الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم

ابن حزم

قال الفقيه الإمام أبو محمد علي بن أحمد رحمة الله عليه ورضوانه الحمد لله الذي امتن علينا بنعم عامة وخاصة فعم النوع الآدمي بأن أرسل إليهم رسلا مبشرين ومنذرين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وخص من شاء منهم بأن وفقه للحق وهداه له ويسره لفهمه وسدده لاختياره وسهل عليه سبيله وخذل منهم من شاء فطبع على قلبه ووعر عليه طريق الحق ووفق قوما في سبيل ما ومنعهم التوفيق في سبيل أخرى كما قال عز وجل {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} و {وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون} دون أن يجبر مريد حق على إرادته أو يقسر قاصد باطل على قصده أو يحول بين أحد وبين ما دعاه تعالى إليه أو ندبه إليه لكن كما قال عز وجل {وآعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الأيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم} وكما قال تعالى {ثم دنا فتدلى} وقال تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} لله وكما قال النبيان الفاضلان صلى الله عليهما إبراهيم ويوسف إذ يقول إبراهيم {فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين} ويقول يوسف {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني

الخطبة وفيها بيان قوى النفس الإنسانية

كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} وصلى الله على محمد عبده ورسوله إلى جميع الجن والإنس بالدين القيم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبعد فإن الله عز وجل ركب في النفس الإنسانية قوة مختلفة فمنها عدل يزين لها الإنصاف ويحبب إليها موافقة الحق قال تعالى {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} ومنها غضب وشهوة يزينان لها الجور ويعميانها عن طريق الرشد قال تعالى {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد} وقال تعالى {كل نفس ذآئقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} فالفاضل يسر لمعرفته بمقدار ما منحه الله تعالى والجاهل يسر لما لا يدري حقيقة وجهه ولما فيه وباله في أخراه وهلاكه في معاده ومنها فهم يليح لها الحق من قريب وينير لها في ظلمات المشكلات فترى به الصواب ظاهرا جليا ومنها جهل يطمس عليها الطرق ويساوي عندها بين السبل فتبقى النفس في حيرة تتردد وفي ريب تتلدد ويهجم بها على أحد الطرق المجانبة للحق المنكبة عن الصواب تهورا وإقداما أو جبنا أو إحجاما أو إلفا وسوء اختيار قال تعالى {أمن هو قانت آنآء الليل ساجدا وقآئما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} وقال تعالى {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون} ومنها قوة التمييز التي سماها الأوائل المنطق فجعل لها خالقها بهذه القوة سبيلا إلى فهم خطابه عز وجل وإلى معرفة الأشياء ما هي عليه وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم ويتخلص من ظلمة الجهل فيها تكون معرفة الحق من الباطل قال تعالى {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين * قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين * وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر العاملين * وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين * حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير * ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد * كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب * وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} ومنها قوة العقل التي تعين النفس المميزة على نصر العدل وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم

وعلى اعتقاد ذلك علما وعلى إظهار باللسان وحركات الجسم فعلا وبهذه القوة التي هي العقل تتأيد النفس الموفقة لطاعته على كراهية الحود عن الحق وعلى رفض ما قاد إليه الجهل والشهوة والغضب المولد للعصبية وحمية الجاهلية فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز ومن عاج عنه هلك وربما أهلك قال تعالى {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} قال أبو محمد علي أراد بذلك العقل وأما المضغة المسماة قلبا فهي لكل أحد متذكر وغير متذكر ولكن لما لم ينتفع غير العاقل بقلبه صار كمن لا قلب له قال تعالى شاهدا لما قلنا {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وقال بعض السلف الصالح ترى الرجل لبيبا داهيا فطنا ولا عقل له فالعاقل من أطاع الله عز وجل قال أبو محمد علي هذه كلمة جامعة كافية لأن طاعة الله عز وجل هي جماع الفضائل واجتناب الرذائل وهي السيرة الفاضلة على الحقيقة التي تخيرها لنا واهب النعم لا إله إلا هو فلا فضيلة إلا اتباع ما أمر الله عز وجل به أو حض عليه ولا رذيلة إلا ارتكاب ما نهى الله تعالى عنه أو نزه منه وأما الكيس في أمور الدنيا لا يبالي المرء ما وفق في استجلاب حظه فيها من علو صوت أو عرض جاه أو نمو مال أو نيل لذة من طاعة أو معصية فليس ذلك عقلا بل هو سخف وحمق ونقص شديد وسوء اختيار وقائد إلى الهلاك في دار الخلود وقد شهد ربنا تعالى أن متاع الدنيا غرور وقد علمنا أن تارك الحق ومتبع الغرور سخيف الاختيار ضعيف العقل فاسد التمييز وبرهان ذلك أن كل تمييز في إنسان بان به عن البهائم فهو يشهد أن اختيار الشيء القليل في عدده الضعيف في منفعته المشوب بالآلام والمكاره الفاني بسرعة على الكثير في عدده العظيم في منفعته الخالص

الباب الأول في الغرض المقصود من الكتاب

من الكدر والمضار الخالد أبدا حمق شديد وعدم للعقل البتة ولو أن أمرأ خير في دنياه بين سكناه مائة عام في قصر أنيق واسع ذي بساتين وأنهار ورياض وأشجار ونواوير وأزهار وخدم وعبيد وأمن فاش وملك ظاهر ومال عريض إلا أن في طريقه إلى ذلك مشي يوم كامل في طريق فيها بعض الحزونة لا كلها وبين أن يمشي ذلك اليوم في طريق فيها مروج حسنة وفي خلالها مهالك ومخاوف وظلال طيبة وفي أثنائها أهوال ومتالف ثم يفضي عند تمام ذلك اليوم إلى دار ضيقة ومجلس ضنك ذي نكد وشقاء وخوف وفقر وإقلال فيسكنها مائة عام فاختار هذه الدار الحرجة لسرور يوم ممزوج بشوائب البلاء يلقاه في طريقه نحوها لكان عند كل من سمع خبره ذا آفة شديدة في تمييزه وفاسد العقل جدا ظاهر الحمق رديء الاختيار مذموما مدحورا ملوما وهذه حال من آثر عاجل دنياه على آجل أخراه فكيف بمن اختار فانيا عن قريب على ما لا يتناهى أبدا اللهم إلا أن يكون شاكا في منقلبه متحيرا في مصيره فتلك أسوأ بل هي التي لا شوى لها نعوذ بالله من الخذلان ونسأله التوفيق والعصمة بمنه آمين وكل ما قلنا فلم نقله جزافا بل لم نقل كلمة في ذلك كله إلا مما قاله الله تعالى شاهدا بصحته وميزه العقل عالما بحقيقته والحمد لله رب العالمين وإن الله عز وجل ابتلى الأمم السالفة بأنبياء ابتعثهم إلى قومهم خاصة فمؤمن وكافر فريق في الجنة وفريق في السعير ثم إنه تعالى بعث نبيه المختار وعبده المنتخب من جميع ولد آدم محمدا صلى الله عليه وسلم الهاشمي المكي إلى جميع خلقه من الجن والإنس فنسخ بملته جميع الملل وختم به الرسل وخصه بهذه الكرامة وسوده على جميع أنبيائه واتخذ صفيا ونجيا وخليلا ورسولا فلا نبي بعده ولا شريعة بعد شريعته إلى انقضاء الدنيا وإذ قد تيقنا أن الدنيا ليست دار قرار ولكنها دار ابتلاء واختبار

ومجاز إلى دار الخلود وصح بذلك أنه لا فائدة في الدنيا وفي الكون فيها إلا العلم بما امر به عز وجل وتعليمه أهل الجهل والعمل بموجب ذلك وإن ما عدا هذا مما يتنافس فيه الناس من بعد الصوت غرور وأن كل ما تشره إليه النفوس الجاهلة من غرض خسيس خطأ إلا ما قصد به إظهار العدل وقمع الزور والحكم بأمر الله تعالى وبأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وإحياء سنن الحق وإماتة طوالع الجور وإن ما تميل إليه النفوس الخسيسة من اللذات بمناظر مألوفة متغيرة عما قليل وأصوات مستحسنة متقضية بهبوب الرياح ومشام مستطرفة منحلة بعيد ساعات ومذاوق مستعذبة مستحلية في أقرب مدة أقبح استحالة وملابس معجبة متبدلة في أيسر زمان تبدلا موحشا باطلا وإن كل ما يشغل به أهل فساد التمييز من كسب المال المنتقل عما قريب فضول إلا ما أقام القوت وأمسك الرمق وأنفق في وجوه البر الموصلة إلى الفوز في دار البقاء كان أفضل ما عاناه المرء العاقل بيان ما يرجو به هدى أهل نوعه وإنقاذهم من حيرة الشك وظلمة الباطل وإخراجهم إلى بيان الحق ونور اليقين فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من هدى الله به رجلا واحدا فهو خير له من حمر النعم وأخبر عليه السلام أن من سن سنة خير في الإسلام كان له مثل أجر كل من عمل بها لا ينتقص ذلك من أجورهم شيئا وغبط من تعلم الحكمة وعلمها فنظرنا بعون الله خالقنا تعالى لنا في هذه الطريق الفاضلة التي هي ثمرة بقائنا في هذه الدنيا فوجدناها على وجوه كثيرة فمن أوكدها وأحسنها مغبة بيان الدين واعتقاده والعمل به الذي ألزمنا إياه خالقنا عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وشرح الجمل التي تجمع أصناف أحكامه والعبارات

الواردة فيه فإن بمعرفة العقدة من عقد تلك الجمل يلوح الحق في ألوف من المسائل غلط فيها ألوف من الناس فإثم من قلدهم إثمين إثم التقليد وإثم الخطأ ونقصت أجور من اتبعهم مجتهدا من كفلين إلى كفل واحد ومن وفقه الله تعالى لبيان ما يتضاعف فيه أجر المعتقد والعامل بما عضده البرهان فقد عرضه لخير كثير وامتن عليه بتزايد الأجر وهو في التراب رميم وذلك حظ لا يزهد فيه إلا محروم فكتبنا كتابنا المرسوم بكتاب التقريب وتكلمنا فيه على كيفية الاستدلال جملة وأنواع البرهان الذي به يستبين الحق من الباطل في كل مطلوب وخلصناها مما يظن أنه برهان وليس ببرهان وبينا كل ذلك بيانا سهلا لا إشكال فيه ورجونا بذلك الأجر من الله عز وجل فكان ذلك الكتاب أصلا لمعرفة علامات الحق من الباطل وكتبنا أيضا كتابنا المرسوم بالفصل فبينا فيه صواب ما اختلف الناس فيه من الملل والنحل بالبراهين التي أثبتنا جملها في كتاب التقريب ولم ندع بتوفيق الله عز وجل لنا للشك في شيء من ذلك مساغا والحمد لله كثيرا ثم جمعنا كتابنا هذا وقصدنا فيه بيان الجمل في مراد الله عز وجل منا فيما كلفناه من العبادات والحكم بين الناس بالبراهين التي أحكمناها في الكتاب المذكور آنفا وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا عز وجل لنا موعبا للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الأحكام في الديانة مستوفى مستقصى محذوف الفضول محكم الفصول راجين أن ينفعنا الله عز وجل به يوم فقرنا إلى ما يثقل به ميزاننا من الحسنات وأن ينفع به تعالى من يشاء من خلقه فيضرب لنا في ذلك بقسط ويتفضل علينا منه بحظ فهو الذي لا يخيب رجاء من قصده بأمله وهو القادر على كل شيء لا إله إلا هو

وهذا حين نبدأ في ذلك بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق إنه لما صح أن العالم مخلوق وأن له خالقا لم يزل عز وجل وصح أنه ابتعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ليتخلص من أطاعه من أطباق النيران المحيطة بنا إلى الجنة المعدة لأوليائه عز وجل وليكب من عصاه في النار الحامية وصح أنه ألزمنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم شرائع من أوامر ونواه وإباحات باستعمال تلك الشرائع يوصل إلى الفوز وينجي من الهلاك وصح أنه أودع تلك الشرائع في الكلام الذي أمره به رسوله الله صلى الله عليه وسلم بتبليغه إلينا وسماه قرآنا وفي الكلام الذي أنطق به رسوله صلى الله عليه وسلم وسماه وحيا غير قرآن وألزمنا في كل ذلك طاعة نبيه عليه السلام لزمنا تتبع تلك الشرائع في هذين الكلامين لنتخلص بذلك من العذاب ونحصل على السلامة والحظوة في دار الخلود ووجدناه تعالى قد ألزمنا ذلك بقوله في كتابه المنزل {وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فوجب علينا أن ننفر لما استنفرنا له خالقنا عز وجل فوجدناه قد قال في القرآن الذي قد ثبت أنه من قبله عز وجل والذي أودعه عهوده إلينا اللازمة لنا {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قال أبو محمد فنظرنا في هذه الآية فوجدناها جامعة لكل ما تكلم الناس فيه أولهم عن آخرهم مما أجمعوا عليه واختلفوا فيه الأحكام والعبادات التي شرعها الله عز وجل لا يشذ عنها شيء من ذلك فكان كتابنا هذا كله في بيان العمل بهذه الآية وكيفيته وبيان الطاعتين المأمور بهما لله تعالى ولرسوله عليه السلام وطاعة أولي الأمر ومن هم أولو الأمر

وبيان التنازع الواقع منا وبيان ما يقع فيه التنازع بيننا وبيان رد ما تنوزع فيه إلى الله تعالى ورسوله عليه السلام وهذا هو جماع الديانة كلها ووجدناه قد قال تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} فأيقنا أن الدين قد كمل وتناهى وكل ما كمل فليس لأحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه ولا أن يبدله فصح بهذه الآية يقينا أن الدين كله لا يؤخذ إلا عن الله عز وجل ثم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي يبلغ إلينا أمر ربنا عز وجل ونهيه وإباحته لا مبلغ إلينا شيئا عن الله تعالى أحد غيره وهو عليه السلام لا يقول شيئا من عند نفسه لكن عن ربه تعالى ثم على ألسنة أولي الأمر منا فهم الذين يبلغون إلينا جيلا بعد جيل ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى وليس لهم أن يقولوا من عند أنفسهم شيئا أصلا لكن عن النبي عليه السلام هذه صفة الدين الحق الذي كل ما عداه فباطل وليس من الدين إذ ما لم يكن من عند الله تعالى فليس من دين الله أصلا وما لم يبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من الدين أصلا وما لم يبلغه إلينا أولو الأمر منا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من الدين أصلا فبينا بحول الله تعالى وقوته غلط من غلط في هذا الباب بأن ترك ما هو من الدين مخطئا غير عامد للمعصية أو عامدا لها أو أدخل فيه ما ليس منه كذلك فلا يخرج البتة الخطأ في أحكام الديانة عن هذين الوجهين إما ترك وإما زيادة ولخصنا الحق تلخيصا لا يشكل على نصح نفسه وقصد الله عز وجل بنيته وما توفيقنا إلا بالله عز وجل وجعلنا كتابنا هذا أبوابا لنقرب على من أراد النظر فيه ويسهل عليه البحث عما أراد الوقوف عليه منه رغبة منا في إيصال العلم إلى من طلبه ورجاء ثواب الله عز وجل في ذلك وبالله تعالى نتأيد

الباب الثاني في فهرس الكتاب وأبوابه

باب ترتيب الأبواب وهو الباب الثاني إذ الباب الأول في صدر هذا الكتاب وذكر الغرض فيه وهو الذي تم قبل هذا الابتداء الباب الثاني هذا الذي نحن فيه وهو ترتيب أبواب هذا الكتاب الباب الثالث في إثبات حجج العقل وبيان ما يدركه على الحقيقة وبيان غلط من ظن في العقل ما ليس فيه الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات التي يعبر بها عن جميع الأشياء ويتخاطب بها الناس الباب الخامس في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر الباب السادس هل الأشياء في العقل على الحظر أو الإباحة أو لا على واحد منها لكن على ترقب ما يرد فيها من خالقها عز وجل الباب السابع في أصول أحكام الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا الباب الثامن في معنى البيان الباب التاسع في تأخير البيان الباب العاشر في القول بموجب القرآن الباب الحادي عشر في الأخبار التي هي السنن وفي بعض فصول هذا الباب سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة الباب الثاني عشر في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة والأخذ بالظاهر منهما وحمل كل ذلك على الوجوب والفور أو الندب أو التراخي الباب الثالث عشر في حملها على العموم أو الخصوص الباب الرابع عشر في أقل الجمع الوارد فيها الباب الخامس عشر في الاستثناء منها الباب السادس عشر في الكتابة بالضمير

الباب السابع عشر في الكتابة بالإشارة الباب الثامن عشر في المجاز والتشبيه الباب التاسع عشر في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الشيء يراه أو يبلغه فيقره صامتا عن الأمر به أو النهي عنه الباب الموفي عشرين في النسخ الباب الحادي والعشرون في المتشابه من القرآن والمحكم والفرق بينه وبين المتشابه المذكور في الحديث بين الحلال والحرام الباب الثاني والعشرون في الإجماع الباب الثالث والعشرون في استصحاب الحال وبطلان العقود والشروط إلا ما نص عليه منها أو أجمع على صحته وهو باب من الدليل الإجماعي الباب الرابع والعشرون في أقل ما قيل وهو أيضا نوع من أنواع الدليل الإجماعي الباب الخامس والعشرون في ذم الاختلاف والنهي عنه الباب السادس والعشرون في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها خطأ الباب السابع والعشرون في الشذوذ ومعنى هذه اللفظة وإبطال التمويه بذكرها الباب الثامن والعشرون في تسمية الفقهاء المعتد بهم في الخلاف بعد الصحابة رضي الله عنهم الباب التاسع والعشرون في الدليل النظري والفرق بينه وبين القياس الباب الموفي ثلاثين في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر ووقت لزوم الشرائع للإنسان الباب الحادي والثلاثون في صفة طلب الفقه وصفة المفتي وصفة الاجتهاد وما يلزم لكل واحد طلبه من دينه

الباب الثالث في إثبات حجج العقول

الباب الثاني والثلاثون في وجوب النيات في الأعمال والفرق بين الخطأ المقصود بلا نية الخطأ غير المقصود والعمد المقصود بالفعل والنية جميعا وحيث يلحق عمل المرء غيره من إثم وبر وحيث لا يلحق الباب الثالث والثلاثون في شرائع الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم أتلزمنا أم لا الباب الرابع والثلاثون في الاحتياط وقطع الذرائع الباب الخامس والثلاثون في إبطال الاستحسان والاستنباط والرأي الباب السادس والثلاثون في إبطال التقليد الباب السابع والثلاثون في دليل الخطاب الباب الثامن والثلاثون في إبطال القياس الباب التاسع والثلاثون في إبطال العلل التي يدعيها أهل القياس والفرق بينها وبين العلل الطبيعية التي هي العلل على الحقيقة والكلام في الأسباب والأغراض والمعاني والعلامات والأمارات الباب الموفي أربعين في الاجتهاد ما هو وبيانه ومن هو معذور باجتهاده ومن ليس معذورا به ومن يقطع عليه أنه أخطأ عند الله عز وجل فيما أداه إليه اجتهاده ومن لا يقطع عليه أنه مخطىء عند الله عز وجل وإن خالفناه في إثبات حجج العقول قال أبو محمد قال قوم لا يعلم شيء إلا بالإلهام وقال آخرون لايعلم شيء إلا بقول الإمام وهو عندهم رجل بعينه إلا أنه الآن منذ مائة عام وسبعين عاما معدوم المكان متلف العين ضالة من الضوال وقال آخرون لا يعلم شيء إلا بالخبر وقال آخرون لا يعلم شيء إلا بالتقليد واحتجوا في إبطال

حجة العقل بأن قالوا قد يرى الإنسان يعتقد بشيء ويجادل عنه ولا يشك في أنه حق ثم يلوح له غير ذلك فلو كانت حجج العقول صادقة لما تغيرت أدلتها قال أبو محمد هذا تمويه فاسد ولا حجة لهم على مثبتي حجج العقول في رجوع من رجع عن مذهب كان يعتقده ويناضل عنه لأننا لم نقل إن كان معتقد لمذهب ما فهو محق فيه ولا قلنا إن كل ما استدل به مستدل ما على مذهبه فهو حق ولو قلنا ذلك لفارقنا حكم العقول لكن قلنا إن من الاستدلال ما يؤدي إلى مذهب صحيح إذا كان الاستدلال صحيحا مرتبا ترتيبا قويما على ما قد بيناه وأحكمناه غاية الإحكام في كتاب التقريب وقد يوقع الاستدلال إذا كان فاسدا على مذهب فاسد وذلك إذا خولف به طريق الاستدلال الصحيح وقد نبهنا على الشعاب والعوارض المعترضة في طريق الاستدلال وبيناها وحذرنا منها في الكتاب المذكور ولم ندع هنالك في تبيين كل ما ذكرناه علقة وأوضحناه غاية الإيضاح فالراجع عن مذهب إلى مذهب لا بد له ضرورة من أن يكون أحد استدلاليه فاسدا إما الأول وإما الثاني وقد يكونان معا فاسدين فيتنقل من مذهب فاسد إلى مذهبه فاسد أو من مذهب صحيح إلى مذهب فاسد أو من مذهب فاسد إلى مذهب صحيح لا بد من أحد هذه الوجوه ولا يجوز أن يكونا صحيحين معا البتة لأن الشيء لا يكون حقا بإطلاق في وقت واحد من وجه واحد وقد يكون أقساما كثيرة كلها باطل إلا واحدا فينتقل المرء من قسم فاسد منها إلى آخر فاسد وهذا إنما يعرض لمن غبن عقله ولم ينعم النظر فمال بهوى أو تهور بشهوة أو أحجم لفرط جبنه أو لمن كان جاهلا بوجوه طرق الاستدلال الصحيحة لم يطالعها ولا تعلمها وأكثر ما يقع ذلك

فيما يأخذ من مقدمات بعيدة فكان الطريق المؤدي من أوائل المعارف إلى صحة المذهب المطلوب طريقا بعيدا كثير الشعب فيكل فيها الذهن الكليل ويدخل مع طول الأمر وكثرة العمل ودقته السآمة فيتولد فيها الشك والخبال والسهو كما يدخله ذلك على الحاسب في حسابه على أن الحساب علم ضروري لا يتناقض فيجد أعدادا متفرقة في قرطاس فإذا أراد الحاسب جمعها فإن كثرت جدا فربما غفل وغلط حتى إذا حقق وتثبت ولم يشغل خاطره بشيء وقف على اليقين بلا شك هذا شيء يوجد حسا كما ترى وقد يدخل أيضا على الحواس فيرى المرء بعينه شخصا فربما ظنه زيدا وكابر عليه حتى إذا تثبت فيه علم أنه عمرو وهكذا يعرض في الصوت المسموع وفي المشموم وفي الملموس وفي المذوق وقد يعرض ذلك الشيء يطلبه المرء وهو بين يديه في جملة أشياء كثيرة فيطول عناؤه في طلبه ويتعذر عليه وجوده ثم يجده بعد ذلك فلا يكون عدم وجوده إياه مبطلا لكونه بين يديه حقيقة فكذلك يعرض في الاستدلال وليس شيء من ذلك بموجب بطلان صحة إدراك الحواس ولا صحة إدراك العقل الذي به علمت صحة ما أدركته الحواس ولولاه لم نعلم أصلا كما أن حواس المجنون المطبق والمغشي عليه لا يكاد ينتفع بها وقل ما يعرض هذا في أعداد يسيرة ولا فيما أخذ بمقدمات قريبة من أوائل المعارف ولا سبيل إلى أن يعرض ذلك فيما أوجبته أوائل المعارف إلا لسوفسطائي رقيع يعلم يقينا بقلبه أنه كاذب وأنه مبطل وقاح أو لمرور ممسوس ينبغي أن يعالج دماغه فهذا معذور وإنما نكلم الأنفس لسنا نقصد بكلامنا الألسنة ولا علينا قصر الألسنة بالحجة إلى الإذعان بالحق وإنما علينا قسر الأنفس إلى تيقن معرفته فقط فهذا الذي ظنوه من رجوع من كان على مذهب ما إلى مذهب آخر أن ذلك كله حجج عقل تفاسدت إنما هو خطأ صريح فمن هنا دخلت عليهم الشبهة وإنما

بيان ذلك أن ما كان من الدلائل صحيحا مسبورا محققا فهو حجة العقل وما كان منها بخلاف ذلك فليست حجة عقل بل العقل يبطلها فسقط ما ظنوا والحمد لله رب العالمين وقد أحكمنا هذا غاية الإحكام والحمد لله رب العالمين في باب أفردناه لهذا المعنى في آخر كتابنا الموسوم بالفصل ترجمته باب الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة وقد سألوا أيضا فقالوا بأي شيء عرفتم صحة حجة العقل أبحجة عقل أم بغير ذلك فإن قلتم عرفناها بحجة العقل ففي ذلك نازعناكم وإن قلتم بغير ذلك فهاتوه قال أبو محمد وهذا سؤال مبطل الحقائق كلها والجواب على ذلك وبالله تعالى التوفيق أن صحة ما أوجبه العقل عرفناه بلا واسطة وبلا زمان ولم يكن بين أول أوقات فهمنا وبين معرفتنا بذلك مهلة البتة ففي أول أوقات فهمنا علمنا أن الكل أكثر من الجزء وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر وأن الشيء لا يكون قائما قاعدا في حال واحدة وأن الطويل أمد من القصير وبهذه القوة عرفنا صحة ما توجبه الحواس وكلما لم يكن بين أول أوقات معرفة المرء وبين معرفته به مهلة ولا زمان فلا وقت للاستدلال فيه ولا يدري أحد كيف وقع له ذلك إلا أنه فعل الله عز وجل في النفوس فقط ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع الدلائل ثم نقول له إن كنت مسلما بالقرآن يوجب صحة حجج العقول على ما سنورده في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى فإن كلامنا في هذا الديوان إنما هو مع أهل ملتنا وأما إن كان المكلم به لنا غير مسلم فقد أجبناه عن هذا السؤال في كتابنا الموسوم بالفصل وكتابنا الموسوم بالتقريب وتقصينا هذا الشك وبينا خطأه بعون الله تعالى وليس كتابنا هذا مكان الكلام مع هؤلاء

قال أبو محمد ويقال لمن قال بإلهام ما الفرق بينك وبين من ادعى أنه ألهم بطلان قولك فلا سبيل له إلى الانفصال عنه والفرق بين هذه الدعوى ودعوى من ادعى أنه يدرك بعقله خلاف ما يدركه ببديهة العقل وبين ما لا يدركه بأوائل العقل أن كل من في المشرق والمغرب إذا سئل عما ذكرناه أننا عرفناه بأوائل العقل أخبر بمثل ما نخبر سواء وأن المدعين للإلهام ولإدراك ما يدركه غيرهم بأوله عقله لا يتفق اثنان منهم على ما يدعيه كل واحد منهم إلهاما أو إدراكا فصح بلا شك أنهم كذبة وأن الذي بهم وسواس وأيضا فإن الإلهام دعوى مجردة من الدليل ولو أعطي كل امرىء بدعواه المعراة لما ثبت حق ولا بطل باطل ولا استقر ملك أحد على مال ولا انتصف من ظالم ولا صحت ديانة أحد أبدا لأنه لا يعجز أحد عن أن يقول ألهمت أن دم فلان حلال وأن ماله مباح لي أخذه وأن زوجه مباح لي وطؤها وهذا لا ينفك منه وقد يقع في النفس وساوس كثيرة لا يجوز أن تكون حقا وأشياء متضادة يكذب بعضها بعضا فلا بد من حاكم يميز الحق منها من الباطل وليس ذلك إلا العقل الذي لا تتعارض دلائله وقد بينا ذلك في كتاب التقريب وقال أبو محمد ويقال لمن قال بالإمام بأي شيء عرفت صحة قول الإمام أببرهان أم بمعجزة أم بإلهام أم بقوله مجردا فإن قال ببرهان كلف بأن يأتي به ولا سبيل له إليه وإن قال بمعجزة ادعى البهتان لاسيما الآن وهم يقرون أنه قد خفي عنهم موضعه منذ مائة وسبعين عاما وإن قالوا بالإلهام سئلوا بما ذكرنا في إبطال الإلهام وإن قالوا بقوله مجردا سئلوا عن الفرق بين قوله وقول خصومهم في إبطال مذاهبهم دون دليل ولا سبيل إلى وجه خامس أصلا قال أبو محمد ويقال لمن قال بالتقليد ما الفرق بينك وبين من قلد غير

الذي قلدت أنت بل كفر من قلدته أنت أو جهله فإن أخذ يستدل في فضل من قلده كان قد ترك التقليد وسلك في طريق الاستدلال من غير التقليد وقد أفردنا في إبطال التقليد بابا ضخما قرب آخر كتابنا هذا استوعبنا فيه إبطاله وبالله التوفيق قال أبو محمد علي ويقال لمن قال لا يدرك شيء إلا من طريق الخبر أخبرنا الخبر كله حق أم كله باطل أم منه حق وباطل فإن قال هو باطل كله كان قد أبطل ما ذكر أنه لا يعلم شيء إلا به وفي هذا إبطال قوله وإبطال جميع العلم وإن قال حق كله عورض بأخبار مبطلة لمذهبه فلزمه ترك مذهبه لذلك أو اعتقاد الشيء وضده في وقت واحد وذلك ما لا سبيل إليه وكل مذهب أدى إلى المحال وإلى الباطل فهو باطل ضرورة فلم يبق إلا أن من الخبر حقا وباطلا فإذا كان كذلك بطل أن يعلم صحة الخبر بنفسه إذ لا فرق بين صورة الحق منه وصورة الباطل فلا بد من دليل يفرق بينهما وليس ذلك إلا لحجة العقل المفرقة بين الحق والباطل قال أبو محمد علي ثم يقال لجميعهم بأي شيء عرفتم صحة ما تدعون إليه وصحة التوحيد والنبوة ودينك الذي أنت عليه أبعقل ذلك على صحة كل ذلك أم بغير عقل وبأي شيء عرفت فضل من قلدت أو صحة ما ادعيت أنك ألهمته بعد أن لم تكن ملهما إليه ولا مقلدا له برهة من دهرك وبأي شيء عرفت صحة ما بلغك من الأخبار بعد أن لم تكن بلغتك وهل لك من عقل أم لا عقل لك فإن قال عرفت كل ذلك بلا عقل ولا عقل لي فقد كفينا مؤنته وبلغنا في نفسه أكثر مما رغبنا منه فإننا إنما رغبنا منه الاعتراف بالخطأ فقد زادنا في نفسه منزلة لم نرغبها منه وسقط الكلام معه ولزمنا السكوت عنه وإلا كنا في نصاب من يكلم السكارى الطافحين والمجانين المتعرين على الطرق فإن قال لي عقل وبعقلي عرفت ما عرفت فقد أثبت العقل وترك

مذهبه الفاسد ضرورة قال أبو محمد واحتجوا في إبطال الجدال والمناظرة بآيات ذكروها وهي قوله تعالى {فلذلك فدع وستقم كمآ أمرت ولا تتبع أهوآءهم وقل آمنت بمآ أنزل لله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم لله ربنا وربكم لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم لله يجمع بيننا وإليه لمصير * ولذين يحآجون في لله من بعد ما ستجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد} قال أبو محمد وهذه الآية مبينة وجه الجدال المذموم وهو قوله تعالى فيمن يحاج بعد ظهور الحق وهذه صفة المعاند للحق الآبي من قبول الحجة بعد ظهورها وهذا مذموم عند كل ذي عقل ومنها قوله تعالى {وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون} قال أبو محمد وإنما ذم تعالى في هذه الآية من خاصم وجادل في الباطل وعارض الآلهة التي كانوا يعبدون من حجارة لا تعقل بعيسى النبي العبد المؤيد بالمعجزات من إحياء الموتى وغير ذلك ومنها قوله تعالى {ويعلم لذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} ومنها قوله تعالى {فإن حآجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن تبعن وقل للذين أوتوا لكتاب ولأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد هتدوا وإن تولوا فإنما عليك لبلاغ ولله بصير بلعباد} قال أبو محمد قال تعالى {يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا} فصح بهذه الآية أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف فوجدناه تعالى أثنى على الجدال بالحق وأمر به فعلمنا يقينا أن الذي أمر به تعالى هو غير الذي نهى عنه بلا شك فنظرنا في ذلك لنعلم وجه الجدال المنهي عنه المذموم ووجه الجدال المأمور به المحمود لأنا قد وجدناه تعالى قد قال {ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى لله وعمل صالحا وقال إنني من لمسلمين} ووجدناه تعالى قد قال {دع إلى سبيل ربك بلحكمة ولموعظة لحسنة وجادلهم بلتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بلمهتدين} فكان تعالى قد أوجب الجدال في هذه الآية وعلم فيها تعالى جميع آداب الجدال

كلها من الرفق والبيان والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته الحجة القاطعة وقال تعالى {قل فأتوا بكتاب من عند لله هو أهدى منهمآ أتبعه إن كنتم صادقين * فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} ولم يأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا شكا في صدق ما يدعو إليه ولكن قطعا لحجتهم وحسما لدعواهم وإلزاما لهم مثل ما التزم لهم من رجوعه إلى الأهدى واتباعه الأمر الأصوب وإعلاما لنا أن من لم يأت بحجة على قوله يصير بها أهدى من قول خصمه ويبين أن الذي يأتي به هو من عند الله عز وجل فليس صادقا وإنما هو متبع لهواه وقال تعالى {قالوا تخذ لله ولدا سبحانه هو لغني له ما في لسماوات وما في لأرض إن عندكم من سلطان بهذآ أتقولون على لله ما لا تعلمون * قل إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون} قال أبو محمد ففي هذه الآية بيان أنه لا يقبل قول أحد إلا بحجة والسلطان ههنا بلا اختلاف من أهل العلم واللغة هو الحجة وإن من لم يأت على قوله بحجة فهو مبطل بنص حكم الله عز وجل وأنه مفتر على الله تعالى وكاذب عليه عز وجل بنص الآية لا تأويل ولا تبديل وأنه لا يفلح إذا قال قولة لا يقيم على صحتها حجة قاطعة ووجدناه تعالى قد علمنا في هذه الآيات وجوه الإنصاف الذي هو غاية العدل في المناظرة وهو أنه من أتى ببرهان ظاهر وجب الانصراف إلى قوله وهكذا نقول نحن اتباعا لربنا عز وجل بعد صحة مذاهبنا لا شكا فيها ولا خوفا منه أن يأتينا أحد بما يفسدها ولكن ثقة منا بأنه لا يأتي أحد بما يعارضها به أبدا لأننا ولله الحمد أهل التخليص والبحث وقطع العمر في طلب تصحيح الحجة واعتقاد الأدلة قبل اعتقاد مدلولاتها حتى وفقنا ولله تعالى الحمد على ما ثلج اليقين وتركنا أهل الجهل والتقليد في ريبهم يترددون وكذلك نقول فيما لم يصح عندنا حتى الآن

فنقول مجدين مقرين إن وجدنا ما هو أهدى منه اتبعناه وتركنا ما نحن عليه وإنما هذا في مسائل تعارضت فيها الأحاديث والآي في ظاهر اللفظ ولم يقم لنا بيان الناسخ من المنسوخ فيها فقط أو في مسائل وردت فيها أحاديث لم تثبت عندنا ولعلها ثابتة في نقلها فإن بلغنا ثباتها صرنا إلى القول بها إلا أن هذا في أقوالنا قليل جدا والحمد لله رب العالمين وأما سائر مذاهبنا فنحن منها على غاية اليقين وقال تعالى {ولا تجادلوا أهل لكتاب إلا بلتي هي أحسن إلا لذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بلذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} فأمر عز وجل كما ترى بإيجاب المناظرة في رفق وبالإنصاف في الجدال وترك التعسف والبذاء والاستطالة إلا على من بدأ بشيء من ذلك فيعارض حينئذ بما ينبغي وقال تعالى {يمعشر لجن ولإنس إن ستطعتم أن تنفذوا من أقطار لسماوات ولأرض فنفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} والسلطان الحجة كما ذكرنا وقال تعالى {وذر الذين تخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم لحياة لدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون لله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهآ أولئك لذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} فذكر عز وجل تقدير إبراهيم عليه السلام قومه على نقله الكواكب والشمس والقمر التي كانوا يعبدون من دون الله وأن ذلك لدليل على خلقها وبرهان على حدوثها فقال عز وجل {وتلك حجتنآ آتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشآء إن ربك حكيم عليم} وقد أمرنا تعالى في نص القرآن باتباع ملة إبراهيم عليه السلام وخبرنا تعالى أن من ملة إبراهيم المحاجة والمناظرة فمرة للملك ومرة لقومه والاستدلال كما أخبرنا تعالى عنه ففرض علينا اتباع المناظرة لنصرف أهل الباطل إلى الحق وأن نطلب الصواب بالاستدلال فيما اختلف فيه المختلفون قال الله عز وجل {إن أولى لناس بإبراهيم للذين تبعوه وهذا لنبي ولذين آمنوا ولله ولي لمؤمنين} فنحن المتبعون لإبراهيم عليه السلام في المحاجة والمناظرة فنحن أولى الناس به وسائر الناس مأمورون بذلك قال الله تعالى {قل صدق لله فتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من لمشركين} ومن ملته المناظرة كما ذكرنا فمن نهى عن المناظرة والحجة فليعلم أنه عاص لله عز وجل ومخالف لملة إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما قال الله عز وجل وقد

أثنى على أصحاب الكهف {نحن نقص عليك نبأهم بلحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى} فأثنى الله عز وجل عليهم في إنكارهم قول قومهم إذ لم يقم قومهم على قولهم حجة بينة وصدقهم تعالى في قولهم أن من ادعى قولا بلا دليل فهو مفتر على الله عز وجل الكذب وقال تعالى {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنهآ إنا من لمجرمين منتقمون} فلا أظلم ممن قامت عليه الحجة من كتاب الله تعالى ومن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه وهو الحجة القاطعة والبرهان الصادع وقال الله تعالى {لذين يأكلون لربا لا يقومون إلا كما يقوم لذي يتخبطه لشيطان من لمس ذلك بأنهم قالوا إنما لبيع مثل لربا وأحل لله لبيع وحرم لربا فمن جآءه موعظة من ربه فنتهى فله ما سلف وأمره إلى لله ومن عاد فأولئك أصحاب لنار هم فيها خالدون} وقال تعالى {بل تبع لذين ظلموا أهوآءهم بغير علم فمن يهدي من أضل لله وما لهم من ناصرين} فأخبر تعالى كما تسمع أن ما اتبع قولا وافقه بلا علم بصحته فهو ظالم وإن من لم يرجع إلى ما يسمع من الحق فهو من أهل النار وقال تعالى {فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} أنكر الله تعالى أن يكذب المرء بما لا يعلم فقال تعالى {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب لذين من قبلهم فنظر كيف كان عاقبة لظالمين} فصح بكل ما ذكرنا الوقوف عما لا نعلم والرجوع إلى ما أوجبته الحجة بعد قيامها وقال تعالى {ومن أظلم ممن فترى على لله كذبا أو كذب بلحق لما جآءه أليس في جهنم مثوى للكافرين} قال أبو محمد في هذه الآية كفاية في إيجاب ألا يصدق أحد بما لم تقم عليه حجة وألا يأتي ما قامت عليه الحجة فمن أظلم ممن عرف ما ذكرنا وأخذ بوسواس يقوم في نفسه أو بخبر لم يقم على وجوب تصديقه برهان أو قلد إنسانا مثله لعله عند الله تعالى على خلاف ما يظن وعلى كل حال فهو معصوم لكن يخطىء ويصيب وقال تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم

صادقين} فأوجب تعالى أن من كان صادقا في دعواه فعليه أن يأتي بالبرهان وإن لم يأت بالبرهان فهو كاذب مبطل أو جاهل وقال تعالى {هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} فلم يوجب تعالى المحاجة إلا بعلم ومنع منها بغير علم وقال تعالى {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بلغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا} قال أبو محمد فلما وجدنا الله تعالى قد أمر في الآيات التي ذكرنا بالحجاج والمناظرة ولم يوجب قبول شيء إلا ببرهان وجب علينا تطلب الحجاج المذموم على ما قدمناه فوجدناه قد قال {وما نرسل لمرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل لذين كفروا بلباطل ليدحضوا به لحق وتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا} فذم تعالى كما ترى الجدال بغير حجة والجدال في الباطل وأبطل تعالى بذلك قول المجانين كل مفتون ملقن حجة وبين تعالى أن المفتون هو الذي لا يلقن حجة وأن المحق هو الملقن حجة على الحقيقة وهم أهل الحق وقال تعالى {لذين يجادلون في آيات لله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند لله وعند لذين آمنوا كذلك يطبع لله على كل قلب متكبر جبار} فقد جمعت هذه الآيات بيان الجدال المذموم والجدال المحمود الواجب فالواجب هو الذي يجادل متوليه في إظهار الحق والمذموم وجهان بنص الآيات التي ذكرنا أحدهما من جادل بغير علم والثاني من جادل ناصرا للباطل بشغب وتمويه بعد ظهور الحق إليه وفي هذا بيان أن الحق في واحد وأنه لا شيء إلا ما قامت عليه حجة العقل وهؤلاء المذمومون هم الذين قال الله تعالى فيهم {ألم تر إلى لذين يجادلون في آيات لله أنى يصرفون} وقوله تعالى {ومن لناس من يجادل في لله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} وقوله تعالى {ومن لناس من يجادل في لله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثاني عطفه ليضل عن سبيل لله له في لدنيا خزي ونذيقه يوم لقيامة عذاب لحريق} وبقوله تعالى {ما يجادل في آيات لله إلا لذين كفروا فلا

يغررك تقلبهم في لبلاد * كذبت قبلهم قوم نوح ولأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بلباطل ليدحضوا به لحق فأخذتهم فكيف كان عقاب} فبين تعالى كما ترى أن الجدال المحرم هو الجدال الذي يجادل به لينصر الباطل ويبطل الحق بغير علم قال أبو محمد ويقال لمن أبى عن مطالبته الجدال ومعاناة طلب البرهان أن فرعون قال {يقوم لكم لملك ليوم ظاهرين في لأرض فمن ينصرنا من بأس لله إن جآءنا قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ أهديكم إلا سبيل لرشاد} {وقال لذي آمن يقوم تبعون أهدكم سبيل لرشاد} فبأي شيء يعرف المحق منهما من المبطل هل يجوز أن يعرف ذلك إلا بدلائل غير كلامها فهذا كلام العزيز الجبار الخالق البارىء قد نصصناه في اتباع البرهان وتكذيب قول من لا حجة في يديه وهو الذي لا يسع مسلما خلافه لا قول من قال اذهب إلى شاك مثلك فناظره فيقال له أترى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شاكا إذ علمه ربه تعالى مجادلة أهل الكتاب وأهل الكفر وأمره بطلب البرهان وإقامة الحجة على كل من خالفه ولا قول من قال أو كلما جاء رجل هو أجدل من رجل تركنا ما نحن عليه أو كلاما هذا معناه قال أبو محمد وهذا كلام يستوي فيه مع قائله كل ملحد على ظهر الأرض فلئن وسع هذا القائل ألا يدع ما وجد عليه سلفه بلا حجة لحجة ظاهرة واردة عليه ليسعن اليهودي والنصراني ألا يدعا ما وجدا عليه سلفهما تقليدا بلا برهان وألا يقبلا برهان الإسلام الواردة عليهما وحجته القاطعة قال الله عز وجل {قالوا يلوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من لليل ولا يلتفت منكم أحد إلا مرأتك إنه مصيبها مآ أصابهم إن موعدهم لصبح أليس لصبح بقريب * فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هي من لظالمين ببعيد * وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يقوم عبدوا لله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا لمكيال ولميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط * ويقوم أوفوا لمكيال ولميزان بلقسط ولا تبخسوا لناس أشيآءهم ولا تعثوا في لأرض مفسدين * بقية لله خير لكم إن كنتم مؤمنين ومآ أنا عليكم بحفيظ * قالوا يشعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت لحليم لرشيد * قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه إن أريد إلا لإصلاح ما ستطعت وما توفيقي إلا بلله عليه توكلت وإليه أنيب * ويقوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد * وستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود * قالوا يشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك ومآ أنت علينا بعزيز} قال أبو محمد فإذا قد حض الله تعالى على المجادلة بالحق وأمر بطلب البرهان فقد صح أن طلب الحجة هي سبيل الله عز وجل بالنص الذي ذكرنا أن من نهى عن ذلك وصد عنه فهو صاد عن سبيل الله تعالى ظالم ملعون

بلا تأويل إلا على عين النص الوارد من قبل الله تعالى وبالله نعتصم وقال تعالى {ما كان لأهل لمدينة ومن حولهم من لأعراب أن يتخلفوا عن رسول لله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل لله ولا يطأون موطئا يغيظ لكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن لله لا يضيع أجر لمحسنين} ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة وقد تهزم العساكر الكبار والحجة الصحيحة لا تغلب أبدا فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة وأفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد من المسلمين وأول ما أمر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يدعو له الناس بالحجة البالغة بلا قتال فلما قامت الحجة وعاندوا الحق أطلق الله تعالى السيف حينئذ وقال تعالى {قل فلله لحجة لبالغة فلو شآء لهداكم أجمعين} وقال تعالى {بل نقذف بلحق على لباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم لويل مما تصفون} ولا شك في أن هذا إنما هو بالحجة لأن السيف مرة لنا ومرة علينا وليس كذلك البرهان بل هو لنا أبدا ودامغ لقول مخالفينا ومزهق له أبدا ورب قوة باليد قد دمغت بالباطل حقا كثيرا فأزهقته منها يوم الحرة ويوم قتل عثمان رضي الله عنه ويوم قتل الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم ولعن قتلتهم وقد قتل أنبياء كثير وما غلبت حجتهم قط قال أبو محمد وقد علمنا عز وجل الحجة على الدهرية في قوله تعالى {لله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض لأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار} وقوله تعالى {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} وعلمنا الحجة على الثنوية بقوله تعالى {لو كان فيهمآ آلهة إلا لله لفسدتا فسبحان لله رب لعرش عما يصفون} وعلى النصارى وعلى جميع الملل وقد بينا ذلك في كتابنا المرسوم بكتاب الفصل ورأينا فيه عظيم ما أفادنا الله تعالى في ذلك من الحكمة والعلم بالمحاجة وإظهار

البرهان بغاية الإيجاز والاختصار وقد أمر الله بالجدال على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما اخبرنا عبد الله بن الربيع قال أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم حدثنا ابن الأعرابي أنبأنا أبو داود حدثنا أبو موسى بن إسماعيل ثنا حماد هو ابن سلمة عن حميد عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم قال أبو محمد وهذا حديث في غاية الصحة وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله قال أبو محمد وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع السؤال موضعه وكيفية المحاجة في الحديث الذي ذكر محاجة آدم موسى صلى الله عليهما وسلم حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج عن ابن أبي عمر المكي ومحمد بن حاتم وغيرهما واللفظ لابن حاتم كلاهما عن سفيان بن عيينة عن عمرو هو ابن دينار عن طاوس قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة فحج آدم موسى قال أبو محمد فموسى صلى الله عليه وسلم وضع الملامة في غير موضعها فصار محجوجا وذلك لأنه لام آدم صلى الله عليه وسلم على أمر لم يفعله وهو خروج الناس من الجنة وإنما هو فعل الله عز وجل ولو أن موسى لام آدم على خطيئته الموجبة لذلك لكان واضعا للملامة موضعها ولكان آدم محجوجا وليس أحد ملوما إلا على ما يفعله لا على ما تولد من فعله ولا مما فعله غيره

والكافر إنما يلام على الفعل لا على دخول النار والقاتل إنما يلام على فعله لا على موت مقتوله ولا على أخذ القصاص منه فعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كما ترى كيف نسأل عند المحاجة وبين لنا صلى الله عليه وسلم أن المحاجة جائزة وأن من أخطأ موضع السؤال كان محجوجا وظهر بذلك قول الله عز وجل {كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم لكتاب ولحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} والذي ذكرنا هو نص الحديث لا ما ظنه من يتعسف الكلام ويحرفه عن مواضعه ويطلب فيه ما ليس فيه وليس هذا الحديث من باب إثبات القدر في شيء وإثبات القدر إنما يصح من أحاديث أخر وآيات أخر قال أبو محمد وقد تحاج المهاجرون والأنصار وسائر الصحابة رضوان الله عليهم وحاج ابن عباس الخوارج بأمر علي رضى الله عنه وما أنكر قط أحد من الصحابة الجدال في طلب الحق فلا معنى لقول لمن جاء بعدهم وبالجملة فلا أضعف ممن يروم إبطال الجدال بالجدال ويريد هدم جميع الاحتجاج بالاحتجاج ويتكلف فساد المناظرة بالمناظرة لأنه مقر على نفسه أنه يأتي بالباطل لأن حجته هي بعض الحجج التي يريد إبطال جملتها وهذه طريق لا يركبها إلا جاهل ضعيف أو معاند سخيف والجدال الذي ندعو إليه هو طلب الحق ونصره وإزهاق الباطل وتبينه فمن ذم طلب الحق وأنكر هدم الباطل فقد ألحد وهو من أهل الباطل حقا والخصام بالباطل هو اللدد الذي قال فيه عليه السلام أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم أو كما قال صلى الله عليه وسلم فإذا قد بطلت كل طريق ادعاها خصومنا في الوصول إلى الحقائق من الإلهام والتقليد وثبت أن الخبر لا يعلم صحته بنفسه ولا يتميز حقه من كذبه وواجبه من غير واجبه إلا بدليل من غيره فقد صح أن المرجوع إليه حجج العقول وموجباتها وصح أن العقل إنما هو مميز بين صفات الأشياء الموجودات وموقف للمستدل به على حقائق كيفيات الأمور الكائنات

وتمييز المحال منها وأما من ادعى أن العقل يحلل أو يحرم أو أن العقل يوجد عللا موجبة لكون ما أظهر الله الخالق تعالى في هذا العالم من جميع أفاعيله الموجود فيه من الشرائع وغير الشرائع فهو بمنزلة من أبطل موجب العقل جملة وهما طرفان أحدهما أفرط فخرج عن حكم العقل والثاني قصر فخرج عن حكم العقل ومن ادعى في العقل ما ليس فيه كمن أخرج منه ما فيه ولا فرق ولا نعلم فرقة أبعد من طريق العقل من هاتين الفرقتين معا إحداهما التي تبطل حجج العقل جملة والثانية التي تستدرك بعقولها على خالقها عز وجل أشياء لم يحكم فيها ربهم بزعمهم فثقفوها هم ورتبوها رتبا أوجبوا أن لا محيد لربهم تعالى عنها وأنه لا تجري أفعاله عز وجل إلا تحت قوانينها لقد افترى كلا الفريقين على الله عز وجل إفكا عظيما وأتوا بما تقشعر منه جلود أهل العقول وقد بينا أن حقيقة العقل إنما هي تمييز الأشياء المدركة بالحواس وبالفهم ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية على ما هي عليه فقط من إيجاب حدوث العالم وأن الخالق واحد لم يزل وصحة نبوة من قامت الدلائل على نبوته ووجوب طاعة من توعدنا بالنار على معصيته والعمل بما صححه العقل من ذلك كله وسائر ما هو في العالم موجود مما عدا الشرائع وأن يوقف على كيفيات كل ذلك فقط فأما أن يكون العقل يوجب أن يكون الخنزير حراما أو حلالا أو يكون التيس حراما أو حلالا أو أن تكون صلاة الظهر أربعا وصلاة المغرب ثلاثا أو أن يمسح على الرأس في الوضوء دون العنق أو أن يحدث المرء من أسفله فيغسل أعلاه أو أن يتزوج أربعا ولا يتزوج خمسا أو أن يقتل من زنى وهو محصن وإن عفي عنه زوج المرأة وأبوها ولا يقتل قاتل النفس المحرمة عمدا إذا عفا عنه أولياء المقتول أو أن يكون الإنسان ذا عينين دون أن يكون ذا ثلاثة أعين أو أربع أو أن تخص صورة الإنسان بالتمييز دون صورة الفرس أو أن تكون الكواكب المتحيرة سبعا دون أن تكون تسعا وكذلك سائر رتب العالم

الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات

كلها فهذا ما لا مجال للعقل فيه لا في إيجابه ولا في المنع منه وإنما في العقل الفهم عن الله تعالى لأوامره ووجوب ترك التعدي إلى ما يخاف العذاب على تعديه والإقرار بأن الله تعالى يفعل ما يشاء ولو شاء أن يحرم ما أحل أو يحل ما حرم لكان ذلك له تعالى ولو فعله لكان فرضا علينا الانقياد لكل ذلك ولا مزيد ومعرفة صفات كل ما أدركنا معرفته مما في العالم وأنه على صفة كذا وهيئة كذا كما أحكمه ربه تعالى ولا زيادة فيه وبالله تعالى التوفيق وإليه الرغبة في دفع ما لا نطيق الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات أعن توقيف أم عن اصطلاح قال أبو محمد أكثر الناس في هذا والصحيح من ذلك أصل الكلام توقيف من الله عز وجل بحجة سمع وبرهان ضروري فأما السمع فقول الله عز وجل {وعلم آدم الأسمآء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين} وأما الضروري بالبرهان فهو أن الكلام لو كان اصطلاحا لما جاز أن يصطلح عليه إلا قوم قد كملت أذهانهم وتدربت عقولهم وتمت علومهم ووقفوا على الأشياء كلها الموجودة في العالم وعرفوا حدودها واتفاقها واختلافها وطبائعها وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود الإنسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جدا يقتضي في ذلك تربية وحياطة وكفالة من غيره إذ المرء لا يقوم بنفسه إلا بعد سنين من ولادته ولا سبيل إلى تعايش الوالدين والمتكفلين والحضان إلا بكلام يتفاهمون به مراداتهم فيما لا بد لهم منه فيما يقوم معايشهم من حرث أو ماشية أو غراس ومن معاناة ما يطرد به الحر والبرد والسباع ويعاني به الأمراض ولا بد لكل هذا من أسماء يتعارفون بها ما يعانونه من ذلك وكل إنسان فقد كان في حالة الصغر التي ذكرنا من امتناع الفهم

والاحتياج إلى كافل والاصطلاح يقتضي وقتا لم يكن موجودا قبله لأنه عمل المصطلحين وكل عمل لا بد من أن يكون له أو فكيف كانت حال المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم عليه فهذا من الممتنع المحال ضرورة قال علي وهذا دليل برهاني ضروري من أدلة حدوث النوع الإنساني ومن أدلة وجود الواحد الخالق الأول تبارك وتعالى ومن أدلة وجود النبوة والرسالة لأنه لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام والكلام حروف مؤلفة والتأليف فعل فاعل ضرورة لا بد له من ذلك وكل فعل فعله فله زمان ابتدىء فيه لأن الفعل حركة تعدها المدد فصح أن لهذا التأليف أولا والإنسان لا يوجد دونه وما لم يوجد قبل ما له أول فله أول ضرورة فصح أن للمحدث محدثا بخلافة وصح أن ما علم من ذلك مما هو مبتدأ من عند الخالق تعالى مما ليس في الطبيعة معرفته دون تعليم فلا يمكن البتة معرفته إلا بمعلم علمه الباري إياه ثم علم هو أهل نوعه ما علمه ربه تعالى قال علي وأيضا فإن الاصطلاح على وضع لغة لا يكون ضرورة إلا بكلام متقدم بين المصطلحين على وضعها أو بإشارات قد اتفقوا على فهمها وذلك الاتفاق على فهم تلك الإشارات لا يكون إلا بكلام ضرورة ومعرفة حدود الأشياء وطبائعها التي عبر عنها بألفاظ اللغات لا يكون إلا بكلام وتفهيم لا بد من ذلك فقد بطل الاصطلاح على ابتداء الكلام ولم يبق إلا أن يقول قائل إن الكلام فعل الطبيعة قال علي وهذا يبطل ببرهان ضروري وهو أن الطبيعة لا تفعل إلا فعلا واحدا لا أفعالا مختلفة وتأليف الكلام فعل اختياري متصرف في وجوه شتى وقد لجأ بعضهم إلى نوع من الاختلاط وهو أن قال إن الأماكن أوجبت بالطبع على ساكنيها النطق بكل لغة نطقوا بها

قال علي وهذا محال ممتنع لأنه لو كانت اللغات على ما توجبه طبائع الأمكنة لما أمكن وجود كل مكان إلا بلغته التي يوجبها طبعه وهذا يرى بالعيان بطلانه لأن كل مكان في الأغلب قد دخلت فيه لغات شتى على قدر تداخل أهل اللغات ومجاورتهم فبطل ما قالوا وأيضا فليس في طبع المكان أن يوجب تسمية الماء ماء دون أن يسمى باسم آخر مركب من حروف الهجاء ومن كابر في هذا فإما مجاهر بالباطل وإما عديم عقل لا بد له من أحد هذين الوجهين فصح أنه توقيف من أمر الله عز وجل وتعليم منه تعالى إلا أننا لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها بها علموا ماهية الأشياء وكيفياتها وحدودها ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولا إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها وأبينها عبارة وأقلها إشكالا وأشدها اختصارا وأكثرها وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في العالم من جوهر أو عرض لقول الله عز وجل {وعلم آدم الأسمآء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين} فهذا التأكيد يرفع الإشكال ويقطع الشغب فيما قلنا وقد قال قوم هي السريانية وقال قوم هي اليونانية وقال قوم هي العبرانية وقال قوم هي العربية والله أعلم إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية والعربية هي لغة مضر وربيعة لا لغة حمير لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي وإذا رام نغمة أهل القيروان ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي ومن الخراساني إذا رام نغمتها ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبديلا لا يخفى على من تأمله

ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلا وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق فنجدهم يقولون في العنب العينب وفي السوط أسطوط وفي ثلاثة دنانير ثلثدا وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول مهمدا إذا أراد أن يقول محمدا ومثل هذا كثير فممن تدبر العربية والعبرانية السريانية أيقن أن اختلافهما إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم وأنها لغة واحدة في الأصل وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معا والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده والعبرانية لغة إسحاق ولغة ولده والسريانية بلا شك هي لغة إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم بنقل الاستفاضة الموجبة لصحة العلم فالسريانية أصل لهما وقد قال قوم إن اليونانية أبسط اللغات ولعل هذا إنما هو الآن فإن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون منهم موت الخواطر وربما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الأعوام في أقل منها ينسى جميع اللغة فكيف تفلت أكثرها والله تعالى اعلم ولسنا نقطع على أنها اللغة التي وقف الله تعالى عليها أولا ولا ندري لعل قائلا يقول لعل تلك اللغة قد درست البتة وذهبت بالجملة أو لعلها إحدى

اللغات الباقية لا نعلمها بعينها وهذا هو الذي توجبه الضرورة ولا بد مما لا يمكن سواه أصلا وقد يمكن أن يكون الله تعالى وقف آدم عليه السلام على جميع اللغات التي ينطق بها الناس كلهم الآن ولعلها كانت حينئذ لغة واحدة مترادفة الأسماء على المسميات ثم صارت لغات كثيرة إذ توزعها بنوه بعد ذلك وهذا هو الأظهر عندنا والأقرب إلا أننا لا نقطع على هذا كما نقطع على أنه لا بد من لغة واحدة وقف الله تعالى عليها ولكن هذا هو الأغلب عندنا نعني أن الله تعالى وقف على جميع هذه اللغات المنطوق بها وإنما ظننا هذا لأننا لا ندري أي سبب دعا الناس ولهم لغة يتكلمون بها ويتفاهمون بها إلى إحداث لغة أخرى وعظيم التعب في ذلك لغير معنى ومثل هذا من الفضول لا يتفرع له عاقل بوجه من الوجوه فإن وجد ذلك فمن فارع فضولي سيىء الاختيار مشتغل بما لا فائدة فيه عما يعينه وعما هو آكد عليه من أمور معاده ومصالح دنياه ولذاته وسائر العلوم النافعة ثم من له بطاعة أهل بلده له في ترك لغتهم والكلام باللغة التي عمل لهم ولكنا لسنا نجعل ذلك محالا ممتنعا بل نقول إنه ممكن بعيد جدا فإن قالوا لعل ملكا كانت في مملكته لغات شتى فجمع لهم لغة يتفاهمون بها كلهم قلنا لهم هذا ضد وضع اللغات الكثيرة بل هو جمع اللغات على لغة واحدة ثم نقول وما الذي كان يدعو هذا الملك إلى هذه الكلفة الباردة الصعبة الثقيلة التي لا تفيد شيئا وكان أسهل له أن يجمعهم على لغة ما من تلك اللغات التي كانوا يتكلمون بها أو على لغته نفسه فكان أخف وأمكن من إحداث لغة مستأنفة وعلم ذلك عند الله عز وجل وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل معروفة وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة وقد قال تعالى {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين

لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم} وقال تعالى {فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك وقد غلط في ذلك جالينوس فقال إن لغة اليونانيين أفضل اللغات لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع قال علي وهذا جهل شديد لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق وقد قال قوم العربية أفضل اللغات لأنه بها كلام الله تعالى قال علي وهذا لا معنى له لأن الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه وقال تعالى {إني إذا لفي ضلال مبين} وقال تعالى {وإنه لفي زبر الأولين} فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا وأما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والاجماع ولا نص ولا إجماع في ذلك إلا أنه لا بد لهم من لغة يتكلمون بها ولا يخلو ذلك من أحد ثلاثة أوجه ولا رابع لها إما أن تكون لهم لغة واحدة من اللغات القائمة بيننا الآن وإما أن تكون لهم لغة غير جميع هذا اللغات وإما أن تكون لهم لغات شتى لكن هذه المحاورة التي وصفها الله تعالى توجب القطع بأنهم يتفاهمون بلغة إما بالعربية المختلفة في القرآن عنهم أو بغيرها مما الله تعالى أعلم به وقد ادعى بعضهم أن اللغة العربية هي لغتهم واحتج بقول الله عز وجل {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} فقلت له فقل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا {وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على مآ آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون} ولأنهم قالوا {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين} ولأنهم قالوا {وقالوا لو كنا نسمع أو

الباب الخامس في الألفاظ (الاصطلاحية) الدائرة بين أهل النظر

نعقل ما كنا في أصحاب السعير} فقال لي نعم فقلت له فاقض أن موسى وجميع الأنبياء عليهم السلام كانت لغتهم العربية لأن كلامهم محكي في القرآن عنهم بالعربية فإن قلت هذا كذبت ربك وكذبك ربك في قوله {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم} فصح أن الله تعالى إنما يحكي لنا معاني كلام كل قائل في لغته باللغة التي بها نتفاهم ليبين لنا عز وجل فقط وحروف الهجاء واحدة لا تفاضل بينها ولا قبح ولا حسن في بعضها دون بعض وهي تلك بأعيانها في كل لغة فبطلت هذه الدعاوى الزائغة الهجينة وبالله تعالى التوفيق وقد أدى هذا الوسواس العامي اليهود إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا العبرانية فلا يكتبون عليهم غيرها وفي هذا من السخف ما ترى وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه عز وجل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل الباب الخامس في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر قال أبو محمد هذا باب خلط فيه كثير ممن تكلم في معانيه وشبك بين المعاني وأوقع الأسماء على غير مسمياتها ومزج بين الحق والباطل فكثر لذلك الشغب والالتباس وعظمت المضرة وخفيت الحقائق ونحن إن شاء الله تعالى بحوله وقوته مميزون معنى كل لفظة على حقيقتها فنقول وبالله تعالى نتأيد الحد هو لفظ وجيز يدل على طبيعة الشيء المخبر عنه كقولك الجسم هو كل طويل عريض عميق فإن الطول والعرض والعمق هي طبائع الجسم

لو ارتفعت عنه ارتفعت عن الجسمية ضرورة ولم يكن جسما فكانت هذه العبارة مخبرة عن طبيعة الجسم ومميزة له مما ليس بجسم والرسم هو لفظ وجيز يميز المخبر عنه مما سواه فقط دون أن ينبىء عن طبيعته كقولك الإنسان هو الضحاك فإنك ميزت الإنسان بهذا اللفظ تمييزا صحيحا مما سواه إلا أنك لم تخبر بطبيعته لأنك لو توهمت الضحك مرتفعا عن الإنسان لم تبطل بذلك عنه الإنسانية ولامتنع بذلك من الكلام في المعلوم والتصرف في الصناعات ولبقيت سائر طبائعه بحسبها قال أبو محمد علي ولما كان هذان المعنيان متغايرين كل واحد منهما غير صاحبه وجب ضرورة أن يعبر عن كل واحد منهما بعبارة غير عبارتنا عن الآخر ولو عبرنا عنهما عبارة واحدة لكنا قد أوقعنا من يقبل منا في الإشكال ولكنا ظالمين لهم جدا وغير ناصحين لهم وهذا خلاف ما أخذه الله تعالى على العلماء إذ يقول الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ليبينه للناس ولا يكتمونه ومن لبس الحقائق فقد كتمها والعلم هو تيقن الشيء على ما هو عليه إما عن برهان ضروري موصل إلى تيقنه كذلك وإما أول بالحس أو ببديهة العقل وإما حادث عن أول على ما بينا في كتاب التقريب من أخذ المقدمات الراجعة إلى أول العمل أو الحس إما من قرب وإما من بعد وإما عن اتباع لمن أمر الله تعالى باتباعه فوافق فيه الحق وإن لم يكن عن ضرورة ولا عن استدلال برهان ذلك أن جميع الناس مأمورون بقول الحق واعتقاده وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس كلهم إلى الإيمان بالله تعالى وبما جاء به والنطق بذلك ولم يشترط عليه السلام عليهم ألا يكون ذلك منهم إلا عن استدلال بل قنع بهذا

من العالم والجاهل والحر والعبد والمسبي والمستعرب واجتمعت الأمة على ذلك بعده عليه إلى اليوم وقنعوا بذلك ممن أجابهم إليه ولم يشترط عليهم استدلالا في ذلك فإذا ذاك كذلك فقد صح أن من اعتقد ما ذكرنا وقال به فهو عالم بذلك بيقين عارف به إذ لو كان غير عالم بذلك لحرم القول عليه بذلك ولحرم عليه اعتقاده لأن الله تعالى يقول {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقال تعالى {إنما يأمركم بلسوء ولفحشآء وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} فصح إذ هو مأمور باعتقاده الحق والقول به ومنهي عن القول بما لا يعلم وعن أن يقفوا ما لا يعلم أن عقده في الحق وقوله به علم صحيح ومعرفة حقيقية وإن لم يكن ذلك عن استدلال ومن ادعى تخصيص نهي الله تعالى عن القول بما لا علم لنا به وعن قفو ما لا نعلم كان مدعيا بلا دليل ومبطلا في قوله لأنه يقول {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} إلا في الإيمان فاقف فيه ما لا علم لك به وهذا كذب على الله تعالى مجرد فإن قال قائل فإن الله يقول {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} قلنا نعم إنما خاطب الله بهذا من قال بالباطل ولا برهان لصاحب الباطل وأما المعتقد للحق فبرهان الحق قائم سواء علمه المعتقد له أو جهله وإنما يكف البرهان أهل الباطل لإدحاض باطلهم ولا يجوز أن يكلف المحق برهانا لأنه لا يخلو مكلفه البرهان من أن يكون محقا مثله أو مبطلا فإن كان محقا مثله فهو معنت له والتعنيت لا يجوز وإن كان مبطلا فحرام عليه الجدال في الحق قال تعالى {يجادلونك في لحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى لموت وهم ينظرون} وقال تعالى {كذبت قبلهم قوم نوح ولأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بلباطل ليدحضوا به لحق فأخذتهم فكيف كان عقاب} فلا يجوز تكليف المحق برهانا إلا على أن يعلمه فقط لا على سبيل معارضة لأن من فعل ذلك يكون معارضا للحق ومعارضته الحق بالباطل لا تجوز قال تعالى ذاما لقوم {كذبت قبلهم قوم نوح ولأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بلباطل ليدحضوا به لحق فأخذتهم فكيف كان عقاب} وقد تحذلق قوم فأداهم ذلك إلى الهلكة فقالوا الحدود لا تختلف في قديم ولا محدث وهذا كلام موجب الكفر لأنهم

يوقعون بذلك الباري تعالى تحت الحدوث لأن كل محدود متناه ومركب وكل مركب فمخلوق لأنه مركب من جنسه وفصله المميز له مما جامعه تحت جنسه فقد جعلوا ربهم محدثا تعالى الله عن ذلك وقالوا حد العلم أنه صفة لا يتعذر بوجودها على الحي القادر إحكام الفعل قال علي وهذا حد فاسد لأن النحل لا يتعذر عليها أحكام بناء الشمع ووضع العسل ولا تسمى عالمة وقد يعرض للعالم الناقد خدر يبطل يديه ورجليه فيعتذر عليه كل فعل حكمة أو غير حكمة وعلمه وعقله باقيان وقالت طائفة منهم حد العلم منا ومن الله تعالى أنه صفة يتبين بها المعلوم على ما هو عليه من أحواله قال علي وكلا الحدين فاسد ونحن نسألهم أهذه الصفة التي ذكرتم أهي والموصوف بها شيء واحد أم هي والموصوف بها شيئان متغايران فإن قالوا شيء واحد أبطلوا قولهم في الباري تعالى ووافقوا خصومهم إلا في العبارة فقط وأيضا فإن كون الصفة والموصوف شيئا واحدا غير موجود في العالم لأن الصفات تتعاقب على الموصوفات فتفتى والموصوف باق بحسبه ولا شك في أن الفاني غير الباقي والصفة عرض ونحن لم نقر بعلم الباري تعالى على معنى أنه صفة كصفاتنا ولكن اتباعا منا للنص الوارد في أن له علما فقط إلا أننا نقطع على أنه ليس غيره تعالى وأنه ليس عرضا ونحن لم نسم الباري تعالى عالما وإنما قلنا إنه عليم كما قال تعالى فإن قالوا فأي فرق بين عالم وعليم قيل لهم وأي فرق بين الجبار والمتجبر فسموا ربكم متجبرا وأي فرق بين أن نسميه تعالى خير الماكرين وأن له مكرا ولا نسميه ماكرا وكذلك نسميه حكيما ولا نسميه عاقلا ونسميه الواحد ولا نسميه الفرد ولا الفذ وقد بينا في كتاب الفصل أن أسماءه تعالى أعلام وليست

مشتقة أصلا وبالله التوفيق فإن قالوا إن الصفة والموصوف شيئان متغايران صدقوا وأخرجوا بذلك صفات الباري تعالى عن هذا الحكم والاعتقاد هو استقرار حكم بشيء ما في النفس إما عن برهان أو اتباع من صح برهان قوله فيكون علما يقينا ولا بد وإما عن إقناع فلا يكن علما متيقنا ويكون إما حقا أو باطلا وإما لا عن إقناع لا عن برهان فيكون إما حقا بالبخت وإما باطلا بسوء الجد والبرهان كل قضية أو قضايا دلت على حقيقة حكم الشيء والدليل قد يكون برهانا وقد يكون اسما يعرف به المسمى وعبارة يتبين بها المراد كرجل ذلك على طريق تريد قصده فذلك اللفظ الذي خاطبك به هو دليل على ما طلبت وقد يسمى المرء الدال دليلا أيضا والحجة هي الدليل نفسه إذا كان برهانا أو إقناعا أو شغبا والدال هو المعرف بحقيقة الشيء وقد يكون إنسانا معلما وقد يعبر به عن الباري تعالى الذي علمنا كل ما نعلم وقد يسمى الدليل دالا على المجاز ويسمى الدال دليلا أيضا كذلك في اللغة العربية والاستدلال طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه أو من قبل إنسان يعلم والدلالة فعل الدال وقد تضاف إلى الدليل على المجاز والإقناع قضية أو قضايا أنست النفس بحكم شيء ما دون أن توقفها على تحقيق حجة ولم يقم عندها برهان بإبطاله

والشغب تمويه بحجة باطلة بقضية أو قضايا فاسدة تقود إلى الباطل وهي السفسطة والتقليد هو اعتقاد الشيء لأن فلانا قاله ممن لم يقم على صحة قوله برهان وأما اتباع من أمر الله باتباعه فليس تقليدا بل هو طاعة حق لله تعالى والإلهام علم يقع في النفوس بلا دليل ولا استدلال ولا إقناع ولا تقليد وهو لا يكون إلا إما فعل الطبيعة من الحي غير الناطق ومن بعض الناطقين أيضا كنسج العنكبوت وبناء النحل وما أشبه ذلك وأخذ الصبي الثدي وما أشبه ذلك أو أول معرفة النفس قبل أوان استدلالها لنا كعلمنا أن الكل أكثر من الجزء وهو فيما عدا هذين الوجهين باطل والنبوة اختصاص الله عز وجل رجلا أو امرأة من الناس بإعلامه بأشياء لم يتعلمها إما بواسطة ملك أو بقوة يضعها في نفسه خارجة عن قوى المخلوقين تعضدها خرق العادات وهو المعجزات وقد انقطعت بعد محمد صلى الله عليه وسلم والرسالة أن يأمر الله تعالى نبيا بإنذار قوم وقبول عهده وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا والبيان كون الشيء في ذاته ممكنا أن تعرف حقيقته لمن أراد علمه والإبانة والتبيين فعل المبين وهو إخراجه للمعنى من الإشكال إلى إمكان الفهم له بحقيقة وقد يسمى أيضا على المجاز ما فهم منه الحق وإن لم يكن للمفهوم منه فعل ولا قصد إلى الأفهام مبينا كما تقول بين لي الموت أن

الناس لا يخلدون والتبيين فعل نفس المبين للشيء في فهمه إياه وهو الاستبانة أيضا والمبين هو الدال نفسه والصدق هو الإخبار عن الشيء بما هو عليه والحق هو كون الشيء صحيح الوجود ولا يغلط من لا سعة لفهمه فيظن أن هذا الحد فاسد بأن يقول الكفر والجور صحيح وجودهما فينبغي أن يكون حقا فليعلم أن هذا شغب فاسد لأن وجود الكفر والجور صحيحين في رضاء الله تعالى ليس هو صحيحا بل هو معدوم فرضا الله تعالى بهما باطل وأما كونهما موجودين من الكافر والجائز فحق صحيح ثابت لا شك فيه فمثل هذا من الفروق ينبغي مراعاته وتحقيق الكلام فيه وإلا وقع الإشكال وتحير الناظر وقد رأينا من يفرق بين الحق والحقيقة وهذا خطأ لا يخفى على ذي فهم ينصف نفسه لأن الفرق بين هاتين اللفظتين لم تأت به لغة ولا أوجبته شريعة أصلا إلا في تسمية الباري تعالى التي لا تؤخذ إلا بالنص ولا يحل فيها التصريف فظهر فساد هذا الفرق بيقين وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن الله تعالى قال {حقيق على أن لا أقول على لله إلا لحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل} ولا فرق عند أحد بين قول القائل حقيق على كذا وبين قوله حق على كذا فظهر فساد هذا الفرق والباطل ما ليس حقا والكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه والأصل هو ما أدرك بأول العقل وبالحس وقد ذكرناه قبل والفرع كل ما عرف بمقدمة راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو من بعد وقد يكون ذلك الفرع أصلا لما أنتج منه أيضا والمعلوم قسمان معلوم بالأصل المذكور ومعلوم بالمقدمات الراجعة

إلى الأصل كما بينا وكل ما نقل بتواتر على النبي صلى الله عليه وسلم أو أجمع عليه نقل جميع علماء الأمة عنه عليه السلام أو نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ إليه عليه السلام فداخل في باب ما تيقن ضرورة بالمقدمات المذكورة والنص هو اللفظ الوارد في القرآن أو السنة المستدل به على حكم الأشياء وهو الظاهر نفسه وقد يسمى كل كلام يورد كما قاله المتكلم به نصا والتأويل نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة إلى معنى آخر فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان ناقله واجب الطاعة فهو حق وإن كان نقله بخلاف ذلك اطرح ولم يلتفت إليه وحكم لذلك النقل بأنه باطل والعموم حمل اللفظ على كل ما اقتضاه في اللغة وكل عموم ظاهر وليس كل ظاهر عموما إذ قد يكون الظاهر خبرا عن شخص واحد ولا يكون العموم إلا على أكثر من واحد والخصوص محل اللفظ على بعض ما يقتضيه في اللغة دون بعض والقول فيه كما قلنا في التأويل آنفا ولا فرق والألفاظ إما دالة على واحد وإما على أكثر من واحد فإن كانت ناقصة غير دالة كانت هدرا والمجمل لفظ يقتضي تفسيرا فيؤخذ من لفظ آخر والمفسر لفظ يفهم منه معنى المجمل المذكور والأمر إلزام الآمر المأمور عملا ما فإن كان الخالق تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فالطاعة لهما فرض وإن كان ممن دونهما فلا طاعة له والنهي إلزام الناهي المنهي ترك عمل ما والقول فيه كالقول في

الأمر فلا فرق وطاعة الأئمة فيما ليس معصية طاعة لله تعالى لتقدم أمر الله عز وجل بذلك والفرض ما استحق تاركه اللوم واسم المعصية لله تعالى وهو الواحب واللازم والحتم والحرام وهو ما استحق فاعله اللوم واسم المعصية لله تعالى إلا أن يسقط ذلك عنه من الله تعالى عفو أو توبة وهو المحظور والذي لا يجوز والممنوع والطاعة تنفيذ الأمر من المأمور فيما أمر به والتوقف عن إتيان المنهي عنه وقد يسمى كل بر طاعة والمعصية ضد ذلك والندب أمر بتخيير في الترك إلا أن فاعله مأجور وتاركه لا آثم ولا مأجور وهو الائتساء والمستحسن والمستحب وهو الاختيار وهو كل تطوع ونافلة كالركوع غير الفرض والصدقة كذلك والصوم كذلك وسائر أعمال البر والكراهة نهي بتخيير في الفعل إلا أن على تركه ثوابا وليس في فعله أجر ولا إثم وذلك نحو ترك كل تطوع ونحو اتخاذ المحاريب في المساجد والتنشف بعد الغسل من الجنابة بثوب معد لذلك غير الذي يلبسه المرء وبيع السلاح ممن لا يؤمن منه أن يستعمله فيما لا يحل وابتياع الخصيان إذا أدى ذلك إلى خصائهم بطلب الغلاء في أثمانهم والحلق في غير علة أو حج أو عمرة والأكل متكئا

والإباحة تسوية بين الفعل والترك لا ثواب على شيء منهما ولا عقاب كمن جلس متربعا أو رافعا إحدى ركبتيه أو كمن صبغ ثوبه أخضر أو لازوديا وسائر الأمور كذلك وهو الحلال والقياس عند القائلين به والمبطلين له أن يحكم بشيء ما بحكم لم يأت به نص لشبهه شيء آخر ورد فيه ذلك الحكم وهو باطل كله والعلة طبيعة في الشيء يقتضي صفة تصحيحها ولا توجد الصفة دونها ككون النار علة للإحراق والإحراق هو معلولها والعلة أيضا المرض ولا علة في شيء من الدين أصلا والقول بها في الدين بدعة وباطل والسبب أمر وقع فاختار الفاعل أن يوقع فعلا آخر من أجله ولو شاء ألا يوقعه لم يوقعه ككون الذنب سببا لعقوبة المذنب والغرض نتيجة يقصدها الفاعل بفعله كالشبع الذي هو غرض الآكل في أكله وقد يكون الغرض اختيارا كمراد الله تعالى بشرع الشرائع تعذيب من عصاه وتنعيم من أطاعه والأمارة علامة بين المصطلحين على شيء ما إذا وجدت علم الواجد لها ما وافقه عليه الآخر وقد يجعلها المرء لنفسه ليستذكر بها ما يخاف نسيانه والنية قصد العمل بإرادة النفس له دون غيره واعتقاد النفس ما استقر فيها والشرط تعليق حكم ما بوجوب آخر ورفعه برفعه وهو باطل

ما لم يأت به نص وذلك نحو قول القائل إن خدمتني شهرا أعطيتك درهما والتفسير والشرح هما التبيين والنسخ ورود أمر بخلاف أمر كان قبله ينقض به أمر الأول والاستثناء ورود لفظ أو بيان بفعل بإخراج بعض ما اقتضاه لفظ آخر وكان المراد في اللفظ الأول ما بقي بعد المستثنى منه وهذا هو الفرق بين النسخ والاستثناء لأن النسخ كان فيه اللفظ الأول مرادا كله طول مدته وأما المستثنى منه فلم يكن اللفظ الأول مرادا كله قط والجدل والجدال إخبار كل واحد من المختلفين بحجته أو بما يقدر أنه حجته وقد يكون كلاهما مبطلا وقد يكون أحدهما محقا والآخر مبطلا إما في لفظه وإما في مراده أو في كليهما ولا سبيل أن يكونا معا محقين في ألفاظهما ومعانيهما والاجتهاد بلوغ الغاية واستنفاذ الجهد في المواضع التي يرجى وجوده فيها في طلب الحق فمصيب موقف أو محروم والرأي ما تخيلته النفس صوابا دون برهان ولا يجوز الحكم به أصلا والاستحسان هو ما اشتهته النفس ووافقها كان خطأ أو صوابا والصواب إصابة الحق والخطأ العدول عنه بغير قصد إلى ذلك والعناد العدول عنه بالقصد إلى ذلك والاحتياط طلب السلامة والورع تجنب ما لا يظهر فيه ما يوجب اجتنابه خوفا أن يكون ذلك فيه

والجهل مغيب حقيقة العلم عن النفس والطبيعة صفات موجودة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه ولا يعدم منه إلا بفساده وسقوط ذلك الاسم عنه ودليل الخطاب هو ضد القياس وهو أن يحكم للمسكوت عنه بخلاف حكم المنصوص عليه والشريعة هي ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في الديانة وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام قبله والحكم منها للناسخ وأصلها في اللغة الموضع الذي يتمكن فيه ورود الماء للراكب والشارب من النهر قال تعالى {شرع لكم من لدين ما وصى به نوحا ولذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا لدين ولا تتفرقوا فيه كبر على لمشركين ما تدعوهم إليه لله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب} وقال امرؤ القيس ولما رأت أن الشريعة همها وأن البياض من فرائصها دامي تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي واللغة ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد إفهامها ولكل أمة لغتهم قال الله عز وجل {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم} } ولا خلاف في أنه تعالى أراد اللغات واللفظ هو كل ما حرك به اللسان قال تعالى {إذ يتلقى لمتلقيان عن ليمين وعن لشمال قعيد} وحده على الحقيقة أنه هواء مندفع من الشفتين والأضراس والحنك والحلق والرئة على تأليف محدود وهذا أيضا هو الكلام نفسه والخلاف هو التنازع في أي شيء كان وهو أن يأخذ الإنسان في مسالك من القول أو العقل ويأخذ غيره في مسلك آخر وهو حرام في الديانة إذ لا يحل خلاف ما أثبته الله تعالى فيها وقال تعالى {وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين} وقال تعالى

{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وهو التفريق أيضا قال تعالى {ولا تكونوا كلذين تفرقوا وختلفوا من بعد ما جآءهم لبينات وأولئك لهم عذاب عظيم} والإجماع هو في اللغة ما اتفق عليه اثنان فصاعدا وهو الاتفاق وهو حينئذ مضاف إلى ما أجمع عليه وأما الإجماع الذي تقوم به الحجة في الشريعة فهو ما اتفق أن جميع الصحابة رضي الله عنهم قالوه ودانوا به عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وليس الاجماع في الدين شيئا غير هذا وأما ما لم يكن إجماعا في الشريعة فهو ما اختلفوا فيه باجتهادهم أو سكت بعضهم ولو واحد منهم في الكلام فيه والسنة هي الشريعة نفسها وهي في أصل اللغة وجه الشيء وظاهره قال الشاعر تريك سنة وجه غير مقرفة ما ساء ليس بها خال ولا ندب وأقسام السنة في الشريعة فرض أو ندب أو إباحة أو كراهة أو تحريم كل ذلك قد سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل والبدعة كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل فيما نسب إليه صلى الله عليه وسلم وهو في الدين كل ما لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويغدر بما قصد إليه من الخير ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسنا وهو ما كان أصله الإباحة كما روي عن عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هذه وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النص ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت به الحجة على فساده فتمادى عليه القائل به والكتابة لفظ يقام مقام الاسم كالضمائر المعهودة في اللغات وكالتعريض بما يفهم منه المراد وإن لم يصرح بالاسم ومنه قيل للكنية كنية والإشارة تكون باللفظ وتكون ببعض الجوارح وهي تنبيه

المشار إليه أو تنبيه عليه والمجاز هو في اللغة ما سلك عليه من مكان إلى مكان وهو الطريق الموصل بين الأماكن ثم استعمل فيما نقل عن موضعه في اللغة إلى معنى آخر ولا يعلم ذلك إلا من دليل من اتفاق أو مشاهدة وهو في الدين كل ما نقله الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم عن موضعه في اللغة إلى مسمى آخر ومعنى ثان ولا يقبل من أحد في شيء من النصوص أنه مجاز إلا ببرهان يأتي به من نص آخر أو جماع متيقن أو ضرورة حس وهو حينئذ حقيقيا لأن التسمية لله عز وجل فإذا سمى تعالى شيئا ما باسم ما فهو اسم ذلك الشيء على الحقيقة في ذلك المكان وليس ذلك في الدين لغير الله تعالى قال عز وجل {إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى} والتشبيه هو أن يشبه شيء بشيء في بعض صفاته وهذا لا يوجب في الدين حكما أصلا وهو أصل القياس وهو باطل لأن كل ما في العالم فمشبه بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه ومخالف أيضا بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه وهو أيضا التمثيل والمتشابه لا يوجد في شيء من الشرائع إلا بالإضافة إلى من جهل دون من علم وهو في القرآن وهو الذي نهينا عن اتباع تأويله وعن طلبه وأمرنا بالإيمان به جملة وليس هو في القرآن إلا للأقسام التي في السورة كقوله تعالى {ولضحى * ولليل إذا سجى} والحروف المقطعة التي في أوائل السور وكل ما عدا هذا من القرآن فهو محكم والمفصل هو ما بينت أقسامه وهو في أصل اللغة ما فرق بعضه عن بعض تقول فصلت الثوب واللحم وغير ذلك والاستنباط إخراج الشيء المعيب من شيء آخر كان فيه وهو في الدين

إن كان منصوصا على جملة معناه فهو حق وإن كان غير منصوص على جملة معناه فهو باطل لا يحل القول به والحكم هو إمضاء قضية في شيء ما وهو في الدين تحريم أو إيجاب أو إباحة مطلقة أو بكراهة أو باختيار والإيمان أصله في اللغة التصديق باللسان والقلب معا لا بأحدهما دون الثاني وهو في الدين التصديق بالقلب بكل ما أمر الله تعالى به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم والنطق بذلك باللسان ولا بد من استعمال الجوارح في جميع الطاعات واجبها وندبها واجتناب محرمها ومكروهها برهان ذلك أن جميع أهل الإيمان مكذوب بأشياء منها أن يكون لله تعالى ولد وأن يكون مسيلمة نبيا وغير ذلك كثير ومصدقون بأشياء كثيرة وقد أطلق الله تعالى وأطلق جميعهم بعضهم على بعض اسم الإيمان مطلقا دون إضافة ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا يجوز أن يطلق اسم التكذيب عليهم إلا بإضافة والكفار مؤمنون بأشياء كثيرة ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الإيمان مطلقا إلا بالإضافة فصح أن اسم الإيمان منقول عن موضوعه في اللغة إلى ما ذكرناه والكفر أصله في اللغة التغطية قال عز وجل {علموا أنما لحياة لدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في لأموال ولأولاد كمثل غيث أعجب لكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي لآخرة عذاب شديد ومغفرة من لله ورضوان وما لحياة لدنيآ إلا متاع لغرور} قال لبيد بن أبي ربيعة ألقت ذكاء يمينها في كافر يريد الليل لأنه يغطي على كل شيء وهو في الدين صفة من جحد شيئا مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون

لسانه أو بلسانه دون قلبه أو بهما معا أو عمل جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان على ما بينا في غير هذا الكتاب برهان ذلك أن جميع من يطلق عليه اسم الكفر فإنه مصدق بأشياء مكذب بأشياء ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الإيمان بلا إضافة وأهل الإيمان كفار بأشياء كثيرة منها التثليث وغير ذلك ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الكفر بلا إضافة والشرك هو في اللغة أن يجمع شيئا إلى شيء فيشرك بينهما فيما جمعا فيه وهو في الدين معنى الكفر سواء لما قد بيناه في غير هذا المكان والتسمية لله تعالى لا لغيره والإلزام هو أن نحكم على الإنسان بحكم ما فإما واجب أو غير واجب والعقل هو استعمال الطاعات والفضائل وهو غير التمييز لأنه استعمال ما ميز الإنسان فضله فكل عاقل مميز وليس كل مميز عاقلا وهو في اللغة المنع تقول عقلت البعير أعقله عقلا وأهل الزمان يستعملونه فيما وافق أهواءهم في سيرهم وزيهم والحق هو في قول الله تعالى {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن لله ويجعل لرجس على لذين لا يعقلون} يريد الذين يعصونه وأما فقد التمييز فهو الجهل أو الجنون على حسب ما قابل اللفظ من ذلك والفور هو استعمال الشيء بلا مهلة ولكن على أثر ورود الأمر به والتراخي تأخير إنفاذ الواجب وحكم أوامر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم كلها على الفور إلا أن يأتي نص بإباحة التراخي في شيء ما فيوقف عنده والاحتياط هو التورع نفسه وهو اجتناب ما يتقي المرء أن يكون

فصل في حرف (المعاني التي) تتكرر في النصوص

غير جائز وإن لم يصح تحريمه عنده أو اتقاء ما غيره خسر منه عند ذلك المحتاط وليس الاحتياط واجبا في الدين ولكنه حسن ولا يحل أن يقضى به على أحد ولا أن يلزم أحدا لكن يندب إليه لأن الله تعالى لم يوجب الحكم به والورع هو الاحتياط نفسه فصل في معاني حروف تتكرر في النصوص واو العطف لاشتراك الثاني مع الأول إما في حكمه وإما في الخبر عنه على حسب رتبة الكلام فإن كان الثاني جملة فهو اشتراك في الخبر فقط وإن كان اسما مفردا فهو مشترك في حكم الأول وهي لا تعطي رتبة أي أنها لا توجب أن الأول قبل الثاني ولا أنه بعده بل ممكن فيهما أن يكونا معا أو أن يكون أحدهما قبل الآخر بمهلة بلا مهلة كقولك جاءني زيد وعمرو فجائز أن يأتيا معا وجائز أن يأتي زيد قبل عمرو وعمرو قبل زيد بساعة وبعام وبأقل وبأكثر والفاء تعطي رتبة الثاني بعد الأول بلا مهلة كقولك جاءني زيد فعمرو فزيد جاء قبل عمرو ولا بد وأتى عمرو أثره بلا مهلة وثم توجب أن الثاني بعد الأول بمهلة وواو القسم ليست واو عطف لأنها قد يبدأ بها أول الكلام ولا يبتدأ بواو العطف وأو للشك وللتخيير مثل قولك خذ هذا أو هذا فإنما ملكت أخذ أحدهما وفي الشك قولك جاءني زيد أو عمرو فلم تقطع بمجيء أحدهما بعينه لكن حققت أن أحدهما أتاك ولم تعينه

الباب السادس هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أم على الإباحة

ومعنى الباء الاتصال مثل قولك مررت بزيد تريد اتصال مرورك به ولا توجب تبعيضا ولا استيفاء ومن معناها ابتداء أو تبعيض وإلى معناها الانتهاء أو مع وهذا يكثر جدا ولهذا قلنا إنه لا بد للفقيه أن يكون نحويا لغويا وإلا فهو ناقص ولا يحل له أن يفتي لجهله بمعاني الأسماء وبعده عن فهم الأخبار الباب السادس هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإباحة قال أبو محمد قال قوم الأشياء كلها في العقل قبل ورود الشرع على الحظر وقال آخرون بل هي على الإباحة وقال آخرون بل هي على الحظر حاشا الحركة النقلية من مكان إلى مكان وشكر المنعم فقط وقال آخرون بل هي على الإباحة حاشا الكفر والظلم وجحد المنعم وقال آخرون وهم جميع أهل الظاهر وطوائف من أهل أصحاب القياس ليس لها حكم في العقل أصلا لا بحظر ولا بإباحة وإن كل ذلك موقوف على ما ترد به الشريعة قال أبو محمد وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره واحتج من قال بحظرها بأن قال الأشياء كلها ملك لله عز وجل ولا يجوز أن يقدم على ملك مالك إلا بإذنه قال أبو محمد وهذا تمويه ساقط لأنه لم يحرم الإقدام على مالك غيرنا بنفس العقل وإنما حرم ما حرم من ذلك ورود الشرع بتحريمه ولو كان تحريم الإقدام على ملك المالك مركبا في ضرورة العقل لما جاز أن يأتي شرع بخلافه كما لا يجوز أن يأتي بشرع فإن الكل أقل من الجزء وأن القصير أطول مما هو أطول منه لأن كل شيء رتب الله تعالى في العقل إدراكه على صفة ما بخلاف

ما قد رتبه تعالى ممتنعا ومحالا ورتب الاخبار به كذبا وإفكا وأخبرنا تعالى أن قوله الحق ولا سبيل أن يرد الشرع بمحال ولا بكذب ومن أجاز ذلك خرج عن الإسلام وقد وجدنا المالك فيما بيننا لملكه قد أمرنا تعالى بأخذه منه كرها فيما لزمه من نفقة زوجه التي هي لعلها أغنى منه وأقدر على المال وفي أشياء كثيرة من أروش ما أتلف بخطأ أو بغير قصد وبقصد ووجدناه تعالى قد أجاز ما أنفذه أهل دار الحرب في أموالهم وملكهم إياها بقوله تعالى {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان لله على كل شيء قديرا} وأجاز كل ما أنفذوه فيها من هبة وبيع ثم أطلقنا على أخذها منهم اختلاسا وغلبة وعلى كل وجه فإن قالوا كفرهم أباح أموالهم قيل لهم نحن نوجدكم الذمي كافرا لا يحل أخذ شيء من ماله حاشا الجزية التي لا تكاد تتجزأ من ماله وكلاهما كفره واحد فأين ما ادعته هذه الطائفة المغفلة من أن الإقدام على ملك مالك بغير إذنه حرام محرم في العقل فإن قال قائل منهم تلك الأموال هي ملك الله عز وجل قيل له إنما حرمت أنت ملك الله تعالى قياسا على الشاهد بيننا من قبح التعدي على ملك مالك بزعمك فلا تعد إلى ما جعلته أصلا فتبطله ويقال له أيضا وأنفسنا ملك لله عز وجل وفي منعها الأقوات والتناسل إبطال للنوع الإنساني وفي ذلك إبطال ملك لله عز وجل كثير وإتلاف مملوكات له كثيرة وهذا فسخ لأصلك فيكون الإتلاف على قولك حاظرا مبيحا في حالة واحدة وهذا لا يعقل ويقال لمن قال بإباحتها واحتج بأن في مدخل الطعام ومخرجه عبرة ودليلا على قدرة الله عز وجل اطرد علتك وقل وفي فسقك بالذكور وبالنساء عبرة ودليل على قدرة الله عز وجل في مداخلة الأعضاء بعضها في بعض وفي تخلق الولد وولادته أعظم عبرة وأدل دليلا على قدرة الله عز وجل وكذلك في قتل النفس وسيلان الدم بعد منع الجلد له من السيلان وفي خروج النفس وانقطاع الحركة والحس أعظم عبرة وأدل دليلا على القدرة فأبح قتل النفس على هذا وقل إنه حسن في العقول

بل واجب ومن قرأ كتب التشريح للأطباء علم أن في ذلك أعظم عبرة فليقل إن قتل الأنفس مباح في العقل واحتج المبيحون أيضا بأن قالوا لا بد من فعل أو ترك أو حركة أو سكون فإن منعتموه الكل أوجبتم المحال والممتنع قال أبو محمد وهذا إنما يخاطب به من قال بالحظر وأما نحن فلسنا نقول إن في العقل إباحة شيء ولا حظره وإنما فيه تمييز الموجودات على ما هي عليه وفهم الخطاب فقط وبالجملة فكل شيء يعارض به القائلون بالإباحة أو الحظر فهي دعاوى مجردة واحتج بعض القائلين بالإباحة بقوله تعالى {من هتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} قال أبو محمد ولا حجة لهم في هذا لأننا لم نقل إنه تعالى يعذب من لم يبعث إليه رسولا فيعارضون بهذا وليست هذه الآية من مسألتنا في الإباحة والحظر في ورد ولا صدر لأن الأشياء لو ورد الحظر فيها بنص جلي إلا أنه لم يأت وعيد على مرتكبها لم يجز لأحد أن يقول إن الله تعالى يعذب من خالف أمره وليس في كون المرء عاصيا أو كافرا ما يوجب أنه يعذب ولا بد وإنما علمنا وجوب العذاب من طريق القرآن والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فقط ولولا ذلك ما علمناه برهان ذلك أن الكفار الطغاة قد وجدناهم في هذا العالم يعمرون مدة أعمارهم غير معذبين لا بل في نعمة وملك وغلبة وكرامة ولا فرق بين جواز ذلك خمسين عاما وستين وسبعين وثمانين وبين تماديه هكذا أبدا وقتا بعد وقت ولا فرق بين جواز ذلك في الوقت الأول وبين جوازه في الوقت الثاني وليست هنا حال حدثت لهم إلا أن الله تعالى أراد أن يعذبهم في الآخرة ولو شاء أن يستمر نعيمهم لفعل ولكن ورد النص بالتعذيب قلنا به وقال بعض القائلين بالإباحة محال أن يخلق الله تعالى فينا الشهوات المقتضية لما تقتضيه ثم يحظر علينا ما خلق لنا

قال علي هذه مكابرة العيان وليست هذه هي حجة مسلم لأن الله عز وجل وقد فعل ما أنكروا وخلق فينا شهوات تقتضي إتيان الفواحش في كل امرأة جميلة نراها أو في حسان الغلمان وشرب الخمور في البساتين وأخذ كل شيء استحسنته النفوس والراحة وترك التعرض لسيوف أهل الشرك والنوم عن الصلوات في الهواجر الحارة والغدوات القارة ثم حرم علينا ذلك كله فإن قال قائل فإن الله تعالى قد عوض من ذلك أشياء أباحها وعوض على ترك ما حرم ما هو خير وهو الجنة قلنا له وبالله تعالى التوفيق لقد كان تعالى قادرا أن يجمع الأمرين لنا معا ولقد كان يكون ذلك أقل لتعبنا وألذ لنفوسنا وأروح لأجسامنا وأتم لسرورنا ولكنه تعالى لم يرد إلا ما ترى لا معقب لحكمه وبيان ذلك أنه قد نعم قوما في الدنيا والآخرة كداود وسليمان عليهما السلام وأعطاهما اللذات العظيمة والملك السنيع والنبوة مع ذلك وسلط على أيوب وهو نبي مثلهما من البلايا ما لا قبل لأحد به دون ذنب سلف منه ولا إحسان سلف من سليمان وداود على جميعهم الصلاة والسلام وسلط محمدا صلى الله عليه وسلم على جميع أعدائه وعصمه منهم ومنحه النصر عليهم وسلط على أنبياء أخر أعداءهم فقتلوهم بأنواع المثل وكلهم مع ذلك من مسعود مسلط على عدوه في الدنيا ومحروم مسلط عليه عدوه فيها وكلهم مجتمعون في الجنة متنعمون فيها وفعل بنا ذلك أيضا فمن محسن منعم ومن محسن مشقي وقد نعم أيضا عز وجل ملوكا من الكفار في الدنيا وأصحبهم النصر والتأييد إلى أن قبض أرواحهم إلى النار وهم أطغى خلق الله وأكفره وأشد تسلطا على الفواحش وحرم آخرين من الكفار فقتلهم بالفاقة والجوع والعري والقمل والمساءلة من باب إلى باب مع العاهات العظيمة والبلايا الشنيعة

والأمراض المؤلمة ثم جعل مجتمعهم في جهنم مع منعهم في الدنيا ومنحوس فيها فأي عقل ترتبت فيه هذه الرتبة أو المنع منها ما يحس شيئا من ذلك في عقله إلا ناقص العقل ينبغي له أن يتهم حسه في ذلك ونسأل من جعل العقل مرتبا في حظر أو إباحة قبل ورود الشرع فنقول له ما تقول في راهب في صومعة مريد لله عز وجل بقلبه كله موحد لله تعالى لا يدع خيرا إلا فعله ولا شرا إلا اجتنبه إلا أنه كان في جزائر الشاشيين في أقصى الدنيا يسمع قط ذكر محمد صلى الله عليه وسلم من جميع أهل ناحيته إلا متبعا بالكذب وبأقبح الصفات ومات على ذلك وهو شاك في نبوته صلى الله عليه وسلم أو مكذب لها أليس مصيره إلى النار خالدا مخلدا أبدا بلا نهاية فإن شك أحد في ذلك فهو كافر بإجماع الأمة ثم نقول ما تقول في يهودي أو نصراني لم يدع قتل مسلم قدر عليه إلا قتله أو أنفذه ولم يبق شيئا من الفواحش إلا ارتكبه من الزنى وفعل قوم لوط عليه السلام وفعل كل بلية ثم إنه أيقن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآمن وبرىء من كل دين إلا دين الإسلام وأقر بذلك بلسانه ومات أثر ذلك أليس من أهل الجنة بلا خلاف من أحد من الأمة فإن شك في ذلك فقد كفر ففي أي موجب للعقل وجد إثبات هذا أو وجد إبطاله وما الذي أوجب في العقل أن يخص محمدا صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء بهذه الفضائل وقد كان عليه السلام بين أظهر الناس أربعين سنة لم يحبه تعالى بهذه الفضيلة فأي عقل أوجب منعه من ذلك قبل أن يؤتاها أو أوجب أن يحبى بها إذ حبي بها هل هي إلا أفعال الله تعالى واختياره وكل هذا يبطل أن يكون للعقل محال في حظر أو إباحة أو تحسين أو تقبيح وأن كل ذلك منتظر فيه ما ورد من الله تعالى في وحيه فقط نسأل الله الهدى والعافية في الدنيا والآخرة بمنه آمين

وقال بعض المتكلفين من القائلين بالإباحة كل من اضطره الله إلى شيء فقد أباحه له قال أبو محمد علي وهذا قول امرىء لم يتدرب في العلم وقد أخطأ في هذه القضية لأن الضرورة فعل الله تعالى والجائع مضطر إلى الجوع والمريض مضطر إلى المرض وقد قال تعالى في أهل النار {وإذ قال إبراهيم رب جعل هذا بلدا آمنا ورزق أهله من لثمرات من آمن منهم بلله وليوم لآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب لنار وبئس لمصير} أفيسوغ لذي عقل أن يقول إن الله تعالى أباح للجائع الجوع وللمريض المرض ولأهل جهنم الكون في جهنم وإنما يقول هذا من لا يعرف الأسماء ولا المسميات ولا حقيقة عبارة الألفاظ عن المعاني فإن قال قائل فإن الشريعة تبطل حكم ما في العقول واحتج بأنه قد حسن في العقول الانقياد للأمر المنسوخ قبل أن ينسخ ثم أتى النسخ فقبح في العقل ما كان فيه حسنا قيل له هذا شغب فاسد ولم نكرر أن الشريعة لا تحسن إلا ما حسنت العقول ولا تقبح ما قبحت بل هو قولنا نفسه وإنما أنكرنا أن يكون العقل رتبة في تحريم شيء أو تحليله أو تحسينه أو تقبيحه وأما إذا وردت الشريعة بالنهي عن شيء أو إباحته فواجب في العقول الانقياد لذلك والانقياد لمنع ما أبيح أو إباحة ما منع إن جاء أمر بخلاف الأمر المتقدم فلم يحدث في العقول شيء لم يكن ولا غير النسخ شيئا مما كان فيها من وجوب الانقياد لما وردت به الشريعة وقد قال بعض القائلين بالحظر إن معنى قوله عز وجل {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} إنما معنى هذا ليعتبر به قال أبو محمد وهذا تحكم لا يشبه إلا تحكم الصبيان ومن استجاز مثل هذا من نقل الألفاظ عن مراتبها في اللغة فلا ينكر على غلاة الروافض قولهم إن معنى الصلاة الدعاء لا الركوع والسجود معنى الزكاة طهارة الأنفس ومعنى الحج القصد إلى الإمام ومن سلك هذه الطريقة أبطل الديانة وأدى إلى إبطال جميع التفاهم ولم يكن في الدنيا كلام إلا واحتمل أن يقول فيه قائل إنه مقصود

به غير ما يقتضيه لفظه وهذا هو إبطال الحقائق وساغ للعيسوية من اليهود أن يقولوا إن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نبي بعدي أي من العرب فقط وساغ للمعتزلة أن تقول وخلق كل شيء أي الأجسام وأعراضها حاشا الحركات وساغ للحشوية أي تقول بل خلق كل شيء حاشا الروح والإيمان والكلام المسموع من القراء وساغ للمنانية أن يقولوا خلق كل شيء من الخير فقط وهذا كلام ومذهب يفسد الدين ويبطل حقيقة العقل وقد علمنا ضرورة أن الألفاظ إنما وضعت ليعبر بها عما تقتضيه في اللغة وليعبر بكل لفظة عن المعنى الذي علقت عليه فمن أحالها فقد قصد إبطال الحقائق جملة وهذا غاية الإفساد وبالله تعالى التوفيق قال علي ثم نبطل كلا المذهبين معا بحول الله وقوته قال الله تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون} وقال تعالى {قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون} قال علي ففي هاتين الآيتين نص واضح على تحريم القول في شيء من كل ما في العالم أنه حرام أو أنه حلال فبطل بذلك قول من قال إن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإباحة وصح أن من قال شيئا من من ذلك بغير إذن من الله تعالى فهو مفتر على الله عز وجل وأما إذا ورد الشرع بأي شيء ورد من إباحة الكل أو حظر الكل أو حظر البعض أو إباحة البعض فواجب القوم بكل ما ورد من ذلك وقال تعالى {ألم تر أن لله يعلم ما في لسماوات وما في لأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم لقيامة إن لله بكل شيء عليم} والسدي المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى فصح بهذه الآية أن الناس لم يبقوا قط هملا دون ورود شرع فبطل قول من قال إن العقول تعرف وقتا من الدهر من شرع وإذ قد بطل هذا القول فقد بطل أن يكون الشيء في العقل قبل وورد الشرع له حكم في العقل بحظر أو إباحة

