الحق من جنس هذه الدعوى، فاليهود يدّعون أن الرسول صلى الله عليه وسلّم وأمته أباحوا ما حرّمه الله كالعمل في السبت، ومثل أكل كل ذي ظفر كالإبل والبط والإوز، وكشحم الترائب والكليتين وغير ذلك، والنصارى تقول: إنهم تنقّصوا المسيح والحواريين، فإن الحواريين عندهم رسل الله، وقد يفضّلونهم على إبراهيم وموسى، ويقولون عن المسيح: إنه الله، ويقولون: هو ابن الله، ومن قال إنه عبد الله فقد سبّه وتنقّصه عندهم، والطائفتان يحرّمون التّسري، والنصارى يحرّمون الطلاق، واليهود إذا تزوجت المطلقة حرّمت على المطلّق أبدا، والنصارى قد يحرّمون التزوّج ببنات العم والعمة والخال والخالة، ويحرمون أن يتزوّج الرجل أكثر من واحدة. فمحمد صلى الله عليه وسلّم وأمته عند الطائفتين قد أباحوا ما حرّمه الله من الإبضاع على

_ (1) أخرجه البخاري (4552) ومسلم (1711).

زعمهم. فإذا كان مثل هذا الكلام قد يقوله أهل الباطل من الكفار لأهل الإيمان كما قد يقوله أهل الحق بمجرّد دعواه لا يقبل، بل على المدعي أن يبين أن ما ادعاه مما يقوله أهل الحق في أهل الباطل دون العكس. الوجه الثالث: إن المتنازعين من الأئمة قد يقول أهل البدع منهم والأهواء مثل هذا في أئمة السنة والجماعة، كما يقول الرافضة: إن الصحابة خالفوا نصّ الرسول صلى الله عليه وسلّم بالخلافة على عليّ وبدّلوه وكتموه، وذلك أعظم من مخالفة الإجماع، ويقولون: إن جمهور المسلمين أباحوا نكاح الكتابيات عندهم مما حرمه الله من الإبضاع. ويقولون: إن الصحابة وجمهور الأمة حطّوا من مقادير أولياء الله عليّ وأئمة أهل بيته، وهم الخلفاء الراشدون وهم عندهم معصومون، وهم غلاة في عصمتهم، وقالوا: إنه لا يجوز عليهم السهو والغلط بحال، وغلوا في عصمة الأنبياء ليكون ذلك تمهيدا لما يدّعونه من عصمة الأئمة أولياء الله، إذ هم عند طائفة منهم أفضل من الأنبياء «1»، وجمهورهم يقولون الناس أحوج إليهم منهم إلى الأنبياء، وإنهم قد يستغنون عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولا يستغنون عن الإمام المعصوم، وذلك واجب عندهم في كل زمان، وقالوا: إنه من حين صغره يكون معصوما، حتى قالوا لأجل ذلك إن النبي يجب أيضا أن يكون قبل النبوة معصوما من الغلط والسهو في كل شيء، وزعم بعضهم أنه لا بدّ أن يكون النبيّ والإمام عارفا بلغة كل من بعث إليهم على اختلاف لغاتهم وكثرتها، ولا بد أيضا أن يكون عالما بالصنائع والمتاجر وسائر الحرف، ليكون مستغنيا بعلمه عن الرجوع إلى أحد من رعيته في دين أو دنيا، وذلك يوجب رجوع المعصوم إلى غير المعصوم وإلى من يجوز عليه الخطأ أو الغلط، ولأن رجوعه إليهم يقتضي نقصه عندهم وحاجته. وعندهم أن من نفى هذا عن الأئمة والأنبياء فقد تعرّض لتنقيص الأنبياء وحطّ من مقادير الأئمة والأولياء. وعندهم أن من قال ذلك فقد تجرّأ بما ادّعاه وقاله على تنقيص الأنبياء لا محالة، فتعين عندهم مجاهدته والقيام عليه والقصد بسيف الشريعة المحمدية إليه، وإقامة ما يجب بسبب مقالته نصرة للأنبياء والمرسلين ولأولياء الله أئمّة الدين. وبهذا ونحوه استحلّ أهل البدع تكفير جمهور المسلمين وقتالهم، واستحلّوا دماءهم وأموالهم وسبي عيالهم، واستعانوا عليهم بالكفار من النصارى والمشركين

_ (1) كما قال صاحب كتاب «الحكومة الإسلامية» (ص 52): «وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث، فإن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، والأئمة (ع) كانوا قبل هذا العالم أنوارا ... إلى أن قال: وقد ورد عنهم (ع): إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل»!!. أقول: «سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم».

الترك التتار «1» حتى فعلوا بديار الإسلام ما فعلوه بالعراق وخراسان والجزيرة والشام، وغير ذلك. وكذلك فعلوا بمصر والمغرب في دولة العبيديين. وإذا كان مثل هذا القول يقوله أهل البدع والضلال بل أهل الردة والنفاق، كما يقوله الكفار في أهل الإيمان، وقد يقوله المحقّ فيمن يستحقّه، وأكثر من عرف أن يقوله في أهل العلم هم أهل البدع والنفاق والكفار. ولا ريب أن قول هذا المبتدع الجاهل هو بهم أشبه إذ هو من أهل البدع الجهال، ليس هو ممن يعرف النظر والاستدلال. الوجه الرابع: أن يقال: علماء المسلمين وأئمة الدين ما زالوا يتنازعون في بعض المسائل فيبيح هذا من الفروج ما يحرّمه هذا، كما يبيح كثير نكاح أم المزني بها وابنتها، ولا يرون الزنا ينشر حرمة المصاهرة، وهو قول الشافعي وغيره. وآخرون يحرّمون ذلك وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وتنازعوا في الخلية والبرية والبائن والبتة ونحو ذلك من كنايات الطلاق الظاهرة، فقوم يقولون هي واحدة رجعية كما قاله عمر بن الخطاب وغيره، وهو قول الشافعي وغيره. وقوم يقولون هي ثلاث؛ كما نقل عن عليّ، وهو مذهب مالك وغيره. وقوم يقولون واحدة بائنة كما نقل عن ابن مسعود، وهو مذهب أحمد. وأحمد كان يتوقّف في ذلك وترجّح عنده الثلاث ويكره أن يفتي به، وإن نوى واحدة فهي رجعية عنده، ولو نوى بائنة لم تكن إلا رجعية كقول الشافعي، وروي عنه أنها تكون بائنة، كقول أبي حنيفة. وكما تنازعوا فيما إذا خلعها بعد طلقتين فأباحها ابن عباس وطاوس وعكرمة وغيرهم، وقالوا: الخلع ليس بطلاق، واستدلّوا بالكتاب والسنة وهو أحد قولي الشافعي، وظاهر مذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر وابن خزيمة وغيرهم من فقهاء الحديث، وقيل: بل هي طلقة واحدة كما نقل عن عثمان وغيره من الصحابة، لكن ضعّف أحمد وابن خزيمة وغيرهما كل ما نقل عن الصحابة إلا قول ابن عباس، وهو قول كثير من التابعين، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي في القول الآخر. وتنازعوا فيما سوى ذلك، وهم كلهم مجتهدون مصيبون بمعنى أنهم مطيعون لله، وأما بمعنى العلم بحكمه في نفس الأمر فالمصيب واحد وله أجران والآخر له

_ (1) «كما فعل عدوّ الله النصير الطوسي وابن العلقمي، وكان من أعوانهما على هذه الجرائم ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة، الذي كان ينظم الشعر في تأليه سيدنا علي رضوان الله عليه، ولو كان تحت حكم سيدنا علي لحكم بقتله. انظر «المنتقى من منهاج الاعتدال» ص 20 الذي اختصره الحافظ الذهبي من «منهاج السنة» لشيخ الإسلام» (م).

أجر، وخطأه مغفور له، لا يطلق القول على أحدهم أنه أحلّ ما حرّم الله وحرّم الله وحرّم ما أحل الله بمعنى الاستحلال والتعمد. وإذا أريد أن ذلك وقع على وجه التأويل فعامة العلماء وقعوا في مثل هذا، والله يأجرهم ولا يؤاخذهم على خطئهم. الوجه الخامس: أن يقال: قول القائل فيما يتكلّم فيه العلماء بالأدلة الشرعية، مثل ما إذا قيل: إنه لا يجوز الحلف بالأنبياء ولا النذر لهم، ولا السجود لقبورهم، ولا الحج إليها، ولا اتخاذ قبورهم مساجد ونحو ذلك، أو قيل: إنه لا تجب الصلاة على النبي في الصلاة، كما قاله مالك وأكثر العلماء. أو قيل: إنه يكره الصلاة عليه عند الذبح أو لا يستحب، كما هو قول مالك وأحمد. وقيل: يستحب؛ وهو قول الشافعي. فإذا قال قائل في مثل هذه المسائل: إن هذا تنقيص للأنبياء؛ فإن أراد بذلك أنّ قائل هذا القول قصد التنقيص لهم، والعيب لهم، والطعن عليهم، والشتم؛ فقد كذب وافترى كذبا ظاهرا. وإن قال: إنه نقّصهم عما يستحقونه عند الله فهذا محل النزاع، فصاحب القول الآخر يقول بل أخطأ فيما يستحقونه ولم يقل ما ينقص درجتهم التي يستحقونها، وإن قدّر أنه أخطأ في اجتهاده فلا إثم عليه في ذلك، فكيف إذا كان هو المصيب للصواب المتّبع للكتاب والسنة، ولما كان عليه التابعون مع الأصحاب. الوجه السادس: أنه إنما يقبل قول من يدعي أن غيره يخالف الإجماع إذا كان ممن يعرف الإجماع والنزاع، وهذا يحتاج إلى علم عظيم يظهر به ذلك، لا يكون مثل هذا المعترض الذي لا يعرف نفس المذهب الذي انتسب إليه، ولا ما قال أصحابه في مثل هذه المسألة التي قد افترى فيها وصنّف فيها، فكيف يعرف مثل هذا إجماع علماء المسلمين مع قصوره وتقصيره في النقل والاستدلال؟ الوجه السابع: أن لفظ «كم» يقتضي التكثير وهذا يوجب كثرة المسائل التي خرق المجيب فيها الإجماع، والذين هم أعلم من هذا المعترض وأكثر اطلاعا اجتهدوا في ذلك غاية الاجتهاد، فلم يظفروا بمسألة واحدة خرق فيها الإجماع، بل غايتهم أن يظنوا في المسألة أنه خرق فيها الإجماع كما ظنه بعضهم في مسألة الحلف بالطلاق، وكان فيها من النزاع نقلا ومن الاستدلال فقها وحديثا ما لم يطّلع عليه. الوجه الثامن: إن المجيب ولله الحمد لم يقل قط في مسألة إلا بقول قد سبقه إليه العلماء، فإن كان قد يخطر له ويتوجّه له فلا يقوله وينصره إلا إذا عرف أنه قد قال بعض العلماء، كما قال الإمام أحمد: «إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام» فمن كان يسلك هذا المسلك كيف يقول قولا يخرق به إجماع المسلمين، وهو لا يقول إلا ما سبقه إليه علماء المسلمين؟ فهل يتصوّر أن يكون الإجماع واقعا في موارد النزاع؟ ولكن من لم يعرف أقوال العلماء قد يظن الإجماع من عدم

علمه النزاع وهو مخطئ في هذا الظن لا مصيب. ومن علم حجة على من لم يعلم، والمثبت مقدم على النافي. الوجه التاسع: إن دعوى الإجماع من علم الخاصة الذي لا يمكن الجزم فيه بأقوال العلماء، إنما معناها عدم العلم بالمنازع، ليس معناها الجزم بنفي المنازع، فإن ذلك قول بلا علم، ولهذا رد الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما على من ادّعاها بهذا المعنى، وبسط الشافعي في ذلك القول، وأحمد كان يقول هذا كثيرا، ويقول: من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريه أن الناس لم يختلفوا؟ ولكن يقول: لا أعلم مخالفا. وأبو ثور قال: إن الذي يذكر من الإجماع معناه أنا لا نعلم منازعا، ثم ما يعرف من ادعى الإجماع في هذه الأمور إلا وقد وجد في بعض ما نذكره من الإجماعات نزاعا لم يطّلع عليه، كما قد بسط الكلام على هذا في مواضع. فإذا كان هذا في ادّعاء العلماء الأكابر فكيف بما يدّعيه هذا المعترض من الإجماع، وهو من حين ادعائه الإجماع في هذه المسألة المتنازع فيها- وهو السفر إلى غير المساجد الثلاثة- فجعل السفر لمجرد زيارة القبور أمرا مجمعا عليه وإن من قال بخلاف ذلك فقد تنقّص الأنبياء وجاهرهم بالعداوة؟ والإجماع من علماء المسلمين إنما هو على خلاف ما ظنه هو وأمثاله ممن يتحكمون في الدين بلا علم، فإنهم مجمعون على أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» متناول لشد الرحال لزيارة القبور، ثم تنازعوا هل موجب الحديث النهي والتحريم أو موجبه نفي الفضيلة والاستحباب؟ فمن قال إنه يستحب شدّ الرحال إلى غير الثلاثة كزيارة القبور؛ فهذا هو الذي خالف الإجماع بلا ريب، مع مخالفته للرسول صلى الله عليه وسلّم، فهو ممن خالف الرسول والمؤمنين واتبع غير سبيلهم، لكن إذا لم يكن قد تبين له الهدى عرف ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلّم والمؤمنون لم يكفر، فإن الله إنما ألحق الوعيد بمن شاق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين، فقد توعّده بأنه يولّيه ما تولّى ويصليه جهنم وساءت مصيرا. ومن قال: إن السفر إلى غير الثلاثة كزيارة القبور مستحب، فقد خالف الرسول صلى الله عليه وسلّم وخالف علماء أمته. وأما السفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلّم فهو سفر إلى أحد المساجد الثلاثة ليس مما نهى عنه، وإذا فعل في مسجده ما شرع من الزيارة الشرعية وصلى عليه وسلم كما أمر الله وعلّم فهو محسن في هذه الزيارة، كما كان محسنا في شد الرحل إلى مسجده، وهذا هو الذي أجمع عليه المسلمون أيضا، كما أجمعوا أنه لا تشدّ الرحال لمجرد زيارة القبور، فذاك الإجماع على شدها إلى مسجده وزيارته الشرعية حق، وهذا الإجماع على أنه لا يستحب شد الرحال إلى غير الثلاثة حق، وكلا الإجماعين معه نص عن الرسول صلى الله عليه وسلّم. والعالم من اتبع هذا وهذا، ليس هو من

