الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام

القرافي

الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام

حُقوُق الطّبع محَفُوظة للمعتَني به الطبعة الأولى بحلب 1387 هـ - 1967 م الطبعة الثانية ببيروت 1416 هـ - 1995 م قامَت بطباعَته وإخراجه دار البشائر الإسلامية للطبَاعَة وَالنشرَ والتَّوزيع بَيروت - لبنان - ص. ب: 5955 - 14

تقدمة الطبعة الثانية

تقدمة الطبعة الثانية: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمدُ لله المنعم الكريم الوهاب، المتفضل على عباده الموفقين لخدمة دينه بمزيد الثواب، المحسن إلى من أطاعه وإليه أناب. والصلاةُ والسلام على سيدنا ونبينا ورسولنا محمد العبد الأوَّاب، الهادي بشريعته إلى طريق الحق والصّواب، وعلى صحابته الغُرّ الميامين الأنجاب، أكرَمِ الأصحاب وأوفى الأتباع والأحباب، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب. أما بعد فهذه الطبعة الثانية من كتاب "الِإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفات القاضي والإِمام" للِإمام أبي العباس أحمد بن إدريس القَرَافي، الصِّنْهاجيِّ المغربيِّ الأصل، المصريّ المولد والمنشأ والوفاة، إمامِ السادة المالكية في عصره رحمه الله تعالى. وقد أنعم الله تعالى عليَّ بإعادة طبعه، مزيداً من التحقيق والتَّعليق، ومنقحاً من التصحيف والتحريف الذي بقي في طبعته الأولى، مع ما كنتُ بذلته من أقصى الجهد في تنقيحها وتصحيحها، فالحمدُ لله الذي يسَّر وأعان، وأمَدَّ في العمر إلى أن طُبع هذا الكتاب مرةً ثانية بمزيد من الِإتقان، وقد كان بين الطبعة الأولى وهذه الطبعة الثانية قُرَابةُ ثلاثين سنة، فالأولى طُبعَتْ بحلب سنة 1387 - 1967، وهذه طُبعت ببيروت سنة 1414 = 1994، وذلك من فضل الله وكرمه سبحانه. وكنتُ في طبعته الأولى التي خدمتُها، رجوتُ من الله تعالى أن ييسِّرَ لي العثورَ على نسخة صحيحة قويمة، لأستدرك بها ما بقي في الكتاب من تحريف

وتصحيف، فأكرمني الله تعالى بذلك، ووقفتُ بأواخر سنة 1387 على نسخة مخطوطة منه في الخزانة العامة بمدينة الرباط في المغرب الحبيب، فقابلتُ بها الطبعة الأولى التي اعتمدتُ فيها على أربع نُسَخ مخطوطة، واستفدتُ منها خيرَ استفادة، وقَوَّمتُ بالإستناد إليها كل أو جُلَّ العبارات التي كانت مختلَّة معتلَّةَ في الطبعة الأولى، فغدت هذه الطبعة الثانية سليمةً مستقيمةَ إن شاء الله تعالى، وتبين فيها من المعاني الصحيحة ما لم يكن بَيِّنَ المعنى في سابقتها. ويمكن أن أقول: إنَّ هذه الطبعة الثانية تميَّزت بمزايا رفيعة جليلة هامَّة جداً، بما حَفَّها من عناية ورعاية ممن تكرَّم بقراءتها وتصحيحها في الطبعة الأولى من الأساتذة الشيوخ الكبار، وممن تكرَّم بمقابلتها بالنسخة المخطوطة المغربية من العلماء العارفين بالمخطوطات المتقنين لقراءتها. فقد قرأ الكتاب في طبعته الأولى عالمانِ جليلان وأستاذان كبيران، من كبار شيوخي الأجلَّة، ومنحاني ملاحظاتهما وتصويباتهما لعبارات كانت معرفة في الأصول، لم أهتدِ إلى تصويبها، أوَّلُهما الأستاذ العلامة الأَفِيْق الفقيه المحقق فضيلة الشَّيخ مصطفى الزرقا حفظه الله تعالى وأمتع به، والَآخرُ الأستاذ الجليل والعلامة الفقيه المدقق فضيلة الشيخ محمد ناجي أبو صالح - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - (¬1). فكلٌّ منهما أبدى نظرَهُ في بعض جُمَلِ منه، وكان لما أبداه فضيلة الشَّيخ ناجي أبو صالح أثرٌ هام في تصويب بعض النصوص وتقويمها، فقد تفرَّغ لدرس الكتاب ورَبْطِ جُمَلِه وتقسيماته ببعضِها، فاهتدى إلى تصويب جُمَلٍ ممَّا في أصولهِ من تحريف، جزاه الله تعالى خيراً وأجزل له الأجر والرضوان. وقد عزوتُ ما أفاداه إليهما. وتكرَّم بمقابلة الكتاب في طبعته الأولى بالنسخة المغربية المخطوطة التي في ¬

_ (¬1) وقد انتقل إلى رحمة الله تعالى ودار كرامته في مدينة الرياض يوم الأربعاء 21 من ذي الحجة سنة 1411، وكانت ولادته بمدينة حلب سنة 1324 رحمه الله تعالى وأسبغ عليه الإحسان والرضوان.

الخزانة العامة في مدينة الرباط أمينُ المخطوطات فيها فضيلةُ الأخ الكريم والأستاذ الفاضل السيد إبراهيم الكَتَّاني - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وأحسن إليه (¬1)، وسيأتي الحديث عن هذه المخطوطة. وقد حَظِيَ هذا الكتاب: "الإِحكام" للقرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، بثناءِ وتقدير من كل من وقف عليه حين ظهر بحُلَّته القشيبة، وكتب إليَّ بذلك غيرُ واحد من العلماء الأفاضل، فأشكرهم على حسن ظنهم وجميل تقديرهم وثنائهم، وكان ممَّا حَظِيَ به في طبعته الأولى ثناءٌ وتقديرٌ كريمان، من عالم فاضل أمريكي مسلم، متخصص بدراسة الفقه المالكي، أخبرني بذلك منذ سنين بعيدة، الأخ الفاضل الأستاذ الشَّيخ نِظَام يعقوبي أحد علماء البحرين النابهين. وكتبت له من قريب أستوضحه عن اسم هذا العالم الفاضل الأمريكي، فكتب إلي: "في حوالي سنة 1979 - هـ 1980 م، زارنا بمدينة مونتريال في كندا، - وكان الأخ الشَّيخ نِظام في حينها متوجهاً للدراسات العلمية الكونية - الأخُ الفاضلُ الدكتور عمر فاروق عبد الله، وهو أخ مسلم أمريكي، من أسرة أمريكية عريقة من الأُسَر الأنجلوسكسونية، المشهورة في تاريخ القضاء الأمريكي، ويحمل الأخ شهادة الدكتوراه في الفقه المالكي، ورسالتُهُ تتعلق بـ (عَمَل أهل المدينة) في "موطأ مالك"، وتقع في مجلدين ضخمين باللغة الإِنجليزية، وهما عندي من أجَلِّ غُنْم. فألقى الأخ الدكتور المذكور محاضرة في قسم الدراسات الِإسلامية بجامعتنا ماكجيل (Mc Gill)، تتعلق بالفقه الإِسلامي والفقه المالكي، وأشار ضمن المحاضرة إلى كتاب "الإِحكام" للقرافي، وقال: نتمنَّى أن تُحقَّق جميعُ كتبنا الفقهية والعلمية والتراثية، بهذا الأسلوب الذي اتبعه محققُ هذا الكتاب الشَّيخ ¬

_ (¬1) ولد الأستاذ السيد إبراهيم الكتاني بمدينة فاس بالمغرب 10 من رمضان سنة 1325 = 18/ 10/ 1907، وتوفي بمدينة الرباط 29 من ربيع الآخر سنة 1411 = 16/ 11/ 1990 رحمه الله تعالى وأكرمه بالفضل والإِحسان.

عبد الفتاح أبو غدة. وحضر ذلك الاجتماع جميع من المستشرقين وطلبة الدراسات العليا في الجامعة. والدكتور الفاضل يقيم الآن في المملكة العربية السعودية، وهو يُدرِّس في جامعة الملك عبد العزيز بجُدة، يدرس فيها الثقافة الإِسلامية ومقارنة الأديان". وصفُ النسخة المخطوطة الخامسة: وقفتُ على نسخة خامسة من الكتاب في (الخزانة العامة) بالرباط في المغرب، تحت الرقم (2657 د)، في 120 صفحة من القطع الصغير، وكانت في مكتبة الشيخ محمد عبد السلام البَنَّاني، المفتي والمدرس بكلية الشريعة في جامعة القَرَويين بفاس - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وجاء العنوان فيها: (الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفِ القاضي والإمام)، وجاء في آخرها بخط كاتبها نفسِه قولُه: (اللَّهم يا عظيم المنة، هَبْ لكاتبه ومطالعه الجنة. إذا رأيت عَيباً فسُدَّ الخَلَلا ... جَلَّ مَنْ لا فِيهِ عَيْبٌ وَعَلَى والله أعلم). وقد رمزتُ لهذه النسخةِ بحرف (ر). وهذه النسخة فيها سَقَطُ جُمَلٍ وكلماتٍ في مواضع كثيرة، ولا تاريخ لها. ومعها كتاب "الأُمْنِيَّة في إدراك النية" للإمام القرافي أيضاً، وكلاهما مكتوبٌ بخطِّ مشرقي، يُقدَّرُ أنَّه من مكتوبات القرن العاشر أو بعده. وهذه النسخة - على ما ذكرتُ فيها من سَقَط - استفدتُ منها استفادة جُلَّى، في تصحيح بعض العبارات التي كانت معرفة في النُّسَخ التي اعتمدتُ عليها، كما سيرى القارئ الإشارة إلى ذلك في بعض المواضع، ولم أشر إلى كلها، فالظاهر أنها منسوخة عن نسخة قويمة صحيحة، وقع فيها بعض الأسقاط والتحريفات، فرحم الله مالكها وكاتبها وواقفها برحمتِهِ الواسعة وغفرانه العظيم. ولما وقفتُ عليها في 25 من رمضان عام 1387، لم يكن لدي متسَعٌ من الوقت لأقابلها كلَّها بتمامها، فقابلتُ أوَّلَها، ثم رجوتُ من الأخ الكريم المفضال

الأستاذ الشيخ السيد إبراهيم الكتاني أمين المخطوطات في (الخِزَانة العامة بالرِّباط) آنذاك، أن يتم مقابلتها متكرِّماً متَفضلاً، فجاد بذلك وأجاد، وأحسن وأتقن، وأعاد مقابلتها من الأول حتى الآخر، وأَثبَتَ لي على حواشي نسختي المطبوعة تلك الكلمات المغايراتِ والمزيداتِ، وأشار إلى الكلمات أو الجُمَل الناقصات، وانتهى من مقابلتها في 12 من شوال سنة 1387، فجزاه الله تعالى عني خيراً وأحسَنَ إليه أكرمَ إحسان. وقد علَّمتني هذه النسخة أنَّ تأخُّرَ نَسْخ الكتاب المخطوط، لا يُلغي موضعَه من الإعتبار والتقديم، فلا يصح أن تكون النظرة عامةَ إلى كل نسخة متأخرة النَّسْخ والتاريخ: أنها نسخةٌ ضعيفةٌ متخلفةٌ عن الثقة بها والإعتمادِ عليها لتأخرها (¬1). ¬

_ (¬1) وقديماً نيَّة الكبارُ الأماثل، إلى مقام المتأخرين الأفاضل، وذكروا أن تأخرهم في الزمان، لا يُبعدهم عن احتلال عالي المكان، فنِعَمُ الله لا تُحصَرُ ولا تُحصى، ومَكارمُهُ على عباده وخَلْقِه لا تُستقصى: 1 - قال الإمام مُسلِمُ بن الحَجاج - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في مقدمته لكتابه "الصحيح" 1: 54 - وقد تحدَّثَ عن تفاضل الرواة في الحفظ والضبط ومزايا بعضهم على بعض في ذلك -: "وإنَّما مثَّلنا هؤلاء في التَّسمية، ليكونَ تمثيلُهم سِمَةَ يَصْدُرُ عن فَهْمها مَنْ غَبِيَ عليه طريقُ أهل العلم في ترتيب أهلِه، فلا يُقَصَّرُ بالرجل، العالي القَدْر عن درجتِه، ولا يُرفَعُ مُتَّضِعُ القَدْر في العلم فوقَ منزلتِه، ويُعطَى فيه كلُّ ذي حَقٍّ فيه حَقِّه، ويُنزَّلُ منزلتَه". 2 - وقال الإمام مجدُ الدين الفَيْرُوز آبادي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في مقدمته لكتابه "القاموس المحيط"، وهو يَتحدَّثُ عن فضل من ألَّفَ قبله في لغة العرب كالجوهري وغيره، وعن فضل كتابه "القاموس المحيط" على كتبهم، مع تباعد زمانه، وتأخر أوانه: "قال أبو العباس المُبرِّدُ في أول كتابه "الكامل" وهو القائلُ المُحِقّ: ليس لقِدَم العهدِ يُفَضَّلُ الفَائل - الفائلُ بالفاء: المخطئُ، ووقع في طبعة (القاموس السنة 1406 محرَّفاً إلى (القائل) بالقاف، وهو تحريف فاحش! ولكنه مأنوس!! - ولا لحِدْثانِهِ يُهتَضَمُ المصيبُ، ولكن يُعطَى كلُّ ما يَستحقّ". 3 - وقال الإمام ابنُ مالك النَّحْويُّ صاحبُ "الألفية" في النحو - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في أول كتابه "التسهيل" في النحو وهو يُشير إلى تأخر زمانِه عن الأئمة السابقين، وتخلُّفِ علمه عن علم =

ثم وقفتُ في سنة 1404 في (مجلة معهد المخطوطات بالقاهرة)، في الجزء الأول من المجلد الحادي والعشرين ص 19، على وجود نسخة من "الإِحكام" للقرافي، المكتبة الوطنية بتونس، تحت الرقم (1345)، فطلبتُ من بعض أصدقائي من علماء تونس، أن يفحصها لي، ليَرى قيمتها من الثقة والضبط والإتقان، فأفادني بأنها: نسخة ضعيفة متأخرة، فرأيتُ الإِشارة إلى ذلك هنا للعلم بهذا. وفي الختام: أحمدُ الله تعالى، الذي يسَّر لي خدمة هذا الكتاب على أحسنِ ما استطعت، وأرجو منه سبحانه أن يتقبله عملاً صالحاً ومتجراً رابحاً، ويَنفعُ به كل مفيد ومستفيد، وهو وليُّ التوفيق، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم. في تورنتو - كندا 25 من المحرَّم 1414 وكتبه عبد الفتاح أبو غُدّة ¬

_ = الأعلام المتقدمين، وأنَّ ذلك لا يَمنع أن يكون لديه بقايا مزايا لم يُدرِكوها، وبعضُ فتوحاتٍ في علم العربية لم يُوهَبُوها: "وإذا كانت العلومُ مِنَحاً إلَهيَّة، ومَوَاهِبَ اختصاصيَّة، فغيرُ مستبعَدٍ أن يُدَّخَرَ لبعض المتأخرين، ما عَسُرَ على كثير من المتقدمين، نعوذُ بالله من حَسَدٍ يَسُدُّ بابَ الإنصاف، ويَصُدُّ عن جميل الأوصاف". انتهى. وما أصدق قولَ القائل: تَرَى الرجلَ النحيفَ فتزدريه ... وفي أثوابه أَسَدٌ هَصُورُ ويُعجبُك الطَرِيرُ فتبتليه ... فيُخلِفُ ظَنَّك الرجلُ الطَّرِيرُ! فلا يُستهان بالنسخة المتأخرة، ولا يُغالَى ويُبالَغ في النسخة المتقدمة، ولكن تُقوَّمُ كلٌّ منهما بما تستحق.

تقدمة الطبعة الأولى

تقدمة الطبعة الأولى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمدُ لله رب العالمين حمدَ الشاكرين، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمد وعلى آلِهِ وصحبِهِ وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فهذا كتابُ رفيعٌ فريدٌ في بابه، أجاد فيه مؤلِّفه الِإمامُ القَرافي أيَّما إجادة، وشرَحَ به حقائقَ من العلم كانت عَصِيَّة شاردةً تستعصي على فحولِ العلماء قبلَه، فطوَّعها وجعَلَها سهلةَ مأنوسةَ منضبطة، وألَّفها أحسنَ تأليف، ويسَّرَ منالَها لطُلابها بأسلوبِ سَهْل جَزْل، وجاء بالجديدِ الكثير من العلم الذي لم يكن مطروقاً من قبل، في الفقهِ والأصولِ وتاريخ التَّشريع، وملأ فراغاً لم يَقُم بمَلئِهِ سواه، ولا ينهضُ للقيام به إلَّا الأئمة الأفذاذ الموهوبون أمثالُ الِإمام القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وتحدَّث في فاتحته عن سببِ تأليفِهِ فقال: "قد وقع بيني وبين الفضلاء مع تطاولِ الأيَّام مَباحِثُ في أمر الفَرْق بين الفُتْيَا التي تبقى معها فُتْيَا المُخالِف، وبين الحكم الذي لا يَنقُضُه المخالِف، وبين تصرُّفاتِ الحُكَّام وتصرُّفاتِ الأئمة ... ، والْفَرْقِ بين الفتيا والحكم ... ، وما حقيقةُ الحكمِ الذي يُنقَض والحكمِ الذي لا يُنقَض، وهل هو نفساني أم لِساني؟ وهل هو إخبار أم إنشاء؟ ... ونظائرُ هذه المسائل كثير، يقَعُ السؤال عنها، فلا يُوجَدُ من يُجيبُ عن ذلك محرَّراً. فأردتُ أن أضعَ هذا الكتابَ مشتمِلاً على تحرير هذه المطالب، وأوردُها أسئلةَ كما وقعَتْ بيني وبينهم. ويكونُ جوابُ كل سؤال عَقِيبَه، وأُنبِّهُ على غوامض تلك المواضع وفروعِها في الأحكام والفتاوى وتصرفات الأئمة. وسمَّيتُ هذا

أصول الكتاب وعملي فيه

الكتابَ كتابَ "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفاتِ القاضي والإِمام". وعدَدُ الأسئلة أربعون سؤالاً". انتهى ملخصًا. فهو كتابٌ في الذروة من العلم والبحث، على مستوى الأئمة الكبار من القضاة والمفتين وأعلام الدين. ومن أجل هذا أحببتُ خدمتَهُ والعناية به وإخراجَه للناس، في حُلَّة بهية تلاقي مقامَ الكتاب ومؤلِّفه، "وتُحلُّه المنزلةَ اللائقةَ به من نفوس أهل العلم. وأرجو أن أكون قد وُفقت إلى ما قصدتُ بفضل الله تعالى وعونه. وقد كان إخراجُه أُمنيَّةَ غالية في نفسي من حين أَن قرأته منذ عشر سنوات، حتى مَنَّ الله تعالى بذلك ويسَّر الأسباب، فله الحمدُ والشكر على فضله وتوفيقه. أصول الكتاب وعملي فيه لهذه الطبعة التي بين يديك أربعة أصولٍ خطية، أُجمِلُ وصفَها فيما يلي: 1 - مخطوطة مكتبة شيخ الِإسلام عارف حكمت - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في المدينة المنورة. ورقمها فيها 3 فتاوى، في مجلد لطيف بقطع صغير في 50 ورقة، مذهَّبةَ العنوان تذهيباً خزائنياً. وهي بخطِّ إبراهيم بن نباتة، وعليها في كثير من حواشيها بلاغات تفيد أنها قُرئت وقُوبلت مرتين. وجاء في غير موضع منها على الحاشية لفظُ "وفي نسخة ... "، ممَّا يفيد أنَّه كان بيد كاتبها نسختان. وقد بحثتُ طويلاً عن ترجمة له فلم أقف على شيء. ويُقدَّر أنها من مخطوطات القرن الثامن أو بعده بقليل، والله أعلم. وهي مخطوطة جيدة صحيحة جداً، يَنْدُرُ فيها الخطأ أو التحريف، قابلتُ بها نسختي المستخلَصة المصححة من مخطوطة الأحمدية والأزهر ودار الكتب المصرية، فكانت هي أصحَّ منها جميعاً. قابلتُها بمعاونة ابن أخي الأستاذ الناهض البارع النجيب الشيخ عبد الستار أبو عدة في ثمانية مجالس، آخرها يوم الأحد 25 من ذي الحجة سنة 1385 في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. وهي من حيث الصحةُ والجودةُ تأتي في المرتبة الأولى.

2 - مخطوطة المكتبة الأحمدية في بلدنا حلب. وهي ضمن مجموع في كتب الحديث الشريف، رقمه 306. جاء في آخرها: "وكان الفراغُ من تعليقه في شهر صفر من شهور سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد". وبجانبه في الصفحة ذاتها بقلم ناسخها نفسِهِ وبحبرِ مغاير ما صورته "بلغَتْ المُعَارضَةُ له مطالعةَ مع مراجعةِ المنقولِ منه، وكان فيه سُقمٌ، فصَحَّتْ هذه النسخة بحسب الإِمكان ولله الحمد والمنة". وناسخُها قد كتَبَ اسمَه في آخر كتابِ "الأمنيَّة في إدراكِ النيَّة" للقرافي أيضاً، الذي هو في المجموع المذكور بخطّه أيضاً بعلى كتاب "الإِحكام"، فقال: "ووافَقَ الفراغُ منه ليلةَ الخميس المبارك من شهرِ صفر، من شهور سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وكتبه العبد الفقير إلى الله تعالى عبدُ الرحمن بنُ عباس بن عبد الرحمن". فهو قد نسَخَ هذين الكتابين: "الإِحكام" و"الأُمنية" في شهر واحد هو صَفَر، كانسَخَ قبلَهما في الشهر الذي قبله المحرَّم: كتابَ "تأويل مختلِف الحديث" لابن قتيبة، وهو أوَّلُ كتابِ في المجموع المذكور، جاء فيه باسم "كتابُ الردّ على من قال بتناقُضِ الحديث وعابَ أهلَهُ". وفَرَغ منه كما قال: "ووافق الفراغُ منه في شهر الله المحرَّم من شهور سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة". وقد بحثت كثيراً عن ترجمة له فلم أقف على شيء. فلعله كان ناسخاً محترفاً؟ والله أعلم. وهذا ما يَغلِبُ على الظنّ، فقد وَقَفْتُ له على كتابِ بخطه أيضاً، في زيارتي للمغرب في صيف عام 1388، في خزانة الأستاذ السيد ناصر الكتاني - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في مدينة الرباط بالمغرب الأقصى، وهو "شرح مقدمة ابن الحاجب في النحو". وقد كتبه كلَّه بخطه وفَرَغ منه كما قال في آخره: "تمَّ شَرْحُ المقدمة في النحو بحمدِ الله وحسن توفيقه، والصلاةِ والسلام على خير خلقه محمدِ وآلِهِ أجمعين، عام 748 ثاني ذي الحجة بحلب المحروسة". انتهى.

ولم يَذكُر فيه اسمَه كما هو ظاهر، غيرَ أن الورَقَ وحَجْمَه وتلوينَهُ ونوعَهُ والخَطَّ وقاعدَتَهُ كلها مماثلةٌ تمامَ المماثلة لما في مجموعِ الأحمدية المشار إليه. ومخطوطةُ الأحمدية هذه عدَدُ صفحاتها 75 صفحة من القطع الصغير، وخطُّها جيد، يَندُرُ فيها الخطأ، وتغلبُ عليها الصحة، ووقع فيها نقصُ ورقة قبل الصفحة الأخيرة من الكتاب. وهي من حيث الصحةُ والجودةُ تأتي في المرتبة الثانية. وهي قريبةُ العهد بالمؤلف بين نَسْخِها ووفاتِهِ 54 سنة. وقد استفدتُ منها كثيراً في تصحيح الأغلاط، واستدراك الأسقاط، وتصويب التحاريف. 3 - مخطوطة مكتبة الأزهر، رَقْمُها فيها في فقه السادة المالكية 1766، عروسي عمومية 42298، كتبها محمد بن محمد بن عبد الباقي الخالدي المالكي سنة 1005 من الهجرة، في 55 ورقة، ومسطرتها 21 سطراً 20 سم. وهي نسخة جيدة مصححة بعناية، كما كتبه لي الأستاذ الدكتور الشيخ نور الدين عِتر الحلبي، وقد رجوت منه أن يقابل نسختي المقابلة بمخطوطة الأحمدية بالنسختين المحفوظتين في مكتبة الأزهر، فتفضل مشكوراً بمقابلتها بالنسخة المذكورة. وقال عن النسخة الثانية التي رقمها في فقه السادة المالكية أيضاً 801، عمومية 12601 المكتوبة سنة 1238 في 42 ورقة،: "قابلتُ بها صدرَ الكتاب لأسطر معدودة، ولم أتابع المقابلة بها لكثرة غلطهما وقربِ عهد كتابتها". وتأتي مخطوطةُ الأزهر التي جرت المقابلة بها من حيث الصحة والجودة في المرتبة الثالثة. 4 - مخطوطةُ دار الكتب المصرية ذات الرقم الخصوصي 21، والعمومي 1850 من كتب فقه السادة المالكية، قلمُها عادي، وفرغ منها ناسخها الذي لم يُسمَّ في 11 من صفر سنة 1173. وهي نسخة سقيمة جداً، مملوءة بالأغلاط الفاحشة والتحريضات العجيبة والسَّقْطِ الكثير بحيث لا تخلو صفحة من صفحاتها عن ذلك. وهي من حيث الصحة والجودة تأتي في المرتبة الرابعة والأخيرة. وعن هذه النسخة طُبع الكتاب منذ ثلاثين سنة، في عام 1357 بمطبعة الأنوار بالقاهرة، وقام بطبعه الأستاذ عزَّت العطَّار، واشتغل بتحقيقه الأستاذ

القاضي الشيخ محمود عرنوس - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -. وقد اعتذر الشيخ عرنوس في ختام المطبوعة عما وقع فيها من تحريفات وأخطاء بقوله: "صادفتنا عقبات أثناء طبع الكتاب لقلة أصوله، وكثرة التحريف في الموجود منها، لذلك كله نعتذر إلى حضرات القراء إذا صادفهم ما يؤاخذ عليه". وعلى كل حال فالفضل ثابت لهما بإخراج الكتاب من عالم المخطوطات إلى أيدي القراء وأنظارهم، فجزاهما الله خيراً وإحساناً على ذلك. وبلغت صفحات تلك الطبعة 81 صفحة من القطع الكبير. وقد وازنت بين هذه الأصول الأربعة عند اختلافها، واخترت أصحَّها وأجودها فأثبته، وتركت ما عداه ممَّا هو خطأ أو ضعيف. ولم أستحسن أن أعتمد نسخة بعينها ثم أشير إلى المغايرات بينها وبين غيرها كما يفعله بعضهم، فإن الغاية أن يقدَّم للقارئ نسخة صحيحة أو أقربُ ما تكون إلى الصحة، لا تقديمُ نسخة بعينها ومَلْءُ الحواشي بذكر مغايرات سواها، ويكون فيها الغثُّ والسمين والغلطُ والصحيح، ممَّا يَقطع على القارئ فكرَهُ ويشوش عليه فَهْمَه. وأشرت في بعض المواضع إلى توافق النسخ في الخطأ أو التكرار أو النقص أو التقديم والتأخير، وأغفلت الإشارة في مواضع أخرى وقع فيها أحَدُ هذه الأنواع من الخَلَل، لئلا أثقل على الحواشي بما لا فائدة فيه للقارئ سوى أن يلمح الجهود التي بذلها المعتني بإخراج الكتاب. وكثرةُ التوافق بين الأصول الأربعة في الخطأ ... تشير إلى أنها هي أو أصولها نُسخت من أمّ واحدة، ثم ازدادت تلك الفروع سلامةً أو تحريفًا، بحسب ماتيشَر لها من عالم نابه أو ناسخ ماسخ. ولذا كثيراً ما تركتُ ما جاء في الأصول كلها، وأثبتُ ما هو الصواب ونبهتُ على ذلك كما تراه في ص 158 و 192 و 199 و 200 وغيرها. وقد صحَّحتُ بعضَ الأخطاء الواقعة في الأصول من النقول المأخوذة عن هذا الكتاب في "تبصرة الحكام" لإبن فرحون و "مُعين الحكام" لعلاء الدين

الطرابلسي. وما يزال في الكتاب أخطاء لم أهتد إليها أو لم أوفق إلى تصويبها، وقد أشرتُ إلى بعضها، وعسى الله أن ييسر لي الوصول إلى نسخة مخطوطة معتمدة أصح من النسخ التي وقفت عليها؟ فأستدرك ما بقي في الكتاب من أخطاء في طبعته الثانية، إن شاء الله تعالى. وقد تمَّ ذلك التصويبُ والتصحيحُ بفضل الله وعونه، إذْ يسَّر لي الوقوف على النسخة الخامسة، التي تقدم وصفُها في (تقدمة الطبعة الثانية) في ص 8، فأغناني ذكرُ حالها هناك عن ذكر حالها هنا.

تسمية الكتاب وتاريخ تأليفه

تسمية الكتاب وتاريخ تأليفه اختلفت العبارات في تسميته اختلافاً كثيراً، فجاء الإسمُ في فواتح أكثر النسخ المخطوطة وخواتمها هكذا: "الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفِ القاضي والإمام". وجاء في "الفروق" للمؤلِّف على أنحاء متعددة، ففي 1: 3 و 51، و 2: 104، و 4: 6 "الإِحكام في الفَرْق بين الفتاوى والأحكام وتصرُّفِ القاضي والإمام"، وجاء مثله تماماً في آواخر كتابه "شرح تنقيح الفصول في الأصول" ص 196 في "الفصل السابع في نقض الإجتهاد". وجاء في "الفروق" أيضاً 2: 106 و 4: 48 "الإِحكام في الفَرْق بين الفتاوى والأحكام". ومثلُه في "التبصرة" لإبن فرحون طبعة سنة 1321، 1: 16 و 2: 60، و "مُعين الحكام" للطرابلسي طبعة سنة 1300 ص 126. وفي 4: 54 من "الفروق" أيضاً "الإحكام في الفتاوى والأحكام وتصرُّفِ القاضي والإِمام". وجاء في "التبصرة" أيضاً 1: 56 و 58 و 281، و "معين الحكام" ص 27 "الإحكام في تمييز الفتاوى والأحكام". وجاء في فتاوى الشيخ عِليش المسماة "فتح العلي المالك" 1: 58 "الإحكام في تمييز الفُتْيَا عن الأحكام وتصرُّفِ القاضي والإِمام". وظاهر أن أكثر هذه التسميات يقوم على الرمز والإشارة إلى اسم الكتاب، لا على تحقيق اسمه الكامل. وأتمُّ هذه التسميات وأدقُّها الصيغةُ الأولى التي جاءت في فواتح أكثر النسخ المخطوطة وخواتمها. وأتمُّ منها دقةً ما جاء في فاتحة مخطوطة دار الكتب المصرية وهو "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفاتِ القاضي والإمام". وهي التي اخترتُ إثباتها على وجه الكتاب، لما فيها

من جمعِ (التصرُّفاتِ) المفيدِ تنويعاً ما لا يفيده لفظُ (التصرُّفِ) بالإِفراد والمنسجِم مع الجمع في قولهِ: (في تمييز الفتاوى عن الأحكام)، والله أعلم. وهكذا سَمَّاه الإمامُ أحمدُ بن يَحْيَى الوَنْشَرِيشيُّ في كتابه "المِعيار المُعْرِب" 12: 6، فقال: " ... ذكره القرافي في كتاب الإِحكام، في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرُّفاتِ القاضي والإِمام"، ثم نَقَلَ منه السؤالَ الثَّاني والعشرين. وقد عَبَّرَ المؤلفُ نفسُه في مقدمة الكتاب بلفظ (التصرُّفات) أكثَرَ من مرَّة، فقال: "وقد وقع بيني وبين الفضلاء مباحثُ في أمر الفَرْقِ بين تصرُّفاتِ الحُكَّام وتصرُّفاتِ الأئمة"، ثم قال في آخر المقدمة: "وأُنبِّهُ على غوامضِ تلك المواضع وفروعها في الأحكام والفتاوى وتصرُّفاتِ الأئمة". انتهى فهذا منه يَدْعَمُ إثباتَ لفظِ (وتصرُّفاتِ الِإمام) بالجمع بَدَلَ (وتصرُّفِ ...). والله أعلم. ثم إنَّ تسمية هذا الكتاب وإن طالت، ليست من باب الإطالة المعهودة في بعض كتب ساداتنا المالكية والمغاربة، بل كل لفظِ فيها له دلالة مستقلة لا يغني عنها سواه وذلك مستحسنٌ منه لإفادته (¬1). أما تاريخُ تأليف الكتاب فلم يُذكَر في النسخ المخطوطة التي وقفت عليها، ولكنَّ الجزم قائم بأنه ألَّفه قبل كتابه "الفروق"، فقد ذكره في مواضع منه وسمَّاه كتابًا وأثنى عليه ثناء كريماً. فقال في 1: 3 "وتقدَّمَ لي قبل هذا - أي قبلَ كتابِ ¬

_ (¬1) وإليك عناوين بعض الكتب التي طالت فيها الأسماء حتى لا يمكن استظهارُها كاملةَ: فللِإمام الوَنْشَرِيشي التِّلِمْسَاني أحمد بن يَحْيَى، المولود سنة 834، والمتوفى سنة 914 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - كتابُ: "المَنْهَجُ الفائق، والمَنْهَلُ الرائق، والمَعْنَى اللائق، بأدَبِ المُوَثِّق وأحكام الوَثَائق"، وللحافظ الكَلاَعي سليمان بن موسى الأندلسي المتوفى سنة 634 "مَيْدَانُ السابقين، وحَلْبَةُ الصادقين المصدَّقين، في ذكر الصحابة الأكرمين، ومن في عِدادِهم بإدراك العهد الكريم، من أكابر التّابعين"، و "مُفاوَضَةُ القلب العليل، ومُنَابَذَةُ الأمَل الطَّويل، على طريقة أبي العلاء المَعَرِّي في مَلْقَى السبيل"، وقد حُرِّفَ اسمُ هذين الكتابين تحريفًا فاحشاً في "الاكتفا في مَغازي المصطفى" ص (ط)، بتحقيق الأستاذ مصطفى عبد الواحد وفي "الديباج المُذْهَب" 1: 386 بتحقيق الدكتور محمد الأحمدي.

الفروق - كتابٌ لي سمَّيته كتاب الإِحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام وتصرُّفِ القاضي والإمام، ذكررتُ فيه أربعين مسألة جامعة لأسرار الفروق، وهو كتاب مستقل يُستغنَى به عن الإِعادة هنا، فمن شاء طالع ذلك الكتاب فهو حسَنٌ في بابه". وقال في 1: 51 و 4: 6 - 7 "وهو كتاب نفيس". وفي 2: 104 - 105 "وهو كتاب جليل في هذا المعنى" أي المعنى الذي تضمَّنه اسمُ الكتاب. وفي 2: 106 " ... ومن فَهِمَ الفرقَ بين المفتي والحاكم، وأنَ حُكمَ الحاكم ... لكن لما كان الفرق خفياً جداً، حتى إنِّي لم أجد أحداً يحققه ... فهذا هو الفرق بين قاعدة الخلاف قبل الحكم وبين قاعدته بعد الحكم. ومن أراد استيعابه فليقف على كتاب "الإِحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام" فليس في ذلك الكتاب إلَّا هذا الفرق، لكنَّه مبسوط في أربعين مسألة منوعة، حتى صار المعنى في غاية الضبط والجلاء". انتهى. وكتابُهُ "الفروق" خالٍ من تاريخ فراغِهِ من تأليفِهِ في النسخةِ المطبوعة. وجاء في آخر كتابه "شرح تنقيح الفصول في الأصول" قولُه: "وكان الفراغ من تأليفه يوم الإثنين لتسعِ ليالٍ مَضَتْ من شهرِ شعبان سنة سبع وسبعين وسِتِّ مئة". انتهى. فيكون تأليفُهُ كتابَ "الإِحكام" قبلَ سنة 677، وقد كانت وفاته سنة 684 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وقد رأيتُ من المناسب أثناء اشتغالي بخدمة الكتاب أن أربط بينه وبين كتاب "الفروق"، فأشرتُ إلى كثير من المواطن التي تتلاقى فيها أبحاثُ الكتابين إذا كان في ذلك فائدة للقارئ المستزيد، وعلَّقتُ بعض عبارات "الفروق، في بعض المواطن، إذ رأيتُ من الأفيدِ نقلَها، وعزوتُها إلى مواضعها من الكتاب المذكور. وربطتُ بين هذا الكتاب والكتب التي نقَلَتْ عنه وخاصة كتابَ "تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام" للقاضي ابن فرحون المدني المالكي المتوفى سنة 799 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وكتابَ "مُعين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام" للقاضي علاء الدين الطرابلسي الحنفي المتوفى سنة 844

- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وأشرت إلى النقول المأخوذة فيهما عن كتاب "الإحكام"، ففي ذلك فائدة حسنة للباحثين. وقد سطا الطرابلسي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - على كثير من أبحاث كتاب ابن فرحون دون أن يعزوها إليه، كما أشرتُ إلى ذلك في مواضع متعددة من التعليقات، فسامحه الله وإيانا. والعزو إلى هذين الكتابين يتبعه رقمانِ بينهما فاصلة، فالرقمُ الأول بعد "تبصرة الحكام" يشار به إلى الطبعة البهية المطبوعة بالقاهرة سنة 1302، والرقمُ الثاني بعد الفاصلة يشار به إلى طبعة مطبعة التقدم العلمية المطبوعة بالقاهرة سنة 1321 على حواشي فتاوى الشيخ عِليش المسماة "فتح العلي المالك". والرقمُ الأول بعد "مُعين الحكام" يشار به إلى الطبعة البولاقية المطبوعة بالقاهرة سنة 1300، والرقمُ الثاني بعد الفاصلة يشار به إلى الطبعة الميمنية المطبوعة بالقاهرة سنة 1310. وإذا لم يكن بعد الكتابين المذكورين أو أحدهما إلَّا رقم واحد فمُفادُه اتحادُ الطبعتين في رقم الصفحة المشار إليها. وإنَّما فعلتُ هذا تيسيراً على مقتني إحدى الطبعتين من هذين الكتابين. وعلَّقتُ بإيجاز حيناً وبإسهاب حيناً على مواضع من الكتاب موضِّحاً أو مصححاً. وعزوتُ الآياتِ الكريمة إلى سُوَرها، وخرَّجتُ الأحاديث الشريفة من مصادرها، وبيَّنتُ منزلتها من الصحة والثبوت، وترجمتُ للأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب، ليكون القارئ على استنارة بمعرفة منزلة العالم الذي يقول رأياً لنفسه، أو يحكي رأياً عن غيره، وصحَّحتُ ما وقع فيه من تحريف أو خَلَل ما أمكنني ذلك. وفصَّلتُ جُمَلَه وجعلته مقاطع قصيرة تيسيراً لقراءته وفهمه، وصنعتُ له محتوى للآيات والأحاديث والأعلام والمصادر والأبحاث. واجتهدت ما استطعتُ في تجويده وتزويقه وتيسيره. وها هوذا جهدي بين يدي القارئ فلا أطيلُ ببيانه، والله المسؤول أن يتقبله عملاً صالحاً لديه، وييسِّرَ النفعَ به، وأن يوفقنا سبحانه لخدمة دينه وشريعته الغراء فذلك الفضل العظيم.

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف هو الِإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصِّهْناجيُّ الأصل، المِصريُّ القرافيُّ المالكي، الفقيه الأصولي المفسِّر المتكلِّم النَّظَّار المتفنِّن المشارك الأديب. ولد بمصر سنة 626 كما قاله في كتابه؛ العقد المنظوم في الخصوص والعموم" في الباب الثالث منه: "ونَشْأَتي ومَوْلِدي بمصر سنة 626 ست وعشرين وست مئة". ونقله العلامة محمد جُعَيط التونسي في أول حاشيته على "شرح تنقيح الفصول" 1: 7 وكما ذُكِرَ في "كشف الظنون" 1153:2 و "هدية العارفين" 1: 99. وسببُ شهرته بالقرافي أنَّه كان إذا خرج من منزله في دَيْر الطِّين بمصر القديمة ذاهباً إلى المدرسة، مَرَّ في طريقه بمقبرة تُسمَّى: القَرافة. وحدَثَ أنَّ كاتب أسماء الطلبة في ثَبَت سماعهم للكتاب عند الفراغ منه لم يَعرف اسمَه، وكان هو حينئذٍ غائبًا، فأثبته باسم القَرافي، لإعتياده المجيء من تلك الطريق، فلزمَتْهُ هذه النسبة واشتهر بها. هذا ما حكاه ابن فرحون في ترجمته في "الديباج المُذْهَب". وقال القرافي نفسُهُ غيرَ هذا في كتابه "العِقد المنظوم في الخصوص والعموم" إذ قال فيه: ؤالبابُ الثالثُ في صِيَغ العموم المستفادةِ من النقل العُرْفي دون الوضع الُّلغَوي، وهذا البابُ يكون العموم فيه مستفاداً من النقل خاصة، وذلك هو أسماء القبائل التي كان أصلُ تلك الأسماء فيها لأشخاصِ معينة من الآدميين، كتميم وهاشم، أو لامرأةِ كالقَرَافة، فإنَّه اسم لجَدَّةِ القَبِيلَة المسماة بالقَرَافَة. ونزلَتْ هاته القَبِيلةُ بصُقْع من أصقاع مصر لما اختطها عَمْرو بن العاص ومن

معه من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -، فعُرِف ذلك الصُقع بالقرافَة، وهو الكائن بين مصر وبِركة الأشراف والمسمَّى بالقرافة الكبيرة. واشتهاري بالقَرافي ليس لأني من سُلالة هذه القبيلة بل للسُّكنى بالبقعة الخاصة مُدَةَ يسيرة، فاتفق الإشتهارُ بذلك، وإنما أنا من صِنهاجة الكائنة في قُطر مُرَّاكش بأرض المغرب ونشأتي ومولدي بمصر". نقله العلامة جُعَيط التونسي في أول حاشيته على "شرح تنقيح الفصول" 1: 6 - 7. فهو المعتَمدُ في بيان سبب نسبته باسم القرافي لا سِوَاه. وقد آتاه الله من المواهب الفذة النادرة ما أهَّله أن يتلقى العلم عن فحول علماء عصره، وأئمة جهابذة دهره. ومن أشهر شيوخه الِإمامُ عز الدين بن عبد السلام الشَّافعي الملقَّب بسلطان العلماء، والِإمامُ شرف الدين محمد بن عمران الشَّهير بالشريف الكَرْكي، وقاضي القضاة شمس الدين أبو بكر محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد الِإدريسي، والشيخ شمس الدين الخُسْرُوشَاهِي، والإِمام جمال الدين ابن الحاجب، وغيرُهم - رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى -. وقد لازَمَ الشيخَ عزِّ الدين بنَ عبد السلام وأخَذَ عنه أكثر فنونه، واقتبَسَ منه العقليةَ العلمية، والفكرَ الحُرَّ المتزنَ المستنير. وكان الشيخ عز الدين قَدِمَ من الشام إلى مصر سنة 639، وكان القرافي حينذاك في مطلع شبابه يبلغ من العمر نحو 15 عامًا، فلازمه حتى وفاته سنة 660 نحوَ عشرين سنة. وقد مَلَك الشيخُ عليه قلبَه ولُبَّه، بغزارة علمه، وثقابة ذهنه، ومتانة دينه، وقوة شخصيته، وبسالته في نُصرة الحق، وكريم تواضعه وورعه وفضله، فألقى القرافيُّ إليه بالمقاليد، ونَهَل منه وعَلَّ، وأكثر النقلَ والحديثَ عنه في كتبه، وأثنى عليه في كل مناسبة في مواضع كثيرة من تآليفه ثناءَ المرتوي من منهله، والعابِّ من بحر علمه الغزير النَّمِير، فقال في كتابه "الفروق" 2: 197 في آخر الفرق (95) بعد أن تحدَّثَ عن قاعدة من قواعد الشريعة، ودفَعَ ما يَرِدُ عليها من إشكالات قال:

"وهو من المواطن الجليلة التي يَحتاج إليها الفقهاء، ولم أر أحداً حرَّرهُ هذا التحرير إلَّا الشيخ عز الدين بن عبد السلام - رَحِمَهُ اللهُ - وقدَّسَ روحَه، فلقد كان شديدَ التحرير لمواضع كثيرة في الشريعة معقولها ومنقولِها، وكان يُفتَحُ عليه بأشياء لا توجد لغيره، - رَحِمَهُ اللهُ - رحمة واسعة". وقال في 4: 251 (ولقد حضرتُ يومًا عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكان من أعيان العلماء، وأولي الجِدّ في الدين، والقيام بمصالح المسلمين خاصَّةَ وعامَّة، والثبات على الكتاب والسنة، غير مكترث بالملوك فضلاً عن غيرهم، لا تأخذه في الله لومة لائم". انتهى. فهو الشخصيَّةُ الفَذَّةُ القُدوةُ التي ملأتْ من القرافي السمعَ والبصرَ والفؤادَ جميعاً، ولذا تراه يتأسَّى به قلباً ورُوحاً وفكراً وعلماً وتأليفًا ومنهجاً. وما أكثر التشابُهَ بين هذين الإِمامين؟ - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -. ولقد جَدَّ القرافي في تحصيل العلوم ومعرفتها حتى أتقن جملةَ من العلوم إتقاناً بلَّغه الِإمامة فيها، وآتاه الله براعةَ فائقة وبياناً عجيباً يأخذ بالباب الطلبة والمحصِّلين في توضيح المسائل وتحقيق الدلائل، وكشفِ المعضِلات وحل المشكلات، وخَصْمِ المخالفين، وقطع المكابرين والمبطلين، وقُدرةَ عجيبة في سرعة التأليف، فقد حرَّرَ أحَدَ عشر علماً في ثمانية أشهر. ومما يلاحظ عليه - على إمامته في جملة من العلوم - خِفَّةُ ذات يده من علم الحديث، وقد أفصح بذلك في "الفروق" 4: 208 فقال في حديث: سألتُ عنه جماعةَ من المحدثين ... فقالوا لي: لم يصح". انتهى. ووقفتُ له على طائفة من الأحاديث بعضُها موضوع، وبعضُها يقاربه، فمن الموضوع ما في "الفروق" 4: 224 "المَعِدَةُ بيتُ الداء والحِمْيَةُ رأسُ الدواء وصلاحُ كل جسمِ ما اعتاد". ليس بحديث، هو من كلام الحارث بن كَلَدة الثَّقَفِي طبيبِ العرب. وفي 4: 264 "الناسُ كلُّهم هَلْكَى إلَّا العالِمون ... " هو موضوع كما في كتب الموضوعات.

ومما يُعَدُّ من الموضوع ما جاء في 1: 76 "الطلاقُ والعَتَاقُ من أيمانِ الفُسَّاق" و "من حَلَفَ واستثنى عاد كمن لم يَحِلف" كما يُعلَم من الكشف عنهما من كتب الموضوعات وغيرِها. وفي 4: 236 "عن أبي موسى الأشعري أنَّه كان يقول: إنا لنَكْشِرُ في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم". هو من كلام أبي الدرداء كما في "صحيح البُخاريّ" 10: 437. وهناك غيرها وما ذكرتُهُ كنموذج. ولا غرابة في هذا، فكم من عالمٍ إمامٌ في علمٍ عاميٌّ في علم آخر، وشواهدُه كثيرة، ولا يُلحَقُ بالعالم عالب في هذا، قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، وقال سبحانه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}. وقد تحلَّت مصنَّفاتُه كلُّها بالإبتكار والتميُّز: لغةً وأسلوباً، وبحثاً وتنقيباً، ونخلاً وتحقيقاً، وجمعاً وتنسيقاً، حتى ألزَمَتْ البعيدَ والقريب بالِإذعان لِإمامته، ولو لم يكن له من التآليف سوى كتابه "الفروق" لكفى دليلاً على علو كعبه في العلم، فهو كتابٌ نَسيجُ وحدِهِ، جاء فيه بالعجب العجاب، لم يُسبَق إلى مثله، ولا أتى أحد بعده بشِبهه، فكيف ومؤلفاته أربت على عشرين مؤلَّفاً في فنون متعددة، وفيها النفائس والدُّرَر. وكان - رَحِمَهُ اللهُ - رُحلةً، يَرحَل إليه العلماء من الآفاق البعيدة، ويقصدونه للقاء والمشافهة. وممن رحل إليه: الإمام أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البقُّوري الأندلسي المراكشي المتوفَّى فيها سنة 707، صاحبُ "إكمال الِإكمال على صحيح مسلم للقاضي عياض"، رحل إليه إلى مصر وأخذ عنه، واختصر كتابه "الفروق" ورتَّبه وهذَّبه كما في "شجرة النور التركية" لمحمد مخلوف ص 211 و "الديباج المُذْهَب" لإبن فرحون ص 322. وممن رحل إليه أيضاً: الِإمام ابن راشد محمد بن عبد الله بن راشد البكري التونسي شارح "مختصر ابن الحاجب"، كما في "نيل الابتهاج" للتُّنبُكْتِي ص 235، حَكَى عن نفسه سيرتَه في طلب العلم فقال: "أدركتُ بتونس أجلَّة من النبلاء وصدوراً من النحاة والأدباء فأخذتُ عنهم، ثم رحلتُ إلى الإسكندرية

ذكر نبوغه ومهارته الفائقة في صنع الساعة العجيبة

فلقيت بها صدوراً أكابر وبحُوراً زواخر، كقاضي القضاة ناصر الدين ابن المنيِّر، والكمال التَّنَسِي، وناصر الدين ابن الأبياري، وضياء الدين بن العلاق، ومحيي الدين حسَّان رأسِه، فأخذتُ عنهم. ثم رحلتُ للقاهرة إلى شيخ المالكية في وقته، فَقِيدِ الأشكال والأقران، نَسيجِ وحده وثَمَر سَعْده، ذي العقلِ الوافي، والذهنِ الصافي، الشهابِ القَرَافي، كان مُبرِّزاً على النُّظَّار، مُحرِزاً قَصَبَ السَّبْق، جامعاً للفنون، معتكفاً على التعليم على الدوام، فأحلَّني محل السوادِ من العين، والرُّوح من الجسد ... ". فهو إمامٌ رُحلة قُدوة، أُجمِعَ على إمامته في عصره من المالكية وغيرهم، قال قاضي القضاة تقي الدين ابنُ شُكر: أجمع الشافعية والمالكية على أن أفضل أهل عصرنا بالديار المصرية ثلاثة: القرافيُّ بمصر القديمة، والشيخُ ناصر الدين ابنُ المنير بالإسكندرية، والشيخ ابنُ دَقِيق العِيْد بالقاهرة المُعِزِّيَّة" نقله ابن فرحون في "الديباج المُذْهَب" ص 65. قلت: بل قد عَدَّه الإمام السيوطي في "حسن المحاضرة" 1: 127 في طبقة من كان بمصر من المجتهدين وترجَمَهُ فيهم، ولم يترجمه في جملة العلماء الملتزمين للمذاهب الأربعة، ونقَلَ قولَ قاضي القضاة ابنِ شُكرٍ أيضاً. وهذا نظرٌ سديد من الِإمام السيوطي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وكان - إلى جانب إمامته وتبحره في علوم الشريعة وفنونها - من الفلكيين الرياضيين، النَّبَغَةِ البارعين النوادر في عمل التماثيل المتحركة في الآلاتِ الفلكية. قال في كتابه "نفائس الأصول في شرح المحصول" 1: 108 من النسخة المخطوطة في ثلاثة أجزاء بدار الكتب المصرية، وهو يبحث في فصل (الكلام في اللغات) عن الدلالة الصوتية: هل مجرَّدُ الصوت يَدُلُّ على صاحبه؟ فبيَّن أنَّه لا يكفي أن نسمعَ الصوت فنقول: إنه لا بد من شخصٍ صاحبٍ لهذا الصوت، لأنَّ الصوت يُصنعُ في غير الإنسان. ثم قال:

الإشارة إلى مهارة الشيخ عبد الرحمن زين العابدين بصنع الآلات الدقيقة

"بلغني أنَّ الملِكَ الكامل وُضِع له شَمْعَدان - هو عَمُودٌ طويلٌ من نحاس له مراكز يوضع عليها الشمعُ للإِنارة - كلما مَضَى من الليل ساعةٌ انفتح بابٌ منه، وخرج منه شخصٌ يقِفُ في خدمة الملِك، فإذا انقضَتْ عشرُ ساعات طلع الشخص على أعلى الشمعدان وقال: صبَّح الله السلطان بالخيرِ والسعادة، فيَعلمُ أن الفجر قد طلع. قال: وقد عَمِلتُ أنا هذا الشَمْعَدَانَ، وزِدتُ فيه أنَّ الشمعة يتغيَّرُ لونُها في كل ساعة، وفيه أسَدٌ تتغيَّر عيناه من السَّوَادِ الشديد إلى البياض الشديد إلى الحُمرة الشديدة، في كل ساعة لها لون، وتَسقُطُ حَصَاتان من طائرين، ويَدخل شخصٌ ويَخرج شخصٌ غيرُه، ويُغلَقُ بابٌ ويُفتحُ باب، فإذا طلع الفجر طلع الشخص على أعلى الشمعدان، وإصبعُه على أُذُنِه يُشِيرُ إلى الأذان ولكني عَجَزْتُ عن صَنْعَةِ الكلام، ثم صَنَعْتُ صُورةَ حيوانِ يمشي ويلتفِتُ يمينًا ويساراً، ويُصَفِّرُ، ولا يتكلَّم (¬1). وهذا ذكاء خارق عجيب ومهارةُ يَدٍ صَنَاعٍ فائقة من الإمام القرافي (¬2). ¬

_ (¬1) ونقله العلامة أحمد تِيمور باشا في كتابه "التصوير عند العرب" ص 79 و 104 عن ابن طولون في رسالته "قطرات الدمع فيما ورد في الشمع". ولا يَرِدُ على الِإمام القرافي الفقيهِ العبقريِّ الفَذّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: كيف صَنَع تمثالاً، والتماثيلُ محرَّمةْ في الإسلام تحريماً قاطعاً، وهو من أعلم النَّاس بذلك، لأنَّ ما صَنَعه لا يزيدُ على آلةِ ذاتِ أجزاء متقطعة - تَعملُ بحركةِ منتظِمة - لا يمكنُ أن تعيش بذلك، والقرافي إمامٌ فقيه ورعٌ، لا يمكن أن يُقدِم على صُنع شيء محرَّم بالنص قطعاً. وانظر مقالاً ماتعاً للأستاذ عبد المجيد وافي بعنوانِ (علماء فَنَانون: الِإمام القرافي) في "مجلة الوعي الإسلامي" التي تصدرها وزارة الأوقاف الإسلامية في الكويت في عددها 40 من سنتها الرابعة سنة 1388= 1968 ص 54 - 59. (¬2) وهذه المهارة العجيبة وأمثالُها وأشباهُها، تُوجَدُ في أفراد من العلماء الأفذاذ في الأحيان المتباعدة، يتميزون بها عن سواهم من ذوي العلم والمعارف، ولي صديقٌ عزيزٌ رَحَلَ =

مؤلفاته مرتبة على أوائل الحروف مشارا للمطبوع منها

وكان - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - كثيراً ما يتمثلُ - في التحذير من مناظرة الحَسَدة الفَسَدة، سَرَّاقي العلوم، ومدعي المعرفة ومختطفيها من العلماء النبلاء، وما أكثرَهم في كل عصر وبَرٍّ ومِصر - بقول القائل: وإذا جلستَ إلى الرِّجالِ وأشرقَتْ ... في جَوِّ باطنِكَ العُلُومُ الشُّرَّدُ فاحذَرْ مناظرةَ الحسودِ فإنما ... تغتاظُ أنت ويَستفيدُ ويَجحَدُ وكان كثيرًا أيضاً ما يتمثلُ بقول محي الدين المعروفِ بحافِي رأسِه: عتبتُ على الدنيا بتقديم جاهل ... وتأخيرِ ذي علم فقالت خُذِ العُذْرَا بنو الجهلِ أبنائي، وكل فضيلةٍ ... فأبناؤها أبناءُ ضَرَّتيَ الأخرى مؤلفاته مرتبة على أوائل الحروف مشاراً للمطبوع منها 1 - الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة في الرد على النصارى واليهود. طُبع. 2 - الأجوبة عن الأسئلة الواردة على خطب ابن نُبَاتة. 3 - الإحتمالات المرجوحة. 4 - الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وهو هذا الذي بين يديك. ¬

_ = إلى دار الكرامة، تميَّزَ بأعجب من هذا في دقة صُنع الآلات الدقيقة وإبداعها واستعمالها، وبحِذْقِ الرماية وإصابة الأهداف الناعمة الصغيرة جداً، هو الشيخ العالم الفاضل الصَّنَاع العجيب الأستاذ الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الأنطاكي ثم الحلبي، المولود بأنطاكية سنة 1330، والمتوفى بحلب سنة 1410 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وقد ألحقتُ بآخر هذا الكتاب في ص 280 مقالاً ضافياً عن مهارته وإبداعه، بقلم أستاذنا العلامة الكبير فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا أمتع الله به، فانظره لزاماً، ففيه العجائب الصادقة الخارقة.

5 - أدلة الوَحْدَانية في الرد على النصرانية. 6 - الإستبصار فيما لا يُدرَك بالأبصار (¬1). 7 - الإستغناء في أحكام الإستثناء. طُبع. 8 - الأمنيَّة في إدراك النيَّة. طُبع. 9 - الإنتقاد في الاعتقاد. 10 - البارز للكفاح في الميدان. 11 - البيان في تعليق الإيمان. 12 - التعليقات على المنتخب. 13 - تنقيح الفصول في الأصول. طُبع. 14 - الذخيرة في الفقه المالكي طُبع كاملًا في هذه السنة. 15 - شرح الأربعين في أصول الدين للفخر الرازي. 16 - شرح التهذيب للبَرْذَعي المالكي. 17 - شرح الجَلَّاب. 18 - شرح تنقيح الفصول. طُبع. 19 - العِقد المنظوم في الخصوص والعموم في الأصول. طُبع 20 - الفروق. ويعرف بالقواعد أيضاً، واسمُه العَلَمي: أنوار البروق في أنواء الفروق. طُبع بتونس ومصر. 21 - المنجيات والموبقات في الأدعية وما يجوز منها وما يُكره وما يَحرُم. 22 - المَناظر، في الرياضيات. ¬

_ (¬1) وهو في علم الكلام، ومنه نسخة مخطوطة في مكتبة أسعد أفندي في إصطنبول ورقمها فيها 1270.

23 - نفائس الأصول في شرح المحصول. 24 - اليواقيت في أحكام المواقيت. وغيرُها. وما زال يفيد الطالبين والعلماء حتى توفاه الله في جمادى الآخرة سنة 684، ودُفن بالقرافة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وأجزل مثوبته، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين. حلب 24 من جمادى الآخرة سنة 1387 وكتبه عبد الفتاح أبو غُدّة خادم العلم بمدينة حلب وفقه الله تعالى

مقدمة المصنف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يقول العبدُ الفقير إِلى عفو رَبّه أحمدُ بن إِدريس المالكيُّ عفا الله عنه: الحمدُ لله الملِكِ المالكِ لجميعِ الأكوان، الذي من هِباتِه الممالكُ فهو الكريم المنَّان، الذي لا يكونُ قضاؤه إِلَّا بالعدلِ أو الِإحسان. أنزل الرسائل، وشَرَع الوسائل لنِعَمِه الحِسان، فظهر الحق، وعُرِفَ العدل، وزَهَق العُدوان، يُضاعِف الحسنات، ويمحو السيئات، فهو المَلِكُ الدَّيَّان. يُسْجِلُ العَطاء، ويُسبِلُ الغِطاء، ويُوالي الغُفران. وأفضلُ صلواتِه على خير خلقه المبعوثِ مِن عدنان، القاضي الأحكم، والإِمام الأقوم، والرسولِ الأعظم، للإِنس والجان. صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى آلهِ وأصحابِه، وأزواجِه وأنصارِه، صلاةً تُبلِّغُهم أعلى الجنان، في دار الأمان. ونَحوزُ بها من الله تعالى أفضلَ الرضوان. أما بعد: فإنَّه قد وَقَع بيني وبين الفُضَلاءِ مع تطاول الأيامِ مَباحثُ في أمر الفَرْقِ بين الفُتْيا التي تَبْقى معها فُتْيا المخالِف، وبين الحُكم الذي لا يَنقضُه المخالِف، وبين تصرُّفاتِ الحُكام وتصرُّفاتِ الأئمة. ويُختلَفُ في إِثباتِ أهِلَّة رمضان بالشاهد الواحد، هل يَلْزَمُ ذلك من لا يَرى إِثباتَه إِلَّا بالشاهدينِ أم لا؟ ويُختَلفُ إِذا باع الحاكمُ مِن مالِ الأيتام شيئًا هل ذلك حُكمٌ بصحةِ ذلك البيع؟ فلا يَنقضُه غيرُه أم لا؟ وهل إِذا حَكَم بعدالةِ إِنسانٍ هل لغيره أن يُبطلها؟ أم ذلك حكمٌ لا يُنقَض؟ ونحوِ هذه المسائل.

ثم يقعُ السؤالُ عن حقيقة الحُكمِ المشارِ إِليه بعبارةِ تُوفي به (¬1)، فلا يُجابُ إِلَّا بأنَّ الحُكم إِلزام، والفُتيا إِخبار (¬2). فيقال: إِن أريدَ الِإلزام الحِسيُّ فقد يَعجِزُ الحاكمُ عن الإلزام الحسيُّ من الترسيم والحبسِ وغيرِ ذلك (¬3)، ومع ذلك فحُكمُه حُكم، وإِلزامُه الحِسيُّ ليس حُكماً، وإِن أُريد أنَّه يُخبِرُ عن حُكم الله أنَّه إِلزام، فالفُتيا كذلك. ¬

_ (¬1) أي يكثُرُ السؤالُ عن حقيقة الحكم الذي لا يُنقَض بقصد الجواب عنه بعبارة تُوفي ببيانه وضبطه. (¬2) وعلى هذا يقال: القاضي مُجْبِر، والمفتي مُخْبِر. فاحفظه فإنه ينفعك. (¬3) في "القاموس": رسَمَ له كذا: أمَرَه به، فارتسم أي امتثل. وفي "مجموع فتاوى ابن تيمية" 35: 399 الترسيمُ هو أن يُعوَّقَ الشَّخصُ بمكان من الأمكنة أو يُقامَ عليه حافظ". ومثلُه في "التراتيب الِإدارية" لعبد الحي الكتاني 1: 295 عن "الأحكام السلطانية" للماوردي. ولم أره فيه في النسخة المطبوعة بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1380. وواضح أن الترسيم غيرُ الحبس الذي يُعبِّرون عنه في بعض كتب الفقه بالإعتقال، كما تراه في "جواهر العقود، ومُعين القضاة والموقعين والشهود" لشمس الدين الأسيوطي الشَّافعي من تلامذة الحافظ ابن حجر 2: 377، قال - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "وصُورَةُ ما يَكتبُ القاضي على ورقة الاعتقال: (لِيعتَقَل)، بقلمِ العَلاَمَة في وَسَطِ الطُّرَّة، فإن كان صاحبُ الحق يختارُ الترسيمَ واتفَقَا عليه، أو رأى القاضي الترسيمَ دون الحبس، فيَكتُبُ: ليُرَسَّم عليه بقلم العَلاَمَة من غير (لِيُعتَقَل). ". انتهى. وللحَبْس المشروع أنواع متعددة، أجاد بيانَها وتفصيلَها الكتابُ الجامع الماتع النفيس "أحكامُ السجنَ ومعاملةِ السجناء في الِإسلام" لإبن أخي الشيخ الدكتور حسن أبو غدة، ذَكَرَ فيه بالتفصيل والأمثلة: حبسَ التعزير، وحبسَ الإستيثاق، وأقسامَه، وحبسَ الاحتراز، والحبسَ لتنفيذ عقوبة مؤجلة بسبب، كمرض الجاني، أو حَمْلِ الزانية، أو غيرِ ذلك. فليَنظُر منه من يهمه هذا في ص 71 - 117، فهو كافٍ شاف في بابه في نحو 700 صفحة.

ثم إنَ الحُكمَ قد يكون بعدَمِ الإلزام، كما أنَّ القولَ الذي حَكَم به عَدِمَ الإلزام (¬1)، وأن الواقعةَ الموافِقةَ يَتعيَّن فيها الإباحةُ وعدَمُ الحَجْر، فتفسير الحُكم بالِإلزام غيرُ جامع. ثم يقَعُ السؤالُ عن حُكم الحاكِم هل هو نَفْساني أو لِساني (¬2)؛ وهل هو إخبار أو إِنشاء؟ فلا يُوجَدُ من يُجيبُ عن ذلك محزَراً، ونظائرُ هذه الأسئلةِ كثير. فأردتُ أن أضع هذا الكتابَ مشتملاً على تحريرِ هذه المطالب. وأُوردُها أِسئلةً كما وقعَتْ بيني وبينهم، ويكونُ جوابُ كل سؤالٍ عَقِيبَه، وأُنبِّهُ على غوامض تلك المواضع وفروعها في الأحكام والفتاوى وتصرُّفات الأئمة، وسمَّيتُ هذا الكتاب: كتابَ الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإِمام وعدَدُ الأسئلةِ أربعون سؤالاً. ¬

_ (¬1) جملةُ (كما أنَّ القوله الذي حَكَم به عَدِمَ الإِلزام) غيرُ موجودة في نسخة (ر). (¬2) سيأتي في جواب السؤال الخامس في ص 60، إيضاح المراد مِن كون الحكم نفسانياً أو لِسانياً.

السؤال الأول

السُّؤَالُ الأَوَّلُ ما حقيقةُ الحُكم الذي يقَعُ للحاكم ويَمتنعُ نقضُه (¬1)؟ جَوَابُهُ أنَّه إِنشاءُ إِطلاقِ أو إلزامِ في مسائلِ الإجتهادِ المتقارِبِ فيما يقَعُ فيه النّزاعُ لمصالح الدنيا (¬2). فقولُنا: (إِنشاءُ إِطلاقِ) احترازٌ من قول من يقول: إِنَّ الحُكم إِلزام، كما إِذا رُفِعَتْ للحاكم أرضٌ زال الِإحياءُ عنها، فحكَمَ بزوالِ المِلك، فإنَّها تبقى مباحةَ لكل أحد، وكذلك إِذا حكمَ بأنَ أرضَ العَنْوةِ طِلْقٌ (¬3)، ليست وقفًا على الغانمين كما قاله مالك ومن تابعَه (¬4)، والحاكمُ شافعي يَرى الطِلْقَ ¬

_ (¬1) هذا السؤال جوابُه باختصار منقول - عن هذا الكتاب - في "تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام" للعلامة القاضي ابن فرحون المالكي 1: 8، وفي " مُعين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام" للقاضي علاء الدين الطرابلسي الحنفي ص 6. (¬2) سيشرح المؤلف محترزاتِ هذا التعريف. ولزيادةِ شرحِه وبيان محترزاتِه وما يَتفرَّع عليها انظر ما قاله المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في كتابه "الفروق" 4: 48 - 54 عند الفرق (224) الفرقِ بين الفتوى والحكم. (¬3) أرضُ العَنْوةِ هي التي فُتِحتْ بالقهر والغلبة على أهلها. وطِلْق بكسر الطاء وسكون اللام أي أنها حلالٌ مُطلَقةٌ مباحة لكل أحد. يقال: حلالٌ طِلْق ومُطلَق بمعنى واحد كما في "الأساس" للزمخشري. (¬4) في نسخة (ر): (ليست وقفًا على المسلمين).

دون الوقف، فإنَّها تتقى مباحة، وكذلك الصَّيدُ والنَّحْلُ والحَمَامُ البَرّيُّ - إِذا حيِزَ - ونحوُ ذلك إِذا حُكِمَ بزوالِ مِلكِ الحائز له أوَّلاً، فإنَّ هذه الصُّورَ كلَّها إِطلاقات، وإِن كان يَلْزمُها إِلزامُ المالكِ عدَمَ الإختصاص، لكن هذا بطريق اللزوم، والكلامُ إِنما هو في المقصودِ الأوَّلِ بالذات لا في اللوازم. كما أنَّا نقول: المقصودُ الأوَّلُ من الأمرِ الوجوبُ وإِن كان يَلزمُه النَّهيُ عن الضدّ وتحريمُه، والمقصودُ الأوَّلُ من النَّهي التحريمُ وإِن كان يَلزمُه وجوبُ ضدٍّ من أضدادِ المنهيّ عنه. والكلامُ أبداً في الحقائقِ إِنما يقعُ فيما هو في الرتبة الأولى لا فيما بعدها. وبسببِ الغفلة عن هذه القاعدة قال الكعبي (¬1): المباحُ واجبٌ؛ لأنه يُشتغَلُ به عن الحرام، وتَرْكُ الحرام واجب، فالمباحُ واجب. فجعَلَ الأحكامَ أربعة، وأسقَطَ الِإباحةَ نظرًا لما يَعرِضُ للمباح، وتَرَكَ مقتضاه في الرتبة الأولى. والجمهورُ أثبتوا المباحَ بناءً على ما تقتضيه الحقائقُ في الرتبة الأُولى، ولولا ذلك لكان المندوبُ والمكروهُ واجِبَين، لأنهما قد يُشتغَلُ بهما عن المحرَّمات كما تقدم، ويكون الواجبُ مكروهاً لأنَّه قد يُشتغَل به عن مندوب، وترْكُ المندوبِ مكروه، ويكون الواجبُ أيضاً حرامًا لأنه قد يُشتغَل به عن واجب آخر، وتركُ الواجبِ حرام، فالواجبُ حرام!. ويَتَّسعُ الخَرْقُ وتَتزلزلُ القواعد، ولا تَثبُتُ حقيقةٌ لحكمٍ! بل ما من ¬

_ (¬1) هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي، قيل له: الكعبي نسبةَ إِلى بني كعب. وهو شيخُ طائفةِ من المعتزلة يُنسَبُون إليه فيقال لهم: الكعبيَّة، توفي سنة 317، - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

شيء يُقضَى به إلَّا صدَقَ القضاءُ بضده فيَبطُل! وهذا تشويشٌ كثير، فالواجبُ حينئذٍ أن يُنظَر إِلى كل حقيقةٍ من حيث هِي هِي، لا لما يَلزمُها ويَعرِضُ لها. وقولُنا: (أو إِلزامٍ) كما إِذا حكَمَ بلزوم الصَّداقِ أو النفقةِ أو الشُّفعةِ ونحو ذلك. وقولُنا: (في مسائل الإجتهاد) احتراز من حُكمه على خلافِ الإِجماع، فإنه لا عبرة به. وقولُنا: (المتقارِبِ) احترازٌ من الخلاف الذي ضَعُفَ مُدْرَكُه جداً (¬1)، فإن الحاكم إِذا حكَمَ به لا عبرة بحُكمه ويُنقَض، فلا بُدَّ حينئذٍ من تقارُبِ المَدارِك في اعتبار الحُكم. وقولُنا: (فيما يقَعُ فيه التنازُعُ لمصالح الدنيا) احترازٌ من مسائل الإجتهاد في العبادات ونحوِها، فإن التنازع فيها ليس لمصالح الدنيا بل ¬

_ (¬1) وهو الخلاف الشاذّ، قال المؤلف في "الفروق" 4: 51: "وقولي: تتقاربُ مَداركُها احترازٌ من الخلاف الشاذِّ المبنيِّ على المُدركِ الضعيف، فإنه - أي الحكم بالمُدْرَكِ الضعيف - لا يَرفَعُ الخلافَ بل يُنقَضُ في نفسه إِذا حُكِمَ بالفتوى المبنيَّة على المُدرَكِ الضعيف". انتهى. وسيُصرِّح المؤلف بنحوه في جواب السؤال السابع عشر. ولفظُ (المُدْرَك) بضم الميم وفتح الرَّاء. قال العلامة الفَيُّومي في "المصباح المنير": "المُدْرَكُ بضم الميم: يكون مصدراً واسمَ زمان ومكان. ومَداركُ الشرع: مواضعُ طلبِ الأحكام، وهي حيث يُستدَلُّ بالنصوصِ والإجتهادِ من مَدارك الشرع. والفقهاءُ يقولون في الواحد: مَدْرَك بفتح الميم. وليس لتخريجه وجه، وقد نَصَّ الأئمةُ على طَرْد الباب، واستُثنِيَتْ كلماتٌ مسموعةٌ خرجَتْ عن القياس، ولم يَذكروا المُدْرَكَ فيما خرَج عن القياس، فالوجهُ الأخْذُ بالأصول القياسية حتى يَصحَّ سماع. وقد قالوا: الخارجُ عن القياس لا يقاسُ عليه؛ لأنَّه غيرُ مؤصَّل في بابه".

لمصالح الآخرة، فلا جَرَمَ لا يدخلُها حكمُ الحاكم أصلًا (¬1). ¬

_ (¬1) يُوضِّحُه ما قاله المؤلف القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في كتابه "الفروق" 4: 48، في الفرق (224): "أعلم أن العبادات كلها على الِإطلاق لا يَدخلها الحكمُ البتة، بل الفُتيا فقط. فكلُّ ما وُجِدَ فيها من الإِخبارات فهي فُتيا فقط، فليس لحاكمِ أن يَحكم بأن هذه الصَّلاة صحيحة أو باطلة، ولا أن هذا الماءَ دون القُلَّتين فيكون نجِساً فيَحرُم على المالكي بعد ذلك استعمالُه، بل ما يقال في ذلك إنَّما هو فُتيا: إن كانت مذهبَ السامع عَمِلَ بها، وإلَّا فله تركها والعمَلُ بمذهبه". ثم قال القرافي: "ويُلحَقُ بالعبادات أسبابُها وشروطُها وموانِعُها المختلَفُ فيها، لا يَلزَمُ شيءٌ من الأحكام - المترتبة على اعتبار أحدِها - مَن لا يعتقدُهُ، بل يَتبع مذهبَه في نفسه، ولا يَلزَمُه قولُ ذلك القائل بحُكم الحاكم به". انتهى ملخصًا. ونوزعَ في هذا الِإلحاق وأُيَّد، انظر محشيه ابنَ الشاط 4: 49 و "تهذيب الفروق" 4: 90. ويُوضحُه أيضاً ما قاله الشيخُ ابن تيمية - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في "مجموع الفتاوى" 3: 238 - 240: "إنَّما يَنفُذُ حُكمُ الحاكم في الأمور المعينة التي يَختصُّ بها من الحدودِ والحقوق، مثلِ قَتْلِ أو قذفِ أو مالِ ونحوِه، دون مسائل العلمِ الكليةِ مثلِ التفسير والحديث والفقه وغيرِ ذلك، وهذا فيه ما اتفقتْ عليه الأمَّة وفيه ما تنازعَتْ فيه. والأمَّةُ إِذا تنازعتْ في معنى آيةِ أو حديثِ أو حُكمِ خَبَري أو طَلَبي: لم يكن صِحَّةُ أحدِ القولين وفسادُ الآخَرِ ثابتًا بمجرَّدِ حُكمِ حاكم، فإنه إنَّما يَنفُذُ حُكمهُ في الأمور المعينةِ دون العامَّة. ولو جاز هذا لجاز أن يَحكمَ حاكم بأن قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} هو الحِيَضُ أو الأطهار، ويكون هذا حُكماً يَلزمُ جميعَ النَّاسِ قبولُه، أو يَحكمَ بأن اللَّمْسَ في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} هو الوطءُ أو المباشرةُ فيما دونه. أو يَحكمَ بأن {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو الزوجُ أو الأبُ أو السيّد، وهذا لا يقوله أحد. وكذلك النَّاسُ إذا تنازعوا في باب العقيدة في غير ما هو بدعةٌ ظاهرة، تَعرِفُ العامَّةُ أنها مخالفةٌ للشريعة كبدعةِ الخوارج والروافض، وذلك كتنازعِهم في مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، وكاختلافِهم في صفةِ الإستواء ومعناه على قولين، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = لم يكن حُكمُ الحاكم بصحةِ أحدِ القولين وفسادِ الآخر ممَّا فيه فائدة. وكذلك في باب العباداتِ في مثلِ كونِ مَوفي الذكرِ يَنقُضُ أَوْ لا، وكونِ العَضر يُستَحبُّ تعجيلُها أو تأخيرُها، والفَجْرِ يُقنَتُ فيه دائمًا أَوْ لا، أو يُقنَتُ عند النوازل، ونحوِ ذلك. فكلامُ الحاكم فيما ذكرنا قبلَ الولاية وبعدَها سواء، وهو بمنزلةِ الكتب التي يُصنِّفُها في العلم". انتهى بتصرف. وقد تعرض الشيخ ابن تيمية لهذا الموضوع في مواطن كثيرة من كتبه وفتاواه انظر "مجموع الفتاوى" 35: 357 - 360 و 373 - 387. قال العلامة الشيخ أحمد الطَّحْطَاوي الحنفي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في "حاشيته على الدر المختار" للحَصْكفِي 3: 173، في أوائل كتاب القضاء: "القضاءُ إنَّما يكون في حادثةِ من خَصْم على خَصْم بدعوى صحيحة. فخرج ما ليس بحادثة، وما كان من العبادات. وبه عُلِمَ أنَّ الإتِّصالاتِ والتنافيذَ - جَمْعَ تنفيذ - الواقعةَ في زماننا، المجرَّدةَ عن الدعاوي: ليست حكمًا، وإنَّما فائدتُها تسليمُ الثاني للأول قضاءَه. قال الحَمَوي في "شرحه": وبالجملة ليس في التنفيذ حُكم ولا في الإِثبات، بل هو راجع إلى الحاكِم الأول، إلَّا أن يقولَ الثاني: حكمتُ بما حَكَم به الأول، وألزمتُ بمُوجَبِه ومقتضاه. وإذا عُرِفَ هذا عُلِمَ: أن التنفيذ الواقع في ديارنا ليس من الحكم في شيء، إذْ غايتُه إحاطةُ القاضي الثاني بحكم الأولِ على وجهِ التسليمِ له، و - عُلِمَ - معنى ما سيأتي من قولِ المصنف: "وإذا رُفع إليه حُكمُ قاضِ أمضاهُ أي أَلْزَمَ الحكم به، يعني إذا حصلت خصومة من مدَّعِ على خَصْم. انتَهَى". انتَهَى. وفيه زيادة عما يتصل بالمقام، أثبتُها لما فيها من فائدة هامة في التفرقة بين (التنفيذ) و (القضاء). هذا وقد عقَدَ العلامة القاضي ابن فرحون المالكي في كتابه "تبصرة الحاكم في أصول الأقضية ومناهج الأحكام" فصلاً مطولاً جداً 1: 81 - 87 استَوفى في بيانَ ما يَفتقرُ لحكم الحاكم وما لا يَفتقر إليه، وتَبِعَه في هذا القاضي علاء الدين الطَرابلسي الحنفي في كتابه "مُعِين الحكام فيما يتردَّدُ بين الخصمين من الأحكام" ص 40 - 42 فانظرهما.

السؤال الثاني

السُّؤَالُ الثَّانِي كيف يُمكنُ أن يقال: إِنَّ الله تعالى جعَل لأحدِ أن يُنشئ حُكماً على العِبَاد؟ وهل يُنشئُ الأحكام إِلَّا الله تعالى؟ فهل لذلك نظيرٌ وقع في الشريعة أو ما يُؤنِسُ هذا المكانَ ويُوضِّحه؟ جَوَابُهُ لا غَرْوَ في ذلك ولا نكير (¬1)، بل الله تعالى قرَّرَ الواجباتِ والمندوباتِ والمحرَّماتِ والمكروهاتِ والمباحاتِ على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأَنزل الله سبحانه وتعالى عليه في كتابه الكريم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2). ومع ذلك قرَّر في أصل شريعته أنَّ للمكلَّف أن يُنشِئ الوجوبَ فيما ليس بواجب في أصل الشرع، فيَنْقُلَ أيَّ مندوبِ شاء فيَجعلَه واجبًا عليه. وخَصَّصَ ذلك بالمندوبات، وخَصَّص الطريقَ الناقلَ للمندوبات إِلى الواجبات بطريقِ واحدِ وهو النَّذْر. فالنَّذْرُ إِنشاءٌ للوجوب في المندوب. ¬

_ (¬1) يدخل في هذا الجواب ما ذكره المؤلف في "الفروق" 3: 94 - 96 الفرق (136) عند الفرقِ بين المنذورات وغيرها من الواجبات الشرعيّة. ومما فيه زيادةَ على ما هنا بيانُ الحكمة في لزوم ما يوجبه العبد على نفسه ممَّا لا مصلحة له فيه، كتعليقه طلاقَ امرأته على طيران الغُرابِ ونحوِه، فانظره. (¬2) من سورة المائدة، الآية 3.

وقرَّرَ الله تعالى أيضاً الإنشاءَ للمكلَّف في صُورةٍ أخرى، وذلك أن الله تعالى لمَّا شَرَع الأحكام شَرَع الأسباب، وكما جَعَل الأحكام على قسمين: منها ما قرَّره في أصل شَرْعِه كوجوب الصلوات الخمس ونحوِها ومنها ما وَكَلَهُ للمكلَّف، وهو إِيجابُ المندوب بالنذر فكذلك جَعَلَ الأسباب على قسمين: منها ما قرَّره في أصل الشريعة، ومنها ما وَكَل إِنشاءَ سببيَّته إِلى المكلَّف، وهو عامٌ لم يُخصِّصه بمندوبٍ ولا غيره. بل له أن ينشئ السببيَّة في المندوبات والواجبات والمحرَّماتِ والمكروهاتِ والمباحاتِ وما ليس فيه حُكمٌ شرعيٌ البتة (¬1)، كفعل النائم ¬

_ (¬1) جرى على ألسنة كثير من شيوخنا الفقهاء وغيرِهم - رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى -، أن ينطقوا كلمَة (البتة): ألبتة بهمزة القطع إذا قالوها في دَرْج الكلام ووصله. وهذا خطأ شائع، ليس له مستند إلَّا الشيوع على ألسنة بعض العلماء المتأخرين، غلطًا متوارَثاً بينهم. والصّواب فيها نطقُها بهمزة الوصل إِذا جاءت دَرْجاً موصولةَ بما قبلها في النطق، فإن لفظة (أل) فيها كحالها في سائر الكلمات التي تدخلها الألفُ واللام، فأل في (البتة) كما هي في: الرجل والمرأة، والليل والنهار، والقديم والجديد، والصيف والشتاء، وسائرِ ما كان على هذه الشاكلة. ولفظةُ (البتة) في أصلها مصدَرٌ لفعلِ: بَتَّ يَبُتُّ الشيءَ بَتَّاً وبتَّةَ وبتَاتاً، بمعنى قَطَع وجَزَم. وكثيراً ما تَرِدُ في استعمال الأقدمين بصيغة التنكير: (بَتَّةَ)، من غير الألف واللام، ومعناها في الحالين نكرةً ومعرفةً: قطعاً وجزماً. فالصوابُ في النطق بها - وإِذا كُتبت - البتةَ، بهمزة وصل، فينبغي التنبه لهذا. وقد ورَدَتْ لفظةُ (البتة) بالتعريف في الحديث النبوي الشريف الصحيح، وضَبَطها الشراح ومنهم الحافظ ابن حجر - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في "فتح الباري" بهمزة الوصل، وهذا نصُّ كلامه: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال الحافظ ابن حجر - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في "فتح الباري" 7: 483، في كتاب المغازي، في أواخر (باب غزوة خيبر) تعليقاً على الحديث الذي رواه البخاري في هذا الباب من طريق سليمان بن فيروز الشيباني: "قال: سمعتُ ابن أبي أوفَى - رضي الله عنهما - يقول -: أصابتنا مَجاعةْ يوم خيبر، فإنَّ القُدورَ لتغلي - قال: وبعضُها نَضِجَتْ - فجاء منادي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تأكلوا من لحوم الحُمُر شيئاً، وأهْرِيقوها. قال ابن أبي أوفَى: فتحدَّثنا أنَّه إنَّما نَهَى عنها لأنها لم تُخمَّس، وقال بعضُهم: نَهَى عنها ألبَتَّةَ، لأنها كانت تأكلُ العَذِرَة"، ما يلي: "قولُه: ألبتَّةَ، معناه القطع، وألِفُها ألفُ وَصْل. وجَزَم الكرماني بأنها ألفُ قطعِ على غير القياس، ولم أرَ ما قاله في كلام أحدِ من أهل اللغة، قال الجوهري: الإنبتاتُ: الإنقطاع، ورجلْ منبَت أي منقطِعٌ به، ويقال: لا أفعله بَتَّةً، ولا أفعله البتَةَ، لكل أمرِ لا رجعة فيه. ونصْبُهُ على المصدر، ورأيتُه في النُّسَخ المعتمدةِ بألفِ وصل، والله أعلم". وجاء في "صحيح البخاري" 9: 388، في كتاب الطلاق، في (باب الطلاق في الِإغلاق والكُرهِ والسكران ...): "قال نافعٌ: طلَّق رجلٌ امرأتَه ألبتةَ إن خرجَتْ، فقال ابن عمر: إن خرجَتْ فقد بُتَّتْ منه، وإن لم تخرج فليس بشيء". قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 9: 392، تعليقاً على هذا القول: "أمَّا قولُه: ألبتَّةَ، فإنه بالنصب على المصدر. قال الكرماني هنا: قال النحاة: قَطْعُ همزةِ البتة بمعزِلِ عن القياس. اهـ. وفي دعوى أنها تقالُ بالقطع نظر، فإن ألِفَ (البتة) ألفُ وصلِ قطعاً، والذي قاله أهل اللغة: البَتَةُ: القطعُ. وهو تفسيرُها بمرادفها، لا أن المراد أنها تقال بالقطع". انتهى. هذا ما يتسعُ له المقامُ هنا في ضبط (البتة)، وقد أوسعتُ البحث فيها بإسهاب ونقاش لمن قَطَع همزتها، في بعض كتبي التي تحت الطبع، أعان الله على إخراجها ونشرها بمنه وكرمه.