فصار قولهم محالا ممتنعا مع كونه حراما أيضا لو كان ممكنا وقال تعالى {إنآ أرسلناك بلحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} فبطل هذا أن تكون أمة وقتا من الدهر لم يتقدم فيهم نذير وقد كان آدم عليه السلام رسولا في الأرض وقال تعالى له إذ أنزله إلى الأرض {فأزلهما لشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا هبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في لأرض مستقر ومتاع إلى حين} فأباح تعالى الأشياء بقوله إنها متاع لنا ثم حظر ما شاء وكل ذلك بشرع وكذلك إذ خلقه في الجنة لم يتركه وقتا من الدهر دون شرع بل قد قال تعالى {وقلنا ياآدم سكن أنت وزوجك لجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه لشجرة فتكونا من لظالمين} فلم يخل قط وقت من الزمان عن أمر أو نهي قال علي ويقال لهم أيضا لو جاز أن نبقى دون شرع لكان حكمنا كحكمنا قبل أن نحتلم فإن الأمور حينئذ لا حكم لها علينا لا بحظر ولا إباحة ولا فرق بين كونهما كذلك قبل البلوغ بنصف ساعة وبين كونهما كذلك بعد البلوغ وكلا الأمرين في العقول سواء وما في العقل إيجاب الشرع على من احتلم وسقوطه عمن لم يحتلم وليس بين الأمرين إلا نومة لطيفة فبطل بهذا ما ادعوه من أن العقول فيها حظر شيء أو إباحته قبل ورود الشرع وموافاة الخطاب من الله عز وجل ولو كان كذلك للزم غير المحتلم كلزومه المحتلم إذ موجب العقل لا يختلف قال علي ويقال لمن قال لكل شيء مباح في العقل إلا الفكر أليس إقرار المرء بلسانه بالتثليث غير متبع له إنكارا كفرا من قائله فإن قال لا كفر وإن قال نعم قيل له صدقت وقد أباح الله تعالى الإعلان به دون اتباع أفكار لمن اضطر وخاف الأذى وقد أباح الله تعالى عند خوف القتل الكفر الصحيح الذي هو كفر في غير تلك الحال ولسنا نسألهم عن الكفر الذي هو العقد إنما نسألهم عن الكفر الذي هو النطق به فقط لأن بعضهم قال لم يبح الله تعالى قط الكفر لأن الكفر الذي هو العقد ولا خلاف بين من يعتد

فصل فيمن لم يبلغه الأمر من الشريعة

به في النطق بالكفر دون اتباع بإنكار ولا حكاية كفر صحيح فعن هذا الكفر سألناهم وهم يقرون بأن امرأ لو قال بلسانه أنا كافر بالإسلام مقر بالتثليث إن هذا كفر وإنه مرتد وهذا بعينه الذي أبيح عند الإكراه فقد جاءت إباحة الكفر نصا وحسن ذلك في عقولهم وبطل قولهم والذي نقول به إن الله تعالى لو أباح الكفر الذي هو العقد لكان حسنا مباحا وأنه إنما حظر بالشرع فقط وبالله تعالى التوفيق ويقال لمن قال إن كفر المنعم محظور بالعقل ما تقول في كافر ربى إنسانا وأحسن إليه ثم لقيه في حرب أيقتله أم لا فإن قالوا لا خالفوا الإجماع وإن قالوا نعم نقضوا قولهم في أن كفر المنعم محظور بالعقل فإن قالوا إن قتله شكر له كابر وإن أقروا بأن قتله الذي هو سبب مصيره إلى الخلود في النار شكر له وإحسان إليه وهذا ضد ما ميزه العقل وبالله تعالى التوفيق فصل فيمن لم يبلغه الأمر من الشريعة قال علي بن أحمد اختلف الناس فيمن لم يبلغه الحكم الوارد من الله تعالى في الشريعة في خاص منها أو في جميعها فقالت طائفة كل أحد مأمور منهي ساعة ورود الأمر والنهي إلا أنه معفو عنه غير مؤاخذ بما لم يبلغه من الأمر والنهي وقالت طائفة إن الله تعالى لم يأمر قط بشيء من الدين إلا بعد بلوغ الأمر إلى المأمور وكذلك النهي ولا فرق وأما قبل انتهاء الأمر أو النهي إليه فإنه غير مأمور ولا منهي قال علي وبهذا نقول لقول الله عز وجل {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} صلى الله عليه وسلم {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} ولإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يسمع به يهودي أو نصراني فلم يؤمن به إلا وجبت له النار حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا محمد بن أيوب

الرقي أنبا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا محمد بن المثنى ثنا معاذ بن هشام الدستوائي ثنا أبو علي قتادة عن الأسود بن سريع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يعرض على الله تبارك وتعالى الأصم الذي لا يسمع شيئا والأحمق والهرم ورجل مات في الفترة فيقول الأصم رب جاء الإسلام وما أسمع شيئا ويقول الأحمق رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا ويقول الذي مات في الفترة رب ما أتاني لك من رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل الله تعالى إليهم ادخلوا النار فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما وبه إلى قتادة عن الحسن البصري عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثله وزاد في آخره ومن لم يدخلها دخل النار فصح كما أوردنا أنه لا نذارة إلا بعد بلوغ الشريعة إلى المنذر وأنه لا يكلف أحد ما ليس في وسعه وليس في وسع أحد علم الغيب في أن يعرف شريعة قبل أن تبلغ إليه فصح يقينا أن من لم تبلغه الشريعة لم يكلفها واحتجت الطائفة الأخرى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر فسماه عليه السلام مخطئا ولا يكون المخطىء إلا من خالف ما أمر به قال أبو محمد وهذا الخبر لا حجة لهم فيه بل هو حجة لنا وبه نقول لأنه قد يكون مخطئا من لا يوافق الحق وإن لم يكن مأمورا بالعمل به كإنسان سمى آخر بغير اسمه غير عامد فهذا مخطىء ولا أمر يلزمه ها هنا وكمن أنشد بيت شعر فوهم فيه فهو مخطىء بلا شك وهذا المجتهد مخطىء بلا شك إذا حكم بخلاف ما ورد به الحكم من عند الله عز وجل وأدخل في الدين ما ليس منه وإن كان غير مأمور بالحكم بما لم يبلغه فإنه منهي عن الحكم بما ظن أنه حق وهو غير حق وأما إذا بلغه فإنه مأمور به وإن نسيه لأنه قد بلغه ولزمه فإن قال قائل لو كان ما قلتم لكان الدين لازما لبعض الناس لا لكلهم قلنا وبالله التوفيق ليس كذلك بل الدين لازم للجن والإنس إذا بلغهم نعم

ولكل من لم يخلق بعد إذا خلق وبلغه وبلغ حد التكليف لا قبل ذلك وأنتم لا تخالفوننا في الشريعة أنها لا تلزم من لم يخلق قبل أن يخلق ولا من لم يبلغ قبل أن يبلغ فإن قالوا فكيف حال من لم يبلغه الأمر أهو مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمره الله تعالى به مما لم يبلغه ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قلتم هو مأمور بما أمره الله تعالى به وإن لم يبلغه فهو قولنا وإن قلتم هو غير مأمور بما أمره الله تعالى به أو أنه مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمر الله تعالى به كان ذلك شغبا بشيعا قلنا وبالله التوفيق لسنا نقول بواحد من هذين الجوابين لكنا نقول هو غير مأمور في ذلك بشيء أصلا حتى يبلغه وحاله في ذلك كحال من لم يبلغ حد التكليف حتى يبلغ فإن قالوا فكيف حكمه إن خالف ما يرى أنه الحق عامدا فوافق بذلك ما أمر الله تعالى به قلنا لهم هذا السؤال لازم لكم ولنا فأما نحن فنقول وبالله التوفيق إنه ليس في ذلك مطيعا ولا عاصيا لكنه مستسهل لمخافة الحق هام بترك الحق إلا أنه لم يفعل ذلك بعد هذه صفته على الحقيقة إلا أنه لم يخالف بفعله ذلك حقا ولا واقع باطلا قال علي أهل هذه الصفة ينقسمون ثلاثة أقسام فقسم شهدوا ورود الأمر من الله تعالى ثم نسخ ولم يشهدوا الناسخ وليس أحد من هؤلاء موجودا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن النسخ بطل بعد موته عليه السلام واستقرت الشرائع وقسم ثان علموا المنسوخ ولم يبلغهم الناسخ أو بلغهم المجمل ولم يبلغهم المخصص وقسم ثالث بلغهم الناسخ والمنسوخ والمجمل والخاص ثم نسوا الخاص والناسخ أو تأولوا فيهما تأويلا قاصدين إلى الحق فإما من كان في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه المنسوخ ولم

يبلغه الناسخ فهؤلاء خاصة لا يسقط عنهم الأمر بالمنسوخ حتى يبلغ إليهم الناسخ لأنه قد لزمهم الذي بلغهم بيقين لا شك فيه ولا يسقط اليقين إلا بيقين برهان هذا أنه قد صح وثبت عند جميع أهل العلم أن المسلمين كانوا بأرض الحبشة وبأقصى جزيرة العرب فنزل الأمر من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يكن فيه قبل ذلك أمر كالصوم والزكاة وتحريم بعض ما لم يكن حراما كالحق وإمساك المشركات وغير ذلك فلا شك في أنه لم يأثم أحد منهم بتماديه على ما لم يعلم نزول الحكم فيه وكذلك كان ينزل الأمر مما تقدم فيه حكم بخلاف هذا النازل كتحويل القبلة عن بيت المقدس وغير ذلك فلا شك أيضا في أنهم لم يأثموا ببقائهم على العمل بالمنسوخ بل كان فرضا عليهم الصلاة كما أمروا وعرفوا حتى يبلغهم نسخه هذا ما لا يختلف فيه اثنان فصح قولنا والحمد لله يقينا لا مجال للشك فيه وهكذا بقي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزيد من عشرة أعوام مقرين لليهود والنصارى والمجوس بجزيرة العرب إذ لم يبلغهما نهي النبي عليه السلام عن إقرارهم فيها فلم يختلف أحد في أنهما لم يعصيا بذلك بل فعلا ما أمرا به ولو قال قائل إن هذا إجماع صحيح متيقن لما بعد عن الصدق لأنه لم ينكر ذلك عليهما أحد من الصحابة وليس منهم أحد خفي عليه إقرارهما لهم قبل بلوغ النهي إليهما وبالله تعالى التوفيق فإن قيل فهلا قلتم إنه سقط عنهم استقبال بيت المقدس ولم يؤمروا باستقبال الكعبة بقول الله تعالى {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر لمسجد لحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا لذين ظلموا منهم فلا تخشوهم وخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون} قلنا لا لما قد ذكرنا من أن الحكم لا يلزم حتى يبلغ وإنما خاطب الله بهذا الأمر من بلغه ومن لم يخلق إذا خلق وبلغه ولا دليل على سقوط ما قد ثبت عليهم من استقبال بيت المقدس إلا ببلوغ الأمر إليهم بتركه قال علي ولو كانوا مأمورين باستقبال الكعبة حين نزول الأمر من قبل

أن يبلغهم لكان من أقدم منهم فصلى إلى الكعبة عامدا قبل أن يبلغهم الأمر جائز الصلاة وهذا باطل وأما لو أن إنسانا اليوم خفيت عليه دلائل القبلة فاستدل فأداه استدلاله إلى جهة ما وقطع بذلك ثم تعمد الصلاة إلى خلاف تلك الجهة فلما سلم إذا به الى القبلة فإن صلاته باطلة وهو بذلك فاسق لأنه تعمد العمل في صلاته بما ليس عالما أنه أمر به فيها فقصد العمل بما يرى أنه ليس من صلاته فقد قصد إفساد صلاته فبطلت بذلك قال أبو محمد وأما من كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبلغه الناسخ ولا الخالص فإنه أيضا مأمور بما يعتقد من المنسوخ ومن عموم المخصوص لأن الله تعالى لم يكلفه قط خلاف ذلك بل افترض عليه خلافا لذلك طاعة أمره تعالى جملة والمنسوخ من أمره فلا شك فهو لازم لكل من بلغه بعموم الأمر المذكور حتى يبلغه نسخه وبالله تعالى التوفيق ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يورد على عبده أمرا يأمره به ثم ينهاه عنه ولا يعلمه بنهيه عنه وهو تعالى قد تكفل لنا بالبيان قال عز وجل {لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم} فلو ورد أمر الله تعالى ثم نهاه عنه ولم يبلغه نهيه لكان ذلك إضلالا والتباسا ولكان الرشد غير مبين من الغي وحاشا لله من هنا يقينا وأما من بلغه الناسخ والخاص ثم نسيهما أو تأول فيهما بمبلغ طاقته فهو مأمور بما بلغه من ذلك لأنه منذ بلغه منهي عما هو عليه لأنه قد بلغه النهي إلا أنه معذور مأجور مرة مأجور بقصده الخير ومعذور بجهله ونسيانه فهذا حكم هذا الباب بالبرهان الصحيح وبالله تعالى التوفيق فإن احتج محتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فرضت الصلاة ليلة الإسراء وفيه قول موسى عليه السلام كم فرض الله على أمتك قال خمسين صلاة أو نحوها فأخبر النبيان عليهما السلام أن الله تعالى فرض علينا قبل أن

الباب السابع في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف

يبلغنا خمسين صلاة قلنا إنما معنى هذا أنه متى بلغنا الأمر لزمنا وبرهان ذلك أن ذلك لا يلزم من لم يخلق حتى يخلق ولا من لم يبلغ حتى يبلغ ولا من لم يأت عليه وقت الصلاة حتى يأتي وقتها هذا ما لا خلاف فيه فصح أن الفرض المذكور إنما هو بعد الخلق وبعد البلوغ وبعد انتهاء الشرع إليه وبعد دخول الوقت وبهذا تتألف الأخبار كلها وبالله تعالى التوفيق برهان ذلك أنه لم يعص قط أحد من المسلمين بتركه الخمسين صلاة ولو وجبت وتركها تارك لكان عاصيا لله تعالى فصح أنه يلزمنا إلا ما بلغنا من الدين وأما من بلغ إليه خبر غير صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وصححه له متأول أو جاهل أو فاسق لم يعلم هو بفسقه فهذا هو مبلغ فهو إن عمل بما بلغه من ذلك الباطل فمعذور بجهله لا إثم عليه لأنه لم يتجانف لإثم والأعمال بالنيات فهو مجتهد مأجور مرة في قصده بنيته إلى الخير وإلى طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلو خالف ما بلغه من ذلك فإنما عليه إثم المستسهل بخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم إما بعلمه فقط فهو فاسق وإما بنيته فهو كافر وبالله تعالى التوفيق الباب السابع في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا قال علي قد ذكرنا فيما خلا من هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا أنه لا طريق إلى العلم أصلا إلا من وجهين أحدهما ما أوجبته بديهة العقل وأوائل الحس والثاني مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحس وقد بينا كل ذلك في غير هذا المكان فأغنى عن ترداده وقد بينا أيضا أن بالمقدمات الصحاح الضرورية المذكورة علمنا صحة التوحيد وصحة نبوة

محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه في كل ما قال وأن القرآن الذي أتى به هو عهد الله تعالى إلينا فلما كان فيما ذكر لنا عن ربه تعالى وجوب أشياء ألزمناها اجتهاد هذا الإنسان لم يكلفه الله تعالى أكثر ما في وسعه والانتهاء عن أشياء منعنا منها ووعد بالنعيم الأبدي من أطاعه وبالعذاب الشديد من عصاه وتيقنا وجوب صدقه في ذلك لزمنا الانقياد لما أمرنا له بالانقياد له وتيقنا صحة كل ما ذكر لنا ضرورة ولا محيد للنفس عنها بما نقلته الكواف مما أظهر من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الخالق الأول تعالى والشاهد لنبيه صلى الله عليه وسلم بها على صحة ما أتى به عنه تعالى فوجب علينا تفهم القرآن والأخذ بما فيه فوجدنا فيه التنبيه على صحة ما كنا متوصلين به إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه من مدارك العقل والحواس ولسنا نعني بذلك أننا نصحح بالقرآن شيئا كنا نشك فيه من صحة ما أدركه العقل والحواس ولو فعلنا ذلك لكنا مبطلين للحقائق ولسلكنا برهان الدور الذي لا يثبت به شيء أصلا وذلك أننا كنا نسأل فيقال لنا بم عرفتم أن القرآن حق فلا بد أن نقول بمقدمات صحاح يشهد لها العقل والحس ثم يقال لنا بماذا عرفتم صحة العقل والحس المصححين لتلك المقدمات فكنا نقول بالقرآن فهذا استدلال فاسد مبطل للحقائق ولكنا قلنا إن في القرآن التنبيه لأهل الجهل والغفلة وحسم شغب أهل العناد وذلك أن قوما من أهل ملتنا يبطلون حجج العقول ويصححون حجج القرآن فأريناهم أن في القرآن إبطال قولهم وإفساد مذاهبهم وأن الله تعالى قد علم أن سيكون في العالم أمثالهم فأخبرنا بما يبطل به شغبهم ويزيل شكوكهم كما قال تعالى {وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} فمما أمرنا فيه تعالى باستعمال دلائل العقل والحواس قوله تعالى {ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم لسمع ولأبصار ولأفئدة قليلا ما تشكرون} وصدق الله تعالى ما شكره من إبطال دلائل سمعه وبصره وعقله وقال تعالى {ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين}

وذم تعالى من لم يستعمل دلائلها فقال حاكيا عن قوم معذبين ولإعراضهم عن الاستدلال المؤدي الى معرفة الحقائق قال الله تعالى {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من لجن ولإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهآ أولئك كلأنعام بل هم أضل أولئك هم لغافلون * ولله لأسمآء لحسنى فدعوه بها وذروا لذين يلحدون في أسمآئه سيجزون ما كانوا يعملون} إلى قوله {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من لجن ولإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهآ أولئك كلأنعام بل هم أضل أولئك هم لغافلون * ولله لأسمآء لحسنى فدعوه بها وذروا لذين يلحدون في أسمآئه سيجزون ما كانوا يعملون} وقال تعالى حاكيا عن مثلهم {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب لسعير} فصدقهم الله عز وجل في قولهم ذلك فقال تعالى {فعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب لسعير} وقال تعالى {ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات لله وحاق به ما كانوا به يستهزئون} فذم تعالى من لم ينتفع بما أعطاه من الحواس والعقل قال أبو محمد أترى هؤلاء المقرين على أنفسهم أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون ولو سمعوا أو عقلوا ما دخلوا النار أكانت صمخ آذانهم ذات آفات مانعة من تأدية الأصوات أو كانوا جاهلين بأمور دنياهم وأحكام حرثهم وغراستهم والقيام على مواشيهم ونفقات أموالهم وإنمائها وبنيان منازلهم وعمارة بساتينهم وتدبير متاجرهم وصناعاتهم وحفظ أموالهم وطلب الجاه والرياسة كلا والذي عذبهم وأخزاهم وذمهم بل كانوا أعلم بذلك كله وأشد اهتبالا به وأشغل نفوسا فيه وأبصر لنموه وتكثيره وحياطته من أهل الفضل المقتصرين من ذلك مما يضيع العيال والجسم بتركه أو ما جاءهم من ذلك على ما لا بد منه عفوا وكان غير شاغل لهم عما هو آكد عليهم المقبلين على طلب معرفة الحقائق والوقوف على العلم والعمل الموصلين إلى معرفة الآخرة والسعادة في دار البقاء في الجنة التي وعدها الله تعالى أولياءه والمبعدين من الهلاك والقرار في دار العذاب في النار التي وعدها الله عز وجل لأعدائه المشتغلين بذلك عما تهافت عليه أهل الجهل والنقصان كما ثنا عبد الله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد

عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وكلاهما عن أسود بن عامر قال ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة وثابت البناني هشام عن أبيه عن عائشة وثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنتم أعلم بأمر دنياكم في حديث قوله عليه السلام في تلقيح النخل فتركوه فخرج شيصا ولكن هؤلاء المعذبون أضربوا عن استعمال السمع والبصر واللمس والذوق الشم والعقل في الاستدلال على الخالق تعالى ولم يقرب منه من عقد وقول وعمل وصرفوا كل ذلك في حطام فان لا يجدي ولا يغني بل يثقل ويندم وبالله تعالى التوفيق قال علي ووجدنا في القرآن إلزامنا الطاعة لما أمرنا به ربنا تعالى فيه ولما أمرنا نبيه صلى الله عليه وسلم مما نقله عنه الثقات أو جاء عنه بتواتر أجمع عليه جميع علماء المسلمين على نقله عنه عليه السلام فوجدناه تعالى قد ساوى بين هذه الجمل الثلاث في وجوب طاعتها علينا فنظرنا فيها فوجدنا منها جملا إذا اجتمعت قام منها حكم منصوص على معناه فكان ذلك كأنه وجه رابع إلا أنه غير خارج عن الأصول الثلاثة التي ذكرنا وذلك نحو قوله عليه السلام كل مسكر خمر وكل خمر حرام فأنتج ذلك كل مسكر حرام فهذا منصوص على معناه نصا جليا ضروريا لأن المسكر هو الخمر والخمر هي المسكر والخمر حرام فالمسكر الذي هو هي حرام ومثل قوله تعالى {يوصيكم لله في أولادكم للذكر مثل حظ لأنثيين فإن كن نسآء فوق ثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها لنصف ولأبويه لكل واحد منهما لسدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه لثلث فإن كان له إخوة فلأمه لسدس من بعد وصية يوصي بهآ أو دين آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من لله إن لله كان عليما حكيما} وقد تيقنا بالفعل الذي به علمنا الأشياء على ما هي عليه أن كل معدود فهو ثلث وثلثان فإذا كان للأم الثلث فقط وهي والأب وارثان فقط فالثلثان للأب وهذا علم ضروري لا محيد عنه للعقل ووجدنا ذلك منصوصا على المعنى وإن لم ينص على اللفظ ومثل

إجماع المسلمين على أن الله تعالى حكم بأن دم زيد حرام لإسلامه ثم قال قائل قد حل دمه فقلنا قد تيقنا بالنص وجوب الطاعة للإجماع وقد صح نقل الإجماع على أن دمه حرام فلا يجوز لنا خلاف ذلك إلا بنص منقول بالثقات أو بتواتر أو بإجماع ناقل لنا فهذا منصوص على معناه ومثل أن يدعي زيد على عمرو بمال فنقول إن الله تعالى نص على إيجاب اليمين على عمرو لأن النص قد جاء بإيجاب اليمين على من ادعي عليه وعمرو مدعى عليه فقد أوجب النص اليمين على عمرو فلا سبيل إلى معرفة شيء من أحكام الديانة أصلا إلا من أحد هذه الوجوه الأربعة وهي كلها راجعة إلى النص والنص معلوم وجوبه ومفهوم معناه بالعقل على التدريج الذي ذكرناه وقد ادعى قوم أن من الشرائع ما لا سبيل في القدرة إلى تغييره فأتوا بأمر عظيم وأدى قولهم هذا الفاسد إلى أن ربهم تعالى مضطر إلى الأمر بما أمر من ذلك فمن التزم منهم ما توجبه مقدمته الفاسدة كفر ومن جبن عن التزامه تناقض وقضى بفساد معتقده الذي هو ثابت عليه إلا أنهم استعظموا أن يطلقوا ما يوجبه مذهبهم فحسنوه بعبارة كنوا بها عنه فقالوا لا سبيل في العقل إلى تغييره قال علي والعقل لا يوجب على الباري تعالى حكما بل الباري تعالى خالق العقل بعد أن لم يكن ومرتب له وفيه ما قد رتب مما لو شاء أن يخترعه ويرتبه على خلاف ذلك لفعل وإنما العقل مفهم عن الله تعالى مراده ومميز للأشياء التي قد رتبها الباري تعالى على ما هي عليه فقط فقال هؤلاء إن الكفر والظلم لا يتوهم جواز استباحته قال علي ولا دليل على ما ذكروا بل قد كان ممكنا أن يأمرنا تعالى بالكفر به وبجحده وبعبادة الأوثان وبالظلم ولكنه تعالى قد أخبرنا أنه لا يفعل ذلك فعلمنا أن ذلك لا يكون أبدا ليس لأنه ممتنع منه عز وجل لو شاءه

ولا أنه تعالى عاجز عن ذلك لو أراده ولكن لأنه لا يقول إلا الصدق وقد أخبرنا أن ذلك لا يكون وأنه لا يرضى لنا الكفر ولا يأمر أن نتخذ إلهين اثنين فلما أخبرنا بذلك منعنا من كونه كما منعنا أن يأتي رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم وكما منعنا من عمارة مكان قفر قد رأيناه غير معمور إلى وقتنا هذا ومن خلاء مدينة قد عهدناها معمورة إلى وقتنا هذا وقد كان في الممكن خلاء تلك المدائن وعمران هذا القفر ولكن الله تعالى لم يرد ذلك إلى الآن فعلى هذا الوجه منعنا أن يأمر بالكفر به لا على أن العقل مانع من جواز ذلك لو شاءه عز وجل قال علي وبرهان ذلك أننا واجدون بالمشاهدة أكثر أنواع الحيوان لم تتعبد بالإيمان بالله عز وجل ولا ركب فيها التمييز الذي لا يعرف الله عز وجل إلا به فلو شاء تعالى أن يجعل الإنسان غير مأمور لفعل ولما كان هنالك شيء يمنعه من ذلك تعالى وجهه ولا يوجب عليه فعل ما فعل ولا بد وهؤلاء الصبيان الذين بلغوا الأربعة عشر عاما ولم يشعروا ولم يحتلموا بإجماع أكثر الأمة بالإيمان أمر إلزام ولا منهيين عن الكفر نهي تحريم فإذا احتلموا لزمهم الإيمان فرضا وحرم عليهم الكفر حتما ولم يكن بين تعريهم من الأوامر والنواهي وبين حلولها عليهم إلا نومة لعلها أقل من مقدار شي بيضة ولم يزد التمييز الذي كان فيهم في تلك النومة شيئا بل هو على حسبه الذي كان عليه قبل أن ينامها ولا فرق هذا شيء يعلم بالحس والمشاهدة يعني تساوي التمييز فيهم في ذينك الوقتين وهذا شيء قد يشهد النص به ولا خلاف فيه بين جمهور أهل الملة التي وضعنا كتابنا هذا في أحكامهم وعبادتهم اختلافهم في معنى براءة من لم يشعر ولم يحتلم ولا حاض إن كان امرأة ولا بلغ خمسة عشر عاما من جميع الأوامر الواردة من الله تعالى ولزومها لمن احتلم وبلغ خمسة عشر عاما مع الاحتلام أو حاض إن

كان امرأة في هذه السن ولا فرق في العقل بين جواز عدم الأمر بالإيمان في كلتا الحالتين المذكورتين وبين جواز وجود الأمر به في كلتيهما فإن شغب مشغب بتعلم الصبيان الصلاة وضربهم عليها وأراد بذلك غرور الضعفاء المقلدين فليعلم أنه لا خلاف عند الحاضرين من خصومنا في أن ذلك على سبيل التدريب وتعليم الخير لا على سبيل الإيجاب لذلك عليهم وكذلك دعاؤنا إياهم إلى الإسلام وبرهان ذلك أننا لا نقتلهم إن ارتدوا حتى يحتلموا ولا نقتلهم إن قتلوا ولا نحدهم إن زنوا ولا يحرم الميراث وإن ارتد قبل بلوغه من موروثه المسلم فإن ادعى مدع أن البهائم متعبدة واختار اللحاق بأحمد بن حابط والخروج عن إجماع المسلمين فحسبه مفارقة الإسلام واللحاق بالكفر وليس هذا مكان محاجة أهل هذا المذهب وقد بينا ذلك في كتاب الفصل وإنما قصدنا في كتابنا هذا بيان جمل الأحكام فقط فمن أراد أن يقف على هدم ما ذكرنا من الشغب فليقرأ كتابنا المرسوم بكتاب الفصل إن شاء الله تعالى قال أبو محمد فإذ قد بينا أقسام المعارف جملة ثم بينا أقسام الأصول التي لا يعرف شيء من الشرائع إلا منها وأنها أربعة وهي نص القرآن ونص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي إنما هو عن الله تعالى مما صح عنه عليه السلام نقل الثقات أو التواتر وإجماع جميع علماء الأمة أو دليل منها لا يحتمل إلا وجها واحدا فلنصف بحول الله وقوته كيف يستعمل المناظران أو المتعلم أو العالم السبيل إلى معرفة الحقائق مما ذكره فنقول وبالله تعالى التوفيق أول ذلك سؤال السائل مسؤوله عن مذهبه في مسألة كذا إما مستفهما أو مناظرا فإذا أجابه سأله ما دليلك على كذا فإذا أجابه فقد وصلا إلى ميدان المعارضة فإن لم يكن هنالك إلا أن يصف كل واحد منهما مذهبه ولم يزد المسؤول على ذكر مذهبه فقط ولم يأت بدليل

فقد سقط وبطل واكتفى بذلك عن تكلف إبطاله إذ قد بينا فيما تقدم من كتابنا هذا إبطال كل قول لم يقم عليه دليل فإن عارض المسؤول السائل بدليل مثل أن يستدل أحدهما على صحة مذهبه بآية فيحتج عليه الآخر بآية أخرى هي في ظاهرها مخالفة الحكم للتي احتج بها خصمه أو بحديث كذلك أو احتج أحدهما بحديث فعارضه الآخر بآية هي ظاهرها مخالفة الحكم لذلك الحديث أو بحديث كذلك فسنفرد لذلك بابا موعبا في كتابنا هذا إن شاء الله عز جل عند كلامنا في الأخبار وإن أمدنا الله بمده وقوته فسنفرد لكل هذه الوجوه كتبا مفردة في أشخاص الأحاديث والآي التي ظاهرها التعارض ونحن نبين بحول الله وقوته نفي الاختلاف عن كل ذلك وبالله تعالى نعتصم ونتأيد وقد ذكر مخالفونا تعارض العلل قال علي وسنبين في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى بطلان العلل في الشرائع بالجملة وإن أمدنا الله تعالى بمده وعون من قبله عز وجل فسنفرد في المسائل النظرية وهي التي دلائلها نتائج مأخوذة من مقدمات نصية أو إجماعية ديوانا موعبا نتقصى فيه إن شاء الله تعالى الأدلة الصحيحة وبطلان علل أصحاب القياس ومفاسدها بالجملة وبالله تعالى التوفيق ثم رأينا كتابنا المعروف بالإيصال جامع لكل ذلك مغن عن إفراد كتب لكل صنف منها قال علي وكل من قال بقبول خبر الواحد ثم صح عنده خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم متكامل الشروط التي بوجودها يصح عنده الخبر جملة فإن تركه لحديث آخر فهو مجتهد إما مخطىء وإما مصيب وكذلك إن تركه لنص قرآن وكذلك إن ترك نص قرآن لحديث آخر أو نص قرآن إلا أنه إن كان قد ترك في مكان آخر مثل تلك الآية التي أخذ بها الآن أو الحديث

الذي أخذ به أو أخذ بمثل الحديث أو الآية اللذين ترك ههنا وخالف ترتيب أخذه في المسائل فإن كان لم يتنبه لذلك فهو غافل معذور بالجهل فإن نبه على ذلك فتمادى على خطأه فهو فاسق لإقراره في مكان ما بأن مثل ذلك العمل الذي استعمل ههنا باطل فهو مقدم على الأخذ بما يدري أنه باطل وذلك مثل من أخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وترك ظاهر قول الله تعالى {ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} ثم إنه ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحرم الرضعة والرضعتان وأخذ بظاهر قوله عز وجل {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} فهذا إذا وقف على تناقض فعله وتمادى عليه فهو فاسق لأنه في أحد الموضعين مقر بأن ترك ظاهر القرآن للحديث خطأ لا يحل وفي الموضع الثاني استعمل ما أقر أنه لا يحل فهو مقدم على ما لا يجوز له بإقراره فإن علل حديث الرضعتين أريناه في حديث السارق مثل تلك العلل بعينها فإن تمادى على الأخذ بأحدهما وترك الآخر فهو فاسق متلاعب بدينه وإن ترك نصا لقياس بعد قيام الحجة عليه بإبطال القياس فهو فاسق أيضا وإن ترك نصا لقول صاحب فمن دونه فإن كان يعتقد أن عند ذلك الصاحب علما عن النبي صلى الله عليه وسلم وقامت عليه الحجة ببطلان ذلك فتمادى ولم يتب فهو فاسق فإن كان يعتقد أن لأحد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرم شيئا كان حلالا إلى حين موته عليه السلام أو يحل شيئا كان حراما إلى حين موته عليه السلام أو يوجب حدا لم يكن واجبا إلى حين موته عليه السلام أو يشرع شريعة لم تكن في حياته عليه السلام فهو كافر مشرك حلال الدم والمال حكمه حكم المرتد ولا فرق وقد ظن قوم مثل هذا في المنع من بيع أمهات الأولاد وفي حل الخمر وفي إسقاط ست قراءات كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مباحة

فمن لم تقم عليه الحجة في بطلان هذا المعتقد فهو معذور بالجهل وأما من قامت عليه وتمادى على مذهبه في ذلك فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال كما ذكرنا وسنبين بحول الله وقوته وجوه هذه المسائل الثلاث في كلامنا في الإجمال من كتابنا هذا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال علي وكل ما قلنا فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة عليه فهو ما لم تقم عليه الحجة معذور مأجور وإن كان مخطئا وصفة قيام الحجة عليه هو أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها وبالله تعالى التوفيق قال علي والوجه الذي ذكرنا آنفا وهو الذي فيه ظاهر تعارض بين آي وآي وبين حديث وحديث وبين حديث وآي فلسنا نقطع فيه على أننا مصيبون للحق ولا أننا علمناه يقينا ولا كنا نقول فيه هذا هو الحق عندنا ونبين كل مسألة من ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى وهذه هي المتشابهات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الحلال بين والحرام بين وبينهما متشابهات لا يعلمها كثير من الناس وليس هذا من المتشابه الذي ذكر الله عز وجل في قوله {هو لذي أنزل عليك لكتاب منه آيات محكمات هن أم لكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه بتغاء لفتنة وبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا لله ولراسخون في لعلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا لألباب} وسنبين ذلك كله في باب مفرد في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى عز وجل إلا أننا قاطعون باتون على أن علم الحقيقة فيما أشكل علينا موجود عند غيرنا ولا بد لقول الله تعالى {لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم} ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم هل بلغت قالوا اللهم نعم قال اللهم اشهد وأما كل حديث صح عندنا أنه ناسخ ولم يأت له معارض وكل آية وردت كذلك لا معارض لها أو كل نص من حديث صحيح أو آية عارضهما نص آخر منهما فإن الزائد في حكمه على الآخر هو الحق المتيقن لأنه شرع وارد من عند الله تعالى لا يحل تركه إلا بنص يبين أنه منسوخ أو مخصوص فما كان هكذا من النصوص كلها فنحن موقنون بأننا

فصل في هل على النافي دليل أم لا

فى اعتقاد موجبها محقون عند الله عز وجل وأن مخالفنا فيها مخطىء عند الله عز وجل وكل إجماع صح وتيقن على نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم فنحن قاطعون أيضا على أننا فيه محقون عند الله عز وجل وإن حدث بعد الإجماع اختلاف في فرع من فروع المسألة وإن استدل المخالف بحديث مرسل أو نقل ضعيف لم نتبعه ولم نقطع على أنه مبطل عند الله عز وجل بل نقول هذا الحق عندنا إلا أن نتيقن أن ذلك الخبر لم يأت قط مسندا من طريق يصح فنقطع حينئذ على أنه باطل عند الله تعالى على ما نبين بعد هذا في باب الكلام في الأخبار إن شاء الله تعالى فإن لم يحتج في ذلك بشيء من نص لكن بتقليد أو قياس فنحن قاطعون بأنه مخطىء عند الله تعالى وأننا محقون عنده تعالى ولكل استدلال ما عدا ما ذكرناه من تقليد صاحب فمن دونه أو قياس أو استحسان فهو باطل بيقين عند الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق فصل في هل على النافي دليل أو لا قال علي بن أحمد اختلف الناس في هذا على قسمين فطائفة قالت الدليل على من أوجب شيئا أو ثبت حكما أو قضية وليس على النافي دليل وقالت طائفة الدليل يلزم إقامته النافي والموجب معا قال علي والصحيح من ذلك أنا وجدنا الله تعالى أنكر على من حقق شيئا بغير علم وأنكر على من كذب بغير علم فقال تعالى {قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} فقد حرم الله تعالى بنص هذه الآية أن يقول أحد على الله عز وجل شيئا لا يعلم صحته وعلم صحة كل شيء مما دون أوائل العقل وبداءة الحس لا يعلم إلا

بدليل فلزم بهذه الآية من ادعى إثبات شيء أن يأتي عليه بدليل وإلا فقد أتى محرما عليه وقال تعالى {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب لذين من قبلهم فنظر كيف كان عاقبة لظالمين} فأنكر تعالى تكذيب المرء ما لا يعلم أنه كذب وقال تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فأوجب تعالى على كل مدع المصدق أن يأتي ببرهان وإلا فقوله ساقط ووجدنا كل ناف مدعيا للصدق في نفيه ما نفى ووجدنا كل مثبت مدعيا للصدق في إثباته ما أثبت فلزم كلتا الطائفتين أن تأتي بالبرهان على دعواها إن كانت صادقة قال علي وأما من احتج من أصحابنا في إسقاط الدليل عن النافي بإيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر فإنما في الأحكام فإنه لا خلاف بين أهل الملة في أنه لا يمين على من أنكر شيئا في المناظرة في غير الأحكام قال علي فإذا اختلف المختلفان فأثبت أحدهما شيئا ونفاه الآخر فعلى كل واحد منهما أن يأتي بالدليل على صحة دعواه كما بيناه آنفا بحكم كلام الله عز وجل فأيهما أقام البرهان صح قوله ولا يجوز أن يقيماه معا لأن الحق لا يكون في ضدين ومن الممتنع أن يكون الشيء باطلا صحيحا في حال واحدة من وجه واحد فإن عجز كلاهما عن إقامة الدليل وهذا ممكن فحكم ذلك الشيء أن يتوقف فيه فلا يوجب ولا ينفي لكن يترك في حد الإمكان لأنه لو أقام الدليل موجبه لكان الشيء موجبا حقا ولو أقام الدليل نافيه لكان الشيء باطلا منفيا فإن لم يقمه واحد منهما قيل في ذلك الشيء هذا ممكن أن يكون حقا وممكن أن يكون باطلا إلا أننا لا نقول به ولا نحكم به ولا نقطع على أنه باطل وهكذا نص قوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أهل الكتاب لا نصدق ولا نكذب ولكن نقول الله أعلم

قال علي وإنما أوقع أصحابنا في الكلام في هذه المسألة اختلافهم في القياس ولا معنى للتطول فيها والشغب لأن البراهين على صحة قولنا في إبطال القياس كثيرة جدا واضحة فلا معنى لمدافعة القائلين به بمثل هذا بل نقول لهم علينا البرهان في صحة قولنا بإبطاله فإذا أثبتناه سألناكم عن أدلتكم على إثباته ولا نقنع بأن نقول إن الشيء أنه باطل فلا معنى لتكلف إقامة الحجة على ضد ما تيقنت صحته وإن كان هذا قولا صحيحا ولكنا نقول لهم هاتوا كل ما تحتجون به في إثباته ثم علينا نقضه كله بحول الله تعالى وقوته ثقة منا بوضوح الأمر في إبطاله وسهولة المأخذ في ذلك وأنه ليس من الغامض الخفي لكن من الواضح الجلي وقد استوعبنا ذلك ولله الحمد في 3 باب الكلام في القياس والعلل من كتابنا هذا وفي كتابنا المرسوم بكتاب التقريب أيضا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإحجاجنا لهم بكل ما شغبوا به وزدناهم احتجاجا بما لم يحتجوا به لأنفسهم وبينا بطلان كل ما يمكن أن يموه به ذلك مموه وبالله تعالى التوفيق قال علي كل أمر ثبت بيقين إما بحس وإما ببديهة عقل وإما بمقدمات راجعة إليهما مما وجد في نص قرآن أو نص سنة أو إجماع ثم ادعى مدع أن ذلك الحكم قد بطل وانتقل فعليه الدليل ههنا وليس هذا على الثابت على ما قد صح لأن الدليل قد ثبت بصحة قوله وما ثبت دليله فالقائل به غير مكلف تحديده في كل وقت وهذا شيء يقضي العقل بفساده كمن ادعى أن في الدنيا بلادا فيها ناس يمشون على أربع لا على رجلين ورؤوسهم على أسافلهم أو ادعى أن في الناس قوما لهم حاسة سادسة غير حواسنا أو ادعى أن فلانا الذي عهدناه حيا مات فأراد قسم ميراثه ونكاح نسائه أو أن فلانا طلق امرأته التي عهدنا صحة زوجيته معها أو أن هذا الرجل الذي عهدنا عدالته قد فسق أو أن فلانا الذي عهدنا فسقه قد تعدل أو أن فلانا الذي

عهدناه غير وال قد ولي الحكم في بلد كذا أو أن فلانا الذي عهدناه واليا قد عزل وأن الله تعالى قد ألزمكم أمر كذا أو حرم عليكم أمر كذا أو أحل لكم أمرا عهدناه حراما أو أسقط عنكم أمرا عهدناه لازما فكما ذكرنا من دعوى انتقال حال معلومة فعلى مدعي انتقالها الدليل ولا تكلف مبطل هذا القول دليلا على بطلان قول خصمه إذا قام الدليل على صحة قوله ولا يلزم التكرار للدليل بلا خلاف ما كل ما ذكرنا حاشا مسائل الإلزام والتحريم والإحلال والإسقاط فخصومنا موافقون لنا على القول بقولنا فيها بلا خلاف ومستخفون بمن خالفنا وأما هذه المسائل الأربعة المذكورة فدليلنا على صحة قولنا هو قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} فصح بنص الآية أن ما لم ينزل بنص القرآن وجوبه أو تحريمه فهو ساقط معفو عنه وأما بطلان قول من ادعى سقوط شيء قد ثبت بنص أو إجماع أو إحلال ما قد حرم بنص أو إجماع فقد أبطل ذلك ربنا تعالى بقوله {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام لله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} وقال تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} وقال تعالى {وإن كادوا ليفتنونك عن لذي أوحينآ إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا} قال علي فبين الله تعالى بيانا جليا لا إشكال فيه أنه لا يحل تحريف كلام الله تعالى ولا تعدي حدوده ولا أن نترك ما أوحي إلينا وأن من خرج عن شيء من ذلك فهو ظالم مفتر على الله تعالى فوجدنا الله عز وجل قد ألزمنا طاعة ما جاء في القرآن وطاعة ما جاء عن نبيه صلى الله عليه وسلم لأنه إنما ينطق عنه عز وجل وطاعة ما أجمع عليه جميع المسلمين عن نبيهم عليه السلام

وأن هذه حدود الله تعالى فمن أراد إخراجنا عما ثبت بشيء منها وأن يعدى بنا عنها فقد حرف كلام الله تعالى وظلم وأراد الفتنة عن الوحي وتكلف القربة إلا أن يأتي بنص أو إجماع على دعواه وإلا فنحن باقون على تلك الحدود غير متعدين لها ولا مفترين غيرها ولا محرفين لما قد ثبت بها وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن من طرد هذا الأصل لزمه أن إن ادعى مدع على آخر أنه قتل وأنكر ذلك المدعى عليه أن يكلف المدعي عليه الدليل على براءته وإلا قتله ومن ادعى وجوب صيام مفترض غير رمضان وغير ما جاء في النص من الكفارات والنسك والنذر والقضاء أن يكلف المانع من ذلك الدليل وهذا خروج عن الإسلام مع ما فيه من مخالفة العقول وكذلك القول فيمن قال بصحة الإلهام قول الرافضة في الإمام ومن ادعى الغول والعنقاء والنسناس وجميع الخرافات فإن كل ذلك لا يحل القول بشيء منه ولا الإقرار به وهو كله على الدفع والرد والإبطال بلا دليل يكلفه مبطله وإنما البرهان على من حقق شيئا من ذلك أو أوجبه وهكذا كل دعوى أراد مدعيها إثبات شيء لم يثبت أو إبطال شيء قد ثبت لا تحاشي شيئا فإنه لا برهان على من امتنع من القول بشيء من ذلك لأنه فعل ما يلزمه من ذلك وإنما البرهان على من أراد إلزام شيء من ذلك فقط فإن أتى به صحت دعواه وإلا فواجب تركها وردها وإن كانت ممكنة غير ممتنعة وفيما ذكرنا من نص كلام الله تعالى كفاية توجب ضرورة العلم بما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق

الباب الثامن في البيان ومعناه

الباب الثامن في البيان ومعناه قال علي قد بينا في باب تفسير الألفاظ الدائرة بين أهل النظر حد البيان وتفسيره ونحن نقول إن التخصيص أو الاستثناء نوعان من أنواع البيان لأن بيان الجملة قد يكون بتفسير كيفيتها وكميتها دون أن يخرج من لفظها شيء يقتضيه في اللغة كقوله تعالى وآتوا الزكاة فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هية هذه الزكاة المأمور بإيتائها دون أن يخرج من لفظ الزكاة شيئا وكذلك فسر عليه السلام من صفات النكاح والحج وغير ذلك وقد يكون باستثناء مثل ما روى عن نهيه عليه السلام عن بيع الرطب بالتمر ثم استثنى العرايا فيما دون خمسة أوسق فكان هذا مخرجا بحكم العاريا من جملة النهى المتقدم وقد يكون الاستثناء بألفاظ الاستثناء مثل إلا وخلا وحاشا وما لم وما أشبه ذلك وقد يكون حكما وأردا بلفظ الأمر أو بلفظ الخبر مستثنى من جملة أخرى وهذا يسمى التخصيص كتحريمه تعالى نكاح المشركات جملة ثم جاءت إباحة نكاح نساء أهل الكتاب بالزواج فكان هذا تخصيصا من الجملة المذكورة وأما النسخ فهو رفع الحكم أو بعضه جملة والفرق بينه وبين الاستثناء والتخصيص أن الجملة الواردة التي جاء التخصيص أو الاستثناء منها لم يرد الله تعالى قط إلزامها لها على عمومها وقتا من الدهر كالذي ذكرنا من تحريم المشركات فإنه لم يرد قط بذلك نكاح نساء الكتابيين بالزواج وكذلك القول في العرايا وأما النسخ فإننا مكلفون بالجملة الأولى على عمومها مدة ما لم يأت أمر بإبطالها عنا أو إبطال بعضها على ما تبين في باب النسخ إذا بلغنا إليه إن شاء الله تعالى

فأما وجوه البيان التي ذكرنا من التفسير والاستثناء والتخصيص فقد يكون بالقرآن للقرآن وبالحديث للقرآن وبالإجماع للقرآن وقد يكون بالقرآن للحديث وبالحديث للحديث وبالإجماع المنقول للحديث وقولنا الحديث إنه انما نعنى به الأمر والفعل والإقرار والإشارة فكل ذلك يكون بينانا للقرآن ويكون القرآن بيانا له وإنما فرقنا آنفا بين التخصيص والاستثناء وبين النسخ لأنه قد تيقنا وجوب طاعة الله عز وجل ورسوله عليه السلام علينا فحرام علينا الخروج عن طاعتهما في شيء مما امر به أو أن نقول في شيء مما ألزمنا إنه منسوخ ساقط بعد وجوبه إلا ببيان جلي لا شك فيه وإذا وجدنا لحكم سقط بعضه بالاستثناء أو التخصيص فنحن على يقين من أنه لا يلزمنا فلا يحل لأحد أن يقول إنه لزم ثم سقط فيكون قد قفا ما ليس له به علم وقال بشك لا بيقين وذلك حرام ولا يجوز بأن نقول بأن الحكم كذا لزمنا إلا بيقين ولا يسقط بعد لزومه إلا بيقين فلهذا قلنا بالفرق المذكور بين النسخ وبين الاستثناء والتخصيص لأننا إذا قلنا في ذلك إنه نسخ فقد اقررنا أنه لزم ثم سقط وهذا لا يحل قوله إلا بيقين وبالله تعالى التوفيق ومما خص من القرآن بالقرآن قوله تعالى إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فاستثنى تعالى الأزواج وملك اليمين من جملة ما حظر من إطلاق الفروج ثم خص تعالى الجمع بين الأختين وبين الأم والابنة والربيبة الزانية والحريمة بالقرابة والشركة بالقرآن وخص الحريمة بالرضاع بالسنة والذكور والبهائم والأمة المشركة بالإجماع المأخوذ من معنى دليل النص الثابت لا يحتمل إلا وجها واحد بالحظر من جملة المباح بملك اليمين فإن قال قائل لا يجوز أن يبين القرآن إلا بالسنة لأن الله تعالى يقول وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم قيل له وبالله تعالى التوفيق

ليس في الآية التي ذكرت أنه عليه الصلاة والسلام لا يبين إلا بوحي لا يتلى بل فيها بيان جلى ونص ظاهر أنه أنزل تعالى عليه الذكر ليبينه للناس والبيان هو بالكلام فإذا تلاه النبي صلى الله عليه وسلم فقد بينه ثم إن كان مجملا لا يفهم معناه من لفظه بينه حينئذ بوحي يوحى إليه إما متلوا أو غير متلو كما قال تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه فأخبر تعالى أن بيان القرآن عليه عز وجل وإذا كان عليه فبيانه من عنده تعالى والوحي كله متلوه وغير متلوه فهو من عند الله عز وجل وقد قال عز وجل يبين الله لكم ان تضلوا وقال تعالى مخبرا عن القرآن تبيانا لكل شيء فصح بهذه الآية أنه تكون آية متلوة بيانا لأخرى ولا معنى لأنكار هذا وقد وجد فقد ذكر تعالى الطلاق مجملا ثم فسره في سورة الطلاق وبينه ومما اجمل في السنة وبينه القرآن ما حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن علية ثنى أبو حيان ثنى يزيد بن حيان أنه سمع زيد بن أرقم يقول خطبنا رسول الله صلى الله عيله وسلم بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال أما بعد ألا يا أيها الناس فأنما أنا بشر يوشك أن يأتينى رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله عز وجل واستمسكوا به ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتى أذكركم الله في أهل بيتي قال علي وفسر زيد بن أرقم أنهم بنو هاشم قال علي والتقليد باطل فوجب طلب من هم أهل بيته عليه السلام في الكتاب والسنة فوجدنا الله تعالى قال يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة

وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تظهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا قال علي فرفعت هذه الآية الشك وبينت أن أهل بيته عليه السلام هن نساؤه فقط وأما بنو هاشم فإنهم آل محمد وذو القربى بنص القرآن والسنة فهم في قسمه الخمس وتحريم الصدقة وقد اجمل عليه السلام قوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ثم فسر الله تعالى ذلك وبينه بقوله في سورة براءة فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم فإن قال قائل ما بين هذا الحديث إلا حديث ابن عمر وأبي هريرة أني أمرت أن أقاتل المشركين حين يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بما أرسلت به قيل له وبالله تعالى التوفيق هذا الخبر الذي ذكرت هو موافق لما في براءة فصح أن الله تعالى أنزل ذلك عليه في القرآن ثم أخبر به عليه السلام أصحابه بلفظ فكان بيانا مرددا تفسيرا مؤكدا فخبر أبي هريرة وابن عمر إنما هو حكاية لما في براءة يعلم ذلك ببديهة العقل عند قراءة الآية والحديث المذكور قال علي وقد يرد البيان بالإشارة على ما في حديث كعب بن مالك مع أبي حدرد إذ أشار إليه عليه السلام بيده أن ضع النصف

الباب التاسع في تأخير البيان

الباب التاسع في تأخير البيان قال علي واختلفوا في نوع من أنواع البيان فقالت طائفة إنما يرد المجمل ثم يرد المفسر وقال آخرون لا يردان إلا معا وقال آخرون جائز ورود المجمل قبل المفسر والمفسر قبل المجمل وورودهما معا كل ذلك جائز قال علي وبهذا نقول إلا أنه لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت إيجاب العمل البتة ولا يجوز أن يؤخره النبي صلى الله عليه وسلم بعد وروده عليه طرفة عين ولسنا نقول بهذا لأن العقل يمنع ذلك لكن لأن النص قد ورد بذلك وإنما منعنا من تأخير الله البيان عن وقت وجوب العمل لقول الله تعالى {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وقد علمنا أنه ليس في وسع أحد أن يعمل بما لا يعرف به وإنما منعنا من تأخير النبي صلى الله عليه وسلم البيان عن ساعة وروده عليه السلام لقول الله تعالى {يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين} فلو أخر عليه السلام البيان عن ساعة وروده عليه لكان عليه السلام في تلك المدة وإن قلت مستحقا لاسم أنه لم يبلغ ولو أنه لم يبلغ لكان عاصيا ولا ينسب هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا جاهل ومن تمادى على نسبة المعصية إليه في طي الشريعة وترك تبليغها فهو كافر بإجماع الأمة قال علي وقد نزلت الصلوات الخمس مفسرة بمكة ثم جاءت آيات كثيرة مدنيات فيها أقيموا الصلاة فقط فصح بذلك ما ذكرنا من أنه قد ينزل المفسر قبل المجمل وأما نزول المجمل قبل المفسر فقد نزل ذلك في الصيام

وتحريم حشيش مكة ثم جاء تخصيص الإذخر قال علي وأما قولنا بتأخير الله عز وجل البيان ما لم يأت وقت إيجابه تعالى العمل به فهو منصوص في قوله تعالى {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وقد أنزل الله عز وجل آيات كثيرة فيها قصة موسى وقصة عيسى عليهما السلام وقصة عاد وثمود وإبراهيم عليهم السلام بعضها قبل بعض وبعضها بمكة وبعضها بالمدينة وبعضها أكمل من بعض فهلا اعترض المانعون ربهم تعالى من أن يفعل ما يشاء بغير نص منه تعالى أنه لا يفعله على ربهم فيما ذكرنا فيقولون هلا نزلت هذه القصص كاملة في مكان واحد فتكون أتم للوعظ وأشفى للخبر ثم يؤكدها كذلك إن شاء وليت شعري إذ أقر هؤلاء بأن التأكيد حكمة فماذا يقولون في قصص كثيرة ومواعظ لم يذكرها عز وجل في القرآن إلا مرة واحدة أتراها عريت عن الحكمة إذ لم تكرر ولا وكدت وأيضا فإن أكد تعالى تكرار مسألة موسى عليه السلام عشرين مرة مثلا ما الفرق بين عشرين مرة وبين إحدى وعشرين مرة أو تسع عشر مرة فإن ادعى أن هذا العدد أبلغ في الحكمة ادعى القحة وبانت قلة الحياء في وجهه وقال ما يعلم أنه بخلاف ما يقول وسألناه أيضا عن قصص أخر كررت أقل من تكرار قصة موسى عليه السلام فإن قال اكتفى بتكرار قصة موسى قيل له ما الفرق أن يكتفي بتكرار قصة موسى عن تكرار قصة إبراهيم ولا يكتفي بتكرار قصة إبراهيم عن تكرار قصة موسى وما الفرق بين ذكره تعالى ما ذكر من قصص الأنبياء عليهم السلام وبين ما أمسك عنه تعالى من ذكره لبعضهم وما الفرق بين ذلك وبين أن لو ذكر من أمسك عنه وأمسك عمن ذكر وقد ذكر من لا شريعة له غير شريعة من قبله كثيرا كإلياس واليسع وذي الكفل وغيرهم ولعل من أمسك عنه تعالى ولم يذكره من الرسل أعظم آية وأبلغ في الوعظ ممن ذكر

قال علي وأنا أقطع ولا أمتري أن ملقي هذه النكتة إلى ضعفاء المسلمين مغمور في دينه ضعيف في عقله كائد للشريعة ولا شك في ذلك ثم تهافت بالتقليد مع من تهافت وبالله تعالى التوفيق ومما سأل عنه المانعون من تأخير البيان جملة أن قالوا ما تقولوا فيمن سمع آية قطع السارق ولم يسمع الحديث المبين للتوقيت في ذلك أيقطع كل سارق لفلس من ذهب وفيمن سمع آية الزنى ولم يسمع حكم الرجم وفيمن سمع آية الرضاع ولم يسمع الحديث في التوقيت في ذلك أيجلد المحصن ولا يرجمه ويجلد الأمة مائة ويحرم برضعة واحدة أم كيف يفعل فإن قلتم ينفذ ما سمع على جملته كنتم قد أمرتموه بالباطل وإن قلتم لا يفعل أمرتموه بمعصية ما سمع من القرآن فالجواب أننا لم نجد قط تأخير ورود البيان عن وقت وجوب العمل وأما قبل وجوبه فليس يلزمه إلا الإقرار بالجملة وأن يقول سمعت وأطعت ولا مزيد إذا لم تكن مبينة مفهومة مثل قوله تعالى {وآتوا لزكاة} فهذا ليس عليه إلا الإقرار بتصديق ذلك كما قلنا فقط إذ لم يأته بيان ما كلف من ذلك وأما إن كان النص مفهوما بينا فعليه العمل به حتى يبلغه نسخه أو تخصيصه ولا بد إذا من قال لا يلزمه العمل بما بلغه من ذلك فقد قال له لا تطع ربك ولا تعمل بما أمرك فلعل ههنا نصا ناسخا لهذا النص أو نصا مخصصا له وهذا خلاف أمر الله تعالى في القرآن بطاعته ومن طرد هذا القول السخيف لزمه ألا يعمل بشيء من القرآن ولا السنن أبدا حتى يستوعب معرفة جميع أحكام القرآن وضبط جميع السنن وفي هذا الخروج عن الإسلام وإبطال الشريعة قال علي ونسألهم في رد هذا السؤال عليهم فنقول ما الذي يلزم من سمع أمرا ما والرسول عليه السلام حي مما جاء النسخ بعد ذلك فيه أيعتقد في

ذلك الأمر التأييد فيكون معتقدا للباطل أو يعتقد فيه السقوط بعد حين فيعتقد المعصية لما سمع فجوابهم ها هنا جوابنا آنفا فيما سألونا عنه وأنه يلزم من سمع ذلك الإقرار والطاعة والاعتقاد أن هـ حق لازم ما لم يأت ما ينسخه فهو على التأييد وإن جاء ما ينسخه فهو متروك للناسخ قال علي وتأخير الاستثناء والتخصيص عندنا جائز كتأخير البيان جملة ولا فرق وهو جائز ما لم يأت وقت إيجاب العمل وبالله تعالى التوفيق قال علي ومما يبين صحة قولنا قوله تعالى {فإذا قرأناه فتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} وثم توجب مهلة وقوله تعالى في قصة الملائكة القائلين لإبراهيم عليه السلام {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم لقيامة عما كانوا يفترون * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم لطوفان وهم ظالمون * فأنجيناه وأصحاب لسفينة وجعلناهآ آية للعالمين * وإبراهيم إذ قال لقومه عبدوا لله وتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * إنما تعبدون من دون لله أوثانا وتخلقون إفكا إن لذين تعبدون من دون لله لا يملكون لكم رزقا فبتغوا عند لله لرزق وعبدوه وشكروا له إليه ترجعون * وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على لرسول إلا لبلاغ لمبين * أولم يروا كيف يبديء لله لخلق ثم يعيده إن ذلك على لله يسير * قل سيروا في لأرض فنظروا كيف بدأ لخلق ثم لله ينشىء لنشأة لآخرة إن لله على كل شيء قدير * يعذب من يشآء ويرحم من يشآء وإليه تقلبون * ومآ أنتم بمعجزين في لأرض ولا في لسمآء وما لكم من دون لله من ولي ولا نصير * ولذين كفروا بآيات لله ولقآئه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا قتلوه أو حرقوه فأنجاه لله من لنار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون * وقال إنما تخذتم من دون لله أوثانا مودة بينكم في لحياة لدنيا ثم يوم لقيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم لنار وما لكم من ناصرين * فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو لعزيز لحكيم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته لنبوة ولكتاب وآتيناه أجره في لدنيا وإنه في لآخرة لمن لصالحين * ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون لفاحشة ما سبقكم بها من أحد من لعالمين * أئنكم لتأتون لرجال وتقطعون لسبيل وتأتون في ناديكم لمنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ئتنا بعذاب لله إن كنت من لصادقين * قال رب نصرني على لقوم لمفسدين * ولما جآءت رسلنآ إبراهيم بلبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه لقرية إن أهلها كانوا ظالمين * قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا مرأته كانت من لغابرين} فعموا في أول الأمر وأخروا البيان حتى وقع السؤال عن لوط فأجابوا بأنهم لم يعنوه بالهلاك حاشا امرأته فقط وقد اعترض في هذا بعض من منع من تأخير البيان جملة بأن قال قد كان يجب أن يعلم إبراهيم عليه السلام أن لوطا خارج عن العذاب لقولهم {} ج ولوط ليس ظالما قيل لهم وبالله تعالى التوفيق يمكن أن يحدث من لوط ما يستحق به الظلم فأشفق إبراهيم عليه السلام من ذلك فسأل عنه وقد أجمل لنوح عليه السلام خلاص أهله فظن أن الأهل هم القرابة حتى بين له بعد ذلك أن المراد بأهله أهل دينه فإن قال قائل فما المراد من المجمل الوارد قبل ورود بيانه قيل له وبالله تعالى التوفيق المراد منا فيه هو المراد منا في المتشابه الذي أمرنا بأن نبحث عنه ولا نبتغي تأويله وأن يقول كل من عند ربنا وأما المراد فيه فالذي يأتي به البيان إذا أتى ويبين قولنا قول الله تعالى {} فإنما يبين لنا لئلا نضل ولا ضلال في ورود الأمر ما لم يأت

وقت وجوب العمل به فأما إذا جاء وقت وجوب العمل به فلو تركنا نعمل بغير ما أريد منا لكنا قد ضللنا وقد أخبرنا تعالى بأن ذلك لا يكون وقوله تعالى صدق وحق بالله تعالى التوفيق فعلى هذا الوجه منعنا من تأخير البيان عند وجوب العمل وإلا فليس في العقل ما يمنع من ذلك لو شاء تعالى ولو فعل الله تعالى ذلك لكان تعنيتا لنا وقد أخبرنا تعالى فقال {} فأخبر تعالى أنه لو أراد أن يكلفنا العنت فعل وهذا نفس قولنا وبالله تعالى التوفيق قال علي يختلف في الوضوح فيكون بعضه جليا وبعضه خفيا فيختلف الناس في فهمه فيفهمه بعضهم ويتأخر بعضهم عن فهمه كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلا أن يؤتي الله رجلا فهما في دينه وكما تعذر على عمر رضي الله عنه وهو الغاية في العلم بنص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فيه فهم آية الكلالة فمات وهو يقر أنه لم يفهمها وفهمها غيره من الصحابة رضي الله عنهم وانتهره عليه السلام وأخبره بأنها بينة يكفي من فهمها الآية التي نزلت في الصيف وكما عرض لعدي في توهمه أن الخيط الأبيض والأسود من خيوط الناس حتى زاده الله تعالى بيانا في أن ذلك من الفجر وقد اكتفى غير عدي بالآية نفسها وعلم أن المراد الفجر وكما توهم ابن أم مكتوم أنه ملوم في تأخره عن الغزو فزاده الله بيانا باستثناء أولي الضرر وقد اكتفى غير ابن أم مكتوم بسائر النصوص الواردة في رفع الحرج وأن لا حرج على مريض ولا أعمى وأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها قال علي فهذه حقائق الكلام في البيان وتأخيره مجموعة باستيعاب وإيجاز وبالله تعالى التوفيق والتأكيد نوع من أنواع البيان قال الله عز وجل {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة

كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} وقال تعالى {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون خلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل لمفسدين} بعد أن ذكر تعالى ثلاثين ليلة وعشرا فإن قال قائل إن الله تعالى علمنا الحساب بذلك فقد افترى لأننا كنا نعلم الحساب قبل نزول القرآن نعني النوع الإنسان جملة وبالله تعالى التوفيق وقد أتى بعض أهل القياس المتحذلقين المتنطعين في قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} بآبدة فقال معنى قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} دليل على أن الهدي الذي عوض منه الصوم في التمتع لا يكون إلا كاملا قال علي وأول ما في هذا القول الدعوى بلا دليل وهذا حرام لاسيما على الله عز وجل وأيضا فإنه قد جل الله تعالى عن أن يريد أن يكون الهدي كاملا فيترك أن يصفه بذلك ويقتصر على أن يقول {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} ثم ينبه على كمال الهدي بذكر أن تكون العشرة الأيام في الصوم كاملة فبان كذب هذا القائل وصح أن قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} 1 2 كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الزكاة فابن لبون ذكر وكقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الفرائض فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر وإنما هذا توكيد وبيان زائد فقط قال علي ومما يبين أن الله تعالى يؤخر البيان قبل أن يريد منا تعالى العمل بالحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى يعرض في الخمر فمن كان عنده منها شيء فليبعها فما أتى الوقت الذي أراد الله تعالى أن يوجب علينا اجتنابها أنزل الآيات في تحريمها وتلا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس من وقته وقد يزيد عليه السلام بيانا بعد تقدم البيان قبله فيكون تأكيدا وإخبارا لمن يبلغه الخبر الأول كما نزلت الصلوات الخمس بمكة مبينة بأوقاتها ثم سأل السائل بالمدينة عن أوقاتها وأوائلها وأواخرها فأراه عليه السلام ذلك بالعمل وقد بينها أيضا بكلامه عليه السلام لغير ذلك السائل وكما أخر الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان المناسك قبل

أن يأتي وقت وجوب عملها فلما أتى وقت وجوبها بينها له عليه السلام فبينها عليه السلام بفعله غير مؤخر لها ومن ادعى أنه عليه السلام كان عنده بيان المناسك وكتمها عن أصحابه ومنعهم الأجر بالعلم بها وبالإقرار بجملتها فقد افترى وكذب نبيه صلى الله عليه وسلم إذ يقول إن حقا على كل نبي أن يدل أمته على أحسن ما يعلمه لهم ومن قال بهذا فقد أكذب ربه تعالى إذ يقول عز وجل واصفا لنبيه صلى الله عليه وسلم {لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم} وإذا كتمهم ما يستعجلون الأجر بالإقرار به ويزدادون علما بفهمه فقد خالف الصفة التي ذكرها الله تعالى ومن قال ذلك فقد فارق الإسلام فإن قال قائل فأنت تصف الآن محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه يريد أن يزداد أهل الأرض خيرا وهذا خلاف قولك إن الله عز وجل لم يرد هذا بكل الناس فقد وصفت محمدا صلى الله عليه وسلم بأفضل مما وصفت به الله عز وجل وبأنه أرأف بنا من الله تعالى قال علي فنقول وبالله التوفيق هذه شغبية ضعيفة وإنما يماثل بين الشيئين أو يفاضل بينهما إذا كانا واقعين تحت نوع واحد أو تحت جنس واحد وليس صفتنا لله تعالى من نوع صفتنا للمخلوقين ورحمة محمد صلى الله عليه وسلم بالناس هي من جنس تراحمنا بعضنا لبعض إلا أنها أعلى من كل رحمة لإنسي وأكمل وأتم وأدوم وليس الله تعالى واقعا معنا تحت نوع البشرية كوقوع محمد صلى الله عليه وسلم معنا تحتها وإن كان أفضل من كل من دونه ولا يثنى على الله عز وجل بما يثني به على خلقه ألا ترى أننا نصف الله عز وجل مثنين عليه بأنه جبار متكبر وهذا في كل مخلوق دونه تعالى ذم شديد واستنقاص عظيم ونصفه تعالى بأنه ذو غضب شديد أنه يفعل

ما يريد وأنه ذو مكر لا يؤمن وكل هذا لو وصفنا به مخلوقا لكان ذما ونقصا ونمدح المخلوقين بالعقل والكيس والنبل والنجدة والعفة وكل هذا لا يجوز أن يوصف به الله عز وجل فمن أراد أن يقيس رحمة الله تعالى لخلقه برحمة نبيه صلى الله عليه وسلم لهم فقد ألحد في وصفه لربه تعالى وقد علمنا يقينا أن الله عز وجل لم يرد قط أن يهدي أبا طالب ولو شاء أن يؤمن لشرح صدره للإسلام بل أراد أن يعذبه في نار جهنم أبدا وعلمنا يقينا أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان من أبعد آماله أن يؤمن أبو طالب وقد كفانا الله تعالى ذلك بقوله {إنك لا تهدي من أحببت ولكن لله يهدي من يشآء وهو أعلم بلمهتدين} فأما من آمن بالله فالله أرأف به من نفسه بنفسه ومن محمد صلى الله عليه وسلم ومن أبيه وأمه اللذين ولداه لأنه جازاه على ذلك بما لو ملك الاختيار لم يبلغ مقدار ما أعطاه الله تعالى في الجنة ولا سمح له أبواه بذلك ولأنه تعالى غفر له ما لو فعله عاصيا لأبيه ما غفر له ذلك فإن الرجل يزني بأمة الله تعالى فيغفر له بالتوبة وبموازنة حسناته لسيئاته ولو زنى بأمة أبيه لقطعه وأما من لم يؤمن فما أراد الله به خيرا قط ولو أراد به خيرا لأماته سقطا فمن قال إن الله تعالى لم يقدر على ذلك فقد ألحد ووصف ربه تعالى بغاية النقص ومن قال إن الله تعالى أراد الخير بفرعون فنحن نباهله ونقول اللهم لا ترد بنا من الخير ما أردته بفرعون فليدع ربه تعالى أن يريد به من الخير ما أراده بفرعون فإن شغب مشغب فقال إنك الآن تصف محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه أراد غير ما أراد الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق وهذه شغبية ضعيفة كالتي قبلها نعم كذلك نقول في هذا المكان مقرين بما قال ربنا عز وجل من أن محمدا صلى الله عليه وسلم أحب أن يهتدي قوم لم يحب الله تعالى

أن يهديهم وليس في اختلاف ما أراد الله تعالى ههنا وما أراد نبيه عليه السلام عيب على نبيه عليه السلام لأنه إنما يمدح النبي فمن دونه من المخلوقين بالائتمار لربه تعالى فقط لا بأن يوافق ربه فيما لم يكلفه ألا ترى أننا نمدح أنفسنا بالنكاح والأولاد وهما منفيان عن الله عز وجل لم يردهما لنفسه قط ونمدح بالصدقة على المحتاج الذي لم يرد الله أن يغنيه ولو أراد أن يغنيه لكان قادرا عز وجل على ذلك فلم نؤمن نحن قط أن تريد ما أراده الله عز وجل في كل وقت بل نهينا عن ذلك فقد أراد الله عز وجل قتل من سلط عليه الكفار من المؤمنين ولو أردنا نحن ذلك لفسقنا وإنما أريد منا الائتمار لما أمرنا به والانتهاء عما نهينا عنه وقول خصومنا يؤول إلى قول بعض أهل الإلحاد أن الواجب علينا التشبه بالله عز وجل وهذا كفر عندنا لأن الله تعالى لا يشبهه شيء فلا يروم التشبه به إلا كافر ملحد وهذا بين وبالله تعالى التوفيق ثم نرجع إلى بقية الكلام في تأخير البيان فإن احتج بعض من يجيز تأخير البيان عن وقت وجوب الأمر بقصة موسى والخضر عليهما السلام فلا سواء فموسى عليه السلام لم يلزمه قط أمر في تلك القصة يلزمه التقصير إن لم يأته وإنما سأله ناسيا والنسيان مرفوع وكذلك كان سؤال نوح عليه السلام في ابنه ناسيا لأن الله تعالى قد كان بين له أن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول منهم فنسي نوح عليه السلام هذا الاستثناء وقد كان كافيه لأن ابنه كان كافرا قد سبق عليه القول في جملة من كفر واحتجوا أيضا بأمر بقرة بني إسرائيل وأنه تعالى أخر عنهم بيان الصفات التي زادهم بعد ذلك قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأن تلك الصفات إنما هي زيادات شرائع لو لم يسألوا عنها لم يزادوهم ولو ذبحوا في أول ما أمروا بقرة بيضاء أو

حمراء أو بلقاء لأجزت عنهم لكنهم لما زادوا سؤالا زيدوا شرعا ودخلوا بذلك في جملة من ذم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إذ يقول إن من أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وفي قوله عليه السلام إنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ويبين صحة قولنا هذا قوله عز وجل {يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} } فأخبر تعالى بنص ما قلنا وله الحمد وبين لنا أن الأشياء معفوة ساقطة عنا قبل أن نسأل عنها فإذا سألنا عنها لزمتنا ولعلنا نعصي حينئذ فنهلك وكل ذلك قد سبق في علمه عز وجل وأما تأخر نزول {يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم} في قصة ابن الزبعرى إذ اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في تلاوة {علموا أن لله شديد لعقاب وأن لله غفور رحيم} فقال نحن نعبد الملائكة والنصارى يعبدون عيسى فهم في جهنم معنا فإن ابن الزبعرى كان مغفلا عن تدبر الآية الأولى وقد كان له فيها كفاية له عقل ولكن الثانية أتت مؤكدة لها فقط وهي إخباره تعالى عن سؤاله الملائكة فقال تعالى {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} فأخبر تعالى عن الملائكة الصادقين المقدسين أنهم قالوا {قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون لجن أكثرهم بهم مؤمنون} فليس قول القائل أنا أعبد الملائكة ولا قول النصارى نحن نعبد المسيح موجب لصدقهم لأن العبادة إنما هى الاتباع والانقياد مأخوذة من العبودية وإنما يعبد المرء من ينقاد له ومن يتبع أمره وأما من يعصي ويخالف فليس عابدا له وهو كاذب في ادعائه أنه يعبده فالقائلون نحن نعبد الملائكة والمسيح كذبة في دعواهم لذلك

ما عبدوهم قط وإنما عبدوا الشياطين لانقيادهم لأمرهم واتباعهم إغواءهم ولو اتبعوا الملائكة والمسيح عليه السلام ما أمروهم إلا بعبادة الله عز وجل وبأن يقولوا إننا لا نعبد شيئا من دون الله عز وجل بل كانوا ينهونهم عن الكذب وهذا عين الكذب وقد بين عليه السلام معنى قول ربه تعالى {تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} فقال قائل يا رسول الله ما كنا نعبدهم فأخبرهم عليه السلام أنهم إذا أطاعوهم في تحريم ما حرموا وتحليل ما أحلوا فقد اتخذوهم أربابا ونحن إنما أطعنا أمر نبينا عليه السلام لعلمنا أنه كله من عند الله عز وجل وأنه لا يقول من تلقاء نفسه شيئا قال الله عز وجل {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فإن قال قائل فعلى قولك فمن عصى منا لم يعبد الله عز وجل قيل له نعم لم يعبد الله تعالى لتلك المعصية ولا فيها ولكن عبده في سائر طاعته وإقراره بالتوحيد فإن قال قائل فعلى قولك إننا إذا أطعنا الرسول صلى الله عليه وسلم لقد عبدناه قيل له وبالله تعالى التوفيق إن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم توجب ألا يطلق لفظ العبادة ولا معناها إلا لله عز وجل وحده لا شريك له وتوجب أن من أطاع الشيطان في الكفر فقد عبده وهذه معان شرعية لا يتجاوز فيها ما أتت به الشريعة فقط وأما من ادعى بيان كون أن السلب للقاتل نزل بعد آية قسم الغنائم فدعوى لا يقوم عليها دليل ولا روي ذلك قط من وجه يصح وكذلك القول في بيان سهم ذي القربى وأن بيان كون بني هاشم وبني عبد المطلب هم ذو القربى دون بني عبد شمس وبني نوفل نزل متأخرا عن الآية دعوى لا تصح أصلا فإن قال قائل فإن عثمان رضي الله عنه وجبير بن مطعم جهلا هذا قيل له نعم وما في هذا علينا من الحجة ومتى منعنا أن يخفى على الصاحب والصاحبين والعشرة والأكثر منهم فهم آية أو آيات من القرآن وقد كان في قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم

الباب العاشر في الأخذ بموجب القرآن

لبني المطلب دونهما ما يكفي لأنهما كانا يوقنان بلا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع ذا حق حقه ولا يعطي أحدا غير حقه فكان في هذا كفاية لأنه لو كان لبني عبد شمس وبني نوفل حق في سهم ذوي القربى ما منعهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوكان بنو عبد المطلب خارجين من ذوي القربى ما أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم حقا ليس لهم ولكن عثمان وجبير رضي الله عنهما أرادا علم السبب الذي من أجله استحق بنو المطلب الدخول فيما خرج قومهما منه والخصلة التي بان بها بنو عبد المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل وقد قال عثمان رضي الله عنه في الجمع بين الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية فأخبر رضي الله عنه أنه خفيت عليه رتبة هاتين الآيتين ولم يدر أيهما يغلب ويستثني من الأخرى ولا يجوز عند ذي فهم ولب أن يعتقد الشيء حراما حلالا في وقت واحد على شخص واحد فيكون يحل له أن يفعله ولا يحل له أن يفعله فيفعل ولا يفعل وهذا محال ظاهر الامتناع ومن بلغ ههنا كفانا نفسه وأما العرايا فقد جاء الحديث موصولا في استثنائها من التمر بالرطب وبالله تعالى التوفيق الباب العاشر في الأخذ بموجب القرآن قال علي ولما تبين بالبراهين والمعجزات أن القرآن هو عهد الله إلينا والذي ألزمنا الإقرار به والعمل بما فيه وصح بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه أن هذا القرآن هو المكتوب في المصاحف المشهورة في الآفاق كلها وجب الانقياد لما فيه فكان هو الأصل المرجوع إليه لأننا وجدنا فيه {وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} فما في القرآن من أمر أو نهي فواجب الوقوف عنده وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الأخبار التالي لهذا الباب

الباب الحادي عشر في الكلام في الأخبار وهي السنن المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

كيف العمل في بناء آي القرآن خاصها مع عامها وبناء السنن عليها وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الأوامر والنواهي كيف العمل في حمل أوامر القرآن ونواهيه على الظاهر والوجوب والفور ونذكر إن شاء تعالى في باب العموم والخصوص ما يقتضيه ذلك الباب من أخذ آي القرآن على عمومها ونوعب الرد على كل من خالف الحق في ذلك إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق قال علي ولا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والزيدية في وجوب الأخذ بما في القرآن وأنه هو المتلو عندنا نفسه وإنما خالف في ذلك قوم من غلاة الروافض هم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل الإسلام وليس كلامنا مع هؤلاء وإنما كلامنا في هذا الكتاب مع أهل ملتنا إذا قد أحكمنا بطلان سائر الملل في كتاب الفصل وبالله تعالى التوفيق ونذكر إن شاء الله تعالى في باب الإجماع من هذا الكتاب بالبرهان الصحيح أن القراءات السبع التي نزل بها القرآن باقية عندنا كلها وبطلان قول من ظن أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على قراءة واحدة منها أو على بعض الأحرف السبعة دون بعض وبالله تعالى التوفيق الباب الحادي عشر في الكلام في الأخبار وهي السنن المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بعض فصول هذا الباب ذكر السبب في الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة قال علي لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفا لرسوله صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن الهوى *

إن هو إلا وحي يوحى} فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين أحدهما وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن والثاني وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا قال الله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق فقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فكانت الأخبار التي ذكرنا أحد الأصول الثلاثة التي ألزمنا طاعتها في الآية الجامعة لجميع الشرائع أولها عن أخرها وهي قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فهذا أصل وهو القرآن ثم قال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فهذا ثان وهو الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فهذا ثالث وهو الإجماع المنقول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه وصح لنا بنص القرآن أن الأخبار هي أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع قال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قال علي والبرهان على أن المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يخلق ويركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى لو شغب مشغب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكن لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمكنه

هذا الشغب في الله عز وجل إذ لا سبيل لأحد إلى مكالمته تعالى فبطل هذا الظن وصح أن المراد بالرد المذكور في الآية التي نصصنا إنما هو إلى كلام الله تعالى وهو القرآن وإلى كلام نبيه صلى الله عليه وسلم المنقول على مرور الدهر إلينا جيل بعد جيل قال علي وأيضا فليس في الآية المذكورة ذكر للقاء ولا مشافهة أصلا ولا دليل عليه وإنما فيه الأمر بالرد فقط ومعلوم بالضرورة أن هذا الرد إنما هو تحكيم وأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم موجودة عندنا منقول كل ذلك إلينا فهي التي جاء نص الآية بالرد إليها دون تكلف تأويل ولا مخالفة ظاهر قال علي والقرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض وهما شيء واحد في أنهما من عند الله تعالى وحكمها حكم واحد في باب وجوب الطاعة لهما لما قدمناه آنفا في صدر هذا الباب قال تعالى {يأيها لذين آمنوا أطيعوا لله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} فبين تعالى بهذه الآية أنه لم يرد منا الإقرار بالطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلا عمل بأوامره واجتناب نواهيه وهذه صفة المقلدين فإنهم يقولون طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة فإذا أتاهم أمر من أوامره يقروه بصحته لم يصعب عليهم التولي عنه وهم يسمعون نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} وقال تعالى {قل إنمآ أنذركم بلوحي ولا يسمع لصم لدعآء إذا ما ينذرون} فأخبر تعالى كما قدمنا أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم كله وحي والوحي بلا خوف ذكر والذكر محفوظ بنص القرآن فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله عز وجل مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء فهو منقول إلينا كله فلله الحجة علينا أبدا وقال تعالى

{وما ختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى لله ذلكم لله ربي عليه توكلت وإليه أنيب} فوجدنا الله تعالى يردنا إلى كلام نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قدمنا آنفا فلم يسمع مسلما يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يأتي عما وجد فيهما فإن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق وأما من فعله مستحلا للخروج عن أمرهما وموجبا لطاعة أحد دونهما فهو كافر شك عندنا في ذلك وقد ذكرنا محمد بن نصر المروزي أن إسحاق بن راهويه كان يقول من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر ولم نحتج في هذا بإسحاق وإنما أوردناه لئلا يظن جاهل أننا منفردون بهذا القول وإنما احتججنا في تكفيرنا من استحل خلاف ما صح عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} قال علي هذه كافية لمن عقل وحذر وآمن بالله واليوم الآخر وأيقن أن هذا العهد عهد ربه تعالى إليه ووصيته عز وجل الواردة عليه فليفتش الإنسان نفسه فإن وجد في نفسه مما قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خبر يصححه مما قد بلغه أو وجد نفسه غير مسلمة لما جاءه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد نفسه مائلة إلى قول فلان وفلان أو قياسه واستحسانه وأوجد نفسه تحكم فيما نازعت فيه أحدا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم متى صاحت فمن دونه فليعلم أن الله تعالى قد أقسم وقوله الحق إنه ليس مؤمنا وصدق الله تعالى وإذا لم يكن مؤمنا فهو كافر ولا سبيل إلى قسم ثالث وليعلم أن كل من قلد من صاحب أو تابع أو مالكا أو أبو حنيفة والشافعي وسفيان والأوزاعي وأحمد وداود رضي الله عنهم متبرئون منه في الدنيا والآخرة ويوم يقوم الأشهاد اللهم

إنك تعلم أنا لا نحكم أحدا إلا كلامك وكلام نبيك الذي صليت عليه وسلمت في كل شيء مما شجر بيننا وفي كل ما تنازعنا فيه واختلفنا في حكمه وأننا لا نجد في أنفسنا حرجا مما قضى به نبيك ولو أسخطنا بذلك جميع من في الأرض وخالفناهم وصرنا دونهم حزبا وعليهم حربا وإننا مسلمون لذلك طيبة أنفسنا عليه مبادرون نحوه لا نتردد ولا نتلكأ عاصون لكل من خالف ذلك موقنون أنه على خطأ عندك وأنا على صواب لديك اللهم فثبتنا على ذلك ولا تخالف بنا عنه وأسألك اللهم بأبنائنا وإخواننا المسلمين هذه الطريقة حتى ننقل جميعا ونحن مستمسكون بها إلى دار الجزاء آمين بمنك يا أرحم الراحمين قال علي وإذ قد بين الله لنا أن كلام نبيه إنما هو كله وحي من عنده وأن القرآن وحي من عنده وأيضا فقد قال فيه عز وجل {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فصح بهذه الآية صحة ضرورية أن القرآن والحديث الصحيح متفقان هما شيء واحد لا تعارض بينهما ولا اختلاف يوفق الله تعالى لفهم ذلك من شاء من عباده ويحرمه من شاء لا إله إلا هو كما يؤتي الفهم والذكاء والصبر على الطلب للخير من شاء ويؤتي البلدة وبعد الفهم والكسل من شاء نسأل الله من هبته ما يقرب منه ويزلف لديه آمين وصح بما ذكرنا بطلان قول من ضرب القرآن بعضه ببعض أو ضرب الحديث الصحيح بعضه ببعض أو ضرب القرآن بالحديث بعضهما ببعض وإن أمدنا الله بانفساخ مدة وأيدنا بعون من قبله فسنجمع في كل ذلك دواوين نبين فيها أشخاص السؤال والجواب والتأليف في كل ما ظنه أهل الجهل من ذلك متعارضا مختلف الحكم ونبين بحول الله وقوته أن كل ذلك شيء واحد لا اختلاف فيه وأن يختر منا قبل ذلك فحسبنا ما اطلع عليه

من نيتنا في ذلك لا إله إلا هو وقال تعالى {ألم تر إلى لذين أوتوا نصيبا من لكتاب يدعون إلى كتاب لله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} وقال تعالى {وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل لله وإلى لرسول رأيت لمنافقين يصدون عنك صدودا} قال علي بن أحمد فليتق الله الذي إليه المعاد امرؤ على نفسه ولتوجل نفسه عند قراءة هذه الآية وليشتد إشفاقه من أن يكون مختارا للدخول تحت هذه الصفة المذكورة المذمومة الموبقة الموجبة للنار فإن من ناظر خصمه في مسألة من مسألة الديانة وأحكامها التي أمرنا بالتفقه فيها فدعاه خصمه إلى ما أنزل الله تعالى وإلى كلام الرسول فصده عنهما ودعاه إلى قياس أو إلى قول فلان وفلان فليعلم أن الله عز وجل قد سماه منافقا نعوذ بالله من هذه المنزلة المهلكة فالتوبة التوبة عباد الله قبل حلول الأجل وانقطاع المهل قال تعالى {وإذا حضر لقسمة أولوا لقربى وليتامى ولمساكين فرزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا} وقال تعالى {ومآ أنزلنا عليك لكتاب إلا لتبين لهم لذي ختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} فصح أن البيان كله موقوف على كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم وقال عز وجل {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى لله ورسوله أمرا أن يكون لهم لخيرة من أمرهم ومن يعص لله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} قال علي هذه الآية كافية من عند رب العالمين في أنه ليس لنا اختيار عند ورود أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه من خير نفسه في التزام أو ترك أو في الرجوع إلى قول قائل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله بنص هذه الآية فقد ضل ضلالا مبينا وأن المقيم على أمر سماه الله ضلالا لمخذول وقال تعالى {ومآ أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن لله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فستغفروا لله وستغفر لهم لرسول لوجدوا لله توابا رحيما} وقال تعالى {مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب} وقال تعالى {في بيوت أذن لله أن ترفع ويذكر فيها سمه يسبح له فيها بلغدو ولآصال}

قال علي ومن جاءه خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقر أنه صحيح وأن الحجة تقوم بمثله أو قد صحح مثل ذلك الخبر في مكان آخر ثم ترك مثله في هذا المكان لقياس أو لقول فلان وفلان فقد خالف أمر الله وأمر رسوله واستحق الفتنة والعذاب الأليم قال علي أما الفتنة فقد عجلت له ولا فتنة أعظم من تماديه على ما هو فيه وارتطامه في هذه العظيمة أعظم فتنة ووالله ليصحن القسم الآخر إن لم يتدارك نفسه بالتوبة والإقلاع والطاعة لما أتاه من نبيه صلى الله عليه وسلم ورفض قبول قول من دونه كائنا من كان وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى {ويقولون آمنا بلله وبلرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ومآ أولئك بلمؤمنين * وإذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم لحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم رتابوا أم يخافون أن يحيف لله عليهم ورسوله بل أولئك هم لظالمون * إنما كان قول لمؤمنين إذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم لمفلحون * ومن يطع لله ورسوله ويخش لله ويتقه فأولئك هم لفآئزون * وأقسموا بلله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن لله خبير بما تعملون * قل أطيعوا لله وأطيعوا لرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على لرسول إلا لبلاغ لمبين} قال علي هذه الآيات محكمات لم تدع لأحد علقة يشغب بها قد بين الله فيها صفة فعل أهل زماننا فإنهم يقولون نحن المؤمنون بالله وبالرسول ونحن طائعون لهما ثم يتولى طائفة منهم بعد هذا الإقرار فيخالفون ما وردهم عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أولئك بنص حكم الله تعالى عليهم ليسوا مؤمنين وإذا دعوا إلى آيات من قرآن أو حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف كل ذلك تقليدهم الملعون أعرضوا عن ذلك فمن قائل ليس عليه العمل

ومن قائل هذا خصوص ومن قائل هذا متروك ومن قائل أبى هذا فلان ومن قائل القياس غير هذا حتى إذا وجدوا في الحديث أو القرآن شيئا يوافق ما قلدوا فيه طاروا به كل مطار وأتوا إليه مذعنين كما وصف الله حرفا حرفا فيا ويلهم ما بالهم أفي قلوبهم مرض وريب أم يخافون جور الله تعالى وجور رسوله صلى الله عليه وسلم ألا إنهم هم الظالمون كما سماهم الله رب العالمين فبعدا للقوم الظالمين ثم بين تعالى أن قول المؤمنين إذا دعوا إلى كتاب الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وهذا جواب أصحاب الحديث الذين شهد لهم الله تعالى وقوله الحق أنهم مؤمنون وأنهم مفلحون وأنهم هم الفائزون اللهم فثبتنا فيهم ولا تخالف بنا عنهم واكتبنا في عدادهم واحشرنا في سوادهم آمين رب العالمين ثم أخبرنا تعالى بما شهدناه من اكثر أهل زماننا وبما يميزونه من أنفسهم بظاهر أحوالهم وباطنها من أنهم يقولون نسمع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ويقسمون على ذلك فقال لهم تعالى لا تقسموا ولكن أطيعوا أن حققوا ما تقولون بإقراركم وفعلكم واتركوا حكم كل حاكم وقول كل قائل دون قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخبرنا تعالى أنه ليس على رسول الله صلى الله عليه وسلم غير ما حمله ربه وهو التبليغ والتبيين وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك وأخبرنا تعالى أن علينا ما حملنا وهو الطاعة والانقياد لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بذلك لا لما أمرنا به من دونه وبالله تعالى التوفيق قال علي لقد كان في آية واحدة مما تلونا كفاية لمن عقل وفهم فكيف وقد أبدأ ربنا تعالى في ذلك وأعاد وكرر وأكد ولم يدع لأحد متعلقا وقد أنذرنا كما أمرنا وألزمنا في القرآن وما توفيقنا إلا بالله عز وجل ولا قوة

فصل فيه أقسام الإخبار عن الله تعالى

إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل فصل فيه أقسام الإخبار عن الله تعالى قال أبو محمد جاء النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ففرض اتباعه وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن وبيان لمجمله ثم اختلف المسلمون في الطريق المؤدية إلى صحة الخبر عنه عليه السلام بعد الإجماع المتيقن المقطوع به على ما ذكرنا وعلى الطاعة من كل مسلم لقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فنظرنا في ذلك فوجدنا الأخبار تنقسم قسمين خبر تواتر وهو ما نقلته كافة بعد كافة حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به وفي أنه حق مقطوع على غيبه لأن بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم وبه علمنا صحة مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره وقد تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك وبينا أن البرهان قائم على صحته وبينا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله وأن به عرفنا ما لم نشاهد من البلاد ومن كان قبلنا من الأنبياء والعلماء والفلاسفة والملوك والوقائع والتوالف ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الأول ولا فرق ولزمه أن يصدق بأنه كان قبله زمان ولا أن أباه وأمه كانا قبله ولا أنه مولود من امرأة قال علي وقد اختلف الناس في مقدار عدد النقلة للخبر الذي ذكرنا فطائفة قالت لا يقبل الخبر إلا من جميع أهل المشرق والمغرب وقالت طائفة لا يقبل إلا من عدد لا نحصيه نحن وقالت طائفة لا يقبل أقل من ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا عدد أهل بدر وقالت طائفة لا يقبل إلا من سبعين

وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسين عدد القسامة وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعين لأنه العدد الذي لما بلغه المسلمون أظهروا الدين وقالت طائفة لا يقبل إلا من عشرين وقالت طائفة لا يقبل إلا من اثني عشر وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسة وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعة وقالت طائفة لا يقبل إلا من ثلاثة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه إنه قد نزل به جائحة وقالت طائفة لا يقبل إلا من اثنين قال علي وهذه كلها أقوال بلا برهان وما كان هكذا فقد سقط ويكفي في إبطال ذلك أن ننبه كل من يقول بشيء من هذه الحدود على أن يقيس كل ما يعتقد صحته من أخبار دينه ودنياه فإنه لا سبيل له البتة إلى أن يكون شيء منها صح عنده بالعدد الذي شرط كل واحد من ذلك العدد عن مثل ذلك العدد كله وهكذا متزايدا حتى يبلغ إلى تحقيق ذلك الخبر م 8 ن دينه أو دنياه فحصل من كل قول منها بطلان كل خبر جملة ولا نحاشي شيئا لأنه وإن سمع هو بعض الأخبار من العدد الذي شرط فلا بد أن يبطل تلك المرتبة فيما فوق ذلك وكل قول أدى إلى الباطل فهو باطل بلا شك وبالله تعالى التوفيق فلم يبق إلا قول من قال بالتواتر ولم يحد عددا قال علي ونقول ههنا إن شاء الله تعالى قولا باختصار فنقول وبالله تعالى التوفيق لكل من حد في عدد نقلة خبر التواتر حدا لا يكون أقل منه يوجب تيقن صدقه ضرورة من سبعين أو عشرين أو عدد لا نحصيهم وإن كان في ذاته محصي ذا عدد محدود أو أهل المشرق والمغرب ولا سبيل إلى لقائه ولا لقاء أحد لهم كلهم ولا بد له من الاقتصار على بعضهم دون بعض بالضرورة ولا بد من أن يكون لذلك التواتر الذي يدعونه في ذاته عدد إن نقص منه واحد لم يكن متواترا وإلا فقد ادعوا ما لا يعرف أبدا ولا يعقل

فإذن لا بد من تحديد عدد ضرورة فنقول لهم ما تقولون إن سقط من هذا الحد الذي حددتم واحد أيبطل سقوط ذلك الواحد قبول ذلك الخبر أم لا يبطله فإن قال يبطله تحكم بلا برهان وكل قول بمجرد الدعوى بلا برهان فهو مطروح ساقط فإن قال بقبوله أسقطنا له آخر ثم آخر حتى يبلغ إلى واحد فقط وإن حد عددا سئل عن الدليل على ذلك فلا سبيل له إليه البتة وأيضا فإنه ما في القول فرق بين ما نقله عشرون وبين ما نقله تسعة عشر ولا بين ما نقله سبعون ولا ما نقله تسعة وستون وليس ذكر هذه الأعداد في القرآن وفي القسامة وفي بعض الأحوال وفي بعض الأخبار بموجب ألا يقبل أقل منها في الأخبار وقد ذكر تعالى في القرآن أعدادا غير هذه فذكر تعالى الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والمائة ألف وغير ذلك ولا فرق بين ما تعلق بعدد منها وبين ما تعلق بعدد آخر منها ولم يأت من هذه الأعداد في القرآن شيء في باب قبول الأخبار ولا في قيام حجة بهم فصارف ذكرها إلى ما لم يقصد بها مجرم وقاح محرف للكلم عن مواضعه وإن قال لا يبطل قبول الخبر بسقوط واحد من العدد الذي حد كان قد ترك مذهبه الفاسد ثم سألناه عن إسقاط آخر أيضا مما بقي من ذلك العدد وهكذا حتى يبعد عما حد بعدا شديدا فإن نظروا هذا بما يمكن حده من الأشياء كانوا مدعين بلا دليل ومشبهين بلا برهان وحكم كل شيء يجعله المرء دينا له أن ينظر في حدوده ويطلبها إلا ما أصبح إجماع أو نص أو أوجبت طبيعة ترك طلب حده وقد قال بعضهم لا يقبل من الأخبار إلا ما نقلته جماعة لا يحصرها العدد قال أبو محمد وهذا قول من غمره الجهل لأنه ليس هذا موجدا في العالم أصلا وكل ما فيه فقد حصره العدد وإن لم نعلمه نحن وإحصاؤه ممكن لمن تكلف ذلك فعلى هذا القول الفاسد قد سقط قبول جميع الأخبار جملة وسقط كون النبي صلى الله عليه وسلم في العالم وهذا كفر وأيضا فيلزم هؤلاء

وكل من حد في عدد من لا تصح الأخبار بأقل من نقل ذلك العدد أمر فظيع يدفعه العقل ببديهته وهو ألا يصح عندهم كل أمر يشهده أقل من العدد الذي حدوا وألا يصح عندهم كل أمر حصره عدد من الناس وكل أمر لم يحصره أهل المشرق والمغرب فتبطل الأخبار كلها ضرورة على حكم هذه الأقوال الفاسدة وهم يعرفون بضرورة حسهم صدق أخبار كثيرة من موت وولادة ونكاح وعزل وولاية واغتفال منزل وخروج عدو شر واقع وسائر عوارض العالم مما لا يشهده الا النفر اليسير ومن خالف هذا فقد كابر عقله ولم يصح عنده شيء مما ذكرنا أبدا لا سيما إن كان ساكنا في قرية ليس فيها إلا عدد يسير مع أنه لا سبيل له إلى لقاء أهل المشرق والمغرب قال علي فإن سألنا سائل فقال ما حد الخبر الذي يوجب الضرورة فالجواب وبالله تعالى التوفيق أننا نقول إن الواحد من غير الأنبياء المعصومين بالبراهين عليهم السلام قد يجوز عليه تعمد الكذب يعلم ذلك بضرورة الحس وقد يجوز على جماعة كثيرة أن يتواطؤوا على كذبة إذا اجتمعوا ورغبوا أو رهبوا ولكن ذلك لا يخفى من قبلهم بل يعلم اتفاقهم على ذلك الكذب بخبرهم إذا تفرقوا لا بد من ذلك ولكنا نقول إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا ولا دسسا ولا كانت لهما رغبة فيما أخبر به ولا رهبة منه ولم يعلم أحدهما بالآخر فحدث كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله وذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها شاهدت فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه وهذا الذي قلنا يعلمه حسا من تدبره ورعاه فيما يرده كل يوم من أخبار زمانه من

موت أو ولادة أو نكاح أو عزل أو ولاية أو وقعة وغير ذلك وإنما خفي ما ذكرنا على من خفي عليه لقلة مراعاته يمر به ولو أنك تكلف إنسانا واحدا اختراع حديث طويل كاذب لقدر عليه يعلم ذلك بضرورة المشاهدة فلو أدخلت اثنين في بيتين لا يلتقيان وكلفت كل واحد منهما توليد حديث كاذب لما جاز بوجه من الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلا وقد يقع في الندرة التي لم نكد نشاهدها اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة والكلمتين نحو ذلك والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت شاهدنا ذلك مرتين من عمرنا فقط وأخبرني من لا أثق به أن خاطره وافق خاطر شاعر آخر في بيت كامل واحد ولست أعلم ذلك صحيحا وأما الذي لا أشك فيه وهو ممتنع في العقل فاتفاقهما في قصيدة بل في بيتين فصاعدا والشعر نوع من أنواع الكلام ولكل كلام تأليف ما والذي ذكره المتكلمون في الأشعار من الفصل الذي سموه المواردة وذكروا أن خواطر شعراء اتفقت في عدة أبيات فأحاديث مفتعلة لا تصح أصلا ولا تتصل وما هي إلا سراقات وغارات من بعض الشعراء على بعض قال علي وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته إلا أن اضطراره ليس بمطرد ولا في وقت ولكن على قدر ما يتهيأ وقد بينا ذلك في كتاب الفضل قال علي فهذا قسم قال علي القسم الثاني من الأخبار ما نقله الواحد عن الواحد فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب العمل به ووجب العلم بصحته أيضا وبين هذا وبين شهادة العدول فرق نذكره إن شاء الله تعالى وهو قول الحارث بن أسد المحاسبي والحسين بن علي الكرابيسي وقد قال به أبو سليمان وذكره ابن خويز منداد عن مالك بن أنس والبرهان على صحة

وجوب قبوله قول الله عز وجل {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فأوجب الله تعالى على كل فرقة قبول نذارةالنافر منها بأمره النافر بالنفقة وبالنذارة ومن أمره الله تعالى بالتفقه في الدين وإنذار قومه فقد انطوى في هذا الأمر إيجاب قبول نذارته على من أمره بإنذارهم والطائفة في لغة العرب التي بها خوطبنا يقع على الواحد فصاعدا وطائفة من الشيء بمعنى بعضه هذا ما لا خلاف بين أهل اللغة فيه وإنما حد من حد في قوله تعالى {لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين} النور 2 أنهم أربعة لدليل ادعاه وكان بذلك ناقضا لمعهود اللغة ولم يدع قط قائل ذلك القول أن الطائفة في اللغة لا تقع إلا على أربعة وأما نحن فاللازم عندنا أن يشهد عذاب الزنى واحد على ما نعرف من معنى الطائفة فإن شهد اكثر فذلك مباح والواحد يجزي وبرهان آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رسولا إلى كل ملك من ملوك الأرض المجاورين لبلاد العرب وقد اعترض بعض من يخالفنا في ذلك بأن قال إن الرفاق والتجار وردوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقتصر بذلك على الرسول وحده قال أبو محمد وهذا شغب وتمويه لا يجوز إلا على ضعيف ونحن لا نشك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر بالرسل المذكورين على الإخبار بظهوره ومعجزاته المنقولة بخير الرفاق والسفار بل أمرهم بتعليم من أسلم شرائع الإسلام ومسائل العبادات والأحكام ليس من شيء من ذلك منقولا على ألسنة الرفاق والسفار وبعثه هؤلاء الرسل مشهورة بلا خوف منقولة نقل الكواف فقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم كل ملك ورعيته قبول ما أخبرهم به الرسول الموجه نحوهم من شرائع دينهم قال علي وكذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى الجند

وجهات من اليمن وأبا موسى إلى جهة أخرى وهي زبيد وغيرها وأبا بكر على الموسم مقيما للناس حجهم وأبا عبيدة إلى نجران وعليا قاضيا إلى اليمن وكل من هؤلاء مضى إلى جهة ما معلما لهم شرائع الإسلام وكذلك بعث أميرا إلى كل جهة أسلمت بعدت منه أو قربت كأقصى اليمن والبحرين وسائر الجهات والأحياء والقبائل التي أسلمت بعث إلى كل طائفة رجلا معلما لهم دينهم ومعلما لهم القرآن ومفتيا لهم في أحكام دينهم وقاضيا فيما وقع بينهم وناقلا إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وهم مأمورون بقبول ما يخبرونهم به على نبيهم صلى الله عليه وسلم وبعثه هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن لا يشك فيها أحد من العلماء ولا من المسلمين ولا في أن بعثهم إنما كانت لما ذكرنا من المحال الباطل الممتنع أن يبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من لا تقوم عليهم الحجة بتبليغه ومن لا يلزمهم قبول ما علموهم من القرآن وأحكام الدين وما أفتوهم به في الشريعة ومن لا يجب عليهم الانقياد لما أخبروهم به من كل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لو كان ذلك لكانت بعثته لهم فضولا ولكان عليه السلام قائلا للمسلمين بعثت إليكم من لا يجب عليكم أن تقبلوا منه ما بلغكم عني ومن حكمكم ألا تلتفتوا إلى ما نقل إليكم عني وألا تسمعوا منه ما أخبركم به عني ومن قال بهذا فقد فارق الإسلام وكذلك من نشأ في قرية أو مدينة ليس بها إلا مقرىء واحد أو محدث واحد أو مفت واحد فنقول لمن خالفنا ماذا تقولون أيلزمه إذا قرأ القرآن على ذلك المقرىء أن يؤمن بما أقرأه وأن يصدق بأنه كلام الله تعالى ويثبت على ذلك أم عليه أن يشك ولا يصدق بأنه كلام الله عز وجل فإن قالوا يلزمه الإقرار بأنه كلام الله تعالى قلنا صدقتم فأي فرق بين نقلهم للقرآن وبين نقلهم لسائر السنن وكلاهما من عند الله تعالى وكلاهما فرض قبوله وإن قالوا

عليه أن يشك فيه حتى يلقى الكواف أتوا بعظيمة في الدين ونسألهم حينئذ فيمن لقي من ذلك اثنين أو ثلاثة أو أربعة فلا بد لهم من حد يقفون عنده من العدد فيكون قولهم سخريا وباطلا ودعوى بلا برهان أو يحيلوا على معدوم فيما لا يصح على قولهم قبول القرآن والدين إلا به وفي هذا إبطال للدين والقرآن جملة والمنع من اعتمادهما ونعوذ بالله من هذا وهكذا القول في وجوب طاعة من أخذ عن أولئك الرسل قرآنا أو سنة وبلغ ذلك إلى غيره ولأنها بلاد واسعة لا سبيل لكل واحد من أولئك الرسل إلى لقاء جميعهم من رجل وامرأة لكن يبلغ ويبلغ من بلغه هو وهكذا أبدا لئلا يقول جاهل هذا خصوص لأولئك الرسل وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} قال أبو محمد لا يخلو النافر للتفقه في الدين من أن يكون عدلا أو فاسقا ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن كان فاسقا فقد أمرنا بالتبين في أمره وخبره من غير جهته فأوجب ذلك سقوط قبوله فلم يبق إلا العدل فكان هو المأمور بقبول نذارته قال أبو محمد وهذا برهان ضروري لا محيد عنه رافع للإشكال والشك جملة وقد بينا هذا النوع من البرهان في كتابنا في حدود الكلام المعروف بالتقريب قال علي وقد توهم من لا يعلم أنا إنما أوجبنا قبول خبر العدل من قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} فقط قال أبو محمد وقد أغفل من تأول علينا ذلك ولو لم تكن إلا هذه الآية وحدها لما كان فيها ما يدل على قبول خبر العدل ولا على المنع من قبوله بل إنما منع فيها من قبول خبر الفاسق فقط وكان يبقى خبر العدل موقوفا على