ترك النص والإجماع من أحد الجانبين وتمسك في الجانب الآخر بألفاظ مجملة يظن الإجماع على ما فهمه منها، ولم تجمع الأمة على ما فهمه، بل ما فهمه قد تكون مجمعة على تحريمه كمن يفهم من الزيارة لقبورهم الحج إليهم ودعاءهم من دون الله، فهذا مجمع على تحريمه، فمن يفهم من الزيارة الحج إليهم ودعاءهم من دون الله فهذا مجمع على تحريمه، والله أعلم. الوجه العاشر: أن النهي عن شدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة كزيارة القبور؛ إنما يكون تنقّصا بالنبي لو كانت زيارة القبور المشروعة هي من باب تعظيم الزائر للمزور، والخضوع له، وإنه إنما شرع زيارة قبره لعظم قدره وجاهه عند الله، وعلوّ مرتبته عنده. فإن قيل: إنه لا يزار قبره أو لا يسافر إلى زيارة قبره، كان ذلك غضا ونقصا لمنزلته المذكورة. وليس الأمر في دين الإسلام كذلك، بل زيارة القبور التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذنا فيها وفعلا لها أو ترغيبا فيها؛ إنما المقصود بها نفع الزائر للمزور، وإحسانه إليه بدعائه له واستغفاره له إن كان مؤمنا، وإن كان كافرا. فالمقصود بها تذكرة الموت، ليس المقصود بما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم من زيارة القبور خضوع الزائر للمزور لعلوّ جاهه وقدره. وبهذا يظهر الفرقان بين الزيارة الشرعية والمباحة والمستحبة، وبين الزيارة البدعية المكروهة المنهي عنها. وإذا كان كذلك؛ فمعلوم أن الأنبياء والصالحين إذا كانت زيارة قبورهم إنما هي الدعاء لهم، كما يصلّى على جنائزهم، كزيارة سائر قبور المؤمنين ليست خضوعا من الزائر لهم لعلو جاههم وعظم قدرهم؛ لم يكن في ترك هذه الزيارة تنقّص بهم، ولا غضّ من قدرهم، فترك الإنسان زيارته لكثير من قبور المسلمين لا يكون تنقّصا لهم، ولو كان ترك زيارتهم تنقصا لكان فعلها واجبا. وكذلك إذا نهي عن السفر إليها كما نهي عن السفر لزيارة سائر القبور، فلا يخطر ببال أحد أن ذلك تنقّص بهم، فأن لا يكون ذلك تنقّصا بالأنبياء أولى وأحرى، وإنما ظنّ النهي أو الترك تنقصا من ظن أن الزيارة خضوع لهم لجاههم وعظم قدرهم، كالإيمان بهم وطاعتهم وتصديقهم فيما أخبروا به عن الله. ولا ريب أن من قال لا يجب الإيمان بهم أو لا تجب طاعتهم وتصديقهم أو طعن في شيء مما أخبروا به عن الله أو أمروا به فقد تنقّصهم وهو كافر مرتد إن أظهر ذلك، ومنافق زنديق إن أبطنه. وهذا الموضع منشأ الاشتباه على كثير من الناس، فلفظ زيارة القبور في كلام الرّسول صلى الله عليه وسلّم وما فعله هو من الزيارة لم يكن شيء منها خضوعا للميت، ولا تعظيما له لجاهه وقدره، بل كان ذلك دعاء له كما يدعى له إذا صلّى على جنازته، وإذا كان الذي يصلّي على جنازته ويزار قبره أعظم قدرا كان الدعاء له أعظم، لكن فرق بين أن يقصد دعاء الله له ليرحمه ويزيده من فضله، وبين أن يقصد دعاؤه وسؤاله والاستشفاع به لجاهه وقدره عند الله. فالزيارة المشروعة من الجنس الأول من جنس

الأول من جنس الصلاة على الجنازة لا من جنس الثاني، كرغبة الخلق يوم القيامة إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم أن يشفع لهم، وكرغبة أصحابه إليه في حياته أن يدعو لهم ويستسقي لهم، فهذا الطلب منه كان لعلوّ جاهه وعظم منزلته عند الله، ولهذا يأتون يوم القيامة إلى أولي العزم فيردّهم هذا إلى هذا، حتى يردّهم المسيح إليه. وفي حياته كانوا يطلبون منه الدعاء ويتوجّهون به إلى الله، ويتوسّلون إليه بدعائه وشفاعته لجاهه عند الله، ولما مات استسقوا بالعباس عمه وقال عمر: «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنا نتوسّل إليك بعمّ نبينا فاسقنا؛ فيسقون» رواه البخاري في صحيحه «1». ومعنى قوله: كنا نتوسل إليك بنبينا؛ أي: بدعائه وشفاعته، ولهذا توسّلوا بعد موته بدعاء العباس وشفاعته لمّا تعذّر عليهم التوسل به بعد موته، كما كانوا يتوسّلون به في حياته، ولم يرد عمر بقوله: «كنا نتوسّل إليك بنبينا»: أن نسألك بحرمته، أو نقسم عليك به من غير أن يكون هو داعيا شافعا لنا، كما يفعله بعض الناس بعد موته، فإن هذا لم يكونوا يفعلونه في حياته، إنما كانوا يتوسّلون بدعائه، ولو كانوا يفعلونه في حياته لكان ذلك ممكنا بعد موته كما كان في حياته، ولم يكونوا يحتاجون أن يتوسلوا بالعباس. وكثير من الناس يغلط في معنى قول عمر وإذا تدبّره عرف الفرق «2». ولو كان التوسل به بعد موته ممكنا كالتوسل به في حياته لما عدلوا عن الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى العباس. وكذلك معاوية لما استسقى توسّل بدعاء يزيد بن الأسود الجرشي «3». وكذلك نقل عن الضحاك بن قيس «4». فمن فهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلّم بزيارة القبور وفرّق بين الشرعية والبدعية، تبين له الحق من الباطل. ونبينا صلى الله عليه وسلّم أمر الله بالصلاة والسلام عليه، وأمر عند سماع الأذان أن تطلب الوسيلة له، فهذا حقّ له على الأمة، وهو مشروع مأمور به في كل مكان، لا يختص به في مكان عند قبره، فلم يبق في زيارة قبره أمر يختصّ به ذلك المكان بخلاف غيره. وأيضا فنهى عن اتخاذ بيته عيدا وقال: «لا تتّخذوا قبري عيدا وصلّوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني». وكذلك السلام، قال: «إن لله ملائكة سيّاحين يبلغوني عن

_ (1) رقم (1010). (2) وانظر في ذلك «التوسل» للمحدث الألباني و «التوصل إلى حقيقة التوسل» للشيخ نسيب الرفاعي- رحمه الله- و «التوسل حكمه وأقسامه» جمع وإعداد: أبو أنس علي بن حسين أبو لوز- نشر دار ابن خزيمة بالرياض-. (3) أخرجه ابن عساكر في «تاريخه» كما «التوسل» ص 45. وصحّح إسناده المحدث الألباني هناك. (4) المصدر السابق.

أمتي السلام». فصلاة الأمة وسلامها يصل إليه من جميع الأمكنة، وقد نهى عن اتخاذ بيته عيدا لئلّا يتّخذ قبره وحدثنا ومسجدا، بخلاف قبور سائر المؤمنين، فإنه إذا دعي لأحدهم عند قبره لم يفض ذلك إلى أن يتّخذ وحدثنا ومسجدا إلا إذا اتّخذ مسجدا. فلهذا نهى عن اتّخاذ القبور قبور الأنبياء والصالحين مساجد. فتبين أن الذي يجعل ما أمر الله به ورسوله تنقيصا إنما هو لجهله وشركه وضلاله ونقص علمه وإيمانه بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم، وهو المنقّص للرسول الطاعن عليه، الذام لما جاء به الآمر بما نهى عنه، الناهي عما أمر به، المبدّل لشريعته، وهو أحق بالكفر والقتل، فإنه إن كان المخطئ المخالف للرسول صلى الله عليه وسلّم في هذه المسألة كافرا يجب قتله؛ فلا ريب أنه المخالف، فيكون كافرا مباح الدم. وإن كان المخطئ معذورا لأنه لم يقصد مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلّم وإنما خفيت عليه سنته، واشتبه عليه الحق؛ لم يكفّر ولم يقتل واحد منهما، لكن المخالف له أقرب إلى الكفر وحلّ الدم، فإما أن يكون الموافق له المتبع لسنته الآمر بما أمر به الناهي عما نهى عنه كافرا مباح الدم، والمخالف له المبدل لدينه الطاعن في شريعته المعادي لسنته المعادي لأوليائه المبلّغين لسنته معصوم الدم؛ فهذا تبديل الدين وقلب لحقائق الإيمان، وهو فعل أهل الجهل والطغيان؛ كالنصارى وعبّاد الأوثان. الوجه الحادي عشر: أن يقال: الذين يأمرون بالحج إلى القبور ودعاء الموتى والاستغاثة بهم والتضرّع لهم، ويجعلون السفر إلى قبورهم كالسفر إلى المساجد الثلاثة أو أفضل منه؛ هم مشركون من جنس عبّاد الأوثان، قد جعلوا القبور أوثانا. وهذا هو الذي دعا الرسول ربه فيه فقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». فقبره لا يمكن أحد أن يصل إليه حتى يتخذه وحدثنا، وإنما يصل إلى مسجده، لكن يقصد المسافر إليه أن يتخذه وحدثنا كقبر غيره، أو يظن ذلك ولكن لا يمكنه ذلك، بخلاف قبور غيره فإن فيها ما اتّخذ أوثانا، وقد ثبت بل استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه لعن الذين يتخذون قبور الأنبياء مساجد، ونهى أمته عن ذلك، فإذا كان من اتخذها مسجدا يصلّي فيه لله تعالى ويدعو الله ملعونا؛ فالذي يقصدها ليدعو فيها غير الله ويتضرّع فيها لغير الله ويخضع ويخشع فيها لغير الله أحق باللعنة، وإنما لعن الأول لأن فعله ذريعة إلى هذا الشرك الصريح. ومعلوم أن المسافرين لقبور الأنبياء والصالحين يفعلون هذا وأمثاله ويسافرون لذلك. فمن أمر بذلك واستحبه كان آمرا بالشرك بالله واتخاذ أنداد من دونه، آمرا بما حرّم الله ورسوله ولعن فاعله. والشرك أعظم الذنوب، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك». قلت: ثم أي؟ قال: «أن

تقتل ولدك خشية أن يطعم معك». قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني بحليلة جارك» «1». وأنزل الله تصديق ذلك: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان: 68] الآية وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48]. ومعلوم أن الأنبياء إنما وجب تعظيمهم لأنهم صفوة عباد الله، ولأنهم أمروا بتوحيده وعبادته، وبلّغوا أمره ونهيه، قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] وقال تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45]. فالغلاة في المخلوقين كالنصارى ونحوهم من أهل البدع صاروا بغلوّهم مشركين، قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31] وقال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [النساء: 171] إلى قوله: فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً [النساء: 172]. ومعلوم أنه إذا فرض ذنبان أحدهما: الشرك والغلو في المخلوق. والثاني: نقص رسول من بعض حقه، كمن يعتقد في المسيح أنه صلب مع أنه رسول الله، ومعلوم أن نجاته ورفعه إلى السماء أعظم قدرا من أن يسلّط العدو عليه حتى يصلب، فلو نقصه رجل ذلك واعتقد أنه صلب، ولم يعلم أن القرآن نفى صلبه؛ كان هذا الخطأ دون خطأ من غلا فيه وأشرك به. ولو قال قائل: إنه لا تشرع زيارة القبور بحال لا بسفر ولا غير سفر، وقال آخر: بل يشرع السفر إليهم لدعائهم والتضرع لهم كما يفعله المشركون وأهل البدع؛ لكان هذا الشرك أعظم خطأ وضلالا من ذلك النقص. فالشرك عند الله أعظم إثما، وصاحبه أعظم عقوبة، وأبعد من المغفرة من المتنقّص لهم عن كمال رتبتهم، فإنه إذا كان كلاهما كافرا، فكفر المشركين أعظم. وكل شرك بالله فهو تكذيب للرسل وتنقّص بهم، وليس كل من كذّب بعض ما جاءوا به يكون مشركا كافرا، مثل كثير من أهل الكتاب، فالشّرك أعظم الذنوب. وهؤلاء الجهال المضاهون للنصارى غلوا في التخلّص من النقص حتى وقعوا في الشرك والغلوّ وتكذيب الرسول الذي هو أعظم إثما، كما أصاب النصارى، فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، وكان ما فرّوا إليه من الشرك والغلوّ وتكذيب الرسل وتنقّصهم، أعظم

_ (1) أخرجه البخاري (4477) - انظر أطرافه هناك- ومسلم (86).