والساهي والمخطئِ والمجنون والبهيمةِ وحركاتِ الرياح والسُّحبِ والسُّيول ونحوِ ذلك، فإن هذه الأفعال ليس لله تعالى فيها حُكم، ولا تَعلَّقَ بها خطابٌ يقتضي حُكماً ألبتة. ومع ذلك فلكل مكلَّفِ أن يَجعل أيَّ ذلك شاء سبباً لطلاقِ امرأته، أو عتقِ عبده، أو إِيجاب حَجٍّ عليه، أو غيره من العبادات، بطريقِ واحدِ وهو التعليق، فدخولُ الدار مثلاً لم يَجعله الشرعُ في أصل الشريعة سبباً لطلاق امرأةِ أحدٍ ولا عِتقِ عبده، ومَنْ شاء جعَلَه سبباً لذلك. فعمَّم صاحبُ الشرع في هذا الباب جميعَ الأشياء في المجعول سبباً، وخصَّص في الطريقِ المجعولِ به، فعيَّنَه في التعليق، وفي الباب الأوَّل خَصَّصَ فيهما، فعيَّن المجعول فيه في المندوب، وخصَّص الطريقَ بالنذر، فهذا الباب خاص، والأوَّلُ خاصٌّ وعامّ. وإِذا تقرَّر أن الله تعالى جَعَل لكلِّ مكلَّف - وإِن كان عاميّاً جاهلًا - الإِنشاءَ في الشريعة لغير ضرورة، فأولى أن يَجعل الِإنشاءَ للحُكَام مع علمِهم وجلالتِهم (¬1) لضرورة دَرْءِ العِناد، ودفعِ الفساد، وإِخماد النائرةِ (¬2)، وإِبطال الخصومة. فهذان بابانِ مُؤنسانِ بل بطريقِ الأَولى كما ظهر لك. وأمَّا الدليلُ على ذلك فهو الِإجماع من الأئمة قاطبةَ أنَّ حُكْمَ الله تعالى ما حَكَم به الحاكم في مسائل الإجتهاد كما تقدَّم (¬3)، وأنَّ ذلك الحكمَ يجبُ ¬

_ (¬1) في نسخة (ر): (مع عِلمِهم وعدمِ جهالتهم ...). (¬2) النَّائرة بالنون؛ أي العداوة والشحناء. (¬3) هذه الإحالةُ هنا إلى ما تقدم غيرُ صحيحة، وكذا الإحالة الآتية في ص 46 في أول جواب السؤال الرابع، فإنه لم يتقدم شيءٌ مَّا يتصلُ بهما، حتى تصح الإحالةُ =

اتبّاعُه على جميع الأمَّة، ويَحرمُ على كل أحَدِ نَقْضُه. وهذا شيء نشأ بعدَ حُكم الحاكم لا قبلَه، لأنَّ الواقعة كانت قبل هذا قابلةَ لجميع الأقوال، ولأنواع النقوض والمخالفات. ولا نعني بالإِنشاء إِلَّا هذا القدر، فقد وَضَح ذلك وبان. ¬

_ = إليه، والظاهر أن الِإمام القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، لمَّا ألف هذا الكتاب ظنَّ أنَّه قدَّم في المقدمة ما أحال إليه، وكان ذلك ماثلاً في خاطره الشريف، ولكن لم يُثبته في الكتاب، ولم يُعِد النظرَ في الكتاب بعدَ انتهاء تأليفه، فوقعت له هاتان الِإحالتان على غير مُحال إليه؛ لأنَّه لو أعاد النظر لم يَغِب عنه إصلاحُ هذا الخَلَل. وبعضُ العلماء قلَّما يُعيدون النظر فيما كتبوا أو أملَوْا، فربما وقع لهم الخطأ من سيلان المخاطر، وسُرعةِ الكتابة والقلم، فيَبقى الخطأ في كتبهم، وهم أعلمُ النَّاس به، وأنفَرُ النَّاس منه، ولكن لم ينتبهوا له، فيتسلسل فيها. قالَ الحافظ الذهبي في "تذكرة الحفَّاظ" 4: 1346 - 1347، في ترجمة (ابن الجوزي):؛ الإِمامُ العلامةُ الحافظُ، عالمُ العراق، وواعظُ الآفاق، جمال الدين عبد الرحمن بن علي ابنُ الجوزي، صاحبُ التَّصانيف السائرة في فنون العلم ... ، وكان كثيرَ الغلط فيما يُصنِّفهُ، فإنه كان يَفرُغُ من الكتاب ولا يَعتبرُهُ - أي لا يُعيدُ النظرَ فيه -، له وهَمٌ كثير في تواليفه، يَدْخُلُ عليه الدَّخَلُ من العجلة والتحويل إلى مصنَّفِ آخر ... ". انتهى. فلعل ما وقع للمؤلف هنا من هذا الباب، والله أعلم.

السؤال الثالث

السُّؤَالُ الثَّالِثُ هل لِما ذكرتَه مثالٌ في الوجود غيرُ ما ذكرتَه من القواعد يحصُلُ التأَنيسُ به والِإيضاح؟ جَوَابُهُ مِثالُ الحاكم والمفتي مع الله تعالى - وللهِ المثَلُ الأعلى -: مِثالُ قاضي القُضاة يُولَّي شخصين، أحدُهما نائبُه في الحكم، والآخَرُ تَرْجُمانٌ بينه وبين الأعاجم (¬1). فالتَّرجمانُ يجبُ عليه اتّباعُ تلك الحروفِ والكلماتِ الصادرة عن الحاكم، ويُخبرُ بمقتضاها من غير زيادة ولا نقص. فهذا هو المفتي يجبُ عليه اتِّباعُ الأدلًّة بعد استقرائها، ويُخبرُ الخلائقَ بما ظهر له منها من غير زيادةِ ولا نقص إِن كان المفتي مجتهدًا، وإِن كان مقلّداً كما في زماننا فهو نائبٌ عن المجتهد في نَقْلِ ما يَخُصُّ إِمامَهُ (¬2) لمن يَستفتيه، فهو كلسان إِمامِه والمترجِمِ عن جَنَانه. ¬

_ (¬1) يدخل في هذا الجواب ما قاله المؤلف في "الفروق" 2: 104 - 106 عند الفرقِ بين مسائل الخلاف قبل حكم الحاكم وبعده، وما قاله في 4: 53 - 54 عند الفرق (224) الفرقِ بين الفتوى والحكم. (¬2) هكذا في نسخة (ر): (في نقلِ ما يَخُصُّ إمامَهُ). وهو الصواب، وفي غيرها: (لَخَّصَهُ إمامُه).

ونائبُ الحاكم في الحكم يُنشئ من إِلزام النَّاس وإِبطال الإِلزام عنهم ما لم يُقرِّره مستنيبُه الذي هو القاضي الأصليُّ، بل فوَّض ذلك لنائبه، فهو متَّبع لمستنيبه من وجه، وغيرُ متَّبِع له من وجه. متَّبعٌ له في أنَّه فوَّض له ذلك وقد امتثل، وغير متبع له في أنَّ الذي صدَرَ منه من الِإلزام لم يَتقدَّم مثلُه في هذه الواقعة من مستنيبه بل هو أصلٌ فيه. فهذا مِثالُ الحاكم مع الله تعالى، هو ممتثِلٌ لأمر الله تعالى في كونه فوَّض إِليه ذلك، فيفعله بشروطه. وهو منشئ لأنَّ الذي حَكم به تعيَّن، وتعيُّنُه لم يكن مقرَّراً في الشريعة، وليس إِنشاؤه لأجل الأدلَّة التي تُعتَمدُ في الفتاوى، لأنَّ الأدلَّة يجبُ فيها اتّباعُ الراجح. وها هنا له أن يَحكم بأحدِ القولين المستويين على غير ترجيحِ ولا معرفةٍ بأدلَّةِ القولين إِجماعاً، بل الحاكمُ يَتبعُ الحِجاج (¬1). والمفتي يَتبعُ الأدلَّة. والمفتي لا يَعتمِدُ على الحِجاج بل على الأدلَّة. والأدلَّةُ: الكتابُ والسُّنَّةُ ونحوُهما (¬2). والحِجاجُ: البيِّنَةُ والإقرارُ ونحوهُما (¬3). فهذا مِثالُ الحاكمِ والمفتي مع الله تعالى، وليس له أن يُنشئ حُكماً بالهوى واتِّبِاعِ الشهوات بل لا بُدَّ من أن يكون ذلك القولُ الذي حَكَم به قال ¬

_ (¬1) جاء في "القاموس" وشرحه: "تاج العروس": "الحُجَّةُ بالضمّ: الدليلُ والبرهان، سُمِّيتْ حُجَّة لأنها تُحَجُّ أي تُقْصَد، لأنَ القصد لها وإليها. وجَمْعُ الحُجَّةِ: حُجَجٌ وحِجَاج". (¬2) عدَّد المؤلفُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - الأدِلَّة في كتابه "الفروق" 1: 128 عند الفرق (16)، فبلغَتْ نحوَ العشرين دليلاً. (¬3) عدَّد المؤلِّف الحِجاجَ في كتابه "الفروق" 1: 129 عند الفرق (17)، فبلغَتْ نحوَ العَشْر.

به إِمامٌ معتَبَرٌ لدليلٍ معتَبَرٌ (¬1)، كما أنَّ نائب الحاكم ليس له أن يَحكم بالتشهي عن مُستنيبه. ¬

_ (¬1) لا شك أن هذا في الحاكم غير المجتهد، وأمَّا الحاكم المجتهد فإنه يَتبَعُ في حكمه الدليلَ المعتبَر. أفاده شيخنا الشيخ ناجي أبو صالح - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

السؤال الرابع

السُّؤَالُ الرَّابِعُ ظهر الفرقُ بين المفتي والحاكم، فما الفرقُ بينهما وبين الإِمام الأعظم في تصرُّفاته؟ جَوَابُهُ أنَّ الِإمام نِسبتُهُ إِليهما كنسبةِ الكلِّ لجزئه والمركَّبِ لبعضِه. فإِنَّ للِإمام أن تقضي وأن يُفتي كما تقدَّم (¬1)، وله أن يَفعل ما ليس بفُتْيا ولا قضاءِ كجمع الجيوش، وإِنشاء الحروب، وحَوْزِ الأموال، وصَرْفِها في مصارفها، وتوليةِ الولاة، وقتلِ الطغاة. وهي أمور كثيرة يختصُّ بها لا يشاركه فيها القاضي ولا المفتي. فكلُّ إمامِ: قاضِ ومُفتِ، والقاضي والمفتي لا يَصْدُق عليهما وصف الإِمامة الكبرى. ونبَّهَ على هذه الخصائصِ قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أقضاكم عليّ (¬2)، وأعلمُكم ¬

_ (¬1) لم يتقدم شيء، كما نبَّهتُ إليه في التعليقة (3) في ص 41. (¬2) هذا ثناء عظيم، وتزكية كريمة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأفضلية معرفة علي رضي الله عنه بالقضاء وإقامة الحقوق والحدود في دين الله تعالى. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" في "باب مناقب أبي عبيدة" 7: 73 "خَصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كلَّ واحد من الكبار بفضيلة، ووصفه بها، فأشعر بقَدْرِ زائدِ فيها على غيره كالحياء لعثمان، والقضاء لعلي، ونحوِ ذلك" انتهى. وقد بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حداثة سنه قاضيًا إلى اليَمَن، وبشَّره أن الله يُسدِّدُهُ ويُثبِّتُه على الحق والصّواب، وعلَّمه كيف يقضي. فلا غرابة أن يكون أقضى الأمة. =

بالحلال والحرامِ معاذُ بن جبل" (¬1). ¬

_ = روى أبو داود في "سننه" 3: 301 "عن علي - عليه السلام - قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليَمَن قاضياً، فقلت: يا رسول الله، ترسلني وأنا حديثُ السنّ ولا عِلمَ لي بالقضاءِ؟ فقال: إن الله سيَهدي قلبك، ويُثَبِّتُ لسانك، فإذا جَلَس بين يديك الخصمان فلا تَقضِيَنَّ حتى تَسمعَ من الآخَرِ كما سمعتَ من الأول، فأنَّه أحرى أن يتبين لك القضاء. قال: فما زلت قاضياً، أو ما شككتُ في قضاءٍ بَعدُ". وروى القاضي وكيع في "أخبار القضاة" 1: 88 بسنده إلى ابنِ عمر وشدَّادِ بن أوس قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقضَى أُمَّتي علي". ورواه البغوي أيضاً من طريق أنس، كما في "كشاف الخفاء" للعجلوني 1: 162. وناهيك برجل علَّمه رسول الله القضاء، ودَعَا له بالسدادِ والثباتِ على الحق، وشَهِدَ له بالأفضليةِ في معرفة القضاء. وقد اشتَهر أبو الحسن عليٌّ - رضي الله عنه - بالقضاء حتى صار يُضرَب به المثلُ في حَل المُعضِلات وفَك المُغلَقَات، حتى قيل في كل مشكلةٍ يَستعصي حَلُّها ويَصعُبُ كشفُ كُنهها: "قَضِيَّةٌ ولا أبا حَسَن لها". يَعنون أن علياً أبا الحسن - رضي الله عنه - وهو حلَّالُ المشكلات - قد يَعجِز عن حلِّ تلك المشكلة التي عَجَزوا عنها لتوغُلها في الصعوبة والإغلاق. ولهذا كان عمر - رضي الله عنه - وهو المُحَدَّثَ المُلْهَم - يتعوَّذُ من مُعضِلة ليس لها أبو الحسن، وكان يقول؛ لولا عليٌّ لهَلَك عمر. ويقول: عليٌّ أقضانا. وقال عبد الله بن مسعود: كُنَّا نتحدث أن أقضَى أهل المدينة عليٌّ بن أبي طالب. وقال عبد الله بن عباس: والله لقد أُعطِيَ علي بن أبي طالب تسعةَ أعشار العلم، وأيمُ الله لقد شارككم في العَشْرِ العاشر. وقالت عائشة: إنه لأعلَمُ النَّاس بالسُّنَّة. أسلَمَ عليٌّ وعمره 13 سنة، ومات في ليلة 17 من رمضان سنة 40 من الهجرة عن ثلاث وستين سنة من العمر، - رضي الله عنه -. (¬1) وهذا ثناءٌ عظيم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أفضلية علم معاذ بالحلال والحرام. ولهذا أمَرَ النَّاسَ بأخذِ القرآن عنه لعلمه بحلالِهِ وحرامه. روى البخاري 7: 96 و 9: 43، ومسلم 16: 17 واللفظ له: عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: قال =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا القرآن من أربعة: من عبدِ الله بن مسعود، ومعاذِ بن جبل، وأُبَيِّ بن كعب، وسالم مولى أبي حُذَيفة". وقد أسلم معاذ أبو عبد الرحمن - رضي الله عنه - بالمدينة في السنة الثالثة من الهجرة، وكان عُمُره يوم أسلم ثمانَ عشرة سنة. وخَلَّفَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة حين توجَّه إلى حُنَين، في السنة الثامنة يُفقِّهُ أهلَ مكّة ويُعلِّمُهم السُّنَن ويقرئهم القرآن. كما في "طبقات ابن سعد" 2: 137، 348. وكان معاذ - رضي الله عنه - شاباً أبيض، وَضِيءَ الوجه، بَزَاقَ الثَّنايا، أكحلَ العينين، جميلاً وسيماً سمحاً، من خير شباب قومه، يأخذُ بألباب سامعيه ومشاهديه إذا تحدِّث. كما في ترجمته في "الإصابة" 3: 427. وجاء في "مجمع الزوائد" للحافظ الهيثمي في كتاب العلم، في (باب أخذ كل علم عن أهله) 1: 135 "عن ابن عباس قال: خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية وقال: يا أيها الناس من أراد أن يَسأل عن القرآن فليأت أُبَيَّ بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأتِ زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المالِ فليأتني، فإن الله جعلني له والياً وقاسِماً. رواه الطبراني في الأوسط، وفيه داود بن الحصين، لم أر من ذكره". انتهى. وذَكَرَ طرفاً منه ابنُ سعد في (الطبقات) في ترجمة معاذ 2: 348. وروى الترمذي في "سننه" 13: 205 وابن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَ الرجلُ معاذُ بن جبل". وروى ابن سعد أيضاً 2: 347 عن محمد بن كعب القُرَظي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي معاذُ بنُ جبل يوم القيامة أمامَ العلماء برَتْوة". والرَّتْوَةُ مسافةُ رميةِ السهم، والمرادُ بها هنا بيان تقدم منزلته على العلماء. قال الجاحظ في كتاب "البُرْصَان والعُرْجَان" ص 337 - 338 من طبعة بغداد: "ومن العُرجان: مُعاذ بن جبل، وكان مُعاذٌ أُمَّةً، وكان يُشبِهُ إبراهيمَ خليلَ الرحمن، ولم يكن في السلف أحسَنُ جُردةً - أي أجمَلُ جسماً إذا تجرَّد من ثيابه - ولا أنعَمُ بَدَناً =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = من معاذ وسَهْلِ بن حُنَيْف. وكان بمعاذ عَرَج، فكان إذا صلَّى قدَّم إحدى رجليه. ولما بَعَثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، نَزَل في حيّ منهم، وقال: لا تَرَوْني أصنعُ شيئاً إلَّا صنعتم مثلَه، فلما صلَّوْا لم يَبق أحدٌ إلَّا قدَّم إحدى رجليه، فلما انصرفوا قال لهم: "إنَّما فعلتُ هذا من عَرَج، فلا تفعلوا مثل هذا". انتهى. فإن صح هذا - إذْ لم أتحققه - فيُفسِّرُ قدومَ معاذ - رضي الله عنه - يوم القيامة أمامَ العلماء بَرتوَة، يعني أنَّه مع عَرَجِه متقدمٌ عليهم في القدوم. وهذا مديحٌ رفيع. وكان معاذ - رضي الله عنه - أجش الصوت، أوتي محبّة الناس له. قال عَمْرو بنُ ميمون: قَدِمَ علينا معاذ اليمن رسولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من السَّحَر رافعاً صوته بالتكبير، أجشَّ الصوت، فألقِيَتْ عليه محبتي. ذكره الحافظ ابن حجر عن الأوزاعي يرويه عن عَمْرو بن ميمون. كما في "تهذيب التهذيب" في ترجمة (عمرو بن ميمون) 8: 109 - 110. ولمَّا وجَّهه رسول الله سنة عشر من الهجرة وبعد سبع سنوات من إسلامه إلى اليَمَن إلى مدينةِ الجَنَد قاضيًا ومعلَّماً للناس القرآن وشرائعَ الإسلام، مسألة كيف يقضي إذا عَرَض له قضاء؟ فكان جوابُه دالاً على زكانَتِهِ وفَطانته وسَعَةِ مداركه الفذَّة على حداثةِ سِنِّه، فحَمِدَه رسولُ الله وأثنى عليه وأمضَى إرساله. روى أبو داود 3: 303، والترمذي 6: 68، والدارمي ص 34، وابن سعد 2: 347، والقاضي وكيع في "أخبار القضاة" 1: 98، واللفظُ مجموع من رواياتهم عن معاذ قال: "لما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قال لي: كيف تقضي إن عَرَض لك قضاء؟ قلتُ: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قلت: أقضي بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قلتُ: أجتهد برأيي ولا آلو - أي لا أُقصِّر - قال: فضرب رسول الله صدري بيده وقال: الحمدُ لله الذي وفَّق رسولَ رسول الله لما يُرضِي رسولَ الله". وبلغ من تكريم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإظهاره لشأنه وفضله: أن خرج معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خارج المدينة يُودعه ويُوصِيه، ومعاذٌ راكبٌ، ورسولُ الله يمشي تحت راحلته، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حتى فَرَغ من وصيته، كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد في "مسنده" عن معاذ، بسند رجالُه رجال الصحيح سوى راشد بن سعد وعاصم بن حُمَيد، وهما ثقتان، قاله الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9: 22. وكان في جملةِ ما أوصاه به أن قال له: إياك والتنعم، فإنَّ عباد الله ليسوا بالمتنعمين. رواه الإمام أحمد عن معاذ بسند رجاله ثقات، كما في "مجمع الزوائد" للهيثمي 10: 250. ولم يزل على اليمن إلى أن قَدِمَ في عهد أبي بكر، وقد كان يفتي الناس بالمدينة في حياة أبي بكر كما كان يفتيهم فيها في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولما فُتحت الشام في خلافة أبي بكر، أراد معاذ الخروج إليها فمانع عمرُ في خروجه، وبعد أن خرج إليها كان عمر يقول: لقد أخل خروج معاذ بالمدينة وأهلها في الفقه وما كان يفتيهم به، ولقد كنتُ كلَّمت أبا بكر - رَحِمَهُ اللهُ - أن يحبسه لحاجة الناس إليه فأبى عليَّ وقال: رجل أراد وجهًا يريد الشهادة في سبيل الله فلا أحبسه، فقلت: والله إن الرجل ليُرزَقُ الشهادة وهو على فراشه في بيته عظيمُ الغني عن مِصره. وكان عمر يقول: عجزت النساءُ أن يلدن مثل معاذ بن جبل. ولولا معاذ لهلك عمر. وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: حدِّثونا عن العاقلَينِ العالِمينِ، فيقال: من هما؟ فيقول: معاذُ بن جبل وأبو الدرداء. وتوفي معاذٌ في طاعون عَمَواس سنة 18 من الهجرة، وكان عُمره 33 سنة، ودُفن في الغَوْر الشرقي في بَيْسان من الأرْدُن - رضي الله عنه -، وما يزال قبرُه معروفاً هناك يُزار. أما تخريج الحديث الذي أورده القرافي فهو جزء من حديث طويل، رواه الإِمام أحمد في "مسنده" 3: 184 و 281، والترمذي في "جامعه" 13: 203، وابن ماجه في "سننه" 1: 55 واللفظ الآتي له، كلهم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرحَمُ أمَّتي بأمتي أبو بكر، وأشدُّهم في دين الله عمر، وأصدقُهم حياءَ عثمان، وأقْضَاهُم عليُّ بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَي بن كعب، وأعلمُهم بالحلال والحرام معاذُ بنُ جبل، وأفرضُهم زيدُ بن ثابت. ألا وإنَّ لكل أمَّة أميناً، وأمينُ هذه =

وأشار إلى إِمامةِ الصِّدِّيق - رضي الله عنهم أجمعين - بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "مُرُوا أبا بكر يُصَلِّي بالناس" (¬1). ¬

_ = الأمة أبو عبيدة بن الجراح". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه ابن حبان والحاكم - في "المستدرك" 3: 422 وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرَّه الذهبي - والحافظ ابن حجر كما في "فتح الباري": 73:7 و 95، و "كشف الخفاء" للعجلوني 1: 109 و"فيض القدير" للمُناوي 1: 460. وانظره وانظر "المقاصد الحسنة" للسخاوي ص 47 - 48. وتفرَّد ابنُ ماجه بقوله: (وأقضاهم علي بن أبي طالب). ونصُّ القرافي هنا: "أقضاكم عليّ، وأعلمُكم معاذ ... " بكاف الخطاب إنما هو من بابِ الروايةِ بالمعنى، والله أعلم. (¬1) قلتُ: وأشار - صلى الله عليه وسلم - بأقوى من هذا إلى إمامة أبي بكر - رضي الله عنه -، وذلك ما رواه البخاري في "صحيحه" 16:7، و 18:13، و 280 "عن مُحَّمد بن جُبَيْر بن مُطْعِم، عن أبيه قال: أتَتْ النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة من الأنصار، فكلَّمته في شيء، فأمَرَها أن تَرجعَ إليه، قالت: يا رسول الله، أرأيت إن جئتُ ولم أجدك؟ كأنها تعني الموت: قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر". وحديث "مروا أبا بكر ... ". رواه البخاري في مواضع من"صحيحه" 2: 128 و 137 و 138 و 170، و 299:6، و 235:13، ومسلم 4: 140 و 144، والنسائي 99:4، وابن ماجه 1: 389 و 391. وقولُه: "يُصلِّي بالناس" هكذا في بعض الروايات، ومعناها: فهو يُصلِّي، وفي أكثرها: "فليُصِلِّ بالناس". وفي نسخة (ر): بلفظ (مُرُوا أبا بكر يُصَلِّ بالناس). وأراد المؤلِّفُ بإيراد هذين الحديثين حديثِ "أقضاكم علي" وحديثِ "مُرُوا أيا بكر" التنبيهَ على ما يُقدَّمُ به كل واحد من هؤلاء الصحابةِ الأجلَّةِ على سواه، وقد شَرَحَ هذا المعنى في مواضع من كتابه "الفروق" 5: 142 في الفرق (91)، و 197 في الفرق (96)، و 227 في الفرق (113)، فقال - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "اعلم أنه يجب أن يُقدَّمَ في كلِّ ولايةٍ مَنْ هو أقومُ بمصالحها على من هو دونه، فيُقدَّمُ في ولاية الحروب من هو أعرَفُ بمكايِدِ الحروب، وسياسةِ الجيوش، والصولةِ على الأعداء، والهيبةِ عليهم. =

قال العلماء: كان - صلى الله عليه وسلم - يُريدُ أن يَنزِلَ عليه وحْيٌ بإِمامةِ أبي بكر فلم يَنزِل عليه ذلك، فأُلهمَ - صلى الله عليه وسلم - بالتنبيه لوجه المصلحة بالاستنابة في الصلاة، حرصًا على مصلحة الأُمَّة بالتلويح، وأدبًا مع الربوبية بعدمِ التصريح، فكمَلَ له الشَّرَف، وانتظمَتْ له ولأمَّته المصلحة - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ = ويُقدَّم في القضاء من هو أعرفُ بالأحكام الشرعية، وأشدُّ تفطنًا لِحجاج الخصوم وخُدَعِهم، وهو معنى قوله - عليه السلام - "أقضاكم علي" أي هو أشدُّ تفطنًا لِحجاج الخُصوم وخُدَع المتحاكمين. وبه يظهر الجمعُ بينه وبين قوله - عليه السلام -: "أعلمُكم بالحلال والحرام مُعاذُ بنُ جبل". فإنه إذا كان معاذٌ أعرفَ بالحلال والحرام كان أقضَى الناس، غير أن القضاء لمَّا كان يَرجعُ إلى معرفة الحِجَاج والتفطُّنِ لها كان أمرًا زائدًا على معرفة الحلال والحرام، فقد يكون الإنسانُ شديدَ المعرفة بالحلال والحرام وهو يُخدَعُ بأيسر الشبهات. فالقضاءُ عبارةٌ عن هذا التفطُّن، ولهذا قال - عليه السلام -: "إنما أنا بَشَر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم يكونُ ألحنَ بحُجَّتِه من بعض، فأقضِي له على نحو ما أَسَمع". الحديث. فدَلَّ ذلك على أن القضاء تَبَعُ الحِجَاجِ وأحوالِها، فمن كان لها أشدَّ تفطنًا كان أقضى من غيره ويُقدَّم في القضاء. وإنَّ الأسباب المُوجبة للتفضيل قد تتعارض، فيكون الأفضلُ من حازَ أكثرَها وأفضلَها، والتفضيلُ إنما يقع بين المجموعات، وقد يَختصُّ المفضولُ ببعضِ الصفات الفاضلة، ولا يَقدحُ ذلك في التفضيل عليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أقضاكم علي، وأَفْرَضُكم زيد، وأقرؤكم أُبَيّ، وأعلمُكم بالحلالِ والحرام معاذُ بنُ جبل" - رضي الله عنهم -. مع أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - أفضَلُ الجصيع، وعليُّ بن أبي طالب أفضلُ من أُبَيّ وزيد، ومع ذلك فقد فَضَلاه في الفرائض والقراءة، وما سبَبُ ذلك إلا أنه يَجوزُ أن يَحصُلَ للمفضول ما لم يَحصُل للفاضل، والفرقُ بين الأفضلية والمزية أن المفضول يجوز أن يَختص بما ليس للفاضل، فيكون المجموعُ الحاصلُ للفاضل لم يَحصُل للمفضول".

قال العلماء: وإِذا كان معاذٌ أعلمَ بالحلال والحرام فهو أقضى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. فما معنى قولهِ - عليه الصلاة والسلام -: "أقضاكم عليّ"؟ أجابوا - رضي الله عنهم - بأنَّ القضاءَ يرجع إِلى التفطُّنِ لوجوهِ حِجَاج الخصوم. وقد يكون الإِنسانُ أعلمَ بالحلال والحرام وهو بعيدٌ عن التفطُّنِ للخُدَعِ الصادرة من الخصوم والمكايِدِ والتنُّبهِ لوجه الصواب من أقوال المتحاكمين (¬1). ¬

_ (¬1) قلت: قد استفاضت الأخبارُ وتوافرت الوقائع في فَطانةِ سيدنا علي - رضي الله عنه - في القضاء، وتجد طائفة كبيرة منها في "كنز العمال" للمتقي الهندي في كتاب الخلافة والإمارة منه، في (الأقضية (3: 178 - 180 من الطبعة الأولى الهندية الكبيرة، سنة 1313، و 5: 493 - 503 من الطبعة الهندية الثانية سنة 1374، و 5: 825 - 842، من الطبعة الثالثة الحلبية أو المصورة عنها البيروتية سنة 1399، وفي "الرياض النضرة في مناقب العشرة" للمحب الطبري 2: 167 - 170، وقد أورد الشيخ ابن قيم الجوزيةَ في كتابه "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية" غيرَ قليل منها. وإليك بعضها منه: 1 - قال - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في ص 49 منه، - ورواه مختصرًا ابن أبي شيبة في "المصنف" كما نقله عنه الزيلعي في "نصب الراية" 4: 355 - : "إن شابًّا شكا إلى علي - رضي الله عنه - نَفَرًا فقال: إنَّ هؤلاء خرجوا مع أبي في سفر، فعادوا ولم يَعُدْ أبي! فسألتهم عنه فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله فقالوا: ما تَرَك شيئًا، وكان معه مال كثير، وترافَعْنا إلى شُرَيح فاستَحلفَهم وخلَّى سبيلَهم. فدعا علي بالشُّرَط فوكَلَ بكل رجلِ رجلين، وأوصاهم أن لا يمكِّنوا بعضَهم يدنو من بعض، ولا يمكِّنوا أحدًا يُكلِّمُهم، ودعا كاتبَه، ودعا أحدَهم فقال، أخبرني عن أبي هذا الفتى: أيَّ يوم خرج معكم؟ وفي أيِّ منزلِ نزلتم؟ وكيف كان سَيْرُكم؟ وبأيِّ علَّةٍ مات؟ وكيف أُصيبَ بمالِه؟ وسأله عمَّن غسَّلَه ودفَنَه! ومن توَّلى الصلاةَ عليه؛ وأين دُفنَ؟ ونحوِ ذلك، والكاتبُ يكتُب، ثم كبَّرَ على - رضي الله عنه - وكبَّر الحاضرون، والمتَّهمُون لا عِلْمَ لهم إلَّا أنهم ظنُّوا أن صاحبَهم قد أقرَّ عليهم. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ثم دعا آخَرَ بعد أن غيَّب الأوّل عن مجلسه، فسأله كما سأل صاحبَه، ثم الآخَرَ كذلك، حتى عَرَف ما عند الجميع، فوجَدَ كلَّ واحدِ منهم يُخبر بضدِّ ما أخبرنا به صاحبُه، ثم أمَرَ بردِّ الأول فقال: يا عدوَّ الله قد عرفتُ غَدْرَك وكذِبَك بما سمعتُ من أصحابك، وما يُنجيك من العقوبة إلَّا الصدق، ثم أمَرَ به إلى السجن، وكبَّر وكبَّر معه الحاضرون، فلما أبصر القوم الحالَ لم يَشكُّوا أن صاحبَهم قد أقرَّ عليهم. فدعا آخَرَ منهم فهدَّده فقال: يا أمير المؤمنين واللهِ لقد كنتُ كارهًا لما صنعوا ثم دعا الجميع فأقرُّوا بالقصَّة، واستدعى الأول الذي في السجن وقال له: قد أقرَّ أصحابك، ولا يُنجيك سوى الصدق، فأقرَّ بكل ما أقرَّ به القوم، فأغرَمهم المال، وأقادَ منهم بالقتيل". انتهى. وذكره القاضي علاء الدين الطرابلسي الحنفي في "معين الحكام فيما يتردَّدُ بين الخصمين من الأحكام" ص 167. وانظره أيضًا في "القاموس" للفيروزآبادي مختصرًا، وفي شرحِهِ "تاج العروس" للزبيدي 5: 396، في مادة (شرع)، وفي روايتِهِ نَقْدُ سيدنا علي لاسترواح شُرَيح إلى استحلافِهم وتخليةِ سبيلهم؛ وقولُ سيدنا علي في انتقاد شُريح: "إنَّ أهونَ السَّقْيِ التشريعُ". والتشريعُ إيرادُ الِإبل على الشريعة - أي على الشاطئ - فلا تحتاجُ في سَقْيها إلى نزعِ الماء بالدلو ولا سَقيٍ في الحوض. وهذا مَثَلٌ عند العرب، يُضرَبُ لمن أخذ بالأسهل والأهون وتَرَك الأصعب والأحوط، كما بيَّنه الزبيدي. 2 - وقال ابن القيم - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في ص 50 "وأوصى رجل إلى آخر أن يتصدَّق عنه من هذه الألف دينار بما أحبّ، فتصدَّق بعُشرِها وأمسَكَ الباقي، فخاصموه إلى علي وقالوا: يأخذ النصف ويعطينا النصف فقال: أنصفوك، قال: إنه قال لي: أخرِجْ منها ما أحببتَ، قال: فأخرِجْ عن الرجلِ تسعَ مئة، والباقي لك. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنَّ الرجل أمَرك أن تخرج ما أحببتَ، وقد أحببتَ التسعَ مئة، فأخرِجْها". 3 - وقال ابن القيم أيضًا في ص 50 ومن ذلك أنَّ رجلاً ضَرَب آخرَ على رأسه، فادَّعى المضروبُ أنه أُخرِسَ، ورُفعَتْ القضيَّةُ إلى علي - رضي الله عنه - فقال: يُخرِجُ لسانَه ويُنخَسُ بإبرة، فإنْ خرَجَ الدَّمُ أحمرَ فهو صحيح اللسان، وإن خرجَ أسودَ فهو أخرس".=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = انتهى وذكره في "معين الحكام" ص 168. 4 - وقال ابن القيم أيضًا في ص 53: "ومِن ذلك أنه قَضَى في مولود وُلِدَ وله رأسان وصَدْران في حِقْوٍ واحد، فقيل له: أيُورَّثُ ميراثَ اثنين أم ميراثَ واحد؟ فقال: يُترَكُ حتىِ ينَام ثم يُصاحُ به، فإنْ انتَبَها جميعًا كان له ميراثُ واحدِ، وإن انتَبَه واحدٌ وبقي الآخرُ كان له ميراثُ اثنين". انتهى وذكره في "معين الحكام" ص 168. 5 - وقال ابن القيم أيضًا في ص 54: "ومن ذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أُتِيَ بامرأة زَنَتْ، فأقرَّت فأمَرَ برجمها، فقال علي: لعل لها عُذْرًا؟ ثم قال لها: ما حمَلَك على الزنا؟ قالت: كان لي خَلِيطٌ - أي رَاعٍ ترافقه إذا رَعَتْ إبلَها - وفي إبلِهِ ماءٌ ولبن، ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن، فظمئت فاستسقيتُه، فأبى أن يَسقيني حتى أعطيه نفسي! فأبَيْت عليه ثلاثاً، فَلقَا ظمئتُ وظننتُ أن نفسي ستَخرُجُ أعطيتُه الذي أراد! فسقاني. فقال علي: الله أكبر {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وفي "السنن" للبيهقي عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي قال: أُتِيَ عمرُ بامرأةٍ جهدها العطش فمرَّت على راعٍ يرعى فاستسقت، فأبَى أن يسقيَها إلَّا أن تمكنه من نفسها. فشاور الناسَ في رَجْمها، فقال علي: هذه مضطرَّة، أَرى أن يُخلَّى سبيلُها، ففَعَل". 6 - وقال أيضًا في ص 66: "وجاءتْ إلى علي - رضي الله عنه - امرأةٌ فقالتْ: إنَّ زوجي وقع على جاريتي بغير أمري، فقال للرجل: ما تقول؟ قال: ما وقعتُ عليها إلَّا بأمرها فقال: إن كنتِ صادقةً رجمتُه، وإن كنتِ كاذبة جلدتُك الحذ، وأقيمت الصلاةُ وقام ليصلي، ففكَّرت المرأةُ في نفسها، فلم تَرَ فَرَجًا في أن يُرجَم زوجُها، ولا في أن تُجلَد، فولَّتْ ذاهبةً، ولم يَسأل عنها علي - رضي الله عنه - ". انتهى. وعلَّق شيخنا العلامة الفقيه الأستاذ مصطفى الزرقا حفظه الله تعالى وأمتع به، على هذا الخبر بقوله: "المرادُ بقوله: (جلدتُكِ الحَدَّ) - فيما يبدو - حَدَّ القذف لزوجها، ولكن كيف تُجلَدُ به وقد اعترف زوجها، وأنَّ أمْرَها له إن كان صادقًا لا يبيح له الوقوع =

فهذا بابٌ آخرُ عظيم يَحتاج إِلى فِراسةِ عظيمة، وفِطنةٍ وافرة، وقريحةٍ باهرة، ودُربةٍ مساعدة، وإِعانةٍ من الله تعالى عاضدة، فهذا كلُّه محتاجٌ إِليه بعد تحصيلِ الفتاوى، فقد يكون الأقضى أقلَّ فُتيا حينئذٍ، فلا تناقُض بين قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أقضاكم علي"، وبين قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أعلمُكُم بالحلال والحرام مُعاذُ بن جبل". وظهَرَ حينئذٍ أنَّ القضاءَ يَعْتمِدُ الحِجاج، والفُتيا تَعتمدُ الأدلَّة، وأنَّ تصرُّفَ الِإمامةِ الزائدَ على هذين يَعتمدُ المصلحةَ الراجحة أو الخالصةَ في حقّ الأُمَّة، وهي غيرُ الحُجَّة والأدلَّة. وظَهر أنَّ الِإمامة جُزؤها القضاءُ والفُتيا. ولهذا اشتُرِطَ فيها من الشروط ما لم يُشترط في القُضاة والمفتين، من كونِه قُرَشيًا، عارفًا بتدبير المصالح وسياسة الخلق، إِلى غيرِ ذلك مما نَصَّ عليه العلماء في الإِمامة شَرْطًا وكمالًا. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "الأئمَّةُ من قريش" (¬1). ولم يقل: القضاةُ من قريش. وما ذلك إِلاَّ لعمومِ السلطان واستيلاء التصرُّفات والاستقلالات. وذلك لِعظَمِ أمرِها وجلالةِ خطرها. وهو دأبُ صاحبِ الشرع، متى عَظُمَ أمرٌ كثَّرَ شَروطَه، ألا ترى أنَّ ¬

_ = على جاريتها، وإن كان قد يعتبر شبهة تَدرأ عنه الحد وتوجب تعزيره بعقوبة أخرى غير الحد؟ ولا أظن عليًا - رضي الله عنه - يصح عنه مثلُ هذا الخبر". النهي. وكتبه مصطفى أحمد الزرقاء. وهناك أخبار أخرى في فطانة سيدنا علي - رضي الله عنه - في أقضِيَتِه أوردها ابن القيم، تركتُها اكتفاءَ بما ذكرته. ولقد صَدَق عمر إذ قال: علي أقضانا. (¬1) هذا صَدْرُ حديث روي من غير طريق، منها ما رواه الإِمام أحمد في "مسنده" عن أنس 3: 129 و 183، وعن أبي بَرْزَة الأسلمي 4: 421. ورواه الحاكم في "المستدرك" عن علي 4: 76. وقال فيه الحافظ ابن حجر: حديثٌ حسن كما في "فيض القدير" يحيى " للمُناوي 3: 190.

النكاح لمَّا كان أعظمَ خطرًا من البيع اشتَرَط فيه ما لم يَشترط في البيع من الشهادةِ والصَّداقِ وغير ذلك؟ وجَوَّز نَقْلَ السِّلَع بغير شهادة ولا عِوَض، بل بالهبةِ والصَّدَقةِ والوقفِ وغيرِ ذلك. ومنَعَ جميعَ ذلك في النكاح لاشتماله على بقاء النوع الِإنساني، وتكثير الدُّريَّة الموحِّدة لله تعالى، والعابدةِ له، والخاضعةِ لجلاله، وما فيه من الأُلفةِ والمودَّةِ والسكون وانتظام المصالح التي نبَّه عليها قولُهُ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (¬1). وكذلك اشترَطَ في الطعام ما لم يَشترِط في السِّلع، فلا يُباع كثيرُه بقليله، ولا ناجزُه بمتأخِّره، ولا يُعاقَدُ عليه قبل قبضِه. ولم يَشترِط ذلك في السِّلَع لكونِهِ سببَ قَيامِ بُنْيةِ الأجسام، والمُعِينَ على طاعة الله تعالى بفعل الواجبِ واجتنابِ الحرام. وكذلك اشتَرَط في النَّقْدَين شروطًا كثيرة من المماثلةِ والتناجزِ وغيرِهما، لكونهما أصولَ الأموالِ وقِيَم المُتْلَفات. فكذلك الِإمامة لما عَظُمَ خطرُها اشترَطَ الشارعُ فيها ما لم يَشْترِطه في غيرها، وما عَزَّ شيء وعلا شَرفُهُ إِلاَّ عزَّ الوصولُ إِليه، وكثُرتْ القواطعُ دونه، فالوصولُ إِلى الأمير أيسَرُ من الوزير، وإِلى الوزيرِ أيسرُ من السلطان، وهي عادةُ الله تعالى في خلقهِ وفي شَرْعه (¬2)، فسبحان المُحْكِم لنظام المصالح، العالِمِ بدقائقها ومَواردِها ومَصادِرها. ¬

_ (¬1) من سورة الروم، الآية 21. (¬2) قولُه: (وهي عادةُ اللهِ تعالى في خَلْقِه). الأولى أن يقول: (وهي سُنَّةُ الله تعالى ...)، فإن العادة من أحوال الِإنسان المخلوق، فلا يَحسُنُ التعبيرُ بها في جَنْبِ الله تعالى.

السؤال الخامس

السُّؤَالُ الخَامِسُ إِذا كان حُكمُ الحاكم إِنشاءَ فهل هو نَفسانيّ أو لِسانيّ (¬1)؟ جَوَابُهُ أنَّه نَفساني، ويَعْضُد ذلك وجهان: أحدُهما: أنَّ حُكمَ الله تعالى إِنما هو كلامُه القائمُ بذاته، وألفاظُ الكتابِ والسُّنَّةِ وغيرِ ذلك إِنما هي أدلَّتُه لا هو، وهذا حُكمُ الله أيضًا غير أنه فوَّضه للحاكم، فكان أيضًا نَفسانيًا قائمًا بنفسِ الحاكم، وقائمًا بذات الله - عَزَّ وَجَلَّ - أيضًا، لا أنَّه غيرُ القائمِ بذات الحاكم بل عَيْنُه. فإِنَّ الله تعالى إذا أوجَبَ علينا ما حكَمَ به الحاكمُ فقد قام بذاتهِ تعالى الحُكمُ بذلك كسائر الأحكام، غير أنَّ الحُكمَ القائمَ بنفس الحاكم عَرَضٌ مُحدَث لا يَبقى زمانين، والقائمَ بذات الله تعالى واجبُ الوجود قديمٌ أَزَليّ أبَدي كسائر أحكامه تعالى، كما تقرَّر ذلك في أصولِ الفقه وأصولِ الدين. وثانيهما: أنَّ الذي يَدُلُّ على أنَّ حُكم الحاكمِ نَفساني أنه إِذا حكم فتارةً يُخبِرُ عنه بلسانه فيقول: اشهَدوا عليَّ أني حَكَمتُ بكذا، وتارةً يُسألُ عن ذلك فيشيرُ برأسه أو غيرِ ذلك مما يُفهَمُ عنه به أنه حَكَمَ، وتارةً يَكتُبُ به إِلى حاكمٍ آخر، أو يُحضِرُ مكتوبًا للشهود فيقول: اشهَدُوا عليَّ بمضمونه، ¬

_ (¬1) جواب هذا السُّؤَالُ منقول باختصار وتصرّف في "تبصرة الحكام" 1: 93، 1: 100، و"معين الحكام" ص 52، 60.

أو يَبعثُ بمكتوب الحاكمِ إِلى الِإقليم الآخَرِ من غير عبارةٍ ولا إِشارة، ويكون ذلك دليلًا على أنه حَكَم. فدَّل ذلك على أنَّ حُكمَه غيرُ لفظِه وكتابتِه وإِشارتِه، وما ذلك إِلَّا الكلامُ النَّفساني، وما عداه دليل عليه كسائرِ ما قام بالنفسِ من الأحكام والأخبار وغيرِهما. فظهر أنَّ حُكمَ الحاكم نَفساني لا لِساني.

السؤال السادس

السُّؤَالُ السَّادِسُ 1 - إِذا كان الحُكمُ نَفْسانيًا (¬1)، فهل هو خَبرٌ عن حُكم الله تعالى يَقبَلُ التصديقَ والتكذيب؟ أو إِنشاءٌ لا يَحتملهما؟ 2 - وما الفَرْقُ بين الإِنشاءِ والخبر؟ 3 - وهل اللفظُ الدالُّ عليه إِنشاءٌ أو خَبَر؟ وهل بين اللفظِ الدالِّ عليه ولفظِ الشاهد فرق؟ فإِذا قال الحاكم: اشهدُوا عليَّ بكذا، هل هو مِثلُ قولِ الشاهد للحاكم: أشهَدُ عندك بكذا؟ 4 - وهل بِعتُ واشتريتُ وأنتِ طالق وأنتَ حُرٌّ مِن باب قولِ الشاهد: أشهَدُ بكذا؟ أو مِن باب قولِ الحاكم: اشهَدُوا عليَّ بكذا؟ 5 - وإِذا كان اللفظُ إِنشاءً فهل جميعُ الألفاظ تَصلُحُ لذلك أم لا؟ 6 - وإِذا كان حُكمُ الحاكم إِنشاءً للحُكم الشرعيّ، فهل تُتَصوَّرُ فيه الأحكام الخمسةُ كما في أحكام الله تعالى أم لا؟ 7 - وإِذا كان إِنشاءً (¬2)، فهل يجبُ أن يتَّصلَ به اللفظُ الدالُّ عليه كالطلاق، أم لا يَضُرُّ تأخيرُ الِإخبار به والإِشهادِ عليه؟ ¬

_ (¬1) لفظُ (الحكم) هنا إضافةٌ مني للِإيضاح، لم يكن في الأصول. (¬2) هكذا جاءت العبارة في نسخة الرباط، وهي الصواب، فاسمُ (كان) هنا (الحُكم) السابقُ الذكر برقم 6، ووقع في الأصول الأربعة: (فإذا كان اللفظُ إنشاء، فهل ...) وهو تحريف. فرحم الله تعالى ضابط نسخة الرباط.

8 - وهل اتَّفَق العلماءُ على وقوع الإِنشاء أو فيه خلاف؟ وإِن كان فيه خلافٌ فما وجههُ؟ وما الحقُّ فيه؟ 9 - وهل الِإنشاءُ إِنشاءٌ بوضع العَرَب أم بالعُرف؟ 10 - وهل يَستوي في ذلك اللّسانيُّ والنَّفساني؟ أم يَختصُّ الوضعُ باللساني؟ فهذه عَشَرةُ أسئلةٍ في هذا السؤال.

والجواب عن السؤال

وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ أنَّ حُكمَ الحاكم ليس خبَرًا يَحتمِلُ التصديقَ والتكذيب (¬1)، بل إِنشاءٌ لا يَحتملهما، فإِنه إِلزام أو إِذن. ومَنْ أنشأَ إِلزامًا على غيره أو على نفسه، أو أذِنَ لغيره فيِ فعلٍ لا يُقال له: صَدَقتَ ولا كذَبْتَ. وكذلك جميعُ الأوامرِ والنواهي والتخييراتِ والإستفهاماتِ والترجّي والتمنّي والقَسَمِ والنداءِ ونحوِها: لا يَدْخلُها التصديقُ والتكذيبُ، لِمَا فيها من معنى الطَّلَب إِما في الرُّتبة الأولى كالأوامر والنواهي، أو الرُّتبةِ الثانية كالترجِّي والتمنِّي. ¬

_ (¬1) هذا الجواب منقول باختصار وتصرف في "تبصرة الحكام" 1: 93، 1: 100، و "معين الحكام" ص 52، 60.

والجواب عن السؤال الثاني

وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّانِي (¬1) أنَّ الفَرْقَ بين الِإنشاءِ والخَبَرِ من ثلاثةِ أوجهٍ: أحدُها: أنَّ الخبر يَدخله التصديقُ والتكذيب، والإنشاءُ لا يَدخُله ذلك كما تقدَّم. وثانيها: أن الخبرَ تابعٌ لتقرُّرِ مُخبِرِهِ في زمانه، كان ماضيًا أو حالاً أو مستقبلاً. وثالثُها: أنَّ الخبَرَ ليس سبَبَاً لمدلوله. ولا يقتضِي وقوعَه، والإِنشاءُ سببٌ لمدلوله ويتَرتَبُ عليه، كما وقع ذلك في جميع صُوَره، كالطلاقِ لمَّا ¬

_ (¬1) وقع في الطبعة الأولى التي خدمتُها - تَبَعًا للأصولِ الأربعةِ المخطوطة وللنسخةِ المطبوعةِ المحرَّفة - إثباتُ هذا العنوان: (والجوابُ عن السُّؤَالُ الثاني) قبلَ قوله الآتي: (أنَّ اللفظَ الدالَّ على حُكم الحاكم: تارةً ...)، كما وقع فيها أيضًا، إثباتُ عنوان: (والجوابُ عن السؤال الثالث) قبلَ: (أنَّ قولَ الحاكم: حكمتُ ...). فاستظهر أستاذُنا الشيخ ناجي أبو صالح - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وأحسن إليه أن الصوابَ في العنوانِ: (والجوابُ عن السؤال الثاني) أن يُوضَعَ هنا، وأن الصوابَ في العنوانِ: (والجواب عن السؤال الثالث) أن يُوضَعَ قبلَ (أنَّ اللفظَّ الدالَّ على حُكمِ الحاكم: تارةً ...)، وأن الصوابَ في العنوانِ: (والجوابُ عن السؤال الرابع) أن يوضع قبلَ (أنَّ قول الحاكم: حكمتُ بذلك ...)، فجاءت نسخة (ر) مطابقةً تمامًا لما قاله واستظهره، ولم يجيء فيها عنوانٌ مَّا قبلَ (وأنَّ قولَ الِإنسان: بعتُك كذا ...)، كما وقع في الطبعة السابقةِ تبعًا للأصولِ الأربعة والمطبوعة المحرَّفة، والصوابُ، هو الذي مشيتُ عليه في هذه الطبعة، فأكرم الله شيخَنا وأستاذَنا بالإحسانِ والرضوان على سَدادِ نظره.

كان إنشاءً ترتَّب عليه ما دَلَّ عليه من زوالِ العِصمة وتحريم المرأة. وكذلك جميعُ صُوَر الإنشاء تترتَّبُ على ألفاظِها مدلولاتُها وتَتبعُها، ولا يُتصوَّرُ ذلك في الخبر ألبتةَ.

والجواب عن السؤال الثالث

وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّالِثْ أنَّ اللفطَ الدالَّ على حُكم الحاكم: تارةً يكون خبرًا إِن قال: قد حَكمتُ بكذا في الصورة الفلانية، لأنَّ هذا اللفظَ يَحْسُن فيه التصديق والتكذيبُ (¬1)، بحسَبِ ما يُطَّلعُ عليه من حالِهِ وحُسنِ الظنّ به. ولا نَعني بالخبر إِلَّا ما يَحتمِلُ التصديقَ والتكذيب. وتارةً يكون أمرًا إِنشاءً للطلب إن قال: اشهَدُوا عليَّ بكذا، لكنه إِنشاءٌ للطلب من الشهود لأن يَشهدوا عليه، لا إنشاءٌ لحُكمِ الله تعالى، بل هو أمرٌ للشهود كسائر الأوامر الصادرة منه، كما لو قال للشهود: اجلِسوا للشهادة في المكانِ الفلاني، فليس في هذا شيءٌ من حُكمِ الله تعالى أنشأهُ الحاكم، بل هذا طَلبٌ له يَخُصُّه. فظهر أنَّ الحاكم على التقديرين لم يكن لفظه مُنْشئًا للحُكم في تلك الواقعة البتة، بل هو خبَرٌ عن إِنشائه الحُكمَ فيها، أو أمرٌ بتحمُّلِ الشهادة عنه، وأما الحكُم الشرعي ففي نفسه، وقائمٌ بذاته من كلامه النَّفساني، وغيرُهُ دالٌ عليه. نعَمْ قد يَقترن إِنشاءُ الحكم في نفسِه بما يدلُّ عليه، فيُوافِقُ وقتُ إِنشائِهِ وقتَ إِشهاده، وقد يقترقان زمنًا طويلاً وسنين كثيرة، بأن يَحكم في نفسِهِ بشيءِ ثم يُشهِدَ بعدَ ذلك بمُدَّةٍ طويلة. ¬

_ (¬1) قوله: (يَحسُنُ فيه التصديقُ والتكذيب)، أي يجوزُ فيه التصديقُ والتكذيب. والتعبيرُ هنا بلفظ (يَحسُنُ) غيرُ حَسَن.

والجواب عن السؤال الرابع

وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَال الرَّابِعْ أنَّ قولَ الحاكم: حَكمتُ بذلك، واشهَدوا عليَّ بأني حَكمتُ بذلك: ليس إِنشاءً للحكم في تلك الواقعة (¬1) كما تقدَّم (¬2). وأمَّا قولُ الشاهد عند الحاكم: أشهَدُ بكذا عندك، وبه يُرَتِّبُ الحاكمُ على قولِه ثبوتَ الواقعة (¬3): فهذا إِنشاءٌ للشهادة عند الحاكم لا يَحتمِلُ التصديق والتكذيب، ولو كانَتْ خبرًا لما جاز أن يُرتَّبَ عليها حُكمٌ من جهة الحاكم في تلك الواقعة، لأنه وَعْدٌ من الشاهد حينئذٍ بأنه يَشهدُ في المستقبل عند الحاكم في تلك الواقعة، والوعدُ بالشهادة لا يَترتب عليه إِلزامُ المشهود به. فظهر حينئذٍ أنَّ لفظَ أداءِ الشهادة إِنشاءٌ للشهادة، ولفظَ الحاكمِ في الإِشهاد أو الِإخبار وَكيفما تَصرَّفَ: ليس إِنشاءً للحُكم. فظهرَ الفرقُ بينهما، وأن قولَ الِإنسان: بِعتُك كذا، أو اشتريتُ منك كذا، وأنتِ طالق، أو أنتَ حُرٌّ، ونحوَ ذلك: من بابِ أداءِ الشهادةِ لا مِن باب إِشهادِ الحاكم، لأنها ألفاظٌ مُنْشِئةٌ لمدلولاتِها وأسبابٌ لها كأداء الشهادة، بخلافِ لفظِ إِشهادِ الحاكم إِنما هو إِخبارٌ صِرْف، أو طلَبٌ لتحمُّلِ الشهادة كما تقدَّم تقريرُه، فظهر الفرق. ¬

_ (¬1) وأولُ هذا الجواب هو من تمام الجواب عن السؤال الثالث لأن السؤال الرابع مفرَّعٌ عنه، فجعَلَهُ مقدمة الجواب عن هذا السُّؤَالُ. (¬2) قريبًا في ص 65. (¬3) في الأصول الأربعة (وفيه يُرتِّبُ)، وفي نسخة (ر): (فيُرتِّبُ)، فأثبته (وبه يُرتِّبُ).

والجواب عن السؤال الخامس

وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الخَامِسْ أنَّ اللفظ انقسم إِلى ما يَصلُحُ للإِنشاء في باب، ولا يَصلُحُ له في باب آخر. وتقريرُه: أنَّ اللفظَ الموضوع لِإنشاء الشهادة هو صيغةُ المضارع، بأن يقول الشاهدُ: أشهدُ. ولو نطَقَ بالماضي فقال: شَهِدتُ بكذا لم يكن إِنشاء، ولم يُرتِّب الحاكمُ عليه شيئًا. وفي العُقودِ المتعيِّنُ لها من اللفظ هو الماضي على العكس من الشهادة (¬1)، فيقول البائع: بعتُك هذه السِّلْعة بدرهم. ولو قال: أبيعُكَ هذه السِّلْعة بدرهم لكان وعدًا بالبيع لا بيعًا. وكذلك يقول المشتري: اشتريتُ بصيغة الماضي، ولو قال: أَشترِيها بكذا، بصيغةِ المضارع لكان ذلك وعدًا بأنه سيشتريها. وأما صِيَغُ الأوامِر نحوُ اشْتَرِها بكذا فليس إِنشاء (¬2). هذا ما يتعلَّق بصِيَغ الأفعال. وأما صِيَغُ أسماء الفاعلين فقد وُضِعَ اسمُ الفاعل للإِنشاء في الطلاق والعتاق، نحو أنتِ طالق، وأنتَ حُرّ. ولم يوضع للإِنشاء في العقود، نحو ¬

_ (¬1) إنما اختير لفظُ الماضي في العقود لدلالته على التحقُّقِ والثبوتِ، دون لفظ المستقبَل. (¬2) أي ليس إنشاءً للعقد، وإن كان لَفظُ الأمر يُعتبَرُ إنشاءً للطلب وليس من قبيل الخبر.

أنا بائع، وأنا مشترٍ وواهِبٌ ونحوُها. ولم يوضع أيضًا للإِنشاء في الشهادة، فلو قال: أنا شاهدٌ بكذا لم يكن إِنشاء، هذا في باب العقود والشهادات. وأمَّا بابُ القَسَم فيصحُّ الِإنشاءُ فيه بالماضي والمستقبلِ واسمِ الفاعل، نحو أقسمتُ بالله لأفعلَنَّ، وأُقسمُ بالله لأفعلنَّ، وأنا مُقسِمٌ عليك بالله لتفعلَنَّ. فتلَّخص أنَّ الفعل الماضيَ للإِنشاء في العقود فقط، والمضارعَ للإِنشاء في الشهادات فقط، والقَسَم له المضارعُ والماضِي وغيرُه، فهو أعمُّ الأبوابِ في صِيَغ الإِنشاء.

والجواب عن السؤال السادس

وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ السَّادِسْ أنَّ حُكمَ الحاكم وإِن كان حُكمًا لله تعالى، فإِنه لا يُتصوَّر فيه الأحكامُ الخمسة، فإِنَّ مقصودَه إِنما هو سَدُّ باب الخصومات، وردُّ الظُّلامات (¬1). بل يُتصوَّر فيه ما يكون سببًا لذلك (¬2) وهو (¬3): الوجوبُ، كالحكم بوجوب النفقة للمطلَّقةِ البائن عند مَنْ يراه. والتحريمُ، كالقضاء بفسخ النكاح، فإِنَّ معناه إِبطالُ ما وقع مما يُتوهَّمُ أنه عَقْدٌ يُسبِّبُ الِإباحةَ (¬4)، وردُّ المرأة إِلى ما كانت عليه من التحريم. والِإباحةُ، نحوُ القضاء بردِّ الأرضِ مُطلَقةً مَوَاتًا مُباحةً بعدَ زوالِ الإِحياء عند مالكِ ومَنْ يَرى رأيَه. وكذلك الصَّيْدُ والنَّحْلُ والحَمَامُ إِذا توحَّشَ ونحوُها فإِنها إِباحات. وأما الندبُ والكراهةُ فإِنما يقَعُ من الحاكم على سبيل الفتوى لا على سبيل الحكم، نحوُ أمْرِهِ بالمُتعة للمطلَّقةِ - عند الحاكم المالكي - ونحوِها. فإِذا قال الحاكم: الأحسَنُ لكَ أن تفعلَ كذا (¬5)، أو يُكرَهُ لكَ أن تفعل كذا، فإِنما هو فتوى من الحاكم لا حُكمٌ يَدْرَأُ الخِصام. ¬

_ (¬1) في نسخة (ر): (ودَرْءُ الظُّلامات). (¬2) أي لسدِّ بابِ الخصومات ورَدِّ الظلامات. (¬3) أي السَّبَبُ. (¬4) في نسخة (ر): (أنَّه سَببٌ للِإباحة). (¬5) لفظة (كذا) هنا ليست في الأصول الخمسة. زدتها للإِيضاح.

وسبَبُهُ أنَّ النَّدْبَ والكراهَةَ لا يَفصِلان خِصامًا. والحكمُ إِنما شرعه الله للحُكَّام لدَرْءِ الخِصام، ولن يندفع الخصامُ إِلَّا بالإِلزامِ أو الإطلاق كما تقدَّم (¬1). فيَبطُلُ النزاعُ في الزوجاتِ والنفقاتِ والأراضي وغيرِها (¬2)، لأنه (¬3) جَزْمٌ من الحاكم. وإِذا جَزَم الحاكم بحكم وحَكَمَ به لا يُنقَض. والنَّدْبُ والكرَاهَةُ حقيقتهُما التردُّدُ بين جواز الفعلِ والترك، فلا تندفع الخصومة. ولا يقال: الِإباحةُ أيضًا متردّدةٌ بين جوازِ الفعل وجوازِ الترك، وهذا هو حقيقتُها، لأنَّا نقول: نَعني بالإِباحة الإِطلاقَ المستلزِمَ لحسم مادَّة النزاع ممن تقدَّم ملكُه، فلا يَبقَى له حُكمُه بعد ذلك (¬4)، ولا حُجَّةٌ يَمْنعُ بها غيرَهُ من الإِحياء، بل يصيرُ هو وغيرُه سواءَ في ذلك المكانِ وذلك الصَّيْدِ ونحوِه. ¬

_ (¬1) في ص 33 - 34. (¬2) في نسخة (ر): (فيبطل محلُّ النزاع ...). (¬3) أي الحُكم. (¬4) في نسخة (ر): (فلا تبقى له كَلِمةٌ بعد ذلك).

والجواب عن السؤال السابع

وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ السَّابِعْ أنَّ حُكمَ الحاكم لا يجبُ أن يَتَّصل به اللفظ، بل تأخُّرُ الإِشهادِ عن الحكم لا يَقدح، لأنه إِنما هو إِخبار عما فَعَله في نفسه، بخلاف لفظِ المُطَلِّقِ والمُعْتِقِ لا بُدَّ من مُقارنتِه للإِنشاء في النفس، لأنَّ صاحب الشرع جَعَل مجموع الأمرينِ أعني النَّفْسانيَّ واللّسانيَّ سببًا للطلاق على مشهور مذهب مالك. ومَنْ لا يَرى الكلامَ النفسانيَّ معتبَرًا في اللساني كَفَى عنده اللّسانيُّ فقط (¬1). فعلى هذا المذهبِ يَسقطُ البحثُ في المقارنة، لإنفرادِ اللفظ حينئدٍ عند هذا القائل، والمقارنَةُ لا تكون إِلَّا بين شيئين، واللفظُ وحده حينئدٍ عند هذا القائل: كافٍ، وهو غيرُ مشهورِ مذهب مالك. وقولُ جماعة من العلماء: (إِن صريحَ الطلاقِ كاف لا يُحتاجُ معه إِلى أمير آخر): أي في النَّفْس. فظهر الفرقُ بين لفظِ الحاكم بعدَ الحكم وألفاظِ الطلاقِ وغيرِها، وأنَّ لفظَ الحاكم لا يُشتَرطُ فيه المقارنة، بخلاف غيره. وكذلك كتابةُ الحاكم إِلى حاكم آخر بما حَكم به قد تكون عقيبَ حُكمه، وقد تتأخرُ عن الحُكم، لأنها إِعلام، والإِعلامُ والإِخبارُ قد يَتأخَّرُ عن المخبَرِ عنه (¬2). ¬

_ (¬1) في نسخة (ر): (ومن لا يرى الكلامَ النفسانيِّ متعيِّنًا في اللساني ...). (¬2) في نسخة (ر): (عن المخبَرِ به).

والجواب عن السؤال الثامن

وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّامِنْ أنَّ العلماء لم يتفقوا على وقوع الإِنشاء في جميع الصُّوَر، بل اتفقوا عليه في القَسَم. فإِذا قال القائل: أقسمتُ بالله لتفعلَنَّ، لا يَحْسُن أن يقال له: صَدَقتَ ولا كَذَبت إِجماعًا، ولا يُحتاجُ في صدقِ هذه الصيغة إِلى تقدُّم قَسَمٍ منه، بل هو مُنشِئٌ للقَسَمِ بقوله: أقسمتُ. وهذا لاخلاف فيه، نَصَّ على ذلك أئمة العربية وغيرُهم. وأما صِيَغُ العقود فقالت الشافعية والمالكية: أنها إِنشاء للبيعِ وغيرِه. وقالت الحنفية: هي إخبارات على أصل وَضْعِها في اللغة (¬1)، مُحتجِّين بأنَّ أصلَ هذه الصِّيَغ أن تكون خبَرًا، وإِنما الشرعُ (¬2) يُقدَّرُ فيها إِذا نَطَق بها ¬

_ (¬1) قال شيخ الحنفية الإِمامُ المرغيناني في كتابه "الهداية" في كتاب النكاح 2: 344 بحاشية "فتح القدير": "النكاحُ يَنعقدُ بالإِيجاب والقبول، بلفظين يُعبَّر بهما عن الماضي، لأن الصيغة وإن كانت للِإخبار وَضْعًا فقد جُعلَتْ للإِنشاء شرعًا". قال الكمالُ بن الهمام في "فتح القدير": "والمرادُ بقوله: (جُعِلَتْ للإِنشاء شرعًا) تقريرُ الشرعِ ما كان في اللغة، وذلك لأنَّ العقد قد كان يُنشَأ بها قبلَ الشرع فقرَّره الشرع. وإنما اختِيرَتْ للإِنشاء لأنها أدلُّ على الوجود والتحقق، حيث أفادَتْ دخول المعنى في الوجود قبلَ الإِخبار، فأُفيدَ بها ما يلزَمُ وجودُه قبلَ وجود اللفظ". وأفاد كلامُ ابن الهمام هذا أنه لا خلافَ بين الحنفية وغيرِهم في أن المراد بصِيَغِ العقود إنشاءُ الِإخبار، على خلاف ما يفيده كلام القرافي هنا - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. (¬2) أي حُكمُ الشرع بأنها للإِنشاء. أفاده شيخنا الشيخ ناجي أبو صالح رحمه المولى.

المتكلِّم بمدلولاتها (¬1)، قبلَ نطقِه بالزمنِ الفَرْد، لضرورةِ تصديقه (¬2). ¬

_ (¬1) هكذا في الأصول الخمسة جميعها، والصواب: بدَوَالِّها. أفاده شيخنا الشيخ ناجي أبو صالح - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. (¬2) الصواب أن الحنفية لا يقولون في صيَغ العقود: إنها خبر، بل هي إنشاء، كما سبق بيانه - تعليقًا في ص 72 - في كلام الإِمام ابن الهمام. ثم تعميمُ المؤلف بأن الحنفية يُقدِّرون في تلك الصيغ ضرورةَ تصديقها: غيرُ سديد. إذ الحنفية إنما يرون التقدير في بعض صِيَغ الكلام تصحيحًا له، وذلك ما يسمونه في مباحث الدلالة بدلالة الاقتضاء، وهي دلالةُ اللفظ على لازمٍ متقدمِ يتوَقَّفُ على تقديره صِدقُ الكلام أو صحَّتُه شرعًا أو عقلاً. ويُسمُّون ذلك المقدَّر: المقتضَى. والمقتضَى ما يُقدَّر ضرورةَ تصحيح الكلام. وهو على ثلاثة أضرب: 1 - ما يُقدَّرُ ضرورةَ صدقِ الكلام الخَبَري، كقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "رُفعَ عن أمَّتي الخطأُ والنسيانُ وما استكرهوا عليه". فإن ظاهره أنه لا يوجد من أمته خطأ ولا نسيان ولا عملٌ أو قولٌ مستكرَةٌ عليه. والواقع أن هذه الأمور قائمة غيرُ منتفية، فلا بُدَّ إذن لصدق الخبر من تقديرٍ محذوفٍ، وهو لفظ (إثم) أو (حُكم) ليستقيم الكلام، ويكون المعنى: (رُفعَ عن أمتي إثمُ الخطأ، أو حُكمُ الخطأ ...). 2 - ما يُقدَّر ضرورةَ صِحَّةِ الكلام عقلاً، نحو قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، أي اسألْ أهل القرية، فإن القرية - وهي الأرض التي عليها أبنية للسُّكنى - لا تُسأل عقلاً، وإنما يُسأل أهلُها. وكذا قول الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}. أي فَلْيَدْعُ أهلَ ناديهِ. فإنَّ النادي - وهو المكان الذي يَجلِسُ فيه القوم ويتحدثون - لا يُدعَى عقلاً، وإنما يُدعى من يكونون فيه. 3 - ما يُقدَّرُ ضرورةَ صِحَّةِ الكلام شرعًا، كقولك لآخر: تَصدَّقْ بغَلَّةِ بُستانِك هذه عني بألف على الفقراء، وأَهْدِ قلمَك هذا إلى فلان عني بكذا، ففي هاتين الصيغتين توكيلٌ من المتكلَّم الموكَّل للمخاطب بالتصدُّق والإِهداء؛ والتصدُّق والإِهداء من الموكَّل لا يصح شرعًا إلَّا إذا كان المتصدَّقُ به أو المُهدَى مملوكًا له، فإذا قَبِلَ المخاطَبُ الوكيلُ هذا التوكيلَ منك تضمَّنَ ذلك سَبْقَ قبوله بيعَ غلَّةِ البستان لك وبيعَ القلَم الذي أشرتَ إليه، كما تضمَّن ذلك سَبْقَ نقلِ مِلكيةِ الغلَّةِ والقلم إليك، فيكون البيعُ ثابتًا بطريق الإقتضاء. =

والتقديرُ أولى من النقل لوجهين: أحدُهما. أنَّ النقل يَحتاجُ إِلى غلبة الاستعمال حتى يُنسَخَ الوضعُ الأوَّل ويَحْدُثَ وضع آخر، والتقديرُ يكفي فيه أدنى قرينة، فهو أولى مما فيه تلك المقدِّماتُ الكثيرة، وأولى مما فيه نَسْخ. وثانيهما: أنَّ التقديرَ متفَقٌ عليه في الشريعة بين العلماء، وهو عامّ في الشريعة، كما بيَّنتُه في كتاب "الأُمْنِيَّة في إِدراك النيَّة" (¬1)، والنقلُ مختلَفٌ فيه، والمتفَقُ عليه أولى من المختلَفِ فيه. ¬

_ = هذا ما يُسمَّى عند الحنفية بالمقتضَى، وما عداه يُسمَّى محذوفًا أو مضمرًا. أمَّا مثلُ قول القائل: أنتِ طالق، فهو إنشاءٌ لا تقديرَ فيه. جاء في "التحرير" لإبن الهمام وشرحِه "التقرير" لإبن أمير حاج من كتب أصول الحنفية 1:219 "أنت طالق: إنشاءٌ شرعًا يقع به الطلاق، ولا مقدَّر أصلاً، لأن التقدير فرْعُ الخبريَّة المحضة التي يَثبُتُ التقدير باعتبارها، ولا تصحُّ فيه الجهتان: الخبرية والِإنشائية، لتنافي لازِمَي الخبر والِإنشاء، أي احتمالِ الصدق والكذب في الخبر، وعدمِ الاحتمال في الإِنشاء. والثابتُ لقوله: أنتِ طالق لازمُ الإِنشاء، فهو إنشاءٌ من كل وجه". انتهى. ومن هذا الذي ذكرته يبدو لك ما وقع في كلام المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في بيان مذهب الحنفية من تساهل وتعميم. والله تعالى أعلم. (¬1) توجد نسخة مخطوطة منه في المكتبة الأحمدية ببلدنا حلب، التي آلت هي وغيرها من المكتبات الموقوفة إلى دار مكتبات الأوقاف الإِسلامية بحلب في المجموع ذي الرقم 306 عَقِبَ كتابه هذا الذي أنشُرُه: "الإِحكام" في 37 صَفْحة، وهو في قدر نصف كتاب "الإِحكام" هذا. ومكتوب بالقلم النفي كُتِبَ به "الإِحكام" وَفَرَغ مِن نسخهِ في سنة 738 كاتبُهُ العبدُ الفقير إليه تعالى عبد الرحمن بن عباس بن عبد الرحمن. كما جاء في آخره. وتوجد منه نسخة ثانية في "الخزانة العامة" في الرباط بالمغرب الأقصى في مجموع رقمه 1348، مكتوبة بخط مغربي، فُرغَ منها سنة 1327، ونسخة في مجموع برقم 2657 د، ورابعة برقم 4745. وأُخِذَتْ مكتبات الأوقاف الحلبية كلها! لمكتبة الأسد بدمشق.

والجواب عن السؤال التاسع

وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ التَّاسِعْ أنَّ الحقَّ في هذه المسألة ما قاله الشافعية والمالكية من أنها منقولة (¬1)، لأنه المتبادِرُ في العُرف عند سماعها، فلا يَفهمُ سامع من قولِه: بعتُ واشتريتُ إِلَّا النَّقلَ، وأنَّ المتكلِّم أنشأ البيعَ بها (¬2). ¬

_ (¬1) أي من أصلها الذي هو الخبر إلى المعنى الاستعمالي وهو الإِنشاء. (¬2) وهذا رأي الحنفية أيضًا في المسألة كما قدَّمتُ نقلَه تعليقًا في ص 72 آنفًا. وقد رأيتُ للإِمام فخر الدين الرازي شيخ الشافعية المفسِّر المتوفى سنة 606 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في كتابه العظيم "المحصول في علم الأصول" كلامًا جيدًا يتصل بهذا الموضوع، استحسنتُ نقلَه وتعليقَه لقوته ومتانته وحُسنه. قال - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في الباب السادس في الحقيقة والمجاز في الكلام على الحقيقة الشرعية: "الفرعُ الرابعُ في أنَّ صِيَغَ العقود إِنشاءات، أم إِخبارات؟ لا شك أن قوله: نَذرتُ وبِعتُ واشترَيتُ، صِيَغُ الِإخبار في اللغة، وقد تُستعمَلُ في الشرع أيضًا للإخبار. وإنما النزاعُ في أنها حيث تُستعمل لإستحداثِ الأحكام إِخباراتٌ أم إِنشاءات؟ والثاني هو الأقربُ لوجوه: الأول: أن قوله: أنتِ طالق، لو كان إِخبارًا: لَزِمَ إما أن يكون إِخبارًا عن الماضي، أو الحال، أو المستقبل، والكل باطل، فبطَلَ القولُ بكونها إِخبارًا. أَمَّا أنه لا يمكن أن يكون إِخبارًا عن الماضي والحاضر، فلأنه لو كان كذلك لامتَنَع تعليقُه على الشرط، لأن التعليقَ عبارة عن توقيف دخوله في الوجود على دخولِ غيرِهِ في الوجود، وما دَخَل في الوجود لا يمكن توقيفُ دخولهِ في الوجود على دخولِ غيره في الوجود. ولمَّا صحَّ تعليقُه على الشرط، بطَلَ كونُه إِخبارًا عن الماضي أو الحال. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأَمَّا أنه لا يمكن أن يكون إِخبارًا عن المستقبل فلأن قوله: أنتِ طالق - في دلالته على الِإخبار عن صيرورتها موصوفةً بالطلاق في المستقبل - ليس أقوى من تصريحه بذلك، وهو قولُه: ستصيرين طالقًا في المستقبل، لكنه لو صَرَّح بذلك، فإنه لا يقعُ الطلاق، فما هو أضعَفُ منه - وهو قولُه: أنتِ طالق - أولى بأن لا يقتضِيَ وقوعَ الطلاق. الثاني: أن هذه الصِّيَغ لو كانت إِخبارات، لكانت إما أن تكون كذبًا أو صدقًا. فإن كانت كَذِبًا: فلا عبرة بها، وإن كانت صِدْقًا فوقوعُ الطالِقِيَّةِ إما أن يكون متوقِّفًا على حصولِ هذه الصِّيَغ، أو لا يكون. فإن كان متوقِّفًا عليه: فهو مُحال، لأن كونَ الخبر صِدقًا يُتوقَّفُ على وجودِ المُخْبَرِ عنه، والمُخبَرُ عنه هاهنا هو: وجودُ الطالِقِيَّة، فالإخبارُ عن الطالقية يَتوقفُ كَوْنُه صِدقًا على حُصولِ الطالِقِيَّة، فلو توففَ حصولُ الطالقية على هذا الخبر، لَزِمَ الدُّورُ، وهو مُحال. وإن لم يكن متوقفًا عليه، فهذا الحكمُ لا بد له من سبب آخر، فبتقديرِ حصولِ ذلك السبب: تَقَعُ الطالِقِيَّةُ وإن لم يوجد هذا الخبر، وبتقدير عدمِهِ: لا توجد وإن وُجِدَ هذا الِإخبار، وذلك باطل بالإِجماع. فإن قيل: لمَ لا يجوز أن يكون تأثيرُ ذلك المؤثِّر في حصول الطالِقية، يَتوقَّفُ على هذه اللفظة؟ قلتُ: هذه اللفظة إذا كانت شَرْطًا لتأثير المؤثِّر في الطالِقية: وجَبَ تقدُّمُها على الطالِقِيَّة، لكنَّا بيَّنا أنَّا متى جعلناها خَبَرًا صِدقًا: لزم تقدُّمُ الطالِقِية عليها، فيعودُ الدُّوْر. الثالث: قولُه تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، أمْرٌ بالتطليق، فيجبُ أن يكونَ قادرًا على التطليق، ومقدورُه ليس إلَّا قولُه: طلَّقتُ، فدلَ على أن ذلك مؤثِّر في الطالِقية. الرابع: لو أضاف الطلاقَ إلى الرجعيَّة وَقَع، وإن كان صادقًا بدون الوقوع، فثَبت أنه إنشاءٌ لا إخبار، والله أعلم".

ومتى حَصَل التبادُرُ كان الحقُّ أنَّ اللفظ موضوعٌ لما يَتبادَرُ إِليه الذهنُ لأنه الراجح، والمصيرُ إِلى الراجح واجبٌ وإِن كان على خلافِ الأصل. ألا ترى أنَّ المجاز على خلاف الأصل، وإِذا رَجَح بالدليل وَجَب المصيرُ إِليه. وكذلك التخصيصُ والِإضمارُ وسائرُ الأمور التي هي على خلاف الأصل، متى رَجَحتْ وَجَب المصيرُ إِليها إِجماعًا، فيجبُ المصيرُ إِلى النقلِ لأنه الراجحُ في العُرف.

والجواب عن السؤال العاشر

وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ العَاشِرْ أنَّ كونَ الصّيغَة للإِنشاء: تارةً تكون بوضع العَرَب كالقَسَم، وتارةً تكون بوضع أهل العُرف كصِيَغ الطلاق وغيرها (¬1). ولذلك فإِن صريحَ الطلاق (¬2) قد يُهجَرُ فيصيرُ كناية، وقد تَشتهرُ الكنايةُ فتصيرُ كالصريح للإِنشاء، ولذلك قلنا: إِن قول القائل: أنتِ طالق صريحٌ مستغنٍ عن النيَّة، وأنت مُطْلَقة (¬3) ليس صريحًا بل لا بُدَّ فيه من النيَّة مع اشتراك الصيغتين في الطاء واللام والقاف، وما ذاك إِلَّا أنَّ أهل العرف وضعوا أنتِ طالق للإِنشاء، وبَقَّوْا أنتِ مُطْلَقة (¬4) على وَضْعِه اللغوي خَبَرًا فلم يَحصُل به طلاقٌ إِلَّا بالقصد لذلك. وأمَّا القَسَم فلم يزل في الجاهلية والِإسلام وجميعِ الأيام لِإنشاء القَسَم، فظهر أن الوضع فيهما مختلِف، وأنَّ أحدَهما لُغوي والآخَرَ عُرفي. وأمَّا كونُ الكلام النَّفساني إِنشاءً في حكمِ الحاكم والطلاقِ والعَتاقِ وغيرِ ذلك من مَوارد الإِنشاء، فلا يَدخله وضعٌ لا عُرفي ولا لغوي، فإِنَّ ¬

_ (¬1) مقدِّمةُ هذا الجواب هي من تمام الجواب عن السؤال التاسع، لأن السؤال العاشر مُفرَّعٌ عنه، فجعَلَها مقدّمةً للجواب عنه. (¬2) جاء في الأصول الأربعة كلها: (ولذلك أنَّ ...) فأضفتُ لها الفاء. وجاء في نسخة (ر): (وكذلك أنَّ صريحَ الطلاق ...). (¬3) جاء في نسخة (ر)؛ (وأنت مُنْطَلِقة). (¬4) جاء في نسخة (ر): (وأنت مُنْطَلِقة).

الأوضاع لا تَدخلُ في النفساني، وإِنما تَدخل في الألفاظ. والخبَرُ والطَّلَبُ والِإنشاءُ وغيرُها في الكلام النفساني لذات الكلام النفساني، لا بوضع واضع. ولذلك كان عند جميع الأُمَم من العرب والعجم وجميعِ أربابِ الألسنةِ المختلِفَة الخبَرُ والطلبُ والتخييرُ وجميعُ أنواع الكلام في أنفسِها سواءً، لا تَختلفُ باختلافِ لغاتها وأطوارِها، فدَلَّ ذلك على أنها لِذاتِها كذلك، لا لوَضْعِها. كما أنَّ أنواعَ الاعتقادات والشكوكِ والظنون وجميعَ أحوال النفوس في جميع الأمم سواءٌ لا تَختلف. وما ذاك إِلَّا أنها لِذاتِها كذلك، كما نقولُه في جميع خصائص الأجناس من السَّواد والبياض والطُّعوم والروائح: إِنها غيرُ مُعلَّلة، بل لا يُمكِن أن تكون إِلَّا كذلك لذواتها، وإِن كانت لا تقَعُ جميعُها إِلَّا بقدرة الله تعالى. ولذلك يقول العلماء: إِنَّ انقلاب الحقائقِ مُحال، ولو كانت بالوَضْع لكان انقلابُها جائزًا، لأن ما بالجَعْل يَقبلُ النقلَ والتحويل. فكمَلَت الأسئلة بهذه العَشَرةِ خمسةَ عَشرَ سؤالًا.

السؤال السادس عشر

السُّؤَالُ السَّادِسُ عَشَرْ ما الفرقُ بين حُكمِ الحاكم في المُجمَعِ عليه، فإِنه لا يُنقَض؟ وبين حُكمِه في المختلَفِ فيه، فإِنه لا يُنقَض أيضًا؟ والِإجماعُ في المسألتين، فهل المانعُ واحدٌ أو مختلِف؟ فإِن كان الإِجماعَ فهو واحد، وإِن كان ثَمَّ مانعٌ آخرُ فما هو؟ جَوَابُهُ أنَّ الِإجماع مانعٌ فيهما، واختَصَّ حُكمُه في مسائلِ الخلاف بمانعٍ آخر. وتقريرُه: أنَّ الله تعالى جعَلَ للحُكَّام (¬1) أن يحكموا في مسائل الإجتهاد بأحَدِ القولين، فإِذا حكموا بأحدهما كان ذلك حُكمًا من الله تعالى في تلك الواقعة. وإِخبارُ الحاكم بأنه حكَمَ فيها: كنصّ من الله - عَزَّ وَجَلَّ - ورَدَ، خاصٍّ بتلك الواقعة، مُعارِضٍ لدليل المخالِفِ لِما حَكَم به الحاكمُ في تلك الواقعة. مِثالُه قال مالك: دلَّ الدليلُ عندي على أن القائلَ لامرأةٍ: إِن تزوَّجتكِ فأنت طالقٌ ثلاثًا، فإِذا تزوَّجَها طلَقَتْ ثلاثًا، ولا يصحُّ له عليها عقدٌ إِلَّا بعدَ زَوْج. فاتَّفق أن ذلك القائل تزوَّجها وأقام معها على مذهب الشافعي وطلَّقها واحدةً، وبانَتْ منه بانقضاء العِدَّة، ثم عَقَدَ عليها، فرُح ذلك العقدُ لحاكم ¬

_ (¬1) وقع في بعض الشيخ هنا: (أن الله تعالى لمَّا جَعَلَ ...). ولفظة (لمَّا) ساقطة من نسخة (خ) و (ر)، وهما الصواب.