دليله ولكن لما استفاضت هذه الآية التي فيها المنع من قبول خبر الفاسق إلى الآية التي فيها قبول نذارة النافر للتفقه صارتا مقدمتين أنتجتا قبول خبر الواحد العدل دون الفاسق بضرورة البرهان وبالله تعالى التوفيق قال علي وقد أوجب الله تعالى على كل طائفة إنذار قومها وأوجب على قومها قبول نذارتهم بقوله تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فقد حذر تعالى من مخالفة نذارة الطائفة والطائفة في اللغة تقع على بعض الشيء كما قدمنا ولا يختلف اثنان من المسلمين في أن مسلما ثقة لو دخل أرض الكفر فدعا قوما إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن وعلمهم الشرائع لكان لازما لهم قبوله ولكانت الحجة عليهم بذلك قائمة وكذلك لو بعث الخليفة أو الأمير رسولا إلى ملك من ملوك الكفر أو إلى أمة من أمم الكفر ويدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم القرآن وشرائع الدين ولا فرق وما قال قط مسلم إنه كان حكم أهل اليمن أن يقولوا لمعاذ ولمن بعثه عليه السلام إلى كل ناحية معلما ومفتيا ومقرئا نعم أنت رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقد الإيمان حق عندنا ولكن ما أفتيتنا به وعلمتنا من أحكام الصلاة ونوازل الزكاة وسائر الديانة عن النبي صلى الله عليه وسلم وما أقرأتنا من القرآن عنه عليه السلام فلا نقبله منك ولا نأخذه عنك لأن الكذب جائز عليك ومتوهم منك حتى يأتينا لكل ذلك كواف وتواتر بل لو قالوا ذلك لكانوا غير مسلمين وكذلك لا يختلف اثنان في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث من بعث من رسله إلى الآفاق لينقلوا إليهم عنه القرآن والسنن وشرائع الدين وأنه عليه السلام لم يبعثهم إليه ليشرعوا لهم دينا لم يأت هو به عن الله تعالى فصح بهذا كله أن كل ما نقله الثقة عن الثقة مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرآن أو سنة ففرض قبوله والإقرار به والتصديق

به واعتقاده والتدين به وأن كل ما صح عن صاحب أو تابع أو من دونهم من قراءة لم تستند إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو من فتيا لم تسند إليه صلى الله عليه وسلم فلا يحل قبول شيء من ذلك لأنه لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وكل ذلك قد صح عن الواحد بعد الواحد من الصحابة والتابعين وليس فضلهم بموجب قبول آرائهم ولا بمانع أن يهموا فيما قالوه بظنهم لكن فضلهم معف على كل خطأ كان منهم وراجح به وموجب تعظيمهم وحبهم وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو أنه قد صح يقينا وعلم ضرورة أن جميع الصحابة أولهم عن آخرهم قد اتفقوا دون اختلاف من أحد منهم ولا من أحد من التابعين الذين كانوا في عصرهم على أن كل أحد منهم كان إذا نزلت به النازلة سأل الصاحب عنها وأخذ بقوله فيها وإنما كانوا يسألونه عما أوجبه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى في الدين في هذه القصة ولم يسأل قط أحد منهم إحداث شرع في الدين لم يأذن به الله تعالى وهكذا كل من بعدهم جيلا فجيلا لا نحاشي أحدا ولا خلاف بين مؤمن ولا كافر قطعا في أن كل صاحب وكل تابع سأله مستفت عن نازلة في الدين فإنه لم يقل له قط لا يجوز لك أن تعمل بما أخبرتك به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يخبرك بذلك الكواف كما قالوا لهم فيما أخبروا به أنه رأى منهم فلم يلزموهم قبوله فإن قيل فاجعل هذه الحجة نفسها حجة في قبول المرسل قلنا ليس كذلك لأنه لم يصح الإجماع قط لا قديما ولا حديثا على قبول المرسل بل في التابعين من لم يقبله كالزهري وغيره يسألون من أخبرهم عمن أخبرهم حتى يبلغوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما سقط ذلك عمن ليس في قوته فهم الإسناد ومعرفته فقط وقد قال الزهري لأهل الشام ما لي أرى أحاديثكم لا خطم لها ولا أزمة فصاروا حينئذ إلى قوله وغير الزهري أيضا كثير فصح بهذا إجماع الأمة كلها على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد

الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم يجزي على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك ولقد كان عمرو بن عبيد يتدين بما يروي عن الحسن ويفتي به هذا أمر لا يجهله من له أقل علم وبرهان آخر وهو أنه عدد محصور فالتواطؤ جائز عليهم وممكن منهم ولا خلاف بين كل ذي علم بشيء من أخبار الدنيا مؤمنهم وكافرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة وأصحابه رضي الله عنهم مشاغيل في المعاش وتعذر القوت عليهم لجهد العيش بالحجاز وأنه عليه السلام كان يفتي بالفتيا ويحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط وإن الحجة إنما قامت على سائر من لم يحضره عليه السلام بنقل من حضره وهم واحد واثنان وفي الجملة عدد لا يمتنع من مثلهم بالتواطؤ عند خصومنا فإذ جميع الشرائع إلا الأقل منها راجعة إلى هذه الصفة من النقل وقد صح الإجماع من الصدر الأول كلهم نعم وممن بعدهم على قبول خبر الواحد لأنها كلها راجعة إليه وإلى ما كان في معناه وهذا برهان ضروري وبالله تعالى التوفيق وبالضرورة نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إذا أفتى بالفتيا أو إذا حكم بالحكم يجمع لذلك جميع من بالمدينة هذا ما لا شك فيه لكنه عليه السلام كان يقتصر على من بحضرته ويرى أن الحجة بمن يحضره قائما على من غاب هذا ما لا يقدر على دفعه ذو حس سليم وبالله تعالى التوفيق قال علي وأقوى ما شغب به من أنكر قبول خبر الواحد أن نزع بقول الله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} قال أبو محمد وهذه الآية حجة لنا عليهم في هذه المسألة لأنا لم نقف

ما ليس لنا به علم بل ما قد صح لنا به العلم وقام البرهان على وجوب قبوله وصح العلم بلزوم اتباعه والعمل به فسقط اعتراضهم بهذه الآية والحمد لله رب العالمين وقال بعضهم أنتم لا تقبلون الواحد في فلس فكيف تقبلونه في إثبات الشرائع قال أبو محمد هذا السؤال لا يلزمنا لأننا لا نقيس شريعة على شريعة ولا نتعدى ما جاءت به النصوص وثبت في القرآن والسنن فصح البرهان كما ذكرنا بقبول خبر الواحد في العبادات والشرائع وقبول القرآن فقلنا به وصح الخبر بقبول المرأة الواحدة في أوضاع فقلنا به وصح الخبر بقبول الواحد مع اليمين فيما عدا الحدود فقلنا به وصح الخبر والنص بقبول الرجلين أو الرجل والمرأتين فيما عدا الزنى فقلنا به وصح النص بقبول أربعة في الزنى فقلنا به ولم نعارض شريعة بشريعة ولا تعقبنا على ربنا عز وجل ونحن وهم نقبل في إباحة الدم الحرام من المسلم الفاضل والفرج الحرام من المسلمة الفاضلة والبشرة المحرمة في جلد ثمانين في القذف وفي قطع اليد والرجل رجلين ولا نقبلهما فيما يوجب إلا خمسين جلدة من زنى الأمة لا على مؤمنة ولا على كافر فأين هم عن هذا الاعتراض الفاسد لو عقلوا وهم يقعوا تحت إنكار ربهم تعالى عليهم إذ يقول {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وقد قال بعض المتحكمين في الدين بقلة الورع ممن يدعي أنه من أهل القول بقبول السنن من طرق الآحاد إن الخبر إذا كان مما يعظم به البلوى لم يقبل فيه خبر الواحد ومثل ذلك بعضهم بالآثار المروية في الأذان والإقامة وقال إن الأذان والإقامة كانا بالمدينة بحضرة الأئمة من الصحابة رضي الله عنهم خمس مرات كل يوم فهذا مما تعظم به البلوى فمحال أن يعرف حكمه الواحد ويجهله الجماعة ومثل ذلك بعضهم أيضا بخبر الوضوء من مس الذكر قال أبو محمد وهذا كلام فاسد متناقض أول ذلك أن الدين كله تعظم

به البلوى ويلزم للناس معرفته وليس هذا ما وقع في الدهر مرة من أمر الطهارة والحج أوجب في أنه فرض أو حرام مما يقع في كل يوم ولا يفرق بين ذلك إلا جاهل أو من لا يبالي بما تكلم ويقال له في الأذان الذي ذكر لا فرق بين أذان المؤذن بالمدينة بحضرة عمر وعثمان رضي الله عنهما خمس مرات كل يوم وبين أذان المؤذن بالكوفة بحضرة ابن مسعود وعلي خمس مرات كل يوم وليست نسبة الرضا بتبديل الأذان إلى علي وابن مسعود بأخف من نسبة ذلك إلى عمر وعثمان فبطل تمويه هذا الجاهل وبان تخليطه وكذلك الوضوء من مس الذكر ليست البلوى به بأعظم من البلوى بإيجاب الوضوء من الرعاف والقلس وقد أوجبه الحنفيون بخبر ساقط ولم يعرفه المالكيون ولا الشافعيون ولا البلوى أيضا بذلك أعظم من البلوى بإيجاب الوضوء من المسة والقبلة للذة ومن إيجاب التدلك في الغسل وقد أوجبها المالكيون ولا يعرف ذلك الحنفيون ومثل هذا كثير جدا فإن قالوا أوجبنا ذلك بالقرآن قيل لهم قد عرف القرآن غيركم كما عرفتموه فما رأوا فيه ما ذكرتم مع عظيم البلوى به وقد بينا في كتابنا هذا أن مغيب السنة عمن غاب عنه من صاحب أو غيره ليس حجة على من بلغته وإنما الحجة في السنة وقد غاب نسخ التطبق في الركوع عن ابن مسعود وهو مما تعظم به البلوى به ويتكرر على المسلم أكثر من بضع عشرة مرة في كل يوم وليلة وخفي على عمر رضي الله عنه أمر جزية المجوس والأمر في قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لها من مجوس هجر عاما بعد عام وأبي بكر بعده عاما بعد عام أشهر من الشمس ولم تكن فضلة قليلة بل قد ثبت أنه لم يقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أكثر منه على قلة المال هناك حينئذ وخفي على عمر وابن عمر

أيضا الوضوء من المذي وهو مما تعظم البلوى به وهذا كثير جدا ويكفي من هذا أن قول هذا القائل دعوى مجردة بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل مطرح قال عز وجل {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} ولا يجوز أن يعارض ما قد صح البرهان به من وجوب قبول السنن من طريق الآحاد بدعوى ساقطة فاسدة وبالله تعالى التوفيق وقال أيضا بعض الحنفيين ما كان من الأخبار زائدا على ما في القرآن أو ناسخا له أو مخالفا له لم يجز أخذه بخبر الواحد إلا حتى يأتي به التواتر قال أبو محمد وهذا تقسيم باطل ودعوى كاذبة وحكم بلا برهان وما كان هكذا فهو ضلال لا يحل القول به ونقول لهم أيجوز الأخذ بشيء من أخبار الآحاد في شيء من الشريعة أم لا فإن قالوا لا كلمناهم بما قد فرغنا منه آنفا وكانوا خارجين عن مذهبهم أيضا وإن قالوا نعم وهو قولهم قلنا لهم من أين جوزتم أن يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم به وأن يشرع به في دين الله عز وجل شريعة تضاف إليه في الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك في الموضع الذي أجزيتموه فيه ثم منعتم من قوله حيث هو بزعمك زائد على ما في القرآن أو ناسخ له فلا سبيل إلى فرق أصلا وأما قولهم مخالف الأصول فكلام فاسد فارغ من المعنى واقع على ما لا يعقل لأن خبر الواحد الثقة المسند أصل من أصول الدين وليس سائر الأصول أولى بالقبول منه ولا يجوز أن تتنافى أصول الدين حاشا لله من هذا ثم نقول اعلموا أن كل خبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية صحيحة مسندة فإنه ولا بد زائد حكم على ما في القرآن أو أتي بما في نص القرآن لا بد من أحد الوجهين فيه والزائد حكما على ما في القرآن ينقسم قسمين إما جاء بما لم يذكر في القرآن كغسل الرجلين في الوضوء وكرجم المحصن ونحو ما أخذوا به من إباحة صوم رمضان للمسافر ومن إيجاب

الوضوء من القهقهة في الصلاة ومن الوضوء بالنبيذ ومن القلس والقيء والرعاف وكتخصيص ظاهر القرآن كعدد ما لا يقطع السارق في أقل منه وما لا يحرم من الرضاع أقل منه فهذا أيضا زائد حكم على ما في القرآن ومثله ما بين مجمل القرآن كصفة الصلاة وصفة الزكاة وسائر ما جاءت به السنن فهو زائد حكم على ما في القرآن فمن أين جوزتم أخذ الزائد على ما في القرآن كما ذكرنا حيث اشتهيتم ومنعتم منه حيث اشتهيتم وهذا ضلال لا خفاء به وكل ما وجب العمل به في الشريعة فهو واجب أبدا في كل حال وفي كل موضع إلا أن يأتي نص قرآني أو سنة بالمنع من بعض ذلك فيوقف عنده وأما بالآراء المضلة والأهواء السخيفة فلا على أنهم آخذ الناس بخلاف القرآن برأي فاسد أو قياس سخيف أو خبر ساقط كالوضوء من القهقهة وسائر تلك الأخبار الفاسدة وتأملوا ما نقول لكم قد أجمعوا معنا على قبول ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسخ للقرآن أو زيادة عليه واتفقوا معنا على أن خبر الواحد الثقة عن مثله مسندا حجة في الدين ثم تناقضوا كما ذكرنا بلا برهان ونعوذ بالله من الخذلان وقد ثبت عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وداود رضي الله عنهم وجوب القول بخبر الواحد وهذا حجة على من قلد أحدهم في وجوب القول بخبر الواحد وإن خالف من قلده من بعض من ذكرنا خطأ وتناقضا لا يعزى منه بشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان في قبول خبر الواحد خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال له رجل {وجآء رجل من أقصى لمدينة يسعى قال يموسى إن لملأ يأتمرون بك ليقتلوك فخرج إني لك من لناصحين} فصدقه وخرج فارا وتصديقه المرأة في قولها {فجآءته إحداهما تمشي على ستحيآء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جآءه وقص عليه لقصص قال لا تخف نجوت من لقوم لظالمين} فمضى معها وصدقها وبالله تعالى التوفيق

فصل في هل يوجب خبر الواحد العلم مع العمل أو العمل دون العلم

فصل هل يوجب خبر الواحد العدل العلم مع العمل أو العمل دون العلم قال أبو محمد قال أبو سليمان والحسين عن أبي علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم أن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل معا وبهذا نقول وقد ذكر هذا القول أحمد بن إسحاق المعروف بابن خويز منداد عن مالك بن أنس وقال الحنفيون والشافعيون وجمهور المالكيين وجميع المعتزلة والخوارج إن خبر الواحد لا يوجب العلم ومعنى هذا عند جميعهم أنه قد يمكن أن يكون كذبا أو موهوما فيه واتفقوا كلهم في هذا وسوى بعضهم بين المسند والمرسل وقال بعضهم المرسل لا يوجب علما ولا عملا وقد يمكن أن يكون حقا وجعلت المعتزلة والخوارج هذا حجة لهم في ترك العمل به قالوا ما جاز أن يكون كذبا أو خطأ فلا يحل الحكم به في دين الله عز وجل ولا أن يضاف إلى الله تعالى ولا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يسع أحدا أن يدين به وقال سائر من ذكرنا إنه يوجب العمل واحتج كل من ذكرنا بأن هذه صفة كل خبر واحد في جواز الكذب وتعمده وإمكان السهو فيه وإن لم يتعمد الكذب وقال أبو بكر بن كيسان الأصم البصري لو أن مائة خبر مجموعة قد ثبت أنها كلها صحاح إلا واحدا منها لا يعرف بعينه أيها هو قال فإن الواجب التوقف عن جميعها فكيف وكل خبر منها لا يقطع على أنه حق متيقن ولا يؤمن فيه الكذب والنسخ والغلط قال أبو محمد أما احتجاج من احتج بأن صفة كل خبر واحد هي أنه يجوز عليه الكذب والوهم فهو كما قالوا إلا أن يأتي برهان حسي ضروري أو برهان منقول نقلا يوجب العلم من نص ضروري على أن الله تعالى قد برأ بعض الأخبار من ذلك فيخرج بدليله عن أن يجوز فيه الكذب والوهم

وقد وافقنا المعتزلة وكل من يخالفنا في هذا المكان على أن خبر النبيصلى الله عليه وسلم في الشريعة لا يجوز فيه الكذب ولا الوهم لقيام الدليل على ذلك وقال أصحاب القياس إن إجماع الأمة على القياس معصوم من الخطأ بخلاف إجماع سائر الملل لقيام دليل ادعوه في ذلك وكما أجمعتم معنا على القطع ببراءة عائشة رضي الله عنها وخروج ما قذفت به عن الإمكان لقيام البرهان بذلك عند جميعكم وعندنا وقد ادعى الروافد منكم هذا في خبر الإمام فإن وجدنا نحن برهانا على أن خبر الواحد المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة لا يجوز عليه الكذب ولا الوهم فقد صح قولنا وقولهم في أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم في الشريعة لا يجوز عليه الكذب والوهم وإن لم نجد برهانا على ذلك فهو قولهم وقد صح البرهان بذلك ولله الحمد على ما نذكره إن شاء الله تعالى وأما قول ابن كيسان فباطل لأنه دعوى بلا دليل بل الواجب حينئذ البحث عن الخبر الواهي والمنسوخ حتى يعرف فيجتنب وإلا فالعمل واجب لأن الأصل وجوب العمل بالسنن حتى يصح فيها بطلان أو نسخ وإلا فهي على البراءة من النسخ ومن الكذب والوهم حتى يصح في الخبر شيء من ذلك فيترك لقول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} ولقوله تعالى {تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون} ولقوله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} وقد علمنا أن في القرآن آيات منسوخة بلا شك لقوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} وقد اختلف العلماء فيها فطائفة قالت في آية إنها منسوخة وطائفة قالت ليست منسوخة بل هي محكمة فما قال مسلم قط لا ابن كيسان ولا غيره إن الواجب التوقف عن العمل بشيء من القرآن من أجل ذلك وخوفا أن يعمل بمنسوخ لا يحل العمل به بل

الواجب العمل بكل آية منه حتى يصح النسخ فيها فيترك العمل بها وقول ابن كيسان يوجب ترك الحق يقينا ولا فرق بين ترك الحق يقينا وبين العمل بالباطل يقينا وكلاهما لا يحل فقد تعجل ابن كيسان لنفسه الذي فر عنه وأشد منه لأنه ترك الحق يقينا خوف أن يقع في خطأ لعله لا يقع فيه وهذا كما ترى قال علي وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في إيراد البراهين على أن خبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة يوجب العلم ولا يجوز فيه البتة الكذب ولا الوهم فنقول وبالله تعالى التوفيق قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} وقال تعالى آمرا لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول {قل ما كنت بدعا من لرسل ومآ أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي ومآ أنا إلا نذير مبين} وقال تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} وقال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يحرف منه شيء أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذبا وضمانه خائسا وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل فوجب أن الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ بتولي الله تعالى حفظه مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتي أبدا إلى انقضاء الدنيا قال تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} فإذ ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطا لا يتميز عن أحد من الناس

بيقين إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ ولكان قول الله تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} كذبا ووعدا مخلفا وهذا لا يقوله مسلم فإن قال قائل إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده فهو الذي ضمن تعالى حفظه لسائر الوحي الذي ليس قرآنا قلنا له وبالله تعالى التوفيق هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان وتخصيص للذكر بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل لقوله تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فصح أن لا برهان له على دعواه فليس بصادق فيها والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة وحي يبين بها القرآن وأيضا فإن الله تعالى يقول {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فصح أنه عليه السلام مأمور ببيان القرآن للناس وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه لكن بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه فقد بطل الانتفاع بنص القرآن فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه فإذا لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها فما أخطأ فيه المخطىء أو تعمد فيه الكذب الكاذب ومعاذ الله من هذا وأيضا نقول لمن قال إن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجب العلم وإنما يجوز فيه الكذب والوهم وأنه غير مضمون الحفظ أخبرونا هل يمكن عندكم أن تكون شريعة فرض أو تحريم أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات وهي باقية لازمة للمسلمين غير منسوخة فجهلت حتى لا يعملها علم يقين أحد من أهل الإسلام في العالم أبدا وهل يمكن عندكم أن يكون حكم موضوع بالكذب أو بخطأ بالوهم قد جاز ومضى واختلط بأحكام الشريعة اختلاطا لا يجوز أن يميزه أحد من أهل الإسلام في العالم أبدا أم لا يمكن عندكم

شيء من هذين الوجهين فإن قالوا لا يمكنان أبدا بل قد أمنا ذلك صاروا إلى قولنا وقطعوا أن كل خبر رواه الثقة عن الثقة مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الديانة فإنه حق قد قاله عليه السلام كما هو وأنه يوجب العلم ونقطع بصحته ولا يجوز أن يختلط به خبر موضوع أو موهوم فيه لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم قط اختلاطا لا يتميز فيه الباطل من الحق أبدا وإن قالوا بل كل ذلك ممكن كانوا قد حكموا بأن الدين دين الإسلام قد فسد وبطل أكثره واختلط ما أمر الله تعالى به مع ما لم يأمر به اختلاطا لا يميزه أحد أبدا وأنهم لا يدرون أبدا ما أمرهم به الله تعالى مما لم يأمرهم به ولا ما وضعه الكاذبون والمستخفون مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالظن الذي هو أكذب الحديث والذي لا يغني من الحق شيئا وهذا انسلاخ من الإسلام وهدم للدين وتشكيك في الشرائع ثم نقول لهم أخبرونا إن كان ذلك كله ممكنا عندكم فهل أمركم الله تعالى بالعمل بما رواه الثقات مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يأمركم بالعمل به ولا بد من أحدهما فإن قالوا لم يأمرنا الله تعالى بذلك لحقوا بالمعتزلة وسيأتي جوابهم على هذا القول إن شاء الله تعالى وإن قالوا بل أمرنا الله تعالى بالعمل بذلك قلنا لهم فقد قلتم إن الله تعالى أمركم بالعمل في دينه بما لم يأمركم به مما وضعه الكذابون وأخطأ فيه الواهمون وأمركم بأن تنسبوا إليه تعالى وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم ما لم يأتكم به قط وما لم يقله الله تعالى قط ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا قطع بأنه عز وجل أمر بالكذب عليه وافترض العمل بالباطل وبما ليس من الدين وبما شرع الكذابون مما لم يأذن به الله تعالى وهذا عظيم جدا لا يستجيز القول به مسلم ثم نسألهم عما قالوا إنه ممكن من سقوط بعض ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحكم في الدين بإيجاب أو تحريم حتى لا يوجد عند أحد هل بقي علينا العمل به أم سقط عنا ولا بد من

أحدهما فإن قالوا بل هو باق علينا قلنا لهم كيف يلزمنا العمل بما لا ندري وبما لم يبلغنا ولا يبلغنا أبدا وهذا هو تحميل الإصر والحرج والعسر الذي قد آمننا الله تعالى منه وإن قالوا بل سقط عنا العمل به قلنا لهم فقد أجزتم نسخ شرائع من شرائع الإسلام مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي محكمة ثابتة لازمة فأخبرونا من الذي نسخها وأبطلها وقد مات صلى الله عليه وسلم وهي لازمة لنا غير منسوخة وهذا خلاف الإسلام والخروج منه جملة فإن قالوا لا يجوز أن يسقط حكم شريعة مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لازم لنا ولم ينسخ قلنا لهم فمن أين أجزتم هذا النوع من الحفظ في الشريعة ولم تجيزوا تمام الحفظ للشريعة في ألا يختلط بها باطل لم يأمر الله تعالى به قط اختلاطا لا يتميز معه الحق الذي أمر الله تعالى به من الباطل الذي لم يأمر به تعالى قط وهذا لا مخلص لهم منه ولا فرق بين من منع من سقوط شريعة حق وأجاز اختلاطها بالباطل وبين من منع من اختلاط الحق في الشريعة بالباطل وأجاز سقوط شريعة حق وكل هذا باطل لا يجوز البتة وممتنع قد أمنا كونه ولله الحمد وإذا صح هذا فقد ثبت يقينا أن خبر الواحد قد أمنا كونه ولله الحمد وإذا صح هذا فقد ثبت يقينا أن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حق مقطوع به موجب للعمل والعلم معا وأيضا قال الله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} وقد قال تعالى {يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين} نسألهم هل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنزل الله إليه أو لم يبين وهل بلغ ما أنزل الله إليه أو لم يبلغ ولا بد من أحدهما فمن قولهم إنه عليه السلام قد بلغ ما أنزل الله إليه وبينه للناس وأقام به الحجة على من بلغه فنسألهم عن ذلك التبليغ وذلك البيان أهما باقيان عندنا وإلى يوم القيامة أم هما غير باقيين فإن قالوا بل هما باقيان وإلى يوم

القيامة رجعوا إلى قولنا وأقروا أن الحق من كل ما أنزل الله تعالى في الدين مبين مما لم ينزله مبلغ إلينا وإلى يوم القيامة وهذا هو نص قولنا في أن خبر الواحد العدل عن مثله مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حق مقطوع على مبينه موجب للعلم والعمل وإن قالوا بل هما غير باقين دخلوا في عظيمة وقطعوا بأن كثيرا من الدين قد بطل وإن التبليغ قد سقط في كثير من الشرائع وأن تبيين رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثير من الدين قد ذهب ذهابا لا يوجد معه أبدا وهذا هو قول الروافض بل شر منه لأن الروافض ادعت أن حقيقة الدين موجودة عند إنسان مضمون كونه في العالم وهؤلاء أبطلوه من جميع العالم ونعوذ بالله من كلا القولين وأيضا فإن الله تعالى قال {قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} وقال تعالى {إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى} وقال تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا} وقال تعالى ذاما لقوم قالوا {وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} وقال تعالى {سيقول لذين أشركوا لو شآء لله مآ أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب لذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا لظن وإن أنتم إلا تخرصون} وقد صح أن الله تعالى افترض علينا العمل بخبر الواحد الثقة عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نقول أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وقال عليه السلام كذا وفعل عليه السلام كذا وحرم القول في دينه بالظن وحرم تعالى أن نقول عليه إلا بعلم فلو كان الخبر المذكور يجوز فيه الكذب أو الوهم لكنا قد أمرنا الله تعالى بأن نقول عليه ما لا نعلم ولكان تعالى قد أوجب علينا الحكم في الدين بالظن الذي لا نتيقنه والذي هو الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا والذي هو غير الهدى الذي جاءنا من عند الله تعالى وهذا هو الكذب والإفك والباطل الذي

لا يحل القول به والذي حرم الله تعالى علينا أن نقول به وبالتخرص المحرم فصح يقينا أن الخبر المذكور حق مقطوع على غيبه موجب للعلم والعمل معا وبالله تعالى التوفيق وصار كل من يقول بإيجاب العمل بخبر الواحد وأنه مع ذلك ظن لا يقطع بصحة غيبه ولا يوجب العلم قائلا بأن الله تعالى تعبدنا أن نقول عليه تعالى ما ليس لنا به علم وأن نحكم في ديننا بالظن الذي قد حرم تعالى علينا أن نحكم به في الدين وهذا عظيم جدا وأيضا فإن الله تعالى يقول {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وقال تعالى {ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين} وقال تعالى {إن الدين عند لله لإسلام وما ختلف لذين أوتوا لكتاب إلا من بعد ما جآءهم لعلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات لله فإن لله سريع لحساب} وقال تعالى {كان لناس أمة واحدة فبعث لله لنبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم لكتاب بلحق ليحكم بين لناس فيما ختلفوا فيه وما ختلف فيه إلا لذين أوتوه من بعد ما جآءتهم لبينات بغيا بينهم فهدى لله لذين آمنوا لما ختلفوا فيه من لحق بإذنه ولله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم} قال أبو محمد فنقول لمن جوز أن يكون ما أمر الله تعالى به نبيه عليه السلام من بيان شريعة الإسلام لنا غير محفوظ وإنه يجوز فيه التبديل وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطا لا يتميز أبدا أخبرونا عن إكمال الله دينا ورضاه الإسلام لنا دينا ومنعه تعالى من قبول كل دين حاشا الإسلام أكل ذلك باق علينا ولنا إلى يوم القيامة أم إنما كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم فقط أم لا للصحابة ولا لنا ولا بد من أحد هذه الوجوه فإن قالوا لا للصحابة ولا لنا كان قائل هذا القول كافرا لتكذيبه الله تعالى جهارا وهذا لا يقوله مسلم وأن قالوا بل كان كل ذلك باق لنا وعلينا إلى يوم القيامة صاروا إلى قولنا ضرورة وصح أن شرائع الإسلام كلها كاملة

والنعمة بذلك علينا تامة وأن دين الإسلام الذي ألزمنا الله تعالى اتباعه لأنه هو الدين عنده عز وجل متميز عن غيره الذي لا يقبله الله تعالى من أحد وأننا ولله الحمد قد هدانا الله تعالى له وأننا على يقين من أنه الحق وما عداه هو الباطل وهذا برهان ضروري قاطع على أنه كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين وفي بيان ما يلزمنا محفوظ لا يختلط به أبدا ما لم يكن منه وإن قالوا بل كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم وليس ذلك لنا ولا علينا كانوا قد قالوا الباطل وخصصوا خطاب الله تعالى بدعوى كاذبة إذ خطابه تعالى بالآيات التي ذكرنا عموم لكل مسلم في الأبد ولزمهم مع هذه العظيمة أن دين الإسلام غير كامل عندنا وأنه تعالى رضي لنا منه ما لم ينبته علينا وألزمنا ما لا ندري أين نجده أو ألزمنا ما لم ينزله وافترض علينا اتباع ما كذبه الزنادقة والمستخفون ووضعوه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو وهم فيه الواهمون مما لم يقله نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا بيقين ليس هو دين الإسلام بل هو إبطال الإسلام جهارا ولو كان هذا وقد أمنا ولله الحمد أن يكون لكان ديننا كدين اليهود والنصارى الذي أخبرنا الله تعالى أنهم كتبوا الكتاب وقالوا هو من عند الله قال أبو محمد حاشا لله من هذا بل قد وثقنا بأن الله تعالى صدق في قوله {كان لناس أمة واحدة فبعث لله لنبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم لكتاب بلحق ليحكم بين لناس فيما ختلفوا فيه وما ختلف فيه إلا لذين أوتوه من بعد ما جآءتهم لبينات بغيا بينهم فهدى لله لذين آمنوا لما ختلفوا فيه من لحق بإذنه ولله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم} وأنه تعالى قد هدانا للحق فصح يقينا أن كل ما قاله عليه السلام فقد هدانا الله تعالى له وأنه الحق المقطوع عليه والعلم المتيقن الذي لا يمكن امتزاجه بالباطل أبدا قال علي وقال بعضهم إذا انقطعت به الأسباب خبر الواحد يوجب علما ظاهرا قال أبو محمد وهذا كلام لا يعقل وما علمنا علما ظاهرا غير باطن ولا علما باطنا غير ظاهر بل كل علم تيقن فهو ظاهر إلى من علمه وباطن في

قلبه معا وكل ظن يتيقن فليس علما أصلا لا ظاهرا ولا باطنا بل هو ضلال وشك وظن محرم القول به في دين الله تعالى ونقول لهم إذا جاز عندكم أن يكون كثير من دين الإسلام قد اختلط بالباطل فما يؤمنكم إذ ليس محفوظا من أنه لعل كثيرا من الشرائع قد بطلت لأنها لم ينقلها أحد أصلا فإن منعوا من ذلك لزمهم المنع من اختلاطها بما ليس منها لأن ضمان حفظ الله تعالى يقتضي الأمان من كل ذلك فإنه لا يشك أحد من المسلمين قطعا في أن كل ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من شرائع الدين واجبها وحرامها ومباحها فإنها سنة الله تعالى وقد قال عز وجل {سنة لله في لذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة لله تبديلا} {ستكبارا في لأرض ومكر لسيىء ولا يحيق لمكر لسيىء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة آلأولين فلن تجد لسنة لله تبديلا ولن تجد لسنة لله تحويلا} هذا نص كلامه تعالى وقد قال تعالى {لهم لبشرى في لحياة لدنيا وفي لآخرة لا تبديل لكلمات لله ذلك هو لفوز لعظيم} فلو جاء أن يكون ما نقله الثفات الذين افترض الله علينا قبول نقلهم والعمل به والقبول بأنه سنة الله تعالى وبيان نبيه عليه السلام يمكن في شيء منه التحويل أو التبديل لكان إخبار الله تعالى بأنه لا يوجد لهما تبديل ولا تحويل كذبا ولكانت كلماته كذبا وهذا ما لا يجيزه مسلم أصلا فصح يقينا لا شك فيه أن كل سنة سنها الله تعالى من الدين لرسوله صلى الله عليه وسلم وسنها رسوله عليه السلام لأمته فإنها لا يمكن في شيء منها تبديل ولا تحويل أبدا وهذا يوجب أن نقل الثقات في الدين يوجب العلم بأنه حق كما هو عند الله تعالى وقولنا ولله الحمد وأيضا فإنهم مجمعون معنا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم من الله تعالى في البلاغ في الشريعة وعلى تكفير من قال ليس معصوما في تبليغه الشريعة إلينا فنقول لهم اخبرونا عن الفضيلة بالعصمة التي جعلها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في تبليغه الشريعة التي بعث بها أهي له عليه السلام في إخباره الصحابة بذلك فقط أم هي باقية لما أتى به عليه السلام في

بلوغه إلينا وإلى يوم القيامة فإن قالوا بل هي له عليه السلام مع من شاهده خاصة لا في بلوغ الدين إلى من بعدهم قلنا لهم إذا جوزتم بطلان العصمة في تبليغ الدين بعد موته عليه السلام وجوزتم وجود الداخلة والفساد والبطلان والزيادة والنقصان والتحريف في الدين فمن أين وقع لكم الفرق بين ما جوزتم من ذلك بعده عليه السلام وبين ما منعتم من ذلك في حياته منه عليه السلام فإن قالوا لأنه كان يكون عليه السلام غير مبلغ ما أمر به ولا معصوم والله تعالى يقول {يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين} قيل لهم نعم وهذا التبليغ المعترض عليه والذي هو فيه عليه السلام معصوم بإجماعكم معنا من الكذب والوهم هو إلينا كما هو إلى الصحابة رضي الله عنهم ولا فرق والدين لازم لنا كما هو لازم لهم سواء بسواء فالعصمة واجبة في التبليغ للديانة باقية مضمونة ولا بد إلى يوم القيامة كما كانت قائمة عن الصحابة رضي الله عنهم سواء بسواء ومن أنكر هذا فقد قطع بأن الحجة علينا في الدين غير قائمة والحجة لا تقوم بما لا يدرى أحق هو أم باطل كذب ثم نقول لهم وكذلك قال تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} {ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين} {لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم} فإن ادعوا إجماعا قلنا لهم من الكرامية من يقول إنه عليه السلام غير معصوم في تبليغ الشريعة فإن قالوا ليس هؤلاء ممن يعد في الإجماع قلنا صدقتم ولا يعد في الإجماع من قال إن الدين غير محفوظ وإن كثيرا من الشرائع التي أنزل الله تعالى قد بطلت واختلطت بالباطل الموضوع والموهوم فيه اختلاطا لا يتميز معه الرشد من الغي ولا الحق من الباطل ولا دين الله تعالى من دين إبليس أبدا فإن قالوا بل الفضيلة بعصمة ما أتى النبي صلى الله عليه وسلم به من الدين باقية إلى يوم القيامة صاروا إلى الحق الذي هو

قولنا ولله تعالى الحمد فإن قالوا فإنه صفة كل مخبر وطبيعته أن خبره يجوز فيه الصدق والكذب والخطأ وقولكم بأن خبر الواحد العدل في الشريعة موجب للعلم إحالة لطبيعة الخبر وطبيعة المخبرين وخرق لصفات كل ذلك وللعادة فيه قلنا لهم لا ينكر من الله تعالى إحالة ما شاء من الطبائع إذا صح البرهان بأنه فعل الله تعالى والعجب من إنكاركم هذا مع قولكم به بعينه في إيجابكم عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب والوهم في تبليغه الشريعة وهذا هو الذي أنكرتم بعينه بل لم تقنعوا بالتناقض إذا أصبتم في ذلك وأخطأتم في منعكم من ذلك في خبر الواحد العدل حتى أتيتم بالباطل المحض إذ جوزتم على جميع الأمم موافقة الخطأ في إجماعها في رأيها وذلك طبيعة في الكل وصفة لهم ومنعتم من جواز الخطأ والوهم على ما ادعيتموه من إجماع الأمة من المسلمين خاصة في اجتهادها في القياس وحاشا لله أن تجمع الأمة على الباطل والقياس عين الباطل فخرقتم بذلك العادة وأحلتم الطبائع بلا برهان لا سيما إن كان المخالف لنا من المرجئة القاطعين بأنه لا يمكن أن يكون يهودي ولا نصراني يعرف بقلبه أن الله تعالى حق فإن هؤلاء أحالوا الطبائع بلا برهان ومنعوا من إحالتها إذا قام البرهان بإحالتها فإن قالوا فإنه يلزمكم أن تقولوا إن نقلة الأخبار الشرعية التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم معصومون في نقلها وإن كل واحد منهم معصوم في نقله من تعمد الكذب ووقوع الوهم منه قلنا لهم نعم هكذا نقول وبهذا نقطع ونبت وكل عدل روى خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين أو فعله عليه السلام فذلك الراوي معصوم من تعمد الكذب مقطوع بذلك عند الله تعالى ومن جواز الوهم فيه عليه إلا ببيان وارد ولا بد من الله تعالى ببيان ما وهم فيه كما فعل تعالى بنبيه عليه السلام إذ سلم من ركعتين ومن ثلاث واهما لقيام البراهين التي قدمنا من حفظ جميع الشريعة وبيانها مما ليس منها وقد علمنا ضرورة

أن كل من صدق في خبر ما فإنه معصوم في ذلك الخبر من الكذب والوهم بلا شك فأي نكرة في هذا فإن قالوا تعبدنا الله تعالى بحسن الظن به وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول أنا عند ظن عبدي بي قلنا ليس هذا من الحكم في الدين بالظن في شيء بل كله باب واحد لأنه تعالى حرم علينا أن نقول عليه ما لا نعلم ونحن لا نعلم أيغفر لنا أم يعذبنا فوجب علينا الوقوف في ذلك والرجاء والخوف وحرم علينا أن نقول عليه في الدين والتحريم والإباحة والإيجاب ما لا نعلم وبين لنا كل ما ألزمنا من ذلك فوجب القطع بكل ذلك كما وجب القطع بتخليد الكفار في النار أو تخليد المؤمنين في الجنة ولا فرق ولم يجز القول بالظن في شيء من ذلك كله فإن قالوا أنتم تقولون إن الله تعالى أمرنا بالحكم بما شهد به العدل مع يمين الطالب وبما شهد به العدلان فصاعدا وبما حلف عليه المدعى عليه إذا لم يقم المدعي بينة في إباحة الدماء المحرمة والفروج المحرمة والأبشار المحرمة والأموال المحرمة وكل ذلك بإقراركم ممكن أن يكون في باطن الأمر بخلاف ما شهد به الشاهد وما حلف عليه الحالف وهذا هو الحكم بالظن الذي أنكرتم علينا في قولنا في خبر الواحد ولا فرق قلنا لهم وبالله التوفيق بين الأمرين فروق واضحة كوضوح الشمس أحدهما أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الدين وإكماله وتبينه من الغي ومما ليس منه ولم يتكفل تعالى قط بحفظ دمائنا ولا بحفظ فروجنا ولا بحفظ أبشارنا ولا بحفظ أموالنا في الدنيا بل قدر تعالى بأن كثيرا من كل ذلك يؤخذ بغير حق في الدنيا وقد نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وبقوله عليه السلام للمتلاعنين

الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب أو كما قال عليه السلام في كل ذلك والفرق الثاني أن حكمنا بشهادة الشاهد وبيمين الحالف ليس حكما بالظن كما زعموا بل نحن نقطع ونبت بأن الله عز وجل افترض علينا الحكم بيمين الطالب مع شهادة العدل وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم بينة وبشهادة العدل والعدلين والعدول عندنا وإن كانوا في باطن أمرهم كذابين أو واهمين والحكم بكل ذلك حق عند الله تعالى وعندنا مقطوع على غيبه برهان ذلك أن حاكما لو تحاكم إليه اثنان ولا بينة للمدعي فلم يحكم للمدعى عليه باليمين أو شهد عنده عدلان فلم يحكم بشهادتهما فإن ذلك الحاكم فاسق عاص لله عز وجل مجرح الشهادة ظالم سواء كان المدعى عليه مبطلا في إنكاره أو محقا أو كان الشهود كذبة أو واهمين أو صادقين إذا لم يعلم باطن أمرهم ونحن مأمورون يقينا بأمر الله عز وجل لنا بأن نقتل هذا البريء المشهود عليه بالباطل وأن نبيح هذه البشرة المحرمة وهذا المال الحرام المشهود فيه بالباطل وحرم على المبطل أن يأخذ شيئا من ذلك وقضى ربنا بأننا إن لم نحكم بذلك فإننا في الدين فساق عصاة له تعالى ظلمه متوعدون بالنار على ذلك وما أمرنا تعالى قط بأن نحكم في الدين بخبر وضعه فاسق أو وهم فيه واهم وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تتبعوا خطوات لشيطان ومن يتبع خطوات لشيطان فإنه يأمر بلفحشآء ولمنكر ولولا فضل لله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن لله يزكي من يشآء ولله سميع عليم} فهذا فرق في غاية البيان وفرق ثالث وهو أن نقول إن الله تعالى افترض علينا أن نقول في جميع الشريعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرنا الله تعالى بكذا لأنه تعالى يقول {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} {مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب} ففرض علينا أن نقول نهانا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن كذا وأمرنا بكذا ولم يأمرنا تعالى قط أن نقول شهد هذا

بحق ولا حلف هذا الجانب على حق ولا أن هذا الذي قضينا به لهذا حق له يقينا ولا قال تعالى ما قال هذا الشاهد لكن الله تعالى قال لنا احكموا بشهادة العدول وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم عليه بينة وهذا فرق لا خفاء به فلم نحكم بالظن في شيء من كل ذلك أصلا ولله الحمد بل بعلم قاطع ويقين ثابت أن كل ما حكمنا به مما نقله العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحق من عند الله تعالى أوحى به ربنا تعالى مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محكي عنه أنه قال وكل ما حكمنا فيه بشهادة العدول عندنا فحق مقطوع به من عند الله تعالى لأنه أمرنا بالحكم به ولم يأمرنا بأن نقول فيما شهدوا به وما حلف به الحالف أنه من عند الله تعالى ولا أنه حق مقطوع به فإن قالوا إنما قال تعالى {يأيها لذين آمنوا جتنبوا كثيرا من لظن إن بعض لظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه وتقوا لله إن لله تواب رحيم} ولم يقل كل الظن إثم قلنا قد بين الله تعالى الإثم من البر وهو أن القول عليه تعالى بما لا نعلم حرام فهذا من الظن الذي هو إثم بلا شك قال علي فلجأت المعتزلة إلى الامتناع من الحكم بخبر الواحد للدلائل التي ذكرنا وظنوا أنهم تخلصوا بذلك ولم يتخلصوا بل كل ما لزم غيرهم مما ذكرنا هو ملازم لهم وذلك أننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن الأخبار التي رواها الآحاد أهي كلها حق إذا كانت من رواية الثقات خاصة أم كلها باطل أم فيها حق وباطل فإن قالوا فيها حق وباطل وهو قولهم قلنا لهم هل يجوز أن تبطل شريعة أوحى الله تعالى بها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ليبينها لعباده حتى يختلط بكذب وضعه فاسق ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو وهم فيها واهم فيختلط الحق المأمور به مع الباطل المختلق اختلاطا لا يتميز به الحق من الباطل أبدا لأحد من الناس وهل الشرائع الإسلامية كلها محفوظة لازمة لنا أو هي غير محفوظة ولا

كلها لازم لنا بل قد سقط منها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير وهل قامت الحجة علينا لله تعالى فيما افترض من الشرائع بأنها بينة لنا متميزة مما لم يأمرنا به أو لم تقم لله تعالى علينا حجة في الدين لأن كثيرا منه مختلط بالكذب غير متميز منها أبدا فإن أجازوا اختلاط شرائع الدين التي أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بما ليس في الدين وقالوا لم تقم لله تعالى علينا حجة فيما أمرنا به دخل عليهم في القول بفساد الشريعة وذهاب الإسلام وبطلان ضمان الله تعالى بحفظ الذكر كالذي دخل على غيرهم حرفا بحرف سواء بسواء ولزمهم أنهم تركوا كثيرا من الدين الصحيح كما لزم غيرهم سواء بسواء أنهم يعملون بما ليس من الدين وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بطل بيانه وأنه حجة الله تعالى بذلك لم تقم علينا سواء بسواء وفي هذا ما فيه فإن لجأوا إلى الاقتصار على خبر التواتر لم ينفكوا بذلك من أن كثيرا من الدين قد بطل لاختلاطه بالكذب الموضوع وبالموهوم فيه ومن جواز أن يكون كثير من شرائع الإسلام لم ينقل إلينا إذ قد بطل ضمان حفظ الله تعالى فيها وأيضا فإنه لا يعجز أحد أن يدعي في أي خبر شاء أنه منقول نقل التواتر بل أصحاب الإسناد أصح دعوى في ذلك لشهادة كثرة الرواة وتغير الأسانيد لهم بصحة قولهم في نقل التواتر وبالله تعالى التوفيق فإن لجأ لاجىء إلى أن يقول بأن كل خبر جاء من طريق الآحاد الثقات فإنه كذب موضوع ليس منه شيء قاله قط رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا وبالله تعالى التوفيق هذه مجاهرة ظاهرة ومدافعة لما نعلم بالضرورة خلافه وتكذيب لجميع الصحابة أولهم عن آخرهم ولجميع فضلاء التابعين ولكل إنسان من العلماء جيلا بعد جيل لأن كل ما ذكرنا رووا الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك من أحد واحتج بها بعضهم على بعض وعملوا بها وأفتوا بها في دين الله تعالى وهذا اطراح للإجماع المتيقن وباطل

لا تختلف النفوس فيه أصلا لأنا بالضرورة ندري أنه لا يمكن البتة في البنية أن يكون كل من ذكرنا لم يصدق قط في كلمة رواها بل كلهم وضعوا كل ما رووا وأيضا ففيه إبطال الشرائع التي لا يشك مسلم ولا غير مسلم في أنها ليست في القرآن مبينة كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك وأنه إنما أخذ بيانها من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا القطع بأن كل صاحب من الصحابة روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الواضع والمخترع للكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ولا يشك أحد على وجه الأرض في أن كل صاحب من الصحابة قد حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أهله وجيرانه وفي هذا إثبات وضع الشرائع على جميعهم أولهم عن آخرهم وما بلغت الروافض والخوارج قط هذا المبلغ مع أنها دعوى بلا برهان وما كان كذلك فهو باطل بيقين في ثلاثة أقوال كما ترى لا رابع لها إما أن يكون كل خبر نقله العدل عن العدل مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا كلها أولها عن آخرها موضوعة بأسرها وهذا باطل بيقين كما بينا وإيجاب أن كل صاحب وتابع وعالم لا نحاشي أحدا قد اتفقوا على وضع الشرائع والكذب فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا انسلاخ عن الإسلام أو يكون فيها حق وفيها باطل إلا أنه لا سبيل إلى تمييز الحق منها من الباطل لأحد أبدا وهذا تكذيب لله تعالى في إخباره بحفظ الذكر المنزل وبإكماله الدين لنا وبأنه لا يقبل منا إلا دين الإسلام لا شيئا سواه وفيه أيضا فساد الدين واختلاطه بما لم يأمر به تعالى قط به وأنه لا سبيل لأحد في العالم إلى أن يعرف ما أمره الله تعالى به في دينه مما لم يأمره به أبدا وأن حقيقة الإسلام وشرائعه قد بطلت بيقين وهذا انسلاخ عن

الإسلام أو أنها كلها حق مقطوع على غيبها عند الله تعالى موجبة كلها للعلم لإخبار الله تعالى بأنه حافظ لما أنزل من الذكر ولتحريمه تعالى الحكم في الدين بالظن والقول عليه بما لا علم لنا به ولإخباره تعالى بأنه قد بين الرشد من الغي وليس الرشد إلا ما أنزله الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وفي فعله وليس الغي إلا ما لم ينزله الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا قولنا والحمد لله رب العالمين قال علي فإذا قد صح هذا القول بيقين وبطل كل ما سواه فلنتكلم بعون الله تعالى على تقسيمه فنقول وبالله تعالى نتأيد إننا قد أمنا ولله الحمد أن تكون شريعة أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ندب إليها أو فعلها عليه السلام فتضيع ولم تبلغ إلى أحد من أمته إما بتواتر أو بنقل الثقة عن الثقة حتى تبلغ إليه صلى الله عليه وسلم وأمنا أيضا قطعا أن يكون الله تعالى يفرد بنقلها من لا تقوم الحجة بنقله من العدول وأمنا أيضا قطعا أن تكون شريعة يخطىء فيها راويها الثقة ولا يأتي بيان جلي واضح بصحة خطئه فيه وأمنا أيضا قطعا أو يطلق الله عز وجل من قد وجبت الحجة علينا بنقله على وضع حديث فيه شرع يسنده إلى من تجب الحجة بنقله حتى يبلغ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك نقطع ونثبت بأن كل خبر لم يأت قط إلا مرسلا أو لم يروه قط إلا مجهول أو مجرح ثابت الجرحة فإنه خبر باطل بلا شك موضوع لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لو جاز أن يكون حقا لكان ذلك شرعا صحيحا غير لازم لنا لعدم قيام الحجة علينا فيها قال علي وهذا الحكم الذي قدمنا إنما هو فيما نقله من اتفق على عدالته كالصحابة وثقات التابعين ثم كشعبة وسفيان وسفيان ومالك وغيرهم

من الأئمة في عصرهم وبعدهم إلينا وإلى يوم القيامة وفي كل من ثبتت جرحته كالحسن بن عمارة وجابر الجعفي وسائر المجرحين الثابتة جرحتهم وأما من اختلف فيه فعدله قوم وجرحه آخرون فإن ثبتت عندنا عدالته قطعنا على صحة خبره وإن ثبتت عندنا جرحته قطعنا على بطلان خبره وإن لم يثبت عندنا شيء من ذلك وقفنا في ذلك وقطعنا ولا بد حتما على أن غيرنا لا بد أن يثبت عنده أحد الأمرين فيه وليس خطؤنا نحن إن أخطأنا وجهلنا إن جهلنا حجة على وجوب ضياع دين الله تعالى بل الحق ثابت معروف عند طائفة وإن جهلته أخرى والباطل كذلك أيضا كما يجهل قوم ما نعلمه نحن أيضا والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ولا يصح الخطأ في خبر الثقة إلا بأحد ثلاثة أوجه إما تثبت الراوي واعترافه بأنه أخطأ فيه وإما شهادة عدل على أنه سمع الخبر مع راويه فوهم فيه فلان وإما بأن توجب المشاهدة بأنه أخطأ قال علي وكذلك نقطع ونبت في كل خبرين صحيحين متعارضين وكل آيتين متعارضتين وكل آية وخبر صحيح متعارضين وكل اثنين متعارضين لم يأت نص بين بالتناسخ منهما فإن الحكم الزائد على الحكم المتقدم من معهود الأصل هو الناسخ وأن الموافق لمعهود الأصل المتقدم وهو المنسوخ قطعا يقينا للبراهين التي قدمنا من أن الدين محفوظ فلو جاز أن يخفى فيه ناسخ من منسوخ أو أن يوجد عموم لا يأتي نص صحيح بتخصيصه ويكون المراد به الخصوص لكان الدين غير محفوظ ولكانت الحجة غير قائمة على أحد في الشريعة ولكنا متعبدين بالظن الكاذب المحرم بل بالعمل بما لم يأمر الله تعالى قط به وهذا باطل مقطوع على بطلانه قال علي فإن وجد لنا يوما غير هذا فنحن تائبون إلى الله تعالى منه وهي وهلة نستغفر الله عز وجل منها وإنا لنرجو ألا يوجد لنا ذلك

صفة من يلزم نقله الاخبار

بمن الله تعالى ولطفه صفة من يلزم قبوله نقل الأخبار قال أبو محمد واستدركنا برهانا في وجوب قبول الخبر الواحد قاطعا وهو خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام إذ جاءه {وجآء رجل من أقصى لمدينة يسعى قال يموسى إن لملأ يأتمرون بك ليقتلوك فخرج إني لك من لناصحين} {فجآءته إحداهما تمشي على ستحيآء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جآءه وقص عليه لقصص قال لا تخف نجوت من لقوم لظالمين} إلى قوله تعالى {قال إني أريد أن أنكحك إحدى بنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك ومآ أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين} إلى آخر القصة فصدق موسى عليه السلام قول المنذر له وخرج عن وطنه بقوله وصوب الله تعالى ذلك من فعله وصدق قول المرأة التي أباها يدعوه فمضى معها وصدق أباها في قوله إنها ابنته واستحل نكاحها وجماعها بقوله وحده وصوب الله ذلك كله فصح يقينا ما قلنا بأن خبر الواحد ما يضطر إلى تصديقه يقينا والحمد لله رب العالمين قال علي وقد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا وجوب قبول نذارة العدل النافر للتفقه في الدين فإذا كان الراوي عدلا حافظا لما تفقه فيه أو ضابطا له بكتابه وجب قبول نذارته فإن كان كثير الغلط والغفلة غير ضابط بكتابه فلم يتفقه فيما نفر للتفقه فيه وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته ومن جهلنا حاله فلم ندر أفاسق هو أم عدل وأغافل هو أم حافظ أو ضابط ففرض علينا التوقف عن قبول خبره حتى يصح عندنا فقهه وعدالته وضبطه أو حفظه فيلزمنا حينئذ قبول نذارته أو تثبت عندنا جرحته أو قلة حفظه وضبطه فيلزمنا اطراح خبره حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا

عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو عامر الأشعري ثنا أبو أسامة هو حماد بن أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ % فذلك مثل % من فقه في دين الله بما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد بن العلاء ثنا حماد بن أسامة عن يزيد فذكره بإسناده ولفظه إلا أنه قال مكان طيبة نقية ومكان غيث الغيث الكثير ومكان ورعوا وزرعوا ومكان فقه تفقه ومكان قيعان قيعة واتفقا في كل ما عدا ذلك قال علي وليس اختلاف الروايات عيبا في الحديث إذا كان المعنى واحدا لأن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه إذا كان يحدث بحديث كرره ثلاث مرات فنقل كل إنسان بحسب ما سمع فليس هذا الاختلاف في الروايات مما يوهن الحديث إذا كان المعنى واحدا قال علي فقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مراتب

أهل العلم دون أن يشذ منها شيء فالأرض الطيبة النقية هي مثل الفقيه الضابط لما روى الفهم للمعاني التي يقتضيها لفظ النص المتنبه على رد ما اختلف فيه الناس إلى نص حكم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الأجادب الممسكة للماء التي يستقي منها الناس فهي مثل الطائفة التي حفظت ما سمعت أو ضبطته بالكتاب وأمسكته حتى أدته إلى غيرها غير مغير ولم يكن لها تنبه على معاني ألفاظ ما روت ولا معرفة بكيفية رد ما اختلف الناس فيه إلى نص القرآن والسنن التي روت لكن نفع الله تعالى بهم في التبليغ فبلغوه إلى من هو أفهم بذلك فقد أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا إذ يقول فرب مبلغ أوعى من سامع وكما روي عنه عليه السلام أنه قال فرب حامل فقه ليس بفقيه قال أبو محمد فمن لم يحفظ ما سمع ولا ضبطه فليس مثل الأرض الطيبة ولا مثل الأجادب الممسكة للماء بل هو محروم معذور أو مسخوط بمنزلة القيعان التي لا تنبت الكلأ ولا تمسك الماء وفي هذا كفاية بيان وبالله تعالى التوفيق قال علي فمن استطاع منكم فليكن من أمثال الأرض الطيبة فإن حرم ذلك فمن الأجادب وليس بعد ذلك درجة في الفضل والبسوق ونعوذ بالله من أن نكون من القيعان لكن من استقى من الأجادب ورعى من الطيبة فقد نجا وبالله التوفيق قال علي فإذا روى العدل عن مثله كذلك خبرا حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم فقد وجب الأخذ به ولزمت طاعته والقطع به سواء أرسله غيره أو أوقفه سواه أو رواه كذاب من الناس وسواء روي من طريق أخرى أو لم يرو إلا من تلك الطريق وسواء كان ناقله عبدا أو امرأة أو لم يكن وإنما الشرط العدالة والتفقه فقط وإن العجب ليكثر من قوم من المدعين أنهم

قائلون بخبر الواحد ثم يعللون ما خالف مذاهبهم من الأحاديث الصحاح بأن يقولوا هذا مما لم يروه إلا فلان ولم يعرف له مخرج من غير هذا الطريق قال أبو محمد وهذا جهل شديد وسقوط مفرط لأنهم قد اتفقوا معنا على وجوب قبول خبر الواحد والأخذ به ثم هم دأبا يتعللون في ترك السنة بأنه خبر واحد والعجب أنهم يأخذون بذلك إذا اشتهوا فهذا محمد بن مسلم الزهري له نحو تسعين حديثا انفرد بها عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يروها أحد من الناس سواه ليس أحد من الأئمة إلا وله أخبار انفرد بها ما تعلل أحد من هؤلاء المحرمون في رد شيء منها بذلك فليت شعري ما الفرق بين من قبلوا خبره ولم يروه أحد معه وبين من ردوا خبره لأنه لم يروه أحد معه وهل في الاستخفاف بالسنن أكثر من هذا وأيضا فإن الخبر وإن روي من طرق ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك فهو كله خبر واحد من أثبت شيئا من ذلك أثبت خبر الواحد ومن نفى خبر الواحد نفى كل ذلك لأن العلة عندهم في كل ذلك واحدة وهي أن كل ما لا يضطر إلى التصديق عندهم ولم يوجب القطع على صحة مغيبة لديهم فهو خبر واحد وهذه عندهم صفة كل ما لم ينقل بالتواتر فقد تركوا مذهبهم وهم لا يشعرون أو يشعرون ويتعمدون وهذه أسوأ وأقبح ونعوذ بالله من الخذلان قال علي وأما المدلس فينقسم إلى قسمين أحدهما حافظ عدل ربما أرسل حديثه وربما أسنده وربما حدث به على سبيل المذاكرة أو الفتيا أو المناظرة فلم يذكر له سندا وربما اقتصر على ذكر بعض رواته دون بعض فهذا لا يضر ذلك سائر رواياته شيئا لأن هذا ليس جرحة ولا غفلة لكنا نترك من حديثه ما علمنا يقينا أنه أرسله وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئا

من ذلك وسواء قال أخبرنا فلان أو قال عن فلان أو قال فلان عن فلان كل ذلك واجب قبوله ما لم يتيقن أنه أورد حديثا بعينه إيرادا غير مسند فإن أيقنا ذلك تركنا ذلك الحديث وحده فقط وأخذنا سائر رواياته وقد روينا عن عبد الرزاق بن همام قال كان معمر يرسل لنا أحاديث فلما قدم عليه عبد الله بن المبارك أسندها له وهذا النوع منهم كان جلة أصحاب الحديث وأئمة المسلمين كالحسن البصري وأبي إسحاق السبيعي وقتادة بن دعامة وعمرو بن دينار وسليمان الأعمش وأبي الزبير وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وقد أدخل علي بن عمر الدارقطني فيهم مالك بن أنس ولم يكن كذلك ولا يوجد له هذا إلا في قليل من حديثه أرسله مرة وأسنده أخرى وقسم آخر قد صح عنهم إسقاط من لا خير فيه من أسانيدهم عمدا وضم القوي إلى القوي تلبيسا على من يحدث وغرورا لم يأخذ عنه ونصرا لما يريد تأييده من الأقوال مما لو سمى من سكت عن ذكره لكان ذلك علة ومرضا في الحديث فهذا رجل مجرح وهذا فسق ظاهر واجب اطراح جميع حديثه صح أنه دلس فيه أو لم يصح أنه دلس فيه وسواء قال سمعت أو أخبرنا أو لم يقل كل ذلك مردود غير مقبول لأنه ساقط العدالة غاش لأهل الإسلام باستجازته ما ذكرناه ومن هذا النوع كان الحسين بن عمارة وشريك بن عبد الله القاضي وغيرهما قال علي ومن صح أنه قبل التلقين ولو مرة سقط حديثه كله لأنه لم يتفقه في دين الله عز وجل ولا حفظ ما سمع وقد قال عليه السلام نضر الله امرأ سمع منا حديثا حفظه حتى بلغه غيره فإنما أمر عليه السلام بقبول تبليغ الحافظ والتلقين هو أن يقول له القائل حدثك فلان بكذا ويسمي له من شاء من غير أن يسمعه منه فيقول نعم فهذا لا يخلو من أحد وجهين ولا بد من أحدهما ضرورة إما أن يكون فاسقا يحدث بما لم يسمع

أو يكون من الغفلة بحيث يكون الذاهل العقل المدخول الذهن ومثل هذا لا يلتفت له لأنه ليس من ذوي الألباب ومن هذا النوع كان سماك بن حرب أخبر بأنه شاهد ذلك منه شعبة الإمام الرئيس ابن الحجاج قال علي ومما غلط فيه بعض أصحاب الحديث أنه قال فلان يحتمل في الرقائق ولا يحتمل في الأحكام قال أبو محمد وهذا باطل لأنه تقسيم فاسد لا برهان عليه بل البرهان يبطله وذلك أنه لا يخلو كل أحد في الأرض من أن يكون فاسقا أو غير فاسق فإن كان غير فاسق كان عدلا ولا سبيل إلى مرتبة ثالثة فالعدل ينقسم إلى قسمين فقيه وغير فقيه فالفقيه العدل مقبول في كل شيء والفاسق لا يحتمل في شيء والعدل غير الحافظ لا تقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء لأن شرط القبول الذي نص الله تعالى عليه ليس موجودا فيه ومن كان عدلا في بعض نقله فهو عدل في سائره ومن المحال أن يجوز قبول بعض خبره ولا يجوز قبول سائره إلا بنص من الله تعالى أو إجماع في التفريق بين ذلك وإلا فهو تحكم بلا برهان وقول بلا علم وذلك لا يحل قال علي وقد غلط أيضا قوم آخرون منهم فقالوا فلان أعدل من فلان وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة قال علي وهذا خطأ شديد وكان يكفي من الرد عليهم أن نقول لهم إنهم أبرك الناس لذلك وفي أكثر أمرهم يأخذون بما روى الأول عدالة ويتركون ما روى الأعدل ولعلنا سنورد من ذلك طرفا صالحا إن شاء الله تعالى ولكن لا بد لنا بمشيئة الله تعالى من إبطال هذا القول بالبرهان الظاهر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأول ذلك أن الله عز وجل لم يفرق بين خبر عدل وخبر عدل آخر أعدل

من ذلك ومن حكم في الدين بغير أمر من الله عز وجل أو من رسوله عليه السلام أو إجماع متيقن مقطوع به منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قفا ما ليس له به علم وفاعل ذلك عاص لله عز وجل لأنه قد نهاه تعالى عن ذلك وإنما أمر تعالى بقبول نذارة النافر الفقيه العدل فقط وبقبول شهادة العدول فقط فمن زاد حكما فقد أتى بما لا يجوز له وترك ما لم يأمره الله تعالى بتركه وغلب ما لم يأمره الله عز وجل بتغليبه قال علي وأيضا فقد يعلم الأقل عدالة ما لا يعلمه من هو أتم منه عدالة وقد جهل أبو بكر وعمر ميراث الجدة وعلمه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وبينهما وبين أبي بكر وعمر بون بعيد إلا أنهم كلهم عدول وقد رجع أبو بكر إلى خبر المغيرة في ذلك ورجع عمر إلى خبر مخبر أخبره عن أملاص المرأة ولم يكن ذلك عند عمر وذلك المخبر بينه وبين عمر في العدالة درج وأيضا فإن كل ما يتخوف من العدل فإنه متخوف من أعدل من في الأرض بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا فلو شهد أبو بكر وحده ما قبل قبولا لا يوجب الحكم بشهادته ولو شهد عدلان من عرض الناس قبلا فلا معنى للأعدل وأيضا فإن العدالة إنما هي التزام العدل والعدل هو القيام بالفرائض واجتناب المحارم والضبط لما روى وأخبر به فقط ومعنى قولنا فلان أعدل من فلان أي أنه أكثر نوافل في الخبر فقط وهذه صفة لا مدخل لها في العدالة إذ لو انفردت من صفة العدالة التي ذكرنا لم يكن فضلا ولا خيرا فاسم العدالة مستحق دونهما كما هو مستحق معها سواء بسواء

ولا فرق فصح أنه لا يجوز ترجيح رواية على أخرى ولا ترجيح شهادة على أخرى بأن أحد الراوين أو أحد الشاهدين أعدل من الآخر وهذا الذي تحكموا به إنما هو من باب طيب النفس وطيب النفس باطل لا معنى له وشهوة لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما هو حق فسواء طابت النفس عليه أو كرهته فهو حرام عليها وهذا من باب اتباع الهوى وقد حرم الله تعالى ذلك قال عز وجل {وأما من خاف مقام ربه ونهى لنفس عن لهوى} وقال تعالى {فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} فمن حكم في دين الله عز وجل بما استحسن وطابت نفسه عليه دون برهان من نص ثابت أو إجماع فلا أحد أضل منه وبالله تعالى نعوذ من الخذلان إلا من جهل ولم تقم عليه حجة فالخطأ لا ينكر وهو معذور مأجور ولكن من بلغه البيان وقامت عليه الحجة فتمادى على هواه فهو فاسق عاص لله عز وجل قال علي ووجدنا الله تعالى لم يرض في القبول في الشهادة بزنى الأمة إلا أربعة عدول لا أقل وإنما في ذلك خمسون جلدة وتغريب نصف عام ووجدنا كما قد وافقتمونا على القبول في إباحة دم المسلم ودماء الجماعة باثنين وكذلك في القذف والقطع فأين طيب النفس ههنا فبهذا وغيره يجب قبول ما قام الدليل عليه وسواء طابت عليه النفس أو لم تطب قال علي والمرأة والرجل والعبد في كل ما ذكرنا سواء ولا فرق ولم يخص تعالى عدلا من عدل ولا رجلا من امرأة ولا حرا من عبد قال علي وبما ذكرنا ههنا يبطل قول من قال هذا الحديث لم يرو من غير هذا الوجه ثم قال إنما طلبنا كثرة الرواة على استطابة النفس فإن اعترضوا بقول إبراهيم عليه السلام إذ يقول {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من لطير فصرهن إليك ثم جعل على كل جبل منهن جزءا ثم دعهن يأتينك سعيا وعلم أن لله عزيز حكيم} الآية

قيل لهم أفترون يقين الخليل عليه السلام كان مدخولا قبل أن يرى إحياء الطير فإن قلتم هذا كفرتم ولو لم يره الله تعالى ذلك كما لم ير موسى ما سأل ما تخالج إبراهيم شك في صحة إحياء الله تعالى الموتى وكذلك نحن إن وجدنا الحديث مرويا من طرق كان ذلك أبلغ أن الحجة عند المخالف فقط وإن عدمناه فقد لزمنا القبول لنقل الواحد بالحجاج التي قدمنا وبينا على أي وجه طلب إبراهيم ما طلب في كتابنا في الملل والنحل قال علي ومن عدله عدل وجرحه عدل فهو ساقط الخبر والتجريح يغلب التعديل لأنه علم زائد عند المجرح لم يكن عند المعدل وليس هذا تكذيبا للذي عدل بل هو تصديق لهما معا فإن قال قائل فهلا قلتم بل عند المعدل علم لم يكن عند المجرح قيل له كذلك نقول ونصدق كل واحد منهما فإذا صح خبرهما معا عليه فلا خلاف في أن كل من جمع عدالة ومعصية فأطاع في قصة وصلى وصام وزكى وفسق في أخرى وزنى أو شرب الخمر أو أتى كبيرة أو جاهر بصغيرة فإنه فاسق عند جميع الأمة بلا خلاف ولا يقع عليه اسم عدل ولو لم يفسق إلا من تمحص الشر ولا يعمل شيئا من الخير لما فسق مسلم أبدا لأن توحيده خير وفضل وإحسان وبر وفي صحة القول بأن فينا عدولا وفساقا بنص القرآن ورضا وغير رضا بيان ما قلنا ولو أخذنا بالتعديل وأسقطنا التجريح لكنا قد كذبنا المجرح وذلك غير جائز وهكذا القول في الشهادة ولا فرق قال علي ولا يقبل في التجريح قول أحد إلا حتى يبين وجه تحريمه فإن قوما جرحوا آخرين بشرب الخمر وإنما كانوا يشربون النبيذ المختلف فيه بتأويل منهم أخطؤوا فيه ولم يعلموه حراما ولو علموه مكروها فضلا عن حرام ما أقدموا عليه ورعا وفضلا منهم الأعمش وإبراهيم وغيرهما من الأئمة رضي الله عنهم وهذا ليس جرحة لأنهم مجتهدون طلبوا الحق فأخطؤوه

ولا يكون الجرح في نقلة الأخبار إلا بأحد أربعة أوجه لا خامس لها الإقدام على كبيرة قد صح عند المقدم عليها بالنص الثابت أنها كبيرة الثاني الإقدام على ما يعتقد المرء حراما وإن كان مخطئا فيه قبل أن تقوم الحجة عليه بأنه مخطىء والثالث المجاهرة بالصغائر التي صح عند المجاهر بها بالنص أنها حرام وهذه الأوجه الثلاثة هي جرحه في نقلة الأخبار وفي الشهود وفي جميع الشهادات في الأحكام وهذه صفات الفاسق بالنص وبإجماع من المخالفين لنا وإنما أسقطنا المستتر بالصغائر للحديث الصحيح في الذي 3 قبل امرأة فأخبره عليه السلام أن صلاته كفرت ذلك عنه ولقوله عز وجل {إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} فمن غفر الله له فحرام علينا أن نثبت عليه ما قد غفر الله تعالى له وكذلك التائب من الكبائر ومن الكفر أيضا فهو عدل وليس هذا من باب ثبات الحد عليه في شيء لأن الملامة ساقطة عن التائب والحد عنه غير ساقط على حديث ماعز فإن النبي صلى الله عليه وسلم رجمه بعد توبته وأمر بالاستغفار له ونهى عن سبه وإنما قلنا إن المجاهرة بالصغائر جرحة للإجماع المتيقن على ذلك والنص الوارد من الأمر بإنكار المنكر والصغائر من المنكر لأن الله تعالى أنكرها وحرمها ونهى عنها فمن أعلن بها فهو من أهل المنكر فقد استحق التغيير عليه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ومن كان من أهل المنكر في الدين فهو فاسق لأن المنكر فسق والفاسق لا يقبل خبره وصح بما قدمنا أن المستتر بالصغائر ليس صاحبه فاسقا ولا يجب التغيير عليه ولا الإنكار عليه لأنه لم ير منه ما يلزمنا فيه تغيير ولا إنكار ولا تعزير ولو أن امرأ

شهد على آخر بأنه يتستر بالصغائر لكانت شهادة الشاهد عليه بذلك مردودة وكان ملوما ولم يجز أن يقدح ذلك في شهادة المستتر بها لوجهين أحدهما أنه لا ينجو أحد من ذنب صغير والثاني أنه معفو عنه ولو شهد على أحد أنه يستتر بكبيرة لقبلت شهادته عليه ولردت شهادة المستتر بها لأنها ليست مغفورة إلا بالتوبة أو برجوح الميزان عند الموازنة يوم القيامة قال علي والوجه الرابع ينفرد به نقلة الأخبار دون الشهود في الأحكام وهو ألا يكون المحدث إلا فقيها فيما روى أي حافظا لأن النص الوارد في قبول نذارة النافر للتفقه إنما هو بشرط أن يتفقه في العلم ومن لم يحفظ ما روى فلم يتفقه وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته وليس ذلك في الشهادة لأن الشرط في الشهادة إنما هي العدالة فقط بنص القرآن فلا يضر الشاهد أن يكون معروفا بالغفلة والغلط ولا يسقط ذلك شهادته إلا أن تقوم بينة بأنه غلط في شهادة ما فتسقط تلك التي غلط فيها فقط ولا يضر ذلك شهادته في غيرها لا قبل الشهادة ولا بعدها بل هو مقبول أبدا ولا يحل لأحد أن يزيد شرطا لم يأت به الله تعالى فقد قال عليه السلام كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط فمن شرط في العدل في الشهادة خاصة أن يكون غير معروف بالغلط فقد زاد شرطا ليس في كتاب الله عز وجل فهو مبطل فيه والتدليس الذي ذكرنا أنه يسقط العدالة هو إحدى الكبائر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا ولا غش في الإسلام أكبر من إسقاط الضعفاء من سند حديث ليوقع الناس في العمل به وهو غير صحيح ولقوله عليه السلام الدين النصيحة وواجب ذلك لله تعالى ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ومن دلس التدليس الذي ذممنا فلم ينصح لله تعالى ولا لرسوله عليه السلام في تبليغه عنهما ولا نصح للمسلمين في التلبيس عليهم حتى يوقعهم فيما لا يجوز العمل به

قال علي وأما من قدم على ما يعتقده حلالا مما لم يقم عليه في تحريمه حجة فهو معذور مأجور وإن كان مخطئا وأهل الأهواء معتزليهم ومرجئيهم وزيدييهم وأباضييهم بهذه الصفة إلا من أخرجه هواه عن الإسلام إلى كفر متفق على أنه كفر وقد بينا ذلك في كتاب الفصل أو من قامت عليه حجة من نص أو إجماع فتمادى ولم يرجع فهو فاسق وكذلك القول فيمن خالف حديث النبي صلى الله عليه وسلم لتقليد أو قياس ولا فرق أو من سب أحد الصحابة رضي الله عنهم فإن ذلك عصبية والعصبية فسق وصدق أبو يوسف القاضي إذ سئل عن شهادة من يسب السلف الصالح فقال لو ثبت عندي على رجل أنه يسب جيرانه ما قبلت شهادته فكيف من يسب أفاضل الأمة إلا أن يكون من الجهل بحيث لم تقم عليه حجة النص بفضلهم والنهي عن سبهم فهذا لا يقدح سبهم في دينه أصلا ولا ما هو أعظم من سبهم لكن حكمه أن يعلم ويعرف فإن تمادى فهو فاسق وإن عاند في ذلك الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك ولو أن امرأ بدل القرآن مخطئا جاهلا أو صلى لغير القبلة كذلك ما قدح ذلك في دينه عند أحد من أهل الإسلام حتى تقوم عليه الحجة بذلك فإن تمادى فهو فاسق وإن عاند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك قال علي وقد علل قوم أحاديث بأن رواها ناقلها عن رجل مرة وعن رجل مرة أخرى قال علي وهذا قوة للحديث وزيادة في دلائل صحته ودليل على جهل من جرح الحديث بذلك وذلك نحو أن يروي الأعمش الحديث عن سهل عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ويرويه غير الأعمش عن سهيل عن أبيه عن أبي سعيد قال علي وهذا لا مدخل للاعتراض به لأن في الممكن أن يكون أبو صالح سمع الحديث من أبي هريرة ومن أبي سعيد فيرويه مرة عن هذا ومرة عن

هذا ومثل هذا لا يتعلل به في الحديث إلا جاهل أو معاند ونحن نفعل هذا كثيرا لأننا نرى الحديث من طرق شتى فنرويه من بعض المواضع من أحد طرقه ونرويه مرة أخرى من طريق ثانية وهذا قوة للحديث لا ضعف وكل ما تعللوا به من مثل هذا وشبهه فهي دعاوى لا برهان عليها وكل دعوى بلا برهان فهي ساقطة وكذلك ما رواه العدل عن أحد العدلين شك في أحدهما أيهما حدثه إلا أنه موقن أن أحدهما حدثه بلا شك فهذا صحيح يجب الأخذ به مثل أن يقول الثقة حدثنا أبو سلمة أو سعيد بن المسيب عن أبي هريرة فهذا ليس علة في الحديث البتة لأنه أيهما كان فهو عدل رضا معلوم الثقة مشهور العدال وأيضا فإن قالوا إن الغفلة والخطأ من الاثنين أبعد منه من الواحد قيل لهم وهو من الأربعة أبعد منه من الثلاثة فلا يقبلوا إلا ما رواه أربعة وهكذا فيما زاد حتى يلحقوا بالقائلين بالتواتر

فصل في (الكلام على الخبر) المرسل

فصل في المرسل قال أبو محمد المرسل من الحديث هو الذي سقط بين أحد رواته وبين النبي صلى الله عليه وسلم ناقل واحد فصاعدا وهو المنقطع أيضا وهو غير مقبول ولا تقوم به حجة لأنه عن مجهول وقد قدمنا أن من جهلنا حاله ففرض علينا التوقف عن قبول خبره وعن قبول شهادته حتى نعلم حاله وسواء قال الراوي العدل حدثنا الثقة أو لم يقل لا يجب أن يلتفت إلى ذلك إذ قد يكون عنده ثقة من لا يعلم من جرحته ما يعلم غيره وقد قدمنا أن الجرح أولى من التعديل وقد وثق سفيان جابرا الجعفي وجابر من الكذب والفسق والشر والخروج عن الإسلام بحيث قد عرف ولكن خفي أمره على سفيان فقال بما ظهر منه إليه ومرسل سعيد بن المسيب ومرسل الحسن البصري وغيرهما سواء لا يؤخذ منه بشيء وقد ادعى بعض من لا يحصل ما يقول أن الحسن البصري كان إذا حدثه بالحديث أربعة من الصحابة أرسله قال فهو أقوى من المسند قال أبو محمد وقائل هذا القول اترك خلق الله لمرسل الحسن وحسبك بالمرء سقوطا أن يضعف قولا يعتقده ويعمل به ويقوي قولا يتركه ويرفضه وقد توجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل إلى قوم ممن يجاور المدينة فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعرس بامرأة منهم

فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أخبره بذلك فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه رسولا وأمر بقتله إن وجده حيا فوجده قد مات فهذا كما ترى قد كذب على النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي وقد كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم منافقون ومرتدون فلا يقبل حديث قال راويه فيه عن رجل من الصحابة أو حدثني من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حتى يسميه ويكون معلوما بالصحبة الفاضلة ممن شهد الله تعالى لهم بالفضل والحسنى قال الله عز وجل {وممن حولكم من لأعراب منافقون ومن أهل لمدينة مردوا على لنفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وقد ارتد قوم ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام كعيينة بن حصن والأشعث بن قيس والرجال وعبد الله بن أبي سرح قال علي ولقاء التابع لرجل من أصاغر الصحابة شرف وفخر عظيم فلأي معنى يسكت عن تسميته لو كان ممن حمدت صحبته ولا يخلو سكوته عنه من أحد وجهين إما أنه لا يعرف من هو ولا عرف صحة دعواه الصحبة أو لأنه كان من بعض ما ذكرنا حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى حدثنا خالد بن عبد الله عن عبد الملك عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما وكان خالد ولد عطاء قال أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر فقالت بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة العلم في الثوب وميثرة الأرجوان وصوم رجب كله فأنكر ابن عمر أن يكون حرم شيئا من ذلك

فهذه أسماء وهي صحابية من قدماء الصحابة وذوات الفضل منهم قد حدثها بالكذب من شغل بالها حديثه عن ابن عمر حتى استبرأت ذلك فصح كذب ذلك المخبر وقد ذكر عن ابن سيرين في أمر طلاق ابن عمر امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك فواجب على كل أحد ألا يقبل إلا من عرف اسمه وعرفت عدالته وحفظه قال علي والمخالفون لنا في قبول المرسل هم أصحاب أبي حنيفة وأصحاب مالك وهم أترك خلق الله للمرسل إذا خالف مذهب صاحبهم ورأيه وقد ترك مالك حديث أبي العالية في الوضوء من الضحك في الصلاة ولم يعيبوه إلا بالإرسال وأبو العالية قد أدرك الصحابة رضي الله عنهم وقد رواه أيضا الحسن وإبراهيم النخعي والزهري مرسلا وتركوا حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرضه مات فيه بالناس جالسا والناس قيام وترك مالك وأصحابه الحديث المروي من طريق الليث عن عقيل بن خالد عن الزهري عن سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر مدين من بر على كل إنسان مكان صاع من شعير وذكر سعيد بن المسيب أن ذلك كان من عمل الناس أيام أبي بكر وعمر وذكر غيره أنه حكم عثمان أيضا وابن عباس وذكر ابن عمر أنه عمل الناس فهؤلاء فقهاء المدينة رووا هذا الحديث مرسلا وأنه صحبه العمل عندهم فترك ذلك أصحاب مالك فأين اتباعهم المرسل وتصحيحهم إياه وأين اتباعهم رواية أهل المدينة وعمل الأئمة بها وترك الحنفيون حديث سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم

في ألا يباع الحيوان باللحم وهو أيضا فعل أبي بكر الصديق رضوان الله عليه ومثل هذا كثير جدا ولو تتبعنا ما تركت كلتا الطائفتين لبلغت أزيد من ألفي حديث بلا شك وسنجمع من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى في كتاب مفرد لذلك إن أعان الله تعالى بقوة من عنده وأمد بفسحة من العمر فإنما أوقعهم في الأخذ بالمرسل أنهم تعلقوا بأحاديث مرسلات في بعض مسائلهم فقالوا فيها بالأخذ بالمرسل ثم تركوه في غير تلك المسائل وإنما غرض القوم نصر المسألة الحاضرة بما أمكن من باطل أو حق ولا يبالون بأن يهدموا بذلك ألف مسألة لهم ثم لا يبالون بعد ذلك بإبطال ما صححوه في هذه المسألة إذا أخذوا في الكلام في أخرى وسنبين من ذلك كثيرا إن شاء الله تعالى ونحن ذاكرون من عيب المرسل ما فيه كفاية لمن نصح نفسه إن شاء الله تعالى أخبرني أحمد بن عمر العذري حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي ثنا زاهر بن أحمد أبو علي السرخسي الفقيه ثنا زنجويه بن محمد النيسابوري ثنا محمد بن إسماعيل البخاري هو مؤلف الصحيح ثنا سليمان

فصل في أقسام السنن (وأنها ثلاثة)

بن حرب ثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد عن زيد بن أبي أنيسة أن رجلا أجنب فغسل فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو يمموه قتلوه قتلهم الله قال النعمان فحدثت به الزهري فرأيته بعد يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فقلت من حدثك قال أنت حدثتني عمن تحدثه قلت عن رجل من أهل الكوفة قال أفسدته في حديث أهل الكوفة دغل كثير وبالاستناد المتقدم إلى البخاري قال قال معاذ عن أشعث عن ابن سيرين عن عبد الله بن شقيق عن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي في شعرنا قال البخاري ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة قلت لمحمد بن سيرين ممن سمعت هذا الحديث قال سمعته من زمان لا أدري ممن سمعته ولا أدري أثبت أم لا فسلوا عنه وفيما كتب إلي به يوسف بن عبد الله النمري قال قال يحيى بن سعيد القطان مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلي من الثوري عن إبراهيم لو كان شيخ الثوري فيه رمق لبرح به وصاح وقال مرة أخرى كلاهما عندي شبه الريح قال أبو محمد فإذا كان الزهري ومحمد بن سيرين وسفيان ومالك وهم من هم في التحفظ والحفظ والثقة في مراسليهم ما ترى فما أحد ينصح نفسه يثق بمرسل أصلا ولو جمعنا بلايا المراسيل لاجتمع من ذلك جزء ضخم وفي هذا دليل على ما سواه وبالله تعالى التوفيق فصل في أقسام السنن قال أبو محمد السنن تنقسم ثلاثة أقسام قول من النبي صلى الله عليه وسلم أو فعل منه عليه السلام أو شيء رآه وعلمه فأقر عليه ولم ينكره فحكم أوامره عليه السلام الفرض والوجوب على ما نبينه إن شاء الله عز وجل في باب الأوامر من هذا الكتاب ما لم يقم دليل على خروجه من باب الوجوب إلى باب الندب أو سائر وجوه الأوامر وحكم فعله عليه السلام الائتساء به فيه وليس واجبا إلا أن يكون تنفيذا لحكم أو بيانا لأمر على ما يقع في باب الكلام في أفعاله عليه السلام من هذا الكتاب وأما إقراره عليه السلام على ما علم وترك إنكاره إياه فإنما هو مبيح لذلك الشيء فقط وغير موجب له ولا نادب إليه لأن الله عز وجل افترض عليه التبليغ

وأخبره أنه يعصمه من الناس وأوجب عليه أن يبين للناس ما نزل إليهم فمن ادعى أنه عليه السلام علم منكرا فلم ينكره فقد كفر لأنه جحد أن يكون عليه السلام بلغ كما أمر ووصفه بغير ما وصفه به ربه تعالى وكذبه في قوله عليه السلام اللهم هل بلغت فقال الناس نعم فقال اللهم اشهد قال ذلك في حجة الوداع فإن اعترض معترض بحديث جابر أنه سمع عمر رضوان الله عليهما يحلف بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم على أن ابن صياد هو الدجال فلم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حجة علينا في هذا لأن ابن صياد في أول أمره كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكا في أمره أهو الدجال أم لا بذلك جاءت الأحاديث الصحاح ويبين ذلك قول عمر فيه دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقال عليه السلام إن يكن هو فلن تسلط عليه أو نحو ذلك من الكلام فحلف عمر على تقديره ومن حلف على ما لا يعلم ولا يوقن أنه باطل ولا حق فليس هو عندنا حانثا ولا آثما إذا كان تقديره أنه كما حلف عليه فهذا الحديث حجة لنا وليس فيه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق يمينه فإنا في الحديث أن أمر ابن صياد كان حينئذ ممكنا والحالف على الممكن كما ذكرنا لم يأت منكرا فيلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تغييره قال علي وأما من قال إن أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوجوب فقوله ساقط لأن الله تعالى لم يوجب علينا قط في شيء من القرآن والسنن أن نفعل مثل فعله عليه السلام بل قال تعالى {لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا} وإنما أنكر عليه السلام على تنزه أن يفعل مثل فعله عليه السلام وهذا هو غاية المنكر كمن تنزه عن التقبيل في رمضان نهارا وهو صائم أو تنزه أن يمشي حافيا حاسرا زاريا على من فعل ذلك وأما من ترك أن يفعل مثل فعله عليه السلام لا عن رغبة عنه فما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه

وسلم قط وهذا التارك للائتساء به صلى الله عليه وسلم غير راغب عن ذلك لا محسن ولا مسيء ولا مأجور ولا آثم والمؤتسي به عليه السلام محسن مأجور والراغب عن الائتساء به بعد قيام الحجة عليه إن كان زاريا على محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وما نعلم لمن صحح عنه فعلا ثم رغب عنه وجها ينجو به من الشرك إلا أن يتعلق بفعل له عليه السلام آخر أو بأمر له آخر أو يكون لم يصح عنده ذلك الأمر الذي رغب عنه فإن تعلق بأنه خصوص له صلى الله عليه وسلم فهو أحد الكاذبين الفساق ما لم يأت على دعواه بدليل من نص أو إجماع قال علي وأما من ادعى أن أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض علينا أن نفعل مثلها فقد أغفل جدا وأتى بما لا برهان له على صحته وما كان هكذا فهو دعوى كاذبة لأن الأصل ألا يلزمنا حكم حتى يأتي نص قرآن أو نص سنة بإيجابه وأيضا فإنه قول يؤدي إلى ما لا يفعل ولزمه أن يوجب على كل مسلم أن يسكن حيث سكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يجعل رجليه حيث جعلهما عليه السلام وأن يصلي حيث صلى عليه السلام وأن يصوم فرضا الأيام التي كان يصومها عليه السلام وأن يجلس حيث جلس وأن يتحرك مثل كل حركة تحركها عليه السلام وأن يحرم الأكل متكئا وعلى خوان والشبع من خبز البر مأدوما ثلاثا تباعا وأن يوجب فرضا أكل الدباء ويتتبعها وهذا ما لا يوجبه مسلم مع أن هذا يخرج إلى المحال وإلى إرجاع ما لا سبيل إلى إرجاعه مما قد فات وبطل بالأكل والشرب منه عليه السلام فبطل بما ذكرنا أن تكون أفعاله عليه السلام واجبة علينا إذ لم يأت على ذلك دليل بل قد قام الدليل والبرهان على أن ذلك غير واجب بالآية التي

ذكرنا وكل من له أقل علم باللغة العربية فإنه يعلم أن ما قيل فيه هذا لك أنه غير واجب قبوله بل مباح له تركه إن أحب كالمواريث وكل ما خيرنا فيه وأن ما جاء بلفظ عليك كذا فهذا هو الملزم لنا ولا بد فلما قال تعالى {لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا} كنا مندوبين إلى ذلك وكنا مباحا لنا ألا نأتسي غير راغبين عن الائتساء به لكن عالمين أن الذي تركنا أفضل والذي فعلنا مباح كجلوس الإنسان وتركه أن يصلي تطوعا فليس آثما بذلك ولو صلى تطوعا لكان أفضل إلا أن يكون ترك التطوع راغبا عنها في الوقت المباح فيه التطوع فهذا خارج عن الإسلام بلا خلاف لأنه شارع شريعة لم يأت بها إذن قال علي وإنما نازعنا في وجوب الأفعال بعض أصحاب مالك على أنهم أترك خلق الله تعالى لأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك أنه عليه السلام جلد في الخمر أربعين وهم يجلدون ثمانين وودى حضريا وهو عبد الله بن سهل ادعى قتله على حضريين وهم يهود خيبر بالإبل فقالوا هم لا يجوز ذلك ولا يودى إلا بالذهب أو الفضة وصلى على قبر فقالوا هم لا نفعل ذلك وصلى على غائب فقالوا هم لا نرى ذلك وقبل وهو صائم فقالوا هم نكره ذلك وصلى عليه السلام حاملا أمامة فقالوا نكره ذلك وصلى جالسا والناس وراءه وأبو بكر إلى جنبه قائم فقالوا لا يجوز ذلك ويعلم صحةمن صلى كذلك بطلت صلاته في كثير جدا اقتصرنا منه على ما ذكرنا وبعضهم تعلق في هذه الأفعال بأنها خصوص له عليه السلام ومن فعل ذلك فقد تعرض لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تعرض لغضبه عليه السلام فقد تعرض لغضب الله عز وجل فقد غضب عليه السلام غضبا شديدا حين سأله الأنصاري عن قبلة الصائم فأخبر عليه

السلام أنه يفعل ذلك فقال القائل لست مثلنا يا رسول الله أنت قد غفر لك ذنبك فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ غضبا شديدا وأنكر هذا القول فمن أضل ممن تعرض لغضب الله عز وجل وغضب رسوله عليه السلام في تقليد إنسان لا ينفعه ولا يضره ولا يغني عنه من الله تعالى شيئا قال علي واحتجوا في تخصيص القبلة للصائم بقول عائشة رضي الله عنها وأيكم أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد وهذا القول منها رضي الله عنها أعظم الحجة عليهم لأنها لم تقل ذلك على ما توهموا وإنما قالته إنكارا على من استعظم القبلة للصائم فأخبرهم أنه عليه السلام كان أورع منهم وأملك لإربه ولكنه مع ذلك لم يمتنع من التقبيل وهو صائم فكيف أنتم ويدل على صحة هذا التأويل دليلان بينان أحدهما أنها رضي الله عنها هكذا قالت في مباشرة الحائض أنه عليه السلام كان يأمرها فتتزر ثم يباشرها وأيكم أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلزمهم أن يتركوا إباحة مباشرة الحائض لقول عائشة وأيكم أملك لإربه كما قالت في قبلة الصائم سواء بسواء والثاني أنهم رووا عنها أنها قالت لابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن وهو أشب ما كان ألا تقبل زوجتك وتلاعبها تعني عائشة بنت طلحة وهي بنت أختها وأجمل جواري أهل زمانها قاطبة فقال إني صائم فقالت لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم فهي دأبا تحض الصائم الشاب على التقبيل للجارية الحسناء اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وائتساء به وهذا هو قولنا لا قولهم ففعلوا ما ترى فيما أخبر عليه السلام أنه عموم وغضب على من ادعى أنه خصوص ثم أتوا إلى ما أخبر عليه السلام أنه خصوص له دون سائر الناس وهو قتله بمكة من قتل الكفار وخطب عليه السلام الناس فنهاهم عن أن يسفك فيها أحد دما ثم لم يقنع عليه السلام بذلك حتى قال في خطبته

تلك وإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا إن الله أحلها لنبيه صلى الله عليه وسلم ولم يحلها لكم وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس إلى يوم القيامة أو كلاما هذا معناه فقالوا هذا عموم وليس خصوصا قال أبو محمد فلو قيل لهؤلاء القوم اعكسوا الحقائق ما زادوا على ما فعلوا وأن هذا لعظائم لا ندري كيف استجاز من له أدنى ورع التقليد في مثل هذا لمن قد أداه اجتهاده إلى الخطأ في ذلك ممن قد بلغتهم الآثار وقامت عليهم الحجة وسقطت عنهم المعذرة وإن الظن ليسوء جدا بمن هذا معتقده ونعوذ بالله من كل حب رياسة تقود إلى مثل هذا وبالله تعالى التوفيق قال علي وإذا مدح الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أحدا على فعل ما كان ذلك الفعل مندوبا إليه مستحبا يؤجر فاعله ولا يؤجر تاركه ولا يأثم وليس ذلك الشيء فرضا لما قد أوردنا في الحجاج في أن الفرض ليس إلا ما جاء به الأمر فقط وإن لم نؤمر به فمعفوا عنه وأما ما ذمه الله تعالى فهو مكروه وليس حراما إلا بدليل لما ذكرناه في المدح ولا فرق وقد ذم الله تعالى الشح وليس حراما إذا أدى المرء فرائضه ولكنه مذموم مكروه وقد مدح الله تعالى المغتسلين بالماء للاستنجاء وليس فرضا ومدح النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكتوا ولا استرقى وليس كل ذلك حراما لكن إن قام دليل من أمر أو نهي على الشيء المذموم أو الممدوح صير فيه إلى دليل الأمر والنهي وبالله تعالى التوفيق

فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلك

فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلك وفيما زعموا أن البلوى تكثر به فلا يقبل فيه إلا التواتر قال أبو محمد ووجدنا الصاحب من الصحابة رضي الله عنهم يبلغه الحديث فيتناول فيه تأويلا يخرجه به عن ظاهره ووجدناهم رضي الله عنهم يقرون ويعترفون بأنهم لم يبلغهم كثير من السنن وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم وهكذا قال البراء حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى العنزي ثنا أبو أحمد الزبيري وسفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب قال أما كل ما تحدثتموه سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن حدثنا أصحابنا وكانت تشغلنا رعية الإبل وهذا أبو بكر رضي الله عنه لم يعرف فرض ميراث الجدة وعرفه محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه عائشة في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا عمر رضي الله عنه يقول في حديث الاستئذان أخفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق في الأسواق وقد جهل أيضا أمر إملاص المرأة وعرفه غيره وغضب على عيينة بن حصن حتى ذكره الحر بن قيس بن حصن بقوله تعالى {خذ لعفو وأمر بلعرف وأعرض عن لجاهلين} وخفي عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب إلى آخر خلافته وخفي على أبي بكر رضي الله عنه قبله أيضا طول مدة خلافته فلما بلغ ذلك عمر أمر بإجلائهم فلم يترك بها منهم أحدا وخفي على عمر أيضا أمره

عليه السلام بترك الإقدام على الوباء وعرف ذلك عبد الرحمن بن عوف وسأل عمر أبا واقد الليثي عما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاتي الفطر والأضحى وهذا وقد صلاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أعواما كثيرة ولم يدر ما يصنع بالمجوس حتى ذكره عبد الرحمن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ونسي قبوله عليه السلام الجزية من مجوس البحرين وهو أمر مشهور ولعله رضي الله عنه قد أخذ من ذلك المال حظا كما أخذ غيره منه ونسي أمره عليه السلام بأن يتيمم الجنب فقال لا يتيمم أبدا ولا يصلي ما لم يجد الماء وذكره بذلك عمار وأراد قسمة مال الكعبة حتى احتج عليه أبي بن كعب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك فأمسك وكان يرد النساء اللواتي حضن ونفرن قبل أن يودعن البيت حتى أخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك فأمسك عن ردهن وكان يفاضل بين ديات الأصابع حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمساواة بينها فترك قوله وأخذ بالمساواة وكان يرى الدية للعصبة فقط حتى أخبره الضحاك بن سفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم ورث المرأة من الدية فانصرف عمر إلى ذلك ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالا بمهور النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذكرته امرأة فرجع عن نهيه وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة فأمر ألا ترجم وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكره عثمان بأن الجاهل لا حد عليه فأمسك عن رجمها وأنكر على حسان الإنشاد في المسجد فأخبره هو وأبو هريرة أنه قد أنشد فيه بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت عمر وقد خفي على الأنصار وعلى المهاجرين كعثمان وعلي وطلحة والزبير وحفصة أم المؤمنين وجوب الغسل من الإيلاج إلا أن يكون

أنزل وهذا مما تكثر فيه البلوى وخفي على عائشة وأم حبيبة أمي المؤمنين وابن عمر وأبي هريرة وأبي موسى وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وسائر الجلة من فقهاء المدينة وغيرهم نسخ الوضوء مما مست النار وكل هذا تعظم البلوى به وتعم وهذا كله وما بعد هذا يبطل ما قاله من لا يبالي بكلامه من الحنفيين والمالكيين إن الأمر إذا كان مما تعم البلوى به لم يقبل خبر الواحد والعجب أن كلتا الطائفتين قد قبلت أخبارا خالفها غيرهم تعم البلوى كقبول الحنفيين الوضوء من الضحك وجهله غيرهم وكقبول المالكيين اليمين مع الشاهد وجهله غيرهم ومثل هذا كثير جدا حدثنا محمد بن سعيد ثنا أحمد به عبد النصير حدثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا صخر بن جويرية حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير أن عبد الرحمن بن الأسود أخبره قال كنت جالسا مع أبي بعرفة وابن الزبير يخطب الناس فقال ابن الزبير إن هذا يوم تكبير وتحميد وتهليل فكبروا الله واحمدوه وهللوا فقام أبي يجوس حتى انتهى إليه فأصغى إليه فقال أشهد لسمعت عمر بن الخطاب على هذا المنبر يلبي فقال ابن الزبير لبيك اللهم لبيك وكان صيتا قال أبو محمد فقد خفي هذا كما ترى على ابن الزبير وغيره وهو مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد نهى عمر أن يسمى بأسماء الأنبياء وهو يرى محمد بن مسلمة يغدو عليه ويروح وهو أحد الصحابة الجلة منهم ويرى أبا أيوب الأنصاري وأبا موسى الأشعري وهما لا يعرفان إلا بكناهما من الصحابة ويرى محمد بن أبي بكر الصديق وقد ولد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حجة الوداع واستفتته أمه إذ ولدته ماذا تصنع

في إحرامها وهي نفساء وقد علم يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بأسماء من ذكرنا وبكناهم بلا شك وأقرهم عليها ودعاهم بها ولم يغير شيئا من ذلك عليه السلام فلما أخبره طلحة وصهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة ذلك أمسك عن النهي عنه وهم بترك الرمل في الحج ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فقال لا يجب لنا أن نتركه وهذا عثمان رضي الله عنه فقد رووا عنه أنه بعث إلى الفريعة أخت أبي سعيد الخدري يسألها عما أفتاها به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر عدتها وأنه أخذ بذلك وأمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر فذكره علي بالقرآن وأن الحمل قد يكون ستة أشهر فرجع عن الأمر برجمها وهذا علي رضوان الله عليه يعترف بأن كثيرا من الصحابة كانوا يحدثونه بما ليس عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يستحلفهم على ذلك حاشا أبا بكر فإنه كان لا يستحلفه وأن الله تعالى كان ينفعه بما شاء أن ينفعه مما سمع من ذلك مما لم يكن عنده قبل ذلك وهذا طلحة يبيح الذهب بالفضة نسيئة حتى ذكره عمر وهذا ابن عمر وابن عباس يبيعان الدرهم بالدرهمين حتى ذكرا فأمسكا ثم رواه ابن عمر عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره مسلم فرجع ابن عمر إلى ذلك وترك رأيه ثم رواه ابن عمر فقال هذا عهد نبينا إلينا ذكره مالك عن حميد عن مجاهد عن ابن عمر وصدق ابن عمر ونحن نقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغنا هذا عهد نبينا إلينا فهكذا نحمل أمر جميع ما روي من رواية الصاحب للحديث ثم روي عنه مخالفته إياه أنه إنما أفتى بخلاف الحديث قبل أن يبلغه فلما حدث بما بلغه لا يحل أن يظن بالصاحب غير هذا وهذا نص ما ذكرنا عن

ابن عمر ببيان لا يخفى وأنهم تأولوا فيما سمعوا من الحديث ومن حمل ذلك على غير ما قلنا فإنه يوقع الصاحب ولا محالة تحت أمرين وقد أعاذهم الله تعالى منهما كلاهما ضلال وفسق وهما إما المجاهرة بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يحل لأحد ولا يحل أن يظن بهم وإما أن يكون عندهم علم أوجب عليهن مخالفة ما رووا فما هم في حل أن يكتموه عنا ويحدثوا بالمنسوخ ويكتموا عنا الناسخ وهذه الصفة كفر من فاعلها وتلبيس في الدين ولا ينسب هذا إليهم إلا زائغ القلب أو جاهل أعمى القلب فبطل ظنهم الفاسد وصح قولنا والحمد لله رب العالمين ولا سبيل إلى وجه ثالث أصلا إلا أن يكونوا نسوا حينئذ بعض ما قد رووه قبل ذلك فهذا ممكن أيضا فإن كانوا تأولوا فالتأويل منهم رضي الله عنهم ظن وروايتهم على النبي صلى الله عليه وسلم يقين ولا يحل لمسلم أن يترك اليقين للظن فارتفع الإشكال جملة هذا الباب والحمد لله رب العالمين وأما هم رضوان الله عليهم فمعذورون لأنه اجتهاد منهم مع أن ذلك منهم أيضا قليل جدا وليس كذلك من يقلدهم بعد أن نبه على ما ذكرناه وهذه عائشة وأبو هريرة رضي الله عنهما خفي عليهما المسح على الخفين وعلى ابن عمر معهما وعلمه جرير ولم يسلم إلا قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأشهر وأقرت عائشة أنها لا علم لها به وأمرت بسؤال من يرجى عنده علم ذلك وهو علي رضي الله عنه وهذه حفصة أم المؤمنين سئلت عن الوطء يجنب فيه الواطىء أفيه غسل أم لا فقالت لا علم لي وهذا ابن عمر توقع أن يكون حدث نهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض بعد أزيد من أربعين سنة من موت النبي صلى الله عليه وسلم فأمسك عنها وأقر أنهم كانوا يكرونها على عهد أبي بكر وعمر وعثمان ولم يقل إنه لا يمكن أن

يخفى على هؤلاء ما يعرف رافع وجابر وأبو هريرة وهؤلاء إخواننا يقولون فيما اشتهوا لو كان هذا حقا ما خفي على عمر وقد خفي على زيد بن ثابت وابن عمر وجمهور أهل المدينة إباحة النبي صلى الله عليه وسلم للحائض أن تنفر حتى أعلمهم بذلك ابن عباس وأم سليم فرجعوا عن قولهم وخفي على ابن عمر الإقامة حتى يدفن الميت حتى أخبره بذلك أبو هريرة وعائشة فقال لقد فرطنا في قراريط كثيرة وقيل لابن عمر في اختياره متعة الحج على الإفراد إنك تخالف أباك فقال أكتاب الله أحق أن يتبع أم عمر روينا ذلك عنه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر وخفي على عبد الله بن عمر الوضوء من مس الذكر حتى أمرته بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بسرة بنت صفوان فأخذ بذلك وخفي على ابن عباس النهي عن المتعة وعن تحريم الحمر الأهلية حتى أعلمه بذلك علي رضي الله عنه وقال ابن عباس ألا تخافون أن يخسف الله بكم الأرض أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر وهؤلاء الأنصار نسوا قوله عليه السلام الأئمة من قريش وقد رواه أنس وقد روى عبادة بن الصامت ما يدل على ذلك وما كانوا يتركون اجتهادهم إلا لأمر بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أبو هريرة يذكر أنهم كانوا رضوان الله عليهم تشغلهم أموالهم ومتاجرهم وأنه هو كان يلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضر ما لا يحضرون وقد ذكرنا هذا الحديث في باب الإجماع في ديواننا هذا في فصل ترجمته إبطال قول من قال إن الجمهور إذا أجمعوا على قول وخالفهم واحد فإنه لا يلتفت إلى قوله فأغنى ذكرنا إياه هنالك عن ترداده ههنا وإذا وجدنا الصاحب تخفى عليه السنة أو تبلغه فيتأول فيها التأويلات كما فعلوا في تحريم الخمر فإن البخاري روى أنهم اختلفوا فمن قائل حرمت