إثما وعقابا مما فروا منه مما ظنوه تنقصا، ولو فروا مما هو نقص لبعض أقدارهم فوقعوا في الشرك كان ما فروا إليه شرا مما فروا منه. والدين الحق دين الإسلام؛ عبادة الله وحده لا شريك له، وتصديق رسله كما يدلّ عليه قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. والله سبحانه جمع بين هذين الأصلين في غير موضع، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: 21، 22] الآية. فبدأ بالتوحيد ثم قال: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة: 23] الآية. وفي أول آل عمران قال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران: 2] ثم قال: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [آل عمران: 3، 4] فذكر التوحيد أولا ثم ذكر النبوات المتضمنة إنزال الكتاب. وفي سورة القصص قال: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ [القصص: 62، 63] إلى قوله: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] فذكر مناداتهم لتحقيق التوحيد أولا، ثم مناداتهم ماذا أجابوا المرسلين، وذكر تبرّي المعبودين من العابدين، ثم قال: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ إلى قوله: ما كانُوا يَفْتَرُونَ [القصص: 75] فذكر هناك اعتراف المشركين بالتوحيد، وهنا اعتراف المعبودين، وذكر في سورة يونس نظير ما في البقرة، فقرّر التوحيد أولا ثم النبوة، فقال بعد قوله: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ [يونس: 28] إلى قوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 32] وذكر أنه ليس معهم إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا. ثم قال: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ [يونس: 37] إلى قوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 38] فقرّر النبوة ثم تحدّاهم بالمعارضة، ليبين عجزهم وعجز جميع الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله، وأنه إنما أنزله الله. وكذلك سورة هود افتتحها بقوله: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] إلى قوله: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود: 3] وافتتحها بذكر الكتاب، فإنه الداعي إلى التوحيد، فإن هذه نزلت بمكة ولم يكونوا مقرّين بالتوحيد بخلاف آل عمران فإنها من أواخر ما نزل؛ نزلت لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر، والخطاب مع النصارى، وكانوا مقرّين بالتوحيد، لكن ابتدعوا شركا وغلوا واتبعوا المتشابه، من جنس الذين يحجّون إلى القبور ويتخذونها أوثانا، ولهذا لما ذكر آية التحدي في هؤلاء قال: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود: 13] إلى قوله: مُسْلِمُونَ [هود: 14] وأظهر عجزهم وإن القرآن منزل من الله بالإيمان بالكتاب والرسول وبالتوحيد قال: فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [هود: 14] وقوله بعلمه أي نزل متضمنا لعلمه أخبر فيه بعلمه كما قال: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ

إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] فتبين أن الذي تضمّنه هو علم الله، لا علم غيره، ولو كان كلام غيره لكان مضمونه علم ذلك المتكلم. ومن قال: أنزله وهو يعلمه؛ فقوله ضعيف، فإنه يعلم كل شيء وليس كلامه في إثبات علمه، ومثل هذا في القرآن مذكور في مواضع. وقد قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93] قال أبو العالية- وهو من قدماء التابعين-: خلّتان يسأل عنهما الأولون والآخرون؛ ماذا كنتم تعبدون، وماذا أجبتم المرسلين. وقال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ [البقرة: 136] الآية فجمع في هذه الآية بين الإيمان بما أنزله على أنبيائه وبين عبادته وحده لا شريك له. وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ في ركعتي الفجر بهذه الآية، وبآية من آل عمران قوله: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران: 64] الآية «1». وهذه الآية هي التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلّم إلى قيصر ملك النصارى في كتابه إليه وآية البقرة قد قال قبلها: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [البقرة: 135] الآية. وهذا هو التوحيد ثم ذكر في هذه الآية الإيمان بما أنزل على أنبيائه، ثم قال: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ [البقرة: 139] الآية. فأفصح في آخر الآيات الثلاث بإخلاص الدين كله لله، مع أن الربوبية شاملة، والأعمال مختصة لكل عامل عمله، والإخلاص يتناول الإخلاص في عبادته والإخلاص في التوكل عليه. وفي المأثور عن أبيّ الدرداء رواها أبو نعيم في الحلية وغيره أنه كان يقول: «ذروة الإيمان الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب» «2». وهذان الأصلان؛ توحيد الرب والإيمان برسله، لا بد منهما، ولهذا لا يدخل أحد في الإسلام حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهذا يتضمّن الإسلام والإيمان، وهو الدين الذي بعث الله به جميع النبيين، فكلهم كانوا مسلمين مؤمنين قائمين بهذين الأصلين. وقد بسط الكلام على مسمى الإيمان والإسلام في مواضع، مثل شرح النصوص الواردة في الإسلام والإيمان في الكتاب والسنة وغير ذلك «3».

_ (1) أخرجه مسلم (727) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. (2) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 216) والبيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 219/ 202) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (2/ 748/ 1238) ونعيم بن حماد في زيادات «الزهد» لابن المبارك رقم (123) وابن أبي الدنيا في «الرضا عن الله بقضائه» (58). من طريق: بقية بن الوليد، قال: حدّثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، قال: حدّثني يزيد بن مرثد الهمداني، أن أبا الدرداء قال: فذكره. (3) وانظر كتاب «الإيمان» للمصنف، طبع المكتب الإسلامي.

[واجب الموحد تجاه الملائكة والأنبياء]

[واجب الموحّد تجاه الملائكة والأنبياء] والمقصود هنا، أن الله أمرنا أن نؤمن بالملائكة والأنبياء، وأمر أن لا نتخذهم أربابا ولا نشرك بهم، ولا نغلو فيهم، ولا نعبد إلا الله وحده، قال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة: 136] الآية. فأمرنا أن نؤمن بما أوتي جميع الأنبياء، ولهذا كان الإيمان بجميع ما جاءوا به واجبا، ومن كفر بنبي معلوم النبوة فهو كافر مرتدّ، ومن سبّ نبيا كان مرتدا مباح الدم باتفاق الأئمة، وإنما تنازعوا في قبول توبته. وقد بيّن كفر من يؤمن ببعض ويكفر ببعض، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء: 150] إلى قوله: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا [النساء: 151] الآية. وقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة: 285] الآية. وقال تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة: 177]. وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 4، 5] ودين الأنبياء واحد وملتهم واحدة، وهي الأمة، وإنما تنوّعت شرائعهم ومناهجهم، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48]. وقد افترق اليهود والنصارى، فاليهود جفوا عنهم فكذّبوهم وقتلوهم كما أخبر الله عنهم بقوله: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [البقرة: 87] والنصارى غلوا فيهم؛ فأشركوا بهم حتى كفروا بالله، قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ [النساء: 171] إلى قوله: فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً [النساء: 172] الآية. فبالإيمان بهم وتصديقهم وطاعتهم يخرج المسلم عن مشابهة اليهود، وبعبادة الله وحده والاعتراف بأنهم عباد الله، لا يجوز اتخاذهم أربابا ولا الشرك بهم والغلوّ فيهم، يخرج عن مشابهة النصارى. فإن اتخاذهم أربابا كفر، قال الله تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 80]. والنصارى يشركون بمن دون المسيح من الأحبار والرهبان، قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] الآية. فمن غلا فيهم واتخذهم أربابا فهو كافر، ومن كذّب شيئا مما جاءوا به أو سبّهم أو عابهم، أو عاداهم، فهو كافر. فلا بد من رعاية هذا الأصل. وهذا المعترض وأمثاله التفتوا إلى جانب التعظيم لهم، دون جانب التوحيد لله

والنهي عن الشرك، فوقعوا في الغلوّ والشرك، فبقوا مشابهين للنصارى. وهذا مخالف لدين الإسلام، كما أن من لم يؤمن بهم وبما جاءوا به ومن لم يجعل الطريق إلى الله هو اتباعهم وموالاتهم، ومعاداة من خالفهم، فهو مخالف لدين الإسلام. الوجه الثاني عشر: أن يقال: لا ريب أن الجهاد والقيام على من خالف الرسل والقصد بسيف الشرع إليهم وإقامة ما يجب بسبب أقوالهم نصرة للأنبياء والمرسلين، وليكون عبرة للمعتبرين ليرتدع بذلك أمثاله من المتمردين، من أفضل الأعمال التي أمرنا الله أن نتقرّب بها إليه، وذلك قد يكون فرضا على الكفاية وقد يتعيّن على من علم أن غيره لا يقوم به. والكتاب والسنة مملوءان بالأمر بالجهاد وذكر فضيلته، لكن يجب أن يعرف الجهاد الشرعي الذي أمر الله به ورسوله من الجهاد البدعي بجهاد أهل الضلال الذين يجاهدون في طاعة الشيطان وهم يظنّون أنهم مجاهدون في طاعة الرحمن، كجهاد أهل البدع والأهواء، كالخوارج ونحوهم الذين يجاهدون في أهل الإسلام «1»، وفيمن هو أولى بالله ورسوله منهم من السابقين الأولين والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، كما جاهدوا عليا ومن معه، وهم لمعاوية ومن معه أشد جهادا، ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد قال: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق» «2» فقتلهم عليّ ومن معه، إذ كانوا أولى بالحق من معاوية ومن معه، وهم كانوا يدّعون أنهم يجاهدون في سبيل الله لأعداء الله. وكذلك من خرج من أهل الأهواء على أهل السنة واستعان بالكفار من أهل الكتاب والمشركين والتتر وغيرهم، هم عند أنفسهم مجاهدون في سبيل الله. بل وكذلك النصارى هم عند أنفسهم مجاهدون.

_ (1) كما يفعل أذناب الخوارج في عصرنا هذا؛ وهم الجماعات التي تنتسب للإسلام، وتطلق على نفسها: «الجماعة الإسلامية المسلّحة»! أو «المقاتلة»!! وجماعة التكفير والهجرة! ... وهؤلاء أجهل الناس بالإسلام، والإسلام منهم براء، إذ قاموا بقتل المسلمين في ديارهم، وأفسدوا إفسادا ما بعده فساد، و «الله لا يحب الفساد». فتراهم يحاربون المسلمين ويقتلونهم، ويتركون أعداء الله الأصليين لا يقربونهم، وقادتهم- أي زعماء هذه الجماعات- في بريطانيا وأمريكا ودول الغرب يسرحون ويمرحون!! وهم عن سبيل العلم والدعوة ناكصون!! فأيّ جهاد هذا؟! وانظر يا مريد الخير؛ «مدارك النظر في السياسة الشرعية» للشيخ عبد المالك الرمضاني. وكتاب «تحصيل الزاد في أحكام الجهاد» للشيخ سعيد عبد العظيم. ويسّر الله لنا إتمام كتابنا «إرشاد العباد إلى أحكام الجهاد». (2) أخرجه مسلم (1065) وغيره. وانظر «خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب» للنسائي ص 121 - وما بعدها.- ط. المكتبة العصرية-.