شافعيٍّ فحَكَمَ بصحته: صار هذا نصَّاً مِن قِبَل صاحب الشرع في خصوص هذا الرجل الحالف، دون غيرِهِ من الحالفين الذين لم يتصل بهم حكمُ حاكم، لأنَّ الله تعالى قرَّره بالِإجماع، وما قرَّره الله تعالى بالِإجماع فقد دلَّ دليلٌ قطعي مِن قِبَل صاحب الشرع عليه. فتَحقَّق التعارُضُ بَيْنَ الدليلِ الدالِّ عند مالك على أنَّ أنكحة المُعَلِّقين على هذه الصُّورة باطلة، وبَيْنَ هذا الدليل الواردِ في هذه الصورة، وهو أخصُّ من الدليل العام الذي لمالك، لتناوله جميع الصور وهذا يَتناولُ هذه الصُّورةَ خاصّة. ومتى تعارَض الخاصُّقُ والعامُّ يُقدَّمُ الخاصُّ على العام، فلو قلنا: يُنقَضُ هذا الحكمُ لَزِمَ مخالفةُ هذه القاعدة أيضًا مع مخالفةِ الإِجماع، وكذا يَبْطُلُ النَّصُّ الخاصُّ المُعارِضُ للدليل العام، وهو محذورٌ غيرُ محذورِ الإِجماع. فظهر حينئذٍ أنَّ في مسائل الخلاف - إِذا حكَمَ فيها الحاكم - مانِعَينِ من النقص، وفي المُجمَعِ عليه مانعٌ واحدٌ. ومِن العَجَب كيف صار المختلَفُ فيه أقوى من المجمَع عليه؟ وظهر أيضًا أن عدَمَ نقضِ حُكمِ الحاكم في مسائل الخلاف راجعٌ إِلى قاعدةٍ أصولية، وهي تقديمُ الخاصّ على العامّ من الأدلَّة الشرعية. وهذا موضعٌ حسَنٌ فتَنَبَّهْ له.

السؤال السابع عشر

السُّؤَالُ السَّابِعُ عَشَرْ إِذا حَكم الحاكم بمُدْرَكٍ مختلَفٍ فيه (¬1)، كشهادة الصّبيان، أو الشاهدِ واليمين، أو العوائدِ المختلَفِ في اعتبارها، كعادةِ الأزواج في النفقة، هل هي عادةٌ تُصَيّرُ القولَ قول الزوج أم لا؟ وهل يكون ذلك حُكمًا بذلك المُدرَك أم لا؟ وهل لأحدٍ نقضُهُ لبُطلانِ المُدرَكِ عنده ويقول: هذا الحكمُ عندي بغير مُدرَك فإِنَ شهادةَ الصبيان والعَدَمَ سواء، والحكمُ بغير مُدرَك يُنقَضُ إِجماعًا، فأنقُضُ هذا الحكم؟ أم ليس لأحدٍ ذلك؟ جَوَابُهُ أن المُدْرَك المختلَف فيه قسمان: تارةً يكونُ في غاية الضعف، فهذا يُنقَضُ قضاءُ القاضي إِذا حَكَمَ به، لأنه لا يَصْلُح أن يكون مُعارِضًا للقواعد الشرعية، فيكون هذا الحُكم على خلاف القواعد، وما كان على خلاف القواعد الشرعية من غير مُعارِضٍ يُقَدَّمُ عليها نُقِضَ إِجماعًا. وإِن كان المُدْرَك متقاربًا مع ما يُعارِضُه في الشريعة: فهاهنا خِلافان أحدُهما في المُدرَك، والآخَرُ في الحكم المترتب عليه. فإِذا حَكَم الحاكم ¬

_ (¬1) سبق تعليقًا في ص 35 ضبطُ لفظ "المُدْرَك" فانظره. ووقع في نسخة (ر) هنا فقط: (بمدلولٍ مختلَفٍ فيه). وهو تحريف عن (بمُدْرَك) كما تكرَّر فيها على الصواب.

بذلك الحكم الذي يقتضيه ذلك المُدرَكُ امتَنَع نقضُ ذلك الحكم، لاتصال حكم الحاكم به. وليس حكمُه بأحدِ القولين في الحكم حكمًا منه بأحدِ القولين في المُدرَك، ولو كان كذلك لامتنع الخلافُ بعد ذلك في الشاهد واليمين، لكون بعض الحكام حكَم به، لكنه لا يرتفع الخلافُ في هذه المداركِ أبدًا إِلَّا أن ينعقدَ إِجماعٌ في عصر من الأعصار على أحدِ القولين فيها. فظهر حينئذٍ أنَّ الحكم بالمُدْرَكِ المختلَفِ فيه ليس حكمًا بالمُدْرَك، بل بمقتضاه. ويُوضحهُ أن الحاكم لم يقصد الإِنشاء في نفسه إِلَّا في إِثرِ ذلك المُدرَك، لا في ذلك المُدرَك، بل القضاء في المدارك مُحال، لأنَّ النزاع فيها ليس من مصالح الدنيا بل من مصالح الآخرة (¬1). وتقريرُ قواعدِ الشريعة وأصولِ الفقه: كلُّهُ من هذا الباب، لم يَجعل الله تعالى لأحدٍ أن يَحكمَ بأحد القولين فيه ويُعيّنَه بالحكم (¬2)، بل إِنما يَجعَلُ له أن يُفتي بأحد القولين، والفُتْيا لا تَمنَعُ خصمَهُ أن يُفتي بما يراه أيضًا، بخلاف الحُكم يَمنَعُ خصمَه من مذهبه، ويُلجئهُ إِلى القول المحكوم به. وقولُهُ (¬3): (إِنَ الحاكم حكَمَ بغير مُدْرَك): ممنوعٌ، بل كلُّ مُدرَكٍ مختلفٍ فيه اختلافًا متقاربًا، كلا القولينِ في ذلك المُدرَك معتَبرٌ شرعًا عند ¬

_ (¬1) تقدم للمؤلف بيانُ هذا في ص 37 فانظره. (¬2) تقدم تعليقًا في ص 36 - 37 إيضاحُ هذا المعنى عن المؤلف وابن تيمية - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -. (¬3) أي قولُ السائل كما تقدم فحواه في نصّ السؤال السابع عشر في ص 82.

مَنْ رآه مِن حاكمِ أو مُفْتٍ، فلا معنى لقوله: (حكَمَ بغير مُدرَك)، بل إِنما يصحُّ ذلك إِذا حكمَ بما هو في غاية الضعف كما تقدم (¬1)، أمَّا في المُدرَك المتقاربِ الخلاف فلا. ¬

_ (¬1) قريبًا في ص 82.

السؤال الثامن عشر

السُّؤَالُ الثَّامِنُ عَشَرْ هل يُتصوَّرُ أن يَحكمُ الحاكمُ بحكمٍ مختلَفٍ فيه والمُدرَكُ مُجمَعٌ عليه، أم لا يُتصوَّرُ أن يَحكم بحكمٍ مختلفٍ فيه إِلَّا لِمُدركَينِ مختلِفَين متعارضَين لأنه المتصوَّر؟ وكيف يكون الحكمُ مختلفًا فيه والمُدرَكُ متفقٌ عليه؟ بل إِن اتفَقَا (¬1) على المُدرك اتفقا في الحكم. جَوَابُهُ نعَمْ يُتصوَّرُ أن يَحكم بحكمٍ مختلَفٍ فيه والمُدْرَكُ متفَق عليه، وأن يَحكم بحكمٍ متفَقٍ عليه والمُدرَكُ مختلَف فيه طردًا وعكسًا. لأنَّ المُدرَك إِن أُريدَ به ما يَعتمدُ عليه الحاكمُ من الحجاج كالبيِّنةِ ونحوها، دون أدِلَّةِ الفتاوى كالكتاب والسُّنَّة: يجوزُ أن يكون المُدرَكُ مجمَعًا عليه والحكمُ مختلفًا فيه، كما إِذا شَهِدَ عنده عَدْلانِ بالرضاع بين الرجل وامرأته بمَضَّةٍ واحدة، أو أنه علَّقَ طلاقَ امرأته قبل العقد عليها، فإِنه يَحكمُ بفَسْخِ النكاح وإِبطالِه. وهذا الحكمُ في الصورتين مختلَفٌ فيه، والحُجَّةُ وهي الشاهدان مُجمَعٌ عليها. وعكسُهُ تكون الحُجَّة مختلَفًا فيها والحكمُ متفق عليه نحوُ حكمِه بالشاهدِ واليمين في القِصاصِ في الجِراح، فإِنَّ القصاص في الجراح متفقٌ ¬

_ (¬1) أي كلٌّ من المجتهدَينِ المختلفين في الحكم.

عليه، ولكنْ إِثباتُهُ بالشاهدِ واليمينِ أكثرُ العلماءِ على مَنْعه، وهو مشهورُ مذهبِ مالك - رَحِمَهُ اللهُ -. فقد تُصوِّرَ الأمرانِ في المُدرَكِ بمعنى الحُجَّة. وأما إن أُريد بالمُدرَكِ الدليلُ الذي هو مستند الفتاوى عند المجتهدين: فقد يكون الحكمُ مختلَفًا فيه والمُدرَكُ متفقًا عليه، ويقَعُ الخلافُ: إِمَّا لأنه دَلَّ عند الخصم على نقيضِ ما دل عليه عند الآخر، وإِمَّا لقوله بمُوجَبِه (¬1)، وإمَّا لإِعتقادِهِ نَسْخَه، أو أنه معارَضٌ بما لا يراه الآخَرُ مُعارِضًا له. كما يَحكمُ الحنفيُّ ببطلان وقفِ المنقول (¬2)، بناءً على قولِه تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} (¬3). والوقفُ عنده سائبة، مع أنَّ الكتاب العزيز متفَقٌ على كونه حُجَّة. ويحكمُ الشافعيُّ بصحةِ استمرار نكاحِ المُعَلِّق قبلَ الملك بناء على قوله - صلى الله عليه وسلم - "الطَّلاقُ لمن مَلَكَ السَّاق" (¬4). وبفَسْخِ البيع بناءً على خيارِ المجلس مع الإتفاقُ على الحديث فيه، ونظائرهُ كثيرة. ¬

_ (¬1) أي بظاهره كما في اختلاف الشافعي والحنفي في متروك التسمية عمدًا. (¬2) بطلانُ وقف المنقول قولٌ في المذهب الحنفي، وليس هو المذهبَ كما يقتضيه إطلاقُ كلام المؤلف هنا، بل المذهبُ جوازُه على تفصيل فيه، يُعلم بمراجعة كتاب الوقف من كتب الحنفية. (¬3) من سورة المائدة، الآية: 103. (¬4) رواه ابن ماجه في "سننه" 1: 673 عن ابن عباس، والدارقطني في "سننه" ص 440 عن ابنِ عباس وعصمةِ بنِ مالك - رضي الله عنهما -. ولفظُ ابن ماجه: "قال ابن عباس: أتَى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال: يا رسول الله، إن سَيِّدي زَوَّجني أمَتَه، وهو يُريد أن يُفرِّق بيني وبينها؟ قال: فصَعِدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبَر فقال: يا أيها الناس، ما بالُ أحدِكم يُزَوِّجُ عبدَه أمَتَه، ثم يريدُ أن يُفرِّقَ بينهما؟! إنما الطلاقُ لمن أخَذَ بالسَّاق".=

وقد يكون الحكمُ متفقًا عليه والمدرَكُ مختلفًا فيه بأن يكون في الواقعةِ حديثان، كل واحد منهما صحيحُ عند أحدِ القائلَينِ بذلك الحكم، غيرُ صحيح عند الآخر، فيتفقانِ على الحكم بناء على الحديثين، ويختلفانِ في المُدرَك. فظهر أنه لا يَلْزَمُ من الإتفاق على المُدرَك الإتفاق على الحكم ولا بالعكس. ¬

_ = وفي سنده عند ابن ماجه (عبدُ الله بن لَهِيعة) وقد ضعَّفه بعضهم، وقوَّاه بعضُهم، وعلى هذا جَرَى الحافظ الهيثمي في مواضع من كتابه "مجمع الزوائد" فقال في الجزء 52:7 "وفيه - أي ابنِ لَهِيعة - ضَعْف، وقد يُحسَّنُ حديثه" وفي 196:4 و 325:5 "وفيه ضَعْف، وحديثُه حسن" وفي 1: 155 و 23:5 و 10: 16 "وحديثُه حَسَن"، وفي 1: 16 "وفيه ابنُ لَهِيعة، وقد احتَجَّ به غيرُ واحد". وقال الشوكاني في "نيل الأوطار، 203:6 "وطرُقُ هذا الحديث يُقوِّي بعضُها بعضًا. وقال ابن القيِّم: إنَّ حديث ابن عباس وإن كان في إسناده ما فيه فالقرآنُ يَعضُدُه، وعليه عمَلُ الناس. وأراد بقوله، القرآنُ يَعضُده نحوَ قوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} وقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}. انتهى. فالحديثُ حسَنٌ لذاته أو لغيره، وكلاهما حُجَّةٌ كما هو معلوم.

السؤال التاسع عشر

السُّؤَالُ التَّاسِعُ عَشَرْ قولُ الفقهاء: إِذا حكَمَ الحاكمُ في مسائل الخلاف لا يُنقَض حُكمُه، هل يتناوَلُ ذلك المَدارِكَ المجتهَدَ فيها؟ وهل هي حُجَّة أم لا؟ وهل يُتصوَّرُ الحكمُ فيها أم لا؟ وهل هذه العبارةُ على إطلاقها أم يُستثنَى منها بعضُ المختلَفِ فيه؛ وإِذا استُثني منها بعضُ المختلَفِ فيه هل يُستثنَى معه المدارِكُ المختلَفُ فيها أم لا؟ جَوَابُهُ أنَّ هذه العبارة مخصوصة (¬1)، وقد نصَّ العلماء على أن حُكمَ الحاكم لا يَستقرُّ في أربعةِ مواضعَ ويُنقَضُ: إِذا وقع على خلاف الِإجماعِ، أو القواعدِ، أو النصِّ، أو القياس الجليّ (¬2). وهذه الثلاثة الأخيرة هي من مسائل الخلاف، وإِلأَ لم يكن إِلاًّ قسمٌ واحد، وهو المُجمَعُ عليه، فخرَجَ من إِطلاقهم بنصوصهم هذه الصُّورُ الثلاث. وأما المَدارِكُ المجتَهدُ في كونها حُجَّةً أم لا: فلا تندرجُ في عمومِ قولهم الذي قصدوه، لأنَ مقصودَهم الفروعُ التي يقعُ التنازُعُ فيها بين الناس لمصالح الدنيا. ¬

_ (¬1) بعض هذا الجواب في "تبصرة الحكام" 1: 55، 59 - 60. (¬2) مثَّلَ المؤلفُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - لنقض الحكم في هذه المواضع الأربعة في جواب (السؤال التاسع والعشرون) فانظره.

وأدِلَّةُ الشريعة وحِجاجُ الخصومةِ المختلَفُ فيها كالشاهدِ واليمينِ ونحوه: إنما وقَع النِّزاعُ فيه لأمر الآخرة، لا لمصلحةِ تعودُ على أحدِ المتنازِعَينِ في دنياه، بل النِّزاعُ فيها كالنزاع في العبادات. ومقصودُ كل واحد من المتنازِعَينِ ما يتقرَّرُ في قواعد الشريعة على المكلَّفين إِلى يوم القيامة، لا شيءٌ يَختصُّ به هو، فلا تندرجُ في قولِ الفقهاءِ هذه الصُّوَرُ أصلاً. واعلم أنَّ معنى قول العلماء: إِنَّ حُكمَ الحاكم يُنقَضُ إِذا خالف القواعدَ أو النصوصَ أو القياسَ الجلي: إِذا لم يعارِض القواعدَ أو القياسَ الجليَّ أو النصَّ ما يُقدَّمُ عليه، وإلاَّ فإذا حَكَم بعقدِ السَّلَم أو الِإجارة أو المساقاة، فقد حَكَم بما هو على خلاف القواعد الشرعية، لكنْ لِمُعارِضٍ راجح فلا جَرَمَ لا يُنقَض، وإِنما النقضُ، عند عدم المُعارِضِ الراجحِ فاعلم ذلك.

السؤال العشرون

السُّؤَالُ الْعِشْرُونْ هل المانعُ من نقضِ حكم الحاكم ما يقوله بعضُ الفقهاء: من أنَّ نَقْضَه يؤدّي إِلى بقاء الخصوماتِ؟ أو أَمرٌ آخر. جَوَابُهُ أنَّ المانع غيرُ ما ذكره بعضُ الفقهاء، وهي قاعدةٌ مقرَّرة في أصول الفقهِ وقواعدِ الشرع، وهي أنه إِذا تعارض الخاصُّ والعامّ قُدِّم الخاصّ على العامّ. وقد تقدَّم بَسْطُه في الفرق بين حُكمه بالمُجمَع عليه وبين حُكمه بالمختلَفِ فيه (¬1)، مع أنَّ كليهما لا يُنقَضُ إِجماعًا. وتخريجُ الأحكام على القواعد الأصوليَّة الكليَّة أولى من إِضافتها إلى المناسبات الجزئية، وهو دأبُ فُحولِ العلماء دون ضَعفَةِ الفقهاء. ¬

_ (¬1) وذلك في جواب (السؤال السادس عشر) في ص 80 - 81. وسيأتي في ختام جواب (السؤال السادس والعشرون) ص 129 ما يؤيد هذا الذي قاله المؤلفُ هنا فانظره.

السؤال الحادي والعشرون

السُّؤَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونْ هل مِن شَرْطِ حُكمِ الحاكم الذي لا يُنقَض، أن يكون في صُوَرِ النِّزاع، أم يكفي فيه أن يكون قابلاً للنَزاع والخِلاف، وإِن لم يقع فيه خلاف؟ جَوَابُهُ أنَّ وقوعَ الخلاف ليس شرطًا، بل إِذا كانت الصورةُ مسكوتًا عنها، وقد حَكمَ فيها الحاكمُ بما هي قابلة له: لا يُنقَض، وإِن حَكَم بالمسكوتِ عنه بما هو خلافُ القواعد: نُقِض، ولا فَرْقَ في عدمِ النقض بين المسكوتِ عنه وبين ما قد وَقَعَ فيه الخلاف.

السوال الثاني والعشرون

السُّوَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونْ هل يجبُ على الحاكم أن لا يَحكم إِلَّا بالراجح عنده؟ كما يجب على المجتهد (¬1) أن لا يُفتي إِلَّا بالراجح عنده؟ أَوْ لَهُ أن يَحكم بأحدِ القولين وإِن لم يكن راجحًا عنده (¬2)؟ جَوَابُهُ أنَّ الحاكم إِن كان مجتهِدًا فلا يجوز له أن يَحكم أو يُفتي إلَّا بالراجح عنده، وإِن كان مقلِّدًا جاز له أَنْ يُفتي بالمشهور في مذهبه، وأَنْ يَحكُمَ به وإِن لم يكن راجحًا عنده، مقلِّدًا في رجحانِ القول المحكوم به إِمامَهُ الذي يُقلِّدُه، كما يُقلِّدُه في الفُتْيا. وأما اتّباعُ الهوى في الحكم أَو الفُتْيَا فحرامٌ إِجماعًا. نعَمْ اختلف العلماء فيما إِذا تعارضت الأدلَّةُ عند المجتهدِ وتساوَتْ، وعجَزَ عن الترجيح هل يتساقطان أو يَختارُ واحدًا منهما يُفتي به؟ قولانِ للعلماء. فعلى القولِ بأنه يَختارُ أحدَهما يُفتي به: له أن يختار أحدَهما يَحكمُ به، مع أنه ليس أرجحَ عنده بطريقِ الأولى، لأنَ الفُتْيَا شَرْعٌ عام على ¬

_ (¬1) في نسخة (ر): (على المفتي). وكلاهما صحيح كما تتبيَّنَه بعدُ. (¬2) هذا السؤال وجوابه منقول في "تبصرة الحكام" 1: 52، 56. وفتاوى الشيخ محمد عليش المسماة "فتح العلي المالك على مذهب الإمام مالك" 1: 58 - 59.

المكلّفين إِلى قيام الساعة، والحكمُ يختصُّ بالوقائع الجزئية الخاصَّة فتجويزُ الاختيار في الشرائع العامَّة أولى أن يجوز في الأمور الجزئية الخاصَّة، وهذا مقتضى الفقهِ والقواعد الشرعية. ومن هذا التقرير يُتصوَّرُ الحكمُ بالراجح وغيرِ الراجح، وليس ذلك اتّباعًا للهوى، بل ذلك بعدَ بَذْلِ الجهدِ والعجزِ عن الترجيحِ وحصولِ التساوي، أمَّا الحكمُ أو الفُتيا بما هو مرجوحٌ فخلافُ الإِجماع (¬1). ¬

_ (¬1) نقل العلامة الشيخ عليش - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - هذا السُّؤَالُ وجوابه في فتاواه (فتح العلي المالك) 1: 58 - 59 ثم أتبعَهُ بقوله: "فانظر وتأمل قول القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - كيف مَنَع المجتهدَ من الحكم والفتيا إلَّا بالراجح عنده، وأجازَ للمقلِّد أن يُفتي أو يَحكم بالمشهور وإن لم يكن راجحًا عنده ولا صحيحًا في نظره، مع كونه أهلاً للنظر وعارفًا بطرق الترجيح وأدلةِ التشهيرِ والتصحيح، فإذا نَظَر ورجَحَ عنده غيرُ المشهور، جاز له أن يفتي بغير الراجح عنده إن كان مشهورًا عند إمامه وإن كان شاذًا مرجوحًا في نظره، لكونه يُقلِّدُ في ترجيح المشهور إمامَهُ الذي قلَّده في الفتوى. فإن قلت: لفظُ الجواز يقتضي أن ليس على المقلَّد من مُفتٍ أو عالم أن يُقلِّدَ إمامَه في رجحان قول من أقواله ولو رَجَحَ عنده الإِمامُ القائل، لأنه إذا لم يكن تقليده لهذا الإِمام في أصل القول لازمًا، بل له أن يُقلِّدَه أو يُقلِّدَ غيرَه وإن كان الغيرُ مفضولاً في اجتهاده - حسبما هو مختار القاضي أبي بكر وجماعةٍ من الأصوليين والفقهاء وأكثرِ الشافعية وصحَّحه ابنُ الصلاح - فيكون فيه دليل على جواز العمل بغير الراجح قضاءَ وفتوى، إذ لا زائدَ في المشهور سوى الرجحان. قلت: لا دليل فيه على جواز العمل بغير الراجح، لأنه لا يَلزَمُ من العمل على المرجوحِ عنده الراجحِ في نظر إمامه أو عكسِه العَملُ بالمرجوح في نظرهما معًا، والله تعالى أعلم. فإن قلتَ: قولُ شهاب الدين القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "أمَّا الحكمُ والفتيا بما هو مرجوح فخلافُ الإِجماع" مع قوله أولَ الكتاب في ص 44: "للحاكم أن يَحكم بأحدِ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = القولين المتساويين من غير ترجيح ولا معرفةِ أدلة القولين إجماعًا": تدافُعٌ وتناقضٌ كما توهَّمه القاضي برهان الدينَ ابن فرحون - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في "تبصرته". وبيانُهُ بأن يقال: قولُهُ: للحاكم أن يَحكم بأحد القولين الخ ... يقتضي أنه يجوز له الحكم بأحدهما ابتداء من غير تكليف بنظرِ في الراجح منهما. وقولُهُ: إذا تعارضت الأدلة عند المجتهد وتساوت وعجز عن الترجيح الخ ... يقتضي أنه لا يَحكم بغير الراجح إلَّا بعد إمعان النظرِ هل في القولين راجحٌ أو لا؟ حتى يَعجزَ عن الترجيح ويَحصُلَ التساوي. قلتُ: لا تدافُعَ بين الكلامين ولا تناقض، لأن ما كُلِّفَ فيه بالنظر إنما هو حيث يكون في القولين راجِحٌ ومرجوحٌ والمقلِّدُ أهلٌ للترجيح، وحيث أجاز الحكمَ بأحد القولين من غير نظرٍ فرَضَ القولين متكافئين لا راجحَ فيهما في نظره، فلا تدافُعَ لعدم شرطه الذي هو اتحادُ المحكوم عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم. فإن قلت: قولُهُ: "أمَّا الحكمُ والفتوى بما هو مرجوح فخلافُ الإِجماع". يُناقضُ قولَه: "فإن كان مقلِّداَ جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه وأن يحكم به وإن لم يكن راجحًا عنده" ومُدافعٌ له. قلتُ: الذي حُكِيَ الإِجماعُ على تحريمه ومنعه إنما هو أن لا يفتي بالراجح في نظره ولا في نظر مقلِّده وإمامه معًا، والذي جُوِّزَ فيه الحكُم والفتوى بالمرجوح إنما هو إذا كان راجحًا في نظر متبوعه مرجوحًا في نظره هو، فلم يخرج في محل الجواز عن الراجح جملة، وفي محل الإِجماع قد خَرَج عنه جملةً، والله أعلم".

السؤال الثالث والعشرون

السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونْ إِذا قلتم: إِنَ حُكمَ الحاكم إِنشاءٌ في النفس، والنَّذْرُ أيضًا إِنشاءُ حُكمٍ لم يكن متقررًا فقد استويا في الإِنشاء وأنَّ كليهما يَتعلَّقُ بجُزْئيٍّ دون شَرْعٍ عامّ، فهل بينهما فَرْقٌ أو هما سَواء؟. جَوَابُهُ أنَّهما وإِن استويا في معنى الإِنشاء فبينهما فروق: أحدُها: أنَّ العُمدة الكبرى في النَّذرْ ونحوِه هو: اللفظ، فإِنه هو السبب الشرعي الناقلُ لذلك المندوبِ المنذورِ إِلى الوجوب، كما أنَّ سبَبَ حُكمِ الحاكم إِنما هو الحُجَّة، وحُكمُ الحاكم مستقلٌّ دون نطق والقولُ الواقعُ بعد ذلك إِنما هو إِخبارٌ بما حَكَم به، وأمْرٌ بالتحمُلِ عنه للشهادةِ في ذلك. وثانيها: أنَّ النَّذْرَ إِلزامٌ لمُنشئِه، والحكمَ إِلزامٌ للغير. وثالثُها: أنَّ حُكمَ الحاكم قد يكون إِطلاقًا وإِبطالاً وإِباحة، كما في الحكم بإِبطال الملك مِن الأراضي بعد ذهابِ الإِحياء عنها، ولا يتعيَّنُ حُكمُ الحاكم للإِلزام، بل قد يكون إِلزامًا وقد لا يكون إِلزامًا، وأمَّا النَّذْرُ فلا يقع إِلَّا إِلزامًا. ورابُعها: أن الحُكمَ قد يكونُ مقصودُهُ التحريم كفَسْخِه للنكاح، فإن مقصوده التحريمُ على الزوج، وأمَّا النَّذْرُ فلا يكون مقصودُهُ التحريم بل الوجوب.

فإِن قيل: مَنَ نَذَر تَرْكَ مكروهٍ فقد حرَّمه على نفسه، فقد تعلَّق النَّذْرُ بالتحريم؟ قلنا: المقصودُ الوجوب، لأنَّ تَرْكَ المكروه مندوب، فنَقَلَ النَّذْرُ ذلك المندوبَ إلى الوجوب.

السؤال الرابع والعشرون

السُّؤَالُ الرَّابِع وَالْعِشْرُونْ المجتهِدُ إِذا كان حاكمًا فهو يُفتي باجتهادِه، ويَحكمُ باجتهادِه. فالإِخبارانِ صادرانِ عن اجتهاد، فما الفرقُ بينهما لا سيَّما في واقعة لم تتقدَّمْ فيها فُتْيَا ولاحُكم؟ وهو يُخبِرُ في الفُتيا والحُكم عما لَزِمَ المكلَّفَ في تلك الواقعة، ولا يُفرِّقُ بأنَّ الحُكمَ لا يُنقضُ والفُتْيَا قابلة للمخالفة، فإِنَّ امتناع النقض فَرْعُ معرفةِ كونهِ حُكمًا؟ جَوَابُهُ أنَّ الفرق بين الحالتين أنه في الفُتيا يُخبِرُ عن مقتضَى الدليلِ الراجحِ عنده، فهو كالمترجِمِ عن اللَّهِ تعالى فيما وجَدَهُ في الأدِلَّةِ، كتَرْجُمانِ الحاكمِ يُخبرُ الناسَ بما يجدُه في كلام الحاكم أو خطِّه، وهو في الحكم يُنشئُ إِلزامًا أو إِطلاقًا للمحكومِ عليه، بحسبِ ما يَظهر له من الدليلِ الراجحِ والسبَبِ الواقع في تلك القضيَّة الواقعة. فهو: إِذا أخبَرَ الناس أَخبرَهُم بما حكمَ به هو، لأنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - فوَّض إِليه ذلك، بما وَرِثَهُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما في قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬1). وإِذا أخبَرَ الناسَ بالفُتيا أخبرَهُم عن حكمِ الله الذي فهِمَهُ عن الله - عَزَّ وَجَلَّ - في أدلَّة الشريعة، فهو في مَقام الحُكمِ كنائب الحاكمِ يَحكمُ ¬

_ (¬1) من سورة المائدة، الآية 49.

بنفسه، ويُنشئُ الإِلزامَ والإِطلاقَ بحسبِ ما يقعُ له من الأسبابِ والحِجاج، لأنَّ مُستنِيبَه جَعَل له ذلك، بخلاف الترجمان الذي جُعِلَ مُتَبِعًا لا مُنشِئًا. وكما أنَّ نائب الحاكم يُخبِرُ عن إِلزام نفسه، كذلك الحاكمُ المجتهدُ في الشريعة يُخبِرُ عن إِلزام نفسه، لأنه نائبُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - في أرضه على خلقه، وفَوَّض إِليه الإِنشاءَ للأحكام بين الخلق، ويَصيرُ ما أنشأه كنصٍّ خاصًّ واردٍ الآن مِن قِبَل الله - عَزَّ وَجَلَّ - في هذهِ الواقعة، ولذلك لا يُنقَض، لأنَّ الخاصَّ مقدَّم على العام، كما تقدَّمَ بيانُه وبَسْطُه (¬1). فهذا هو الفرقُ بين حُكم الحاكم باجتهاده وبين فُتياه باجتهاده. ¬

_ (¬1) في ص 81.

السؤال الخامس والعشرون

السُّؤَالُ الخَامِسِ وَالْعِشْرُونْ ما الفرقُ بين تصرُّفِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بالفُتيا والتبليغ، وبين تصرُّفِه بالقضاء، وبين تصرُّفِه بالِإمامة؟ وهل آثارُ هذه التصرُّفات مختلِفةٌ في الشريعة والأحكامِ أو الجميعُ سواءٌ في ذلك؟ وهل بين الرسالة وهذه الأمور الثلاثةِ فَرْقٌ أو الرسالةُ عَيْن الفُتيا؟ وإِذا قلتم: إِنها عَيْن الفُتيا أو غيرُها، فهل النُبوَّة كذلك أو بينها وبين الرسالة فَرْقٌ في ذلك؟ فهذه مقامات جليلة، وحقائقُ عظيمة شريفة، يَتعيَّن بيانُها وكشفُها والعنايةُ بها، فإِنَّ العلم يَشْرُفُ بشرف المعلوم (¬1). جَوَابُهُ أنَّ تصرُّف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفُتْيا هو إِخبارُه عن الله تعالى بما يَجِدُهُ في الأدلَّةِ من حُكم الله تبارك تعالى، كما قلناه في غيره - صلى الله عليه وسلم - من المُفتين. وتصرُّفُهُ - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ هو مقتضى الرسالة، والرسالَةُ هي أَمْرُ الله تعالى له بذلك التبليغ. فهو - صلى الله عليه وسلم - يَنْقُلُ عن الحقّ للخلقِ في مقامِ الرسالةِ: ما وَصَل إِليه عن الله تعالى. فهو في هذا المقام مبلِّغٌ وناقلٌ عن الله تعالى. ووَرِثَ عنه - صلى الله عليه وسلم - هذا المقامَ المحدِّثون رُواةُ الأحاديثِ النبويةِ وحَمَلَةُ الكتابِ العزيز لتعليمه ¬

_ (¬1) هذا السُّؤَالُ بتقاسيمه الأربعة وجوابه بالأمثلة والتفصيل، استقاه الإِمام ابن القيم في كتابه "زاد المعاد" 2: 456 - 458، وذكره بتلخيص وإجمال عَقِبَ ذكرِهِ غزوة حُنَين، دون أن يشير إلى مُنشئِه ومُفَصِّله الإمامِ القرافي - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -.

للناس، كما وَرِثَ المفتي عنه - صلى الله عليه وسلم - الفُتْيا. وكما ظهَرَ الفرقُ لنا بين المفتي والراوي، فكذلك يكون الفرقُ بين تبليغه - صلى الله عليه وسلم - عن رَبِّه وبين فتياه في الدين. والفرقُ هو الفرقُ بعينه، فلا يَلْزَمُ من الفُتيا: الروايةُ، ولا مِن الرواية: الفُتيا، من حيث هما روايةٌ وفُتيا. وأما تصرُّفُه - صلى الله عليه وسلم - بالحُكم فهو مغايرٌ للرسالة والفُتيا. لأنَّ الفُتيا والرسالة تبليغٌ محضٌ واتِّباعٌ صِرْف، والحكمُ إِنشاءٌ وإِلزامٌ من قِبلَهِ - صلى الله عليه وسلم - بحسب ما يَسْنَح من الأسباب والحِجَاج، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنكم تختصمون إِلي، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحُجَّتِه من بعض؟ فمن قَضَيتُ له بشيء من حق أخيه فلا يأخذْه إِنما أقتطع له قطعةً من النار! " (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في ستة مواضع من "صحيحه" عن أم سَلَمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، في كتاب المظالم في باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلم 5: 77 بشرح "فتح الباري"، وفي كتاب الشهادات في باب من أقام البينة بعد اليمين 5: 212، وفي كتاب الحِيَل في باب إذا غصَبَ جارية فزَعَم أنها ماتت 12: 299، وفي كتاب الأحكام في باب موعظة الإِمام للخصوم 139:13، وفي باب من قُضي له بحق أخيه فلا يأخذه 13: 151، وهنا استوفى الحافظ ابن حجر شرحَ هذا الحديث، وفي باب القضاء في كثير المال وقليله 13: 156. ورواه عنها أيضًا مسلم في "صحيحه" في كتاب الأقضية في باب بيان أن حكم الحاكم لا يُغَيِّرُ الباطنَ 12: 4 - 7 من "شرح صحيح مسلم" للنووي. وأبو داود أيضًا في الأقضية في باب في قضاء القاضي إذا أخطأ 3: 301 - 302. والنسائي في كتاب آداب القُضاة في باب الحكم بالظاهر 8: 233، وفي باب ما يقطع القَضاء 8: 247. والترمذي في أبواب الأحكام في باب ما جاء في التشديد على من يُقضَى له بشيء ليس له أن يأخذه 83:6. وابن ماجه في كتاب الأحكام في باب قَضِيَّة الحاكم لا تُحِلُّ حرامًا ولا تُحرِّم حلالاً 2: 777. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه عنها أيضاً مالك في "الموطَّأ" في كتاب الأقضية في باب الترغيب في القضاء بالحق 2: 106. والحاكم في "المستدرك" في كتاب الأحكام 4: 95، والدارقطني في (سننه) في كتاب الأقضية والأحكام 239:4. وأحمد في "مسنده" 6: 290 و 307 و 308 مختصراً، و 320 مطولاً. والطحاوي في "شرح معاني الآثار المختلِفَةِ المأثورة" في كتاب القضاء والشهادات في باب الحاكم يحكم بالشيء فيكون في الحقيقة بخلافه في الظاهر 2: 287 وفي "مُشْكِل الآثار" 1: 329 - 330. وروايةُ أحمد والطحاوي في "مشكل الآثار" أتمُّ الروايات جميعاً وهذه روايةُ أحمد في "مسنده" 6: 320، وما بين الهلالين زيادة من رواية الطحاوي والبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي: "عن أمّ سَلمَة - رضي الله عنه - اقالت: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خصومةَ بباب حُجرته، فخرج فإذا رجلان من الأنصار جاءا يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريثَ بينهما قد دَرَستْ ليس عندهما بينة (إلا دعواهما، في أرضِ قد تقادَمَ شأنُها، وهلَكَ من يَعرف أمرَها)، فقال (لهما) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بَشَر، (ولم يُنزَل عليَّ فيه شيء، وإني إنما أقضي بينكم برأي فيما لم يُنزَل عليَّ فيه)، ولعل بعضكم (أن يكون) ألحن: (أبلَغَ) بحُجته - أو قال: لحُجتِه - من بعض، (فأحسَبُ أنه صادق فأقضي له)، فإني (إنما) أقضي بينكم على نحوِ ما أسمع، فمن قَضيتُ له من حق أخيه شيئاً (ظُلماَ بقوله) فلا يأخُذْه، فإنما أقطَعُ له قطعةَ من النار، (يُطوَّقُ بها من سَبع أرَضِين) يأتي بها سِطَاماً في عنقه يوم القيامة، (فليأخذها أو لِيَدَعها). فبكى الرجلان (جميعاً لمَّا سَمِعَا ذلك) وقال كل واحد منهما: (يا رسول الله) حَقِّي (هذا الذي أطلُبُ) لأخي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمَا إذْ قلتما (هذا) فاذهبا واقتسما، ثم توخَّيا الحق (فاجتهِدَا في قَسمِ الأرض شَطْرَين)، ثم اسْتَهِما، ثم ليُحَلل كلُّ واحد منكما صاحبَه". وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: (سِطَاماً) قال ابن الأثير في "النهاية" في تفسيره: "السِّطامُ، - ويُروَى: الإِسْطام - هي الحديدةُ التي تُحرَّكُ بها النار وتُسَعَّر. أي أقطَعُ له ما يُسَعَّرُ به النارَ على نفسِه ويُشعلُها، أو أقطعُ له ناراً مُسعَّرة، وتقديرُهُ: ذاتَ إسطام". انتهى. ويقع هذا =

دَلَّ ذلك على أن القضاء يَتْبَعُ الحِجاجَ وقوَّة اللَّحَنِ بها، فهو - صلى الله عليه وسلم - في هذا المقام مُنشِئ، وفي الفُتيا والرسالةِ مُتَّبِعٌ مُبلِّغٌ، وهو في الحكم أيضاً مُتبعٌ لأمرِ الله تعالى له بأنْ يُنشِئَ الأحكام على وَفْق الحِجَاجِ والأسباب، ¬

_ = اللفظ الكريم محرَّفاً كثيراً لغرابته، كما وقع فيإ تفسير ابن كثير" 1: 550 في تفسير سورة النساء عند قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ...} فقد وقع فيه (يأتي بها انتظاماً في عنقه). وقد استدل به الحافظ ابن كثير لمن قال من علماء الأصول: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يَحكُم بالإجتهاد. وإنما أطلتُ في تخريج هذا الحديث، واستوعبتُ رواياته، وذكرت عناوين الأبواب التي أوردها العلماء فيها، لأن هذا الحديث دستور نبوي من دساتير القضاء في الِإسلام، والكتابُ: "الإِحكام" كتابُ قضاء، فمن النافع جداً أن يُذكر فيه هذا الدستور العظيم عند صِدق المناسبة، وأردتُ بذكر عناوين الأبواب - وهي بمثابة شرح وجيز لمضمونه - بيانَ أفهام مُحدثينا وفقهائنا لهذا الحديث وطُرُقِ استنباطِهم، - رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى - وجزاهم عن الإسلام خيراً. فائدة وتتمة، تتعلَّقُ بسِياقَة حديثِ أم سَلَمَة حيث أدخلتُ بعضَ رواياتِهِ في بعض، وذلك جائز: قال الحافظ ابن كثير - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في "اختصار علوم الحديث" ص 164، في فروع (النوع السادس والعشرين): "فَرْعٌ آخرَ: إذا رَوَى الحديثَ عن شيخينِ فأكثَر، وبين ألفاظِهم تبايُن، فإن ركَبَ السِّيَاقَ من الجميع، كما فَعَل الزهريُّ في حديثِ الإِفك، حين رواه عن سعيدِ بن المسيب وعُرْوَةَ وغيرِهما عن عائشة، وقال: كل قد حدَّثني طائفةَ من الحديث، فدَخَلَ حديثُ بعضِهم في بعض، وساقَهُ بتمامِهِ: فهذا سائغ، فإن الأئمةَ تلقوْهُ عنه بالقبول، وخرَّجوه في كتبهم الصِّحاحِ وغيرِها. وللراوي أن يُبينَ كل واحدِ منها عن الأخرى، ويذكُرَ ما فيها من زيادة أو نقصان ... ، وهذا مما يُعنى به مسلم في "صحيحه"، وأما البخاري فلا يُعرِّجُ عليه، ولا يلتفِتُ إليه إلا نادراً". انتهى باخصار. ونحوُهُ في "تدريب الراوي" للحافظ السيوطي ص 330 - 331، في آخر فروع (النوع السادس والعشرين).

لا أنه مُتَّبعٌ في نَقْلِ ذلك الحكمِ عن الله تعالى، لأنَّ ما فُوِّضَ إِليه من الله تعالى لا يكون منقولاً عن الله تعالى. ثم الفَرْقُ من وجه آخر بين الحكم والفُتيا: أن الفُتيا تَقْبَلُ النَّسْخ، والحكمُ لا يقبلُهُ، بل يقبلُ النقضَ عند ظهور بطلان ما رتِّبَ عليه الحكم، والفُتيا لا تَقْبلُه، فصار مِن خصائص الحكم: النقضُ، ومن خصائص الفُتيا: النَّسخُ. وهذا في فُتياه - عليه السلام - خاصّةً ومَنْ كان في زمانه. وأمّا الفتيا (¬1) بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فلا تَقبل النسخ لتقرُّر الشريعة. فهذا أيضاً فَرقٌ حسن بين القضاء والفُتيا من حيث الجملةُ في جنسيهما، غير أنه لا يتَقرُّرُ في كل فردٍ من أفراد الفُتيا، ومتى ثَبَت الفرقُ بين الجنسين حصَلَ الفرقُ بين الحقيقتين فلا لَبْس. وأما الرِّسَالةُ من حيث هي رسالة فقد لا تَقبلُ النسخ، بأن تكون خبراً صِرْفاً. فإنه تقبل التخصيص دون النسخ على الصحيح من أقوال العلماء، وقد تَقبَلُه إِن كانَتْ متضمِّنةً لحكم شرعي. فصارت الرسالةُ أعمَّ من الفُتيا ومُبايِنةً لها. فظهرت الفروق بين الرسالة والفتيا والحكم. وأما النبوَّة فكثيرٌ من الناس مَنْ يَعتقدُ أنها عبارةٌ عن مجرَّدِ الوحي من الله تعالى للنبي، وليس كذلك، بل قد يَحصُلُ الوحيُ من الله تعالى لبعض الخلق من غير نبوّة، كما كان الوحيُ يأتي مريمَ ابنةَ عمران رضي الله عنها في قصه عيسى - عليه السلام -، وقال لها جبريل - عليه السلام -: {إِنما أنا رَسُولُ رَبّك ليَهَبَ (¬2) لكِ غُلاماً زكيَّاً} (¬3). وقال في موضع آخر: {إِن الله ¬

_ (¬1) في نسخة (ر): (وأما القضاء ...). (¬2) هذه قراءة نافع. (¬3) من سورة مريم، الآية 19.

يُبَشركِ} (¬1). مع أنَّ مريم - رضي الله عنها - ليسَتْ نبيَّةً على الصحيح. وفي"مُسْلم": "إن الله تعالى بَعَثَ مَلَكاً لرجُلٍ على مَدْرَجَتِه، وكان خَرَج لزيارة أخٍ له في الله تعالى، وقال له: إنَ الله تعالى يُعْلِمُك أنه يُحِبُّك لحبّك لأخيك في الله تعالي"الحديث بطوله (¬2)، وليس ذلك نُبوَّة. ولو بَعَثَ الله تعالى لأحدِنا مَلَكاً يُخبره بمذهب مالك في واقعة معيَّنةٍ، أو بضالةٍ ذهبَتْ له: لم يكن ذلك نُبوة، وإنما النبوة - كما قاله العلماء الربانيون - أن يُوحِي الله تعالى لبعضِ خَلْقه بحُكمٍ أُنْشئ لمسألةٍ، يختصُ به، كما أوحى الله تعالى لنبيّه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (¬3). فهذا تكليفٌ لمحمدٍ يَختصُّ به في هذا الوقت. قال العلماء: فهذه نبوَّة وليسَتْ رسالة، فلمَّا أنزل الله تعالى عليه: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} (¬4). كان هذا رسالة، لأنه تكليف يتعلَّقُ بغير الموحَى إليه، فتقدَّمَتْ نبوَّةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على رسالتِه بمُدَّة، ولذلك قال العلماء: كلُّ رسولٍ نبي، وليس كلُّ ¬

_ (¬1) من سورة آل عمران، الآية 45. (¬2) ولفظُه في "صحيح مسلم" في كتاب البِر والصِلَة والآداب في باب فضل الحب في الله تعالى 16: 124 "عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً زار أخاً له في قَرْيةٍ أخرى، فأرصَدَ - أي أقعَدَ - الله له على مَدْرجتِه - أي طريقِهِ - مَلَكاً، فلما أتى عليه قال: أين تُريد؟ قال: أريدُ أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمةٍ تَرُبُّها - أي تقومُ بإصلاحها وتَنهضُ إليه بسببها -؟ قال: لا، غيرَ أني أحببتُه في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبَّك كما أحببتَه فيه". (¬3) من سورة العلق، الآية 1 - 2. (¬4) من سورة المدثر، الآية 1 - 2.

نبيّ رسولاً، لأنَّ كلَّ رسولِ كُلِّفَ تكليفاً خاصاً به وهو تبليغُ ما أُوحي إِليه. فظهَرَ الفرقُ بين النُّبوَّة وبين الرسالة والفتيا والحكم. وأما تصرُّفه - صلى الله عليه وسلم - بالإِمامةِ فهو وصفٌ زائد على النبوَّةِ والرسالة والفُتيا والقضاءِ، لأنَ الإِمام هو الذي فُوّضَتْ إِليه السياسةُ العامةُ في الخلائق، وضَبْطُ مَعاقِدِ المصالح، ودَرْءُ المفاسد، وقَمْعُ الجُنَاة، وقَتْلُ الطُّغَاة، وتوطينُ العِبَاد في البلاد، إِلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس. وهذا ليس داخلاً في مفهوم الفُتيا ولا الحُكمِ ولا الرسالةِ ولا النبوَّة، لتحققِ الفُتيا بمجرد الِإخبار عن حُكمِ الله تعالى بمقتضى الأدلة، وتحقُّقِ الحُكم بالتصدّي لفَصْل الخصومات دون السياسة العامَّة، لا سيما الحاكمُ الذي لا قُدْرة له على التنفيذ كالحاكمِ الضعيفِ القُدرة على الملوك الجبابرة، بل يُنشيءُ في نفسه الإِلزام على ذلك المَلِك العظيم، ولا يَخْطُرُ له السعيُ في تنفيذه، لتعذُّر ذلك عليه. بل الحاكُمِ من حيث هو حاكمٌ: ليس له إلَّا الإنشاء، وأما قُوَّةُ التنفيذ فأمرٌ زائد على كونه حاكماً، فقد يُفوضُ إِليه التنفيذ، وقد لا يَندرجُ في وِلايته (¬1)، فصارَتْ السَّلْطَنَةُ العامَّة التي هي حقيقةُ الإمامةِ مباينةً للحُكم من حيث هو حُكم. أمَّا إِمامٌ لم تُفوَّض إليه السياسةُ العامة فغيرُ معقولٍ إِلَّا على سبيل إِطلاقِ الِإمامةِ عليه مجازاً، والكلامُ إِنما هو في الحقائق. وأمَّا الرسالَةُ فليس يَدْخُل فيها إِلَّا مجردُ التبليغِ عن الله تعالى، وهذا ¬

_ (¬1) هذه العبارة من قوله في هذا المقطع: (لا سيما الحاكمُ ...) إلى هنا منقولة بتصرف يسير في "تبصرة الحكام" لإبن فرحون 1: 12، 13.

المعنى لا يَستلزم أنه فُوِّضَ إِليه السياسةُ العامة، فكم من رُسُلٍ للَّهِ تعالى على وجهِ الدهرِ قد بُعثوا بالرسائل الربانيَّة، ولم يُطلَب منهم غيرُ التبليغ لِإقامة الحُجَّةِ على الخَلْق، من غير أن يُؤمَروا بالنظر في المصالح العامة. وإِذا ظهر الفرقُ بين الِإمامة والرسالةِ فأولَى أن يَظهر بينها وبين النبوَّة، لأنَّ النبوَّة خاصةٌ بالموحَى إليه لا تعلقَ لها بالغير، فقد ظهَر افتراقُ هذه الحقائق بخصائصها (¬1). ¬

_ (¬1) هذا، وليس من هذه التصرفات جميعاً ما قاله - صلى الله عليه وسلم - في ترك تأبير النخل، وإنما هو من أمور الدنيا فحسْب، ولذلك فوضه إلى العالِمين به قائلاَ لهم: "أنتم أعلمُ بأمْرِ دنياكم". روى مسلم في "صحيحه" 116:15 - 117، في كتاب الفضائل، في (باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره عيَنِ من مَعَايِشِ الدنيا على سبيلِ الرأي): "عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: مررتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقومِ على رُؤُوسِ النَّخْل، فقال: ما يَصنعُ هؤلاء؟ فقالوا: يُلقِّحونَهُ يجعلون الذكَرَ في الأنثى فتَلْقح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أظنُّ يُغني ذلك شيئاً، قال: فأخبِروا بذلك فتركوه، - فخرج شِيْصَاً، أي رديئاً ضعيفاً - فأخبِرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: إن كان يَنفعُهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظَنَنْتُ ظناً، فلا تؤاخذوني بالظنّ، ولكنْ إذا حدَّثتكم عن الله شيئاً فخُذُوا به، فإني لن أكذِبَ على الله - عَزَّ وَجَلَّ - ". وجاء بعدها في روايةِ رافع بن خَدِيج: "قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً، فتركوه فنفَضَتْ - أي أَسْقَطَتْ النخلُ ثَمرَها -، قال: فذكروا ذلك له فقال: إنما أنا بَشَر، إذا أمرتكم بشيء من دِينِكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بَشَر". وفي روايةِ عائشة وأنسِ: "قال: أنتم أعلَمُ بأمْرِ دنياكم". قال النووي في "شرح صحيح مسلم" تحت عنوان هذا الباب الذي بوَّبه على الحديث المذكور 116:15 "قال العلماء: قولُه - صلى الله عليه وسلم - (من رأيي) أي في أمرِ الدنيا ومَعَايِشِها، لا على التشريع. فأمَّا ما قاله باجتهاده - صلى الله عليه وسلم - ورآه شرعاً يجبُ العمل به. وليس =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = إبارُ النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله. قال العلماء: ولم يكن هذا القولُ خبراً، وإنما كان ظناً، كما بينه في هذه الروايات. قالوا: ورأيُه - صلى الله عليه وسلم - في أمور المَعَايِش وظَنُّه كغيره، فلا يَمتنعُ وقوعُ مثلِ هذا، ولا نَقْصَ في ذلك، وسبَبُه - صلى الله عليه وسلم - في هَمَّهِ بالآخرةِ ومَعَارِفِها، والله أعلم". وقال المناوي في "فيض القدير" 3: 51 "قال بعض العلماء: تبين من قوله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم أعلم بأمر دنياكم" أن الأنبياء وإن كانوا أحذَقَ الناس في أمرِ الوحي والدعاءِ إلى الله تعالى، فهم أسْذَجُ الناس قلوباً من جهة أحوال الدنيا، فجميعُ ما يَشرعونه إنما يكون بالوحي، وليس للأفكارِ عَليهم سُلطان". انتهى. قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" ص 238 و 2: 313، "وأجمعوا على أنه يجوزُ للأنبياءِ صلواتُ الله عليهم الإجتهادُ فيما يتعلقُ بمصالح الدنيا وتدبيرِ الحروب ونحوِها، حكَى هذا الإِجماعَ سُلَيم الرازي وابنُ حزم. وذلك وقَعَ من نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ومنه ما كان قد عَزَم عليه من تركِ تلقيح ثمار المدينة". ومن لوازم أحكام الإجتهاد جوازُ المخالفة، إذ لا قَطْعَ بأن ما يكونُ اجتهاداً هو حُكمُ الله تعالى في تلك المسألة، لكونِ الاجتهادِ مُحتمِلاً للإصابةِ ومُحتمِلاً للخطأ. كيف وقد صرح - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "وإذا أمرتكم بشيءٍ من رأيي فإنما أنا بَشَر". ومن اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في تدبير الحروب: ما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بَدْر، إذ نَزَل على أدنى ماءٍ من مِياهِ بَدْر إلى المدينة، فقال له الحُبَابُ بن المُنْذِر: يا رسول الله، أهذا مَنْزِلٌ أنزلكَهُ اللهُ، ليس لنا أن نتقدَّمَه ولا نتأخَّرَ عنه؟ أم هو الرأيُ والحَرْبُ والمَكِيدة؟ فقال: بل هو الرأيُ والحَرْبُ والمكيدة. فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهَضْ بنا حتى نأتيَ أدنَى ماء من القومِ فنَنْزِلَه، ونُغَوِّرَ ما وراءه من القُلُب - أي الآبار -، ثم نبنيَ عليه حَوْضاً فنملأه، فنَشرَبُ ولا يشربون. فاستحسَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الرأي وفعَلَه. كما في "البداية والنهاية" لإبن كثير 3: 267، وغيرِها.

وأما آثارُ هذه الحقائق في الشريعة فمُخْتلفة: فما فَعَله - عليه السلام - بطريق الإِمامةِ كقسمةِ الغنائم، وتفريقِ أموال بيت المال على المصالح، وإقامةِ الحدود، وترتيبِ الجيوش، وقتالِ البُغَاة، وتوزيع الإِقطاعات في القُرى والمعادن، ونحو ذلك: فلا يجوز لأحدٍ الإِقدامُ عليه إلَّا باذنِ إِمامِ الوقت الحاضر (¬1)، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إِنما فَعَله بطريقِ الإمامة، وما استُبِيحَ إِلَّا بإذنه، فكان ذلك شرعاً مقرراً لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬2). وما فَعَله - عليه الصلاة والسلام - بطريق الحكم كالتمليكِ بالشفعة، وفسوخِ الأنكحةِ والعقود، والتطليقِ بالإِعسار عند تعذُرِ الإِنفاقِ والإِيلاء والفَيئة (¬3). ونحو ذلك: فلا يجوز لأحدِ أنْ يقدِم عليه إِلا بحكم الحاكم في الوقت الحاضر (¬4)، اقتداءَ به - صلى الله عليه وسلم -، لأنه - عليه السلام - لم تقرر تلك الأمور إلا بالحكم، فتكون أمَّتُه بعدَهُ - صلى الله عليه وسلم - كذلك. وأما تصرُّفُهُ - عليه الصلاة والسلام - بالفُتيا والرسالةِ والتبليغِ، فذلك شَرْعٌ يَتقرّرُ على الخلائق إلى يوم الدين، يَلزمُنا أن نَتْبَع كلَّ حُكمِ مما بلَّغه إِلينا عن ربِّه بسببه، من غير اعتبار حُكمِ حاكمٍ ولا إِذن إِمام، لأنه - صلى الله عليه وسلم - مبلِّغٌ لنا ارتباطَ ذلك الحكمِ بذلك السبب، وخَلَّى بين الخلائق وبين ربِّهِم. ¬

_ (¬1) هذه العبارة من قوله في أول هذا المقطع: (كقسمة الغنائم ...) إلى هنا منقولة بتصرف يسير في "تبصرة الحكام" لإبن فرحون 1: 12، 13. (¬2) من سورة الأعراف، الآية 158. (¬3) في نسخة (ر): (والتطليق والإيلاء عند تعذُّر الإنفاق والفَيئة). (¬4) في نسخة (ر): (في الوقتِ الخاصّ).

المسألة الأولى

ولم يكن مُنشِئاً لحُكمٍ مِنْ قِبَلِه ولا مُرتَّباً له برأيه على حسب ما اقتضته المصلحة، بل لم يَفعل إِلَّا مجرَّدَ التبليغ عن ربَّه كالصلواتِ والزكواتِ وأنواعِ العبادات وتحصيلِ الأملاك بالعقودِ من البِياعاتِ والهِباتِ وغيرِ ذلك من أنواع التصرُّفات: لكلّ أحَدٍ أن يُباشره ويُحصل سبَبَهُ، ويَترتَبُ له حُكمُه من غير احتياجٍ إِلى حاكم يُنشئُ حكماً، أو إِمامٍ يُجدّدُ إِذناً. فإِذا تقررَ الفرقُ بين آثار تصرفه - صلى الله عليه وسلم - بالإِمامةِ والقضاءِ والفُتيا: فاعلم أنَّ تصرُّفَه - عليه الصلاة والسلام - ينقسمُ إِلى أربعة أقسام: قسمٌ اتفق العلماء على أنه تصرُّفٌ بالِإمامة، كالإِقطاع، وإِقامةِ الحدود، وإِرسالِ الجيوش، ونحوِها. وقسمٌ اتفق العلماء على أنه تصرف بالقضاء، كإِلزام أداء الديون، وتسليمِ السِّلَع، ونقدِ الأثمان، وفسخِ الأنكحة، ونحوِ ذلك. وقسمٌ اتفق العلماء على أنه تصرفٌ بالفتيا، كإِبلاع الصلواتِ، وإِقامتِها، وإقامةِ المناسك، ونحوِها. وقسمٌ وقع منه - صلى الله عليه وسلم - مُتردِّداً بين هذه الأقسام، اختَلَف العلماءُ فيه على أيها يُحمَلُ؟ وفيه مسائل: المسألة الأولى قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أحيا أرضاً مَيِّتةً فهي له" (¬1) ¬

_ (¬1) رواه بهذا اللفظ الإِمام أبو يوسف القاضي في كتاب "الخراج" ص 139، قال: "حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال شيخنا العلامة أحمد شاكر في تعليقه على كتاب "الخراج" ليحيى بن آدم ص 84 "وإسناده صحيحٌ غايةٌ في الصحة، فإن أبا يوسف من ثقات أئمة المسلمين وثقه النسائي وابن حبان". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه بهذا اللفظ أيضاً عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - أبو داود في "سننه" 3: 178، والترمذي في "جامعه" 6: 146 وقال: حديث حسن غريب، والنسائي في "سننه، كما في "نصب الراية" للزيلعي 288:4، و "فيض القدير" للمُناوي 6: 40، وأحمد في "مسنده"، والضياء المقدسي في "المختارة" كما في "الجامع الصغير" للسيوطي. وتمامُ الحديث عندهم: "من أحيا أرضاً مَيِّتةً فهي له، وليس لعِرْقٍ ظالمٍ حَقّ". ورواه بلفظ المؤلف دون الزيادة المذكورة الترمذيُّ عن جابر - رضي الله عنه - 6: 149 وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي كما في "نصب الراية" 4: 289، والإِمام أحمد في "مسنده" 3: 363 و 381. ورواه البخاري في "صحيحه" 5: 15 عن عائشة - رضي الله عنها - بلفظ "من أَعمَرَ أرضاً ليست لأحدٍ فهو أحقُّ". وسبَبُ الحديث كما رواه أبو داود في "سننه" 178:3 عن عُروة بن الزُّبير، قال: "لقد خَبِّرني الذي حدثني هذا الحديث - وأكثَرُ ظني أنه أبو سعيد الخدري - أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غَرَسَ أحدُهما نَخْلاً في أرضِ الآخَر، فقَضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمَرَ صاحبَ النخْل أن يُخرِج نخلَه منها. قال - أي أبو سعيد الخدري -: فلقد رأيتها وإنها لتُضرَبُ أصولُها بالفُؤوس، وإنها لنَخْل عُمُّ - أي تامةٌ في طولها والتفافِها - حتى أخرِجَتْ منها". قال العلامة المُناوي في "فيض القدير" 6: 39 والعلامة الزُّرْقاني في "شرح الموطأ" 3: 209، في ضبطِ رواية الحديث: "ميِّتَةً بالتشديد. قال الحافظ العراقي: ولا يقال بالتخفيف، لأنه إذا خُففَ تحذَفُ منه تاء التأنيث. والميتةُ والمَوات والمَوَتان بفتح الميم والواو: الأرض التي لم تُعمَر، سُمَّيتْ بذلك تشبيهاً لها بالميتة التي لا يُنتَفَعُ بها، لعدم الإنتفاع بها بزرع أو غرس أو بناء أو نحوها". وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 6: 15 والعلامة الزُّرقاني في "شرح الموطَأ 3: 209 في ضبط رواية الجملة الأخيرة من الحديث: "وليس لِعْرقِ ظالمِ حقٌ": رواية الأكثر بتنوين عِرْقٍ، وظالمِ نعتٌ له على سبيل الإتَّسَاع، كأنَّ العِرْقَ بغَرْسِه صار =

قال أبو حنيفة: هذا منه - صلى الله عليه وسلم - تصرُّفٌ بالإِمامة، فلا يجوزُ لأحدٍ أن يُحييَ أرضاً إِلا بإذنِ الإمام، لأن فيه تمليكاً، فأشبَهَ الِإقطاعات، والِإقطاعُ يَتوقَّفُ على إِذن الإِمام، فكذلك الإِحياء. وقال مالك والشافعي: هذا مِن تصرُّفِهِ - صلى الله عليه وسلم - بالفُتيا، لأنه الغالبُ من تصرُّفاته - صلى الله عليه وسلم - فإِنَّ عامَّة تصرفاته التبليغُ، فيُحمَلُ عليه، تغليباً للغالبِ الذي هو وضْعُ الرسل - عليهم السلام -. فعلى هذا: لا يَتوقَفُ الِإحياءُ على إِذن الإِمام، لأنها فُتيا بالِإباحة كالاحتطاب والإحتشاش، بجامعِ تحصيلِ الأملاك بالأسباب الفعلية. وأمَّا قولُ مالك: ما قَرُبَ من العُمْران لا بُدُّ فيه من إِذن الإِمام، فليس لأنه تصرُّف بطريق الِإمامة، بل لِقاعدةٍ أخرى، وهي أنَ إِحياءَ ما قَرُبَ يَحتاجُ إِلى النظر في تحريرِ حَرِيم البَلَد، فهو كتحرير الإعسار في فَسْخ النكاح، وكلُّ ما يَحتاجُ لنظرٍ وتحريرٍ فلا بُدَّ فيه من الحُكَّام. ¬

_ = ظالماً حتى كأنَّ الفعلَ له، والظُّلمُ، راجعٌ إلى صاحب العِرق، أي ليس لذي عِرقٍ ظالمٍ حق. ويُروَى بالِإضافة، فالظالمُ على هذه الرواية صاحبُ العِرق وهو الغارسُ، لأنه تصرَّفَ في ملك الغير، فليس له حقٌ في الِإبقاء فيها. وبالغَ الخطَّابي فغلَّط رواية الِإضافة، وليس كما قال، فقد ثبتَتْ، ووجهُها ظاهر فلا يكون غلطاً، فالحديثُ يُروَى بالوجهين" انتهى. وفسر الحافظ ابن حجر معنى الإِحياء فقال 6: 14 و 15 وإحياء المَوَات أن يَعمِدَ الشخصُ لأرضٍ لا يُعلَمُ تقدُّمُ ملكٍ عليها لأحد، فيُحييها بالسقي أو الزرع أو الغَرْس أو البناء، فتصيرُ بذلك ملكَه. والعِرقُ الظالمُ كما قال ربيعة: يكون ظاهراً ويكون باطناً، فالباطن ما احتفره الرجلُ من الآبار، أو استخرجه من المعادن، والظاهر ما بناه أو غرسه. وقال غيرُه: الظالمُ مَنْ غرَسَ أو زَرَع أو بَنَى أو حَفَر في أرضِ غيره بغير حق ولا شُبهة".

المسألة الثانية

المسألة الثانية قولُهُ - عليه السلام - لهندِ بنتِ عُتْبَة لمَّا شكَتْ إِليه أنَ أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ، لا يُعطيها ووَلَدَها ما يَكفيها، قال لها - عليه السلام -: "خُذي ما يكفيكِ وولَدَكِ بالمعروف" (¬1). قال جماعة من العلماء: هذا تصرُّفٌ منه - صلى الله عليه وسلم - بالفُتيا، لأنه غالبُ أحواله - عليه الصلاة والسلام -. فعلى هذا: مَنْ ظَفِرَ بجنسِ حَقِّهِ، أو بغير جنسه مع تعذُّر أخذِ الحق ممن هو عليه، جازَ له أخذُه حتى يَستوفي حقَّه. ومشهورُ مذهب مالك - وقالَهُ جماعة من العلماء - أنه لا يأخُذُ جِنْسَ حَقِّهِ إذا ظَفِرَ به وإِن تعذَّرَ عليه أخْذُ حقَّهِ ممن هو عليه (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - في مواضع من "صحيحه" 4: 338 - 339 و 444:9 و 123:13 و 150، ومسلم في "صحيحه"7:12 - 9، والنسائي في "سننه" 8: 246، والدارمي في "سننه" ص 292. ولفظُهما هو لفظُ المؤلف المذكور هنا. وجاء في سؤالها عند الدارمي قولُها: "يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وبَنيَّ إلا ما أخذتُ منه وهو لا يَعلم، فهل على في ذلك جُناح؟ فقال: خُذي ... ". (¬2) علَّق العلامة الشيخ محمد علي المالكي في كتابه "تهذيب الفروق" 1: 207 على قول القرافي هذا بقوله: "في جَعْلِهِ عدَمَ جواز أخذِ أحدٍ حقَّه أو جنسَه إذا تعذَّر أخذُه من الغريم إلا بقضاءِ قاض هو مشهور مذهبِ مالك، - وإن وافق فيه ظاهرَ قولِ خليل في باب الوديعة: "وليس له الأخذُ منها لمن ظَلَمه مثلَها" -: مخالَفةٌ لقول خليل في باب الشهادة بعدَ هذا: "وإنْ قدَرَ على شيئِهِ فله أخذُه إن يكن غيرَ عقوبة، وأَمِنَ فتنةً ورذيلةً". قال المَوَّاق - في كتاب الوديعة 266:5 - وحاصلُ كلام اللَّخْمِي وابن يونس وابن رشد والمازِريَ ترجيحُ الأخذ. اهـ." انتهى كلام صاحب "تهذيب الفروق". وقال العلامة المحقِّق الخَرْشي في "شرح مختصر خليل" في كتاب الشهادات =

واختُلِفَ في المُدْرَكِ للمَنعْ: هل هو كونه - صلى الله عليه وسلم - تَصرَّفَ في قضيةِ هندٍ بالقضاءِ فلا يجوزُ لأحَدٍ أنْ يأخذ شيئأ من ذلك إلا بحُكم حاكم؟ وهذه الطائفةُ من العلماء جَعَلَتْ هذه القضيةَ أصلاً في القضاء على الغائب. ومنهم مَنْ جَعَلَها أصلاً في القضاء بالعِلْم، لأنها لم تُقِم بيِّنةً على دعواها، حكاه الخطَّابيُّ وغيرُه (¬1). وقيل: القضيَّهُ ليس فيها إلا الفُتيا، لأنَ أبا سفيان كان حاضراً في البلد، والقضاءُ لا يتأتَّى على حاضرٍ في البلدِ قبلَ إعلامه، بل هذا تصرُّفٌ ¬

_ = 235:7 تعليقاً على قول خليل فيها: "وإن قدَرَ على شيئِه فله أخذُه إن يكن غيرَ عقوبة، وأمِنَ فتنةَ ورذيلة". قال - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "هذه المسألة تُعرف بمسألة الظَّفَر. والمعنى أن الإِنسانَ إذا كان له حق عند غيره وقدَرَ على أخذِه أو أخذِ ما يُساوي قَدْرَه من مالِ ذلك الغير، فإنه يجوز له أخذُ ذلك منه، وسواءٌ كان ذلك من جنس شيئه، أو من غيرِ جنسِهِ على المشهور، وسواءٌ عَلِمَ غريمُه أو لم يَعلم، ولا يَلزمُه الرفعُ إلى الحاكم. وجوازُ الأخذ مشروط بشرطين: الأول أن لا يكون حقُّه عقوبة، وإلا فلابُدَّ من رفعه إلى الحاكم. والثاني أن يأمن الفتنة بسبب أخذِ حقه كقتالٍ أو إراقةِ دم، وأن يامن الرذيلة، أي أن يُنسَب إليها كالغصب ونحوه، فإن لم يأمن ذلك فلا يجوزُ له أخذُه. وكلامُ المؤلف يفيد أن المرادَ بشيئِه حَقُّه، وظاهرُه ولو من وديعة، وهو المعتمد. وما مَرَّ للمؤلف في باب الوديعة من قوله: وليس له الأخذُ منها لمن ظَلَمه بمِثلها خلافُ المعتمَد". وقد توسع الشيخ ابن قَيم الجوزية في كتابه "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" 75:2 - 79 في (مسألة الظفر)، فحكى فيها مذاهب العلماء ثم ناقشها وراجَحَ بينها، فانظره إذا شئت. (¬1) أي حكوا هذا التفريعَ بقسميه. والذي حكاه الخطَّابي في "معالم السنن" 4: 162 هو تفريع القضاء على الغائب فقط، ولم يتعرض لتفريع القضاء بعلم القاضي.

بالفُتيا (¬1) وعارَضَ حديثَ قضيَّةِ هند قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أدِّ الأمانةَ إِلى مَن ائتَمنك، ولا تَخُنْ من خانك" (¬2). فاتفق الفريقان على الحُكم، واختلفا في المُدْرَك. ¬

_ (¬1) قال المؤلف في "الفروق" 1: 208 في الفرق (36): "وهذا هو ظاهر الحديث". وقال أيضاً في (الفرق 223 بين قاعدة ما يَنفُذُ من تصرفات الولاة والقضاة وبين قاعدة ما لا يَنفُذُ (46:4) إناَ قِضَة هِنْدِ فُتْيَا لا حُكم، لأنه الغالبُ من تصرفاته - عليه الصلاة والسلام -، لأنه مبلغ عن الله تعالى، والتبليغُ فُتيا لا حُكم، والتصرُّفُ بغيرها قليل، فيُحمَل على الغالب، ولأن أبا سفيان كان حاضراً في البلد، ولا خلاف أنه لا يمضَى على حاضرِ من غير أن يُعرَّف". (¬2) هذا الحديث رواه عدد من الصحابة: 1 - فعن أبي هريرة رواه أبو داود في "سننه" 3: 290، والترمذي في "جامعه" 5: 268 وقال: حديث حسن غريب، والدارمي في "سننه" ص 346، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" 46:2 وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأقرَّه الحافظ الذهبي في "تلخيص المستدرك"، والدارقطني في "سننه" ص 303، والبخاري في "التاريخ الكبير"، والطبراني في "المعجم الكبير" و "الصغير"، وقال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4: 145 "ورجال الكبير ثقات". قال الحافظ الزيلعي في "نصب الراية"4: 119 "قال ابن القطان: والمانع من تصحيحه أن شريكاً وقيس بن الربيع مختلَف فيهما". انتهى. قلت: لكن الحافظ المنذري نَقَل في "مختصر سنن أبي داود" 5: 185 تحسينَ الترمذي وأقرَّه. 2 - وعن أنس رواه الحاكم في "المستدرك" 2: 46، شاهداً لحديث أبي هريرة، ورواه الدارقطني في "سننه" ص 304، والضياء المقدسي في "المختارة". وذكره الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد"4: 144 - 145 ثم قال: "رواه الطبراني في "الكبير" و "الصغير" ورجال "الكبير" ثقات". انتهى. 3 - وعن أُبَيّ بن كعب رواه الدارقطني في "سننه" ص 303. 4 - وعن أبي أمامة رواه الطبراني في "المعجم الكبير"، قال الحافظ الهيثمي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = في "مجمع الزوائد" 4: 145 "في سنده يحيى بن عثمان بن صالح المصري، قال ابن أبي حاتم: تكلَّموا فيه". قلت: وقد بيَّن الحافظ ابن حجر سبَبَ كلامهم فيه فقال في "تقريب التهذيب" في (يحيى): (صَدُوق، لينَّه بعضهم لكونه حدَّث من غير أصله". فجَرْحُه خفيف لا يقتضي تركَ حديثه. 5 - وعن رجل من الصحابة راوه أبو داود في "سننه" 3: 290، والإِمام أحمد في "المسند" 3: 414. قال الشوكاني في "نيل الأوطار" 5: 252 "في إسناده مجهول آخر غير الصحابي، لأن يوسف بن ماهَك رواه عن فلان آخر. وقد صححهُ ابنُ السَّكَن. وقال ابن الجوزي: لا يصحُّ من جميع طرقه. وقال أحمد: هذا حديث باطل، لا أعرفه من وجه يصح". انتهى كلام الشوكاني. قلت: لعل الإِمام أحمد قال ذلك قبلَ أن يَثبت هذا الحديثُ عنده؟ وإلَّا لو كان من كل وجوهه باطلاً لما استساغ أن يرويه ويُثبته في كتابهإ المسند" الذي ارتضاه أن يكون للناس إماماً، فالحديثُ عنده - على أقل تقدير - ثابت. ويشهد لثبوته عنده أيضاً استدلالُه به في مواضع، كما ذكره أبو الحسن ابن اللحام الحنبلي في آخر كتابه" القواعد والفوائد الأصولية) ص 358 - 310 في (مسألة الظَّفَر) المبحوث فيها هنا. وهذا ملخَّصُ ما قاله فيها: "مسألة الظَّفَر، اختلف العلماء فيها، فمنهم من قال بعدم الجواز بكل حال، وهو قولُ مجاهدٍ ... وأحمد، واحتَجَّ أحمدُ في مواضع بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أدِّ الأمانة إلى من ائتَمَنك، ولا تخُنْ من خانك". واستدلالُه بالحديث يدل على ثبوته، ولهذا جعله القاضي أبو يعلى روايةً عنه بثبوتِ الحديث، وهو يُخالِفُ روايةَ مُهَنَّا عنه بإنكاره". انتهى كلامُ ابن اللَّحام. فيكون في هذا الحديث عن أحمد روايتان، وآخِرُ الروايتين ثبوتُ الحديث بدليل إيرادِ أحمد له في "المسند" واستدلالِهِ به في مواضع كما سبقَتْ العبارةُ بذلك، والله أعلم. ولهذا قال الشوكاني عقِبَ نقلِهِ كلامَ ابن الجوزي وأحمد: "ولا يخفى أنَّ ورود =

المسألة الثالثة

المسألة الثالثة قولُهُ - عليه الصلاة والسلام -: "مَنْ قتَلَ قتيلاً فله سَلَبُه" (¬1) ¬

_ = الحديث بهذه الطرق المتعددة، مع تصحيح إمامين - الحاكم وابن السكن - من الأئمة المعتَبرِين لبعضِها، وتحسينُ إمام ثالث منهم - الترمذي، ومع إقرارِ المنذري لتحسين الترمذي، وإقرارِ الذهبي لتصحيح الحاكم -: مما يَصيرُ به الحديثُ منتهضاً للإحتجاج". انتهى. فالحديثُ حسن. ثم قولُ المؤلف: "عارَضَ حديثَ هندٍ حديثُ أدِّ الأمانة ... " فيه نظر، قال الحافظ المنذري في "مختصر سنن أبي داود" 5: 185 "وهذا الحديث يُعدُّ في الظاهر مخالِفاً لحديثِ هند، وليس بينهما في الحقيقة خلاف. وذلك لأن الخائن هو الذي يأخذُ ما ليس له أخْذُه ظلماً وعُدواناً، فأما من كان مأذوناً له في أخذ حقه من مال خصمه واستدراكِ ظُلامته منه فليس بخائن. وإنما معناه: لا تَخُن من خانك بأن تقابله بخيانةِ مثلِ خيانته، وهذا لم يخنه، لأنه يَقبض حقاً لنفسه، والأول يغتصب حقاً لغيره". وقال الشوكاني في "نيل الأوطار" 5: 252 "فيه دليل على أنه لا يجوز مكافاةُ الخائنِ بمثلِ فعلِه، فإن الخيانة لا تحل، ولكن الخيانة إنما تكون في الأمانة، كما يُشعِرُ بذلك كلامُ "القاموس"، فلا يصح الإستدلالُ بهذا الحديث على أنه لا يجوز - لمن تعذرَ عليه استيفاءُ حقه - حبْسُ حقَّ خصمه على العموم. إنما يصح الإستدلال به على أنه لا يجوز للإنسان إذا تعذر عليه استيفاء حقه أن يَحبِسَ عنده وديعة لخصمه أو عارية، مع أن الخيانة إنما تكون على جهة الخديعة والخفية، وليس محلُّ النزاع من ذلك". انتهى باختصار وتصرف يسير. أما سبَبُ الحديث فلم يُعلَم كما قاله ابن حمزة الحسيني في "البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف" 1: 43. فما ذكره العَدَوي في حاشيته على "شرح الخَرْشي لمختصر خليل" 118:6 من أن سبَبَه "سُئل - صلى الله عليه وسلم - عمن أراد وَطْءَ امرأة ائتمنه عليها رجل قد كان هو ائتُمِنَ على امرأة ذلك الرجل السائل، فخانه فيها ووطئها، فقال له: أدِّ الأمانة ... ". فكلامٌ باطل لا يُلتفَتُ إليه! (¬1) رواه أبو قتادة الأنصاري السُّلَمي فارسُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - =

قال مالك: هذا تصرُّف من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإِمامة، فلا يجوزُ لأحَدٍ أن يَختصَّ بسَلَب إلَّا بإِذن الإِمام في ذلك قَبْلَ الحرب، كما اتَّفق ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال الشافعي: هذا تصرُّفٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الفُتيا، فيَستحق القاتلُ السَّلَبَ بغير إذن الإمام، لأنَّ هذا من الأحكام التي تَتْبَعُ ¬

_ في غزوة حُنَين بعد نهاية القتال. ورواه عنه البخاري في "صحيحه" 6: 177 و 29:8، 33، ومسلم في "صحيحه" 12: 59، وأبو داود في "سننه" 3: 70، والترمذي في "جامعه" 57:7، ومالك في "الموطأ" 1: 301، وابن ماجه في "سننه" 2: 946، وأحمد في "المسند" 5: 295 و 306، كلاهما بنحو هذا اللفظ، وتمام الحديث عند جميعهم "من قَتَل قتيلاً له عليه بيِّنة فله سَلَبُه". والسَّلَبُ هو فَرَصُ المحارب المقتول وسَرْجُه ولِجامُه وكل ما عليه من لباس وحِلية ومهاميز، وكلُّ ما مع المقتول من سلاح أو مال في نطاقه أو في يده أو كيفما كان. وجاء من طريق أخرى عن أنس، عند أبي داود 3: 71، ولفظه: "عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذِ - يعني يومَ حُنَين -: من قَتَل كافراً فله سَلَبُه فقَتَل أبو طلحة يومئذِ عشرين رجلاً، وأخَذَ أسلابَهم. قال أبو داود: هذا حديث حسن". (¬1) في قول الإِمام القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "قال مالك: هذا تصرُّف من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإِمامة، فلا يجوزُ لأحَدِ أن يَختص بسَلَبِ إِلا بإِذن الإِمام في ذلك قَبْلَ الحرب، كما اتَفق ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إشكالٌ في قوله: (قبلَ الحرب). وهو أن مذهب الإِمام مالك - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: لا يجوزُ للإِمام التنفيلُ إلَّا بعد الحرب، فهذا القول هنا (قبل الحرب) مشكلٌ ومُعارِضٌ لما تقرر في مذهبه وقد سألت طائفة من كبار العلماء من السادة المالكية عن هذا الإِشكال، وراسلتهم وكاتبوني مشكورين. فطالت الأجوبة منهم عن هذا الِإشكال، فرأيت إثبات كلامهم وإجاباتهم وما يتصل بها في آخر الكتاب لطولها، فلتنظر هناك في ص 270.

أسبابَها كسائر الفتاوى. واحتَجَّ على ذلك بالقاعدةِ المتقدمة (¬1)، وهي أنَّ الغالب على تصرُّفه - صلى الله عليه وسلم - الفُتيا، لأنَّ شأنَهُ الرسالةُ والتبليغ. وأمَّا مالكٌ: فخالَفَ أصلَهُ في القاعدة، وجعَلَهُ من باب التصرُّف بالإِمامة، بخلاف المسألتين المتقدمتين، وسببُه أمورٌ: أحدُها: قولُهُ تعالى: {واعلَمُوا أنَّما غَنِمتُمِ من شيءٍ فأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} (¬2). فالآية تقتضي أنَّ السَّلَبَ فيه الخُمُسُ لله - عَزَّ وَجَلَّ -، وبقيتُهُ للغانمين. والآيةُ متواترة، والحديثُ آحاد، والمتواترُ مقدَّم على الآحاد (¬3). وثانيها: أنَّ إِباحةَ هذا تُفضِي إِلى فسادِ النيَّات، وأن يَحمِلَ الِإنسانُ بنفسه على قِرْنهِ من الكُفِّارِ لما يَرى عليه من السَّلَب، فربما قَتَله الكافرُ وهو غيرُ مُخْلِصٍ في قتاله، فيَدخُلُ النار! فتذهَبُ النفسُ والدِّين! وهذه مَزَلَّة عظيمة تقتضِي أن يُترَك لأجلها الحديث (¬4)، لأنَّ الآحَادَ قد تُترَكُ للقواعد، لا سيَّما والحديثُ لم يُتْرَك، وإِنما حَمَلناه على حالةٍ وهو أن يُجعَل من باب ¬

_ (¬1) في أثناء المسألة الأولى ص 111. وتلك القاعدة هي: "أن الغالب من تصرُّفاته - صلى الله عليه وسلم - عند الشافعي ومالك - تصرُّف بالفُتيا، فإن عامَّة تصرفاته التبليغ، فيُحمَلُ عليه تغليباً للغالب الذي هو وضْعُ الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ". (¬2) من سورة الأنفال، الآية 41. (¬3) عُلَّقَ في حاشية مخطوطة الأحمدية هنا: الحديثُ خاص فيُخَصُّ به عمومُ الآية وإن كان خبرَ واحد. (¬4) زاد المؤلف في "الفروق" 1: 208 في الفرق (36): "وسبَبُ مخالفة مالك لهذا الأصل أمور: منها أن ذلك ربما أفسد الإِخلاص عند المجاهدين، فيقاتلون لهذا السَّلَب دون نصر كلمة الإسلام، ومِن ذلك أنه يُؤدَّي أن يُقبِل على قَتْلِ من له سَلَبٌ دون غيره، فيقع التخاذلُ في الجيش، وربما كان قليلُ السَّلَب أشدَّ نكايةَ على المسلمين. فلأجل هذه الأسباب تَرَكَ هذا الأصل".

التصرُّف بالإِمامة، فإِذا قاله الإِمام صَحّ. وثالثها: الاستدلالُ على صَرْفِه للتصرُّف باللإمامة. وذلك أنَّ هذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - يَتبادَرُ للذهن منه أنه إِنما قاله - صلى الله عليه وسلم - لأنَّ تللق الحالةَ كانَتْ تقتضي ذلك ترغيباً في القتال. فلذلك نقول: متى رأى الإِمامُ ذلك مصلحةَ قاله، ومتى لا تكون المصلحةُ تقتضي ذلك لا يقولُه. ولا نَعني بكونه تصرُّفاَ بالإِمامة إلا هذا القدْر. فهذه الوجوهُ هي المُوجِبَةُ لمخالفةِ مالكِ أصلَهُ وفي حَمْل (¬1) تصرُّفِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على الفُتيا حتى يَثْبُت غيرُها، لأنها الغالب. ونظائرُ هذه المسألة كثيرٌ في الشريعة، فتَفَقدْه تجده وتجد فيه عِلماً كثيراً ومُدْرَكاً حسناً للمجتهدين. تنبيه لا يتَوهم الفقيهُ أنَّ مِن هذه المسائلِ المختَلَفِ فيها: ما وقع بين عمر بن الخطاب وأبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - في سبايا بني حَنِيفة، فإِنَّ الصديق - رضي الله عنه - أباحَهُنَ سَبْياً، ثم لمَّا وَلِيَ عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - أمَرَ برَدِّهن لأهلهنّ، ولو كان الصديقُ - رضي الله عنه - حَكَم باسترقاقِ بني حنيفة صاروا مِلكاً للمسلمين، فلا يجوزُ لعمر - رضي الله عنه - إِتلافُهُ عليهم. بل كان ذلك من الصديق - رضي الله عنه - على سبيل الفتوى، لا جَرَم جاز لعمر - رضي الله عنه - مخالفتُه، لأنها مسألةُ اجتهادِ لم يَحْصُل فيها ¬

_ (¬1) قولُه: (وفي حَمْلِ ...)، هكذا جاءت العبارة بالواو قل (في)، في نسخة (ر)، وهي في غيرها من غير واو.