لأنها كانت تأكل العذرة ومن قائل لأنها لم تخمس ومن قائل إنه خشي فناء الظهر وقال بعضهم بل حينئذ حرمت البتة قال علي وكل ذلك باطل إلا قول من قال حرمت البتة وقد جاء النص بتحريمها لعينها ولأنها رجس روى ذلك أنس فلما صح كل ما ذكرنا وبطل التقليد جملة وجب أن يؤخذ برأي صاحب وإن تعرى من مخالفة الخبر فكيف إذا استضاف إلى مخالفة الخبر وقد كتبنا في باب إبطال التقليد من هذا الكتاب ما أفتوا به رضوان الله عليهم فأخبر عليه السلام أنه ليس كذلك قال علي وكل ما تعلق به أهل اللواذ عن الحقائق عند غلبة الحيرة عليهم من مثل هذا وشبهه فهم أترك خلق الله تعالى له وإنما تعلق بهذا أصحاب أبي حنيفة في خلافهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا فقالوا قد روي أن أبا هريرة أفتى من رأيه بأن يغسل منه ثلاثا ثم تركوا قول أبي هريرة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فخالفوا روايته التي لا يحل خلافها ورأيه الذي احتجوا به وأحدثوا دينا حديثا فقالوا لا يغسل إلا مرة واحدة ونقدها هنا المالكيون أصولهم ووفقوا في ذلك فقالوا يغسل سبعا فأخذوا برواية أبي هريرة وتركوا رأيه وتعلقوا كلهم بذلك أيضا في حديث ابن عباس وعائشة في الصوم عن الميت فقالوا قد أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ذلك فتناقض المالكيون والحنفيون ههنا فأخذوا بقول ابن عباس وعائشة وتركوا روايتهما وأخذ المالكيون آنفا برواية أبي هريرة وتركوا قوله ولا حجة للحنفيين في خلاف عائشة وابن عباس هذا الحديث لأنه إن كان تركته عائشة فقد رواه أيضا بريدة الأسلمي ولم يخالفه وأما ابن عباس فالأصح عنه أنه أفتى بما رواه عنه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وليس

بالقوي وروى سعيد بن جبير خلاف ذلك وهو أصح وأما تعلقهم بأن عائشة رضي الله عنها خالفت في فتياها ما روت من الأمر بالصيام عن الميت فأين هم عن طرد هذا الأصل الفاسد إذ روت عائشة رضي الله عنها أن الصلاة فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر وكانت هي تتم في السفر فأخذوا بروايتها وتركوا رأيها وعملها وإذ روت التحريم بلبن العجل ثم كانت لا تأخذ بذلك ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها ويدخل عليها من أرضعته بنات أخواتها فتركوا رأيها وأخذوا بروايتها وإذ روت أن كل امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فخالفت ذلك وأنكحت بنت أخيها عبد الرحمن المنذر ابن الزبير وعبد الرحمن حي غائب غيبة قريبة بالشام بغير علمه ولا أمره فأخذ المالكيون بروايتها وتركوا رأيها وعملها فإن قالوا تأولت في كل هذا قلنا لهم وهكذا تأولت في فتياها بألا يصام عن الميت ولعل المرأة التي أفتت ألا يصام عنها كانت لا ولي لها فلم تر عائشة رضي الله عنها أن تخرج من ظاهر الحديث الذي روت في ذلك لأن نصه من مات وعليه صيام صام عنه وليه وهكذا فعل المالكيون فيما روي عن عمر أنه رأى للمبتوتة السكنى والنفقة وبلغه حديث فاطمة بنت قيس فلم يأخذ به فخالف المالكيون رأي عمر وأخذوا بنصف حديث فاطمة فلم يروا للمبتوتة نفقة فخالفوا الحديث وعمر في النصف الثاني فرأوا لها السكنى وعمر قد قرأ الآية كما قرؤوها وهكذا فعلوا في رواية ابن عباس في حديث حد المكاتب وميراثه ودينه

بمقدار ما أدى فقالوا خالفه ابن عباس فأفتى بغير ذلك ولا حجة لهم في هذا لأن هذا الحديث قد رواه أيضا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخذوا به وأفتي به فلم كان ترك ابن عباس للحديث حجة على عمل علي به وقد يحتمل ترك ابن عباس وغيره لما روي وجوها منها أن يتأول فيه تأويلا كما ذكرنا آنفا أو يكون نسيه جملة أو يكون نسيه حين أفتى بهذه الفتيا المخالفة له كما ذكرنا آنفا فيمن أفتى منهم بخلاف القرآن وهو ناس لما في حفظه من ذلك أو يكون لم يكن يبلغه حين أفتى بما أفتى به ثم بلغه الحديث بعد ذلك فإن هذه الوجوه كلها موجودة فيما روي عنهم فلا يحل لأحد ترك كلامه عليه السلام الفتيا جاءت عن صاحب فمن دونه مخالفة لما صح عنه عليه السلام ولو تتبعنا ما تركوا فيه روايات الصحابة وأخذوا بفتياهم وما تركوا فيه فتيا الصحابة وأخذوا برواياتهم لكثر ذلك جدا لأن القوم إنما حسبهم ما نصروا به المسألة التي بين أيديهم فقط وإن هدموا بذلك سائر مسائلهم وفيما ذكرنا كفاية وبالجملة فصرف الداخلة التي يعترضون بها على رواية الصاحب لما ترك برأيه أولى أن يكون إلى النقل لمخالفته لذلك منه إلى الرواية التي يلزم اتباعها وهذا باب قد عظم تناقضهم فيه فهذا ابن عمر وأبو برزة هما رويا حديث البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فحملاه على تفرق الأبدان فخالفهما المالكيون والحنفيون فقالوا التفرق بالكلام ولم يلتفوا إلى ما حمل عليه الحديث الصاحبان اللذان روياه وهذا علي رضي الله عنه روى الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ثم روي عنه تركه وأنه أفتى بأنه إذ وقع رأسه من السجود فقد تمت صلاته فخالفه المالكيون ورأوا التسليم فرضا لا بد منه وتناقضهم في الباب عظيم جدا

فصل فيما ادعاه قوم من تعارض النصوص

فصل في حكم العدل قال علي وإذ علمنا أن الراوي العدل قد أدرك من روى عنه من العدول فهو على اللقاء والسماع لأن شرط العدل القبول والقبول يضاد تكذيبه في أن يسند إلى غيره ما لم يسمعه منه إلا أن يقوم دليل على ذلك من فعله وسواء قال حدثنا أو أنبأنا أو قال عن فلان أو قال قال فلان كل ذلك محمول على السماع منه ولو علمنا أن أحدا منهم يستجير التلبيس بذلك كان ساقط العدالة في حكم الناس وحكم العدل الذي قد تبنت عدالته فهن على الورع والصدق لا على الفسق والتهمة وسوء الظن المحرم بالنص حتى يصح خلاف ذلك ولا خلاف في هذه الجملة بين أحد من المسلمين وإنما تناقض من تناقض في تفريع المسائل وبالله التوفيق فصل فيما ادعاه قوم من تعارض النصوص قال علي إذا تعارض الحديثان أو الآيتان أو الآية والحديث فيما يظن من لا يعلم ففرض على كل مسلم استعمال كل ذلك لأنه ليس بعض ذلك أولى بالاستعمال من بعض ولا حديث بأوجب من حديث آخر مثله ولا آية أولى بالطاعة لها من آية أخرى مثلها وكل من عند الله عز وجل وكل سواء في باب وجوب الطاعة والاستعمال ولا فرق حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم وأحمد بن عون الله قال حدثنا ابن الأعرابي قال حدثنا سليمان بن الأشعث السجستاني حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أشعث بن شعبة أنبأنا أرطاة بن المنذر سمعت أبا الأحوص حكيم بن عمير يحدث عن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا ما في القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن

قال علي صدق النبي صلى الله عليه وسلم هي مثل القرآن ولا فرق في وجوب طاعة كل ذلك علينا وقد صدق الله تعالى هذا القول إذ يقول {من يطع لرسول فقد أطاع لله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا} وهي أيضا مثل القرآن في أن كل ذلك وحي من عند الله تعالى قال الله عز وجل {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} قال علي ولا خلاف بين المسلمين في أنه لا فرق بين وجوب طاعة قول الله عز وجل {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وأطيعوا لرسول لعلكم ترحمون} وبين وجوب طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أمره أن يصلي المقيم الظهر أربعا والمسافر ركعتين وأنه ليس ما في القرآن من ذلك بأوجب ولا أثبت مما جاء من ذلك منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانوا قد اختلفوا في كيفية الطريق التي بها يصح النقل فقط قال علي وقد روينا في هذا الحديث من بعض الطرق إنها لمثل القرآن وأكثر قال علي ولا نكرة في هذا اللفظ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد بذلك اللفظ أنها أكثر عددا مما ذكر في القرآن وهذا أمر تعلم صحته بالمشاهدة لأن الفرائض الواردة في كلامه صلى الله عليه وسلم بيانا لأمر ربه تعالى أكثر من الفرائض الواردة في القرآن قال علي فإذا ورد النصان كما ذكرنا فلا يخلو ما يظن به التعارض منهما وليس تعارضا من أحد أربعة أوجه لا خامس لها إما أن يكون أحدهما أقل معاني من الآخر أو يكون أحدهما حاظرا والآخر مبيحا أو يكون أحدهما موجبا والثاني نافيا فواجب ههنا أن يستثنى الأقل معاني من الأكثر معاني وذلك مثل أمره عليه السلام ألا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده

بالبيت وأذن للحائض أن تنفر قبل أن تودع فوجب استثناء الحائض من جملة النافرين وكذلك حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الرطب بالتمر مع إباحة ذلك في العرايا فيها دون خمسة أوسق ومثل أمر الله عز وجل بقطع يد السارق والسارقة جملة مع قوله عليه السلام لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا فوجب استثناء سارق أقل من ربع دينار من القطع وبقي سارق ما عدا ذلك على وجوب القطع عليه وكذلك تحريمه تعالى أمهات الرضاعة مع قوله صلى الله عليه وسلم لا تحرم الرضعة والرضعتان ونسخ العشر المحرمات بالخمس المحرمات فوجب استثناء ما دون الخمس رضعات من التحريم ويبقى الخمس فصاعدا على التحريم ومثل قوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} مع إباحته المحصنات من نساء أهل الكتاب بالزواج فكن بذلك مستثنيات من جملة المشركات وبقي سائر المشركات على التحريم ومثل قوله عليه السلام دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام مع قوله تعالى {لشهر لحرام بلشهر لحرام ولحرمات قصاص فمن عتدى عليكم فعتدوا عليه بمثل ما عتدى عليكم وتقوا لله وعلموا أن لله مع لمتقين} وأمر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقتل من ارتد بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا أو شرب خمرا بعد أن حد فيها ثلاثا وأباح قتل من سعى في الأرض فسادا وأمر بأخذ أموال معروفة في الزكوات والنفقات والكفارات وأمر بتغيير المنكر باليد فكان كل ذلك مستثنى من جملة تحريم الدماء والأموال والأعراض وبقي سائرها على التحريم فقد أرينا في هذه المسائل استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني وأرينا في ذلك إباحة من حظر وحظرا من إباحة وحديثا من آية وآية من حديث وآية من آية وحديثا من حديث ولا نبالي في هذا الوجه كما نعلم أي النصين ورد أولا أو لم نعلم ذلك وسواء كان الأكثر معاني ورد أولا أو ورد آخرا كل ذلك سواء ولا يترك واحد منهما للآخر لكن يستعملان معا كما ذكرنا

فهذا وجه والوجه الثاني أن يكون أحد النصين موجبا بعض ما أوجبه النص الآخر أو حاظرا بعض ما حظره النص الآخر فهذا يظنه قوم تعارضا وتحيروا في ذلك فأكثروا وخبطوا العشواء وليس في شيء من ذلك تعارض وقد بينا غلطهم في هذا الكتاب في كلامنا في باب دليل الخطاب وذلك قوله عز وجل {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} وقال في موضع آخر {إن لله يأمر بلعدل ولإحسان وإيتآء ذي لقربى وينهى عن لفحشاء ولمنكر ولبغي يعظكم لعلكم تذكرون} وقال عليه السلام إن الله كتب الإحسان على كل شيء فكان أمره تعالى بالإحسان إلى الوالدين غير معارض للإحسان إلى سائر الناس وإلى البهائم المتمالكة والمقتولة بل هو بعضه وداخل في جملته ومثل نهيه عليه السلام أن يزني أحدنا بحليلة جاره مع عموم قوله تعالى {ولا تقربوا لزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا} فليس ذكره عليه السلام امرأة الجار معارضا لعموم النهي عن الزنى بل هو بعضه فغلط قوم في هذا الباب فظنوا قوله عليه السلام في سائمة الغنم كذا معارضا لقوله في مكان آخر في كل أربعين شاة شاة وليس كما ظنوا بل الحديث الذي فيه ذكر السائمة هو بعض الحديث الآخر وداخل في عمومه والزكاة واجبة في السائمة بالحديث الذي فيه ذكر السائمة وبالحديث الآخر معا والزكاة واجبة في غير السائمة بالحديث الآخر خاصة وكذلك غلط قوم أيضا فظنوا قوله تعالى {لا جناح عليكم إن طلقتم لنسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على لموسع قدره وعلى لمقتر قدره متاعا بلمعروف حقا على لمحسنين} معارضا لقوله تعالى {وللمطلقات متاع بلمعروف حقا على لمتقين} والآية الأولى بعض هذه وداخلة في جملتها كما قلنا في حديث السائمة ولا فرق وكذلك غلط قوم آخرون فظنوا قوله تعالى {ولخيل ولبغال ولحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} معارضا لقوله تعالى {يأيها لناس كلوا مما في الأرض

حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات لشيطان إنه لكم عدو مبين} ولقوله تعالى {ثم إن ربك للذين عملوا لسوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} وظن قوم أن قوله تعالى {وكم أهلكنا من لقرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا} معارضا لقوله عز وجل {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وليس كذلك على ما قدمنا قبل لأنه ليس في شيء من النصوص التي ذكرنا نهي عما في الآخر ليس في حديث السائمة نهي عن أن يزكي غير السائمة ولا أمر بها فحكمها مطلوب من غير حديث السائمة ولا في الأمر بتمتيع المطلقة غير المحسوسة نهي عن تمتيع الممسوسة ولا أمر به فحكمها مطلوب من موضع آخر ولا في إخباره تعالى بأن خلق الخيل لتركب وزينة نهي عن أكلها وبيعها ولا إباحة لهما فحكمها مطلوب من مكان آخر ولا في تحريمه تعالى الدم المسفوح إخبارا بأن ما عدا المسفوح حلال بل هو كله حرام بالآية الأخرى كما قلنا إنه ليس في أمره تعالى بالإحسان إلى الآباء نهي عن الإحسان إلى غيرهم ولا أمر به فحكم الإحسان إلى غير الآباء مطلوب من مكان آخر ومن فرق بين شيء من هذا الباب فقد تحكم بلا دليل وتكلم بالباطل من غير علم ولا هدى من الله تعالى قال علي فهذا وجه ثان والوجه الثالث أن يكون أحد النصين فيه أمر بعمل ما معلق بكيفية ما أو بزمان ما أو على شخص ما أو في مكان ما ويكون في النص الآخر نهي عن عمل ما بكيفية ما أو في زمان ما أو مكان ما أو عدد ما أو عذر ما ويكون في كل واحد من العملين المذكورين اللذين أمر بأحدهما ونهى عن الآخر شيء ما يمكن أن يستثنى من الآخر وذلك بأن يكون على ما وصفنا في كل نص من النصين المذكورين حكمان فصاعدا فيكون بعض ما ذكر في أحد النصين عاما لبعض ما ذكر في النص الآخر ولا شيء آخر معه ويكون الحكم الثاني الذي في النص الثاني

عاما أيضا لبعض ما ذكر في هذا النص الآخر ولا شيئا آخر معه قال علي وهذا من أدق ما يمكن أن يعترض أهل العلم من تأليف النصوص وأغمضه وأصعبه ونحن نمثل من ذلك أمثلة تعين بحول الله وقوته على فهم هذا المكان اللطيف وليعلم طالب العلم والحريص عليه وجه العمل في ذلك إن شاء الله عز وجل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وما وجدنا أحدا قبلنا شغل باله في هذا المكان بالشغل الذي يستحقه هذا الباب فإن الغلط والتناقض فيه يكثر جدا إلا من سدده الله بمنه ولطفه لا إله إلا هو قال علي فمن ذلك قول الله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} وقال عليه السلام لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم منها ففي الآية عموم الناس وإيجاب عمل خاص عليهم وهو السفر إلى مكان واحد نفسه بعينه من سائر الأماكن وهو مكة أعزها الله فاضبط هذا وفي الحديث المذكور تخصيص بعض الناس وهم النساء ونهيهن عن عمل عام وهو السفر جملة لم يخص بذلك مكان دون مكان فاختلف الناس في كيفية استعمال هذين النصين فقالت طوائف منهم معنى ذلك ولله على الناس حج البيت حاشا النساء اللواتي لا أزواج لهن ولا ذا محرم فليس عليهم حج إذا سافرت إليه سفرا قدره كذا فاستثنوا كما ترى النساء من الناس وقالت طوائف أخر معنى ذلك لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخرأن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم إلا أن يكون سفرا أمرت به كالحج أو ندبت إليه كالنظر في مالها أو ألزمته كالتغريب فإنها تسافر إليه دون زوج ودون ذي محرم فاستثنوا كما ترى الأسفار الواجبة والمندوب إليها من جملة الأسفار المباحة كلها وأبقوا على كل سفر مباح غير واجب ولا مندوب إليه على عموم التحريم على النساء إلا مع زوج أو ذي محرم

قال علي لم يكن بيد كل طائفة من الطائفتين اللتين ذكرنا إلا وصفها ترتيب مذهبها في استعمال النصين المذكورين فليس أحدهما أولى من الثاني فلا بد من طلب الدليل على صحة أحد الاستثناءين وابتغاء البرهان على الواجب منهما من مكان غيرهما قال علي وأما نحن فإنما ملنا إلى استثناء الأسفار الواجبة والمندوب إليها من سائر الأسفار المباحة وأوجبنا على المرأة السفر إلى الحج والعمرة الواجبتين والتغريب وأبحنا لها التطوع بالعمرة والحج ومطالعة ما لها دون زوج ودون ذي محرم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة ولقوله عليه السلام لا تمنعوا إماء الله مساجد الله فجاء النص كما ترى في النساء بأنه لا يحل منعهن عن المساجد ومكة من المساجد فكان هذا النص أقل معاني من حديث النهي عن سفر النساء جملة فوجب أن يكون مستثنى منه ضرورة وخرجنا إلى القسم الذي ذكرنا أولا وإلا صار المانع لهن عاصيا لهذا الحديث تاركا له بلا دليل قال علي وقد احتج للاستثناء الثاني بعض القائلين به بحديث فيه أنه عليه السلام لما نهى عن أن تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم قال له رجل من الأنصار يا رسول الله إني اكتتبت في غزوة كذا وإن امرأتي خرجت حاجة فقال عليه السلام حج مع امرأتك قال علي وهذا الحديث حجة عليهم لأنه عليه السلام لم يلزمها الرجوع ولا أوقع عليها النهي عن الحج ولكنه عليه السلام أمر زوجها بالحج معها فكل زوج أبى من الحج مع امرأته فهو عاص ولا يسقط عنها لأجل معصيته فرض الحج هذا نص الحديث الذي احتجوا به وليس يفهم منه غير ذلك

أصلا لأن الأمر في هذا الحديث متوجه إلى الزوج لا إلى المرأة قال علي ومن هذا النوع أمره عليه السلام بالإنصات للخطبة وفي الصلاة مع قوله تعالى {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ إن لله كان على كل شيء حسيبا} الآية فنظرنا في النصين المذكورين فوجدنا الإنصات عاما لكل كلام سلاما كان أو غيره ووجدنا ذلك في وقت خاص وهو وقت الخطبة والصلاة ووجدنا في النص الثاني إيجاب رد السلام وهو بعض الكلام في كل حالة على العموم فقال بعض العلماء معنى ذلك أنصت إلا عن السلام الذي أمرت بإفشائه ورده في الخطبة وقال بعضهم رد السلام وسلم إلا أن تكون منصتا للخطبة أو في الصلاة قال علي فليس أحد الاستثناءين أولى من الثاني فلا بد من طلب الدليل من غير هذه الرتبة قال علي وإنما صرنا إلى إيجاب السلام رد السلام وابتدائه في الخطبة دون الصلاة لأن الصلاة قد ورد فيها نص بين بأنه عليه السلام سلم عليه فيها فلم يرد بعد أن كان يرد وأنه سئل عن ذلك فقال عليه السلام إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنه أحدث ألا تكلموا في الصلاة أو كلاما هذا معناه قال علي وليس امتناع رد السلام في الصلاة موجبا ألا يرد أيضا في الخطبة لأن الخطبة ليست صلاة ولم يلزم فيها استقبال القبلة ولا شيء مما يلزم في الصلاة وأما الخطبة فإنا نظرنا في أمرها فوجدنا المعهود والأصل إباحة الكلام جملة ثم جاء النهي عن الكلام في الخطبة وجاء الأمر برد السلام واجبا وإفشائه فكان النهي عن الكلام زيادة على معهود الأصل وشريعة واردة قد تيقنا لزومها وكان رد السلام وإفشاؤه أقل معاني من النهي عن الكلام فوجب استثناؤه فصرنا بهذا الترتيب الذي ذكرناه في القسم الأول آنفا

قال علي ومن ذلك أمره عليه السلام من نام عن الصلاة أو نسيها أن يصليها إذا ذكرها ونهيه عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح وحين استواء الشمس فقال بعض العلماء معناه فليصلها إذا ذكرها إلا أن يكون وقتا منهيا عن الصلاة فيها وقال آخرون معناه لا تصلوا بعد العصر ولا بعد الصبح ولا حين استواء الشمس إلا أن تكون صلاة نمتم عنها أو نسيتموها أو أمرتم بها ندبا أو فرضا أو تعودتموها قال علي فليس أحد الاستثناءين أولى من الثاني إلا ببرهان من غيرهما ولكن العمل في ذلك أن يطلب البرهان على أصح العملين المذكورين من نص آخر غيرهما فإن لم يوجد صبر إلى الأخذ بالزيادة وبالله التوفيق قال علي ومن هذا قول الله تعالى {يابني إسرائيل ذكروا نعمتي لتي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على لعالمين} ومع قوله تعالى لنا {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بلمعروف وتنهون عن لمنكر وتؤمنون بلله ولو آمن أهل لكتاب لكان خيرا لهم منهم لمؤمنون وأكثرهم لفاسقون} فليس أحد النصين أولى بالاستثناء من الآخر إلا بنص أو إجماع لأنه جائز أن يقول قائل معناه كنتم خير أمة أخرجت للناس إلا بني إسرائيل الذين فضلهم الله على العالمين وجائز أن يقول قائل معناه أني فضلتكم على العالمين إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم خير أمة أخرجت للناس فلا بد من ترجيح أحد الاستثناءين على الآخر ببرهان آخر وإلا فليس أحدهما أولى من الثاني قال علي فنظرنا فوجدنا قوله تعالى {يابني إسرائيل ذكروا نعمتي لتي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على لعالمين} وقد قام البرهان على أنه ليس على عمومه لأن الملائكة أفضل منهم بيقين فوقفنا على هذا ثم نظرنا قوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بلمعروف وتنهون عن لمنكر وتؤمنون بلله ولو آمن أهل لكتاب لكان خيرا لهم منهم لمؤمنون وأكثرهم لفاسقون} ولم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس على ظاهره لأن الملائكة يدخلون في العالمين وقد خرج من عموم ذلك الجن بالنصوص في ذلك ولا يدخلون في الأمم المخرجة للناس فلما كان هذا النص لم يأت نص آخر ولا إجماع بأنه ليس على عمومه لم يجز لأحد بأن

يخصه فإذا لم يجز تخصيصه فالفرض الحمل له على عمومه فإذا ذلك فرض ولا بد من أن نخص أحد ذينك النصين من الآخر ولم يجز تخصيص هذا فقد وجب تخصيص الآخر ولا بد إذ لا بد من تخصيص أحدهما وهذا برهان ضروري صحيح من الخبر الثابت بأن مثلنا مع من قبلنا كمن أجر أجراء فعملوا إلى نصف النهار بقيراط قيراط ثم أجر آخرين فعملوا إلى العصر بقيراط قيراط ثم أجر آخرين فعملوا إلى الليل بقيراطين قيراطين قال عليه السلام فأنتم أقل عملا وأكثر أجرا وبالله تعالى التوفيق قال علي ونقول قطعا إنه لا بد ضرورة في كل ما كان هكذا من دليل قائم بين البرهان على الصحيح من الاستثناءين والحق من الاستعمالين لأن الله تعالى قد تكفل بحفظ دينه فلو لم يكن ههنا دليل لائح وبرهان واضح لكان ضمان الله تعالى خائسا وهذا كفر ممن أجازه فصح أنه لا بد من وجوده لمن يسره الله تعالى لفهمه وبالله تعالى التوفيق والوجه الرابع أن يكون أحد النصين حاظرا لما أبيح في النص الآخر بأسره أي يكون أحدهما موجبا والآخر مسقطا لما وجب في هذا النص بأسره قال علي فالواجب في هذا النوع أن ننظر إلى النص الموافق لما كنا عليه لو لم يرد واحد منهما فنتركه ونأخذ بالآخر لا يجوز غير هذا أصلا وبرهان ذلك أننا على يقين من أننا قد كنا على ما في ذلك الحديث الموافق لمعهود الأصل ثم لزمنا يقينا للعمل بالأمر الوارد بخلاف ما كنا عليه بلا شك فقد صح عندنا يقينا إخراجنا عما كنا عليه ثم لم يصح عندنا نسخ ذلك الأمر الزائد الوارد بخلاف معهود الأصل ولا يجوز لنا أن نترك يقينا بشك ولا أن نخالف الحقيقة للظن وقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال {وما لهم به من علم إن يتبعون

إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} وقال {وإن تطع أكثر من في لأرض يضلوك عن سبيل لله إن يتبعون إلا لظن وإن هم إلا يخرصون} وقال تعالى ذاما لقوم قالوا حاكمين بظنهم {وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الظن أكذب الحديث ولا يحل أن يقال فيما صح وورد الأمر به هذا منسوخ إلا بيقين ولا يحل أن يترك أمر قد تيقن وروده خوفا أن يكون منسوخا ولا أن يقول قائل لعله منسوخ وكيف ونحن على يقين مقطوع به من أن المخالف لمعهود الأصل هو الناسخ بلا شك ولا مرية عند الله تعالى برهان ذلك ما قد ذكرناه آنفا من ضمان الله تعالى حفظ الشريعة والذكر المنزل فلو جاز أن يكون ناسخ من الدين مشكلا بمنسوخ حتى لا يدرى الناسخ من المنسوخ أصلا لكان الدين غير محفوظ والذكر مضيعا قد تلفت الحامق فيه وحاش لله من هذا وقد صح بيقين لا إشكال فيه نسخ الموافق لمعهود الأصل من النصين الناقل عن تلك الحال إذ ورد ذلك النص فهذا يقين الذي أمر الله تعالى به وأقره وأقام الحجة به وأثبت البرهان وجوبه ومدعي خلاف هذا كاذب مقطوع بكذبه إذ لا برهان له على دعواه إلا الظن والله تعالى يقول {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس صادقا فيه أصلا وصح بهذا النص أن جميع دين الله تعالى فإن البرهان قائم ظاهر فيه وحرم القول بما عدا هذا لأنه ظن من قائله بإقراره على نفسه وقد حرم الله تعالى القول بالظن وأخبر أنه خلاف الحق وأنه أكذب الحديث فوجب القطع على كذب الظن في الدين كله وهذا أيضا برهان واضح في إبطال القول بالقياس والتعليل والاستحسان في جميع المسائل الجزئيات إلى الشريعة وفي جملة القول بكل ذلك لأن القول بكل

ذلك ظن من قائله بلا شك وبالله تعالى التوفيق ومن ذلك الحديث الوارد في ألا يغتسل من الإكسال والحديث الوارد في الغسل منه فإن ترك الغسل منه موافق لمعهود الأصل إذ الأصل أن لا غسل على أحد إلا أن يأمره الله تعالى بذلك فلما جاء الأمر بالغسل وإن لم ينزل علمنا يقينا أن هذا الأمر قد لزمنا وأنه للحكم الأول بلا شك ثم لا ندري أنسخ بالحديث الذي فيه أن لا غسل على من أكسل أم لا فلم يسعنا ترك ما أيقنا أننا أمرنا به إلا بيقين ومن ذلك أمره عليه السلام ألا يشرب أحد قائما وجاء حديث بأنه عليه السلام شرب قائما فقلنا نحن على يقين من أنه كان الأصل أن يشرب كل أحد كما شاء من قيام أو قعود أو اضطجاع ثم جاء النهي عن الشرب قائما بلا شك فكان مانعا مما كنا عليه من الإباحة السالفة ثم لا ندري أنسخ ذلك بالحديث الذي فيه إباحة الشرب قائما أم لا فلم يحل لأحد ترك ما قد تيقن أنه أمر به خوفا أن يكون منسوخا قال علي فإن صح النسخ بيقين صرنا إليه ولم نبال زائدا كان على معهود الأصل أم موافقا له كما فعلنا في الوضوء مما مست النار فإنه لولا أنه روى جابر أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار لأوجبنا الوضوء من كل ما مست النار ولكن لما صح أنه منسوخ تركناه وكذلك فعلنا في حديث أبي هريرة من أدركه الصبح جنبا فقد أفطر لأنه علمنا أنه موافق للحكم المنسوخ من ألا يأكل أحد ولا يشرب ولا يطأ بعد أن ينام فنسخ ذلك بالإباحة بيقين فصرنا إلى الناسخ وكذلك أخذنا بالحديث الذي فيه إيجاب الوضوء من مس الفرج لأنه زائد على ما في حديث طلق من إسقاط الوضوء منه لأن حديث طلق موافق لمعهود الأصل وأما من تناقض فأخذ مرة بحديث قد ترك مثله في مكان آخر وأخذ

بضده فذو بنيان هار يوشك أن ينهار به في مخالفة ربه عز وجل في قوله تعالى {إنما لنسيء زيادة في لكفر يضل به لذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم لله فيحلوا ما حرم لله زين لهم سوء أعمالهم ولله لا يهدي لقوم لكافرين} قال علي وإن أمدنا الله بعمر وأيدنا بعون من عنده فسنجمع في النصوص التي ظاهرها التعارض كتبا كافية من غيرها إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا به فهذه الوجوه التي فيها بعض الغموض قد بيناها بتوفيق الله عز وجل لا إله إلا هو قال علي وها هنا وجه خامس ظنه أهل الجهل تعارضا ولا تعارض فيه أصلا ولا إشكال وذلك ورود حديث بحكم ما في وجه ما وورود حديث آخر بحكم آخر في ذلك الوجه بعينه فظنه قوم تعارضا وليس كذلك ولكنهما جميعا مقبولان ومأخوذ بهما ونحو ذلك ما روي عن النبيصلى الله عليه وسلم من طريق ابن مسعود بالتطبيق في الركوع وروي من طريق أبي حميد الأكف على الركب فهذا لا تعارض فيه وكلا الأمرين جائز أي ذلك فعله المرء حسن قال علي إلا أن يأتي أمر بأحد الوجهين فيكون حينئذ مانعا من الوجه الآخر وقد جاء الأمر بوضع الأكف على الركب فصار مانعا من التطبيق على ما بينا من أخذ الزائد المتيقن في حال وروده ومنعه ما كان مباحا قبل ذلك وقد وجدنا أمرا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخذ بالركب فخرج عن هذا الباب وصح أن التطبيق منسوخ بيقين على ما جاء عن سعد إنا كنا نفعله ثم نهينا عنه وأمرنا بالركب لكن من هذا الباب اغتساله صلى الله عليه وسلم بين وطئه المرأتين من نسائه رضي الله عنهن وتركه الاغتسال بينهما حتى يغتسل من آخرهن غسلا واحدا فهذا كله مباح وهذا إنما هو في الأفعال منه عليه السلام لا في الأوامر المتدافعة ومثل ذلك ما روي عن نهيه عليه السلام عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها مع قوله تعالى وقد ذكر ما حرم من

النساء ثم قال تعالى {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} فكان نهي النبي صلى الله عليه وسلم مضافا إلى ما نهى الله عنه في هذه الآية المذكورة ومثل ما حرم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من لحوم الحمر والسباع وذوات المخالب من الطير مع قوله تعالى {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} الآية فكان ما حرمه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم مضافا إلى ما في هذه الآية ومضموما معه وكذلك ما روي عن مسحه عليه السلام برأسه ثلاثا واثنتين وواحدة وعلى ناصيته وعمامته وعلى عمامته فقط كل ذلك مضموم بعضه إلى بعض وشرائع لازمة كلها وقد سقط ههنا قوم أساؤوا النظر جدا فقالوا إن ذكر بعض ما قلنا في نص ما وعدمه في نص آخر دليل على سقوطه قال علي وهذا إقدام عظيم وإسقاط لجميع الشرائع ويجب عليهم من هذا أن كل شريعة لم تذكر في كل آية وفي كل حديث هي ساقطة وهذا كفر مجرد لأنه لا فرق بين من قال لما قال الله تعالى {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} ولم يذكر الافتراق وقال عليه السلام إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع أو يترادان فلم يذكر الافتراق دل ذلك على سقوط حكم الافتراق وعلى تمام البيع دونه فلا فرق بين هذا الكلام وبين من قال لما لم يذكر الله تعالى ورسوله عليه السلام في الآية المذكورة النهي عن بيع الغرر وعن الملامسة والمنابذة وعن بيع الخمر والخنازير وجب أن يكون كل ذلك مباحا ولما لم يذكر الله تعالى في قوله {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} الآية إن العذرة حرام وإن الخمر حرام وجب أن يكون حلالا وهذا الكلام مع أنه كفر فهو ساقط جدا لأنه لا يلزم تكرير كل شريعة في كل حديث ولو لزم ذلك لبطلت جميع شرائع الدين أولها عن آخرها لأنها غير

مذكورة في كل آية ولا في كل حديث قال علي ويبين صحة ما قلنا من أنه لا تعارض بين شيء من نصوص القرآن ونصوص كلام النبي صلى الله عليه وسلم وما نقل من أفعاله قول الله عز وجل مخبرا عن رسوله عليه السلام {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} وقوله تعالى {لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا} وقال تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فأخبر عز وجل أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وحي من عنده كالقرآن في أنه وحي وفي أنه كل من عند الله عز وجل وأخبرنا تعالى أنه راض عن أفعال نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه موفق لمراد ربه تعالى فيها لترغيبه عز وجل في الائتساء به عليه السلام فلما صح أن كل ذلك من عند الله تعالى ووجدناه تعالى قد أخبرنا أنه لا اختلاف فيما كان من عنده تعالى صح أنه لا تعارض ولا اختلاف في شيء من القرآن والحديث الصحيح وأنه كله متفق كما قلنا ضرورة وبطل مذهب من أراد ضرب الحديث بعضه ببعض أو ضرب الحديث بالقرآن وصح أن ليس شيء من كل ذلك مخالفا لسائره علمه من علمه وجهله من جهله إلا أن الذي ذكرنا من العمل هو القائم في بديهة العقل الذي يقود إليه مفهوم اللغة التي خوطبنا بها في القرآن والحديث وبالله تعالى التوفيق وكل ذلك كلفظة واحدة وخبر واحد موصول بعضه ببعض ومضاف بعضه إلى بعض ومبني بعضه على بعض إما بعطف وإما باستثناء وهذان الوجهان نعني العطف والاستثناء يوجبان الأخذ بالزائد أبدا وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة عطارد إذ قال لعمر رضي الله عنه إنما يلبس هذه من لا خلاق له ثم بعث إلى عمر حلة سيراء فأتاه عمر فقال

يا رسول الله أبعثت إلي هذه وقد قلت في حلة عطارد ما قلت فقال عليه السلام إني لم أبعثها إليك لتلبسها وفي بعض الأحاديث إنما بعثتها إليك لتصيب بها حاجتك أو كلاما هذا معناه ففي هذا الحديث تعليم عظيم لاستعمال الأحاديث والنصوص والأخذ بها كلها لأنه صلى الله عليه وسلم أباح ملك الحلة من الحرير وبيعها وهبتها وكسوتها النساء وأمر عمر أن يستثني من ذلك اللباس المذكور في حديث النهي فقط وألا يتعدى ما أمر إلى غيره وألا تعارض بين أحكامه عليه السلام قال علي وفي هذا الحديث إبطال القياس لأن عمر رضي الله عنه أراد أن يحمل الحكم الوارد في النهي عن اللباس على سائر وجوه الانتفاع به فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك باطل وفيه أيضا أن حكمه عليه السلام في عين ما حكم على جميع نوع تلك العين لأنه إنما وقع الكلام على حلة سيراء كان يبيعها عطارد ثم أخبر عليه السلام أن ذلك حكم جار في كل حلة حرير وأخبر أن ذلك الحكم لا يتعدى إلى غير نوع اللباس وهذا هو نص قولنا في عموم الحكم وإبطال القياس قال علي وقد استعمل قوم بعض الوجوه الذي ذكرنا في غير موضعه ونحن نوقف على ذلك ونرى منه طرفا ليتنبه الطالب للعلم على سائره إذا ما ورد عليه إن شاء الله عز وجل وما توفيقي إلا بالله وذلك أننا قد قلنا باستعمال الحديثين إذا كان أحدهما أقل معاني من الآخر بأن يستثنى الأقل من الأكثر فيستعمل الأقل معاني على عمومه ويستعمل الأكثر معاني حاشا ما أخرجنا منه بالاستثناء المذكور على ما بينا قبل فورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيه النهي عن استقبال القبلة واستدبارها لبول أو غائط وورد حديث عن ابن عمر أنه أشرف على سطح فنظر إلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا لحاجته على لبنتين وهو مستدبر القبلة قال علي فقال قوم نستبيح استدبار القبلة واستقبالها في البنيان ونمنع منه في الصحارى قال علي وأخطؤوا من وجهين أحدهما تحكمهم في الفرق بين البنيان وغيره وليس في شيء من الحديثين نص ولا دليل على ذلك بل وجدنا أبا أيوب الأنصاري وهو بعض رواة حديث النهي قد أنكر ذلك في البيوت فلو عكس عاكس فقال بل يستباح ذلك في الصحارى ولا يستباح في البنيان هل كان يكون بينهم وبينه فرق ومثل هذا في دين الله تعالى لا يستسله ولا يتمادى عليه بعد أن يوقف عليه ذو ورع لقوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} مع آيات كثيرة تزجر عن ذلك وليس في حديث ابن عمر أن النبيصلى الله عليه وسلم كان في بنيان بل قد وصفت عائشة رضي الله عنها أنهم كانوا يأنفون من اتخاذ الكنف في البيوت وأنهم كانوا يتبرزون خارج المنازل والرواية الصحيحة أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يتبرز أبعد وليس لأحد أن يقول إن ابن عمر إذا أشرف من السطح رآه في بنيان إلا كان متكهنا فهذا وجه والوجه الثاني أنه حتى لو صح أنه عليه السلام كان في بنيان فليس في ذلك الحديث إلا الاستدبار وحده فبأي شيء استحلوا استقبال القبلة بالغائط ولا نص عندهم فيه وليس إذا نسخ أو خص بعض ما ذكر في الحديث وجب أن ينسخ أو يترك سائره فإن قالوا بل يترك سائره كانوا متحكمين في الدين ومسقطين لشرائع الله تعالى بلا دليل وسنستوعب الكلام في هذا الفصل في باب الخصوص أو النسخ من كتابنا هذا إن شاء الله عز وجل ولزمهم أيضا أن يقولوا إن النبيصلى الله عليه وسلم لما نهى عن مهر البغي وحلوان الكاهن وثمن الكلب وكسب الحجام ثم أباح كسب الحجام أن يستباح حلوان

فصل في تمام الكلام في تعارض النصوص

الكاهن ومهر البغي وثمن الكلب لأن كل ذلك مذكور في حديث واحد وإلا كانوا متناقضين قال علي ووجه العمل في هذين الحديثين هو الأخذ بالزائد وقد كان الأصل بلا شك أن يجلس كل أحد لحاجته كما يشاء فحديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود النهي ثم صار ذلك النهي رافعا لتلك الإباحة بيقين ولا يقين عندنا أنسخ شيء من ذلك النهي أم لا فحرام أن نترك يقينا لشك وأن نخالف حقيقة لظن وليس لأحد أن يقول إن حديث ابن عمر متأخر إلا لكان لغيره أن يقول بل حديث النهي هو المتأخر لأنه قد رواه سليمان وإسلامه في سنة الخندق وأبو هريرة وإسلامه بعد انقضاء فتح خيبر إلا أن النهي شريعة واردة رافعة لما كان الناس عليه من إباحة ذلك بيقين ولا يقين عندنا في أن الإباحة عادت بعد ارتفاعها ولو صح أن حديث ابن عمر كان متأخرا ما كان فيه إلا رفع النهي عن استدبار القبلة فقط وليبق استقبالها على التحريم فصل في تمام الكلام في تعارض النصوص قال علي وذهب بعض أصحابنا إلى ترك الحديثين إذا كان أحدهما حاظرا والآخر مبيحا أو كان أحدهما موجبا والآخر مسقطا قال فيرجع حينئذ إلى ما كنا نكون عليه لو لم يرد ذانك الحديثان قال علي وهذا خطأ من جهات أحدها أننا قد أيقنا أن الأحاديث لا تتعارض لما قد قدمنا من قوله تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} مع إخباره تعالى أن كل ما قال نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه وحي فبطل أن يكون في شيء من النصوص تعارض أصلا وإذا بطل التعارض فقد بطل الحكم الذي يوجبه التعارض إذ كل شيء بطل سببه فالمسبب من السبب الباطل باطل بضرورة الحس والمشاهدة والثاني أنهم يتركون كلا الخبرين

والحق في أحدهما بلا شك فإذا تركوهما جميعا فقد تركوا الحق يقينا في أحدهما ولا يحل لأحد أن يترك الحق اليقين أصلا والثالث أنهم لا يفعلون ذلك في الآيتين اللتين إحداهما حاظرة والأخرى مبيحة أو إحداهما موجبة والثانية نافية بل يأخذون بالحكم الزائد ويستثنون الأقل من الأكثر وقد بينا فيما سلف أنه لا فرق بين وجوب ما جاء في القرآن وبين وجوب ما جاء في كلام النبيصلى الله عليه وسلم قال علي كان حجتهم في ذلك أن قالوا إن أحد الخبرين ناسخ بلا شك ولسنا نعلمه بعينه فلما نعلمه لم يجز لنا أن نقدم عليه بغير علم فيدخل في قوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} قال علي وهذه الحجة فاسدة من وجهين أحدهما أنه يلزمهم مثل ذلك الآيتين وهم لا يفعلون ذلك والوجه الثاني أنه لا يجوز أن يقال في خبر ولا آية إن هذا منسوخ إلا بيقين قال علي ويكفي من بطلان هذا الذي احتجوا به أننا على يقين من أن الحكم الزائد على معهود الأصل رافع لما كان الناس عليه قبل وروده فهو الناسخ بلا شك ونحن على شك من هل نسخ ذلك الحكم بحكم آخر يردنا إلى ما كنا عليه أو لا فحرام ترك اليقين للشكوك وبالله تعالى التوفيق قال علي وقد اضطرب خاطر أبي بكر محمد بن داود رحمه الله إلى ما ذهبنا إليه إلا أنه رحمه الله اخترم قبل إنعام النظر في ذلك وذلك أنه قال في كتاب الوصول والعمل في الخبرين المتعارضين كالعمل في الآيتين ولا فرق قال علي وقال بعض أهل القياس نأخذ بأشبه الخبرين بالكتاب والسنة قال علي وهذا باطل لأنه ليس الذي ردوا إليه حكم هذين الخبرين أولى بأن يأخذ به من الخبرين المردودين إليه بل النصوص كلها سواء في

وجوب الأخذ بها والطاعة لها فإذ قد صح ذلك بيقين فما الذي جعل بعضها مردودا وبعضها مردودا إليه وما الذي أوجب أن يكون بعضها أصلا وبعضها فرعا وبعضها حاكما وبعضها محكوما فيه فإن قال الاختلاف الواقع في هذين هو الذي حط درجتهما إلى أن يعرضا على غيرهما قال علي وهذه دعوى مفتقرة إلى برهان لأنه ليس الاختلاف موجبا لكونهما معروضين على غيرهما لأن الاختلاف باطل فظنهم أنه اختلاف ظن فاسد يكذبه قول الله عز وجل {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فإذ قد أبطل الله تعالى الاختلاف الذي جعلوه سببا لعرض الحديثين على سنة أخرى أو آية أخرى فقد وجب ضرورة أن يبطل مسببه الذي هو العرض وهذا برهان ضروري وبالله تعالى التوفيق قال علي وإذا كانت النصوص كلها سواء في باب وجوب الأخذ بها فلا يجوز تقوية أحدها بالآخر وإنما ذلك من باب طيب النفس وهذا هو الاستحسان الباطل وقد أنكره بعضهم على بعض قال علي وقد رجح بعض أصحاب القياس أحد الخبرين على الآخر بترجيحات فاسدة نذكرها إن شاء الله تعالى ونبين غلطهم فيها بحول الله تعالى وقوته فمن ذلك أن قالوا إن كان أحد الخبرين معمولا به والآخر غير معمول به رجحنا بذلك الخبر المعمول به على غير المعمول به قال علي وهذا باطل لما نذكره إن شاء الله تعالى بعد هذا في فصل فيه إبطال قوم من احتج بعمل أهل المدينة إلا أننا نقول ها هنا جملة لا يخلو الخبر قبل أن يعمل به من أن يكون حقا واجبا أو باطلا فإن كان حقا واجبا لم يزده العمل به قوة لأنه لا يمكن أن يكون حق أحق من حق آخر في أنه حق وإن كان باطلا فالباطل لا يحققه أن يعمل به قال علي واحتج بعضهم في وجوب ترجيح أحد الخبرين على الآخر

فقال كما نرجح إحدى البينتين على الأخرى إذا تعارضتا مرة بالقرعة ومرة باليد قال علي وهذا هو عكس الخطأ على الخطأ ولسنا نساعدهم على ترجيح بينة على أخرى لا بيد ولا بقرعة لأن ذلك لم يوجبه نص ولا إجماع وأيضا فحتى لو صح ترجيح إحدى البينتين على الأخرى لما جاز ذلك في الحديثين لأن هذا قياس والقياس باطل وأيضا فحتى لو صح ترجيح إحدى البينتين على الأخرى وكان القياس حقا لكان ترجيح الحديثين أحدهما على الآخر لا يجوز لأن الاختلاف في الحديثين باطل والتعارض عنهما منفي بما ذكرنا من قوله تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} وبإخباره تعالى أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وحي كله وأما البينتان فالتعارض فيهما موجود والاختلاف فيهما ممكن قال علي وقالوا إن كان أحد الخبرين حاظرا والآخر مبيحا فإنما نأخذ بالحاظر وندع المبيح قال علي وهذا خطأ لأنه تحكم بلا برهان ولو عكس عاكس فقال بل نأخذ بالمبيح لقوله تعالى {وجاهدوا في لله حق جهاده هو جتباكم وما جعل عليكم في لدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم لمسلمين من قبل وفي هذا ليكون لرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على لناس فأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وعتصموا بلله هو مولاكم فنعم لمولى ونعم لنصير} ولقوله تعالى {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} ولقوله تعالى {يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا} أما كان يكون قوله أقوى من قولهم ولكنا لا نقول ذلك بل نقول إن كل أمر من الله تعالى لنا فهو يسر وهو رفع الحرج وهو التخفيف ولا يسر ولا تخفيف ولا رفع حرج أعظم من شيء أدى إلى الجنة ونجى من جهنم وسواء كان حظرا أو إباحة ولو أنه قتل الأنفس والأبناء والآباء قال علي ويبطل ما قالوا أيضا بقوله عليه السلام إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم

قال علي فأوجب عليه السلام من الفعل ما انتهت إليه الطاقة ولم يفسح في ترك شيء منه إلا ما خرج عن الاستطاعة ووقع العجز عنه فقط وقد ظن قوم أن هذا الحديث مؤكد للنهي عن الأمر قال علي وهذا ظن فاسد لأن الاجتناب ترك والترك لا يعجز عنه أحد وأما العمل فهو حركة لها كلفة أو إمساك عما تقتضيه الطبيعة من الأكل والشرب وفي ذلك تكلف وربما يعجز المرء عن كثير منه فكلفنا من ذلك كل ما انتهى إليه الوسع ولم يسقط عنا منه شيء إلا لم يكن بنا طاقة على فعله هذا نص الحديث لمن تأمله ولم يحله عن مفهوم لفظه فصح بذلك التسوية بين الأمر والنهي وإيجاب الطاعة للحظر والإباحة على السواء فليس الحاظر بأوكد من المبيح ولا المبيح بأوكد من الحاظر قال علي وقالوا نرجح أيضا بأن يكون راوي أحد الخبرين أضبط وأتقن قال علي هذا أيضا خطأ بما قد أبطلنا فيما سلف من هذا الباب قول من رام ترجيح الخبر بأن فلانا أعدل من فلان فأغنى ذلك عن إعادته ولكنا نقول ههنا إن هذا الذي الذي قالوا دعوى لا برهان عليها من نص ولا إجماع وما كان كذلك فهو ساقط قال علي وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون رواه جماعة وروى الآخر واحد قال علي وقد أبطلنا هذا فيما سلف من هذا الباب بأن القائلين بذلك قد تركوا ظاهر القرآن الذي نقله أهل الأرض كلهم لخبر نقله واحد ومثلنا ذلك بتحريمهم الجمع بين المرأة وعمتها وقطعهم السارق في ربع دينار ولا يقطعونه في أقل ويرجمون المحصن ومثل هذا كثير وبينا فيما خلا أن خبر الواحد وخبر الجماعة سواء في باب وجوب العمل بهما وفي القطع بأنهما حق ولا فرق وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قصد به بيان الحكم

والآخر لم يقصد به الحكم ومثلوا ذلك بالنهي عن جلود السباع مع قوله عليه السلام إذا دبغ الإهاب فقد طهر قال علي أما هذا الترجيح فصحيح لأن الحديث إذا لم يقصد به بيان الحكم فلا إشكال فيه في أنه خلاف الذي قصد به بيان الحكم وأما الحديثان اللذان ذكروا فليسا واقعين تحت هذه الجملة التي ذكروا بل كل واحد من الحديثين المذكورين فهو مقصود به بيان الحكم والتنظير الصحيح ههنا هو مثل أمره صلى الله عليه وسلم بأن يكفن المحرم إذا مات في ثوبيه وألا يمس طيبا ولا يغطي وجهه ولا رأسه فهذا قصد به بيان حكم العمل في تكفين المحرم فهو أولى من منع من ذلك بما روي من قوله صلى الله عليه وسلم إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث لأن هذا الحديث لم يقصد به بيان حكم عملنا نحن فيمن مات من محرم أو غيره وأيضا فحديث النهي عن جلود السباع لا يصح ولو صح لكانت إذ دبغت جلودها يجب أن تستثنى من سائر الجلود السبعية التي لم تدبغ لأن المدبوغة منها أقل من غير المدبوغة وقالوا ونرجح أحد الخبرين بأن يكون راوي أحدهما باشر الأمر الذي حدث به بنفسه وراوي الآخر لم يباشره فتكون رواية من باشر أولى ومثلوا ذلك بالرواية عن ميمونة نكحني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان وبالرواية عن ابن عباس نكح رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم قال علي وهذا ترجيح صحيح لأنا قد تيقنا أن من لم يحضر الخبر إنما نقله غيره ولا ندري عمن نقله ولا تقوم الحجة بمجهول ولا شك في أن كل أحد أعلم بما شاهد من أمر نفسه قال علي إلا أن قائل هذا قد نسي نفسه فتناقض وهدم ما بنى في قوله

نرجح الخبر بأن يكون راويه أضبط وأتقن وتركوا ذلك في هذا المكان وقد قال الأكابر من أصحاب ابن عباس رحمة الله عليه إذ حدثوا بحديث ميمونة المذكور وإنما رواه عنها يزيد بن الأصم فقالوا كلا لا نترك حديثا حدثناه البحر عبد الله بن العباس لحديث رواه أعرابي بوال على عقبيه قال علي فإن كان كون أحد الرواة أعدل واجبا أن نترك له رواية من دونه في العدالة فليتركوا ها هنا رواية يزيد بن الأصم لرواية ابن عباس فلا خلاف عند من له أدنى مسكة عقل أن البون بين ابن عباس وبين يزيد بن الأصم كما بين السماء والأرض وإن كان لا معنى لذلك فلا ترجحوا بكون أحد الراويين أعدل قال أبو محمد ونسوا أنفسهم أيضا فتركوا ما رجحوا به ها هنا من تغليب رواية من باشر على رواية من لم يباشر في قول أنس أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبتي تمس ركبته وأنا إلى جنبه رديف لأبي طلحة وهو عليه السلام يقول لبيك عمرة وحجا لبيك عمرة وحجا وفي قول البراء بن عازب إذ يقول سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفية حجه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إني سقت الهدي وقرنت وفي قول حفصة أم المؤمنين له لم تحل من عمرتك فصدقها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وبين عليها لم فعل ذلك فتركوا ما سمع أنس بن مالك من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه لكلام عن عائشة لم تدع أنها سمعته وقد اضطرب عنها أيضا فيه فروي عنها مثل ما قال أنس والبراء وحفصة رضي الله عن جميعهم ولكلام عن جابر لم يدع أنه سمعه وهو مع ذلك أيضا يحتمل التأويل وقد اضطرب عنه أيضا في ذلك ولا شك عند ذي عقل أنه عليه السلام أعلم بأمر نفسه من جابر وعائشة وأن أنسا

والبراء وحفصة الذين ذكروا أنهم سمعوا من لفظه صلى الله عليه وسلم ذلك وباشروه يقول ذلك أيقن من جابر فيما لم يدع أنه سمعه ولكن هكذا يكون من اعتقد قولا قبل أن يعتقد برهانه {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قولا لم يختلف فيه والآخر فعلا مختلفا فيه ومثلوا ذلك برواية عثمان رضي الله عنه لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب وبالرواية في نكاح ميمونة مرة بأنه عليه السلام كان حلالا ومرة بأنه عليه السلام كان محرما قال علي وهذا لا معنى له لأن العدل إذا روى شيئا قد بينا أنه لا يبطله خلاف من خالفه ولا كثرة من خالفه وليس العمل في الأخبار كدراهم قمار تلقى درهم بدرهم ويبقى الفضل للغالب لكن خبر واحد يستثنى منه أخبار كثيرة ويستثنى هو من أخبار كثيرة أو يؤخذ به إذا كان زائدا عليها أو يؤخذ بها إن كانت زائدة عليه لأن قائلها كلها وقائل ذلك واحد أو فاعلها وفاعله أو قائلها وفاعله أو فاعلها وقائله واحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن واحد هو الله عز وجل وليس تكرار قوله بموجب منه ما لم يكن يجب لولا تكراره وتركه تكرار ما لم يكرر لا يخرج ما لم يكرر عن وجوب الطاعة له وإذا قال القول مرة واحدة فقد لزم فرضا كما لو كرره ألف مرة ولا مزيد وإذا فعل الفعل مرة واحدة فالفضل في الائتساء به عليه السلام فيه كما لو فعله ألف مرة ولا مزيد ولا فرق ولم يخص الله تعالى إذا أمرنا بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما كرر دون ما لم يكرر بل ألزمنا الطاعة لأمره وأمره مرة يسمى أمرا كما لو كرره ألف مرة كل ذلك يقع عليه اسم أمر ولا خص لنا تعالى إذا حضنا على الائتساء بنبيه صلى الله عليه وسلم ما فعله مرات دون ما فعله مرة ولا ما فعله مرة

دون ما فعله مرات بل إذا فعل عليه السلام الفعل مرة فقد وقع عليه اسم أنه فعله ألف ألف مرة كل ذلك يقع عليه اسم فعل ومن قال غير هذا فقد تعدى حدود الله عز وجل وشرع ما لم يأذن به الله عز وجل وقفا ما لا علم له به واستحق اسم الظلم والوعيد وبالله تعالى نعتصم ونسأل أيضا من أتى بهذا الهوس فنقول له إذا سقط عندك ما صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله مرة ثم لم يفعله بعدها ولا نهى عنه بأنه لم يعد إليه فما تقول فيما صح أنه عليه السلام فعله مرتين ثم لم يعد إليه ولا نهى عنه فإن تركه من أجل ترك العود سألناه عما فعله ثلاث مرات ثم لم يعد إليه ولا نزال نزيده مرة بعد مرة حتى يبدو سخف قوله إلى قول إلى كل ذي فهم أو يترك قوله الفاسد ويرجع إلى الحق قال علي وإنما أخذنا بالمنع من نكاح المحرم برواية عثمان رضي الله عنه لأنها زائدة على معهود الأصل لأن الأصل إباحة النكاح على كل حال بقوله تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} فجاء النهي من طريق عثمان من أن ينكح المحرم فتيقنا ارتفاع الحالة الأولى بلا شك واستثنينا النهي حالة الإحرام عن النكاح من جملة العموم بإباحة النكاح وشككنا هل نسخ هذا النهي بعد وجوبه أو لا فلم يجز لأحد ترك ما أيقن وجوبه بظن لم يصح فصح يقينا لا مرية فيه أن حكم حديث ابن عباس في نكاح ميمونة قد نسخ وبطل بلا شك ومن ادعى عود المنسوخ وبطلان الناسخ فقد كذب وأفك ثم حتى لو شككنا هل نسخ هذا النهي بعد وجوبه أو لا لم يجز لأحد ترك ما أيقن وجوبه بظن ولم يصح وحتى ولو صح قول ابن عباس أنه نكحها وهو محرم دون أن تخبر ميمونة على أنه عليه السلام نكحها وهو محرم لما وجب بذلك ترك ما قد تيقناه من النهي عن نكاح المحرم الناسخ للإباحة المتقدمة لأمر لا ندري

أقبله كان أم بعده وترك اليقين للشك وتغليب الظن على الحقيقة باطل وحرام لا يحل وهذا ما لا يخيل على ذي لب وبالله تعالى التوفيق وأيضا فحتى لو صح أن نكاحه عليه السلام ميمونة رضي الله عنها كان حرما وأنه كان بعد نهيه عن نكاح المحرم لما كان ذلك مبيحا لإنكاح المحرم غيره ولا لخطبته على نفسه وعلى غيره ولكان نكاح المحرم حينئذ منسوخا مستثنى من النهي الوارد عن نكاحه وإنكاحه وخطبته ولكان باقي الحديث واجبا لازما لا يحل مخالفته وهذه كلها وجوه لائحة واضحة والحمد لله رب العالمين وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما اختلف على راويه فيه والآخر لم يختلفوا على راويه فيه ومثلوا ذلك بحديث ابن عمر فإن زادت الإبل على عشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون وبحديث علي فإن زادت الإبل على عشرين ومائة واحدة ففي كل أربعين بنت لبون وفي خمسين حقة قال علي وهذا بين ليس من أجل الاختلاف فقد أبطلنا ذلك في الفصل الذي قبل هذا ولكن لأن حديث ابن عمر هو الزائد حكما على حديث علي رضي الله عنهما وقالوا أيضا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد قيل فيه إنه من كلام الراوي ولم يقل ذلك في الآخر فأخذ بالذي لم يقل ذلك فيه ومثلوا بحديث عتق الشقص الذي أحدهما من طريق ابن عمر دون أن يكون فيه ذكر الاستسعاء والآخر من طريق أبي هريرة وفيه ذكر الاستسعاء قالوا وقد قيل إن الاستسعاء من لفظ سعيد بن أبي عروبة لأن شعبة وهماما روياه عن قتادة ولم يذكر ذلك فيه وقد قيل إنه من لفظ قتادة

قال علي وهذا خطأ قد تابع سعيدا على ذكر الاستسعاء جرين بن حازم الأزدي وأبان بن يزيد العطار ويزيد بن زريع وحجاج بن حجاج وموسى بن خلف كلها لم يذكر فيه الاستسعاء عن قتادة مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالأخذ بالاستسعاء واجب لا يجوز تركه لأنه حكم زائد ثابت وليس في حديث ابن عمر ما يضاده ولا ينافيه وإنما فيه فقد عتق منه ما عتق ولا يصح ما زاد فيه بعضهم من قوله وقد رق ما رق ولا أتى ذلك من طرق تصح أصلا قال علي وتناقض في هذا الخبر أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة تناقضا فاحشا فجعل أصحاب أبي حنيفة ذكره عليه السلام السائمة مسقطا للزكاة عما في حديث الآخر من عموم الزكاة في جميع الغنم ولم يجعلوا قوله عليه السلام في حديث ابن عمر فقد عتق منه ما عتق موجبا لإرقاق سائره وقد كان يجب أن يطلبوا لقوله عليه السلام فقد عتق منه ما عتق فائدة تنبىء أن ما لم يعتق منه لم يعتق كما قالوا في السائمة ولم يجعل أصحاب مالك ذكر السائمة مسقطا للزكاة في غير السائمة بالعموم الذي في حديث ابن عمر في ذكره الغنم وجعلوا قوله عليه السلام فقد عتقوا منه ما عتق مسقطا لعتق باقيه المذكور في حديث أبي هريرة بالاستسعاء وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما اجتمع فيه الأمر والفعل وانفرد الآخر بأحدهما فيكون الذي اجتمعا فيه أولى ومثلوا ذلك بما روي من أنه عليه السلام سعى وأمر بالسعي بين الصفا والمروة وبما روي من قوله عليه السلام الحج عرفة قال علي وهذا لا معنى له لأن الحديث الذي فيه إيجاب السعي إنما صح من طريق أبي موسى وهو زائد على ما روي من أن الحج عرفة فوجب الأخذ بالشريعة الزائدة وليس في حديث الحج عرفة ما يمنع من وجوب

الإحرام والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بمزدلفة قال علي وقد تناقضوا ههنا فأوجبوا السعي فرضا ولم يسقطوا وجوبه لما روي من أن الحج عرفة ولم يوجبوا الوقوف بمزدلفة وذكر الله عز وجل فيها وقد جاء النص الصحيح من القرآن والسنة بإيجاب ذلك فرضا فأما القرآن فقوله تعالى {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذآ أفضتم من عرفات فذكروا لله عند لمشعر لحرام وذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن لضآلين} وأما السنة فقوله عليه السلام لعروة بن مضرس من أدرك الصلاة ههنا يعني بمزدلفة مع الناس والإمام فقد أدرك وإلا فلم يدرك أو كما قال عليه السلام وتحكم أصحاب التقليد وأهل القياس أكثر من أن يحصيه إلا خالقهم الذي أحصى عدد القطر وورق الشجر ومكايل البحار لا إله إلا هو وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يوافقه عمل أهل المدينة قال علي وهذا باطل وقد أفردنا له فصلا بعد كلامنا هذا في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق ومثلوا ذلك بأخبار رويت في الأذان والإقامة قال علي ولا يصح في ذلك خبر مسند إلا حديث أنس بن مالك رضوان الله عليه أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة وبه نأخذ وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد علق الحكم فيه بالاسم ويكون الآخر قد علق الحكم فيه بالمعنى فيكون الذي علق الحكم فيه بالمعنى أولى قال علي وهذا لا معنى له لأنها دعوى بلا برهان وإذ لو عارضهم معارض فقال بل الذي علق فيه الحكم بالاسم أولى لما انفصلوا منه ومثلوا ذلك بقوله عليه السلام من بدل دينه فاقتلوه مع نهيه عليه السلام عن قتل النساء قال علي وإنما أخذنا بقتل النساء المرتدات لأن النهي عن قتل النساء عموم والأمر بقتل من غير دينه مخصوص من ذلك العموم على ما قدمنا قبل

من استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني وأيضا فقد اتفقت الأمة على أن نهيه عليه السلام عن قتل النساء ليس على ظاهره واتفقوا أنها إن زنت وهي محصنة أنها تقتل وإن قتلت مسلما أنها تقتل وأيضا فإن نهيه عليه السلام عن قتل النساء إنما هو داخل في جملة قوله دماؤكم عليكم حرام فهو بعض تلك الجملة واستثنى كل من ورد أمر بإيجاب قتله أو إباحته من باغ أو شارب خمر بعد أن حد فيها ثلاثا أو زان محصن أو قاتل عمدا أو مرتد وصح أن النهي عن قتل النساء إنما هو من الأسارى من أهل دار الحرب وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما منصوصا بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم والآخر إنما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم استدلالا قال علي وهذا لا إشكال فيه ولا يجوز أن يؤخد بشيء لم ينص عليه أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو يوقن بأنه عنه ببرهان لا يحتمل إلا وجها واحدا ولا يجوز أن يكون عن غيره إلا أن يكون إجماع في شيء ما فيؤخذ به والإجماع أيضا راجع إلى التوقف منه عليه السلام لا بد من ذلك قال علي ومثلوا ذلك بالتشهد المروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يعلمه الناس وهو على المنبر وبالتشهد المروي عن ابن عباس وعائشة وأبي موسى وابن مسعود مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال علي وليس في تعليم عمر رضي الله عنه الناس التشهد على المنبر ما يدل على أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد نهى عمر رضوان الله عليه وهو على المنبر عن المغالاة في مهور النساء وعلم الناس ذلك ولا شك عند أحد في أن نهيه عن ذلك ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك من اجتهاد عمر فقط وقد أقر رحمه الله بذلك في ذلك الوقت ورجع عن النهي عنه إذ ذكر أن نهيه مخالف لما في القرآن وأما التشهدات المروية عن ابن عباس وعائشة وابن مسعود وأبي موسى رضوان الله عليهم فهي التي لا يحل تعديها

لصحة سندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد خالف تشهد عمر الذي علمه الناس على المنبر ابنه عبد الله وابن مسعود وابن عباس وعائشة وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم وقد شهدوه يخطب به وغاب عنهم من أنه حجة إجماعية ما ادعى هؤلاء لأنفسهم من فهمه ومن أنه يغيب عنهم وهذا كما نرى وقالوا ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد ثبت فيه الخصوص والآخر لم يثبت فيه الخصوص فغلب الذي لم يثبت فيه الخصوص على الذي ثبت فيه ومثلوا ذلك بآية النهي عن الجمع بين الأختين مع الآية التي فيها إباحة ذلك بملك اليمين قال علي الآية التي فيها إباحة ملك اليمين أكثر معاني من الآيات التي فيها النهي عن وطء الحريمة بنسب أو صهر ومن التي فيها النهي عن الجمع بين الأختين والأم وابنتها والمرأة المشتركة ووطء الحائض والصائمة والمحرمة والزانية ووطء الذكور المماليك والبهائم المملوكة والمشتركة فوجب استثناء كل ذلك لأنه أقل معاني مما أبيح بملك اليمين فخرج كل ما ذكرنا بالتحريم وتبقى الآية المسلمة التي ليس فيها شيء من الصفات التي ذكرنا على الإباحة وكذلك الآية التي فيها {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} أكثر معاني من الآيات التي ذكرنا فوجب استثناء كل ذلك بالتحريم لأنه أقل معاني مما أبيح بالنكاح فنكون على يقين من استعمالنا جميع النصوص الواردة وأننا لم نخالف منها شيئا ولا تناقضنا في تخصيص ما خصصنا واستثنائنا ما استثنينا وبالله تعالى التوفيق وقالوا ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما ورد جوابا والآخر ورد ابتداء فنغلب الذي ورد جوابا على الذي ورد ابتداء

قال علي هذا خطأ لأنه قبل كل شيء تحكم بلا برهان والبرهان أيضا على بطلان هذا الحكم قائم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معلما وقد سئل عن شيء فأجاب عن أشياء كثيرة وقد سئل عن شحوم الميتة فأجاب عليه السلام عنها ولعن اليهود ونهى أيضا في ذلك الحديث عن بيع ما حرم من الميتات ولم يكن سئل عن كل ذلك ومثل هذا كثير ولا فرق بين ما ورد قوله عليه السلام جوابا وبين ما ورد ابتداء وكل ذلك محمول على عمومه وعلى ما فهم من لفظه لا يحل أن يقتصر به على بعض ما يقع عليه ذلك اللفظ دون بعض إلا بنص أو إجماع وكذلك القول فيما ورد من القرآن جوابا عن سؤال متقدم وقد سئل عن اليتامى فأجاب تعالى فيهم ثم قال عز وجل {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} فأخبرهم عن النساء زائدا على ما سألوا عنه فقالوا ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما من رواية من يختص بذلك المعنى والآخر برواية من لا يختص به ومثلوا ذلك برواية عائشة رضي الله عنها في الغسل من الإكسال على خبر من روى أن لا غسل منه قال علي وهذا باطل لأن الراوين أن لا غسل منه مختصون بالوطء لنسائهم كاختصاص النساء ولا فرق ولأن كل عالم نفر للتفقه فهو مختص بالسؤال عن الحيض كسؤال المرأة عنه ولا فرق وحرص العالم على أن يتعلم كحرص الممتحن بالنازلة التي يسأل عنها ولا فرق وإنما أوجبنا الغسل من الإكسال لحديث أبي هريرة لأنه زائد على سائر الأحاديث لأن الأصل أن لا غسل على أحد وجاء حديث أبي هريرة بإيجاب الغسل فكان شريعة واردة زائدة بيقين ثم لم يصح أنها نسخت ولو لم يكن في ذلك إلا حديث عائشة رضي الله عنها لما وجب به الغسل لأنه ليس فيه إلا فعلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا وليس في هذا الحديث إيجاب الغسل وإنما فيه أن الغسل

فضل فقط وقد روي وصح أنه عليه السلام كان ربما اغتسل بين كل وطأتين وليس ذلك واجبا فلو لم يكن هنا إلا قول عائشة رضي الله عنها لكان اغتساله عليه السلام من الإكسال كاغتساله بين كل وطأتين ولا فرق وإنما هو عمل يؤجر من ائتسى به عليه السلام ولا يأثم من لم يفعله غير راغب عنه وبالله تعالى التوفيق وقالوا نرجح أحد الخبرين على الآخر بأن يكون أحد المختلفين استعمل كل واحد من الخبرين في موضع الخلاف فيكون أولى ممن لا يستعملها ومثلوا ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم كل امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل مع قوله عليه السلام الأيم أحق بنفسها من وليها قال علي وهذا الذي ذكروا لا معنى له بوجه من الوجوه هو كلام ساقط زائف لأنه ليس عمل أحد الخصمين حجة على الآخر إلا أن يأتي ببرهان يصحح عمله وأما الحديثان اللذان ذكروا فإنما حملناهما على ظاهرهما فأبطلنا نكاح كل امرأة نكحت بغير إذن مواليها ثيبا كانت أو بكرا على عموم الحديث وظاهر لفظه المفهوم منه في بطلان نكاحها بغير إذنهم وهو الذي لا يحل لأحد تعديه وقلنا الأيم أحق بنفسها من وليها في اختيار نكاح من شاءت والإذن فيه أورده فلا اعتراض لوليها في ذلك عليها ولا على كل بالغ من بكر ذات أب أو يتيمة بأحاديث أخر وآي مضافة بعضها إلى بعض فاستثنينا الإنكاح وحده وهو المنصوص عليه من سائر أحوالها لأنه الأخص فاستثني من الأعم وكانت أحق بنفسها في سائر أمورها كلها من وليها حاشا عقد الإنكاح وحده وهذا هو لفظ الحديثين نصا بلا مزيد وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما يعضده قول الأئمة والآخر يعضده قول غيرهم فيكون الذي أيده قول الأئمة أولى ومثلوا لذلك بالتكبير في العيدين سبعا في الأولى وخمسا في الثانية وبما روي من طريق حذيفة من

تكبير ثلاث في الأولى قبل القراءة وأربع في الثانية بعد القراءة قال علي وهذا لا معنى له لما قد أبطلناه في باب إبطال الاحتجاج بعمل أهل المدينة من هذا الباب وبما قد أبطلناه من القول بالتقليد في باب التقليد من هذا الكتاب وإنما أخذنا بتكبير سبع وخمس لأنه فعل في الخير زائد وذكر لله تعالى ولأن الخبر المروي في ذلك لا بأس به وأما خبر حذيفة فليس يقوم بسنده حجة لما سنبينه في أمر موضعه من الكلام في أشخاص الأحاديث إن شاء الله وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون يميل إليه الأكثر من الناس قال علي وهذا لا معنى له لما سنبينه في باب الإجماع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ولأن كثرة القائلين بالقول لا تصحح ما لم يكن صحيحا قبل أن يقولوا به وقلة القائلين بالقول لا تبطل ما كان حقا قبل أن يقول به أحد وقد بينا هذا جدا في باب إبطال قول من رجح الخبر بعمل أهل المدينة في آخر هذا الباب وأيضا فإن القول قد يكثر القائلون به بعد أن كانوا قليلا ويقلون بعد أن كانوا كثيرا فقد كان جميع أهل الأندلس على مذهب الأوزاعي رحمه الله ثم رجعوا إلى مذهب مالك وقد كان جمهور أهل إفريقية ومصر على مذهب أبي حنيفة وكذلك أهل العراق ثم غلب على إفريقية مذهب مالك وعلى مصر والعراق مذهب الشافعي فيلزم على هذا أن القول إذا كثر قائلوه صار حقا وإذا قلوا كما ذكرنا عاد باطلا وهذا هو الهذيان نفسه وقد احتج نصراني على مسلم بكثرة أهل القسطنطينية وأنهم لم يكونوا لتجتمع تلك الأعداد على باطل وهذا لا يلزم لمن رجح الأقوال بالكثرة ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول بل الحق حق وإن لم يقل به أحد والباطل باطل ولو اتفق عليه جميع أهل الأرض قال علي ويكفي من كشف غمة من اغتر بالكثرة أن نقول له لا تغتر بكثرة

من ترى من أصحاب المذاهب فإنما هم ثلاثة رجال فقط مالك والشافعي وأبو حنيفة ولا مزيد فقد حصلنا من كل ما نرى على ثلاثة رجال فقط وبالله تعالى التوفيق وهم يخالفون هذا كثيرا لأنهم أخذوا بقول زيد في إبطال الرد على ذوي الأرحام وتركوا قول عمر وعثمان وعائشة وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين في ذلك وأخذوا بقول من قال إن القرء هو الطهر وإنما قال به نحو ثلاثة من الصحابة والجمهور على أنه الحيض وقد ترك أيضا أصحاب أبي حنيفة قول الجمهور في أشياء كثيرة وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يعضد أحدهما خبر مرسل قال علي وهذا لا معنى له لأن المرسل في نفسه لا تجب به حجة فكيف يؤيد غيره ما لا يقوم بنفسه وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون راوي أحدهما أشد تقصيا للحديث ومثلوا ذلك بحديث جابر يعني الحديث الطويل في الحج قال علي هذا لا معنى له لأن من حفظ أشياء كثيرة فليس ذلك بمانع أن يحفظ غيره بعض ما غاب عنه مما جرى في تلك الأشياء التي حفظ أكثرها وقد سمع أنس والبراء وحفصة من فم النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحجة ما لم يسمع جابر وثقفوا ما لم يثقفه جابر فالواجب قبول الزيادة التي عند هؤلاء على ما عند جابر وقبول الزيادة التي عند جابر على ما عند هؤلاء فنأخذ بروايتهم كلها ولا نترك منها شيئا وكلهم عدل صادق وهذا الذي لا يجوز غيره وقالوا نرجح أحد النصين بأن يكون أحدهما مكشوفا ويكون الآخر فيه حذف فنأخذ بالمكشوف ومثلوا ذلك بقوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} مع قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب}

قالوا لأن هذه الأخيرة فيها حذف كأنه قال تعالى فإن أحصرتم فأحللتم قال علي وهذا الذي ذكروا خطأ لأن آية الإحصار أخص من آية الإتمام لأن المحصرين هم بعض المعتمرين والحجاج فواجب ضرورة أن يستثنوا منهم مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من قوله عليه السلام من كسر أو عرج فقد حل والحذف الذي ذكروا لا يعتد به إلا جاهل لأن ما تيقن فقد يحذف في كلام العرب كثيرا عن ذلك قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا} فلا خلاف بين أحد من الأمة في أن في هذه الآية حذفا كأنه قال تعالى أو على سفر فأحدثتم لأن كون المرء مريضا أو مسافرا لا يوجب عليه وضوءا إلا أن يحدث ومن ذلك قوله تعالى {لا يؤاخذكم لله بللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم لأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحفظوا أيمانكم كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تشكرون} لا يختلف مسلمان في أن في هذه الآية حذفا وأن معناه إذا حلفتم فحنثتم أو أردتم الحنث كلا المعنيين قد قال به قوم لأن الحلف لا يوجب كفارة إلا بالحنث أو بإرادته ومن ذلك قوله عز وجل {وقطعناهم ثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينآ إلى موسى إذ ستسقاه قومه أن ضرب بعصاك لحجر فنبجست منه ثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم لغمام وأنزلنا عليهم لمن ولسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} {فأوحينآ إلى موسى أن ضرب بعصاك لبحر فنفلق فكان كل فرق كلطود لعظيم} لا خلاف عند ذي عقل في أن في كلتا الآيتين حذفا وأنه كأنه تعالى قال فضرب فانفلق وضربت فانبسجت فمثل هذا الحذف لا يتعلل به في كلام الله تعالى وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وفي كلام كل متكلم إلا جاهل مظلم الجهل لا علم له بمواقع اللغة وهو كالمذكور الذي لم يحذف سواء بسواء ومن ذلك أيضا قوله {كل من عليها فان} ونحن نقول في كل وقت قال تعالى وقال عليه السلام ولا يذكر اسم الله تعالى في ذلك ولا اسم نبيه صلى الله عليه وسلم اكتفاء منا بفهم السامع وأن ذلك لا يخيل

عليه البتة وكذلك قال تعالى {فقال إني أحببت حب لخير عن ذكر ربي حتى توارت بلحجاب} ولم يذكر الشمس اكتفاء بأن السامع قد علم المراد ضرورة وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما ورد في لفظه حكمه والآخر لم يرد في لفظه حكمه ومثلوا ذلك بقوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} وقوله عليه السلام أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وقوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق قال علي ليس في قوله عليه السلام ورفع القلم عن ثلاث ما يوجب سقوط الحقوق عن أموالهم وإنما فيه سقوط العبادات عن أبدانهم وقد قالوا بإخراج الديات والأروش وزكاة ما خرج من الأرض من مال الصبي والمجنون وهو داخل في جملة الأغنياء وأسقطوا عنه زكاة الناض تحكما بلا برهان فهلا قاسوا وجوب زكاة الناض عليه بوجوب زكاة ما أخرجت ثماره وبوجوب زكاة الفطر عليه وهم يدينون الله تعالى بالقياس ويعصون أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن هكذا يتناقض من اتبع السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله وقالوا نرجح أحد النصين بأن يكون مؤثرا في الحكم والآخر غير مؤثر ومثلوا ذلك بالاختلاف في زوج بريرة أحرا كان أم عبدا قال علي وهذا لا يعقل لأن التأثير الذي ذكروا تحكم بلا دليل وليس في كونه عبدا ما يمنع من تخييرها تحت الحر وحتى لو اتفق النقلة كلهم على أنه كان عبدا لما أوجب ذلك ألا تخيير تحت حر إذا جاء ما يوجب ذلك وإنما نص النبي صلى الله عليه وسلم على تخيير الأمة المتزوجة إذا أعتقت ولم يقل عليه السلام إنما خيرتها لأنها تحت عبد فوجب بالنص تخيير كل أمة متزوجة

إذا أعتقت ولا نبالي تحت من كانت وليس من قال إنها خيرت لأنها كانت تحت عبد بأولى ممن قال بل لأنها كانت أسود وكل هذا لا معنى له فكيف ولا اختلاف في الروايات وكلها صحيح فالذي روى أنه كان عبدا أخبر عن حاله في أول أمره والذي روى أنه كان حرا أخبر بما صار إليه وكان ذلك أولى لأنه كان عنده علم من تحريره زائدا على من لم يكن عنده علم ذلك وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون منقولا من طرق بألفاظ شتى والآخر لم ينقل إلا من طريق واحد ومثلوا ذلك بحديث وابصة بن معبد الأسدي في إعادة المنفرد خلف الصف وبحديث أبي بكرة في تكبيره دون الصف وحديث ابن عباس في رده عليه السلام إياه عن شماله إلى يمينه وحديث صلاة جدة أنس منفردة خلف النبي صلى الله عليه وسلم قال علي أما كثرة الرواة فقد قدمنا إبطال الاحتجاج بها لأنهم يتركون أكثر ما نقله أهل الأرض برهم وفاجرهم وهو ظاهر القرآن لما نقله واحد فكيف يجوز لمن فعل ذلك أن يغلب ما نقله ثلاثة على ما نقله واحد وليس في التناقض وقلب المعقول أكثر من هذا وأما الأحاديث التي ذكروا فلا حجة لهم فيها وبعضها حجة عليهم أما حديث أبي بكرة فقد نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك نصا وقال له زادك الله حرصا ولا تعد فنهاه عن العودة إلى التكبير خلف الصف وحده ولم يأمره عليه السلام بإعادة الصلاة قال قوم لأن أبا بكرة جهل الحكم في ذلك قبل أن يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن فعله ذلك لا يجوز فأعلمه بنهيه إياه عن أن يعود لذلك كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أساء الصلاة في حديث رافع بالإعادة مرة بعد مرة فلما قال له يا رسول الله والله ما أدري غير هذا فعلمني فعلمه ولم يأمره حينئذ الإعادة ولو أن أبا بكرة

يعود لما نهاه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لبطلت صلاته بلا شك لأنه كان يكون مؤديا لصلاة لم يؤمر بها غير الصلاة التي أمر بها بحكم ضرورة العقل وقد قال عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن خبر أبي بكرة موافق لمعهود الأصل في إباحة الصلاة حيث شاء وأنه حينئذ ثبت الأمر بالمنع من الصلاة خلف الصف فجازت صلاته الكائنة قبل ورود الأمر ولزم النهي عنه في المستأنف ولأن النهي عن الصلاة خلف الصف أمر وارد وحكم زائد وشرع حادث بلا شك فهو ناسخ للإباحة المتقدمة بيقين وأما الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بعد قوله ارجع فصل فإنك لم تصل فإن الأمر بالصلاة ثابت عليه ولا بد ولازم حتى يؤديه كما أمره عليه السلام وليس في ذلك الخبر أنه عليه السلام أسقط عنه لجهله ما كان أمره به من الصلاة ما دام وقتها قائما فلا يجوز أن يسقط أمر متيقن بظن كاذب وبالله تعالى التوفيق وأما حديث جدة أنس بن مالك فإنما ذلك حكم النساء وهكذا نقول إن حكم النساء في ذلك مخالف لحكم الرجال وإن حكم المرأة والنساء ألا يصلين مع رجل في صفه وهذا ما لا خلاف فيه فأخذنا بحديث جدة أنس بن مالك في النساء وبحديث وابصة في الرجال لأنه جاء منصوصا في رجل صلى خلف الصف فأخذنا بكلا الحديثين وأطعنا أمره عليه السلام في جميع الوجهين ولم نعص شيئا من أحكامه عليه السلام ولا ضربنا بعضها ببعض ولا أبطلنا بعضها ببعض ولم نجعل فيها اختلافا وليس من ترك حديث وابصة لحديث جدة أنس بأولى من أن يكون مصيبا ممن ترك حديث جدة أنس لحديث وابصة فأبطل ذلك على المرأة كإبطاله على الرجل وكل ذلك لا يجوز وليس أحد الحديثين أولى بالطاعة من الآخر والغرض أن يستعملا جميعا فيما ورد فيه

فيؤمر الرجل الذي يصلي خلف الصف وحده بالإعادة ولا تؤمر المرأة وأما حديث ابن عباس فإنه كبر مع النبي صلى الله عليه وسلم منفردا في مكان لا يصلح له الوقوف فيه وهو جاهل بذلك غير عالم بالسنة فيه فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المكان الذي حقه أن يقف فيه ولم يبطل ما عمل متأولا بغير علم وكذلك نقول في الرجل المأمور بالإعادة إنه لولا أن النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد تقدم عن ذلك لما أمر بالإعادة وقد اعترض بعضهم باعتراضين غثين فقالوا لعل أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ألا يعود إنما كان من سعيه بالكد إلى الصلاة فقيل لهم نعم كذلك نقول إنه عليه السلام نهاه بقوله لا تعد عن كل عمل عمله على غير الواجب وكان من أبي بكرة رضي الله عنه في ذلك الوقت أعمال منهي عنها أحدها سعيه إلى الصلاة والثاني تكبيره دون الصف والثالث مشيه في الصلاة فعن كل ذلك نهاه عليه السلام بقوله ولا تعد لا سيما وقد روينا نص قولنا بلا إشكال كما حدثنا عبد الله بن ربيع قال ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن جعفر ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال السلمي حدثنا ملازم بن عمرو الحنفي عن عبد الله بن بدر عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه علي بن شيبان قال صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى الصلاة ورجل فرد يصلي خلف الصف فوقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قضى الرجل صلاته ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل صلاتك فإنه لا صلاة لفرد خلف الصف والاعتراض الثاني أن قالوا لعل المأمور بالإعادة إنما أمره عليه السلام بذلك لعمل ما غير انفراده في الصف فقيل لهم هذا تكهن لا دليل عليه

والراوي الذي نقل ذلك من الصحابة رضي الله عنهم إنما أخبر أن سبب أمره بالإعادة كان انفراده ولم يذكر غير ذلك وقد قال تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} ولو ساغ هذا لساغ لغيرهم أن يقول لعل ما روي من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وشم في الوجه ومن غير منار الأرض إنما لعنه لأمر ما غير هذين الفعلين ولعله عليه السلام جلد الأمة التي زنت ورجم ماعزا ورجم الغامدية لغير الزنى ولشيء ما لم يذكر لنا ومثل هذا من الاعتراض فإنما هو عناد ظاهر وجهل شديد وإن العجب ليطول من أصحاب أبي حنيفة الذين يأمرون المرأة إذا صلت مع الرجل إلى جنبه أن يعيد الرجل ومن أصحاب مالك الذين يأمرون الإمام إذا صلى في مكان مرتفع والناس تحته أن يعيد فإن سئلوا عن الحجة في ذلك قالوا لأنهما صليا حيث لم يبح لهما ولا يأمرون المنفرد خلف الصف والمصلي في مكان مغصوب بالإعادة وكلاهما قد صلى على الحقيقة في مكان لم يبح له بلا شك وأما الإمام المصلي في المكان المرتفع والرجل الذي صلت المرأة إلى جنبه بصلاته وهو غير راض بذلك فما صليا إلا كما أمر وكما أبيح لهما فلو عكس هؤلاء القوم أكثر مذاهبهم لأصابوا فكيف وقد صح نص قولنا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما حدثنا عبد الله بن ربيع قال حدثنا محمد بن إسحاق بن السليم حدثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود السجستاني ثنا حميد بن مسعدة أن يزيد بن زريع حدثهم قال ثنا سعيد بن أبي عروبة عن زياد الأعلم قال أنبأنا الحسن وهو البصري أن أبا بكرة حدثه قال إنه دخل المسجد ونبي الله صلى الله عليه وسلم راكع فركعت دون الصف فقال النبي صلى الله عليه وسلم زادك الله حرصا ولا تعد قال علي وحتى لو صح هذا الترجيح الفاسد الذي ذكرنا في أول كلامنا هذا لكان حديث وابصة هو الذي يجب أن يؤخذ به لأن الأحاديث الواردة

من طرق جمة وألفاظ شتى في تسوية الصفوف وإيجاب ذلك والوعيد الشديد على خلافه مؤيدة كلها لحديث وابصة وموافقة له ومبطلة لصلاة من لم يقم الصف من الرجال وكل من صلى وحده منفردا خلف الصف فلم يقم الصف وتلك الأحاديث التي ذكرناها رواها جابر بن سلمة وأبو مسعود البدري وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك والنعمان بن بشير وأبو هريرة من طرق في غاية الصحة وروي ذلك أيضا من طريق ابن عمرو وأبي مالك الأشعري والعرباض بن سارية والبراء بن عازب كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا أن حديث أبي بكر موافق لحديث وابصة فثبت حديث وابصة لا معارض له وصار بكثرة من ذكرنا من رواة معناه والحكم الواجب فيه منقولا نقل التواتر موجبا للعلم الضروري لأنه رواه اثنا عشر صاحبا منهم الكوفي والبصري والرقي والشامي والمدني من طرق شتى وهذه صفة نقل الكافة وبالله تعالى التوفيق وقالوا نرجح أحد النصين بأن يكون أحدهما أبعد من الشناعة ومثلوا ذلك بقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} الآية مع قوله عز وجل {يا أيها لذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم لموت حين لوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين} قال علي وهذا لا معنى له ولا شناعة إلا المخالفة لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم والتحكم بالآراء الفاسدة على ما أمرنا به فهذه هي الشنعة التي لا شنعة غيرها وقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم لموت حين لوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين} مستثنى من آية النهي عن قبول خبر الواحد الفاسق فلا يقبل فاسق أصلا إلا في الوصية في السفر فقط فإنه يقبل فيها كافران خاصة دون سائر الفساق ولا شنعة أعظم ولا أفحش ولا أقبح ولا أظهر من بطلان قول من قال {يا أيها لذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم لموت حين لوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين} أي من غير قبيلتكم تعالى الله عن هذا الهذر علوا كبيرا وليت شعري أي قبيلة خاطب

الله عز وجل بهذا الخطاب خاصة دون سائر القبائل وقد قال تعالى في أول الآية {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} وما علمنا الذين أمنوا قبيلة بعينها بل في الذين آمنوا عرب وفرس وقبط ونبط وروم وصقلب وخزر وسودان حبشة وزنج ونوبة وبجاة وبربر وهند وسند وترك وديلم وكرد فثبت بضرورة لا مجال للشك فيها أن غير الذين آمنوا هم الذين كفروا ولا ينكر ذلك إلا من سفه نفسه وأنكر عقله وقال على ربه تعالى بغير علم ولا برهان ولعمري لقد كان ينبغي أن يستحي قائلمن غيركم من غير قبيلتكم من هذا التأويل الساقط الظاهر عواره الذي ليس عليه من نور الحق أثر والعجب يكثر من أصحاب أبي حنيفة الذين يقبلون اليهود والنصارى في جميع الحقوق بعضهم على بعض وقد نهاهم الله تعالى عن قبول الفاسقين ثم لا يقبلونهم في الوصية في السفر وقد جاء نص القرآن بقبولهم فيها وحسبنا الله وما عسى أن يقال في هذا المكان أكثر من وصف هذا القول البشيع الشنيع الفظيع فإن ذكره كاف من تكلف الرد عليه وبالله تعالى التوفيق وقالوا ونرجع بأن يكون الاشتقاق يؤيد أحد النصين ومثلوا ذلك بالشفق وادعوا أن اشتقاقه يؤيد أنه الحمرة قال علي ما سمعنا هذا في علم اللغة ولا علمناه ولا سمع لغوي قط أن الشفق مشتق من الحمرة وإنما عهدنا الشعراء يسمون الحمرة والبياض المختلطين في الجدود بالشفق على سبيل التشبيه فقط وإنما قلنا إن وقت العشاء الآخرة يدخل بمغيب الحمرة لأن الحمرة تسمى شفقا والبياض يسمى شفقا فمتى غاب ما يقع عليه اسم شفق من حمرة أو بياض فقد غاب الشفق ودخل وقتها الخبر في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو القول بالعموم والظاهر

وأما من قال حتى يغيب كل ما يسمى شفقا فقد خصص الحديث بلا معنى ولا برهان وادعى أن المراد بذلك بعض ما يسمى شفقا وهو البياض وأنه قد يغيب الشفق ولا يكون ذلك وقتا للعتمة وذلك مغيب الحمرة وهذا تخصيص للحديث بلا دليل وإنما بينا هذا لئلا يموه مموه فيقول لنا أنتم خصصتم الظاهر في هذا المكان ولئلا يدعوا أنهم قالوا بعمومه في هذا المكان وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما يضيف إلى السلف نقصا والآخر لا يضف إليهم ذلك فيكون الذي لا يضيف إليهم ذلك النقص أولى ومثلوا ذلك بمثال لا يصح فذكروا حديثين وردا في إعادة الوضوء من القهقهة في الصلاة وفي إسقاط الوضوء منها وكلا الحديثين ساقط لا يصح أحدهما رواه الحسن بن دينار وهو ضعيف وروي مرسلا من طريق أبي العالية وقد بينا أن المرسل لا تقوم به حجة والآخر رواه أبو سفيان عن جابر وأبو سفيان طلحة بن نافع ضعيف ولكنا نمثل في ذلك مثالا يصح وذلك الحديث المروي أن امرأة مخزومية سرقت فشفع فيها أسامة ألا تقطع يدها فأنكر عليه السلام على أسامة رضي الله عنه وقال له يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله تعالى وروي أيضا أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فشفع فيها أسامة فقال من رجح إحدى الروايتين بما ذكرنا محال أن يزجر النبي صلى الله عليه وسلم أسامة عن أن يشفع في حد ثم يعود لمثل ذلك فراموا أن يثبتوا بذلك أنها قصة واحدة وامرأة واحدة وأنها قطعت للسرقة لا لجحد العارية قال علي هذا لا معنى له ولا حجة فيه لأننا لم نقل إن أسامة رضي الله عنه أقدم على ذلك وهو يعلمه حدا وليس في الحديث زجر وإنما فيه تعليم

ولسنا ننكر على أسامة وغير أسامة جهل شريعة ما حتى يعلمه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قال في خبر ورد في سارقة وخبر ورد في مستعيرة إنها قصة واحدة فقد كان كابر وقال بغير برهان وقفا ما ليس له به علم وأما نحن فنقول يقينا بغير شك إن حال المستعيرة غير حال السارقة وإن العارية والجحود غير السرقة وإنهما قضيتان متغايرتان بلا شك ثم لسنا نقطع على أنهما امرأتان ولا على أنها امرأة واحدة لأن كل ذلك ممكن وقد يمكن ولو كانت امرأة واحدة أن تكون سرقت مرة فقطعت يدها ثم استعارت فجحدت فقطعت يدها الثانية والله تعالى أعلم وإنما نقول ما روينا وصحح عندنا ولا نزيد من رأينا ما لم نسمع ولا قام به برهان فنحصل في حد الكذب ونعوذ بالله من ذلك إلا أننا نقول إنا قد روينا بالسند الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد امرأة استعارت المتاع وجحدته فنحن نقطع يد كل مستعير جاحد إذا قامت عليه بذلك بينة أو علم بذلك الحاكم أو أقر هو بذلك ونقول قد روينا أنه عليه السلام قطع يد من سرق فنحن نقطع يد من سرق إذا ثبت عليه شيء مما ذكرنا هذا على أن حديث قطع المستعيرة قد روي من غير طريق عائشة رضي الله عنها بسند صحيح ليس فيه ذكر شفاعة أسامة ولا شيء مما في حديث السارقة وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ولهم ترجيحات فاسدة جدا والتي ذكرنا تستوعبها كلها وقد بينا سقوطها بالبراهين الواضحة وبتعري دعاويهم من الأدلة وعلى ذلك فكل ما رجحوا به في مكان ما فقد تركوه في أمكنة كثيرة وقد بينا الوجوه التي بها يرفع التعارض المظنون عن النصوص من القرآن والحديث بيانا لائحا والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

فصل فيمن قال لا يجوز تخصيص القرآن بالخبر والرد عليه

فصل فيمن قال لا يجوز تخصيص القرآن بالخبر والرد عليه قال علي قد بينا فيما قبل هذا بحول الله تعالى وقوته كيف يستثنى ما جاء في الحديث مما جاء في القرآن وما جاء في القرآن مما جاء في الحديث وما جاء في كل واحد منهما من خاص مما جاء فيهما من عام ووجه الأخذ بالزائد في كل ذلك وذكر تخبط من خالف تلك الطريقة في حيرة التناقض وغلبة الشكوك على أقوالهم وبقي من خبال قولهم شيء نذكره ههنا إن شاء الله تعالى وهو أن بعضهم رأى أن يرد بعض ما بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم مما قد أخذ بمثله فيما بين من المواضع فقال لا يجوز تخصيص القرآن بالخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد بينا فيما خلا أن القوم إنما حسبهم نصر المسألة التي بين أيديهم فقط بأي شيء أمكنهم وإن هدموا على أنفسهم ألف مسألة مما يحتجون به في هذه ثم لا يبالون إذا تناولوا مسألة أخرى أن يحققوا ما أبطلوا في هذه ويبطلوا ما حققوا فيها فهم أبدا كما ترى يحلونه عاما ويحرمونه عاما ولقد كان ينبغي لمن ترك قول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا} لحديث الوضوء بالنبيذ المسكر الحرام وهو لا يصح أبدا ولمن ترك قول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لقصاص في لقتلى لحر بالحر ولعبد بلعبد ولأنثى بلأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فتباع بلمعروف وأدآء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن عتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} فقال بل يتبعه بالضرب بالسياط والنفي في البلاد ومثل هذا كثير أن يستحي من أن يقول لا أخصص القرآن بالحديث الصحيح الذي نقله الثقات وإن العجب ليطول ممن أبى قبول خبر الواحد في الحكم باليمين مع الشاهد وفي تمام صيام الآكل ناسيا وفي التحريم بخمس رضعات وفي قضاء الصيام عمن مات وعليه صوم وفي ألا يحنط المحرم الميت وفي مئين من الأحكام ثم لا يستحي من أن يقول لا أجلد الزاني المحصن وقد جاء القرآن

بجلد كل زان ولم يخص محصنا من غيره فقال تعالى {لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين} ولم يخص تعالى من ذلك إلا الإماء والعبيد فقط فتركوا القرآن كما ترى والسنة الصحيحة من طريق عبادة في إيجاب الجلد على الزاني محصنا كان أو غير محصن لظن ظنوه في أن ماعزا رجم ولم يجلد وقد علمنا وجه قول المعتزلة لا نأخذ بالحديث إلا حتى نجد حكمه في القرآن وما علمنا وجها لقول من قال لا نأخذ بالقرآن حتى يأتي حكمه في الحديث وهذا هو نفس قول إخواننا وفقهم الله في هذا المسألة وإنما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجلد ماعزا من طريق ساقطة لا يقوم به حجة وقد فعل مثل ذلك أيضا بعضهم فسمع القرآن قد نزل بقوله تعالى {فإذا قرأت لقرآن فستعذ بلله من لشيطان لرجيم} فقالوا لا نستعيذ إذا قرأنا في الصلاة لأنه لم يأت خبر بإيجاب الاستعاذة فمرة يتركون الأخبار الصحاح لأنها لم تذكر أحكامها في القرآن ومرة يتركون القرآن لأن حكمه لم يأت به خبر فأين تطلب مذاهب هؤلاء القوم وكيف يستجيزون هذه العظائم الشنيعة التي لا تطرد مع خطئها وعدم الحجة عليها وقيام البرهان على بطلانها وقد اعترض بعضهم في ترك الاستعاذة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح القرآن بالحمد لله رب العالمين قال علي وهذا من غريب احتجاجهم وليت شعري متى قلنا لهم إن الاستعاذة قراءة يحتجون علينا بها وإنما قلنا لهم إن الاستعاذة قبل القراءة وبعد ما روي من التوجيه والدعاء أثر التكبير وأما استفتاح القراءة فبالحمد لله رب العالمين بلا شك ولا نقول غير ذلك قال علي فإن قالوا لنا أتقولون إن ماعزا جلده النبي صلى الله عليه وسلم وأنه عليه السلام كان يستعيذ قبل القراءة في الصلاة قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق

إنا نقول ونقطع أن الله عز وجل قد أمر بجلد كل زان على كل حال وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم على الزاني المحصن بالجلد مع الرجم وأنه عليه السلام لم يخالف ربه قط ولا شك عندنا في أن ماعزا جلد مع الرجم ولا ندري إن كان أمره بعد ورود النص بالجلد مع الرجم وقد يمكن أن يكون رجمه قبل نزول آية الجلد فقد روينا بأصح طريق أنه قيل لبعض الصحابة رضوان الله عليهم في رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصن والمحصنة أكان ذلك قبل نزول سورة النور أم بعد نزولها فقال لا أدري فصح قولنا وكذلك فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها وكذلك نقول أيضا إن الله عز وجل قد أمر كل قارىء بالاستعاذة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخالف أمر ربه قط ولا شك عندنا في وجوب الاستعاذة في الصلاة وقد استعاذ قبل القراءة جماعة من الصحابة روينا ذلك عنهم بالسند الصحيح وما روي إنكار ذلك عن أحد منهم ولا يبطل ما صح بقول القائل لعله نسخ ولا بأن يروى أنه عليه السلام كرره وكذلك إن كان أمرا فلا يبطل بألا يروى أنه عليه السلام فعله وقد بينا أن الأمر ساعة وروده يلزم ما لم يتيقن نسخه ولو كان الأمر لا يصح إلا بأن يكرر للزم مثل ذلك في التكرار وفي تكرار التكرار إلى ما لا نهاية له وللزم مثل ذلك في الأفعال فكان لا تصح

شريعة أبدا وهذا قول يؤدي إلى إبطال جميع الشرائع وإلى الكفر وليس الأمر الثاني بأوكد من الأول أصلا قال علي ثم نعكس عليهم هذا السؤال الفاسد فنقول لمن كان منهم مالكيا أتقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الزكاة من زيت الفجل ومن الفول والعلس ومن عروض التجارة وقد كان ذلك موجودا بالمدينة وكانت التجارة هي الغالبة على المهاجرين ومعاش جميع أهل مكة لا نحاشي منهم أحدا في أيامه عليه السلام وهل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في الثمار وقد كانت تتبايع على عهده بالمدينة بلا شك ونقول له إن كان حنفيا أتقول إنه عليه السلام أخذ الزكاة من القثاء والرمان والخضروات والقطن ونقول لمن كان منهم شافعيا هل تقول إنه عليه السلام بسمل ولا بد في كل ركعة قبل أم القرآن فإن قالوا قد قام الدليل على كل ما ذكرنا ولا ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما أوجبه القرآن وخلاف ما جاء به أمره قلنا لهم هذا قولنا نفسه في جلد ماعز وفي الاستعاذة فإن قالوا نعم قد فعل ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا ما لم يأت في شيء من الروايات أنه فعله عليه السلام فلا ينكروا هذا على من قاله فيما جاء به نص كلام الله عز وجل وإن قالوا لم يفعله عليه السلام ولكنا أوجبناه بالدلائل أقروا على أنفسهم بالكفر وبإحداث شريعة لم يأذن بها الله تعالى ولا علمها الرسول صلى الله عليه وسلم وصرحوا بأن النبي عليه السلام خالف أمر ربه جاهرا وضيع الواجب وأنهم استدركوا ذلك وعملوا بأمر ربهم وهذا لا يقوله مسلم والله الموفق للصواب

فصل وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع صح بما فيه متيقنا

فصل وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع صح بما فيه متيقنا قال علي وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع قد صح بما فيه متيقنا منقولا جيلا فجيلا فإن كان هذا علمنا أنه منقول نقل كافة كنقل القرآن فاستغني عن ذكر السند فيه وكان ورود ذلك المرسل وعدم وروده سواء ولا فرق وذلك نحو لا وصية لوارث وكثير من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وإن كان قوم قد رووها بأسانيد صحاح فهي منقوله نقل الكافة كشق القمر مع أنه مذكور في القرآن وكإطعامه النفر الكثير من الطعام اليسير وكسقيه الجيش من ماء يسير في قدح وكصبه وضوءه في البئر فانثالت بماء عظيم بتبوك وكرميه التراب في عيون أهل حنين فأصابت جميعهم وهي مذكورة في القرآن وأما المرسل الذي لا إجماع عليه فهو مطروح على ما ذكرنا لأنه لا دليل عن قبوله البتة فهو داخل في جملة الأقوال التي إذا جمع عليها قبلت وإذا اختلفت فيها سقطت وهي كل قولة لم يأت بتفصيلها باسمها نص ومن قال بذلك دون برهان كان عاصيا لقول الله تعالى {قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} قال علي وإن العجب ليكثر من الحنفيين والمالكيين فإنهم يأبون قبول خبر الواحد في عدة مواضع ويقولون قد جاء القرآن بخلافها نعم ويتركونها والقرآن موافق لها على ما قد ذكرنا ثم يتركون القرآن لنقل لا أحد فإن قال قائل وكيف ذلك قلنا له وبالله تعالى التوفيق إنهم يقولون كثيرا بالمرسل وهو نقل لا أحد لأن المسكوت عن ذكره المجهول حاله هو ومن هو معدوم سواء وبالله تعالى التوفيق

فصل وقد أجاز بعض أصحابنا أن يرد حديث صحيح ويكون الإجماع على خلافه

فصل أجاز بعض أصحابنا أن يرد الحديث الصحيح قال علي وقد أجاز بعض أصحابنا أن يرد حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون الإجماع على خلافه قال وذلك دليل على أنه منسوخ قال علي وهذا عندنا خطأ فاحش متيقن لوجهين برهانيين ضروريين أحدهما أن ورود حديث صحيح يكون الإجماع على خلافه معدوم لم يكن قط ولا هو في العالم فمن ادعى أنه موجود فليذكره لنا ولا سبيل له والله إلى وجوده أبدا والثاني أن الله تعالى قد قال {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} فمضمون عند كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن ما تكفل الله عز وجل بحفظه فهو غير ضائع أبدا لا يشك في ذلك مسلم وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كله وحي بقوله تعالى {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} والوحي ذكر بإجماع الأمة كلها والذكر محفوظ بالنص فكلامه عليه السلام محفوظ بحفظ الله عز وجل ضرورة منقول كله إلينا لا بد من ذلك فلو كان هذا الحديث الذي ادعى هذا القائل أنه مجمع على تركه وأنه منسوخ كما ذكر لكان ناسخه الذي اتفقوا عليه قد ضاع ولم يحفظ وهذا تكذيب لله عز وجل في أنه حافظ للذكر كله ولو كان ذلك لسقط كثير مما بلغ عليه السلام عن ربه وقد أبطل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله في حجة الوداع اللهم هل بلغت قال علي ولسنا ننكر أن يكون حديث صحيح وآية صحيحة التلاوة منسوخين بحديث آخر صحيح وإما بآية متلوة ويكون الاتفاق على النسخ المذكور قد ثبت بل هو موجود عندنا إلا أننا نقول لا بد أن يكون الناسخ لهما موجودا أيضا عندنا منقولا إلينا محفوظا عندنا مبلغا نحونا بلفظه قائم النص لدينا لا بد من ذلك وإنما الذي منعنا منه فهو أن يكون المنسوخ محفوظا