وإنما المجاهد في سبيل الله من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، كما في الصحيحين عن أبي موسى قال: قيل: يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حميّة، ويقاتل رياء؛ فأيّ ذلك في سبيل الله؟ قال صلى الله عليه وسلّم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» «1». وقد قال الله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [الأنفال: 39] والجهاد باللسان هو لما جاء به الرسول كما قال تعالى في السورة المكية الفرقان: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [الفرقان: 51، 52] الآية. وإذا كان كذلك، فالجهاد أصله ليكون الدين كله لله، بحيث تكون عبادته وحده هو الدين الظاهر، وتكون عبادة ما سواه مقهورا مكتوما أو باطلا معدوما، كما قال في المنافقين وأهل الذمة، إذا كان لا يمكن الجهاد حتى تصلح جميع القلوب فإن هدى القلوب إنما هو بيد الله، وإنما يمكن حتى يكون الدين ظاهرا دين الله، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33]. ومعلوم أن أعظم الأضداد لدين الله هو الشرك، فجهاد المشركين من أعظم الجهاد، كما كان جهاد السابقين الأولين، وقد قال صلى الله عليه وسلّم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». وكلمة الله؛ إما أن يراد بها كلمة معينة؛ وهي التوحيد لا إله إلا الله، فيكون هذا من نمط الآية. وإما أن يراد بها الجنس أن يكون ما يقوله الله ورسوله فهو الأعلى على كل قول، وذلك هو الكتاب ثم السنة، فمن كان يقول بما قاله الرسول ويأمر بما أمر به وينهى عما نهى عنه، فهو القائم بكلمة الله، ومن قال ما يخالف ذلك من الأقوال التي تخالف قول الرسول؛ فهو الذي يستحق الجهاد. وهذا المعترض وأمثاله قد خالفوا قول الله ورسوله وسائر أئمة المسلمين، فإنهم متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» وأن شدّ الرحال لزيارة القبور داخل في ذلك، إما بطريق العموم اللفظي، كدخول المساجد، وإما بطريق الفحوى وتنبيه الخطاب. فإنه إذا كان السفر إلى المساجد التي هي أحبّ البقاع إلى الله غير مشروع، فما دونها أولى أن لا يكون مشروعا، ومعلوم أن الصلوات الخمس جماعة وفرادى وقراءة القرآن والاعتكاف والذكر والدعاء هو مشروع في المساجد، وهو في المساجد أفضل منه في القبور، فإذا كان لا يسافر لذلك إلى المساجد فلا يسافر لذلك إلى القبور بطريق الأولى، وإذا لم يسافر لهذه العبادات التي يحبّها الله ورسوله، وهي إما واجبة مستحبة، إذا لم يسافر لها لا إلى المساجد ولا إلى

_ (1) أخرجه البخاري (123، 2810، 3126، 7458) ومسلم (1904).

القبور، فلا يسافر إلى القبور. ولما لم يأمر الله به من الشرك والبدع بطريق الأولى، فهذا أمر معلوم بالاضطرار من دين الرسول، لكن لمن عرف دينه المتفق عليه بين علماء أمته، فمن جعل هذا السفر مستحبا أو مشروعا أو استحلّ عداوة من نهى عنه وعقوبته، فهذا محادّ لله ولرسوله، وهو المستحق للجهاد دون الآمر بما أمر الله به الناهي عما نهى الله عنه، فإنه يجب نصره وموالاته، كما يجب جهاد المخالف له ومعاداة ما أتاه من الباطل. وما استحبه علماء المسلمين وأجمعوا عليه من السفر إلى مسجد الرسول وزيارته على الوجه الشرعي فهذا مستحب بالإجماع لا ينازع فيه أحد، فإن كانوا يجاهدون من نهى عن هذا فهذا لا وجود له. وإن جاهدوا أهل النزاع من المسلمين، فمسائل النزاع إما أن لا يكون فيها جهاد بل جدال وبيان وحجة وبرهان، وهذا جهاد باللسان، وإما أن يكون فيها جهاد، فيكون لمن خالف السنة والرسول، لا من اتبع الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة. وحينئذ فعلى كل تقدير قد تبين أن المعترض وأمثاله من أهل البدع والضلال والكذب والجهل وتبديل الدين وتغيير شريعة الرسل هم أولى بأن يجاهدوا باليد واللسان بحسب الإمكان، وإنهم فيما استحلّوه من جهاد أهل العلم والسنة من جنس الخوارج المارقين، بل هم شر من أولئك، فإن أولئك لم يكونوا يدعون إلى الشرك ومعصية الرسول، وظنهم أنهم ينصرونهم ظن باطل لا ينفعهم، كظن النصارى أنهم ينصرون المسيح ورسل الله، وقد اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم لعدي بن حاتم لما قال له ما عبدوهم قال: «إنهم أحلّوا لهم الحرام وحرّموا عليهم الحلال فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم» «1». رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما وصححه.

_ (1) أخرجه الترمذي (3095) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (6/ 1784/ 10057) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (10/ 81/ 61632) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (13/ 411) والبيهقي في «السنن» (10/ 116) والطبراني في «الكبير» (17/ رقم: 218 - 219) والمزي في «تهذيب الكمال» (23/ 118) والخطيب البغدادي في «الفقيه والمتفقه» (2/ 129 - 130/ 753) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 975 - 976/ 1862) - معلقا-. من طريق: عبد السلام بن حرب، حدثنا غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم به مرفوعا. وإسناده ضعيف. قال الترمذي: «هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث». قلت: غطيف بن أعين الجزري المحاربي روى عنه عبد السلام بن حرب، وأسد بن عمرو البجلي،-

فقد أخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى أن رءوسهم لما أحلّوا لهم الحرام وحرّموا عليهم الحلال فأطاعوهم، كانت تلك الطاعة عبادة لهم وشركا بالله، وهذا يتناول ما إذا أحلوا أو حرموا، معتمدين للمخالفة أو متأولين مخطئين، لا سيما وعلماء النصارى هم عند أنفسهم لم يفعلوا إلا ما يسوغ لهم فعله، كالرؤساء إذا قدّر أنهم اجتهدوا وأخطئوا يغفر لهم، فإن من اتبعهم مع علمه بأنهم أخطئوا وخالفوا الرسول صلى الله عليه وسلّم فقد عبد غير الله وأشرك به. ومثل هذا المعترض يريد ممن يبيّن له سنة الرسول صلى الله عليه وسلّم وشرعه وتحليله وتحريمه أن يدع ذلك ويتّبع غيره، وهذا حرام بإجماع المسلمين، فقد أجمعوا على أن من تبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم لم يجز له أن يقلد أحدا في خلافه «1». وأما العاجز عن الاجتهاد فيجوز له التقليد عند الأكثرين، وقيل: لا يجوز بحال، وأما القادر على الاجتهاد فمذهب الشافعي وأحمد وغيرهما أنه لا يجوز له التقليد، وذهب طائفة إلى جوازه، وقيل: يجوز تقليد الأعلم، ويروى هذا عن محمد بن الحسن وغيره. فمن عاب من اتبع ما تبين له من سنة الرسول صلى الله عليه وسلّم ولم يستحلّ أن يخالفه ويتبع غيره فهو مخطئ مذموم على عيبه له بإجماع المسلمين، فكيف إذا كان يدعو إلى ما يفضي إلى الشرك العظيم، من دعاء غير الله، واتخاذهم أوثانا، والحج إلى غير بيت الله، لا سيما مع تفصيل الحج إليها على حج بيت الله، أو تسويته به، أو جعله قريبا منه، فهؤلاء المشركون والمفترون مثل هذا المعترض وأمثاله المستحقّين للجهاد، وبيان ما دعوا إليه من الضلال والفساد، وما نهوا عنه من الهدى والرشاد، ولتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

_ - وإسحاق بن أبي فروة، والقاسم بن مالك المزني. فانتفت جهالة عينه. وقد وثقه ابن حبان! لكن ضعفه الدارقطني والحافظ ابن حجر وغيرهما. والحديث حسّنه المصنف في كتاب «الإيمان» ص 58. وضعّفه الشيخ الدوسري- رحمه الله- في «النهج السديد» ص 53. وحسّنه المحدث الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (2471) و «غاية المرام» (6). ومن حسّنه باعتبار شاهد رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه موقوفا. أخرجه ابن جرير (10/ 81) وابن أبي حاتم (6/ 1784/ 10058) والبيهقي (10/ 116) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 130 - 131/ 755) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 977/ 1864) وغيرهم. تنبيه: 1 - أكثر المفسرين الذين ذكروا الحديث عزوه لأحمد في «المسند» كما فعل المصنف هنا، ولم أجده فيه في مسند عدي بن حاتم. 2 - بعض العلماء الذين ذكروا الحديث ينقلون تصحيح أو تحسين الترمذي للحديث، وهو في المطبوعة الموجودة بين أيدينا إنما استغربه فقط- يعني ضعّفه-. والله تعالى أعلم بالصواب. (1) انظر أقوالهم في ذلك في مقدمة كتاب «صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلّم» للمحدث الألباني.

[الفرقان بين الحق والباطل]

[الفرقان بين الحق والباطل] ونختم الكلام بخاتمة في بيان الفرقان بين الحق والباطل يظهر بها طريق الهدى من الضلال، وذلك أن الله سبحانه كما تقدم التنبيه عليه أمرنا أن نؤمن بالأنبياء وما جاءوا به، وفرض علينا طاعة الرسول الذي بعث إلينا ومحبته وتعزيره وتوقيره والتسليم لحكمه، وأمرنا أيضا أن لا نعبد إلا الله وحده ولا نشرك به شيئا، ولا نتخذ الملائكة والنبيين أربابا، وفرق بين حقه الذي يختص به الذي لا يشركه فيه لا ملك ولا نبي، وبين الحق الذي أوجبه علينا لملائكته وأنبيائه عموما، ولمحمد خاتم الرسل وخير مرسل الذي جاءه بالوحي خصوصا، فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، فاصطفى من الملائكة جبريل لرسالته، واصطفى من البشر محمدا صلى الله عليه وسلّم، وأخبر أن هذا القرآن الذي نزل به هذا الرسول إلى هذا الرسول مبلغا له عن الله، قال تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: 97] وقال: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192 - 195] كما قال في الآية الأخرى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ [النحل: 101] إلى قوله: عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] وقوله: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ إلى قوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ [النحل: 102] يبيّن أن روح القدس نزل بآيات القرآن من ربه، وبعض الكفار لما زعم أنه يتعلّم من بشر، قال الله تعالى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ [النحل: 103]- أي: يضيفون إليه التعليم-: أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ فدل على أن هذا اللسان العربي المبيّن تعلّمه من الملائكة، ولم يتعلمه من بشر، ولا من تلقاء نفسه، بل جاءه به روح القدس، وروح القدس هو جبريل، وهو الروح الأمين، فإنه أخبر أن جبريل نزله على قلبه، وأخبر أن الروح الأمين نزل به عليه، فعلم أن جبريل وهو الروح الأمين. وقال هاهنا: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ فعلم أنه روح القدس وقال في سورة التكوير: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 19 - 21] ثم قال: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 22، 23]. كما ذكر ذلك في سورة النجم. وقال في سورة الحاقة: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ [الحاقة: 38، 39] إلى قوله: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الحاقة: 43] إلى قوله: حاجِزِينَ [الحاقة: 47]. فهذا محمد كما يدل عليه الكلام كله، وهذا قول عامة العلماء، وقد غلط بعض من شذّ فزعم أن جبريل غلط كما غلط من هو أعظم غلطا منه فزعم أن التي في التكوير في محمد صلى الله عليه وسلّم وهو سبحانه وتعالى إنما أضافه إلى هذا تارة وإلى هذا تارة بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلّم ليبيّن أنه قول رسول بلّغه عن مرسله لم يحدث منه شيئا من تلقاء نفسه. ولا منافاة بين أن يكون ذلك الرسول بلّغه إلى هذا وهذا بلّغه إلى الإنس والجن، فهو

قول هذا وقول هذا، وقد غلط بعض الناس فظن أنه أضافه إلى الرسول لأنّه أحدث القرآن العربي وعبّر به عن المعنى الذي فهمه، وهذا باطل من وجوه. إذ لو كان هذا حقا تناقض الخبران، فإن كون هذا أحدث القرآن العربي يناقض كون الآخر أحدثه، فإنه إذا أحدثه أحدهما امتنع كون الآخر هو الذي أحدثه، بخلاف ما إذا بلّغه فإنه يبلّغه هذا إلى هذا، وهذا إلى الناس، والناس يبلّغونه بعضهم إلى بعض، كما قال تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «بلّغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» «1». وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا؛ أن الله أوجب علينا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم خصوصا وبالملك الذي جاءه بالقرآن، فإن سائر الأنبياء علينا أن نؤمن بهم مجملا، وأما محمد صلى الله عليه وسلّم فعلينا أن نطيعه في كل ما أوجبه وأمر به، وأن نصدّقه في كل ما أخبر به، وغيره من الأنبياء عليهم السلام علينا أن نؤمن بأن كل ما أخبروا به عن الله فهو حقّ، وأن طاعتهم فرض على من أرسلوا إليهم، ومحمد صلى الله عليه وسلّم أمرنا بما أمرتنا به الرسل من الدين العام؛ مثل عبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان بالملائكة والنبيين وحمل الشرائع، بعد ما ذكره في سورة الأنعام وسبحان «2»، بل وعامة السّور المكية، فإن ذلك مما اتفق عليه الرسل، ولكن بعض الأمور التي يقع في مثلها النسخ؛ مثل يوم السبت، وحلّ بعض الأطعمة وحرمتها، واتخاذ منسك هم ناسكوه، وهو مما تنوعت فيه الشرائع وخصّ الله محمدا صلى الله عليه وسلّم بأفضل الشرائع والمناهج، وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا، أن الله تعالى أمرنا بالإيمان بالأنبياء كلهم، وبجميع ما أوتوا، كما قال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى [البقرة: 136] الآية. وقال تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة: 177] وقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة: 285] وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء: 136] إلى قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 152]. فالأنبياء وسائط بين الله عزّ وجلّ وبين عباده في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده، وما أخبر به عن نفسه وملائكته، وغير ذلك مما كان وسيكون. وأما محمد صلى الله عليه وسلّم فهو الذي أرسل إلينا وإلى جميع الخلق، وقد ختم الله به الأنبياء، وآتاه من

_ (1) أخرجه البخاري (3461). (2) أي: سورة الإسراء.