إِجماع، ولم يتَّصِل بها حُكم، فاعلم ذلك فإِنَّ كثيراً من الفقهاء يَستشكلُ إطلاقَ عمر - رضي الله عنه - لبني حنيفة مع أنَ الصديق استرقهم. ولولا تقريرُ هذه القواعد لعَسُرَ في ظاهرِ الحال فَهْمُ ذلك، فإِنَّ المتبادِرَ إلى الفَهْم أنه مما حَكَمَ به الصديق - رضي الله عنه -.

السؤال السادس والعشرون

السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونْ إذا قلتم: إنَّ حُكم الحاكم لا يُنقَض، فهل معناه أنَّ الحاكم لا يَنْقُضُه وللمفتي أنَّ يُفتي بما يخالفه كما كان قَبْل الحكم، أو تَبْطُلُ الفُتيا بمخالفته وتصيرُ مسألةَ اتفاقٍ بعد الحكم؟ فإن قلتم: تَبْطُل الفُتْيا أيضاً مع الحكم، فيُشكِلُ ذلك بما قاله صاحبُ "الجواهر" (¬1) في قوله في كتاب الأقضية في نقض الأحكام فيما يُنقَضُ منها، قال: "الفَرْعُ الرابعُ أنَّ القضاء وإن لم يُنْقَض فلا يَتغيَّرُ به الحكمُ الباطن، بل هو على المكلَّف على ما كان قبلَ قضاءِ القاضي، وإِنما القضاءُ إِظهارٌ لحُكم الشرع لا اختراعٌ له، فلا يَحِل للمالكي شُفعةُ الجار إِذا قَضَى له بها الحنفي، ولا يَحِلُّ لمن أقام شهودَ زُور على نكاح امرأة فحكمَ له القاضي - لإعتقادِه عدالتَهم - بنكاحِها وإِباحةِ وطئها: أن يطأها، ولا أن يَبْقَى على نكاحها". ¬

_ (¬1) هو الإِمام جمال الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن نجم بن شَاس بن نزار الجُذَامي السَّعْدي المصري، كان جدُّه شَاس من الأمراء، وكان هو إمامَ المالكية في عصره، وكان محدِّثاً حافظاً ورعاً، حدَّث عنه الحافظ زكي الدين المنذري. وكتابه المشارُ إليه اسمه "الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة"، على ترتيب كتاب "الوجيز" للإِمام الغزالي، وهو من أجمع كتب الفروع عند السادة المالكية وأكثرِها فوائد. وله كتاب "كرامات الأولياء". وكان يُدرَّسُ بمصر في المدرسة المجاورة للجامع العتيق جامع عمرو بن العاص، فلما نَزَل الإِفرنجُ على ثغر دمياط وحاصروها، توجَّه الشيخ إليها بنية الجهاد والقتال في سبيل الله، فتوفي هناك سنة 616، - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

هذا نصُه في "الجواهر". ومع هذا النص كيف يقولون: إِن الفُتيا تَبْطُل بحكم الحاكم؟ وهو يقول: الحكُم في الباطن على المكلَّف على ما كان عبيه، وإِنَّ المالكيَّ إِذا حَكَم له الحنفيُّ بشفعة الجار لا يجوزُ له أخذُها، فلو كانت الفُتيا تَبْطُلُ بالحكم وتصيرُ المسألةُ إِجماعيةً لجاز للمالكي أخْذُ شفعةِ الجار، ولا سبيلَ حينئذٍ إِلى القول بتغيير الفتاوى لقضاء الحكام بخلافها؟ جَوَابُهُ اعلم أنَّ جماعةً من أعيان المالكية اعتقدوا بسبب هذا الفرع، أنَّ حكم الحاكم في مسائل الخلاف لا يُغَيرُ الفتاوى، فإِذا حَكَم فيها بالحِلِّ مثلاً بقي المُفتِي بالتحريم يُفتي به بعد ذلك. فالقائلُ: إِنَّ وَقْفَ المُشاع لا يجوز، أو إِنَّ الوقفَ لا يجوز، إِذا حكم حاكمٌ بالجوازِ والنفوذِ واللزومِ بَقي للآخرَ أن يُفتي بجواز بيعِ ذلك الموقوف، والممتنعُ النقضُ دون الفُتيا. وكذلك إِذا قال: إِن تزوَّجتُكِ فأنتِ طالق، فتزوجَها وحكمَ حاكمٌ بصحةِ العقد وبقاءِ النكاح وعدَمِ لزوم الطلاق: إِنَّ لِمخالِفه أن يُفتي بعد ذلك أنها حرام عليه. وهذا أعتقدُه خلافَ الإِجماع، ولم أجد هذا النقلَ الذي في "الجواهر" لغيره، مع أني بذلتُ جهدي في تتبُّعِ المصنَّفات. والظاهرُ أنَّ عبارته - رضي الله عنه - وقَعَ فيها توسُّعٌ، ومقصودُهُ إحدى مسألتين في المذهب: إِحداهما: أنَّ الحكم إِذا لم يصادف سبَبه الشرعي فإِنه لا يُغَيِّرُ الفُتيا، كالحكمِ بالطلاقِ على من لم يُطلِّق، إِمَّا لخطأ البيِّنة وإِما لتعمُّدها الزُّور. وقد ذكَرَها في "الجواهر" في عين الفرع كما تَقدَّم الآن نقلُه، أو بالقِصاصِ أو غيرِه مع انتفاء سببه، فإِنَّ الفتاوى عندنا على ما كانت عليه قبلَ الحكم خلافاً لأبي حنيفة.

والمسألة الثانية: ما هو على خلافِ القواعد أو النصوص، كما قال ابنُ يونس (¬1): قال عبدُ الملك (¬2): معنى قولِ مالكِ: "لا يُنقَضُ قضاءُ القاضي": إِذا لم يُخالِف السُّنَّة، أما إِذا خالَفَها نُقِضَ: كاستسعاءِ العبد بعِتْقِ بعضه، فيقضِي باستسعائه فيُنْقَضُ ويُرَدُّ له ما أدَّى، ويَبقى العبدُ مُعتَقاً بعضُه. وكالشُّفْعَةِ للجار أو بعدَ القسمة، أو الحكمِ بشهادةِ النصراني، أو ميراثِ العمَّة أو الخالة أو المَوْلى الأسفَل، وكل ما هو على خلاف عمل أهل المدينة ولم يقل به إِلَّا الشذوذُ من العلماء، أو طلَّقها البتة فرآها الحاكمُ واحدةً وتزوَّجها الذي أبتَّها فلغيره التفريق. ¬

_ (¬1) هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصَّقِلي المالكي. كان إماماً حافظاَ نطاراً أحدَ أئمةِ الفقهِ والترجيح، وكان إلى إمامته في الفقه والعلم ملازماً للجهاد في سبيل الله موصوفاً بالنجدة، ألَف كتاباً حافلاً جامعاً على "المدونة"، أضاف إليها غيرَها من الأمهات، فأصبح معتمد طلبة العلم لما حواه من الفوائد والزيادات، وله كتاب في الفرائض. توفي سنة 451 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. (¬2) هو أبو مروان عبد الملك بن حبَيب بن سليمان السُّلَمي القرطبي المالكي، رحَلَ إلى المشرق وأخَذَ عن علمائه، ثم رجع إلى المغرب بعلم كثير عظيم، وأصبح عالم الأندلس وفقيهها، نحوياً لغوياً نسَّابة أخبارياً عروضياً شاعراً محسناً. وألَّف كتباً حِساناً كثيرة في الفقه والحديث والتاريخ والأنساب والأدب وغريب الحديث والمواعظ والطب والنجوم. ومن أشهر كتبه: "تفسير موطأ مالك" و"الواضحة" في السنن والفقه، قال العُتْبيُّ - وذَكَر الواضحة - رحم الله عبد الملك، ما أعلم أحداً ألَّف على مذهب أهل المدينة تأليفَه، ولا لطالب العلم أنفَعَ من كتبه. ولا أحسَنَ من اختياره. توفي عبد الملك في قرطبة سنة 238 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

فهذه نحوُ عَشْر مسائل نقَلها ابنُ يونس، وإِنَّ الفتاوى تتقى فيها، ويُنقَضُ الحكمُ (¬1). فيَبقى قولُ صاحبِ "الجواهر": "إِنا إِذا قلنا: لا يُنْقَض الحكمُ لا يأخذ المالكيُّ شُفعة الجار". مع أنَّ ابن يونس ما نقَلَها إِلَّا في أنَّ الحكم يُنقَض، فبَيْنَ النقلينِ تنافٍ كما ترى. فإِن كان مرادُ صاحب "الجواهر" هاتين المسألتين فهو صحيح، غير أن عبارتَه وتفريعَه على عدمِ نقضِ الحكم يأبى ذلك، مع أنه لم يُمثّل إلَّا بشُفعةِ الجار ومَنْ طُلِّقَ عليه بشهادة الزُّور. وكونُهُ لم يُمثل إِلَّا بالمسألتين يُشعِرُ بأنه لم يُرد إِلَّا إِياهما، وتفريعُهُ على عدم النقض في الحكم يأبى ذلك. فهذا اضطراب لم يوجد لغيره، مع أنَّ نُقولَ المذهب تأباه، وذلك في مسائل: إِحداها: أنَّ الساعي إِذا أخَذَ شاة من أربعين شاة لأربعين مالكاَ، مقلِّداً لمذهبِ الشافعي، قال الأصحاب بتوزيع الشاة على الأربعين مالكاً، وأفتَوْا قبل أخْذِ الساعي لها أنَها - إِنْ أخَذَها غيرَ متأوِّلٍ ولا حاكمٍ - مَظْلَمة (¬2)، ولا تُوزَّع، وتَختصُّ بمن أُخِذَتْ منه. فقد تغثرتْ فُتياهم باعتبارِ مقتضى مذهبهم، وباعتبارِ طرَيَانِ الحكم (¬3)، فدَلَّ ذلك على أنَّ حُكم الحاكم يرفعُ الفتاوى، وتصيرِ المسألةُ كالمجمَعِ عليها بسبب اتصالِ حكمِ الحاكم بها. وثانيها: في "المدوَّنة": إذا كان لأحدِهما أحَدَ عَشَر، وللآخَرِ مئةٌ ¬

_ (¬1) وخالف في ذلك ابنُ عبد الحكم تلميذُ مالكِ فقال: لا يُنقَضُ قضاءُ القاضي في هذه المسائل، كما نقله عنه المؤلف القرافي في كتابه "الفروق" 4: 41 في الفرق (223) فقال بعدَ ذكرِها: "وخالَفَ ابنُ عبد الحكم وقال: لا تنقَضُ شُفْعَةٌ وما ذُكِرَ معه من الفروع، لضعفِ مُوجِبِ النقضِ عنده، وجمهورُ الأصحابِ على خلافِه". (¬2) في الأصول الخمسة: (أنها مَظلمة). (¬3) أي طروئه وحُدوثه.

وعشرة، قال صاحبُ "الطِّرَاز" (¬1) وغيرُه: لا شيء على صاحبِ الأحَدَ عَشَر إِلَّا أن يأخذها الساعي حاكماً بمذهب من يقلدُه في ذلك فتتوزَّع على الجميع (¬2). وثالثُها: قال سَنَدٌ (¬3) - في صلاة الجمعة -: إِذا نَصَب السُّلطانُ فيها إِماماً مِن قِبَلِه لا تَصحُّ إِلَّا من نائبِ السلطان، لأنَّ افتقارَ إِقامة الجمعة إِلى إِذن السلطان مسألَةُ خلاف، فإِذا اتَصَل بها حكمُ حاكم لم تَصح إِلَّا بنائبِ السلطان. وهذه كلُّها فتاوى تغئرتْ بسبب حكم الحاكم. ¬

_ (¬1) هو الإِمام الفقيه النظَّار أبو علي سَنَدُ بن عِنان الأسدي المصري المالكي، كان من زهاد العلماء وكبار الفقهاء، تولى تدريسِ المذهب المالكي في مدينة الإِسكندرية بعد وفاة شيخه الإِمام أبي بكر الطُّرْطُوشي، وانتفع الناس به، وألف كتاب "الطِّراز"، شرَحَ به كتاب "المدوَّنة" في ثلاثين سفراً، وتوفي قبل إكماله، وله تأليف غيره. ومن مليح شعره قولُه: وزائرةِ للشيب حَلَّتْ بمَفرِقي ... فبادَرْتُها بالنَّتْفِ خَوْفاً من الحَتْفِ فقالت: على ضعفي استَطلتَ ووَحدتي ... رُويدَكَ للجيشِ الذي جاء مِن خَلْفِي! توفي في الِإسكندرية سنة 541 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. (¬2) عبارة "المدوَّنة" في باب (زكاة ماشية الخلطاء) 1: 279 "قلت: فإن كانا خليطين لواحدٍ عشرة ومئة، وللآخر إحدى عشرة، فأخَذَ الساعي شاتين؟ قال: يَلزَم كلَّ واحد منهما على قدر ما لكل واحد منهما من الغنم. وإنما ذلك بمنزلة ما لو كان لكل واحد منهما عشرون عشرون فصارت أربعين، فأخَذَ منها شاةً، فهي عليهما جميعاً. ألا ترى أن صاحب العشرة ومئة، لولا خَلْطُ صاحب الإِحدى عشرة لم تكن عليه إِلَّا شاة واحدة، فدخلَتْ المَضَرَّةُ عليه منه، كما دخلت على صاحبي الأربعين، أدخَل كل واحد منهما على صاحبه المضرة، فلزمهما جميعاً، فكذلك لَزِم هذين". (¬3) هو صاحبُ "الطراز"، وتقدمت ترجمته قبل أسطر.

ورابعها: قالوا في تخالُفِ المتبايعَيْنِ (¬1): هل يقتضي الفسخَ أو حتى يَحكمَ به الحاكم؟ قالوا (¬2): ويُبْنَى على الخلاف هل لأحدهما أن يُمضي العقد بما قال الآخَرُ قَبْلَ الحكم أم لا؟ فقد تغيَّرت الفُتيا بجواز إِمضاء العقد بما قال الآخر بسبب الحكم. وخامسها: في "المدوَّنة ": أنَّ المُعتِق إِذا كان مُعسِراً ثم طرأ اليسارُ بعدَه قُوِّمَ عليه، إِلَّا أن يَتقدَّم حُكمٌ بسقوط التقويم عليه، فلا يَلزمه تقويم. فقد أَفتى مالك في الكتاب بالتقويم، ثم أَفتى بعدمه لتقدُّمِ الحكم، فقد غيَّرَ الحُكمُ الفتيا. وسادسها: قال مالك في "المدوَّنة" في العتق الأوَّل إِذا رَدَّ الغرماءُ عِتقَ المعسِر: ليس لهم ولا له بيعُ العبيد المعتَقين حتى يُرفَع للإِمام، فإِن فَعَل أو فَعَلوا ثم رُفعَ للإِمام بعد أن أيسر: رَدَّ البيعَ ونَفَذَ العتقُ لحدوث اليُسر، فإِن باعهم الإِمام ثم اشتراهم المعتِقُ بعد يُسرِه كانوا له أرقَّاء (¬3). ¬

_ (¬1) وقع في الأصول الأربعة: (تحالُف)، أي بالحاء المهملة. وجاء في نسخة (ر): (تَخَالُف المتبايعينِ)، أي بالخاء المعجمة، وهو الصواب فأثبته. (¬2) جاء في الأصول الخمسة كلها: (قال). فأثبتُها كما ترى. (¬3) عبارة "المدوَّنة" 2: 377 أتمُّ مما هنا وأوضح وهذا نصُّها: "قلتُ: أرأيتَ من أعتَقَ رقيقَه ولا مالَ له غيرُهم، وعليه دَين يغترقُهم، فيقُوم عليه الغرماء: أيكونُ له أن يبيعهم دون السلطان أو يكونُ ذلك للغرماء؟ قال: قال مالك: لا يكون له أن يبيعهم، ولا لهم، دون السلطان. قلتُ: فإن باعهم بغير أمر السلطان، ثم أفاد مالاً، ثم رُفع أمرُهم إلى السلطان؟ قال: يَردُّ بيعَهم وتمضي حُزيَتُهم، وإنما يَنظر السلطانُ في ذلك يومَ يُرفَع إليه، فإن كان أَعتَقَ وهو موسِرٌ ثم أفلس لم يَردَّ عتقَهم، وإن كان أَعتَقَ وهو مفلس ثم أَيسر لم يَردَّ عتقَهم أيضاً. قلتُ: فإن باعهم السلطان في دَينه، ثم اشتراهم سيدُهم الذي كان أعتقهم بعد ذلك، أيَعتقون عليه في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا يَعتقون عليه، وهم رقيق".

فتغيَّرت الفُتْيا ببيعِ الحاكم لأنه مُستلزِمٌ للحكم، وبطَلَ العتقُ، وكانت الفُتيا في بيعِ الغرماء وبيعِ المعتق أن البيع يَبطل باليسار، ويَنْفُذُ العتق، وفي الصُّورتين بَيْع، وفي الصورتين تعلُقُ حق الغرماء، وفي الصُّورتين طَرَيانُ اليُسرِ بعدَ العُسر، ولا فارقَ في تغيُّر الفُتيا إِلَّا حكمُ الحاكم. وسابعها: قال مالك: إِن خُرِصَتْ الثمارُ فنَقَصت لم يُعتبَر النقصُ، لأنَّ الخارص حاكم، ولو لم تُخرَص الثمار وكانت عند وقت الوجوب أقلُّ من النصاب: لم تجب الزكاة، وهاهنا هي في وقت الوجوب أقلُّ من النصاب، وقد أفتى بوجوب الزكاة لأجلِ حُكم الحاكم. فقد تغيَّرت الفُتيا لأجل الحكم، وهذا مع تبيُّن خطئه، وكلامُنا في الحاكم إِذا لم يَتبيَّن خطؤه، فهو أولى وأحرى بأن تَتغيَّر الفُتيا لأجله (¬1). وثامنها: ما قال ابنُ يونس عن جماعة من الأصحاب في كتاب إِحياء المَوَات: إِذا شَرَع اثنانِ في بناءِ بئرينِ لكل واحدٍ منهما بئر، بعد تنازعٍ بينهما في الحَرِيم لذينك البئرين ونفيِ الضرر عنهما، فحكمَ حاكمٌ بعدَمَ الضرر، ثم تبيَّن الضَّررُ: إِنه ليس للمضرور منهما إِزالةُ الضرر، وقد سَقَط حقُّه منه، لأنه بحكم حاكم. وقولُهم: (سَقَط حقُّه) فُتْيَا، فقد تغيَّرت الفُتيا بسبب حكم الحاكم، فإِنه لولا حُكْم الحاكم لكان له دَرْءُ الضرَّرِ عن نفسه، وكُنَّا نُفتيه بذلك اتفاقاً. فإِذا تغيَّرت الفُتيا للحكم وإِن تبيَّنَ خطؤه فأولى أن تتغيَّر بالحكم الذي لم يتبيَّن خطؤه. وما وقع في هذه المسألةِ وفي مسألةِ الخَرْص التي قبلَها بَيْنَ ¬

_ (¬1) سيأتي بحثُ الخَرْص موشَعاً في جواب (السؤال الثالث والثلاثون) في الرتبة الثالثة عشرة ص 174، فانظره.

الأصحاب من الخلافِ إِلَّا لكونِ الحُكم تبيَّن خطؤه، ولو اتَّفقوا على عدم الخطأ لاتَّفقوا على تغيُّر الفُتيا، وإِنما الخلافُ بينهم في نقض هذا الحكم لتبين خطئه فقط. فظهر أنهم لا يختلفون في الحكم الذي لم يَتبيَّن خطؤه أنه تتغيرُ الفُتيا باعتباره. فإِن قيل: إِنما المعنى في هذه المسائل كلِّها أنَّ الحكم لا يُنقَضُ، وليس بتغيُّرِ فُتيا؟ قلنا: النقضُ وظيفةُ حاكمٍ آخر غيرِ الحاكم الأوّل، لا وظيفةُ المفتي، والمفتي في هذه المسائل يُسألُ ويُخبِرُ عن الله تعالى بأنَّ ذلك له أو ليس له، وأنَ ذمَّته تَعفَرَتْ بالزكاة أو ما تَعفَرَتْ. وهل هذا إِلَّا فُتْيَا صِرْفَة؟ وإِلَّا فلا معنى للفُتيا غيرُ قولِنا: هذا حلال، هذا حرام، هذا واجب، هذا غير واجب، هذا مأذون فيه، هذا غير مأذون فيه، إِلى غير هذا. فهذا تغيُّرٌ للفتاوى جزماً، لا امتناعٌ مِن نَقْضِ الحكم. وتاسعها: في الكتاب (¬1): لا يَجزي أن يُؤخَذ في الزكاة ذاتُ العَوَار (¬2) ولا التَيْسُ، فإِنْ رأى السَّاعي أجزأ، فأفتى بالِإجزاء بعد أخذِ الساعي، وبعَدَمِه قبلَه، وهذا تغيُّرٌ في الفُتيا لأجلِ حكم الحاكمِ، لأن الساعي عند مالك حاكم. وعاشرها: قال سَنَدٌ في كتاب الخِلْطة: لو كان لكلّ واحدٍ من الخُلَطاء أربعون شاة، فأُخِذَ من أحدهم ثلاثُ شياه، رَجَعَ على صاحبيه بثلثي شاة، لأنه لا تجب في مئة وعشرين إِلَّا شاة، عليه ثلثُها، وعلى صاحبيه ثلثاها، فإِن أُخِذَ الثلاثُ شياه على رأي من لا يَرى بالخلطة كأبي حنيفة: رَجَع على كل واحد بشَاةٍ. ¬

_ (¬1) يعني: "المدوَّنة" 1: 267. (¬2) أي ذات العيب. وفي نسخة (ر): (ذاتُ العَوَر).

فقد تغيَّرت الفتيا بعد فعل الحاكم، وليس هذا من باب عدم النقض، لأن النقض إِنما هو للحكام. وأمَّا قولُ العالمِ: لك الرجوعُ، ليس لك الرجوع، إِنما هو فتيا. ونظائرُ هذه المسائل كثيرةٌ في المذهب جداً. وإِنما قَصدتُ بهذه النبذةِ التنبيهَ على المطلوب، وأنَّ المسألةَ - فيما أظنُ - مجمَعٌ عليها، وكيف يمكنُ الخلافُ فيها وبقاءُ الفُتيا بعد الحكم؟ وقد تقدَّم (¬1) أنَّ الله تعالى استناب الحُكَامَ في إِنشاء الأحكام في خُصوصيات الصور في مسائل الخلاف، فإِذا حكَمَ الحاكم بإِذْنِ الله تعالى لَهُ، وصح حكمُه عن الله تعالى: كان ذلك نصاً وارداً من الله تعالى على لسان نائبه الذي هو نائبُه في أرضه، وخليفةُ نبيّه في خصوص تلك الواقعة، فوجَبَ حينئذٍ إِخراجهُا من مذهب المخالِفِ في نوع تلك المسألة. فإِنَّ الدليل الشرعي الذي وجدَه المخالفُ في ذلك النوع عامٌ فيه، وهذا النصُّ خاص ببعض أفراد ذلك النوع، فيَتعارضُ في هذا الفرد من هذا النوع دليل خاصّ وهو حكمُ الحاكم، ودليلٌ عامٌ وهو ما اعتقده المخالِف في جملة النوع، فيُقدَّمُ الخاصُ على العام كما تَقرَّر في أصول الفقه. وهذا هو السرُّ في أنَّ الحكم لا يُنقَض، لا ما يعتقده بعضُ الفقهاء من أنَّ النقض إِنما امتنَع لئلا تنتشرَ الخصومات، فإِنَّ ما تقدَّم شَهدَتْ له قاعدةٌ أصولية، وما ذكروه لم يَشهد له قاعدة أصولية. والمعضودُ بالشهادة أَولى، وإِن سلمنا صِحَّتَه فيَتعاضَدُ هو والمشهودُ له، لأن المَدَاركَ قد تَجتمع، إِلَّا أنه لا ينبغي أن يُلغَى ما شهدَتْ له القواعدُ إِلَّا لمعارضٍ أرجحَ منه. ¬

_ (¬1) في ص 80 - 81.

السؤال السابع والعشرون

السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونْ هل يكون حكمُ الحاكم مدلولاً عليه بالمطابقة تارة، وبالتضمن تارة، وبالالتزام أخرى كسائر الحقائق، أوْ لا توجدُ الدلالةُ عليه إِلَّا مطابقةً؟ وهل يكون الدال عليه تارةً قولاً، وتارةً فعلاً، أم لا يَدكُ عليه إِلَّا القولُ خاصَّةً نحو قوله: قد حكمتُ بكذا، واشهدوا عليَّ أني حكمتُ بكذا؟ وهل إِذا جوَّزتم أن يكون الدالُّ عليه فِعلاً يختصُّ بتصرفات الحكام أم لا (¬1)؟ جَوَابُهُ قد يكون الحكم الذي يُنشئه الحاكم مدلولاً عليه بالمطابقة قولاً، نحو قوله: قد حَكمتُ بفسخ هذا النكاح، وقد يكون مدلولاً عليه بالقول تضمناً، نحو قوله، قد حَكمتُ بفسخ هذين النكاحين، فمجموعُ الحكمين مدلول عليه مطابقةَ، وكلُّ واحد منهما مدلولٌ عليه تضمُّناً، وقد يكون مدلولاً عليه باللفظ التزاماً، نحو قوله: قد حكمتُ بصحة بيعِ العبدِ الذي أعتقه من أحاط الدينُ بماله، فإِنه يَدلُّ بالمطابقةِ على الحكم بصحة البيع، وبالإلتزامِ على الحكم بإِبطال العتق المتقدم على البيع، لأنه يَلزمُ مِن صحةِ البيع بطلانُ العتق، لأنَّ الحُرَّ يَحرُمُ بيعُه، هذا القول. واْما الفعلُ فقد يدلُّ على الحكم مطابقة، فإِن مجرَّدَ بيعِ الحاكم للعبد ¬

_ (¬1) هذا السُّؤَالُ وجوابه باختصار منقول في "تبصرة الحكام" 1: 71 - 72، 76 - 77، و "معين الحكام" ص 36 - 37، 42 - 43.

الذي أعتقه من أحاط الدينُ بماله مُبطِلٌ العِتقَ (¬1)، فإِنَّ إِقدامه على بيعه يَستلزمُ الحكمَ ببطلان العتق. وكذلك إِقدامُه على تزويج امرأة تزوَّجت قبل هذا العقد بنكاح: فسخٌ (¬2)، فإِنَّ نفس العقد عليها يَستلزم الحكم بفَسْخ نكاحِها المتقدم، بخلاف ما لو زَوَّج يتيمةً تحت حِجره، أو باع سِلعةً لها: لا يدلُّ ذلك على الحكم البتة لا بسابقٍ ولا لاحقٍ ولا مُقارِن، بل لغيره من الحكام أن يَنظر فيه إِن كان مختلَفاً في بعض شروطه عند الحاكمِ الثاني فله فسخُه. وأما دلالةُ الفعل تضمناً: فلا توجد إِلَّا في الكتابة، فإِنها فِعلٌ، وإِذا كتَبَ لحاكمٍ آخر: أني قد أَعتقتُ هذين العبدين على المُعْتِق لبعضِهما، أو فسَختُ هذين النكاحين، فدلالةُ هذه الكتابة على الحكم فيهما مطابقةٌ، وعلى كل واحدٍ منهما تضمُّن، لأنه جزءُ مدلولِ الكتابةِ. وأما الفعل الذي هو البيعُ ونحوُه فلا تتأتَّى فيه دلالةُ التضمُّن البتة، فإِنَّ الحكم لا يقع إِلَّا لازماً له، وجُزءُ اللازم لا يكون مدلولاً تضمّناً، إنما يكون مدلولاً تضمُّناً جزءُ المدلول مطابقةً، والبيعُ لا يَدلُّ مطابقةً بل التزاماً فقط، والكتابةُ وإن كانت فعلاً فهي كاللفظ تدلُّ مطابقة، فتُصورَتْ فيها دلالةُ التضمُّنِ. فتأمَّلْ ذلك، وفَرقْ بين النوعين والدلالتين، ويُحتَمَلُ أن الكتابة تدلُّ بالوضع كاللفظ (¬3)، بخلاف البيع ونحوِه ليس دلالتُه بالوضع بل باللزوم الشرعي فقط. ¬

_ (¬1) لفظُ (مُبْطِلٌ العِتقَ) زيادة مني على الأصول، للإِيضاح وإتمام خبرِ (فإنَّ ...). (¬2) جاء في الأصول الخمسة كلها: (يفسخ). فأثبتُه كما ترى. (¬3) وقع في الأصول الأربعة: (وتخيَّلْ). وجاء في نسخة (ر): (ويُحتَمَلُ)، فأثبته.

وظهر لك حينئذ أنَّ الحكم يكون مدلولاً مُطابقةً وتضمُّناً والتزاماً بالقولِ والفعل، وأنَّ الفعل قد يختصُ بالحكام كالبيع على المَديِن، وقد لا يَختصُّ كالكتابة، لأنَّ لكلّ واحدِ أن يكتُبَ بحاله وتصرُّفاته. وظهر لك أيضاً أن فِعلَ الحاكم قد يَعْرَى عن الحُكم البتة، وقد يَستلزمه، والمتقدّمُ من المُثُلِ في هذا الجواب كافٍ في هذه المقاصد فتأمَّلْه.

السؤال الثامن والعشرون

السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونْ هل يتأتَّى نقضٌ من المفتي أو لا يتأتَّى إِلَّا مِن حاكم؟ وقولُ الفقهاء: حكمُ الحاكم في مسائل الخلاف والإجتهاد لا يُرَد ولا يُنقَضُ، هل يَخصُّ ذلك الحُكَّامَ أو يَعمُّ الفريقين: الحُكام والمفتين؟ جَوَابُهُ أنَّ النقض لا يكون إلَّا لمن يكون له الإبرامُ فيما يكون فيه النقض. وإِنشاء الحكم في مَوَاضع الخلاف إِنما هو للحكام، فكذلك النقضُ والفسخُ إِنما هو لهم. والمفتي ليس له إنشاءُ الحكم فليس له نقضُه، كما أنَّ الوليَّ في المحجور عليه له إِنشاءُ العقود على أموال المحجور عليه، وله فسخُها، والمحجورُ عليه ليس له إِنشاؤها، فليس له فسخُها. وكذلك المرأةُ ليس لها إِنشاءُ عقد النكاح على نفسها، فليس لها حَلُّه. والعبدُ ليس له أن يُزوِّجَ نفسه بغير إِذن سيده، فليس له فسخُ العقد عن نفسه إِلَّا أن يأذن له سيده في النكاح فله الطلاق، لأنه بالإِذن صار له الإِنشاء. وهذه قاعدةٌ كثيرةُ الفروع، من لا يَملك العقدَ لا يملك الحَلّ، وبها استَدلَّ علينا الشافعيةُ في التعليقِ قبلَ النكاحِ والملكِ إِذا قال: إِن تزوَّجتُكِ فأنتِ طالق، وإِن اشتريتُكَ فأنتَ حُرّ. قالوا: لم يَملك الآن عصمة فلا يَملك طلاقاً، أولم يَملك إِنشاءَ الطلاق فلا يَملك تعليقه. وكذلك قالوا في العتق، مع أنَّ الزوج والسيد لهما الإِنشاء من حيث الجُملةُ إِجماعاً إِذا مَلَكا العصمةَ والرقّ.

وأما المفتي من حيث هو مفتٍ فليس له أن يُنشئ حكماً على الوجه الذي فُوضَ للحُكَّام - كما تقدم بيانُه - (¬1) ألبتَّةَ في صُورةٍ من الصُّورَ، فلا يكون له النَّقضُ في صُورة من الصُّوَر، وما هو إِلَّا مِثلُ أنَّ المرأة ليس لها أن تُزوِّج نفسَها في صُورة من الصُّور، فليس لها الطلاق في صُورة من الصُّوَر. وبهذا يَظهر لك أن جميع ما يَصدر من المفتي إِنما هو فُتيا، لا نقضٌ ولا حُكمٌ بالمعنى المفوض إِلى الحكام، وإِن كان حكماً شرعياً بالتفسيرِ باعتبار استقراءِ الأدلة الشرعية كالمترجِمِ عن الحاكم، كما تقدَّم تقريره في الفرق بين المفتي والحاكم (1)، وأنَّ الحاكمَ منشئ والمفتيَ مترجِم. ¬

_ (¬1) في جواب (السؤال الثالث) ص 43 - 45.

السؤال التاسع والعشرون

السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونْ ما سببُ نقضِ الحكم إِذا وقَعَ في الصوَر الأربع مُخالفةِ الإِجماع، والقواعدِ، والقياسِ الجليّ، والنصِّ؟ وما مُثُلُ ذلك (¬1)؟ جَوَابُهُ أمَّا سببُ النقض فإِنّ الإِجماع معصوم لا يقولُ إِلَّا حقاً، ولا يَحكمُ إِلَّا بحق، فخلافُهُ يكون باطلاً قطعاً، والباطل لا يقرَّرُ في الشرع فيُفسَخ ما خالف الإِجماع. وأمَّا القواعدُ والقياسُ الجلي والنصُّ - وإِن كانت في صورة الخلاف - فالمراد إِذا لم يكن لها مُعارِضٌ راجحٌ عليها، أما إِذا كان لها مُعارِضٌ فلا يُفسَخُ الحكم إِذا كان وَفْقَ مُعارضِها الراجح إِجماعاً، كالقضاء بصحة عقد القِراض والمساقاةِ والسَّلَمِ والحوالةِ ونحوِها، فإِنها على خلاف القواعد والنصوص والقياس، ولكن لأدلةٍ خاصَّةٍ مقدمةٍ على القواعد والنصوص والأقيسة، لأنها عامة بالنسبة إِلى تلك النصوص. ومتى لم يكن هذا المُعارِضُ، بل عُدِمَ بالكلية بأن يكونَ الإجتهادُ لتوهمٍ ليس بواقعٍ في نفس الأمر، أو اعتماداً على استصحاب براءةِ الذمَّة ونحوِه، لعدم الشعورِ بتلك القواعد والنصوص والأقيسة، أو يكونَ ثَمَّ ¬

_ (¬1) هذا السؤال وجوابُه منقول ببعض اختصار في "تبصرة الحكام" 1: 55، 59 - 60، وفي "معين الحكام" ص 28، و 32 - 33.

مُعارِضٌ مرجوحٌ من حديثٍ مضطربِ الإسنادِ ونحوِه: فإِنه لا يُعتدُّ به، ويُنقَضُ ذلك الحكمُ لوقوعه على خلاف المعارِض الراجح. فهذا هو سببُ النقض، فإِنَّ مِثلَ هذا لا يقر في الشرع لضعفه، وكما لا يَتقرر إِذا صدَرَ عن الحكام كذلك أيضاً لا يصح التقليدُ فيه إذا صدَرَ عن المفتي، ويَحرُم اتباعُهُ فيه. ولذلك نقولُ: ليس كلُّ الأحكام يجوزُ العملُ بها، ولا كلُّ الفتاوى الصادرةِ عن المجتهدين يجوز التقليدُ فيها، بل في كل مذهبٍ مسائلُ إِذا حُقّقَ النظرُ فيها امتنَعَ تقليدُ ذلك الإِمام فيها كالحُكَام حَرْفاً بحرف. وأما مُثلُها: فكما لو حكَمَ بأنَّ الميراث كلَّه للأخ دون الجَدّ، فإِن الأُمة على قولين: المالُ كلُه للجَد، أو ويقاسِمُ الأخَ، أما حِرمانُه بالكلية فلم تقل أحدبه. فمتى حكَمَ به حاكم بناءً على أنَّ الأخَ يُدلي بالبنوة، والجدَّ يُدلي بالأبوَّة، والبُنَّوة مقدمة على الأبوَّة: نَقَضْنا هذا الحكمَ، وإِن كان مُفتِياً لم نُقلده. ومثالُ مخالفةِ القواعد: المسألةُ السُّرَيْجِية (¬1)، متى حكَمَ حاكم بتقرير ¬

_ (¬1) نسبة إلى ابن سُرَيج، وهو أبو العباس أحمد بن عُمر بن سُرَيج أحَدُ أئمة السادة الشافعية في عصره، ولد سنة 249، وتوفي سنة 306 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وترجمتُه الحافلة في "طبقات الشافعية" لإبن السبكي 87:2 - 96 من الطبعة الحسينية، و 3: 21 - 39 من الطبعة المحققة. واشتهرت المسألةُ بالسُّرَيجية لأنه الذي أظهرها، وهي كما في حاشية العلامة الصاوي المسمَّاة "بُلْغَة السالك إلى أقرب المسالك إلى مذهب الإِمام مالك"1: 515: "إذا قال: إن طلَّقتُكِ فأنتِ طالقٌ قبلَه ثلاثاً لا يَلزمُه شيء أصلاً، ولا يَلحقه فيها طلاقٌ للدوْرِ الحُكميّ، فإنه متى طلقَها وقع الطلاق قبلَه ثلاثاً، ومتى وقع الطلاقُ قبلَه ثلاثاً كان =

النكاح معها في حقّ من قال: إِن وقع عليكِ طلاقي فانتِ طالق قبلَه ثلاثاً (¬1). ¬

_ = طلاقُها الصادرُ منه لم يصادف مَحَلاً". ثم قال الصاوي بعد هذا: "لكن قال العز بن عبد السلام: تقليدُ ابن سُرَيج في هذه المسألة ضلالٌ مبين" انتهى. أي لأنه يلزم منها انتفاءُ وقوع الطلاقِ المنجز والمعلق بها ممن يُعلق الطلاق بهذه الصيغة. وهذا مخالف للشرع، إذ هذا التعليق أصبح وسيلة للتخلص من وقوع الطلاق ممن صدر منه هذا التعليق. وقال المؤلف في "الفروق"1: 75 في الفرق (3): "وكان الشيخ - يعني شيخه - عز الدين بن عبد السلام - رَحِمَهُ اللهُ - يقول: هذه المسألة لا يصح التقليد فيها، والتقليد فيها فسوق ... ". انتهى. ونَقَل العلامةُ الرملي من السادة الشافعية في "نهاية المحتاج" 7: 30 رجوعَ ابن سُرَيج عن هذه المسألة. ولقد شَغَلت هذه المسألةُ فقهاءَ المذاهبِ الأربعة قبولاً وردَّاً، فتعرَّضوا لها في كتاب الطلاق، كما تُعرِّضَ لها في غير كتب الفقه، فتراها في "الفتاوى الكبرى، للشيخ ابن تيمية 97:4 - 103، وقد أبان فيها - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - انتفاءَ وقوع الطلاق عند أحَدِ من الأمة. وأبانَ في "مجموع الفتاوى" 33: 240 - 244 أنها مسأَلة باطلة في الإسلام مُحدَثة، لم يُفتِ بها أحدٌ من الصحابة والتابعين ولا تابعيهم، ولا أحدٌ من الأئمة الأربعة. وأطال في بيان ذلك وأجاد. وتراها أيضاً عند ابن القيم في "إعلام الموقعين" 3: 263، وفي "طبقات الشافعية" لإبن السبكي في ترجمة الإمام ابن دقيق العيد 6: 20 من الطبعة الحسينية، و 9: 245 من الطبعة الطبعة المحققة، وفي "الفروق" للمؤلف القرافي 1: 74 - 75. (¬1) قال شيخنا وأستاذنا العلامة الفقيه مصطفى أحمد الزرقاء حفظه الله تعالى، فيما كتبه إلي معلقاً على قولِ القرافي هنا: (إنْ وَقَعَ عليكِ طلاقي فأنتِ طالقٌ قبلَهُ ثلاثاً)، ما يلي: "الصوابُ أن يقول: (إن طلقتُكِ)، لأنها هي الصورةُ الحقيقية للمسألة السُّرَيجية، أي إنَّ الشرطَ المعلقَ عليه فيها هو التطليقُ باللفظ، لا وقوعُ الطلاق، لأنه إذا افتُرِضَ الوقوعُ لم يبق له رافع، بخلافِ الإِيقاعِ أي التطليقِ، فإنَّ الشخصَ قد يُوقعُ الطلاقَ =

فطلَّقها ثلاثاً أو أقلَّ، فالصحيحُ لزومُ الثلاثِ له (¬1)، فإِذا ماتت أو مات وحكَم بالإِرث لها أو منها نَقَضنا حُكمَه، لأنَّهُ على خلاف القواعد، لأنَّ من قواعد الشرع صِحَّةَ اجتماع الشرط مع المشروط، لأنَّ حُكمه إِنما يظهر فيه، فشَرْط لا يصحُّ اجتماعه مع مشروطه لا يَصحُّ أن يكون في الشرع شرطاً، فلذلك يُنقَضُ حكمُ الحاكم في المسألةِ السُّريجيَّة. ومثالُ مخالفةِ النصّ: حكمُهُ بشُفعةِ الجار، فإِنَّ الحديث الصحيح واردٌ في اختصاصها بالشَّريك (¬2)، ولم يَثبُت له معارِضٌ صحيح، فيُنقضُ الحكمُ ¬

_ = فلا يُعتبَرُ واقعاً شرعاً. وواضحٌ أن رأيَ ابنِ سُرَيج سَفْسطةٌ فقهية، لأنَّ المانعَ من وقوعِ الطلاقِ المنجَّزِ: اللاحقُ المعلَّقُ عليه إذا كان، أي المانعُ هو وجودُ ثلاثٍ قبلَه، فهذا إنما يكون عند اعتبار تلك الثلاثِ واقعةً، فإن لم تُعتبَر واقعةً لم يَبقَ في طريق الطلاقِ المنجَّزِ عليه أيُّ مانع يَحُولُ دون وقوعِه، كما هو ظاهر، فابنُ سُرَيج لم يَلحظ لوازمَ رأيهِ المتناقِضَةَ، ولذا قال العِزُّ بنُ عبد السلام عنها: إنها ضلالٌ مبين" انتهى. (¬1) أي الثلاثِ المنجزةِ لا المعلَّقة، بدليلِ لاحِقِ كلامِهِ الآتي، حيث يتبَّينُ عَدمُ إمكانِ وقوع المعلَّق، لعدم اجتماعِ الشرطِ والمشروط، وهو خلافُ المعهود في الشريعة، وعليه يَظهَرُ ما في قوله: (فالصحيحُ لُزُومُ الثلاثِ له)، من تساهلٍ في التعبير، فقد كان المناسِبُ أن يقول: (لزومُ الثلاثِ أو الأقلِّ بحسَبِ ما طَلَّق)، لأنه قد فَرَض في المسألة أنَّ الرجلَ بعد التعليق طَلَّقَ بالتنجيزِ ثلاثاً أو أقلَّ، ما دام الذي يقعُ إنما هو المنجز لا المعلق. أفاده أستاذنا العلامة الفقيه مصطفى أحمد الزرقاء أمتع الله به. (¬2) قلت: واستدلوا له بما روى البخاري في كتاب الشفعة، في (باب الشفعة فيما لم يقسَم) 436:4، ومسلم 11:46، في كتاب البيوع، في (باب الشفعة): وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: قَضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وَقَعَتْ الحُدودُ. وصُرفَتْ الطُرُقُ فلا شُفعةَ". هذا لفظُ رواية البخاري، ولفظ رواية مسلم: "قَضَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كلِّ شِرْكةِ لم تُقسَم .. ". =

بخلافه (¬1). ¬

_ =قال الإِمام النووي في "شرح صحيح مسلم": "واستدَكَ أصحابُنا وغيرُهم بهذا الحديث، على أن الشفعة لا تَثبُتُ إِلَّا في عقارٍ مُحتمِلِ للقسمة ... ، واستدل به أيضاً من يقولُ بالشفعة فيما لا يَحتمِلُ القسمة". انتهى. وتوجيهُهُ ما أفاده الفقيه العلامة الشيخ سُليمان البُجَيرِمي الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في حاشيتِه على "شرح منهجِ الطلاب" 149:2، قال: "قولُهُ: فيما لم يقسَم. هو ظاهرٌ في أنه تقبَلُ القسمةَ، لأن الأصلَ في المنفى بـ (لم)، أن يكون في الممكن أي من شأنِهِ أن تقبَل القسمة، بخلاف المنفيَّ بـ (لا). واستعمالُ أحدِهما محلَّ الآخَرِ إجمالٌ أو تجوزٌ، أي مجازٌ إن وُجِدَتْ قرينة ظاهرة على أنه المراد، كما في قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}، وإذا لم تكن قرينةٌ مُعَيَّنةٌ بخصوص المراد، كمان اللفظُ باقياً على إجمالِهِ لم تتضح دلالتُه". انتهى وفائدةُ هذا الأصل مهمة تُحفَظ، ومن أجل أهميتها سجَّلتُها هنا. (¬1) قلت: بل ثبت له معارض صحيح جاء فيه ثبوت الشُّفعة للجار أيضاً، روى البخاري في"صحيحه" 4: 361 وأبو داود 3: 286 والنسائي 7: 320 وابن ماجه 2: 834 عن أبي رافع: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الجارُ أحق بسَقَبِه". قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 4: 361 "السَّقَبُ بالسين المهملة، وبالصاد أيضاً، ويجوز فتح القاف وإسكانها: القربُ والملاصقة". وروى أبو داود 3: 286 والترمذي 6: 129 عن الحسن عن سَمُرة مرفوعاً: "جارُ الدار أحقُّ بدارِ الجارِ والأرض". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. ورواه أحمد في "مسنده" 5: 12، والطبراني في "معجمه" وابن أبي شيبة في "مصنفه". وفي بعض ألفاظهم: "جارُ الدار أحقُّ بشفعة الدار". وأخرجه النسائي وابن حبان في "صحيحه" عن أنس مرفوعاً بلفظ "جارُ الدار أحقُّ بالدار" كما في "نصب الراية" للزيلعي 4: 172. وأخرج النسائي 7: 320 وابن ماجه 2: 834 وأحمد في "مسنده" 4: 388 وإسنادُهم صحيح كما قاله ابن القيم في "إعلام الموقعين" 125:2، وزاد فيهم: الترمذي، ولم أر الحديث في "سننه"، ولم يعزه إليه الحافظ المِزِّي في "تحفة الأشراف" =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 4: 152، ولا النابلسي في "ذخائر المواريث" 1: 267، فعَزْوُه إلى الترمذي من سَبْقِ القلم. واللفظ الآتي للنسائي عن الشَّرِيد بن سُوَيد الثقفي أن رجلاً قال: يا رسول الله أرضي ليس لأحد فيها شَرِكة ولا قِسمة إِلَّا الجوار. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الجارُ أحقُّ بسَقَبِه". ورواية أحمد: "جارُ الدار أحقُّ بالدار من غيره". وروى أبو داود 3: 286 والترمذي 6: 130 والنسائي 7: 321 وابن ماجه 2: 833 واللفظ له ولأبي داود عن جابر مرفوعاً "الجار أحقُّ بشُفعةِ جاره، يُنتظَرُ بها وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحداً". وقال الترمذي: "والعمَلُ على هذا الحديثِ عند أهل العلم". انتهى. وقد تكلم بعضهم في سند هذا الحديث، كما ذكره الزيلعي في "نصب الراية" 4: 173 - 174 ثم ردَّه. وانظر "إعلام الموقعين" للحافظ ابن القيم 2: 119 - 132 وقد بَحثَ فيه - رَحِمَهُ اللهُ - تعالى موضوعَ الشفعة للشريك وللجار، وفي العقار وغيرِهِ من الحيوان والثياب وغيرهما، معقولاً ومنقولاً بما لا تراه عند غيره، فطالعه. وقد أفاض الحافظُ المرتَضَى الزَّبيدي في بيان الخبر الدال على شُفعةِ الجار، في كتابه "عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب أبي حنيفة (2: 66 - 71، فراجعه، وانظر أيضاً "فيض الباري على صحيح البخاري" لإِمام العصر الشيخ أنور الكشميري 3: 270 - 272، ففيه استيفاءُ تحقيق المسألة من وجهة نظر الحنفية بشكل بارع مُلزِم. وحكى الطبري أن القول بشفعة الجوار هو قول الشعبي، وشُرَيح، وابن سيرين، والحَكَم، وحماد، والحسن، وطاوس، والثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه. وكتَبَ عُمَرُ إلى شُرَيْح أن يقضي به، فكان يقضي به. كما في "الجوهر النقي على سنن البيهقي" للحافظ علاء الدين المارديني 107:6 - 108. وعلى هذا: لا يُنقَضُ الحكم بشفعة الجار، لموافقته للنص الصحيح الوارد فيها، والله تعالى أعلم. وبهذا قال ابنُ عبد الحكم تلميذُ مالك، كما نقله المؤلف القرافي عنه في "الفروق" 3: 41 في الفرق (223)، قال: 9"وخالَفَ ابنُ عبد الحكم وقال: لا تنقض =

ومثالُ مخالفةِ القياس: قبولُ شهادةِ النصراني، فإِنَّ الحكم بشهادته يُنقَض، لأنَّ الفاسق لا تُقبَل شهادتُه، والكافرُ أشدُّ منه فسوقاً وأبعدُ عن المناصب الشرعية في مقتضى القياس، فيُنقَضُ الحكمُ لذلك، فألحِقْ بكلّ قسمِ منها ما يناسبُه. ¬

_ = شفعة الجار، لضعفِ موجِبِ النقض عنده"، وتقدم مني نقلُه تعليقاً في ص 114. ولعل مما ينايسب التمثيلَ به: ما لو حكم القاضي بإبطال وقف المنقول، فإنه يُنقَضُ حكمُه، لمخالفتِهِ النص الصحيح الواردَ بصحة وقف المنقول، والله أعلم.

السؤال الثلاثون

السُّؤَالُ الثَّلَاثُونْ ما الفرقُ بين الحكمِ والثبوتِ والتنفيذ؟ وهل الثبوتُ حكمٌ أم لا؟ وإِذا قلنا بأنَّ الثبوت حُكمٌ فهل هو عينُ الحكم أو يَستلزمُه ظاهراً؟ وعلى التقديرين هل ذلك عامٌّ في جميع صُوَر الثبوتِ أم لا؟ (¬1). جَوَابُهُ أمَّا الحكمُ فقد تقذَمت حقيقتُه (¬2)، وهو إِنشاءُ إِلزامٍ أو إطلاقٍ في صُوَر التنازع لمصالح الدنيا. وتقدَّمتْ فوائدُ هذه القيود (¬3). وأمَّا الثبوتُ فهو قيام الحِجَاج على ثبوت الأسباب عند الحاكم وفي ظنه. فإِذا ثبَتَ بالبيّنة أنَّ السيد أَعتقَ شِقْصاً له في عبد (¬4)، أو أنَّ النكاح كان بغير وليّ أو بصداقٍ فاسد، أو أنَّ الشريك باع حِصَّتَه من أجنبي في مسالةِ الشفعة، أو أنها زوجةٌ للميتِ حتى تَرِث، ونحوُ ذلك من ثبوت أسباب الأحكام، فلا شكَّ أنه قد تَقوم الحجةُ على ثبوت السبب، وتَبقَى عند الحاكم رِيبةٌ، أو لا تَبقى عنده ريبة؟ لكن يَبقى عليه أن يَسأل الخصمَ هل له مطعن أو مُعارِض؟ ونحوُ ذلك، ولا ينبغي أن يُختلَف في هذا أنه ليس ¬

_ (¬1) هذا السؤال وجوابه منقول في "تبصرة الحكام" 1: 90 - 91، 97 - 98، و"معين الحكام" 49 - 50، 58 - 59. (¬2) في ص 20. (¬3) في ص 20 - 24. (¬4) أي حِصَّته منه.

حُكماً (¬1). وإن قامت الحُجَّةُ على سبب الحكم، وكَمَل، وانتفت عنه الرِّيَب، وحصلتْ الشروطُ وجميعُ المطلوبِ فيه، فلا شكَّ أنه يتعيَّنُ على الحاكم على الفور أن يَحكم، لأنَّ أحد الخصمين ظالم، وإزالةُ الظلم واجبةٌ على الفور. وإِذا تعيَّن على الحاكم في هذه الحالة الحكمُ، فَظَاهرُ حاله أنه فعَلَ ما يجب عليه، فصار الحكمُ من لوازم الثبوت على هذا الوجه، فيجب أن يُعتقد أنه حُكمٌ بناءً على ظاهر الحال. فهذا معنى قول فقهاءِ المذهب: إِنَّ المشهور أنَّ الثبوت حُكم (¬2). ¬

_ (¬1) وهكذا في نسخة (ر): اليس حُكماً). وفي سائر النسخ: (ليس ثبوتاً)، والأول أصوبُ فاثبتُه. زاد في "تبصرة الحكام" و"معين الحكام": "ولا حُكماً لوجود الريبة أو عدمِ الإِعذار". (¬2) علَّق عليه العلامة ابن فرحون في "تبصرة الحكام" 1: 90، 97 بقوله: "يريد في هذه الصورة الخاصة، وليس ذلك في جميع صور الثبوت. وهذا التشهير مخالف لما نقله الشيخ تقي الدين السبكي - الشافعي - عن مذهب مالك رضي الله تعالى عنه أن الصحيح عندهم - أي الشافعية - وعند المالكية: أنه ليس بحكم. وقاله الشيخ سراج الدين البُلْقِيني أيضاً - من الشافعية - وقال: إنه التحقيق. وقد سبق بيانُه - يعني في الفصول الأربعة السابقة في كلامه، وذلك في ص 80 - 95، 87 - 97 من "تبصرة الحكام" -. قال ابن عبد السلام: وليس قولُ القاضي: (ثَبَت عندي كذا) حكماً منه بمقتضى ما ثبت عنده، فإن ذلك أعم منه. قال: وإنما ذكرنا هذا لأنَّ بعض القَرَويين - أي أحَدَ علماء جامع القَرَويين في فاس - غَلِطَ في ذلك، وألَّفَ المازريُّ جزءاً في الرد عليه، وجَلَبَ فيه نصوصَ المذهب".

والقولُ الشاذُّ يَرى أنَّ حقيقةَ الثبوت مغايرة لحقيقة الحكم، ومع تغايرِ الحقائق لا يمكن القولُ بحصول أحدِ المتغايرين عند حصول الآخر إِلَّا أن يُجزَم بالملازمة، واللزومُ غيرُ موثوق به، لإحتمال أن يكون عند الحاكم ريبة ما علمنا بها، ولا يَلزمُ من عَدَمِ العلم بالشيء العلمُ بالعَدَم، فيُتوقَّفُ حتى يَحصُلَ اليقين بالتصريح بأنه حُكم. هذا في الصُّوَر المتنازَعِ فيها التي حكَمَ الحاكم فيها بطريق الإِنشاء (¬1). اْما الصُّوَرُ المجمَعُ عليها، كثبوتِ القيمةِ في الإِتلاف، والقتلِ للقِصاص، وثبوتِ الدَّينِ عنده في الذمة وعقدِ القِراض، والسرِقة للقطع، فالثبوتُ الكاملُ في هذه الصُّورِ جميعِها لا يَستلزمُ إنشاءَ حكم من جهة الحاكم، بل أحكامُ هذه الصور جميعِها مقرَّرةٌ في أصل الشريعة إِجماعاً. ووظيفةُ الحاكم في هذه الصور إِنما هو التنفيذ، وفيما عدا التنفيذ: الحاكمُ والمفتي فيه سواءٌ، وليس هاهنا حُكم استنابَ صاحبُ الشرع فيه الحاكمَ أصلاً البتة، بل هذه أحكامُها تَتْبَعُ أسبابَها، كان ثَمَّ حاكمٌ أم لا؟ نعم، الذي يقفُ على الحاكم: التنفيذُ. مع أنه غيرُ مختص به في الدَّيْن وشِبهِه، فلو دَفَعَ المُتلِفُ القيمةَ والمَدينُ الدَّينَ وسلَّم البائعُ المبيعَ استُغنِيَ عن مُنفِّذٍ من حاكمٍ أو غيرِه. وإِنما يُحتاجُ إِلى الحاكم في الصُّوَر المجمَع عليها إِذا كانتْ تفتقر إِلى نظرٍ واجتهادٍ وتحريرِ أسباب، كفسخ الأنكحة، أو كان تفويضُها للناس يؤدّي إِلى التهارُجِ والقتال، كالحدود والتعازير، مع أنَّ التعازير من القسم ¬

_ (¬1) لفظ (فيها) زيادة مني، وليس هو في الأصول الأربعة، ثم رأيته موجوداً في نسخة (ر). فالحمدُ لله على توفيقه.

الأول، تفتقرُ إِلى التحرير وتقديرِ التعزير بقدر الجناية والجاني والمجني عليه. وأما متى عَرِيَتْ الأحكامُ المجمَعُ عليها عن ذلك لم تَحتج إلى تنفيذ الحاكم، وله تنفيذُها. وأما إِنشاءُ حكمِ فلا سبيل إِليه في جميعها. وأما حقيقةُ التنفيذ فهو غيرُ الثبوتِ والحكم، لأنه الإِلزامُ بالحبسِ والسَّجن، وأخذُ المالِ بيد القوة ممن عليه الحق، ودفعُه لمستحقِّه ونحوُ ذلك، فهذا هو التنفيذ. وهو في الرتبة الثالثة الأخيرة (¬1)، والثبوتُ في الرتبة الأولى، والحكمُ بينهما في الرتبة الثانية. فظهر الفرقُ بين الثبوت والحكم والتنفيذ، وأنَّ الثبوت غيرُ الحكم قطعاً، وقد يَستلزمه وقد لا يَستلزمه، وقد تكون الصورة قابلةَ لاستلزامه وقد لا تكون قابلةً له، كما تقدَّمَ في صُوَر الإِجماع (¬2). وأن القولَ بأن الثبوتَ حُكم في جميع الصور خطأ قطعاً، وأنه يتعيَّن تخصيصُ هذه العبارة، وتأويلُ كلام العلماء وحملُه على معنى يصح، فاعلم ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) قال المؤلف في "الذخيرة": "وليس كلُّ الحكام لهم قوة التنفيذ لا سيما الحاكمُ الضعيفُ القدرة على الجبابرة، فهو يُنشئ الإِلزام ولا يَخطُرُ له تنفيذُه لتعذر ذلك عليه، فالحاكم ليس له إِلَّا الإِنشاء، وأما قوة التنفيذ فأمرٌ زائد على كونه حاكماً". انتهى من "تبصرة الحكام" لإبن فرحون 1: 12، 13. (¬2) في ص 144. (¬3) وقال المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في كتابه "الفروق" 4: 54 في الفرق (225): "اختُلِفَ في الحكم والثبوت، هل هما بمعنى واحد أو الثبوتُ غير الحكم؟ والعجَبُ أن الثبوت يوجد في العبادات والمواطن التي لا حكم فيها بالضرورة إجماعاً، فيَثبُتُ عند الحاكم هلالُ رمضان وهلالُ شوال، وتَثبُتُ طهارةُ الماء ونجاستُه، ويَثبُتُ عند الحاكم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = التحريمُ بين الزوجين بسبب الرضاع، ويَثبُتُ التحليلُ بسبب العقد، وليس في ذلك شيء من الحكم، وإذا وُجِدَ الثبوتُ بدون الحكم كان أعم من الحكم، والأعمُ من الشيء غيرُه بالضرورة. ثم الذي يُفهَمُ من الثبوت هو مفهومٌ من الحُجة كالبيِّنة وغيرِها السالمةِ من المطاعن، فمتى وُجِدَ شيء من ذلك فإنه يقال في عرف الاستعمال: ثبَتَ عند القاضي ذلك. وعلى هذا التقديرِ يُوجَدُ الحكمُ بدون الثبوت أيضاً، كالحكم بالإجتهاد كإعطاء أمير الجيش الأمانَ للعدوّ، وكذلك في قَسْمِ الحَبْسِ - أي الوقفِ - بين أهلهِ يَجتهدُ ويُفضل أهلَ الحاجة. وإذا أَسَر الإمامُ العدو فالِإمامُ مخير في خمسة أشياء، وكذلك عقْدُ الصُّلح بين المسلمين والكفار، وتقديرُ نفقة الزوجة والأولاد. فإذا ثبَت هذا عُلِمَ أن كل واحد منهما أعمُّ من الآخر من وجه، وأخصُّ من وجه. ثم ثبوتُ الحجة مغايرٌ للكلام النفساني الِإنشائي الذي هو الحكم كما تقدم بيانُه في التعريف بحقيقة الحكم، فثَبتَ كونُهما غيرين بالضرورة، وأن الثبوتَ هو نهوضُ الحجة، والحكمَ إنشاءُ كلامِ في النفس هو إلزامٌ أو إطلاق". انتهى. ونقله القاضي ابن فرحون في "تبصرة الحكام" 1: 91 - 92، 98 - 99.

السؤال الحادي والثلاثون

السُّؤَالُ الحَادِي وَالثَّلَاثُونْ هل يكون إِقرارُ الحاكم على الواقعة حُكماً بالواقع فيها أم لا؟ كما إِذا رُفع له عَقْدٌ فترَكه من غير نكير، هل يكونُ ذلك كإِقرار صاحب الشرع إِذا رأى أحداً يفعل شيئاً فترَكه؟ فإِنَّ ذلك يكون إِباحةً لذلك الفعل، أو يكونُ إِقرارُ الحاكم أضعفَ؟ لكونه في موطن الخلاف، فله تبقيتُهُ على ما هو عليه من الخلاف، ولا يَتعرَّضُ له، بخلاف إِقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكون دليلَ الإِباحة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يُقِرُّ على منكر. جَوَابُهُ أنَّ الِإقرار دليلُ الرِّضَا بالمُقَرِّ عليه ظاهراً، وهو أضعفُ في الدلالة من الفعلِ والقولِ، لأنه مجرَّدُ التركِ والسكوت، وقد يكونُ مع الإِنكار، ألا تَرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلَّغَ النهيَ عن الكفر، والأمرَ بالِإيمان، وآمنَ من آمن وكفَرَ من كَفَر: لم يكن - عليه السلام - يكرّرُ النكيرَ في كل يوم على أهل مكة ولا غيرِهم، ولم يُكرر الكتابة لملوكِ الكفارِ في كل شهر فضلاً عن كل يوم. فتَرْكُهُ للنكير في بعض الأوقات عن تلك المنكرات بعدَ التبليغ لا يقتضي إِباحةَ تلك المنكرات. وأما اللفظُ الدالُّ على إِباحة تلك المنكرات أو الفعلُ فلا سبيل إِليه. فعَلِمنا أنَّ مدلول التَّرْك قد يتَخلَّفُ عنه ما لا يتَخلَّفُ مَدْلُولاَ القولِ

والفعلِ عنهما. إِذا تقرَّرَ أنه أضعفُ في الدلالة من اللفظ والفعل، فإِقرارُ الحاكم أيضاً له ذلك الضعفُ في الدلالة وزيادةُ أمرٍ آخر، لمزيدِ احتمالٍ وهو: أنَّ الحاكم قد يَترك الواقعة على ما فيها من الخلاف، ولا يَتعرَّضُ لِإنشاء حكم فيها، لأنَّ كلا القولين يجوز الأخذُ به، وهو طريقٌ إِلى الله تعالى، فلا غَرْوَ في الإِقرار عليهما. بخلاف إِقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الواقعة، لا يكونُ إِلَّا مع إِباحة الفعل، أو يكونُ تقدَّمَ من الإِنكار ما يكفي في الإِرشاد إِلى حكمِ الله تعالى في حكمِ تلك الواقعة. إِذا تقرَّرَ مزيدُ ضَعفِ إِقرارِ الحاكم فاعلَمْ أنَّه لأجلِ أنه دليل، ولأجلِ ضعفِه اختَلَف أصحابُنا في اعتقادِ كون الحاكم إِذا رُفِعَتْ إِليه الواقعة فأقرَّها على قولين: ففي "الجواهر": إِذا رُفِعَتْ إِليه امرأةٌ زَوَّجَتْ نفسَها بغير إِذن وليها فأقرَّه وأجازه، ثم عُزِلَ: 1 - قال عبدُ المَلِك: ليس بحُكمٍ ولغيره فسخُه. 2 - وقال ابنُ القاسم (¬1): ليس لغيره فسخُه، وإِقرارُه عليه كالحكم ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الله عبدُ الرحمن بن القاسم بن خالد العُتَقي المصري تلميذُ الإِمام مالك، الحافظُ الضابط المتقن الحجة الفقيه شيخ الصلاح والزهادة في عصره، كان سخياً شجاعاً صاحب نجدة ومروءة، مترفعاً عن قبول جوائز السلطان. روى له البخاري في "صحيحه". والنسائي في "سننه" وأبو داود في "مراسيله". تفقه بالإِمام مالك ونظرائه، وصحب مالكاً عشرين سنة، وهو أثبت الناس في =

به، واختاره ابنُ مُحْرِز (¬1). وهذا بخلاف ما لو رُفع إليه فقال: لا أُجيزُ النكاحَ بغير وليّ، من غير أن يَحكم بفسخٍ، فهذا فتوى ولغيره الحكمُ بما يراه في تلك الواقعة، ¬

_ = مالك، وأعلمهم بعلمه وأقواله، لم يرو واحد عن مالك "الموطَأ" أثبتُ منه، وكان "الموطأ" و "سَمَاعُه" من مالك يحفظهما حفظاً، وبعد وفاة مالك التفَّ حوله أصحاب مالك وانتفعوا به. وكان مالك قد أثنى عليه خيراً فقال: مثَلُه كمثل جِرَابٍ مملوء مِسْكاً. وسئل مالك عنه وعن ابن وهب فقال: ابنُ وهب. عالِم، وابن القاسم فقيه. وهو صاحب كتاب "المدوَّنة" في مذهب السادة المالكية، وإنما تُنسَبُ لمالك تجوزاً على اعتبار أنها جَمَعَت أقواله وفتاواه التي رواها عنه تلميذه ابن القاسم مُدونُها، لا أنها بقلمه وتصنيفه. وهي مع "الموطأ" رأسُ كتب السادة المالكية. قال عبد الفتاح: إن نسبة تأليف "المدوَّنة" لإبن القاسم تجوُّزٌ أيضاً، وقد نَسَب تأليفَها إليه صاحبُ "كشف الظنون" فيه 2: 1644. والصواب - على الحقيقة - نسبةُ تأليفها إلى سُحنون تلميذ ابن القاسم، كما فضَله وبيَنه القاضي ابن خلكان، وسيأتي كلامُه مطوَّلاً في ترجمة (سحنون)، الآتية تعليقاً في ص 172. ولد ابن القاسم بمصر سنة 132، وتوفي فيها سنة 191 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وجزاه عن العلم والإِسلام خيراً. (¬1) هو أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الزهري البَلَنْسِي المالكي، يعرف بابن مُخرِز، الفقيه المحدِّث العالم المتفنن اللغوي الضابط التاريخي الأريب ذو الفضائل والمكارم الجمَّة. قرأ في الأندلس ولقي فيها أكابر العلماء والفضلاء، ثم رحل عنها إلى بِجَاتة واستوطنها معظَّماً فيها عند الناس والسلطان، وكان منزلُهُ مرتادَ الشيوخ والأعلام، وهو شيخ الجماعة وكبيرهم، وكانت تُقرأ عليه كتب الفقه والحديث واللغة والأدب، وكان في كل ذلك مُجيداً متقناً، قيَّد عنه أصحابُه الكثيرَ من الفوائد النادرة. وله "تقييد" على كتاب "التلقين" حسَنُ الحُجَج، وله "تقارير" كثيرة في فنون متعددة. ولد سنة 569. وتوفي في بِجَاية سنة 655 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

وكذلك إِذا قال: لا أُجيزُ الشاهدَ واليمينَ فهو فتوى اتفاقاً. وقال ابن يونس: قال عبدُ الملك إِذا قيل: إِنَّ التخيير تطليقةٌ بائنةٌ فاختارت نفسَها، فتزوَّجَها قبلَ زوج، ورُفع ذلك لحاكمٍ يَرى ذلك فأقرَّه، فلمَنْ بعدَه فسخُ العقد، ويَجعلُ طلاقَها ثلاثاً. وإِن علَّقَ الطلاقَ أو العتاقَ على المِلك، أو تزوَّجَ وهو مُحْرِم، فأقرَّه حاكم، أو أقام شاهداً على القتل، فرُفِعَ لمن يَرى القَسامة فلم يَحكم بها فلغيره الحكم، لأنَّ الأوَّلَ ليس بحكم. وكأنَّ هذا النقل عن عبد الملك خِلافُ ما نقَلَه صاحبُ "الجواهر" عنه؟ وبالجملة: فكونُ التقريرِ في مسائل الخلاف من الحاكم مشتملاً على نوعين من الضعف كما تقدَّم اقتَضَى الخلافَ بين العلماء، فمن لاحَظَ أصلَ دلالته قال: ظاهِرُ حالِ الحاكم يقتضي أنه حُكم، ومن لاحَظَ ضعفَه أسقَطَ اعتبارَه، ولم يعتقد أن الحاكم حَكَمَ به فيَجُوزُ لَهُ النقضُ (¬1). ¬

_ (¬1) هكذا في نسخة (ر)، وفي سائر الأصول: (فجوَّز لغيره النقضَ). وكلاهما صحيح.

السؤال الثاني والثلاثون

السُّؤَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونْ ما ضابطُ ما يفتقرُ لحكمِ الحاكم، ولا يكفي فيه وجودُ سببه الشرعي؟ وما لا يَفتقرُ ويكفي فيه وجودُ سببه؟ جَوَابُهُ أنَّ الضابط الذي يُرجَعُ إِليه في ترتيب الأحكام على أسبابها من غير حكم حاكم، وما يَفتقرُ لحُكم الحاكم (¬1): أنَّ الموجِبَ للإفتقار الحاكم الحاكم ثلاثةُ أسباب: السببُ الأول: كونُ ذلك الحكم يَحتاجُ إِلى نظرٍ وتحرير، وبذلِ جهدٍ من عالم بصيرٍ، حَكَمٍ عَدْلٍ في تحقيق سببِه ومقدارِ مُسبَّبه، وله مُثُلُ: المثالُ الأول: الطلاقُ بالإِعسار؛ لأنه يفتقر إِلى تحقيق الإِعسار، وهل ذلك الزوجُ ممن تُستَحق عليه النفقة حتى تقدحَ في استمرارِ عصمتِه الِإعسارُ؟ أم هو ممن ظاهِرُ حالِه العجزُ أبدًا؟ كما قال مالك: لو تزوَّجَتْ رجلًا من أهل الصَّنْعَةِ (¬2)، لم يكن لها التطليقُ بسبب الإِعسار، لدخولها ¬

_ (¬1) وقع في الأصول الخمسة المخطوطة سوى المطبوعة: (وما لا يفتقر الحاكم الحاكم). وهو تحريف. (¬2) أي صاحبَ حِرفةِ مُقَتَّرَ المَوْرد، لا تاجرًا ميسوراً. ووقع في الأصول الأربعة المخطوطة، والنسخةِ المطبوعة: (من أهل الصُّفَّة). وهو تحريف أَطبقت عليه تلك النسخ، وسَلِمَتْ منه نسخةُ (ر) فجاء فيها (من أهل الصنْعَة) كما أثبتُهُ مستفاداً منها، فإنَّ =

عليه. المثالُ الثاني: التعزيراتُ تَفتقر إِلى تحريرٍ في مقدارِ الجناية وحالِ الجاني والمجنيّ عليه، حتى تقع المؤاخذةُ على وَفقِ ذلك من غير حَيْف. المثالُ الثالث: التطليقُ على المُوْلي، يَفتقر إِلى بذلِ الجهد والتحريرِ في تلك اليمين المحلوفِ بها، هل هي مما تُوجِبُ عليه حُكماً على تقدير الفَيئةِ أم لا؟ وهل ترْكُ الفَيئةِ منه مُضِرٌ بالمرأةِ أم لا؟ وهل كان المقصودُ بتلك اليمينِ الإضرارَ فتُطلَّق عليه؟ أو نَظَراً مَصْلحيًا وغرَضاً صحيحًا فلا تُطلَّق عليه؟ كما لو حلَفَ أن لا يطأها، خوفاً على وَلِده من السَّقَمِ لِفسادِ اللَّبَن، وغيرِ ذلك من جهات النظر. المثالُ الرابع: إِذا حلَف ليَضربَنَ عبدَه ضرباً مُبرِّحًا، فالقضاءُ بالعتقِ عليه يفتقر للحاكم؛ لأنه لا يُدرَى هل ثمَّ جناية تقتضي مثلَ هذا الضرب أم لا؟ ويَحتاجُ إِلى تحقيقِ كون ذلك الضرب مبرِّحًا بذلك العبد، وهل السيّدُ عاصٍ به فيَعتِق عليه؟ لأنَّ الحَلِفَ على المعصيةُ يوجب تعجيلَ الحنث، أو ليس عاصياً فلا يَلزمه عتق؟ السببُ الثاني المُوجِبُ لافتقارِ ترتيبِ الحكم على سببه إِلى حكمِ الحاكم ومباشرةِ ولاةِ الأمور: كونُ تفويضِه لجميع الناس يُفضي إِلى الفِتَن والشحناء، والقتلِ والقتال، وفسادِ النفس والمال، وله مُثُلٌ: المثالُ الأول: الحدودُ، فإِنها منضبطة في أنفسها, لا تَفتقرُ إِلى تحرير ¬

_ = (أهل الصُّفَّة) لا وجودَ لهم في زمن الإِمام مالك حتى تتزوج منهم .. ! فرحم الله تعالى صاحب المخطوطة الرباطية، كم له من فضل عليَّ في تصويب التحاريف والأخطاء في هذا الكتاب.

مقاديرها، غيرَ أنها لو فُوِّضَتْ لجميعِ الناس، فبادَرَ العامَّهُ لَجلْدِ الزُّناةِ، وقطع العُداةِ بالسرقةِ وغيرِها، اشتدتْ الحَمِيّات، وثارتْ الأَنَفَاتُ، وغَضِبَ ذوو المُروءات، فانتَشرت الفِتَن، وعَظُمتْ الإِحَن، فحسَم الشَّرعُ هذه المادةَ وفَوَّضَ هذه الأمورَ لولاةِ الأمور، فأذعن الناسُ لهم، وأجابوا طوعًا وكرهاً، واندفعت تلك المفاسدُ العظيمة. المثالُ الثاني: قِسمةُ الغنائم معلومةُ المقاديرِ وأسبابِ الاستحقاق، غيرَ أنَّ النفوس مجبولةٌ على مَزيدِ الأطماع والمنافسةِ في كرائم الأموال، فيقصِدُ كل أحدِ أن يَختص بما يُريد غيرُه أن يَختصَ به، فيُؤدي ذلك لتلك المفاسدِ المتقدّمة، فحسَمَها الشرعُ بتفويض ذلك لولاة الأمور. وهذه الأمورُ وإِن لم تكن مما يَدخل فيه حكمُ الحاكم غيرَ أنه من جنس ما يَفتقر لولاةِ الأمور، فذكرتُه تنبيهاً على سببِ الإفتقار وللمناسبةِ بينه وبين هذا الباب. المثالُ الثالث: جِبايةُ الجِزية، وأخذُ الخراجِ من أرض العَنْوة وغيرِها هو مالُ المسلمين، ولو جُعِلَ لعامَّة الناسَ التَّحَدُّثُ فيه (¬1)، لفسَدَ الحالُ ¬

_ (¬1) هكذا جاء في جميع الأصول - حتى النسخة الخامسة نسخة (ر) -. ولم أهتد إلى معناه أو الوجهِ المحرف عنه مع البحث والتنقيب. فلعل فاضلاً يرشدني إليه مشكوراً؟ هذا ما كنتُ كتبتُهُ وعلقتُه في الطبعة الأولى، ثم ثَبَتَ لي أنَّ المؤلِّفَ يعني به: التصرُفَ. واستعمالُ (التحدُث) بمعنى (التصرف): مولد، لم أجده في معاجم اللغة. وكنت في الطبعة الأولى لهذا الكتاب توقفتُ في صحة هذا اللفظ هنا؛ لأنَّ (التحدث) بمعناه المعروف في كتب اللغة وفي مناطقاتنا ومكاتباتنا اليوم لا ينسجم هنا، فإن المقامَ يقتضِي لفظَ (التصرف)، ولم تذكر المعاجم (التحدث) بمعنى (التصرف)، فاقتضى ذلك =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مني التوقفَ فيه. وأتعبتُ نفسي كثيراً جداً في تقليب النظر في هذه الكلمة والبحث عن تصويبها فلم أصِل لشيء، وقد راجعتُ فيه كبار العلماء أمَداً طويلاً فلم ينتهوا فيه إلى شيء. ثم أكرمني الله تعالى بتوفيقه في مَدَى سنواتِ طويلة، فرأيتُ نصوصاَ كثيرة ومتعددةَ المصادر، من كلام أهل القرن السابع والثامن والتاسع والعاشر، استعملوا فيها (التحدُّثَ) بمعنى (التصرُفِ) تماماَ، وعطفوا (التصرُفَ) عليه، ورادَفُوا بينهما، فتبين لي من تلك النصوص: صِحةُ هذا اللفظ والجزمُ بمعناه، وأنه كان شائعًا في مخاطباتِ الناس ومكاتباتِهم في القرن السادسِ وما بعده، فأدخله المؤلف في كلامه، لشيوعِهِ في لُغَةِ التخاطُب والكتابةِ في عَصرِه ومصره، دونَ مراعاةِ منه إلى أنَّ استعمالُه لغوياً ليس صحيحًا وأن الشأنَ في لغة التأليف والعلم تجنُّبُ ذلك فيها، وها أنا ذا مُورِد طائفةَ من تلك النصوص للإِفادة والإستدلال: 1 - جاء في أوائل "المحصول في علم الأصول" للإِمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في المقدمات قولُه: "الفصلُ الثامن في أن شكرَ المنعِم غيرُ واجب عقلًا، وقالت المعتزلة: بوجوبه عقلًا. ولنا: النص والمعقول ... بل احتمالُ العقابِ على الشكر قائمٌ من وجوه: أحدُها: أنَّ الشاكر مِلْكُ المشكور، فإقدامُه على تَصَرُفِ الشُّكرِ بغير أذنِهِ: تصرُفٌ في مِلْكِ الغير بغير إذنِهِ من غير ضرورة، وهذا لا يجوز" انتهى. وقوله هنا: (فإقدامُه على تَصَرُفِ الشكر) معناه: على إحداثِ الشكر، كما تُعَيِّنُهُ القرائن والسياق. ثم أقول استطراداً ومناقشةَ لقوله - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: (شكرُ المنعم غير واجب عقلًا)، بل هو واجب عقلًا وشرعًا، ومركوز في الفطرة الإِنسانية خِلقةَ، وأين قولُه هذا من قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَشكرُ اللهَ من لا يَشكر الناسَ" وأكتفي بهذا فلا يتسع المقامُ لأكثر منه. 2 - وجاء في "رَفْع الإِصْر عن قُضَاةِ مصر" 328:2، للحافظ ابن حجر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = العسقلاني المصري المتوفى سنة 852، في ترجمة القاضي (عبد الرحمن بن عبد الوهاب ابنِ بنتِ الأعَزّ، المتوفى سنة 695) ما يلي: "فباشَرَ - أي المترجَمُ - على عادتِهِ في الأحكام، إلى أن راسَلَهُ الوزيرُ في أمرِ شخصِ يقال له: نجمُ الدين بنُ عَطَايا، أنْ يقرره في بعض الوظائف، وإن يُثبِتَ عدالتَه، وكان غيرَ أهلِ لذلك، فامتَنَع، فلما مات المنصورُ وتولَّى الأشرفُ، تمكَّن ابنُ السَّلْعُوس في التَّحدُثِ في المملكة، فلم يَزَلْ إلى أن صَرَفه عن القضاء ... ". انتهى. ولفظُ (التحدُث) هنا بمعنى (التصرُّف) تماماً كما جاء في كلام القرافي. 3 - وجاء في "بدائع الزهور في وقائع الدهور" 3: 182، للمؤرِّخ ابن إِياس المصري المتوفى نحو سنة 930، جاء في حوادث سنة 924 منه قولُه: " ... فإنَّ الأميرَ يَشبَك شَرَط في وَقْفِهِ النظَرَ والتكلُمَ للأمير تَغْرِي بَرْدِي حتى يُتوفى، فسَعَت ابنةُ الأمير يَشْبَك عند قاضي القُضاة عبد البَر بن الشِّحْنَة، في إبطال ما كان شَرَطَهُ والدُها الأميرُ تَغْرِي، ويُجعَلُ لها النظرُ على ذلك والتحدُّثُ على وَقْفِ والدها". انتهى. و (التحدُّثُ) هنا بمعنى (التصرُّف) أيضًا. ثم رأيتُ نصوصًا كثيرة جداً لا تُحصَى، لأديبِ عصرِهِ العلَّامة الفقيه المؤرِّخ أبي العباس القَلْقَشَنْدِي المصري، المتوفى سنة 821 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في كتابه العُجَاب "صُبح الأعشى"، فقد عَترَب (التحدُّث) عن (التصرُّفِ) في غير موضع من كتابه المذكور، من كلامِهِ حينا، ومن كلام من سَبقه بقليل حيناً آخر، كابنِ فضلِ الله العُمَري الدمشقي المتوفى سنة 749 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وأكتفي بنقلِ طائفةٍ من عبارات "صُبح الأعشى"، وبالإِشارة إلى طائفة مثلها في مواضع أخرى منه؛ لأنَّ الكتاب طافحٌ بهذا التعبير وعلى أنحاء شتى من الصِّيَغ والإشتقاق، فهذه سبعة نصوص منه إضافةً إلى الثلاثة السابقة. 4 - قال في الجزء 4: 20 - 22 "الوظيفة العاشرة: الأسْتَادَاريَّة، قال - ابنُ فضل الله العمري الدمشقي - في "مسالك الأبصار": وموضوعُها: التحدُّثُ في أمرِ بيوتِ السلطان كلها، من المطابخ والشرابْ خاناه والحاشيةِ والغِلمان ... وله حديثٌ مُطْلَقٌ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وتصرُّفٌ تامٌّ في استدعاءِ ما يحتاجُهُ كلُّ من في بيتِ السلطان ... ". 5 - الحاديةَ عَشرَةَ: الجَاشْنِكيرية، وموضوعها: التحدُّثُ في أمرِ السِّمَاطِ مع الأُسْتَادَار ... 6 - الثانيةَ عَشرَةَ: الخازَنْدَارِيَّة، وموضوعُها: التحدُّثُ في خزائن أموالِ السلطان من نَقْدٍ وقُماشٍ وغيرِ ذلك ... 7 - الثالثةَ عَشْرَةَ: شَد الشَرابخاناه، وموضوعُها: التحدُّثُ في أمْرِ الشراب خاناه السلطانية، وما عُمِلَ إليها من السُّكَّر والمشروبِ والفواكهِ وغيرِ ذلك. 8 - الرابعةَ عَشرَةَ: أُستادَارَّيةُ الصُحْبَة، وموضوعها: التحدُّثُ على المطبخ السُّلْطاني، والإشرافُ على الطعام، والمشيُ أمامَه، والوقوفُ على السمَاط. 9 - الحاديَةُ والعِشرون: إمْرَةُ عَلَم، وموضوعُها: أن يكون صاحبُها مُتحَدِّثاً على الطَبْلخَاناه السُّلْطانية وأهِلها، متصرِّفاً في أمرِها. 10 - الثانيةُ والعِشرون: إمْرَةُ شِكَار، وموضوعُها: أن يكون صاحبُها مُتحَدِّثاً في الجوارح السلطانية من الطيور وغيرها ... ". انتهى. وفي هذه النصوص القليلة جداً - بالنسبة إلى ما في الكتاب - جاء التعبيرُ بلفظِ (التحذُث) بمعنى (التصرُّف)، وجاءت تعديتُه بحرفِ (في) حينًا، وبحرفِ (على) حينًا آخر. وجاء في هذه النصوص أيضًا التعبيرُ بلفظةِ (الحَدِيث) بمعنى (التصرُّف)، كما تقدم في النصّ الأول في كلام العُمَري، وجاء فيها أيضًا التعبيرُ باسم الفاعل: (متحدِّثاً) بمعنى (متصرفًا)، ومتعدياً بحرفِ (في) وبحرف (على) كما في النصَّين الأخيرين. وأُشيرُ فيما يلي إلى جُملةِ قليلةِ من المواضع التي جاء فيها مثلُ هذه النصوص في "صبح الأعشى"، فانظر منه على سبيل المثال الجزء 486:3. و 18:4، 21، 22. و 5: 488، 450، 452، 455، 459، 460، 461، 462. و 9: 256. وبعضُ هذه المواضع يتكررُ في الصفحة الواحدة منه: التعبيرُ المشارُ إليه خمسَ مرات وأكثر. وبهذا تبيَّن المعنى الذي أراده المؤلف على الجزم واليقين، وصحةُ الكلمة وسلامتُها من التحريف، فالحمد لله. =

وساء المآلُ في ذلك (¬1). السببُ الثالث: قُوَّةُ الخلاف مع تعارضِ حقوقِ الله تعالى وحقوقِ الخلق، فوَجَبَ افتقارُ ذلك للحاكم؛ لأنه نائبُ الله تعالى في أرضه خلافةً عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فإِذا أنشأ حُكمًا مما تقبلُه ذلك المحل تعين فيه ووجَب الِإذعانُ إِليه. وله مُثُلٌ: المثالُ الأول: من أَعتقَ نصفَ عبدِه لا يُكَمَّلُ عليه بقيتُه إِلَّا بالحكم، لتعارُضِ حقِ الله تعالى في العتقِ، وحق السيد في المِلكِ، وحقِّ العبد في تخليص الكسب، وقُوَّةِ الخلافِ في التكميل عليه. المثالُ الثاني: العتقُ بالمُثْلَة (¬2)، فيه حقُّ الله تعالى وحقُّ السيدِ في الملكِ وحق العبد، كما تقدَّم في المثالِ الأول، فإذا حكَمَ حاكم تعيَّنَ ما حَكَم به، وبطَلَ ما يُخالفُه وسكنَتْ النفوسُ وتعيَّنت الحقوق. ¬

_ = ومعذرةً فقد طالَتْ هذه التعليقةُ وهي في تفسيرِ كلمة وتأكيدِ صحتها, ولكنها لا تخلو من فائدة للمشتغلين بالفقه وأصوله والتاريخِ والأدب واللغة إذا مَرتْ بهم، فيكونُ لهم بها أنسى ومعرفة إن شاء الله تعالى، واللهُ وليُّ التوفيق. ويُعَلمُ من هذا الذي قدمتُه أن التوفيقَ له أوقات، كما أنه عزيزٌ لا يَحصُلُ لكل من يُريدُه وَقْتَ يُريده. (¬1) قال شيخنا وأستاذنا العلَّامة الفقيه مصطفى أحمد الزرقاء سلَّمه المولى ورعاه، فيما كتبه إلى، تعليقًا على ما ذكره القرافي في هذا المثال الثالث، ما يلي: "يمكنُ التمثيلُ باستيفاء الحقوق الثابتة، فلو جُعِلَ لذي الحقِّ استيفاءُ حقه بقوته دون قضاء، لأدى ذلك إلى الهَرْج والمَرْج ولو السبَبُ واقعًا ومشهودًا، بل على صاحب الحقِّ أن يلجأ إلى القاضي إن لم يؤدِّهِ إليه المدينُ بالتراضي، فلا يجوزُ استيفاءُ الحقِّ بالقوة". (¬2) كقلع السيد ظُفرَ عبدِه أو سِنَّه، أو قَطْعِ أُذنِه.