فصل وإذا قال الصحابي السنة كذا وأمرنا بكذا فليس هذا إسنادا

منقولا مبلغا إلينا ويكون الناسخ له قد سقط ولم ينقل إلينا لفظه فهذا باطل عندنا لا سبيل إلى وجوده في العالم أبد الأبد لأنه معدوم البتة قد دخل بأنه غير كائن في باب المحال والممتنع عندنا وبالله تعالى التوفيق فصل ليس كل قول الصحابي إسنادا قال علي وإذا قال الصحابي السنة كذا وأمرنا بكذا فليس هذا إسنادا ولا يقطع على أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينسب إلى أحد قول لم يرو أنه قاله ولم يقم برهان على أنه قاله وقد جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نهانا عمر فانتهينا وقد قال بعضهم السنة كذا وإنما يعني أن ذلك هو السنة عنده على ما أداه إليه اجتهاده فمن ذلك ما حدثناه حمام ثنا الأصيلي ثنا أبو زيد المروزي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أحمد بن محمد ثنا عبد الله أنبأ يونس عن الزهري أخبرني سالم بن عبد الله قال كان ابن عمر يقول أليس حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا وبالمروة ثم حل من كل شيء حتى يحج عاما قابلا فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا قال أبو محمد ولا خلاف بين أحد من الأمة كلها أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ صد عن البيت لم يطف به ولا بالصفا والمروة بل أحل حيث كان بالحديبية ولا مزيد وهذا الذي ذكره ابن عمر لم يقع قط لرسوله صلى الله عليه وسلم حدثنا حمام بن أحمد قال ثنا عياش بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن قال ثنا محمد بن إسماعيل الصايغ ثنا عبد الله بن بكر السهمي ثنا سعيد بن أبي عروبة عن مطر

هو الوراق عن رجاء بن حيوة عن قبصه بن ذؤيب عن عمرو بن العاص قال لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها عدة الحرة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد بن بشار بندار ثنا يحيى هو ابن سعيد القطان ثنا عبد المجيد بن جعفر ثنا وهب بن كيسان قال اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار ثم خرج فخطب فأطال الخطبة ثم نزل فصل ركعتين ولم يصل للناس يومئذ الجمعة فذكر ذلك لابن عباس فقال أصاب السنة قال أبو محمد وقد صح عن ابن عباس أنه قرأ أم القرآن على الجنازة في الصلاة وجهر وقال إنها سنة كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا أبو إسحاق البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد بن بشار ثنا غندر ثنا شعبة عن سعد عن طلحة قال صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب قال لتعلموا أنها سنة سعد هذا هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وطلحة هو ابن عبد الله بن عوف وروي عن أنس أنه أفطر في منزله في رمضان إذا أراد السفر قبل أن يخرج قال إنها سنة وخصومنا في هذا الموضع لا يقولون بشيء من هذا فقد نقضوا أصلهم ومن أضل ممن لا يجعل قول هؤلاء هي السنة سنة ويجعل قول سعيد بن المسيب في دية أصابع المرأة هي السنة سنة قال أبو محمد فلما وجدنا ذلك منصوصا عنهم لم يحل لنا أن ننسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لا نعمله فنكون قد دخلنا في نهي الله عز وجل إذ يقول {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} فمن أقدم على هذا فهو قليل الورع حاكم بالظن والظن لا يغني من الحق شيئا وهذا مذهب أهل الصدر الأول كما حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي عن عبد الملك بن عمر الخولاني عن محمد بن

بكر المصري عن سليمان بن الأشعث ثنا عبد الله بن معاذ أخبرني أبي ثنا شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت استحيضت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرت أن تعجل العصر وتؤخر الظهر وتغتسل لهما غسلا وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا وتغتسل لصلاة الصبح غسلا فقلت لعبد الرحمن أعن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء قال علي فهذا عبد الرحمن يحكي أنها أمرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستجز أن يقول ومن يأمر بهذا إلا النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما في حياته عليه السلام وإنما أقدم على القطع في هذا من قل فهمه ورق ورعه واشتغل بالقياسات الفاسدة عن مراعاة حديث النبي صلى الله عليه وسلم وألفاظ القرآن وقد قال بعضهم إذا جاء عن صاحب فتيا من قوله إلا أن فيها شرع شريعة أو حدا محدودا أو وعيدا فإن هذا مما لا يقال بقياس ولا يقال إلا بتوقيف فاستدل بذلك على أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي وقائل هذا القول الساقط يقر أنهم رتبوا في الخمر ثمانين برأيهم وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك ونحن نجد أنهم رضي الله عنهم قالوا بكل ما ذكرنا بآرائهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي وبعد موته فقد قال طائفة من الصحابة حبط عمل عامر بن الأكوع إذ ضرب نفسه بسيفه في الحرب فأكذب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعمر قد قال دعني أضرب عنق حاطب فقد نافق فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ذلك وفي قول عمر الذي ذكرنا إيجاب شرع في ضرب عنق امرىء مسلم وإخبار بغيب في أنه منافق ومثل هذا كثير مما سنذكره في باب إبطال التقليد إن شاء الله تعالى وكل هذا فقد يقوله المرء مجتهدا متأولا ومستعظما لما يرى فمخطىء ومصيب

وإن العجب ليكثر ممن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل ما ذكرنا بظنه الفاسد وينكر أن يكون عليه السلام جلد ماعزا وقد صح عنه عليه السلام الحكم بالجلد على المحصن مع الرجم ونزل القرآن بجلد الزناة كلهم وقد ذكر أبو هريرة حديث النفقة على الزوجة والولد والعبد فقال في آخره تقول امرأتك أنفق علي أو طلقني فقيل له أهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا ولكن هذا من كيس أبي هريرة والعجب من القائل إن مثل هذا لا يقال بالقياس نعني في مثل قول عائشة رضي الله عنها لأم ولد زيد بن أرقم أبلغني زيدا أنه إن لم يتب فقد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول بالقياس ما هو أشنع من هذا فبعضهم يفرق بين الفأرة والعصفورة الواقعين في البئر يموتان فيها وبين الدجاجة والسنور يموتان في البئر فيوجب من أحدهما عشرين دلوا ومن الآخر أربعين دلوا ويجيز بيع ثوب من ثوبين أو ثلاثة يختاره المشتري بغير عينه ولا يجيز بيع ثوب من أربعة أثواب فصاعدا يختاره المشتري ويرى القطع في الساج والقنا ولا يراه في سائر الخشب وبعضهم يفرق بين سلم بغل في بغلين وبين سلم بغلين في بغلين فيحل أحد الوجهين ويحرم الآخر وتحكمهم في الدين لو جمع لقامت منه أسفار ونحن لا ننسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما صح عنه بالنقل أو صح أن ربه تعالى أمره به ولم ينسخه عنه فقد قال عليه السلام إن كذبا علي ليس ككذب على أحد فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار قال علي وليس في تعمد الكذب أكثر من أن تسمع كلاما لم يخبرك أحد تثق به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ولا سمعته يقوله ولا علمت أن الله تعالى أمره به فتنسبه أنت برأيك وظنك إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

فصل وقد ذكر قوم أحاديث في بعضها إبطال شرائع الإسلام وفي بعضها نسبة الكذب إلى رسول الله

قاله نعوذ بالله العظيم من ذلك فصل في قوم لا يتقون الله فيما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال علي وقد ذكر قوم لا يتقون الله عز وجل أحاديث في بعضها إبطال شرائع الإسلام وفي بعضها نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإباحة الكذب عليه وهو ما حدثنا المهلب بن أبي صفرة حدثنا ابن مناس ثنا محمد بن مسرور القيرواني ثنا يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني شمر بن نمير عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيأتي ناس يحدثون عني حديثا فمن حدثكم حديثا يضارع القرآن فأنا قلته ومن حدثكم بحديث لا يضارع القرآن فلم أقله فإنما هو حسوة من النار قال أبو محمد الحسين بن عبد الله ساقط منهم بالزندقة وبه إلى ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن الأصبغ بن محمد أبي منصور أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحديث عني على ثلاث فأيما حديث بلغكم عني تعرفونه بكتاب الله تعالى فاقبلوه وأيما حديث بلغكم عني لا تجدون في القرآن ما تنكرونه به ولا تعرفون موضعه فيه فاقبلوه وأيما حديث بلغكم عني تقشعر

منه جلودكم وتشمئز منه قلوبكم وتجدون في القرآن خلافه فردوه قال أبو محمد هذا حديث مرسل والأصبغ مجهول حدثنا أحمد بن عمر ثنا ابن يعقوب ثنا ابن محلون ثنا المغامي ثنا عبد الملك بن حبيب عن مطرف بن عبد الله عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه لا يمسك الناس علي شيئا لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه وهذا مرسل إلا أن معناه صحيح لأنه عليه السلام إنما أخبر في هذا الخبر بأنه لم يقل شيئا من عند نفسه بغير وحي من الله تعالى به إليه وأحال بذلك على قول الله تعالى في كتابه {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فنص كتاب الله تعالى يقضي بأن كل ما قاله عليه السلام فهو عن الله تعالى وأخبرني المهلب بالسند الأول إلى ابن وهب حدثني سليمان بن بلال عن عمرو ابن أبي عمرو عمن لا يتهم عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وإني لا أدري لعلكم أن تقولوا عني بعدي ما لم أقل ما حدثتم عني مما يوافق القرآن فصدقوا به وما حدثتم عني مما لا يوافق القرآن فلا تصدقوا به وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول ما لا يوافق القرآن وبالقرآن هداه الله قال أبو محمد وهذا مرسل وفيه عمرو بن أبي عمرو وهو ضعيف وفيه أيضا مجهول حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا حجاج بن المنهال ثنا عبد الوهاب هو الثقفي سمعت يحيى بن سعيد قال أخبرني ابن أبي مليكة أن ابن عمير حدثه أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم جلس في مرضه الذي مات فيه إلى جنب الحجر فحذر الفتن وقال إني والله لا يمسك الناس علي بشيء إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه قال علي وهذا مرسل لا يصح وفيما أخذناه عن بعض أصحابنا عن القاضي عبد الله بن محمد بن يوسف عن ابن الدخيل عن محمد بن عمرو العقيلي حدثنا محمد بن أيوب ثنا أبو عون محمد بن عون الزيادي ثنا أشعث بن بزار عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت به أو لم أحدث قال علي وأشعث بن بزار كذاب ساقط لا يؤخذ حديثه وحدثنا المهلب بن أبي صفرة ثنا ابن مناس ثنا محمد بن مسرور ثنا يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني الحارث بن نبهان عن محمد بن عبد الله العرزمي عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما بلغكم عني من قول حسن لم أقله فأنا قلته قال علي الحارث ضعيف والعرزمي ضعيف وعبد الله بن سعيد كذاب مشهور وهذا هو نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه حكي عنه أنه قال لم أقله فأنا قلته فكيف يقول ما لم يقله هل يستجيز هذا إلا كذاب زنديق كافر أحمق إنا لله وإنا إليه راجعون على عظم المصيبة بشدة مطالبة الكفار لهذه الملة الزهراء وعلى ضعف بصائر كثير من أهل الفضل يجوز عليهم مثل هذه البلايا لشدة غفلتهم وحسن ظنهم لمن أظهر لهم الخير

قال علي فإحدى الطائفتين أبطلت الشرائع والأخرى أباحت الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كلتا هاتين الطائفتين وهاتين المسألتين ونقول للأولى أول ما نعرض على القرآن الحديث الذي ذكرتموه فلما عرضناه وجدنا القرآن يخالفه قال الله تعالى {مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب} وقال تعالى {من يطع لرسول فقد أطاع لله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا} وقال تعالى {إنآ أنزلنا إليك لكتاب بلحق لتحكم بين لناس بمآ أراك لله ولا تكن للخآئنين خصيما} ونسأل قائل هذا القول الفاسد في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات وأن المغرب ثلاث ركعات وأن الركوع على صفة كذا والسجود على صفة كذا وصفة القراءة فيها والسلام وبيان ما يجتنب في الصوم وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة والغنم والإبل والبقر ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة ومقدار الزكاة المأخوذة وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة وصفة الصلاة بها وبمزدلفة ورمي الجمار وصفة الإحرام وما يجتنب فيه وقطع يد السارق وصفة الرضاع المحرم وما يحرم من المآكل وصفة الذبائح والضحايا وأحكام الحدود وصفة وقوع الطلاق وأحكام البيوع وبيان الربا والأقضية والتداعي والإيمان والأحباس والعمرى والصدقات وسائر أنواع الفقه وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيرة قد جمعناها كلها في كتاب واحد وهو المرسوم بكتاب المراتب فمن أراد الوقوف عليها فليطلبها هنالك فلا بد من الرجوع إلى الحديث ضرورة

ولو أن امرأ قال لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرا بإجماع الأمة ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل وأخرى عند الفجر لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة ولا حد للأكثر في ذلك وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن قد اجتمعت الأمة على كفرهم وبالله تعالى التوفيق ولو أن امرأ لا يأخذ إلا بما اجتمعت عليه الأمة فقط ويترك كل ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص لكان فاسقا بإجماع الأمة فهاتان المقدمتان توجب بالضرورة الأخذ بالنقل وأما من تعلق بحديث التقسيم فقال ما كان في القرآن أخذناه وما لم يكن في القرآن لا ما يوافقه ولا ما يخالفه أخذناه وما كان خلافا للقرآن تركناه فيقال لهم ليس في الحديث الذي صح شيء يخالف القرآن فإن عد الزيادة خلافا لزمه أن يقطع في فلس من الذهب لأن القرآن جاء بعموم القطع ولزمه أن يحل العذرة لأن في نص القرآن {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} والعذرة ليست شيئا مما ذكر فإن قال هي رجس قيل له كل محرم فهو رجس لا سيما إن كان مخاطبنا ممن يستحل أبوال الإبل وبعرها فأي فرق بين أنواع المعذرات لولا التحكم ولزمه أيضا أن يحل الجمع بين العمة وبنت أخيها لأن القرآن نص على المحرمات ثم قال {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} فإن عد الزيادة خلافا لزمه كما ذكرناه وأما الطائفة الأخرى المبيحة للقول بما لم يأت نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم وإباحة أن ينسب ذلك إليه فحسبنا أنهم مقرون على أنفسهم بأنهم كاذبون وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين حدثنا أحمد بن محمد الجسوري قال ثنا

وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح عن أبي بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع عن شعبة وسفيان عن حبيب عن ميمون بن أبي شبيب عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال عليه السلام لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار وروينا هذا المعنى مسندا صحيحا من طريق علي وأبي هريرة وسمرة وأنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي وقال محمد بن عبد الله بن مسرة الحديث ثلاثة أقسام فحديث موافق لما في القرآن فالأخذ به فرض وحديث زائد على ما في القرآن فهو مضاف إلى ما في القرآن والأخذ به فرض وحديث مخالف لما في القرآن فهو مطرح قال علي بن أحمد لا سبيل إلى وجود خبر صحيح مخالف لما في القرآن أصلا وكل خبر شريعة فهو إما مضاف إلى ما في القرآن ومعطوف عليه ومفسر لجملته وإما مستثنى منه لجملته ولا سبيل إلى وجه ثالث فإن احتجوا بأحاديث محرمة أشياء ليست في القرآن قلنا لهم قد قال الله عز وجل {لذين يتبعون لرسول لنبي لأمي لذي يجدونه مكتوبا عندهم في لتوراة ولإنجيل يأمرهم بلمعروف وينهاهم عن لمنكر ويحل لهم لطيبات ويحرم عليهم لخبآئث ويضع عنهم إصرهم ولأغلال لتي كانت عليهم فلذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتبعوا لنور لذي أنزل معه أولئك هم لمفلحون} فكل ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الحمار الأهلي وسباع الطير وذوات الأنياب وغير ذلك فهو من الخبائث وهو مذكور في الجملة المتلوة في القرآن ومفسر لها والمعترض بها يسأل أيحرم أكل عذرته أم يحلها فإن أحلها خرج عن إجماع الأمة وكفر وإن حرمها فقد حرم ما لم ينص الله تعالى على اسمه في القرآن فإن قال هي من الخبائث قيل له وكل ما حرم عليه السلام فهو كالخنزير وكل ذلك من الخبائث قال علي فإن قال قد صح الإجماع على تحريمها قيل له قد أقررت بأن الأمة مجمعة على إضافة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنن إلى القرآن مع ما صح على النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن ذلك كما حدثنا عبد الرحمن

فصل وليس كل من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه صحابيا

بن سلمة صاحب لنا قال ثنا أحمد بن خليل قال ثنا خالد بن سعيد ثنا أحمد بن خالد ثنا أحمد بن عمرو المكي وكان ثقة ثنا محمد بن أبي عمر العدني ثنا سفيان هو ابن عيينة عن سالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله تعالى اتبعناه فهذا حديث صحيح بالنهي عما تعلل به هؤلاء الجهال وبالله تعالى التوفيق مع ما قدمنا من أنه لا يختلف مسلمان في أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو مضاف إلى ما في القرآن وأنهم إنما اختلفوا في الطرق التي بها يصح ما جاء عنه عليه السلام فقط وقد سألت بعض من يذهب هذا المذهب عن قول الله تعالى وقد ذكر النساء المحرمات في القرآن ثم قال تعالى {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} ثم روى أبو هريرة وأبو سعيد أنه عليه السلام حرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وليس هذا إجماعا فعثمان البتي وغيره يرون الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها حلالا فقال لي ليس هذا الحديث خلافا للآية لكنه مضاف إليها فقلت له فعلى هذا لا سبيل إلى وجود حديث مخالف لما في القرآن أصلا وكل حديث أتى فهو مضاف إلى ما في القرآن ولا فرق وبالله تعالى التوفيق فصل ليس كل من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه صحابيا قال علي وليس كل من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه صحابيا

ولو كان ذلك لكان أبو جهل من الصحابة لأنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وحادثه وجالسه وسمع منه وليس كل من أدركه عليه السلام ولم يلقه ثم أسلم بعد موته عليه السلام أو في حياته إلا أنه لم يره معدودا في الصحابة ولو كان ذلك لكان كل من كان في عصره عليه السلام صحابيا ولا خلاف بين أحد في أن علقمة والأسود ليسا صحابيين وهما من الفضل والعلم والبر بحيث هما وقد كانا عالمين جليلين أيام عمر وأسلما في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما الصحابة الذين قال الله تعالى فيهم {محمد رسول لله ولذين معه أشدآء على لكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من لله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر لسجود ذلك مثلهم في لتوراة ومثلهم في لإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فستوى على سوقه يعجب لزراع ليغيظ بهم لكفار وعد لله لذين آمنوا وعملوا لصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} ومن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بشيء والسامع كافر ثم أسلم فحدث به وهو عدل فهو مسند صحيح واجب الأخذ به ولا خلاف بين أحد من العلماء في ذلك وإنما شرط العدالة في حين النذارة والمجيء بالخير لا في حين مشاهدة ما أخبر به وقد كان في المدينة في عصره عليه السلام منافقون بنص القرآن وكان بها أيضا من لا ترضي حاله كهيت المخنث الذي أمر عليه السلام بنفيه والحكم الطريد وغيرهما فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحابة حدثني أحمد بن قاسم قال حدثني أبي قاسم بن محمد بن قاسم قال حدثني جدي قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي ثنا زكريا بن عدي ثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن أبي بريدة عن أبيه قال كان حي من بني ليث على ميلين من المدينة

قال فجاءهم رجل وعليه حلة فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم بما أرى قال وقد كان خطب منهم امرأة في الجاهلية فلم يزوجوه فانطلق حتى نزل على تلك المرأة فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال كذب عدو الله ثم أرسل رجلا فقال إن وجدته حيا ولا أراك تجده فاضرب عنقه وإن وجدته ميتا فاحرقه بالنار قال علي فهذا من كان في عصره صلى الله عليه وسلم يكذب عليه كما ترى فلا يقبل إلا من سمي وعرف فضله وأما قدامة بن مظعون وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة وأبو بكرة رضوان الله عليهم فأفاضل أئمة عدول أما قدامة فبدري مغفور له بيقين مرضي عنه وكل من تيقنا أن الله عز وجل رضي عنه وأسقط عنه الملامة ففرض علينا أن نرضى عنه وأن لا نعدد عليه شيئا فهو عدل بضرورة البرهان القائم على عدالته من عند الله عز وجل وعندنا وبقوله عليه السلام إن الله اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأما المغيرة بن شعبة فمن أهل بيعة الرضوان وقد أخبر عليه السلام ألا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة فالقول فيه كالقول في قدامة وأما سمرة بن جندب فأحدي وشهد المشاهد بعد أحد وهلم جرا والأمر فيه كالأمر في المغيرة بن شعبة وأما أبو بكرة فيحتمل أن يكون شبه عليه وقد قال ذلك المغيرة فلا يأثم هو ولا المغيرة وبهذا نقول وكل ما احتمل ولم يكن ظاهره يقينا فغير منقول عن متيقن حاله بالأمس فهما على ما ثبت من عدالتهما ولا يسقط اليقين بالشك وهذا هو استصحاب الحال الذي أباه خصومنا وهم راجعون إليه في هذا المكان بالصغر منهم فما منهم أحد امتنع من الرواية عن المغيرة وأبي بكرة معا وأبي بكرة وهو متأول

وأما سمرة فمتأول أيضا والمتأول مأجور وإن كان مخطئا وكذلك قدامة تأول أن لا جناح عليه وصدق لا جناح عليه عند الله تعالى في الآخرة بلا شك وأما في أحكام الدنيا فلا ولنا في الدنيا أحكام غير أحكام الآخرة وكذلك كل من قاتل عليا رضوان الله عليه يوم صفين وأما أهل الجمل فما قصدوا قط قتال علي رضوان الله عليه ولا قصد علي رضوان الله عليه قتالهم وإنما اجتمعوا بالبصرة للنظر في قتلة عثمان رضوان الله عليه وإقامة حق الله تعالى فيهم فأسرع الخائفون على أنفسهم أخذ حد الله تعالى منهم وكانوا أعدادا عظيمة يقربون من الألوف فأثاروا القتال خفية حتى اضطر كل واحد من الفريقين إلى الدفاع عن أنفسهم إذ رأوا السيف قد خالطهم وقد جاء ذلك نصا مرويا وإن العجب ليكثر ممن يبيح لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي والليث وسفيان وأحمد وداود رحمهم الله أن يجتهدوا في الدماء وفي الفروج وفي العبادات فيسفك هذا دما يحله باجتهاده ويحرمه سائد من ذكرنا فرجا ويحرمه الآخر ويحل أحدهم مالا ويحرمه الآخر ويوجب أحدهم حدا ويسقطه الآخر ويوجب أحدهم فرضا وينقضه الآخر ويحرم أحدهما عملا ويحله الآخر ولم يختلفوا قط إلا فيما ذكرنا فيجيز لهؤلاء الحكم فيما ذكرنا ويعذرهم في اختلافهم في استباحة الدماء فما دونها وليس عندنا من أمرهم إلا أنهم فيما بدا لنا مسلمون فاضلون يلزمنا توقيرهم والاستغفار لهم إلا أننا لا نقطع لهم بالجنة ولا بمغيب عقودهم ولا برضى الله عز وجل عنهم لكن نرجو لهم ذلك ونخاف عليهم كسائر أفاضل المسلمين ولا فرق ثم لا نجيز ذلك لعلي وأم المؤمنين وطلحة والزبير وعمار وهشام بن حكيم ومعاوية وعمرو والنعمان وسمرة وأبي الغادية وغيرهم وهم أئمة الإسلام حقا والمقطوع

فصل وحكم الخبر أن يورد بنص لفظه لا يبدل ولا يغير

على فضلهم وعلى أكثرهم بأنهم في الجنة وهذا لا يخيل إلا على مخذول وكل من ذكرنا من مصيب أو مخطىء فمأجور على اجتهاده إما أجرين وإما أجرا وكل ذلك غير مسقط عدالتهم وبالله تعالى التوفيق فصل في حكم الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال علي وحكم الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يورد بنص لفظه لا يبدل ولا يغير إلا في حال واحدة وهي أن يكون المرء قد تثبت فيه وعرف معناه يقينا فيسأل فيفتي بمعناه وموجبه أو يناطر فيحتج بمعناه وموجبه فيقول حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وأمر عليه السلام بكذا وأباح عليه السلام كذا ونهى عن كذا وحرم كذا والواجب في هذه القضية ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذا وكذلك القول فيما جاء من الحكم في القرآن ولا فرق وجائز أن يخبر المرء بموجب الآية وبحكمها بغير لفظها وهذا ما لا خلاف فيه من أحد في أن ذلك مباح كما ذكرنا وأما من حدث وأسند القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقصد التبليغ لما بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحل له إلا أن يتحرى الألفاظ كما سمعها لا يبدل حرفا مكان آخر وإن كان معناهما واحدا ولا يقدم حرفا ولا يؤخر آخر وكذلك من قصد تلاوة آية أو تعلمها وتعليمها ولا فرق وبرهان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علم البراء بن عازب دعاء وفيه ونبيك الذي أرسلت فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على النبي صلى الله عليه وسلم قال وبرسولك الذي أرسلت فقال النبي عليه السلام لا ونبيك الذي أرسلت فأمره عليه السلام كما تسمع ألا يضع لفظة رسول في موضع لفظة نبي وذلك حق لا يحيل معنى وهو عليه السلام رسول ونبي فكيف يسوغ للجهال المغفلين أو الفساق المبطلين أن يقولوا إنه عليه السلام كان يجيز أن

توضع في القرآن مكان وهو يمنع من ذلك في دعاء ليس قرآنا والله يقول مخبرا عن نبيه صلى الله عليه وسلم {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال لذين لا يرجون لقآءنا ئت بقرآن غير هذآ أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} ولا تبديل أكثر من وضع كلمة مكان أخرى أم كيف يسوغ لأهل الجهل والعمى إباحة القراءة المفروضة في الصلاة بالأعجمية مع ما ذكرنا ومع إجماع الأمة على أن إنسانا لو قرأ أم القرآن فقدم آية على أخرى أو قال الشكر للصمد مولى الخلائق وقال هذا هو القرآن المنزل لكان كافرا بإجماع ومع قوله تعالى {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان لذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} ففرق تعالى بينهما وأخبر أن القرآن إنما هو باللفظ العربي لا بالعجمي وأمر بقراءة القرآن في الصلاة فمن قرأ بالأعجمية فلم يقرأ القرآن بلا شك والعجب أن قائل هذا الهجر لا يجيز الدعاء في الصلاة إلا بما يشبه ما في القرآن لا بتسمية المدعو لهم ولا بغير ذلك وقد جاء النص بإباحة الدعاء فيها جملة ويقول إن من عطس في الصلاة فقال الحمد لله رب العالمين فحرك بها لسانه فقد بطلت صلاته فسبحان من وفقهم لخلاف الحق في كلا الوجهين فيجيزون القراءة في الصلاة بخلاف القرآن ويبطلون الصلاة بذكر آية من القرآن ويمنعون من الدعاء فيها إلا بما في القرآن أو ما يشبهه ولا شبه للقرآن في شيء من الكلام بإجماع الأمة واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى {وإنه لفي زبر لأولين} وبخطابه تعالى لنا بالعربية حاكيا كلام موسى عليه السلام قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأن الذي في زبر الأولين إنما هو معنى القرآن لا القرآن ولو كان القرآن في زبر الأولين لما كان محمد صلى الله عليه وسلم مخصوصا به ولا كانت فيه آية وهذا خلاف النصوص والخروج

عن الإسلام لأنه لو أنزل على غيره قبله لما كان محمد صلى الله عليه وسلم مخصوصا به وأما حكايته تعالى لنا كلام موسى وغيره بلغتنا فلم يلزمنا تعالى قراءة ألفاظهم بنصها ولا نمنع من تلاوته في الصلاة وإنما نمنع من تلاوته في القرآن أو على سبيل التقريب بتلاوته إلى الله تعالى بغير اللفظ الذي أنزل به لا بكلام أعجمي ولا بغير تلك الألفاظ وإن وافقتها في العربية ولا بتقديم تلك الألفاظ بعينها ولا بتأخيرها وإنما نجيز الترجمة التي أجازها النص على سبيل التعليم والإفهام فقط لا على سبيل التلاوة التي نقصد بها القربة وبالله تعالى التوفيق وبلا خلاف من أحد من الأمة أن القرآن معجزة وبيقين ندري أنه إذا ترجم بلغة أعجمية أو بألفاظ عربية غير ألفاظه فإن تلك الترجمة غير معجزة وإذ هي غير معجزة فليست قرآنا ومن قال فيما ليس قرآنا إنه قرآن فقد فارق الإجماع وكذب الله تعالى وخرج عن الإسلام إلا أن يكون جاهلا ومن أجاز هذا وقامت عليه الحجة ولم يرجع فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال لا نشك في ذلك أصلا وأيضا فقد قال تعالى مخبرا عن نبيه صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فلما صح بنص القرآن أن كلامه عليه السلام وحي كله حرم بلا شك تحريف الوحي وإحالته كما حرم ذلك في الوحي المتلو الذي هو القرآن ولا فرق ومن حدث بحديث فبلغه إلى غيره كما بلغه إياه غيره وأخذ عنه فليس عليه أن يكرره أبدا حتى يحصل في حد الهذيان وقد أدى ما عليه بتبليغه قال أبو محمد وبهذا يبطل قول من رام توهين الحديث المسند بأن فلانا أرسله إذ لو كان سكوت المرء في بعض الأحيان عن تأدية ما سمع مسقطا للاحتجاج به إذ أداه في وقت آخر أو لم يؤده هو وأداه غيره لكان إذا نام أو أكل أو وطىء أو اشتغل بصلاة أو مصلحة دنياه أو بشيء من أمر دينه

أو بتبليغ حديث آخر قد بطل الاحتجاج بما سكت عنه في الأحوال التي ذكرنا وهذا جنون فادح ممن قاله وكفى سقوطه بكل قول أخرج إلى الجنون وأدى إلى المحال والممتنع وبالله تعالى التوفيق وأما اللحن في الحديث فإن كان شيئا له وجه في لغة بعض العرب فليروه كما سمعه ولا يبدله ولا يرده إلى أفصح منه ولا إلى غيره وإن كان شيئا لا وجه له في لغة العرب البتة فحرام على كل مسلم أن يحدث باللحن عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن فعل فهو كاذب مستحق للنار في الآخرة لأنا قد أيقنا أنه عليه السلام لم يلحن قط كتيقننا أن السماء محيطة بالأرض وأن الشمس تطلع من المشرق وتغرب من المغرب فمن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم اللحن فقد نقل عنه الكذب بيقين وفرض عليه أن يصلحه ويبشره من كتابه ويكتبه معربا ولا يحدث به إلا معربا ولا يلتفت إلى ما وجد في كتابه من لحن ولا إلى ما حدث شيوخه ملحونا ولهذا لزم لمن طلب الفقه أن يتعلم النحو واللغة وإلا فهو ناقص منحط لا تجوز له الفتية في دين الله عز وجل ثنا يونس بن عبد الله ثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ثنا أحمد بن خالد ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار بندار ثنا عمرو بن محمد بن أبي رزين ثنا سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يضرب ولده على اللحن قال علي اللحن المحكي عن الله تعالى ورسوله عليه السلام كذب والكذب واجب أن يضرب آتيه وقد روي عن شعبة أو عن حماد بن سلمة الشك مني أنه قال من حدث عني بلحن فقد كذب علي ونحن نقول ذلك وكان شعبة وحماد وخالد بن الحارث وبشر بن المفضل والحسن البصري

فصل وإذا روى العدل زيادة على ما روى الغير فالأخذ بتلك الزيادة فرض

لا يلحنون البتة وبالله تعالى التوفيق فصل في زيادة العدل قال علي وإذا روى العدل زيادة على ما روى غيره فسواء انفرد بها أو شاركه فيها غيره مثله أو دونه أو فوقه فالأخذ بتلك الزيادة فرض ومن خالفنا في ذلك فإنه يتناقض أقبح تناقض فيأخذ بحديث رواه واحد ويضيفه إلى ظاهر القرآن الذي نقله أهل الدنيا كلهم أو يخصه به وهم بلا شك أكثر من رواة الخبر الذي زاد عليهم آخر حكما لم يروه غيره وفي هذا التناقض من القبح ما لا يستجيزه ذوقهم وذو ورع وذلك كتركهم قول الله تعالى {ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} لحديث انفردت به عائشة رضي الله عنها ولم يشاركها فيه أحد وهو لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا ويترك قوله تعالى في الآيات التي ذكر فيها المحرمات من النساء ثم قال تعالى بعد ذكر من ذكر {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} فحرموا الجمع بين المرأة وعمتها وليس ذلك مذكورا في آية التحريم بل فيها إحلال كل ما لم يذكر في الآية فتركوا ذلك لحديث انفرد به أبو هريرة وأبو سعيد وحدهما وليس ذلك إجماعا فإن عثمان البتي يبيح الجمع بين المرأة وعمتها ثم يعترضون على حكم رواه عدل بأن عدلا آخر لم يرو تلك الزيادة وأن فلانا انفرد بها قال علي وهذا جهل شديد وقد ترك أصحاب أبي حنيفة الزيادة التي روى مالك في حديث زكاة الفطر وهي من المسلمين فقالوا انفرد بها مالك وترك أصحاب مالك الاستسعاء الذي رواه سعيد بن أبي عروبة وقالوا انفرد بها سعيد فكلا الطائفتين عابت ما فعلت وأنكرت ما أتت به مع أنه قد شورك

من ذكرنا هاتين الزيادتين ولو انفردا بها ما ضر ذلك شيئا ولا فرق بين أن يروي العدل الراوي العدل حديثا فلا يرويه أحد غيره أو يرويه غيره مرسلا أو يرويه ضعفاء وبين أن يروي الراوي العدل لفظة زائدة لم يروها غيره من رواة الحديث وكل ذلك سواء واجب قبوله بالبرهان الذي قدمناه في وجوب قبول خبر الواحد العدل الحافظ وهذه الزيادة وهذا الإسناد هما خبر واحد عدل حافظ ففرض قبولهما ولا نبالي روى مثل ذلك غيرهما أو لم يروه سواهما ومن خالفنا فقد دخل في باب ترك قبول الخبر الواحد ولحق بمن أتى ذلك من المعتزلة وتناقض في مذهبه وانفراد العدل باللفظة كانفراده بالحديث كله ولا فرق قال علي فإن كانت اللفظة الزائدة ناقصة من المعنى فالحكم للمعنى الزائد لا للفظة الزيادة لأن زيادة المعنى هو العموم وهو الزيادة حينئذ على الحقيقة وهو الحكم الزائد والشرع الوارد والأمر الحادث ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث شارعا ومحلالا ومحرما وهكذا قال ابن عباس إذ ذكر عنده الضب فإذا روى العدل لفظة لها حكم زائد لم يروها غيره أو رواها غيره أو روى العدل عموما فيه حكم زائد وروى آخرون لفظة فيها إسقاط ذلك الحكم فالفرض أن يؤخذ بالحكم الزائد أبدا لأنه شريعة واردة قد تيقنا لزومها لنا وأننا مأمورون بها ولم نتيقن نسخها ولا سقوطها ولا يجوز ترك يقين لظن فمن ادعى تلك الشريعة التي قد صح أمر الله عز وجل لنا بها قد سقطت عنا وأن الحكم قد رجع إلى ما كنا عليه قبل ورود تلك الشريعة فهو مفتر على الله عز وجل إلا أن يأتي ببرهان من نص أو إجماع على دعواه ولا يحل لمسلم يخاف الله عز وجل أن يترك يقينا لما لعله ليس كما يظن قال علي ونمثل من ذلك مثالا فنقول روى بعض العدول عن رسول

الله صلى الله عليه وسلم النهي عن آنية الفضة هكذا مجملا وروى بعضهم النهي عن الشرب في آنية الفضة فكانت هذه اللفظة يعني الشرب ناقصة عن معنى الحديث الآخر الذي فيه إجمال النهي عن آنية الفضة نقصانا عظيما ومبيحة لعظائم في عموم ذلك الحديث إيجاب تحريمها من الأكل فيها والاغتسال فيها والوضوء فيها فهذه اللفظة وإن كانت زائدة في الصوت والخط فهي ناقصة من المعنى والحديث الآخر وإن كان ناقص اللفظ فهو زائد في الحكم والمعاني فهو الذي لا يجب الأخذ به لأن الحديث المذكور فيه الشرب هو بعض ما في الحديث الآخر وهذا نحو ما قلنا في الحديثين في زكاة الغنم اللذين ذكر في أحدهما السائمة ولم يذكر في الآخر فوجب الأخذ بالعام للسائمة وغيرها لأن من أخذ بالحديث العام كان آخذا بالخاص أيضا لأنه إذا اجتنب آنية الفضة جملة كان قد اجتنب الشرب في جملة ما اجتنب أيضا وإذا زكى الغنم كلها كان زكى السائمة أيضا فكان آخذا بكلا الأمرين وغير عاص لشيء من النصين وكان من آخذ بالحديث الأخص وحده عاصيا للحديث الآخر تاركا له بلا دليل إلا التحكم والدعوى بغير علم لأنه إذا زكى السائمة وحدها فقد ترك زكاة غير السائمة وخالف ما أوجبه الحديث الآخر وكان إذا اجتنب الشرب في آنية الفضة وحدها كان قد عصى ما في النص الآخر والاستباح ما حرم الله تعالى فيه وذلك لا يحل لأنه ليس أحد النصين أولى بالطاعة من الآخر وليس أحدهما نافيا للآخر ولا مبطلا له ومن ذلك أيضا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج منها فكان هذا عاما لكل ما يخرج منها زرعا أو خضرا أو ثمارا وروى بعضهم هذا الحديث بعينه فقال من ثمر النخل فمن أخذ بالمساقاة في ثمر النخل خاصة وحظر ما سوى ذلك كان مخالفا لفعل رسول الله

صلى الله عليه وسلم المنقول في لفظ العموم وليس قول من قال في ثمر النخل بمبطل أن يكون ساقاهم وعاملهم وزارعهم أيضا في غير ثمر النخل ولكن هذا الراوي ذكر بعض ما عوملوا عليه وسكت عن بعض وعم غيره كل ما وقعت فيه المعاملة وكان هذا الحديث ناسخا لحديث النهي عن المزارعة بيقين لأنه آخر فعله عليه السلام بلا شك الذي ثبت عليه إلى أن مات وحديث النهي عن المزارعة كان قبله بلا شك فلذلك قطعنا أنه منسوخ ولولا هذا البيان ما استجزنا ذلك قال علي ومن هذا الباب أن يشهد عدلان أن زيدا طلق امرأته وقال سائر من حضر المجلس وهم عدول لم يطلقها البتة فلا نعلم خلافا في وجوب الحكم عليه بالطلاق وإنفاذ شهادة من شهد به لأن عندهما علما زائدا شهدا به لم يكن عند سائر من حضر المجلس وهذا نفسه هو قبول زيادة العدل ولا فرق وإن انفرد بها وإنها كسائر نقله وليس جهل من جهل حجة على علم من علم ولا سكوت عدل مبطلا لكلام عدل آخر ولا فرق بين أن ينفرد بالحديث كله وبين أن ينفرد بلفظة منه أو بحكم زائد فيه وقد وافقنا من يخاصم في هذا المعنى على قبول ما انفرد به العدل من الأخبار وخالفونا في قبول الزيادة بلا دليل إلا التحكم بالدعوى فقط إلا أن بعضهم رام أن يحتج فأضحك من نفسه وذلك أنه قال قد وافقناكم على قبول الخبر إذا سلم من الزيادة انفرد بها بعض الرواة ومن إرسال غير هذا الراوي له ومن مخالفة من هو أعدل منه وأحفظ في لفظه وخالفناكم في قبوله إذا كان فيه شيء من هذه المعاني قال علي فيقال له وبالله تعالى التوفيق هذا يشبه تمويه اليهود إذ يقولون قد وافقناكم على قبول نبوة موسى صلى الله عليه وسلم ووجوب شريعته وترك العمل في السبت وأن ذلك كله قد أمر به الله تعالى وخالفناكم في قبول نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب شريعته

قال علي وهذا احتجاج من لا حجة له وتمويه ضعيف وذلك أننا لم نقبل نبوة موسى صلى الله عليه وسلم لأجل موافقتهم لنا عليهم ولا نبالي وافقونا عليها أم خالفونا كما لم نبال بتكذيب المجوس والمنانية والصابئين لنبوة موسى عليه السلام وإنما أخذنا بقبول نبوته عليه السلام لقيام البراهين على صحتها وبمثل تلك البراهين نفسها وجب قبول نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا فرق والحق إذا ثبت برهانه فلا معنى لقبول من قبله ولا يزيده ذلك صحة ولا معنى لمخالفة من خالفه ولا يضره ذلك شيئا ونفسه ضر المخالف ولم يضر الحق وكذلك الشيء إذا لم يقم على صحته برهان فلا معنى لقبول من قبله ولا يصححه ذلك وكذلك قبول خبر الواحد لم نأخذ به لأن الحنفيين والمالكيين وافقونا على قبوله وما نبالي وافقونا أم خالفونا كما لم نبال بخلافهم لنا في القياس والتقليد وكما لم نبال بخلاف من خالفنا من المعتزلة وغيرهم في قبول خبر الواحد وإنما أخذنا بقبول خبر الواحد لقيام البرهان على وجوب القول به وبتلك الدلائل والبراهين بأعيانها وجب اطراح العلل التي راموا بها الأخذ بالزيادة وبما أرسله عدل وأسنده عدل وما خولف فيه راويه وبذلك البرهان نفسه وجب قبول الزيادة وإن انفرد بها العدل وتصحيح ما أسنده العدل وإن أرسله غيره وسواء كان أعدل منه أو أحفظ أو مثله أو دونه وصح أن ما خالف هذا الحكم هذيان لا معنى له وإنما يلزم الاحتجاج بما موهوا به غير موضعه ففي حكم لم نراع فيه غير الإجماع المتيقن به إذا ثبت وفيما لولا الإجماع المذكور لم نقل به مما قد أمرنا باتباع الإجماع المتيقن المقطوع به فيه مما لم يأت فيه نص محفوظ اللفظ وإن كان أصل ذلك الإجماع لا يمكن البتة أن يكون إلا عن نص وذلك مثل المسائل التي وجدنا فيها خلافا من واحد فما فوقه لم نقل بها ولا برهان عندنا فيها إلا الإجماع وحده

وذلك مثل القراض الذي لولا الإجماع على جوازه لاتصال نقل الأعصار به عصرا بعد عصر بأنه كان القراض في الجاهلية مشهورا وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره ولم ينه عنه وهو يعلمه فاشيا في قريش وكانوا أهل تجارة ولا عيش لهم إلا منها لم نجزه ولو وجدنا واحدا من العلماء يقول بإبطاله لوافقناه ولقلنا بقوله إذ لا نص في إباحته ولأنه شرط لم يأت به نص وكل شرط هذه صفته فإن لم يتفق على صحته فهو باطل بقوله عليه السلام كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل فما كان من هذا النوع فإنا نراعي في مسائله الإجماع فما أجمعوا عليه منها قلنا به وما اختلف فيه أسقطناه بالبتة لأنه قد بطل الإجماع فيه والإجماع هو برهان صحته الذي لا برهان لصحته سواه وما بطل برهان صحته فقد بطل القول به وأما ما قام برهان على صحته من غير الإجماع فلا ينبغي أن يلتفت من وافق عليه ولا من خالف ولا يتكثر بمن وافق فيه كائنا من كان ولا يستوحش ممن خالف فيه كائنا من كان ولو كان ما ذكر هذا المغفل حجة لساغ للحنيفي أن يقول قد وافقتموني على وجوب قطع يد من سرق ما يساوي عشرة دراهم وخالفتكم في قطع من سرق أقل من ذلك فلا يلزمني إلا ما اتفقنا عليه لا ما اختلفنا فيه ولساغ له أن يقول قد وافقتموني على أن القصر يكون من ثلاثة أيام فصاعدا واختلفنا في أقل فلا يجب إلا ما اتفقنا عليه ولساغ له أن يقول قد وافقتموني على أن الصداق يكون عشرة دراهم وخالفتكم في أقل من ذلك فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه لا ما اختلفنا فيه ولساغ للمالكي أن يقول قد وافقتموني على أن المغتسل إذا تدلك تم غسله وخالفتكم فيه إذا لم يتدلك فلا يجب إلا ما اتفقنا عليه دون مما اختلفنا

فيه ووافقتموني على أن من وقف بعرفة ليلا أن وقوفه صحيح وخالفتكم فيمن وقف نهارا ودفع قبل غروب الشمس فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه ولساغ له أن يقول قد وافقتكم على أن الصوم إذا سلم من الأكل بالنسيان تام وخالفتكم في تمامه إذا وقع فيه أكل بنسيان فلا يتم إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه ولساغ للشافعي أن يقول لهما قد وافقتماني على أن من قرأ {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} في صلاته أنها تامة وخالفتكم في تمام صلاة من لم يقرأها ووافقتماني على تمام صلاة من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر تشهده وخالفتكم في تمام صلاة من لم يصل عليه صلى الله عليه وسلم ووافقتماني في جواز صيام من بيته كل ليلة وخالفتكم في صيام من لم يبيته فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه وللزمهم أن يكتفوا منا بأن نقول لهم قد وافقتمونا على قبول النصوص والإجماع وخالفناكم في القول بالقياس فلا يلزم إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه ومثل هذا كثير جدا يقوم منه عشرات ألوف من المسائل فلما لم يكن كل ما ذكرنا حجة لأنه كلام موضوع في غير موضعه سقط شغب من قال قد اتفقنا عن قبول الخبر إذا عري من زيادة أو مخالفة واختلفا في قبول الزيادة وبحكم العقل ندري أن كل من رضي لنفسه على خصمه بما لا يرضى على نفسه لخصمه فجاهل أو مجنون أو وقاح لا بد له من أحد هذه الوجوه وهي كلها خطط خسف ونعوذ بالله العظيم منها اللهم إلا أن يكون خصمه رضي بحكم ما فله أن يلزمه حينئذ إياه وإن لم يلزمه هو وبالله تعالى التوفيق

فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملهم أيضا

فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملهم أيضا وبيان السبب في الاختلاف الواقع بين سلفنا من الأئمة في صدر هذه الأمة والرد على من ذم الإكثار من رواية الحديث ذهب أصحاب مالك إلى أنه لا يجوز العمل بالخبر حتى يصحبه العمل قال علي وهذا من أفسد قول وأشده سقوطا فأول ذلك أن هذا العمل الذي يذكرون قد سألهم من سلف من الحنفيين والشافعيين وأصحاب الحديث من أصحابنا منذ مائتي عام ونيف وأربعين عاما عمل من هو هذا العمل الذي يذكرون فما عرفوا عمل من يريدون ولا عجب أعجب من جهل قوم بمعنى قولهم وشرح كلامهم وسنبين هذا بعد صدر من كلامنا في هذا الفصل إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق ويقال لمن قال لا أقبل الخبر حتى يصحبه العمل أللعمل أول أم لا أول له فإن قال لا أول له جاهر بالكذب ولحق بالدهرية وإن قال له أول قيل له وبالله تعالى التوفيق يجب على قولك أن ذلك العمل الأول باطل لا يجوز اتباعه لأنه ابتدىء فيه بعمل بخبر لم يعمل به قبل ذلك والخبر لا يجوز اتباعه حتى يعمل به فهذا العمل قد وقع قبل أن يعمل بالخبر فهو باطل على حكمكم الفاسد المؤدي إلى الهذيان وإلى ألا يصح عمل بخبر أبدا وكفى سقوطا

بقول أدى إلى ما لا يعقل وكثير مما يقتحمون مثل هذا كقولهم في معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكقولهم في أن الركعة الثانية من صلاة من يقضي صلاة أدرك منها ركعة مع الإمام هي قبل الأولى والثالثة قبل الثانية وهذا كما ترى لا يعقل وحسبنا الله ونعم الوكيل وإذا كان ما ذكروا من أنه لا يجوز أن يعمل بخبر حتى يعمل به قبل هذا العمل وكان الخبر قد وجد وقتا من الدهر قبل أن يعمل له فلا يجوز أن يصح العمل بخبر أبدا وإذا كان ذلك فكل عمل بخبر من الأخبار فهو باطل والباطل لا يصحح الحق ولا يحقق الباطل ولا يثبت به شيء ويقال لهم أيضا أرأيتم الخبر المسند الصحيح قبل أن يعمل به أحق هو أم باطل ولا بد من أحد هذين فإن قالوا حق فسواء عمل به أو لم يعمل به ولولا يزيد الحق درجة في أنه حق أن يعمل به ولا يبطله أن يترك العمل به أن أهل الأرض كلهم أصفقوا على معصية محمد صلى الله عليه وسلم ما كان ذلك مسقطا لوجوب طاعته وقد فعلوا ذلك في أول مبعثه صلى الله عليه وسلم فما كان ذلك مبطلا لصحة قوله ولو آمن به جميع أهل الأرض وأطاعوه ما زاد قوله عليه السلام منزلة في الصحة على ما كان عليه قبل أن يقبله أو يعمل به أحد من الناس ونفسه ضر تارك العمل بالحق ولم يضر الحق شيئا وكذلك لو أصفق أهل الأرض كلهم على نبوة مسيلمة لعنه الله ما حققها ذلك وإذا أجمعوا على الكفر به ما زاد ذلك في قوله في البطلان على ما كان عليه حين نطقه به وإن قالوا الخبر باطل قبل العمل به فالباطل لا يحققه العمل له ولا يزيد الله بالعمل بالباطل إلا ضلالا وخزيا فثبت بالبرهان الضروري أن لا معنى

للعمل ولا ينبغي أن يلتفت إليه ولا يعبأ به وقد أصفق أهل الأرض كلهم على العمل بشرائع الكفر قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فما صححها ذلك قال علي وهذه لفظة قذفها الشيطان في قلوبهم وطرحها على ألسنتهم وأيد ذلك الجهل والعصبية المردية وبالله نستعيذ من البلاء وإياه نستعين على إدراك الصواب وبالله تعالى التوفيق ثم نقول لهم متى أثبت الله العمل بالخبر الصحيح أقبل أن يعمل به أم بعد أن يعمل به فإن قالوا قبل أن يعمل به فهو قولنا وإن قالوا بعد أن يعمل به لزمهم أن العاملين به هم الذين شرعوا تلك الشريعة وهذا كفر من قائله ولم يبق لهم إلا أن يقولوا لما ترك العمل بالخبر علمنا أنه منسوخ وهذا هو باب الإلهام الذي ادعته الروافض لأنفسها لأنه قول بلا برهان قال علي وإنما هذا كله بعد أن يعرفوا عمل من يريدون وأما وهم لا يدرون عمل من يعنون فلسنا نحتاج أن نبلغ معهم ههنا وقد حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال عن يزيد بن إبراهيم التستري ثنا زريق وكان عاملا لعمر بن عبد العزيز على أيلة قال كتبت إلى عمر بن عبد العزيز في عبد آبق سرق وذكرت أن أهل الحجاز لا يقطعون العبد الآبق إذا سرق قال فكتب إلي كتبت إلي في عبد آبق سرق وذكرت أن أهل الحجاز لا يقطعون الآبق إذا سرق وإن الله تعالى يقول {ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} الآية فإن كان قد سرق قدر ما يبلغ ربع دينار فاقطعه به وبه إلى حجاج بن المنهال ثنا الربيع بن صبيح قال سألت نافعا مولى ابن عمر أو سأله رجل وأنا شاهد على الرهن والقبيل في السلف والورق والطعام إلى أجل مسمى قال لا أرى بذلك بأسا فقلت له إن الحسن يكرهه قال لولا

أنكم تزعمون أن الحسن يكرهه ما رأيت به بأسا فأما إذا كرهه الحسن فهو أعلم به فهذا عمر بن عبد العزيز لم يبال بعمل أهل الحجاز إذ وجد القرآن بخلاف وهذا نافع مولى ابن عمر من كبار فقهاء أهل المدينة توقف في فتياه إذ خالفه الحسن وهو عراقي ثم نسألهم فنقول لهم عمل من تريدون أعمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلهم أم عمل عصر دون عصر أم عمل محمد صلى الله عليه وسلم أم عمل أبي بكر أم عمل عمر أم عمل عثمان ولم يكن في المدينة إمام غير هؤلاء أم عمل صاحب من سكان المدينة بعينه أم عمل جميع فقهاء المدينة أم عمل بعضهم ولا سبيل إلى وجه غير ما ذكرنا فإن قالوا عمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلها بان كذبهم لأن الخلاف بين الأمة أشهر من ذلك وهم دأبا إنما يتكلمون على من يخالفهم فإن كانت الأمة مجمعة على قولهم فمع من يتكلمون إذا وإن قالوا عصرا ما دون سائر الأعصار بان كذبهم أيضا إذ كل عصر فالاختلاف بين فقهائه موجود منقول مشهور ولا سبيل إلى وجود مسألة اتفق عليها أهل عصر ما ولم يكن تقدم فيها خلاف قبلهم ثم اختلف فيها الناس هذا ما لا يوجد أبدا فإن قالوا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أريناهم أنهم أترك الناس لعمله عليه السلام بل لآخر عمله فإنهم رووا أن آخر عمله كان الإفطار في رمضان في السفر والنهي عن صيامه فقالوا هم الصوم أفضل وكان آخر عمله عليه السلام الصلاة بالناس جالسا وهم أصحاء وراءه إما جلوس على قولنا وإما قيام على قول غيرنا فقالوا هم صلاة من صلى كذلك باطل ورووا في الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة أفاض الماء على جسده فقالوا هم طهور من تطهر كذلك باطل حتى يتدلك ورووا أنه صلى الله

عليه وسلم كان يرفع يديه في الصلاة إذا ركع وإذا رفع فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه صلى الله عليه وسلم صلى فقرأ بالطور في المغرب وبالمرسلات وكان ذلك في آخر عمره صلى الله عليه وسلم فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أم الناس فأتم أم القرآن قال آمين قالوا ليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام سجد في {إذا لسمآء نشقت} فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالناس جالسا وهم جلوس وراءه فقالوا صلاة من صلى كذلك باطل وليس عليه العمل ورووا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ابتدأ بالصلاة بالناس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فدخل فجلس إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه فأتم عليه الصلاة بالناس فقالوا ليس عليه العمل ومن صلى هكذا بطلت صلاته ومن البديع أن بعضهم قال صلاته عليه السلام في غزوة تبوك خلف عبد الرحمن بن عوف ناسخة لهذا العمل قال علي وهذا كلام لو قيل لقائله أسف ما شئت واجتهد ما قدر بأن يأتي بأكثر مما أتى به لوجهين أحدهما أن صلاته عليه السلام خلف عبد الرحمن بن عوف التي ادعوا أنها ناسخة كانت في تبوك وصلاته عليه السلام إلى جنب أبي بكر التي ادعوا أنها منسوخة كانت قبل موته عليه السلام بخمس ليال فقط وهي آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فكيف ينسخ أمر كان قبل موته عليه السلام بأشهر أمرا كان قبل موته عليه السلام بخمس ليال أيفوه بهذا من له مسكة عقل أو يحل لمن هذا مقدار علمه وعقله أن يتكلم في دين الله عز وجل وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا يقول إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاهموه انتزاعا ولكن ينزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون قال علي والوجه الثاني من سقوط كلام هذا الجاهل أنه حتى لو كانت

صلاته عليه السلام خلف عبد الرحمن بعد صلاته خلف أبي بكر ما كان فيها نسخ لها لأنه ليس في صلاته خلف عبد الرحمن نهي عما في صلاته خلف أبي بكر ولا مخالفة بل هو حكم آخر وعلم آخر وفي الاحتجاج المذكور عبرة لمن اعتبر ولهم مثله كثير ورووا أنه عليه السلام جمع بين الظهر والعصر في غير خوف ولا سفر فقال مالك أرى ذلك كان من مطر فقالوا ليس عليه العمل لا في مطر ولا في غيره ورووا أنه عليه السلام أتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ونضحه ولم يغسله فقالوا ليس عليه العمل وهذا لا يطهر الثوب ومن صلى بثوب هذا صفته صلى بنجس فعلموا نبيهم صلى الله عليه وسلم ما لم يكن في علمه وجعلوه مصليا بثوب نجس تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ورووا أنه عليه السلام صلى بالناس وهو يحمل أمامة بنت أبي العاص على عنقه فقالوا ليس عليه العمل وهذا إسقاط للخشوع قال علي هذا كلام من قاله منهم ناسبا لسقوط الخشوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر وارتد وحل دمه وماله ولحق باليهود والنصارى ومن نسب ذلك إلى المقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم ينسبه إلى المقتدي به فقد توقح ما شاء وسخف وهما خطتا خسف لا بد من إحداهما وأظرف من كل ظريف أنهم احتجوا بهذا الحديث نفسه في أن الصلاة لا تبطل على من صلاها وهو حامل نجاسة فعصوا الحديث فيما ورد فيه وجاهروا بالكذب في أن يستبيحوا به ما ليس فيه ولهم مثله كثير ورووا أنه عليه السلام كان يقرأ في صلاة العيد بسورة {ق ولقرآن لمجيد} {قتربت لساعة ونشق لقمر} فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام كان يقبل في رمضان نهارا فقالوا نكره ذلك لشاب وليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد فقالوا ليس عليه العمل وقال شيخ منهم كبير

عندهم صغير في الحقيقة هذا إدخال الجيف في المسجد فنعقب عاقبة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ورووا أنه صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي وهو غائب وأصحابه رضي الله عنهم خلفه صفوف فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر فقالوا ليس عليه العمل ثم احتجوا بهذا الحديث في إباحة الصلاة إلى القبور فعصوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في نهيهم عما جاء به العمل الصحيح وافتروا في الحديث ما ليس فيه وراموا بذلك إبطال نهي صحيح قد ثبت لا يحل خلافه ورووا أنه عليه السلام أعطى القاتل السلب وقضى بذلك فقالوا ليس عليه العمل إلا أن يرى الإمام ذلك ورووا أنه عليه السلام أباح النكاح بخاتم حديد فقالوا ليس عليه العمل وهذا نكاح لا يجوز ولا بد من ربع دينار تحكما من آرائهم الفاسدة وقياسا على ما تقطع فيه اليد عندهم فهلا قاسوه على ما يستباح به الظهر من جرعة خمر لا تساوي فلسا على أن إيلام الظهر أشبه باستباحة الفرج من قطع اليد باستباحة الفرج لأن الفرج والظهر عضوان مستوران والظهر والفرج لا يقطعان واليد تقطع وتبان فأحاط الخطأ بهم من كل وجه ورووا أنه عليه السلام أنكح رجلا امرأة بسورة من القرآن فقالوا ليس عليه العمل وهذا لا يجوز ورووا أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة فقالوا ليس عليه العمل ولكن إن كان جنين حرة ففيه خمسون دينارا وإن كان جنين أمة ففيه عشر قيمة أمة قياسا على بيضة النعامة يكسرها المحرم فأخطؤوا في خلافهم حكم الله تعالى ورسوله عليه السلام وأخطؤوا في شرعهم ما لم يأذن به الله تعالى وتحكموا في القيمة بلا برهان ولا هدى من الله تعالى وأخطؤوا في تفريقهم بين جنين الحرة وجنين الأمة بلا دليل في قياس جنين الأمة على بيضة النعامة خطأ يضحك في إيجابهم في بيضة النعامة عشر البدنة وهم لا يرون الاشتراك في الهدي وكل ذلك

بلا دليل وبالله تعالى التوفيق وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودى عبد الله بن سهل وهو حضري مدني مائة من الإبل فقالوا ليس عليه العمل ولا يودي بالإبل إلا أهل البادية وأما أهل الحاضرة فلا يودون إلا بالدنانير والدراهم وتعلقوا في ذلك بعمر وهم قد خالفوا عمر في هذا المكان نفسه لأن عمر كما جعل على أهل الذهب الذهب وعلى أهل الفضة الفضة وكذلك جعل على أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الغنم ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة فقالوا ليس على فعل عمر العمل في البقر والغنم والحلل وإنما نفعل فعله في الذهب والورق والإبل خاصة ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل القسامة في قتيل وجد بخيبر فقالوا ليس عليه العمل ولا يعجز أحد عن أن يلقي قتيلا قتله في دور قوم آخرين فخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفوا عمل عمر في القسامة أيضا واحتج إسماعيل في ذلك ببقرة بني إسرائيل فأتى بحديث لم يأت به قرآن ولا خبر عن النبي وإنما هي خرافة في خرافات أهل الكتاب ولو صح قولهم لكانت آية معجزة عظيمة لا يقدرون على مثلها أبدا وتلك الآية لم يكن فيها قسامة فقد خالفوا عمل بني إسرائيل أيضا وقالوا إنما القسامة في دعوى المريض أن فلانا قتله وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل قول أحد في ادعائه دم أحد أو ماله فقبلوا دعواه في الدم ولم يتهموه وأبطلوا دعاواه في المال واتهموه وكفى بذكر هذا عن تكلف رد عليه ورووا أنه عليه السلام رجم يهوديين زنيا فقالوا ليس عليه العمل ولا يجوز رجمهم وأتى بعضهم في ذلك بعظيمة تخرج عن الإسلام وذلك أن قال إنما رجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفيذا لما في التوراة فجعلوه عليه السلام منفذا لأحكام اليهود وصانوا أنفسهم الدنية الساقطة عن ذلك

ويعيذ الله تعالى نبيه وخيرته من الإنس أن يحكم بغير ما أمره الله به وقد أمره الله تعالى أن يقول {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} ورووا أنه عليه السلام قضى بالتغريب على الزاني غير المحصن فقالوا لا نغرب العبد لأنه ضرر بسيده ولم يراعوا في تغريب الحر الضرر بزوجته وولده وماله وأبويه إن كان له أبوان ورووا أنه عليه السلام احتجم وهو محرم فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام تطيب لإحرامه قبل أن يحرم فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام تطيب لحله قبل أن يطوف بالبيت فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام قضى بإبطال كل شرط ليس في كتاب الله عز وجل فأجازوا أزيد من ألف شرط ليس منها واحد في كتاب الله منها من شرط لأهل دار الحرب النزول في دار الإسلام بأسرى المسلمين وسبايا المسلمات يطؤونهن ويردونهن إلى بلاد الكفر ويستخدمونهم ويهبونهم ويبيعونهم وهذا شرط لا يجيزه إلا إبليس ومن اتبعه ورووا أنه عليه السلام قسم خيبر فقالوا ليس عليه العمل وتركوا ذلك لإيقاف عمر الأرض مع إقرارهم بأنهم لا يعرفون كيف عمل عمر في ذلك أفيكون أعجب من ترك عمل مشهور متيقن على النبي صلى الله عليه وسلم مع جميع أصحابه لعمل مجهول لا يدرون كيف وقع بإقرارهم من عمل عمر وقد خالفه في ذلك الزبير وبلال وغيرهما ورووا أنه عليه السلام قضى بإيجاب الولاء لمن أعتق فقالوا من أعتق سائبة فلا ولاء له قال علي فهذا ما تركوا فيه عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من روايتهم في الموطأ خاصة ولو تتبعنا ذلك من رواية غيرهم لبلغ أضعاف ما ذكرنا وما خالفوا فيه أوامره عليه السلام من روايتهم ورواية غيرهم أضعاف ذلك ولعل ذلك يتجاوز الألوف فقد بطل كما ترى ما ادعوه من اتباع عمل النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أنهم أترك خلق الله لعمل نبي الله صلى

الله عليه وسلم ثم لآخر عمله ولعمل الأئمة بعده فإن قالوا عمل أبي بكر قلنا لهم وبالله التوفيق لم ترووا في الموطأ عن أبي بكر رضي الله عنه إلا عشر قضايا خالفتموه منها في ثمان ورووا عنه أنه صلى بالبقرة ركعتين ووراءه المهاجرون والأنصار من أهل المدينة فقالوا ليس عليه العمل ورووا عنه أن قرأ في الثالثة من المغرب بعد أم القرآن {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت لوهاب} الآية فقالوا ليس عليه العمل ورووا عنه أنه أمر أميرا له وجهه إلى الشام ألا يقطع شجرا مثمرا فقالوا ليس عليه العمل وجائز قطع الشجرة المثمر في دار الحرب ورووا أنه أمره ألا يعقر شاة ولا بعيرا إلا لمأكله فقالوا ليس عليه العمل وجائز عقرها في دار الحرب لغير مأكله وهذا مما خالفوا فيه قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر معا لآرائهم ورووا أنه نهاه عن تخريب العامر فقالوا ليس عليه العمل ولا بأس بتخريبه ورووا عنه أنه ابتدأ الصلاة بالناس فكبر ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فتخلل الصفوف فصفق الناس فتأخر أبو بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتم الصلاة بالناس فقالوا هذه صلاة لا تجوز وليس عليه العمل فخالفوا كما ترى عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل أبي بكر وعمل جميع من حضر ذلك من المهاجرين والأنصار وهم أهل العلم من أهل المدينة برأي من آرائهم الفاسدة ورووا أنه أمر يهودية أن ترقي عائشة رضي الله عنها فقالوا ليس عليه العمل ونكره رقى أهل الكتاب هذا من روايتهم في الموطأ وأما من رواية غيرهم فكثير ومما خالفوه أيضا سبيه نساء أهل الردة وصبيانهم وعمله بذلك في المدينة مع المهاجرين والأنصار إلا من خالفه في ذلك منهم فقالوا ليس عليه العمل فإن قالوا عمل عمر قيل لهم وبالله تعالى التوفيق رويتم عن عمر

رضوان الله عليه أنه قرأ في صلاة الصبح بسورة الحج وسورة يوسف ووراءه أهل المدينة من الأنصار والمهاجرين فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه سجد في الحج سجدتين فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه سجد في سورة النجم سجدة فقالوا ليس عليه العمل وهذا مما خالفوا فيه عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمر وجميع الصحابة وادعوا في ذلك علما خفي عنهم ورووا أنه نزل عن المنبر يوم الجمعة وهو يخطب فسجد وسجد معه المهاجرون والأنصار ثم رجع إلى خطبته فقالوا ليس عليه العمل ورووا أمر أبيا وتميما أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة في ليالي رمضان فقالوا ليس عليه العمل ورووا أن الناس كانوا يقومون أيام عمر بثلاث وعشرين ركعة في ليالي رمضان فقالوا ليس عليه العمل فخالفوا قضاء عمر وعمل أبي بن كعب وتميم الداري والمهاجرين والأنصار بالمدينة لدعوى زائغة وعمل مجهول وقالوا العمل في القيام على تسعة وثلاثين ركعة ورووا أنه صلى المغرب بالناس ومعه أهل المدينة والمهاجرون والأنصار فلم يقرأ فيها شيئا فأخبر بذلك فلم يعد الصلاة ولا أمر بإعادتها فقالوا ليس عليه العمل وقد بطلت صلاة من صلى هكذا ورووا أنه كتب إلى عماله أن يأخذوا من سائمة الغنم الزكاة فقالوا السائمة وغير السائمة سواء ورووا أنه شرب لبنا فأعجبه فأخبر أنه من نعم الصدقة فتقيأه فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه كان يقرد بعيره في طين بالسقيا وهو محرم فقالوا ليس عليه العمل فلا ندري أجعلوا القردان صيدا منهيا عنه في الإحرام أم جعلوا على البعران إحراما أم كيف وقع لهم هذا ورووا عنه أنه قضى في الأرنب بعناق قالوا ليس عليه العمل وقد وافقه على ذلك غيره من الصحابة رضوان الله عليهم وافترض تعالى في جزاء الصيد ما حكم به ذوا عدل ولا عدول أعدل من الصحابة فقد خالفوا ههنا القرآن وفعل الصحابة وتركوا الحق بيقين ورووا أنه

حكم في اليربوع بجفرة فقالوا ليس عليه العمل وهذا كالذي قبله وروي أنه حلف لئن أتي بمسلم أمن مشركا ثم قتله ليقتلن ذلك المسلم فقالوا ليس عليه العمل ولا يقتل مؤمن بكافر فمرة يتركون الحديث لقول عمر ويقولون عمر كان أعلم منا ومرة يتركون قول عمر ويقولون الحديث أحق أن يتبع وفي هذا من التناقض ما فيه ثم رأوا من رأيهم أن يخالفوا الحديث المذكور الذي له تركوا قول عمر فقال يقتل المؤمن بالكافر إذا قتله قتل غيلة ورووا عنه أنه جعل القراض مضمونا على عبد الله ابنه فقالوا لا يجوز وليس عليه العمل فتركوا عمل عمر وعبد الله بن عمر وقضاءه بحضرة المهاجرين والأنصار ورووا عنه أنه قضى فيمن تزوج امرأة فوجد بها جنونا أو جذاما أو برصا فمسها فلها صداقها كاملا ويرجع به الزوج على وليها فقالوا لا يغرم الولي شيئا إلا أن يكون أبا أو أخا فأما إن كان من العشيرة فلا غرم عليه لكن تغرم هي الصداق إلى ربع دينار ورووا عنه أنه إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق فقالوا إن طال نعم وإلا فلا ورووا عنه أنه قضى بأنه لو تقدم في نكاح السر لرجم فيه فقالوا ليس عليه العمل ولا رجم فيه هذا مع فسخهم نكاح السر وإبطالهم إياه وتحريمهم له ورووا عنه أنه قضى في المتعة لو تقدم فيها لرجم فقالوا ليس عليه العمل ولا رجم فيها وقد قال بعضهم إنما هذا من عمر وعيد لا حقيقة فنسبوا إليه الكذب الذي قد نزهه الله عنه ولا غرو فقد قال ذلك بعضهم في قوله عليه السلام إذ هم بحرق بيوت المتخلفين عن الصلاة مثل ذلك وتلك التي تستك منها المسامع

ورووا عنه أنه أشخص رجلا قال لامرأته حبلك على غاربك من العراق إلى مكة واستحلفه عن نيته في ذلك قالوا ليس عليه العمل ولا يستجلب أحد من العراق إلى مكة لليمين ولا ينوي أحد في ذلك وهي ثلاث أبدا فخالفوا قضاء عمر في موضعين من هذا الحديث خاصة ورووا عنه أنه قال لا حكرة في سوقنا فقالوا لا بأس بالحكرة في السوق ورووا عنه أنه قضى بالمدينة بحضرة المهاجرين والأنصار على محمد بن مسلمة بأن يمر الضحاك بن خليفة في أرضه بخليج جلبه ومحمد كاره لذلك فقالوا ليس عليه العمل ورروا عنه أنه قضى على جد عمرو بن يحيى المازني بأن يحول عبد الرحمن بن عوف خليجا له في أرض ذلك المازني من مكان إلى مكان والمازني كاره فخالفوا قضاء عمر وعبد الرحمن بن عوف بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة وقالوا ليس عليه العمل وقال ابن نافع صاحب مالك وقد ذكر ذلك الخبر فقال عليه العمل فليت شعري عمل من هو هذا العمل المتجاذب الذي يدعيه قوم منهم وينكره آخرون ورووا عنه أنه أغرم حاطبا في ناقة لرجل من مزينة نحرها عبيد لحاطب فقطع أيديهم وسأل عن ثمن الناقة فكان أربعمائة فأضعف القيمة على حاطب وأغرمه بمائتي درهم وذلك بحضرة المهاجرين والأنصار من أهل المدينة فقالوا ليس عليه العمل ورووا عنه أو عن عثمان أنه قضى في أمة غرت من نفسها فادعت أنها حرة فتزوجها رجل فولدت فقضى عليه أن يفدي أولاده بمثلهم فقالوا ليس عليه العمل ولا يقضى عليه بعبيد لكن بالقيمة ورووا عنه أنه حكم في منبوذ وجده رجل أن ولاءه للذي وجده فقالوا ليس عليه العمل ولا ولاء للملتقط على اللقيط ورووا عنه أنه قضى في هبة الثواب أنه على هبته يرجع فيها إن لم يرض منها فقال ليس عليه العمل وإن تغيرت الهبة عند الموهوب له بزيادة أو نقصان فلا رجوع للواهب فيها وليس له إلا القيمة ورووا عنه أنه كانت

الإبل الضوال مهملات لا يعرض لها أحد في أيامه فقالوا ليس عليه العمل فخالفوا عمل عمر بحضرة المهاجرين والأنصار مع موافقة ذلك لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قالوا عثمان رأى غير ذلك أريناهم ما يخالفوا فيه عمل عثمان وأيضا فما الذي جعل عثمان أولى بأن يتبع من عمر لولا التخليط وفساد الرأي ورووا عنه أن رجلا من بني سعد بن ليث أجرى فرسا فوطأ أصبع رجل من جهينة فنزف الجهني فمات فقال عمر للسعديين أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها فتحرجوا وأبوا فقال للجهنيين احلفوا أنتم لمات منها فأبوا فقضى على السعديين بنصف الدية فقالوا ليس عليه العمل ولكن يبدأ المدعون وقالوا ليس العمل على إغرامه أولياء القاتل نصف الدية ومن العجب العجيب أن مالكا الذي خالف هذا الحديث في ثلاثة مواضع أحدها تبدئة المدعى عليهم في اليمين وثانيها إغرام المدعى عليهم بلا يمين من المدعين وثالثها إغرامهم نصف الدية لا كلها ثم احتج به بعد أوراق من كتابه في إغرام الراكب والقائد والسائق وجعل أصله في ذلك فعل عمر بالسعديين وهو قد خالفه في الحديث نفسه كما ترى فليت شعري ما الذي جعل ربع حكم عمر في هذا الحديث حجة يوقف عندها وثلاثة أرباعه مطرحا لا يعمل له فلولا البلاء لما كان يقلد هؤلاء القوم هذه الأقوال ويتركون لها القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ورووا عنه أنه قضى في الترقوة بجمل فقالوا ليس عليه العمل ورووا عنه أنه قضى في الضرس بجمل فقالوا ليس عليه العمل ورووا عنه أنه قضى في الضلع بجمل فقالوا ليس عليه

العمل ورووا عنه أنه جلد عبدا زنى وغربه فقالوا ليس عليه العمل ولا يغرب العبد فخالفوا قضاء عمر وعمله بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة ومعه سنة النبي صلى الله عليه وسلم لآرائهم الفاسدة ورووا عنه أنه أمر ثابت بن الضحاك وكان قد التقط بعيرا بأنه يعرفه ثلاثا ثم أمره بإرساله حيث وجده فخالفوا قضاء عمر وعمل ثابت فهذا ما خالفوا فيه عمر من روايتهم في الموطأ خاصة وأما من رواية غيرهم فأضعاف ذلك فإن قالوا عمل عثمان قيل لهم وبالله تعالى التوفيق إنهم رووا عن عثمان أنه كان يصلي الجمعة ثم ينصرف وما للجدران ظل فقالوا ليس عليه العمل ولا تجوز الصلاة إلا بعد الخطبة ولا يبتدأ بالخطبة إلا بعد الأذان ولا يبتدأ بالأذان إلا بعد الزوال فإن زالت الشمس فقد حدث للجدران ظل ورووا عنه أنه أذن على المنبر لأهل العالية في يوم عيد وافق يوم جمعة في أن يرجع منهم من أحب فقالوا ليس عليه العمل ولا نأخذ بإذن عثمان في ذلك وهو قد قضى ذلك بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة ورووا عنه أنه كان يغطي وجهه وهو محرم فقالوا ليس عليه العمل ولا يغطي المحرم وجهه ورووا عنه أنه كان يخاطب أصحاب الديون من الذهب والفضة فيقول على المنبر هذا شهر زكاتكم فقالوا ليس عليه العمل وليس للدنانير والدراهم شهر زكاة معروف ورووا عنه أنه نهى عن القران والمتعة ورووا عن عمر مثل ذلك فقالوا ليس عليه العمل ولا ينهى عن ذلك فهلا فعلوا مثل ذلك في توريثه المطلقة ثلاثا من زوجها إذا طلقها وهو مريض وهلا تركوا تقليده هنالك بلا دليل كما تركوه ههنا فكانوا يوقفون في ذلك ورووا عنه أنه صلى بمنى أربع ركعات فقالوا ليس عليه العمل وقالوا القصر حق تلك الصلاة واحتجوا في ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وقد ذكرنا ما خالفوا فيه عمل كل من ذكرنا آنفا وما تركوا فيه عمر لعثمان ورووا

أنه كان يكثر من قراءة يوسف في صلاة الصبح ورووا أيضا نعني قراءتها عن عمر فقالوا ليس عليه العمل ورووا عنه من أصح طريق وأجلها وهي رواية مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال رأيت عثمان فذكر أنه رآه بالعرج وهو محرم ثم أتي بلحم صيد فقال لأصحابه كلوا فقالوا ولا تأكل أنت فقال إني لست كهيئتكم إنما صيد من أجلي فقالوا ليس عليه العمل ولا يجوز أن يأكل محرم ما صيد من أجل محرم غيره ومحا مالك قول عثمان هذا وكرهه كراهة شديدة هذا نص الموطأ فأين العمل إن لم يكن عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان بحضرة المهاجرين والأنصار ورووا عنه وعن عمر النهي عن الحكرة فقالوا ليس عليه العمل ولا بأس بها قال علي وكذلك خالفوا عمل عائشة رضي الله عنها وابن عمر وسائر الصحابة بالمدينة لا نحاشي منهم أحدا وكذلك خالفوا سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وسائر فقهاء المدينة وأقرب ذلك خلافهم للزهري وربيعة في أشياء كثيرة جدا منها أن الزهري كان يرى الزكاة في الخضر والتيمم إلى الآباط وغير ذلك وقد حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا عبد الله بن عمر النميري ثنا يونس بن يزيد الأبلي سمعت الزهري قال هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب في الصدقة وهي عند آل عمر بن الخطاب قال الزهري اقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله بن عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله بن عمر حين أمر على المدينة فأمر عماله بالعمل بها وكتب بها إلى الوليد بن عبد الملك فأمر الوليد عماله بالعمل بها ثم لم يزل الخلفاء يأمرون بذلك ثم أمر هشام بن محمد بن هانىء عامله فنسخها إلى كل عامل من عمال المسلمين وأمرهم بالعمل

بما فيها ولا يتعدونه وذكر باقي الحديث قال علي فهذا عمل فاش كما ترى وأصله صحيفة مرسلة غير مسندة كما ترى ثم لم يفش العمل بها إلا بعد نحو ثمانين عاما من موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد عمل عمال عثمان قبل ذلك بغير ذلك وعمال علي رضوان الله عليه بما جاءت به الرواية عن علي وعمال ابن الزبير بغير ذلك وعمال أبي بكر الصديق بغير ذلك وعند آل حزم صحيفة أخرى فما الذي جعل عمل الوليد الظالم ومن بعده من لا يعتد به حاش عمر بن عبد العزيز وحده أولى من عمل ابن الزبير وعمل علي وعمل عثمان وعمل أبي بكر الصديق وهذا تنازع يوجب الرد إلى القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحيحة وليس ذلك إلا في حديث أنس عن أبي بكر وحده فقد صح تركهم لعمل كل من له عمل يمكن أن يراعى أو يقتدى به وصح ما قلنا من أنهم لا يدرون عمل من يعنون بقولهم ليس عليه العمل فإن قالوا عمل الأكثر فقد أريناهم أنه لا أكثر من أهل عصر عمر وعثمان ومن صلى معهم ووافقهم على ما ترك هؤلاء من أعمال أولئك وأنهم قد تركوا عمل الأكثر وثبت بهذا ما ذكره بعض الرواة ومن أنهم إنما يعنون عمل صاحب السوق في المدينة في عصر مالك وهذا كما ترى وقد جمع عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ما اتفق عليه فقهاء المدينة السبعة خاصة فلم يبلغ ذلك إلا أوراقا يسيرة هذا وعبد الرحمن من هو في الضعف والسقوط ألا يحتج بروايته وما جعل الله أولئك أولى بالقبول

منهم من نظرائهم من أهل الكوفة الذين هم أفضل منهم في ظاهر الأمر كعلقمة بن قيس والأسود بن يزيد وشريح القاضي وعمرو بن ميمون ومسروق وأبي عبد الرحمن السلمي وعبيدة السلماني وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن عتبة بن مسعود وعبد الرحمن بن يزيد الليثي وسعيد بن جبير ولا من نظرائهم من أهل البصرة كالحسن البصري ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد ومسلم بن يسار وأبي قلابة وبكر بن عبد الله المزني وزرارة بن أوفى وحميد بن عبد الرحمن وأيوب وابن عون ويونس بن عبيد وسليمان التيمي ولا من نظرائهم من أهل الشام كعمر بن عبد العزيز وأبي إدريس الخولاني وقبيصة بن ذؤيب وجبير بن نفير ورجاء بن حيوة ولا من نظرائهم من أهل مكة كطاوس وعطاء ومجاهد وعمر بن دينار وعبيد بن عمير وابنه عبد الله وعبد الله بن طاووس ومذ مضى الصحابة الخلفاء رضوان الله عليهم فما ولي قضاء المدينة مثل شريح ولا مثل محارب بن دثار ولا مثل زرارة بن أوفى ولا مثل الشعبي ولا مثل أبي عبيدة بن عبد الله ولا مثل عبد الله بن عتبة أصلا ويقال لهم أيضا هل اختلف عمل أهل المدينة أو لم يختلف فإن قالوا لم يختلف أكذبهم الموطأ وجميع الروايات وإن قالوا اختلف قيل لهم فما الذي جعل اتباع عمل بعضهم أولى بالاتباع من عمل سائرهم وقد أبطل الله كل عمل عند الاختلاف حاشى الرد إلى كتاب الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فمن رد إلى

غيرهما فقد عصى الله ورسوله وضل ضلالا مبينا لقوله تعالى {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى لله ورسوله أمرا أن يكون لهم لخيرة من أمرهم ومن يعص لله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} وهم ينسبون إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم بهذا الأصل الملعون أعظم الفرية وأشد التضييع للإسلام وقلة المبالاة به وهذا لا يحل لمسلم أصلا أن يظنه فكيف أن يعتقده ويدعو إليه وذلك لأن عمر رضي الله عنه مصر البصرة والكوفة ومصر والشام وأسكنها المسلمين وولى عليهم الصحابة كسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري وعتبة بن غزوان وغيرهم وولى عثمان عليهم ولاته أيضا كذلك كمعاوية وعمرو بن العاص وقد وليا لعمر أيضا مع عمار وابن مسعود وغيرهم ثم ولى علي البصرة عثمان بن حنيف وعبد الله بن عباس وولى مصر قيس بن سعد أفترى عمر وعثمان وعليا وعمالهم المذكورين كتموا رعيتهم من أهل هذه الأمصار دين الله تعالى والحكم في الإسلام والعمل بشرائعه وما يفعل هذا مسلم بل الذي لا شك فيه أنهم كلهم علموا رعيتهم كل ما يلزمهم كأهل المدينة ولا فرق ثم سكن علي الكوفة أفتراه رضي الله عنه كتم أهلها شرائع الإسلام وواجبات الأحكام والله ما يظن هذا مسلم ولا ذمي مميز بالسير فإذ لا شك في هذا فما بالمدينة سنة إلا وهي في سائر الأمصار كلها ولا فرق وأما مذ مضى هذا الصدر الكريم رضي الله عنهم فوالله ما ولي المدينة ولا حكم فيها إلا فساق الناس كعمرو بن سعيد والحجاج بن يوسف وطارق وخالد بن عبد الله القسري وعبد الرحمن بن الضحاك وعثمان بن حيان المري وكل عدو لله حاشى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبان بن عثمان وعمر

بن عبد العزيز فإنه كان كل واحد منهم فاضلا وليها أبو بكر أربعة أعوام عامين قاضيا وعامين أميرا لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فأي مزية لأهل المدينة على غيرهم في علم أو فضل أو رواية لو نصحوا أنفسهم وتركوا هذا التخليط الذي لا يسلم معه دين من غلبة الهوى ونصر الباطل وبالله تعالى نعوذ من الخذلان وما أدرك مالك بالمدينة أعلى من نافع وهو قليل الفتيا جدا وربيعة وكان كثير الرأي قليل العلم بالحديث وأبي الزناد وزيد بن أسلم وكانا قليلي الفتيا وأما الزهري فإنما كان بالشام وما كتب عنه مالك إلا بمكة وأما من القضاة فأبو بكر بن عمرو بن حزم وابنه محمد ويحيى بن سعيد الأنصاري على أن أهل العراق يجاذبونه إياه لأنه مات وهو قاض ببغداد وأما سعد بن إبراهيم فكان ثقة إلا أن مالكا لم يأخذ عنه ثم يقال لهم لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالأخبار أن مالكا ولد سنة ثلاث وتسعين من الهجرة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث وثمانين سنة وأنه بقي أزيد من ثلاثين سنة وما اشتهر علمه فأخبروني على أي مذهب كان الناس قبل مالك وطول المدة التي ذكرنا وهي نحو مائة عام وعشرين عاما كان فيها خيار أهل الأرض من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين رحمة الله عليهم فإن قالوا على مذهب مالك أكذبهم مالك في موطئه بما أورد فيه من الاختلاف القديم بين الصحابة والتابعين وقد ذكرنا آنفا من ذلك طرفا صالحا ويقال لهم أيضا إن كان الأمر كما تقولون فما الذي جعل نسبة هذا المذهب إلى مالك أولى من نسبته إلى أبي بكر أو عمر أو عثمان أو عائشة أو ابن عمر أو سعيد بن المسيب أو سليمان بن يسار أو عروة بن الزبير أو ربيعة ولم خصصتم مالكا وحده بأن تنسبوه إليه دون أن تنسبوه إلى من ذكرنا وهم كانوا أفضل منه وأهيب في الصدور فإن قالوا لأن مالكا ثبت

واختلف الناس بان كذبهم بما أورده مالك في موطئه مما خالف فيه من كان قبلهم وقيل لهم انفصلوا ممن عكس قولكم فقال بل الناس ثبتوا وانفرد مالك بمذهب أوجب أن ينسب إليه وإنما تنسب المذاهب إلى محدثيها لا إلى من اتبع غيره فيها وإن قالوا كان الناس على اختلاف في مذاهبهم وتحير قيل لهم فلا ترغبوا عما كان عليه السلف الصالح فليس والله فيما حدث بعدهم شيء من الخير يعني مما يكونوا عليه ولا علمه ذلك الصدر فإن تكن الأمور بالدلائل فالدلائل توضح أن ذلك الصدر كانوا على صواب في الاختيار والنظر مختلفين في مذاهبهم متفقين على إبطال التقليد متفقين على الأخذ بحديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغهم وصح طريقه وإن لم يكن الأمر بالتقليد ونعوذ بالله من ذلك فتقليد عمر وعثمان وسائر من تقدم أولى من تقليد من أتى بعدهم اللهم إلا إذا كان العمل الذي يشيرون إليه من جنس ما حدثناه عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد الفقيه الأشقر ثنا أحمد بن علي القلانسي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن حاتم ثنا بهز ثنا وهيب ثنا موسى بن عقبة عن عبد الواحد بن حمزة عن عباد بن عبد الله بن الزبير يحدث عن عائشة أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يمروا بجنازته فيصلين عليه ففعلوا فوقف به على حجرهن يصلين عليه وأخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد فبلغهن أن الناس عابوا ذلك وقالوا ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد وما صلى رسول

الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد وبالسند المذكور إلى مسلم ثنا محمد بن حاتم بن ميمون ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال قال باع شريك لي ورقا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج فجاء إلي فأخبرني فقلت هذا الأمر لا يصلح قال قد بعته في السوق فلم ينكر ذلك علي أحد فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نبيع هذا البيع فقال ما كان يدا بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فهو ربا وائت زيد بن أرقم فإنه كان أعظم تجارة مني فأتيته فسألته فقال مثل ذلك وبالسند المذكور إلى مسلم حدثنا الحسن بن علي الحلواني ثنا أبو أسامة ثنا محمد بن عمرو ثنا عمر بن مسلم بن عمار الليثي قال كنا في الحمام قبيل الأضحى فأطلي فيه ناس فقال بعض أهل الحمام إن سعيد بن المسيب يكره هذا وينهى عنه فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له فقال يا ابن أخي هذا حديث قد نسي وترك حدثتني أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي أو كلاما هذا معناه قال علي عمرو بن مسلم هذا هو ابن أكيمة الذي يروي عنه مالك وغيره قال علي فإن كان عمل أهل المدينة الذين يحتجون به ويتركون له كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الباب الذي ذكرنا فنحن نبرأ إلى الله

تعالى من هذا العمل ونحن متقربون إلى الله تعالى بعصيان هذا العمل ومضادته ولا شك أنهم يريدون عمل الجمهور الذي وصفنا من نحو إنكار عامة أهل المدينة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم المرور في المسجد وبيع أهل سوق المدينة الورق بالورق أو بالذهب نسيئة ولا ينكر ذلك أحد منهم ومثل تركهم ونسيانهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم في ألا يمس الشعر والظفر من أراد أن يضحي إذا أهل ذو الحجة بشهادة سعيد بن المسيب فقيه أهل المدينة عليهم بذلك فإذا ما قد بينا أنهم لا يتعلقون بعمل النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعمل أبي بكر وعمر وعثمان ولا بعمل أحد بعينه من الصحابة رضوان الله عليهم فلم يبق بأيديهم شيء إلا العمل الذي وصفنا ونعوذ بالله من التعلق بمثل هذا العمل فهو الضلال المبين وحسبنا الله ونعم الوكيل وقد فشا الشكوى بالعمال وتعديهم في المدينة في أيام الصحابة رضوان الله عليهم كما حدثنا حمام بن أحمد قال ثنا عبد الله بن إبراهيم الأصيلي ثنا أبو زيد المروزي حدثنا الفربري ثنا البخاري ثنا قتيبة بن سعيد ثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن سوقة عن منذر الثوري عن محمد بن علي هو ابن الحنفية قال جاء عليا ناس فشكوا سعاة عثمان فقال لي علي اذهب بهذه الصحيفة إلى عثمان فأخبره أنها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر سعاتك يعملون بها فأتيته بها فقال أغنها عنا فأتيت بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخبرته فقال ضعها حيث أخذتها فقد صح كما ترى في بطلان قول من يدعي حجة بعمل أهل المدينة أو غيرهم ووجب أن لا حجة إلا فيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنكر عمر رضي الله عنه على حسان إنشاده الشعر في المسجد فلما قال له قد أنشدت فيه وفيه من هو خير منك وذكر

له رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت عمر ومضى فهذا كله يبين أن لا حجة في قول أحد ولا في علمه بعد النبي صلى الله عليه وسلم فإن قالوا مالك أتى متأخرا فتعقب قيل لهم فتقليد من أتى بعد مالك فتعقب عليه أولى كالشافعي وأحمد بن حنبل وداود وغيرهم إلى أن يبلغ الأمر إلينا ثم إلى من بعدنا قال علي والصحيح من ذلك أن أبا حنيفة ومالكا رحمهما الله اجتهدا وكانا مما أمرا بالاجتهاد إذ كل مسلم ففرض عليه أن يجتهد في دينه وجريا على طريق من سلف في ترك التقليد فأجرا فيما أصابا فيه أجرين وأجرا فيما أخطآ فيه أجرا واحدا وسلما من الوزر في ذلك على كل حال وهكذا حال كل عالم ومتعلم غيرهما ممن كان قبلهما وممن كان معهما وممن أتى بعدهما أو يأتي ولا فرق فقلدهما من شاء الله عز وجل ممن أخطأ وابتدع وخالف أمر الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وما كان عليه القرون الصالحة وما توجبه دلائل العقل واتبع هواه بغير آإعالى فضل وأضل وكذلك المقلدون للشافعي رحمه الله إلا أن الشافعي رضي الله عنه أصل أصولا الصواب فيها أكثر من الخطأ فالمقلدون له أعذر في اتباعه فيما أصاب فيه وهم ألوم وأقل عذرا في تقليدهم إياه فيما أخطأ فيه وأما أصحاب الظاهر فهم أبعد الناس من التقليد فمن قلد أحدا مما يدعي أنه منهم فليس منهم ولم يعصم أحد من الخطأ وإنما يلام من اتبع قولا لا حجة عنده به وألوم من هذا من اتبع قولا وضح البرهان على بطلانه فتمادى ولج في غيه وبالله تعالى التوفيق وألوم من هذين وأعظم جرما من يقيم على قول يقر أنه حرام وهم المقلدون الذين يقلدون ويقرون أن التقليد حرام ويتركون أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ويقرون أنها صحاح وأنها حق فمن أضل من هؤلاء نعوذ بالله من الخذلان ونسأله الهدى والعصمة فكل شيء بيده لا إله إلا هو

قال أبو محمد وقد قال بعضهم قد صح ترك جماعات من الصحابة والتابعين لكثير مما بلغهم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم فلا يخلو من أن يكونوا تركوه مستخفين به وهذا كفر من فاعله أو يكونوا تركوه لفضل علم كان عندهم فهذا أولى أن يظن بهم قال علي وهذا يبطل من وجوه أحدها أنه قال قائل لعل الحديث الذي تركه من تركه منهم فيه داخلة قيل له ولعل الرواية التي رويت بأن فلانا الصاحب ترك حديثا كذا هي المدخولة وما الذي جعل أن تكون الداخلة في رواة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى من أن تكون في النقلة الذين رووا ترك من تركها وأيضا فإن قوما منهم تركوا بعض الحديث وقوما منهم أخذوا بذلك الحديث الذي ترك هؤلاء فلإن فرق بين من قال لا بد من أنه كان عند من تركه علم من أجله تركه وبين من قال لا بد من أنه كان عند من عمل به علم من أجله عمل به وكل دعوى عريت من برهان فهي ساقطة وقد قدمنا أنه لا يستوحش لمن ترك العمل بالحق سواء تركه مخطئا معذورا أو تركه عاصيا موزورا ولا يتكثر بمن عمل به كائنا من كان وسواء عمل به أو تركه وفرض على كل من سمعه أن يعمل به على كل حال وأيضا فإن الأحاديث التي روي أنه تركها بعض من سلف ليست في أكثر الأمر التي ترك هؤلاء المحتجون بترك من سلف لما تركوا منها بل ترك هؤلاء ما أخذ به أولئك وأخذ هؤلاء بما تركه أولئك فلا حجة لهم في ترك بعض ما سلف لما ترك من الحديث لأنهم أول مخالف لهم في ذلك وأول مبطل لذلك الترك ولا أسوأ من احتجاج امرىء بما يبطل على من لا يحقق ذلك الاحتجاج بل يبطله كإبطال المحتج به له أو أشد وأيضا فلو صح ما افتروه من أنه كان عند الصاحب التارك لبعض الحديث علم من أجله ترك ما ترك من الحديث ونعوذ بالله العظيم من ذلك ونعيذ كل من يظن به خيرا من مثل ما نسبوا إلى أفاضل هذه الأمة المقدسة

لوجب أن يكون من فعل ذلك ملعونا بلعنة الله عز وجل قال الله تعالى {إن لذين يكتمون مآ أنزلنا من لبينات ولهدى من بعد ما بيناه للناس في لكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون} فنحن نقول لعن الله كل من كان عنده علم من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وكتمه عن الناس كائنا من كان ومن نسب هذا إلى الصحابة رضوان الله عليهم فقد نسبهم إلى الإدخال في الدين وكيد الشريعة وهذا أشد ما يكون من الكفر وقد عارضت بنحو من هذا الكلام الليث بن حرفش العبدي في مجلس القاضي عبد الرحمن بن أحمد بن بشر رحمه الله وفي حفل عظيم من فقهاء المالكيين فما أحد منهم أجاب بكلمة معارضة بل صمتوا كلهم إلا قليل منهم أجابوني بالتصديق لقولي وذلك أني قلت له لقد نسبت إلى مالك رضي الله عنه ما لو صح عنه لكان أفسق الناس وذلك أنك تصفه بأنه أبدى إلى الناس المعلول والمتروك والمنسوخ من روايته وكتمهم المستعمل والسالم والناسخ حتى مات ولم يبده إلى أحد وهذه صفة من يقصد إفساد الإسلام والتدليس على أهله وقد أعاذه الله من ذلك بل كان عندنا أحد الأئمة الناصحين لهذه الملة ولكنه أصاب وأخطأ واجتهد فوفق وحرم كسائر العلماء ولا فرق أو كلاما هذا معناه وقد افترض الله تعالى التبليغ على كل عالم وقد قال عليه السلام مخبرا إن من كتم علما عنده فسئل عنه ألجم يوم القيام بلجام من نار فإن قالوا بل ما كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يصح إلا وقد أبداه ورواه للناس وبلغه كما يحق في علمه وروعه قلنا صدقتم وهذه صفته عندنا ونحن على اتباع روايته ورواية غيره من العدول لأنه عدل وقد أمرنا بقبول خبر العدل ونحن على رفض رأيه ورأي غيره لقيام البرهان على تحريم التقليد وهو أول الناس ينهى عن تقليده والعجب

من دعواهم أنهم أخذوا بالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم وأخذوا بالأول المنسوخ لذلك فما حضرنا ذكره مما تركوا فيه آخر فعله صلى الله عليه وسلم وأخذوا بالأول المنسوخ فإنهم لم يجيزوا أن يأتي الإمام المعهود وقد بدأ خليفته على الصلاة بالصلاة فدخل الإمام المعهود فيتم الصلاة ويبني سائر من خلفه على من كبروا في أول صلاتهم ويصير الإمام الذي ابتدأ الصلاة مأموما وهذه آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس في مرضه الذي مات فيه فأبطلوا هذه الصلاة وأجازوا أن يخرج الإمام من الصلاة لعذر أصابه ويستخلف من يتم بالناس صلاتهم وهذا ما لم يأت فيه نص ولا إجماع ولم يروا الصلاة خلف الإمام القاعد والأصحاء وراءه قعود أو قيام وهذه صفة آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلقوا بحديث رواه الجعفي وهو كذاب عن الشعبي مرسلا لا يؤمن أحد بعدي جالسا وهي رواية كوفية وهم يردون الصحيح من رواية أهل الكوفة ويتعلقون بهذه الرواية التي لا شك في كذبها من روايات أهل الكوفة وكرهوا التكبير بتكبير الإمام وأبطلوا في نص روايتهم صلاة المذكور وهذه صفة آخر صلاة صلاها أبو بكر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة جميع المهاجرين والأنصار إلا الأقل منهم وتركوا إباحة الشرب لكل ما لا يسكر من المباحات في جميع الظروف وهو الناسخ وأخذوا بالنهي عن الدباء والمزفت وهو منسوخ بالنص الجلي وكان ذلك في أول الإسلام وتركوا ما في سورة براءة وهي آخر سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه لا تؤخذ جزية إلا من كتابي وتركوا أيضا ما فيها من قوله تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} وتعلقوا بحديث تخيير من

فصل فيه بيان سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة

أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة لأنه لا يجوز أن يوجد أحد نكح أكثر من أربع نكاحا جائزا لأن نكاح من نكح خامسة اليوم باطل حين عقده إياه مفسوخ لا يجوز وإن جوزه الكفار لأن الله تعالى قد حرمه وتحريم الله تعالى لاحق بهم لازم لهم وتركوا النهي عن الصوم في السفر في رمضان وهو الناسخ وأخذوا بإباحة ذلك وهي منسوخة وتركوا النهي عن الكلام مع الإمام في إصلاح الصلاة وهو الناسخ وتعلقوا بالمخصوص المنسوخ وتركوا قراءة والمرسلات في المغرب وهو من آخر فعله صلى الله عليه وسلم وتركوا تطيبه صلى الله عليه وسلم لحله ولإحرامه قبل أن يطوف بالبيت وهو آخر فعله عليه السلام وتعلقوا بالمنسوخ المخصوص الذي كان في الحديبية قبل حجة الوداع وتركوا إيجابه عليه السلام السلب للقاتل وكان في غزوة حنين وهو الناسخ وتعلقوا بما كان في غزوة مؤتة وهو منسوخ قبل حنين وتركوا ما في سورة براءة من ألا يهادن مشرك إلا على الإسلام ولا كتابي إلا على الصغار والجزية وأخذوا بحديث أبي جندل وهو منسوخ قبل براءة ومثل هذا كثير فصل فيه بيان سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة فإن قيل فعلى أي وجه ترك هو ومن قبله كثيرا من الأحاديث قيل له وبالله التوفيق وقد بينا هذا فيما خلا ولكن نأتي بفصول تقتضي

تكرار ما قد ذكر فلا بد من تكراره وذلك أن مالكا وغيره بشر ينسى كما ينسى سائر الناس وقد تجد الرجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه وقد يعرض هذا في آي القرآن وقد أمر عمر على المنبر بألا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره فذكرته امرأة بقول الله تعالى {وإن أردتم ستبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا} فترك قوله وقال كل أحد أفقه منك يا عمر وقال امرأة أصابت وأمير المؤمنين أخطأ وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر فذكره علي بقول الله تعالى {ووصينا لإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك لتي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من لمسلمين} مع قوله تعالى {ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير} فرجع عن الأمر برجمها وهم أن يسطو بعيينة بن حصن إذ قال له يا عمر ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل فذكره الحر بن قيس بن حصن بن حذيفة بقول الله تعالى {خذ لعفو وأمر بلعرف وأعرض عن لجاهلين} وقال له يا أمير المؤمنين هذا من الجاهلين فأمسك عمر وقال يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون آخرنا أو كلاما هذا معناه حتى قرئت عليه {إنك ميت وإنهم ميتون} فسقط السيف من يده وخر إلى الأرض وقال كأني والله لم أكن قرأتها قط فإذا أمكن هذا في القرآن فهو في الحديث أمكن وقد ينساه البتة وقد لا ينساه بل يذكره ولكن يتأول فيه تأويلا فيظن فيه خصوما أو نسخا أو معنى ما وكل هذا لا يجوز اتباعه إلا بنص أو إجماع لأنه رأي من رأى ذلك ولا يحل تقليد أحد ولا قبول رأيه وقد علم كل أحد أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا حوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة مجتمعين وكانوا ذوي معايش يطلبونها وفي ضنك من القوت شديد قد جاء ذلك منصوصا وأن النبي صلى الله عليه

وسلم وأبا بكر وعمر أخرجهم الجوع من بيوتهم فكانوا من متحرف في الأسواق ومن قائم على نخلة ويحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت منهم الطائفة إذا وجدوا أدنى فراغ مما هم بسبيله هذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره وقد ذكر ذلك أبو هريرة فقال إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم وكنت امرأ مسكينا أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني وقد أقر بذلك عمر فقال فاتني مثل هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق في الأسواق ذكر ذلك في حديث استئذان أبي موسى فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسألة ويحكم بالحكم ويأمر بالشيء ويفعل الشيء فيعيه من حضره ويغيب بمن غاب عنه فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم وولي أبو بكر رضي الله عنه فمن حينئذ تفرق الصحابة للجهاد إلى مسيلمة وإلى أهل الردة وإلى الشام والعراق وبقي بعضهم بالمدينة مع أبي بكر رضي الله عنه فكان إذا جاءت القضية ليس عنده فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سأل من بحضرته من الصحابة عن ذلك فإن وجد عندهم رجع إليه وإلا اجتهد في الحكم ليس عليه غير ذلك فلما ولي عمر رضي الله عنه فتحت الأمصار وزاد تفرق الصحابة في الأقطار فكانت الحكومة تنزل في المدينة أو في غيرها من البلاد فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أثر حكم به وإلا اجتهد أمير تلك المدينة في ذلك وقد يكون في تلك القضية حكم عن النبي صلى الله عليه وسلم موجود عند صاحب آخر في بلد آخر وقد حضر المديني ما لم يحضر المصري وحضر المصري ما لم يحضر

الشامي وحضر الشامي ما لم يحضر البصري وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي وحضر الكوفي ما لم يحضر المديني كل هذا موجود في الآثار وفي ضرورة العلم بما قدمنا من مغيب بعضهم عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات وحضور غيره ثم مغيب الذي حضر أمس وحضور الذي غاب فيدري كل واحد منهم ما حضر ويفوته ما غاب عنه وهذا معلوم ببديهة العقل وقد كان علم التيمم عند عمار وغيره وجهله عمر وابن مسعود فقالا لا يتيمم الجنب ولو لم يجد الماء شهرين وكان حكم المسح عند علي وحذيفة رضي الله عنهما وغيرهم وجهلته عائشة وابن عمر وأبو هريرة وهم مدنيون وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود وجهله أبو موسى وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وعند أبي سعيد وجهله عمر وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس وأم سليم وجهله عمر وزيد بن ثابت وكان حكم تحريم المتعة والحمر الأهلية عند علي وغيره وجهله ابن عباس وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما وجهله طلحة وابن عباس وابن عمر وكان حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب عند ابن عباس وعمر فنسيه عمر سنين فتركهم حتى ذكر فذكر فأجلاهم وكان علم الكلالة عند بعضهم ولم يعلمه عمر وكان النهي عن بيع الخمر عند عمر وجهله سمرة وكان حكم الجدة عند المغيرة ومحمد بن مسلمة وجهله أبو بكر وعمر وكان حكم أخذ الجزية من المجوس وألا يقدم على بلد فيه الطاعون عند عبد الرحمن بن عوف وجهله عمر وأبو عبيدة وجمهور الصحابة رضوان الله عنهم وكان حكم ميراث الجد عند معقل بن سنان وجهله عمر ومثل هذا كثير جدا فمضى الصحابة على ما ذكرنا ثم خلف بعدهم التابعون الآخذون عنهم وكل طبقة من التابعين في البلاد التي ذكرنا فإذا تفقهوا مع من كان عندهم من الصحابة وكانوا لا يتعدون فتاويهم لا تقليدا لهم ولكن

لأنهم إنما أخذوا ورووا عنهم إلا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن عمر واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن مسعود واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى ابن عباس ثم أتى بعد التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة وابن جريج بمكة ومالك وابن الماجشون بالمدينة وعثمان البتي وسوار بالبصرة والأوزاعي بالشام والليث بمصر فجروا على تلك الطريقة من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده فيما كان عندهم واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم وهو موجود عند غيرهم و {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وكل ما ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه حكم النبي صلى الله عليه وسلم أجرين ومأجور فيما خفي عنه منه أجرا واحدا وقد يبلغ الرجل مما ذكرنا حديثان ظاهرهما التعارض فيميل إلى أحدهما دون الثاني بضرب من الترجيحات التي صححنا أو أبطلنا قبل هذا في هذا الباب ويميل غيره إلى الحديث الذي ترك هذا بضرب من تلك الترجيحات كما روي عن عثمان في الجمع بين الأختين حرمتهما آية وأحلتهما آية وكما مال ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملة بقوله {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} قال ولا أعلم شركا أعظم من قول المرأة إن عيسى ربها وغلب ذلك على الإباحة المنصوصة في الآية الأخرى وكما جعل ابن عباس عدة الحامل آخر الأجلين من وضع الحمل أو تمام أربعة أشهر وعشر وكما تأول بعض الصحابة في الحمر الأهلية أنها إنما حرمت لأنها لم تخمس وتأول آخر منهم أنها حرمت لأنها حمولة الناس وتأول آخر منهم أنها حرمت لأنها كانت تأكل العذرة وقال بعضهم بل حرمت لعينها وكما تأول قدامة في شرب الخمر قول الله تعالى {ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين} فعلى هذه الوجوه ترك