الفضائل ما فضّله به على غيره، وجعله سيد ولد آدم، وخصائصه وفضائله كثيرة وعظيمة، لا يسعها هذا الموضع. وهو سبحانه مع هذا قد نهانا عن الشرك بهم والغلو فيهم، وميّز بين حقه تعالى وحقهم، فقال تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران: 79] إلى قوله: مُسْلِمُونَ [آل عمران: 80] فهذا بيان أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، مع وجوب الإيمان بهم ما لم يحصل بعبادة الأوثان، فإن الأوثان تستحق الإهانة وأن تكسر كما كسّر إبراهيم الأصنام، وكما حرّق موسى العجل ونسفه، وكما كان نبينا صلى الله عليه وسلّم يكسر الأصنام ويهدم بيوتها، وقد قال تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: 98] فإهانتها من تمام التوحيد والإيمان. والملائكة والأنبياء بل الصالحون يستحقون المحبة والموالاة والتكريم والثناء مع أنه يحرّم الغلوّ فيهم والشرك بهم، فلهذا صار بعض الناس يزيد في التعظيم على ما يستحقّونه فيصير شركا، وبعضهم يقصّر عما يجب لهم من الحق فيصير فيه نوع من الكفر. والصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهو القيام بما أمر الله به ورسله في هذا وهذا. والله تعالى يميز حقه من حق غيره ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال له: «يا معاذ أتدري ما حقّ الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري يا معاذ ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أن لا يعذّبهم» «1». وقد قال تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف: 26] وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً [القصص: 75] الآية. فالرسل كلهم، نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم يبينون أن العبادة التقوى حق لله وحده، وحق الرسل طاعتهم؛ قال نوح عليه السلام: يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح: 2، 3] وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وقال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء: 105 - 108]. وكذلك قال سائر الرسل هود وصالح وشعيب، كل يقول: «فاتقوا الله وأطيعون» وكذلك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [النور: 52] فجعل الطاعة لله

_ (1) تقدم تخريجه.

والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده. وقال: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [النحل: 51] إلى قوله: أَفَلا تَتَّقُونَ [الأعراف: 65] فأنكر سبحانه أن يتّقى غيره كما أمر ألا يرهب إلا إيّاه. وقال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة: 150] الآية. وقال تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 18]. فقد أمر الله تعالى في غير موضع بأن يخشى ويخاف ولا يخشى ويخاف غيره، وقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ [التوبة: 59] الآية. ففي الإيتاء قال: ما آتاهم الله ورسوله. كما قال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] لأن الحلال ما حلّله الله ورسوله، والحرام ما حرّمه الله ورسوله، فما أعطاه الرسول للناس فهو حقّهم بالقول والعمل؛ كالفرائض التي قسمها الله وأعطى كل ذي حق حقه، وكذلك من الفيء والصدقات ما أعطى فهو حقه، وما أباحه له فهو المباح، وما نهاه عنه فهو حرام عليه، فلهذا قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ [التوبة: 59] ولم يقل هنا ورسوله لأن الله تعالى وحده حسب عبده، أي: كافيه، لا يحتاج الرب فيه كفايته إلى أحد لا رسول ولا نبي، ولهذا لا تجيء هذه الكلمة إلا لله وحده، كقوله: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران: 173] الآية. وقال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129] وقال تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ إلى قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 62 - 64]. أي: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، كما قاله جمهور أهل العلم. ومن قال: إن الله ومن اتبعك حسبك، فقد غلط ولم يجعل الله وحده حسبه، بل جعله وبعض المخلوقين حسبه، وهذا مخالف لسائر آيات القرآن. وقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] فهو وحده كاف عبده. وقال تعالى: يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] فلهذا قال تعالى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ولم يقل ورسوله، ثم قال: إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ [التوبة: 59] ولم يقل: ورسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده، كما قال: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح: 7، 8] فالرغبة تتضمن التوكل، وقد أمر أن لا يتوكّل إلا عليه، كقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا [المائدة: 23] وقوله: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل: 99] فالتوكل على الله وحده، والرغبة إليه وحده، والرهبة منه وحده ليس لمخلوق لا للملائكة ولا الأنبياء في هذا حق، كما ليس لهم حق في العبادة. ولا يجوز أن نعبد إلا الله وحده ولا نخشى ولا نتقي إلا الله وحده، كما قال

تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]. فإذا قال القائل: لا يجوز التوكل إلا على الله وحده، ولا العبادة إلا لله وحده، ولا يتّقى ويخشى إلا الله وحده؛ لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، كان هذا تحقيقا للتوحيد ولم يكن هذا سبا لهم ولا تنقصا بهم ولا عيبا لهم، وإن كان فيه بيان نقص درجتهم عن درجة الربوبية، فنقص المخلوق عن الخالق من لوازم كل مخلوق، ويمتنع أن يكون المخلوق مثل الخالق والملائكة والأنبياء كلهم عباد لله يعبدونه، كما قال تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172] وقال تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ إلى قوله: كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 26 - 29] فإذا نفى عن مخلوق ملك أو نبي أو غيرهما ما كان من خصائص الربوبية، وبيّن أنه عبد لله، كان هذا حقا واجب القبول، وكان إثباته إطراء للمخلوق، فإن دفعه عن ذلك كان عاصيا بل مشركا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الذي في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنّما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله» «1». والله تعالى قد وصفه بالعبودية حين أرسله وحين تحدّى وحين أسرى به، فقال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن: 19] وقال: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة: 23] وقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1]. وأهل الباطل يقولون لمن وصفهم بالعبودية إنه عابهم وسبّهم ونحو ذلك، كما ذكر طائفة من المفسرين أن وفد نجران قالوا: يا محمد؛ إنك تعيب صاحبنا وتقول إنه عبد فقال النبي عليه السلام: ليس بعيب لعيسى أن يكون عبد الله، فنزل: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172] أي لم يأنف المسيح من ذلك، ولم يتعظم من جعله عبدا لله. فعند النصارى الغلاة أنه سبّه وعابه. ولهذا لما سأل النجاشي جعفر بن أبي طالب: ما تقول في المسيح عيسى؟ فقال: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، رفع النجاشي عودا، وقال: ما زاد المسيح على ما قلت هذا العود، فنخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم «2». فهم يجعلون قول الحق في المخلوق سبا له،

_ (1) تقدم تخريجه. (2) القصة أخرجها ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 334) وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 115) وفي «دلائل النبوة» (194) وأحمد (1/ 201 - 202 و5/ 290 - 292) والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 301 - 303). من طريق: محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. وإسناد القصة حسن؛ صرّح ابن إسحاق فيها بالتحديث عند أحمد وغيره.-

وهم يسبّون الله ويصفونه بالنقائص والعيوب، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «يقول الله: شتمني ابن آدم، وما ينبغي له ذلك، وكذّبني وما ينبغي له ذلك. فأما شتمه إياي فقوله: إني اتخذت ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وأما تكذيبه إيّاي فقوله: إنه لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته» «1». رواه البخاري من حديث ابن عباس «2» فقد أخبر سبحانه أن هؤلاء يسبّونه، وقد كان معاذ بن جبل يقول عن النصارى: «لا ترحموهم فقد سبّوا الله سبّة ما سبّه إياها أحد من البشر». وهذا نظير ما ذكره الله تعالى عن المشركين بقوله: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء: 36] أي يعيبها وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ [الأنبياء: 36]. فكانوا ينكرون على محمد عليه السلام أن يذكر آلهتهم بما تستحقه، وهم يكفرون بذكر الرحمن ولا ينكرون ذلك، كما قال تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108]. وهكذا من فيه شبه من اليهود والنصارى والمشركين تجده يغلو في بعض المخلوقين من المشايخ والأئمة والأنبياء وغيرهم، إذا ذكروا بما يستحقونه أنكر ذلك ونفر منه وعادى من فعل ذلك، وهو وأصحابه يستخفّون بعبادة الله وحده وبحقّه وبحرماته وشعائره، ولا ينكر ذلك. ويحلف أحدهم بالله ويكذّب، ويحلف بمن يعظّمه ويصدّق، ولا يستجيز الكذب إذا حلف به، وهؤلاء من جنس النصارى والمشركين. وكذلك قد يعيبون من نهى عن شركهم؛ كالحج إلى القبور التي يحجّون إليها عادة، وهم يستخفون بحرمة الحج إلى بيت الله ويجعلون الحج إلى القبور أفضل منه. وقد ينهون عن الحج اعتياضا إلى القبور، ويقولون: هذا الحج الأكبر، وهؤلاء من جنس المشركين وعبّاد الأوثان. وكذلك هذا المعترض وأمثاله يرون النهي عن الحج إلى قبور الأنبياء والصالحين إخلالا بحقهم، ومعاداة لهم، ونحو ذلك. وهم لا يرون الشرك بالله ودعاء غيره واتخاذ عباده من دونه أولياء؛ إخلالا بحقه ومعاداة له. ومعلوم أن المشركين من أعظم أعداء الله عزّ وجلّ، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1] إلى قوله: حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4] فأمر بالتأسي بإبراهيم ومن معه لما تبرّءوا من المشركين وما يعبده المشركون، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده. فالمشرك

_ - وانظر «المجمع» (6/ 24 - 27). وتحقيق العلامة محمد شاكر على «المسند» رقم (1740) و «فقه السيرة» بتخريج الشيخ الألباني (ص 115). (1) أخرجه البخاري (3193، 4974، 4975). ولم يخرجه مسلم، فعزوه للصحيحين وهم، والله أعلم. (2) برقم (4482).

والآمر بالشرك والراضي به، معاد لله، ومن عادى الله فقد عادى أنبياءه وأولياءه. وأما من أمر بما جاءت به الرسل، فلم يعادهم ولم يعاندهم. قال الله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] إلى آخر السورة. وهنا موضع يشكل وذلك أنه قال عليه السلام في الحديث الصحيح: «أصدق كلمة قد قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» «1» وذلك مثل قوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ [الحج: 62]. فالمراد بالباطل؛ ما لا ينفع، وكل ما سوى الله لا تنفع عبادته، كما في الأثر: «أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطل إلا وجهك الكريم» فإن هذا يدخل فيه كل ما عبد من دون الله من الملائكة والأنبياء، وهؤلاء قد سبقت لهم من الله الحسنى، فكيف يدخلون في الباطل؟ وكذلك قوله: فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس: 32]؟ فيقال: إن المراد عبادتهم والعمل لهم باطل، وقد يقال عن الشيء إنه لا شيء لانتفاء المقصود منه ليس بشيء، وكما قال عليه السلام عن الكهان لما سئل عنهم، فقال: «ليسوا بشيء». فقالوا: إنهم يحدّثون بالشيء فيكون حقا، فذكر: «أن ذلك من الجن تخطف الكلمة من الحقّ ويزيدون فيها من الكذب مائة كذبة» «2». فهم ليسوا بشيء؛ أي: لا ينتفع بهم فيما يقصد منهم، وهو الاستخبار عن الأمور الغائبة، لأنهم يكذبون كثيرا، فلا يدرى ما قالوه أهو صدق أم كذب، وهم مع ذلك موجودون يضلّون ويضلّون. فقوله: «ليس بشيء» مثل قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وقوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ [الحج: 62] فهو من جهة كونه معبودا باطل لا ينتفع به، ولا يحصل لعابده مقصود العبادة، وإن كان من جهة أخرى هو شمس وقمر ينتفع بضيائه ونوره، وهو يسجد لله ويسبّحه. وكذلك الملائكة والأنبياء إذا نفي عنهم كونهم آلهة معبودين تبيّن أن عبادتهم عمل باطل لا ينتفع به لم ينف ذلك ما يستحقونه من الإجلال والإكرام، وعلوّ قدرهم عند الله تعالى، والتبرّي من عبادتهم، وكونهم معبودين، لا من موالاتهم والإيمان بهم، وقولهم: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة: 4] أي: ومن عبادتهم ومن كونهم معبودين، كما قال الخليل عليه السلام: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 78] فهو بريء من كل شريك لله من جهة كونه جعل شريكا وندا لله، ولم يبرأ منه من

_ (1) أخرجه البخاري (3841، 6147، 6489) ومسلم (2256). (2) أخرجه البخاري (5762) ومسلم (2228) من حديث عائشة رضي الله عنها.