المثالُ الثالث: بَيع من أعتقَه المِدْيانُ (¬1)، لا بُدَّ فيه من الحاكم، لتعارضِ حقِّ الغرماء في ماليّة العبد، وحقِ الله تعالى في العتق، وحق السيد في براءة ذمَّتِهِ من الدَّين، أو تحصيلِ القُربة بالإِعتاق، وقُوَّةِ الخلاف في المسألة، حتى إِنَّ الشافعيَّ يُنكرُها إنكاراً شديداً ويقولُ: الدَّيْنُ في الذمَّة، والعتقُ في عينِ الرَّقيق، فلا تَنافي، فلا يَبْطُلُ العتقُ لعدم تعيُّنِ الرقيق عنده للدَّيْن. فإِذا حكَمَ به حاكم تعيَّن ما حكَمَ به من البيع، وثَبَت الملكُ للمشتري وللمعتقِ إِنْ اشتراه بعدَ ذلك، وصُرِفَتْ الأثمان في الديون، ورَضِيَ كلُّ أحدِ بما صدَرَ عن نائبِ الله تعالى ونائب رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فهذه الأسباب الثلاثةُ هي الموجِبةُ للإفتقار للحُكَّام ووُلاةِ الأمور، فإِذا لم يُوجدُ شيءٌ به. منها تَبِعَ الحُكمُ سبَبه الشرعيَ، حكَمَ به حاكم أم لا. ولأجلِ هذه القاعدة انقسمت الأحكامُ ثلاثةَ أقسام: 1 - منها: ما يَتبَعُ سبَبَه بالإِجماع، ولا يَفتقرُ الحاكم، لقوَّةِ بُعدِه عن اشتماله على أحدِ تلك الأسباب الثلاثةِ الموجِبة للإفتقار. 2 - ومنها: ما يَفتقرُ للحاكم إِجماعاً، للجزم باشتماله على أحدِ الأسباب الثلاثة أو اثنينِ منها. 3 - ومنها: ما اختُلِفَ فيه هل هو من القسم الأول أومن القسم الثاني؟ لِمَا فيه من وجوهِ الإِخالة (¬2)، باشتمالِه على أحدِ الأسباب أو عدمِ ¬

_ (¬1) أي المَدِين. (¬2) بالخاء المعجمة، أي الظنّ. ووقع في الأصول الخمسة كلها: (الإِحالة)، بالحاء المهملة وهو تحريف يقع كثيرًا في هذه الكلمة التي هي من (علم أصول الفقه)، =

أشتماله، فلحصولِ التردُدِ في الإشتمال حصَلَ التردُّدُ في الإفتقار. وأمثل لك لهذه الأقسام الثلاثة: القسم الأول، مثالُه: العباداتُ كلُّها وتحريمُ المحرماتِ المتفَقِ عليها كالعصير إِذا اشتدَّ، والمختَلفِ فيها كتحريم السبّاع، وطهارةِ المياهِ، ووفاءِ الدُّيون، ورَدِّ الودائع والغُصوبِ، ونحوِه. القسمُ الثاني، مثالُه: تفليسُ المَدِين إِذا أحاط الدَّينُ مسألة، والتطليقُ على الغائبين من المفقودين وغيرِهم، وفَسْخُ النكاحات بالإِعسار أو الإِضرار أو نحوِ ذلك. القسمُ الثالث، المختلَفُ فيه، هل يَفتقرُ إِلى حكمٍ أم لا؟ وله مُثُلٌ: المثال الأول: قبضُ المغصوب من الغاصب إِذا كان المغصوبُ منه غائباً، هل يَفتقر إِلى الحاكم أم لآحاد الناس قبضُه من الغاصب؟ فيه خلافٌ بين العلماء. المثالُ الثاني: من أعتقَ شِرْكاً له في عبد (¬1)، قال ابنُ يونس: اتفق ¬

_ = ولندرة المشتغلين به يتبادَرُ إلى ذهنِ غيرهم أنها محرفة عن (الإِحالة) بالحاء المهملة، فيصححونها وهم المخطئون! فتنبّه. (¬1) الشِّرْكُ: النصيب. وهذه الجملة جزءٌ من حديث رواه البخاري 5: 151 في أوائل كتاب العتق في (باب إذا أَعتَق عبداً بين اثنين أو أمَةً بين الشركاء)، ومسلم 135:10، في أول كتاب العتق، كلاهما عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أَعتَق شِرْكاً له في عبد، فكان له مالٌ يَبلُغُ ثمنَ العبد، قُوِّمَ العبدُ عليه قيمةَ عَدْلِ، فأَعطَى شركاءَه حِصَصَهم, , وعَتَق عليه العبدُ، وإلَّا فقد عَتَق منه ما عتَقَ".

أصحابُنا على أنه يَعتِقُ بمجرَّدِ التقويم من غير حاجة إِلى حُكم؛ لأنه الواردُ في الحديث، وقال غيرُه: يَفتقرُ للحُكم. المثالُ الثالث: عتقُ القريب إِذا ملَكه الحُرُّ المَلِيء، المشهورُ عدَمُ افتقارِه للحكم، وقيل لابُدَّ فيه من الحكم. المثالُ الرابع: العتقُ بالمُثْلَة، قال ابنُ يونس: قال مالك: لا يَعتِقُ إِلَّا بالحُكم، وقال أشهب (¬1): لا يَفتقر إلى الحكم، بل يَتْبَع سبَبَه. المثالُ الخامس: فَسْخُ البيع بعدَ التحالُفِ من المتبايعَيْن. المثالُ السادس: فَسْخُ النكاح بعدَ التحالُفِ إِذا قيل به. ويُلحَقُ بهذا الباب: إِقامةُ الجمعة، لكنَّ الخلافَ ليس في افتقارها للحكم، بل لِإذن الإِمام وهو غيرُ الحكم. وسببُ الخلاف في هذه المُثُلِ كلها: اجتماعُ الشوائب، وتخيُّلُ ¬

_ (¬1) هو الإِمام أبو عَمْرو أشهَبُ بن عبد العزيز بن داود القيسي العامري الجَعْدي، الفقيه المالكي المصري، تفقَّهَ على الإِمام مالك عالم المدينة ورَوَى الحديث عنه، ثم تفقهَ من بعدِهِ على المدنيين والمصريين، وروى الحديث والعلم عن الليث بن سعد وفُضَيل بن عياض وابن لَهِيعة وغيرهم، وخرّج عنه أصحابُ "السنن" وغيرهم. كان أحد فقهاء مصر في عصره، حسن الرأي والنظر في العلم والفقه، له رياسة في مصر، ومالٌ جزيل. وكان من انظر أصحاب مالك، ذابَّاً عن مذهبه، متحريا في سماعه عنه حتى كان تلميذُه سُحنون يقول: حدثني المتحرِّي في سماعِهِ أشهَبُ، وما كان أصدقَه وأخوفَه لله، كان ورعا في سماعه، وعدَدُ كتب سماعه عشرون كتابًا. وشهد له الشافعي بفقهه وبصارته بالعلم مع بعض منافسة كانت بينهما فقال: ما أخرجَتْ مصرُ أفقهَ من أشهب. ولد بمصر سنة 140، وتوفي فيها سنة 204 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

احتياجِها لأسباب الإحْتِياج، وتخيلُ استغنائِها وعَرَائِها عن تلك الأسباب. فهذا تلخيصُ الجواب عن ضابطِ ما يَفتقرُ الحاكم الحاكم، وما لا يَفتقر ويكفي فيه وجودُ سببه، وأقسامِ الأحكام باعتبار الضابط المذكور، وتلخيصُ الأسباب في ذلك مستوعَباً ممثلاً، ليتمكَنَ الفقيهُ من تخريج أمثالِ تلك المُثُل عليها بسبب اطلاعه على سِرّها.

السؤال الثالث والثلاثون

السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونْ أيُّ شيء يُفيدُ الِإنسانَ أهليةَ أن يُنشئ حُكماً في مَواطنِ الخلاف، فيجبُ تنفيذُه ولا يجوزُ نقضُه؟ فهل ذلك لكل أحدٍ؟ أو إِنما يكون ذلك لمن حصلَ له سببٌ خاص؟ وما هو ذلك السبب؟ وهل هو واحد أو أنواعٌ كثيرة (¬1)؟ جَوَابُهُ أنه لا خلافَ بين العلماء أنَّ ذلك ليس لكل أحد، بل إِنما يكون ذلك لمن حصَلَ له سببٌ خاصٌ، وهو وِلاية خاصة، ليس كلُّ الوِلايةِ تُفيدُ ذلك. فمن الولاياتِ: ما لا يُفيدُ أهليةَ شيء من الأحكام، ومنها: ما يُفيدُ أهليةَ الأحكامِ كلِّها، ومنها: ما يُفيدُ أهليةَ بعضِ الأحكام، ومنها: ما تكون أهليةُ الأحكامِ بعضَها، ومنها: ما يكون كمالُها وجُملتُها بعضَ أهليةِ الأحكام. ومن الولايةِ: ما يكون صريحًا في أهلية الحكم، ومنها: ما يكون صريحًا في عَدمِ أهلية الحكم، ومنها: ما يَحتملُها (¬2)، ومنها: ما يَحتملُها ¬

_ (¬1) هذا السؤال وجوابُه باختصار منقول في "تبصرة الحكام" لإبن فرحون 1: 12 - 15، 13 - 16، و"معين الحكام" لعلاء الدين الطرابلسي ص 10 - 12، 11 - 14. (¬2) هذه الجملة غير موجودة في نسخة (ر)، وهو الصواب لغَنَاءِ ما بعدَها عنها.

من حيث الجملة. ثم الولاية لها طرفان وواسطة، فأعلاها: الخلافةُ التي هي الِإمامةُ "الكبرى" وأدناها التحكيمُ الذي يكون منِ جهة المتنازِعينِ، وبين هذين الطرفين وسائطُ كثيرة. فأسرُدُ من ذلك خمْسَ عشرةَ رُتبةً وأُمثّلُها وأُبيّنُ أحكامَها. الرتبة الأولى: الإِمامةُ "الكبرى" فأهليةُ جميعِ أنواعِ القضاءِ في الأموال والدماءِ وغيرِها: جُزؤها، وهي صريحةٌ في ذلك، فتَتناولُ بصراحتها أهليةَ القضاء وأهليةَ السياسة العامَّة. الرتبةُ الثانية: الوِزارةُ للإمامة. قال ابنُ بشير من أصحابنا (¬1): يجوز التفويض في جميع الأمور للوزير، ويَختصُّ الإِمامُ عنه بثلاثة أحكام: 1 - لا يَعقِدُ ولاية العهد (¬2)، ويعقدُها الإِمام لمن يريد فيكون إِماماً للمسلمين بعده، كما فعَلَ الصديقُ - رضي الله عنه - مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الله محمد بن سعيد بن بشير بن شَرَاحيل المَعَافِري الأندلسي. الفقيه القاضي العادل، خرج حاجًا فلقي مالكاً عالمَ المدينة فجالسه وسمع منه، وطلب العلم بمصر أيضًا. تولَّى قضاءَ الجماعة - قضاءَ القضاة - في قرطبة، فكان حسنَ القضاء صُلباَ في الحق لا تأخذه في الله لومةُ لائم، وبعَدْلِهِ يُضرَبُ المثل. أورد له المَقريُ في "نفح الطيب" 1: 389 - 392 أخبارًا من قضائه العادل تدلُّ على سمو مكانته وقوة صلابته ومتانة شخصيته، في إقامة العدل والحق مع السلطان فمن دونه. وكان يحيى بن يحيى الليثي رئيسُ علماء الأندلس يعظمه ويكثر الثناء عليه ويقول: ابنُ بشير أهلٌ أن يقتَدَى به. وتوفىِ في قرطبة سنة 198 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. (¬2) أي الوزيرُ.

2 - ولا يَستعفي من الولاية (¬1)، وللإِمام الإستعفاء من الإِمامة. 3 - ولا يَعزِلُ من قلَّده الإِمامُ (1). ويُسمى هذا الوزيرُ وزيرَ تفويض (¬2). ثم الوزراءُ أقسام، أعلاها: وزيرُ التفويض، ويليه: وزيرُ التنفيذ، وأدناها: وزيرُ الإستشارة. ولا خفاءَ أنَّ وِزارةَ التفويض تَشملُ أهليةَ القضاء وغيرَها، وأنها صريحة في ذلك إِذا قال الإِمام: ولَّيتُك وِزارةَ تفويض، أو: فوَّضتُ إِليك التصرُفَ، ونحوَ ذلك. وأما إِن نَصَّ على أنه وزيرُ تنفيذٍ فقط، فإِذا حكَمَ الإِمامُ بشيء نفَّذه: فهذا ليس له أهليةُ الحكم. وكذلك وزيرُ الإستشارة. الرتبة الثالثة: وِلايةُ الِإمارة على البلادِ وبعضِ الأقاليم، كالملوكِ مع الخلفاء. وهذه أيضًا صريحة في إِفادة أهلية القضاء إِذا صادفتْ الولايةُ أهلَها ومحلها. وتشملُ أهليةَ القضاء وغيرَها، من السياساتِ وتدبيرِ الجيوش وقَسْمِ الغنائم وتفريقِ أموال بيت المال ونحوِها. الرتبة الرابعة: وزيرُ الأميرِ المولَّى على القُطْر. قال العلماء: ليس له أن يستوزِرَ وزيرَ تفويض إِلَّا بإِذنِ الخليفة، وله أن يَستوزر وزيرَ تنفيذ، فإِن أذِنَ له أن يَستوزر وزيرَ تفويض كان القضاءُ مندرِجاً في ولايته، كوزير الخليفة إِذا كان وزيرَ تفويض. الرتبة الخامسة: الِإمارةُ الخاصَّةُ على تدبيرِ الجيوشِ وسياسةِ الرعيّة ¬

_ (¬1) أي الوزيرُ. (¬2) قال ابن فرحون في "تبصرة الحكام" 1: 14، 15: "وهذا مع وجود أهلية القضاء، وإلَّا فهو جاهل لا يجوز له القضاء".

وحمايةِ البَيْضة، دون توليةِ القُضاةِ وجبايةِ الخراج. فهذه الولايةُ أيضًا مقتضى مذهبِ مالك أنَّ القضاءَ مندرجٌ في وِلايتِهم، فإِنَّ مالكاً يقول في الكتاب (¬1): لا يُنقَضُ ما حَكَمَتْ به وُلاةُ المياه. وفسَّره القاضي عِياضٌ (¬2) ¬

_ (¬1) أي "المدوَّنة". (¬2) هو القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليَحْصُبي السَّبْتي المالكي، المحدِّثُ الفقيه الأصولي المتكلِّم المقرئ المؤرّخ الأديب اللغوي النحوي النسَّابة، الورع العابد الناسك التَّلَّاء للقرآن، الشَّيخُ الرُحْلة الإِمام، قاضي الأئمة وشيخ الإِسلام، وقدوة العلماء والصلحاء الأعلام، الشائعُ الصيت في كلِّ قطر ومصر، حاملُ لواء المنثور والمنظوم، مع الإِمامة الفذة في جملة من العلوم، شُهرتُه تغني عن التعريف به، بل لقد قيل - على ما في المَغْرِبِ من أفاضِل الأئمةِ في كلِّ جِيْل -: "لولا عِيَاضْ لما ذُكِرَ المغرب". وُلِدَ في بلدة سَبْتَة من المغرب الأقصى، ونشأ فيها وأخذ العلم عن شيوخها وعلمائها، ثم رحل إلى الأندلس ورجع إلى بلده بعلم غزير، وفضل وفير، وتولَّى قضاءها ثم قضاءَ غَرْناطة، فكان صُلْباً فيه لا تأخذه في الله لومةُ لائم. وكان على صلابته في الحق محبوباً من الخاصة والعامة، وعلى غاية من الإِجلال والإكبار والهيبة والوقار عند الأمراء والولاة، وكان إلى هذا ليِّنَ الجانب، جَمَّ التواضع لطلبة العلم والناس، سمحًا كريمًا عليهم بمالِهِ وعلمِه، حتى مات وعليه خمسُ مِئةِ دينار. ألَّف التواليف الكثيرة النافعة الفريدة الأصيلة، وقد أربت على ثلاثين مؤلَّفاً. ومن أشهر كتبه كتابُ "الشِّفا بتعريف حقوق المصطفى" - صلى الله عليه وسلم -، وقد شرَّقَت شُهرتُه وغربتْ، ولا يزال يَحتل مكانتَه الأصيلة على مرّ السنين وتعاقُبِ التأليف. وكتابُ "إكمال المُعْلِم بفوائد مُسْلم" كفَل به شرحَ المازِرِي على "صحيح مسلم" المسمَّى "المُعْلِم بفوائد مسلم". وكتابُ "مشارق الأنوار على صِحاح الآثار" في تفسير غريب "الموطأ" و "الصحيحين" وضَبْطَ أسماءِ الرجال والأماكن. وقد قيل فيه: "لو كُتِبَ بالذهب، ووُزِنَ بالجوهر لكان قليلًا في حقه". وكتابُ "التنبيهات المستنبطة، على الكتب المدوَّنة والمختلِطَة" في عشرة أجزاء، =

بالولاةِ الذين فُوِّضَ إِليهم أمرُ المياه وهم مقيمون عندها. ولا شكَّ أن الذين فُوِّضَ إِليهم تدبيرُ الجيوشِ وغيرِها أعظمُ منهم، فنفوذُ حكمِهم بطريق الأولى، وفيه خلافٌ بين العلماء. الرتبة السادسة: ولايةُ القضاء. وهذه الولايةُ مُتناوِلَةٌ للحُكم (¬1)، لا يَندرج فيها غيرُه، بخلاف ما تقدَّم. فهي تفيد إِنشاءَ الحكم في المختلَفِ فيه، أو القابلِ للخلاف إِن كانت الواقعة لم تقع بعد، ولم يتقدم فيها فُتيا ولا قضاء، وتُفيد تنفيذَ الحكمِ المجمَعِ عليه (¬2). ¬

_ = عليه المعوَّلُ في تفسير ألفاظ (المدوَّنة) وحَل مشكلاتِها وتحرير رواياتها وتسمية رُواتِها، جَمعَ فيه بين شرح المعاني وضبطِ الألفاظ وذكرِ من رواها من الشيوخ والحفاظ. وكتابُ "ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك"، وهو كتاب حافل مرجع لكل من جاء بعده في تراجم السادة المالكية، وقد طبعَتْ وِزارةُ الأوقاف والشؤون الإِسلامية في المملكة المغربية هذا الكتاب العظيم، فأحسَنَتْ بذلك إلى العلم والتاريخ والعلماء وما تزالُ تُسدِي الأياديَ بطبع الكتبِ النافعةِ النادرة، وتاجُ الدرَرِ التي أخرجَتْها كتابُ "التمهيد" للإِمام ابن عبد البر، و"تفسيرُ ابن عطية" فجزاها الله خيرًا وإحسانًا، وجَزَى الله الآمِرَ بذلك عاهلَ المغرب الحسنَ الثاني توفيقاً ورِضواناً. ولد القاضي عياض في سَبْتَة سنة 476، وتوفي في مَرَّاكُش سنة 544 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وأجزل أجره. (¬1) في نسخة (ر): (مُسَاوِية للحكم). (¬2) قال المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في " الذخيرة": ليس للقاضي السياسةُ العامَّة، لا سيما الحاكم الذي لا قدرة له على التنفيذ كالحاكم الضعيفِ القدرةِ على الملوكِ الجبابرة، فهو يُنشئ الإِلزامَ على الملِك العظيم، ولا يَخطُر له تنفيذُه لتعذُر ذلك عليه، بل الحاكمُ من حيث هو حاكم ليس له إِلَّا الإِنشاء، وأما قوةُ التنفيذ فأمرٌ زائد على كونه حاكماً، فقد يُفوضُ إليه التنفيذ وقد لا يندرج في ولايته. وليس له قسمةُ الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامةُ =

الرتبة السابعة: ولايةُ المظالم، وأوَّل من أحدثَها في الإِسلام عبدُ الملك بن مروان (¬1)، فكان يجلسُ للمظالم يومًا يَخُصُّه، ويَرُدُ مشكلاتِها لإِدريسَ الأَوْدِيِّ (¬2). وله ما للقُضاةِ غير أنه أفسحُ مجالاً منهم، ¬

_ = الحدود، وترتيبُ الجيوش، وقتالُ البغاة، وتوزيعُ الإِقطاعات، وإقطاعُ المعادن ونحوُ ذلك، فلا يجوز لأحدٍ الِإقدامُ عليه إِلَّا بإذن إمام الوقت الحاضر" انتهى من "تبصرة الحكام" لإبن فرحون 1: 12، 13، وتعقَبه في بعض كلامه بما لا يخلو عن تمحُلٍ فراجعه. (¬1) هو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، من أعاظم الخلفاء ودُهاتِهم، نشأ في المدينة، وجالس الفقهاء والعلماء، ورَوَى الحديثَ عن أبيه وجابر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عمر ومعاوية وأم سلمة وبَرِيرِة مولاة عائشة وغيرهم. ورُوي الحديثُ عنه أيضًا. وكان ناسكاَ متعبداً. قال الشعبي: ما ذاكرتُ أحدًا إِلَّا وجدتُ لي الفضلَ عليه إِلَّا عبدَ الملك، فما ذاكرته حديثًا ولا شِعْراً إِلَّا زادني. وقال الذهبي في "سِيَرِ أعلام النبلاء" 4: 247: 9 كذا قال ابن سعد، وإنما استعمل معاويةُ أباه". استعمله معاوية على المدينة، وهو ابن 16 سنة، وانتقلت إليه الخلافة بموت أبيه سنة 65، فضبط أمورها وظهر بمظهر القوة والحزم، فكان جباراً على معانديه، قويَّ الهيبة. قال الذهبي: "وكان من رجال الدهر، ودُهاةِ الرجال، وكان الحجاجُ من ذنوبه". ونُقلت في أيامه الدواوين من الفارسية والرومية إلى العربية، وضُبِطَتْ الحروف بالنقَط والحركات. وهو أول من صَكَّ الدنانيرَ في الإِسلام، وهذه مَنْقَبَةُ شَرَفِ وَعزة إسلاميةِ واستقلال، تَدُلُّ على نفسيته الرفيعة الأبِيَّة، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد صَك الدراهم. وكان يقال: معاوية للحِلْم، وعبُد الملك للحَزْم. وكان نقشُ خاتمه: "آمنتُ بالله مُخلِصاً". ولد سنة 26، وتوفي سنة 86 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. انتهى باختصار من "الأعلام" للزركلي وغيرِهِ مع زيادة. (¬2) هو إدريسُ بن صَبِيح الأودي، من كبار أتباع التابعين، ومن رواة الحديث. =

لأنَّ له الأخذَ بالقرائنِ وشواهدِ الأحوالِ ما لا يأخذُ به القُضاة، وله وجوهٌ كثيرة اختَصَ بها عن القضاة مبسوطة في الفقه (¬1). فهذا أيضًا له إِنشاء الحكمِ ¬

_ = روَى عن سعيد بن المسيَّب، وروى عنه حماد بن عبد الرحمن الكلبي. وأخرج له الإِمام ابن ماجه في "سننه"، وذكره ابن حِبَّان في كتابه "الثقات" وقال "يُغرِب ويُخطئ على قلته". وقال ابنُ أبي حاتم الرازي في "الجرح والتعديل" 1: 264 "سألت أبي عنه فقال: هو مجهول" انتهى. ويعني أبو حاتم بذلك جهالةَ الحال والوصف، لا جهالةَ عينه، كما بيّنه الإِمام عبد الحي اللكنوي في كتابه "الرفع والتكميل في "الجرح والتعديل" ص 103 - 107 من طبعته الأولى وص 160 من طبعته الثانية، وص 229 من طبعته الثالثة. (¬1) قال المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في كتابه "الذخيرة": "والفرقُ بين نظر والي المظالم وبين القضاة من عشرة أوجه: الأول: له - يعني ناظر المظالم - من القوة والهيبة ما ليس لهم. الثاني: أنه أفسحُ مجالاً وأوسعُ مقالًا. الثالث: أنه يَستعمل من الإرهاب وكشفِ الأسباب بالأمارات الدالة وشواهدِ الأحوال اللائحة ما يؤدي إلى ظهور الحق، بخلافهم. الرابع: أَنه يقابِلُ من ظَهَر ظلمُه بالتأديب، بخلافهم. الخامس: أنه يتأنَّى في ترداد الخصوم عند اللبْس لِيُمعن في الكشف، بخلافهم إذا سألهم أحدُ الخصمين فصلَ الحكمِ لا يؤخرونه. السادس: له ردُّ الخصوم إذا أعضلوا إلى وساطة الأُمناء ليفصلوا بينهم صُلحاً عن تراض، وليس للقُضاةِ إِلا برضا الخصمين. السابع: له أن يُفسِحَ في ملازمة الخصمين إذا وَضَحَتْ أماراتُ التجاحد، ويأذَنَ في إلزام الكفالة فيما شُرعَ فيه التكفيل، لينقادَ الخصومُ إلى التناصف ويتركوا التجاحد، بخلافهم. الثامن: أنه يَسمع شهادات المستورين، بخلافهم. التاسع: له أن يُحلِّفَ الشهودَ إذا ارتاب فيهم، بخلاف القضاة. العاشر: له أن يبتدئ باستدعاء الشهود ويسألهم عما عندهم في القضيَّة، بخلاف =

في المختلفِ فيه، وله تنفيذُ الأحكامِ المجمَعِ عليها إِذا ثبتَتْ أسبابُها. الرتبة الثامنة: نُوَّابُ القُضَاة في عملٍ من أعمالهم أو مُطْلَقاتهم (¬1) ¬

_ = القضاة لا يَسمعون البينة حتى يريد المدعي إحضارَها, ولا يسمعونها إِلا بعدَ مسألةِ المدعِي لسماعها". نقله العلامة القاضي ابن فرحون في "تبصرة الحكام (113:2، 130. ثم قال عقبه: (وهذا تلخيصُ ما ذكره الماوردي الشافعي في "الأحكام السلطانية" في الكلام على ولاية الكشف عن المظالم وفي أحكام الجرائم ص 70 - 71. ونصوصُ المذهب - أي المالكي - تقتضي أن للقاضي تعاطيَ أكثر هذه الأمور، فقد قال سُحنون: ينبغي للقاضي أن يشتدَّ حتى يستنطقَ الحق، ولا يَدَعَ مِن حق الله شيئًا، ويَلينَ في غير ضعف. نقلَه ابن بطال في "المقنع". وهذا نصٌ في استعمال القوَّة والهيبة". انتهى كلامُ ابن فرحون. وقد ساق بعده 2: 114، 132 الشواهدَ على أن للقاضي في مذهب المالكية أن يتعاطى ما يَسُوغُ لوالي المظالم ثم قال: "فتحصلَ من هذا أن ما نقله القرافي في "الذخيرة" ليس هو مذهبَ مالك - رَحِمَهُ اللهُ - ". انتهى. أي بل هو مذهبُ الشافعي. وقد ذَكَرَ هذه الفروقَ العشرة بين والي المظالمِ والقضاةِ القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتابه "الأحكام السلطانية". أيضاً ص 63 - 64 وأقرها. ونقلَ صاحب "معين الحكام" فيه ص 169، 213 كلامَ القرافي في الفروق العشرة، ثم ذيله بعبارة ابن فرحون المذكورة هنا بالحرف دون أن يعزوه إليه! ولكنه نقَلَ المثال من كتب الحنفية فقال: "ونصوص المذهب تقتضي أنَّ للقاضي تعاطيَ أكثرِ هذه الأمور، فقد قالوا في خصال القاضي إنه يأخذُ نفسه بالمجاهدة، ويَسعَى في اكتساب الخير ويطلُبُه، ويستصلحُ الناسَ بالرهبة والرغبة، ويَشتدُّ عليهم في الحق، ولا يدَعُ من حق الله شيئًا، ويلينُ من غير ضعف، حتى قال في "المحيط": لو سلَّم عليه أحَدُ الخصمين في المجلس وسِعَه أن لا يَردَّ في أحد القولين، إبقاءً لحرمةِ المجلس. وهذا نصٌّ في استعمال القوّة والهيبة". (¬1) هكذا في نسخة (ر): (أو مُطلقاتهم). وفي غيرها (أو مطلقًا فهم ...). وهذه تحريف.

مساوون للقُضاةِ الأصولِ في أنَّ لهم إِنشاءَ الحكم في غير المجمَعِ عليه، وتنفيذَ المجمَع عليه إِذا قامت الحججُ وتعينتْ الأسباب (¬1). وولايتُهم مساويةٌ لمنصبِ الحكم من غير زيادة ولا نقصان، غيرَ أنَّ الفرق بقلَّةِ العمل وكثرته من جهة كثرة الأقطار وقِلَّتها، وأنَّ الأصلَ له عَزْلُ الفرعِ بخلاف العكس، ¬

_ (¬1) علَّق عليه القاضي ابن فرحون في "تبصرة الحكام" 1: 13، 14 بقوله: "هذا الذي قاله إن كان في النائب المستخلَف بإذن الإِمام فمسلَّم، وإلا فالمنقولُ في كتب المذهب خلافُ ذلك، ففي "وثائق ابن العطار" و"مُعين الحكام" و"المُذْهَب" لإبن راشد وغيرِ ذلك: أن القاضي إذا استخَلَف بإذن الإِمام فللمستخلف التسجيلُ، وإلا فيَرفَع إلى القاضي ما ثبت عنده ويُخبره به بمحضرِ عدلين يَثبت بهما عنده إخبارُه، وحينئذ يلزَم القاضيَ أن يُمضي فعلَه ويُسجل به للمحكوم له. قال ابن العطار: ولا يُسجِّل مستخلَف القاضي بما ثبت عنده، فإن فَعَلَ لم يَجز تسجيلُه ويَبطل، ولا يقوم للقائم به حجة إِلَّا أن يُجيزه القاضي الذي استخلَفَه قبل أن يُعزَل أو يموت. وهذا يَدلُ على أن القاضي إذا أذِنَ لمستخلَفِه في التسجيل جاز، وهو خلافُ ما في "معين الحكام" وغيرِه. وفي "المُتَيْطِيَّة" أن للقاضي أن يُبيح لمن قدَمه النظرَ في أموال الأيتام والغائب، والتسجيلَ في سائر الحكومات، وله أن يَحظر عليه ذلك، فيَفعَل من ذلك ما رآه باجتهاده. فينبغي أن يُحمَلَ كلامُ القرافي على أنه أذِنَ لنائبه في جميع ما تقلَّده عن الإِمام". انتهى. وذكر صاحبُ "معين الحكام" الطرابلسي الحنفي كلامَ القرافي في هذه الرتبة في ص 11، 12 منه، ثم استدرك عليه هذا الإستدراك بعبارة ابن فرحون مختصرةً دون أن يعزوها إليه. (تكملة): المُتَيْطِيَّة اسمُ كتاب في الشروط والوثائق، لأبي الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الأنصاري الأندلسي المُتَيْطِي المالكي، المتوفى سنة 570 - رَحِمَهُ اللهُ - تعالى، كما في ترجمته في "نيل الابتهاج بتطريز الديباج" للتُنْبكْتي ص 199، قال فيها: "ومُتَيْطَة قرية من أحواز الجزيرة الخضراء بالأندلس".

وهي فروق: ليست زائدةً في مقتضى الولاية. الرتبة التاسعة: ولايةُ الحِسْبَة، وهي تَقْصُرُ عن القضاءِ في إِنشاء كلِّ الأحكام، بل يَجتهدُ (¬1) في إِنشاء الأحكام في الرواشنِ (¬2) الخارجةِ من الدور (¬3) وبناءِ المَصاطِب في الطُرُقِ ونحوِ ذلك مما يتعلَّقُ بالحِسبة (¬4)، ¬

_ (¬1) أي المحتسِبُ. (¬2) الرواشن: جمعُ رَوْشَن، وهي الكُوة كما في "الصحاح" و"القاموس"، وقال الزبيدي في شرحه "وهي فارسية معربة". لكنْ قولُ المؤلِّف هنا: (الرواشِنِ الخارجَةِ من الدور)، يَدُلُّ على أنه تقصِدُ بالرواشِنِ هنا: الشُّرُفاتِ البارزةَ إلى هواءِ الطريق، لا مُجَرد الكُوَى أو النوافذِ غيرِ البارزة". أفاده أستاذنا وشيخنا العلامة الفقيه مصطفى أحمد الزرقاء أحسن الله إليه. (¬3) هكذا في نسخة (ر)، وفي غيرها: (الخارجةِ من الآدُر). قال في "المصباح المنير": "الدارُ معروفة، وهي مؤنثة، والجمعُ أدْوُرٌ مثلُ أفلُس، وتهمُز الواو ولا تُهمز، وتُقلَب فيقال: آدُر، وتُجمع أيضًا على دِيار ودُور". (¬4) انظر تفصيلًا حسنًا فيما يتعلق بالحسبة والمفارقة والموافقة بينها وبين أحكام القضاء في كتاب "الأحكام السلطانية" للقاضي أبي يعلى الفراء الحنبلي ص 268 - 292. وللشيخ ابن تيمية كتابُ "الحسبة" من أنفع الكتب في بابه، وترى تلخيصَه بقلم تلميذه ابن القيم في آخر كتابه "الطرق الحكمية" - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -. هذا، وقد ألِّفتْ فيها كتب خاصة مستقلة، استوفت ما يجب على المحتسب العناية به والسعي إليه، وهي كتب كثيرة قاربت الثلاثين كتابًا، فضلاً عن الأبحاث الكثيرة التي كُتبت فيها قديمًا وحديثًا، وقد استَوعَب بيانَ تلك الكتبِ والأبحاثِ الأستاذ كوركيس عواد في "مجلة "المجمع العلمي العربي بدمشق" في سنتها الثامنة عشرة ص 417 - 428 في مقال عنوانه "الحِسبةُ في خِزانة الكتب العربية". فلينظره من أراده فإنه مفيد.

وليس له إِنشاءُ الأحكام ولا تنفيذُها في عقودِ الأنكحة والمعاملات. ويزيدُ (¬1) على القاضي بكونه يَتعرَّضُ للفحص عن المنكرات وإِن لم تُنْهَ إِليه، والقاضي لا يَحكم إِلَّا فيما رُفِعَ إِليه، ولا يَبحثُ عما لم يُرفَع إِليه. وله من السلاَطةِ ما ليس للقُضَاة لأن موضوعَه الرهْبَة، وموضوعَ القضاةِ النَّصَفَة، فصارت الحِسبةُ أعَم من القضاءِ من وجه وأخصَّ من وجه، فيها بعضُ القضاء دون كلِّه، وفيها ما ليس في القضاء. الرتبة العاشرة: الولاياتُ الجزئية المستفادةُ من القُضاةِ وغيرهِم، كمن تولَّى العقودَ والفُسوخَ في الأنكحة فقط، أو النظرَ في شُفُعاتِ الأيتام أو عقودِهم فقط، فيُفوَّضُ إِليه في ذلك النقضُ والإِبرام على ما يَراه من الأوضاع الشرعية. فهذه الولاية شعبةٌ من ولاية القَضاء، وله إِنشاء الأحكامِ في غير المجمَع عليه، وله تنفيذُ المجمَع عليه، وذلك كلُّه فيما وَلِيَهُ فقط، وما عداه لا يَنفُذُ له فيه حكم البتة. الرتبة الحادية عشرة: الولايةُ المستفادةُ من آحادِ الناس، وهي التحكيم، فهو مشروعٌ في الأموالِ دون الحدودِ واللعانِ ونحوه، فهو شعبةٌ من القضاء، فكل ما فيه للقُضاة، وللقُضاةِ ما ليس فيه. فهو مفيدٌ للإِنشاءِ في غير المجمَعِ عليه، والتنفيذِ في المجمَعِ عليه في الأموالِ وما يتعلَّقُ بها خاصَة. قال ابنُ يونس: قال سُحنون (¬2): فإِنْ حكَمَ فيما ليس من أحكامِ ¬

_ (¬1) أي المحتسِب. (¬2) هو أبو سعيد عبد السلام بن حبيب التنوخي القيرواني المالكي، الإِمامُ الفقيه الحافظ العابد الزاهد الورع، الملقب بسُحنون - بضم السين وفتحها -. أصله شامي من حِمص، قَدِمَ به أبوه مع جُندِ أهلِ حِمص إلى القيروان، وكان مولده سنة 160. وهو من العرب صَلِيْبةَ، لُقِّبَ بسُحنون باسم طائرٍ حديدِ الذهن في المغرب، وذلك لحدَّةِ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ذهنِهِ وتوقدِ ذكائه. تلقى العلم عن أئمة العلم في القيروان، ثم رحل إلى تونس من المشرق، فلقي الأئمة الكبار كابن القاسم وغيره من أصحاب مالك وغيرهم فأخذ عنهم، ثم عاد إلى بلده بعلم غزير. وكان يقول: قبَحَ الله الفقر! أدرَكْنا مالكاً، وقرأنا على ابنِ القاسم. يعني أن الفقرَ منعه أن يرحل إلى مالك في المدينة. وانتهت إليه الرئاسة في العلم، ورحل الناس إليه من المشرق والمغرب، وعُدَّ لقاؤه والأخذُ عنه من المِنَح الربانيَّة. وقد أَخَذ العلمَ عنه خلائقُ لا يُحصَوْن كثرةً. كان فقيهَ البَدَن، والعلمُ في صدره كسُورةِ أُمِّ القرآن حفظاً. حتى قيل: لم يكن بين مالك وسُحنون أفقهُ من سُحنون. صنَف "المدوَّنة"، وعليها اعتمادُ أهل القيروان، وعنه انتشر علمُ مالك بالمغرب. وقد فصل القاضي ابنُ خَلكان كيفية تاليفه "المدوّنة" في كتابه "وفَيَّات الأعيان" 3: 181، فقال - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: وصنَّف كتاب "المدوَّنة" في مذهب الإِمام مالك - رضي الله عنه -: وأخذها عن ابن القاسم. وكان أوَّلَ من شَرَع في تصنيف "المدوَّنة" أسَدُ بن الفُرَات، الفقيهُ المالكي بعدَ رجوعه من العراق. وأصلُها أسئلةٌ سأل عنها ابن القاسم فأجابه عنها، وجاء بها أسَدٌ إلى القيروان، وكتبها عنه سحنون، وكانت تُسمَّى: الأَسَدِيَّة. ثم رَحَل بها سحنون إلى ابن القاسم في سنة ثمان وثمانين ومئة، فعَرَضها - أي قرأها - عليه، وأَصلحَ فيها مسائل، ورَجَع بها إلى القيروان في سنة إحدى وتسعين ومئة، وهي في التأليف على ما جمعه أَسَدُ بن الفُرَات أولًا، غيرَ مرتبةِ المسائل، ولا مرسمَةِ التراجم، فرتَب سحنون أكثرَها، وبوَبَهُ على ترتيب التصانيف، واحتَج لبعض مسائلها بالآثار" من روايته من "موطأ ابن وهب" وغيرِه، وبقِيَتْ منها بقية لم يُتمم فيها سحنون هذا العملَ المذكور. ذَكَرَ هذا كله القاضي عياض وغيرُه". انتهى. ثم ذكر ابن خلكان رواية ثانية في شأن تأليف "المدوَّنة"، منسوبة إلى تأليف ابن القاسم، من طريقِ مبهم، وتبدو عليها آثار الصنعة والتركيب! فلا يُعَوَّلُ عليها، =

الأموالِ نفَذَ ويُنهَى عن العَوْد. الرتبة الثانية عشرة: ولايةُ السعاةِ وجُباةِ الصدقة. لهم إنشاءُ الحكم في غير المجمَعِ عليه، وتنفيذُ المجمَعِ عليه في الأموال الزكَوِيَّة خاصَّة، فإن حكموا في غير ذلك لم يَنفُذ لعدمِ الولاية فيه. الرتبة الثالثة عشرة: ولايةُ الخَرْص. فليس فيها لمُتولِّيها إِنشاءُ حُكمِ في مختلَفٍ فيه، ولا تنفيذُ حكم في مُجمَعِ عليه. وليس له غيرُ حَزْرِ مقاديرِ الثمار، وكم يكون مقدارُها إِذا يَبِسَتْ فقط. وجعَلَ مالك حُكمَه بالمقدار إِذا تبيَّن خطؤه لا يُنقَض. والقياسُ نقضُه لأنه قد تبيَّن خطؤه قبلَ التنفيذ، والقاضي إِذا تبيَّن خطؤه قطعًا قَبْلَ التنفيذ حَرُمَ التنفيذُ إِجماعاَ فيما علمتُ، ولأنَّ إِيجابَ الزكاة بما دون النصابِ خلاف الإِجماع، أو خلافُ النصّ إِن لم يكن إجماع، وما تبيَّن أنَّ الحكمَ فيه خِلاف الإِجماع وَجَبَ نقضُهُ بالإِجماع. ¬

_ = والله أعلم. واجتمعتْ فيه خلالٌ قلما اجتمعت في غيره: الفقهُ البارع، والورع الصادق، والصرامة في الحق، والزهادة في الدنيا، والتخشُّن في الملبس والمطعم مع السماحة والكرم. وكان لا يقبل من السلطان شيئًا. أراده الأمير على تولي القضاء فأبى، فراوده عليه حولاً كاملًا حتى قَبِلَ منه، على شرطِ أن لا يرتزق على القضاء شيئًا، وأن يُنَفذَ الحقوقَ على وجهها في الأميرِ وأهلِ بيته. وكانت ولايته للقضاء سنة 234، وظلَّ فيه حتى مات سنة 240 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. قال الزبيدي في "تاج العروس" في (سحن): "سُحنون بضم السين، ونُقِلَ فتحُها. وسُحنون بن سعد من أئمة المالكية، جالس مالكاً مدة، وقَدِمَ بمذهبه إلى إفريقية فأظهره فيها، وتوفي سنة 241". انتهى. وفيه تحريف في اسم أبيه، وخطأ في نسبة صحبته لمالك، فإنه لم يرحل إليه ولم يلقه، وفي تاريخ وفاته - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

غيرَ أنَّ مالكاً رأى هذا من باب المصالح العامَّة للفقراءِ والأغنياء، أما للفقراءِ فلعدمِ إِفادةِ دعوى النقض، وللأغنياءِ بَالتمكُّنِ من المالِ يَتصرَّفون فيه كيف شاؤوا. ولولا الوثوق بتعيُّنِ ما حكَمَ به الخارصُ كنا نَحجُرُ عليهم، لئلا يأكلوا الثمرة ويقولوا: نَقَص الخَرْص. والقواعدُ قد تُخالَفُ لمثلِ هذا، كما ضمَّن مالكٌ حاملَ الطعامِ وإِن كان الأجيرُ أمينًا لا يَضمن، وضمَّن الصانعَ المؤثرَ في الأعيانِ بصَنْعتِه كالصبَّاغ والنسَّاج ونحوِهما؛ لأنَّ مصالحَ الناس العامَّة لا تتقررُ إِلَّا بذلك، لمبادرةِ النفوسِ لتناولِ الطعام وعِظَمِ الجُرأةِ على جَحْدِ العين إِذا تغيَّرَتْ بالصنعة. وبهذا يَظهرُ الفرق بين ولاية الخَرْص وولايةِ التقويم ونحوها، فإِن المقوِّمَ إِذا أخطأ بالزيادة أو النقص، وجبَ الرجوعُ للحق بخلافِ الخارص، لما ذكرنا من المصالح العامَّةِ التي لا تُحقَّقُ في المقوِّم ونحوِه. الرتبة الرابعة عشرة: ولايةٌ ليس فيها شيءٌ بلا من الحكم البتة، بل تنفيذُ مصالحَ وترتيبُها على أسبابها، فأهلُها كالقُضاة في التنفيذِ لا في الإِنشاء، كالولايةِ على قِسمةِ الغنائم، وإِيصالِ أموالِ الغائبين إِليهم، وصرفِ النفقاتِ والفروض المقدَرة لمستحقيها، وإِيصالِ الزكواتِ لأصنافها، ونحوِ ذلك مما فيه تنفيذٌ ليس إِلَّا, وليس فيه إِنشاءُ حكم آلبتة. الرتبة الخامسة عشرة: ولايةٌ ليس فيها حكم ولا تنفيذ، كولايةِ المقوِّمِ والتَّرْجُمانِ والكاتبِ والقائف، ومَن يُوضَعُ عنده المُوَاضعةُ (¬1) في الإِماء إِذا ¬

_ (¬1) المُواضَعَةُ: وَضْعُ الجاريةِ عند عَدْلٍ بطلبِ أحدِ المتبايعينِ. كما يستفاد من "المصباح المنير".

بِيعت، والقاسمِ ونحوِ ذلك، فهذا القِسمُ أيضًا ليس له أن يُنشئ ولا يُنفّذ، ومهما حكَمَ في شيء من الأحكام لا يَنْفُذ حكمُه؛ لأنه لمَّا لم يُولَّ عليه كان كآحادِ الناس. فقد ظهر بهذا التلخيص: ما يستفيد به الِإنسانُ ولايةَ الحكم، وما لا يستفيدُ به ذلك، وأنَّ ذلك ليس لكل أحد، وأنَّ المفيد لذلك أنواع كثيرة من الولايات، منها ما يكون ولايةُ الحكمِ بعضَه، ومنه ما لا يَسعُ ولا يَشملُ إلَّا بعضَ الحكم في شيء خاصّ، ومنها ولايةٌ تزيدُ على الحكم وتَنقصُ عنه من وجه آخر.

السؤال الرابع والثلاثون

السُّؤَالُ الرَّابِعْ وَالثَّلَاثُونْ ما معنى قولِ الفقهاء: إِنَّ للِإنسان أن يَنقُضَ حُكمَ نفسِه، وله نقضُ حكمِ غيرِه إِذا كان ذلك الغيرُ ليس أهلًا للقضاء؟ فهل يَختصُّ ذلك بالمُجمَعِ عليه؟ أو بالمُختلَفِ فيه؟ أو يَعُمُّ النوعين؟ أو ليس ذلك على ظاهره؟ جَوَابُهُ أنَّ نقْضَ الِإنسان لحكمِ نفسِه متصوَّرٌ بشرطين: أحدهما: أن يكون غيرَ مُجمَعٍ عليه. وثانيهما: أن تقطع بخطئه. والصحيحُ أنه لا يُنقَضُ اجتهاد باجتهاد، أما متى كان مجمَعًا عليه فالنقضُ في الحقيقة ليس للحكم، بل التغييرُ إِنما يَلْحقُ السببَ بمعنى أنَّ الذي اعتُقِدَ سببًا لم يُوجد سببًا. أما حُكمُ ذلك السبب لا سبيلَ إِلى نقلِه عنه. كما لو حُكِمَ على رجل بالقِصاصِ في موضعِ أجمَعَ الناسُ على ثبوت القصاص فيه، ثم تَبين أنَّ الرجل لم يقتُل، فالتغييرُ إنما لَحِقَ ما اعتُقِدَ أنه سبب لا ما يترتَّبُ عليه (¬1). وكذلك تعقُّبُ الِإنسان لحُكم غيره إِذا كان الذي تقدَّمه فاسقاً أو ليس بأهلِ: إنما معناه إنْ كان الحكمُ غيرَ مجمَعِ عليه، فله أن يُغيّرَ الحكمَ نفسَه من اللزومِ لعَدَمِه، ومن الفسخ للثبوتِ ونحوِه. وله أيضًا أن يُلغِيَ ما اعتَقَده ¬

_ (¬1) تعرَّض المؤلف لهذا المبحث بأمثلةِ كثيرة في كتابه "الفروق" 4: 41، في الفرق (223).

الأولُ سببًا، فلا يَجعلُهُ الثاني سببًا إِن كان غيرَ مجمَعٍ على سببيَّته. وأمَّا الحُكمُ المجمَعُ عليه فلا يَنظُرُ إِلَّا في سببه خاصَّةً هل تَحقَّق أم لا؟ فإِن وجَدَه مُتحقِقًا تركَهُ على حاله لا حِيلةَ له فيه, وإِن كان في ثبوت سببه شكٌّ كشَفَ عنه حتى يَعلم نفيَه أو ثبوتَه، فيَنفي الحكم أو يُثْبِته.

السؤال الخامس والثلاثون

السُّؤَالُ الخَامِسُ وَالثَّلَاثُونْ قولُ الفقهاء: إِنَّ الشهود إِذا رجعوا عن الشهادة لا يُنقَضُ الحكم مُشكِلٌ، فإِنَّ إِثباتَ الحكم بغير سببِ خلاف الإِجماع، والسَّببُ لم يَثبت لرجوعِ الشهود عن الشهادة به، فهل هذا مستثنى من قاعدةِ أنَّ ما خالَفَ الإِجماعَ يُنقَضُ؟ أو له معنى آخر؟ جَوَابُهُ أنَّ ما كان خلافَ الِإجماعِ يُنقَضُ، إِلَّا أنَّ المُدْرَك في عدمِ النقض ها هنا كونُ الحكمِ ثبَتَ بقولِ عُدولِ وسببِ شرعي. ودعوى الشهود بعد ذلك: الكذِبَ اعترافٌ منهم أنهم فَسَقة، والفاسقُ لا يُنقَضُ الحكمُ بقوله، فبقي الحكمُ على ما كان عليه.

السؤال السادس والثلاثون

السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونْ قد التبسَ على كثيرِ من الفقهاء بعضُ تصرفاتِ الحكام، هل هو حُكمٌ له أم لا؟ فما التصرُفاتُ التي ليستْ بحكم حتى يكون لغيرهم تغييرُها إِن رأى ذلك، أو المُخالَفَةُ فيها؟ فإِنَّ الحُكمَ نفسَه لا يجوز نقضُه، وغيرَه يجوزُ نقضُهُ والمُخالفةُ فيه. فما ضابطُ ما عدا الحكمَ حتى يُعرَفَ أنه غيرُ حُكمٍ فيُنظَرَ فيه (¬1)؟ جَوَابُهُ أنَّ تصرُّفاتِ الحُكَام والأئمة بغير الحكم أنواعٌ كثيرة، أنا ذاكرٌ منها - إِن شاء الله - عشرين نوعاً، وهي عامَّةُ تصرُّفاتِهم فيُسلَمُ من الغلَطِ فيها: النوع الأول: العقود، كالبيع والشراءِ في أموال الأيتام والغائبين والمجانين، وعقدِ النكاح على من بَلَغ من الأيتام، وعلى من هو تحت الحَجْر من النساء ومن ليس لها وليّ، وعقدِ الإِجارة على أملاكِ المحجورِ عليهم، ونحوِ ذلك. فهذه التصرفاتُ ليست حُكماً، ولغيرِهم النظرُ فيها، فإِن وجَدَها بالثمنِ البخس، أو بدونِ أُجرةِ المثل، أو وجَدَ المرأةَ مع غير الكفء: فله نقلُ ذلك على الأوضاع الشرعية، ولا تكونُ هذه التصرفاتُ في هذه الأعيان ¬

_ (¬1) هذا السؤال وجوابُه منقول في "تبصرة الحكام" 1: 72 - 75، 78 - 81، و"معين الحكام" ص 37 - 47، 43 - 46.

والمنافع حُكماً في نفسِها البتة. نعم قد تكون حُكماً في غيرها، بأن تتوقَّفَ هذه التصرفات على إِبطالِ تصرفاتٍ متقدّمةِ على هذه التصرفات الواقعة من الحاكم الآن، كتزويجِها بعدَ أن تزوَّجتْ من غير هذا الزوج والحاكمُ يَعلمُ ذلك، أو بَيْعِ العين مِن رجلٍ بعد أن بِيعَتْ من رجل آخر والحاكمُ يَعلمُ ذلك، ونحوِ ذلك، فإِنَّ ثبوتَ هذه التصرفاتِ بهذه العقود يقتضي فَسْخَ تلك العقود السابقة ظاهراً. النوع الثاني: إِثباتُ الصفات، نحوُ ثبوتِ العدالة عند حاكمٍ أو الجرحِ، أو أهليةِ الإِمامة للصلاة، أو أهليةِ الحضانة، أو أهلية الوصيَّة، ونحوِ ذلك. فجميعُ إِثباتِ الصفات من هذا النوع ليس حكمًا، ولغيره من الحكام أن لا تقبلَ ذلك، ويَعتقدَ فِسقَه إِن ثبَتَ عنده سببُه، وتقبلَ ذلك المجروحَ إِن ثبَتَ عنده عدالتُه، وكذلك جميعُ هذه الصفات ليست بحكم البتة. النوع الثالث: ثبوتُ أسباب المطالبات، نحوُ ثبوتِ مقدارِ قِيمة المُتلَفِ في المُتلفَات، وإِثبات الدُّيون على الغُرمَاء، وإِثباتِ النفقات للأقارب والزوجات، وإِثباتِ أُجرةِ المِثل في منافع الأعيان، ونحوِه. فإِنَّ إثبات الحاكم لجميع هذه الأسباب ليس حُكماً، فلغيره من الحكام أن يُغيّر مقدارَ تلك الأجرةِ وتلك النفقةِ وغيرِها من الأسباب المقتضِيَةِ للمطالبة (¬1). ¬

_ (¬1) علَّق عليه شيخنا وأستاذنا العلامة الفقيه مصطفى أحمد الزرقاء أمتع الله به، فيما كتبه إليَّ ما يلي: "كيف ينطبقُ هذا على إثبات الديون؟ فهل هي تقديريةٌ يمكنُ تغييرُها؟ ".

النوع الرابع: إِثباتُ الحِجَاجِ المُوجِبةِ لثبوت الأسبابِ الموجِبة للاستحقاق، نحوُ كونِ الحاكم ثبَتَ عنده التحليفُ ممن تعيَّنَ عليه الحلفُ، وثبوتِ إِقامةِ البينات ممن أقامها، وثبوتِ الإِقرارات من الخصوم، ونحوِ ذلك. فإِنَّ هذه حِجَاج تُوجبُ ثبوتَ أسبابٍ موجبةٍ لإستحقاق مسبَّباتها، ولا يَلزمُ من كونِ الحاكم أثبتها أن تكون حُكماً، بل لغيره أن يَنظر في ذلك فيُبطِلَ أولًا يُبطِل، بل إِذا اطَّلع فيها على خَلَلٍ تعقَّبه، ولا يكونُ ذلك الإِثباتُ السابقُ مانعًا مِن تعقُّبِ الخلَل في تلك الحِجَاج. النوع الخامس: إِثباتُ أسباب الأحكام الشرعية، نحوُ الزَّوَالِ، ورُؤيةِ الهلالِ في رمضان وشوالٍ وذي الحِجَّة، مما يترتَّبُ عليه الصومُ، أو وجوبُ الفطر، أو فِعلُ النُسُك، ونحوُ ذلك، وجميعُ أوقات الصلوات. فجميعُ إِثبات ذلك ليس بحكم، بل هو كإِثباتِ الصفات. وللمالكي أن لا يصوم في رمضان إِذا أثبَتَ الشافعيُّ هِلالَ رمضان بشاهدٍ واحد؛ لأنه ليس بحكم وإِنما هو إِثبات سبب، فمن لم يكن ذلك عنده سببًا لا يَلزمه أن يُرتَبَ عليه حُكماً (¬1). ¬

_ (¬1) ذكر المؤلف القرافي في كتابه "الفروق" 1: 128 - 129 في الفرق (16) فائدة حسنة تتعلقُ بذكرِ الفرق بين الأدلَّة والحِجاج والأسباب. وهذه خلاصتُها: "الفرقُ بين أدلَّة مشروعية الأحكام وبين أدلة وقوع الأحكام: أنَّ أدلَّةَ مشروعية الأحكام محصورةٌ شرعًا، تتوقف على الشارع وهي نحو العشرين. وأدلةَ وقوع الأحكام هي الأدلةُ الدالةُ على وقوع الأحكام أي وقوعِ أسبابها وحصولِ شروطها وانتفاءِ موانعها. فأدلةُ مشروعية الأحكام: الكتابُ، والسنةُ، والقياسُ، والِإجماعُ، والبراءةُ الأصلية، وإجماعُ أهل المدينة، وإجماعُ أهل الكوفة - على رأي -، والإستحسانُ، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والإستصحابُ، والعِصمةُ، والأخذُ بالأخف، وفِعلُ الصحابي، وفِعلُ أبي بكر وعمر، وفِعلُ الخلفاء الأربعة، وإجماعُهم، والِإجماعُ السكوتي، وإجماع لا قائل بالفرق فيه، وقياسٌ لا فارق، ونحوُ ذلك مما قُرِّرَ في أصول الفقه، وهي نحوُ العشرين، يتوقف كلُّ واحد منها على مُدْرَكِ شرعي، يَدُّل على أن الدليلَ نصبَهُ صاحبُ الشرع لاستنباط الأحكام. وأما أدلةُ وقوعِ الأحكام: فهي غير منحصرة، فالزوالُ مثلًا دليلُ مشروعيتهِ سببًا لوجوب الظهرِ عندَهُ قولُهُ تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}. ودليلُ وقوعِ الزوال وحصوله في العالَم الآلاتُ الدالَّةُ عليه، وغيرُ الآلاتِ كالإِسطرلاب والمِيزان ورُبع الدائرة ... والمختَرَعاتِ التي لأنهاية لها. وكذلك جميعُ الأسبابِ والشروطِ والموانع لا تتوقف على نَصْبِ من جهة الشرع، بل المتوقفُ سببيَّة السبب وشرطية الشرط ومانعيَّة المانع، أمَّا وقوعُ هذه الأمور فلا يَتوقفُ على نَصْبِ من جهة صاحب الشرع. ولا تنحصر تلك الأدلة في عدد، ولا يمكن القضاء عليها بالتناهي. وأمَّا الحِجَاجُ فهي ما يقضي به الحُكَام، ولذلك قال - عليه السلام -: "فلعل بعضكم أن يكون ألحَنَ بحُجَّتِهِ من بعض، فأقضِي له على نحو ما أَسمع". فالحِجَاجُ تتوقفُ على نَصبِ من جهة صاحب الشرع، وهي البينةُ، والِإقرارُ، والشاهدُ واليمين، والشاهدُ والنكول، واليمينُ والنكول، والمرأتانِ واليمين، والمرأتانِ والنكول، والمرأتانِ فيما يختص بالنساء، وأربعُ نسوة عند الشافعي، وشهادةُ الصبيان، ومجرَّدُ التحالف عند مالك، فيقتسمان بعدَ أيمانهم عند تساويهما عند مالك، فذلك نحوُ عشرةٍ من الحِجاج هي التي يقضي بها الحاكم، فالحِجاجُ أقلُّ من الأدلة الدالة على المشروعية، وأدلَّةُ المشروعية أقلُّ من أدلة الوقوع. وفائدةُ هذه الثلاثة الأنواع مُوَزَّعةٌ في الشريعة على ثلاث طوائف، فالأدلَّةُ يَعتمدُ عليها المجتهدون، والحِجاجُ يَعتمدُ عليها الحكام، والأسبابُ يَعتمدُ عليها المكلفون كالزوالِ ورؤيةِ الهلال ونحوِهما".

النوع السادس: مِن تصرفات الحكام، الفتاوى في الأحكام في العباداتِ وغيرِها، من تحريمِ الأبضاع، وإِباحة الانتفاع، وطهاراتِ المياه، ونجاساتِ الأعيان، ووجوبِ الجهاد، وغيرِه من الواجبات، وليس ذلك بحكم، بل لمن لايعتقدُ ذلك أن يُفتيَ بخلاف ما أَفتى به الحاكمُ أو الإِمامُ الأعظم. وكذلك إِذا أَمروا بمعروف أو نَهَوْا عن منكر وهم يعتقدونه منكرًا أو معروفاً، فلمن لا يعتقد ذلك أن لا يفعل مثلَ فعلِهم، إِلَّا أن يدعوه الإمامُ للِإنكار، وتكونَ مخالفتُه شِقاقاً، فتجبُ الطاعةُ لذلك. وأما الحاكم فلا يُساعَدُ على ما نعتقدُ نحن خلافَ ما هو عليه، إِلَّا أن يُخشى فتنةٌ يَنهى الشرعُ عن السماحةِ فيها. النوع السابع: تنفيذاتُ الأحكام الصادرة عن الحكام فيما تقدَّم الحكمُ فيه من غير المنفذ بأن يقول: ثبَت عندي أنه ثبَتَ عند فلان من الحكام كذا وكذا. وهذا ليس حُكماً من المنفِّذ البتة. وكذلك إِذا قال: ثبَتَ عندي ان فلانًا حكَمَ بكذا وكذا: فليس حُكماً من هذا المثبِت، بل لو اعتقَدَ أنَّ ذلك الحكم على خلافِ الإِجماع صحَّ منه أن يقول: ثبَتَ عندي أنه ثبَتَ عند فلان كذا وكذا؛ لأنَّ التصرُّف الفاسدَ والحرامَ قد يَثبُتُ عند الحاكم، ليترتَّبَ عليه تأديبُ ذلك الحاكمِ أو عَزْلُه. وبالجملة: ليس في التنفيذ حُكم البتة، ولا في الإِثبات أنَّ فلانًا حكَمَ مساعدةٌ على صحَّةِ الحكم السابق، فلا يُغتَرُّ بكثرةِ الإثبات عند الحكام، فهو كحكمِ واحدِ وهو الأوَّل، إلَّا أن يقول الثاني: حكمتُ بما حكَمَ به الأول.

النوع الثامن: تصرُّفات الحكامِ بتعاطي أسباب الإستخلاص ووصولِ الحقوق إِلى مستحقِّيها، من الحبسِ والإِطلاقِ، وأخذِ الكُفَلاء الأمْلِياء، وأخذِ الرُّهون لذوي الحقوق، وتقدير مدة الحبس بالشهور، وغيرِها. فهذه التصرفات كيفما تقلَّبت ليست حُكماً لازمًا، ولغير الأوَّل من الحكام تغييرُ ذلك وإِبطالُه بالطرق الشرعية على ما تقتضيه المصلحةُ شرعًا. النوع التاسع: التصرُّفُ في أنواع الحِجَاج، بأن يقول: لا أسمعُ البيِّنةَ لأنك حلفتَ قبلَها مع قدرتك على إِحضارها، أو لا أحكمُ بالشاهدِ واليمين، أو لا أردُ اليمينَ على المدَّعي، أو لا أُحَلِّفُ المدَّعَى عليه لأنها يمينُ تُهمة، ومذهبي أنها لا تُحلَّف. فهذا كلُّه ليس حُكماً شرعياً، ولغيره من الحكام أن يفعل ما تركه. النوع العاشر من التصرفات: توليةُ النُوَّابِ عنهم في الأحكام، ونَصْبُ الكُتَّاب والقُسَّام والمترجِمين والمقوِّمين وأمناءِ الحُكم للأيتام، وإِقامةُ الحُجاب والوَزَعة، ونَصْبُ الأُمناء في أموال الغائبين والمجانين، وإِقامةُ من يَتَجرُ في أموال الأيتام، أو يَعمُرُ العَقَار، أو يَجبِي رَيْعَهُ ويَلُمُّ شَعَثَه، ونحوُ ذلك. فهذا كلُّه ليس بحكم في هذه المواطن، ولغيره من الحكام نقضُ ذلك وإِبدالُه بالطرق الشرعية، لا بمجرد التشهي والغَرَض والهوى واللعب. النوع الحادي عشر: إِثباتُ الصفاتِ الموجِبةِ لِلمُكْنَةِ من التصرُفِ في الأموال، كالترشيد في الصبيانِ والبنات، وإِزالةِ الحَجْر عن المُفْلِسين والمكاتَبِين والمبذِّرين والمرتدِّين، أو المُزِيلةِ للمُكْنَةِ من التصرُّف، كضربِ الحَجْرِ على غيرِ البالغين أو المجانين أو المفلِسين أو المبذِّرين ونحوِهم.

فليس ذلك بحكم يَتعذَّرُ نقضُه، بل لغيره أن يَنظرُ في تلك الأسباب، ومتى ظهَرَ له وتحقَّقَ ضدُّ ما تحقق عند الأوَّلِ نقَضَ الحُكمَ وحكَمَ بضدّه، فيُطلِقُ مَنْ حُجِرَ عليه، ويَحجرُ على من أَطلَقه الأول، كما تقدَّمَ في العدالةِ والتجريح (¬1)؛ لأنه إِثباتُ صفاتٍ لا إِنشاءُ أحكام. النوع الثاني عشر: من تصرُّفاتِ الأئمة: الإِطلاقاتُ من بيت المال، وتقديرُ مقاديرِها في كلِّ عطاء، والإِطلاقاتُ من الفيءِ أو الخُمُسِ في الجهاد، والإِطلاقاتُ من أموال الأيتام لهم التي تحت يدِ الحكام، والإِطلاقاتُ في الأرزاق للقُضاةِ والعلماءِ والأئمةِ للصلاة والقُسَّامِ وأربابِ البيوت والصلحاءِ، وإِطلاقاتُ الإِقطاعات للأجنادِ وغيرِهم من القُرَى والمعادِن. ومن ذلك إِنفاقُ بعضِ الجهاتِ العامَّةِ على من يجوز الصرفُ لهم على الخلاف في ذلك، هل يُلاحَظُ أنه صَرْفٌ للمال في جهته الشرعية فيجوز؟ أو يُلاحَظُ الحَجْرُ بالوقفِ على المستحقّ ولم يكن ذلك لازمًا له فيَمتَنع؟ فهذا كلُّه ليس حكمًا، ولغيره - إِذا رُفِعَ له - النظرُ فيه بما يَراه من الطرق الشرعية فيُطْلِقُ ما عَوَّقَ، ويُعوَّقُ ما أَطلَق بحسب ما تقتضيه المداركُ الشرعية. النوع الثالث عشر: اتِّخاذُ الأحْمِيَة من الأراضي المشتركةِ بين عامَّة المسلمين تَرْعَى فيها إِبلُ الصدقة وغيرُها، كما فَعَلَ عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - وغيرُه. ¬

_ (¬1) في آخر ص 187 - 178.

فهذا ليس حُكماً: ولغيره بعدَه أن يُبطِلَ ذلك الحِمَى، ويَفعلَ في تلك الأرض ما تقتضيه المصالح الشرعية. النوع الرابع عشر: تأميرُ الأمراءِ على الجيوش والسرايا، فقد عزَمَ الصحابةُ رضوان الله عليهم على ردِّ جيشِ أسامة، ونفَّذَه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لأنه المصلحة في نظره، لا لتعذُّرِ نَقْضه. النوع الخامس عشر: تعيينُ أحدِ الخِصالِ في الحِرابةِ لعقوبة المحارِبين (¬1)، ليس حكمًا شرعياً، وإذا رُء لغيره من أهلِ مَذْهَبه في مذهبِ من يَرى التخييرَ مطلقًا قبلَ التنفيذ، ورأى أنَّ المصلحة تعيينُ غير تلك الخَصْلَة عيَّنَها؛ لأنَّ تعيينها أولًا ليس حُكماً شرعياً. النوع السادس عشر: تعيينُ مقدارٍ من التعزير إذا رُفع لغيره قبلَ تنفيذه فرأى خلافَ ذلك، فله تعيينُه وإِبطالُ الأول؛ لأنه ليس حكمًا شرعياً، بل اجتهادٌ في سببٍ هو الجِناية، فإِذا ظهر للثاني أنها لا تقتضي ذلك حَكَمَ بما يراه. وهذا بخلاف تعيين الأسارى للرِقِّ ونحوِه؛ لأنها مسألةُ خلافٍ بين العلماء، فقال بعضهم: تُقْتَلُ الأسارى فقط، ومذهبُنا ومذهبُ الشافعي وأبي حنيفة: جوازُ الإسترقاقِ أو ضَرْبِ الجزية، فإِذا اختار أحدَهما فهو حُكم منه بالذي اختاره، وهو إِنشاءُ حُكمٍ في مختلَفٍ فيه. ¬

_ (¬1) قال القاضي ابن فرحون في "تبصرة الحكام" 2: 196، 242 "الحِرابةُ: كلِّ فعل يقصَدُ به أخذُ المال على وجهٍ يتعذرُ معه الإستغاثةُ عادة، كشَهْرِ السلاح، والخَنْق، وسَقْي السَّيْكَرَان، لأخذِ المال". وجاء في "لسان العرب" في (حرب): "الحَرَبُ بالتحرَيك: نَهْبُ مالِ الإِنسان وتَرْكُه لا شيء له".

وكذلك كلُّ خَصْلَةٍ من الخِصال الخَمْس التي يُخيَّرُ فيها الإِمامُ في الأسارى: المنِّ، والفداءِ، وضربِ الجِزية، والقتلِ، والإسترقاق. ووافَقَنا الشافعيُّ في التخيير بين الخمسة، ومنَعَ أبو حنيفة المَنَّ والفِداءَ. وبالجملة: فاختيارُ الإِمام لأيّ خَصلةٍ اختارها من الخَمْسِ حُكمٌ بتلك الخَصلة؛ لأنه إِنشاءٌ في مختلَفٍ فيه. أمَّا مَقاديرُ التعزيرِ فليس فيها خلاف، إِنما اتفق الناس على أنه يَتبَعُ سببَهُ في عِظَمِه وحقارتِه، وللإِمامِ أو الحاكمِ تلخيصُ ذلك السبب، فلا يقعُ فيه إِنشاءُ حُكم بتلخيصِ سببٍ وتنفيذِ حُكمٍ مجمَعٍ عليه. وكذلك اختياره لخَصْلَةٍ من عقوبة المحارِبين إِن وُجِدَ من المحارِب القتلُ وعيَّنَ الإِمامُ القتلَ: لم يكن إِنشاءً لحاكم في مختلَفٍ فيه، بل تنفيذٌ لمجمَعٍ عليه. وإِن عيَّنَ القتلَ في محارِبٍ لم يقتُل، لِعظَمِ رأيِه ودَهائِهِ وأنَّ قَتْلَه مصلحة للمسلمين، فهذه مسألةُ خلاف: فالشافعيُّ يَمنعُها ولا يُجيزُ قتلَ المحارب إِلَّا إِذا قَتَل، ولا قَطْعَه إِلَّا إِذا قَطَع، فتصيرُ هذه كمسألة الأسارى سواء، فتتعيَّنُ خَصلةٌ من خِصال عقوبةِ المحارِب بالقتلِ أو القطع، ويكون على هذا التقرير إِنشاءَ حكمٍ في مختلَفٍ فيه لا يجوزُ لغيره نقضُه. وكذلك تعيينُ أرضِ العَنْوَةِ للبيع، أو القسْم، أو الوقفِ، إِنشاءٌ في مختلَفٍ فيه. النوع السابع عشر من التصرُّفاتِ: الأمرُ بقتلِ البُغَاةِ وردْعِ الطُّغاة إِذا لم يُنَفَّذْ، ليس إِنشاءً الحاكم في مختلَفٍ فيه، فلغيره إِذا اتَّصلَ به أن يَنظرَ في تحقيقِ سببه، إِلَّا أن تكون المسألةُ مختلفاً فيها، كتاركِ الصلاة، وقَتْلِ

الزنادقة، فإِنه إذا عيَّنَ القتلَ وحكمَ به، كان هذا إِنشاءً الحاكم في مختلفٍ فيه، فليس لغيره نقضُه، بخلاف قتالِ البُغاةِ المجمَع عليه ونحوِه فإِنه متفَق عليه. النوع الثامن عشر: عَقْدُ الصُّلحِ بين المسلمين وبين الكفار، ليس من المختلَفِ فيه، بل جوازُه عند سببه مجمَع عليه، فلغيره بعده أن يَنظرَ: هل السببُ يقتضي ذلك؟ فيُبقيَه، أو لا يقتضيه؟ فيُبطلَه. والصُلحُ إِنما هو التزامٌ لكفايةِ الشر حالةَ الضعف، فإِن كان فيه تأمين، أوما يُوجبُ نقضُهُ عليه الخِيانَةَ من جهةِ المسلمين امتنَعَ نَقْضُه لذلك؛ لأنه مُوادَعة ومُتاركةٌ للحرب (¬1). النوع التاسع عشر: عَقْدُ الجِزية للكفار لا يجوز نقضُه ولا تغييرُه، ولكن ليس لكويه حكمًا إِنشائياً، كالقضاء بصحةِ العقود المختلَفِ فيها، بل لأنَّ الشرع وضَعَ هذا العقدَ مُوجِبَاً للإستمرارِ للمعقودِ له ولذُرِّيَّتِه إلى يوم القيامة، إِلَا أن يكون وقَعَ على وجهٍ يقتضي النقض، كعَقْدهِ لأهلِ دِينٍ لا يجوز إِقرارُهم، نحوُ الزنادقةِ والمرتدةِ ونحوِهم. وأما متى وقع مستجمعاً لشروطه فلا يجوز لأحدٍ تغييرهُ، كعقد البيع وغيرِه مما مقتضاه الدوام، لا يجوز لأحدٍ إِبطالُه بغير سببٍ حادثٍ يقتضي إِبطالَه. ¬

_ (¬1) هذا المقطع جاء في الأصول كلها عقب قوله الآتي قريبًا في آخر (النوع التاسع عشر): "بغير سبب حادث يقتضي إِبطالَه". وهو هناك بعيد الصلة والمناسبة بما قبله. وقد أورده العلامة ابن فرحون في هذا النوع الثامن عشر، لوَثاقةِ صِلتِهِ به، أو لأنه جاء كذلك في نسخة "الإحكام" التي نَقَلَ منها؟ فلذا أثبته هنا ونبهتُ عليه.

النوع العشرون: تقرير الخراج على الأَرَضِين وما يُؤْخَذُ من تُجارِ الحربِيين: ليس بحكم، إِنما هو ترتيبُ ما تقتضيه الأسبابُ الحاضرة، فإِن ظهَرَ لغيره أنَّ السبب على خلاف ما اعتقده الأولُ فَعَل غيرَ ذلك، وإن تبيَّنَ أنَّ العقد على خلافِ الغِبْطةِ للمسلمين نقَضَه، كما إِذا باع مالَ اليتيم بالبَخْسِ فإِنه يُنقَض. تنبيه حُكمُ الحاكمِ في مسائل الإجتهاد لا يُنقَض، والحكمُ المجمَعُ عليه لا يُنقَض، وعَقْدُ النَّذْر لا يُنْقَض، وعُقودُ التعاليق في الشروط في الطلاقِ والعتاقِ وغيرِهما لا تُنْقَض، وعقودُ المعاملات لا تُنْقَض. وسبَبُ ذلك مختلِفٌ: ففي مسائل الإجتهادِ كونُه نصَّاً خاصاً كما تقدَّمَ بيانُه (¬1)، فيُقَدَّمُ على العامّ. وفي مسائل الإِجماع لأجلِ الإِجماعِ على أنَّ ذلك السبب يقتضي ذلك الحكمَ فلا يجوز اقتطاعُه عنه. وعَقْدُ النَّذْرِ لأنه سبَبٌ يقتضي اللزومَ فيما التَزَم. وعَقْدُ الجِزية لأنه يقتضي الدوامَ بالإِجماع، وعقودُ المعاملات كذلك. فعدَمُ النقض مشترَك، والأسبابُ مختلفة. ¬

_ (¬1) في ص 80 - 81.

السؤال السابع والثلاثون

السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونْ ما معنى مذهبِ مالكِ الذي يقلَّدُ فيه ومذهبِ غيرِه من العلماء؟ فإِن قلتم: ما يقوله مِن الحقّ، أشكلَ ذلك بقوله: الواحدُ نصف الإثنين، وسائرِ الحسابيات والعقليات، وإِن قلتم: ما يقوله من الحق في الأمور الشرعية مما طلبَهُ صاحبُ الشرع، بطَلَ ذلك بأصولِ الدين وأصولِ الفقه، فإِنها أمورٌ طَلَبها صاحبُ الشرع، ولا يجوز التقليدُ فيها لمالكٍ ولا غيرِه. فإِن قلتم: مذهبُ مالكٍ وغيرِه من العلماء الذين يقلَّدون فيه هو الفروعُ الشرعية. قلتُ: إِن أردتم جميعَ الفروع بطَلَ ذلك بالفروع المعلومة من الدين بالضرورة، كالصلوات الخمسِ، وصوم شهر رمضان، وتحريمِ الكذبِ والزِّنى والسرقةِ ونحوِها، فإِنها يَبطلُ فيها التقليدُ لكونها ضروريَّة، والمعلومُ من الدين بالضرورة يستحيلُ فيه التقليدُ، لاستواءِ العامَّةِ والخاصَّةِ فيه، وهي من الفروع. وإِن أردتم بعضَ الفروع فما ضابطُه؟ ثم إِنْ بيَّنتُم ضابطَه لا يتمُ لكم المقصود؛ لأنَّ الحد حينئذ لا يكون جامعاً، فإِنه خرَجَ عنه ما تَقلَّدتم فيه من أسباب الأحكام وشروطِها، فإِنَّ أسبابَ الأحكام وشروطَها غيرُها, ولذلك قال العلماء: الأحكام مِن خِطابِ التكليف، والأسبابُ والشروطُ مِن بابِ خِطابِ الوضع، فهما بابانِ متباينان. ولأجلِ هذه الأسئلةِ لا يكادُ فقيه من ضعفَةِ الفقهاء يُسألُ عن حقيقةِ مذهب إمامِه الذي يقلدُ فيه فيَعرفه على التحقيق، وهذا عامٌّ في جميع

المذاهبِ المقلَّدِ فيها الأئمة. جَوَابُهُ أنَّ ضابطَ المذاهب التي يقُلَّدُ فيها أنها خمسةُ أشياء لا سادسَ لها: 1 - الأحكامُ الشرعية الفُروعيَّة الاجتهادية. 2 - وأسبابُها. 3 - وشروطُها. 4 - وموانعُها. 5 - والحِجاجُ المثبِتةُ للأسباب والمشروطِ والموانعِ. 1 - فقولنا: (الأحكامُ) احترازٌ عن الذوات. وقولُنا: (الشرعية) احترازٌ عن العقلية كالحساب والهندسةِ والحِسيَّات وغيرِها. وقولنا: (الفُروعيَّة) احترازٌ مِن أصول الدين وأصول الفقه، فإن الشرع طَلَب منا العلمَ بما يجبُ له سبحانه وتعالى، وما يستحيلُ عليه، وما يجوز. وطلَبَ منا العلمَ بأصول الفقه لاستنباط الأحكام الشرعية، فهي أحكامٌ شرعية لكنها أصولية ولا تقليد فيها. فأخرجنا بقولنا: (الفروعية) الأحكامَ الشرعيةَ الأصولية، وهي أصولُ الدينِ وأصولُ الفقهِ المطلوبانِ شرعًا (¬1). وأخرجنا بقولنا: (الاجتهادية) الأحكامَ الفروعيةَ المعلومةَ من الدين بالضرورة. 2 - وقولُنا: (وأسبابُها) نريد به نحوَ الزوالِ ورؤيةِ الهلال والإِتلافِ سَبَبِ الضمان، ونحوَ ذلك من المتفَقِ عليه. ومن المختلَفِ فيه: الرَّضْعةُ الواحدةُ سبَبُ التحريم عند مالك دون ¬

_ (¬1) وقع في الأصول الخمسة كلها: (المطلوبينِ)!.

الشافعي، وضَمُّ غيرِ الربوي في نحوِ مسألةِ مُد عجوةٍ ودرهمٍ سبَبٌ للفساد عند مالك والشافعي، خلافًا لأبي حنيفة (¬1)، وحُلولُ النجاسة فيما دون القُلتينِ مع عدم التغيرِ سبَبُ التنجيسِ عند الشافعي وأبي حنيفة، خلافًا لمالك، ونحوُ ذلك. 3 - (والشروطُ) نحوُ الحَوْلِ في الزكاة، والطهارةِ في الصلاة، من المجمَعِ عليه. والوليِّ والشهودِ في النكاح، من المختَلَفِ فيه. 4 - و (الموانعُ) كالحَيْضِ يَمْنعُ الصلاة والصوم، والجنونِ والإِغماءِ يمنعُ التكليفَ، من المجمَعِ عليه، والنجاسةِ تمنعُ الصلاةَ، من المختلَفِ فيه، وكذلك مَنع الدَينِ الزكاةَ. 5 - وقولُنا: (والحِجاجُ المثبِتةُ (¬2) للأسبابِ والشروطِ والموانعِ) نريد به ما يَعتمدُ عليه الحُكَّامُ من البيّنات والأقارير ونحوِ ذلك. وهي أيضًا نوعان: 1 - مجمَعٌ عليه: نحوُ، الشاهدينِ في الأموال، والأربعةِ في الزنا، والإِقرارِ في جميع ذلك إذا صدَرَ من أهله في محله، ولم يأتِ بعدَهُ رجوعٌ عن الِإقرار. ¬

_ (¬1) يعني: لو باع مُدَّ تمر معه درهمٌ، بعشَرةِ دراهمَ مثلًا. فإذا لوحظ تقابلُ الدرهم بالدراهم العشرة كان ذلك ربًا، وإذا لوحظ تقابلُ مد التمر بتسعة دراهم ومقابلةُ الدرهم بالدرهم انتفى الربا وصَحَّ البيعُ عند أبي حنيفة، وهذا بشرط أن يكون ما مع الدرهم تَبلُغ قيمتُهُ تسعةَ دراهم، فإن لم تبلغ فالبيع مكروه، وإن لم تكن له قيمة فالبيع باطلٌ لتحقق الربا. كما في "الدر المختار" للحَصْكَفِي وحاشيته "رد المحتار" لإبن عابدين في كتاب الصرف 4: 239 من كتب الحنفية. (¬2) في نسخة (ر): (المبينة).