مالك ومن كان قبله ما تركوا من الأحاديث والآيات وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم فأخذ هؤلاء ما ترك أولئك وأخذ أولئك ما ترك هؤلاء فهي وجوه عشرة كما ذكرنا أحدها ألا يبلغ العالم الخبر فيفتي فيه بنص آخر بلغه كما قال عمر في خبر الاستئذان خفي علي هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق بالأسواق وقد أوردناه بإسناده من طريق البخاري في غير هذا المكان وثانيها أن يقع في نفسه أن راوي الخبر لم يحفظ وأنه وهم كفعل عمر في خبر فاطمة بنت قيس وكفعل عائشة في خبر الميت يعذب ببكاء أهله وهذا ظن لا معنى له إن أطلق بطلت الأخبار كلها وإن خص به مكان دون مكان كانت تحكما بالباطل وثالثها أن يقع في نفسه أنه منسوخ كما ظن ابن عمر في آية نكاح الكتابيات ورابعها أن يغلب نصا على نص بأنه أحوط وهذا لا معنى له إذ لا يوجبه قرآن ولا سنة وخامسها أن يغلب نصا على نص لكثرة العاملين به أو لجلالتهم وهذا لا معنى له لما قد أفدناه قبلا في ترجيح الأخبار وسادسها أن يغلب نصا لم يصح على نص صحيح وهو لا يعلم بفساد الذي غلب وسابعها أن يخصص عموما بظنه وثامنها أن يأخذ بعموم لم يجب الأخذ به ويترك الذي يثبت تخصيصه وتاسعها أن يتأول في الخبر غير ظاهره بغير برهان لعله ظنها بغير برهان وعاشرها أن يترك نصا صحيحا لقول صاحب بلغه فيظن أنه لم يترك ذلك النص إلا لعلم كان عنده فهذه ظنون توجب الاختلاف الذي سبق في علم الله عز وجل أنه سيكون ونسأل الله تعالى التثبيت على الحق بمنه آمين ثم كثرت الرحل إلى الآفاق وتداخل الناس والتقوا وانتدب أقوام لجمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم وضمه وتقييده ووصل من البلاد البعيدة إلى من لم يكن عنده وقامت الحجة على من بلغه شيء منه وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأول في الحديث وعرف الصحيح

من السقيم وزيف الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ترك عمله وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن بلوغه إليه وقيام الحجة به عليه فلم يبق إلا العناد والجهل والتقليل والإثم وعلى هذا الطريق كان الصحابة رضي الله عنهم وكثير من التابعين يرحلون في طلب الحديث الواحد الأيام الكثيرة وقد رحل أبو أيوب من المدينة إلى مصر إلى عقبة بن عامر في حديث واحد وكتب معاوية إلى المغيرة اكتب إلي ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحل علقمة والأسود إلى عائشة وعمر رضي الله عنهما ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام فقد بينا وجه ترك من ترك بعض الحديث وأزحنا العلة في ذلك ورفعنا الإشكال جملة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال أبو محمد وقد موه بعضهم بأن قال إن ابن مسعود كان يسأل عن الشيء فيتركه حتى يأتي المدينة قال علي وإنما كان هذا في مسألتين فقط وهي مسألة نكاح الأم التي لم يدخل بابنتها فخالفه عمر وقد صح عن زيد بن ثابت وهو مدني مثل قول ابن مسعود والثانية بيعه نفاية بيت المال ثم رجع عن ذلك قال علي وكيف يكون هذا والصحيح أن ابن مسعود قال مخبرا عن نفسه ما من سورة من كتاب الله تعالى إلا وأنا أدري فيما نزلت ولو أني أعلم مكان رجل أعلم مني بكتاب الله عز وجل تبلغني إليه الإبل لأتيته فكيف يرجع إلى قول غيره من هذه صفته ولقد صدق رضي الله عنه وهو الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتمسك بعهده وأن يؤخذ القرآن عنه وعن ثلاثة مذكورين معه وقد صح أن عمر بن الخطاب أمر برجم مجنونة فرده عن ذلك وهو كوفي وكذلك وجد عند المغيرة خبر إملاص المرأة وهو كوفي لم يكن عند أهل المدينة

قال علي وقد موه بعضهم بأن ذكر ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا محمد بن المثنى ثنا سهل بن يوسف قال حميد أنبأ عن الحسن قال خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة فقال أخرجوا صدقة صومكم فكأن الناس لم يعلموا فقال من ههنا من أهل المدينة فقوموا إلى إخوانكم فعلموهم فإنهم لا يعلمون فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع من قمح على كل حر أو مملوك ذكر أو أنثى صغير أو كبير فلما قدم علي رأى رخص الشعير قال قد أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعا من كل شيء قال علي وهذا الحديث قبل كل شيء لا يصح لوجوه ظاهرة أولها أن الكذب والتوليد والوضع فيه ظاهر كالشمس لأنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالأخبار أن يوم الجمل كان لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين ثم أقام علي بالبصرة باقي جمادى الآخرة وخرج راجعا إلى الكوفة في صدر رجب وترك ابن عباس بالبصرة أميرا عليها ولم يرجع علي بعدها إلى البصرة هذا ما لا خلاف فيه من أحد له علم بالأخبار وفي الخبر المذكور ذكر تعليم ابن عباس أهل البصرة صدقة الفطر ثم قدم علي بعد ذلك وهذا هو الكذب البحت الذي لا خفاء فيه ووجه ثان أن الحسن لم يسمع من ابن عباس أيام ولايته البصرة شيئا ولا كان الحسن يومئذ بالبصرة وإنما كان بالمدينة هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من نقلة الحديث وأيضا وجه ثالث فإنه حديث مفتعل لا يصح لأن البصرة فتحها وبناها سنة أربع عشرة من الهجرة عتبة بن غزوان المازني بدري مدني ووليها بعده المغيرة بن شعبة وأبو موسى وعبد الله بن عامر وكلهم مدنيون ونزلها من الصحابة المدنيين

أزيد من ثلاثمائة رجل منهم عمران بن الحصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر والحكم بن عمرو وغيرهم وفتحت أيام عمر بن الخطاب وتداولها ولاته إلى أن وليها ابن عباس بعد صدر كبير من سنة ست وثلاثين من الهجرة فلم يكن في هؤلاء كلهم من يخبرهم بزكاة الفطر بل ضيعوا ذلك وأهملوه واستخفوا به أو جهلوه مدة أزيد من اثنين وعشرين عاما مدة خلافة عمر بن الخطاب وعثمان رضوان الله عليهم حتى وليهم ابن عباس بعد يوم الجمل أترى عمر وعثمان ضيعا إعلام رعيتهما هذه الفريضة أترى أهل البصرة لم يحجوا أيام عمر وعثمان ولا دخلوا المدينة فغابت عنهم زكاة الفطر إلى بعد يوم الجمل إن هذا لهو الضلال المبين والكذب المفترى ونسبة البلاء إلى الصحابة رضوان الله عليهم أن هذا الخبر ما يدخل تصحيحه في عقل سليم وما حدث الحسن والله أعلم بهذا الحديث إلا على وجه التكذيب له لا يجوز غير ذلك ثم نقول لهم لو صح وهو لا يصح لكان حجة على المالكيين لأنه خلاف مذهبهم في صدقة الفطر لأنهم يرون أنه لا يجزي فيها من البر إلا صاع فعاد حجة عليهم ولا أضل ممن يحتج بما لا يصح نعوذ بالله من الخذلان وإنما يصح هذا الحديث بخلاف اللفظ المذكور لكن كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا قتيبة بن سعيد ثنا حماد هو ابن زيد عن أيوب السختياني عن أبي رجاء هو العطاردي قال سمعت ابن عباس يخطب على منبركم يعني منبر البصرة يقول صدقة الفطر صاع من طعام وقد موه بعضهم بأن قال إن أهل المدينة هم شهدوا آخر عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي وهذا قول رجل جاهل أو مدلس لا بد له ضرورة من أحد

الوجهين فإن كان جاهلا وكان هذا مقداره من العلم فما كان في وسعه أن يفتي في دين الله عز وجل وإن كان هذا مستحيلا للتلبيس في دين الله تعالى فهذا أخبث وأنتن قال علي وهذا كلام يبطل من وجهين ضروريين أحدهما أننا قد بينا في هذا الباب أنهم أترك الناس لآخر عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كلهم مدنيين طول مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدة أبي بكر وإنما سكنوا الشام والبصرة والكوفة في صدر خلافة عمر رضوان الله عليه فما بعد ذلك لأن الشام ومصر كانت بأيدي الروم والعراق حيث بنيت الكوفة والبصرة كانت بأيدي الفرس ولم يفتتح شيء من كل ذلك ولا سكنه مسلم إلا بعد صدر إمارة عمر هذا أمر لا يجهله من له أقل نصيب من العلم وكل من كان بالعراق والشام ومصر من الصحابة فلم يفارقوا سكنى المدينة طوال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينفرد قط برسول الله من بقي منهم بالمدينة دون من سكن بعد موته عليه السلام العراق أو الشام أو مصر فبطل كذب من موه بما ذكرنا ولله الحمد ووجب بالضرورة أن من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم ليس بأولى بحسن الظن بهم في الثبات على ما شهدوه من النبي صلى الله عليه وسلم من سائر الصحابة الذين بالأمصار ولا هم أولى بالعلم منهم بل كلهم واجب الحق موصوف بالعلم والدين والنصيحة للمسلمين قال أبو محمد وهذا الذي جرى عليه الناس كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا يزيد بن أبي إبراهيم ثنا رزيق وكان عاملا لعمر بن عبد العزيز

فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن والرد على من ذم الإكثار من رواية الحديث

على أيلة أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في عبد أبق وسرق وذكر أن أهل الحجاز لا يقطعون العبد إذا سرق فكتب إليه كتبت إلي في عبد أبق وسرق وذكر أن أهل الحجاز لا يقطعون الآبق إذا سرق وأن الله تعالى يقول {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني مآ أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف لله رب لعالمين} فإن كان قد سرق قدر ما يبلغ ربع دينار فاقطعه قال علي فهذا عمر بن عبد العزيز لم يلتفت إلى عمل أهل الحجاز وأخذ بعموم القرآن وهو الذي لا يجوز خلافه فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن قال علي واستغاث بعضهم إلى ذم الإكثار من الرواية ونسبوا ذلك إلى عمر بن الخطاب وذكروا الخبر عنه أنه لم يلتفت لرواية فاطمة بنت قيس في أن لا نفقة ولا سكنى للمبتوتة ثلاثا وأنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لكلام امرأة لا ندري لعلها نسيت وتوعد أبا موسى بضرب الظهر والبطن إن لم يأته بشاهد على ما حدث به من حكم الاستئذان وإن أبا بكر الصديق لم يأخذ برواية المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة حتى شهد له بذلك محمد بن مسلمة وأن عائشة أم المؤمنين لم تلتفت إلى قول أبي هريرة في المشي في خف واحد وقالت لأحنثن أبا هريرة ومشت في نعل واحدة وأن عثمان حمل إليه محمد بن علي بن أبي طالب من عند أبيه كتاب حكم النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة فقال له أغنها عنا فرجع إلى أبيه فقال ضع الصحيفة حيث وجدتها وأن عمارا قال لعمر في حديث التيمم أما والله يا أمير المؤمنين لئن شئت لما جعل الله لك علي من الحق ألا أحدث بذلك أبدا فعلت فقال له عمر

لا ولكن نوليك من ذلك ما توليت وأن ابن عباس لم يلتفت لرواية أبي هريرة في الوضوء مما مست النار ولا رواية الحكم بن عمرو الغفاري في الوضوء من فضل المرأة ولا رواية علي في النهي عن المتعة ولا رواية أبي سعيد الخدري في النهي عن الدرهم بالدرهمين يدا بيد وابن عمر ذكرت له رواية أبي هريرة في كلب الزرع فقال إن لأبي هريرة زرعا وإن معاوية لم يلتفت لرواية عبادة بن الصامت وأبي الدرداء في النهي عن الفضة بالفضة بتفاضل يدا بيد فهؤلاء أبو بكر وعثمان وعلي وعائشة وعمار وابن عباس وابن عمر ومعاوية ذكروا نحو هذا أيضا عن نفر من التابعين قال علي وقولهم هذا دحض بالبرهان الظاهر ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم وهو أنه يقال لمن ذم الإكثار من الرواية أخبرنا عن الرواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أخير هي أم شر ولا سبيل إلى وجه ثالث فإن قال هي خير فالإكثار من الخير خير وإن قال هي شر فالقليل من الشر شر وهم قد أخذوا منه بنصيب فيلزمهم أن يعترفوا بأنهم يتعلمون الشر ويعلمون به أما نحن فلسنا نقر بذلك بل نقول إن الإكثار منها لطلب ما صح هو الخير كله وأيضا فنقول لهم عرفونا حد الإكثار من الرواية المذمومة عندكم لنعرف ما تكرهون وحد غير الإكثار المستحب عندكم فإن حدوا في ذلك حدا كانوا قد قالوا بالباطل {يأيها لذين آمنوا لا تتبعوا خطوات لشيطان ومن يتبع خطوات لشيطان فإنه يأمر بلفحشآء ولمنكر ولولا فضل لله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن لله يزكي من يشآء ولله سميع عليم} وقالوا بلا برهان وبغير علم وإن لم يجدوا في ذلك حدا كانوا قد حصلوا في أسخف منزلة إذ لا يدرون ما ينكرون ولا يحسنون وهذا هو الضلال ونعوذ بالله منه وأيضا فيقال لهم ما الذي جعل أن يكون ما رواه مالك من الحديث خيرا ويكون ما رواه شرا دون أن تكون القصة معكوسة ونحن

نعوذ بالله من كل ذلك بل الخير كله التفقه في الآثار والقرآن وضبط ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على أن يبلغ عنه وهذا التفقه والنذرة التي أمر الله تعالى بها وليت شعري إذا كان الإكثار من الحديث شرا فأين الخير أفي التقليد الذي لا يلزمه إلا جاهل أو فاسق أم في التحكم في دين الله عز وجل بالآراء الفاسدة التي قد حذر الله تعالى منها وزجر النبي صلى الله عليه وسلم عنها وفخر بعضهم بأن مالكا كان يسقط من موطئه كل سنة وإنه لم يحدث بكثير مما كان عنده قال علي هذا فخر من يريد أن يمدح فيذم ويريد أن يبني فيهدم ولا يخلو ما حدث به مالك وما لم يحدث به من أن يكون حدث بالصحيح عنده وترك ما لم يصح فقد أحسن وكذا كل من حدث أيضا بما يصح عنده ممن ليس مالك بأعلم منه ولا أروع كسفيان وشعبة والأوزاعي وأيوب وغيرهم وأن يكون حدث بالسقيم وكتم الصحيح وقد نزهه الله تعالى عن ذلك لأن هذه صفة أفسق الفاسقين أو يكون حدث بسقيم وصحيح وكتم صحيحا وسقيما فمن فعل ذلك فهو آثم وملعون لكتمانه علما صحيحا عنده فبطل ما أرادوا يمدحوه به وعاد ذما عظيما لو صح عليه ذلك وأعوذ بالله من ذلك وبرهان آخر يوضح كذب من قال هذا وهو أن الموطأ ألفه مالك رضي الله عنه بعد موت يحيى بن سعيد الأنصاري بلا شك ومات يحيى بن سعيد في سنة ثلاث وأربعين ومائة ولسنا نقول هذا بظننا بل يقينا فهكذا روينا بإسناد متصل إلى يحيى بن سعيد القطان أنه قال لقينا مالكا قبل أن يصنف

ولقيناه سنة اثنتين وأربعين ومائة بعد موت موسى بن عقبة بسنة ولم يزل الموطأ يروى عن مالك منذ ألفه طائفة بعد طائفة وأمة بعد أمة وآخر من رواه عنه من الثقات أبو المصعب الزهري لصغر سنه وعاش بعد موت مالك ثلاثا وستين سنة وموطؤه أكمل الموطآت لأنه فيه خمسمائة حديث وتسعين حديثا بالمكرر أما بإسقاط التكرار فخمسمائة حديث وتسعة وخمسون حديثا وكان سماع ابن وهب للموطأ من مالك قبل سماع أبي المصعب بدهر وكذلك سماع ابن القاسم ومعن بن عيسى وليس في موطأ ابن القاسم إلا خمسمائة حديث وثلاثة أحاديث وفي موطأ ابن وهب كما في موطأ أبي المصعب ولا مزيد فبان كذب هذا القائل والحمد لله رب العالمين قال علي ولئن كان جميع حديث النبي صلى الله عليه وسلم مذموما فإن مالكا لمن أول من فعل ذلك فإن أول من ألف في جمع الحديث فحماد بن سلمة ومعمر ثم مالك ثم تلاهم الناس وأما نحن فإننا نحمد ذلك من فعلهم ونقول إن لهم ولمن فعل فعلهم في ذلك أعظم الأجر لعظيم ما قيدوا من السنن وكثيرا ما بينوا من الحق وما رفعوا من الإشكال في الدين وما فرجوا بما كتبوا من حكم الاختلاف فمن أعظم أجرا منهم جعلنا الله بمنه ممن تبعهم في ذلك بإحسان آمين وأما رد عمر رضي الله عنه لحديث فاطمة بنت قيس فقد خالفته فاطمة وهي من المبايعات المهاجرات للصواحب فهو تنازع من أولي الأمر ليس قول أولى من قولها ولا قولها أولى من قوله إلا بنص والنص موافق لقول فاطمة وعمر مجتهد مخطىء في رد ذلك مأجور مرة ولا تعلق للمالكيين بهذا الخبر لأنهم خالفوا رواية فاطمة وخالفوا قول عمر فلم يتعلقوا بأحدهما وأما ما ذكروا من نهي عمر رضي الله عنه في الإكثار من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثنا محمد بن سعيد ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم

بن أصبغ ثنا الخشن ثنا بندار ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا شعبة عن بيان عن الشعبي عن قرظة هو ابن كعب الأنصاري قال شيعنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى صرار فانتهى إلى مكان فتوضأ فيه فقال أتدرون لما شيعتكم قلنا لحق الصحبة قال إنكم ستأتون قوم تهتز ألسنتهم بالقرآن كاهتزاز النخل فلا تصدروهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم قال قرظة فما حدثت بشيء بعد ولقد سمعت كما سمع الصحابي فهذا لم يذكر فيه الشعبي أنه سمعه من قرظة وما نعلم أن الشعبي لقي قرظة ولا سمع منه بل لا شك في ذلك لأن قرظة رضي الله عنه مات والمغيرة بن شعبة أمير الكوفة هذا مذكور في الخبر الثابت المسند وأول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب فذكر المغيرة عنده ذلك خبرا مسندا في النوح ومات المغيرة سنة خمسين بلا شك والشعبي أقرب إلى الصبا فلا شك في أنه لم يلق قرظة قط فسقط هذا الخبر بل قد ذكر بعض أهل العلم بالأخبار أن قرظة بن كعب مات وعلي رضوان الله عليه بالكوفة فصح يقينا أن الشعبي لم يلق قط قرظة ولا عقل عنه كلمة وحدثنا أيضا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن عيسى بن رفاعة ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد ثنا أبو بكر هو ابن عياش عن أبي حصين يرفعه إلى عمر أنه حين

وجه الناس إلى العراق قال جردوا القرآن وأقلوا الراوية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم قال أبو محمد وأبو حصين لم يولد إلا بعد موت عمر بدهر وأعلى من عنده ابن عباس والشعبي قال علي وروي عنه أيضا أنه رضي الله عنه أنه حبس ابن مسعود من أجل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما روينا بالسند المذكور إلى بندار ثنا غندر ثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال قال عمر لابن مسعود ولأبي الدرداء وأبي ذر ما هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأحسبه أنه لم يدعهم أن يخرجوا من المدينة حتى مات قال علي هذا مرسل ومشكوك فيه من شعبة فلا يصح ولا يجوز الاحتجاج به ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد لأنه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة وفي هذا ما فيه أو يكون نهى عن نفس الحديث وعن تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين وألزمهم كتمانها وجحدها وأن لا يذكروها لأحد فهذا خروج عن الإسلام وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك ولئن كان سائر الصحابة متهمين في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فما عمر إلا واحد منهم وهذا قول لا يقوله مسلم أصلا ولئن كان حسبهم وغيرهم متهمين لقد ظلمهم فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء ولا بد له

من أحدهما وإنما معنى نهي عمر رضي الله عنه من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو صح فهو بين في الحديث الذي أوردناه من طريق قرظة وإنما نهى عن الحديث بالأخبار عمن سلف من الأمم وعما أشبه وأما بالسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن النهي عن ذلك هو مجرد وهذا ما لا يحل لمسلم أن يظنه ممن دون عمر من عامة المسلمين فكيف بعمر رضي الله عنه ودليل ما قلنا أن عمر قد حدث بحديث كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان الحديث عنه عليه السلام مكروها فقد أخذ عمر من ذلك بأوفر نصيب ولا يحل لمسلم أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه نهى عن شيء وفعله لأنه قد روي عنه رضوان الله عليه خمسمائة حديث ونيف على قرب موته من موت النبي صلى الله عليه وسلم فصح أنه كثير الرواية والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وما في الصحابة أكثر رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب إلا بضعة عشر منهم فقط فصح أنه قد أكثر الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فصح بذلك التأويل الذي ذكرنا لكلامه رضي الله عنه وهكذا القول فيما روي من ذلك عن معاوية رضي الله عنه ولا فرق وقد جاء ما قلناه عن عمر رضي الله نصا دون تأويل كما أنبأ عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية القرشي ثنا ابن خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال ثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي ثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله بن الأشج أن عمر بن الخطاب قال سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنة أعلم بكتاب الله عز وجل قال علي وقد صح بهذا أن عمر أمر بتعليم السنن وأخبر أنها تبين القرآن فصح ما قلناه يقينا بلا مرية وارتفع اللبس والحمد لله رب العالمين

وأعجب من هذا كله أن المالكيين المحتجين بأن عمر رضي الله عنه حبس ابن مسعود وأبا موسى وأبا الدرداء بالمدينة على الإكثار من الحديث ينبغي لهم أن يحاسبوا أنفسهم فيقولوا إذا أنكر عمر على ابن مسعود وأبي موسى وأبي الدرداء الإكثار من الحديث وسجنهم على ذلك وهم أكابر الصحابة وعدول الأمة وليس لابن مسعود إلا ثمانمائة حديث ونيف وليس لأبي الدرداء إلا مائة حديث ونيف لعله لا يصح عنهما إلا أقل من نصف هذين العددين ماذا كان يصنع بمالك لو رأى موطأه قد جمع فيه ثمانمائة حديث ونيفا وثلاثين حديثا من مسند ومرسل أين كنتم ترونه يبلغ به وهو ينكر على الصحابة بزعمكم الكاذب دون هذا العدد فلو كان لهؤلاء القوم دين أو عقل أما كان يحجزهم عن الإقدام على الإنكار على الصحابة رضوان الله عليهم أمرا يجيزون لصاحبهم أكثر منه إن هذا لعجب وأما الحنفيون فقد طردوا أصلهم ههنا لأن صاحبهم أقل الحديث ولم يطلبه بكثرة خطئه وقلة حديثه وحسبنا الله ونعم الوكيل والرواية في حبس ابن مسعود في ذلك عنه ضعيفة وإنما صح أنه تشدد في الحديث كما ذكرنا وكان يكلف من حدثه بحديث أن يأتي بآخر سمعه معه وإنما فعل ذلك اجتهادا منه وقد أنكره عليه أبي فرجع عمر عن ذلك وذلك مذكور في حديث الاستئذان وحتى لو صح ذلك عن عمر ومعاوية فقد خالفهما في ذلك أبي وعبادة وبلغ ذلك بأحدهما إلى أن حلف ألا يساكنه في بلد واحد فمن جعل قول معاوية أولى من قول عبادة وأبي الدرداء وأما الرواية عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لم يقنع بقول المغيرة وروايته فمنقطعة لا تصح ولو صححت لما كان لهم فيها حاجة لأنهم يقولون بخبر الواحد إذا وافقهم ولا معنى لطلب راو آخر فالذي يدخل خبر الواحد

يدخل خبر الاثنين ولا فرق إلا أن يفرق بين ذلك نص فيوقف عنده وأما الرواية عن عائشة أم المؤمنين فإنما موهوا بإيرادها ولا حجة لهم فيها لأنها لم تقل قط أنها لم تصدق أبا هريرة ولا أنها تستجيز رد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر لها أن أبا هريرة ينهى عن المشي في نعل واحد فقالت لأحنثن أبا هريرة وأحسنت وبرت فلو لم يكن في هذا إلا قول أبي هريرة لما لزم الأخذ به وأما خبر عثمان فلا ندري على أي وجه أورده والذي نظن بعثمان أنه كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية في صفة الزكاة استغنى بها عما عند علي بل نقطع بهذا عليه قطعا ولا وجه لذلك الخبر سوى هذا أو المجاهرة بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم وقد أعاذه الله من ذلك فإن صاروا إلى توجيهنا بطل تعلقهم بهذا الخبر وإن وجهوه على هذا الوجه الآخر لحقوا بالروافض ونسبوا إلى عثمان الكفر أو الفسق وقد برأه الله من ذلك وأن من نسب إليه لأولى به من عثمان بلا شك وأما قول عمار لعمر فيعيذ الله عمارا من أن يستجيز جحد سنة عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لرأي عمر هذه صفة توجب الكفر لمن استحلها ويوجب الفسق لمن فعلها غير مستحل لها لا يختلف في ذلك اثنان من أهل الإسلام مع مجيء النص بذلك فيمن يكتم حكم الله تعالى أو يخالفه وإنما قال ذلك عمار مبكتا لعمر إذ خالفه بمعنى أترى لي أن أكتم هذا الخبر نعم إن شئت كما قال تعالى {إن لذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينآ أفمن يلقى في لنار خير أم من يأتي آمنا يوم لقيامة عملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} أو غير هذا وهو في الخبر ذكر أن عمر أجنب فلم يصل فهذا الذي أراد عمار كتمانه وأنه لا يحدث به أبدا لواجب حق عمر عليه وهذا مباح إذ ليس ذكر اسم عمر في ذلك من السنن ولا له فائدة لكن عمر رضي الله عنه لم يفسح له في ذلك بل ولاه من التصريح باسمه في ذلك ما تولى

وأما ابن عباس فإنه روى في فضل المرأة من طريق ميمونة خبرا بنى عليه وروى في المتعة إباحة شهدها فثبت عليها ولم يحقق النظر وقد أنكر ذلك عليه علي بن أبي طالب وأغلظ عليه القول وروي في الدرهم بالدرهمين خبرا عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم فثبت عليه وأنكر عليه ذلك أبو سعيد وأغلظ له في القول جدا ولم يعارض خبر الحكم في فضل المرأة بأكثر من أن قال هي ألطف بنانا وأطيب ريحا فليس في هذا رد للحديث ولا لحكمه بل صدق في ذلك وقد خالفه في الوضوء مما مست النار وفي غسل اليد ثلاثا قبل إدخالها في الإناء أبو هريرة وأغلظ له في القول فليت شعري من جعل قول ابن عباس أولى من قول علي وأبي هريرة والحكم بن عمرو وأبي سعيد وأما قول ابن عمر إن لأبي هريرة زرعا فصدق وليس في هذا رد لرواية أبي هريرة أصلا فإذا لم يبق من جميع ما اعترضوا به إلا اختلاف الصحابة في بعض ذلك مما صح وثبت فالواجب الرد المفترض الذي لا يحل سواه هو الرد في ذلك إلى الله تعالى وإلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان صاحب في ذاته فغير مبعد عنه الوهم لا سيما إذا اختلفوا فمضمون أن أحد القولين خطأ فوجدنا الله تعالى قد أمر بالتفقه في الدين وإنذار الناس به وأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سبيل إلى طاعته عليه السلام إلا بنقل كلامه وضبطه وتبليغه ولا سبيل إلى التفقه في الدين إلا بنقل أحكام الله تعالى وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم ووجدناه صلى الله عليه وسلم قد حض على تبليغ الحديث عنه وقال في حجة الوداع لجميع من حضر ألا فليبلغ الشاهد الغائب فسقط قول من ذم الإكثار من الحديث ثم العجب فيه إيرادهم لهذه الآثار التي ذكرنا عمن أوردوها عنه من الصحابة فوالله العظيم ما أدري غرضهم في ذلك ولا منفعتهم بها ولا شك أنهم

لا يدرون لماذا أوردوها لأنهم إن كانوا أوردوها طعنا في القول بخبر الواحد فليس هذا قولهم بل هم كلهم يقولون بخبر الواحد وأيضا فهي كلها أخبار آحاد وليس شيء منها حجة عند من لا يقول بخبر الواحد وهذا عجب جدا أو يكونوا أوردوها على إباحة رد المرء ما لم يوافقه من خبر الواحد وأخذ ما وافقه من ذلك فهذا هوس عتيق أول ذلك أنهم يردون بعض ما لم يرده من احتجوا به من الصحابة ويأخذون ببعض ما رده من احتجوا به منهم وأيضا فإن كان الأمر كذلك فقد اختلط الدين وبطل لأن لخصومهم أن يردوا بهذا الباب نفسه ما أخذوا به ويأخذوا ما ردوه هم منه ونعوذ بالله منه قال علي ولا أضل ولا أجهل ولا أبعد من الله عز وجل ممن يزجر عن تبليغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر بألا يكثر من ذلك أو يرد ما لم يوافقه مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بنظره الملعون ورأيه الفاسد وهواه الخبيث ودعواه الكاذبة ثم يغني دهره في الإكثار من تبليغ آراء مالك وابن القاسم وسحنون وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والتلقي بالقبول لجميعها على غلبة الفساد عليها ألا إن ذلك هو الضلال البعيد والفتيا بالآراء المتناقضة وبالله تعالى نعتصم قال علي وأما من ظن أن أحدا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويحدث شريعة لم تكن في حياته عليه السلام فقد كفر وأشرك وحل دمه وماله ولحق بعبدة الأوثان لتكذيبه قول الله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وقال تعالى {ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين} فمن ادعى أن شيئا مما كان في عصره عليه السلام على حكم ما ثم بدل بعد موته فقد ابتغى غير الإسلام

دينا لأن تلك العبادات والأحكام والمحرمات والمباحات والواجبات التي كانت على عهده عليه السلام هي الإسلام الذي رضيه الله تعالى لنا وليس الإسلام شيئا غيرها فمن ترك شيئا منها فقد ترك الإسلام ومن أحدث شيئا غيرها فقد أحدث غير الإسلام ولا مرية في شيء أخبرنا الله تعالى به أنه قد أكمله وكل حديث أو آية كانا بعد نزول هذه الآية فإنما هي تفسير لما نزل قبلها وبيان لجملتها وتأكيد لأمر متقدم وبالله تعالى التوفيق ومن ادعى في شيء من القرآن أو الحديث الصحيح أنه منسوخ ولم يأت على ذلك ببرهان ولا أتى بالناسخ الذي ادعى من نص آخر فهو كاذب مفتر على الله عز وجل داع إلى رفض شريعة قد تيقنت فهو داعية من دعاة إبليس وصاد عن سبيل الله عز وجل نعوذ بالله قال الله تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} فمن ادعى أن الناسخ لم يبلغ وأنه قد سقط فقد كذب ربه وادعى أن هنالك ذكرا لم يحفظه الله بعد إذ أنزله فإن قال قائل الحديث قد يدخله السهو الغلط قيل له إن كنت ممن يقول بخبر الواحد فاترك كل ما أخذت به منه فإنه في قولك محتمل أن يكون دخل فيه السهو الغلط وإن كنت مقلدا فاترك كل من قلدت فإن السهو والغلط قد يدخلان عليه بالضمان وقد يدخلان أيضا في الرواة عنهم الذين عنهم أخذت دينك وإلا فالرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم أوثق من الرواة عن مالك وأبي حنيفة نعم ومن مالك وأبي حنيفة أنفسهما وإن كنت ممن يبطل خبر الواحد جملة فقد أثبتنا البرهان على وجوب قبوله وما ثبت بيقين فلا يبطل بخوف سهو لم يتيقن والحق لا تسقطه الظنون قال الله تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا} ولزمه أن يسقط القبول لشهادة الشاهدين في الدماء والفروج والأموال إذ يدخل عليهما السهو والغلط وتعمد الكذب وبالله تعالى التوفيق

فصل في صفة الرواية

فصل في صفة الرواية قال علي الرواية هي أن يسمع السامع الناقل الثقة يحدث بحديث من كتابه أو من حفظه أو بأحاديث فجائز أن يقول حدثنا وحدثني وأخبرنا وأخبرني وقال لي وقال لنا وسمعت وسمعنا وعن فلان وكل ذلك سواء وكل ذلك معنى واحد أو يقرأ الراوي عن الناقل حديثا أو أحاديث فيقول المروي عليه بها ويقول نعم هذه روايتي وأن يسمعها تقرأ عليه ويقر بها المروي عنه أو يناول المروي عنه الراوي كتابا فيه حديث أو أحاديث أو ديوانا بأسره عظم أو صغر فيقول له هذا ديوان كذا كل ما فيه أخذته عن فلان عن فلان حتى يبلغه إلى مؤلفه ويستثني شيئا إن كان فاته منه بعينه فإن لم يفته شيء فلا يستثني شيئا أن يقول له عن ديوان مشهور مقبول عند الناس نقل تواتر ليس في ألفاظه اختلاف ديوان كذا أخذته عن فلان عن فلان حتى يبلغ إلى مؤلفه فأي هذه الوجوه كان فجائز أن يقول فيه القائل حدثني وأخبرني وهو محق في ذلك وهو كله خبر صحيح ونقل صادق ورواية تامة لا داخلة فيها كالقراءة والسماع ولا فرق فإن سمعه يخاطب بذلك غيره فليقل سمعت فلانا يخبر عن فلان أو يحدث عن فلان ولا يقل حينئذ نا ولا ني ولا أنا ولا إني فيكذب ولكن إن قال سمعت فلانا فهي رواية صحيحة تامة فليحدث بها وليروها الناس وسواء أذن له المسموع عنه في ذلك أو لم يأذن حجر عليه الحديث عنه أو أباحه إياه كل ذلك لا معنى له ولا يحل لأحد أن يمنع من نقل حق فيه خير للناس قد سمعه الناقل ولا يحل لأحد أن يبيح لغيره نقل ما لم يسمع ومن يتعد

حدود الله فقد ظلم نفسه وإنما هو حق أو كذب فالحق الذي ينتفع به مسلم واحد فصاعدا واجب نقله والكذب حرام نقله وأما من كتب إلى آخر كتابا يوقن المكتوب إليه أنه من عنده فيقول له في كتابه ديوان كذا أخذته عن فلان كما وصفنا قبل فليقل المكتوب إليه أخبرني في كتابه إلي ونحن نقول أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرنا الله تعالى وقال لنا الله تعالى وقال تعالى {ولذين آمنوا وعملوا لصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها لأنهار خالدين فيهآ أبدا وعد لله حقا ومن أصدق من لله قيلا} وقال تعالى {لله نزل أحسن لحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود لذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر لله ذلك هدى لله يهدي به من يشآء ومن يضلل لله فما له من هاد} وإنما ذلك لأنه تعالى خاطب بكتابه كل من يأتي من الإنس والجن إلى يوم القيامة وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمخاطبة كل من يأتي إلى يوم القيامة من الإنس والجن أيضا فليس منا أحد إلا وخطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم يتوجهان إليه يوم القيامة وليس ذلك لمن دونهما أصلا وإنما يخاطب كل من دون الله تعالى ودون رسوله صلى الله عليه وسلم من شافه أو من كتب إليه أو من سمع منه لفظه إذ لم يأمر الله تعالى أحدا من ولد آدم عليه السلام دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ينذر جميع أهل الأرض وإنما يصح من فعل كل واحد ما وافق ما أمره تعالى به لا ما خالف ما أمره الله عز وجل ومن فعل ما لم يؤمر به ففعله باطل مردود قال علي وأما الإجازة التي يستعملها الناس فباطل ولا يجوز لأحد أن يجيز الكذب ومن قال لآخر ارو عني جميع روايتي دون أن يخبره بها ديوانا ديوانا وإسنادا إسنادا فقد أباح له الكذب لأنه إذا قال حدثني فلان أو عن فلان فهو كاذب أو مدلس بلا شك لأنه لم يخبره بشيء فهذه أربعة أوجه جائزة وهي مخاطبة المحدث للآخذ عنه أو سماع المحدث من الآخذ عنه وقراره له بصحته أو كتاب المحدث إلى الآخذ عنه أو مناولته

إياه كتابا فيه علم وقوله هذا أخبرني به فلان عن فلان وكل هذه الوجوه قد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن جميع الصحابة فأما الأخبار فإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالسنن وإخبار الصحابة بعضهم بعضا فأبو بكر أخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة وكذلك كل من بعده منهم وأما قراءة الآخذ على المحدث فقد قال بعض الناس للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فصدق النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك سأل الناس أصحابه عن الأحكام قصدقوا الحق وأنكروا الباطل وأما الكتاب فكتب النبي صلى الله عليه وسلم بالسنن إلى ملوك اليمن وإلى من غاب عنه من ملوك الأرض الذين دعاهم إلى الإيمان وكذلك فعل أصحابه بعده إلى قضاتهم وأمرائهم وأما المناولة فقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لعمرو بن حزم ولعمر وغيره إذ بعثهم أمراء يعلمهم فيها السنن وأمرهم بالعمل بما فيها وكذلك لعبد الله بن جحش وأعطاه الكتاب وأمره بالعمل بما فيه وكذلك فعل أبو بكر بأنس وبعث علي كتابا مع ابنه إلى عثمان وقال هذه صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر عمالك يعملون بها وأما الإجازة فما جاءت قط عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم ولا عن أحد منهم ولا عن أحد من التابعين ولا عن أحد من تابعي التابعين فحسبك بدعة بما هذه صفته وبالله تعالى التوفيق

فصل وقد تعلل قوم في أحاديث صحاح بأن قالوا هذا حديث أسنده فلان وأرسله فلان

فصل وقد تعلل قوم في أحاديث صحاح بأن قالوا هذا حديث أسنده فلان وأرسله فلان قال علي وهذا لا معنى له لأن فلانا الذي أرسله لو لم يروه أصلا أو لم يسمعه البتة ما كان ذلك مسقطا لقبول ذلك الحديث فكيف إذا رواه مرسلا وليس في إرسال المرسل ما أسنده غيره ولا في جهل الجاهل ما علمه غيره حجة مانعة من قبول ما أسنده العدول لا سيما إن كان المعترض بها مالكيا أو حنفيا فإنهم يرون المرسل مقبولا كالمسند فكيف يوهنون الصحيح بما يرونه موافقا له وشاذا ومؤيدا إن هذا لعجيب وإن هذا لإفراط في الجهل والسقوط ولا معنى لقولهم إنما يراعى هذا إذا كان المرسل أو الموقف أعدل من المسند فإنما يجب قبول الخبر إذا رواه العدل عن العدل ولا معنى لتفاضل العدالة على ما قد ذكرنا في هذا الباب إذ لا نص ولا إجماع ولا دليل على مراعاة عدل وأعدل منه وإنما الواجب مراعاة العدالة فقط وبالله تعالى نتأيد ونعتصم

الباب الثاني عشر في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم

الباب الثاني عشر في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بظاهرها وحملها على الوجوب والفور وبطلان قول من صرف شيئا من ذلك إلى التأويل أو التراخي أو الندب أو الوقف بلا برهان ولا دليل قال أبو محمد الذي يفهم من الأمر أن الآمر أراد أن يكون ما أمر وألزم المأمور ذلك الأمر وقال بعض الحنفيين وبعض المالكيين وبعض الشافعيين إن أوامر القرآن والسنن ونواهيهما على الوقف حتى يقوم دليل على حملها إما على وجوب في العمل أو في التحريم وإما على ندب وإما على إباحة وإما على كراهة وذهب قوم من الطوائف التي ذكرنا وجميع أصحاب الظاهر إلى القول بأن كل ذلك على الوجوب في التحريم أو الفعل حتى يقوم دليل على صرف شيء من ذلك إلى ندب أو كراهة أو إباحة فتصير إليه قال علي وهذا هو الذي لا يجوز غيره ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون ما اعترض به المخالفون وبطلان شغبهم بالبراهين الصحيحة ثم نذكر الأدلة على صحة ما ذهبنا إليه وبالله تعالى التوفيق قال علي فعمدة ما موهوا به أن قالوا لو كان لفظ الأمر موضوعا للإيجاب لم يوجد أبدا إلا كذلك لكن لما وجدنا بلا خلاف منكم لنا أوامر معناها الندب أو الإباحة ووجدنا نواهي بلا خلاف منكم لنا معناها الكراهة

وجب ألا نصرف الألفاظ إلى بعض ما تحتمله من المعاني دون بعض إلا بدليل قالوا وألفاظ الأوامر عندنا من الألفاظ المشتركة التي لا تختص بمعنى واحد لكنها بمنزلة عير ورجل ولون وعين فإن قولك رجل ليس هو بأن يوقع على العضو أولى منه بأن يوقع على جماعة الجراد وقولك عير ليس بأن يوقع على الحمار أولى من أن يوقع على العظم الذي في القدم وقولك عين ليس بأن يوقع على يمين عين النظر أولى من أن يوقع على عين الماء وقولك لون ليس بأن يوقع على الحمرة أولى من أن يوقع على البياض فكذلك قول القائل افعل لما وجد يراد به الندب ووجد يراد به إيجاب لم يكن إيقاعه على الإيجاب أولى من إيقاعه على الندب إلا بدليل قال علي هذا شغب فاسد وذلك أنا نقول وبالله تعالى التوفيق إن لكل مسمى من عرض أو جسم اسما يختص به يتبين به مما سواه من الأشياء ليقع بها التفاهم وليعلم السامع المخاطب به مراد المتكلم المخاطب له ولو لم يكن ذلك لما كان تفاهم أبدا ولبطل خطاب الله تعالى لنا وقد قال الله تعالى {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم} ولو لم يكن لكل معنى اسم منفرد به لما صح البيان أبدا لأن تخليط المعاني هو الإشكال نفسه فإذن الأصل ما ذكرناه بضرورة العقل وبنص القرآن ثم وجدنا في اللغة أشياء مما ذكروا من أسماء تقع على معان شتى ووجدناها أيضا أسماء يختص كل اسم منها بمسماه فقط وعلمنا أن المراد باللغة إنما هو الإفهام لا الإشكال لزمنا أن نلزم الأصل الذي هو اختصاص كل معنى باسمه دون أن يشاركه فيه غيره حتى يصح عندنا أن هذا الاسم مرتب بخلاف هذه الرتبة وأنه مما لا يقع به بيان فيطلب بيانه حينئذ من غيره قال علي والذي شبهوا به الأوامر من الأسماء المشتركة التي ذكروا مثل لون وعير ورجل تشبيه فاسد ضرورة وذلك أن المخاطب إذا خاطبنا بخبر ما

عن رجل أو عن لون أو أمرنا بأمر ما في ذلك فممكن أن نحمل خبره وأمره على كل ما يقتضيه ما ذكر مثل أن يقول لا تأكلوا عيرا فيجتنب كل ما يقع عليه اسم عير وإن اختلفت أنواعه وكذلك قوله تعالى {وهو لذي أنزل من لسمآء مآء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن لنخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب ولزيتون ولرمان مشتبها وغير متشابه نظروا إلى ثمره إذآ أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} وكان ذلك واقعا على كل ثمر وإن اختلفت أنواعه وكذلك قول القائل الهواء لا لون له فقد انتفى بذلك عنه البياض والحمرة والسواد والخضرة والصفرة فالفائدة بالخطاب بهذه الأسماء قائمة والتفاهم ممكن وحملها على ما يقتضيه جائز حسن إلا أن يقوم دليل على تخصيص بعض ما تحتها فيصار إليه وهذا غير ممكن في الأوامر التي أرادوا أن يشبهوها بالأسماء التي ذكرنا لأنه إذا قيل لنا افعلوا وكان هذا اللفظ ممكنا أن يراد به الإيجاب وممكنا به الندب أو الإباحة فلا سبيل في بنية الطبيعة إلى حمله على كل الوجوه التي ذكرنا إذ ممتنع بالضرورة أن يكون الشيء ملزما ولا بد ومباحا تركه في وقت واحد لإنسان واحد هذا محال لا يمكن ولا يقدر عليه فيبطل تشبيههم وصح أن الأمر لو كان كما ذكروا لكان غير مقدر على الائتمار له أبدا ولو كان ذلك لبطل الأمر كله ضرورة وإذ قد صح ورود الأمر من الله عز وجل وصح التخاطب بالأوامر في اللغة بين الناس علمنا أنه لا يجوز أن يخاطبنا تعالى بما لا سبيل إلى الائتمار له وبالمحالات التي لا نقدر عليها وصح أن الأمر مراد به معنى مختص بلفظه وبنيته وليس ذلك إلا كون ما خوطب به المأمور وبالله تعالى التوفيق قال علي وإنما الذي ذكروا من أنهم قد وجدوا أوامر معناها الندب فصدقوا والوجه في ذلك أننا قد وجدنا في اللغة ألفاظا نقلت على معهودها وعن موضوعها في اللسان وعلقت على أشياء أخر فعل ذلك خالق اللغة وأهلها الذي رتبها كيف شاء عز وجل أو فعل في ذلك بعض أهل اللغة من العرب أو فعل ذلك مصطلحان فيما بينها كما نقل تعالى اسم الصلاة عن موضوعها

في اللغة عن الدعاء إلى استقبال الكعبة ووقوف وركوع وسجود وجلوس بصفات محدودة لا تتعدى وكما نقل تعالى اسم الصيام عن الوقوف إلى امتناع الأكل والشرب والوطء في أيام معلومة وكما نقل اسم الكفر عن التغطية إلى أقوال محدودة ونيات معلومة فإذا قد وجدنا ذلك لزمنا إذا قام دليل على أن لفظا ما قد نقل عن موضوعه من اللغة ورتب في مكان آخر أن يعتقد ذلك وإما ما لم يقم دليل على نقله فلا سبيل إلى إحالته عن مكانه البتة وقد قال بعض المفسدين للحقائق المتكلمين بما لا يعقل ليس هذا نقلا إنما النقل ما لم يجز أن يبقى على ما نقل عنه قال علي وهذا تحكم لا يعرفه أهل اللغة بل كل حال أحيلت فقد تنقل حكمها عما كان عليه والاسم إذا وقع على معنى ما فأوقعه الله تعالى أيضا على معنى آخر فقد نقله على حكم الوقوع على معنى واحد إلى حكم الوقوع على معنيين وأيضا فلسنا نحاكرهم في لفظ النقل وإنما نريد أن اللفظة كانت تقع في اللغة على معنى ما فأوقعت أيضا على غير ذلك قال علي ثم نقول لهم ما يلزمكم إن صححتم دليلكم الذي ذكرتم أنكم قد وجدتم آيات كثيرة وأحاديث كثيرة منسوخات لا يحل العمل بها أن تتوقفوا في كل آية وفي كل حديث لاحتمال كل شيء منها في نفسه أن يكون منسوخا كاحتمال كل أمر في نفسه أن يكون ندبا فإن التزمتم ذلك كفرتم وخرجتم عن الإسلام وإن أبيتم التزامه أصبتم وكنتم قد أبطلتم دليلكم في أنه لما قد وجدت أوامر معناها الندب وجب التوقف عن جميع الأوامر حتى

يصح أنها إما إيجاب أو ندب قال علي وليس بين ما ألزمناهم من التوقف عن كل آية وحديث من أجل وجودهم آيات منسوخة وأحاديث منسوخات وبين ما التزموا من التوقف عن كل أمر من أجل وجودهم أوامر معناها الندب فرق البتة بل هو ذلك بعينه لسنا نقول إن مثله بل نقول إن المعنى في ذلك واحد وبيان ذلك أن المنسوخ هو الذي لا يلزم أن يستعمل أو يجوز أن يستعمل والمندوب إليه هو الذي لا يلزم فرضا أن يستعمل أيضا فقد اجتمعنا في سقوط وجوب الاستعمال اجتماعا مستويا وإنما افترقا أن المندوب إليه مباح استعماله والمنسوخ ليس مباحا استعماله في بعض الأحوال فقط فبطل تمويههم وبالله تعالى التوفيق بإقرارهم أنه ليس من أجل وجودنا ألفاظا مصروفة عن مواضعها في اللغة يجوز أن يتوقف في سائر الألفاظ خوف أن تكون مصروفة عن مواضعها فقد بطل الاستدلال الذي أرادوا تحقيقه وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن لفظة أو ولفظة إن شئت مفهوم منهما التخيير بلا خلاف منا ومنهم ومن جميع أهل اللغة وقد سمعناه تعالى يقول {وقل لحق من ربكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كلمهل يشوي لوجوه بئس لشراب وسآءت مرتفقا} سمعناه تعالى يقول {قل كونوا حجارة أو حديدا} وجدنا الدليل البرهاني قد قام على خروج هاتين الآيتين عن التخيير إلى معنى آخر فيلزم على دليلهم الفاسد ألا يحملوا لفظة أو ولا لفظة إن شئت أبدا على التخيير لأنه يقال لهم كما قالوا لو كانت لفظتا أو وإن شئت على التخيير لكانت متى وجدت لما تكن إلا للتخيير فلما وجدت لغير التخيير في عدة مواضع بطل أن تكون للتخيير قال علي وفي هذا إبطال الكلام كله وإبطال التفاهم وفساد الحق والشرائع كلها والعلوم كلها لأنه لا قول إلا وقد يوجد موضوعا في غير بنيته في اللغة إما على المجاز أو الاتفاق بين المتخاطبين فلو وجب من أجل ذلك أن

يبطل حمل الأسماء على معانيها التي رتبت لها في اللغة لبطل كل ما ذكرنا وكفى فسادا بكل قول أدى إلى إبطال الحقائق وبالله تعالى التوفيق قال علي فإن قالوا إنا لم نوافقكم على أن لفظ الأمر موضوعه في اللغة الوجوب فيلزمنا ما ألزمتمونا وإنما قلنا إنه ليس موضوعه في اللغة الوجوب دون الندب ولا الندب دون الوجوب قال علي فنقول وبالله تعالى التوفيق قد أبطلنا في كلامنا هذا جواز وقوع لفظ الأمر على الوجوب وعلى الندب معا وفرقنا بين ذلك وبين وقوع الألفاظ المشتركة مثل لون وعير على معان شتى وبينا أن ذلك جائز ممكن موجود وأن وقوع لفظ الأمر على الوجوب وعلى الندب معا محال ممتنع لا سبيل إليه ولا يتشكل في العقل البتة فصح ضرورة أن لفظ الأمر موضوع في أصل اللغة إما للوجوب فقط ثم نقل بدليل كما ذكرنا في بعض المواضع إلى الندب أو إلى غير الوجوب من سائر المعاني التي سنبينها إن شاء الله تعالى وإما أنه موضوع في أصل اللغة للندب خاصة أو لمعنى ما من سائر المعاني التي قد وردت بلفظ الأمر ثم نقل إلى الوجوب بدليل فهذا هو الذي يتشكل في العقل وأما احتمال وقوع لفظ الأمر على الندب والوجوب معا في وقت واحد فهذا باطل لأنه يوجب أن ورود الأمر لا حقيقة له أصلا ولا له معنى البتة وهذا أحمق من قول السوفسطائية فهذا الذي أردنا أن نبين إحالته وقد صح والحمد لله ولا بد لكم من المصير إلى أحد الخبرين ضرورة إما أن تقولوا لفظ الأمر موضوع للوجوب في اللغة حتى يصح دليل بنقله إلى غير الوجوب وهذا قولنا وإما أن تقولوا لفظ الأمر موضوع لغير الوجوب في اللغة حتى يصح دليل ينقله إلى الوجوب فإن قلتم ذلك سهل أمركم بقول وجيز بحول الله وقوته وحسبنا أن قد قلعناكم بلطف الله عن مكان الشغب على الجهال وذلك أن قول

القائل الأوامر كلها على غير الوجوب حتى يصح دليل نقلها إلى الوجوب دخول في عظيمتين إحداهما خرق الإجماع فما قال بهذا أحد قط وإنما شغب من شغب بالموقف وبما قدمنا إبطاله من احتمال الأمرين والثانية إبطال فائدة العقل لأنه يصير حينئذ قائلا إن الموضوع في اللغة من لفظة افعل لا تفعل إن شئت وهذا خلاف فهم جميع أهل اللغات لأن الثابت في فطرة العقل أن النهي عن الشيء غير الأمر به وكفى مع أن الإجماع على ترك هذا القول كاف عن تكلف دليل وبرهان ضروري وهو أنه إن كانت لفظة افعل موضوعة لغير الإيجاب إلا بدليل يخرجها إلى الإيجاب وكانت أيضا لفظة لا تفعل موضوعة لغير التحريم إلا بدليل يخرجها إلى التحريم وكان كلتا اللفظتين تعطي افعل إن شئت أو لا تفعل إن شئت فقد صار ولا بد من المفهوم من لا تفعل هو المفهوم من افعل وهذا لا يقوله ذو مسكة عقل قال علي قالوا وبأي شيء يدل على أنه على الوجوب أبنفسه أم بدليله فإن قلتم بنفسه ففي ذلك اختلفنا وإن كان بدليله فإذا لم يدل هو فدليله أحرى أن لا يدل قال علي وهذا شغب فاسد ضعيف جدا تعلقوا إليه من قبل مبطلي الحقائق فإنهم قد سألونا بهذا السؤال نفسه فقالوا بماذا ثبت عندكم أن الأشياء حق أبأنفسها ففيها اختلفنا أم بغيرها فلا شيء في العالم يوجد من غير الأشياء الموجودة وليس غير الأشياء إلا لا شيء فإذا لم يدل الشيء على حقيقة نفسه فلا شيء أحرى ألا يدل وتعلق أيضا بهذا السؤال مبطلو دلائل العقل فقالوا بأي شيء علمتم صحة ما يدل عليه العقل أبالعقل أم بغير العقل ونحو هذا من الهذيان كثير وهؤلاء القوم في شعبة من طريق مبطلي الحقائق ومبطلي مدركات العقل

ونعكس عليهم سؤالهم هذا السخيف الذي صححوه فهو لازم لهم لا لنا إذ لم نصححه ونقول لهم بأي شيء يدل الأمر على أنه على الوقف أبنفسه أم بدليله فإن قلتم بنفسه ففي ذلك اختلفنا وإن كان بدليله فإذا لم يدل هو فدليله أحرى ألا يدل فمن أحمق استدلالا ممن دليله عائد عليه وهادم لقوله وإنما هم قوم لا يحققون شيئا إنما هم في سبيل التشغيب على الضعفاء وما يخدعون إلا أنفسهم والجواب عن هذا السؤال السخيف وبالله تعالى التوفيق أنا قد أخبرنا فيما خلا وفي سائر كتبنا بأننا مضطرون إلى معرفة أن الأشياء حقائق وأنها موجودة على حسب ما هي عليه وبأنه لا يدري أحد كيف وقع له ذلك وبينا أن هذه المعرفة التي اضطرنا إليها وخلقها الباري تعالى في أنفسنا في أول أوقات فهمنا بعد تركيبها في الجسد هي أصل لتمييز الحقائق من البواطن وهي عنصر لكل معرفة وإننا عرفنا إيجاب الأوامر ببديهة العقل وبالتمييز الموضوعين فينا لنعرف بها الأشياء على ما هي عليه فعلمنا أن الحجر صليب وأن الماء سيال في طبعه وإن انتقل إلى الجمود في بعض أحواله وأن قول القائل فلان أحمق ذم وأن قوله فلان عاقل مدح وأن الأمر عنصر من عناصر الكلام التي هي خير ودعاء واستفهام وأمر فلما استقر في النفس أن إرادة الأمر أن يفعل المأمور ما يأمره به معنى قائم في النفوس لم يكن له بد من عبارة يقع بها التفاهم وعلمنا ذلك أيضا بنصوص سنذكرها في تمام إبطال ما شغبتم به إن شاء الله تعالى وبالله نتأيد وإياه نستعين هذا كل ما احتج به القائلون بالوقف ولا مزيد فقد أبطلناه بالبرهان الضروري بتوفيق الله تعالى وتعليمه لا إله إلا هو إلا أن ابن المنتاب المالكي أتى بعظيمة فلزمنا التنبيه عليها إن شاء الله تعالى وذلك أنه قال إن من

الدليل على أن الأوامر على الوقف قول الله تعالى مخبرا عن أهل اللغة الذين هم العرب {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا لعلم ماذا قال آنفا أولئك لذين طبع لله على قلوبهم وتبعوا أهوآءهم} قال فلو كانت الأوامر على الوجوب والألفاظ على العموم لما كان لسؤالهم عما قاله عليه السلام معنى إذ لو فهم الوجوب والعموم من نفس اللفظ لكان سؤالهم فاسدا قال علي لا يشبه هذا القول احتجاج مسلم لأن الله تعالى حكى هذا الاعتراض عن قوم منافقين كفار لم يرض فعلهم ولا سؤالهم وإنما حكى الله عز وجل ذلك عنهم منكرا عليهم وقد قال تعالى {فأنجيناه وأصحاب لسفينة وجعلناهآ آية للعالمين} فأخبر تعالى أن ظاهر القرآن وتلاوته تكفي أن ذلك يجب قبوله على ظاهره حين وروده هذا نص الآية المذكورة ووصية الله تعالى التي لا تحتمل غير ما ذكرنا ولا أعجب من احتجاج من يدعي أنه مسلم في إسقاطه إيجاب طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بكلام قوم كفار منافقين مستهزئين بآيات الله عز وجل وما نعرف لهذا الاحتجاج مثلا في الشنعة والفظاعة إلا قول إسماعيل بن إسحاق في كتابه الخمس وهو كتاب مشهور معلوم ولنا عليه فيه رد هتكنا عواره فيه وفضحناه بحول الله وقوته فإن قال في الكتاب المذكور لو كان ما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صناديد قريش من غنائم هوازن إثر يوم حنين من نصيبه من خمس الخمس كما قال الشافعي ما قالت الأنصار في ذلك ولا قال ذو الخويصرة ما قال قال علي فمن أضل ممن يحتج بكلام ذي الخويصرة ويتخذ ذا الخويصرة وليجة من دون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ويجعل إنكار كافر مشرك شر خلق الله هجور لرسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على المؤمنين القائلين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أعطى من أعطى نصيبه الذي فوض الله تعالى أمره إليه لا مما جعله الله عز وجل لأقوام مسلمين معروفين اللهم

إنا نبرأ إليك من هذا الكلام ومن نصر مذهب قاد إلى الاحتجاج بإنكار ذي الخويصرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقول المنافقين ماذا قال آنفا ونحن نقول قول إنصاف إذ قد اقتدى ابن المنتاب بالقائلين إذ خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استمعوا إليه ثم قالوا لأهل العلم وتبرأنا نحن منهم ومن مثل سؤالهم واقتدينا نحن بالذين قالوا {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم لمفلحون} فلله ما اختار وله إن شاء الله تعالى ما أعطى الله للذين اقتدى بهم إذ قال عز وجل يعقب حكاية قوله {يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب} {يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب} {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا لعلم ماذا قال آنفا أولئك لذين طبع لله على قلوبهم وتبعوا أهوآءهم} } محمد 16 ونحن راجون أن يعطينا الله بمنه وطوله ما أعطى من اقتدينا بهم في قولهم {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم لمفلحون} إذ يقول الله تعالى {إنما كان قول لمؤمنين إذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم لمفلحون} ونعم فليعلم الجاهل المعترض بأقوال المنافقين المشركين على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أن قول الذين قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا لا معنى لسؤالهم هذا ولا يعقل سؤالهم لأنه سؤال مجنون فاسد الدين ملعون وشغب بعضهم بقول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب} {فإذا قضيت لصلاة فنتشروا في لأرض وبتغوا من فضل لله وذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون} قالوا وهذا إباحة بلا شك فقلنا يجب عليكم إذا احتججتم بهذا أن تقولوا إن جميع الأوامر على الندب حتى يقوم دليل على الوجوب وهذا ليس قولهم وأما هاتان الآيتان فإنما خرجتا عن الوجوب إلى الإباحة ببرهان أما التصيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم حل بالطواف بالبيت وانحدر إلى منى ولم يصطد فصح أنه ليس فرضا بهذا النص الآخر وأما {فإذا قضيت لصلاة فنتشروا في لأرض وبتغوا من فضل لله وذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون} فإن عبد الله بن ربيع قال حدثنا عمر بن عبد الملك حدثنا ابن الأعرابي ثنا علي بن عبد العزيز ثنا القعنبي ثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث اللهم اغفر له اللهم ارحمه قال أبو محمد فندبنا إلى القعود في مصلانا بعد الصلاة فصح بذلك أن الانتشار بعد الصلاة إباحة فمن جاءنا في شيء من الأوامر ببرهان ينقله عن الفرض إلى الندب وعن التحريم إلى الكراهية صرنا إليه وأما بالدعوة الكاذبة المحيلة للقرآن والسنن على موضوعها فمعاذ الله من ذلك واحتج على بعضهم بالخبر الثابت من طريق أنس أن رجلا اتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر النبي عليه السلام علي بن أبي طالب أن يقتله فأتاه فوجده في ركي يتبرد فأمره بالخروج فلما خرج فإذا هو مجبوب لا ذكر له فتركه وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره وزاد بعض من لا يوثق به في هذا الخبر أن عليا قال له يا رسول الله أنفذ لأمرك كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فقال له بل الشاهد يرى ما لا يراه الغائب وقد ذكر هذا اللفظ أيضا في خبر بعثه عليه السلام عليا إلى خيبر وكلاهما لا يصح أصلا بل هما زيادتا كذب لم يرو قط من طريق فيها خير ويلزم من صححها أن يسقط من الصلاة ثلاث صلوات أو من كل صلاة ركعة إن رأى ذلك أصلح أو ينقل صوم رمضان إلى الربيع رفقا بالناس إذ الشاهد يرى ما لا يرى الغائب وأن يزيد في الحدود والزكاة أو ينقص منها وهذا كفر صريح فبطل التعلق بهذا اللفظ الموضوع وكذلك ما روي أنه عليه السلام أمر أبا بكر وعمر بقتل ذي الخويصرة فرجعا وقال أحدهما يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدته ساجدا وقال الآخر وجدته راكعا فهو خبر كاذب لم يأت قط من طريق خير

وأما أمره عليه السلام بقتل ذلك الإنسان فيخرج على أحد وجهين إما أنه شهد عند النبي عليه السلام بذلك قوم عدول في الظاهر منافقون في الباطن كاذبون بأنهم سمعوه يقر بذلك فوجب عليه القتل لأذاه النبي صلى الله عليه وسلم ففضح الله كذبهم وأما أنه تعالى أوحى إليه بالأمر بقتله وقد علم تعالى أنه سينسخ ذلك الأمر بإظهار براءته وكذب الناقل وكلا الأمرين وجه صحيح وبالله تعالى التوفيق قال علي فإذا قد ذكرنا كل ما شغبوا به فلنذكر إن شاء الله تعالى البراهين المصححة أن الأوامر كلها على الوجوب والنواهي كلها على التحريم إلا ما خرج منها بدليل ونقول قبل ذلك إنما لجأ إلى القول بالوقف وتعلق بهذه العوارض وسلك في هذه المضايق من بهر شعاع الحق عقله والتمع نور الله تعالى بصر قلبه وارتبك في غيه ناصرا لما قد ألفه من الأقوال الفاسدة وطمعا في إطفاء ما لا ينطفىء من ضياء الحق وإنما التزموا ذلك في مسائل يسيرة ثم تناقضوا فأوجبوا أحكاما كثيرة فرضا بنفس الأمر مما قد خالفهم فيها غيرهم وفعلت كل طائفة منهم مثل ما فعلت الأخرى قال أبو محمد فأول ذلك أنه لا يعقل أحد من أهل كل لغة أي لغة كانت من لفظة افعل أو اللفظة التي يعبر بها في كل لغة عن معنى افعل ولا يفهم منها أحد لا تفعل ولا يعقل أحد من لفظة لا تفعل أو مما يعبر به عن معنى لا تفعل ولا يفهم منها أحد افعل ومدعي هذا على اللغات وأهلها في أسوأ من حال الكهان وقد قال تعالى {قتل الخراصون}

قال علي ويقال لهم بأي شيء تعرفون أن في الأوامر شيئا على الوجوب مما تقرون فيه أنه واجب فأجابوا عن ذلك بجوابين أحدهما إن قال بعضهم نعرف أن الأمر على الوجوب إذا اقترن معه وعيد وقال بعضهم لسنا نجدد دلائل الوجوب وهي أشياء تقترن بالأوامر التي يراد بها الإيجاب ولسنا نقدر على العبارة عنها قال علي أما هؤلاء فقد أقروا بالانقطاع وبالعجز عن بيان مذهبهم وإذا كان شيء لا يقدر على بيانه فباليقين أن العجز عن نصره أوجد وليس يعجز أحد له لسان وليس له حياء ولا ورع أن يدعي ما شاء فإذا سئل عن دليل قوله وبيانه قال إني لا أقدر على بيانه ولكنه شيء معلوم إذا وجد عرف قال علي ولسنا ممن يجوز عليه هذا الهذيان ولكنا نقول لمن هذا صف لنا حال نفسك في معرفتك ما عرفت أنه واجب فإن عجزت عن ذلك بان كذبك وادعاؤك الباطل لأن كل واحد يدعي حالا يستدل بها على حقيقة ليست من أوائل المعارف فهو مميز لتلك الحال وإلا فهو مدع للباطل قال أبو محمد ويقال لمن قال يعرف أن الأمر على الوجوب إذا اقترن به وعيد اعلم أن الوعيد من الله عز وجل قد اقترن بجميع أوامر نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} فاقترن التحذير من الفتنة والوعيد بكل من خالف أمره عليه السلام قال علي واعترض بعضهم في ذلك بأن قال لما صح في أن أوامره عليه السلام ما لا يصيب مخالفه عذاب أليم وهو أمر كان معناه الندب علمنا أن الوعيد المحذر منه إنما هو فيما كان من الأوامر معناه الوجوب فقط وأن هذه الآية لا توجب كون جميع أوامره فرضا وإن كان ذلك فقد

بطل أن يكون حجة في حمل الأمر على الوجوب قال علي فيقال له وبالله تعالى التوفيق إن ما خرج من الأوامر عن استحقاق العذاب المنصوص في الآية على تركه بخروجه إلى معنى الندب إنما هو مستثنى من جملة ما جاءت الآية به بمنزلة المنسوخ الخارج عن الوجوب فلا يبطل ذلك بقاء سائر الشريعة على الاستعمال وكذلك خروج ما خرج بدليله إلى الندب ليس بمبطل بقاء ما لا دليل على أنه ندب على استحقاق العذاب على تركه إلا أن الوعيد قد حصل مقرونا بالأوامر كلها إلا ما جاء نص أو إجماع متيقن منقول إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا وعيد عليه لأنه غير واجب ولا يسقط من كلام الله تعالى إلا ما أسقطه وحي له تعالى آخر فقط حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا أبو إسحاق البلخي عن الفربري عن البخاري ثنا محمد بن سنان ثنا فليح ثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا يا رسول الله ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى قال علي يسأل من قال إن الأوامر لا تحمل على الوجوب إلا بدليل ما معنى المعصية فلا بد له من أن يقول هي ترك المأمور أن يفعل ما أمره به الآمر فإذا لا بد من ذلك فمن استجاز ترك ما أمره به الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله ورسوله ومن عصاهما فقد ضل ضلالا بعيدا واستحق النار وألا يدخل الجنة بنص كلام الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {إلا بلاغا من لله ورسالاته ومن يعص لله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبدا} قال علي ولا عصيان أعظم من أن يقول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم افعل أمرا كذا فيقول المأمور لا أفعل إلا إن شئت أن أفعل ومباح لي أن أترك ما أمرتماني به أو يقول الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم لا تفعل أمرا كذا فيقول أنا أفعل إن شئت أن أفعله ومباح

لي أن أفعل ما نهيتماني عنه قال علي ما يعرف أحد من العصيان غير هذا والحجة على هؤلاء القوم أبين في العقول بيانا وأقرب مأخذا منها على المشركين لأن المشركين لا يقرون بوجوب طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما الكلام معهم في إثبات ذلك وهؤلاء يقرون بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم يقولون لنا لا نطيع وليس الائتمار لهما بواجب إلا بدليل غير نفس أمرهما نعوذ بالله من الخذلان ومن التمادي على الباطل بعد وضوحه واحتج بعضهم بما حدثنا المهلب عن ابن مناس عن ابن مسرور عن يونس بن عبد الأعلي عن ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن سليمان الأعمش قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن وبه إلى ابن وهب أخبرني خالد بن حميد عن يحيى بن أبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن القرآن ذلول ذو وجوه فاتقوا ذله وكثرة وجوهه وبه إلى ابن وهب أنبأ مسلمة بن علي عن هشام عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكر حديثا وذكر فيه القرآن وفيه وما منه آية إلا ولها ظهر وبطن وما فيه حرف إلا وله حد ولكل حد مطلع قال علي هذه كلها مرسلات لا تقوم بها حجة أصلا ولو صحت لما كان لهم في شيء منها حجة بوجه من الوجوه لأنه لو كان كما ذكروا لكل آية ظهر وبطن لكنا لا سبيل لنا إلى علم البطن منها بظن ولا بقول قائل لكن

ببيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله تعالى بأن يبين للناس ما نزل إليهم فإن أوجدونا بيانا عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل الآية عن ظاهرها إلى باطن ما صرنا إليه طائعين وإن لم يوجدونا بيانا عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس أحد أولى بالتأويل في باطن ما تحتمله تلك الآية من آخر من تأول أيضا ومن الباطل المحال أن يكون للآية باطن لا يبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يكون حينئذ لم يبلغ كما أمر وهذا لا يقوله مسلم فبطل ما ظنوه وقد أتت الأحاديث الصحاح بحمل كل كلام على ظاهره كما حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال ثنا محمد بن معاوية المرواني عن أحمد بن شعيب النسائي ثنا محمد بن عبد الله بن المبارك ثنا أبو هشام واسمه المغيرة بن سلمة المخزومي بصري ثقة قال علي وأنبأناه أيضا عبد الله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج حدثني زهير بن حرب ثنا يزيد بن هارون قال علي واللفظ لفظ المغيرة قال المغيرة ويزيد ثنا الربيع بن مسلم ثنا محمد بن زياد عن أبي هريرة قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال إن الله تعالى قد فرض عليكم الحج فقام رجل فقال أفي كل عام فسكت عنه حتى أعاده ثلاثا فقال لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بالشيء فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وقد روي أيضا من طرق صحاح إلى الزهري عن أبي سنان عن ابن عباس عن

النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن نفعل ما أمر به ما نستطيع وأن نجتنب ما نهى عنه من طريق أبي هريرة مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب وأبو صالح والأعرج وهمام بن منبه ومحمد بن زياد كلهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه عن همام معمر ورواه عن الأعرج أبو الزناد ورواه عن أبي صالح الأعمش ورواه عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة الزهري ورواه عن محمد بن زياد عن أبي هريرة مسندا أيضا شعبة والربيع بن مسلم ورواه عمن ذكرنا الثقات الأكابر قال علي فبين عليه السلام في هذا الحديث بيانا لا إشكال فيه أن كل ما أمر به فهو واجب حتى لو لم يقدر عليه وهذا معنى قوله تعالى {في لدنيا ولآخرة ويسألونك عن ليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ولله يعلم لمفسد من لمصلح ولو شآء لله لأعنتكم إن لله عزيز حكيم} ولكنه تعالى رفع عنا الحرج ورحمنا فأمر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم كما تسمع أن ما أمر به عليه السلام فواجب أن يعمل به حيث انتهت الاستطاعة وأنه لا يسقط من ذلك إلا ما عجزت عنه الاستطاعة فقط وأن ما نهى عليه السلام عنه فواجب اجتنابه ثنا عبد الله بن يوسف بالسند المذكور إلى مسلم قال ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ثنا أبو علي الحنفي ثنا مالك بن أنس عن أبي الزبير المكي أن أبا الطفيل عامر بن وائله أخبره أن معاذ بن جبل أخبره وقال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي قال فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان العين مثل الشراك تبض بشيء من ماء قال فسألهما رسول الله صلى الله عليه

وسلم هل مسستما من مائها شيئا قالا نعم فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول ثم ذكر باقي الحديث وفيه الآية في نبعان الماء ببركته صلى الله عليه وسلم قال علي فهذان استحقا السب من النبي صلى الله عليه وسلم لخلافهما نهيه في مس الماء ولم يكن هناك وعيد متقدم فثبت أن أمره على الوجوب كله إلا ما خصه نص ولولا أنهما تركا واجبا ما استحقا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه إلى مسلم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو أسامة ثنا عبيد الله هو ابن عمر عن نافع عن ابن عمر قال لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فقال يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أخبرني الله تعالى فقال {ستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لله لهم ذلك بأنهم كفروا بلله ورسوله ولله لا يهدي القوم الفاسقين} وسأزيد على السبعين قال إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بلله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} قال علي ففي هذا الحديث بيان كاف في حمل كل شيء على ظاهره فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم اللفظ الوارد بأو على التخيير فلما جاء النهي المجرد حمله على الوجوب وصح بهذا أن لفظ الأمر والنهي غير لفظ التخيير والندب ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بلغة العرب التي بها خاطبه ربه تعالى فإن قال قائل فما كان مراد الله بالتخيير الذي حمل رسول الله صلى الله

عليه وسلم على التخيير وبذكره تعالى السبعين مرة أتقولون إنه أراد تعالى ما قال عمر بن الخطاب من ألا يصلي عليهم ولا يستغفر لهم ثم نزلت الآية الأخرى مبينة فالجواب أننا وبالله تعالى التوفيق لا نقول ذلك ولا يسوغ لمسلم أن يقوله ولا نقول إن عمر ولا أحدا من ولد آدم عليه السلام فهم عن الله تعالى شيئا لم يفهمه عنه نبي الله صلى الله عليه وسلم وهذا القول عندنا كفر مجرد وبرهان ذلك أن الله تعالى لو لم يرض صلاة النبي على عبد الله بن أبي لما أقره عليها ولأنزل الوحي عليه لمنعه كما نهاه بعد صلاته عليه أن يصلي على غيره منهم فصح أن قول عمر كان اجتهادا منه أراد به الخير فأخطأ فيه وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجر عمر في ذلك أجرا واحدا لكنا نقول إنه عز وجل خير نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك على الحقيقة فكان مباحا له صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم ما لم ينه عن ذلك وأما ذكر السبعين فليس في الاقتصار عليه إيجاب أن المغفرة تقع لهم بما زاد على السبعين ولا فيه أيضا منع من وقوع المغفرة لهم بما زاد على السبعين إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طمع ورجا إن زاد على السبعين أن يغفر لهم ولم يحقق أن المغفرة تكون بالزيادة وهذا هو نفس قولنا بعينه فلما أعلمه الله تعالى بما كان في علمه عز وجل ولم يكن أعلمه قبل ذلك به علمه حينئذ نبيهصلى الله عليه وسلم ولم يكن علم قبل نزول المنع من الاستغفار لهم بالبت أن ما زاد على السبعين غير مقبول فدعا راج لم ييأس من المغفرة ولا أيقن بها وهذا بين في لفظ الحديث وبالله تعالى التوفيق وقد سألت بريرة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال لها لو راجعتيه

يعني النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مغيثا فقالت أتأمرني يا رسول الله فقال لا إنما أشفع ففرق صلى الله عليه وسلم كما ترى بين أمره وشفاعته فثبت أن الشفاعة لا توجب على أحد فعل ما شفع فيه عليه السلام وأن أمره بخلاف ذلك وليس فيه إلا الإيجاب فقط وقال الله عز وجل {يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين} قال علي في هذه الآية بيان جلي رافع لكل شك في أن من لم يفعل ما أمر به فقد عصى لأنه تعالى بين أن نبيه صلى الله عليه وسلم إن لم يبلغ كما أمر فلم يفعل ما أمر به ولا معنى لهذا الخبر وهذا التقدم إلا أن خلاف الأمر معصية لا موافقة وبالله تعالى التوفيق وهم يقرون على أنفسهم أنهم لا يفعلون ما أمروا به حتى يأمرهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وقال تعالى {فصح أنه لم يرد تعالى منا الإقرار وحده إلا مع العمل بما أمرنا معه وقال تعالى {} قال علي وانبلج الحكم بهذه الآية ولم يبق للشك مجال لأن الندب تخيير وقد صح أن كل أمر لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فلا اختيار فيه لأحد وإذا بطل الاختيار فقد لزم الوجوب ضرورة لأن الاختيار إنما هو في الندب والإباحة للذين لنا فيهما الخيرة إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم

نفعل فأبطل الله عز وجل الاختيار في كل أمر يرد من عند نبيه صلى الله عليه وسلم وثبت بذلك الوجوب والفرض في جميع أوامرهما ثم لم يدعنا تعالى في شك من القسم الثالث وهو الترك فقال تعالى {} قال علي وليس يقابل الأمر الوارد إلا بأحد ثلاثة أوجه لا رابع لها نعلم ذلك بضرورة الطبيعة وببديهة العقل إما الوجوب وهو قولنا وإما الندب والتخيير في فعل أو ترك وقد أبطل الله عز وجل هذا الوجه في قوله تعالى {} وأما الترك وهو المعصية فأخبر تعالى أن من فعل ذلك فقد ضل ضلالا مبينا فارتفع الإشكال جملة وبطل كل شغب يأتون به وقال تعالى {} فنص تعالى على توبيخ من لم يكتف بالتلاوة وهذا هو الحكم بالظاهر وحظر الانتقال إلى التأويل وقال تعالى {} وقال تعالى {} فصح أن لا بيان إلا نص القرآن ونص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قالوا فإنكم تحملون كثيرا من أوامره تعالى على التخيير والندب فقد نقضتم هذا الحكم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق ما فعلنا ما تقولون من النقض لأننا إنما حملنا منها على التخيير بأمر الله تعالى حملناه أيضا على وجوبه فإذا نص ربنا عز وجل في أمر قد أمر به على أننا إن شئنا فعلنا وإن شئنا تركنا فقد أوجب علينا قبول هذا النص على ظاهره ضرورة فلم نخرج عن أصلنا ولم يكن لنا خيرة في صرفه إلى الوجوب بأحد طرفيه دون الآخر فقط كما أنه تعالى أو نبيه صلى الله عليه وسلم إذا اقتصر المخاطب لنا منهما على لفظ لا تخيير معه فلا خيرة لنا في صرفه عن أمره الذي اقتصر عليه فكل أمر مفرد فواجب علينا حمله على

انفراده وكل أمر بتخيير فواجب علينا حمله على التخيير فالقبول فرض علينا لما يرد من الألفاظ على ظواهرها ولا خيرة لنا في شيء من ذلك والإجماع إذا صح على حمل آية أو خبر على التخيير فقد أيقنا أن أصل الإجماع توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملنا ذلك التوقيف أيضا على الوجوب فلم ننقض قولنا بحمد الله تعالى قال علي أفلا يستحي أن يتكلم في الدين من يسمع كلام الله تعالى في قسمة الصدقات يقول {} فيقول ليس ذلك فريضة وجائز للإمام أن يصرفها إلى ما يرى من وجوه البر أو إلى بعض هذه الأصناف ثم يأتي إلى قول ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى صغير أو كبير صاعا من تمر أو صاعا من شعير فيقول ليس صدقة الفطر فريضة ولا الشعير ولا التمر فيها أيضا فرضا ولا مستحبا بل البر الذي لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ثم يأتي إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى ههنا معنا وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد أدرك فقال لا تخيير في ذلك والفرض الوقوف ليلا ولا بد وإلا بطل الحج ويقول في قول الله تعالى {} إنه يفهم منه أن خطبة الجمعة فرض تبطل الصلاة بتركها وأن ذكره تعالى للاعتكاف بعد ذكره لحكم الصيام موجب أن يكون الصوم في الاعتكاف فرضا لا يجزي الاعتكاف إلا به أيكون في عكس الحقائق ومجاهرة العقول الفهمة للغة العربية ومخالفة القرآن والسنة أكثر من هذا وقال تعالى {}

قال علي فهذا لفظ الوعيد بقوله تعالى {} مقرونا بمخالفة الطاعة فأخبرنا تعالى أن ترك الطاعة تول ولا تركا للطاعة أكثر ممن يستجيز أن يترك ما أمر به أو يفعل ما نهى عنه وقال تعالى {لذين يتبعون لرسول لنبي لأمي لذي يجدونه مكتوبا عندهم في لتوراة ولإنجيل يأمرهم بلمعروف وينهاهم عن لمنكر ويحل لهم لطيبات ويحرم عليهم لخبآئث ويضع عنهم إصرهم ولأغلال لتي كانت عليهم فلذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتبعوا لنور لذي أنزل معه أولئك هم لمفلحون} فصح بالنص كما ترى أن كل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو معروف وكل ما نهى عنه فهو منكر عن المعروف فبين تعالى أن كل من نهى عما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو منافق وكل من قال في قوله تعالى افعل فقال هو لا تفعل إن شئت فقد أباح تركه والنهي عنه نصا وقال تعالى {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} وقال تعالى {وليحكم أهل لإنجيل بمآ أنزل لله فيه ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لفاسقون} قال علي ومن أجاز لنفسه ترك العمل بما أنزل الله فهو فاسق ظالم بنص القرآن وبنص تسمية الله عز وجل له فقد نصصنا كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم في إيجاب أوامرهما ونواهيهما فرضا وبطل بذلك قول من قال على الندب أو الوقف قال علي وقد فرق قوم بين أوامر الله عز وجل وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا بين الفساد فقد أنكر الله تعالى ذلك بقوله {من يطع لرسول فقد أطاع لله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا} وإن العجب ليكثر من الحنفيين والمالكيين الذين يجعلون الخطبة يوم الجمعة فرضا فإذا سئلوا عن البرهان في ذلك قالوا قول الله عز وجل {وإذا رأوا تجارة أو لهوا نفضوا إليها وتركوك قآئما قل ما عند لله خير من للهو ومن لتجارة ولله خير لرازقين} قال علي وما ندري ماذا تأدى إليهم في هذا اللفظ من إيجاب الخطبة ويقولون إن الصيام في الاعتكاف فرض إذا سئلوا عن برهان ذلك قالوا

ذكر الله تعالى الاعتكاف إثر ذكر الصيام وعلى هذا فكل شريعة ففرض ألا تتم إلا بضم كل شريعة في القرآن إليها فلا حج لمن لم يصل ولا صلاة لمن أفطر في رمضان ولا نكاح لمن لا يقسط في اليتامى فينفسخ نكاحه مع امرأته لأن الله تعالى عطف النكاح على أمر اليتامى فقال تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} لأنها كلها معطوف بعضها على بعض ثم قالوا في قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} ليست العمرة فرضا وقد عطفها تعالى على الحج عطفا شركها به معه في الإتمام ولم يعطف الاعتكاف في الصيام ولا الصيام على الاعتكاف وإنما عطف النهي عن المباشر في حال الاعتكاف على أحكام الصيام عطف جملة على جملة لا عطف اشتراك ثم قالوا في قوله تعالى في قسمة الخمس {وعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل إن كنتم آمنتم بلله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم لفرقان يوم لتقى لجمعان ولله على كل شيء قدير} فقالوا ليس هذا فرضا وللإمام أن يضع الخمس حيث رأى من مصالح المسلمين هذا وهم يسمعون الله تعالى يقول في قسمة الخمس على من سمى {وعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل إن كنتم آمنتم بلله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم لفرقان يوم لتقى لجمعان ولله على كل شيء قدير} وقالوا في آية الصدقات وقد قال تعالى في آخرها {إنما لصدقات للفقرآء ولمساكين ولعاملين عليها ولمؤلفة قلوبهم وفي لرقاب ولغارمين وفي سبيل لله وبن لسبيل فريضة من لله ولله عليم حكيم} فقالوا ليست فريضة لهؤلاء فمن أضل ممن جعل الخطبة والصيام في الاعتكاف فرضا ولم يأت به أمر ولا ندب وأسقط إيجاب ما سماه الله تعالى فريضة وقال فيه {وعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل إن كنتم آمنتم بلله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم لفرقان يوم لتقى لجمعان ولله على كل شيء قدير} وأما المالكيون فإنهم احتجوا في عتق الأخ يملكه أخوه بقوله تعالى {قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ففرق بيننا وبين لقوم لفاسقين} وما عقل قط ذو لب وجوب عتق الأخ من هذه الآية كما لم يعقل وجوب صلاة الظهر منها وأسقطوا النفقة على الوارث بآرائهم وقد قال تعالى {ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن

بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير} ففرقوا بين مضارة الوالد بولده فأوجبوا فيها النفقة وبين مضارة الوارث بموروثه فلم يوجبوا فيها النفقة وقد سوى الله عز وجل بينهما تسوية واحدة ولا ضرر في التمييز والعقل أعظم من ترك الوارث موروثه يسأل أو يموت جوعا وهو ذو مال يغنيه ويفضل عنه وخالفوا في ذلك حكم عمر بن الخطاب وعمله وقال المالكيون أمر تعالى بالمكاتبة ندب وأمره بإتيانهم من مال الله الذي آتاهم ندب وأمره بالمتعة ندب ثم قالوا قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم لجمعة فسعوا إلى ذكر لله وذروا لبيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} فرض فلو تدبروا هذه الفضائح التي يطلقون لكان أولى بهم من معارضة أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم بهذيان لا يطردونه بل يتناقضون فيه في كل حين فمرة يقولون في بعض الأوامر ليس فرضا فإذا قيل لهم قد أمر الله تعالى بها قالوا الأوامر موقوفة ولا يحمل على الفرض إلا بدليل ومرة يوجبون الأوامر فرضا بلا دليل ولا قرينة إلا التحكم والتقليد فقط وبالله تعالى التوفيق قال علي وأما الموافقون لهم على الوقف من أصحاب الشافعي فإنهم يقولون إن لم نجد دليلا على أن الأمر على الندب أمضينا الأوامر على الوجوب قال علي وهذا ترك منهم لقولهم بالوقف لأنهم راجعون إلى إمضاء الأوامر على الوجوب بمجردها بلا قرينة إذا عدموا دليلا على الندب قال علي وهذا قولنا نفسه ولم نخالفهم في أن الأمر إذا جاء نص أو إجماع على أنه ندب فواجب أن يصار إلى أنه ندب وإنما خالفناهم في الوقف فقط قال علي ونسألهم ألهذا الوقف غاية فإن حدوا حدا كلفوا عليه

البرهان ولا سبيل إليه فإن لم يجدوا فيه حدا صار مدة العمر فبطل العمل بشيء من الأوامر وهذا يؤدي إلى إبطال الشريعة وقد احتج بعض من يقول بقولنا ممن سلف فقال لو كان الأمر لا يعلم بلفظه أنه على الوجوب لكان لا يخلو من أن يعلم المراد فيه إما بأمر آخر أو بشيء يستخرج من الأمر وكلا الأمرين فلا بد من الرجوع فيه إلى أمر فالكلام في الأمر الثاني كالكلام في الأمر الأول وهذا لا إلى غاية فعلى هذا لا يثبت وجوب أمر أبدا وقالوا أيضا محتجين عن أهل الوقف المعصية في اللغة هي مخالفة الأمر والطاعة هو تنفيذ الأمر وقال الله تعالى {ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} وقال تعالى {ومآ أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن لله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فستغفروا لله وستغفر لهم لرسول لوجدوا لله توابا رحيما} فثبت الوجوب في الأوامر ضرورة بحكم الله تعالى فالنار على من تركها قال علي ويقال لمن قال بالوقف ماذا تصنع إن وجدت أوامر واردة من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم خالية من قرينة بالجملة ولا دليل هناك يدل على أنها فرض ولا على أنها ندب فلا بد من أحد ثلاثة أوجه إما أن يقف أبدا وفي هذا ترك استعمال أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا هو نفسه ترك الديانة أو يحمل ذلك على الندب فيجمع وجهين أحدهما القول بلا دليل والثاني استجازة مخالفة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بلا برهان أو يحمل ذلك على الفرض وهذا قولنا وفي ذلك ترك لمذهبه وأخذ بالأوامر فرضا بنفس لفظها دون قرينة وبالله تعالى التوفيق قال علي فإن تعلقوا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بني قريظة لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فصلى قوم العصر

قبلها وقالوا لم يرد هنا هنا وصلاها آخرون بعد العتمة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدة من الطائفتين قال علي هذا حجة لهم فيه أيضا ولو شغب بهذا الحديث من يرى الحق في القولين المختلفين لكان أدخل في الشغب مع أنه لا حجة لهم فيه أيضا فأما احتجاج من حمل الأوامر على غير الوجوب فلا حجة لهم فيه لأنه قد كان تقدم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في وقت العصر أنه مذ يزيد ظل الشيء على مثله إلى أن تصفر الشمس وأن مؤخرها إلى الصفرة بغير عذر يفعل فعل المنافقين فاقترن على الصحابة في ذلك اليوم أمران واردان واجب أن يغلب أحدهما على الآخر ضرورة فأخذت إحدى الطائفتين بالأمر المتقدم وأخذت الطائفة الأخرى بالأمر المتأخر إلا أن كل واحدة من الطائفتين حملت الأمر الذي أخذت به على الفرض والوجوب وغلبته على الأمر الثاني وقد ذكرنا هذا النوع من الأحاديث فيما خلا وبينا كيفية العمل في ذلك ولو أننا حاضرون يوم بني قريظة لما صلينا العصر إلا فيها ولو بعد نصف الليل على ما قد بينا في رتبة العمل في جميع الأحاديث التي ظاهرها الاختلاف وهي في الحقيقة متفقة من الأخذ بالزائد ومن استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني وقد جمع هذان الحديثان كلا الوجهين معا فأمره عليه السلام في ذلك اليوم بألا يصلى صلاة العصر إلا في بني قريظة أمر خاص في صلاة واحدة من يوم واحد في الدهر فقط فكان ذلك مستثنى من عموم أمره بأن يصلى كل عصر من كل يوم في الأبد يخرج وقت الظهر إلى أن تصفر الشمس وأما ما لم تغب للمضطر حاشى يوم عرفة وأيضا فإن أمره عليه السلام بألا يصلى العصر من ذلك اليوم إلا في

بني قريظة شريعة زائدة وأمر وارد بخلاف الحكم السالف وبخلاف معهود الأصل في حكم صلاة العصر قبل ذلك اليوم وبعده فواجب طاعة ذلك الأمر الحادث والشرع الطارىء لما قدمنا من البراهين على وجوب القبول لكل ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى وكان أمره بألا يصلى العصر في ذلك اليوم إلا في بني قريظة كقوله ليلة يوم النحر في الحج وقد ذكر بصلاة المغرب فقال عليه السلام الصلاة أمامك فكان ذلك عند جميع المسلمين ناقلا لوقت المغرب في تلك الليلة خاصة في الحج خاصة في ذلك المكان خاصة عن وقتها المعهود إلى وقت آخر ولا فرق بين ورود ما أمر به في العصر يوم بني قريظة وفي المغرب ليلة المزدلفة وهذا بين لمن تأمله قال أبو محمد وأما إن احتج بهذا الحديث من يرى الحق في القولين المختلفين وقال ترك النبي صلى الله عليه وسلم أن يعنف كل واحدة من الطائفتين دليل على أن كل واحدة منهما مصيبة قيل له وبالله التوفيق لا دليل فيه على ما ذكرت ولكنه دليل واضح على أن إحدى الطائفتين مصيبة مأجورة أجرين والأخرى مجتهدة مأجورة أجرا واحدا معذورة في خطئها بالاجتهاد لأنها لم تتعمد المعصية وقد قال عز وجل {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} وقال عليه السلام لكل امرىء ما نوى وكلا الطائفتين نوت الخير وقد نص عليه السلام على أن الحاكم إذا اجتهد فأخطأ فله أجر وكل متكلم في مسألة شرعية ممن له أن يتكلم على الوجه الذي أمر به من الاستدلال الذي لا يشوبه تقليد ولا هوى فهو حاكم في تلك المسألة لأنه موجب فيها حكما وكل موجب حكما فهو حاكم وهو داخل في استجلاب الأمر بالحديث المذكور فإن قال قائل فلم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائفة المخطئة

عندكم بالإعادة إن كانت هي التي صلت العصر في وقتها المعهود قبل البلوغ إلى بني قريظة وإنما كان وقتها عندكم في ذلك اليوم بعد البلوغ إلى بني قريظة أي وقت بلغ البالغ إليهم أو لم يعنف الطائفة المؤخرة للعصر إلى بعد نصف الليل إن كانت هي المخطئة على تأخيرهم صلاة فرض عن وقتها قيل له وبالله تعالى التوفيق لسنا ندري في أي وقت بلغ خبر الطائفتين المذكورتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعل ذلك قد بلغه عليه السلام في اليوم التالي وبعد خروج وقت العصر جملة ولا إعادة على تارك صلاة بتأول ممن له أن يتأول على الوجه المحمود لا بتقليد ولا بهوى ولا إعادة على تارك صلاة عمدا بلا تأول ولا ضرورة حتى يخرج وقتها وأما المتأول فمعذور ولا يكلف إلا ما علم وأما العامد فذنبه أجل من أن نأمره نحن بكفارة أو بصلاة لم يأمره الله تعالى بها ولا يحل لنا ولا لغيرنا تعدي حدود الله عز وجل بأن نلزمه فرضا لم يأذن به الله تعالى ونسقط عنه بذلك فرضا قد أمره الله تعالى به ونعوذ بالله تعالى من ذلك وأمره إلى خالقه لا إلينا وسيرد على ذي مغفرة واسعة وذي عقاب أليم حيث لا يضيع له شيء ولا يجمع عنده شيء فعند الموازين يعرف كل امرىء ما له وما عليه نسأل الله عفوه وغفرانه في ذلك الموقف آمين قال علي وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سعيد بن المعلى إذ ناداه فلم يستجب له وكان في صلاة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم يقل الله تعالى {يأيها لذين آمنوا ستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن لله يحول بين لمرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} قال علي وفي هذا بيان جلي في حمل أوامر الله تعالى وأوامر نبيه صلى الله عليه وسلم على الوجوب وعلى الظاهر منها ومن تلك الأوامر أمره تعالى أن يطاع رسوله عليه السلام وفي قوله عليه السلام المذكور لأبي سعيد بيان جلي في صحة ما أثبتناه قبل من استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني

واستعمال جميع الأوامر لأنه تعالى قال {يأيها لذين آمنوا ستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن لله يحول بين لمرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} وقال تعالى {لذي جعل لكم لأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون} خص عليه السلام دون سائر الناس أن يكلمه المصلون إذا كلمهم ولا يكون ذلك قاطعا لصلاتهم وبهاتين الآيتين والحديث المذكور بطل قول من قال بأن المصلين يكلمون الإمام إذا وهل في صلاته ورام أن يحتج في ذلك بحديث ذي اليدين فبالنصوص التي ذكرنا أيقنا أن ذلك خاص للنبي صلى الله عليه وسلم دون من سواه وسبحان من يسر لإخواننا المالكيين أن يجعلوا الخصوص في هذا المكان عموما وأن يجعلوا العموم الذي نص عليه السلام على أنه عموم وغضب على من أراد أن يجعله خصوصا من القبلة في صيام رمضان فجعلوه خصوصا كل ذلك بلا دليل وحسبنا الله ونعم الوكيل قال أبو محمد وأما من استجاز أن يكون ورود الوعيد على معنى التهديد لا على معنى الحقيقة فقد اضمحلت الشريعة بين يديه ولعل وعيد الكفار أيضا كذلك ومن بلغ هذا المبلغ فقد سقط الكلام معه لأنه يلزمه تجويز ترك الشريعة كلها إذ لعلها ندب ولعل كل وعيد ورد إنما هو تهديد وهذا مع فراقه المعقول خروج عن الإسلام لأنه تكذيب لله عز وجل وبالله تعالى التوفيق ومما يبين أن أوامر الله تعالى كلها على الفرض حتى يأتي نص أو إجماع أنه ليس فرضا قوله تعالى {قتل لإنسان مآ أكفره * من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره * ثم لسبيل يسره * ثم أماته فأقبره * ثم إذا شآء أنشره * كلا لما يقض مآ أمره} قال علي فعدد الله تعالى في كفر الإنسان أنه لم يقض ما أمره به وكل من حمل الأوامر على غير الفرض واستجاز تركها فلم يقض ما أمره وفيما

فصل في كيفية ورود الأمر

ذكرنا كفاية وبالله تعالى التوفيق وقد فرق صلى الله عليه وسلم بين أمر الفرض وأمر التخيير بفرق ولا مدخل للشغب فيه بعده وهو ما حدثناه عن عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري ثنا أبو عوانة عن شيبان عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة قال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ قال أتوضأ من لحوم الإبل قال نعم فتوضأ من لحوم الإبل قال علي فأورد عليه السلام الوضوء الذي ليس عليه واجبا بلفظ التخيير وأورد الآخر بلفظ الأمر فقط ولو كان معناهما واحدا لما كان عليه السلام مبينا للسائل ما سأل عنه وهذا ما لا يظنه مسلم والله الهادي إلى سواء السبيل وحسبنا الله ونعم الوكيل فصل في كيفية ورود الأمر قال علي الأوامر الواجبة ترد على وجهين أحدهما بلفظ افعل أو افعلوا والثاني بلفظ الخبر إما بجملة فعل وما يقتضيه من فاعل أو مفعول وإما بجملة ابتداء وخبر فأما الذي يرد بلفظ افعل أو افعلوا فكثير واضح مثل {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين} {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} وما أشبه ذلك

وأما الذي يرد بلفظ الخبر وبجملة فعل وما يقتضيه فكقوله تعالى {قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} وكقوله تعالى {إن لله يأمركم أن تؤدوا لأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين لناس أن تحكموا بلعدل إن لله نعما يعظكم به إن لله كان سميعا بصيرا} وكقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لصيام كما كتب على لذين من قبلكم لعلكم تتقون} و {كتب عليكم لقتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} و {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} وأمرت أن أسجد على سبعة أعظم وما أشبه ذلك وكثير من الأوامر التي ذكرنا وردت كما ترى بمفعول لم يسم فاعله ولكن لما قال عز وجل وقوله الحق على نبيه صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} علمنا يقينا لا مجال للريب فيه أنه لا ينقل أمرا ولا نهيا إلا عن ربه تعالى فكان السكوت عن تسمية الآمر والناهي عز وجل وذكره سواء في صحة فهمنا أن المراد بأحكام الشريعة هو الله تعالى وحده لا من سواه وأما ما ورد من هذا بجملة لفظ ابتداء وخبر فكقوله تعالى {لا يؤاخذكم لله بللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم لأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحفظوا أيمانكم كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تشكرون} {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير} {ولمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق لله في أرحامهن إن كن يؤمن بلله وليوم لآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل لذي عليهن بلمعروف وللرجال عليهن درجة ولله عزيز حكيم} {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} ومثل هذا كثير قال علي فلا طريق لورود الأوامر والشرائع الواجبة إلا على هذين الوجهين فقط فأما عنصر الأمر والنهي فإنما هو ما ورد بلفظ افعل أو لا تفعل فهذه صيغة لا يشركه فيها الخبر المجرد الذي معناه معنى الخبر المحض ولا يشركه فيها التعجب ولا يشركه فيها القسم وإنما يشركه في هذه الصيغة الطلبية فقط فما كان منها إلى الله عز وجل فهو الدعاء فقط وما كان منها إلى

من دونه تعالى فهو الرغبة وقد يسمى الدعاء إلى الله عز وجل أيضا رغبة ولا يسمى الدعاء على الإطلاق إلا ما كان طلبة إلى الله عز وجل حتى إذا جاز أضيف أن ينسب إلى غير الله تعالى فنقول ادع فلانا بمعنى ناده قال علي وأما المقدمات المأخوذة لإنتاج النتائج في المناظرة فإنما الأصل فيها أن تصاغ بصيغة الخبر مثل قوله صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل خمر حرام النتيجة فكل مسكر حرام إلا أننا في مناظرتنا أهل ملتنا وأهل نحلتنا فيما تنازعنا فيه قد غنينا عن ذلك لاتفاقنا على أن لفظ افعل مقدمة مقبولة تقوم بها الحجة فيما بيننا قياما تاما قال علي ويميز ما جاء في الأوامر بلفظ الأخبار مما جاء بلفظ الخبر ومعناه الخبر المجرد بضرورة العقل فإن قول الله عز وجل {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب لله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} هو بمنزلة قوله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} في ظاهر ورود الأمر إلا أن أحد اللفظين خبر مجرد لفظه لفظ الخبر ومعناه معنى الخبر والآخر لفظه لفظ الخبر ومعناه معنى الأمر وإنما علمنا ذلك لأن الجزاء بجهنم لا يجوز أن نؤمن نحن به لأن ذلك ليس في وسعنا وقد أمننا الله من أن يأمرنا بما ليس في وسعنا قال الله عز وجل {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وأما التحرير للرقبة وتسليم الدية فبضرورة العقل علمنا أن ذلك من مقدوراتنا ومما لا يفعله الله عز وجل دون توسط فاعل منا فبهذا يتميز ما كان الخبر معناه الأمر وما كان منه مجردا للخبر في معناه ولفظه وقد اعترض قوم من الملحدين علينا في قوله {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} وأرادوا أن يحملوا ذلك على أنه خبر في معناه ولفظه

قال علي وهذا خطأ بنص القرآن وبضرورة المشاهدة أما نص القرآن فقوله تعالى {وقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولفتنة أشد من لقتل ولا تقاتلوهم عند لمسجد لحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فقتلوهم كذلك جزآء لكافرين} فارتفع ظن من ظن أن قول الله عز وجل {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} خبر وكيف يكون ذلك وقد أمر تعالى بقتل من قاتلنا فيه وعنده وأما ضرورة المشاهدة فما قد تيقناه مما وقع فيه من القتل مرة بعد مرة على يدي الحصين بن نمير والحجاج بن يوسف وابن الأفطس العلوي وإخوانهم القرامطة والله تعالى لا يقول إلا حقا فصح أن معنى قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} إنما هو أمر بالبرهانين الضروريين اللذين قدمناهما وكذلك نقول إنه لا يحل أن يقام في شيء من الحرم حد على أحد بوجه من الوجوه ولا بسجن ولا تعزير ولا قطع ولا جلد ولا قصاص ولا رجم ولا قتل لا في ردة ولا في زنى ولا في غير ذلك حاشا من قاتلنا فيه فقط على نص القرآن وبهذا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما من أجاز أن يخالف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ويقتدي بعمرو بن سعيد ويزيد والحجاج والحصين بن نمير فيقيم فيه الحدود ويقتل فيه من استحق القتل عنده في غيره فليفكر فيما يلزمه من تكذيب ربه وله ما اختار من اتباع من اتبع وخلاف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ليتخلص من السؤال الذي ذكرناه آنفا ولو قدر على ذلك لما قدر على التخلص من عصيان نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله إنها إنما أحلت لي ساعة من نهار ولم تحل لكم ثم عادت كحرمتها بالأمس إلى يوم القيامة لا يسفك فيها دم وبين عليه السلام بنص كلامه أنه ليس لأحد أن يترخص في ذلك لأجل قتاله عليه السلام ونص على أن ذلك خاص له قال علي وهذا خبر على التأبيد وأمر على التأكيد لا يجوز أن يدخل

فيه نسخ أبدا لنصه عليه السلام على أن ذلك باق إلى يوم القيامة فمن أجاز ورود نسخ لهذا فقد أجاز الكذب من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أجاز ذلك فهو كافر مشرك حلال الدم والمال وسبحان من يسر لهؤلاء القوم عكس الحقائق فيجعلون ما قد جاء النص فيه بأنه خاص عاما وما جاء فيه النص بأنه عام خاصا وبالله تعالى نتأيد وإنما سفك عليه السلام فيها الدماء المباحة ونهى عن الاقتداء به ذلك جملة وقولنا في هذا هو قول عبد الله بن عمر وعطاء وغيرهما وكان عبد الله بن عمر يقول لو لقيت فيها قاتل عمر ما ندهته قال علي فما ورد من الأوامر والنواهي على الصفتين المذكورتين فهو فرض أبدا ما لم يرد نص أو إجماع على أنه منسوخ أو أنه مخصوص أو أنه ندب أو أنه بعض الوجوه الخارجة عن الإلزام على ما سنفرد لها فصلا في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال علي وأما صورة الندب فهو أن يرد اللفظ أو بمدح الفاعل أو للفعل مثل قوله عليه السلام إذ قال يهلك الناس هذا الحي من قريش ثم قال عليه السلام لو أن الناس اعتزلوهم فكان هذا ندبا إلى ترك القتال مع التأولين منهم ومثل قوله عليه السلام لو اغتسلتم وإنما أوجبنا غسل الجمعة بحديث آخر فيه لفظ الايجاب وأما المدح فمثل قوله تعالى {لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على لتقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا ولله يحب لمطهرين} فكان ذلك حضا على مثل فعلهم وهو الاستنجاء بالماء ومثل إخباره صلى الله عليه وسلم أن لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة وما أشبه ذلك فما جاء باللفظ الذي ذكرنا فهو ندب لا إيجاب يعلم ذلك بصيغة اللغة ومراتبها علم بضرورة لا يفهم سواه قال علي وأما أمر الإباحة فإنه يراد بلفظ أو مثل قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب}