جهات أخرى فإبراهيم لم يبرأ من الشمس والقمر والكواكب من جهة كونها مسخّرة لمنافع العباد، وكونها تسجد لله وتسبّحه، وكونها من آياته العظيمة، بل من جهة كونها شركا لله، وقوله: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ وإن كان يقال: ما يعبدونه، إن من شرككم فقد صرح في قوله: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي بريء من المعبودين من دون الله، وكذلك قوله: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 75 - 77]. أما الأوثان ونحوها فتعادى مطلقا، والشمس والقمر والملائكة والكواكب تعادى عبادتها وكونها آلهة معبودة، فتبغض من هذه الجهات وتعادى مع وجوب الإيمان بالملائكة، وإذا قيل للنصارى نحن براء من شرككم ومما تعبدون من دون الله، وقد قال تعالى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة: 76] هذا بعد قوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 75] فقد عبد المسيح وغيره، فالبراءة من كل معبود سوى الله؛ كالبراءة من كل إله سوى الله، وذلك براءة من الشرك ومن كون ما سوى الله معبودا، وليس هو براءة من المسيح من جهة كونه رسولا كريما وجيها عند الله، بل براءة مما قيل فيه من الباطل لا من الحق، والمسيح والملائكة وغيرهم يتبرّءون ممن عبدوهم، ويعادونهم ولا يوالونهم، قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ إلى قوله تعالى: أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 40، 41] وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الفرقان: 17] الآية. وقال تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص: 62] الآية. وقال تعالى: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ [الكهف: 102] وقال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُ [الشورى: 9] وقال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الأنعام: 14] الآية. وهو سبحانه لم ينه عن موالاتهم دونه، فمن أحبهم ووالاهم لله فهو موحّد، ومن جعلهم أندادا أحبهم كما يحب الله فهو مشرك، فالحب لله توحيد وإيمان، والحب كما يحبّ الله شرك وكفر. وكذلك الشفاعة، قال تعالى: ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ [السجدة: 4] وقال تعالى: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ [الأنعام: 70] وقال عزّ وجلّ: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس: 3] وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] وقال تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] فتبيّن أنه لا تنفع شفاعة الملائكة والأنبياء ولا غيرهم إلا لمن أذن له، حتى إذا قضي بالأمر ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله تعالى كأنه سلسلة على صفوان، وصعقوا فلا يعلمون ما قال: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ

رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23] فحينئذ يعلمون ما قضى به «1». فكيف يشفعون بدون إذنه. قال الله تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: 26، 27] وقال: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً [الزمر: 43] الآية. وأوجه الشفعاء وأول شافع يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلّم، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أحاديث الشفاعة أن الناس يوم القيامة إذا ذهبوا إلى آدم ليشفع لهم يردهم إلى نوح، ونوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى المسيح، والمسيح إلى محمد صلى الله عليهم أجمعين، فيقول: اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر له الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، قال صلى الله عليه وسلّم: «فيأتوني فأذهب إلى ربي فإذا رأيت ربّي خررت ساجدا، وأحمد ربي بمحامد يفتحها عليّ لا أحسنها الآن، وحينئذ فيقول تعالى: أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفّع، قال: فأقول: أي ربّ أمتي فيحدّ لي حدا فأدخلهم الجنة» «2». وكذلك ذكر في الثانية والثالثة وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قلت: «يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلّم: يا أبا هريرة ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه» «3». فقد بيّن أوجه الشفعاء أنه إذا أتى يبدأ بالسجود لله والحمد لله، لا يبدأ بالشفاعة حتى يؤذن له، فإذا أذن له فحينئذ يشفع، فإذا شفع حدّ له حدا فيدخلهم الجنة. وبيّن أن أولى الناس بشفاعته من كان أعظم إخلاصا وتوحيدا لا من كان سائلا وطالبا منه أو من غيره، فالأمر كله لله وحده لا شريك له، هو الذي يأذن في الشفاعة وهو الذي يقبل شفاعة الشفيع فيمن يختار، فربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون. فالذين يخالفون شريعة الأنبياء ويغلون فيهم ويقولون إنهم يحبونهم ويوالونهم ويعظمونهم بذلك؛ فالأنبياء يتبرّءون منهم، ومحمد صلى الله عليه وسلّم بريء من عمل من يخالف أمره وسنّته، قال الله تعالى: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشعراء: 216] ولا ينفع من عصى الرسول أن يقول: قصدي تعظيمهم، فإنه إنما أمر بطاعتهم، ولم يؤمر أن يعبد الله بالظن وما تهوى الأنفس، قال الله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ إلى قوله: شَهِيدٌ [المائدة: 116، 117]. فقد أخبر أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به؛ أن يعبدوا الله وحده، وكذلك سائر الأنبياء، قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ

_ (1) كما في «صحيح البخاري» (4701، 4800، 7481) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) تقدم (3) أخرجه البخاري (99، 6570).

أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. وهو سبحانه إنما يعبد بما شرع من الدين، لا يعبد بما شرع من الدين بغير إذنه فإن ذلك شرك، قال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] وقال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً إلى قوله: ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] والدين الذي شرعه إما واجب، وإما مستحب، فكل من عبد عبادة ليست واجبة في شرع الرسول ولا مستحبة؛ كانت من الشرك والبدع. والحجّ إلى القبور ليس من شرعه، لا واجبا ولا مستحبا، فإنه لا يقدر أحد أن ينقل عنه حديثا صحيحا في استحباب ذلك، ولا عن أصحابه، ولا علماء أمته، وإنما ينقل في ذلك أحاديث مكذوبة، فهي من الإفك والشرك. وإنما السفر إلى المساجد الثلاثة لأنه سفر إلى بيوت الله التي بنتها الأنبياء لعبادته، واحدها يجب الحج إليه، والآخر أن يستحب السفر إليهما. والحج الواجب كما يختص بذلك المكان فهو يختص بأعمال لا تشرع في غيره، كالطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى، ورمي الجمار، وسوق الهدي إلى هناك، وغير ذلك. وأما المسجدان الآخران فلا يشرع فيهما إلا من جنس ما يشرع لسائر المساجد؛ كالصلاة والذكر والدعاء والاعتكاف، لكن للعبادة فيهما فضيلة على العبادة في سائر المساجد أوجبت تلك الفضيلة أن يشرع السفر إليهما. وقبر النبي صلى الله عليه وسلّم مجاور مسجده فإذا أتى مسجده فعل فيه ما يشرع له من حق الرسول من الصلاة والسلام وغير ذلك، وكل ما يفعله من ذلك في مسجده فهو مشروع في سائر المساجد والأمكنة، لكن مسجده أفضل، فالصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام. وهذا الفعل المشروع في حقه، كالصلاة والسلام هل يسمى زيارة لقبره، ويطلق ذلك عليه؟ على قولين معروفين. فإنه لا يوصل إلى قبره ويزار الزيارة المعروفة في حق غيره، بل قد منع الناس من ذلك، فما بقي المشروع هناك كالمشروع من الزيارة لسائر القبور، إذا كان الله قد خص نبيه بالأمر بالصلاة والسلام عليه في كل مكان وزمان، وخصّ بالدفن في حجرته، فلا يصل أحد إليه لئلا يتّخذ قبره مسجدا ووثنا وعيدا. وكلما تدبر الإنسان ما أمر به وشرعه تبين له أنه جمع في شرعه بين كمال توحيد الربّ وإخلاص الدين له، وبين كمال طاعة الرسل وتعزيرهم ومحبتهم وموالاتهم ومتابعتهم، فأسعد الناس في الدنيا والآخرة أتبعهم للرسول باطنا وظاهرا، صلى الله عليه وسلّم تسليما، والحمد لله وصلواته وسلامه على محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وجد في آخر الأصل ما نصه: «آخر كتاب الرد على الأخنائي قاضي المالكية، واستحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية لا البدعية». لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية. أنهاه بقلمه راجي عفو ربه وكرمه الفقير إلى رحمة ربه الولي حسين بن حسن بن حسين بن علي غفر الله له ولوالديه ولكافة المسلمين. جعله الله نافعا من قرأه ومن نظر فيه ومن سأل لوالدي المغفرة، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. غرة جمادى الآخرة سنة 1303 هـ» «1».

_ (1) قال أبو عبد الله- عفا الله عنه-: وقد انتهيت من تحقيقه والتعليق عليه في عصر يوم الأربعاء، العاشر من رمضان المبارك، عام واحد وعشرين وأربعمائة وألف لهجرة المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم.

الفهارس العامة

الفهارس العامة - فهرس الآيات القرآنية - فهرس الأحاديث - فهرس المصادر والمراجع

فهرس الآيات القرآنية

فهرس الآيات القرآنية الآية/ رقمها/ الصفحة سورة البقرة فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ / 22/ 70 وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ / 93/ 67، 68 قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ / 111/ 12 وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ / 114/ 40، 66 وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً/ 165/ 48، 60، 68 إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا/ 169/ 12 وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ/ 187/ 40 فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ / 213/ 11 مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ / 255/ 80 سورة آل عمران قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي / 31/ 60 ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ / 66/ 12 ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ / 79/ 14، 79 وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً/ 80/ 48 وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ / 81/ 47 اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ / 102/ 12 لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا/ 127/ 14

الآية/ رقمها/ الصفحة سورة النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ / 59/ 11 وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ / 64/ 119 فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ / 65/ 11 وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى / 115/ 73 لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ / 172/ 79 سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ/ 8/ 20، 92 وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ / 72/ 14، 80، 116 سورة الأنعام قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ / 50/ 14 وَحاجَّهُ قَوْمُهُ / 80/ 65 وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ/ 119/ 68 وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ / 121/ 111 قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ / 143/ 12 سورة الأعراف فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ / 6/ 129 قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ / 33/ 12 أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا/ 169/ 12 قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا/ 188/ 14، 80 إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ / 194/ 65 سورة الأنفال وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ / 33/ 62 سورة التوبة وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ / 59/ 112

الآية/ رقمها/ الصفحة سورة يونس وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً/ 19/ 11 سورة النحل وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً/ 112/ 64 سورة الإسراء فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ / 23/ 23 وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ / 31/ 23 وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ / 36/ 12 قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ / 56/ 13، 48 وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ / 67/ 113 سورة الأنبياء إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى / 101/ 111 سورة النور وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ / 47/ 11 وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ / 52/ 112 فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا/ 61/ 109 سورة الفرقان أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ / 43/ 68 سورة الزخرف وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا/ 57/ 111 سورة الجاثية أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ / 23/ 68 سورة الحشر وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ / 7/ 112

فهرس الأحاديث

فهرس الأحاديث الحديث الصفحة حرف الألف أحبّ البقاع إلى الله المساجد 23، 45 أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب 154 إذا اجتهد الحاكم فأصاب 12، 17 إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد 88 إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم 106 إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى الله عليه وسلّم 108 إذا سألت فاسأل الله 112 إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين 100 إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول 99 إذا ولج أحدكم منزله 107 استأذنت ربي أن أزور قبر أمي 89، 93 أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته 86 أفضل أيامكم يوم الجمعة 143 أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة 144 اللهم إني أسألك خير المولج 107 اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل 11 أن تجعل لله ندا وهو خلقك 210 إنا معشر الأنبياء ديننا واحد 47 إن أولئك كانوا إذا كان فيهم الرجل الصالح 172 إن الله لا يقبض العلم انتزاعا 17 إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم 136

الحديث الصفحة إن جبريل قال لي 99 إن رجلا زار أخا له 153 إن من شرار الناس من تدركهم الساعة 161 إن لله ملائكة سياحين 145 إن كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم 154 إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد 40، 41 إنه جاءني في جبريل فقال: أما يرضيك 99 إنهم أحلوا لهم الحرام 217 إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل 172 أنزل الله عليّ أمانين 63 حرف الباء بدأ الإسلام غريبا 19 بلّغوا عني ولو آية 220 البدعة أحب إلى إبليس من المعصية 168 حرف التاء تمرق مارقة على حين فرقة 215 حرف الثاء ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان 72 حرف الحاء حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى 12 حيثما كنتم فصلوا عليّ 106 حرف الدال دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا 168 دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين 154 حرف الذال ذروة الإيمان الصبر 213

الحديث الصفحة حرف الراء رأيت عمرو بن لحي وهو يجر قصبه 65 حرف الزاي زوروا القبور 43 حرف السين السلام عليك يا رسول الله 38، 54 السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين 59، 90 السلام على أهل القبور 90 حرف الشين الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل 70 حرف الصاد صلوا في بيوتكم 106 صلاة الرجل في مسجده تفضل على صلاته 88 صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها 135 صلاة في مسجدي 156 حرف العين عدلت شهادة الزور الإشراك بالله 163 على رسلكما إنها صفية 136 حرف القاف قاتل الله اليهود 17، 19 القضاة ثلاثة 12 حرف الكاف كان جبريل ينزل على رسول الله بالسنة كما ينزل 10 كذب أبو السنابل 18 كذب أبو محمد 18 كذب من قال ذلك (الوتر واجب) 18

الحديث الصفحة كذب نوف 19 كنت نهيتكم عن زيارة القبور 43 حرف اللام لعن الله اليهود والنصارى 39، 42 لو بني هذا المسجد إلى صنعاء 137 لو زدنا في مسجدنا 137 حرف الميم ما بال رجال يقولون كذا 20 ما بين قبري ومنبري روضة 102 ما من رجل يمر بقبر أخيه 99 ما من رجل يسلم عليّ 38، 56، 140 ما من مؤمن إلا وأنا أولى به 159 ما من نبي إلا وقد رعى الغنم 82 مروهم بالصلاة لسبع 138 من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء 37 من حج ولم يزرني فقد جفاني 33 من خرج مع جنازة من بيتها 141 من دعا إلى هدى كان له من الأجر 115 من زار قبري وجبت له شفاعتي 36 من زارني بعد موتي فكأنما زارني 155 من زارني وزار أبي إبراهيم 175 من سألنا أعطيناه 123 من سن في الإسلام سنة حسنة 115 من صلّى عليّ واحدة صلى الله عليه بها 99 من صلّى عليّ عند قبري سمعته 143 من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ 17 من قال في القرآن برأيه فأصاب 17 من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا 216