2 - والنوع الثاني مختلَفٌ فيه، نحوُ الشاهدِ واليمين، وشهادةِ الصبيان في القتلِ والجِراح، والِإقرارِ إذا تعقَّبَه رجوع، وشهادةِ النساء إذا اقتُصِرَ منهن على اثنتين فيما يختَصُ بهن الإطّلاع عليه، كعيوبِ الفُروج واستهلالِ الصبي ونحو ذلك. وإِثباتِ القِصاص بالقَسامة، فإِن الشافعي يَمنعُه، ونحوِ ذلك. فهذه الحِجاجُ يَثبُتُ بها عند الحكام الأسبابُ نحوُ القتل، والشروطُ نحوُ الكفاءة، وعدَمُ الموانع نحوُ الخُلُو عن الأزواج، ونحوِه. ونحن كما نُقلِّدُ العلماءَ في الأحكام وأسبابِها وشروطِها وموانِعها، فكذلك نُقلِّدُهم في الحِجاج المثبِتةِ لذلك كما تقدَّم. فهذه الخمسة هي التي يقع التقليدُ فيها من العوامّ للعلماء، لا سادسَ لها، عملًا بالإستقراء، فمن سُئلَ عما يقُلَّدُ فيه العلماء فليذكر هذه الخمسة على هذا الوجه، يكونُ مجيبًا بالضابط الجامع المانع، وما عدا ذلك يكون الجوابُ فيه مختلاً بعدمِ الجمعِ أو بعدمِ المنع. تنبيه ينبغي أن يقال: إِنَّ الأحكامَ المجمَعَ عليها التي لا تَختَصُّ بمذهب، نحوُ جوازِ القِراض ووجوبِ الزكاة والصومِ ونحوِ ذلك: إِنَّ هذه الأمور مذهبُ إِجماعٍ من الأُمَّة المحمدية. ولا يقال: هذا مذهَبُ مالكٍ والشافعي إِلَّا فيما يختَصُ به؛ لأنه ظاهرُ اللفظ في الإِضافةِ والإِختصاص. ألا تَرى أنه لو قال قائل: وجوبُ الخمس صلواتٍ في كلِّ يوم هو مذهبُ مالك، لنبَا عنه السمعُ ونَفَر منه الطبع، وتُدرِكُ بالضرورة فرقاً بين هذا القول وبين قولنا: وجوبُ التدليك في الطهارات مذهبُ مالك،

ووجوبُ الوتر مذهبُ أبي حنيفة، ولا يَتبادَرُ الذهنُ إِلَّا إِلى هذا الذي وقَعَ به الإختصاص، دون ما اشترك فيه السَّلَفُ والخَلَفُ والمتقدّمون والمتأخّرون. كما أنه لا يقال: هذه طريقُ الزُّهَّاد إِلَّا فيما اختَصَّ بهم، دون ما يُشاركهم فيه الفُجَّار والكَفَرة، فالطُّرقُ المشتركةُ لا يَحسنُ إِضافتُها لآحادِ الناس إِلَّا توسُّعاً، وعلى التحقيقِ لا يُضافُ إِلَّا للمُختَصّ. كذلك المذاهبُ إِنما هي طَرِيقٌ مَعْنَوِيّهٌ لا يُضافُ لعالمٍ منا إِلَّا ما اختَصَّ به. وكذلك يقال: المذاهبُ المشهورةُ أربعة، ولن يَحصُلَ التعدُّدُ إِلا بالإختصاصِ لا بالمشتَرَكِ بينها. وعلى هذا ينبغي أن يزاد في الضابط هذا القيدُ، فإِذا قيل لك: ما مذهبُ مالك؟ فقُل: ما اختَصَّ به من الأحكام الشرعيةِ الفُرُوعيةِ الاجتهاديةِ، وما اختَص به من أسبابِ الأحكام والشروطِ والموانعِ والحِجاجِ المثبِتةِ لها. وهذا هو اللائق الذي يُفهَمُ في عرف الإستعمال، وما السؤالُ إِلا عنه. وبهذا التلخيص تزداد المسألةُ غُموضاً والجوابُ عن السؤال بُعداً، وتقلُّ معرفةُ الجواب من كثيرٍ من الفقهاء (¬1). تنبيه اعلم أنَّا إِذا قلَّدنا آحاد العلماء في الأسباب، إِنما نُقلِّدهم في كونها أسبابًا لا في وقوعها، ففَرْقٌ بين قولِ مالك: اللِّواطُ مُوجِب للرَّجْم، وبين قوله: فلانٌ لاطَ، فنُقلِّدُه في الأول دون الثاني، بل الثاني من باب ¬

_ (¬1) أي حيث تتوقَّفُ معرفةُ المذهب على معرفة ما اختَص به من الأحكام ... وما اختَصَّ به من أسباب الأحكام ... فإنَّ معرفة ذلك لا يَنهضُ بها إِلا الأفذاذُ من الفقهاء.

الشهادة، إِن شَهِدَ معه ثلاثةٌ ثَبَتَ الحكم وإِلا لم يَثبُت. وهو في هذا مُساوٍ لسائرِ العدول، ولا أثَرَ لكونه مجتهداً في هذا الباب لا هو ولا غيرُه من المجتهدين. وكذلك نُقلدُه في أنَّ النبَّاش يقطعُ، ولا نُقلدهُ في أنَّ فلانًا نَبَشَ. وكذلك نُقلدُه في أنَّ النية شَرْطٌ في الطهارة، ولا نُقلدهُ في أن فلانًا نَوَى. ونُقلدُه في أن الدَّيْن مانعٌ من الزكاة، ولا نُقلدُه في أن فلانًا عليه دَيْن يستغرقُ مالَه (¬1)، بل لابُدَّ معه من شاهدٍ آخر. وهو في جميع هذه الأمور كسائرِ العدول، ولا أثر لكونه مجتهداً، بل هذا المعنى يكفي فيه مُطلَقُ العدالة (¬2). ¬

_ (¬1) يعني المؤلف بقوله في هذه الفروع الأربعة: (ولا نُقلِّدُه في ...) أي لا يجبُ علينا قبولُ قوله في ذلك، كما يَجبُ علينا قبولُ قوله: (في أن النَّبَّاش يقطع ...). (¬2) قال المؤلف في "الفروق" 4: 5 في الفرق (203)، بعد ما تعرَّضَ لهذا البحث: "والقاعدةُ أنَّ كل إمام أخبَرَ عن حكمٍ بسببٍ اتُّبع فيه، وكان فُتيا ومذهبًا". أو أخبَرَ عن وقوع ذلك السبب فهو شهادة. وإن المذهب الذي يقلد فيه الإِمامُ خمسةُ أمور لا سادسَ لها: 1 - الأحكام، كوجوب الوتر. 2 - والأسباب، كالمعاطاة. 3 - والشروط، كالنية في الوضوء. 4 - والموانع كالدين في الزكاة. 5 - والحِجَاج، كشهادة الصبيان والشاهد واليمين. فهذه الخمسة إِن اتُّفِقَ على شيء منها فليس مذهبًا لأحد، بل ذلك للجميع. فلا يقال: إن وجوب رمضان مذهبُ مالكٍ ولا غيرِه، بل ذلك ثابت بالإِجماع. فإنه إنما يفهم من مذهب الإِنسان في العادة ما اختَصَّ به، كقولك: هذا طريقُ زيد إذا اختَصَّ به. أو هذه عادته إذا اختَصتْ به. وإِذا اختُلِفَ في شيء من ذلك نُسِبَ إلى القائل به. وما عدا هذه الخمسة لا يقال: إنها مذهبٌ يُقلَّدُ فيه. بل هو إما رواية أو شهادة أو غيرهما، كما لو قال مالك: أنا جائع أو عطشان. فليس كلِّ ما يقوله الإِمام هو مذهَبٌ له، بل تلك الخمسة خاصة. ولو قال إمامٌ: زيدٌ زَنَى. لم نوجب الرجم بقوله، بل نقول: هذه شهادة هو فيها أسوةُ جميعِ العدول، =

فإن قلتَ: فنحن نُقلدُه إِذا رَوَى لنا عن ماعزٍ أنه زَنى، وأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رَجَمه (¬1). وكذلك الغامِدية (¬2). وكذلك قلَّدناه في سارقِ رِداءِ ¬

_ = إن كمَلَ النصابُ بشروطه رجمناه، وإلا فلا". (¬1) روى مالكٌ خبرَ ماعِزٍ المشارَ إليه في "الموطأ" 2: 165 في أول كتاب الحدود فقال: "عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أن رجلًا مِن أسْلَم جاء إلى أبي بكر الصديق فقال له: إن الأَخِرَ زَنَى! فقال له أبو بكر: هل ذكرتَ هذا لأحدٍ غيري؟ فقال: لا، فقاله له أبو بكر: فتُبْ إلى الله واستَتِرْ بسِترِ الله، فإنَّ الله تقبَلُ التوبةَ عن عباده. فلم تُقَرِّرْه نفسُه حتى أتى عمرَ بن الخطاب، فقال له: مثلَ ما قال لأبي بكر، فقال له عمر: مثلَ ما قاله له أبو بكر، فلم تُقرِّره نفسُه حتى جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: إنَّ الأَخِرَ زنى! فأعرَضَ عنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثَ مراتٍ، كلُّ ذلك يُعرِضُ عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حتى إذا أكثر عليه بَعَثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله قال: أيشتكي أم به جِنَّة؟ فقالوا: يا رسول الله، واللهِ إنه لصحيح. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبِكْرٌ أم ثَيب؟ فقالوا: بل ثَيِّب يا رسول الله، فأمَرَ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرُجِمَ". قال السيوطي في "تنوير الحوالك على موطأ مالك" 2: 165 "هذا الحديث وصله البخاري ومسلم من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سَلَمة، عن أبي هريرة. والرجلُ المذكور هو ماعِزٌ باتفاق الحفاظ. وقولُه: (إن الأَخِرَ زنى) هو بهمزةٍ مقصورة وخاء مكسورة، ومعناه: الأَرذَل والأبْعَد والأدْنَى، وقيل: اللئيم، وقيل: الشقي، وكلُّه متقارِب. ومرادُه نفسُه، فحقَرَها وعابَها لِما فعَلَ! ". (¬2) روى مالك في "الموطأ" 166:2 في أول كتاب الحدود "عن يعقوب بن زيد بن طلحة، عن أبيه زيد بن طلحة، عن عبد الله بن أبي مُليكة: أنه أخبره أن امرأةً جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرَتْه أنها زَنَتْ، وهي حامل، - أي من الزنى - فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهبي حتى تَضَعي، فلما وضعَتْ جاءته، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهبي حتى تُرضعيه، فلما أرضعته جاءته، فقال: اذهبي فاستودعيه، فاستودَعَتْه ثم =

صفوان، وأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطَعَه (¬1). وهذا كلُّه تقليدٌ في وقوعِ الأسباب، ويكفي في العمل بهذه الوقائع رِوايتُه وحدَه. وكذلك إِذا رواه غيرُه من العلماء وحدَه قلَّدناه ورَتَّبنا عليه الأحكام، فبطَلَ ما ذكرتموه من أن التقليدَ لا يَدخلُ في وقوع الأسباب. بل أكثَرُ الشريعة مبنية على الأسباب الواقعة في زمانه - عليه السلام - من الظهار واللعان وغيرهما، وأجمَعَ الناسُ على أنه إِذا نَقَل إِلينا عالمٌ عَدْلٌ شيئًا من ذلك قلَّدناه فيه ورَتَّبنا عليه الأحكَام اللائقةَ به، وليس لكل مجتهدٍ طريقٌ إِلى معرفةِ الأدلة، وانتزاعِ الأحكام من الوقائع والأسباب إِلا بطريق التقليد لناقليها، فظهر أن وقوعَ الأسباب والشروط والموانع يُقلَّد فيها. قلنا: ليس هذا مما نحن فيه لأنَّ هذا من باب الرواية, والروايةُ يكفي فيها الواحدُ على الصحيح من مذاهب العلماء، واشترَط بعضُهم اثنين، واشترَطَ بعضُهم في الأحاديثِ المتعلقةِ بالزِّنا أربعةَ رُواة. وإِذا اكتَفينا بالواحد في الرواية فمعناه أنَّا نُصدّقُه في وقوعِ ذلك السببِ أو ذلك الشرطِ أو ذلك المانع، من حيث إِنه يترتَّبُ عليه شَرْعٌ عامٌّ إِلى يوم القيامة لا يَختصُّ بأحد. ¬

_ = جاءت، فأمَرَ بها فرُجمتْ". وعلَّقَ السيوطي على قوله: (أن امرأةَ ...) فقال: وفي "صحيح مسلم": امرأةَ من غامِد، وهو بطن من جُهَينة". (¬1) روى مالك في "الموطأ" 2: 174 في كتاب الحدود في (باب تَرْكِ الشفاعة للسارق إذا بَلَغ السلطان): "عن ابن شهاب، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان: أنَّ صفوان بن أُمَية قيل له: إنْ لم يُهاجِرْ هَلَك، فقَدِمَ صفوانُ المدينةَ فنامَ في المسجد وتوسَّد رداءَه، فجاء سارق فأخَذَ رداءه، فأخَذَ صفوانُ السارقَ فجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمَرَ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُقطَعَ يدُه، فقال له صفوانُ: إني لم أُرد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهلاً قبلَ أن تأتيني به؟! ".

ولا نُصدّقُه ونعتبرُ روايتَه في ترتب الحكم في تلك الصورة الجزئية التي رواها، فلا نَرجمُ غيرَ ماعزِ بقوله (¬1)، ولا نَقطعُ غيرَ سارِقِ رِدَاءِ صفوان بقوله، وإِن كنا نَرجُمُ الزانيَ بتلك الرواية إِلى قيام الساعة، ونقطعُ (¬2) السارقَ إِلى قيام الساعة بقوله، فلا تَثبُتُ الأحكامُ أبداً (¬3) في غيرِ ذلك الجزئي الذي رواه إِلا بطريق الشهادةِ وتكميلِ النصاب منه مع غيره، فافهم هذا الموضعَ فهوَ مزَلَّة لكثير من الفقهاءِ. ولهذا السرّ قال علماء الأصول: إِنما اشتُرِطَ العددُ في الشهادة دون الرواية؛ لأنَّ العداوة تُتوقَّعُ في الصُّوَر الجزئية، وقد لا يُعلَمُ بها، وكذلك أسبابُ التُّهَم، فاشتَرطَ الشرعُ مع الواحد آخَرَ لتَبْعُدَ مظِنَّةُ العداوةِ والتُّهمة (¬4). قالوا: وأما عداوةُ الخَلْقِ إِلى يوم القيامة فَتَبْعُدُ جداً، فلذلك اكتَفى صاحبُ الشرع بالعدلِ الواحد؛ لأنَّ ظاهر العدالةِ الصدق. فظهر حينئذٍ أنَّا إِنما نُقلّد العلماءَ في الوقائع الجزئية إِذا رَوَوْها فيما يَتعلَّقُ بها من غير أحكامها الواقعة فيها، أما في أحكامِها المتعلّقة بها فلا نُقلدُهم أصلًا، بل راويها شاهدٌ من الشهود، فهو مُقلدٌ فيها من وجهٍ دون وجه كما تقدَّم (¬5). إِذا تقررَ أنَّا لا نُقلدُ العلماءَ في وقوع الأسباب في ترتيب أحكامها ¬

_ (¬1) لفظُ (غَير) هنا ساقط من نسخة (ر). (¬2) من قوله: (غيرَ رداء صفوان إلى قوله: ونقطع) من نسخة (ر). (¬3) وقع في الأصول الخمسة، كلها هكذا: (أبدًا إِلا في غير ...). وظاهرٌ أنه تكرارٌ خاطئ. (¬4) في نسخة (ر): (لسَدِّ مَظِنَّةِ العداوة ...). (¬5) في ص 198، وفي هذه الصفحة.

الخاصَّة بها عليها، فاعلَمْ أنه قد وَقَع في المذاهب مسائلُ مبنيَّةٌ على تقليدهم في وقوع الأسباب في ترتيب أحكامها الخاصة بها عليها، كما اتَّفق المالكيةُ في نقضِ البِياعات، وإِبطالِ الِإجارات، وتعطيلِ الأخذ بالشُّفُعات في أراضي العَنْوَات كمصر ومكة والعراق ونحوِها. فقال مالك: مِصرُ فُتِحَتْ عَنْوةً فعمَدَ فقهاء المذهب إِلى إِبطال البَيعِ والشُّفعةِ والإِجارةِ في أرض مصر، بناءً على قوله: فُتِحَتْ عَنْوة؛ لأنَّ من مذهبه أن أرض العنْوَةِ لا تُباعُ ولا تُؤجرُ ولا يُستَحقُّ فيها شُفعة. فتقليدُهم له في أنَّ بيعَها وإجارتَها والشُّفعة فيها لا تصح تقليدٌ صحيح (¬1)؛ لأنه تقليدٌ في الأحكام. وتقليدُهم له في أنَّ الأرض إذا فُتحَتْ عَنْوةً اقتضت هذه الأحكامَ: تقليدٌ صحيح؛ لأنه تقليدٌ في سببيّةِ سَبَب. وتقليدُهم له في أنَّ الأخذ قهرًا وعَنْوةً وقَعَ في أرض مصر ومكة تقليدٌ لا يصح؛ لأنه تقليدٌ في وقوع سبب لا يترتّبُ عليهُ أحكامٌ عامة ولا خاصة (¬2). ¬

_ (¬1) وقعت العبارة في الأصول الخمسة كلها هكذا: (في أن بيعها لا يصح وإجارتها والشفعة فيها تقليد صحيح). وهو اتفاق عجيب! فأثبتها كما ترى. (¬2) قال المؤلف في "الفروق" 4: 4 - 6 في الفرق (203): "والقول بأن الدُّورَ وَقْفٌ إنما يتناول الدُّورَ التي صادفها الفتح، أما إذا انهدمت تلك الأبنية، وبنَى أهلُ الإِسلام دُورًا غيرَ دور الكفار، فهذه الأبنية لا تكون وقفًا إجماعًا. وحيث قال مالك: لا تُكْرَى دور مكة. يريد ما كان في زمانِهِ باقيًا من دور الكفار التي صادفها الفتح. واليومَ قد ذهبَتْ تلك الأبنية، فلا يكون قضاءُ الحاكم بذلك خطأ. نعم يختص ذلك بالقضاء بذلك والشفعة في الأرَضِين، فإنها باقية. أو نقول: قولُ مالك - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: إنَّ البلد الفلاني فُتِحَ عنوةٌ. ليس هذا بفتيا يقلَّدُ فيها, ولا مذهباً =

أمَّا أنه لا يَترتَّب عليه أحكامٌ عامَّة لعموم الخلق كما قلنا في زِنا ماعز، لأنَّ ترتيبَ الأحكامِ العامَّة إِنما نشأ من أنَّ المباشِرَ لتلك الأحكام مَنْ فِعلُه ¬

_ = له يجبُ على مقلِّديه اتباعُه فيه. بل هذه شهادة. وكذلك لو قال مالك: فلانٌ أُخِذَ مالُه غصبًا، أو خالَعَ امرأته، لم يكن ذلك فُتْيَا، بل شهادة. فكذلك قولُه: فُتِحَتْ مصر أو مكة عنوةً، شهادةٌ. وإذا كانت شهادة فمالك لم يباشِر الفتح، فيتعين أنه نَقَل هذه الشهادة عن غيره، ولا يُدرَى هل أَذِنَ له ذلك الغير في النقل عنه أم لا؟ وإن سلمنا أنه أَذِن له، فقد عارضَتْ هذه البيّنَةَ بيّنةٌ أخرى، وهي أن الليث بن سعد والشافعي وغيرهما قالوا: الفتحُ وقع صُلحًا. فهل يمكن أن يقال: إن إحدى البينتين أعدل فتقدم؟ أو يقال: هذا لا سبيل إليه، والعلماءُ أجلُّ من أن نفاوت نحن بين عدالتهم؟ ولو سلَّمنا الهُجومَ عليهم في ذلك، فالمذهَبُ أنه لا يُقضَى بأعدل البينتين إلَّا في الأموال. والعَنْوَةُ والصُّلحُ ليسا من هذا الباب. فلم قلتم: إنه يُقضَى فيه بأعدل البينتين؟ ولا يمكن أن يقال: إن هذه الشهادة نقلًا عن أحد، بل هي استقلال ومستنَدُها السماع، لأنا نمنع أن هذه المسألة مما تجوز فيه الشهادة بالسماع. وقد عَدَّ الأصحاب مسائل السماع خمسةً وعشرين مسألة، ليست هذه منها ... سلَّمنا أنها منها، لكن حَصَل المُعارِضُ المانعُ من الحكم بهذه الشهادة. وبهذا التقرير يظهر لك أن من أفتى بتحريم البيع والإِجارة والشفعة في هذه البقاع، بناءً على قول مالك: إنها فُتِحَتْ عنوة، خطأ، وأنَّ هذا ليس مذهبًا لمالك، بل هي شهادةٌ لا يُقلَّد فيها، بل تجري مَجرى الشهادات. وكما يَرِدُ هذا السُّؤَالُ على المالكية في العنوة، يَرِدُ على الشافعية في قول الشافعي: إنها فُتِحَتْ صُلحًا. ويبنون على ذلك: الفتيا بالإِباحة، ويجعلون هذا مما يُقلَّد فيه، وإنما هو شهادة أيضًا بالصلح. وقد بَسطتُ هذه المسائل في كتاب "الإِحكام في الفرق بيق الفتاوى والأحكام وتصرُّفِ القاضي والإِمام". وهو كتاب نفيس، فيه أربعون مسألة من هذا النوع". انتهى. وسيأتي نقدُ قوله: لا يُقضَى بأعدلِ البنيتين في ص 204.

حُجَّة، وهو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فلو كان الراجمُ لماعزٍ مَنْ ليس فِعلُه حُجَّةً ما انتفعنا بروايته في ترتيب الأحكام العامة أصلًا. وكونُ مِصرَ عَنْوَةً لم يُتصرَّف فيها بالوقفِ وإِبطالِ البيع: ليس ممن قولُه حُجَّةٌ ولا فِعلُه، بل إِنما وقع فتحُها في زمن الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يَثبت أنهم صرَّحوا بامتناع البيع في خصوصها، ولو ثبَتَ ذلك كان حُجَّة. وأما أنه لا يترتب عليه أحكام خاصة، فلأنَّا قد بينَّا أنّ روايةَ وقوعِ الأسباب لا تقتضي أن تترتَّب عليها الأحكامُ الجزئيةُ الخاصة بها، كما لا يُرجَمُ ماعزٌ برواية واحدٍ ونحوِه. والمالكيَّةُ يُثبِتون بفتاويهم وأقضيةِ حُكَّامِهم نقضَ هذه العقود، وإِبطالَ هذه الحقوق بناءً على قولِ مالك: إِنها فُتِحَتْ عَنْوة، بل كان يَتعيَّنُ عليهم أن يقفوا حتى يَكمُلَ نصابُ الشهادة عندهم، أو يَثبُتَ أنَّ هذه الأحكام في هذه الأراضي، حكَمَ بها أو أَفتَى مَنْ قولُهُ أو فِعلُهُ حُجَّة مِن نَبيّ أو صحابي، وحينئذ كانوا يُقْدِمون على الفتاوى والأحكام في تلك الوقائع. وليت شعري أيُّ فرقٍ بين قوله: فُتِحتْ الأرضُ الفلانية عَنْوةً وقهرًا؟ وبين قوله: فلانٌ قُتِلَ قهرًا وَعُدْوَانًا وعَمْدًا؟ وثَوْبُ فلانٍ أُخِذَ غصبًا؟ وهل ذلك كلُّه إِلَّا إِخبارٌ عن وقوع فِعلٍ من فاعلِ موصوفٍ بالقهر والغلبة؟ وتَراهم إِذا قال لهم مالك: فلانٌ قُتِلَ عمدًا يَقتصُّون مِن قاتِله بمجرَّدِ قوله، ويُرتّبون جميعَ تلك الأحكامِ المتعلقةِ بتلك الواقعة الجزئية، أوْ لا يُرتّبون تلك الأحكام ويُجرونه مُجرَى الشهادة؟ فإِن رَتَّبوا بِتِلكَ خَرَقُوا الإِجماع، وإِن أجروه مُجَرى الشهادة، ووَقَفُوا ترتيبَ تلك الأحكام على

كمالِ نصاب الشهادة أو القَسَامة، فما الفرقُ بين ذلك وكونِ الأرض عَنْوَة، وإِخبارِه عن وقوعِ القهر فيها؟ فإِن قالوا: هو من باب الشهادة، فيقال لهم: إِنه - رضي الله عنه - لم يُباشِر الفتح، فلا تَصحُّ الشهادة إِلَّا بطريق المباشرة. ولا يُمكنهم أن يقولوا: إِنَّ هذا من باب الشهادة بالسماع والإستفاضة، فإِنَّ الأصحاب قد عَدُّوا مسائلَ الشهادة بالسماعِ نحوَ سبعٍ وعشرين مسألة، ولم يَعُدُّوا هذا منها، فأين النَّقلُ الذي يُعتمَدُ عليه في أن مالكًا شَهِدَ في هذا بالسماع؟ ولا يُمكنهم أن يقولوا: حصَلَ له العلمُ بنقلِ التواتو بأنها فُتِحَتْ عَنْوة، وإِذا حَصَلَ العلمُ للشاهد جازت الشهادةُ، باشَرَ المشهودَ به أم لا، كما نَصَّ عليه صاحبُ "المقدِّمات" (¬1). لأنا نقول لهم: حصولُ العلم له بعيدٌ في هذا بالتواتر، وظاهِرُ الحال يأباه، لأنه - رضي الله عنه - من أهل المدينة لا من أهل مصر، والليثُ بن سعد ¬

_ (¬1) هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رُشد القرطبي، الإِمام العالم المحقق زعيم فقهاء عصره وقاضي الجماعة بقرطبة، المعروف بابن رُشدٍ الجَدّ. كان إليه المفزعُ في حل المشكلات، بصيرًا بالأصول والفروع والفرائض، متفننًا في العلوم كثيرَ الدين والحياء، مقدَّمًا عند أمير المسلمين. ومن تلامذته الكثيرين النجباء: الإِمامُ القاضي عياض. له تآليف كثيرة من أجلِّها: "البيانُ والتحصيل لما في "المستخرَجَة" من "التوجيه والتعليل"، و "المقدِّمات الممهِّدات"، لبيان ما اقتضته رسوم "المدوَّنة" من الأحكام الشرعيات، وهو مطبوع مع كتاب "المدوَّنة"، وله "تهذيب مشكل الآثار للطحاوي". ولد سنة 450، وتوفي سنة 520 بقرطبة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

من أهلِ مصر (¬1)، وهو يقول: إِنها فُتِحَتْ صُلحًا لا عَنْوة، ووافَقه على ذلك جمعٌ كثيرٌ من العلماء وأهلِ التواريخِ والنقل، وأهلُ البلد أخبَرُ بحالِ بلدهم من غيرهم، فإِن يكن ثَمَّةَ تواترٌ فهُمْ أولى به. فحيث جَزَموا بخلافه دَلَّ ذلك على أنَّ النقل لم يَصِل للتواتر عند مالك، بل إِنما وصَلَ إِليه مِمَّن يثقُ به بطريق أخبار الآحاد، فأخَبَرَ بما ظنَّه لا بما عَلِمَه. سلَّمنا أنه حصَلَ له العلمُ، لكن يُمكن أن يقال: إِنَّ الليث أيضًا ومَنْ معه حصَلَ لهم العلمُ بطريقِ الأولى، فتتعارَضُ شهادةُ مالكٍ ومن وافقه، والليثِ بن سعد والشافعيِّ ومن وافقهما. وإِذا تعارضَتْ البيّناتُ وجَسَرَ أحدُ الفقهاء وقال: مالكٌ أعدلُ وكذلك من وافقه، فيقال له: هل هذه المسألةُ مما يُحكَمُ فيها بأعدلِ البينتين؟ مع أنَّ مذهب المالكية أنه لا يُحكَمُ بأعدلِ البينتين إِلَّا في الأموال خاصَّة (¬2)، وهذا ¬

_ (¬1) هو أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفَهْمىِ وَلاءً، أصلُه من أصبهان، ومولده في قَلْقَشَنْدَة على نحو ثلاثة فراسخ من القاهرة. كان إمامَ عصره في مصره، وهو الإِمام المحدِّث الفقيه المجتهد، قال الشافعي: الليثُ أفقهُ من مالك، إِلَّا أن أصحابه لم يقوموا به. وقال ابن بكير: ما رأيتُ أكمل من الليث، كان فقيهَ البدن عربيَّ اللسان. وكان أحَدَ الكرماء الأجواد. ولد سنة 94، وتوفي سنة 175 في مصر - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. (¬2) وقد قال هذا أيضًا في كتابه "الفروق" 4: 6، في الفرق (203) كما تقدَّم نقله تعليقًا في ص 200. وانتُقِدَ هذا الحصرُ على المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. قال الحَطَّاب في "شرح مختصر خليل" 6: 209 "تنبيه قال القرافي في كتاب "الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام": ولا يُقضَى بأعدل البينتين إِلَّا في الأموال. ونقَلَه ابن فرحون. وهو مخالف لما ذكرناه في 208:6 من سماع يحيى ونقَلَه ابنُ عرفة، ونصُّه: قال ابنُ عرفة: =

وصفٌ وسبَبٌ شرعي ليس من الأموال في شيء. فإِن قالوا: إنه نقَل الشهادةَ عن غيره، فيقال لهم: مِن شَرْطِ النقلِ في الشهادة أن يأذَنَ الأصلُ للفرع في التحمُّل، فهل ثبَتَ عند حكام المالكية أنَّ المنقولَ عنه أذِنَ لمالكٍ - رَحِمَهُ اللهُ - في النقل عنه؟ مع أنه لا يجوز لحاكمٍ أن يَحكمَ بشهادةِ فرعٍ حتى يَثبُتَ عنده شروطُ التحمُّلِ وجميعُ ما يَتعلَّقُ بتلك الواقعة. وكذلك جميعُ قضايا الحُكّام، لابُدَّ من ثبوتِ كلِّ ما يَتوقفُ عليه ذلك الحكمُ عند الحاكم بطُرُقِه، فمنه ما يُحتاجُ فيه إِلى البيّنة، ومنه ما يُكتَفى فيه بمجرَّد إخبارِ الشاهدِ الفَرْعِ. وهذه كلُّها أمورٌ مشكلةٌ فتأمَّلْها. واعلم أنَّ هذا ليس خاصًا بمذهبنا، بل الشمافعيَّةُ لهم مثلُ ذلك في أرضِ العراق وغيرِها، فيَرِدُ عليهم ما يَرِدُ علينا. فتأمَّلْ هذه المباحث تَتيقَّنْ أنه ليس كلِّ ما يُنقَل عن العلماء يَدخله التقليد، بل يُقلَّدون في تلك الأمور الخمسة التي تقدَّمَ تلخيصُها (¬1)، وما عداه لا يَدخله التقليد. وقد تَدخله الرواية إِن كان المنقولُ عنه مِمَّن فِعلُه حُجَّةٌ أو قولُه، وقد ¬

_ = ولابن رشد في سماع يحيى من الشهادات: إن شَهِدَتْ إحدى البيِّنتين بخلاف ما شَهِدَتْ به الأخرى، مثلُ أن تشهد إحداهما بعتق، والثانيةُ بطلاقِ، أو إحداهما بطلاقِ امرأة، والثانية بطلاقِ امرأةٍ أخرى، وشِبهُ هذا، فلم يختلِف قولُ ابن القاسم بهما معًا، وروايةُ المصريين بأنه تهاتُرٌ من البيِّنتين وتكاذُبٌ يُحكَمُ فيه بأعدل البينتين، فإن تكافَئَتا سَقَطتا، ورَوَى المدنيُّون: يُقضَى بهما معًا استوَيَتا في العدالة أو إحداهما أعدل. انتهى". (¬1) في ص 192.

تَدخله الشهادةُ وهو الإِخبارُ عن وقوع الأسبابِ والشروطِ والموانع، وقد لا يَدخلُه تقليدٌ ولا روايةٌ ولا شهادة، وهو ما يذكرونه من أصولِ الفقه وأصولِ الدين أو غيرِ ذلك من الأمور الحِسيَّات أو العقلياتِ ونحوِها، وقد تقدّمَ تلخيصُ هذه الأقسام كلِّها على أحسنِ الوجوه (¬1). ¬

_ (¬1) في ص 192 وما بعدَها.

السؤال الثامن والثلاثون

السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونْ ما معنى قولِنا في الفتاوى: مَسْحُ جميعِ الرأس واجب، والغِناءُ حرام، وسَبُعُ الطيرِ مُباح، إِلى غير ذلك من الفتاوى المختلَفِ فيها؟ هل معنى ذلك أنَّ مسحَ جميع الرأس واجبٌ على جميع الخلائق أو على المالكيّ خاصَّة؟ وإِن قلتم: على المالكيّ خاصَّة، فالدليلُ الدالُّ على ذلك ما دلَّ إِلَّا على عمومِ وجوبِه على عموم الخلق، فكيف خصَّصتموه؟ وإن قلتم: على عامَّة الخلق، فيكون الشافعي قائمًا بتركِ الواجبِ عليهِ ويُصِرُّ على ذلك، والإِصرارُ على تركِ الواجب فُسوقٌ وعِصيان. فيَلزمُ أن يكون الشافعيُّ عاصيًا وفاسقًا عند مالكٍ والمالكية، وأن يكون مالكٌ وشِيعتُه عُصاةٌ عند الشافعي بتركِ البسملة في الصلاةِ، ونحوِها. وكذلك جميعُ المذاهب، فلا يَبقى أحدٌ من الفِرَق إِلَّا عاصيًا لله تعالى بتركِ ما عليه مخالِفُه، وهذا بعيدٌ جدًا. والتخصيص في الأدلَّةِ الدالَّةِ أيضًا على العموم وجعلُها خاصةً: تحكُمٌ محض. وهذه خُطَّتا خَسْفٍ لا خُروجَ عنهما (¬1)، فكيف التخلُّصُ منهما؟ وما يَعتمدُ أحدُكم في فُتياه إِذا أَفتى بالوجوبِ مثلًا يَنوي بذلك العمومَ ¬

_ (¬1) أي أمرانِ صعبان أو حالتان صعبتان، يَعسُرُ الخروجُ منهما. والخَسْفُ: الذُّلُّ، والظُّلم، والنَّقِيصة. وقوله: (هذه خُطَّتا خَسْفٍ) مَثَلٌ عربي، معناه ما ذكرتُه.

أو الخصوص؟ أوْ لا يَخطرُ ببالكم شيءٌ من ذلك؟ وأنتم عن هذه الأمورِ العظامِ غافلون! جَوَابُهُ أنَّ السؤال الذي تتَرتَّبُ عليه الفُتيا له أربعةُ أحوال: 1 - تارةً يُسألُ عن وجوب مسح الرأس مثلًا في نفس الأمر على المكلَّفين، من غير تعرُّضِ لمن قَلَّد. 2 - وتارةً يُسألُ عنه في حقّ من قلَّدَ القائلَ بالوجوب. 3 - وتارةَ يُسألُ عنه في حقّ من قلّدَ المخالِفَ للقائلِ بالوجوب. 4 - وتارةً يُسألُ عنه في حق مجتهدٍ لم يَنظر بعدُ في المسألة. ا - فإن وقع السؤالُ عن الوجوب في نفس الأمر عمَّمنا الفُتيا، لأنَّ الدليل دلَّ بعمومه في نفسِ الأمر على جميع الخلائق، إِلى يوم القيامة، في جميع الأعصار والأمصار، ما لم يَعرِض تقليدٌ لمخالِفِ ولَهُ دليلٌ مُعارِضٌ لهذا الدليل، فإنه يُصرَفُ موجَبُ هذا الدليل عن ذلك المخالف، لأنه أرجحُ عنده في ظنّه، والله سبحانه وتعالى إِنما كلَّفَ كلَّ واحدٍ بما غَلَب على ظنّه. 2 - وإِن وقع السؤالُ عن الوجوب في حقّ من قلَّد القائلَ به أفتيناه بالوجوب، ولا غَرْوَ في ذلك، لأنَّ إِمامه يَعتقدهُ لدليلٍ راجحٍ عنده، وهو قد التَزمَ مذهبَه فيَلزمُه ما التزمه، ولذلك إِذا سألَنا الإِمامُ نفسُه الذي أدَّاه اجتهادُه للوجوب قلنا له: حُكمُ الله تعالى عليك وعلى مَنْ قلَّدك الوجوبُ، بسبب ما غلَبَ على ظنّك من الوجوب، وأنت مكلَّفٌ بظنّك، وكذلك من قلَّدك تَبَعٌ لك في ذلك.

3 - وإن وقع السؤالُ عن مَسْح الرأس في حقّ من قلَّد الشافعيَّ القائلَ بعدمِ الوجوب مثلًا، أفتيناه بعدمِ الَوجوب، لأنَّ الأُمَّة مجمعة على أنَّ المجتهد إِذا أدَّاه اجتهادُه إلى حُكم، فهو حُكمُ الله في حقه وحقِّ من قلَّده إِذا قام به سبَبُه. وقولُنا: (إِذا قام به سَبَبُه) احترازٌ من أن يَجتهد في الزكاةِ ولا مالَ له، أو في النكاحِ ولا مَوْلِيَّةَ له، أو في القَضَاءِ ولا منصِبَ له. وإِذا انعقد الإِجماعُ على ذلك فلو أفتيناه بخلافه كنا خارقين للإجماع، بل هذا حُكمٌ مجمَعٌ عليه لا يجوز لأحد خِلافُه. ونظيرُ هذه المسألة: عَشَرَةٌ اجتهدوا في طلب القِبلة، فأدَّى كلًا منهم اجتهادُه إلى جهةٍ غير الجهة التي أدَّى إِليها اجتهادُ التسعة الأُخَر، وبقي مع هذه العَشَرةِ جماعاتٌ عوامٌّ لا يُحسنون الإستدلالَ على القِبلة، فاتَّبَع كلَّ واحدٍ من العشرة جماعةٌ من أولئك العوامّ، فإِنَّ كلَّ واحدٍ من تلك العشرة العلماءِ بالإستدلال، الذين اختَلفتْ فيه ظنونُهم، واختار كلٌّ منهم جهةً غيرَ التي اختارها الآخَرُ، إِذا سأل التسعةَ الباقيةَ الذين خالفوه: هل يَحْرُمُ عليَّ أن أُصلّي إِلى الجهة التي غلَبَ على ظني أنَّ الكعبة فيها أم لا؟ فإنهم يُفتونه بأنك يجبُ عليك وعلى من اتَّبَعك الصلاةُ للجهة التي غلَبَ على ظنّك أنَّ الكعبة فيها، ولا يَحرُمُ عليك، ونحن يَحرُمُ علينا أن نُصلّي إِليها، وكذلك من قلَّدَنا، لأنا نعتقد أنَّ الكعبة ليست فيها، فيصير إِجماعُ تلك العَشَرَةِ منعقِدًا على أنَّ حُكمَ الله في حقّ كلٍّ منهم ما أدَّى إليه اجتهادُه من تلك الجهات. فكذلك الأحكامُ الشرعية، وتكونُ المرأةُ المتزوِّجةُ بغير وليّ،

أو لَحْمُ السَّبُعِ مثلًا: حرامًا لقومِ حلالًا لقوم، كما جعَلَ الله تعالى الميتةَ حلالًا للمضطرّين حرامًا على المختارين، ويكونُ اختلافُ ظنونِ المجتهدين القائمةِ بهم كاختلافِ أحوالِ المضطرين والمختارين بالإضطرارِ والإختيار، فاختلافُ الصَّفَتَينِ في المحلَّينِ رتَّبَ الله تعالى عليه حُكمين متضادَّين، وهذا حقٌّ واضحٌ لا خَفَاء فيه. فكذلك متى سُئلنا عن الشافعية هل يجب عليهم مسحُ الرأس بكماله؟ نقول: لا (¬1)، ونُفتي الحنفيةَ بأنه يجبُ عليهم الرُّبعُ، ولا نُفتي في مذهبِنا بخلافِ مذهبِنا (¬2)، لِكلِّ فرقةٍ مذهبُ إِمامِها يخالِفُنا بما يخالفُنا ويخالفُ مذهبَنا، لأنه مجمَعٌ عليه. غيرَ أنه يُستثنى من هذا أربَعُ صُوَر خاصَّة، وهي الصُّوَر التي يُنقَضُ قضاءُ القاضي فيها: ما كان على خلافِ الِإجماعِ، أو القواعدِ، أو النصوصِ، أو القياسِ الجليّ، إِذا سَلِمَ كلٌّ مِن هذه الثلاثة عن مُعارِض راجحٍ له (¬3). فإِذا غلَبَ على ظنّنا أنَّ مخالِفَنا في المسألة قد وقع في فُتياه - بما خالَفنا فيه - أحَدُ هذه الأربعة فإِنا لا نُفتي مقلِّديه في تلك المسألة الواقعة على خلافِ أحد الأمور الأربعة إِلَّا بمذهبنا، لأنَّ خلافَه غيرُ مُعتدّ به، ¬

_ (¬1) لأنَّ مذهبَهم فرضيةُ مَسْحِ بعض الرأس، كما أنَّ مذهب الحنفية فرضيةُ مسحِ رُبعِ الرأس، فنفتي كلَّ واحدِ من الشافعية والحنفية بمذهبه. (¬2) جاءت العبارة في النسخ قالها: (ونُفتي في مذهبنا بخلافِ مذهبنا). والظاهر أن الصواب فيها: (ولا نُفتي في مذهبنا بخلافِ مذهبنا) كما أثبتُّه. (¬3) الثلاثة هي: القواعد، والنصوص، والقياس الجلي. وقد تقدمت الصُّوَر الأربعة مشروحة في ص 135 - 141.

ولا يَتقرَّرُ شرعًا عامًّا للمكلَّفين، لأنَّ ما لا نُقرُّه إذا حَكَم به حاكم وتأكَّد بالحُكم، أَولى أن لا نُقرَّه إذا لم يتصل به حُكمُ حاكم. وكذلك أنَّ كلَّ من قال بجوازِ الإنتقال في المذاهب استَثنَى هذه الأمورَ الأربعة وقالَ: يجوزُ التقليدُ للمذاهب، والإنتقالُ فيها بشرط أن لا يكون على خلافِ الإِجماعِ أو القواعد، أو القياس الجليّ، أو النصّ، السالمةِ عن المُعارضِ الراجحِ عليها. 4 - الحالةُ الرابعة: أن يقع السؤالُ عن وجوب مَسْحِ جميعِ الرأس في حقّ مجتهدٍ له أهليَّةُ الإجتهاد، كالشافعي ونحوِه، فلا نُفتيه بالوجوبِ ولا عدمِ الوجوب، بل نقولُ له: حُكمُ الله تعالى عليك أن تَجتهدَ وتَنظرَ في أدلَّةِ الشريعة ومَصادِرها ومَوارِدها، فأيُّ شيء غَلَب على ظنّك فهو حُكمُ الله تعالى في حقِّك وحق من قلَّدك، ما لم تخالِف أحدَ الأمور الأربعة التي يُنقَضُ قضاء القاضي إِذا خالَفَها. فإِذا خالفتَ أحدَ الأمورِ الأربعةِ ولم تطَّلع عليه، وجَبَ عليك أن تَبقى على ما غلَبَ على ظنك، وإِن كنتَ على خلافِ الإِجماع في نفس الأمر. وقد قال الغزاليُّ (¬1) في كتاب "المستصفَى" في كتاب الإجتهاد: إِن الإِجماعَ ¬

_ (¬1) هو أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الملقَّب بحجة الِإسلام وزين العابدين، الطُّوسي الشافعي، الإِمام الفقيه الأصولي المفسر المتكلم النظَّار الصوفي الفيلسوف الواعظ، ذو المؤلفات العديدة، والشهرة العريضة، التي طبَّقَت الآفاق. ولد في مدينة طوُس سنة 450، وأَخَذَ عن علمائها، ثم قدم نيسابور وأخذ عن إمام الحرمين أبي المعالي الجُوَيني، وجَدَّ في التحصيل حتى بلغ الدرجة الرفيعة في سعة العلم، واستنارةِ العقل ومُقارعةِ الملاحدة وخصومِ الإِسلام، والظَّفَرِ والغلبةِ عليهم. وألَّف المؤلفات الكثيرة النافعة. وأشهرُ مؤلفاته في الفقه: "الوجيز" و "الوسيط" =

منعقِدٌ على أنَّ من خالفَ الإِجماعَ ولم يَطَّلع عليه، وجَبَ عليه بالإِجماع أن يَبقى على مُخالفةِ الإِجماع، حتى يَطَّلعَ على أنه خالَفَ الإِجماع (¬1). ونقولُ له: فإِذا اطَّلعتَ على أنَّك خالفتَ أحدَ الأمور الأربعة وجَبَ عليك استئنافُ الإجتهاد، ولا نُفتيه أيضًا بالوجوبِ ولا بعَدمِه. وكذلك نُفتي مقلِّديه أنهم إِن لم يَطَّلعوا على أنه خالَفَ أحدَ الأمور الأربعة، فحُكمُ الله تعالى في حقِّهم ما ذهَبَ إِليه، وإِن اطلَّعوا على أنه خالَفَ أحدَ الأمور الأربعة حَرُمَ عليهم موافقتُه، ويُخيَّرون في بقية المذاهب، يُقلِّدون من شاؤوا فيها. ويجبُ هاهنا الإنتقالُ والجمعُ بين مذهبَينِ، أو الإنتقالُ إِلى جملةِ ¬

_ = و "البسيط". وفي أصول الفقه "المستصفى" و "المنخول من علم الأصول". وفي الكلام "الإقتصاد في الاعتقاد" وفي التصوف "إحياء علوم الدين". وفي الفلسفة "مقاصد الفلاسفة" و "تهافت الفلاسفة". وغيرُها. وبعد أن سارت بذكره الركبان، وملأت شهرته الأسماع والأصقاع، اعتزل التدريس في أواخر حياته سنة 488، وسلك طريق الزهد والإنقطاع للعبادة، وحجَّ إلى بيت الله تعالى، ومال إلى زيارة البقاع الكريمة والأماكنِ المعظمة، فدخل الشام وبيت المقدس والِإسكندرية، وأقام في كلِّ منها زمنًا. ثم أُلزِمَ بالعودة إلى نيسابور والتدريس فيها بالمدرسة النظامية، فأجاب إلى ذلك بعد تكرار المعاودة عليه، ثم ترك التدريس وعاد إلى بلده طوس، واتخذ فيها مقرًا للصوفية، ومدرسةً للمشتغلين بالعلم في جواره، ووزَّع أوقاته على وظائف الخير من ختم القرآن، ومجالسة أهل القلوب، والقعود للتدريس، إلى أن توفي سنة 505 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. (¬1) لم أقف على هذا النص أو مضمونه في أبواب الإجتهاد من "المستصفى"، فلعله قاله في موضع آخر من أبواب الكتاب؟

المذهبِ الثاني الذي هو أحَدُ المذاهب الصحيحة، لأنه لا سبيلَ إِلى تركِ التقليد في مسحِ الرأس في حقّ العامي، لأنه يُضطَرُّ إِليه في صلاته، والتقديرُ أنه لم يجده في مذهبه (¬1)، فيَتعيَّنُ عليه أحدُ الأمرين: إِما الجمعُ بين مذهبِه الذي كان عليه فيما عدا هذا الفرع وبين غيرِ مذهبه في هذا الفرع، أو ينتقلُ عن مذهبه الأول بالكلية إِلى مذهب آخر. وهذه الصُّورةُ ينبغي أن يَتنبَّه لها كلُّ من يقول بالمنع من الإنتقالِ في المذاهب، ويقولُ باستثنائها عن قاعدتِه في عدمِ الإنتقال، فهي ضرورة وموضعُ حاجةِ لا انفكاكَ عنها. فهذه صُورةُ ما يُفتي به المفتون في جميع المذاهب، تارةً تكون الفُتيا عامَّة، وتارةَ تكون خاصَّة، وتارةً تكون بضدّ ما عليه مذهبُ المفتي في نفسه. ومن جَهِلَ هذا وهو يُفتي فقد جَهِلَ أمرًا عظيمًا يتعلَّقُ بمنصِب الفُتيا، ربما وقع في خلافِ الإِجماع في فتاويه وهو لا يَشعرُ إِذا عَرَضَ له مثلُ هذه الأمور الخفيَّة التي لا يكادُ يجدها في الكُتُب، فكم من علمٍ لا يوجد مسطورًا بفَصّه ونَصّه أبدًا (¬2)، ولا يُقدَرُ على نقله، وهو موجودٌ فيما نُصَّ من القواعد ضِمنًا على سبيل الاندراج، يتفطَّن لاندراجه آحادُ الفقهاءِ دون عامَّتِهم (¬3). ¬

_ (¬1) جاء في الأصول الخمسة كلها: الم يجد في مذهبه). فأثبته كما ترى. (¬2) فَصُّ الأمر: أصلُه وحقيقتُه، يقال: أنا آتيك بالأمر من فَصِّه، يعني مِن مَخْرَجِهِ الذي قد خَرَج منه. (¬3) رحم الله المؤلف وأغدَقَ عليه الكرامةَ والرضوان، ما أدقَّ نظرَه، وما أغوَصَ خاطرَه على كشفِ الحقائق وتسجيلها، بعبارةٍ سلسةٍ عَذْبةٍ تَلِجُ العقلَ والفهمَ سريعًا، ولقد جاء في هذا الكتابِ بشيء كثير من هذا النمطِ الذي لا يوجد في الكتب، ومنه ما قالَه هنا في هذا المقطع.

مسْألة بعيْدة الغَور معضِلة نقَلَ الشافعية أنه سُئِلَ عنها الشافعيُّ - رضي الله عنه -، ولم أرهم نقَلُوا جوابَه فيها (¬1)، وهي أنَّ المقلِّدين لأرباب المذاهب يجوز أن يُصلّي بعضهُم خلفَ بعضِ، وإِن كان كلٌّ منهم يعتقدُ أنَّ مخالِفَه فَعَلَ ما لو فعلَه هو لكانت صلاتُه باطلة، كمن مَسحَ بعضَ رأسهِ، أو تَرَك البسملةَ أو التدليكَ في الطهارة، ونحوِ ذلك. وكذلك يجوز لأحدِ المجتهدِين في هذه المسائل أن يُصلّي خلفَ من يخالفُه من المجتهدين، ويُحكَى أنَّ ذلك جائزٌ إجماعًا، وأنَّ الخلافَ فيه مسبوقٌ بالإِجماع. ثم انعقدَ الإِجماعُ على خلافِ ذلك في المجتهدين في الأواني والقِبلةِ والثيابِ المختلطِ نجِسُها بطاهرِها ونحوِ ذلك، إِذا أدَّى اجتهادُ أحدِ الشخصين إِلى خلافِ ما أدَّى إِليه الآخر: أنَّه لا يجوز تقليدُهُ له، ولا أن يُصلّي خلفَه، لأنه يَعتقدُ بطلانَ صلاته باعتبار ما خالفه فيه. فما الفرقُ بين البابين؟ ولم يُنقَل عن الشافعي - رضي الله عنه - فيها جواب. وأجاب بعض متأخّري الشافعية (¬2) بأنَّ القِسمَ الأولَ لو مَنَعْنا الإقتداء ¬

_ (¬1) توسع المؤلف في كتابه "الفروق" 2: 100 - 102 في الفرق (76)، بإيراد هذه المسألة والتوجيهِ فيها بما لم يذكره هنا، فتراجع فيه هناك للمستزيد. (¬2) هو شيخ المؤلف الإِمامُ عز الدين بن عبد السلام - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -. كما في كتابه "الفروق" 2: 100، ولم يُصرِّح باسمِهِ هنا، لأنه سيَرُدُّ قولَه الذي نقله بعدُ، فهذا من بالغ أدبه - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - ورزقنا الأدب مع الشيوخ والآباء.

فيه، لأدَّى ذلك إِلى تقليل الجماعات لعمومِ مواقع الإختلاف في تلك المسائل وكثرتِها، بخلافِ القسمِ الثاني، الإختلافُ فيه نادر، فمَنْعُ الإقتداءِ فيه لا يُفضِي لذلك، وهو ضعيف، فإِنَّ مصلحة الإقتداء إِن كانت لا يُبطلها الخلافُ في الإجتهاد وجب تجويزُها في الجميع، وإِلا فيَمتنع في الجميع، ولأنه فارِقٌ وبحْثٌ لا يَشهد له شاهدٌ بالإعتبار. والجوابُ الحقُّ أن فقه المسألة أنَّ الله تعالى شَرَع لكل فريقٍ من المخالِفين في مسألة مسحِ الرأس ونحوِها ما أدَّى إِليه اجتهادُه، وجعَلَه شرعًا مقرَّرًا في نفس الأمر، كما جعَلَ الحِلَّ في الميتةِ للمضطر، وتحريمَها على المختار: حُكمين ثابتين في نفس الأمرِ للفريقينِ بالإِجماع، وجعَلَ الله تعالى الظَّنَيْنِ في حقّ المجتهدَينِ، كَالوصفينِ من الإضطرارِ والإختيارِ في حقِّ المكلَّفينِ بالنسبة إلى الميتة. أما المجتهدانِ في القِبلة ونحوِها فقد أجمَعا على أنَّ ثَمَّ حُكمًا معتَبرًا في نفس الأمر، وهو القِبلةُ أو الطَّهُوريَّة، وأنَّ تركه خطأٌ بإِجماع الفريقين إِذا تعيَّن، فكلُّ واحدٍ من الفريقين غلَبَ على ظنّه أنَّ مخالِفَه مخالفٌ للإِجماع، ولا يَقطَعُ باعتباره، ومَنْ غلب على الظنّ أنه مخالفٌ للإِجماع امتَنع تقليدُه إِجماعًا، ولذلك يُنقَضُ ما خالَفَ الإِجماعَ المنقولَ بأخبارِ الآحاد، أو القواعدَ، أو النَّصَّ، وإِن كان ذلك مظنونًا. فهذه قاعدةٌ انعقد الإِجماعُ على اعتبارها. وأما في مسحِ الرأس ونحوِه إِذا غَلَبَ على ظنّ المخالِفِ أنَّ مخالِفَه خالفَ معتبرًا يَظنُّ اعتبارَه ولا يَقطُع باعتباره، فهو مُعارَضٌ بظَنٍّ آخَر قِبالتَه في اعتبار ذلك المعتبَرِ من نصٍّ أو قياس.

وأما الإجماعُ الذي غلَبَ على ظنّنا أنه خُولِفَ في القبلة ونحوِها ليس قِبالتَه معارِضٌ البتة، فلم يُمكن تقليدُ من يخالِفُه في ظننا، وفي الأوَّل لمَّا تقابلَتْ الظنون أمكن أن يكون كلُّ ظنٍّ معتبَرًا في حقّ صاحبه، ولذلك تقرَّر شرعًا عامًا في حقِّ ذلك المجتهدِ وحقِّ من قلَّده إِلى يوم القيامة، سواءٌ فرَّعنا على أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ أم لا. ونظيرُه لو اجتمع شافعيَّان يعتقِدان نجاسةَ الأرواث، واجتهدا في ثوبٍ تنَجَّس بالأرواث، لم تَجُز صلاةُ أحدِهما خلفَ الآخر، وتجوزُ صلاتُه خلفَ المالكيّ المعتقِدِ طهارةَ ذلك الثوب، بسبب أنهما أجمعا في الأوَّلِ على عدمِ تقليدِ مالكٍ، والصلاةُ بالرَّوْثِ مع عدمِ تقليدِ من يعتقد طهارتَه باطلةٌ بالإِجماع، فامتنَع تقليدُه له، لأنه غلَبَ على ظنِّهِ أنه على خلاف الإِجماع. وكذلك ماءٌ نَجِسٌ لم يَتغيَّر، غير أنه أُخِذَ مِمَّا دُونَ القُلَّتينِ، إِن كانا شافعيينِ امتَنعَ التقليد، أو مالكيًّا وشافعيًّا جاز. فضابطُ هذا الباب أبدًا أنه متى كان المقلَّدُ فيه على خلاف الإِجماع في ظنّ المقلِّد امتَنَع، وإِلا جاز، وهو سِرُّ الفِقْه في المسألة، فتأمَّلْه (¬1). ¬

_ (¬1) قال شيخنا وأستاذنا العلامة الفقيه مصطفى أحمد الزرقاء أكرمه الله بإِحسانِه، فيما كتبه إِليَّ تعليقًا على هذا الموضع ما يلي: "الأحسَنُ في الجواب أن يقال: إِنَّ مسألةَ القِبلةِ هي مسألَةُ واقع، أي كونُ الكعبةِ هي في هذا الإتجاهِ أو في ذاك. ومِثلُها مسالةُ التحرِّي في الثوبِ أو إِناءِ الماءِ، المُصَابِ بنجاسة، أيُّ ثوبٍ أو إِناءِ هو من بين مجموعِ ثيابٍ أو آنِيَة، بخلاف المِقدارِ الواجبِ مَسْحُهُ من الرأس، فإِنها مسألةُ حُكمٍ مستفادٍ من نَصّ. والتقليدُ في مسائلِ الواقع لا يجوز، كما أوضحه المؤلَّفُ نفسُه في التنبيهِ الوارد في السؤال 37، ص 195، وفي مناسباتٍ أخرى في جوابِ ذلك السؤال والذي قبلَه. أما =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الأحكامُ فهي محلُّ التقليد، فيجوزُ تقليدُ مَنْ رأيُهُ نجاسَةُ الرَّوْثِ أو عدَمُ نجاسَتِهِ، ولا يجوزُ تقليدُ من يرَى أنَّ الثوبَ المُصابَ بالروثِ هو هذا أو ذاك، بل يَتحرَّى المكلَّفُ، لأنَّ هذه قضيةُ واقع، وتلك حُكْم. وقد سَبَق للمؤلِّفِ أن قال بأنه يجوزُ تقليدُ الإِمام مالك في أنَّ أرضَ العَنْوَةِ وقفٌ لا تُبَاع، لأنَّ هذا حُكمٌ اجتهاديّ، ولا يجوز تقليدُهُ في أنَّ أرض مِصرَ هي أرضُ عَنوَة، لأنَّ قوله في خصوصِ واقعةِ أرضِ مصر، هو كشهادةِ أيِّ شاهِدٍ في حادثةٍ معيَّنة".

السؤال التاسع والثلاثون

السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونْ ما الصحيحُ في هذه الأحكامِ الواقعةِ في مذهبِ الشافعي ومالكٍ وغيرِهما، المرتَّبةِ على العوائدِ والعُرفِ اللَّذينِ كانا حاصلينِ حالةَ جزمِ العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إِذا تغيَّرتْ تلك العوائد، وصارت العوائدُ تَدُلُّ على ضِدّ ما كانت تدلُّ عليه أوَّلًا، فهل تَبْطُلُ هذه الفتاوى المسطورةُ في كتب الفقهاء ويُفتَى بما تقتضيه العوائد المتجدِّدة؟ أو يقال: نحن مُقلِّدون، وما لنا إِحداثُ شرعِ لعدَمِ أهليتنا للإجتهاد، فنُفتِي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين (¬1)؟ جَوَابُهُ أنَّ إِجراءَ الأحكام التي مُدْرَكُها العوائدُ مع تغيُّرِ تلك العوائد: خلافُ الإِجماع وجهالةٌ في الدّين، بل كلُّ ما هو في الشريعةِ يَتْبَعُ العوائدَ: يَتغيَّرُ الحكمُ فيه عند تغيُّرِ العادةِ إِلى ما تقتضيه العادَةُ المتجدِّدةُ (¬2)، وليس هذا تجديدًا للإجتهاد من المقلِّدين حتى يُشترَطَ فيه أهليةُ الإجتهاد، بل هذه ¬

_ (¬1) هذا السؤال وجوابه بكماله منقول في "تبصرة الحكام" 2: 70 - 73، 60 - 64، وأورده صاحبُ "معين الحكام" فيه ص 126 - 127، 161 - 162 باختصار. (¬2) انظر في صدد تغيُّر العرف والعوائد وتغيُّر الأحكام المبنية عليهما كتاب "الفروق" للمؤلف 3: 161 في آخر الفرق (161)، و 3: 283 - 288 في الفرق (191) بين قاعدةِ ما يتبع العقد عرفًا وقاعدة ما لا يتبعه.

قاعدةٌ اجتهدَ فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نَتْبَعُهم فيها من غيرِ استئنافِ اجتهاد. ألا تَرى أنهم أجمعوا على أنَّ المعاملات إِذا أُطلِقَ فيها الثَّمَنُ يُحمَلُ على غالب النقود، فإِذا كانت العادةُ نقدًا معيَّنًا حمَلْنا الإِطلاقَ عليه، فإِذا انتقلتْ العادةُ إِلى غيرِه عيَّنَّا ما انتقلتْ العادَةُ إِليه، وأَلغينا الأوَّلَ (¬1)، لإنتقالِ العادة عنه. وكذلك الإِطلاقُ في الوصايا والأَيمانِ وجميعِ أبواب الفقه المحمولة على العوائد، إِذا تغيَّرتْ العادةُ تغيَّرتْ الأحكامُ في تلك الأبواب. وكذلك الدَّعاوى إِذا كان القولُ قولَ من ادَّعى شيئًا لأنه العادَة، ثم تغيَّرت العادةُ: لم يَبق القولَ قول مُدَّعِيه بل انعكسَ الحالُ فيه. بل ولا يُشترطُ تغيُّرُ العادة، بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إِلى بلَدٍ آخر، عوائدُهم على خلافِ عادةِ البلد الذي كنا فيه أفتيناهم بعادةِ بلدهم، ولم نعتبر عادةَ البلد الذي كنا فيه. وكذلك إِذا قَدِمَ علينا أحدٌ من بلدِ عادَتُه مُضَادَّةٌ للبلد الذي نحن فيه لم نُفتِه إِلَّا بعادةِ بلدِه دون عادةِ بلدنا. ومن هذا الباب ما رُوي عن مالك: إِذا تنازع الزوجان في قبضِ الصَّداقِ بعد الدخول: أنَّ القولَ قولُ الزوج، مع أنَّ الأصلَ عدَمُ القَبْض. قال القاضي ¬

_ (¬1) قال شيخنا وأستاذنا العلاَّمة الفقيه مصطفى أحمد الزرقاء حفظه الله تعالى ورعاه، فيما كتبه إليَّ تعليقًا على هذا الموضع، ما يلي: "أي ألغينا اعتبارَ النقدِ الأول، فلا نحمِلُ عليه العقودَ الجديدةَ إذا أُطلِقَ فيها النقدُ المتعاقَدُ به، بل نحمِلُها على النقدِ الذي أصبح هو الغالبَ الرواجِ في العادةِ والتعامل. وليس مُرادُهُ أننا نُلِغي العقدَ الأولَ الذي وقع في ظلِّ العادةِ القديمةِ منصرِفًا إلى ذلك النقدِ السابق، فإنَّ ذلك يَبقَى منصرِفًا إلى النقدِ السابق الذي كان غالبًا عند ذاك التعاقد".

إِسماعيل (¬1): هذه كانت عادتَهم بالمدينة: أنَّ الرجلَ لا يَدخلُ بامرأته حتى تَقبِضَ جميعَ صَداقها، واليومَ عادتُهم على خِلافِ ذلك، فالقولُ قولُ المرأة مع يمينها، لأجلِ اختلافِ العوائد. إِذا تقرَّرَ هذا فأنا أسرُدُ لك أحكامًا نَصَّ الأصحابُ على أنَّ المُدْرَك فيها العادة، وأنَّ مُستنَدَ الفُتيا بها إِنما هو العادة، والواقعُ اليومَ خلافُه، فيتعيَّنُ تغيِيرُ الحكم على ما تقتضيه العادَةُ المتجدّدة. وينبغي أن يُعلَم أنَّ معنى العادة في اللفظ: أن يغلِبَ إِطلاقُ لفظٍ واستعمالُه في معنى حتى يَصِيرَ هو المتبادِرَ من ذلك اللفظ عند الإِطلاق، مع أنَّ اللغة لا تقتضيه، فهذا هو معنى العادة في اللفظ، وهو الحقيقةُ العُرفيَّة، ¬

_ (¬1) هو أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن حَمَّاد بن زيد الجَهْضَمي الأزدي، البغدادي القاضي المالكي، من أرفع بيوت العراق علمًا وسُؤددًا في الدين والدنيا. أصلُه من البصرة وبها نشأ، ثم استوطن بغداد وأخذَ عن شيوخها وفقهائها ومحدِّثيها، ورَوَى الحديث ورُوِي عنه، وغدا إمامًا فقيهًا حافظًا محصِّلًا درجةَ الإجتهاد، معدودًا في طبقات القراء وأئمة اللغة، من نظراء المبرِّد، وكان المبرِّد يقول: لولا اشتغالُه برئاسةِ الفقه والقضاء لذهب برئاستنا في النحو والأدب. تفقَّهَ به أهلُ العراق من المالكية، وعنه انتشر مذهب مالك هناك، وتولَّى قضاء بغداد، وأضيف إليه قضاء المدائن والنهروانات، ثم تولَّى قضاءَ القضاةِ في بغداد إلى آخر حياته، وقد أقام في القضاء نحو خمسين سنة. له التآليف الكثيرة في مختلِف العلوم، منها "موطأه" و "مسند حديث مالك بن أنس" و "مسند حديث أبي هريرة" و "مسند حديث ثابت البُنَاني" و "كتاب السنن" و "أحكام القرآن" و "معاني القرآن وإعرابُه"، و "المبسوط" في الفقه، وكُتبٌ في الرد على أبي حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي، و "كتاب الأصول" و "كتاب الأموال". ولد سنة 200، وتوفي سنة 282 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

وهو المجازُ الراجحُ في الأغلب، وهو معنى قولِ الفقهاء: إِنَّ العُرف يُقدَّمُ على اللغة عند التعارض، وكلِّ بها يأتي من هذه العبارات. الحكمُ الأول: بعضُ ألفاظ المُرابحة، وهو قول البائع: بعتُك بوضِيعةِ العشرةِ أحدَ عشر، أو بوَضِيعةِ العشرةِ عشرين أو أكثرَ من ذلك (¬1). قال الأصحاب: هذا اللفظ يقتضي عادةً أن يأخد لكلِّ أحدَ عشَرَ عشرةً، ويَحُطَّ نصفَ الثمنِ في اللفظ الآخر، ويُلزِمون ذلك المتعاقدَيْنِ من الجانبين بمجرَّد هذا اللفظ لأنه العادة. وهذه عادةٌ قد بطَلَتْ ولم يَبق هذا اللفظُ يُفهَمُ منه اليومَ هذا المعنى البتة، بل أكثرُ الفقهاء لا يَفهمه فضلًا عن العامَّة، لأنه لا عادَةَ فيه، ولا يُفهَمُ منه ثَمَنٌ معيَّنٌ باعتبار اللغة أيضًا. فينبغي إِذا وقع هذا العقد بين العامَّة في المعاملات أن يكون العقدُ باطلًا، فإِنه ليس عادتُهم استعمالَه البتة، لأنا طُولَ عُمرِنا لم نسمعه إِلَّا في كتب الفقه، أما في المعاملات فلا. وإِذا لم يكن الثمنُ معلومًا بالعادةِ ولا باللغةِ كان العقدُ باطلًا. الحكمُ الثاني: في المُرابحة إِذا قال: (بعتُكَ بما قامتْ عليَّ). قالوا: يَصحُّ البيع، ويكون للبائع مع الثمن ما بذَلَه من أُجرة القِصارةِ والكِمادة (¬2) والطِّرازةِ والخِياطةِ والصَّبغِ ونحوِ ذلك، مما له عينٌ قائمة، ويَستحقُّ له حِصَّتَه من الربح إِن سَمَّى لكلِّ عَشَرةٍ ربحًا (¬3). ¬

_ (¬1) تعرَّض المؤلف لهذا المبحث في كتابه "الفروق" 3: 287 في آخر الفرق (191). (¬2) هي دَقُّ الثوب. (¬3) تعرَّض المؤلف لهذا المبحث في كتابه "الفروق" 3: 286 - 288 في آخر الفرق (191).

وما ليس له عينٌ قائمة إِلَّا أنه يُؤثّر في السُّوقِ زيادةَ رغبةٍ فيه وتنميةً للثمن: فإِنه يَستحقُّهُ ولا يَستحقُّ له حصةً من الربح، نحوُ كِراءِ الحُمولاتِ في النقلِ للبُلدانِ ونحوِه، وما لا يُؤثّر في السوقِ لا يستحقُّه، ولا يكونُ له ربحٌ كأجرةِ الطيّ والشدّ وكِراءِ البيت ونفقةِ البائع على نفسِه. وهذا التفصيلُ لا يفيده قولُه: (بما قامَتْ على) لغةً، بل يصحُّ هذا البيعُ بهذه العبارة إِذا كان هذا اللفظُ يقتضيه عادةً، فيصيرُ الثمنُ معلومًا بالعادة فيصحُّ البيع، أمَّا اليومَ فلا يُفهَمُ هذا في العادة، ولا يَتعامَلُ الناسُ في أسواقهم بهذه العبارة فلا عادةَ حينئذٍ، فهذا الثمنُ مجهولٌ، فلا يُفتَى بما في الكتب من صحتِهِ وتفاصيله، لإنتقالِ العادة. الحكمُ الثالث: ما وقع في "المدوَّنة": إِذا قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرام أو خَلِيَّة أو بَرِيَّة أو وهبتُكِ لأهلِكِ: يَلزمُه الطلاقُ الثلاثُ في المدخولِ بها، ولا تنفعُه النيَّة أنه أراد أقلَّ من الثلاث (¬1). وهذا بناءٌ على أنَّ هذا اللفظ في عُرف الاستعمال اشتَهر في إِزالة العصمة، واشتَهر في العَدَد الذي هو الثلاث، وأنه اشتَهر في الإِنشاء للمعنيين، وانتَقَل عما هو عليه من الإِخبار عن أنها حرامٌ، لأنه لو بقي على ما يَدلُّ عليه لغةً لكان كذِبًا بالضرورة، لأنها حلالٌ له إِجماعًا، فالإِخبارُ عنها بأنها حرام كذبٌ بالضرورة. وليس مدلولُ هذا اللفظ لغةً إِلَّا الإِخبارَ عن أنها محرَّمة عليه، وأنَّ ¬

_ (¬1) توسَّع المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في هذا البحث، في كتابه "الفروق" 3: 152 - 163، في الفرق (161) بين قاعدة ما هو صريح في الطلاق وبين قاعدةِ ما ليس بصريح فيه. فانظره إذا شئت.

التحريم قد دخَلَ في الوجود قَبْلَ نُطقِهِ بهذه الصيغة. وهذا كذِبٌ قطعًا، فلا بُدَّ حينئذٍ أن يقال: إِنها انتقلَتْ في العُرفِ لثلاثة أمور: إِزالةِ العِصمة، والعَدَدِ الثلاث، والإِنشاءِ، فإِنَّ ألفاظ الطلاقِ إِن لم تكن إِنشاءً أو يُرادُ بها الإِنشاء، لا تُزيلُ عصمةَ البتة (¬1). وملاحظةُ هذه القاعدة هي سبَبُ الخلاف بين الخَلَف والسلف في هذه المسألة. إِذا تقرَّرَ هذا: فأنت تعلمُ أنك لا تجدُ الناسَ يَستعملون هنذه الصِّيَغ المتقدمة في ذلك، بل تَمضي الأعمارُ ولا يُسمَعُ أحدٌ يقول لامرأته إِذا أراد طلاقها: أنتِ خَلِيَّة، ولا: وَهَبْتُكِ لأهلك، ولا يَسمَعُ أحدٌ أحدًا يَستعملُ هذه الألفاظ في إِزالة عِصمةٍ ولا في عَدَدِ طَلاقات، فالعُرف حينئذٍ في هذه الألفاظ متفِ قطعًا، وإِذا انتَفى العُرف لم يَبق إِلَّا اللغة، لأنَّ الكلام عندَ عدَم النيَّةِ والبِساط (¬2). ¬

_ (¬1) في نسخة (ر): (فإن ألفاظَ الطلاقِ مَهْمَا لم تكن ...). و (مَهْما) هنا بمعنى (إذا)، كما هو المرادُ هنا من لفظِ (إن لم تكن ...). (¬2) البِساطُ أو بِساطُ اليمين - كما ذكره السادة المالكية في باب الأَيمان - هو فيما إذا عُدِمَتْ النيَّةُ الصريحة للحالف اعتُبِر بِساطُ يمينه في تخصيص كلامه أو تقييده أو تعميمه، كما يُعمَل على النيَّة من بِرّ أو حِنثِ فيما يُنَوَّى فيه وغيرِه. والبِساطُ: هو السبَبُ الحاملُ على اليمين. وليس هو بانتقالٍ عن النية، إنما هو مَظِنَّةٌ لها وتحويمٌ عليها، فهو متضمن للنية بل هو نيَّةٌ حُكمية ضِمنيةٌ محفوفة بالقرائن، بحيث إذا تذكرها الحالفُ وجدَهُ - أي البساطَ - مناسِبًا لها. وضابطُهُ: صِحةُ تقييدِ يمينِ الحالف بقوله: (ما دام موجودًا). أي ذلك الشيءُ الحاملُ له على اليمين. بشرطِ أن لا يكون للحالف مدخلٌ في السبب الحامل على اليمين. =

واللغةُ لم توضع فيها هذه الألفاظ لهذه المعاني التي قرَّرها مالك في "المدوَّنة" بالضرورة. ولا يَدَّعي أنها مدلولُ اللفظ لغةً إِلَّا من لا يَدري اللغة، ¬

_ = وأمثلته: ما إذا حلف: لا أشتري لحمًا، أو: لا أبيعُ في السوق. من أجل وجودِ الزحمة فيها، أو من أجل وجود ظالم حمله على الحلف. لصحة تقييد يمينه بقوله: (ما دامت هذه الزحمة موجودة) أو (ما دام هذا الظالم موجودًا). وكما لو كان خادمُ المسجد أو الحمَّام يؤذي إنسانًا كلَّما دخله، فقال ذلك الإنسان: واللهِ لا أدخلُ المسجد أو هذا الحمَّام. فإنه يصح أن يقيَّد بقوله: (ما دام هذا الخادمُ موجودًا) وكما لو كان فاسق في مكان، فقال الزوجُ لزوجته: إن دَخَلْتِ هذا المكانَ فأنتِ طالق. فإذا زال الفاسقُ منه ودخلَتْه لم يحنث، لأنه في قوَّة قوله: (ما دام هذا الفاسقُ موجودًا في ذلك المكان). وكما لو قيل له: لحمُ البقر داءٌ كما ورد في الحديث، فلا تأكُلْ منه فإنه يؤذيك، فحلف: لا آكل لحمًا. ولم ينو تعميمًا ولا تخصيصًا. فالسبَبُ الحاملُ له على اليمين هو اللحمُ المؤذي، فيُخصَّصُ العامُّ بلحم البقر، فلا يحنث بلحم الطيرِ والضأنِ ونحوِهما. ومثال التعميم لكلام الحالف: ما إذا مَنَّ رجلٌ على آخَرَ، فحلف الذي امتُنَّ عليه أنه لا يَشرَبُ لذلك المانِّ عليه ماءً، فإنه يحنثُ بكل شيء انتفع به منه ولو خيطًا. بخلاف ما لو سَبَّهُ إنسان، فحلف: لا أكلمه، أو تشاجَرَ مع جاره فحلف: لا يدخل بيته، أو تنازَعَ مع زوجتِهِ أو ولدِهِ فحلَفَ أنه لا يدخل عليه دارًا، ثم زال النزاعُ بينهما، فإنه يحنث بفعل ما حَلَف على تركه، لأن له - أي للحالف - مَدْخلًا في السبب. فالبساط هنا غيرُ نافع، كما أنه لا ينفع فيما نُجِّزَ بالفعل، كما لو تشاجرَتْ زوجتُه مع أخيه فطلَّقها، ثم مات أخوه فلا يرتفعُ الطلاق، لأن رفع الواقع مُحال. ومثلُ ذلك ما لو دخل على زوجته مثلاً فوجدها أفسدت شيئًا في اعتقاده، فنجَّز طلاقها، ثم تبيَّن له أنه لم يَفسُد، فليس هنا بساطٌ بل تنجيزٌ لطلاق لا يمكن رفعه. انتهى ملخصًا من "الشرح الصغير" للعلَّامة الدَّرْدِير بحاشية الصَّاوِي 1: 381 و "شرح الخَرْشي لمختصر خليل" بحاشية العَدَوِي 3: 69.

وإِذا لم تُفِد هذه الألفاظ هذه المعانيَ لغةً ولا عُرفًا، ولا نيَّةً، ولا بِساطًا، فهذه الأحكامُ حينئذٍ بلا مستنَد، والفُتيا بغيرِ مستنَد باطلةٌ إِجماعًا، وحرامٌ على قائلها ومعتقِدِها. نعم، لفظةُ الحرام في عُرفنا اليوم لإِزالة العصمة خاصةً دون عَدَد (¬1)، وهي مشتهرةٌ في ذلك، بخلاف ما ذُكِرَ معها من الألفاظ، ومقتَضَى هذا أن يُفتَي بطلقةٍ رجعية ليس إِلَّا، ويُنوَّى في غيرها من الألفاظ التي ذُكِرتْ معها، فإِن لم يكن له نيَّةٌ ولا بِساط لم يلزمه شيء، لأنها من الكنايات الخفية على هذا التقدير. لكنَّ أكثرَ الأصحابِ وأهل العصر لا يُساعدون على هذا وينكرونه. وأعتقدُ أنَّ ما هم عليه خلافُ إِجماعِ الأئمة، وهذا الكلامُ واضحٌ لمن تأمَّلَه بعقلٍ سليم، وحُسنِ نظرٍ سالمٍ من تعصُّباتِ المذاهب التي لا تليقُ بأخلاق المتَّقين لله تعالى. والعجَبُ منهم أنهم إِذا قيل لهم: إِذا قال الرجل لامرأته: أنتِ طالق، يَفتقرُ إِلى نية؟ يقولون: لا، لأنه صريحٌ لغةً في إِزالة العصمة، لأنَّ الطاءَ واللام والقاف لِإزالة مُطلقِ القيد، ولذلك يقال: لفظٌ مُطلَق، وحلالٌ طِلْق، ووجهٌ طَلْق، وأُطلِقَ فلانٌ من الحَبْس، وانطلقَتْ بَطْنُه. وعَقْدُ النكاح أحَدُ أنواعِ القيد، فإِذا زال مُطلَقُ القيدِ زال قَيْدُ النكاح بالضرورة (¬2). فيقال لهم: إِن قال لها: أنتِ مُنْطَلِقة، فيها جميعُ هذا؟ فلا يجدون ¬

_ (¬1) وقع في الأصول كلها (لفظُ الحرام ...)، فأثبتُها كما ترى. (¬2) وقعت العبارة في الأصول الخمسة: (فإذا زال مطلقُ القيد أو قيدُ النكاح زال قيدُ النكاح بالضرورة). وهو تكرار خاطئ.

جوابًا إِلَّا أنه مهجورٌ في عُرف الإستعمال، لا يُستعمل في الطلاق، فلا يُفيد الطلاقَ إِلَّا بالنيَّة. فيقال لهم: فإِن اتَّفق أن يكون لفظُ مُنْطَلِقة مشتهرًا في عصرٍ أو في مصرٍ في إِزالة العصمة، وأنتِ طالقٌ لم يشتهر في إِزالة العصمة عندهم ما الحكمُ؟ فيتعيَّنُ أن يقولوا: يَلزمُهم الطلاقُ بمُنْطَلِقةً دون طالق، إِلَّا أن ينوي بطالقٍ إِزالةَ العصمة، عكسُ ما نحنُ عليه اليوم. فيقال لهم: وكذلك لَفْظُ الحرام ينبغي أن تدور الفُتيا فيها وفي أخواتِها مع اشتهارها في العُرفِ وجودًا وعَدمًا، ففي أي شيء اشتَهَرت حُمِلَتْ عليه بغير نيَّة، وما لم تَشتَهِر فيه لم تُحمَل عليه إِلابنيَّة. ولا يكفي في الإشتهار كونُ المفتي يعتقدُ ذلك، فإِنَّ ذلك نشأ عن قراءةِ المذهب ودراستِه والمناظرةِ عنه. بل الاشتهار أن يكون أهلُ ذلك المصر لا يفهمون عندَ الإِطلاق إِلَّا ذلك المعنى، لا مِن لفظِ الفقهاء بل باستعمالهم هم لذلك اللفظ في ذلك المعنى. فهذا هو الإشتهار المفيدُ لنقل اللفظِ من اللغة للعُرف.

السؤال الأربعون

السُّؤَالُ الأَرْبَعُونْ عن تنبيهات يَتعيَّنُ على المفتي التفطُّنُ لها (¬1)، وأنا أذكرُ منها إِن شاء الله تعالى عَشَرَة: التَّنْبِيهُ الأَوَّلُ التفطُّن للفرق بين النيَّة المُخصِّصةِ والنيَّةِ المؤكِّدة (¬2)، فضابط المؤكِّدةِ ما وافقَ اللفظَ، والمخصِّصةِ ما خالفَ اللفظ في بعض مدلوله. ويَظهرُ ذلك بالمثال، فإِذا قال القائل: واللهِ لا لَبِستُ ثوبًا في هذا اليوم، فإِذا نَوى عمومَ الثيابِ، فهذه نيَّةٌ مؤكِّدة مُرادِفة لمدلول اللفظ، فنُحنِّثُه بكل ثوب، لأنه مقتَضى لفظِه ومقتَضَى نيَّتِه. فإِن قال: نويتُ ثيابَ الكَتَّان ولم يَخطُر لي غيرُها ببال، حنَّثناه بثيابِ الكَتَّان باللفظِ والنيَّةِ، وبغيرِ ثياب الكتَّان باللفظ السالم عن مُعارَضَةِ النية، ¬

_ (¬1) يقصدُ المؤلِّف بالمفتي هنا: من يقومُ ببيان الأحكام بصرف النظر عن كونه مُجبِرًا كالقاضي، أو مُخبِرًا كالمفتي، وقد عقد الشيخ ابن قيم الجوزية - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في أواخر كتاب "إعلام الموقعين" 4: 157 - 266 فصلًا كبيرًا جدًا، ضمَّنه سبعين فائدةً تتعلق بالمفتي والمستفتي والفتوى وما إليهما، فقف عليه لِزامًا جَزْمًا، ففيه الفوائدُ العِذاب، والعِلمُ المستطاب، والعقلُ الهادي المنير، لكل مرشدٍ مستنير. (¬2) توسَّع المؤلف كلَّ التوسع في بيان هذا الفرق في كتابه "الفروق" 1/ 178 - 186، في (الفرق) 29، فيحسن مراجعتُه للمستزيد.

فإِن تَرْكَ غيرِ الكتَّان لم يَقصِد (¬1) لإِخراجه من اليمين ولا لتبقيته، فبقي اللفظُ الصريحُ فيه سالمًا عن مُعارضة النية فيَحنَثُ به، فتكون هذه النية مؤكِّدةً للفظِ في بعض مدلوله دون كلِّ مدلوله، وليس فيها تخصيصٌ البتة. وإِن قال: أخطرتُ ببالي غيرَ الكتَّان وأردتُ إِخراجه من اليمين عند الحلف. قلنا: هذه نيَّةٌ مُضادَّةٌ مخالفةٌ للفظ في بعض مدلوله، فهي مُخصِّصة، لأنَّ مِن شرطِ المخصَّصِ أو الناسخِ أن يكون منافيًا، فحينئذٍ لابُدَّ أن يقول الحالفُ في النيَّة المخصِّصة: نويتُ إِخراجَ كذا عن اليمين، ولا ينفعه قولُه: نويتُ ثيابَ الكتان، ولم يَذكر أنه قصَدَ إِخراجَ غير الكتان، فالمفيدُ قصدُ الإِخراجِ لا القصدُ إِلى بعض المدلول. وأكثرُ الذين يُفتون إنما يقولون لمن يستفتيهم: أيَّ شيء أردتَ بقولك؟ فيقول لهم: أردتُ به كذا، فيُفتونه بأنه لا يَحنث بغيره، وهو غَلَط، بل لابُدَّ وَأن يقول (¬2): أردتُ إِخراجَ المعنى الفلاني من نيَّتي حتى تَتحقَّق نيَّةُ التخصيص. فإِن قالوا: ما يُريد بقوله: أردتُ ثيابَ الكتان إِلَّا الله أرادَ إِخراجَ غيرِها. قلنا: هذا في غاية البعد، فإِنَّ الفرقَ بين المخصًص والمؤكِّد إِنما يفهمه خَوَاصُّ الفقهاء، فكيف يُدَّعَى على العوامّ البُلْهِ أنهم يريدونه بلفظٍ لم يوضع ¬

_ (¬1) هكذا ضبطتُه. وقال شيخنا الأستاذ ناجي أبو صالح - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "الصوابُ: لم يُقْصَد". فتأمل. (¬2) قولُ المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: (لابُدَّ وأن يقول)، بإدخال الواو قبل (أنْ): استعمالٌ خاطئ عربيةً، وهو موجود في عصر المؤلف وقبله، ووجهُ الخطأ فيه أن (الواو) أُقحِمَتْ بين اسم (لا) وهو (بُدَّ)، وبين خبرها وهو (أن يقول). فهي أجنبية في هذا الموضع، فينبغي الإبتعاد عن هذا الإستعمال.