ومثل قوله عليه السلام وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا وأن العجب ليكثر ممن حمل ما روى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر به الواطىء في رمضان من صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينا أو تحرير رقبة على التخيير وقد روى حديث صحيح بالترتيب في ذلك ثم رأى من رأيه أن يحمل قوله عليه السلام في الوقوف بعرفة ليلا أو نهارا على إيجاب الوقوف ليلا ولا بد ويكفي هذا القول وصفه وقد يرد أيضا لفظ الإباحة بلا حرج وبلا جناح مثل قوله تعالى {ليس على لأعمى حرج ولا على لأعرج حرج ولا على لمريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبآئكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند لله مباركة طيبة كذلك يبين لله لكم لآيات لعلكم تعقلون} وقوله عليه السلام وقد سئل عن تقديم الرمي على الحلق وعلى النحر وتقديم الحلق على النحر وعلى الرمي لا حرج لا حرج قال علي وبهذا النص صح لنا أن قوله عز وجل {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} أنه ليس المراد به النحر ولكن بلوغ وقت الإحلال بالنحر مع موافقة قولنا لظاهر الآية دون تكلف تأويل بلا دليل ومثل قوله تعالى {وذكروا لله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن تقى وتقوا لله وعلموآ أنكم إليه تحشرون} ومثل قوله تعالى {إن لصفا ولمروة من شعآئر لله فمن حج لبيت أو عتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن لله شاكر عليم} ومثل قوله {وإن مرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهمآ أن يصلحا بينهما صلحا ولصلح خير وأحضرت لأنفس لشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن لله كان بما تعملون خبيرا} وقوله تعالى {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذآ أفضتم من عرفات فذكروا لله عند لمشعر لحرام وذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن لضآلين} وقوله تعالى {ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير} يريد تعالى قبل تمام الحولين بنص الآية وقوله تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} وقوله تعالى {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ إن ظنآ أن يقيما حدود لله وتلك حدود لله يبينها لقوم يعلمون} وقوله تعالى {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة لنسآء أو أكننتم في أنفسكم علم لله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة لنكاح حتى يبلغ لكتاب أجله وعلموا أن لله يعلم ما في أنفسكم فحذروه وعلموا أن لله غفور حليم} وقوله تعالى {لا جناح عليكم إن طلقتم لنسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على لموسع قدره وعلى لمقتر قدره متاعا بلمعروف حقا على لمحسنين} وقوله تعالى {ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير} وقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} وقوله تعالى {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح

عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} أو قوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم لصلاة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود لذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن لله أعد للكافرين عذابا مهينا} قال علي وهذا هو المعهود في اللغة ومن أراد أن يجعل قوله تعالى {إن لصفا ولمروة من شعآئر لله فمن حج لبيت أو عتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن لله شاكر عليم} حجة في إيجاب الطواف بين الصفا والمروة فرضا على الحاج وعلى المعتمر فقد أغفل جدا لأنه يلزمه مع مخالفة مفهوم اللغة أن يقول في الآيات التي تلونا آنفا إن كل ما ذكر فيها فرض فإن افتداء المرأة من زوجها فرض وإن مراجعة المطلق ثلاثا للمطلقة بعد طلاق الزوج الثاني لها فرض وإن قصر الصلاة فرض وإن طلاق المرأة قبل أن تمس فرض وإن تصالحهما على فطام الولد قبل الحولين فرض وكذلك سائر ما في تلك الآية قال علي وإنما واجبنا السعي بينهما فرضا لحديث أبي موسى الأشعري إذ أمره عليه السلام بالطواف بينهما ولولا ذلك الحديث ما كان السعي بينهما فرضا لا في عمرة ولا في حج وبالله تعالى التوفيق وإنما قلنا أيضا بوجوب القصر فرضا لقوله عليه السلام فاقبلوا صدقته وبأحاديث أخر صح بها وجوب قصرها وكل لفظ ورد بعليكم فهو فرض وكل أمر ورد بلكم أو بأنه صدقة فهو ندب لأن علينا إيجاب ولنا صدقة إنما معناها الهبة وليس قبول الهبة فرضا إلا أن يؤمر بقبولها فيكون حينئذ فرضا ومما تحل به الأوامر على الندب أن يرد استثناء يعقبه في تخيير المأمور مثل قوله تعالى في الديات {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب لله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} وفي وجوب الصداق {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا لذي بيده عقدة لنكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا لفضل بينكم إن لله بما تعملون بصير} وفي قضاء الدين {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} وما أشبه ذلك وهذا معلوم كله بموضوع اللغة ومراتبها وبالله التوفيق

فصل في حمل الأوامر والأخبار على ظواهرها

فصل في حمل الأوامر والأخبار على ظواهرها قال علي ذهب قوم ممن بلح عندما أراد من نصر ما لم يأذن الله تعالى بنصره من التقليد الفاسد واتباع الهوى المضل إلى أن قالوا لا نحمل الألفاظ من الأوامر والأخبار على ظواهرها بل هي على الوقف وقال بعضهم وهو بكر البشري إنما ضلت الخوارج بحملها القرآن على ظاهره واحتج بعضهم أيضا بأن قال لما وجدنا من الألفاظ ألفاظا مصروفة عن ظاهرها ووجدنا قول القائل إنك سخي وإنك جميل قد تكون على الهزؤ والمراد إنك قبيح وإنك لئيم علمنا أن الألفاظ لا تنبىء عن المعاني بمجردها قال علي هذا كل ما موهوا به وهؤلاء هم السوفسطائيون حقا بلا مرية وقد علم كل ذي عقل أن اللغات إنما رتبها الله عز وجل ليقع بها البيان واللغات ليست شيئا غير الألفاظ المركبة على المعاني المبينة عن مسمياتها قال الله تعالى {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم} } واللسان هي اللغة بلا خلاف ههنا فإذا لم يكن الكلام مبينا عن معانيه فأي شيء يفهم هؤلاء المخذولون عن ربهم تعالى وعن نبيهم صلى الله عليه وسلم بل بأي شيء يفهم به بعضكم بعضا ويقال لهم إذا أمكن ما قلتم فبأي شيء نعرف مرادكم من كلامكم هذا ولعلكم تريدون به شيئا آخر غير ما ظهر منه ولعلكم تريدون إثبات ما أظهرتم إبطاله فبأي شيء أجابوا به فهو لازم لهم في عظيم ما أتوا به من السخف وهؤلاء قوم قد أبطلوا الحقائق جملة ومنعوا من الفهم بالبتة

فيكاد الكلام يكون معهم عناء لولا كثرة من اغتر بهم من الضعفاء وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أنذر باتخاذ الناس رؤساء جهالا فيضلون ويضلون وأما قول بكر إن الخوارج إنما ضلت باتباعها الظاهر فقد كذب وأفك وافترى وأثم ما ضلت إلا بمثل ما ضل هو به من تعلقهم بآيات ما وتركوا غيرها وتركوا بيان الذي أمره الله عز وجل أن يبين للناس ما نزل إليهم كما تركه بكر أيضا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أنهم جمعوا آي القرآن كلها وكلام النبي صلى الله عليه وسلم وجعلوه كله لازما وحكما واحدا ومتبعا كله لاهتدوا على أن الخوارج أعذر منه وأقل ضلالا لأنهم لم يلتزموا قبول خبر الواحد وأما هو فالتزم وجوبه ثم أقدم على استحلال عصيانه والقول الصحيح ههنا هو أن الروافض إنما ضلت بتركها الظاهر واتباعها ما اتبع بكر ونظراؤه من التقليد والقول بالهوى بغير علم ولا هدى من الله عز وجل ولا سلطان ولا برهان فقال الروافض {وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين} قالوا ليس هذا على ظاهره ولم يرد الله تعالى بقرة قط إنما هي عائشة رضي الله تعالى عنها ولعن من عقها وقالوا الجبت والطاغوت ليسا على ظاهرهما إنما هما أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما ولعن من سبهما وقالوا {يوم تمور لسمآء مورا * وتسير لجبال سيرا} ليس هذا على ظاهره إنما السماء محمد والجبال أصحابه وقالوا {وأوحى ربك إلى لنحل أن تخذي من لجبال بيوتا ومن لشجر ومما يعرشون} ليس هذا على ظاهره إنما النحل بنو هاشم والذي يخرج من بطونها هو العلم وسلك بكر ونظراؤه طريقهم فقالوا {وثيابك فطهر} ليس الثياب على ظاهر الكلام إنما هو القلب وقالوا البيعان بالخيار ما لم يفترقا ليس على ظاهره من تفرق الأبدان إنما معناه ما لم يتفقا على الثمن وقالوا {يستفتونك قل لله يفتيكم في لكلالة إن مرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا ثنتين فلهما لثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ لأنثيين يبين لله لكم أن تضلوا ولله بكل شيء عليم} ليس على ظاهره إنما هو ابن ذكر وأما الأنثى فلا وقالوا {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين

الوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين} ليس على ظاهره إنما أراد من غير قبيلتكم قال علي ويسأل هؤلاء القوم أركبت الألفاظ على معان عبر بها عنها دون غيرها أم لا فإن قالوا لا سقط الكلام معهم ولزمنا ألا نفهم عنهم شيئا إذ لا يدل كلامهم على معنى ولا تعبر ألفاظهم عن حقيقة وإن قالوا نعم تركوا مذهبهم الفاسد وكل ما أدخلنا على من قال بالوقف في الأوامر فهو داخل على هؤلاء ويدخل على هؤلاء زيادة إبطال جميع الكلام أوله عن آخره وكذلك يدخل عليهم أيضا ما يدخل على القائلين بالوقف في العموم وسنذكره في بابه إن شاء الله تعالى ولا قوة إلا بالله فإن قالوا بأي شيء تعرفون ما صرف من الكلام عن ظاهره قيل لهم وبالله تعالى التوفيق نعرف ذلك بظاهر آخر مخبر بذلك أو بإجماع متيقن منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنه مصروف عن ظاهره فقط وسنبين ذلك في آخر باب الكلام في العموم والخصوص إن شاء الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق وقد أكذب الله تعالى هذه الفرقة الضالة بقوله عز وجل ذاما لقوم يحرفون الكلم عن مواضعه {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم لطور خذوا مآ آتيناكم بقوة وسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم لعجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} لا بيان أجلى من هذه الآية في أنه لا يحل صرف كلمة عن موضعها في اللغة ولا تحريفها عن موضعها في اللسان وأن من فعل ذلك فاسق مذموم عاص بعد أن يسمع ما قاله تعالى قال عز وجل {كذلك نقص عليك من أنبآء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم لقيامة وزرا} فصح أن الوحي كله من يترك ظاهره فقد أعرض عنه وأقبل على تأويل ليس عليه دليل وقال تعالى {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام لله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} وكل من صرف لفظا عن مفهومه في اللغة فقد

حرفه وقد أنكر الله تعالى ذلك في كلام الناس بينهم فقال تعالى {فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على لذين يبدلونه إن لله سميع عليم} وليس التبديل شيئا غير صرف الكلام عن موضعه ورتبته إلى غيرها بلا دليل من نصر أو إجماع متيقن عنه صلى الله عليه وسلم وقال تعالى {ياأيها لذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا نظرنا وسمعوا وللكافرين عذاب أليم} فصح أن اتباع الظاهر فرض وأنه لا يحل تعديه أصلا وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل لله لكم ولا تعتدوا إن لله لا يحب لمعتدين} والاعتداء هو تجاوز الواجب ومن أزاح اللفظ عن موضوعه في اللغة التي بها خوطبنا بغير أمر من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فعداه إلى معنى آخر فقد اعتدى فليعلم أن الله لا يحبه وإذا لم يحبه فقد أبغضه نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} وقال تعالى {ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} وقد أخبر تعالى أنه {وعلم آدم لأسمآء كلها ثم عرضهم على لملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين} فنص نصا جليا لا يحتمل تأويلا على أنه علق كل مسمى اسما مخصوصا به وكذلك من حدود الله تعالى التي قد أخبر أنه من تعداها فهو ظالم وأنه يدخله نارا وأهل ذلك هم لإقدامهم على الباطل الذي لا يخفى على ذي لب وبالله تعالى نعوذ من الخذلان ونسأله التوفيق فكل شيء يبدله لا إله إلا هو فلا موفق إلا من هدى ولا ضال إلا من خذل ولله تعالى في كل ذلك الحجة البالغة علينا ولا حجة لنا عليه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال تعالى {تبع مآ أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن لمشركين} فأمره باتباع الوحي النازل وهو المسموع الظاهر فقط وقال تعالى {أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك لكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} أخبر تعالى أن الواجب علينا أن

نكتفي بما يتلى علينا وهذا منع صحيح لتعديه إلى طلب تأويل غير ظاهره المتلو علينا فقط وقال تعالى آمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} إلى منتهى قوله تعالى قال علي ولو لم يكن إلا هذه الآية لكفت لأنه عليه السلام قد تبرأ من الغيب وأنه إنما يتبع ما يوحى إليه فقط ومدعي التأويل وتارك الظاهر تارك للوحي مدع لعلم الغيب وكل شيء غاب عن المشاهد الذي هو الظاهر فهو غيب ما لم يقم عليه دليل من ضرورة عقل أو نص من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع راجع إلى النص المذكور وقال تعالى {أفغير لله أبتغي حكما وهو لذي أنزل إليكم لكتاب مفصلا ولذين آتيناهم لكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بلحق فلا تكونن من لممترين} فمن ابتغى حكما غير النصوص الواردة من الله تعالى في القرآن وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فقد ابتغى غير الله حكما وبين تعالى أن الحكم هو ما أنزل في الكتاب مفصلا وهذا هو الظاهر الذي لا يحل تعديه وقال تعالى {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} فنص تعالى على أن الباطل إنما يمتحى وأن الحق إنما يصح بكلماته تعالى فثبت يقينا أن الكلمات معبرات عما وضعت له في اللغة وأن ما عدا ذلك باطل فصح اتباع ظاهر اللفظ بضرورة البرهان وقال تعالى {وإن كادوا ليفتنونك عن لذي أوحينآ إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا} قال علي ومن ترك ظاهر اللفظ وطلب معاني لا يدل عليها لفظ الوحي فقد افترى على الله عز وجل بنص الآية المذكورة وقال تعالى {ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا

عليك لكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} وقال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فنص تعالى على البيان إنما هو القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فقد فصح بذلك اتباع ما أوجب القرآن وكلامه عليه السلام وبطلان كل تأويل دونهما وقال تعالى {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم} قال علي ففي هذه الآية كفاية لمن عقل أن لغة النبي صلى الله عليه وسلم التي خاطبنا بها لا يحل أن نتعدى بألفاظها عن موضوعاتها إلى ما سواه أصلا أخبرني يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري كتابا إلي حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا محمد بن جعفر قال أخبرنا هشام عن عروة عن أبيه قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول شيئا من القرآن إلا آيا بعدد أخبره بهن جبريل عليه السلام قال علي فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتأول شيئا من القرآن إلا بوحي فيخرجه عن ظاهرة التأويل فمن فعل خلاف ذلك فقد خالف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد نهى تعالى وحرم أن يقال عليه ما لم يعلمه القائل وإذا كنا لا نعلم إلا ما علمنا فترك الظاهر الذي علمناه وتعديه إلى تأويل لم يأت به ظاهر آخر حرام وفسق ومعصية لله تعالى وقد أنذر الله تعالى وأعذر فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها حدثنا حمام بن أحمد قال حدثنا محمد بن يحيى بن مفرج حدثنا ابن الأعرابي حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن جعفر بن برقان قال قال أبو هريرة يا ابن أخي إذا حدثت بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال وصدق أبو هريرة رضي الله عنه ونصح وبالله تعالى التوفيق

فصل في الأوامر أعلى الفور هي أم على التراخي

فصل في الأوامر أعلى الفور هي أم على التراخي قال القائلون إن الأوامر على التراخي وقال آخرون فرض الأوامر البدار إلا ما أباح التراخي فيها نص آخر أو إجماع قال علي وهذا هو الذي لا يجوز غيره لقول الله تعالى {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها لسماوات ولأرض أعدت للمتقين} وقال تعالى {ولكل وجهة هو موليها فستبقوا لخيرات أين ما تكونوا يأت بكم لله جميعا إن لله على كل شيء قدير} وقد قدمنا أن أوامر الله تعالى على الوجوب فإذا أمرنا تعالى بالاستباق إلى الخيرات والمسارعة إلى ما يوجب المغفرة فقد ثبت وجوب البدار إلى ما أمرنا به ساعة ورود الأمر دون تأخر ولا تردد وقد شغب بعض المخالفين فقال ليس في قوله تعالى {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها لسماوات ولأرض أعدت للمتقين} حجة في أن الأوامر واجب البدار إليها لأنه تعالى أمرنا بالمسارعة إلى المغفرة لا إلى الفعل قال علي وهذا مما يسر فيه هؤلاء القوم لعكس الحقائق وقد أيقنا بقوله تعالى {ومن جآء بلسيئة فكبت وجوههم في لنار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} أن أحدا لا يؤتى المغفرة إلا بعمل صالح يقتضي له وعد الله تعالى بالرحمة والمغفرة وعلمنا ذلك يقينا أن مراد الله تعالى بقوله {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها لسماوات ولأرض أعدت للمتقين} إنما هو سارعوا إلى الأعمال الموجبة للمغفرة من ربكم إذ لا سبيل إلى المسارعة إلى المغفرة إلا بذلك وهذا من الحذف الذي دلت عليه الحال وإنما قلنا هذا لوجهين أحدهما النص الجلي الوارد في أنه لا يجزي أحد بمغفرة ولا غيرها إلا بحسب عمله والثاني النص الوارد بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وليس في وسع أحد المسارعة إلى المغفرة المجردة دون توسط عمل صالح فهذان الظاهران نصا أن في تلك الآية حذفا دلت عليه الحال فما كان مرتبطا بوقت واحد

كصيام رمضان فقد جاء النص بإيجاب تأخيره إلى وقته فإذا خرج الوقت فقد ثبت العجز عن تأديته كما أمرنا إلا بأن يأتي في شيء من ذلك نص آخر فيوقف عنده وما كان مرتبطا بوقت فيه مهلة فقد جاء النص بإباحة تأخيره إلى آخر وقته وإيجاب تأخيره إلى أول وقته فإذا خرج الوقت فكل ما قلنا في الذي قبله ولا فرق وذلك كأوقات الصلاة وما لم يأت مرتبطا بوقت ففرضه البدار في أول أوقات الإمكان إلا أن الأمر به لا يسقط عن المأمور به لعصيانه في تأخيره وكذلك ما كان مرتبطا بوقت له أول محدود لم يحد آخره أو ما كان مرتبطا بوقت محدود متكرر فالنوع الأول كقضاء صيام المريض والمسافر لأيام رمضان فذلك لازم في أول أوقات القدرة عليه فإن بادر إليه فقد أدى ما عليه وإن أخره لغير عذر كان عاصيا بالتأخير وكان الأمر عليه ثابتا أبدا والنوع الثاني كوجوب الزكاة فإن لوقتها أولا وهو انقضاء الحول وليس قبل ذلك أصلا وليس لآخر وقتها آخر محدود بل هو باق أبدا إلى وقت العرض على الله عز وجل لأن النص لم يأت في ذلك بانتهاء والقول في المبادرة إلى أدائها وفي التأخير كما قلنا في النوع الذي قبله والنوع الثالث كالحج فإنه مرتبط بوقت من العام محدود وليس ذلك على الإنسان في عام بعينه بل هو ثابت على كل مستطيع إلى وقت العرض على الله عز وجل والقول في البدار إليه أو تأخيره كالقول في النوعين اللذين قبله فإن قال قائل فلم أجزتم صيام كفارة اليمين وقضاء رمضان غير متتابع وكذلك صيام متعة الحج وكذلك غسل الأعضاء في الوضوء والغسل من الجنابة والجمعة فأجزتم كل ذلك غير متتابع قيل له وبالله تعالى التوفيق إنا لم نفارق أصلنا الذي ذكرنا ولا خالفنا النص في شيء من ذلك لأن الله تعالى إنما أوجب في الكفارة ثلاثة أيام ومعنى

ثلاثة أيام يوم ويوم ويوم ولكل يوم حكمه فإذا صام يوما فقد صام بعض فرضه وأدى من ذلك فرضا قائما بنفسه والصيام شيء آخر غير المبادرة فإذا صام غير مبادر فقد أطاع في أداء الصوم وعصى في ترك البدار وهما فرضان متغايران لا يبطل أحدهما ببطلان الآخر وإنما ذلك كمن صلى ولم يزك فعليه معصية ترك الزكاة وله أجر الطاعة بالصلاة ولا تظلم نفس شيئا {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} وإنما كان يبطل أحدهما بترك الآخر ولو جاء النص يربط أحدهما بالآخر كربطه تعالى التتابع في صيام الظهار وفي صيام كفارة القتل فهذان إن لم يتابعا فلم يؤديا كما أمر الله تعالى ولم يشترط التتابع في قضاء رمضان ولا في الكفارات ولا في متعة الحج وأمر الله تعالى بالمسارعة إلى الطاعات هو أمر بأن يكون فعلنا على تلك الصفة من المسارعة فالمسارعة المأمور بها صفة لفعلنا فمن تركها عصى وكان مؤديا لما أداه غير مسارع ما لم يشترط الوقت والتتابع وأمره تعالى بالتتابع في صيام الظهار وكفارة القتل هو أمر بأن يكون ذلك الصيامان على هذه الصفة فالمتابعة المأمور بها هنالك صفة للشهرين فإذا لم يكونا متتابعين فليسا اللذين أمر الله تعالى بهما وكذلك نقول في غسل الأعضاء في الوضوء وغسل الجنابة أنه غير مأمور بذلك إلا إذا قام إلى الصلاة فقط فمتى أراد صلاة تطوع أو صلاة فرض فهو قائم إلى الصلاة ولم يخص تعالى بذلك القيام إلى الصلاة فرض دون القيام إلى صلاة تطوع فله حينئذ أن يغتسل ويتوضأ فإذا أتمها فله أن يؤخر التطوع ما شاء وله تأخير الفرض بمقدار ما يدركها مع الإمام أو كان ممن عليه فرض حضورها في الجماعة أو إلى آخر وقتها إن كان ممن لا يلزمه فرض حضورها في جماعة ثم لا يحل له تأخيرها أصلا أكثر وأما من لا يريد صلاة ولا يمكنه صلاة كالحائض إثر الجماع فقد صح عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه طاف على جميع نسائه واغتسل بين كل اثنتين منهن فصح بهذا النص أن الغسل جائز تعجيله وإن لم يرد الصلاة بعده وبالله تعالى نتأيد فلما أبيح لنا ذلك كان المفرق والمتابع يقع على فعلهما اسم وضوء وغسل على السواء وقوعا مستويا وكان في غسله عضوا من أعضائه بنية ما أبيح له من تعجله مؤديا لفرض غسل ذلك العضو ولكل عضو حكمه فمن فرق غسله أو وضوءه ما لم يقم إلى الصلاة فلم يترك مسارعة أمر بها حتى إذا أراد القيام إلى الصلاة إما مع الأمام وإما في آخر وقتها ففرض عليه المسارعة إلى إتمام وضوئه وغسله وكذلك قلنا في قضاء رمضان إنه إنما أمر تعالى بأيام أخر ولم يشترط فيها المتابعة فمن بادر إلى صيامها فقد أدى فرض الصوم وفرض البدار ومن لم يبادر وصام فقد أدى فرض الصوم وعصى في ترك فرض المسارعة وكذلك نقول فيمن لم يعجل تأدية زكاته في أول أوقات وجوبها وفيمن أخر الحج عن أول أوقات الإمكان أنه إن حج وزكى بعد ذلك فقد أدى فرض الزكاة والحج وعليه إثم المعصية بترك المسارعة لا يسقط ذلك الإثم عنه أداء ما أدى من ذلك إلا في الموازنة يوم القيامة يوم وجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا قال علي ومما يوجب أيضا فرض المبادرة إلى الطاعة قول الله تعالى {ولسابقون لسابقون * أولئك لمقربون} وقد قال عليه السلام لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله تعالى أو كلاما هذا معناه هذا وإن كان إنما أوجب أن يقول عليه السلام تأخر قوم عن الصف الأول لبعض الأمر المكروه فهو محمول على ظاهره ومقتضى لفظه على ما قد أثبتنا وجوبه في الفصل الذي قبل هذا

قال علي وقد سأل أبو بكر محمد بن داود رحمة الله عليه من أجاز تأخير الحج فقال متى صار المؤخر للحج إلى أن مات عاصيا أفي حياته فهذا غير قولكم أو بعد موته فالموت لا يثبت على أحد معصية لم تكن لازمة في حياته قال علي ونحن نزيد في هذا السؤال فنقول وبعد الموت لا يأثم أحد إلا من سن سنة سوء يقتدى به فيها فأجابه بعض المجيزين لذلك وهو أبو الحسن القطان الشافعي بأن قال إنما كان له في التأخير بشرط أن يفعل قبل أن يموت فلما مات قبل أن يفعل علمنا أنه لم يكن له مباحا التأخير قال علي ونحن نقول إن أبا الحسن لم يحقق الجواب الشافي وكان أدخل في الشغب لو قال إنه إثم في آخر عام قدر فيه على الحج ولم يحج كما قال الشافعي فيمن حلف بالطلاق إن لم يطلق امرأته إنها لا تطلق إلا آخر أوقات صحته التي كان فيها قادرا على الطلاق قال علي ونحن نجيب في هذين الجوابين معا ببيان لائح بحول الله وقوته فنقول قال الله تعالى {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وإنما يلزم الله تعالى الإثم من ترك ما لم يعلم أنه ليس له تركه أو قامت عليه بذلك حجة أو عمل ما يعلم أنه ليس له أن يعمله أو قامت عليه حجة بذلك ولم يطلع الله أحدا على وقت منيته ولا عرفه بآخر أوقات قدرته ولا قامت عليه حجة في ذلك الوقت إلا ما قد قام في سائر الأحوال قبل ذلك ولا حدث عليه من الأوامر إلا ما حدث قبل ذلك الوقت فإن كان عاصيا في ذلك الوقت فهو عاص قبل ذلك الوقت وإن لم يكن عاصيا قبل ذلك الوقت فليس عاصيا في ذلك الوقت إلا بنص يخص ذلك الوقت بوقوع المأثم فيه دون غيره ومن فرق بين الأوقات بلا نص ولا إجماع فقد قال بلا علم وذلك حرام وأيضا فإن الله تعالى لم يكلف أحدا أن يعلم هل يموت قبل أن يؤدي ما

عليه فيأثم أو يعلم أنه لا يموت حتى يؤدي فيسقط عنه المأثم وقول القطان يوجب أن الناس مكلفون ذلك ويوجب أيضا أن يكون المستطيعون للحج المؤخرون له بلا عذر مختلفي الأحكام فبعضهم آثم في تأخيره وهذا مع ما فيه من التحكم بلا دليل ومن تكليف المرء علم متى يموت فمخالف لجملة مذاهب أصحابه في الفسخ في تأخير الحج جملة وهو ممن لا يخالفها أصلا ولولا ذلك لشكرناه على خلافها ولم نلمه وبالله تعالى التوفيق فبقي سؤال أبي بكر رحمة الله عليه بحسبه قال أبو محمد ومما يبين أن الأوامر على الفور قوله تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فأوجب تعالى قبول النذارة وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} فأمر تعالى بالتوقف في قبول خبر الفاسق واستثناه من قبول النذارة وليس إلا توقف أو بدار ولا سبيل إلى قسم ثالث إلا الترك جملة والتوقف هو أيضا ترك فلما خص خبر الفاسق بالتوقف فيه وأبانه بذلك عن خبر غير الفاسق وجب البدار ضرورة إلى خبر العدل فوجب الفور بالبرهان الضروري وبطل الوقف إلا في خبر الفاسق قال علي ويكفي من ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف الرجل الصالح قال ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى البغدادي عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج ثنا عبد الله بن معاذ العنبري وقال ثنا أبي ثنا شعبة عن الحكم سمع علي بن الحسين عن ذكوان مولى عائشة أنها قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان فقلت

من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار قال أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ثم أحل كما حلوا قال علي فرفع هذا الحديث الشك جملة وبين عليه السلام أن أمره كله على الفرض وعلى الفور وإن التردد حرام لا يحل ونعوذ بالله العظيم من كل ما أغضب النبي صلى الله عليه وسلم فإن اعترضوا بمن بلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ قلنا هو بمنزلة من لم يبلغه الأمر في أنه لم يلزم حكما فلا يلام على تركه حتى يبلغه ولا يعذب على تركه حتى يعمله وبالله تعالى التوفيق بل حكمه الثبات على ما بلغه من المنسوخ لأنه مأمور به جملة حتى يبلغه الناسخ لقوله تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} فصح أن الذي بلغه من أمر الله تعالى في القرآن أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو اللازم لقوله عز وجل {وأطيعوا لله وأطيعوا لرسول وحذروا فإن توليتم فعلموا أنما على رسولنا لبلاغ لمبين} حتى يبلغه الأمر الناسخ فحينئذ يسقط عنه المنسوخ ويلزمه الناسخ وأما احتجاجهم بتأخيره عليه السلام الحج فقد حج عليه السلام قبل الهجرة ورآه جبير بن مطعم واقفا بعرفة فأنكر جبير ذلك لأنه كان عليه السلام من الخمسة الذين لا يقفون بعرفة ويكفي من هذا كله أنا على يقين من أن الله تعالى أمره بتأخير الحج حتى يعهد إلى المشركين ألا يقربوا المسجد الحرام وإنما قطعنا على ذلك لقول الله تعالى آمرا أن يقول {قل ما كنت بدعا من لرسل ومآ أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي ومآ أنا إلا نذير مبين} فصح يقينا أنه عليه السلام لا يفعل إلا ما يوحي إليه ربه عز وجل فلما أخر الحج علمنا أنه فعل ذلك عليه السلام

فصل في الأمر المؤقت بوقت محدود الطرفين في الأمر المؤقت بوقت محدود الطرفين متى يجب أفي أوله أم في آخره والأمر المرتبط به بصفة ما والأمر المؤقت بوقت محدود الأول غير محدود الآخر

بوحي وكان عليه السلام قد أعلمه ربه تعالى أنه لا يقبضه حتى يتم التعليم ويكمل التبليغ ويدخل الناس في دين الله أفواجا وهذا يقتضي أنه لا يموت حتى يعلم الناس مناسكهم وليس غيره عليه السلام كذلك وأيضا فلا ندري متى نزل فرض الحج عليه لعله إنما نزل عليه إذ حج عليه السلام حجة الوداع وهذا هو الأظهر لأنه لو نزل قبل ذلك لما آخر عليه السلام تعليم المناسك إلى حجة الوداع التي قال فيها خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أو كما قال عليه السلام ويبين ذلك الحديث الطويل عن جابر ففي أوله ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فلو فرض الحج قبل ذلك لما أخر الأذان في الناس بوجوبه عليهم والحديث المأثور من طريق ابن عباس وأبي هريرة إذ خطب الناس فقال إن الله فرض عليكم الحج فقال له قائل وقيل إنه الأقرع بن حابس أفي كل عام يا رسول الله وهذا والله أعلم إنما كان في حجة الوداع وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها بما يدل على ذلك من خروجهم إلى الحج في ذلك العام ينتظرون أمره عليه السلام والوحي ينزل عليه والأحكام التي نزلت في تلك الحجة من نسخ الحج لمن لم يسق الهدي وأن يحل بمتعة ومن إيجاب القران على من ساق الهدي وسائر ما نزل في تلك الحجة من بيان شرائع الحج مما لم يكن نزل قبل ذلك وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على محمد نبي الرحمة وهادي الأمة وسلم فصل في الأمر المؤقت بوقت محدود الطرفين في الأمر المؤقت بوقت محدود الطرفين متى يجب أفي أوله أم في آخره والأمر المرتبط به بصفة ما والأمر المؤقت بوقت محدود الأول غير محدود الآخر وفيه زيادات تتعلق بالفصل الذي أتممناه قبل هذا قال علي أما الأمر المرتبط بوقت لا فسحة فيه فغير جائز تعجيل أدائه

قبل وقته ولا تأخيره عن وقته وذلكم ما ذكرنا قبل هذا من صيام شهر رمضان فإن جاء نص بالتعويض منه وأدائه في وقت آخر وقف عنده وكان ذلك عملا آخر مأمورا به وإن لم يأت بذلك نص ولا إجماع فلا يجوز أن يؤدى بشيء منه في غير وقته وكذلك كل عمل مرتبط بوقت محدود الطرفين كأوقات الصلوات وما جرى هذا المجرى فلا يجوز أداء شيء من ذلك قبل دخول وقته ولا بعد خروج وقته ومن شبه ذلك بديون الآدميين لزمه أن يجيز صيام رمضان في شعبان قياسا على تعجيل ديون الناس قبل حلول أوقاتها ولزمه أن يجيز تقديم الصلوات قبل وقتها قياسا على ذلك وعلى ما أجازوا من تعجيل الزكاة قبل حلول وقتها فبعضهم قال بثلاثة أعوام وبعضهم قال بعام فأقل وبعضهم قال الشهر والشهرين ونحو ذلك وبعضهم فرق متحكما فأجاز تعجيل الزكاة التي في الأموال قبل الحول بشهر أو شهرين ومنع من شهرين ونصف وأجاز في تعجيل زكاة الفطر اليوم واليومين ومنع من ثلاثة أيام وهذا قول يكفي من بطلانه سماعه لأنه حكم بلا إذن من الله عز وجل وفرق بلا دليل قال علي ولا فرق بين ما أجاز أداء الأمر بعد انقضاء وقته وبين من أجازه قبل دخول وقته هذا على أن بعضهم قد أجاز للمريض الذي يخاف تغير عقله تعجيل الصلاة قبل وقتها فإذا ادعوا أن الإجماع منعهم من ذلك أكذبهم قول ابن عباس فإنه يجيز أداء الصلاة قبل دخول وقتها وصلاة الظهر قبل زوال الشمس ولا فرق في ديون الناس بين أدائها بعد وقتها وحلول أجلها وبين أدائها قبل وقتها وحلول أجلها فليقولوا كذلك في جميع شرائع الله تعالى قال علي وبطلان هذا القياس سهل فلو كان القياس حقا لكان في هذا

المكان باطلا بحتا بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق إن ديون الناس التي إلى أجل لا يجوز لأحد أداؤها قبل حلول أوقاتها ولا تأخيرها عن حلول أوقاتها إلا بإذن الذين لهم الديون ورضاهم ولا خلاف في ذلك جملة ولكن تناقض من تناقض في بعض ذلك ولا خلاف في أن من كان له على أحد ثلاثة ديون من ثلاث معاملات وكلها إلى آجال محددة فأذن الذي له الدين في تعجيل أحد تلك الديون بعينه قبل الأجل ورضي بذلك الغريم ثم أذن في تأخير آخر من تلك الديون بعينه بعد حلول أجله فليس ذلك بموجب جواز تعجيل الدين الذي لم يأذن بتعجيله ولا بمجيز تأخيره عن أجله هذا ما لا خلاف بين اثنين فيه فإذا لم يكن إذن الناس فيما أذنوا فيه من تعجيل ديونهم أو تأجيلها موجبا أن يقاس ما سكتوا عنه من سائر ديونهم على ما أذنوا فيه من تعجيل ديونهم فذلك أبعد من أن تقاس ديون الله تعالى التي لم يأذن في تأجيلها ولا في تعجيلها على ما أذن الناس فيه من تعجيل ديونهم وتأجيلها قال علي وهذا ما لا خفاء به على من له مسكة عقل وأيضا فلا خلاف بين اثنين في أن من له دين فأسقطه البتة ورضي الغريم بذلك فإن ذلك الدين ساقط فيلزمهم إذا أجازوا تأخير ديون الله تعالى عن أوقاتها وتعجيل بعضها عن أوقاتها وإن لم يأذن الله تعالى في ذلك قياسا على جواز تأخير ديون الناس وجواز تعجيلها إذا أذنوا في ذلك بأن يجيزوا سقوط ديون الله تعالى بالبتة وإن لم يأذن الله تعالى في ذلك قياسا على سقوط ديون الناس بالبتة إذا أذنوا في ذلك وهذا أصح قياس وأشبه بقياسهم الذين حكوا لو كان القياس حقا والقياس بحمد الله تعالى باطل محض قال علي وأيضا فإن الزكوات والكفارات بالصدقات وإن كان الله تعالى قد جعلها للمساكين فليست من حكم ديون الناس في ورد ولا صدر

لأن ديون الناس التي راموا تشبيه الزكوات بها هي لأقوام بأعيانهم فحكمهم جائز فيها لأنها مال متعين لهم وموروث عنهم وأما الزكوات والكفارات فليست لقوم من المساكين بأعيانهم ولا هؤلاء المساكين بأولى بها من غيرهم من المساكين فما كان هكذا فلا إذن لمن حضر من المساكين فيها لا بتعجيل ولا بتأجيل ولا يستحقونها إلا بقبضها في أوقاتها لا قبل ذلك ولا بعده وبيان ذلك أنها لا تورث عنهم قبل قبضهم لها ولا يجوز حكمهم فيها ولا تصرفهم ولا إبراؤهم قبل قبضها وكل هذا لا خلاف فيه وإنما شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ديون الناس بديون الله تعالى في شيئين لا ثالث لهما أحدها بقاء حكمها بعد الموت وبعد العجز والثاني أداء الولي لها عن الميت فعصوا الله تعالى أو من عصاه منهم ورسوله صلى الله عليه وسلم في الوجهين اللذين شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ديون الناس بديون الله تعالى وتركوهما معا فقالوا من مات وعليه حج أو زكاة أو صيام أو كفارات فقد سقط وجوبها فيما ترك ولا يقضى عنه إلا أن يأمر بذلك فيقضى عنه الزكاة والحج خاصة من الثلث ويطعم عنه إن أوصى بذلك في الصيام فقط ثم شبهوا ديون الله بديون الناس فيما لا شبه فيه بينهما وفيما لم يأذن به الله عز وجل ومن شغب منهم بالحديث الذي روي من جمع زكاة الفطر في المسجد ومبيت أبي هريرة عليها فلا حجة لهم فيه لأنه لا يخلو ذلك الجمع المذكور من أحد وجهين لا ثالث لهما أحدهما أن تكون جمعت ولم تفرق حتى يأتي يوم الفطر الذي هو وقت أدائها وليس هذا مخالفا لقولنا ولو جاء وقت أدائها لما حل لمسلم أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه أخر إعطاءها وهو عليه السلام إذ بقي عنده دينار لم يستحقه عليه أحد لم يأو إلى نسائه ولا فارق المسجد ليلا ولا نهارا قلقا آسفا حتى يعطيه

فكيف يمنع أحدا حقا وقد وجب أداؤه ومن ظن هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد هذي أو تكون أخرجت في وقتها ولا يحضر من يستحقها فانتظر النبي صلى الله عليه وسلم حضورهم كما كان يفعل بما اجتمع عنده عليه السلام من غنم الصدقة ونعمها ولا يحل لمؤمن أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم غير أحد هذين الوجهين وبالله تعالى التوفيق وليس في المذكور أنها أعطيت المساكين قبل يوم الفطر فبطل تشغيبهم به وبالله تعالى التوفيق قال علي فإذا كان حكم الأموال والعبادات ما ذكرنا فلا خلاف في أن الوقت إنما معناه زمان العمل وأنه لا يفهم من قول الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم اعملوا عمل كذا في وقت كذا وصلوا صلاة كذا من حين كذا إلى حين كذا إلا أن هذا الزمان المحدود هو الذي أمرنا فيه بالعمل المذكور فنقول حينئذ للمخالف ما معنى خروج الوقت فلا بد ضرورة من أنه انقضاء زمان العمل فإذا ذهب زمان العمل فلا سبيل إلى العمل إذ لا يتشكل في العقول كون شيء في غير زمانه الذي جعله الله تعالى زمانا له ولم يجعل له زمانا غيره وهذا من أمحل المحال وأشد الامتناع الذي لا يدخل في الإمكان البتة فإن قال قائل كل وقت فهو لذلك العمل وقت أبطل حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في حدهما الوقت وتعدى حدودهما واستحق النار وقد قال تعالى {ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} وتعدي الحدود على الحقوق هو أن يحد الله تعالى وقتا فيتعداه مخلوق من الناس دون نص ورد إلى وقت آخر وهذا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق

وأيضا فإنهم لا يقدمون على إطلاق تمادي الوقت بعد خروج الوقت المنصوص ويقال لهم أيضا أخبرونا عن هذا الذي تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها فأمرتموه بإعادتها أفي الوقت الذي رتبه الله تعالى أمرتموه بها أم في وقت لم يرتبه الله تعالى لها وقرنها به فإن قالوا في وقتها الذي رتبه الله تعالى لها كفروا وكذبوا مجاهرة وإن قالوا بل في وقتها أقروا بأنهم أمروا أن تؤدى الصلاة بخلاف ما أمر الله تعالى ومن فعل شيئا بخلاف ما أمر الله تعالى به فلم يفعل الذي أمر بل فعل ما لم يؤمر به فهو عاص في ذلك الفعل مرة ثانية وإنما يأمرونه بمعصية وبأمر غير مقبول لقوله عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فصح لما ذكرنا صحة جلية أن من أمره الله تعالى بأداء عمل ما في وقت ما فعمله في غير ذلك الوقت فإنما عمل عملا لم يؤمر به ومن أمر بعمله فقد شرع شريعة لم يأذن بها الله تعالى بل قد نهى عنها إذ نهى عن تعدي حدوده ولا يشك ذو حس أن صوم غد هو غير صوم اليوم فمن أمره الله بصيام اليوم فأفطر عامدا للمعصية ثم صام غدا فإنما صام يوما لم يأمره الله تعالى بصيامه فلا يكون ذلك قاضيا ما أمر به ولا يؤدي أحد ما أمر به إلا كما أمر به لا كما نهى ولا فرق بين هذا وبين ما أمره الله تعالى بحركة إلى مكان ما كالحج إلى مكة في ذي الحجة فحج هو إلى المدينة في ذي القعدة فأي فرق بين هذا وبين من أمر بصيام في رمضان فصام هو في شوال أو بصلاة ما بين زوال الشمس إلى زيادة الظل على مثل من يوم بعينه فصلاها هو في وقت آخر من يوم آخر وأي فرق بين هذا وبين من أمر أن يفعل فعلا في عين ما كنفقة على زوجة له مباح له وطؤها ففعل هو ذلك الفعل في غير تلك المرأة فهل هذا كله إلا غير الذي أمر به وكل ذلك باب واحد وطريق واحدة يجمعه

كلها جمعا مستويا قوله تعالى {ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} وقوله عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وأي فرق بين تعلق الأمر بالأزمان وبين تعلقه بالأعيان أو بمكان دون مكان فإن قالوا إنا قد وجدنا أوامر معلقة بزمان ينوب عنها تأدية ذلك العمل في زمان آخر قيل له وبالله التوفيق إذا جاء بذلك نص أو إجماع فقد علمنا أن الله عز وجل مد ذلك الوقت وعلق ذلك الأمر بذلك الزمان الثاني وجعله وقتا له ونحن لا ننكر هذا بل نقر به إذا أمرنا به لا إذا نهينا عنه وقد جاء مثل ذلك في الأمكنة كمن نذر صلاة في بيت المقدس فإنه إن صلى بمكة أجزأه للنص في ذلك ولا يجزي ذلك فيما لم يرد فيه نص وكذلك من مات وعليه صيام لزم وليه أن يصوم عنه للأمر الوارد في ذلك وكذلك من لم يحج أحج عنه من رأس ماله للنصوص الواردة في كل ذلك فإن قالوا لنا ما تقولون في الصلاة المنسية أو التي ينام عنها أكل وقت لها وقت قيل له وبالله تعالى التوفيق نعم كل وقت لها ومتى ما صلاها فهو وقتها بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك السكران لقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا} فإن قالوا فبأي شيء تأمرون من تعمد ترك صلاة حتى خرج وقتها وتعمد ترك صوم رمضان في غير عذر من سفر أو مرض أو غير ذلك مما جاء فيه نص أو إجماع قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق نأمرهم بما أمرهم به ربهم عز وجل إذ يقول {وأقم لصلاة طرفي لنهار وزلفا من لليل إن لحسنات يذهبن لسيئات ذلك ذكرى للذاكرين} وبما يقول لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم إذ يقول إن من فرط في صلاة فرض جبرت يوم القيامة من تطوعه وكذلك الزكاة وكذلك سائر الأعمال فأمره بالتوبة والندم والاستغفار والإكثار من التطوع ليثقل ميزانه يوم القيامة ويسد ما ثلم منه وأما أن نأمره بأن يصلي صلاة ينوي بها ظهرا لم يأمره الله عز وجل به أو عصرا

لم يأت به نص أو نأمره بصيام يوم على أنه من رمضان وهو من غير رمضان فمعاذ الله من ذلك فإذن كنا نكون متعدين بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وآمرين له بأن يعمل غير ما أمره الله تعالى به بل ما قد نهاه عنه ثم نسألهم فنقول هذا الذي تعمد ترك صلاة أو صوم ثم أمرتموه بقضائه أقضى ما أمره الله تعالى من ذلك كما أمر أم لا فإن قالوا نعم كذبوا وهم لا يقولون ذلك وإن قالوا لا أقروا بأنهم أمروه أن يؤدي العمل على غير ما أمره الله تعالى به فإن سألونا بمثل ذلك في ناسي الصلاة والنائم عنها والمفطر لسفر أو مرض قلنا لهم قد أدى ما أمره الله تعالى به كما أمره وفي الوقت الذي أمره الله تعالى به ولا ندري أقبل منه أم لا وكذلك كل عمل يعمله في وقته ولا فرق ولو صح الحديث في إيجاب القضاء على عامد الإفطار لقلنا به ولكنه لم يصح إنما رواه عبد الجابر بن عمر ومن هو مثله في الضعف فإن قالوا أنتم تأمرون الولي بأن يصوم عنه إن مات ولا توجبون عليه أن يصوم عن نفسه قال علي فنقول كذبتم إنما قلنا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات وعليه صيام صام عنه وليه ومعنى عليه صيام عليه أن يصوم لأن الصيام مصدر تقول صام يصوم صياما وصوما فإنما هذا فيمن مات وعليه أن يصوم وإنما ذلك النادر والذي فرط في قضاء رمضان أفطره السفر أو مرض فأما العامد للفطر بغير عذر فليس عليه صيام وإنما عليه إثم ترك الصيام وفي هذا كفاية لمن عقل وبالله تعالى التوفيق قال علي وكل أمر علق بوصف ما لا يتم ذلك للعمل المأمور به إلا بما علق به فلم يأت به المأمور كما أمر فلم يفعل ما أمر به فهو باق عليه كما كان

وهو عاص بما فعل والمعصية لا تنوب عن الطاعة ولا يشكل ذلك في عقل ذي عقل فمن ذلك من صلى بثوب نجس أو مغصوب وهو يعلم ذلك ويعلم أنه لا يجوز له ذلك الفعل أو صلى في مكان نهي عن الإقامة فيه كمكان نجس أو مكان مغصوب أو في عطن الإبل أو إلى قبر أو من ذبح بسكين مغصوبة أو حيوان غيره بغير إذن صاحبه أو توضأ بماء مغصوب أو بآنية فضة أو بإناء ذهب فكل هذا لا يتأدى فيه فرض فمن صلى كما ذكرنا فلم يصل ومن توضأ كما ذكرنا فلم يتوضأ ومن ذبح كما ذكرنا فلم يذبح وهي ميتة لا يحل لأحد أكلها لا لربها ولا لغيره وعلى ذابحها ضمان مثلها حية لأنه فعل كل ذلك بخلاف ما أمر وقال عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد قال علي وقد نهاه الله تعالى عن استعمال تلك السكين وعن ذبح حيوان غيره بغير إذن مالكه وعن الإقامة في المكان المغصوب وأمر بالإقامة للصلاة وبتذكية ما يحل أكله وبضرورة العقل علمنا أن العمل المأمور به هو غير العمل المنهي عنه ولا يتشكل في العقل غير ذلك فذبحه حيوان غيره أو بسكين مغصوبة ليس هو التذكية المأمور بها فإذا لم يذك كما أمر فلم يحل بذلك العمل المنهي عنه أكل ما لا يحل أكله إلا بالتذكية المأمور بها ولا شك في أن إقامته في المكان المغصوب ليست الإقامة المأمور بها في الصلاة ولو كان ذلك لكان الله عز وجل آمرا بها ناهيا عنها إنسانا واحدا في وقت واحد في حال واحدة وهذا مما قد تنزه الحكيم العليم في إخباره تعالى أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها وليس اجتناب الشيء والإتيان به في وقت واحد في وسع أحد فصح ما قلنا وبالله التوفيق وقد عارض في هذا بعض أهل الإغفال بمن طلق أو أعتق في مكان مغصوب أو صبغ لحيته بحناء مغصوبة أو تعلم القرآن في مصحف مغصوب

قال علي وهذا الاعتراض يبين جهل المعترض به لأن الطلاق والعتاق والبيع والعطايا والصدقات لفظ لا يقتضي إقامة مأمورا بها بل مباح له أن يطلق ويفعل كل ذلك وهو يمشي أو وهو يسبح في الماء فليس مرتبطا بالإقامة في المكان والصلاة لا بد لها من إقامة إلا في حالة المسابقة أو الضرورة فمن اضطر إلى الإقامة في مكان مغصوب فصلاته فيه تامة لأنه ليس مختارا للإقامة هناك والصابغ بالحناء بعد إزالة الحناء ليس هو مستعملا في تلك الحال لشيء مغصوب وأما لو صلى وهو مختضب بها لبطلت صلاته لفعله فيها ما لا يحل له وأما تعلم القرآن فليس مرتبطا بجنس المصحف وقد يتعلم المرء تلقينا ثم أيضا هو في حال حفظه غير مستعمل لشيء مغصوب وكذلك في قراءاته ما حفظ في صلاته وبالله التوفيق

وبالجملة فلا يتأدى عمل إلا كما أمر الله تعالى أو كما أباح لا كما نهى عنه وبالله تعالى التوفيق وكل عمل لا يصح إلا بصحة ما لا يصح فإن ذلك العمل لا يصح أبدا وكل ما لا يوجد إلا بعد وجود ما لا يوجد فهو غير موجود أبدا وكل ما لا يتوصل إليه إلا بعمل حرام فهو حرام أبدا وكل شيء بطل سببه الذي لا يكون إلا به فهو باطل أبدا وهذه براهين ضرورية معلومة بأول الحس وبديهة العقل ومن خالف فيها فهو سوفسطائي مكابر للعيان وبالله التوفيق قال علي وقد أشار قوم من إخواننا إلى أنه لا يقبل تطوع من عليه فرض قال علي وهذا إذا أجمل دون تفسير أو خطأ وذلك أن الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يجيز صلاة من لم يتم فرض صلاته بتطوع إن كان له وكذلك الزكاة وكذلك سائر الأعمال قال علي والصحيح في هذا الباب أن كل فرض تعين في وقت لا فسحة فيه فإنه لا يجزي أحدا أداه غيره في ذلك الوقت وذلك كإنسان أراد صيام نذر عليه أو تطوع في شهر رمضان وهو مقيم صحيح فهذا لا يجزيه أو كإنسان لم يبق عليه من وقت الصلاة إلا مقدار ما يدخل فيها فقط فهذا حرام عليه أن يتطوع أو يقضي صلاة عليه أو يصلي صلاة نذر عليه حتى تتم التي حضر وقتها بلا مهلة ولا فسحة فإن قضى حينئذ صلاة فاتته لم تجزئه وعليه قضاؤها ثانية وكذلك إن صلى صلاة نذر عليه وليس كذلك من لزمته زكاة ولم يبق من ماله إلا قدر ما يؤدي ما وجب عليه منها فقط إلا أن له غنى بعد ذلك فهذا يجزئه أن يتصدق بما شاء منه تطوعا وأن يؤدي منه نذرا بخلاف ما ذكرنا قبل لأن الزكاة في ذمته لا في عين ما بيده وكذلك من أحاطت بماله ديون الناس حاشا بعد الموت لأن النص منع من ذلك ولم يجعل وصية ولا ميراثا إلا بعد الدين ولكن من حضره وقت الحج وهو

مستطيع فلا يجزئه أن يحج تطوعا ولا نذرا قبل أداء الفرض وكذلك العمرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فالمستطيع للحج مأمور بأدائه حينئذ ومن حضر رمضان فهو مأمور بصيامه لرمضان ومن لم يبق عليه من وقت صلاته إلا مقدار ما يدخل فيها فهو مأمور بالدخول فيها فإذا فعل غير ما أمر به فهو رد بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كذلك من لم يبق بيده من ماله إلا مقدار الزكاة أو مقدار ديون الناس لأنه ليس مأمورا بأداء ذلك مما بيده ولا بد لأنه لو استقرض مالا فأدى منه الزكاة التي عليه وديون الناس التي عليه أجزأه ذلك بلا خلاف ولم يجز للقاضي أن يلزمه الأداء من ماله ولا بد والصلاة والحج والصيام في أوقاتها بخلاف ذلك وأما إذا دخل وقت الصلاة وفيه مهلة بعد فلا خلاف بين أحد من المسلمين في جواز التطوع حينئذ وبهذا جاءت النصوص وأما من سافر في رمضان أو مرض فهو غير مأمور بصيامه لرمضان وغير منهي عن صيامه لغير رمضان فله أن يصومه لما شاء من نذر أو تطوع أو قضاء واجب وأما من عليه صلوات نسيها أو نام عنها وعليه قضاء رمضان سافر فيه أو مرض فأفطر فإن وقت هذه الصلوات ووقت قضاء هذا الصوم ممتدا أبدا فإن أخر قضاء ذلك وهو قادر غير معذور فهو عاص بالتأخير فقط وذلك لا يسقط عنه قضاء ما لزمه قضاؤه من ذلك فهذا والصلاة التي دخل وقتها سواء فإن تطوع بصلاته أو صيام لم يضع له ذلك عند الله تعالى لأن وقت ما لزمه ممتد بعد فلا يفوته وبالله تعالى التوفيق ومما يبين هذا حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانت تكون على الأيام من قضاء رمضان يعني من قضاء أيام حيضها ولا أستطيع أن أقضيها إلا في شعبان لشغلي برسول الله صلى الله عليه وسلم أو كلاما هذا معناه

قال علي وهذا مما قد أيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه وأقر عليه لأنه لا يجوز أن تحيض إلا وهو يعلم ذلك لأنها كانت لها ليلتان من تسع ولا يمكن أن يغفل عليه السلام أمرها بتعجيل القضاء لو كان الفرض لا يجزىء إلا بتعجيله وقولها لا أستطيع أوضح عذر وهذا نص ما قلنا وبيانه ومما يبين صحة ما قلنا آنفا من أن الزكاة وديون الناس وسائر فرائض الأموال إنما هي واجبة في ذمة المرء لا في عين ما بيده من المال أنه لو كانت واجبة في عين ما بيده من المال ثم تلف ذلك المال لسقطت عنه تلك الحقوق وهذا باطل وأيضا فإنه مما لا يقوله مسلم فلما لم تسقط الحقوق المذكورة بذهاب جميع عين المال صح يقينا أنها في ذمته وإنما يصير ما له لغيره بأحد وجوه أربعة أوجبها النص وهي أداؤه من ماله أو قبض من له حق حقه مما ظفر منه من ماله أو قضاء الحاكم بما له للغرماء فيما لزمه من الحقوق أو بموته فقط وكان يكفي من هذا الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأمره بإكفاء القدور وهي تفور باللحم الذي عجل أصحابه رضي الله عنهم فذبحوا من المغنم قبل القسمة فلو جاز أكل ذلك اللحم لما أمر عليه السلام بإكفاء القدور وهي تفور وقد روي من طريق أخرى أنه عليه السلام جعل يرمله بالتراب ويقول إن النهبة ليست بأحل من الميتة أو كلاما هذا معناه فإن اعترضوا بحديث الشاة التي روي أنه عليه السلام قال فيها إني لأجد طعم لحم أخذ بغير إذن أهله أو كلاما هذا معناه قال ثم أمر عليه السلام بإطعامه للأسارى فهذا حديث لا يصح لأنه إنما روي من طريق رجل من الأنصار ولم يأت من غير هذه الطريق أصلا فسقط الاحتجاج به وهرقه عليه السلام اللحم من القدور في الأرض مع نهيه عليه السلام عن إضاعة المال دليل واضح على أنه لا يحل أكله وهذا نص قولنا وبالله تعالى التوفيق

قال علي وأما العمل المأمور به في وقت محدود الطرفين قد ورد النص بالفسحة في تأخيره فإنه يجب بأول الوقت إلا أنه قد أذن له في تأخيره وكان مخيرا في ذلك وفي تعجيله فأي ذلك أدى فقد أدى فرضه إلا أنه يؤجر على التعجيل لتحصيله العمل واتهمه به ولا يأثم على التأخير لأنه فعل ما أبيح له وذلك مثل تأخير المرء الصلاة إلى آخر وقتها الواسع ولذلك أسقطنا الملامة والقضاء عن المرأة تؤخر الصلاة عن أول وقتها فتحيض فعلت ما أبيح لها ومن فعل ما أبيح له فقد أحسن وقال تعالى {ليس على لضعفآء ولا على لمرضى ولا على لذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على لمحسنين من سبيل ولله غفور رحيم} فسقطت الملامة وقد أخر عليه السلام الصلاة إلى آخر وقتها فصح بذلك أن ذلك جائز مباح حسن وإن كان التعجيل أحسن وسقط القضاء عنها لخروج الوقت لأنه يؤدي عمل إلا في وقته المأمور به كما أسقط خصومنا موافقين لنا القضاء عن المغمى عليه أكثر من خمس صلوات وبعضهم أسقطها عن المغمى عليه صلاة فما فوقها وأما كل عمل محدود الطرف الأول غير محدود الطرف الآخر فإن الأمر به ثابت متجدد وقتا بعد وقت وهو ملوم في تأخيره لأنه لم يفسح له ذلك وكلما أخره حصل عليه اسم التضييع وإثم الترك لما أمر به فإن أداه سقط عنه إثم الترك وقد استقر عليه إثم ترك البدار ولا يسقطه عنه إلا ربه تعالى بفضله إن شاء لا إله إلا هو كسائر ذنوبه التي لا بد من الموازنة فيها لأن الأداء والتعجيل فعلان متغايران كما قدمناه وقد يؤدي من لا يعجل فصح أنهما شيئان متغايران وكذلك القول في ديون الناس فإن المماطل الغني آثم بالمطل وآثم بمنع الحق فإذا أدى الحق يوما ما سقط عنه المنع وقد استقر إثم المطل عليه فلا يسقط عنه بالأداء لأن المنع والمطل شيئان متغايران وقد يؤدي ولا يمنع من قد مطل ولذلك قلنا فيمن غصب مالا فلم يؤده إلى صاحبه حتى مات المغصوب منه ثم أداه إلى ورثته إنه باق عليه إثم الغصب

من الميت وإنما سقط عنه إثم الغصب من الوارث وهو الثاني لأنه لا شك عند كل ذي عقل أن ظلمه لزيد الموروث غير ظلمه لعمرو الحي الوارث وقد انتقل ملك المال إلى الوارث وملك الوارث لذلك المال غير ملك المورث له هذا شيء يعلم بضرورة العقل وبديهة الحس فإن أحدث الغاصب ظلما ثانيا لهذا الحي فهو عمل آخر وإثم متجدد فإن رد إليه ماله فقد سقط عنه إثم ظلمه إياه ولا يسقط ما وجب لزيد من الحق في حياته إنصاف هذا الغاصب لعمرو بعد موت زيد وكذلك لو مات الغاصب فصرف المال وارثه فإنما سقط ال 9 إثم عن الوارث الصارف لا عن الميت الغاصب لأن عمل زيد لا يلحق عمرا إلا بنص أو إجماع قال الله عز وجل {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وقال تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} اللهم إلا أن يرد نص بأن عمل زيد يلحق عمرا بعد موته أو في حياته فنقر بذلك سامعين طائعين كالصيام عن الميت والحج عنه وأداء ديونه فلو أمر الميت أن يرد ما غصب في حياته كان قد تبرأ أو سقط عنه إثم الإمساك وبقي عليه إثم المطل لأن كل ذلك أعمال متغايرة فلو تطوع امرؤ برد دين أو غصب عن ميت وجعل الأجر للميت لكان ذلك لاحقا بالميت ومرد عنه على حديث أبي قتادة وإنما نقول ما قال لنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه

وسلم ونعلم ما علمناه ولا مزيد وبالله التوفيق وأصحاب القياس يتناقضون في المسائل التي ذكرنا أقبح تناقض فيجيزون قضاء الحج إذا وصى به ولا يجيزون قضاء الصوم إذا أوصى به ويجيزون تقديم الصلاة قبل وقتها للمريض إذا خشي على عقله وفي ليلة المطر ولا يقيسون على تقديم العتمة قبل ليلة المطر تقديم العصر قبل وقتها يوم المطر ولا تقديم الظهر قبل وقتها فإن قالوا الوقت مشترك بين العتمة والمغرب لزمهم أن يجيزوا تقديم العتمة إلى وقت المغرب لغير ضرورة لأنه وقتها ومن صلى الصلاة في وقتها فقد أحسن ولزمهم تقديم العصر إلى الظهر بغير ضرورة لذلك أيضا وقد قال بذلك ابن عباس وجماعة من السلف رضي الله عنهم ولسنا نقول بذلك إلا في يوم عرفة فقط لأنه لم يأت في ذلك نص غيره فظهر عظم تناقضهم ولقد شاهدت بعض أهل مساجد الجانب الشرقي بقرطبة أيام تغلب البربر عليها يستفتون شيوخ المالكيين في تعجيل العتمة قبل وقتها خوف القتل إذ كان متلصصة البرابر يقفون لهم في الظلام في طرق المسجد فربما أوذوا إيذاء شديدا فما فسحوا لهم في ذلك ولم يقيسوا ضرورة خوف الموت على ضرورة خوف بلل الثياب في الطين وهذا كما ترى وبالله تعالى التوفيق وقال قوم إن العمل المأمور به في وقت محدود الطرفين هو في أول الوقت ندب وفي آخره فرض قال علي وهذا خطأ فاحش لأنه لو كانت تأديته في أول الوقت ندبا لما أجزأه ذلك لأن الندب غير الفرض ولا ينوب عمل عن عمل آخر غيره من غير نوعه إلا بنص ولكن هذا بمنزلة الأشياء المخير فيها في الكفارات أيها أدى فهو فرضه وكذلك من صلى أول الوقت فقد أدى فرضه وإن صلى في وسطه فقد أدى فرضه وإن صلى في آخره فقد أدى فرضه فإن قال

فصل في موافقة معنى الأمر لمعنى النهي

الآمرون من تعمد ترك صلاة حتى خرج وقتها بالقضاء إنما فعلنا ذلك قياسا على قضاء الصلاة المنسية والتي نيم عنها قيل لهم وبالله تعالى التوفيق أكثركم لا يرى على الحالف على الحنث عمدا كفارة ولا على القاتل عمدا كفارة قياسا على المخطىء غير المعتمد وهذا تناقض منكم وحتى لو طردتم خطأكم لكان ذلك زيادة في الخطأ لأن القياس عن القائلين به إنما هو الحكم للشيء بحكم شيء آخر لعلة جامعة بينهما ولا علة تجمع بين الناسي والعامد وهذا هو قياس الشي على ضده لا على نظيره وهذا خطأ عندكم وعند جميع الناس وبالله تعالى التوفيق فصل في موافقة معنى الأمر لمعنى النهي قال علي النهي مطابق لمعنى الأمر لأن النهي أمر بالترك وترك الشيء ضد فعله وليس عن الشيء أمرا بخلافه الأخص ولا بضده الأخص وتفسير الضد الأخص أنه المضاد في النوع وتفسير الضد الأعم أنه المضاد في الجنس فإذا قلت للإنسان لا تتحرك فقد ألزمته السكون ضرورة لأنه لا واسطة بين الضد الأعم وبين ضده فمن خرج من أحدهما دخل في الآخر وهذا الذي سميناه في كتاب التقريب المنافي وأما من نهيته عن نوع من أنواع الحركة فليس ذلك أمرا بضده مثال ذلك لو قلت لآخر لا تقم فإنك لم تأمره بالجلوس ولا بد لأن بين الجلوس والقيام وسائط من الاتكاء والركوع والسجود والانحناء والاضطجاع فأيها فعل فليس عاصيا لك في نهيك إياه عن القيام وكذلك لو قيل لإنسان لا تلبس السواد فليس في ذلك إيجاب لباسه البياض ولا بد بل إن لبس الحمرة والصفرة أو الخضرة لم يكن بذلك عاصيا بل مؤتمرا في تركه السواد وبالله تعالى التوفيق وأما الأمر فهو نهي عن فعل كل ما خالف العمل المأمور وعن كل

ضد له خاص أو عام فإنك إذا أمرته بالقيام فقد نهيته عن القعود والاضطجاع والاتكاء والانحناء والسجود وعن كل هيئة حاشا القيام وإنما كان هكذا لأن ترك أفعال كثيرة مختلفة في وقت واحد واجب موجود ضرورة لأن من قام فقد ترك كل فعل خالف القيام كما أخبرنا في حال قيامه وأما الإتيان بأفعال كثيرة في وقت واحد وهي مختلفة متنافية ومتضادة فمحال لا سبيل إليه ألا ترى من سافر فإنما يمشي إلى جهة واحدة وهو تارك لكل جهة غير التي توجه نحوها ولا يمكنه أن يتوجه إلى جهتين في وقت واحد بفعله نفسه وتخالف أيضا بنية النهي بنية الأمر في وجه آخر وهو أن ما ورد نهيا بلفظ أو فهو نهي عن الجميع مثل قوله تعالى {فصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا} ومثل قولك لا تقتل زيدا أو عمرا أو خالدا فهو يقتضي النهي عن قتلهم كلهم وما ورد أمرا بلفظ أو فهو تخيير في أحد الأقسام المذكورة مثل قولك كل خبزا أو تمرا أو لحما وخذ هذا أو هذا والنهي يقتضي اجتناب المنهى عنه كما أن الأمر يقتضي إتيان المأمور به وقد بينا أن النهي عن الشيء أمر بتركه والأمر بالترك يقتضي وجوب الترك وبينا أن الأمر بالشيء نهي عن تركه فالنهي عن الترك يقتضي الفعل الذي بوقوعه يرتفع تركه وبالله تعالى التوفيق وقد اعترض في هذا بعض أهل الشغب فقال لو كان الأمر بالشيء نهيا عن تركه أو كان النهي عن الشيء أمرا بتركه لكان العلم بالشيء جهلا بضده قال علي وحكاية هذا الكلام الساقط تغني عن تكلف الرد عليه لأنه رام التشبيه بين ما لا تشابه بينه وهو بمنزلة من قال لو كان الموت ضد الحياة لكان السمع ضد البصر ومثل هذا من الغثائث ينبغي لمن كان به رمق

فصل في الأمر هل يتكرر أبدا أو يجري منه ما يستحق به المأمور اسم فاعل لما أمر به

أن يرغب بنفسه عنه ولكن من لم يعد كلامه من عمله كثرت أهذاره ومن لم يستح فعل ما شاء وأما العلم بالشيء فهو على الحقيقة عدم العلم بضده لأن علمك بأن زيدا حي وهو عدم العلم وبطلان العلم بأنه ميت وقول القائل لا نأكل لا شك عند كل ذي حس أن معناه اترك الأكل ولا فرق وهذا من المتلائمات وقد أفردنا لهذا بابا في كتاب التقريب وبطل مما ذكرنا قول من قال النهي نوع من أنواع الأمر وقول من قال الأمر نوع من أنواع النهي وصح أن كل أمر فهو أيضا نهي وكل نهي فهو أيضا أمر فإن قال قائل قد يرد أمر ليس فيه نهي عن شيء أصلا وهو أمر الإجابة وقال آخر قد يرد نهي ليس فيه معنى من الأمر أصلا وهو نهي عن الاختيار للترك قال علي كلاهما مخطىء أما الأمر بالإباحة فإنما معناه إن شئت افعل وإن شئت لا تفعل فليس مائلا إلى الأمر إلا كميله إلى النهي ولا فرق وكذلك القول في نهي الاختيار للترك وهو الكراهية ولا فرق وهكذا أمر الندب ولا فرق وفيه معنى إباحة الترك موجود وبالله تعالى التوفيق فصل في الأمر هل يتكرر أبدا أو يجري منه ما يستحق به المأمور اسم فاعل لما أمر به قال علي اختلف الناس في الأمر إذا ورد بفعل ما هل يخرج من فعله مرة عن اسم المعصية أو يتكرر عليه الأمر أبدا فيلزمه التكرار له ما أمكنه فبكلا القولين قال القائلون قال علي والصواب أن المطيع غير العاصي ومحال أن يكون الإنسان مطيعا عاصيا من وجه واحد فمن أمر بفعل ما ولم يأت نص بإيجاب تكراره

ففعله فقد استحق اسم مطيع وارتفع عنه اسم عاص بيقين وكل شيء بطل فلا يعود إلا بيقين من نص أو إجماع وإنما تكلم في هذه المسألة القائلون بقول الشافعي رحمه الله في تكرار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل صلاة لأجل قوله تعالى {إن لله وملائكته يصلون على لنبي يأيها لذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} قال علي ولو كان ما احتجوا به من وجوب التكرار صحيحا لما كان موضع الجلوس الآخر من الصلاة أحق به من القيام والسجود وسائر أحوال الإنسان وهم إنما أوجبوا ذلك بعد التشهد الأخير من الصلاة فقط وقد ورد حديث في لفظه إبعاد لمن ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه فإن صح لقلت هو فرض متى ذكر عليه السلام وإن لم يصح فقد صح أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا ولا يزهد في هذا إلا محروم والذي يوقن فهو أنه من يرغب عن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن السلام عليه فهو كافر مشرك ومن صلى عليه وسلم ثم ترك غير راغب عن ذلك ولكن عالم بأنه مقصر باخس نفسه حظا جليلا فلا أجر له في ذلك ولا إثم عليه فإن قالوا فما تقولون في الجهاد قلنا قد صح أن الجهاد فرض علينا إلى ألا يبقى في الدنيا إلا مؤمن أو كتابي يغرم الجزية صاغرا بأمر الله تعالى لنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ويؤمن المشركون كلهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويعطي أهل الكتاب الجزية وهم صاغرون فالقتال ثابت علينا أبدا حتى يكون ما ذكرنا وحسبنا أنه فرض على الكفاية وتركه للمطبق مكروه ما لم يقو للعدو أو لم يستنفر الإمام فأي ذلك كان فالجهاد فرض على كل مطيق في ذات نفسه متعين عليه ويبطل قول من قال بالتكرار أنه لو كان قوله صحيحا للزم من سلم

عليه أن يرد أبدا ولا يمسك عن تكرار الرد لقوله تعالى {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ إن لله كان على كل شيء حسيبا} ولا خلاف في أن بمرة واحدة يخرج من فرض الرد وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالمنكر الذي يرى غدا غير المنكر الذي يرى اليوم وفرض علينا تغيير كل منكر وكذلك القول في الأمر بالمعروف لأن المعروف الذي يأمر به غدا غير الذي أمر به اليوم وقد جاء النص مبينا بقوله صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره ومما يبطل قول من قال بالتكرار قوله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} وأمره تعالى بأداء الزكاة وما أشبه ذلك لا يلزم تكراره إلا ما جاء النص مبينا بإيجاب تكراره وإلا فوفاء واحد يجزي ودية واحدة ورقبة واحدة قال علي وقد احتج على القائلين بالتكرار بعض من سلف ممن يقول بأنه يخرج المأمور بذلك بفعله مرة واحدة بأن قال لما أجمع الناس على أن التكرار لا يلزم حتى يمتنع المرء من الأكل والنوم والنظر في أسبابه فلما صح ذلك لم يكن من حد في ذلك حدا أولى ممن حد حدا آخر فوجب أنه يخرج من المعصية بفعل ما أمر بفعله مرة واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام إذ سئل عن الحج أفي كل عام فقال عليه السلام دعوني ما تركتكم قالوا فلو كان الأمر يجب تكراره لما أنكر عليه السلام على السائل عن الحج أفي كل عام لأنه كان يكون واضعا للسؤال موضعه أو سائلا تخفيفا عما يقتضيه اللفظ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشي أن يكون سؤاله موجبا لنزول زيادة على ما اقتضاه لفظ الأمر بالحج فيدخل ذلك السائل في جملة من ذم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله أعظم الناس جرما في الإسلام من

سأل عن أمر لم يحرم فحرم من أجل مسألته قال علي وهذا احتجاج صحيح ظاهر قال علي وقد تعلق بالتكرار من قال بإيجاب التيمم لكل صلاة قال أبو محمد وهذا خطأ لأن نص الآية لا يوجب التيمم إلا على من أحدث بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا} فلو تركنا ظاهر هذه الآية لوجب الوضوء فرضا على كل قائم إلى الصلاة ولما وجب ذلك في التيمم لأن نص الآية بإيجاب الوضوء على قائم إلى الصلاة وليس فيه إيجاب التيمم إلا على من أحدث فقط ولكن لما صلى عليه السلام الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد علمنا أن المأمور بالوضوء هو المحدث فقط وأما تكرار التيمم فنص الآية يبطله قال علي واحتج القائلون بالتكرار بأن قالوا وافقتمونا على أن النهي متكرر ثابت أبدا وأنه متجدد كل وقت فهلا قلتم إن المنهي يخرج عن النهي بترك ما نهي عنه ساعة من الدهر فقط كما قلتم إن يفعل مرة واحدة يخرج عن الأمر وإن الأمر لا يعود عليه قال علي هذه شغبة دقيقة وقد قدمنا فيما خلا أن النهي هو أمر بالترك وأن الترك ممكن لكل أحد وليس يمتنع الترك على مخلوق والفعل بخلاف ذلك منه ممكن ومنه ما لا يقدر عليه وقدمنا أن ترك المرء لأفعال كثيرة في وقت واحد موجود واجب وأن فعله بخلاف ذلك وأن المرء في حال نومه وأكله وصلاته ونظره في أسبابه تارك لكل ما نهي عن تركه إن أراد الترك وليس الأمر كذلك بل لا يقدر على أداء أكثر الأوامر في الأحوال التي ذكرنا وقد أمرنا عليه السلام أن نجتنب ما نهانا عنه وأمرنا

أن نفعل ما أمرنا به ما استطعنا ولم يقل عليه السلام فأتوه ما استطعتم وكان حينئذ يلزم التكرار وإنما قال عليه السلام فأتوا منه ما استطعتم ومن إنما هي للتبعيض المقدور فلما امتنع تكرار الأمر بما قدمنا قبل من أن التكرار لوازم لكان تكليفا لما لا يطاق وأنه لما بطل ذلك كان من اقتصر في ذلك على حد ما يجده أو عدد من التكرار يوجبه أو على وقت ما متحكما بلا دليل لم يلزم منه إلا ما اتفق عليه وهو مرة واحدة يقع عليه بها اسم فاعل مطيع ويرتفع بها عنه اسم عاص وكان ذلك فرقا صحيحا بين ما لا يقدر عليه مما ذكرنا وبين ما يقدر عليه من الترك في كل وقت وفي كل حال ومن أدى من الأمر ما استطاع فقد فعل ما أمر به ومن فعل ما أمر فقد سقط عنه الأمر وبالله تعالى التوفيق والقائلون بالتكرار إنما اضطروا إليه في مسألتين أو ثلاث وهم في سائر مسائلهم تاركون له وقد قدمنا أن القوم إنما حسبهم نص المسألة الحاضرة بما لا يبالون أن يهدموا به سائر مسائلهم وبالله تعالى التوفيق قال علي وصحيح القول في هذه المسألة هو ما قلنا من أن يفعل مرة واحدة يؤدي المرء ما عليه ولا يلزمه تكرار الفعل لما ذكرنا إلا أن ترتفع تلك الحال التي فيها ذلك الأمر ثم تعود فإن الأمر يعود ولا بد كمرض المسلم تجب عيادته فبمرة واحدة يخرج من الفرض ما دام في تلك العلة فإن أفاق ثم مرض عاد حكم العيادة أيضا وفك العاني متى صار عانيا وجب فكه كإطعام الجائع متى عاد جوعه عاد وجوب إطعامه وكالتعوذ متى قطع الإنسان القراءة ثم ابتدأ القراءة وكالوضوء متى أحدث وكالصلاة في كل يوم ولا يلزم تكرار شيء من ذلك بعد فعله في حال واحدة وبالله تعالى التوفيق والقول بالتكرار باطل لأنه تكليف ما لا يطاق أو القول بلا برهان

فصل في التخيير

وكلاهما باطل لأننا نسألهم عن تكرار الأوامر المختلفة وبعضها يقطع عن فعل بعض فلا بد ضرورة من ترك جميعها إلا واحدا فأيها هو الواحد وهذا هو القول بلا برهان وكل ما كان هكذا فهو باطل بلا شك وبالله تعالى التوفيق فصل في التخيير قال علي واختلفوا في الأشياء إذا خير الله عز وجل بينها وأوجب على المخير أن يقصد أيها شاء فيفعله ككفارة الأيمان وكفارة الحلق في الحج قبل يوم النحر لمرض أو أذى من الرأس وفي العمرة كذلك قبل تمامها وفي جزاء الصيد وما أشبه ذلك فقال قوم هي كلها واجبة فإذا فعل أحدها سقط سائرها قال علي وهذا خطأ فاحش لوجهين أحدهما أن أو لا توجب تساوي ما عطف بها واجتماعه وإنما يوجب ذلك الواو والفاء وثم هذا ما لا يجهله من له أدنى بصر باللغة العربية والثاني أنها لو وجبت كلها لما سقطت بفعل بعضها وما لزم فرضا فإنما يسقط بأن يفعل لا بأن يفعل غيره وهذا شيء يعلم بالضرورة لأن ما أوجب الله تعالى عليك عمله فلم يرد منك أن تقيم مقامه غيره إلا بنص وارد في ذلك وإلا فأنت عاص إن لم تفعل الذي أمرت به فلو أوجب تعالى عليه عتق رقبة لم يخرج منها بكسوة وهذا الذي لا يعقل سواه وذهب قوم إلى أنه تعالى إنما أوجب في ذلك شيئا واحدا مما خير فيه تعالى لا بعينه ولكن أيها شاء المخير ونحن لا ننكر هذا لأن عقولنا ليست عيارا على ربنا عز وجل ولا في العقل ما يمنع من أن يريد الله تعالى إيجاب

فصل في الأمر بعد الحظر ومراتب الشريعة

ما شاء إلى الموجب عليه فإذا فعل المخير المكفر أي الكفارات التي خوطب بها شاء فقد أدى فرضه وهو الذي سبق في علم الله عز وجل أنه به يسقط عنه الإثم والتخيير ينقسم قسمين أحدهما الذي ذكرنا وهو أن يلزم المرء أحد وجهين أو أحد وجوه لا بد من أن يأتي ببعضها أيها شاء فهذا فرضه الذي يأتي به مما خير فيه والقسم الثاني أن يقال للمرء إن شئت أن تفعل كذا وإن شئت ألا تفعله أصلا وهذا النوع لا يجوز أن يكون فرضا أصلا ولا يكون إلا تطوعا لأن كل شيء أبيح للمرء تركه جملة أو فعله فهو تطوع بلا خلاف من أحد وهذا لازم لمن قال إن المرء مخير في السفر بين إتمام الصلاة أو قصرها لأن من قول هذا القائل أن الركعتين الزائدتين أن من تركهما لم يأثم فهي إذن تطوع وإذا كانتا تطوعا فغير جائز أن يصليهما بركعتي الفرض اللتين لا بد له من أن يأتي بهما وليس يلزمهم هذا في قولهم في الصيام إن شاء صام في رمضان في السفر وإن شاء أفطر لأنهم لا يسقطون عنه الصيام جملة كما يسقطون عنه الركعتين اللتين تتم بهما الصلاة أربعا لكن يقولون إن شاء صام رمضان فيه وإن شاء صامه في أيام أخر ولا بد عندهم من صيامه فإنما هذا تخيير في أحد الوقتين لا في ترك الصيام أصلا وهناك خيروه في الإتيان بالركعتين أو تركهما البتة فافهم فصل في الأمر بعد الحظر ومراتب الشريعة قال علي قد بينا في غير موضع أن مراتب الشريعة خمسة حرام وفرض وهذان طرفان ثم يلي الحرام المكروه ويلي الفرض الندب وبين الندب والكراهة واسطة وهي الإباحة فالحرام ما لا يحل فعله ويكون تاركه مأجورا

مطيعا وفاعله آثما عاصيا والفرض ما لا يحل تركه ويكون فاعله مأجورا مطيعا ويكون تاركه آثما والمكروه هو ما إن فعله المرء لم يأثم ولم يؤجر وإن تركه أجر والندب هو ما إن فعله المرء أجر وإن تركه لم يأثم ولم يؤجر والإباحة هي ما إن فعله المرء لم يأثم ولم يؤجر وإن تركه لم يأثم ولم يؤجر كصبغ المرء ثوبه أخضر أو أصفر فإذا نسخ الحظر نظرنا فإن جاء نسخه بلفظ الأمر فهو فرض واجب فعله بعد أن كان حراما وإن كان أتى فعل لشيء تقدم فيه النهي فهو منتقل إلى الإباحة فقط والنهي باق على الاختيار وكذلك الأمر إذا أتى بعده فعل بخلافه فهو منتقل إلى الإباحة والأمر باق على الندب كما قلنا في أمره عليه السلام الناس إذا صلى إمامهم جالسا أن يصلوا وراءه جلوسا ثم صلى عليه السلام في مرضه الذي توفي فيه جالسا والناس وراءه وأبو بكر إلى جنبه قائم فعلمنا أن نهيه عليه السلام عن القيام للمذكر خاصة ندب واختيار إلا أن يفعل ذلك تعظيما للإمام فهو حرام وعلمنا أن الوقوف له مباح وإنما هذا فيما تيقنا فيه للمتقدم والمتأخر وأما ما لم يعلم أي الخبرين كان قبل فالعمل بذلك الأخذ بالزائد والاستثناء على ما قدمناه وبالله تعالى التوفيق قال علي وقد ادعى بعض من سلف أنه تقرأ الأوامر كلها الواردة بعد الحظر فوجدها كلها اختيارا أو إباحة وذكر من ذلك قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب} {ويسألونك عن لمحيض قل هو أذى فعتزلوا لنسآء في لمحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم لله إن لله يحب لتوابين ويحب لمتطهرين} ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وعن الانتباذ في الظروف فانتبذوا {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون}

قال علي وقد أغفل هذا القائل قد قال الله تعالى {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} فكان الفطر بالأكل والشرب فرضا لا بد منه بين ذلك النهي عن الوصال وكذلك قوله تعالى لله الآية إلى قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تدخلوا بيوت لنبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فدخلوا فإذا طعمتم فنتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي لنبي فيستحيي منكم ولله لا يستحيي من لحق وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من ورآء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول لله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند لله عظيما} فالانتشار المذكور في هذه الآية هو الخروج عن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو فرض لا يحل لهم القعود فيها بعد أن يطعموا ما دعوا إلى طعامه وأما الأوامر التي ذكرنا قبل فإن دلائل النصوص قد صحت على أنها ندب ونحن لا نأبى الإقرار بما أتى به نص بل نبادر إلى قبوله وإنما ننكر الحكم بالآراء الفاسدة والأهواء الزائغة بغير برهان من الله عز وجل أما قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب} فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل من عمرته ومن حجه ولم يصطد فعلمنا أنه ندب وإباحة وأما قوله تعالى {فإذا قضيت لصلاة فنتشروا في لأرض وبتغوا من فضل لله وذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون} فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة لا تزال تصلي على المرء ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث ولم يخص صلاة من صلاة فصح أن الانتشار مباح إلا للحدث والنظر في مصالح نفسه وأهله فهو فرض وأما قوله عليه السلام في القبور فزوروها فإن الفرض لا يكون إلا محدودا وإما موكولا إلى المرء ما فعل منه أو محمولا على الطاقة والمعروف وليس في زيارة القبور نص بشيء من هذه الوجوه ثم لو كان فرضا لكان زائرها مرة واحدة قد أدى فرضه في ذلك لما قدمنا في إبطال التكرار وأما قوله عليه السلام فانتبذوا فإنه عليه السلام لم ينتبذ لكن كان ينتبذ له فصح أن الانتباذ ليس فرضا لكنه إباحة وأما قوله تعالى {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} والمباشرة من الرجل لزوجته فرض ولا بد ولا يحل له هجرها في المضجع ولا الامتناع من وطئها إلا بتجافيها له عن ذلك على ما بينا في كتاب النكاح من كلامنا في الأحكام والحمد لله رب العالمين

قال علي وقد ذهب بعض المالكيين إلى أن ههنا واجبا ليس فرضا ولا تطوعا قال علي وهذا هذيان فاسد لا يعقل أصلا لأن الواجب هو الذي لا بد من فعله وغير الواجب هو ما إن شاء فعله المرء وإن شاء تركه ولا يعرف ههنا شيء يتوسط هذين الطرفين فإن راعوا ما ورد به لفظ الفرض في الشريعة فهم أول عاص لما ورد فيها لأن الله عز وجل يقول {إنما لصدقات للفقرآء ولمساكين ولعاملين عليها ولمؤلفة قلوبهم وفي لرقاب ولغارمين وفي سبيل لله وبن لسبيل فريضة من لله ولله عليم حكيم} فقالوا هم هذه القسمة ليست فريضة بل جائز أن يعطى من الصدقات غير هؤلاء وجائز أن توضع في بعض هذه الأصناف دون بعض وقال ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على كل صغير أو كبير ذكرا أو أنثى حرا أو عبدا من المسلمين صاعا من تمر أو صاعا من شعير فقالوا ليس هذا فرضا ولا الشعير أيضا ولا التمر فيها فرضا فما نعلم أحدا ترك لفظ الفرض الوارد في الشريعة منهم ثم احتجوا في البرسام الذي ادعوه من وجوه أنه شيء واجب ليس فرضا ولا تطوعا فقالوا ذلك مثل الأذان والوتر وركعتي الفجر وصلاة العيدين والصلاة في جماعة ورمي الجمار للمبيت ليالي منى بمنى قال علي وكل هذا فدعوى فاسدة أما الصلاة في جماعة والأذان ورمي الجمار ففرائض واجبة يعصي من تركها لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها وأما صلاة العيدين والوتر وركعتا الفجر والمبيت ليالي منى بمنى فليست فرائض ولكنها تطوع يكره تركها فلو تركها تارك دهره كله متعمدا ما أثم ولا عصى الله عز وجل ولا قدح ذلك في عدالته وقد قال عليه السلام في الذي حلف ألا يزيد على الصلوات الخمس الفرائض أفلح والله إن صدق دخل الجنة إن صدق وقد سأل هذا القائل النبي صلى الله عليه وسلم إذ وصف له الصلوات الخمس فقال يا رسول الله هل علي غيرها فقال لا إلا أن تطوع فسمى النبي صلى

فصل في ورود الأمر بلفظ خطاب الذكور

الله عليه وسلم تارك كل صلاة ما عدا الخمس مفلحا ولم يعنفه وأخبر عليه السلام أن كل صلاة ما عدا الخمس فهي تطوع فحرام على كل أحد خلاف النبي صلى الله عليه وسلم ولولا أن الأمر ورد بصلاة الجنائز فصارت فرضا لا بد منه لكانت تطوعا ولكن من هذه الخلال أشياء يكره تركها فمن تركها لم يأثم ولم يؤجر ومن فعلها أجر فبطلت بما ذكرنا قسمتهم الفاسدة والحمد لله رب العالمين فصل في ورود الأمر بلفظ خطاب الذكور قال علي اختلف الناس فقالت طائفة إذا ورد الأمر بصورة خطاب الذكور فهو على الذكور دون الإناث إلا أن يقوم دليل على دخول الإناث فيه واحتجوا بأن قالوا إن لكل معنى لفظا يعبر عنه فخطاب النساء افعلن وخاطب الرجال افعلوا فلا سبيل إلى إيقاع لفظ على غير ما علق عليه إلا بدليل قال علي وبهذا نأخذ وهو الذي لا يجوز غيره والدليل الذي استدلت به الطائفة الأولى هو أعظم الحجة عليهم وهو دليلنا على إبطال قولهم لأن لكل معنى لفظا يعبر به كما قالوا ولا بد ولا خلاف بين أحد من العرب ولا من حاملي لغتهم أولهم عن آخرهم في أن الرجال والنساء وأن الذكور والإناث إذا اجتمعوا وخوطبوا أخبر عنهم أن الخطاب والخبر يردان بلفظ الخطاب والخبر عن الذكور إذا انفردوا ولا فرق وأن هذا أمر مطرد أبدا على حالة واحدة فصح بذلك أنه ليس لخطاب الذكور خاصة لفظ مجرد

في اللغة العربية غير اللفظ الجامع لهم وللإناث ألا أن يأتي بيان زائد بأن المراد الذكور دون الإناث فلما صح لم يجز حمل الخطاب على بعض ما يقتضيه دون بعض إلا بنص أو بإجماع فلما كانت لفظة افعلوا والجمع بالواو والنون وجمع التكسير يقع على الذكور والإناث معا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الرجال والنساء بعثا مستويا وكان خطاب الله تعالى وخطاب نبيه صلى الله عليه وسلم للرجال والنساء خطابا واحدا لم يجز أن يخص بشيء من ذلك الرجال دون النساء إلا بنص جلي أو إجماع لأن ذلك تخصيص الظاهر وهذا غير جائز وكل ما لزم القائلين بالخصوص فهو لازم لهؤلاء وسيأتي ذلك مستوعبا في بابه إن شاء الله تعالى فإن قالوا فأوجبوا الجهاد فرضا على النساء قيل لهم وبالله تعالى التوفيق لولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة إذ استأذنته في الجهاد لكن أفضل الجهاد حج مبرور لكان الجهاد عليهن فرضا ولكن بهذا الحديث علمنا أن الجهاد على النساء ندب لا فرض لأنه عليه السلام لم ينهها عن ذلك ولكن أخبرها أن الحج لهن أفضل منه ومما يبين صحة قولنا أن عائشة وهي حجة في اللغة لما سمعت الأمر بالجهاد قدرت أن النساء يدخلن في ذلك الوجوب حتى بين النبي صلى الله عليه وسلم لها أنه عليهم ندب لا فرض وأن الحج لهن أفضل منه ونحن لا ننكر صرف اللفظ عن موضوعه في اللغة بدليل من نص أو إجماع أو بضرورة طبيعة تدل على أنه مصروف عن موضوعه وإنما يبطل دعوى من ادعى صرف اللفظ عن موضوعه في اللغة بلا دليل فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليها حملها الخطاب بلفظ خطاب الذكور على عموم دخول النساء في ذلك وفي هذا كفاية لمن عقل فإن قالوا فأوجبوا عليهن النفار للتفقه في الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قلنا وبالله تعالى التوفيق نعم هذا واجب عليهن كوجوبه على

الرجال وفرض على كل امرأة النفقة في كل ما يخصها كما ذلك فرض على الرجال ففرض على ذات المال منهن معرفة أحكام الزكاة وفرض عليهن كلهن معرفة أحكام الطهارة والصلاة والصوم وما يحل وما يحرم من المآكل والمشارب والملابس وغير ذلك كالرجال ولا فرق ولو تفقهت امرأة في علوم الديانة للزمنا قبول نذارتها وقد كان ذلك فهؤلاء أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وصواحبه قد نقل عنهن أحكام الدين وقامت الحجة بنقلهن ولا خلاف بين أصحابنا وجميع أهل نحلتنا في ذلك فمنهن سوى أزواجه عليه السلام أم سليم وأم حرام وأم عطية وأم كرز وأم شريك وأم الدرداء وأم خالد وأسماء بنت أبي بكر وفاطمة بنت قيس ويسرة وغيرهن ثم في التابعين عمرة وأم الحسن والرباب وفاطمة بنت المنذر وهند الفراسية وحبيبة بنت ميسرة وحفصة بنت سيرين وغيرهن ولا خلاف بين أحد من المسلمين قاطبة في أنهن مخاطبات بقوله تعالى {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين} {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} و {يأيها لذين آمنوا تقوا لله وذروا ما بقي من لربا إن كنتم مؤمنين} و {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} و {وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم} و {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} و {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} و {ثم أفيضوا من حيث أفاض لناس وستغفروا لله إن لله غفور رحيم} و {إنما يريد لشيطان أن يوقع بينكم لعداوة ولبغضآء في لخمر ولميسر ويصدكم عن ذكر لله وعن لصلاة فهل أنتم منتهون} و {وبتلوا ليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فدفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوهآ إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بلمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بلله حسيبا} وسائر أوامر القرآن وإنما من لجأ إلى هذه المضايق في مسألة أو مسألتين تحكموا فيها وقلدوا فاضطروا إلى مكابرة العيان ودعوى خروج النساء من الخطاب بلا دليل ثم رجعوا إلى عمومهن مع الرجال بلا رقبة ولا حياء

قال علي وقد قال الله تعالى {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} وقال أيضا {وأنذر عشيرتك لأقربين} فنادى عليه السلام بطون قريش بطنا بطنا ثم قال يا صفية بنت عبد المطلب يا فاطمة بنت محمد فأدخل النساء مع الرجال في الخطاب الوارد كما نرى فإن قال قائل فقد قال تعالى {يأيها لذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بلألقاب بئس لاسم لفسوق بعد لإيمان ومن لم يتب فأولئك هم لظالمون} وقال زهير وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن اللفظ إذا جاء مرادا به بعض ما يقع تحته في اللغة وبين ذلك دليل فلسنا ننكره فقد قال تعالى {يأيها لناس تقوا ربكم إن زلزلة لساعة شيء عظيم} فلا خلاف بين لغوي وشرعي أن هذا الخطاب متوجه إلى كل آدمي من ذكر أو أنثى ثم قال تعالى {لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل} فقام الدليل على أن المراد ههنا بعض الناس لا كلهم فوجب الوقوف عند ذلك لقيام الدليل عليه ولولا ذلك لما جاز أن يكون محمولا إلا على عموم الناس كلهم قال أبو محمد وقد سأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أحب إليك فقال عائشة قال ومن الرجال قال أبوها ثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج أنبأ يحيى ثنا خالد بن عبد الله عن خالد هو الحذاء عن أبي عثمان هو النهدي قال أخبرني عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس باللغة التي بعث بها فحمل اللفظ على عمومه في دخول النساء مع الرجال حتى أخبره السائل أنه أراد بعض من يقع عليه الاسم الذي خاطب به فقبل ذلك منه عليه السلام وهذا هو نص مذهبنا وهو أن نحمل الكلام

على عمومه فإذا قام دليل على أنه أراد به الخصوص صرنا إليه ولا خلاف بين المسلمين في أن قوله تعالى {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} واقع على إناث الخنازير كوقوعها على ذكورها بنفس اللفظ للنوع كله وقد اعترض بعضهم بحديث ذكروه من طريق أم سلمة رضي الله عنها فيه أن النساء شكون وقلن ما نرى الله تعالى يذكر إلا الرجال فنزلت {إن لمسلمين ولمسلمات ولمؤمنين ولمؤمنات ولقانتين ولقانتات ولصادقين ولصادقات ولصابرين ولصابرات ولخاشعين ولخاشعات ولمتصدقين ولمتصدقات ولصائمين ولصائمات ولحافظين فروجهم ولحافظات ولذاكرين لله كثيرا ولذاكرات أعد لله لهم مغفرة وأجرا عظيما} قال علي وهذا حديث لا يصح البتة ولا روي من طريق يثبت حدثنا محمد بن سعيد بن نبات قال أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن إصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار بندار ثنا أبو داود الطيالسي ثنا شعبة عن حصين قال سمعت عكرمة يقول قالت أم عمار يا رسول الله يذكر الرجال في القرآن ولا يذكر النساء قال فنزلت {إن لمسلمين ولمسلمات ولمؤمنين ولمؤمنات ولقانتين ولقانتات ولصادقين ولصادقات ولصابرين ولصابرات ولخاشعين ولخاشعات ولمتصدقين ولمتصدقات ولصائمين ولصائمات ولحافظين فروجهم ولحافظات ولذاكرين لله كثيرا ولذاكرات أعد لله لهم مغفرة وأجرا عظيما} قال علي وهذا مرسل كما نرى لا تقوم به حجة وثناه أيضا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا محمد بن المثنى حدثنا مؤمل ثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال قالت أم سلمة يذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر فنزلت {فستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فلذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها لأنهار ثوابا من عند لله ولله عنده حسن لثواب} وقالت أم سلمة يا رسول الله لا نقطع الميراث ولا نغزو في سبيل الله فنقتل فنزلت {ولا تتمنوا ما فضل لله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما كتسبوا وللنسآء نصيب مما كتسبن وسألوا لله من فضله إن لله كان بكل شيء عليما} وقالت أم سلمة يذكر الرجال ولا نذكر فنزلت {ورد لله لذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى لله لمؤمنين لقتال وكان لله قويا عزيزا} قال علي ويقال إن التفسير لم يسمعه ابن أبي نجيح من مجاهد ثنا بذلك يحيى بن عبد الرحمن عن أحمد بن دحيم عن إبراهيم بن حماد عن إسماعيل بن إسحاق ولم يذكر مجاهد سماعا لهذا الخبر عن أم سلمة ولا يعلم له منها سماع أصلا وإنما صح أنهن قلن يا رسول الله غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما فجعل لهن

عليه السلام يوما وعظهن فيه وأمرهن بالصدقة وكذلك صح ما روي في خطبته عليه السلام في العيد وأمره النساء أن يشهدن ثم رأى عليه السلام أنه لم يسمعهن فأتاهن فوعظهن قائما أتاهن عليه السلام إذ خشي أنهن لم يسمعن وإلا فقد كان يكفيهن جملة كلامه على المنبر قال أبو محمد والصحيح من هذا ما حدثناه عبد الله بن يوسف بالسند المتقدم ذكره إلى مسلم حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي وأبو معن الرقاشي وأبو بكر نافع وعبد الله بن حميد قال هؤلاء الثلاثة ثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي ثنا أفلح بن سعيد حدثنا عبد الله بن رافع وقال يونس بن عبد الأعلى ثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو هو ابن الحارث أن بكيرا حدثه عن القاسم بن عباس الهاشمي عن عبد الله بن رافع مولى ابن أم سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان يوما من ذلك والجارية تمشطني فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أيها الناس فقلت للجارية استأخري عني قالت إنما دعا الرجال ولم يدع النساء فقلت إني من الناس ثم ذكرت الحديث قال علي في هذا بيان دخول النساء مع الرجال في الخطاب الوارد بصيغة خطاب الذكور قال أبو محمد واحتج بعضهم بقوله تعالى {إن لمسلمين ولمسلمات ولمؤمنين ولمؤمنات ولقانتين ولقانتات ولصادقين ولصادقات ولصابرين ولصابرات ولخاشعين ولخاشعات ولمتصدقين ولمتصدقات ولصائمين ولصائمات ولحافظين فروجهم ولحافظات ولذاكرين لله كثيرا ولذاكرات أعد لله لهم مغفرة وأجرا عظيما} فالجواب وبالله التوفيق أنه لا ينكر التأكيد والتكرار وقد ذكر الله تعالى الملائكة ثم قال {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن لله عدو للكافرين} وهما من الملائكة ويكفي من هذا ما قدمناه من أوامر القرآن المتفق على أن المراد بهذا الرجال والنساء معا بغير نص آخر ولا بيان زائد إلا اللفظ وكذلك قوله {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} بيان جلي على أن المراد بذلك الرجال

فصل في الخطاب الوارد هل يخص به الأحرار دون العبيد أم يدخل فيه العبيد معهم

والنساء معا لأنه لا يجوز في اللغة أن يخاطب الرجال فقط بأن يقال لهم {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} وإنما كان يقال من أنفسكم فإن قالوا قد تيقنا أن الرجال مرادون بالخطاب الوارد بلفظ الذكور ولم نوقن ذلك في النساء فالتوقف فيهن واجب قيل له قد تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهن كما هو إلى الرجال وإن الشريعة التي هي الإسلام لازمة لهن كلزومها للرجال وأيقنا أن الخطاب بالعبادات والأحكام متوجه إليهن كتوجهه إلى الرجال إلا ما خصهن أو خص الرجال منهن دليل وكل هذا يوجب ألا يفرد الرجال دونهن بشيء قد صح اشتراك الجميع فيها إلا بنص أو إجماع وبالله تعالى التوفيق قال علي وإن العجب ليكثر ممن قال بخلاف قولنا من الحنفيين والمالكيين ثم هم يأتون إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الواطىء في رمضان بالكفارة فقالوا الواجب على المرأة من مثل ذلك ما على الرجل فأي مجاهرة أشنع من مجاهرة من يأتي إلى خطاب عام لجميع أهل الإسلام فيريد إخراج النساء منه ثم يأتي إلى خطاب لرجل منصوص عليه لم يذكر معه غيره فيريدون إلزامه النساء بلا دليل ثم تناقضوا في ذلك فألزموا الموطوءة الواطىء ولا نص في الموطوءة ولم يلزموا المظاهرة ما ألزموا المظاهر والعلة على قولهم واحدة وهي قوله {لذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا للائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من لقول وزورا وإن لله لعفو غفور} والمظاهرات قد قالت ذلك وقد أوجب عليها مثل ما يجب على المظاهر قوم كثير من العلماء وهكذا أحكام من تعدى حدود الله عز وجل واتبع الرأي والقياس وبالله تعالى التوفيق فصل في الخطاب الوارد هل يخص به الأحرار دون العبيد أم يدخل فيه العبيد معهم قال علي ذهب قوم إلى أن قوله تعالى {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا لشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بلله وليوم لآخر ومن يتق لله يجعل له مخرجا}

أنه للأحرار دون العبيد واحتجوا بقوله تعالى {وأنكحوا لأيامى منكم ولصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم لله من فضله ولله واسع عليم} قال ما ندري أيهما أشد إقداما على الله وجرأة أتخصيصهم الأحرار في الآية الأولى دون العبيد أم استشهادهم بالآية الثانية في ذلك فأول إبطال قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى العبيد والأحرار بعثا مستويا بإجماع جميع الأمة ففرض استواء العبيد مع الأحرار إلا ما فرق فيه النص بينهم كوجوب استواء العرب والعجم من قريش إلا ما فرق فيه النص بينهم من كون الخلافة لقريش دون العرب ومن تحريم الصدقة على بني هاشم وبني المطلب دون سائر قريش والعرب وكوجوب خمس الخمس لهم دون سائر قريش والعرب وإنما خاطبنا الله تعالى في آية الإنكاح لأنه عز وجل لم يجعل للعبد أن ينكح نفسه وجعله للحر وهذا مكان نص فيه على الفرق ثم نعارضهم بقول الله تعالى {وتقوا فتنة لا تصيبن لذين ظلموا منكم خآصة وعلموا أن لله شديد لعقاب} وبقوله {يأيها لذين آمنوا لا تتخذوا ليهود ولنصارى أوليآء بعضهم أوليآء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} وبقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تتخذوا آبآءكم وإخوانكم أوليآء إن ستحبوا لكفر على لإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم لظالمون} وبقوله تعالى {ومنهم لذين يؤذون لنبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بلله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم ولذين يؤذون رسول لله لهم عذاب أليم} وبقوله تعالى {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طآئفة منكم نعذب طآئفة بأنهم كانوا مجرمين} وبقوله تعالى {كلذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كلذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في لدنيا ولآخرة وأولئك هم لخاسرون} وبقوله تعالى {سوآء منكم من أسر لقول ومن جهر به ومن هو مستخف بلليل وسارب بلنهار} وبقوله تعالى {ولقد علمنا لمستقدمين منكم ولقد علمنا لمستأخرين} وبقوله تعالى {ثم إذا كشف لضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون} وبقوله تعالى {ولله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل لعمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن لله عليم قدير} وبقوله تعالى {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا} هل خص بهذا الخطاب الأحرار دون

العبيد أو عم الجميع فلا بد من أنه عموم للأحرار والعبيد فكل خطاب ورد فهو هكذا ولا فرق إلا ما فرق النص فيه بين الأحرار والعبيد وكذلك قالوا في قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} فقالوا هذا للأحرار دون العبيد قال علي وهذه أعجوبة شنيعة أترى العبيد ليسوا من رجالنا إن هذا الأمر كان ينبغي أن يستحيى منه وأن من جاهر بأن العبيد ليسوا من رجالنا الواجب أن يرغب عن الكلام معه وأيضا فإن أول الآية المذكورة {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} والآية الأخرى من قوله {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} الآية ولا خلاف بين أحد في أنهما متوجهتان إلى الأحرار والعبيد وأن هذا حكم عام للمتبايعين من الأحرار والعبيد وللمطلقين من الأحرار والعبيد فإذا قد صح ذلك فكيف يسوغ لذي عقل ودين أن يقول إن قوله تعالى {من رجالكم} وقوله تعالى {منكم} مخصوص به الأحرار دون العبيد والآيتان كلتاهما لا خلاف منهم مخاطب بهما والأحرار والعبيد سواء فصل في أمره عليه السلام واحدا هل يكون أمرا للجميع قال علي قد أيقنا أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى كل من كان حيا في عصره في معمور الأرض من إنسي أو جني وإلى من ولد بعده إلى يوم القيامة وليحكم في كل عين وعرض يخلقهما تعالى إلى يوم القيامة فلما صح ذلك بإجماع الأمة المتيقن المقطوع به المبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالنصوص الثابتة بما ذكرنا من بقاء الدين إلى يوم القيامة ولزومه الإنس والجن وعلمنا بضرورة الحس أنه لا سبيل إلى مشاهدته عليه السلام من يأتي بعده كان أمره

صلى الله عليه وسلم لواحد من النوع وفي واحد من النوع أمرا في النوع كله وللنوع كله وبين هذا أن ما كان من الشريعة خاصا لواحد أو لقوم فقد بينه عليه السلام نصا وأعلم أنه خصوص كفعله في الجذعة بأبي بردة بن نيار وأخبره عليه السلام أنها لا تجزي عن أحد بعده وكان أمره عليه السلام للمستحاضة أمرا لكل مستحاضة وإقامته ابن عباس وجابرا عن يمينه في الصلاة حكما على كل مصل وحده مع إمام ولا خلاف بين أحد في أن أمره لأصحابه رضي الله عنهم وهم حاضرون أمر لكل من يأتي إلى يوم القيامة وأما إخواننا فاضطربوا في هذا اضطرابا شديدا فقالوا في فتياه عليه السلام للواطىء في رمضان إن ذلك الحكم جار على كل واطىء وأصابوا في ذلك ثم لم يقنعوا بالصواب حتى تعدوه إلى الخطأ فقالوا وذلك الحكم أيضا جار على كل مفطر بغير الوطء ثم لم يقنعوا بذلك حتى قالوا هو على النساء كما هو على الرجال ثم أتوا إلى حكم النبي صلى الله عليه وسلم في محرم مات فأمر عليه السلام ألا يمس طيبا ولا يغطي وجهه ولا رأسه وأن يكفن في ثوبه فقالوا هو خصوص لذلك الواحد وليس هذا حكم من مات وهو محرم أفسمع السامعون بأعجب من هذا التحكم واحتجوا في ذلك بابن عمر وقد تركوا ابن عمر في أزيد من مائة قضية وتركوا في ذلك قول من خالف ابن عمر في ذلك من أصحابه واحتجوا بانقطاع عمل الميت تمويها وشغبا وليس هذا للميت ولكنه عمل الأحياء المأمورين بذلك كما أمروا بغسله ومواراته ولا عمل للميت في ذلك ولا فرق فإن احتجوا في ذلك بقول علي رضي الله عنه نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول نهاكم فقد قال كعب بن عجرة في أمر فدية حلق الرأس نزلت في خاصة وهي لكم عامة وأيضا فقد بينا في آخر كتابنا أنه لا يجوز التقليد وقد بين علي رضي الله عنه أن قوله هذا ليس على ما ظن الظان