الحديث الصفحة من كان حالفا فليحلف بالله 177 حرف النون نهيتكم عن زيارة القبور 92 النجوم أمنة للسماء 63 حرف الهاء هذا ملة أهل الكتاب قبلكم 122 هم الذين لا يسترقون 112 حرف اللام ألف لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبة بعير 84 لا تتخذوا بيتي عيدا 103، 144، 158 لا تتخذوا قبري عيدا 29، 38، 46 لا تجعلوا بيوتكم قبورا 104، 105، 144 لا تجلسوا على القبور 127 لا تحلفوا بآبائكم 177 لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد 21، 22، 49 لا تصلوا إلى القبور 173 لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم 115 لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد 22 لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله 168 لا تمنعوا إماء الله مساجد الله 55 لا هجرة بعد الفتح 154 لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليه 57، 72، 158 لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من 57، 72، 158 لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما 159 لا يبولن أحدكم في الماء الدائم 186 لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها 23 حرف الياء يا أبا هريرة: ظننت أن لا يسألني 227

الحديث الصفحة يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله 84 يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم 74 يقول الله: شتمني ابن آدم 224 يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل 50 اليهود مغضوب عليهم 167

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع حرف الألف 1 - إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة- أحمد بن أبي بكر البوصيري- ت: دار المشكاة للبحث العلمي- بإشراف: أبو تميم ياسر بن إبراهيم- دار الوطن- الرياض- ط 1 - سنة 1420. 2 - أحكام الجنائز وبدعها- محمد ناصر الدين الألباني- مكتبة المعارف- الرياض- الطبعة الأولى للطبعة الجديدة- سنة 1412. 3 - أحوال الرجال- لأبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني- تحقيق: السيد صبحي البدري السامرائي- مؤسسة الرسالة- بيروت- ط 1 - سنة 1405. 4 - أحاديث معلة ظاهرها الصحة- مقبل بن هادي الوادعي- دار الآثار- اليمن- ط 2 - سنة 1421. 5 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل- محمد ناصر الدين الألباني- المكتب الإسلامي- بيروت- ط 2 - سنة 1405. 6 - أسد الغابة في معرفة الصحابة- لعز الدين بن الأثير الجزري- تحقيق وتعليق: محمد إبراهيم البنا، محمد أحمد عاشور، محمود عبد الوهاب فائد- دار إحياء التراث العربي- بيروت. 7 - أصول السرخسي- أبو بكر محمد بن أحمد السرخسي- حقق أصوله: أبو الوفاء الأفغاني- دار المعرفة- بيروت- مصورة عن طبعة المعارف الهندية. 8 - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم- لشيخ الإسلام ابن تيمية- تحقيق: د. ناصر عبد الكريم العقل- مكتبة الرشد- الرياض- ط 5 - سنة 1417. 9 - الأم- للإمام محمد بن إدريس الشافعي- دار المعرفة- بيروت. 10 - الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية- ابن بطة العكبري الحنبلي- دار الراية- الرياض- ط 2 - سنة 1415.

11 - الأسماء والصفات- أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي- تحقيق: عبد الله بن محمد الحاشدي- مكتبة السوادي- جدة- ط 1 - سنة 1413. 12 - الإشراف على نكت مسائل الخلاف- القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي- تحقيق: الحبيب بن طاهر- دار ابن حزم- ط 1 - سنة 1420. 13 - الأعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين- خير الدين الزّركلي- دار العلم للملايين- بيروت- ط 12 - سنة 1997. 14 - الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع- الحافظ جلال الدين السيوطي- تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان- دار ابن القيم- الدمام- ط 2 - سنة 1416. 15 - الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء- الحافظ ابن عبد البر- اعتنى به: عبد الفتاح أبو غدة- مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب- ط 1 - سنة 1417. 16 - الأنساب- عبد الكريم بن محمد السمعاني- تقديم وتعليق: عبد الله عمر بارودي- دار الفكر- بيروت- ط 1 - سنة 1419. 17 - الأنوار النعمانية! - لنعمة الله الجزائري!! - مؤسسة الأعلمي- بيروت. 18 - الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف- أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر- تحقيق: أبو حماد صغير أحمد بن محمد حنيف- دار طيبة- الرياض- ط 2 - سنة 1414. حرف الباء 19 - البداية والنهاية- الحافظ ابن كثير الدمشقي- مكتبة المعارف- بيروت- سنة 1414. حرف التاء 20 - التاريخ الكبير- الإمام محمد بن إسماعيل البخاري- تصحيح وتعليق: عبد الرحمن المعلّمي اليماني- دار الكتب العلمية- بيروت- مصورة عن طبعة دائرة المعارف بالهند. 21 - تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي- دار الكتب العلمية- مصورة عن الطبعة الهندية. 22 - تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد- محمد ناصر الدين الألباني- المكتب الإسلامي- بيروت- ط 4 - سنة 1403.

23 - تحرير تقريب التهذيب- تأليف: بشار عواد معروف وشعيب الأرناءوط- مؤسسة الرسالة- بيروت- ط 1 - سنة 1417. 24 - التحصيل من المحصول- سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي- تحقيق: عبد الحميد علي أبو زنيد- مؤسسة الرسالة- بيروت- ط 1 - سنة 1408. 25 - تذكرة الحفاظ- شمس الدين الذهبي- دار الكتب العلمية- مصورة طبعة دائرة المعارف العثمانية بالهند. 26 - ترتيب المدارك- عياض بن موسى اليحصبي- ت: أحمد بكير محمود- مكتبة الحياة- بيروت. 27 - التعليقات الرضية على الروضة الندية- العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني- تحقيق: علي بن حسن بن علي بن عبد الحميد الحلبي الأثري- دار ابن عفان- القاهرة- ط 1 - سنة 1420. 28 - التحقيقات في شرح الورقات- الحسين بن أحمد بن محمد الكيلاني الشافعي المعروف بابن قاوان- تحقيق: الشريف سعد بن عبد الله حسين- دار النفائس- عمان- الأردن- ط 1 - سنة 1419. 29 - تفسير القرآن العظيم- للحافظ ابن كثير الدمشقي- مؤسسة الريان- بيروت- ط 5 - سنة 1420. 30 - تفسير القرآن العظيم- الحافظ ابن أبي حاتم- تحقيق: أسعد محمد الطيب- مكتبة الباز- مكة المكرمة- ط 2 - سنة 1419. 31 - تقريب التهذيب- للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني- تحقيق: أبو الأشبال صفير أحمد الباكستاني- دار العاصمة- الرياض- ط 1 - سنة 1416. 32 - تلبيس إبليس- الحافظ جمال الدين بن أبي الفرج بن الجوزي- خرّج أحاديثه: عبد الرزاق المهدي- دار الخير- بيروت، دمشق- ط 2 - سنة 1421. 33 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد- الحافظ ابن عبد البر الأندلسي- تحقيق: سعيد أحمد أعراب- الطبعة المغربية. 34 - التمهيد في أصول الفقه- أبو الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني- تحقيق: مفيد محمد أبو عمشة- مؤسسة الريان- المكتبة المكية- ط 2 - سنة 1421. 35 - تهذيب التهذيب- الحافظ ابن حجر العسقلاني- مؤسسة الرسالة- بيروت.

36 - تهذيب الكمال- الحافظ المزّي- تحقيق: بشار عواد معروف- مؤسسة الرسالة- بيروت- ط 5 - سنة 1415. 37 - التوسل أنواعه وأحكامه- آلف بينها ونسّقها: محمد عبد عباسي- بحوث كتبها وألقاها محمد ناصر الدين الألباني- المكتب الإسلامي- بيروت- ط 5 - سنة 1406. 38 - تيسير العلام شرح عمدة الأحكام- عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح آل بسام- ط 2 - نشر جمعية إحياء التراث الإسلامي بالكويت. حرف الثاء 39 - الثقات- الحافظ محمد بن حبان بن أحمد أبي حاتم البستي- ط. دائرة المعارف العثمانية- حيدرآباد- الهند- ط 1 - سنة 1393. حرف الجيم 40 - الجامع الصحيح المعروف ب «سنن الترمذي» - الحافظ أبو عيسى الترمذي- تحقيق: أحمد محمد شاكر- دار الكتب العلمية. 41 - الجامع لأحكام القرآن- «تفسير القرطبي» - أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي- دار إحياء التراث العربي- بيروت- ط 1 - سنة 1416. 42 - جامع العلوم والحكم- الحافظ ابن رجب الحنبلي- تحقيق: شعيب الأرناءوط وإبراهيم باجس- مؤسسة الرسالة- ط 5 - سنة 1414. طبعة أخرى: بتحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد- دار ابن الجوزي- الدمام- ط 2 - سنة 1420. 43 - جامع بيان العلم وفضله- الحافظ ابن عبد البر الأندلسي- تحقيق: سمير الزهيري- دار ابن الجوزي- الدمام- ط 2 - سنة 1417. 44 - الجرح والتعديل- لابن أبي حاتم الرازي- مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بالهند. 45 - جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام- الإمام ابن القيم- تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان- دار ابن الجوزي- الدمام- ط 1 - سنة 1417. حرف الحاء 46 - الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة- الحافظ أبو القاسم

إسماعيل بن محمد التيمي الأصبهاني- تحقيق: محمد بن ربيع بن هادي عمير المدخلي- دار الراية- الرياض- ط 1 - سنة 1411. حرف الخاء 47 - خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- للإمام الحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي- تحقيق: أبي عبد الله العاملي السلفي الداني بن منير آل زهوي- المكتبة العصرية- بيروت- ط 1 - سنة 1421. حرف الدال 48 - كتاب الدعاء- الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني- تحقيق: محمد سعيد البخاري- دار البشائر الإسلامية- بيروت- ط 1 - سنة 1407. 49 - دلائل النبوة- للبيهقي- تحقيق: عبد المعطي قلعجي- دار الكتب العلمية- ط 1 - سنة 1405. حرف الذال 50 - الذرية الطاهرة- للدولابي- تحقيق: سعد المبارك الحسن- الدار السلفية- الكويت- ط 1. 51 - ذم الكلام وأهله- أبو إسماعيل الهروي- تحقيق: أبي جابر عبد الله بن محمد الأنصاري- مكتبة الغرباء الأثرية- المدينة النبوية- ط 1 - سنة 1419. 52 - الرسالة- للإمام محمد بن إدريس الشافعي- تحقيق: أحمد محمد شاكر. 53 - الرضا عن الله بقضائه- لابن أبي الدنيا- تحقيق: ضياء الحسن السّلفي- الدار السلفية- بومباي- الهند- ط 1 - سنة 1410. 54 - دفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة! - محمود سعيد ممدوح!! - دار الإمام النووي- عمان- الأردن- ط 1 - سنة 1416. 55 - روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه- موفق الدين ابن قدامة المقدسي- تحقيق: د. شعبان محمد إسماعيل- مؤسسة الريان- المكتبة التدمرية- المكتبة المكية- ط 1 - سنة 1419. 56 - الروضة الندية شرح الدرر البهية- محمد صديق حسن خان القنوجي- تحقيق: محمد صبحي حسن حلاق- مكتبة الكوثر- الرياض- ط 5 - سنة 1418. حرف الزاي 57 - زاد المعاد في هدي خير العباد- لابن قيم الجوزية- تحقيق: شعيب الأرناءوط

وعبد القادر الأرناءوط- مؤسسة الرسالة- بيروت- ط 26 - سنة 1412. طبعة أخرى: مؤسسة الريان- بيروت- ط 1 - سنة 1418. حرف السين 58 - سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام- محمد بن إسماعيل الصنعاني- تحقيق: محمد صبحي حسن حلاق- دار ابن الجوزي- الدمام- ط 1 - سنة 1418. 59 - سلسلة الأحاديث الصحيحة- محمد ناصر الدين الألباني- مكتبة المعارف- الرياض- ط 1 - سنة 1415. طبعة أخرى: طبعة المكتب الإسلامي- بيروت- المجلد الأول- ط 4 - سنة 1405. 60 - سلسلة الأحاديث الضعيفة- محمد ناصر الدين الألباني- مكتبة المعارف- الرياض. 61 - سنن ابن ماجه- بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي- دار الكتب العلمية. 62 - سنن أبي داود- تحقيق: عزت الدعاس- دار ابن حزم- بيروت- ط 1 - سنة 1418. 63 - سنن الدارمي- عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي- تحقيق: فواز زمرلي وخالد السبع العلمي- ط 2 - دار الكتاب العربي بيروت- سنة 1417. 64 - السنن الكبرى- للبيهقي- مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية. 65 - السنن الكبرى- الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي- تحقيق: عبد الغفار البنداري وسيد كسروي حسن- دار الكتب العلمية- بيروت- ط 1 - سنة 1411. 66 - السنة- لابن أبي عاصم- تحقيق: باسم فيصل الجوابرة- دار الصميعي- الرياض- ط 1 - سنة 1419. 67 - السنة- محمد بن نصر المروزي- تحقيق: سالم بن أحمد السلفي- مؤسسة الكتب الثقافية- ط 1 - سنة 1408. 68 - سير أعلام النبلاء- شمس الدين الذهبي- مؤسسة الرسالة- بيروت- ط 3 - سنة 1406. 69 - السيرة النبوية- عبد الملك بن هشام- تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي- دار إحياء التراث العربي- ط 1 - سنة 1415.