له، وهل هذا إِلَّا إِلغازٌ في اللفظ. بل ينبغي للمفتي إِذا صَرَّح له العامِيُّ بعبارةٍ صريحة أنَّ يَتفقَّد قرائنَ أحواله، وشأنَ واقعتِه، هل ثَمَّ ما يُنافي صريحَه أم لا؟ فكيف نَقنعُ منه بلفظٍ لم يُوضَع للتخصيص، ويقال: إنه أراد به التخصيص، بل نجزمُ بخلافِ ذلك من أحوالِ العوامّ، وأنهم إِنما يَخطُرُ لهم بعضُ مدلول اللفظ، ويَذهلون عما عداه، وهذا ليس تخصيصًا إِجماعًا. فيَتعيَّنُ على المفتي أن يَتفطَّن لهذا ويَتثبَّتَ حتى يَتحقَّقه واقعًا في نفس المستفتي وحينئذٍ يُفتيه، والهجومُ على الفُتيا من غير تيقُّنِ ذلك حرام، ونعني باليقين غلبةَ الظن.

التنبيه الثاني

التَّنْبِيهُ الثَّانِي ينبغي للمفتي إِذا جاءته فُتيا وصاحبُها يقول: ما تقولون في كذا في مذهب مالك هل يَلزَمُني أم لا؟ فإني شافعيُّ المذهب، وقد التزمتُ مذهبَ مالك. فلا يُفتيه المالكيُّ باللزوم أو بِعَدَمِ اللزوم من مذهب مالك، مع أنَّ مذهب الشافعي يُخالفُه، لأجلِ قوله: وأنا شافعيُّ المذهب، فإِنَّ الذي عليه الفُتيا في مذهب مالكِ امتناعُ انتقالِ المالكيِّ لمذهب الشافعي في مسألة، وكذا انتقالُ الشافعيّ إِلى مذهبِ مالك في مسألة. وإِذا كانت الفُتيا على المنعِ من الإنتقال، فالحقُّ الذي يَنبني على امتناعِ الانتقال إنما هو في مذهب مالك لازمٌ للناس، وغيرُ لازم في مذهب الشافعي، وإِنه لا يَلزمه شيءٌ يخالفُه مذهبُ الشافعي (¬1). وكذلك لا يُباحُ له ما يُباحُ للمالكية إِذا كان الشافعيُّ يَمنعه، لأنَّ الإنتقالَ ممنوع، والبقاءَ على مذهبه الذي قلَّده أولًا متعيِّنٌ، وحُكمُ الله تعالى في حقَّه ما قاله إِمامُه دون ما قاله غيرُه. وهذه دَسِيْسَةٌ تقِلُّ التفطُّنُ لها (¬2). ¬

_ (¬1) وقعت العبارة في الأصول الخمسة هكذا: (وغيرُ لازم في مذهب الشافعي إنه لا يلزم هذا وإنه لا يلزمه شيء ...) فأثبتها كما ترى. (¬2) وعند الحنفية إذا كتَبَ شافعي للمفتي الحنفي: ما قولُ الشافعي في كذا؟ قيل: يَكتبُ له جوابَ أبي حنيفة، بناءً على ما قيل: إنه يجبُ على المقلِّد اعتقادُ أن مذهبَه صوابٌ يَحتمِلُ الخطأ، ومذهبَ غيره خطأ يَحتمِلُ الصواب. وهذا مبنيٌّ على أنه لا يجوز تقليدُ المفضول مع وجود الأفضل، والحقُّ جوازُه. وهذا الإعتقادُ إنما هو في حق المجتهد، لا في حق التابع المقلِّد، فإن المقلِّد ينجو بتقليد واحدٍ منهم في الفروع، ولا =

بل يُفتونه بما في مذهب مالك وإِن قال: أنا شافعي، وكذلك الشافعيةُ يفتونه بمذهب الشافعي وإِن قال: أنا مالكي، فاعلَمْ ذلك. ¬

_ = يجب عليه الترجيح. انتهى من "رد المحتار" لإبن عابدين 5: 270. وقال ابن عابدين فيه أيضًا 1: 33 "اعلم أنه ذكر ابن الهُمَام في "التحرير" وابنُ أمير حاج في "شرحه" 3: 349 أنه يجوزُ تقليدُ المفضول مع وجود الأفضل. وبه قال الحنفية والمالكية وأكثرُ الحنابلة والشافعية. وعند أحمدَ - في رواية - وطائفةٍ كثيرة من الفقهاء لا يجوز. ثم ذكَرَ في "التحرير" و "شرحه" 3: 350 أنه لو التزم مذهبًا معينًا كأبي حنيفة والشافعي، فقيل: يلزمه، وقيل: لا، وهو الأصح. اهـ. وقد شاع أن العاميَّ لا مذهَبَ له". انتهى. وقد توسَّع ابنُ أمير حاج في بيانه فراجعه.

التنبيه الثالث

التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ ينبغي للمفتي إِذا ورد عليه مُستفتٍ (¬1)، لا يَعلمُ أنه من أهل البلد الذي منه المفتي وموضعُ الفتيا: أن لا يُفتيَه بما عادتُه يُفتي به حتى يَسأله عن بلده، وهل حدَثَ لهم عُرفٌ في ذلك البلد في هذا اللفظ اللغوي أم لا؟ وإِن كان اللفظُ عُرفيًا فهل عُرْفُ ذلك البلد موافقٌ لهذا البلد في عُرفه أم لا؟ وهذا أمرٌ متعيِّنٌ واجبٌ لا يَختلف فيه العلماء، وأنَّ العادتينِ متى كانتا في بلدفينِ ليستا سواءً أنَّ حُكمَهما ليس سواء، إِنما اختَلفَ العلماءُ في العُرفِ واللغةِ هلْ يُقدَّمُ العُرفُ على اللغة أم لا؟ والصحيحُ تقديمهُ، لأنه ناسخٌ، والناسخُ مقدَّم على المنسوخ إِجماعًا، فكذلك ها هنا. ¬

_ (¬1) هذا التنبيه منقول في "تبصرة الحكام" 2: 64، 72. و "معين الحكام" ص 127، 162. وللمؤلف في "الفروق" 1: 46 في أواخر (الفرق) 2، كلامٌ نحوه، وفيه ما ليس هنا فانظره. وانظر لزامًا "إعلام الموقعين" للإِمام ابن قيِّم الجوزية 4: 228 - 229 (الفائدة الثالثة والأربعون)، فإنها متممة لموضوع هذا التنبيه.

التنبيه الرابع

التَّنْبِيهُ الرَّابِعْ يَتعيَّنُ على المفتي إِذا كان يُجوِّز الإنتقالَ في المذاهب في آحادِ المسائل، أن يَتفطَّنَ لما يُفتي به هل في المذهبِ المنتقَلِ عنه ما ياباه أم لا؟ مثالُه: إِذا كان المفتي الشافعيُّ يُجوِّزُ الإنتقالَ مثلًا من مذهبِ مالك إلى مذهب الشافعي، وسُئِلَ عن تَرْكِ التدليكِ في الغُسل للمالكي، فيَتعيَّنُ عليه أن لا يُبيحَه (¬1)، لأنَّ الصلاةَ تصيرُ من المالكيِّ باطلةً بإِجماع الإِمامينِ، لأنَّ المالِكيَّ لا يُبسمِلُ، فيُبطلُها (¬2) مالكٌ لعَدمِ التدليك، ويُبطلُها الشافعيُّ لعدمِ البسملة. ولقد سُئلتُ مرَّةً عن الوضوء في السَّرَامِيزِ المَخْرُوزَةِ (¬3) بشَعْرِ الخِنزير، ¬

_ (¬1) جملةُ (فيَتعيَّنُ عليه) إضافةٌ مني على الأصول. أخذًا من قول هذا التنبيه: (يتعين على المفتي ...). (¬2) يعني: الصلاة. (¬3) هكذا جاء في نسخة المدينة المنورة: نسخةِ مكتبة عارف حكمت، والسراميز جمع سَرْمُوزة. قال الشِّهاب الخفاجي في " شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل" ص 127 "سَرْمُوزة نَعْلٌ معروفة، فارسية. معناها: رأسُ الخف. والعامة تقول: سَرْموجَة". وقال: أدِّي شِير في "الألفاظ الفارسية المعرَّبة" ص 90 "السَّرمُوج نوعٌ من الأحذية. تعريب سَرْمُوزَه. وهو مركَّب من سَرْ، أي فوق. ومن مُوزَه، أي الخُفَّ. - أي ما يُلْبَسُ فوق الخف - والسَّرمُوجة والسَّرْمُوزة والسَّرْموز لغاتٌ فيه". وجاء هذا اللفظ في نسخة الأحمدية بحلب ونسخة (ر): (السراميج)، وهذا =

هل تجوز الصلاة بأثَرِ ذلك الماءِ المباشِرِ لمواضعِ الخَرْز؟ وكان السائلُ شافعيًّا، فقلتُ له: أمَّا مذهبُ مالك فشَعْرُ الخنزير طاهرٌ، غيرَ أنك شافعيٌّ تَمسَحُ بعضَ رأسك، فيتفق الإِمامانِ على بطلانِ صلاتك، مالكٌ لعدمِ مسحِ جميع الرأس، والشافعيُّ لكونِ شعر الخنزير نَجِسًا عنده. وأمثالُ هذه المسائل ينبغي التفطُّنُ لها، فإِنها كثيرةُ الوقوع (¬1). ¬

_ = صحيح أيضًا كما عُلِمَ من عبارة أدِّي شِير. وفي نسخة الأزهر: (السرائج)، وفي النسخة المطبوعة (الشرائج) والظاهر أن ما فيهما محرَّفٌ عما أثبته، والله تعالى أعلم. (¬1) هذا من المؤلف جريٌ على الشائع المشهور أن التلفيق باطل. وقد حقَّقَ الإِمامُ ابن الهُمَام في "التحرير" وتلميذُه ابنُ أمير الحاج في "شرحه" 3: 350 - 353 جوازَ التلفيق، وساق عليه الأدلة الناطقة. وذكَرَ قولَ القرافي هذا وعناه بقوله: "وقيَّدهُ متأخرٌ بأن لا يترتب عليه ما يمنعانِه كلاهما ... ". وأشار بقوله: "متأخر" إلى أنه لم يَثبت المنعُ منه عن أحد من المتقدمين. وقد أُلِّفَ في جوازه كتبٌ مِن أحسنها "القول السديد في بعض مسائل الإجتهاد والتقليد" لمحمد عبد العظيم ابن مُنْلا فَرُّوخ المكي، أحد علماء القرن الحادي عشر، وأجمَعُها وأوفاها "عُمدةُ التحقيق في التقليد والتلفيق" للعلامة الشيخ محمد سعيد الباني الدمشقي، المتوفى سنة 1351 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وهو مطبوع بدمشق سنة 1341 فانظره. وجاء في حاشية ابن عابدين في كتاب العِدَّة مطلب في الإفتاء بالقول الضعيف، نقَلَ فيه أن التقليدَ لغير المذهب الملتَزم جائز بشرط عدمِ التلفيق كما ذكره الشيخ حسن الشرنبلالي في رسالة بل ومع التلفيق كما ذكره المنلا ابن فَرُّوخ في رسالة". ثم تعقبه ابن عابدين بقوله: "ما ذكره ابن فروخ ردَّه سيدي عبد الغني النابلسي في رسالة خاصة. والتقليد وإن جاز بشرطه فهو للعامل لنفسه لا للمفتي لغيره، فلا يفتي بغير الراجح في مذهبه لما قدمه الشارح في رسم المفتي - في أول الكتاب - بقوله: وحاصل ما ذكره =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الشيخ قاسم في "تصحيحه" أنه لا فرق بين المفتي والقاضي إلَّا أن المفتي مخبر عن الحكم، والقاضي ملزم به، وأن الحكم والفتيا بالقول المرجوح جهل وخرق للإِجماع، وأن الحكم الملفق باطل بالإِجماع، وأن الرجوع عن التقليد بعد العمل باطل اتفاقًا ... ؛ وقدمنا الكلام عليه هناك فافهم" انتهى. ويَقصِدُ الشيخ ابن عابدين بقوله: (فافهم)، الردَّ على العلامة الشيخ أحمد الطَّحْطَاوي في حاشيته على "الدر المختار" 2: 217، في (باب العِدَّة) أيضًا، إذ ارتضى كلامَ العلامة ابن فَرُّوخ في أمر التلفيق واستحسنه، تبعًا لإستحسان العلامة المفتي أبي السعود له أيضًا، وهو الأظهرُ الأقوى دليلًا.

التنبيه الخامس

التَّنْبِيهُ الخَامِسُ ينبغي للمفتي أن لا يأخُذَ بظاهرِ لفظِ المستفتي العاميّ حتى يَتبيَّن مقصودَه، فإِنَّ العامَّة ربما عبَّروا بالألفاظ الصريحة عن غير مدلول ذلك اللفظ، ومتى كان حالُ المستفتي لا تَصْلُح له تلك العبارة ولا ذلك المعنى، فذلك رِيبةٌ ينبغي للمفتي الكشفُ عن حقيقة الحال كيف هو؟ ولا يَعتمدُ على لفظِ الفُتيا أو لفظِ المستفتي، فإِذا تحقَّقَ الواقعَ في نفس الأمر ما هو؟ أفتاه، وإِلا فلا يُفتيه مع الرِّيبة (¬1). ¬

_ (¬1) أي الشَّكِّ في فَهْمِ كلامه. وقد كان بعض فقهاء السلف من التابعين إذا سأله المستفتي استعاده السُّؤَالُ مرة ثانية ليتثبَّتَ من صوابِ فهمِهِ لسؤالِه، ولمَعانِ أُخَرَ أيضًا. قال الشيخ ابن القيم في "إعلام الموقعين" 168:2 "كان أيوب - السَّخْتياني البصري التابعي أحد الفقهاء العُبَّاد، المتوفى سنة 131 - إذا سأله السائل قال له: أَعِدْ، فإن أعاد السؤال كما سأله عنه أولًا أجابه، وإلَّا لم يجبه. وهذا من فهمِهِ وفطنتِهِ - رَحِمَهُ اللهُ -، وفي ذلك فوائد عديدة، منها: أن المسألة تزداد وضوحًا وبيانًا بتفهم السؤال. ومنها: أن السائل لعله أهمل فيه أمرًا يتغيَّرُ به الحكم، فإذا أعادها ربما بيَّنه له. ومنها: أن المسؤول قد يكون ذاهلًا عن السؤال أولًا، ثم يحضُرُ ذهنُه بعدَ ذلك. ومنها: أنه ربما بان له تعنُّتُ السائل، وأنه وضع المسألة - أي صَنَعها واختَلَقها -، فإذا غيَّر السؤالَ وزاد فيه ونقص فربما ظهر له أن المسألة لا حقيقة لها، وأنها من الأُغلوطات أو غيرِ الواقعات التي لا يجبُ الجوابُ عنها، فإن الجوابَ بالظن إنما يجوز عند الضرورة، فإذا وقعت المسألة صارَتْ حال ضرورة، فيكون التوفيق إلى الصواب أقرب، والله أعلم". انتهى. قلت: الإستعادة للسؤال مستحسنة فيما يشكل فهمه على المفتي ولو بعض =

وكذلك إذا كان اللفظُ ما مثلُه يَسألُ عنه (¬1)، ينبغي أن يستكشف، ولا يُفتيَ بناءً على ذلك اللفظ، فإِنًّ وراءه في الغالب مَرمىً هو المقصود، ولو صَرَّحَ به امتنَعتْ الفُتيا. ولقد سُئلتُ مرَّةً عن عَقدِ النكاح بالقاهرة، هل يجوز أم لا؟ فارتبتُ وقلتُ له: ما أُفتِيك حتى تُبَيِّنَ لي ما المقصودُ بهذا الكلام، فإِنَّ كلَّ أحدٍ يَعلمُ أنَّ عَقْدَ النكاح بالقاهرة جائز، فلم أزل به حتى قال: إِنَّا أردنا أن نَعقِدَه خارجَ القاهرة فمُنِعْنا لأنه استحلالٌ، فجئنا للقاهرة عقدناه، فقلت له: هذا لا يجوز لا بالقاهرة ولا بغيرها. ¬

_ = الشيء، لا في كل سؤال واضح محدود. وانظر "إعلام الموقعين" أيضًا. 4: 255 (الفائدة الثامنة والخمسون) من الفوائد التي تتعلق بالفتوى. (¬1) أي ليس مثلُ ذلك المستفتي يَسألُ عنه؛ فلفظة (ما) نافية.

التنبيه السادس

التَّنْبِيهُ السَّادِسُ ينبغي للمفتي إِذا وَجَدَ في آخر السطر خلَلًا أو بياضًا خاليًا أنْ (¬1) يَسُدَّه بما يَصلحُ، فإنه ذَرِيعةٌ عظيمةٌ للطعن على العلماء المفتين، وذَرِيعةٌ للتوصُّل للباطلِ والتتميم (¬2). وقد استُفتِي بعضُ العلماء المشهورين عن رجلٍ مات وترَكَ أُمًّا وأخًا ¬

_ (¬1) لفظُ (أنْ) زيادةٌ مني لم تكن في الأصول الأربعة، كلها، ثم وقفتُ عليها في نسخة (ر)، فالحمدُ لله. (¬2) أي تتميم الكلام بما يناقض الفتوى. قال القاضي ابن فرحون في "تبصرة الحكام" 1: 187، 208 - 209: "وينبغي له أن يَتحفَّظ من التزوير عليه في الخط، فقد هلك بذلك خلقٌ عظيم، وقد يكون آخِرُ السطر بياضًا فيمكن أن يزاد فيه شيء، كما لو كان آخر السطر بَكْرٌ فيزاد: بَكْرَانِ، أو يكون عُمَر فيُجعَل: عُمَران. وكذلك ينبغي له أن يَحذَرَ من أن يُتمَّم زيادةُ حرف في الكتاب، فقد تُغيَّرُ الأَلْفُ أَلْفَين إذا زيدت، مثالُه أن يُقِرَّ رجلٌ بألف درهم لرجل، فيُكتَبَ في الوثيقة: أَقرَّ أن له عنده ألف درهم، فيمكن زيادة ألِفِ فتصير: أَلْفا درهم، ولذا يُتبعون مثل هذا المبلغ بذكر نصفه أو ربعه دفعًا للتلاعب به. وكذلك ينبغي أن يَتفقَّد حواشي الكتاب، فقد يبقى منها ما يمكن أن يُزاد فيه ما يُغير حكمَ الكتابِ كلِّه أو بعضِه. وإذا رأى فرجة يمكن أن يُكتب فيها شيء فليملأها بلفظ صَحَّ صَحَّ ونحوِها، مما يَشغل به تلك الفُرجة، وإذا بَقِيَتْ فُرجة في آخر السطر فليسدها بمثل، والحمدُ لله، أو حسبُنا الله، ولينوِ بها ذكرَ الله تعالى، ولا يضعها بلا نية، فقد نصَّ القرافي على النهي عن ذلك". وانظر "إعلام الموقعين" لإبن القيم 4: 256 (الفائدة التاسعة والخمسون).

لأُمّ، وترَكَ الكاتبُ في آخرِ السطر بياضًا، ثم قال: وابنَ عم، فكتَبَ المفتي: للأُمِّ الثلث، وللأخ للأمّّ السدس، والباقي لإبن العم، فلما أخَذَ المستفتي الفُتيا كَتَبَ في ذلك البياض: وأبًا، ثم دَوَّر الفُتيا على الناس بالكُوفة وقال: انظروا فلانًا كيف حجَبَ الأبَ بابن العَمّ، فقال له أصحابُه، مثلُه ما يَجهلُ هذا، فقال: هذا خَطُّه شاهدٌ عليه، فوقعَتْ فِتنةُ عظيمةٌ بين فئتين عظيمتين من الفقهاء. فينبغي للمفتي أن يَحذَرَ مِن مثلِ هذا، وأن يَسُدَّ البياضات كما يَفعل الورَّاقون في كُتبِ الأحباس وغيرِها حذرًا من التتميم. وينبغي له إِذا وجَدَ سطرًا ناقصًا في آخر الفُتيا أنَّ يُكملَه بخطّه بما يكتبه في الفُتيا. وإِذا قال المستفتي من لفظِهِ: قَيْدًا يَنضمُّ للفُتيا ويُغيِّرُ الحُكمَ، يَكتُبه بخَطّه بين الأسطر، أو يقول: قال المستفتي مِن لفظِه: كذا، لئلا يُطعَنَ عليه في فتياه. ونحوُ هذه الإحترازات لا ينبغي أن يُغْفَلَ عنها، فالحزمُ سُوء الظنّ، وسَدُّ الذرائع مِن أحسنِ المذاهب، قال - عليه السلام -: "دَعْ ما يَريبُك إِلى ما لا يَريبك" (¬1). ¬

_ (¬1) حديثٌ صحيح، رواه عدد من الصحابة، فرواه عن أنس بهذا اللفظ أحمد في "المسند" 153:3. ورواه عن الحسن بن علي - رضي الله عنه - الترمذي في "جامعه" 9: 321 وأبو نُعَيم في "الحلية" 8: 264 قال: "حفظتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دَعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك. فإن الصدق طُمأنينة، وإنَّ الكذِبَ ريبة". وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه عن وابِصة بن معبد الأسديِّ الطبرانيُّ في "المعجم الكبير" كما في "الجامع الصغير" للسيوطي. وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 4: 250 "أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وابن حبان والحاكم من حديث الحسن بن علي. وفي الباب من حديث ابن عُمَر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عند الطبراني في "الصغير" ص 56، ومن حديث أبي هريرة، وواثلة بن الأسقع، ومن قول ابن عمر أيضًا وابن مسعود. وغيرهما". وسكوتُ الحافظ ابن حجر عن الحديث الذي يورده في "فتح الباري" دليلٌ على صِحتِه أو حُسنِهِ عنده، كما تراه مبيَّنًا فيما علَّقتُه على "الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة" للإمام محمد عبد الحي اللكنوي ص 125.

التنبيه السابع

التَّنْبِيهُ السَّابِعْ ينبغي للمفتي أن لا يُفتيَ إِلا على لفظِ الفُتيا بعد الفحص عن الرِّيبة فيه، ولا يَعدِلُ عنه إلى لفظٍ آخرَ يَكتبُه في لفظ الفُتيا زيادةً في الإستفتاء، ثم يُفتي بناءً على تلك الزيادة التي زادها، نحوُ أن يَكتُبَ له (¬1) في الفُتيا: ما تقولُ فيمن اشترى خَمْرًا من المسلمين؟ فيقول في الفتيا: إِنْ كان قد شَرِبَها بعد شرائِه لها وجَبَ عليه الحدُّ، فيقول المستفتي: قد أفتاني الفقهاءُ بأنَّ فلانًا الذي اشتَرى الخمرَ يُحدّ، بناءً على ما كتبه. والمفتي إنما أَفتى بناءً على ما زاده فيَفْسُدُ الحال، بل لا يُفتي المفتي إِلَّا على ما وجَدَ، حتى يقول بعضُ العلماء في هذا المعنى: المفتي لا يكون متبرِّعًا. اللهم إِلَّا أن يكون لفظُ الفُتيا يَحتمِلُ أمرينِ متقارِبَين، وهي مُجملَة محتاجةٌ إِلى الشروط والزيادات فيزيد، نحوُ قولهم: ما تقول فيمن طلَّق امرأتَه اثنتينِ، هل له المراجعة أم لا؟ فيقول المفتي: إِن كان حُرًّا ولم يتقدَّمها طلاقٌ ولا هي بائنةٌ بخُلعٍ ولا بانقضاء العِدَّة وهي مدخولٌ بها، فله الرجعةُ وإِلا فلا. أو يكون لفظُ الفُتيا صريحًا غيرَ أنَّ المستفتي في أمره رِيبةٌ في تلك الفُتيا، نحوُ ظالمٍ يسأل: هل يجوزُ أخذُ المال على سبيلِ القَرْض، ويَفهمُ ¬

_ (¬1) أي السائلُ المستفتي.

المفتي أنه يتذرَّعُ بهذه الفُتيا إِلى الغَصب في الوقت الحاضر، وأنه يَردُّهُ في المستقبلِ إِن خطر له، فيقول المفتي: إِن كان أَخْذُهُ من رَبِّه بإِذنه من غير إِكراه ولا إِلجاء، على الأوضاع الشرعية جاز، وإِلا فلا. أو لا يُفتيه أصلًا وهو الأحسن، فإِن مقصودَه بالفُتيا إِنما هو التوصُّل للفساد. أو يَسألُ مَنْ عادتُه الرِّبا أو العُقودُ الفاسدة: هل يجوزُ بيعُ العُرُوض بالنقود؟ فإِن قال له المفتي: يجوز، باعَ عَرْضًا ودِرْهمًا بألفِ درهم، بناءً على هذه الفُتيا، فيُقيِّدُ المفتي الفُتيا بما يَدفع الفسادَ المتوقَّعَ من جهته، أو لا يُفتيه أصلًا وهو الأحسن. ونحوُ هذه الذرائع ينبغي أن يكون المفتي مُتفطِّنًا لها، فرُبَّ حقٍّ أُريدَ به باطل. وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الفقهاءُ أُمناءُ الله على خَلْقِه" (¬1). فلا ينبغي للفقيه الخِيانةُ في الأمانة، وإِذا قَصَد الناسُ أن يجعلوه سُلَّمًا للوصول للمحارم فلا يُساعِدُهم على ذلك، بل ينبغي أن يكون كالمجتهد المتحيِّل على وقوعِ الحقّ في الوجودِ حسَبَ قُدرتِه. ¬

_ (¬1) هذا من الرواية بالمعنى، ولفظُ الحديث"العلماءُ أُمنَاءُ الله على خَلْقِه"، رواه القُضَاعي وابن عساكر عن أنس مرفوعًا. كما في "الجامع الصغير" للسيوطي. قال المناوي في شرحه "فيض القدير" 4: 382 "حديثٌ حسن". وقال في شرحه الصغير المسمى "التيسير بشرح الجامع الصغير" 2: 155 "إسنادُهُ حسن". وجاء في "الجامع الصغير" أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم - "الفقهاءُ أُمناء الرسل ما لم يَدخلوا في الدنيا ويَتبعوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذووهم". وواه العسكري في "الأمثال" عن عليّ مرفوعًا. قال المناوي في شرحه "التيسير بشرح الجامع الصغير" 2: 181 "إسنادُه حسن".

التنبيه الثامن

التَّنْبِيهُ الثَّامِنُ ينبغي للمفتي إِذا وقعَتْ له مسألةٌ غيرُ منصوصة، وأراد تخريجَها على قواعد مذهبه: أن يُمعِنَ النظرَ في القواعد الإِجماعيةِ والمذهبية، هل فيها ما يُوجبُ انقداحَ فرقٍ بين الصورةِ المخرَّجة والأصلِ المخرَّجِ عليه أم لا؟ فمتى توهَّمَ الفَرْقَ، وأنَّ ثَمَّ معنى في الأصل مفقودٌ في الصورة المخرَّجة، أمكن أن يُلاحظَه إِمامُه المقرِّرُ لتلك القاعدة في مذهبه: امتَنَع التخريجُ، فإِنَّ القياس مع الفَرْقِ باطل، ولأن نسبةَ المفتي إِلى قواعد مذهبه كنسبة المجتهد إِلى قواعد الشريعة، فكما يَمتنعُ على المجتهد القياسُ على قواعد الشرع مع الفارق، كذلك يَمتنعُ قياسُ المفتي مع قيامِ الفارق. ولهذا التقرير لا يَجوزُ لمفتٍ أن يُخرِّجَ غيرَ المنصوص على المنصوص إِلَّا إِذا كان شديدَ الاستحضار لقواعدِ مذهبه وقواعدِ الإِجماع، وبقَدْرِ ضَعْفِه في ذلك يَتَّجِهُ منعُه من التخريج، بل لا يُفتي حينئذ إِلَّا بمنصوصٍ إِن كان له الاطلاعُ على منقولاتِ مذهبه، بحيث لا يَخفَى عليه غالبًا أنه ليس في مذهبه ما يقتضِي تقييدَ هذا النَّصَ المطلَقِ الذي أَفتى به، ولا يُخصِّصُ عمومَه. فإِن لم يكن له هذه الأهليةُ ولا هذا الاطِّلاِعُ امتَنَع أن يُفتي مطلقًا، حَفِظَ نَصَّ المسألةِ أم لا؟ لأنَّ هذا النص الذي حفِظه يَحتمل أن يكون قُيِّد في المذهب بقيدٍ غيرِ موجود في الفتيا، وتَحرُمُ عليه الفُتيا حينئذ. وهذا يقتضي أنَّ مَنْ لا يدري أصولَ الفقه يَمتنعُ عليه الفُتيا، فإِنه

لا يَدري قواعدَ الفروقِ والتخصيصات والتقييداتِ على اختلاف أنواعِها إِلَّا مَن دَرَى أصولَ الفقه ومارَسَهُ. مسألة كان الأصلُ تقتضي ألا تَجوزَ الفُتيا إِلَّا بما يَرويه العدلُ عن العدل، عن المجتهِد الذي يُقلِّدُه المفتي حتى يَصِحَّ ذلك عند المفتي (¬1)، كما تصحُّ الأحاديث عند المجتهد، لأنه نقلٌ لدين الله تعالى في المَوْضِعَيْنِ. وغيرُ هذا كان ينبغي أن يَحرُم. غير أنَّ الناس توسَّعوا في هذا العصر فصاروا يُفتون من كتبٍ يطالعونها من غير رواية، وهو خطَرٌ عظيم في الدين وخروجٌ عن القواعد. غير أنَّ الكتبَ المشهورةَ لِشُهرتِها بَعُدَتْ بُعدًا شديدًا عن التحريف والتزوير، فاعتَمَد الناسُ عليها اعتمادًا على ظاهر الحال. ولذلك أيضًا أُهملت روايةُ كتبِ النحو واللغةِ بالعنعنة عن العدول، بناءً على بُعدها عن التحريف، وإِن كانت اللغة هي أساسَ الشرع في الكتاب والسُّنَّة، فإِهمالُ ذلك في اللغةِ والنحوِ والتصريفِ قديمًا وحديثًا، يَعْضُدُ أهلَ العصر في إِهمال ذلك في كتب الفقه بجامعِ بُعد الجميع عن التحريف. وعلى هذا تحرُمُ الفتوى من الكتب الغريبة التي لم تَشتهر، حتى تتظافَرَ عليها الخواطرُ ويُعلَمَ صِحَّةُ ما فيها، وكذلك الكتبُ الحديثةُ التصنيفِ إِذا لم يَشتهر عَزْوُ ما فيها من النُّقول إِلى الكتب المشهورة، أو يُعلَمْ أنَّ مُصنِّفَها كان يعتمدُ هذا النوعَ من الصحة، وهو موثوق بعدالته، وكذلك حواشي ¬

_ (¬1) هذه المسألة بتمامها منقولة في "تبصرة الحكام" 1: 54 - 55، 58 - 59، و "معين الحكام" ص 27 - 28، 32.

الكتب تَحرُمُ الفتوى بها لعدم صحتها والوثوقِ بها (¬1). ¬

_ (¬1) علَّق العلامة القاضي ابن فرحون في "تبصرة الحكام" 1: 54 - 55، 58 - 59 على الجملة الأخيرة بقوله: "ومُرادُه إذا كانت الحواشي غريبةَ النقل. وأمَّا إذا كان ما فيها موجودًا في الأمهات أو منسوبًا إلى محله، وهي بخطِّ من يُوثَقُ به فلا فرق بينها وبين سائر التصانيف. ولم تزل العلماءُ ينقلون ما على حواشي كتب الأئمة الموثوقِ بعلمهم المعروفةِ خطوطُهم، وذلك موجود في كلام القاضي عياض والقاضي أبي الأصبغ بن سَهْل وغيرهما، إذا وجدوا حاشيةً يعرفون كاتبها نقلوا ذلك عنه ونسبوها إليه، وأدخلوا ذلك في مصنَّفاتهم، وأمَّا حيث يُجهَل الكاتب ويكونُ النقلُ غريبًا فلا شكَّ فيما قاله القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - ". انتهى. ونقَلَ كلامَ القرافي أيضًا القاضي علاءُ الدين الطرابلسي الحنفي في "معين الحكام" ص 27 - 28، 32. ثم تعقبَّه بكلام ابن فرحون المذكور بالحرف دون أن يعزوه إليه! لكنه مثَّل ببعض علماء الحنفية فقال: "ولم تزل العلماء ينقلون ماعلى حواشي كتب الأئمةِ الموثوقِ بعلمهم، المعروفةِ خطوطُهم، وذلك موجود لبرهان الدين صاحب "المحيط"، وبرهان الدين صاحب "الهداية" وغيرِهما، إذا وجدوا حاشيةَ يعرفون كاتبها نقلوا ذلك عنه ونسبوها إليه، وأدخلوا ذلك في مصنَّفاتهم، وأما حيث يُجهَلُ الكاتب، ويكون النقل غريبًا فلا شكَّ فيما قاله، والله أعلم". انتهى. وانظر - لزامًا - كتاب "الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة" للإِمام عبد الحي اللكنوي ص 59 - 65 بتحقيق العبد الضعيف، فقد استوعَبَ فيه مبحثَ النقل عن الكتبِ المروية بالإسناد، والكتبِ التي لا إسناد لها وما يقوم فيها مقامَ الإِسناد، وما يُعتمد منها وما لا يُعتمدَ، على خير وجه وأوفاه.

التنبيه التاسع

التَّنْبِيهُ التَّاسِعْ فيما يَتعلَّقُ بوضعِ الفُتيا ووَرَقةِ الإستفتاء. ينبغي للمفتي: أن لا يَختلِفَ فلَمُه الذي يَكتبُ به الفُتيا بالدِّقَّة والغِلَظِ والتنويم في الخطِّ، فإن تنويعَه سببُ التزوير عليه بأحدِ تلك الخطوط أو بغيرِها، ويقال: هو خَطُّه، لأنَّ خطَّه غيرُ منضبط. وأن لا يكون قلَمُه في غاية الغِلَظِ فيضيع الورَقُ على المستفتي، ولا في غاية الدِّقَّة فتَعْسُر قراءته، بل ينبغي أن يكون وسطًا بين ذلك، وأن يكون بيِّنًا للقراءة لا يَسلكُ به مسلكَ التعليق والإِدماجِ والإختصار لبعض الحروف. وأن يتأْدَّبَ في صورةِ الوضع إِن كان معه في الفُتيا غيره ممن هو أعظمُ منه، فإِن كان الذي تقدَّمه في غايةِ الجلالة فليقل: كذلك جوابي، إِن كان يَعتقدُ صِحَّةَ ما قاله مَنْ تقدَّمَه. ودون ذلك في التواضع: جوابي كذلك، لأنَّ تقديمَ لفظ الجواب قبلَ التشبيهِ تقديمٌ لجوابه على جوابِ من تقدَّمه الكائنِ في التشبيه، وإِن قال: كذلك جوابي، فالإِشارة بـ (ذلك) الذي دخلَتْ عليه كافُ التشبيه هو جوابُ من تقدَّمه، فيكون قد قَدَّمَ جوابَ السابق عليه قبلَ ذكر جوابه، والتقديمُ تعظيم واهتمام، فهو أدخَلُ في الأدب. ودون هاتين المرتبتين في التواضع وأقربُ إلى الترفُّعِ أن يكتب مثلَ

الجواب بعبارةٍ أخرى، ولا يُشبِّه جوابَه بجوابِ من تقدَّمه أصلًا. وأرفَعُ مِن ذلك وأبعَدُ عن التواضع أن يقول: الجوابُ صواب، أو الجوابُ صحيح. وهذا لا يُستعمَلُ إِلَّا لمن يَصلُحُ للثاني أن يُجيزَه في الفُتيا أو يُزكِّيه في قوله، وأن يكون معه في معنى التلميذِ والتَّبَع، لأنه أظهرَ أنَّ جوابَ السابقِ في صورةِ من يَشهدُ له هو بالصحة أو بالصواب من جهة الثاني، وهذه أدنى الرُّتَب لخلوّ اللفظِ عن التعظيم بالكلية، هذا من حيث اللفظ. وأما من حيث الموضع الذي يَكتبُ فيه، فإِن اتَّضعَ كتَبَ خَطَّهُ تحتَ خطّ الأول، وإِن ترفَّعَ كتَبَ قِبالتَهُ في يمين الخطّ أو شِماله، وكذلك الجهةُ اليُمنى أشرَفُ من الجهة اليُسرى (¬1)، فالمتواضعُ يَضَعُ في اليُسرى، والذي لا يَقصِدُ التواضعَ ويقصِدُ التعظيمَ يَضَعُ في الجهةِ اليُمْنَى، لكونها يُمنى. وينبغي للمفتي: متى جاءته فُتيا وفيها خَطُّ من لا يَصلحُ للفُتيا، ألا يَكتبَ معه، فإِنَّ كتابتَه معه تقريرٌ لصنيعه، وترويجٌ لقوله الذي لا ينبغي أن يُساعَدَ عليه وإِن كان الجوابُ في نفسه صحيحًا. فإِنَّ الجاهل قد يُصيب، ولكنَ المصيبةَ العظيمةَ أن يُفتيَ في دينِ الله مَنْ لا يَصلحُ للفتيا، إِما لقِلَّة علمِه، أو لقلَّةِ دينه، أوْ لهما معًا. ¬

_ (¬1) قلت: هكذا كان العرف في زمن المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، تفضيلُ الجهة اليُمنى على الجهة اليُسرى، تبعًا للتوجيه الشرعي النبوي في كل عمل شريف، وانعكس الحالُ اليوم! فصارت الجهةُ اليسرى أشرفَ من اليمنى! ولعله من تقليد المسلمين غيرَهم الذين يبدأون كتابتهم من اليسار، فتكونُ الجهة اليُسرى لديهم أشرف! فإنهم عندهم - إذ يبدأون بها - بمثابة اليمين التي نبدأ بها.

ولا ينبغي للمفتي: أن يَكتب في الفُتيا ما لا تدعو حاجةُ المستفتي إليه، فإِنَّ الورق مِلكُه، ولم يأذن في الكتابة فيه إِلَّا بما تتعلَّق به مصلحتُه، وغيرُ ذلك يَحرمُ فلا يزيدُ عليه، إِلَّا أن تَشهدَ العادةُ بالزيادة اللطيفة فيكون مأذونًا فيها عادةً، نحوُ قولِ المفتي في آخرِ فُتياه: (والله أعلم)، ونحوَ ذلك. ولا ينبغي: أن يضَعَ هذه اللفظةَ ونحوَها إِلَّا ناويًا بها ذِكرَ الله تعالى، فإِنَّ استعمالَ ألفاظِ الأذكارِ لا على وجهِ الذكر والتعظيمِ لله تعالى قلَّةُ أدبٍ مع الله تعالى، فيُنهَى عنه، بل يَنوي به معناه الذي وُضِع له لغةً وشرعًا. وإِذا وَجَدَ في الفتيا خطأ مُجمَعًا عليه أو مختلَفًا فيه، فإن كان المفتي به مذهَبُهُ يقتضِي أنه خطأ فهو منكَرٌ تجبُ إِزالته وإِن كَرِه رَبُّ الفُتيا، لأنَّ الفتيا بخلافِ الاعتقاد حرام. وإِن كان مذهَبُ المفتي يقتضِي صِحَّتَه، وهو لا يجوزُ التقليدُ فيه لكونه على خلاف القواعدِ، أو النصوصِ، أو القياسِ الجليّ السالمِ كلِّ ذلك عن معارضٍ راجحٍ عليه، فهو منكَرٌ أيضًا تجبُ إزالتهُ. وإِن كان مما يَجوزُ التقليدُ فيه لا يَتعرَّض له وإن كان على خلافِ مذهبه. وينبغي له: إذا وجدها منكرةً على أحدِ الوجوه، وعلِمَ أنَّ كاتبها إِذا سُيِّرتْ إِليه لا يسوؤه ذلك، وأنه يُغيرُها مع سلامةِ القلوب عن الأحقاد: فلْيَبعث بها إليه فهو أستَرُ له وأحفَظُ لعِرْضه، لئلا تَنتشرَ، أو يَقفَ عليها حاسدٌ أو عدوٌّ، فيَجدَ بذلك السبيلَ لغَرَضِه، وحسْمُ مادَّةِ الفسادِ من أوَّلها أولى. وإِن كان خَلَلًا من جهة سبقِ القلم أو نقصِ بعضِ الحروف فليُصلحْه هو بيده ولا يَبعثْ به إِليه، جمعًا بين مصلحة الفُتيا وحفظِ قلبِ كاتبها عن الألم وتعجيلًا لزوالِ المفسدة.

ولا ينبغي للمفتي: أن يَحكي خلافًا في المسألة لئلا يُشوِّشَ على المستفتي، فلا يَدري بأي القولين يأخذ (¬1)، ولا أن يَذكُرَ دليلًا ولا مَوضعَ النقلِ من الكتب، فإنَّ في ذلك تضييعًا للورق على صاحبه، إِلا أن يَعلمَ أنَّ الفُتيا سيُنكرُها بعضُ الفقهاء، ويقعُ فيها التنازعُ، فَيقصِدُ بذلك بيانَ وجه الصواب لغيره من الفقهاء، الذي يَتوهَّمُ مُنازعتَه، فيَهتدي به، أو يَحفظُ عِرضَه هو عن الطعن عليه. وأما متى لم يكن إِلَّا مجرَّدُ الإسترشاد من السائل فليَقتصر على الجواب من غير زيادة. ومتى كان الإستفتاء في واقعةٍ عظيمة تتعلَّقُ بمَهَامّ الدين أو مصالحِ المسلمين، ولها تعلُّقٌ بوُلاةِ الأمور، فيَحسنُ من المفتي الإِسهابُ في القولَ وكثرةُ البيانِ والمبالغةُ في إِيضاح الحق بالعبارات السريعةِ الفهم، والتهويلُ على الجُناة (¬2)، والحضُّ على المبادرةِ لتحصيلِ المصالح ودرءِ المفاسد. ¬

_ (¬1) جاء في "نهج البلاغة" 143:4 منسوبًا إلى سيدنا علي - رضي الله عنه - أنه قال: إذا ازدحم الجواب خَفِي الصواب. انتهى. ومن كلام الإِمام أبي حنيفة - رضي الله عنه -: إذا كثُرَ الجواب ضاع الصواب. وجاء في وصيته الجامعة التي أوصى بها تلميذَه الإِمامَ أبا يوسف بعد اكتماله - رضي الله عنه - قولُه: "ومن جاءك يستفتيك في المسائل، فلا تُجبْ إِلَّا عن سؤاله، ولا تَضُمَّ إليه غيرَه، فإنه يُشوِّشُ عليكَ جوابَ سؤاله". كما في آخر "الأشباه والنظائر" لإبن نجيم ص 171. (¬2) ومن صور التهويل أن يسلك سبيل التعريض فيما يُسأل عنه، إذا رأى في ذلك مصلحه للمستفتي، لينزجر عن جنايته، مثلُ أن يَسأله إنسان عن القاتل هل له من توبة؟ ويَظهر للمفتي بقرينة أنه إن أَفتَى بأن له توبة ترتب عليه مفسدة، وهي أن القاتل يستهون القتل لكونه يجد بعد ذلك منه مخرجًا، فيقول المفتي - والحالة هذه - صح عن ابن عباس أنه قال: لا توبة لقاتل. فهو صادق في أنه صح عن ابن عباس وإن كان المفتي لا يعتقد ذلك، ولا يُوافِق ابنَ عباس في هذه المسألة، لكن السائل إنما يَفهم منه موافقتَه ابن عباس، فيكون سببًا لزجره. أفاده النووي في "شرح صحيح مسلم" 11: 174.

ويَحسُنُ بسطُ القول في هذه المواطن وذكرُ الأدلَّةِ الحاثَّةِ على تلك المصالح الشرعية، وإِظهارُ النكيرِ في الفُتيا على مُلابِس المنكراتِ المجمَعِ على تحرِيمها وقُبحها. ولا ينبغي ذلك في غير هذه الَمواطن بل الإقتصارُ على الجواب. ومتى كان للمسألة شروطٌ وتفاصيلُ منها قريب ومنها بعيد: فالمتعيِّنُ على المفتي ذكرُ الشروطِ والتفاصيلِ القريبة دون البعيدة، فإِذا سُئلَ عن مُطَلِّقٍ هل له الرَّجعةُ أم لا؟ فيَذكرُ شروطَ كونِها بعد الدخول، ودُونَ العَدَدِ المُحوِجِ لنكاح زوجٍ ثان، ويَذكُرُ عدَمَ انقضاء العِدَّة، ونحوَ ذلك. ولا يَذكرُ الرِّدَّةَ الطارئةَ على أحدِ الزوجين ونحوَها لكونِها نادرةً في الوجود. وعلى هذا المنوال يذكرُ أبدًا القريبَ دون البعيد النادر. ولو وجَبَ على المفتي أن يَذكر جميعَ ما يتعلَّقُ بالفُتيا من الشُّروطِ والتفاصيلِ وإِن بَعُدَ لصارت الفُتيا في نحوِ المجلَّد الكبير، وهذا فسادٌ عظيم في ضياع الوقت والورقِ والفهم. ولا ينبغي للمفتي (¬1): إِذا كان في المسألة قولانِ أحدُهما فيه تشديدٌ والآخَرُ فيه تخفيف: أن يُفتي العامَّةَ بالتشديد، والخواصَّ من ولاةِ الأمور بالتخفيف، وذلك قريبٌ من الفسوقِ والخيانةِ في الدّين، والتلاعبِ بالمسلمين، ودليلُ فراغِ القلب من تعظيمِ الله تعالى وإِجلاله وتقواه، وعِمارتِه باللَّعبِ وحُب الرياسة والتقرُّبِ إِلى الخلق دون الخالق! نعوذ بالله تعالى من صفاتِ الغافلين (¬2). ¬

_ (¬1) هذا المقطع إلى آخره منقول في "تبصرة الحكام" 1: 51 - 52، 55 - 56. (¬2) وقد سقط كثير من المفتين، ولحقتهم الكراهة والزَّرَايةُ، من جَرَّاء تفرِقتهم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = في فتواهم بين أن تكونَ لقريب يُراعَى أو حاكم يُرضَى، أو تكونَ لغيرهما. وقد عقد الشاطبي فصلاَ في كتابه "الموافقات" 4: 135 - 140 أورَدَ فيه طائفةَ من تلك الفتاوى التي أَسقطت أصحابَها وجلَبَتْ السَّخطة عليهم. فنسأل الله الهدايةَ والصونَ والسلامةَ والعون. وقال الإِمام ابن القيم - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في آخر "إعلام الموقعين" 4: 222، في الفصل الذي عقده لفوائد تتعلق بالفتوى: "الفائدةُ التاسعةُ والثلاثون: لا يجوز للمفتي تتبع الحِيَل المحرَّمةُ والمكروهة، ولا تتبع الرُّخَص لمن أراد نفعَه، فإنْ تتَبع ذلك فُسِّقَ، وحَرُمَ استفتاؤه، فإن حَسُنَ قصدُه في حِيلةِ جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة، لتخليص المستفتي بها من حرجِ جاز ذلك، بل استُحبَّ، وقد أرشد الله نبيه أيوب - عليه السلام - إلى التخلص من الحِنث بأن يأخذ بيده ضِغْثاَ فيَضربَ به المرأةَ ضربةً واحدة. وأرشد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بلالاً إلى بيع التَّمْر بدراهم، ثم يشتري بالدراهم تَمْراً آخر، فيتخلَّصُ من الربا. فأحسَنُ المخارج ما خَلَصَ من المآثم، وأقبَحُ الحِيَل ما أوقع في المحارم، أو أَسقَط ما أوجبه اللهُ ورسولُه من الحقِّ اللازم، والله الموفق للصواب". انتهى. وما في "حلية الأولياء" لأبي نعيم 367:6، في ترجمة (سفيان الثوري): "كان سفيان الثوري يقول: إنما العلم عندنا الرُّخَصُ عن الثقة، فأمَّا التشديدُ فكلٌّ يحسنه". انتهى. فالظاهرُ أنه يعني به المَخْرَجَ المستنِدَ إلى دليل شرعي، والله أعلم. ومن لطيف ما يُذكَر في جنب الترخص: ما قاله الإِمام ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - عن نفسه، في كتابه "صيد المخاطر" 2: 304، وقد ترخص في بعض الأمور: "ترخَصتُ في شيء يجوزُ في بعض المذاهب، فوجدتُ في قلبي قسوةَ عظيمة، وتخايَلَ في نوعُ طَرْدِ عن البَاب، وبُعْدٌ وظُلمةٌ تكاثَفَتْ. فقالَتْ نفسي: ما هذا؟ أليس ما خرجتَ عن إِجماع الفقهاء؟ فقلتُ لها: يا نفسَ السوء! جوابك من وجهين: أحدُهما: أنك تأوَلتِ ما لا تعتقدين، فلو استُفتِيتِ لم تُفتِي بما فَعَلْتِ. قالت:=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = لو لم أعتقد جوازَ ذلك ما فعلتُه. قلتُ: إِلَّا أنَّ اعتقادَكِ هو ما تَرْضَينَه لغيرِكِ في الفتوى. والثاني: أنه ينبغي لكِ الفَرَحُ بما وجدتِ من الظلمة عَقِيبَ ذلكِ، لأنه لولا نورٌ في قلبكِ ما أثر مِثلُ هذا عندكِ. قالت: فلقد استوحشتُ بهذه الظلمة المتجددة في القلب. قلت: فاعزمي على الترك، وقدَّري ما تركتِ جائزاً بالإِجماع، وعُدِّي هجرَهُ ورعاً، وقد سلمتِ".

التنبيه العاشر

التَّنْبِيهُ الْعَاشِرُ ينبغي للمفتي: أن يكون حسَنَ الزِّيّ على الوضع الشرعي، فإِنَّ الخَلْقَ مجبولون على تعظيم الصُّوَر الظاهرة، ومتى لم يَعظُم في نفوس الناس لا يقبِلون على الإهتداء به والإقتداء بقوله. وأن يكون حسَنَ السيرَةِ والسَّريرة، فمن أسَرَّ سريرةً كساهُ الله رِداءها. ويقصِدُ بجميع ذلك التوسُّلَ إِلى تنفيذِ الحق وهدايةِ الخلق، فتصِيرُ هذه الأمور كلُها قُرُباتِ عظيمة. وإليه الإِشارةُ بقوله تعالى حكايةً عن إِبراهيم - عليه السلام -: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (¬1). قال العلماء: معناه ثناءٌ جميلٌ حتى يقتدِيَ بي الناس. وكذلك قولُ عمر - رضي الله عنه -: أحَبُّ إِليَّ أن أنظرَ القارئَ أبيضَ الثياب. أي لِيعْظُمَ في نفوس الناس، فيَغظُمَ في نفوسهم ما لديه من الحق (¬2). ¬

_ (¬1) من سورة الشعراء، الآية 84. (¬2) وقال العلامة القاضي المالكي أبو عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ الأزدي القرطبي الشهير بابن المُنَاصِف المتوفى سنة 625 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في كتابه "تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام" وهو يتحدَّثُ عما يَلزمُ القاضيَ في خاصة نفسه: "اعلم أنه يجبُ على من تولى القضاء أن يُعالج نَفْسَه، ويجتهدَ في صلاح حاله، ويكونَ ذلك من أهمّ ما يجعلُه من باله، فيَحمل نفسه على أدبِ الشرع، وحفظِ المروءة، وعلوِّ الهمَّة، ويَتوقَّى ما يَشينُه في دينه ومُروءَتِه وعقلِه، ويَحُطُّه عن منصبه وهِمَّته، فإنه أهلٌ لأنَّ يُنظر إليه ويُقتدى به، وليس يَسَعُه في ذلك ما يَسعُ غيره، فالعيونُ إليه مصروفة، ونفوسُ الخاصَّة على الإقتداء بهَدْيه موقوفة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ولا ينبغي له بعد الحصول في هذا المنصِب سواءٌ وصل إليه برغبةِ فيه وطَرَحَ نفسَه عليه أو امتُحِنَ به وعُرِضَ عليه؛ أن يَزهدَ في طلب الحظّ الأخلَص، والسَّنَن الأصلح، فربما حَمَله على ذلك استحقارُ نفسِه، لكونهِ ممن لا يَستحق هذا المنصب، أو زُهدُهُ في أهل عصره ويأسُه من استصلاحهم، واستبعادُ ما يرجو من عِلاج أمرِهم وأمرِه أيضاً، لِمَا يراه من عموم الفساد وقفَة الإلتفات إلى الخير، فإنه إن لم يَسْعَ في استصلاح أهل عصره، فقد أَسلَم نفسَه وأَلقى بيده إلى التهلكة، ويَئِسَ مِن تداركِ الله تعالى عبادَه بالرحمة، فيُلجئُهُ ذلك إلى أن يمشيَ على ما مَشَى عليه أهلُ زمانه، ولا يُبالي بأيّ شيء وقع فيه لإعتقاده فسادَ الحال. وهذا أشَدُّ من مصيبةِ القضاء، وأدهى من كلِّ ما يَتوقعُ من البلاء، فليأخذ نفسَه بالمجاهدة، ويَسعى في اكتساب الخير ويطلبه، ويستصلح الناسَ بالرهبة والرغبة، ويُشَدِّدُ عليهم في الحق، فإن الله تعالى بفضله يجعلُ له في ولايتِهِ وجميعِ أموره فَرَجاً ومخرجاً. ولا يَجعَلْ حظه من الولاية المباهاة بالرئاسة وإنفاذِ الأمور، والإلتذاذِ بالمطاعم والملابس والمساكن، فيكونَ ممن خُوطب بقوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}! وليجتهد أن يكون جميلَ الهيئة، ظاهرَ الأبهة، وَقُورَ المِشية والجِلسة، حَسنَ النُطقِ والصَّمْت، محترِزاً في كلامه من الفضول وما لا حاجةَ به، كأنما يَعُدُّ حروفَه على نفسه عدّاً، فإنَ كلامه محفوظ، وزلَلَه في ذلك ملحوظ. وليكفلْ عند كلامه الإِشارة بيده والإلتفاتَ بوجهه، فإنَّ ذلك من عملِ المتكلِّفين وصُنْعِ غير المتأدَّبين. وليكن ضَحِكُه تبسُّماً، ونظرُهُ فِراسةَ وتوسُّماً، وإطراقُه تفهُماً. وليكن أبداً متردّياً بردائه، حسَنَ الزِّيّ، وليلبَسْ ما يليق به، فإن ذلك أهيبُ في حقّه، وأجملُ في شكله، وأدلُّ على فضلِه وعقلِه، وفي مخالفةِ ذلك نُزولٌ وتبذُّل. وليلزَم من السَّمت الحسنِ والسكينةِ والوقارِ ما يَحفظُ به مرُوءتَه، فتَمِيلُ الهِمَمُ إليه، ويَكْبُرُ في نفوسِ الخصومِ الجَراءةُ عليه، من غير تكبُّرِ يُظهرُه، ولا إعجابِ يَستشعرُه، فكلاهما شَيْنٌ في الدَّين، وعيبٌ في أخلاق المؤمنين"، نقله العلَّامة ابن فرحون في =

وأن يكون صَدُوعاً بالحق لأُولي المهابة والسَّطوة، لا تأخذُه في الله لومةُ لائم. وأن يَجتهد في إِيصال الحق بالتلطّفِ إِن أمكن فهو أولى، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أَمَر منكم بمعروفٍ فليكن أمرُه ذلك بالمعروف" (¬1). وقال الله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬2). هذا هو الأصل. وفي بعضِ الأحوال يَتعيَّنُ الإِغلاظُ والمبالغةُ في النكير، إِذا كان اللَّينُ يُوهِنُ الحقَّ ويُدحِضُه، وبالجملة فلْيسلُك أقربَ الطرق لرواج الصواب بحسَبِ ما يتَّجهُ ¬

_ = "تبصرة الحكام" 21 - 22، 23 - 24. وذكره باختصار صاحب "معين الحكام" فيه ص 14 - 15، 16 - 17. دون أن يعزوه إلى قائله أو ناقله!! وقال الإِمام الحارث بن أَسَد المُحَاجي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: يُسألُ العالِمُ يوم القيامة عن ثلاثة أشياء: هل أَفتَى بعلمٍ أم لا؟ وهل نَصَح في الفُتْيَا أم لا؟ وهل أخلَصَ فيها لله أم لا؟ نقله العلامة ابن أمير الحاج الحلبي في فاتحة كتابه "حَلْبَة المُجَلي في شرح مُنْيَةِ المُصَلي". (مخطوط). وقال الإمام أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "الفُتْيَا ثلاثٌ، فمن أصاب خلَّصَ نَفْسَه، ومن أَفتَى بغيرِ علمِ - أي نصٌّ ولا قياسِ - هلَكَ وأَهلك، والثالثُ جاهل يُريدُ العُلُؤَ، لم يَعلم ولم يَقِسْ، فقيل له عند ذلك: وهل عُبِدَتْ الشمسُ إلَّا بالمقاييس؟! فقال: غَفَر الله لك، الفهمَ الفهمَ، ثم القِيَاسَ على العلم، وسَلِ الله التوفيقَ للحق". انتهى من "الجواهر المضية في طبقات الحنفية" للحافظ عبد القادر القرشي 2: 164، في ترجمة (خالد بن يزيد الزيات). (¬1) رواه البيهقي في "شعب الإِيمان" عن عبد الله بن عمرو بن العاص دون لفظ (منكم) كما في "الجامع الصغير" للسيوطي. وقال شارحه المُناوي في شرحه "التيسير بشرح الجامع الصغير" 2: 405 "إسنادُهُ ضعيف". (¬2) من سورة طه، الآية 44.

في تلك الحادثة. وأن يكون قليلَ الطمع، كثيرَ الورع، فما أفلَح مستكثرٌ من الدنيا ومُعَظمٌ أهلَها وحُطامَها. ولْيَبدأ بنفسه في كلّ خيرٍ يُفتي به، فهو أصلُ استقامةِ الخَلْقِ بفعلِهِ وقوله، قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (¬1). ومتى كان المفتي مُتَّقِياً لله تعالى وضَعَ الله البركةَ في قوله، ويسَّرَ قبولَه على مستمِعه (¬2). ¬

_ (¬1) من سورة البقرة، الآية 44. (¬2) مَزجَ المؤلفُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في هذا التنبيه بين ما ينبغي للمفتي أو القاضي في خاصة نفسه، وفي سيرته مع الخصوم، وفي سيرته في الأحكام وما إلى ذلك، والخطبُ في ذلك سهل. وقد رأيت من المفيد أن أتمم مقاصده بذكر جُمَلٍ نافعة في الباب، انتقيتُها من "تبصرة الحكام" لإبن فرحون 1: 22 - 37، 25 - 40. رجاءَ النفع بها لمن زاول القضاء أو الإفتاء، فإنه أحوجُ ما يكون إلى التسديد والعون على هذه المهمة العالية، والله وليُّ التوفيق. قال القاضي ابن فرحون - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "ويَلزمُ القاضيَ في خاصَّة نفسِهِ أمور: 1 - منها: أنه لا يقبل الهدية وإن كافا عليها أضعافَها إِلَّا من خواصّ القرابة، كالولدِ والوالدِ والعمَّةِ والخالةِ وبنتِ الأخ وشِبههم، لأنَّ الهدية تُورث إدلالَ المُهدِي وإغضاءَ المُهدَى إليه، وفي ذلك ضررُ القاضي ودخولُ الفساد عليه. وقيل: إنَّ الهدية تُطفئ نُور الحكمة. وقال ربيعة: إياك والهدية فإنها ذَرِيعة الرشوة. وقال محمد بن محمد الحكم: لا بأس أن تقبلها من إخوانه الذين كان يُعرَف له قبولُها منهم قبل الولاية، وقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تقبل الهدية من إخوانه، وقيل: لا يَسوغُ له قبولُها منهم. وقال ابن حبيب: لم تختلف العلماء في كراهية الهدية إلى السلطان الأكبر وإلى القُضاة والعُمَّال وجُباةِ المال، وهذا قول مالك ومن تبعه من أهل العلم والسنة، وكان =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهديَّة. وهذا من خواصه - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم مما يُتَّقَى على غيره منها. ولما رَدَّ عمرُ بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه الهديَّة قيل له: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقْبلُها، فقال: كانت له هديةً ولنا رشوة، لأنه كان يُتقرَّبُ بها إليه لنبوتِه لا لِولايته، ونحن يُتقرَّبُ بها إلينا لولايتنا. 2 - ومنها: أنه لا يَحضُر وليمةَ إِلَّا وليمةَ النكاح للحديث، لأن في المسارعة إلى إجابة الدعوة والتسامح بذلك مذلَّةَ وإضاعةَ للتصاون وإخلاقاً للهيبة عند العوام. وقال أشهب: لا بأسَ أن يُجيب الدعوة العامة إن كانت وليمةً أو صنيعاً عاماً لفَرَح، فأما أن يُدعى مع عامة لغير فرح فلا يجيب، وكأنه إنما دُعي خاصة وكان ذلك لأجله. وقال سُحنون: يجيب الدعوةَ العامَّة دون الخاصَّة، وتنزهُهُ عن الدعوة العامة أحسن، إلَّا أن يكون لأخ في الله وخاصَّةِ أهله أو ذي قرابة، وكَرِة مالك - رضي الله عنه - لأهل الفضل أن يُجيبوا كلِّ من دعاهم. 3 - ومنها: أنه ينبغي له أن يجتنب بِطانةَ السوء، لأنَّ أكثر القضاة إنما يُؤتَى عليهم من ذلك، ومن بُلِيَ بذلك عَرفَه حَق المعرفة، وينبغي له أن يَستبطِنَ أهلَ الدين والأمانة والعدالة والنزاهة، ليستعين بهم على ما هو بسبيله، وتقوَى بهم على التوصل إلى ما يَنوبُه، ويُخففُوا عنه فيما يَحتاج إلى الإستنابة فيه، من النظر في الوصايا والأحباس والقِسمةِ وأموال الأيتام وغيرِ ذلك مما يَنظُرُ فيه. 4 - ومنها: أنه يجب أن يكون أعوانُه في زِفي الصالحين، فإنه يُستدَلُ على المرءِ بصاحبه وغلامه، ويأمرُهم بالرفق واللين في غير ضعف ولا تقصير، فلا بد للقاضي من أعوان يكونون حوله، ليزجروا من ينبغي زجرُهُ من المتخاصمين، وينبغي أن يُخفَّفَ منهم ما استطاع. وقد كان الحسن البصري - رضي الله عنه - يُنكِرُ على القضاة اتخاذَ الأعوان، فلما وَلِيَ القضاءَ وشَوَّش عليه ما يقَعُ من الناس عنده قال: لابُدَّ للسلطانِ من وَزَعَة، وإن استغنى عن الأعوان أصلاً كان أحسن. قال المَازِريُّ: ولا يكون العَوِينُ إلَّا ثقةً مأموناً، لأنه قد يَطَّلع من الخصوم على ما لا ينبغي أن يطلع عليه أحدُ الخصمين، وقد يُرشَى على المنع والإِذن، وقد يُخاف منه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = على النسوان إذا احتَجْنَ إلى خصام، فكلُّ من يستعين به القاضي على قضائه أو مشورته لا يكون إِلَّا ثقةً مأموناً. وينبغي ألا يُصغِيَ بإذنه للناس في الناس، فيفتَحَ على نفسه بذلك شرّاً عظيماً، وتَفسُدَ عقيدتُه في أهل الفضل البُرَءاء مما قيل فيهم عنده. وينبغي أن يتخذَ من يُخبره بما تقولُ الناس في أحكامه وأخلاقه وسيرته، فإذا أخبره بشيء فحَصَ عنه، فإنَّ في ذلك قوَّةَ على أمره. 5 - ومنها: ألا يجلسَ على حالِ تشويشِ من جُوع أو شبع أو غضب أو همّ، لأنَّ الغضبَ يُسرع - أي يَشتذُ ويقوى - مع الجوع، والفهم ينطفئُ مع الشبع، والقلبَ يشتغلُ مع الهم. وينبغي له أن لا يتضاحك في مجلسه، ويَلزمُ العبوسةَ من غير غضب، ويَمنع مِن رفعِ الصوت عنده. ولا يكثر من القضاء جداً حتى ياخذه النعاس والضَّجَر، فإنه إذا عَرَض له ذلك ربما أحدث ما لا يَصلح. وقد قال مالك - رضي الله عنه - لرجلِ كان يقضي بين الناس في المدينة: لا تكثِر فتُخطئ. 6 - ومنها: أن يَجعلَ للرجال مجلساً وللنساء مجلساً إذا كانت حكومة كل نوع مع نوعه، فإذا اجتمعت الرجالُ والنساء في مجلس واحد لخصومة عرضَتْ لهم، أفرَدَ لهم مجلساً، أو جعَلَ مواعيدَ قضايا الأزواج والنساء في وقتِ لا يزدحم فيه المراجعون والمتقاضون، سَتْراً لأحوال الناس وحُرَمهم. ويلزم القاضي في سيرته في الأحكام أمور: 1 - منها: ألا يقضيَ حتى لا يَشُكَّ أن قد فَهِم، فأما أن يَظن أنْ قد فَهِم ويَخاف أن لا يكون فَهِم لما يجد من الحَيْرةِ فلا ينبغي أن يقضي بينهما وهو يجدُ ذلك. 2 - ومنها: أن القضية إذا كانت مشكلة فيكشِف عن حقيقتها في الباطن، ويستعين بذلك على الوصول إلى الحق. وقد أجاب الشيخ أبو عبد الله بنُ عَتَّاب بعضَ الحكام في قضية أشكلَتْ بأن قال: ووَجْهُ الخلاص في هذا على ما كانت القضاة تفعله في شِبهِ ذلك أن تكشِفَ في الباطن عن ذلك، فإذا انكشف لك أمرٌ اجتهدتَ على حسب ما انكشف لك، وفعلتَ ما يجب في ذلك، فقد كانت القضاةُ - رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى - =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يستعينون بالكشف عن باطن القضية، ولا يَخرجون في ذلك عن الواجب. 3 - ومنها: ما قال مالك - رضي الله عنه -: لا يُفتي القاضي في مسائلِ القَضاء، وأما في غير ذلك فلا بأس به. وكان سحنون - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - إذا أتاه رجل يسأله عن مسألة من مسائل الأحكام لم يُجبه وقال: هذه مسألةُ خُصومة. 4 - ومنها: إذا أَشكَلَ عليه كلامُ الخصمين فيأمرهما بالإِعادة حتى يَفهم عنهما، وقد يَفهمُ عنهما ويشكِلُ عليه وجهُ الحكم، وهذا هو معنى قولهم: إذا أَشكل على القاضي حُكمٌ تركه، ولا يحل له الإِقدام عليه باتفاق. ثم للقاضي حينئذٍ أن يُرشدهما للصلح، فإن تبيَّن له وجهُ الحكم فلا يعدل إلى الصلح، وليقطَعْ به. فإن خشي مِن تفاقم الأمر بإنفاذ الحكم بين الخصمين، أو كانا من أهل الفضل، أو بينهما رَحِمٌ: أقامهما وأمرَهُما بالصلح، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: رَدَّدُوا القضاءَ بين ذوي الأرحام حتى يصطلحوا، فإنَّ فَضلَ القضاء - يعني بينهم - يُورِثُ الضغائن. وقال بعضهم: قولُ عمر هذا محمولٌ على أنه إنما يجب أن يُرَدَّدَهما، ما لم يجب الحقُّ لأحدهما، فإذا وجب الحق لأحدهما فلا ينبغي للقاضي أن يؤخِّر إنفاذَه. 5 - ومنها: أن لا يقضيَ إلَّا بحضرة أهل العلم ومَشُورتهم. لأنَّ الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}. قال الحسن البصري: كان - صلى الله عليه وسلم - مستغنياً عن مُشاورتهم ولكنه أراد أن تصيرَ سُنَّةً للحكام. قال أشهب: إِلَّا أن يخافَ المضرَّة من جلوسِهم، ويَشتغلَ قلبُه بهم وبالحَذرِ منهم، حتى يكون ذلك نقصاناً في فهمه، فأحَبُّ إليَ أن لا يجلسوا إليه. قال سُحنون: لا ينبغي للقاضي أن يكون معه في مجلسه من يَشغله عن النظر، سواء كانوا أهلَ فقه أو غيرَهم، فإنَ ذلك يُدخل عليه الحَصَرَ والإهتمامَ بمن معه، ولكن إذا ارتفع عن مجلس القضاء شاوَرَ. ويلزم القاضي في سيرته مع الخصوم أمور: 1 - منها: أنه إذا حَضَر الخصمانِ بين يديه فليُسوِّ بينهما - وإن كان أحدُهما ذمياً - في النظر إليهما والتكلمِ معهما، ما لم يتعدَّ أحدُهما فلا بأس أن يَسوءَ نظرُهُ إليه تأديباً له، ويرفَعَ صوتَه عليه لما صَدَر منه من اللَّدَد ونحوِ ذلك، وهذا إذا عَلِمَ الله تعالى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = منه أنه لو كان ذلك مِن صاحبه فَعَل به مثلَ ذلك. ويَحضُّهما عند ابتداء المحاكمة على التؤدة والوقار، ويُسكِّنُ جأشَ المضطرب منهما، ويؤمنُ رَوع الخائف والحَصِرِ في الكلام حتى يذهب عنه ذلك. ولا يُقبِلُ عليه دون خصمه، ولا يميلُ إلى أحدهما بالسلام فيخصُّه به ولا بالترحيب، ولا يَرفعُ مجلسَه، ولا يَسألُ أحدَهما عن حاله ولا عن خبره، ولا عن شيء من أمورهما في مجلسهما ذلك، ولا يُساررهما جميعاً ولا أحدهما، فإن ذلك يُجزئهما عليه ويُطمِعُهما فيه، وما جَرَّ إلى التهاونِ بحدودِ الله تعالى فممنوع. وإذا سلَّمَ عليه خصمانِ لم يَزد على أن يقول: عليكم السلام، فإن زاد أحدُهما في ذلك لم يَزد القاضي على ردّ السلام شيئاً. وله أن يَشُدَّ عضدَ أحدهما إذا رأى منه ضعفاً، أو يراه يَخافُهُ لينشَطَ وينبسط أملُه في الإِنصاف. 2 - ومنها: أنه يحكمُ بين الخصوم فيقدمُ المسافرين والمضرورين ومن له مُهمٌّ يَخافُ فواتُه. وينبغأنه أن يُسهّلَ إذنَ البينات ولا يَمطُلَهم فيتفرقوا فيعسُر جمعُهم، وربما أدَّى ذلك إلى ضَجَر صاحب الحق، فيترك حقَّه أو بعضَه بالمصالحة عنه، لما يدركه من المشقة، فإذا حضروا آنَسَهم وقرَّبهم وبَسَطهم وسألهم عن شهادتهم، فإذا كانت تامَّة قيَّدها، كان كانت ناقصة سألهم عن بقيتها، وإن كانت مجملةً سألهم عن تفسيرها، وإن كانت غيرَ عاملةِ - أي غيرَ مُجديةِ مفيدة على تقدير صحتها - أعرض عنها إعراضاً جميلاً، وأعلم المدَّعي أنه لم يأت بشيء. 3 - ومنها: إذا شَتَم أحدُ الخصمين صاحبَه زجره، ولا يَحِلُّ له تركُه لأنَّ الحقَّ فيه لله تعالى، لأنَّ السبابَ انتهاكٌ لحرمة مجلس القاضي والحكم، وليس تكذيبُ أحدهما للآخر من السباب ولو كان بصيغةِ كَذَبْتَ وشِبهها. 4 - ومنها: أنه ينبغي له موعظةُ الخصمين وتعريفُهما بأن من خاصم في باطل فإنه خائض في سخط الله تعالى، ومن حلَفَ لِيقتطعَ مالَ أخيه بيمينِ فاجرة فليتبوَّأ مقعدَه من النار. ويعظُ الشهودَ أيضاً، رُوي عن شُرَيح أنه كان يقول لمن يشهد عنده: إنما يَقضِي على هذا المُسْلِم أنتما بشهادتكما، وأني متقٍ بكما النار، فاتقيا الله والنار. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ويُستحبُّ له أن يراقبَ أحوالَ الخصوم عند الإدلاء بالحجج ودعوى الحقوق، فإنْ توسَّم في أحد الخصمين إنّه أبطَنَ شُبهة، أو اتهمه بدعوى الباطل إِلَّا أن حُجَّته في الظاهر متَجهة، وكتابَ الحقّ الذي بيده موافقٌ لظاهر دعواه، فليتلطَّفْ القاضي في الفحصِ والبحثِ عن حقيقة ما تَوهَّم فيه، فإن الناس اليوم كثرَتْ مُخادعتُهم، واتُّهمَتْ أمانتُهم. فإن لم ينكشف له ما يقدَحُ في دعواه فحسَنٌ أن يتقذَم إليه بالموعظة إن رأى لذلك وجهاً، ويُخوَّفُه الله سبحانه، ويذكُرُ قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. فإن أناب وإلا أَمضَى الحكمَ على ظاهره، كان تزايدت عنده بسبب الفحص عن ذلك شبهة فليقِفْ، ويوالي الكشف ويُردَّدُهُ الأيامَ ونحوَها، ولا يُعجَّلُ في الحكم مع قوة الشبهة، وليجتهد في ذلك بحسب قدرته، حتى يتبيَّن له حقيقةُ الأمر في تلك الدعوى أو تنتفي عنه الشبهة". انتهى. ومن أخلَص لله هداه الله. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} " انتهى كلام القاضي ابن فرحون - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وأختم هذه الجُمَل النافعة بفوائد غالية نفيسة، تتعلق بمسائل هامة تَعرِض للقاضي والمفتي، تعرّض لها إمام من أئمة السادة الحنفية، وهي: كيف يعمل القاضي - وكذلك الفقيه بفتواه لنفسه - إذا تغير اجتهاده في المسألة الواحدة مرتين أو ثلاثاً؟ وكيف يعمل المستفتي إذا أُفتِي برأي ومَضَى في تنفيذه، ثم أُفتِيَ من عالم غير الأول برأي مخالف له؟ وكيف يعمل المَقْضِي عليه والمَقْضِي له إذا كانا من أهل الإجتهاد وتخالَفَ رأيُهما ورأيُ القاضي في المسألة؟ وكذلك المقلِّدُ إذا اختلفت عليه الفتوى والقضاء فبأيهما يعمل؟ قال الإِمام علاء الدين الكاساني الحنفي في كتابه "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" 7: 5 - 6 في باب القضاء: "وإن قَضَى القاضي في حادثة - وهي محلُّ الإجتهاد - برأيه، ثم رُفِعَتْ إليه ثانياً فتحؤَلَ رأيُه، يَعمَلُ بالرأي الثاني، ولا يُوجِبُ هذا نقضَ الحكم بالرأي الأول، لأنَّ القضاء بالرأي الأول قَضَاءٌ مجمَع على جوازِه، لإتفاقِ أهل الإجتهاد على أن للقاضي أن يقضِيَ في محل الإجتهاد بما يؤدي إليه اجتهادُه، فكان هذا قضاءً متفَقَاً على صحته، ولا اتفاقَ على صحة هذا الرأي الثاني فلا يجوز نقضُ المجمَع =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عليه بالمختلَف فيه. ولهذا لا يجوز لقاضِ آخَرَ أن يُبطِلَ هذا، القضاء، كذا هذا، وقد رُوي عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - أنه قَضَى في حادثة، ثم قَضَى فيها بخلافِ تلك القضية، فسُئِلَ؟ فقال: تلك كما قضينا وهذه كانقضي. ولو رُفِعَتْ إليه ثالثاً فتحوَّلَ رأيُه إلى الأوَّل يَعمَلُ به، ولا يَبْطُلُ قضاؤه بالرأي الثاني بالعمل بالرأي الأوَّل، كما لا يَبْطُلُ قضاؤه الأول بالعمل بالرأي الثاني لما قلنا. ولو أنَّ فقيهاً قال لامرأته: أنتِ طالق البتة، ومِن رأيه أنه بائن، فأمضى رأيَه فيما بينه وبين امرأته، وعزَمَ على أنها قد حَرُمَتْ عليه، ثم تحوَّل رأيُه إلى أنها تطليقةٌ واحدةٌ يَملِكُ الرجعة، فإنه يَعمَلُ برأيه الأول في حق هذه المرأة وتَحْرُم عليه، وإنما يَعمَلُ برأيه الثاني في المستقبل في حقّها وفي حق غيرها، لأنَّ الأوَّل رأيٌ أمضاه بالإجتهاد، وما أُمضِيَ بالإجتهاد لا يُنْقَضُ باجتهادِ مثلِه. وكذلك لو كان رأيُه أنها واحدةٌ يملِكُ الرجعة، فعزَمَ على أنها منكوحةٌ - أي ما تزالُ في عصمته وله مراجعتُها -، ثم تحؤَل رأيُه إلى أنه بائن، فإنه يَعمَلُ برأيه الأول، ولا تحرُمُ عليه لما قلنا. ولو لم يكن عزَمَ على الحرمة في الفصل الأول، حتى تحوَّلَ رأيُهُ إلى الحل لا تَحرُمُ عليه، وكذا في الفصل الثاني لو لم يكن عزَمَ على الحل حتى تحوَّلَ رأيُه إلى الحرمة تَحرُمُ عليه، لأنَّ نفسَ الإجتهاد محلُّ النقض، ما لم يَتَّصِلْ به الإِمضاء واتصالُ الإِمضاء بمنزلة اتصال القضاء، واتصالُ القضاء يَمنع من النقض، فكذا اتصالُ الإِمضاء. وكذلك الرجلُ إذا لم يكن فقيهاً، فاستَفتَى فقيهاً فافتاه، بحلالِ أو حرام، ولو لم يكن عزَمَ على ذلك حتى أفتاه فقيهٌ آخرُ بخلافه، فأخَذَ بقوله وأمضاه في منكوحته، لم يَجُزْ له أن يَترك ما أمضاه فيه ويَرجعَ إلى ما أفتاه به الأول، لأن العمل بما أَمضَى واجب، لا يجوز نقضُه مُجتهِداً كان أو مقلِّداً، لأنَّ المقلّد متعبَّدٌ بالتقليد، كما أن المجتهِدَ متعبَّدٌ بالإجتهاد، ثم لم يَجُزْ للمجتهِدِ نَقْضُ ما أمضاه، فكذا لا يجوز ذلك للمقلِّد. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ثم ما ذُكِرَ من نفاذِ قضاءِ القاضي - في محل الإجتهاد - بما يؤدي إليه اجثهادُه: إذا لم يكن المَقْضي عليه والمَقْضِي له من أهل الرأي والإجتهاد، أو كانا من أهلِ الرأي والإجتهاد، ولكن لم يُخالِف رأيُهما رأي القاضي. فأمَّا إذا كانا من أهل الإجتهاد وخالَفَ رأيُهما رأيَ القاضي، فجملةُ الكلام فيه أن قضاء القاضي يَنْفُذُ على المقضيِّ عليه في محل الإجتهاد، سواء كان المقضيُّ عليه عاميَّاً مقلِّداً، أو فقيهاً مجتهداً يُخالِفُ رأيُه رأيَ القاضي بلا خلاف، أمَّا إذا كان مقلِّداً فظاهر، لأنَّ العاميَّ يلزمُه تقليدُ المفتي، فتقليدُ القاضي أولى، وكذا إذا كان مجتهداً، لأنَّ القضاء في محل الإجتهاد بما يؤدِّي إليه اجتهادُ القاضي قضاءٌ مجمَعٌ على صِحَتِه على ما مَرّ، ولا معنى للصحة إلَّا النَّفاذُ على المقضيِّ عليه. وصُورةُ المسألة: إذا قال الرجلُ لامرأته: أنتِ طالق البتة، ورأيُ الزوج أنَّهُ واحدةٌ يَملِكُ الرجعة، ورأيُ القاضي أنه بائنٌ، فرافعَتْهُ المرأة إلى القاضي فقَضَى بالبينونة، يَنفُذُ قضاؤه بالإتفاق لما قلنا. وأمّا قضاؤه للمقضِّي له بما يُخالِفُ رأيَه هل يَنفُذُ؟ قال أبو يوسف: لا يَنفُذُ، وقال محمد يَنْفُذُ، وصورةُ المسئلة إذا قال الرجل لامرأته: أنتِ طالق البتة، ورأيُ الزوج أنه بائن، ورأيُ القاضي أنه واحدةٌ يَملِكُ الرجعة، فرافَعَتْهُ إلى القاضي، فقضى بتطليقةِ واحدةِ يَملِكُ الرجعة، لا يَحِل له المُقامُ معها عند أبي يوسف، وعند محمد يَحِلُّ له. وَجْهُ قول محمد: ما ذكرنا أن هذا قضاء وقع الإتفاقُ على جوازه، لوقوعه في فَضلِ مجتهدٍ فيه، فيَنفُذُ على المقضيّ عليه والمقْضِي له لأن القضاء له تعلقٌ بهما جميعاً، ألا تَرى أنه لا يصح إلاَ بمطالبة المقضيّ له. ولأبي يوسف: أنَّ صحة القضاء إنفاذُهُ في محل الإجتهادِ يَظهرُ أثرُهُ في حقّ المقضيّ عن، لا في حق المقضى له، لأنَّ المقضي عليه مجبورٌ في القضاء عليه، فأمَّا المقضيُّ له فمختارٌ في القضاء له، فلو اتَبعَ رأيَ القاضي إنما يَتَبعُه تقليداً. وكونُهُ مجتهداً يمنعُ من التقليد، فيجبُ العملُ برأي نفسِه. وعلى هذا: كلُّ تحليل أو تحريم، أو إعتاقٍ، أو أخذِ مال، إذا قَضَى القاضي بما =

وينبغي للمفتي: إذا جاءته فُتيا في شأنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو فيما يَتعلَّقُ بالرُّبوبيّه، يُسالُ فيها عن أمور لا تَصلحُ لذلك السائل، لكونه من العوامّ الجلْف، أو يَسألُ عن المعضِلاتِ ودقائقِ أصول الدِّيانات، ومُتشابِهِ الآيات، والأمورِ التي لا يخوض فيها إِلَّا كبارُ العلماء، ويَعلمُ أنَّ الباعثَ له على ذلك إِنما هو الفراغُ والفضولُ والتصدّي لما لا يَصلحُ له: فلا يُجيبُه أصلاً (¬1)، ويُظهِرُ له الإِنكارَ على مثلِ هذا، ويقول له: ¬

_ = يُخالفُ رأيَ المَقْضِيّ عليه أو له، فهو على ما ذكرنا من الإتفاق والإختلاف. وكذلك المقَلِّدُ إذا أفتاه إنسان في حادثة، ثم رُفِعَتْ إلى القاضي فقَضَى بخلاف رأي المفتي، فإنه يأخذ بقضاء القاضي، ويَترُكُ رأيَ المفتي، لأنَّ رأيَ المفتي يصير متروكاً بقضاء القاضي، فما ظَنُّك بالمقلد؟ " انتهى كلام الإمام الكاساني - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. (¬1) كأن يَسأل: كيف هبط جبريل؟ وعلى أي صورة رآه النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وحين رآه على صورة البشر هل بقي ملَكاً أم لا؟ وأين الجنة والنار؟ ومتى الساعةُ ونزولُ عيسى - عليه السلام -؟ وإسماعيلُ أفضلُ أم إسحاق؟ وأيهما الذبيح؟ وفاطمةُ أفضلُ من عائشة أم لا؟ وأبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - كانا على أيّ دين؟ وما دينُ أبي طالب؟ ومَنْ المَهْدِي؟ إلى غير ذلك مما لا حاجةَ بالإِنسان إليه، ولا ينبغي أن يَسأل عنه لأنه ليس تحته عَمَل، ولا تجبُ عليه معرفتُه، ولم يَرد التكليفُ به. كما ذكره العلَّامة ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" 5: 480 - 481. وقد أرشد ابن عباس - رضي الله عنه - مولاه عكرمة إلى قاعدة هامة في أمر الفتوى حين أمَره أن يفتي الناس، فقال له: "انطلق فأفتِ الناس وأنا عون لك، فمن جاءك يسألك عما يَعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يَعنيه فلا تُفته، فإنك تَطرَحُ عنك ثُلُثَيْ مَؤُنةِ الناس". ذكره الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" 7: 265 في ترجمة عكرمة. وقال القاضي إياس بن معاوية: من المسائل ما لا ينبغي للسائل أن يَسأل عنها، ولا للمسؤول أن يُجيبَ فيها. ذكره ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" 2: 419، في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ترجمة (سليمان بن حرب البصري). وقد عقَدَ الإِمامُ الشاطبي في "الموافقات" 319:4 - 321 فصلاً حَسَناً، ساق فيه عشرة نماذج مختلِفة للأمور التي يُكرَهُ السؤال فيها، ثم قال: "ويقاسُ عليها ما سواها". وكأنه قعَّدَ فيها ما رسَمَه القرافيُّ هنا، - رحمةُ الله عليهما -، فعُن إليها، فإنها مما يُسافَرُ إلى تحصيله. ومن سؤال الفراغ والفضول! ما وقع للإِمام الشعبي، فقد أتاه رجل فقال له: ما اسمُ امرأةِ إبليس؟ قال: ذاك عُرس ما شَهِدتُه! كما نقله الحافظ الذهبي في "تذكرة الحفاظ" 1: 88. ومن سؤال الفراغ أيضاً ما وقع لأحد كبار السادة المالكية (زياد بن عبد الرحمن القرطبي الملَقب بشَبْطون) تلميذ مالك، حكى القاضي عياض في ترجمته في "ترتيب المدارك" 3: 125 ما يلي: "قال حبيب: كنا جلوساً عند زياد، فأتاه كتابٌ من بعض الملوك، فمَدَّه مدَّةَ - أي بل قلَمه بلَّةَ من الحِبر - فكتَبَ فيه، ثم طبع الكتاب ونفَذَ به الرسول. فقال زياد: أتدرون عفا سال صاحب هذا الكتاب؟ سال عن كفتَيْ ميزان الأعمال يوم القيامة، أمن ذهب هي أم من وَرِق؟ فكتبتُ إليه: حدثنا مالك، عن ابن شهاب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". وسَتَرِدُ فتعلم". وجاء في "ترتيب المدارك" للقاضي عياض في باب تحري مالك في العلم والفتيا والحديث وورعه فيه وإنصافه 1: 191 و 2: 30 "وسأل مالكاً رجل عن رجل وطِئَ دجاجة ميتة، فاُخرِجَتْ منها بيضة، فأفْقِسَتْ البيضة عنده عن فرخ، أياكلُه؟ فقال مالك: سَلْ عما يكون، ودع ما لا يكون. وسأله آخر عن نحو هذا فلم يُجبه، فقال له: لم لا تجيبني يا أبا عبد الله؟ فقال له: لو سألت عما تنتفعُ به لأجبتك". وجاء في 2: 145 منه "وسأله رجل عمن قال لآخر: يا حِمَار؟ قال: يُجْلَدُ. قال: فإن قال له: يا فَرَس؟ قال: تُجلَدُ أنت، ثم قال: يا ضعيف! وهل سمعت أحداً يقول لآخر: يا فرس؟! ". وجاء في "الآداب الشرعية" لإبن مفلح الحنبلي 76:2 "قال أحمد بن حنبل:=

اشتغِلْ بما يَعنيك من السؤالِ عن صَلاتِك وأمورِ معاملاتك، ولا تَخُضْ فيما عساه يُهلِكُك لعدمِ استعدادك له. وإِن كان الباعثُ له شُبهةً عَرضَتْ له: فينبغي أن يقبِلَ عليه، ويَتلطَّفَ به في إِزالتها عنه، بما يَصلُ إِليه عقلُه، فهدايةُ الخلق فَرضٌ على من سُئل. والأحسَنُ أن يكون البيانُ له باللفظِ دون الكتابة، فإِنَّ اللسان يُفهِمُ ما لا يُفهِمُ القلمُ، لأنَه حَيٌ والقَلَمُ مَوَات، فإِن الخَلْقَ عِيالُ الله، وأقرَبُهم إِليه أنفعُهم لِعياله، لا سيَّما في أمرِ الدين وما يَرجِعُ إِلى العقائد. وهذا آخِرُ كتاب "الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفاتِ القاضي والإِمام" كتبتُه إِليكم معاشِرَ الِإخوان في الله تعالى، وعليكم السلامُ ورحمة الله وبركاته، وهو حسبُنا ونعم الوكيل، ونسألُه أن يَتغمَّدنَا بعفوِه ورحمتِه أجمعين. وكان الفراغُ من تعليقه في شهر صفر من شهور سنةِ ثمانِ وثلاثين وسبع مِئة. والحمدُ لله رب العالمين، وصلواتُه وسلامُه على سيدنا محمّد (¬1). ¬

_ = سألني رجل مرة عن ياجوج ومأجوج، أمسلمون هم؟ فقلت له: أحْكَمْتَ العلم - كلَّهُ - حتى تسأل عن ذا؟! ". قال الحافظ ابن حجر: "وقد ذَمَّ السلف البحثَ عن أمورِ معيَّنة، ورد الشرعُ بالإيمان بها، مع تركِ كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهدٌ في عالَم الحِسّ، كالسؤالِ عن الساعة، والرُّوح، ومُدَّةِ هذه الأمة، إلى أمثالِ ذلك، مما لا يُعرَفُ إلَّا بالنقل الصِّرْف، وأكثَرُ ذلك لم يَثبُت فيه شيء، فيجب الإيمانُ به بغير بحث". انتهى من "فيض القدير" للمناوي 6: 355 عند حديث "هلك المتنطعون". (¬1) هذه خاتمة مخطوطة الأحمدية بحلب، التي سبق الحديثُ عنها وعن أخواتها في "التقدمة". وكاتبُها هو ناسخ كتاب "الأُمنِيَّة في إدراك النيَّة" للقرافي أيضاً الذي يلي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = كتابَ "الإِحكام" هذا في المخطوطة كما تَشهد بذلك وَحْدَةُ الخط في الكتابين، والكاتبُ كما جاء في آخر كتاب "الأمنية" هو: " العبدُ الفقير إلى الله تعالى عبد الرحمن بن عباس بن عبدالرحمن". نسخهما في صفر من سنة 738. وكتِبَ في نهاية نسخة "الإحكام" بقلم ناسخها المذكور بحبرِ مغاير ما نصُّه: "بلغَتْ المعارضَةُ له مطالعةً مع مراجعةِ المنقولِ منه، وكان فيه سَقَمٌ فصَحَّتْ هذه النسخة بحسب الإِمكان ولله الحمد والمنة". أمَّا مخطوطة مكتبة شيخ الإِسلام عارف حكمت في المدينة المنورة، فهذه خاتمتها: "وهذا آخِرُ كتاب الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفِ القاضي والإمام. والحمدُ لله حق حَمْدِه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، وكتبما إبراهيمُ بن نباتة عفا الله عنه". وجاء بعد هذا في حاشية الصفحة إلى اليمين بخطٍّ مغربي: "بلغَتْ المقابلةُ بأصله جهدَ الإستطاعة والحمدُ لله" ثم كتِبَ تحت العبارة السابقة بخط عادي: "بلَغَ مقابلةَ بنسخةِ أخرى". وجاء في مواضع كثيرة من حواشي النسخة الإشارة إلى مجالسِ قراءتها بهذه العبارة: "بلغَ مقابلةً مرَّة ثانية". وأما خاتمةُ مخطوطة مكتبة الأزهر فهي: "وهذا آخِرُ كتاب الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفِ القاضي والإِمام. كتبتُه إليكم معاشرَ الإِخوان في الله تعالى عليكم السلام. نَجَزَ في يوم الثلاثاء المبارك تاسع عشر ربيعٍ الآخِرِ سنة خمسِ وألْفٍ خُتِمَتْ بالخير الصِّرفْ، بجاه سيدنا محمد وآله وصحبه، وشيعته ووارثيه وحِزبه، على يدِ فقيرِ رحمة ربّه وأسيرِ وَصْمَةِ ذنبِه، محمد بن محمد بن عبد الباقي بن عبد المنعم بن برهان الدين بن فتح الدين الخالدي القرشي المالكي، خادم الشريعة الطاهرة يومئذِ ببابِ الشَّعْريَّة بمصر المحميَّة، القاهرة المحروسة، لا زالتْ ربوعُها مأنوسة، بجاه خير الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم والتابعين آمين". وجاء في خاتمة مخطوطة دار الكتب المصرية، وهي أصل النسخة التي طبعت بمصر عام 1357: "قال ناسخه: وهذا آخِرُ كتاب الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وتصرُّف القاضي والإِمام كتبته إليكم معاشَر الإِخوان في الله تعالى عليكم السلام. تحريراً في يومِ الأربعِ 11 من شهر صفر 1173 والله الموفق للإِتمام، والميسر للإختتام وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم".