حرف الشين 70 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب- ابن العماد الحنبلي- دار إحياء التراث العربي- بيروت- مصورة عن الطبعة المصرية. طبعة أخرى: دار ابن كثير- بيروت، دمشق- تحقيق: عبد القادر الأرناءوط ومحمود الأرناءوط- ط 1 - سنة 1411. 71 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة- هبة الله اللالكائي- تحقيق: أحمد سعد حمدان- دار طيبة- الرياض- ط 4 - سنة 1416. 72 - شرح السنة- للحافظ البغوي- تحقيق: شعيب الأرناءوط- المكتب الإسلامي- بيروت. 73 - الشرح الممتع على زاد المستنقع- شرح فضيلة العلامة محمد بن صالح العثيمين- مؤسسة آسام- الرياض- ط 4 - سنة 1416. 74 - الشريعة- أبو بكر محمد بن الحسين الآجري- تحقيق: الوليد سيف النصر- مؤسسة قرطبة- المكتبة المكية- ط 1 - سنة 1417. 75 - شعب الإيمان- أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي- تحقيق: أبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول- دار الكتب العلمية- ط 1 - سنة 1410. 76 - الشفاعة- تأليف: أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي- نشر دار الآثار- صنعاء- توزيع مؤسسة الريان- بيروت- ط 3 - سنة 1420. حرف الصاد 77 - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان- تحقيق: شعيب الأرناءوط- مؤسسة الرسالة- بيروت- ط 3 - سنة 1418. 78 - صحيح البخاري- مع فتح الباري. 79 - صحيح مسلم بن الحجاج- بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي- دار ابن حزم ومؤسسة الريان. 80 - صحيح الجامع الصغير- محمد ناصر الدين الألباني- المكتب الإسلامي- بيروت- ط 3 - سنة 1408. 81 - صحيح الترغيب والترهيب- محمد ناصر الدين الألباني- مكتبة المعارف- الرياض- ط 3 - سنة 1409.

82 - صحيح سنن الترمذي- محمد ناصر الدين الألباني- المكتب الإسلامي- بيروت. 83 - صراط النجاة! - السيد الخوئي!! - تعليق الشيخ جواد التبريزي- دار المحجة البيضاء- بيروت. 84 - صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلّم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها- محمد ناصر الدين الألباني- مكتبة المعارف- الرياض- الطبعة الثانية للطبعة الجديدة- سنة 1417. حرف الضاد 85 - ضعيف الجامع الصغير- محمد ناصر الدين الألباني- المكتب الإسلامي- بيروت- ط 3 - سنة 1410. 86 - ضعيف سنن أبي داود- محمد ناصر الدين الألباني- المكتب الإسلامي- بيروت- ط 1 - سنة 1412. 87 - ضعيف سنن الترمذي- محمد ناصر الدين الألباني- المكتب الإسلامي- بيروت- ط 1 - سنة 1411. حرف الطاء 88 - طبقات المحدثين بأصبهان- عبد الله بن محمد بن جعفر، المعروف بأبي الشيخ- تحقيق: عبد الغفور البلوشي- مؤسسة الرسالة- بيروت- ط 1 - سنة 1412. حرف العين 89 - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية- الحافظ عبد الرحمن بن الجوزي- تحقيق: إرشاد الحق الأثري- ط 1 - سنة 1399 - لاهور- باكستان. 90 - عمل اليوم والليلة- أبو بكر أحمد بن محمد الدينوري، المعروف بابن السني- تحقيق: سالم أحمد السلفي- مؤسسة الكتب الثقافية- بيروت- ط 1 - سنة 1408. حرف الغين 91 - غاية المرام في تخريج الأحاديث الحلال والحرام- محمد ناصر الدين الألباني- المكتب الإسلامي- بيروت- ط 4 - سنة 1414. حرف الفاء 92 - فتح الباري شرح صحيح البخاري- الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني- دار الريان- القاهرة- مصر- ط 2 - سنة 1407.

93 - فتح السلام في أحكام السلام- مساعد بن قاسم الفالح- مكتبة العبيكان- الرياض- ط 1 - سنة 1416. 94 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير- محمد بن علي الشوكاني- تحقيق: عبد الرحمن عميرة- دار الوفاء- المنصورة- مصر- ط 2 - سنة 1418. 95 - الفرق بين الفرق- عبد القاهر البغدادي الأسفراييني- دار الكتب العلمية- بيروت. 96 - فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام- د. غالب بن علي العواجي- دار لينة- دمنهور- مصر- ط 3 - سنة 1418. 97 - فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم- القاضي إسماعيل بن إسحاق الجهضمي- تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني- المكتب الإسلامي- بيروت- ط 3 - سنة 1397. 98 - الفقيه والمتفقه- الخطيب البغدادي- تحقيق: عادل بن يوسف العزاري- دار ابن الجوزي- الدمام- ط 1 - سنة 1417. 99 - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة- محمد بن علي الشوكاني- تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني- المكتب الإسلامي- بيروت. حرف القاف 100 - القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية- الإمام أبو الحسن علاء الدين بن محمد البعلي الحنبلي المعروف بابن اللحام- تحقيق: عبد الكريم الفضيلي- المكتبة العصرية- بيروت- ط 1 - سنة 1418. حرف الكاف 101 - كتب حذّر منها العلماء- مشهور بن حسن آل سلمان- دار الصميعي- الرياض- ودار ابن حزم- بيروت- ط 1 - سنة 1415. 102 - كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة- نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي- تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي- مؤسسة الرسالة- ط 1 - سنة 1404. 103 - الكلم الطيب- لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية- تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني- المكتب الإسلامي- بيروت- ط 5 - سنة 1405.

حرف الميم 104 - المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين- الحافظ محمد بن حبان أبو حاتم البستي- تحقيق: محمود إبراهيم زائد- دار الباز- مكة المكرمة. 105 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد- نور الدين الهيثمي- دار الكتاب العربي- بيروت. 106 - مجموعة الفتاوى- شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني- تحقيق: عامر الجزار وأنور الباز- دار الوفاء- المنصورة- مكتبة العبيكان- الرياض- ط 2 - سنة 1419. 107 - المجموع شرح المهذب- شرف الدين النووي- حققه وعلّق عليه وأكمله بعد نقصانه: محمد نجيب المطيعي- دار إحياء التراث العربي- بيروت- مصورة عن الطبعة المصرية- سنة 1415. 108 - المجموع المفيد في نقض القبورية ونصرة التوحيد- محمد بن عبد الرحمن الخميس- دار أطلس- ط 1 - سنة 1418. 109 - مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين- جمع وترتيب: فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان- دار الثريا للنشر- الرياض- ط 2 - سنة 1414. 110 - المحصول في علم أصول الفقه- فخر الدين الرازي- تحقيق: طه جابر فياض العلواني- مؤسسة الرسالة- بيروت- ط 3 - سنة 1418. 111 - المحلى- لابن حزم- تحقيق: أحمد محمد شاكر- دار إحياء التراث العربي- بيروت- ط 1 - سنة 1418. 112 - المدخل إلى السنن الكبرى- للحافظ أبي بكر البيهقي- تحقيق: محمد ضياء الرحمن الأعظمي- دار الخلفاء للكتاب الإسلامي- الكويت. 113 - المراسيل- الحافظ أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني- تحقيق: شعيب الأرناءوط- مؤسسة الرسالة بيروت- ط 2 - سنة 1418. 114 - المستصفى من علم الأصول- أبو حامد الغزالي- دار إحياء التراث العربي- بيروت- ط 1 - سنة 1418. 115 - مسائل علمية في الدعوة والسياسية الشرعية- كتبه: علي بن حسن بن علي بن عبد الحميد الحلبي الأثري- راجعه: العلامة محمد ناصر الدين الألباني- مكتبة ابن القيم- الكويت- دار ابن خزيمة- الرياض- ط 1 - سنة 1421.

116 - المستدرك على الصحيحين- للحاكم- دائرة المعارف العثمانية- ومعه التلخيص للذهبي. 117 - المسند- الإمام أحمد بن حنبل- ط. المكتب الإسلامي- مصورة عن الطبعة المنيرية. طبعة أخرى: دار المعارف بمصر- تعليق وشرح: أحمد محمد شاكر. وثالثة: مؤسسة قرطبة- القاهرة- توزيع: مكتبة الخراز- جدة- اعتناء: أبي عاصم حسن بن عباس بن قطب- وهي تكملة لعمل الشيخ أحمد شاكر. ط 1 - سنة 1418. 118 - المسند- الحافظ عبد الله بن الزبير الأسدي الحميدي- تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي- عالم الكتب- بيروت- مصورة عن طبعة المجلس العلمي بالهند- سنة 1382. 119 - مسند أبي يعلى الموصلي- الحافظ أحمد بن علي بن المثنى التميمي- تحقيق: حسين سليم أسد- دار المأمون للتراث- دمشق- ط 1 - سنة 1405. 120 - مسند أبي بكر الصديق- أحمد بن على المروزي- تحقيق: شعيب الأرناءوط- المكتب الإسلامي- بيروت- ط 2 - سنة 1399. 121 - مشكاة المصابيح- محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي- تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني- المكتب الإسلامي- ط 3 - سنة 1405. 122 - المصنف- عبد الرزاق الصنعاني- بتحقيق: عبد الرحمن الأعظمي- المكتب الإسلامي- بيروت. 123 - المصنف- ابن أبي شيبة- المجمع العلمي بالهند- وطبعة دار الفكر- بيروت. 124 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية- الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني- مؤسسة قرطبة والمكتبة- ط 1 - سنة 1418. طبعة أخرى: دار العاصمة- الرياض- بتنسيق: د. سعد بن ناصر الشتري- ط 1 - سنة 1419. 125 - المعجم الكبير- الحافظ الطبراني- تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي- دار إحياء التراث العربي- بيروت- مصورة عن مكتبة ابن تيمية بالقاهرة. 126 - معجم الصحابة- عبد الباقي بن قانع- تحقيق: خليل إبراهيم قوتلاي وحمدي الدمرداش محمد- مكتبة نزار مصطفى الباز- مكة المكرمة- ط 1 - سنة 1418.

127 - المعرفة والتاريخ- للفسوي- تحقيق: أكرم ضياء العمري- مطبعة الإرشاد ببغداد- سنة 1394. 128 - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، الإمام أبو الحسن الأشعري- تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد- المكتبة العصرية- بيروت- سنة 1416. 129 - الملل والنحل- للشهرستاني- دار المعرفة- بيروت- ط 6 - سنة 1417. 130 - موسوعة الإجماع لشيخ الإسلام ابن تيمية- جمع وترتيب: عبد الله بن مبارك البوصي- مكتبة دار البيان الحديثة- الطائف- السعودية- ط 1 - سنة 1420. 131 - الموطأ- للإمام مالك بن أنس- رواية يحيى الليثي- مؤسسة الريان- بيروت. 132 - موضح أوهام الجمع والتفريق- الخطيب البغدادي- تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني- دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد- الهند- سنة 1378. 133 - الموضوعات- لابن الجوزي- تحقيق: نور الدين بن شكري بن علي بويا جيلار- أضواء السلف ومكتبة التدمرية- ط 1 - سنة 1418. 134 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال- الحافظ شمس الدين الذهبي- تحقيق: علي البجاوي- دار المعرفة- بيروت. حرف النون 135 - نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار- الحافظ ابن حجر العسقلاني- تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي- دار ابن كثير- دمشق- بيروت- ط 1 - سنة 1421. 136 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة- جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي- دار الكتب المصرية. 137 - نفائس الأصول في شرح المحصول- أحمد بن إدريس القرافي- تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض- قرّظه: د. عبد الفتاح أبو سنة- مكتبة الباز- مكة المكرمة- ط 3 - سنة 1420. 138 - نهاية السئول في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول- القاضي جمال الدين الإسنوي- تحقيق: د. شعبان محمد إسماعيل- دار ابن حزم- بيروت- ط 1 - سنة 1420. 139 - نهاية الوصول إلى دراية الأصول- صفي الدين الأرموي- تحقيق: صالح بن سليمان اليوسف وسعد بن سالم السويح- مكتبة نزار مصطفى الباز- مكة المكرمة- ط 2 - سنة 1419.

§1/1