خاتمة المعتني بالكتاب

يقول العبدُ الفقير إلى الله تعالى عبد الفتاح بن محمد أبو غدة - عفا الله عنه وعن والديه، وأكرمهم بإحسانه يوم القدوم عليه -: فرغتُ من خدمةِ هذا الكتاب والمقابلةِ بين نُسَخِه والتعليقِ عليه بما تيسَّر، في أواخر رجب من سنة 1386، في السجن الحربي في بلدة تَدمُر في قلبِ بادية الشام قُربَ مدينة حمص، معتقلاً في سبيل الله والإِسلام. وقد داهمني الظَّلمَةُ ليلاً، وكان أقربَ شيء إليَّ وأنا أَخرجُ بعد منتصف الليل من بيتي إلى المعتقل: كتابُ "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" من نسختي التي نسختها وقابلتها بأربع نُسَخ مخطوطة، وأَثبتُّ عليها كلَّ المغايرات بين النسخ، فاصطحبتُها معي، وكتابٌ آخرُ هو كتابُ "قواعد في علوم الحديث" لشيخنا العلامة المحدِّث الفقيه الجليل مولانا الشيخ ظَفَر أحمد التَّهَانَوِي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. ولمَّا أُودِعتُ في المعتقل قرأتُ هذا الكتاب "الإِحكام"، قراءة بحث ودرس لنصوصه ومغايراتِ نُسَخِه، وعلَّقتُ عليه بما يُستطاع لمثلي في تلك الحال. ثم فرَّج الله عني بعد سنةٍ إِلا شهراً، فأضفتُ إليه بعد خروجي من المعتقل، في بلدي حلب: بعض التعليقات المتمِّمة، فاكتمل بحمد الله على الوجه الذي خَرَج عليه في الطبعة الأولى سنة 1387، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ونعوذ بالله من حال أهل النار. وهذه الطبعة الثانية الممتازة عن الطبعة الأولى بزيادةِ التعليقاتِ والتصويباتِ الكثيرة الهامة جداً، التي استفدتها من النسخة المخطوطة المغربية - الخامسة - التي وقفتُ عليها في الخزانة العامة بالرباط في المغرب: فرغتُ من النظر فيها ومن خدمتها للطباعة - سوى مراجعات يسيرة - في مدينة فان كوفر من كندا سنة 1409. ثم لم يتيسر في إتمام إنجازها لشواغل علمية، وأسفار اضطرارية، إِلا في مدينة تورنتو من كندا أيضاً سنة 1414، فأكرمني الله تعالى بإتمام خدمتها وإكمال نَضْرَتها على الوجه الذي يراه القارئ الكريم. راجياً من الإخوة المستفيدين دعواتِهم، ومن الأفاضل العلماء المفيدين إفاداتِهم، والله يجزي المحسنين، والحمد لله رب العالمين.

بيان رأي طائفة من علماء السادة المالكية في الإشكال الواقع في كلام الإمام القرافي

بيانُ رأي طائفة من علماء السادة المالكية في الِإشكال الواقع في كلام الإِمام القرافي تقدم في ص 121 عند قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قَتَل قتيلاً فله سَلَبُه"، قولُ الإِمام القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: (قال مالك: هذا تصرُّفٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإِمامة، فلا يجوزُ لأحدِ أن يَختَصَّ بسَلَبِ إِلَّا بإذن الإِمام في ذلك قَبْلَ الحرب، كما اتَّفق ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وذكرتُ هناك تعليقاً أنَّ في قول القرافي: (قَبْلَ الحرب) إشكالاً، وهو أن مذهب الإِمام مالك - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: لا يجوزُ للإمام التنفيلُ إِلا بعدَ الحرب، فهذا القولُ هنا (قبلَ الحرب) مشكلٌ ومعارِضٌ لما تقرَر في مذهبه، وأني سألتُ عنه طائفة من كبار علماء السادة المالكية، وراسلتهم، فكاتبوني وأجابوا بأجوبة كثيرة، وكلامِ طويل، فرأيتُ إثبات كلامهم وإجاباتهم بآخر الكتاب، نظراً لطولها، ولئلا ينقطع اتصالُ الكلام بفاصلِ طويل جداً، فها أناذا أوردُ ما قالوه مشكورين. وأوَّلُ من سألتُه وراسلته في ذلك العلامةُ الجليل، والفقيه المحدِّث النبيل سماحة الشيخ محمد الجَوَاد الصِّقِلِّي عميدُ كلية الشريعة في مدينة فاس بالمغرب - رَحِمَهُ اللهُ - تعالى (¬1)، وكانت رسالتي إليه من مدينة الرياض، في 2 من صفر سنة 1389، فأجابني بما يلي، مُضفياً علي بعضَ الأوصافِ اللائقةِ به، عملاً بتواضعه الجم، وأدبِه الرفيع الذي عُرف به ساداتنا العلماء المغاربة، قال: ¬

_ (¬1) توفي الشيخُ الجليلُ - رحمةُ الله تعالى - عليه ليلةَ عيد الفطر من عام 1392.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم إلى سماحة العلامة المحقق سيدي الفاضل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وبعد، فالجوابُ عن استشكالكم قولَ القرافي في "الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام": (فلا يجوز لأحدٍ أن يَختصَ بسَلَبٍ إِلا بإذن الإِمام في ذلك قَبلَ الحرب، كما اتَّفَقَ ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). بما بينتموه في سؤالكم. الجوابُ عن ذلك هو أن الإمام مالكاً يقول: إنه لا يَستحق القاتلُ سَلَبَ القتيل إِلَّا بإذن الإمام، وإنه لا يَجُوزُ أن يقول الإمامُ قبلَ الحرب: (من قتَل قتيلاً فله سَلَبُه)، وإنما يجوز بعدَها. نَعَمْ إن قال ذلك قبلَ الحرب مضَى القولُ المذكور كان لم يَجُز، لأنه بمنزلةِ حُكمٍ بمختَلَفٍ فيه، إذ ثَمَ من أجازه كالإمام أحمد بن حنبل وأبي حنيفة. وعليه: فلو زاد القرافيُّ (ولَوْ)، بحيث تكون العبارة هكذا: (إِلَّا بإذن الإمام في ذلك ولَوْ قَنلَ الحرب)، لكان حسناً، ويكون قولُه: (كما اتفَق ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) راجعاً إلى ما قبلَ المبالَغَة. وأحسَنُ من هذا أنْ لو حذَفَ قولَه (قَبْلَ الحرب)، فيكون كلامُه شاملاً لما إذا وقع إذنُ الإمامِ بعدَ الحرب أو قبلَها. ولكن حيث إنه ذَكَرَ هذا اللفظَ وهو (قَبْلَ الحرب)، بدون زيادةِ (ولو)، فكلامُه ليس غلطاً، وغايةُ الأمر أنه صرَّح بالمُتَوَهَم، وهو إذا كان الإِذنُ قبلَ الحرب، فيكون غيرُهُ - وهو إذا كان الِإذن بعدَ الحرب - أولَى وأحرى. وعليه فقولُه: (كما اتفق ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) راجعٌ إلى الِإذنِ لا بقيدِ كونه قبلَ الحرب، إذْ إِذنُ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعدَ الحرب لا قبلَها. وبيانُ الأخروية المذكورة - أي البعديَّة - هو أنه إذا كان القاتل يختص بسَلَبِ

القتيل، فيما إذا كان إذنُ الإمام حَرَاماً بأنْ كان قبلَ الحرب، فلأَنْ يَختَصَّ به فيما إذا كان إذنُ الإِمام جائزاً بأن كان بعدَ الحرب من بابِ أولى وأحرى. وأمَّا إبدالُ لفظ (قَبْلَ) بلفظِ (بَعدَ)، فهو غيرُ صحيح، لأنه يقتضي أنه لا يَختَصُّ القاتلُ بالسَّلَب إِلَّا إذا كان إذنُ الإمام بعد الحرب، وأمَّا إذا كان قبلَها فلا يَختصُّ به، وليس الأمرُ كذلك كما علمتم. لا يُقالُ: إنَّ هذا يَرِدُ أيضاً على عبارته، فيقتضي أنه لا اختصاص إِلا إذا كان الإِذنُ قبلَ الحرب، وأمَّا إذا كان بعدَها فلا، لأنَّا نقول: هذا غيرُ متَوهَّم، فضلاً عن أن يكون مقتضىَ للأخروية المتقدمة. كما أنَّ كونَ عبارة القرافي صحيحةً لروايةِ في المذهب تُقرِّرُ ذلك، واختارها القرافي فهو أيضاً غيرُ صحيح لوجهين: الأول: أنه لا وجود لهذه الرواية أصلاً، وإنما هو قولٌ لبعض أشياخ المذهب المالكي، حسبما ذَكَر التلمسَاني ونَقَلَه عنه الرُّهُوني في "حاشيته على الزرقاني" 3: 163. الوجهُ الثاني: أنه لو كانت هذه الرواية موجودة واختارها القرافي، لكان كلامُه فاسداً، لأنه يقتضي أنه لا يَختَصُّ القاتلُ بالسَّلَب إِلا في صورة واحدة من صُورَتَيْ الجواز، وهي ما إذا كان الِإذنُ قبلَ الحرب، دون الصورة الثانية، وهي ما إذا كان الإِذنُ بعدَ الحرب، مع أنه لم يقل أحدٌ بعدمِ اختصاص القاتل بالسَّلَب إذا كان الإِذنُ بعدَ الحرب. هذا ما ظهر لي في المسألة، والله أعلم بالصواب. وتقبلوا أطيبَ تحياتي وفائقَ احترامي، والسلامُ عليكم ورحمة الله. فاس - كلية الشريعة 25/ 2/ 1389 محمد الجواد بن عبد السلام الصِّقِلِّي الحُسَيني. وراسلت في شأن هذا الإشكال في عبارة الإِمام القرافي، صاحبَ الفضيلة الأجل والعلامة الكبير الفقيه الأصولي المالكي، سماحة الشيخ صالح موسى شرف - رَحِمَهُ اللهُ -

تعالى، عضو جماعة كبار العلماء في الجامع الأزهر، وأستاذ الدراسات العليا فيه، أوَّلاَ بواسطة الأخ الفاضل الأستاذ محمد فؤاد البَرَازي وفقه الله، وكان في حينها أحَدَ طلحة الشيخ وملازميه، فأجابني بما سيأتي، ثم راسلته ثانياً مباشرةً بيني وبينه، فأجابني بجواب آخر، وهذا نصُّ الجواب الأول منهما، الذكره تفضل به: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ومولانا محمد رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحابته ومن تَبعَ هديَه إلى يوم الدين. وبعد، فإلى تلميذنا الوفيّ الأستاذ الشيخ فؤاد البَرَازي، أكتب هذه الرسالة التي بَعَثَ بها إليَ، يَستفهم فيها عن سَلَب القتيل لمن يقتله، وذلك بتكليف له من شيخه العلامة المفضال الشيخ عبد الفتاح أبي غدة، الذي أراد أن يستوثق من قول الإمام القرافي المالكي في هذا الموضوع. أقول وبالله التوفيق: إنَّ للإمام أو أميرِ الجيش أن يُرغب المقاتلين في القتال للعدو، فله أن يُنَفل بعضَهم للمصلحة، بشرط أن يهون هذا النَّفَل من خُمس الغنيمة لا من الأربعة الأخماس التي خُصِّصَتْ للمجاهدين، فله أن يقول - بعدَ انقضاء القتال -: من كان منكم قَتَل قتيلاَ فله سَلَبُه. وهو ما يُوجَدُ مع القتيل حالَ الحرب، من فرسه ودرعه وسيفه ورمحه ومِنطقتِهِ وما شابَة ذلك من السلبِ المعتاد، دون ما ينفردُ بعضُ العظماء من سِوارٍ وتاجٍ على القول المشهور في المذهب. هذا، ولا يجوز للإمام قبلَ انقضاء القتال أن يقول: من قتَل قتيلاً فله سَلَبُه، لأنَّ ذلك قد يَصرفُ المقاتلين عن نيَّة الجهادِ في سبيل الله، فيصيرَ قتالُهُ لا ثواب فيه، وقيل: إن قول الإِمام ذلك قبلَ انقضاء القتال ممنوع، ولكنَّ المعتمد كراهةُ ذلك، لأنَّ القتال لأجل الغنيمةِ ليس حرامًا، بل خلافُ الأكمَل. وقولُه ذلك (¬1) فيه تجوُّزٌ من الماضي إلى المستقبل، أي من يقتُل قتيلاً فله سَلَبَهُ، ¬

_ (¬1) أي قول أمير الجيش: (من قتَل قتيلاً) بصيغة الفعل الماضي.

بخلاف ما لو قال ذلك بعدَ انقضاء القتال، فالماضي على حقيقته. وإذا تعدَّد مقتولُه فله سلَبُ الجميع. هذا، ولا يجوز لغير الإمام أو أمير الجيش أن يُنَفِّل شيئاً من خُمُس الغنيمة، لأنَّ هذا موكولٌ لهما فقط، بما يريانه من المصلحة، كما أنه ليس للقاتل من نفسِه أن يَختَصَ بشيء من سلبِ من قتله بدونِ إذنِ الإِمام له بذلك، أو بقوله: من قَتَل قتيلاً فله سَلَبُه، كما أن ذلك ليس مختصاً بالقتال في عصر الرسول - عليه الصلاة والسلام -، بل هو جائز في كلِّ قتال يَدُور بين المسلمين وأعداءِ الإِسلام، يُشترط أن يكون القولُ بعدَ انقضاء القتال، أمَّا قبلَه فمكروه كما تقدم أو ممنوع، روايتان عن الإِمام مالك، ولكن المعتمدَ في المذهب الكراهة. هذا، ولا يكون السَّلَبُ لامرأةٍ أو صبيٍّ أو شيخٍ فانٍ أو راهب، إِلا إن اشتركوا في القتال، والله أعلم. صالح موسى شرف المالكي عضو جماعة كبار العلماء وأستاذ الدراسات العليا بجامعة الأزهر المَرَاجع: 1 - كفاية الطالب الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني. 2 - حاشية الشيخ علي الصعيدي على هذه الرسالة. 3 - الشرح الصغير على متن خليل للشيخ الدردير. 4 - حاشية الصاوي على الشرح المذكور. 5 - حاشية الدُّسُوقي على الشرح الكبير للشيخ الدردير على متن خليل. 6 - نقولٌ عن سُحنون، عبد الباقي، ابن حبيب، ابن القاسم، المدوَّنة حول هذا الموضوع. انتهى نصُّ جوابه الأول، وهذا نصُّ جوابه الثاني الموجَّهِ منه إليَّ - مع الإِعراض عما أسبغه عليَّ فيه من ثناء وتكريم، والله يغفر لي وله -:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نَحمَدُه سبحانه وتعالى ونشكره على فضله ونَعْمائه الجزيلة، التي لا تُحصَى ولا تُعَد، ونصلي ونُسلم على سيدنا ومولانا خاتم الأنبياء والمرسلين، محمدِ بن عبد الله الذي أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحابته ومن تَبعَ هديَه إلى يوم الدين. وبعد، فإلى صاحب الفضل والفضيلة، العالم الجليل، الذي وهبه الله علماً نافعاً وقلباً خاشعاً، ونوراً ساطعاً، وبسطةَ في العلم، الإِمام الجليل الشيخ عبد الفتاح أبي غدة، أكتبُ هذه الرسالة، رداً على رسالته فأقول وبالله التوفيق: وعليكم سلام الله ورحمته وبركاته. لقد وصلتني رسالتكم الكريمة، المؤرَّخَة في 9/ 5/ 1398، رداً على رسالتي التي حَمَّلتُها لابننا وتلميذنا الشيخ فؤاد البَرَازي، الذي بلغني عن سعة علمكم في المعقول والمنقول الشيءَ الكثير. أمَّا من خاصَّةِ مما جاء في كتاب القرافي، نقلاً عن إمامنا الجليل الإِمام مالك - رضي الله عنهما - ونفعنا بعلمهما، فإنَّ عبارته سليمةٌ لا غبار عليها، وقولَه في النَّفَل: (لا يجوزُ لأحدٍ أن يختص بسَلَبٍ إِلَّا بإذن الإِمام في ذلك قبلَ الحرب ...) إلى آخره، معناه أنه لا يجوز لغير الإِمام أن يَأذن قبلَ الحرب باختصاص سَلَب القتيل. فقولُه: (قبلَ الحرب) ليس متعلقاً باختصاص السَّلَب، وإنما هو جار ومجرور، متعلقٌ بإذن الإِمام، ويكون معنى العبارة أنَّ للإِمام أن يأذن قبلَ بدءِ القتال بأنَّ من قَتَلَ قتيلاَ فله سَلَبُه، فالإِعلامُ لا يكون إِلَّا من الإِمام - ومثلُهُ نائبُه - قبل الحرب. وأمَّا تملكُ السَلَب والإختصاصُ به يكونُ بعدَ انتهاء القتال، هكذا كان يَفعلُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابتُهُ مِن بعدِه، لعلمهم أن المقاتلين في هذا العهد لم تَشغلهم الأموال ولا الأولاد عن الجهاد في سبيل الله، لتكونَ كلمةُ الله هي العليا، فكان إذنُ الإِمام قبلَ الحرب بأنَ من قتَل قتيلاً فله سَلَبُه (¬1)، لا يَصرفُهم عما خرجوا لأجله، من ¬

_ (¬1) تُفيدُ عبارةُ الشيخ هنا أن الِإذن من النبي - صلى الله عليه وسلم - بسَلَب القتيل لقاتله صَدَر قبلَ القتال، وهو خلاف الواقع، إنما كان بعد القتال كما في حديث أبي قتادة وشرحِهِ في قصة حُنَين، في فتح الباري 6: 274، وشرح صحيح مسلم 58:12.

نصرة دين الله وإعلاءِ كلمته. ثم لمَّا ضَعُفَتْ النفوس، وشُغِلَت بمُتَع الحياة الدنيا وزخرفها، رأى بعض الفقهاء ومنهم المالكية: أن الإِذن يُكرَهُ قبلَ الحربِ أو في أثناء القتال، خوفاً من أن تُشغَل هذه النفوس بالسَّلَب، فينصرفوا عفا خرجوا لأجله، فيكون قتالهم لأجل هذا السَّلَب. هذا ما وقفتُ عليه في أمهات كتب المالكية، وقد سَبَق أن ذكرتُ لسيادتكم في رسالتي السابقة أنَّ هذا الِإذن ليس خاصاً بعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو متروك للإِمام أو نائبِه في أي عصر، كما ذكرتُ أيضاً أنه ليس لغير الإِمام أو نائبه أن يأذن في ذلك. ومن هذا يُعلم أن نَقْلَ القرافي صحيح، متفِقٌ مع المذهب، من أن الإِعلام يكونُ قبلَ بدءِ القتال، حينما كانت النفوس صافية، لا يُلهيها مالٌ ولا ولد عن نُصرة الدين والقتالِ لأجله، حتى إن بعض الصحابة لا يهمه أن تقتُلَ أباه الكافر أو ابنَه كذلك، لأنَّ الِإيمان عند هؤلاء كان أغلى وأبقَى من رابطةِ النَّسَبِ والقُربَى. ثم لقَا ضَعُفَتْ النفوس وشُغِلت بمَتَاع الحياة من مالي وسلاح، خِيفَ أن يكون الإذنُ قبلَ الحرب داعياً إلى قتالهم لأجل هذا السَّلَب. وعلى كلِّ فالتملُّكُ للسَّلَب بعدَ انتهاء الفتال، إذْ لا يُعقَلُ أن يكون قبلَ الحرب. والله أعلم. الحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. كتبه بخطه الفقيرُ الراجي عفوَ ربه وحُسنَ ختامِه، تحريراً في 23 من جمادى الأولى 1398، الموافق 1/ 5/ 1978. صالح موسى شرف عضو جماعة كبار العلماء وأستاذ بالدراسات العليا في كليات الجامعة الأزهرية الإِسلامية والعربية. ورأيتُ بعدَ هذه الإِجابات الثلاث ممن سَمَيتُ من فضلاء علماء السادة المالكية: أن أنقُلَ طائفة من النصوص من كتب فقه السادة المالكية، لاستكمال الوقوف على هذه المسألة، مكتفياً بثلاثة نصوص من كثير نحوِها، فإن كتب المذهب المالكي بالمتناول لمن أرادها.

1 - جاء في "المقدمات الممهِّدات" للإِمام ابن رُشد الجد 1: 269 من طبعة الساسي، قولُه - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -:"ولا يَرَى مالك - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - للإِمام أن يُنَفلَ قبلَ القتال، لئلا يَرغب الناسُ في العطاء، فتَفْسُدَ نيَّاتُهم في الجهاد، فإن وقع ذلك مَضَى، للإختلافِ الواقعِ في ذلك والآثارِ المروية فيه". 2 - وجاء في "المنتَقَى" شرح "الموطأ" للإِمام أبي الوليد الباجي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - عند شرح حديث أبي قتادة، وقد شرحه شرحاً أطيب من قَطْر الندى، قولُه في 3: 190:"والذي ذهب إليه مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك بعد أن بَرَد القتال. والدليلُ على أن هذا القول إنما كان بعد الفراغ من القتال ... ". ثم ذكر أربعة وجوه تدل على ذلك. جاء في الوجه الثالث منها قولُهُ: "لا خلاف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك بعد الفراغ ورجوع الناس من الهزيمة، وهذا يدل على أنه لم يُرِد به التحريض، ولو أراد به التحريض على القتال ذلك اليوم لقاله في أول القتال وقبل الهزيمة. وجاء في الوجه الرابع منها قوله: " ... وإذا قال ذلك الإِمامُ بعد تقضي الحرب كانت النيات قبله سليمة صحيحة، ولم يقاتل أحد إلَّا لتكون كلمة الله هي العليا، وإذا قاله في أول القتال أثر ذلك في النيات، وعرَّضَ الناسَ ليقاتلوا لما يَحصُل لهم من السَّلَب". 3 - وقال العلامة خليل في "مختصره" في باب الجهاد "ونَفّل - أي الإِمام - منه - أي من خُمُس الغنيمة - السَّلَبَ لمصلحةِ. ولم يَجُزْ إن لم يَنْقَضِ القتالُ: - قولُ - مَنْ قتل قتيلاً فله السلب. ومَضَى إن لم يُبطله قبل المَغْنَم". جاءَ في شرحه "جواهر الإِكليل" لصالح عبد السميع الآبي الأزهري 1: 261 تعليقاً على قول خليل: (ولم يَجُزْ) للإِمام، نصُّ المدؤَنة: يُكْرَهُ، فأبقاه بعضهم على ظاهره، وحمَلَه غيره على المنع. (إن لم يَنقضِ القتالُ) صادقٌ بأثنائِه وقبلَه، وفاعِلُ لم يَجُزْ - لَفْظُ - (من قتَل قتيلاً فله سَلَبُه) أي هذا اللفظُ، لإِفساد نياتهم بالقتال للمال، ولتأديه إلى تحامُلِهم على القتال، وقد قال عمر - رضي الله عنه -: لا تُقدِّموا جَمَاجِمَ المسلمين إلى

الحصون، فلَمُسْلِمٌ أستبقيه أحَبُّ إليَّ من حِضنِ أفتَحُه. (ومَضَى إن لم يُبطله) الإِمامُ أي قولَه: من قَتَل ... (قبلَ حَوْز المغنم) بأن لم يُبطله أصلاً، أو أبطله بعده. فإن أبطله قبله أي أظهر الرجوع عنه قبله اعتُبِر إبطالُه فيما يُقتل بعده، لا فيما قُتِلَ قبله، ولا يعتبر إبطاله بعده، فيستحق من فَعَل شيئاً من الأسباب ما رتبه عليه الإِمام ولو كان من أصل الغنيمة حيث نَصَّ عليه، فإنْ نَصَّ على أنه من الخمس أو أطلق فمنه". انتهى. هذا، وبقي شيء يتصل بالمقام يَحسن التنبيه إليه، وهو أنه لمَّا جاء في "صحيح مسلم" بشرح الإِمام النووي 58:12، عند حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - في وقعة حُنين، وقولِهِ: " ... ثم إنَ الناس رجعوا وجَلَس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من قتَل قتيلاً فله سَلَبُه". قال الإمام النووي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "اختلف العلماء في معنى الحديث، فقال الشافعي ومالكٌ والأوزاعي .. يَستحق القاتلُ سَلَبَ القتيل في جميع الحروب، سواء قال أميرُ الجيش قبل ذلك: من قَتَل قتيلاً فله سلبه، أم لم يقل ذلك. وهذه فتوى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخبارٌ عن حكم الشرع، فلا يتوقف على قول أحد. وقال أبو حنيفة ومالكٌ ومن تابعهما - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -: لا يَستحق القاتلُ بمجرَّدِ القتل سَلَبَ القتيل، بل هو لجميع الغانمين كسائر الغنيمة، إِلَّا أن يقول الأميرُ قبلَ القتال: من قَتَل قتيلاً فله سَلَبُه، وحملوا الحديث على هذا، وجعلوا هذا إطلاقاً من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس بفتوى وإخبار عام". انتهى كلام الإمام النووي. وفيه إقحامُ (مالك) في الرأي الأول خطأً من الناسخ، إذ قد جاء ذِكرُهُ في الرأي الثاني أيضاً مع أبي حنيفة، وإن كان ذِكْرُهُ في الرأي الثاني فيه نظر أيضاً، لأن مالكاً يمنعُ التنفيلَ قبلَ القتال أو يكرهه كما تقدم نقله عن "جواهر الإِكليل" في ص 277. وقد أجاد الإِمام ابن قدامة الحنبلي عَزْوَ مذاهب الأئمهّ الفقهاء في هذه المسألة، فقال في كتابه "المغني" 10: 426: "الفصل السادس: أن القاتل يَستحقُّ السَّلَب، قال ذلك الإِمامُ أو لم يقُل، وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور.

وقال أبو حنيفة والثوري: لا يستحقه إِلا أن يشرطه الإمام له. وقال مالك: لا يستحقه إِلا أن يقول الإمامُ ذلك، ولم يَرَ أن يقول الإمامُ ذلك إِلا بعد انقضاء الحرب، على ما تقدم من مذهبه في النَّفَل، وجعلوا السَّلَب هاهنا من جملة الأنفال. وقد رُوي عن أحمد مثلُ قولهم". انتهى ما أردتُ ذكرَه في هذا الموضوع.

إلحاقة متصلة بترجمة الإمام القرافي -رحمه الله تعالى-

إلحاقةٌ متصلة بترجمة الإِمام القَرَافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - ذكرتُ في أواخر ترجمة الإمام القرافي ص 25 - 26 مهارتَهُ في صُنع الساعة العجيبة، وأشرتُ تعليقاً هناك إلى أن هذه المهارةَ وأمثالَها وأشباهها حينما توجد في أفرادِ من العلماء، تزيدُ في رفعة شأنهم وعظيم مآثرهم، وأشرتُ إلى أن مِثلَ هذه المهارةِ وأعجَبَ منها كان يتمتع بها ويتميزُ بها الأستاذُ الفاضل الكريم الصَّنَاع العجيب الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الأنطاكي ثم الحلبي، صديقي وصاحبي وأكبرُ أنجال شيخي العلامة الكبير الشيخ محمد زين العابدين - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -، المولود بأنطاكية سنة 1330، والمتوفى بحلب سنة 1410. وقد كان للشيخ عبد الرحمن مع شيخنا العلامة الجليل والفقيه الأَفيْق النبيل سيدي الشيخ مصطفى الزرقا حفظه الله تعالى ورعاه صداقةٌ متينة، وصحبةٌ عميقةٌ مكينة، تتحلَّى بوَخدَة الحال ورفع التكلف، وقد شاهد شيخنا أمتع الله به، من مزايا الشيخ عبد الرحمن ومهاراتِهِ الفائقة مآثرَ كثيرة، شَهِدَها وحَضَرها من أولها إلى آخرها، فرجوتُ من شيخنا أحسن الله إليه أن يُسجَّلَ في بقلمه البليغ الدقيق ما شاهده من تلك العجائبِ الغرائبِ، والحقائقِ الدقائق، لأدرِجَهُ عند ترجمتي للإِمامِ القرافيَّ: الِإمامِ الفقيهِ الأصوليِّ الصَّنَاعِ المُبْدعِ العجيب، وللوفاء بحق الأُخوَّة والصداقة للشيخ عبد الرحمن بَعْدَ رحيله لدار الكرامة، فوَعَدني شيخنا بالِإجابة هاشَّاً باشَّاً للكتابة في تلك المهارة، نظراً لما كان بينه وبين الشيخ عبد الرحمن من المودة الأكيدة والصداقة العتيدة، ولكنَّ شيخنا سلمه المولى كانت أعمالُه العلمية أوسعَ من أوقاته الزمانية، فلم يتمكن من كتابة ما رجوته منه إلَّا بعد مطالبات كثيرة مني، ومتابعاتٍ جاوزت السنتين، حتى يشر الله وأعان، فكتب هذه الترجمة المتعلقة بجانبِ من نبوغ الشيخ عبد الرحمن، وأتحفني بها في يوم 10/ 5/ 1413 بالرياض، فأنا أوردُها كما دَبَّجها قلمُه الرفيع وبيانُه البديع. وأضفتُ إليها نبذةً واحدةً من جمهرة ما كان للشيخ عبد الرحمن من عجائب المهارات.

الأستاذ الشيخ: عبد الرحمن زين العابدين الكردي (كما عرفته)

واللهَ أسألُ أن يُسبغ عليه الرحمة والرضوان، ويُسكِنَهُ رفيعَ الجنان، بمنه وكرمه، إنه سميع مجيب. وإليك مقالة شيخنا المشار إليها: الأستاذ الشيخ: عبد الرحمن زين العابدين الكُرْدِي (كما عَرَفتُهُ) والدُه الشيخُ محمد زين العابدين الكُرْدِي - رَحِمَهُ اللهُ -، وأسرتُهُ كلها زوجاً وأولاداً، هم في الأصل من أهل أنطاكية، وهي مركز قضاء تابع ومرتبط بلواء الإِسكندرون، الذي هو أحد الألوية التابعة لولاية (محافظة) حلب في التقسيمات الإِدارية للدولة العثمانية. ثم بعدَ الحرب العالمية الأولى وانفصالِ البلاد العربية عن الدول العثمانية التي انكسرت في تلك الحرب، استمر هذا الترتيب الإداري في العهد الفيصلي، حيث حَكَم بلادَ سورية ولبنان من بلاد الشام الأميرُ فيصلُ بنُ الحسين. وقد كان والدُه الشريف حسين بن علي حاكمُ الحجاز التابعُ للدولة العثمانية قد ثار على الدولة العثمانية في أواخر الحرب العالمية الأولى، حين أقنعه الإِنجليز وأطمعوه بأنهم سيولّونه حُكمَ البلاد العربية، التي ستنفصل عن الدولة إذا خسرت الحرب. فثار على الدولة العثمانية متعاوناً مع الحلفاء ضدها، مما عَجَّل بانكسارها وتقسيم ممتلكاتها. وحينئذِ تولَّى الحُكمَ في سورية ولبنان الأميرُ فيصل بن الحسين قُرابَة سنتين، حتى تَمَّ التفاهُمُ بين بريطانيا وفرنسا على اقتسام البلاد العربية، وكانت سورية ولبنان لفرنسا، وضربوا بوعدهم للشريف حسين عُرْضَ الحائط!! فزحف الجنرال غورو على دمشق وفَرَّ الأمير فيصل، فأقامه الإِنجليز مَلِكاً على العراق، واستقرَّ الحُكمُ الإستعماري لفرنسا في سورية ولبنان في عام (1920 م). وظَل لواءُ الِإسكندرون وما يضمُّه من أنطاكية وسواها تابعاً لمحافظة حلب سنواتِ، بعدَ الإحتلال الفرنسي لسورية ولبنان، ثم عَقَد الحلفاء مع مصطفى كمال - (القائد التركي الذي جَمَع جيشًا تركياً لطرد الحلفاء وذيولهم من البلاد التركية) - صَفْقَةً لكي يعلن إلغاء الخلافة العثمانية، ويَطْرُدَ أسرتها، ويُنفذَ بَرنامَجاً لقطع جذور العربية والإِسلام في البلاد التركية، وهدمِ الجسور مع البلاد العربية المنفصلة، وإعلانِ تركيا دولة علمانية لقاءَ دعم الحلفاء له في أن يكون حاكماً مطلقاً فيها.

مواهب الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الفريدة

وبعد أن تَمَّ لمصطفى كمال تنفيذُ هذه الصفقة، ومنها إلغاءُ الأذان باللغة العربية، وتغييرُ كتابة اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية (حتى كتابة المصاحف)، وتغييرُ أسماء الأشخاص الأتراك الذين أسماؤهم عربية إلى أسماء طُوْرَانِيَّة، وتسمَّى هو (أتاتورك) بدلاً من (مصطفى كمال): اتفَقَتْ فرنسا على أن تتخلى لتركيا عن لواء الإِسكندرون بكامله (ومنه قضاء أنطاكية وما يتبعها)، فسُلِخَ لواء الإِسكندرون عن سورية وأُلحِق بتركيا الحديثة، وطُبَّق فيه نِظامُها العلماني الجديد، ومنه فَرضُ اللباس الِإفرنجي، والقُبَّعَةِ الأوروبية (البرنيطة)، وفَرضُ الحُسُورِ على النساء، ومنعُ تغطية رؤوسهن بغير البرنيطة الإِفرنجية ... إلخ. وكان في أنطاكية إذ ذاك عالِمُها الصالح ومرْجِعُها الديني الشيخ محمد زين العابدين الكردي، فهاجر بأسرته وأولاده من أنطاكية إلى حلب، واستقروا فيها حفاظاً على دينهم. وكان له عدد من الأبناء أبرزَهُم الشيخُ عبدُ الرحمن (موضوع كلمتي هذه والشيخ محمد أبو الخير) - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -، وكانا إذ ذاك من طلاب العلوم الشرعية المتميزين بحُسنِ فهمهم. وقد عُهِدَ إلى والدهم الشيخ محمن زين العابدين بتدريس التفسير والحديث النبوي في المدرسة الشرعية، التي افتُتحَتْ في حلب، أول العِشْرِينيَّات من هذا القرن الميلادي (القرن العشرين)، عقِبَ احتلال الفرنسيين لسورية ولبنان كما أشرتُ إليه آنفاً، وكان اسمها المدرسَةَ الخُسْرُوِية (نِسبةَ إلى خُسْرُو باشا من رجالات الدولة العثمانية وهو بانيها)، وكنتُ أنا من الرعيل الأول الذي دخلها للدراسة بعدَ ترميمها وافتتاحها، فقد تعطل فيها التدريس خلال الحرب العالمية الأولى، وأصبحَتْ أثناء الحرب ثُكْنَةَ عسكرية، لموقعِها المهم بجانب قلعة حلب، ومزاياها وسعةِ ساحاتها وكثرةِ أجنحتها وغُرَفها. مواهب الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الفريدة كان الشيخ عبد الرحمن - إلى جانب حسن تحصيله ومداركه الدقيقة في العلوم الشرعية - يتمتع ويتميز بين إخوته بمزايا ومواهب فريدة، وبعضُها عجيب ونادر جداً: 1 - فقد كان حديدَ البصر يُميِّزُ بعينه المجردة دقائق الأشياء التي يَحتاج كثيرٌ غيرُه

في تمييزها إلى مكبِّرة، وإلى جانب ذلك كان دقيق الملاحظة في الفوارق بين الدقائق المتشابهة في الآلات الصغيرة وخصائصها. 2 - وكان منذ شبابه يحب الرياضة البدنية والمشي الطويل. وكان صَيَّاداً ماهراً، يَخرُج إلى الصيد مشياً في مواسمه المختلِفة في البراري والجبال وحَافَاتِ الأنهار: فيصطاد بالبندقية النارية من الطيور البَطَّ البري في حَافَاتِ الأنهار، والحَجَل في الجبال، والأطْرُغْلاَت في الرَّبِيع. ومن الحيوانات يصطاد الأرانب والغِزلان. ويَرمي الطيور وهي طائرة، والحيوانات وهي راكضة، فلا يُخطئها إلَّا نادرًا. 3 - وكان سَدِيدَ الرماية لحدة بصره وثبات يده، ودقة ملاحظته وحسابه لحركة الأهداف المتحركة. وأحببت يوماً أن أشاهِدَ رِمايتَهُ فتواعدنا على لقاء في المدرسة الشعبانية بحلب (وهي مدرسة وقفية واسعة كان يقوم بتدريس الفقه فيها جدي ثم والدي مدة حياتهما - رَحِمَهُمَا اللهُ -، ثم أنا مُدَّةَ من الزمن، وفيها بُحَيرةُ ماء كبيرة وحديقة وأَرْوِقَة وغُرَف كثيرة للطلاب ومرافق)، فجاء ببندقية (من النوع الذي يُستعمَل في مراكز الرِّهانِ والتدريب على التسديد تَرمِي حَبَّة رَصاص واحدةً صغيرة) وهي من صُنعِهِ صَنَعها بيده، وصَمث حَبَّاتِ رَصاصِها (الخُرْدُق)، وجئنا لأحد أروقة المدرسة، وفي سقوف قناطره سلاسل حديد لتعليق المصابيح، فكان يُصوَّبُ بندقيتَه إلى السلسلة فيرميها بالخُرْدُقَة فتبدأ السلسلة تَلُوح ذهاباً دهاياباً، فيرميها ثانية وهي متحركة فتغيِّرُ اتجاهها أيضاً وهكذا فلم يخطئها بواحدة. ثم جاء بإبرة صغيرة فغرسها بين بلاطتين من الأرض حتى غاب نصفها وبقي نصفها ظاهراً، فابتعد عنها نحو ثلاثة أمتار، ثم صَوَّب البندقية ورماها بالخُرْدُقة فانكسرت الِإبرة وطار نصفُها البارز!!، ثمَّ كَرَّر العملية على إبرة أخرى. ثم أتى بقطعة من الفَخار صغيرة مكسورة، التقطها من حديقة المدرسة، لا تتجاوز مِساحتُها (4 - 5) سنتيمترات، فرَكَزَها في مكان مرتفع بعُلُوّ قَامَةِ الإِنسان، وابتعد عنها نحو مترين أو ثلاثة، وأدار ظهره إلى قطعة الفخار المنصوبة، فوضع البندقية على كتفه الأيمن وفُوَّهتُها إلى الخَلْف، وأَمسَك بمَقْبِضِها الخَشَبي، وأَخرَج من جيبه مِرآةَ صغيرة مستديرة، وأمسَكَها بين إصبعَيْ يده اليُسرى وَرَكَزَها على مَقْبِض البندقية

الخشبية، ونَظَر في المرأة إلى قطعة الفخارِ الهدَفِ مُسَدِّداً إليها (وإبهامُ يُمناه على زِناد البندقية) فضغط عليه وأَطلَق خُردقةَ الرصاص، فطارت قطعةُ الفَخَّار وتساقطَت كِسَراً!!. ثم وَذَعتُه متعجباً من هذه الدقة في تسديد الرماية وانصرفنا. وقد حدَّثني مرَّة - (ولم أُشاهِد) وهو صدوق - أنه يَغرِسُ شَفْرةَ من شَفَرات الحِلاقة في الأرض بين بَلاَطَتَينِ أمامَ جِدار، ويَبتعدُ عنها مقدارَ مترين أو ثلاثة مستقبلاً حد الشفرة، ويُصوِّبُ إليها البندقية، ويَسأل من معه: هل تريدون أن أَقْسِمَ الخردقة التي سأُطلقها على حَدِّ الشَفْرَة نصفينِ أو ثُلُثاً وثُلُثينِ؟ ثم يُطلِقُ عليها الخردقة فتنقسم على حد الشفرة قطعتينِ أنصافاً أو ثُلُثاً وثُلُثينِ كما طلبوا!! وقد كنتُ في وقتِ مَّا خِلالَ عُضْوِيَّتي في المجلس النيابي السوري، المنتخَبِ في الدور التشريعي (1954 - 1958 م)، ذكرتُ لبعض المسؤولين الكبار من قادة الجيش مزايا الأستاذ عبد الرحمن زين العابدين، وخاصَّةَ دقتَهُ العجيبة في تسديد الرماية، واقترحتُ عليه أن يَستفيدوا منه ويعهدوا إليه بتدريب الجنود على الرماية، فلم أجد من يهتم!!. 4 - كان الأستاذُ الشيخُ عبدُ الرحمن المتحدَّثُ عنه إلى جانب مزيته النادرة هذه في الرماية صِنْعاً (¬1) لم أعرف ولم أسمع عن نظير له في صُنع الأشياء الدققة التي تحتاج إلى دقة بالغة، لا تُضبَطُ إلَّا بآلاتِ غايةٍ في الدقة والحَسَاسِيَة. فكان يصنعها بيده الصَّنَاع، ويَضبِطُ مقاييسَها الدقيقة ببصره الحديد، ويستخدم فيها المِيشارَ الدقيق للحديد، والمِبردَ ومختلِفَ أحجار السَّنّ والشَّحْذ، ويستخدم المثاقبَ المتنوِّعةَ الحجوم، التي تَثْقُبُ المَعدِن من حديد أو نحاس أو غيرهما، ثَقباً لا يزيد عن حجم النَّقطةِ الصغيرة كرأس الِإبرة الدقيق فما فوق. ويصنع هو تلك المثاقب من الفولاذ بيده. وقد شاهدتُ كلِّ ذلك منه بخفسي في مختلِف زياراتي له، إذ كنتُ أمكُثُ عنده في الزيارة الواحدة ساعات. ¬

_ (¬1) يقال: رجلٌ صِنعٌ وصَنَعٌ، ورجل صِنْعُ اليدينِ وصَنَعُ اليدينِ: حاذقٌ في العمل باليدين. (عبد الفتاح).

ويستوي في دقة الصنع اليدوي لديه الأشياءُ والآلاتُ وقِطَعُ التبديل (قِطَع الغِيَار) الكبيرةُ بعض الشيء والصغيرةُ التي تَحتاجُ في تمييز أبعادها إلى نَظَّارة مكبِّرة قوية كنظَّارة الساعاتية التي توضع في مَحْجِرِ العين الواحدة. 5 - وقد أراني يوماً مَّا مِيلاً فُولاذياً طُولُه نحو عشرة سنتيمترات أو أكثر، وغِلَظُه لا يزيد عن ثلاثة ميليمترات، وهو مضلَّع طولاً إلى سبعة أضلاع متساوية، اشتغله بيده بالمِبرد، صنعه في البداية مبروماً، ثم بَرَده بالمِبرد فجعله مضلَّعاً سبعةَ أضلاعِ متساويةٍ، لا تجد إذا نظرت بالمكبِّرة فرقاً بين ضلع وآخر ولا قَدرَ شعرة، ولا اعوجاجاً في أحد الأضلاع كأنه خارج من مصنع آلي. وقد نبَّهني إلى الفرق العظيم في السهولة والصعوبة بين جعل أضلاعه زوجية (مثل: أربعة أوستة أو ثمانية) وبين جعلِها فَرْدِية (مثل: ثلاثة أو خمسة أو سبعة أو تسعة) فإخراج أضلاع طولانية متساوية في قضيب مَعدِني هو سهل إذا كانت الأضلاع زوجية متقابلة يتوازى فيها كلِّ ضلع مع ما يقابله كما لو كان باربعة أضلاع أو ستة أو ثمانية مثلاً. أما إذا كانت الأضلاع فردية مثل خمسة أو سبعة أو تسعة، فإن إخراجها متساوية بصنع اليد صعب جدا جداً، فإن التوازي بين كلِّ اثنين من الأضلاع المزدوجة يَجعَلُ من السهل على الصانع الموازنةَ بنيها. وفي خلال الحرب العالمية الثانية انكسر في معمل شركة الغزل والنسيج بحلب تُزسٌ مُسَنَنٌ في أحد الأجهزة، وكان مسنناً في أسنانه تعرُّجٌ وحركات دقيقة، وتوقَّفَ المعملُ ولا يُمكِنُ جَلْبُ بديلِ جديد ولا يُمكِنُ لِحامُه. فذُكِرَ لهم الشيخ عبد الرحمن، فأتَوْه بالمسنَّن المكسور فصَنَع لهم بديلاً عنه كأنه هو حين كان جديدًا، وشَغَّلوا به الجهاز. وكان قَنُوعاً لا يُناقِش في الأجر، فأعطَوْه ثمناً له لو طَلَب عشرةَ أضعافه لما ترددوا في دفعه. وفي خلال الحرب المذكورة أيضاً لجأ إليه صانعو الأحذية (الكندرجية)، إذْ كانوا يَثقُبُون الجلود التزيينية في وجه الحذاء بثَقَّابة صغيرة توضع محل الإِبرة في ماكِنَةِ الخياطة، فتثقب الجلد سطوراً منتظمة. وهي ثَقَّابَةٌ عِبارةٌ عن قَضِيبٍ صغير من الفولاذ، مفرَّغٍ نصفُه الأسفل بشكل أُنبوب، وحافَتُه السفلى المسديرة حادَّةٌ مسنونة، وفي جانبه

فتحة تَخرُجُ منها الأجزاءُ الصغيرة التي تُفرَّغُ من ثَقْب الجلد. وهي على بساطها تَقُوم على هندسةٍ دقيقة، فكانت تنكسر معهم هذه الثَّقَّابات أثناء عملها في ماكِنَةِ خِياطةِ الجلود كما تنكسر إبرةُ الخياطة. فكان يصنعها لهم بكثرة. وقد طلبتُ أنا منه مرةً أن يصنع في واحدة على عيني ويضع لها قَبضةً خشبية لأستعملها في ثَقْبِ ثُقوبِ في حِزام البَنْطَال إذا احتَجتُ، فقام وأنا عنده فأخذ من صندوق القطع قضيباً مَعْدِنياً (سِيْخاً) من (الأسياخ) التي تُثبَتُ على قُطبِ عَجَلاتِ الدرَّاجة الهوائية، لتَسْنُدَ إطارَ العجلة فلا ينضغطَ فتختلَّ استدارتُه عند ركوبها. وهذه (الأسياخ) هي من الفولاذ القاسي القوي، فقص أمامي منه قطعة بطول سنتيمترين، ثم عرضها على نارِ مِصباحٍ كُحُولي حتى حَل سِقَايتها لتَذهبَ قساوتُها، ثم تابَع صُنعهَا أمامي وفرَّغ نصفَها الأسفل بمِثقب من صُنعِه هو، وهكذا تابع صُنعَها مرحلةً مرحلة مما يَطُول شرحُه، وصَنَع لها قَبضةَ خشبيةَ، وركَبط للقَبضةِ سِوَاراً مَعدَنياً واقياً، وأعطاني إياها. وقد استغرق صُنعُها معه مقدار ساعتين!!. 6 - ومن أهم مزاياه التي تميز بها بالبراعة واشتَهر بها: أنه كان (ساعاتياً)، خبيراً بصيراً بالساعاتِ على اختلافِ أنواعها وحُجُومها، يَعرف الآلاتِ الدقيقةَ في الساعة ووظائفَ تلك الآلات، ويُحسِنُ تمييزَ الساعة المتينة الثمينةِ والسخيفةِ السريعةِ العطبِ متى فَتَحها ونَظَر آلاتها. لماذا استعصى على الساعاتية في حلب إصلاح ساعة توقَفت، أو احتاجوا إلى قطعةِ غِيار لها غيرِ موجودة، كانوا يلجؤون إليه فيقوم بإصلاحها، أو يَصنَعُ لهم قطعةَ الغِيار المطلوبة. وقد كنتُ أعتمدُهُ في إصلاح جميع الساعات التي أستعمِلُها سواء اليدوية التي أحملها، أو البيتية التي تعلق على الجدار. وكان يقول في: قلَّما تُسَلَّمُ ساعةٌ إلى ساعاتي ليُصلِحها إلأ ويُحدِثُ بها ضرراً، لأنهم جهلاء، فالساعاتي يجبُ أن يكون خبيراً في علم الميكانيكا، لأنَّ الساعة وعَمَلها قائمانِ على هذا العلم. والساعات النسائية الصغيرة جداً مما لا يتجاوز قُطْرُها الخارجي خمسةَ عَشَر

ميليمتراً، وشممونها ساعة فَاصُولِيَّة (أي حَجْمُها بقدر حجم حبة الفَاصُوْلِياء)، كثيراً ما تنكسر فيها إبرة الرَّقَّاص (وهي مِحوَرُه الذي يكون بغلظ الشعرة)، كانوا يأتون بها إليه، فيصنع للرقَّاص مِحْوَراً من الفولاذ، ويَقُصُّ المكسور ويَثْقُبُ محل المِحوَر بمِثْقَبِه الخاص الذي يصنعه بيده، ويُنزِّلُ فيه المِحور الذي صنعه هو، فتشتغل الساعة!!. 7 - إلى جانب هذا كله كان خبيراً ممتازاً في الأسلحة النارية، من بُنْدُقِيَّاتِ الصيد، إلى المسدَّسات بأنواعها، إلى البُنْدُقيات العسكرية الحربية، من عاديَّة وحَرْكَذِيَّة (أتوماتيكية) (¬1). وقد أَحضَر له شخصٌ بُندقيَّةَ صيد معطلة، قد انكسرت فيها قطعة من أجزائها الحركية، وفُقِدَتْ القطعةُ المكسورة، ولا يُعرَفُ شَكلُها، ولا يُوجَدُ نظيرٌ جديد للبندقية، ليَرى شكلَ القِطعة المفقودة فيَصنَعَ مثلَها. فقال له: اتركها عندي إلى الغد. ثم تأمل في أجزائها، وقَدَّر وتَصَوَّر كيف يجب أن تكون القطعة المفقودة حجماً وشكلاً، لكي تشتغلَ البندقية، وصَنَع القِطعة مستعيناً بكِيْر الحدَّاد لإعطائها شكلها الإِجمالي بالنارِ والمِطْرَقَة، ثم أَكمَل هو في بيته تحريرَها بالصورة النهائية بالمِبْرَد، ثم وَضَعها وثبَّتها في موقع القطعة الأصلية المفقودة، فاشتغلت البندقية!! وجاء صاحبها في اليوم التالي فأعطاه إياها. وكان سديدَ الرماية بالمسدَّس قلَّما يُخطئ الهدفَ الصغير. 8 - ومن مزاياه خِبرَتُه الواسعة العميقة في سِقاية الفولاذ بمختلِف أنواعِ السِّقَاية ¬

_ (¬1) أقترحُ وضعَ كلمة (حَركَذِيَّة) لمعنى (أتوماتيكي) التي شاع استعمالها بلفظها الأجنبي في الآليات، وذلك بطريق النحت والتركيب من كلمتين عريتين هما (حَرَكة) و (ذاتِيَّة) لأن الكلمة الأجنبية (AUTOMATIC أتوماتيك) التي تُوصَفُ بها بعضُ الأجهزة الآلية، معناها: متحرك بذاته، (أي يتحرك ويتوقف ويتحول من اتجاه إلى خلافِه تِلقائياً من ذاته، دون حاجة إلى شخص يحركه وقت اللزوم ويقفه ويحوله). وقد أخذ بعضهم بتعريبها إلى كلمة (أَتْمَتَة) و (أَتْمَتِيّ). وإني أفضل بدلاً من تعريبها هكذا أن ننحت لها من الكلمتين العربيتين (الحَرَكة) و (الذات) فنقول (حَرْكَذَة) و (حَرْكَذِيَّة) كما قال العرب: عَبْشَميّ وعَبْدَليّ، وقالوا: مُحَبْرَم: أي مطبوخٌ بحَبّ الرُّمَّان، وغيرَ ذلك كالمِشلَوْز، للمشمش الذي لُبُّ بِذْرَتِه حُلْوُ مِثل اللَّوْز.

ودرجاتِها، وتختلفُ درجاتُها جداً في كلِّ قطعة بحسب وظيفتها، فقطعةُ الفولاذ متى أُحمِيَت في النار حتى الإحمرارِ تنفأ سِقَايتُها وتَفقِدُ قساوتَها ومُرُونتَها، وبعدَ أن تُطَرَّق وهي حمراء لتاخذ شكلها المطلوب تُطفَأ بالماء - تُسقَى -، فتَقْسُو حتى لا يَعملَ فيها المِبرد (¬1). ففي النوابض مثلاً (الزنبرك) يجب أن تكون قساوتُهُ لأجلِ مُرونتِهِ ذاتَ درجة معينة. فإذا زادت أو نَقَصت لا يَعمَلُ عمَلَه المطلوب بصورة منتظمة. وسِقايةُ الفولاذ يَختلِفُ تأثيرُها جداً بحسب درجةِ حرارة القطعة المُحمَاة حين تُغمَسُ في الماء، وبحسب غَمْسِها كلِّها بسُرعةٍ أو تدريجياً، وبحسب كونها تُسقَى بالماء أو بالزيت. وقد أخبرني يوماً فا أن أقسى أنواع الفولاذ ما يُسمَّى (فُولاذَ الهوَاء)، وهو نوع إذا أُحمِيَ في النار حتى احمر أو ابيض فانفكت سِقايتُه، وأُخرِجَ من النار ليُمكِنَ العملُ فيه بالطَرق ليُصنَعَ بالشكل المطلوب، فإنه بملامسة الهواء يُسقَى ويقسو دون أن يُغمَس بالماء أو الزيت. فصُنْعُ الأدواتِ والآلاتِ الفولاذية القاسيةِ جداً من هذا النوع، هو صعبٌ جداً ويَحتاجُ إلى خِبرة ووسائل فنية وتِقَانَةٍ (¬2) عاليةِ المستوى. ¬

_ (¬1) الفولاذ، ويسمى في الإصطلاح العلمي: (الصُّلْب) يتكون من مَعدِن الحديد والفَخم، وتختلفُ قساوتَهُ ومُرونتُه بحسب نسبة الفحم الذي يدخل فيه. والمرادُ وبالمُرونة أن يكون الشيء إذا ضغطته أو شددته أو لَوَيْتَه فغيَّرتَ وضعَه الذي هو عليه ثم تركته يعود إلى وضعه السابق، مثل النابِضِ (الزنبرك)، وقِطعةِ المَطَّاط. فالحديدُ الخالصُ قليلُ المرونة، فلو لَوَيْتَ قِطعةَ منه تبقى ملوية، وهو قليل القَسَاوة أيضاً، فيُلوَى دون أن ينكسر. أما الزجاج فشديد القساوة قليلُ المرونة، فلو لَوَيتَه ينكسر ولا يُغَيِّر الوضع الذي هو عليه. (¬2) نريد بالتِّقَانة معنَى ما يُسمى في لغة العلم الأجنبية (تكنولوجيا): وهي حُسْنُ تطبيقِ القوانين الطبيعية في العمل، بدقةٍ تامة في كلِّ مجال. وقد عرَّبوها اليوم فأسمَوْها (تَقَنِيَّة): وهي تسمية سَيِّئة ومشتبهة. وقد كنت ارتأيت تسميتَها بالعربية (إِتقاناً) أخذاً من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا عَمِلَ أحدُكم عملاً فليُتْقِنْهُ"، وقولهِ: "إن الله يجب العبدَ المتقِنَ عملَه"، ثم ارتأى الأخ الأستاذ الكريم الشيخ علي الطنطاوي حفظه الله تسميتَها (تِقَانَة) بكسر التاء، لكي تكون لها صِيغةٌ مستقلَّة غيرُ مشتركةِ مع معنى عام، فرأيتُه أفضل.

وقال لي في هذه المناسبة: إنَّ صِناعةَ السيوف هي صناعة عاليةُ المستوى، لأنها تَحتاجُ إلى خِبرة فنية عاليةِ وإتقان، لأن سِقايتها وهي طويلة دون أن يعتري قِوامَها خَلَلٌ أو التواء صعبةٌ جداً. وقد أراني يوماً مُوْسَى من النوع الذي في نِصابه قِطَعٌ عديدة: نَصْلٌ كبير، ونَصْلٌ صغير، ومِفَكُّ بَراغِي، وبعض آلاتِ أخرى صغيرة، وطولُهُ أقلُّ من فِتْر، وهو في غاية الجمال ودقة الصنعة، وقالمالي: هذا فُولاذُه فُولاذُ هواء، وقد صنعتُه كلَّه بيدي!! فقلت له متعجباً: كيف أعملتَ فيه مِبردَك ومِيشَارك وآلاتِك وهو متى أُخرِجَت القِطعةُ المُحمَاةُ منه من النار يَسقيها الهواء فتقسو ولا يَعمل فيه المِبردُ ولا الميشار؟ فقال لي: قد اشتغلتُ نصاله الفولاذية كلَّها بالحَجَر لا بالمِبرد والميشار!!. وقد أُصِيب في أواخر السبعينِيَّات الماضية (بمرض الإكتئاب) فلَزِمَ البيتَ وترك التدريس في المدرسة الخُسْرُويه (الثانويَّة الشرعية بحلب) وسَمِنَ بَدَنُه وترهَّل من عدم الرياضة والحركة. وقد زُرتُه وحاولت إقناعه بالعودة للتدريس فلم أُفلِح. ثم توفي - رَحِمَهُ اللهُ - رحمة واسعة". انتهى مقالُ شيخنا الأستاذ الجليل مصطفى الزرقا حفظه الله تعالى. وأنت تَرى شيخَنا - وهو العلامة الفقيه - في معرفتِهِ وتعبيرِهِ الوافي الدقيق عن هذه المهارات: ماهراً فريداً أيضاً، كأنه من علماء تلك الصناعات. قال عبد الفتاح: وأُضيفُ إلى ما ذكره شيخنا حفظه الله تعالى وأمتع به، في براعة الشيخ عبد الرحمن، في إصابة الهدف وحِذقِ الرماية: ما كان يفعله - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - مع أخيه الأستاذ الشيخ محمد أبو الخير، حين كان صغيرًا يافعاً، فقد كان يُوقفُه بعيداً عنه نحوَ أربعة أمتار، ويضعُ على رأسه قطعة النقد السوري، المسماة بـ (الفَرَنْك) قائماً منصوباً على حَافَتِهِ، ويأمرُ أخاه بأن لا يتحرك أيَّ حركة. فيسكُنُ تمام السكون والفَرَنْكُ على رأسه وهو في غاية الطمانينة، فيُطلِقُ الشيخ عبد الرحمن (الخُزدُقَة) من بُندقيتة، فيطيرُ الفرنك من فوق رأس أخيه، ولا يَمسُّ شعرَهُ باي أثر من آثار الخُزدُقة، وهذا شيء من العَجَب العُجَاب، وعنده من هذا الباب في المهارة بمعرفة السلاح والرماية فيه: ما يُدهِشُ الألباب!!

وكم في الزوايا من خبايا، وحقائقَ مُدْهشاتٍ كالمرايا! وكم لنوابغ الأفراد في العالم من مزايا خاصة في إتقانِ: الرماية، أو اللغات، أو الصناعة اليدوية، أو المهارة الجِسمية، أو الفَطَانةِ الفذَّة العقلية، أو العبقرية الحِفظية: بالنظر أو بالسماع، أو القوة البصرية، أو القوة السمعية، أو سُرعة العَدو القَدَمية، وغيرِها وغيرِها، من مزايا النبوغ في الأفذاذ الأفراد في العالم، لا يُحصيهم إلَّا الله تعالى خالقُهم ورازقُهم سبحانه. وأنا أُشيرُ إلى أسماء أفراد منهم على ترتيب ذِكري المواهبَ هنا، في الأسطر التالية لتنوير الأذهان، ففي الرماية: كالإِمام الشافعي والإِمام البُخَاري والشيخ أمين الحُسَيني مفتي فلسطين - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، فقد كان يكتبُ اسمَه على الجدار بطلَقَات المسدس على أوضح وجه، والشيخ عبد الرحمن زين العابدين، وكالفارابي في معرفة اللغات، وكالإِمام القَرَافىِ والخيَّاطِ في الصناعة اليدوية، وكالمشَّاءِ على الحبل المنصوب في الهواء في المهارة الجسمية، المذكورَيْنِ بقصَّتيهما في مقدمتي لكتابي "صفحات من صبر العلماء"، وكالخليل بن أحمد الفراهيدي وتلميذ سيبويه وخلقِ سواهما في الفطانة العقلية، وكأبي يوسفط القاضي تلميذ الإِمام أبي حنيفة، والإِمام البخاري والدارقطني والحاكم النيسابوري وبديع الزمان الهمَذَاني وخلقِ سواهم في العبقرية الحفظية، وكزرقاء اليمامة في القوة البصرية، وكإبراهيم النَظَّام في القوة السمعية، وكالصحابي الجليل كعب بن مالك وآخَرِينَ من العذَّائين العرب في الجاهلية والإِسلام في سرعة العَدو القَدَمِيَّة إذْ يَسبقون عَنوَ الفَرَس. والله يختص بفضله مِن عِباده من يشاء، ويُودِعُ فيهم من الإِبداع ما يشاء. ولما أخبرتُ شيخنا الأستاذ الزرقا رعاه الله تعالى، بمهارة الشيخ عبد الرحمن في رميه الفَرَنْكَ عن رأس أخيه بالبندقية، ومهارةِ الشيخ الحاج أمين الحسيني رحمهما الله تعالى، تعجَّب جداً، وأخبرني بأعجَبَ وأغرب!! وهو ما شَهِدَه وشَاهَدَه، بعينيه في "السِّيرك": (الألعاب الباهرة) في مدينة إستنبول في صيف عام 1967، فقد شاهد فيه رجلاً رامياً هدَّافاً ماهراً، أقام فتاة صبية أمام جدار من خشب، ووقف بعيداً عنها نحو مترين، وأمامه جملةٌ كبيرة من السكاكين الحادة الكبيرة، فجعل يرميها سكيناً سكيناً على الخشب بلِضق بَدَنِ الفتاة الواقفة تماماً،

حتى رسمها بالسكاكين على الخشب رسماً، من رأسها إلى قدميها، فكأنّه كان بيده قلمٌ مِرسامٌ يرسُمُ به على الورق بإتقان تام وبراعة. ثم فَعَل مثل ذلك بطلقاتِ نارية من مسدس صغير بيده، أطلقها وأحاط بها جسم الفتاة الواقفة إحاطة السوَار بالمِعصَم دون خلل أو خطأ. ثم قام ذلك الرامي الماهر بعمل أدهش وأعجب، فوضع على رأس الفتاة الواقفة على نحو أربعة أمتارِ منه تفاحة، وأخذ بندقيةَ، وأدار ظهره إلى وجه الفتاةٍ، ووجَّه رأس البندقية التي وضعها على كتفه إلى جهة الفتاة، وجعل وجهه إلى مرآةٍ أمامه، وحَدَّدَ الهدف من نظره في المرآة، ثم أطلق البُنْدُقَةَ من بندقيته، فأطارت التفاحة من فوق رأس الفتاة، ولم يُمسَ رأسُ الفتاة بشيء!! انتهى ما شهده وشاهده شيخنا وسمعتُه منه. ومن أبرز العلماء الأعلام الذين لهم مهاراتٌ خارِقَةٌ، إلىَ جانب إمامتهم في العلم والدين: العلامةُ الفقيهُ الحنفي الضليع، الشيخ محمود حمزة الدمشقي نقيبُ الأشراف ومفتي الشام، المولودُ سنة 1226، والمتوفى سنة 1305 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، فإنه كان إلى إمامته في العلم خَطَّاطاً ماهراً دقيقاَ مُتْقِناً عَجَباً، كَتَب في سنة 1267 جميعَ أسماءِ أهل بدر البالغةِ 319 اسم، في ورقة على قَدر فَصّ الخاتم، وكَتَب في سنة 1268 سورةَ الفاتحة، على ثُلُثَيُ حَبَّةِ أَرُزّ، وكَتَب عليها اسمَهُ وتاريخَ الكتابة، كما في ترجمته الحافلة في "الرحلة الحجازية" للشيخ العلامة محمد السَّنُوسِيّ، المتوفى سنة 1318 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - 227:3، المطبوعةِ بتونس سنة 1398، بعناية الشركة التونسية للتوزيع. هذا والأعاجِيبُ لا تنتهي، فإنها من إبداع الله تعالى في الأفذاذ من خَلْقِه سبحانه، وتوجَدُ في كل أُمَّة وقَبِيل.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع 1 - الآداب الشرعية لإبن مفلح الحنبلي. مطبعة المنار 1348. 2 - الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة للكنوي. حلب 1384 والقاهرة 1404 وبيروت 1414. 3 - أحكام السجن ومعاملة السجناء في الإِسلام للدكتور حسن أبو غدة مكتبة المنار في الكويت. الطبعة الأولى 1407. 4 - الأحكام السلطانية لأبي يعلى الحنبلي. مصطفى البابي الحلبي 1356. 5 - الأحكام السلطانية للماوردي. السعادة 1327. 6 - إحياء علوم الدين للغزالي. لجنة نشر الثقافة الإِسلامية 1356. 7 - أخبار القضاة لوكيع. الاستقامة 1399. 8 - اختصار علوم الحديث لإبن كثير. صبيح الثالثة 1377. 9 - إدرار الشروق على الفروق لإبن الشاط. دار إحياء الكتب العربية 1344. 10 - إرشاد الفحول للشوكاني. السعادة 1327 ومطبعة الكتبي 1413. 11 - أساس البلاغية للزمخشري. مطبعة أورفاند 1372. 12 - الأشباه والنظائر لإبن نُجَيم الحنفي. الحسينية 1322. 13 - الإِصابة لإبن حجر. السعادة 1323. 14 - إعلام الموقعين لإبن قيم الجوزية. السعادة 1374. 15 - الأعلام للزركلي. الطبعة الثانية 1378 والخامسة 1399. 16 - إغاثة اللهفان لإبن القيم. مصطفى البابي الحلبي 1357. 17 - الألفاظ الفارسية المعرَّبة لأذَي شِيْر. مكتبة لبنان - بيروت 1980. 18 - الأُمنية في إدراك النية للقرافي. مخطوط، وُصِفَ في ص 61. 19 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني. دار الكتاب العربي 1402. 20 - البداية والنهاية لإبن كثير. السعادة 1351.

21 - البُرْصَان والعُرجان للجاحظ. نشر وزارة الثقافة العراقية 1982. 22 - بلغة المسالك إلى أقرب المسالك للصاوي. بولاق 1289. 23 - البيان والتعريف بأسباب ورود الحديث الشريف لإبن حمزة الحسيني الدمشقي. حلب 1329. 24 - تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي. الخيرية 1306. 25 - التاريخ الكبير للبخاري. حيدآباد الدكن بالهند 1361. 26 - تبصرة الحكام لإبن فرحون، البهية 1302. والتقدم العلمية 1319 والعزو لهذا الكتاب يتبعه رقمان، الأول للبهية والثاني للعلمية. 27 - التحرير في أصول الفقه لإبن الهُمَام. بولاق 1316. 28 - تحفة الأشراف للحافظ المِزِّي. الدار القيمة بالهند، الطبعة الأولى 1386. 29 - تدريب الراوي للسيوطي. طبعة المكتبة العلمية 1379. 30 - تذكرة الحفاظ للذهبي. الطبعة الثالثة حيدرآباد الدَّكَن 1375. 31 - التراتيب الادارية لعبد الحي الكتاني. الرباط 1347. 32 - ترتيب المدارك للقاضي عياض. بيروت 1387 والمطبعة الملكية. بالرباط بالمغرب 1384 وما بعدها. 33 - التسهيل لإبن مالك النحوي ضمن "المساعد على تسهيل الفوائد" لإبن عقيل. طبع مركز البحث العلمي بمكة 1400. 34 - التصوير عند العرب لأحمد تيمور باشا. لجنة التأليف والترجمة 1942. 35 - تفسير ابن كثير. طبعة مصطفى محمد 1356. 36 - تقريب التهذيب لإبن حجر. دار الكتاب 1380. 37 - التقرير والتحبير شرح التحرير لإبن أمير الحاج. بولاق 1316. 38 - تلخيص المستدرك للذهبي. حيدرآباد الدكن بالهند 1334. 39 - تنوير الحوالك على موطأ مالك للسيوطي. عيسى البابي دون تاريخ. 40 - تهذيب التهذيب لإبن حجر. حيدرآباد الدكن 1325. 41 - تهذيب الفروق لمحمد علي المالكي. دار إحياء الكتب العربية 1346. 42 - التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي. بولاق 1286. 43 - جامع الترمذي. مطبعة البابي الحلبي، الطبعة الثانية بتحقيق أحمد شاكر 1398. 44 - الجامع الصغير للسيوطي. طبعة مصطفى محمد 1356. 45 - الجرح والتعديل لإبن أبي حاتم الرازي. حيدرآباد الدكن بالهند 1371.

46 - جواهر الإِكليل لصالح عبد السميع الآبي. مصطفى البابي الحلبي 1366. 47 - جواهر العقود ومعين القضاة لشمس الدين الأسيوطي الشافعي. مطبعة السنَّة المحمدية 1374. 48 - الجواهر المضية في طبقات الحنفية لعبد القادر القرشي. حيدرآباد الدكن 1332، ومطبعة عيسى البابي الحلبي بتحقيق عبد الفتاح الحلو. 49 - الجوهر النقي على سنن البيهقي لعلاء الدين المارديني. مع السنن الكبرى الآتي برقم 68. 50 - حاشية البُجَيرمي على شرح منهج الطلاب. بولاق 1309. 51 - حاشية العدوي على شرح الخرشي لمختصر خليل. بولاق 1317. 52 - حاشية أحمد الطحطاوي على الدر المختار. بولاق 1254. 53 - حُسن المحاضرة للسيوطي. مطبعة عيسى البابي الحلبي 1387. 54 - حَلْبة المُجَلِّي في شرح منية المصلي لإبن أمير الحاج. مخطوط. 55 - حِلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني. السعادة 1351. 56 - الخراج لأبي يوسف بتحقيق محمد البَنَّا دار الإِصلاح 1981. 57 - الدر المختار للحَصْكَفِي. بولاق 1272. 58 - الديباج المُذْهَب لإبن فرحون. مطبعة المعاهد 1351. 59 - ذخائر المواريث للنابلسي. دار المعرفة ببيروت تصويراً عن طبعته السابقة. 60 - الرحلة الحجازية لمحمد السّندي. الشركة التونسية بتونس 1398. 61 - رد المحتار لإبن عابدين. بولاق 1272. 62 - رفع الإِصر عن قضاة مصر لإبن حجر. المطبعة الأميرية 1957. 63 - الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للكنوي. الطبعة الثالثة بيروت 1407. 64 - الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري. دار الكتب العلمية بيروت 1405. 65 - زاد المعاد لإبن القيم. السنَّة المحمدية 1370. 66 - سنن ابن ماجه. عيسى البابي الحلبي 1372. 67 - سنن أبي داود. مصطفى محمد 1354. 68 - السنن الكبرى للبيهقي. حيدرآباد الدكن بالهند 1344. 96 - سنن الترمذي جامعُه. المصرية بشرح ابن العربي 1354. 70 - سنن الدارقطني. دار المحاسن للطباعة 1386.

71 - سنن النسائي ومعها شرح السيوطي والسندي. ذات الفهارس العامة بيروت الطبعة الثالثة 1415. 72 - سِيَر أعلام النبلاء للذهبي. مؤسسة الرسالة بيروت 1401. 73 - شجرة النور التركية لإبن مخلوف. المكتبة السلفية ومطبعتها 1349. 74 - شرح تنفيح الفصول في الأصول للقرافي بحاشية جُعَيط، مطبعة النهضة بتونس 1340. 75 - شرح صحيح مسلم للنووي. المطبعة المصرية 1347. 76 - شرح معاني الآثار المختلفة المأثورة للطحاوي. المصطفائي بالهند 1300. 77 - شرح الموطأ للزرقاني. الكستلية 1279. 78 - الشرح الصغير على متن خليل للدردير بحاشية الصاوي بولاق 1289. 79 - شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل للخَفَاجي. الوهبية 1282. 80 - صبح الأعشى للقَلْقَشندي. طبع دار الكتب المصرية 1331. 81 - صحيح ابن حبان. مؤسسة الرسالة ببيروت الطبعة الأولى 1408. 82 - صحيح البخاري بشرح فتح الباري لإبن حجر. بولاق 1300 والعزو إليها ولطبعة السلفية. 83 - صحيح مسلم بشرح النووي. المطبعة المصرية 1347 والعزو إليها. 84 - الصحاح للجوهري، بتحقيق أحمد عبد الغفور عطار. دار الكتاب 1376. 85 - صفحات من صبر العلماء لعبد الفتاح أبو غدة دار القلم بيروت، الطبعة الرابعة 1414. 86 - صيد المخاطر لإبن الجوزي. دار الفكر بدمشق 1380. ودار الكتب الحديثة بمصر دون تاريخ. 87 - طبقات الشافعية لإبن السبكي. الحسينية 1324 وطبعة عيسى البابي الحلبي المحققة. 88 - الطبقات الكبرى لإبن سعد. بيروت 1376. 89 - الطرق الحكمية لإبن القيم. مطبعة السنَّة المحمدية 1372. 90 - عقود الجواهر المنيفة في أدلة أبي حنيفة للزبيدي. الوطنية بالإِسكندرية 1292. 91 - عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق لمحمد سعيد الباني مطبعة حكومة دمشق 1341. 92 - الفتاوي الكبرى لإبن تيمية. كردستان العلمية 1326. 93 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري لإبن حجر. بولاق 1300 وطبعة السلفية. 94 - فتح العلي المالك لمحمد عِليش. التقدم العلمية 1319. 95 - فتح القدير للكمال ابن الهُمَام. بولاق 1315. 96 - الفروق للقرافي. دار إحياء الكتب العربية 1346.

97 - فيض القدير بشرح الجامع الصغير للمُناوي. مصطفى محمد 1356. 98 - القاموس المحيط للفيروزآبادي. الحسينية 1330. 99 - قواعد في علوم الحديث للتهانوي. دار القلم بيروت الطبعة الخامسة 1404. 100 - القواعد والفوائد الأصونية لإبن اللحام مطبعة السنة المحمدية 1375. 101 - الكامل لإبن عدي. دار الفكر 1404. 102 - كشف الخفاء للعجلوني. مكتبة القدسي 1351. 103 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة. طبع إسطنبول 1360. 104 - كنز العمال للمتقي الهندي. حيدرآباد الدكن 1312. 105 - لسان العرب لإبن منظور. بولاق 1300. وطبعة صادر ببيروت دون تاريخ. 106 - مجلة المعجم العلمي العربي بدمشق. السنة الثامنة عشرة. 107 - مجلة الوعي الإصلامي التي تصدر بالكويت السنة الرابعة 1388. العدد 40. 108 - مجمع الزوائد للهيثمي. مكتبة القدسي 1352. 109 - مجموع الفتاوى لإبن تيمية. مطابع الرياض في مدينة الرياض 1381. 110 - المحصول في علم الأصول لفخر الدين الرازي. طبع جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض الطبعة الأولى 1399. 111 - مختصر ابن الحاجب في الأصول. طبع بولاق 1316. 112 - مختصر سنن أبي داود للمنذري. أنصار السنَّة المحمدية 1367. 113 - المدوَّنة في فقه الإِمام مالك لسحنون. دار الفكر بدمشق 1398. 114 - المستدرك للحاكم. حيدرآباد الدكن بالهند 1334. 115 - المستصفى من علم الأصول للغزالي. بولاق 1322. 116 - المسند للإِمام أحمد بن حنبل. الميمنية 1313. 117 - مشكل الآثار للطحاوي. دائرة المعارف النظامية بحيدرآباد الدكن بالهند 1333. 118 - المصباح المنير للفيومي. الأميرية 1328. 119 - المصنف لإبن أبي شيبة 1 و 4. مطبع إقبال في ملتان بالهند، دون تاريخ. 120 - معالم السنن للخطابي. العلمية بحلب 1351. 121 - المعجم الصغير للطبراني. المطبع الأنصاري في دهلي دون تاريخ. 122 - المعيار المعرب للوَنْشَرِيشِي. دار الغرب الإِسلامي ببيروت دون تاريخ. 123 - معين الحكام لعلاء الدين الطرابلسي. بولاق 1300. والميمنية 1310. والعزو لهذا الكتاب يتبعه رقمان، الأول للبولاقية والثاني للميمنية.

124 - المغني لإبن قدامة. دار الكتاب العربي بيروت 1403. 125 - المقاصد الحسنة للسخاوي. دار الأدب العربي 1375. 126 - المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي. السعادة 1331. 127 - الموافقات للشاطبي. المطبعة الرحمانية وغيرها دون تاريخ. 128 - الموطأ للإِمام مالك. مطبعة عيسى الحلبي دون تاريخ. 129 - نصب الراية للزيلعي. طبعه المجلس العلمي الهندي في مصر 1357. 130 - نفح الطيب للمقَّري. الأزهرية المصرية 1302. 131 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي الشافعي. مصطفى البابي 1357. 132 - النهاية في غريب الحديث لإبن الأثير. المطبعة العثمانية 1311. 133 - نهج البلاغة للشريف الرضي. بإشراف عبد العزيز سيد الأهل دار الشمالي للطباعة ببيروت 1374. 134 - نيل الإِبتهاج بتطريز الديباج للتُنْبُكْتِي. السعادة 1330. 135 - نيل الأوطار للشوكاني. مصطفى البابي 1347. 136 - هدية العارفين لإِسماعيل باشا البغدادي. وكالة المعارف باصطنبول 1951. 137 - الهداية للمرغيناني بثرح فتح القدير. بولاق 1315. 138 - وفَيَات الأعيان لإبن خلكان. الميمنية 1310 ودار الثقافة ببيروت بتحقيق إحسان عباس 1398.

§1/1