فصل في أوامر ورد فيها ذكر حكمه عليه السلام ولم يأت فيها من لفظه عليه السلام السبب المحكوم فيه

من أن ذلك النهي لا يتعداه ذلك إذ سئل أعهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعهده إلى غيرك فقال لا ما خصني رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا ما في هذه الصحيفة وكان فيها العقل وأشياء من الجراحات ولا يقتل مؤمن بكافر فصح أن قول علي نهاني إنما هو تحر للفظه عليه السلام فقط وبالله تعالى التوفيق وهو الموفق للصواب فصل في أوامر ورد فيها ذكر حكمه عليه السلام ولم يأت فيها من لفظه عليه السلام السبب المحكوم فيه قال علي وإذا ورد خبر صحيح وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أمرا كذا فحكم فيه بكذا فإن الواجب أن نحكم في ذلك الأمر بمثل ذلك الحكم ولا بد لأنه كسائر أوامره التي قدمنا وجوبها وذلك مثل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي منفردا خلف الصفوف فأمره بالإعادة ورأى رجلا يحتجم فقال أفطر الحاجم والمحجوم وأتي بشارب فجلده فاعترض قوم فقالوا لعله عليه السلام إنما أمره بالإعادة ليس من أجل انفراده ولكن لغير ذلك وأن الحجام والمحجوم كانا يغتابان الناس قال علي وهذا لا يجوز لوجوه خمسة أحدها أنه عليه السلام مأمور بالتبليغ فلو أمر إنسانا بإعادة صلاة أبطلها عليه ولم يبين عليه السلام وجه بطلانها لكان عليه السلام غير مبلغ وقد نزهه الله تعالى عن ذلك ولكان غير مبين ومن نسب هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد كفر والوجه الثاني أن يقول القائل لعله عليه السلام قد بين ذلك ولم يصل إلينا قال علي فمن قال ذلك أكذبه الله عز وجل بقوله {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} وبقوله تعالى عن نبيه عليه السلام {وما ينطق عن الهوى *

إن هو إلا وحي يوحى} فصح أن كلامه كله صلى الله عليه وسلم وحي وأن الوحي محفوظ لأنه ذكر فلو بينه عليه السلام ولم ينقل إلينا لكان غير محفوظ وقد أكذب الله تعالى هذا القول لأنه لم ينقل أحد أنه أمره بالإعادة لغير الانفراد والوجه الثالث أن أحاديث كثيرة ثبتت بفرض تسوية الصفوف فيها وفيها إبطال صلاة من صلى منفردا وقد ذكرناها في الفصل الذي فيه ترجيح الأحاديث في باب الأخبار من كتابنا هذا والرابع إن نقل الناقل الثقة أنه صلى منفردا فأعاد نقل وإنذار ببطلان صلاة المنفرد عنه عليه السلام فواجب قبوله والخامس أن قول القائل لعله كان هنالك سبب لم ينقل إلينا ظن وقد قال تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا} وقال عليه السلام الظن أكذب الحديث ولا يحل ترك نقل الثقات لظنون زائفات وأما تخريج من خرج منهم أن الحاجم والمحجوم كانا يغتابان الناس فإنهم استجاروا من الرمضاء بالنار وهم لا يرون إفطار الصائم بالغيبة فقد عصوا على كل حال ولولا أن الرخصة وردت صحيحة من الحجامة للصائم لأوجبنا الإفطار بها ولكن استعمال الأحاديث يوجب قبول الرخصة لأنها متيقنة بعد النهي إذ لا تكون لفظة الرخصة إلا عن شيء تقدم التحذير منه ولهذا الحديث أجزنا الحجامة للصائم وأن يكون حاجما ومحجوما على ظاهر لفظ الأحاديث لا بالحديث الذي يقول احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم لأنه ليس في ذلك الحديث دليل على أنه كان بعد النهي فهو موافق لمعهود الأصل ولا فيه بيان أيضا أنه كان في صيام فرض لا يجوز الإفطار فيه بل لعله كان في تطوع يجوز الإفطار فيه أو في سفر كما جاء في بعض تلك الأحاديث أنه كان صائما محرما عليه السلام وبالله تعالى التوفيق

فصل في ورود حكمين بنقل يدل لفظه على أنهما في أمر واحد لا أمرين

فصل في ورود حكمين بنقل يدل لفظه على أنهما في أمر واحد لا أمرين قال علي روي أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان وهو يقول احترقت وأنه وصف أنه وطأ امرأته وهو صائم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكفارة موصوفة وروي من تلك الطريق بعينها أن رجلا أفطر في رمضان فأمره عليه السلام بتلك الكفارة بعينها وذكر باقي الحديث الأول فعلمنا بذلك أنهما حديث واحد لأن الرواة لهذا هم أولئك الذين رووا بأي شيء كان الإفطار وسياق الحديثين واحد فصح أن بعض الرواة عن الزهري فسر القصة وهم سفيان ومعمر والليث والأوزاعي ومنصور بن المعتمر وعراك بن مالك وأن بعضهم عن الزهري أجملها وهم مالك وابن جريج إلا أنهم كلهم عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال علي وليس هكذا حديث السارقة والمستعيرة لأن الوطء في حال الصوم إفطار صحيح يقع عليه في الشريعة اسم إفطار على الحقيقة ولا يقع على السارق اسم مستعير جاحدا البتة ولا يقع على المستعير الجاحد اسم البتة وأيضا فقد روى حديث قطع المستعيرة ابن عمر ولم يذكر سرقة وإنما ذكر أمر السرقة عن عائشة فصح أنهما حديثان متغايران وهذا أيضا ما تعلق به المانعون من المسح على العمامة في حديث المغيرة فقالوا ذكره المسح على العمامة هو حديث واحد مع الذي فيه ذكر المسح على الناصية والعمامة قال علي وهذا خطأ لأن الوضوء لم يكن مرة واحدة منه عليه السلام بل كانت آلافا من المرار فمن ادعى أن ذلك كله وضوء واحد في وقت واحد فقد دخل تحت الكذب والقول بما لا يعلم وهذا لا يحل لمسلم وأيضا فقد

روى المسح على العمامة والخمار من لم يذكر مسحا على الناصية أصلا وهم سلمان وبلال وكعب بن عجرة وعمرو بن أمية الضمري لا سيما المالكيين المانعين من الاقتصار على المسح للناصية فقط فإنهم لا متعلق لهم بحديث المغيرة أصلا وكل ما تعلقوا به بهذا الباب فهو حجة عليهم فصح بما ذكرنا أن حديث المغيرة وحديث من ذكرنا متغايران وبالله تعالى التوفيق فينبغي مراعاة هذا في النصوص ومثل ذلك من القرآن قول الله عز وجل {برآءة من لله ورسوله إلى لذين عاهدتم من لمشركين * فسيحوا في لأرض أربعة أشهر وعلموا أنكم غير معجزي لله وأن لله مخزي لكافرين} ثم قال تعالى في تلك السورة نفسها بعد يسير {وأذان من لله ورسوله إلى لناس يوم لحج لأكبر أن لله بريء من لمشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فعلموا أنكم غير معجزي لله وبشر لذين كفروا بعذاب أليم * إلا لذين عاهدتم من لمشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن لله يحب لمتقين * فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} قال علي فوجدناه تعالى قد جعل مدة من عاهدوا من المشركين أربعة أشهر ثم وجدناه تعالى قد جعل مدة المشركين من يوم الحج الأكبر وهو يوم النحر بنص تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك انسلاخ الأشهر الحرم فليس بين الأمدين إلا خمسون يوما فعلمنا يقينا أن هؤلاء المشركين الذين جعل أمدهم شهرين غير عشرة أيام هم غير المشركين الذين عوهدوا أربعة أشهر وهذا ينبغي أن يتفقد جدا فإنه برفع الإشكال كثير وبالله تعالى التوفيق

فصل في عطف الأوامر بعضها على بعض

فصل في عطف الأوامر بعضها على بعض قال علي وقد يعطف أوامر مفروضات على غير مفروضات ويعطف غير مفروضات على مفروضات والأصل في ذلك أن كل أمر فهو فرض إلا ما خرج عن ذلك بضرورة حس أو بنص أو إجماع فإذا كانت أوامر معطوفات فخرج بعضها بأحد الدلائل التي ذكرنا عن الوجوب بقي سائرها على حكم المفهوم من الأوامر في الجملة ولا نبالي كان الخارج عن معهود حكمه هو الأول في الذكر أو الآخر أو الأوسط كل ذلك سواء وهو بمنزلة ما لو خرج بنسخ فإن سائرها يبقى على حكم الوجوب والطاعة فمن ذلك قوله تعالى {وهو لذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ولنخل ولزرع مختلفا أكله ولزيتون ولرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب لمسرفين} فلولا الإجماع على أن الأكل من الثمر ليس فرضا لقلنا إنه فرض ولكن لما خرج عن أن يكون فرضا بدليل الإجماع بقي الفعل المعطوف عليه على حكم الوجوب وهو قوله تعالى {وهو لذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ولنخل ولزرع مختلفا أكله ولزيتون ولرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب لمسرفين} قال علي وإنما آتينا بما يوافقنا عليه أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وإلا فقد تناقضوا في مثل هذا إلا أن الحقيقة ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق ومن ذلك أيضا فانتبذوا ولا تشربوا مسكرا وزوروها يعني القبور ولا تقولوا هجرا الأمر الأول ندب الإجماع والثاني فرض وبالله تعالى التوفيق وكذلك قوله {يأيها لذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم لجمعة فسعوا إلى ذكر لله وذروا لبيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} كان السعي

فصل في تناقض القائلين بالوقف

خاصا للرجال دون النساء ولم يمنع ذلك الأمر بترك البيع من أن يكون فرضا فرضا على ظاهره وعاما لكل أحد من رجل أو امرأة ووافقنا على ذلك أصحاب مالك ومثل هذا كثير وبالله تعالى التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل فصل في تناقض القائلين بالوقف هاك نبذ من تناقض القائلين بالوقف وحملهم أوامر كثيرة على وجوبها وعن ظاهرها بغير قرينة ولا دليل إلا مجرد الأمر وصيغة اللفظ فقط وما تعدوا فيه طريق الحق إلى أن أوجبوا فرائض لا دليل على إيجابها يدل على كثير تناقضهم وفساد قولهم قال علي إن القائلين بالوقف من المالكيين والشافعيين والحنفيين قد أوجبوا أحكاما كثيرة بأوامر وردت لا قرينة معها فكان نقضا لمذهبهم في الوقف وما قنعوا بذلك حتى أوجبوا فرائض بلا أوامر أصلا فمن أعجب ممن لم يوجب بأمر الله تعالى إنفاذ ما أمر به وأوجب أحكاما بغير أمر من الله تعالى فمن ذلك أن المالكيين قالوا في قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم لجمعة فسعوا إلى ذكر لله وذروا لبيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} فأبطلوا البيع بمجرد هذا الأمر ولم يقنعوا بذلك حتى أبطلوا ما لم يبطل الله عز وجل من النكاح والإجازة تعديا لحدوده تعالى وقد تعلل بعضهم في هذا بأن لفظة {يأيها لذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم لجمعة فسعوا إلى ذكر لله وذروا لبيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} لا يقع إلا للفرض قال علي وهذا ما لا يعرفه حامل لغة من العرب وقد قال تعالى {وما قدروا لله حق قدره إذ قالوا مآ أنزل لله على بشر من شيء قل من أنزل لكتاب لذي جآء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل لله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} أفترى ذر في هذا المكان موجبة ترك الكفارة دون وعظ ودعاء إلى الإيمان وقتل موسى وإغرام جزية وصغار وقال في قوله تعالى {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} و {يأيها لذين آمنوا كتب عليكم

القصاص في لقتلى لحر بالحر ولعبد بلعبد ولأنثى بلأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فتباع بالمعروف وأدآء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن عتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} و {يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لصيام كما كتب على لذين من قبلكم لعلكم تتقون} هذه فرائض وقالوا في قوله {كتب عليكم إذا حضر أحدكم لموت إن ترك خيرا لوصية للوالدين ولأقربين بلمعروف حقا على لمتقين} فقالوا ليس هذا فرضا مع أمره عليه السلام من عنده شيء يوصي فيه أن لا يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ففرقوا بلا دليل وقالوا في قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} هذا فرض وفي قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} قالوا هذا فرض وكذلك قالوا في هدي العمرة وجزاء الصيد وقالوا بفرض التكبير في أول الصلاة والتسليم منها ذلك فرض وقالوا في حكم المصراة ذلك فرض وقالوا في التقويم على الشريك المعتق ذلك فرض وأوجبوا الزكاة في أموال الصغار بعموم قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} وبقوله عليه السلام إن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ولم يوجبوا صدقة الفطر فرضا وقد جاء النص بأنه عليه السلام فرضها وهي داخلة في جملة قوله عليه السلام إن عليهم صدقة وفي جملة قوله تعالى {وهو لذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ولنخل ولزرع مختلفا أكله ولزيتون ولرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب لمسرفين} وأجبوا الزكاة في الزيتون بقوله تعالى {وهو لذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ولنخل ولزرع مختلفا أكله ولزيتون ولرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب لمسرفين} ولم يروها في الرمان وقد ذكرهما تعالى في الآية ذكرا واحدا وأوجبوا غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا لو ورد الأمر بذلك فقط وأما الحنفيون فإنهم رأوا ألا تقف المرأة مع الرجل في الصلاة فرضا ورأوا الاستسعاء فرضا ولم يروا الإيتاء من مال الله للمكاتب فرضا ولا مكاتبة من دعا إلى المكاتبة فرضا وكل ذلك مأمور به ورأوا تمتيع المطلقة التي لم تمس ولم يفرض لها صداق فرضا بقوله {فمتعوهن} ولم يروا ذلك فرضا لسائر المطلقات وقد قال تعالى {وللمطلقات متاع بلمعروف حقا على لمتقين} ومثل هذا كثير

الباب الثالث عشر في حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم وإبطال قول من قال في كل ذلك بالوقفأو الخصوص إلا ما أخرجه عن العموم دليل حق

ورأى الشافعيون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرضا ولم يروا التكبير في الركوع والرفع فرضا وقد جاء به الأمر ورأوا النية في الوضوء فرضا ولم يروا فعل الاستنثار فرضا وبكل ذلك جاء الأمر سواء ورأوا الخيار قبل التفرق في البيع فرضا ولم يروا الإشهاد فيه فرضا وبكل ذلك جاء الأمر ومثل هذا كثير ورأوا الإيتاء من مال الله للمكاتب فرضا ولم يروا كتابة من دعا إلى المكاتبة مما ملكت أيمانكم فرضا وكلاهما جاء به الأمر مجيئا مستويا وفيم ذكرنا طرف يستدل به على تناقض من قال بالوقف وبالله تعالى التوفيق وقد ذكرنا أقسام الأوامر في كتاب التقريب فأغنى عن إعادتها وسنذكر إن شاء الله تعالى الدلائل المخرجة للأمر عن موضوعه في الإيجاب إلى سائر أقسامه في فصل آخر باب العموم التالي لكلامنا في هذا إن شاء الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والله الموفق للصواب الباب الثالث عشر في حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم وإبطال قول من قال في كل ذلك بالوقفأو الخصوص إلا ما أخرجه عن العموم دليل حق قال علي اختلف الناس في هذا الباب فقالت طائفة لا تحمل الألفاظ إلا على الخصوص ومعنى ذلك حملها على بعض ما يقتضيه الاسم في اللغة دون بعض وقال بعضهم بل نقف فلا نحملها على عموم ولا خصوص إلا بدليل فالقول الأول هو لبعض الحنفيين وبعض المالكيين وبعض الشافعيين والثاني لبعض الحنفيين وبعض المالكيين وبعض الشافعيين وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه وهو كل ما يقع عليه لفظه المرتب في اللغة

للتعبير عن المعاني الواقعة تحته ثم اختلفوا على قولين فقالت طائفة منهم إنما يفعل ذلك بعد أن ينظر هل خص ذلك اللفظ شيء أم لا فإن وجدنا دليلا على ذلك صرنا إليه وإلا حملنا اللفظ على عمومه دون أن نطلب على العموم دليلا وهذا قول بعض الشافعيين وبعض الحنفيين وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه وكل ما يقتضيه اسمه دون توقف ولا نظر لكن إن جاءنا دليل يوجب أن نخرج عن عمومه بعض ما يقتضيه لفظه صرنا إليه حينئذ وهذا قول جميع أصحاب الظاهر وبعض المالكيين وبعض الشافعيين وبعض الحنفيين وبهذا نأخذ وهو الذي لا يجوز غيره وإنما اختلف من ذكرنا على قدر ما بحضرتهم من المسائل على ما قدمنا من أقوالهم فيما خلا فإن وافقهم القول بالخصوص قالوا به وإن وافقهم القول بالعموم قالوا به فأصولهم معكوسة على فروعهم ودلائلهم مرتبة على ما توجبه مسائلهم وفي هذا عجب أن يكون الدليل على القول مطلوبا بعد اعتقاد القول وإنما فائدة الدليل وثمرته إنتاج ما يجب اعتقاده من الأقوال فمتى يهتدي من اعتقد قولا بلا دليل ثم جعل يطلب الأدلة بشرط موافقة قوله وإلا فهي مطرحة عنده قال علي وكل ما ذكرنا أنه يدخل على القائلين بالوقف أو التأويل في صرف الأوامر عن الوجوب وصرف الألفاظ عن ظواهرها فهو أدخل على من قال بالوقف أو الخصوص ههنا ويدخل عليهم أيضا أشياء زائدة قال علي فما احتج به من ذهب إلى أن اللفظ لا يحمل على عمومه إلا بعد طلب دليل على الخصوص أو إلا بدليل على أنه على العموم أن قالوا ليست الألفاظ مقتضية للعموم بصيغها لما وجدت أبدا إلا كذلك كما لا يوجد اسم السواد على البياض فلما وجدنا ألفاظا ظاهرها العموم والمراد بها

الخصوص علمنا أنها لا تحمل على العموم إلا بدليل قال علي وقد تقدم إفسادنا لهذا الاستدلال فيما خلا من القول بالوجوب وبالظاهر ونقول ههنا إنه ليس وجودنا ألفاظا منقولة عن موضوعها في اللغة بموجب أن يبطل كل لفظ ويفسد وقوع الأسماء على مسمياتها ولو كان ذلك لكان وجودنا آيات منسوخة لا يجوز العمل بها موجبا لترك العمل بشيء من سائر الآيات كلها إلا بدليل يوجب العمل بها من غير لفظها ومن قال هذا فقد كفر بإجماع ومن لم يقله فقد تناقض ودل على فساد مذهبه وأما قولهم كما لا يوضع اسم السواد على البياض فقد يوضع أسود على غير اللون فيقال فلان أسود من فلان من معنى السيادة وليس ذلك بمبطل أن يكون السواد موضوعا لعدم الألوان وقد يقال للأسود أبو البيضاء وليس ذلك بمبطل أن يكون البياض موضوعا للون المفرق للبصر وقد احتج عليهم بعض من تقدم من القائلين بالعموم فقال ليس إلى وجود لفظ عام يراد به الخصوص سبيل البتة إلا بدليل وارد يبين أنه منقول عن مرتبته إلى غيرها كالدليل على تخصيص قوله تعالى {تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي لقوم لمجرمين} فصح بالنص وبالظاهر وبمقتضى اللفظ أنها لم تدمر من الأشياء إلا ما أمرت بتدميره وهذا لفظ خصوص لبعض الأشياء لا لفظ عموم لجميعها لكنه عموم لما قصد به قال وكذلك كل لفظ عموم أريد به الخصوص قال فلما صح ذلك بطل ما احتجوا به من وجودهم لفظا ظاهره العموم المطلق ويراد به الخصوص قال علي واحتجوا أيضا فقالوا لم نجد قط خطابا إلا خاصا لا عاما فصح أن كل خطاب فإنما قصد به من بلغه الخطاب من العاقلين البالغين خاصة دون غيرهم قال علي هذا تشغيب جاهل متكلم بغير علم ليت شعري أين كان عن

قوله {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وأيضا فإن الذي ذكر من توجه الخطاب إلى البالغين العقلاء العالمين بالأمر دون غيرهم فإنما ذلك بنص وارد فيهم فهو عموم لهم كلهم ولم نعن بقولنا بالعموم كل موجود في العالم وإنما عنينا كل من اقتضاه اللفظ الوارد وكل ما اقتضاه الخطاب فعلى هذا قلنا بالعموم وإنما أردنا حمل كل لفظ أتى على ما يقتضي ولو لم يقتض إلا اثنين من النوع فإن ذلك عموم لهما وإنما أنكرنا تخصيص ما اقتضاه اللفظ بلا دليل أو التوقف فيه بلا دليل مثل قوله تعالى {ولا تقتلوا لنفس لتي حرم لله إلا بلحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في لقتل إنه كان منصورا} فقلنا هذا عموم لكل نفس حرمها الله من إنسان ملي أو ذمي لم يأتنا ما يوجب القتل لهما ومن قتل حيوانا نهي عن قتله إما لتملك غيرنا له أو لبعض الأمر ومثل قوله تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من لنسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا} فإنما أنكرنا استباحة نفس بلا دليل ونكاح ما نكح الآباء ومن خالفنا لزمه ألا ينفذ تحريم قتل نفس إلا بدليل وألا يحرم كثيرا مما نكح الآباء إلا بدليل من غير هذه الآية مبين لكل عين في ذاتها وهذا يخرج إلى الوسواس وإلى إبطال التفاهم وبطلان اللغة وبطلان الدين ومثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم البر بالبر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء والملح بالملح ربا إلا هاء وهاء والذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء والفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء فوجب حمل كل ذلك على كل بر وكل شعير وكل تمر وكل ملح وكل ذهب وكل فضة وكقوله عليه السلام كل مسكر حرام فوجب أن يحمل على كل مسكر وكل من تعدى هذا فقد أبطل حكم اللغة وحكم الديانة قال علي وشغبوا أيضا بآيات الوعيد مثل قوله تعالى {وإن لفجار لفي جحيم} {إنآ أنزلنا لتوراة فيها هدى ونور يحكم بها لنبيون لذين أسلموا للذين هادوا ولربانيون ولأحبار بما ستحفظوا من كتاب لله وكانوا عليه شهدآء فلا تخشوا لناس وخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لكافرون} قالوا وهي

غير محمولة على عمومها قال علي ولولا النصوص الواردة بقبول التوبة وبالموازنة وبغفران السيئات باجتناب الكبائر لوجب ضرورة حمل آيات الوعيد على ظاهرها وعمومها ولكن صرنا إلى بيان خطاب آخر وكذلك القول في الآية الأخرى وفي كل آية وخطاب حديث وخبر ونحن لا ننكر تخصيص العموم بدليل نص آخر أو ضرورة حس وإنما أنكرنا تخصيصه بلا دليل قال علي وسألونا أيضا فقالوا تعتقدون في أول سماعكم الآية والحديث قبل تفهمكم فالجواب إننا نعتقد العموم ولا بد من ذلك وإلا أننا في أول سماعنا وقبل تفقهنا لسنا مفتين ولا حكاما ولا منذرين حتى نتفقه فإذا تفقهنا حملنا حينئذ كل لفظ على ظاهره وعمومه وحكمنا بذلك وأفتينا وتدينا إلا ما قام عليه دليل أنه ليس على ظاهره وعمومه فنصير إليه ولو أن حاكما أو مفتيا لم يبلغه تخصيص ما بلغه من العموم لكان الفرض عليهما الحكم بالذي بلغهما من العموم والفتيا به وإلا فهما فاسقان حتى يبلغهما الخصوص فيصير إليه ثم نعكس عليهم هذا السؤال فنقول ماذا تعتقدون في الآية والحديث إذا سمعتموها قبل تفقهكم أتعتقدون في بطلان الطاعة لهما وأنهما منسوخان أو تعتقدون وجوب الطاعة لهما وأنهما مستعملان محكمان ما لم يقم دليل على نسخهما فإن قالوا نعتقد أنهما منسوخان وأنهما على الوقف فارقوا قول جميع المسلمين وأدى ذلك إلى إبطال جميع الشرائع ومفارقة الإسلام لأن الدليل الذي يطلب على بطلان النسخ ليس إلا آية أخرى أو نصا أو إجماعا ويلزمهم من الوقف في الآية الأخرى وفي الحديث الآخر أو من القول بأنهما منسوخان ما لزم في الخطاب الأول ولا فرق وهكذا أبدا ولزمهم الوقف أيضا في دعواهم الإجماع لعل ههنا خلافا فبطلت الديانة على

قولهم ووجب بهذا القول ألا يعمل أحد بشيء من الدين إذ لعل ههنا شيئا خصه أو شيئا نسخه وهذا خلاف دين الإسلام ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كل قول أدى إلى هذا وإن قالوا بل على أنهما محكمان حتى يقوم دليل على أنهما منسوخان رجعوا إلى الحق وهذا يلزمهم في القول بالوقف أو الخصوص ولا فرق قال علي وشغبوا أيضا فقالوا نحن في الخطاب الوارد كالحاكم شهد عنده شاهدان فلا بد له من السؤال عنهما والتوقف حتى تصح عدالتهما قال علي وهذا تشبيه فاسد لأن الشاهدين لو صح عندنا قبل شهادتهما أنهما عدلان فهما على تلك العدالة ولا يحل التوقف على شهادتهما والفرض إنفاذ الحكم بها ساعة يشهدان وكذلك ما أيقنا أنه خطاب الله تعالى أو خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم لنا وإنما نتوقف في الشاهدين إذا لم نعلمهما وكذلك نتوقف في الخبر إذا لم يصح عندنا أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحكم بشيء من ذلك قال علي ومما احتجوا به أن قالوا قال الله تعالى {تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي لقوم لمجرمين} قال تعالى {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كلرميم} وقال تعالى {إني وجدت مرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم} وقد علمنا أن الريح تدمر كل شيء في العالم وأن بلقيس لم تؤت كل شيء لأن سليمان عليه السلام أوتي ما لم تؤت هي قال علي وهذا كله لا حجة لهم فيه أما قوله تعالى {تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي لقوم لمجرمين} فإنا قد قلنا إن الله تعالى لم يقل ذلك وأمسك بل قال تعالى {تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي لقوم لمجرمين} فصح بالنص عموم هذا اللفظ لأنه تعالى إنما قال إنها دمرت كل شيء على العموم من الأشياء التي أمرها الله تعالى بتدميرها فسقط احتجاجهم بهذه الآية وأما قوله {ما تذر من شيء أتت عليه إلا

جعلته كلرميم} فهذه الآية مبطلة لقولهم لأنه إنما أخبر أنها دمرت كل شيء أتت عليه لا كل شيء لم تأت عليه فبطل تمويههم وأما قوله تعالى {إني وجدت مرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم} فإنما حكى تعالى هذا القول عن الهدهد ونحن لا نحتج بقول الهدهد وإنما نحتج بما قاله الله تعالى مخبرا به لنا عن علمه أو ما حققه الله تعالى من خبر من نقل إلينا خبره وقد نقل تعالى إلينا عن اليهود والنصارى أقوالا كثيرة ليست مما تصح فإن قال قائل فإن سليمان عليه السلام قال للهدهد {قال سننظر أصدقت أم كنت من لكاذبين} قلنا نعم ولكن لم يخبرنا الله تعالى أن الهدهد صدق في كل ما ذكر فلا حجة لهم في هذه الآية أصلا ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق إذا احتججتم بهذه الآيات في حمل القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص لا على العموم فالتزموا ذلك ولسنا نبعدكم عن هذه الآية التي احتججتم بها فنقول لكم قول الله تعالى {ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات لله وحاق به ما كانوا به يستهزئون} فأخبرونا على قوله تعالى في هذه الآية إن سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم لم تغن عنهم شيئا أهو على عمومه أم يقولون إنها أغنت عنهم شيئا فإن قلتم كذبتم ربكم وإن لم تقولوا تركتم مذهبكم الفاسد ومثل هذا في القرآن كثير جدا بل هو الذي لا يوجد غيره أصلا في شيء من القرآن والكلام إلا في مواضع يسيرة قد قام الدليل على خصوصها ولولا قيام الدليل على خصوصها لم يحل لأحد أن يحملها إلا على العموم وبالله تعالى التوفيق قال علي وموهوا أيضا بما هو عليهم لا لهم وهو تردد بني إسرائيل في أمره تعالى لهم بذبح البقرة قال علي ومن كان هذا مقداره في العلم فحرام عليه الكلام فيه لأن الله تعالى ذمهم بذلك التوقف أشد الذم أفيسوغ لمسلم أن يقوي مذهبه بأنه

موافق لأمر ذمه الله عز وجل ولو لم يكن في ترددهم إلا قولهم لموسى عليه السلام {وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين} جوابا لقوله {وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين} ومن خاطبه نبي عن الله عز وجل بأمر ما فجعله المخاطب هزوا فقد كفر قال علي فحسبهم وحسبنا لهم اقتداؤهم باليهود الحاملين كلام ربهم تعالى على أنه هزء واحتجوا بقوله {بديع لسماوات ولأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} وهو عز وجل غير مخلوق وبقوله تعالى {لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل} قال علي وإنما قال ذلك لهم بعض الناس وإنما كان الجامعون لهم بعض الناس لا كلهم قال علي نحن لا ننكر أن يرد دليل يخرج بعض الألفاظ عن موضوعها في اللغة بل أجزنا ذلك وهاتان الآيتان قد قام البرهان الضروري على أن المراد بخلقه تعالى كل شيء أن ذلك في كل ما دونه عز وجل على العموم وهذا مفهوم من نص الآية لأنه لما كان تعالى هو الذي خلق كل شيء ومن المحال أن يحدث أحد نفسه لضرورات براهين أحكمناها في كتاب الفصل صح أن اللفظ لم يأت قط لعموم الله تعالى فيما ذكر أنه خلقه وكذلك لما كان المخبرون لهؤلاء بأن {لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل} ناسا غير الناس الجامعين وكان الناس الجامعون لهم غير الناس المخبرين لهم وكانت الطائفتان معا غير المجموع لها علمنا أن اللفظ لم يقصد به إلا ما قام في العقل وإنما ننكر دعوى إخراج الألفاظ عن مفهومها بلا دليل وكذلك لا ننكر نسخ الأمر كله بدليل يقوم على ذلك وإنما ننكر دعوى النسخ بلا دليل قال علي وموهوا أيضا بأن قالوا لو كان للعموم صيغة تقتضيه ولفظ موضوع له لما كان لدخول التأكيد عليه معنى لأنه كان يكتفى في ذلك باللفظ الدال على العموم قال علي وهذا تعليم منهم لربهم أشياء استدركوها لا ندري ما ظنهم فيها

أنسيان أم فوات أم عمد وكل هذا كفر وهذا جري منهم على عادتهم في الحكم بالقياس في أشياء ادعوا أن ربهم تعالى لم يذكرها ولا حكم فيها ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ذلك ونقول إنه لا علم لنا إلا ما علمنا وأن التأكيد في اللغة موجود كثير كتكراره تعالى ما كرر من الأخبار وكتكراره عز وجل سورة واحدة {فبأي آلاء ربكما تكذبان} وغيرها إحدى وثلاثين مرة {يثبت لله لذين آمنوا بلقول لثابت في لحياة لدنيا وفي لآخرة ويضل لله لظالمين ويفعل لله ما يشآء} و {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} ولهذا أعظم الفائدة لأنه تعالى علم أنه سيكون في خلقه قوم أمثالهم يرومون إبطال الحقائق فحسم من دعاويهم ما شاء بالتأكيد وليقيم بذلك الحجة عليهم وترك التأكيد فيما شاء ليضلوا فيها ويستحق منهم من قلد وعاند العذاب الأليم ويؤجر من أطاع وسلم الأجر الجزيل بمنه وطوله لا إله إلا هو ولو أنه تعالى لم يكرر ما كرر من أخبار الأمم السالفة ومن أمره فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة في غير ما موضع ومن أمره تعالى بالإيمان واجتناب الكفر في غير ما سورة ومن ذكر النار والجنة في غير ما سورة فما كان ذلك مسقطا لوجوب ما وجب من ذلك كله إذ كرره ولكان ذلك واجبا بذكره مرة واحدة كوجوبه إذا ذكر ألف ألف مرة ولا فرق ولكان الشك في خبر ذكر مرة واحدة أو تكذيبه يوجب الكفر كوجوب الكفر بالشك فيما كرره ألف مرة وكوجوب الكفر بتكذيبه ولا فرق وقد ذكر تعالى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن ولم يذكر قصة يوسف عليه السلام إلا مرة واحدة ولا فرق عند أحد من الأمة بين صحة قصة يوسف وبين صحة قصة موسى عليهما السلام ومن شك في ذلك فهو كافر مشرك حلال الدم والمال فالتأكيد كالتكرار ولا فرق ولو لم يؤكد تعالى ما أكد لكان واجبا وعاما لا يقتضيه اسمه كوجوبه مع التأكيد ولا فرق وإنما معنى التأكيد كمعنى قول القائل أنا شهدت فلانا

ونظرت إليه بعيني هاتين وهو يفعل أمر كذا وقد علمنا أن النظر لا يكون إلا بالعينين وكذلك يقول سمعت بأذني والسمع لا يكون إلا بالأذنين ولو سكت عن ذلك لعلمنا من خبره كالذي علمنا إذا ذكر العينين والأذنين ولا فرق وأيضا فإن الاستثناء جائز بعد التأكيد كجوازه قبل التأكيد فنقول رأيت الوجوه إلا فلانا فلو كان التأكيد مخرجا للكلام عن الخصوص إلى العموم لما جاز فيه الاستثناء فصح أنه بمنزلة التكرار ولا فرق قال علي ثم نعكس عليهم سؤالهم الفاسد فنقول لهم لو جاز أن تكون صيغة العموم للخصوص لما جاز أن يدخل عليها للتأكيد فينقلها إلى العموم وهذا لهم لازم لأنهم صححوا هذا السؤال فكل من صحح القضية فهي لازمة له وليست لازمة لمن يصححها ولا ابتدأ السؤال قال علي ولو صح قولهم لوجب أن يكون كل شيء انتقل عن حاله باطلا وأن يكون ذلك الانتقال دليلا على أن المنتقل لم يكن حقا لأنه يلزمهم أن الشيء لو كان حقا لما صار باطلا ولما قام دليل على بطلانه ونحن نجد الحياة للإنسان باتصال النفس في الجسد ثم تذهب تلك الحياة وتبطل بيقين فيلزمهم إذ قالوا لو كان العموم حقا لما انتقل لفظه إلى خصوص أن يقولوا لو كانت الحياة حقا لما انتقل حاملها إلى الموت هذا مع افتقار دليلهم هذا إلى دليل وأنه دعوى مجردة ساقطة لأن دعواهم أن انتقال الشيء عن مرتبته مبطل لكونها مرتبة لها دعوى ساقطة يشبه سؤال السوفسطائية واليهود وقد أبطلنا استدلالهم في ذلك في كتاب الفصل بحمد الله تعالى قال علي وقالوا أيضا لو كان العموم حقا لما حسن الاستثناء منه وصرفه بذلك إلى الخصوص قال علي وهذا غاية التمويه لأن العموم صيغة ورود اللفظ الجامع

لأشياء ركب ذلك اللفظ عليها فإذا جاء الاستثناء كان ذلك اللفظ مع الاستثناء معا صيغة للخصوص وهذا نص قولنا فورود الاستثناء عبارة عن الخصوص وعدم الاستثناء عبارة عن العموم قال علي ثم يعكس عليهم هذا السؤال نفسه فيقال لهم لو كان للخصوص صيغة لما كان للاستثناء معنى لأنه لم يكن يستفاد به فائدة أكثر مما يفهم من اللفظ قبل ورود الاستثناء وقد قدمنا أنه إنما يلزم القضية من صححها وسأل بها وأما نحن فهذه كلها سؤالات فاسدة ولكنها لهم لازمة إذا ابتدؤوا بالسؤال بها وقالوا أيضا لو كان اللفظ يقتضي العموم ما حسن فيه الاستفهام أخصوصا أراد أم عموما فلما حسن فيه الاستفهام علمنا أنه لا يقتضي العموم بنص لفظه قال علي وهذا كالأول وإنما يحسن الاستفهام من جاهل بحدود الكلام واستفهام المستفهم عن الآية أو الحديث مذموم وقد أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اتركوني ما تركتكم ثم نعكس عليهم هذا السؤال نفسه فنقول لهم لو كان اللفظ يفهم منه الخصوص لما كان للاستفهام معنى قالوا ألا ترى أن السؤال والاستفهام لا يحسن في الخبر عن الواحد لأنه مفهوم من نص لفظه قال علي وهذا خطأ لأن الاستفهام يحسن في الواحد كحسنه في العموم وذلك أن يقول القائل أتاني اليوم زيد فيقول السامع أجاءك زيد نفسه إما على سبيل الإكبار وإما على سبيل السرور أو على بعض الوجوه المشاهدة وهذا أمر معلوم لا ينكره ذو عقل وقد يحسن ذلك الشريعة أيضا من طالب راحة أو تخفيف كما سأل ابن أم مكتوم إذ نزلت آية المجاهدين فطلب أن يخرج له عذر من عموم اللفظ الوارد وقد كان له كفاية في غير هذه

الآية في قوله تعالى {ليس على لضعفآء ولا على لمرضى ولا على لذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على لمحسنين من سبيل ولله غفور رحيم} وما أشبه ذلك وكسؤال العباس في الإذخر فاستثنى من العموم في النهي عن أن يختلى خلا الحرم بمكة وقد يحسن أيضا الاستفهام في العدد كقول القائل أتاني عشرة من الناس في أمر كذا فيقول له السامع أعشرة فيقول نعم وذلك نحو قول الله عز وجل {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} فقد كنا نعلم لو لم يذكر تعالى العشرة إن ثلاثة وسبعة عشرة وقد كنا نعلم بقوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} إنها عشرة ولكنه تعالى ذكر {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} 2 كما شاء فلما صح كل ما ذكرناه وحسن الاستفهام عن اسم واحد وعن العدد وهو لا يحتمل صرفا عن وجهه أصلا ولم يكن ذلك مجيزا لوقوع اسم الواحد على أكثر من واحد وكذلك في العدد لم يكن أيضا وقوع الاستفهام في العموم موجبا لإسقاط حمله على العموم وبالله تعالى التوفيق وقالوا أيضا أرأيتم قولكم بالعموم أبعموم قلتموه وعلمتم صحته أم بغير عموم قال علي وهذا من الهذيان الذي قد تقدم إبطالنا إياه في كلامنا في حجة العقل وهو سخف أتى به بعض السوفسطائيين القاصدين إبطال الحقائق وهو ينعكس عليهم في قولهم بالخصوص وفي قولهم بالوقف فيقال لهم أرأيتم قولكم بالوقف أبوقف قلتموه وعلمتموه أم بغير وقف وأرأيتم قولكم بالخصوص أبخصوص قلتموه وعلمتموه أم بغير خصوص والجواب الصحيح المبين لجهلهم هو أننا نقول وبالله تعالى التوفيق إنما قلنا بالعموم استدلالا بضرورة العقل الحاكم بأن اللغة إنما هي رتبت لكل معنى في العالم عبارة مبينة عنه موجبة للتفاهم بين المخاطب والمخاطب ولأننا وجدنا الأجناس العامة للأنواع الكثيرة ووجدنا الأنواع العامة للأشخاص الكثيرة يخبر

عنها بأخبار وترد فيها شرائع لوازم فلا بد ضرورة من لفظ يخبر به عن الجنس كله وهذا لا بد منه وإلا بطل الخبر عن الأجناس وهذا ما لا سبيل إليه أصلا ولا بد أيضا من لفظ يحضر به عن بعض ما تحت الجنس ليفهم المخاطب بذلك ما يريد ومبطل هذا مبطل للعيان جاحد للضرورات وسألوا أيضا فقالوا إن كان قولكم بالعموم والظاهر حقا فما قولكم فيمن سمع آية قطع يد السارق وآية جلد الزناة وآية تحريم المرضعات لنا والراضعات معنا ولم يسمع أحاديث التخصيص لكل ذلك ولا آية التخصيص للإماء أتأمرونه بقطع يد من سرق فلسا من ذهب وبجلد الأمة والعبد مائة مائة إذا زنيا وتحرمون من أرضعت رضعتين وتقولون إنه مأمور من عند الله تعالى بذلك فلزمكم القول بأنه مأمور بما لم يأمر به والقول بأنه مأمور بالباطل أو تأمرونه بألا ينفذ شيئا من ذلك حتى يطلب الدليل فيتركون القول العموم بالظاهر قال علي فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى لم يأمر قط بقطع سارق أقل من ربع دينار ذهبا ولا حرم قط من أرضعت أقل من خمس رضعات ولا أمر قط بجلد العبد والأمة أكثر من خمسين لأن الرسول عليه السلام قد بين كل ذلك وكلامه عليه السلام وكلام ربه سواء في أنه كله وحي وفي أنه كله لازمة طاعته فالآيات التي ذكروا والأحاديث المبينة لها مضموم كل ذلك بعضه إلى بعض غير مفصول منه شيء عن آخر بل هو كله كآية واحدة أو كلمة واحدة ولا يجوز لأحد أن يأخذ ببعض النص الوارد دون بعض وهذه النصوص وإن فرقت في التلاوة فالتلاوة غير الحكم ولم تفرق في الحكم قط بل بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع ورود الآي معا ولا يفرق بين قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا

أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} مع قوله عليه السلام لا قطع في أقل من ربع دينارفصاعدا وبين قوله تعالى {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم لطوفان وهم ظالمون} وكذلك لا فرق بين قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} وبين نزول خمس رضعات محرمات ناسخة لعشر محرمات وبين قول القائل لا إله إلا الله فلا يجوز أن يفصل شيء من ذلك في الحكم عن بيانه كما لا يحل لأحد أن يأخذ القائل لا إله إلا الله في بعض كلامه دون بعض فيقضي عليه بقوله لا إله بالكفر لكن نضم كلامه كله بعضه إلى بعض فنأخذه بكلامه وكذلك إذا نزلت الآية المجملة أتى بعقبها الأحاديث المفسرات فكان ذلك مضمونا بعضه إلى بعض ومستثنى بعضه من بعض ومعطوفا بعضه على بعض فبطل ما راموا أن يموهوا به وصح أنه سؤال فاسد وأن الذين خوطبوا بالآيات المذكورات خوطبوا ببيانها معا وأما نحن فكل إنسان منا فلا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون لم يتفقه في الدين أو يكون قد تفقه في الدين ولا سبيل إلى وجه ثالث فالذي لم يتفقه في الدين وليس من الذين خاطبهم الله بقوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} ولا من الذين خوطبوا بالفتيا والحكم في تحريم المرضعات ولا من المأمورين بجلد الزناة وإنما أمر بذلك كله الفقهاء والحكام العالمون باللغة والفقه بلا خلاف من أحد من المسلمين في ذلك وقد بين تعالى ذلك بقوله {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فصح بالنص أنه ليس كل أحد مأمورا بالتفقه في غير ما يخصه في نفسه فصح بما ذكرنا أن المأمورين بتنفيذ الأحكام والفتيا في الدين الفقهاء الذين قد سمعوا النصوص كلها وعرفوها وعرفوا الإجماع والاختلاف وأن كل من كان بخلاف هذه الصفة فلم يأمر قط بقطع من سرق جبالا من ذهب ولا بأن يفتي في تحريم من أرضعت ألف رضعة ولا بجلد زان

حرا أو عبدا وكل متفقه فقبل أن يكمل تعلم النصوص والإجماع فهو غير مأمور ولا مخاطب بالحكم في شيء ولا بالفتيا في شيء لكنه مأمور بالطلب والتعليم فإذا فقه فحينئذ لزمه تنفيذ ما سمع على عمومه وظاهره ما لم يأت نص بنسخ أو تخصيص أو تأويل فبطل سؤالهم بطلانا ظاهرا والحمد لله تعالى ولكنا نقول لو أن امرأ سمع هذه الآيات ولم يسمع ما خصصها لكان حكى العمل بما يبلغه التخصيص فيلزمه حينئذ كما قلنا في المنسوخ سواء بسواء وليس بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أحاط بجميع العلم وإنما يلزم كل واحد ما بلغه وقد رجم عثمان التي ولدت لستة أشهر وقد أمر عمر برجم مجنونة حتى نهاه علي عن ذلك وأخبره بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن القلم مرفوع عن المجنون قال علي وهم تناقضوا في هذه الآيات بلا دليل فحملوا بعضها على العموم وبعضها على الخصوص فتركوا قولهم بالوقف وحملوا على العموم ما قد صح الخصوص فيه واعترضوا أيضا بأن قالوا لما كان المعهود أن يقول القائلون جاءني بنو تميم وفسد الناس ولا خير في واحد وذهب الخلق وذهب الوفاء ولا يكون ذلك كذبا وقد تيقنا أنه لم يرد بذلك جميع بني تميم ولا جميع الناس ولا جميع الأحدين ولا جميع الخير ولا جميع الخلق ولا الوفاء كله صح الخصوص قال علي وهؤلاء القوم لا ندري مع من يتكلمون ونحن لم ننكر أن يكون في اللغة ألفاظ يقوم الدليل على أنها مخصوصات وكل ما ذكروا فقد قام الدليل على أنه ليس على عمومه كما قام الدليل على أن آيات كثيرة أنها منسوخة لا يحل العمل بها فلما لم يكن كل ذلك واجبا أن تحمل النسخ من أجله على سائر الآيات لم يكن أيضا واجبا أن نحمل التخصيص على كل لفظ من

أجل وجودنا ألفاظا كثيرة قد قام الدليل على أنها مخصوصة ولكن القوم يسوموننا إذا وجدنا لفظا منقولا عن موضوعه في اللغة أن نحكم بذلك في كل لفظ وفي هذا إبطال اللغة كلها وإبطال التفاهم وإيجاب للحكم بلا دليل والدليل الذي قام على تخصيص ما ذكروا علمنا أنه لو أراد به العموم لكان كاذبا وأما لو أمكن أن يكون صادقا لما انتقل عن عمومه إلا بدليل قال علي وقالوا أيضا قد اتفقنا على وجوب استعمال الخطاب على بعض ما اقتضاه واختلفنا في سائره فلا يلزمنا إلا ما اتفقنا عليه قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا اعتراض فاسد من وجوه كثيرة أحدها أنه خلاف النصوص والعقول والإجماع لأن الأمة مجمعة والعقول قاضية والنصوص من القرآن والسنن واردة كل ذلك متفق أن ما قام عليه دليل برهاني فواجب المصير إليه وإن اختلف الناس فيه وواجب ألا نقتصر على ما أجمع عليه دون ما اختلف فيه إلا في المسائل التي لا دليل عليها إلا الإجماع المجرد المنقول إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا فقد قال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فأمر تعالى عند التنازع بالرد إلى القرآن والسنة ودلائلهما قد قامت بوجوب حمل الألفاظ على موضوعها في اللغة وأيضا فإن هذا من سؤالات اليهود إذ قالوا قد وافقتمونا على نبوة موسى عليه السلام وخالفناكم في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا سؤال فاسد لأن الدلائل التي أوجبت تصديق موسى عليه السلام هي التي أوجبت تصديق محمد صلى الله عليه وسلم فإن لم يجب بها تصديق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لم يجب بها تصديق نبوة موسى عليه السلام وكذلك الدلائل التي دلت

على حمل لفظ الخصوص هي التي دلت على حمل العموم على العمل والدلائل التي دلت على حمله على سائره الذي خالفتمونا فيه ولا فرق وأيضا فإنهم مناقضون لهذا القول لأنه كان يلزمهم على ذلك ألا يقتلوا مشركا إلا مشركا اتفقوا على قتله وهم لا يفعلون لأن قائل هذا إن كان مالكيا فقد ناقض لأنه لم يقتل المرأة المرتدة ولم يتفق على قتلها ويقتل ولد المرتد الحادث له الردة إذا بلغ ولم يسلم وابن ابنه كذلك ولم يتفق على قتلهم ويقتل المشرك إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتفق على قتله وإن كان شافعيا فكذلك أيضا ويقتل زائدا على من ذكرنا من خرج من اليهودية إلى النصرانية ومن خرج من النصرانية إلى اليهودية إلا أن يسلم وإن كان حنفيا فهم يقتلون المسلم المختلف في قتله إذا قتل كافرا بعموم قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} وأن من تورع عن قتل كافر قد أباح الله تعالى قتله وجاء النص بقتله وأقدم على قتل مسلم قد حرم الله دمه عموما وخصوصا بعموم آية لم نخاطب بها ولا ألزمنا الحكم بما فيها لعظيم الجرم قليل الورع مقدم على أكبر الكبائر وبالله تعالى التوفيق وكذلك إن قال لا أقطع إلا سارقا اتفق على قطعه فهم أيضا ينكرون ذلك لأنهم نعني المالكيين يقطعون في أقل من عشرة دراهم وليس متفقا عليه ويقطعون في الزرنيخ والنورة والفاكهة واللحم وليس القطع في ذلك إجماعا والحنفيون يقطعون من سرق شيئا مغصوبا من مال الغاصب وليس قطعهم إجماعا ويلزمهم بهذا القول إلا يقولوا إلا بما أجمع عليه قال علي وهم لا يفعلون ذلك البتة فقد أفسدوا دليلهم وبالله تعالى التوفيق فإنه يقال لهم أبنص صح عندكم هذا القول أم بإجماع فإن قالوا

بنص أو ذكروا دليلا ما كذبوا وادعوا ما لا يجدون أبدا وكانوا مع كذبهم قد تركوا قولهم بألا يقولوا إلا بما أجمع عليه لأنهم يقولون بالنص وإن خالف الإجماع وإن قالوا قلنا ذلك بإجماع كذبوا وجاهروا وبالجملة فهذا مذهب لم يخلق له معتقد قط وهو ألا يقول القائل بالنص حتى يوافقه الإجماع بل قد أصبح الإجماع على أن قائل هذا القول معتقدا له كافل بلا خوف لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف بين أحد في وجوب طاعتها قال علي وقالوا أيضا إن على المراد بالكلام دلائل تدل على الرضا والسخط من تغيير اللون وحدة الأمر والنجه والبشر قيل لهم وبالله تعالى التوفيق ليس هذا مما نحن فيه ولا كون هذه الأحوال مما يمنع من إخراج الأمر على العموم ثم نعكس عليهم هذا في قولهم بالخصوص والوقف فيلزمهم الوقف إلى أن يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وفي هذا إبطال الدين والخروج عن الإسلام وتشبه هذه التساؤلات أن تكون سؤالات ملحد جاهل قليل الحياء وقالوا أيضا إنكم اعتقدتم العموم فيما أراد الله تعالى به الخصوص فقد خالفتموه عز وجل قيل لهم وأنتم إن أردتم الخصوص فيما أراد الله تبارك وتعالى العموم فقد خالفتموه عز وجل وإن اعتقدتم الوقف فيها حكم الله تعالى فيه بما حكم من عموم أو خصوص فلا بد من أحدهما فقد خالفتم الله عز وجل بيقين لا شك فيه ولا شك في أن الله تعالى لم يرد قط في شيء من أحكامه وقفا بل أنفذ تعالى الحكم بما أنفذ وأيضا فنحن قاطعون على أن كل أمر لم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس على عمومه فهو على

عمومه بلا شك ولا مرية نقطع على ذلك عند الله عز وجل ونقطع أيضا بأن كل من بلغه العموم ولم يبلغه الخصوص أو بلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ فإن الله تعالى لم يلزمه قط إلا ما بلغه لا ما لم يبلغه قال تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} ونقطع بأن هذا كله هو الحق عند الله عز وجل لنصه تعالى على أن عليه بيانه فما لم يبين على غير وجهه فقد تيقنا على أنه مراد منا على اقتضاء لفظه ولا بد قال علي فهذه اعتراضاتهم كلها قد استوعبناها ونقضناها وبينا فسادها كلها وانعكاسها عليهم من فسادها بحمد الله تعالى ونحن الآن شارعون بتوفيق الله تعالى لنا وعونه إيانا في إيراد البراهين على بطلان قولهم ووجوب حمل الألفاظ على عمومها وبالله تعالى التوفيق قال علي واحتج من سلف من القائلين بالعموم المخالفين في ذلك فقال لو كان الخطاب على الوقف أو الخصوص حتى يقوم الدليل على العموم لكان ذلك الدليل لا ينفك ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما وإما أن يكون لفظا بخطاب أو معنى مستخرجا من خطاب فإن كان خطابا فالخطاب الثاني كالأول ولا فرق إن كان يدل بنفسه على العموم فالأول مثله وإن كان الأول لا يدل بنفسه على أنه على العموم فالثاني لا يدل أيضا وإن كان معنى مستخرجا من خطاب فلا يجوز أن يكون المعنى المستخرج من الخطاب أقوى من الخطاب الذي منه استخرج وهذا يقتضي وجوب خطابات لا نهاية لها وهذا ممتنع لا سبيل إليه ويؤدي أيضا إلى إبطال فهم كل خطاب أصلا وقالوا أيضا إننا وجدنا في اللغة أسماء للواحد لا تتعداه كزيد وكرجل من شأنه وصفته فلا يعقل منه أكثر من واحد ووجدنا فيها أسماء التثنية لا تقع على واحد ولا على أكثر من اثنين ووجدنا أيضا لفظا للجمع الزائد على الاثنين فكان ذلك واقفا على كل ما يقتضيه الجمع إلا أن

يأتي بيان باستثناء أو بصفة أو بعدد يختص بذلك بعض الجمع دون بعض فتصير إليه وقالوا يقال لمن قال بالخصوص ما معنى قولكم هذا خصوص فلا جواب لهم إلا أن يقولوا هو حمل للاسم على بعض ما يقتضيه دون بعض مثل قوله تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} فيقولون هذا على بعض المشركين دون بعض فيقال لهم فبأي شيء استحق عندكم هذا البعض الذي حملتم اللفظ عليه أن يكون محمولا عليه ذلك اللفظ دون سائر من أخرجتم عنه وما الفرق بينكم وبين من قال بل اللفظ محمول على الذي أخرجتم عنه أنتم وغير محمول على الذين حملتموه أنتم عليه فإن قالوا الدليل كذا صاروا إلى أن التخصيص إنما كان بدليل غير حمل اللفظ على بعض ما يقتضيه دون بعض بغير دليل وهذا الأمر لا ننكره بل نقول متى قام الدليل على التخصيص صرنا إليه وبطل بهذا حمل الاسم على بعض ما يقتضيه دون بعض بغير دليل فذلك ما أردنا أن نبين وهذا ترك منهم لمذهبهم الفاسد وإن لم يكن بأيديهم إلا الاقتصار على التخصيص لمن خصوا بلا دليل حصلوا على التحكم والدعوى وكل دعوى بلا دليل فهي ساقطة وبالله تعالى التوفيق احتجوا على القائلين بالوقف فقالوا هذا القول إلى متى يكون فإن حدوا حدا كانوا متحكمين بلا دليل وإن قالوا حتى ننظر في دلائل القرآن والسنة سألناهم فقلنا لهم فإن لم تجدوا دليلا على عموم ولا خصوص ولم تجدوا غير اللفظ الوارد ماذا تصنعون فإن قالوا نقف أبدا أقروا بالعصيان ومخالفة الأوامر وأدى قولهم إلى أن الله يبين مراده وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين ولم يبلغ وهذا كفر وإن قالوا

إن لم نجد دليل على الخصوص صرنا إلى العموم فقد رجعوا إلى ما نكروا وأقروا بأنهم إنما حملوا الكلام على العموم بصيغته ولفظه وبعدم الدليل على الخصوص وهذا هو نفس قولنا الذي أبوه أولا عادوا إليه من قريب فإن قال قائل إن هذا لا يوجد لزمهم السؤال الذي سألنا به أولا من قولنا لهم هل يخلو الدليل من أن يكون لفظا آخر أو معنى مستخرجا من لفظ وألزمهم إيقاظ التفاهم أبدا وأيضا فإن ذلك موجود وقد قال تعالى {إن لله يأمركم أن تؤدوا لأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين لناس أن تحكموا بلعدل إن لله نعما يعظكم به إن لله كان سميعا بصيرا} ولم تؤكد بشيء أصلا وهذا عندهم محمول على عمومه وقد قال تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من لنسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا} ولم يأت بتوكيد زائد فحملوه على عمومه دون دليل غيره وارد اللفظ فقط ومثل هذا كثير جدا بل هو الأكثر في القرآن والسنة وإنما ادعوا الخصوص في مسائل يسيرة وليس هذا مكان احتجاجهم بقرينة الوعيد لأننا إنما نكلمهم في عموم كل ما اقتضاه اللفظ لا في الوجوب وقد حمل مالك قوله تعالى {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} على عموم جميع المساجد بنص اللفظ لا بدليل زائد ولا بيان وارد وحمل قوله تعالى {ولذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهدآء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بلله إنه لمن لصادقين} على جميع الأزواج بلا دليل زائد وليس شيء من ذلك إجماعا وحمل هو وأبو حنيفة قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} على عمومه في النكاح والوطء بملك اليمين وحملوا كلهم أيضا قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} على عموم بلا دليل بل الدليل قام على خصوص ذلك فأبوا من قبوله فبان تناقضهم في ذلك وبالله تعالى التوفيق قال علي ويلزمهم أيضا ألا يحكموا بالإجماع إذ لعل ههنا خلافا لم يبلغهم ولا يحكموا بنص إذ لعله منسوخ ولا يقاس لأن القياس لا يكون إلا على نص أو إجماع والوقف واجب في النقص والإجماع فبطل الدين كله

على قول هؤلاء القوم قال علي ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من خص بالخطاب بعض الأزمان دون بعض كما خصصتم أنتم بعض الأعيان دون بعض فإن قالوا إن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليحكم في كل زمان قيل لهم وكذلك أيضا بعث عليه السلام ليحكم على كل أحد في كل عين ولا فرق قال علي وقد بينا في غير ما مكان أن اللغة إنما وضعت ليقع بها التفاهم فلا بد لكل معنى من اسم مختص به فلا بد لعموم الأجناس من اسم ولعموم كل نوع من اسم وهكذا أبدا إلى أن يكون لكل شخص اسمه ومن سعى في إبطال هذا فهو سوفسطائي على الحقيقة عاكس للأمور على وجوهها مفسد للحقائق ويأبى الله إلا أن يتم نوره قال علي ولا فرق بين الأخبار بالأوامر في كل ذلك وكل اسم فهو يقتضي عموم ما يقع تحته ولا يتعدى إلى غير ما يقع تحته والوعد والوعيد في كل ذلك كسائر الخطاب ولا فرق والحديث والقرآن كله كاللفظة الواحدة فلا يحكم بآية دون أخرى ولا بحديث دون آخر بل بضم كل ذلك بعضه إلى بعض إذ ليس بعض ذلك أولى بالاتباع من بعض ومن فعل غير هذا فقد تحكم بلا دليل ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال لعل الخطاب الوارد إنما خص به الصحابة دون غيرهم فكل ما قالوا ههنا فهو مردود عليهم في دعواهم خصوص بعض ما يقع عليه الخطاب دون بعض ويقال لهم بأي شيء استجزتم قتل من قتلتم من المشركين وقطع من قطعتم من السراق وجلدتم من جلدتم من الزناة وحد من حددتم من القذفة وخصصتموهم بإيقاع هذه الأحكام عليهم دون سائر من يقع عليه اسم زان أو قاتل أو قاذف أو سارق فهل ههنا إلا أنهم سرقوا وقتلوا وزنوا

وقذفوا فهكذا فعل غيركم ممن أخرجتموه من الخطاب وأسقطتم عنه ما حملتم على هؤلاء فلأي معنى خصصتم من أمضيتم عليه الحكم دون من لم تمضوه عليه فإن قالوا بدلائل دلت على ذلك لم نأب ذلك وقلنا لهم هذا قولنا وحسبنا أننا قد أزلناكم عن الحكم بالخصوص المجرد الذي هو الافتراء على الله عز وجل في الحكم عنه تعالى بما لم يأذن به وقد رام قوم أن يفرقوا بين الأوامر والأخبار واحتجوا بأنهم مضطرون إلى العمل بالأوامر وليست الأخبار كذلك وقال علي وهذا فرق فاسد لأننا مضطرون إلى وجوب اعتقاد صحة الأخبار وإلى الإقرار بها وهي التي وردت بها النصوص كما نحن مضطرون إلى العمل بالأوامر ولا فرق والاعتقاد الصحيح فعل الله تعالى في النفس والإقرار بالمعتقد فعل النفس بتحريكها آلات الكلام من اللسان والحنك ومخارج الحروف فلا بد لها من أن تخص بالإقرار بما اعتقدت أو تعم وخوف الخطأ في العمل في الأوامر كخوف الخطأ في الاعتقاد للأخبار على ما لا يجوز واعتقاد الباطل لا يجوز كما لا يجوز العمل بالباطل فصح أن الأخبار كالأوامر ولا فرق واحتج بعض من سلف من القائلين بالعموم على القائلين بالخصوص فقال ما تقولون في قوله تعالى {لله وخاتم} للنبيين من العرب دون غيرهم أم عموم بنفس اللفظ فإن قالوا خصوص كفروا وإن قالوا عموم بنفس اللفظ تركوا لمذهبهم الفاسد فإن ادعوا أن ذلك إجماع لزمهم ألا يقولوا إلا بما أجمع عليه فقط وقد قدمنا إفساد هذا القول فإنهم لو قالوا لكانوا بذلك خارجين عن الإجماع لأن الأمة مجمعة على أن الاقتصار على القول بالإجماع فقط دون الائتمار للنصوص وإن وقع فيها اختلاف حرام لا يفعله مسلم ولا يسع مسلم فعله والنص من القرآن والسنن جاء بوجوب طاعة النبي

صلى الله عليه وسلم وتحكيمه عند التنازع والاختلاف وأيضا فهم لا يفعلون ذلك فسقط تعلقهم بكل وجه بحمد الله تعالى فإن قالوا علمنا أنه عليه السلام آخر النبيين بقوله صلى الله عليه وسلم لا نبي بعدي قيل لهم وبالله تعالى التوفيق وهذا يحتمل من الخصوص ما تحمله سائر النصوص ولا فرق ولعله أنه أراد لا نبي بعدي من العرب أو في الحجاز أو إلى مائة عام أو ما أشبه ذلك كما زعمت العيسوية من اليهود والجرمدانية القائلون بتواتر الرسل والغالية التي قالت بنبوة علي ونزيع والمغيرة ومنصور الكسف بالكوفة وبيان وأبي الخطاب وأيضا فإن الإجماع إذ قد صح على ذلك فهو أعظم الحجج عليهم لإجماع الأمة على حمل هذا الخطاب على عمومه وكذلك يسألون عن قوله صلى الله عليه وسلم بعثت إلى الأحمر والأسود وهذا يحتمل من الخصوص ما احتمله {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وما احتمله قوله عز وجل {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فاجلدوهم ثمانين جلدة} فلأي معنى خصصتم أحد الخطابين بلا دليل وحملتم الآخر على عمومه بلا دليل إلا نفس اللفظ فقط واحتج عليهم بعض من سلف من القائلين بالعموم بأن قال إنكم متفقون على أن اللفظ إذا ورد فيه تأكيد فإنه محمول على عمومه قال فيقال لهم إن التأكيد يحتمل من الخصوص مثل ما يحتمل الخطاب المؤكد ولا فرق وقد جاء النص بذلك فقال تعالى {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} فجاء الاستثناء بعد تأكيدين اثنين

قال علي قال تعالى {ولكن حق لقول مني لأملأن جهنم من لجنة والناس أجمعين} ثم جاء الاستثناء بقوله {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون} وقال تعالى مخاطبا لإبليس {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} ثم جاء الاستثناء فيمن تاب عن اتباع إبليس وفيمن تساوت حسناته وسيئاته التي اتبع فيها إبليس فجاء التخصيص كما ترى بعد التأكيد فبطل احتجاجهم بالتأكيد ولزمهم ألا يحملوا خطابا على عمومه أبدا أكد أو لم يؤكد ولزمهم الوقف أبدا وألا ينتفعوا بتأكيد ولا غيره فإن قالوا إنه يلزمهم إذا ورد الاستثناء أن تقرروا بأن ذلك الخطاب أريد به الخصوص قلنا لهم وكذلك نقول ولسنا معترضين على ربنا تعالى ولا على نبينا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم إلا ما علمنا تعالى ولا ننكر صرفهما الألفاظ عن وجوهها ولا شرعهما الشرائع علينا ولا تحريم ما حرما ولا تحليل ما حللا ولو أمرانا بقتل آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا لسارعنا إلى ذلك مبادرين أو أمسكنا مقرين بالمعصية غير داعين إلى ضلالة ولا مصوبين لذنوبنا بل مستغفرين الله تعالى من ذلك راغبين في التوبة قال علي وما أخوفني أن يكون ملقي هاتين النكتتين من القول بالوقف في اتباع الظاهر وفي الوجوب وفي العموم وفي الفور ومن القول بصرف الألفاظ الواردة عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى تأويل بلا دليل وإلى سقوط الوجوب بلا دليل وإلى الخصوص بلا دليل وإلى التراخي بلا دليل كافرا مشركا زنديقا مدلسا على المسلمين ساعيا في إبطال الديانة فإن هذه الملة الزهراء الحنيفية السمحة كيدت من وجوه خمسة وبغيت الغوائل من طرق شتى ونصبت لها الحبائل من سبل خفية وسعي عليها بالحيل الغامضة وأشد هذه الوجوه سعي من تزيا بزيهم وتسمى باسمهم ودس لهم سم الأساود في

الشهد والماء البارد فلطف لهم في مخالفة القرآن والسنة فبلغ ما أراد ممن شاء الله تعالى خذلانه وبه تعالى نستعيذ من البلاء ونسأله العصمة بمنه لا إله إلا هو فلتسؤ ظنونكم أيها الناس بمن يحسن لكم مفارقة ظاهر كلام ربكم تعالى أو كلام نبيكم صلى الله عليه وسلم بغير بيان منها أو إجماع من جميع الأمة وبمن يزين لكم التأخر عن طاعتها ويسهل عليكم ترك الانقياد لهما ويقرب لديكم التحكم في خطابهما والفرق بينهما بطاعة بعض ومعصية بعض وهذا هو التخصيص الذي يدعونه بلا دليل وبالله نعتصم قال علي ويلزمهم إذا أجازوا تخصيص ألفاظ القرآن والسنن بلا دليل أو الوقف فيها أن يجيزوا مثل ذلك في الأعداد ولا فرق فيقفوا فيما أوجب الله تعالى من صيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار وكفارة القتل وكفارة الواطىء في شهر رمضان فلعله تعالى قد استثنى من الشهرين عشرة أيام في حديث لم يبلغهم أو بقياس لم ينتبهوا له بعد كما استثنى تعالى من مدة نوح عليه السلام في قومه خمسين عاما بعد ذكره عز وجل ألف سنة ومثل هذا لازم لهم في جميع ما خوطبوا به وهذا قول كما قدمنا ليس فيه إلا إبطال الديانة مع فاحش تناقضهم وأنه دعوى بأيديهم بلا دليل فإن قالوا هذا لا يجوز في الأعداد لأنه لو لم يكن الاستثناء متصلا بها لكانت كذبا قيل لهم وكذلك الأخبار إن لم يكن على عمومها ولم يأت نص آخر أو إجماع بتخصيصها كانت كذبا ولا فرق وكذلك الأوامر إن كان المراد بها الخصوص ولم يأت نص آخر ولا إجماع بتخصيصها كانت تعنيتا تعالى الله عن ذلك كله قال لهم بعض من سلف القائلين بالعموم فإذا لم يفهم من كل خطاب بمجرده ما اقتضاه لفظه فلعل قولك نقول بالوقف وقول من قال منكم نقول بالخصوص إنما أردتم به في بعض المواضع دون بعض ولعلكم أردتم

غير ما ظهر إلينا من كلامكم فإنكم تناظرونا دأبا في ألا نحمل الألفاظ على ظواهرها ولا على عمومها فأول ما ينبغي أن يستعمل هذا فيه ففي كلامكم فتجعلون في نصاب من لا يفهم عنهم مرادهم ولا يصح خطابهم وصحت السفسطة بعينها عليهم قال علي وكذلك يقال أيضا للقائلين بالوقف أو الندب أموجبون أنتم لحمل الأشياء الواردة من الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم على أنها غير واجبة وعلى الوقف فيها أم أنتم نادبون إلى ذلك فإن قالوا نحن موجبون لذلك قيل لهم فما الذي جعل كلامكم محمولا على الوجوب وكلام ربكم تعالى محمولا على غير الوجوب وهذا كفر شديد ممن اعتقده وضلال عظيم ممن تقلده وإن قالوا بل نحن نادبون إلى ذلك أقروا أنهم لا يلزمنا قبول قولهم وبالله تعالى التوفيق وأيضا قال علي قولهم بحمل الألفاظ على الخصوص إنما معناه بحملها على بعض ما يقتضيه لفظها قال علي وهذا أمر ليس في طاقة أحد فهمه والوقوف على حقيقته أبدا لأنه لا ندري أي أبعاض تلك الجملة يقبل ولا أيها يرد وليس بعضها أولى بحمل الحكم عليه من بعض فصار ذلك تكليفا لما ليس في الوسع وهذه هي السفسطة نفسها وإبطال الحقائق جملة وقد أكذبهم تعالى بقوله {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} ويقال لهم أيضا أرأيتم قول الله تعالى {وعلم آدم لأسمآء كلها ثم عرضهم على لملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين} لهذا التعليم الذي امتن الله تعالى به على أبينا آدم عليه السلام فائدة أم لا فائدة له فإن قالوا لا فائدة له كفروا وكذبتم الملائكة في إقرارهم بأن ذلك علم عظيم لم يكن عندهم حتى علمهم إياه الخالق عز وجل وإن قالوا إن لذلك التعليم فائدة سئلوا ما هي ولا سبيل إلى أن تكون تلك الفائدة إلا إيقاع الأسماء على مسمياتها والفصل بين المسميات بالأسماء ومعرفة صفات المسميات التي باختلافها وجب تخالف

الأسماء ليقع بذلك التفاهم بين النوع الذي أسكنه الله أرضه وأرسل إليهم الأنبياء بالشرائع ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإذ قد ثبت هذا وصح فكل من أراد أن يثبت أن الأسماء لا تفهم منها مسمياتها على عموم ما يقتضيه اللفظ ولا يعرف بها ما علقت عليه فهو مبطل للعقل والشريعة معا وبالله تعالى التوفيق وله الحمد على جميع نعمه لا إله إلا هو ويلزمهم في قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} أن يكون لعل ذلك في بعض الأمهات دون بعض وفي بعض الأخوات والبنات دون بعض أو لعل الذي حرم هو بيعه أو أكلهن دون جماعهن كما حملتم قوله تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} عن بعض المشركين دون بعض فلم تبيحوا قتل الرهبان ولا قتل المرتدات ولا أولاد المرتدين إذا بلغوا كفارا وكما فعلتم في القذف فلم تحدوا قاذف الكافرة والأمة المسلمة وسائر ما حملتموه على الخصوص ومثل هذا لازم لهم في كل خطاب في القرآن والسنن وبالله تعالى التوفيق ويقال لمن قال منهم إن الذي يدل على حمل الألفاظ على عمومه إنما هو للتأكيد الوارد قال علي يقال لهم لو كان التأكيد ما ذكرتم لكان كلامهم متناقضا لأنا نجد التأكيد يأتي مرتين وثلاثا الأول يأتي لإخراج اللفظ من الخصوص إلى العموم الثاني مثله أيضا ولو وجب أن يكون مخرجا للكلام المؤكد والتأكيد الأول عن الخصوص إلى العموم فكان يكون التأكيد الأول خصوصا وعموما معا وهذا ولا يعلل الصحيح في ذلك ما قدمناه من أن التأكيد إنما هو حسم لشغب أمثالهم فقط وليس التأكيد مخرجا للكلام المؤكد عن خصوص إلى عموم أصلا وقد قال الله تعالى

{ فسجد لملائكة كلهم أجمعون} وقد أجاب بعض القائلين بالوقف عن هذه المسألة فقال معنى قوله تعالى {فسجد لملائكة كلهم أجمعون} ي بعد ذكر {فسجد لملائكة كلهم أجمعون} ى هو غير المعنى في {فسجد لملائكة كلهم أجمعون} ى لأن {فسجد لملائكة كلهم أجمعون} ى هو مخرج لقوله تعالى {فسجد لملائكة كلهم أجمعون} وعن الخصوص إلى العموم و {فسجد لملائكة كلهم أجمعون} ي دال على أنهم سجدوا مجتمعين لا مفترقين قال علي وهذا جهل شديد وكذب مفرط لأن جميعا ليس معناه الاجتماع ولا هو من بابه وهذه مجاهرة في اللغة ولا يعرفها أهل اللغة ولا يعرف أحد من أهل اللسان أن قول القائل أتاني القوم أجمعون أنه أراد مجتمعين بل جائز أن يكون الذين أتوا أفرادا مفترقين وهذه هي السفسطة التي حذر منها الأوائل وجملة الأمران أن هؤلاء قوم تعلقوا بأنهم وجدوا ألفاظا خارجة عن موضوعها في اللغة إما إلى مجاز وإما إلى معان مشتركة فرأوا بذلك إبطال الحقائق كلها وإبطال وقوع الأسماء على مسمياتها واختصاص كل اسم بمنعها وعمومه لكل ما علق عليه كانوا بمنزلة من قال لما وجدت في الكلام كذبا كثيرا فأنا أحمله كله على الكذب ووجدت في الشريعة منسوخا كثيرا لا يحل العمل به إذ لعله قصد به غير ما يعقل منه ووجدنا العمل بجميعه ولا فرق بين هذا وبين قولهم وجدنا ألفاظا على غير ظاهرها فنحن نقف في كل لفظ فلا نستعمله على مفهومه إذ لعله قصد به غير ما يعقل منه ووجدنا ألفاظا لا يراد بها عمومها فنحن نقف في كل لفظ فلا نمضيه على ما علق عليه قال علي وقد قال بعض أهل الوقف إذ سئل فأي شيء نعرف بأن اللفظ على عمومه بلفظ أم بمعنى وألزم أن احتمال التخصيص داخل في الثاني كدخوله في الأول وهكذا أبدا وكلف والفرق بين اللفظ الثاني والأول فبلح

عند ذلك إذ لا سبيل إلى فرق فقال إن الأشياء التي بها يلوح العموم لا تحد ولا تحصر ولا سبيل إلى بيانها قال علي وهذه ثنية الانقطاع التي من بلغها سقط حسيرا وعلم أنه لا حيلة عنده ولا قوة لديه وهو دليل من دلائل العجز والضعف وكل من أقر بأنه لا يقدر على بيان قوله فقد حصل في محل لا يعجز عن مثله ذو لسان إذا استجاز لنفسه الفضائح فلا يعجز أحد عن أن يدعي ما شاء من المحالات والدعاوى فإذا كلف بيانا أو دليلا قال هذا لا يطاق عليه قال علي ونظر ذلك هذا المبلح بأن قال كما أن العدد الذي وجب ضرورة العلم في الأخبار لا سبيل إلى حده قال علي وقد كذب بل ذلك محدود وقد بينا فيما خلا وهو أنه إذا ورد اثنان من جبهتين مختلفتين فحدثا غير مجتمعين وقد تيقن أنهما لم يلتقيا ولا توطآ فأخبرا بحديث طويل لا يمكن اتفاق خاطر اثنين على توكيده ولم يكن هناك لهما ولا لمن حدثا رغبة فيما حدثا به وعنه ولا رهبة ولا هوى وذكرا مشاهدة أو سماعا من اثنتين فصاعدا كما وصفنا أيضا أنهما شاهدا فهو خبر ضروي يوجب العلم واليقين بلا شك وأن عشرات الألوف إذا حشدوا وكلفوا خبرا ما ولهم في ذلك رغبة أو رهبة أو هوى فجائز اجتماعهم على فعل الكذب وقد شاهدنا ذلك في شكر الولاة وذمهم إلا أن هذا لا يخفى بل هو معلوم ضرورة من قبلهم لأنهم وإن اجتمعوا على ما جمعوا له

فصل في بيان العموم والخصوص

فكلهم يخبر صديقه وامرأته وجاره قبل أن يجمع وبعد أن ينفض من ذلك الجمع بحقيقة الأمر وجلية الخبر وهذا مشاهد كل يوم من أحوال الناس ونقل أخبارهم من موت أو ولادة أو نكاح أو طلاق أو عزلة أو ولاية أو وقفة أو ما شبه ذلك وإنما أغفل الناس هذا لقلة المتفقدين لمثل هذا وشبهه ولكثرة من ينسى ما يمر عليه من ذلك وأصيخوا رحمكم الله إلى ما نقول لكم فصل في بيان العموم والخصوص قال علي الكلام ينقسم ثلاثة أقسام فمنه خصوص يراد به الخصوص بقوله زيد وعمرو وما أشبه ذلك وعموم يراد به العموم ومعنى ذلك

حمله على كل ما يقتضيه لفظه فمنه ما يكون اسما لجنس يعم أنواعا كثيرة كقوله تعالى {أولم ير لذين كفروا أن لسماوات ولأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من لمآء كل شيء حي أفلا يؤمنون} فيقع تحت الحي المذكور الإنس وأنواع الطير كلها وأنواع ذوات الأربع كلها وأنواع الهوام كلها وقد خرج من هذا العموم الملائكة لإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خلقوا من نور وأما الجن فمن النار بنص القرآن إلا أننا نبعد أن يكون في تركيبهم شيء من الماء وإن كان العنصر هو النار كما في تركيبنا الماء والنار والهواء وإن كان عنصرنا التراب ومنها ما يكون اسما لنوع ما كقوله تعالى {ولخيل ولبغال ولحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} فهذا عموم لجميع الخيل ولجميع البغال والحمير دون سائر الأنواع وليس هذا خصوصا لأن معنى قولنا عموم وإنما هو ما اقتضاه اللفظ فقط دون ما تقتضيه فمن سمى هذا خصوصا فقد شغب وشبك وإنما يسمى ما بقي من الجملة بعد أن يستثنى منها خصوصا وما استثني منها مما بقي خصوصا لأن العموم الذي ذكرنا قد ارتفع ضرورة لأن اللفظ حينئذ ليس محمولا على كل ما يقتضيه لفظه فلما بطل أن يسمى ذلك عموما سمي خصوصا لأنه خص منه بعضه دون بعض بالاستثناء وبالإبقاء ومنه ما يقع لأهل صفة ما من النوع كقوله تعالى {ولذي لقربى} فلما كان هذا عموما لذوي القربى كلهم دون غيرهم وكان شاملا لكل ما وقعت عليه هذه التسمية بهذه الصفة وكقوله تعالى {إنما لصدقات للفقرآء ولمساكين ولعاملين عليها ولمؤلفة قلوبهم وفي لرقاب ولغارمين وفي سبيل لله وبن لسبيل فريضة من لله ولله عليم حكيم} الآية فكان ذلك عموما لكل صدقة فرض بدليل أخرج منها ما ليس فرضا وكان ذلك عموما لكل مسكين ولكل فقير ولكل عامل عليها ولكل مؤلف قلبه ولكل ما سمي رقبة إلا أن يخص شيئا من ذلك نص أو إجماع وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش

فهذا عموم لكل قرشي إلا من خصه نص أو إجماع من النساء والصبيان وكذلك سائر النصوص والقسم الثالث عموم دل نص القرآن والسنة على أنه قد استثني منه شيء فخرج ذلك المستثنى مخصوصا من الحكم الوارد بذلك اللفظ قال علي ومن العموم أن يكون لفظه مشتركا يقع على معان شتى وقوعا مستويا في اللغة ومعنى قولنا مستو أنه وقوع حقيقي وتسمية صحيحة لا مجازية فإذا كان ذلك فحملها واجب على كل معنى وقعت عليه ولا يجوز أن يخص بها بعض ما يقع تحتها دون بعض بالبراهين التي أثبتنا آنفا في إيجاب القول بالعموم قال علي ومن خالف هذا من أصحاب الظاهرين فقد تناقض ولا فرق بين وقوع اسم على ثلاثة من نوع فصاعدا إلى تمام جميع النوع كقولك مساكين وفقراء وبين وقوع اسم على ثلاثة أشياء فصاعدا مختلفة الحدود يقع عليها كلها وقوعا مستويا ليس بعضها أحق به من بعض ولهذا قلنا في قوله تعالى {لزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ولزانية لا ينكحهآ إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على لمؤمنين} إن الآية على عمومها ولا يحل لمسلم زان أو عفيف أن ينكح زانية مسلمة لا بوطء ولا بعقد زواج فإن وقع فسخ أبدا ما لم تتب قبل أن يعقد معها النكاح ولا يحل لمسلمة زانية أو عفيفة أن تنكح زانيا ما لم يتب فإن وقع الزواج فسخ أبدا وأبحنا للزاني خاصة نكاح الذمية العفيفة فقط لأن النص لم يأت إلا بتحريم ذلك على المؤمنين خاصة والزناة والزواني مؤمنون فقد حرم ذلك عليهم بالنص ولم يأت في ذلك تحريم على المشركين وهذه كرامة المسلم والمسلمة لا يدخل فيها المشركون لأن حكمهم الصغار وقد تناقض في هذا أصحابنا فحملوا النكاح ههنا على الوطء خاصة وحملوه في قوله تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من لنسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا} على العموم لكل ما يقع عليه اسم نكاح وهذا كما ترى بلا دليل وأما من ادعى أن

قوله {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحهآ إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} الآية منسوخة بقوله تعالى {وأنكحوا لأيامى منكم ولصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم لله من فضله ولله واسع عليم} فمغفل لوجهين أحدهما إجماع الأمة على أنه لا يحل لأحد أن يقول في آية أو حديث إنهما منسوخان لا يجوز العمل بهما إلا بنص جلي أو إجماع والثاني أن قوله تعالى {ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون} ليس فيه ما يرد قوله تعالى {ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون} كما ليس فيها إباحة نكاح الأخت والبنت المحرمتين وإن كانتا من الأيامى ولكن إحدى الآيتين مضمومة إلى الأخرى فننكح الأيامى منا ما لم يكن زواني مع أنه يبعد عندنا في اللغة وقوع اسم أيم على الزانية فالواجب استعمال الآيتين معا لأن استثناء بعضها من بعض ممكن وقد قدمنا أنه لا يحل ترك آية لأخرى أصلا قال علي وكذلك قلنا نحن وسائر أصحابنا إن قوله تعالى {ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون} فأوجبنا كلنا معشر القائلين بالظاهر إلا قوما توقفوا دون قطع وقلنا بإيجاب حد القذف كاملا على كل قاذف محصنة بأي معنى وقع عليها اسم محصنة من عفاف أو إسلام أو زواج فأوجبنا الحد على قاذف الأمة والكافرة والصغيرة وكذلك أوجبنا الزكاة في القمح والشعير والتمر دون سائر الحبوب والثمار لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة ولفظة دون في اللغة التي بها خوطبنا تقع على معنيين وقوعا مستويا حقيقيا لا مجازيا وهما بمعنى أقل وبمعنى غير كما قال تعالى {أم تخذوا من دون لله شفعآء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون} يريد غير الله تعالى وقوله تعالى {وأعدوا لهم ما ستطعتم من قوة ومن رباط لخيل ترهبون به عدو لله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم لله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل لله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} فذكر تعالى المجاهرين بالعداوة للمسلمين وآخرين من غيرهم مكاتمين بها فلم يكن حمل لفظة دون في الحديث المذكور على معنى أقل أولى من حملها على معنى غير فوجب حملها على كلا المعنيين جميعا وقد تناقض في ذلك أصحابنا فلم يحملوها إلا

على معنى أقل فقط قال علي وهذا ترك منهم لقولهم بالعموم وحمل لفظة دون على معنى غير أولى لأن حملها على معنى غير يقضي في جملته أقل فهو القول بالعموم لأن الأقل من خمسة أوسق هو أيضا غير الخمسة الأوسق وبالله تعالى التوفيق قال علي فهذه أقسام مفهوم الكلام وقد جعل قوم قسما رابعا فقالوا وخصوص يراد به العموم قال علي وهذا خطأ وليس هذا موجودا في اللغة وسنستوعب الكلام في هذا إن شاء الله تعالى في باب الكلام في القياس وفي باب دليل الخطاب بحول الله وقوته فإن اعترضوا علينا بأحاديث وردت في رجال بأعيانهم ثم صار حكمها عندنا على جميع الناس فليس ذلك بما ظنوا ولكن جميع تلك الأحاديث فيها أحكام في أحوال توجب الأخذ بذلك في أنواع تلك الأحوال اتباعا للفظ الحكم المعلق على المعنى المحكوم فيه وقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث ليحكم على أهل عصره فقط لكن على كل من يأتي إلى يوم القيامة وفي كل ما يحدث من جسم أو عرض إلى انقضاء الدنيا ولا سبيل إلى أن يبقي عليه حيا إلى أن يلقى كل أحد فكان حكمه على إنسان في حال ما حدثت له أو منه حكما في وقوع تلك الحال كما قلنا ويبين ذلك الحديث الذي فيه هو جبريل أتاكم يعلمكم دينكم أجل بيان وأوضحه في أن كل خطاب منه صلى الله عليه وسلم لواحد فيما يفتيه به ويعلمه إياه هو خطاب لجميع أمته إلى يوم القيامة وتعليم منه عليه السلام لكل من يأتي إلى انقضاء الدنيا لأن ذلك الحديث إنما خرج بلفظ تعليم الواحد في قوله صلى الله عليه وسلم أن تعبد الله كأنك تراه ويكفينا من هذا الحديث قوله عليه السلام أثر جوابه لجبريل عليه السلام إن هذا الذي

ذكر تعليم لهم فأشار إلى الخطاب المتقدم للواحد وبين ذلك أيضا قوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} فبدأ بالجماعة ثم خاطب خطاب واحد وقد صح أن المراد بهذا الخطاب كل مسلم والحكم على الأسماء فكل اسم حكم فيه عليه السلام فهو على كل ما تحت ذلك النوع الذي يقع عليه ذلك الاسم قال علي وهم أولى الناس بالهروب عن هذا السؤال لأنهم أتوا إلى حديث الواطىء في رمضان وهو المأمور بما يجب في ذلك من الكفارة فلم يقنعوا بأن جعلوه عاما لكل واطىء حتى تعدوا فجعلوه على كل آكل وشارب ثم على كل موطوءة وآكلة وشاربة من الناس وأتوا إلى حديث الميت في إحرامه فقالوا لا يتعدى به ذلك الميت بعينه وأتوا إلى أمره صلى الله عليه وسلم في غسل ابنته فقالوا هو عام لكل ميتة وأتوا إلى صلاته على قبر المسكينة فقالوا هو خاص لتلك المسكينة ولهم من مثل هذا أزيد من ألف حكم كلها ينقض بعضها بعضا والعجب كل العجب في قياسهم إفطارا على إفطار فجعلوا في الأكل الكفارة كالواطىء ولم يقيسوا صياما على صيام فلم يروا على المفطر عمدا في قضاء رمضان كفارة ولا على المفطر في قضاء النذر أيضا وليس شيء من ذلك إجماعا لأن إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير لا يريان الكفارة على الواطىء وأصحاب الشافعي كلهم لا يرون الكفارة على المفطر بغير الوطء وقتادة يرى الكفارة على المفطر في قضاء رمضان كهي على المفطر في رمضان ولا فرق لأنه فرض وفرض وصوم وصوم وفطر وفطر وقد ادعى قوم في أحاديث وردت أنها خصوص مثل حديث رضاع سالم قال علي وليس كما قالوا بل كل رضاع فمحرم بظاهر القرآن إلا ما استثني بالسنة من الأربع رضعات فأقل وأما رضاع سالم فقد قال قوم

إنما كان حكما في التبني والتبني قد نسخ بقوله تعالى {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} فلما سقط التبني سقط الحكم المرتبط به ولما لم يعلم أي الأمرين كان قبل أحديث سالم أم قوله صلى الله عليه وسلم الرضاعة من المجاعة وجب الأخذ بالزائد على معهود الأصل وكان قوله صلى الله عليه وسلم إنما الرضاعة من المجاعة مع قوله تعالى {نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم وتقوا لله وعلموا أنكم ملاقوه وبشر لمؤمنين} زائدا على معهود الأصل في التحريم بعموم الرضاع فوجب الأخذ بالزائد قال علي بل حديث سالم هو الزائد فيلزم الأخذ به لأن قوله تعالى {ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير} مسقط لحكم ما زاد على الحولين فصار حديث سالم زائدا على الآية وحاكما بتمادي التحريم بالرضاعة أبدا وما ندري في المصائب أطم من قول من عصى النبي صلى الله عليه وسلم في التحريم برضاع سالم وسمع وأطاع لتحريم برضاع شهرين بعد الحولين فقط ولتحريم أبي حنيفة برضاع ستة أشهر بعد الحولين فقط ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال علي ومما يبين قولنا قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة في الأضحية بعناق جذعة تجزيك ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم خصوصا لأبي بردة ولو كان فتياه لواحد لا يكون فتيا في نوع تلك الحال لما احتاج عليه السلام إلى بيان تخصيصه ومثله قوله تعالى {يأيها لنبي إنآ أحللنا لك أزواجك للاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك ممآ أفآء لله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك للاتي هاجرن معك ومرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد لنبي أن يستنكحها خالصة لك من دون لمؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان لله غفورا رحيما} فخرج عليه السلام في نكاحه في جملة قوله تعالى {لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا} ومثله أمره تعالى بقوله {يأيها لذين آمنوا ستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن لله يحول بين لمرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} فخرج بذلك عليه السلام من جملة قوله صلى الله عليه وسلم إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس وقد تناقض أبو يوسف فرأى قوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود لذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن لله أعد للكافرين عذابا مهينا}

خصوصا له عليه السلام ولم ير قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} خصوصا له عليه السلام وهذا تناقض ظاهر وصلاة الخوف لازمة لنا لقوله صلى الله عليه وسلم صلوا كما تروني أصلي وأخذ الزكاة لازمة للأمة لقوله صلى الله عليه وسلم أرضوا مصدقيكم وبقوله عليه السلام فمن سألها عن وجهها فليعطها ومن سئل أكثر منها فلا يعطها فإذا سألها أولو الأمر المأمور في القرإن بطاعتهم بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} لزم فرض أدائها إليهم وكذلك أمره تعالى بقتال المشركين حتى يعطوا الجزية موجب كل ذلك على الأئمة قبضها وإرسال السعاة والولاة فيها وأما خصوص لفظ في نوع يراد به نوع آخر فهذا خطأ لا سبيل إليه وهو باطل بالطبيعة والشريعة واللغة أما الشريعة فقوله تعالى {ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} وحدوده تعالى ما نص على تحريمه أو إيجابه أو إباحته فمن حرم غير ما نص الله تعالى على تحريمه أو أوجب غير ما نص الله تعالى على إيجابه فقد تعدى حدود الله تعالى وأما الطبيعة فقد علمنا علم ضرورة أن الأسماء إنما وضعت ليعبر بها عن المعاني التي علقت عليها وسميت بها لا عما لم يعلق عليه ولا سمي بها هذا ما لا يثبت في عقل أحد غيره وما عداه فسفسطة وتخليط وإفساد للعالم ولبنية الحس والعقل وأما اللغة فإنا نسأل كل عالم وجاهل ما البر فيقول القمح فإن قلنا له عن الشعير ما هذا قال شعير فإن قلنا هو بر أنكر ذلك وهزأ بقائله هذا ما لا يختلف فيه أحد من شرق الدنيا وغربها حتى إذا أتى الدين الذي هو المحتاط فيه الواجب تحقيقه حكموا للشعير بحكم البر وخالفوا ما أقروا أنه الحقيقة وحكموا بما أثبتنا نحن وهم أنه باطل وتعدوا الحدود وأوقعوا الأسماء على غير مسمياتها وبالله تعالى التوفيق

فصل في الوجوه التي تنقل فيها الأسماء عن مسمياتها فيخرج بذلك الأمر عن وجوبه إلى سائر وجوهه وعن الفور إلى التراخي وعن الظاهر إلى التأويل وعن العموم لكل ما يقتضي إلى تخصيص بعضه وذكر الدلائل التي تدل على أن الأسماء قد انتقلت عن مسمياتها إلى ما ذكرناه قال علي هذا باب كثر فيه التخليط وعظمت فيه الأغاليط ولو قلنا إنه أصل لكل خطأ وقع في الشرائع لم يبعد عن الصواب فلنقل بحمد الله وعونه فيه قولا يرفع إن شاء الله تعالى الإشكال فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الأسماء المنقولة عن معانيها تكون بأربعة أوجه أحدها نقل الاسم عن بعض معناه الذي يقع دون بعض وهذا هو العموم الذي استثني منه شيء ما فبقي سائر مخصوصا من كل ما يقع عليه كقوله تعالى {لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل} وكسائر ما ذكرنا والوجه الثاني نقل الاسم عن موضوعه في اللغة بالكلية وإطلاقه على شيء آخر كنقل الله تعالى اسم الصلاة عن الدعاء فقط إلى حركات محدودة من قيام وركوع وسجود وجلوس وقراءة ما وذكر ما لا يتعدى شيء من ذلك إلى غيره وكنقله تعالى اسم الزكاة عن التطهر من القبائح إلى إعطاء مال محدود بصفة محدودة لا يتعدى وكنقله تعالى اسم الكفر عن التغطية إلى الجحد له عز وجل أو لنبي من أنبيائه أو لشيء صح عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بلوغ كونه كذلك إلى الجاحد له وكنقل الأمر الوارد عن الوجوب إلى الندب أو الإباحة لأن هذا هو وضع اللفظ المرتب للإيجاب في غير معناه ونقل له عن موضوعه إلى الندب الذي هو غير معناه بل له صيغة أخرى تدل على أنه التخيير وكنقل الأمر عن إلزام العمل به إلى المهلة فيه قال علي فقد بان بما ذكرنا أن نقل الأمر عن الوجوب والفور إلى الندب

والتراخي هو باب واحد مع نقل اللفظ عما يقتضيه ظاهره إلى معنى آخر وهذا الباب يسمى في الكلام وفي الشعر الاستعارة والمجاز ومنه قوله تعالى {ذق إنك أنت لعزيز لكريم} ومثل هذا كثير والوجه الثالث نقل خبر عن شيء ما إلى شيء آخر اكتفاء بفهم المخاطب كقوله تعالى {قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى لله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو لعليم لحكيم} وإنما أراد تعالى أهل القرية وأهل العير فأقام الخبر عن القرية والعير مقام الخبر عن أهلها وكقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا} فأقام ذكر السفر والمرض مقام الحديث لأن المراد فأحدثتم وكقوله تعالى {لا يؤاخذكم لله بللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم لأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحفظوا أيمانكم كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تشكرون} فأوقع تعالى الحكم على الحلف وإنما هو على الحنث أو إرادته لا على الحلف ومثل هذا كثير والوجه الرابع نقل لفظ عن كونه حقا موجبا لمعناه إلى قوله باطلا محرما وهذا هو النسخ كنقله تعالى الأمر بالصلاة إلى بيت المقدس إلى أن يحل ذلك اليوم أصلا بالعمد لغير ضرورة قال علي وإنما فرقنا بين النسخ وبين نقل الأمر عن الوجوب إلى الندب أو غيره وإن كان كل ذلك نقلا لأن النسخ كان الأمر المنسوخ مرادا منا العمل به قبل أن ينسخ وأما المحمول على الندب فلم يرد قط منا إلزامنا العمل به وهذا فرق ظاهر قال علي وكل ما ذكرنا فلا يحل أن يتعدى به موضوعه لأنه كما ترى أنواع يجمعها جنس النقل للأسماء على مراتبها فمن استجاز منها واحدا بغير برهان لزمه أن يجيز جميعها وفي ذلك القضاء بالنسخ على كل شريعة وبأنه لا يفهم عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم لفظ أصلا إذ لعله قد نقل إلى معنى آخر وهذا خروج عن الإسلام قال علي وإذا قد ذكرنا وجود النقل للأسماء عن معانيها ومثلنا منها أمثلة تدل عليها وتنبه على أمثالها مما لم نذكره بحول الله تعالى وقوته فلنذكر

إن شاء الله تعالى بتوفيقه لنا وعونه إيانا الدلائل التي بها تعلم صحة الوجوه التي ذكرنا وبها يثبت عندنا أن الاسم قد نقل إلى بعض الوجوه التي ذكرنا والتي متى لم توجد لم يحل لمسلم أن يقول إن هذا اللفظ على غير موجبه وبالله تعالى التوفيق فلنقل وبالله نعتصم إن البرهان الدال على النقل الذي ذكرنا ينقسم قسمين لا ثالث لهما إما طبيعة وإما شريعة فالطبيعة هو ما دل العقل بموجبه على أن اللفظ منقول من موضوعه إلى أحد وجوه النقل الذي قدمنا مثل قوله تعالى {لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل} فصح بضرورة العقل أن المراد بذلك بعض الناس لأن العقل يوجب ضرورة أن الناس كلهم لم يحشروا في صعيد واحد ليخبروا هؤلاء بما أخبرهم به ولأن العقل يوجب ضرورة أن المخبرين لهم بأن الناس قد جمعوا لهم غير الجامعين لهم وغير المجموع لهم بلا شك وأن الجامعين غير المخبرين بالجمع وغير المجموع لهم بلا شك ومثل قوله تعالى {قل كونوا حجارة أو حديدا} {صلى الله عليه وسلم} الإسراء 50 علمنا بضرورة العقل أنه أمر تعجيز لأنه لا يقدر أحد على أن يصير حجارة أو حديدا ولو كان أمر تكوين لكانوا كذلك فلما وجدهم العقل لم يكونوا حجارة ولا حديدا علم أنه تعجيز وأما الشريعة فهي أن يأتي نص قرآن أو سنة أو نص فعل منه عليه السلام أو إقرار منه عليه السلام أو إجماع على أحد وجوه النقل الذي ذكرنا كما دل الإجماع على أن اسم أب في قوله تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من لنسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا} منقول عن الاقتصار على الأب وعلى الأجداد من الأب والأم وإن بعدوا إلى الآباء من الرضاعة والأجداد من الرضاعة لقوله عليه السلام يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب كما دل نص أيضا على نقل اسم الأب إلى العم في قوله حاكيا عن القائلين {أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب لموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون} وإنما كان إسماعيل عما لا أبا ولم يجب من

أجل هذا أن ننقل اسم أب في المواريث إلى الجد من الأم أصلا وكما دل النقل المتواتر أيضا على نقل اسم ابن في قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} عن الاقتصار على الابن وبني البنين وبني البنات وإن بعدوا إلى البنين من الرضاعة أيضا ولم يجب من ذلك أن ننقل اسم الابن في المواريث إلى ابن الرضاعة وبني البنات ولا يحجب بابن الرضاعة ولا ببني البنات الأم عن الثلث ولا الزوج عن النصف ولا الزوجة عن الربع إلى السدس والربع والثمن ولم يوجب شيء مما ذكرنا أن ننقل اسم الأم عن الوالدات اللاتي حملن الإنسان في بطونهن في كل حكم إلى أمهات الرضاعة لأن العلم واجب ضرورة بأن الناس ماتوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم بنو البنات والأجداد من قبل الأمهات وكذلك من الرضاعة فلم يرث أحد منهم شيئا بالنقل عن الكواف عصرا عصرا وكم يجب إذا خص الجد من الأب والابن من الولادة والأم من الولادة بالميراث أن يتعدى ذلك فيخص بعض الوالدات وبعض الأبناء وبعض الأجداد بلا دليل ولذلك ورثنا الجد للأب إذا لم يكن هنالك أب دون الإخوة ولأنه متفق على أنه في تلك الفرائض والإخوة مختلف فيهم ولا نص في ذلك فلزم ألا نورث أحدا بلا نص ولا إجماع وهم الإخوة ولزم أن يورث الجد لأنه متفق على أنه يرث في تلك الفرائض مع النص على أنه أب وكان يلزم من يقول بالخصوص أن يخرج بعض النبيين على أن يورثهم مع سائر النبيين قياسا على الإجماع في ألا يورث بنو البنات لأنهم بنون ولا يحرم على آباء أمهاتهم نكاح حلائلهم ومن قال إن الجدة قيست على الأم في التحريم لزمه أن يقيسها عليها في التوريث وإلا كان متناقضا وبالله تعالى التوفيق فصح بما ذكرنا أن إخراج الأسماء عن مواضعها إذا قام دليل من الأدلة التي ذكرنا واجب لأنه أخذ في كل ذلك بالظاهر الوارد وبالنص الزائد فلم يخرج

عن الظاهر في كل ذلك ووجب إذا عدم دليل منها ألا ينقل شيء من الخطاب عن ظاهره في اللغة وأما من خصص الظاهر أو العموم بقياس أو بدليل خطاب أو بقول صاحبه فذلك باطل وسنبين ذلك في الأبواب المذكورة إن شاء الله تعالى وقد قال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فلاح أن لا بيان إلا بنص أو بضرورة عقل كما قدمنا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التالي علينا القرآن فهو المبين به وهو الآمر لنا بالسنن المبينة علينا وهو الآمر باتباع القرآن والسنن والإجماع وهو عليه السلام الذي نص علينا في القرآن إيجاب استعمال العقل والحس وقد ذكرنا في باب الأخبار من هذا الكتاب كيف التخصيص بالآية للآي وللحديث وبالحديث للآي وللحديث قال علي ومن التخصيص بالإجماع قوله تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} فلما أجمعت الأمة بلا خلاف أن 9 هم إن بذلوا فلسا أو فلسين لم يجز بذلك حقن دمائهم ولا خرجوا عن إيجاب قتلهم وحتى لو كثر القائلون بذلك واشتهر فضلهم ما وجب أن يعتد بهذا القول لأنه لم يأت به قرآن ولا سنة ولكن لما قال تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} بالألف واللام وهما في اللغة التي بها نزل القرآن للعهد والتعريف علمنا أنه أراد تعالى جزية معلومة معهودة وبين ذلك بقوله تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} بالألف واللام والألف واللام في لغة العرب لا يقع إلا على معهود وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بأخذ دينار من كل محتلم منهم ومحتلمة علمنا أن ما دون الدينار ليس هو الجزية المحرمة لدمائهم وأموالهم ولم يكن لأقصى الجزية وأكثرها حد يوقف عنده فيدعى فيه وجوبه بالإجماع فإن يحيى بن آدم وعطاء بن رباح وعمرو بن دينار وسفيان الثوري كلهم يقول ليس لأكثر الجزية حد وإنما هو ما ترضوا به فلما كان اسم الجزية يقع على الدينار وجب قبوله ممن لا يقدر على أكثر منه ولزم المصالحين ما صالحوا عنه وهو أكثر من

الدينار ووجب أن يفرض على من يطيق أكثر من دينار من أهل العنوة ما أطاق ما لا يجحف به وأما نقل الأمر عن الوجوب إلى الندب فإنه لا مدخل للعقل فيه وإنما يؤخذ من نص آخر أو إجماع فقط كما قلنا في قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب} أنه إباحة لما ذكرنا في ذلك للإجماع على ذلك وقلنا في الوتر إنه ندب لقول الله تعالى له ليلة أسري به هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي ولأنه عليه السلام كان ينتقل على البعير فإذا أراد الفريضة نزل وكان يوتر على البعير وأما النهي عن القران بين التمرتين في الأكل والإشهاد على التبايع وكتاب الديون والانتشار بعد الصلاة للنوم والأكل وطلب الرزق والأكل من الهدي والإطعام منه ومن الأضحية والمكاتبة لمن طلبها ممن فيه خير من الرقيق وإيتاؤهم من مالنا ففرائض كلها لأنه لا نص في إخراجها عن الوجوب ولا إجماع وأما أمره تعالى لأهل النار بالدخول فيها وأن يخسؤوا وبصليها فأمر اضطرار لا محيد لهم عنه وأما أمره تعالى لأهل الجنة بالأكل وبالشرب وقبول النعيم فأمر إيجاب لا بد لهم من قبوله مختارين مغتبطين كما تفعل الملائكة فيما يؤمرون به وبالله تعالى التوفيق

فصل في النص يخص بعضه هل الباقي على عمومه أم لا يحل على عمومه قال علي وأما النص الذي يصح البرهان على أنه ليس على عمومه فقد قال قوم الباقي على عمومه وقال بعضهم وهو عيسى بن أبان الحنفي قاضي البصرة لا نأخذ منه إلا ما اتفق عليه قال علي والصحيح من ذلك أنه كان من النصوص التي لو تركنا وظاهرها لم يفهم منه المراد فإننا لا نأخذ منها إلا ما يبينه نص آخر أو إجماع وذلك مثل أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأيضا فإن الله تعالى نص لنا على الصلاة والزكاة بالألف واللام والألف واللام إنما يقعان على معهود ولا يفهم من هذا الظاهر كيفية الصلاة والزكاة الواجبين علينا فوجب أن يطلب بيانهما من نصوص أخر أو إجماع وقد أخبرنا تعالى أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها وليس في وسعنا أن نفهم استقبال الكعبة والإتيان بأربع ركعات للظهر في كل ركعة سجدتان وثلاث للمغرب من قوله تعالى {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين} ولا في وسعنا أن نفهم إعطاء شاة من خمس من الإبل وما يجب من الزكاة من البقر والغنم من قوله تعالى {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين} ولأجل هذا النص منعنا من أن يكون تعالى يكلفنا ما لا نطيق وأما لو شاء ذلك تعالى لكان حسنا

في العقل ولو أنه تعالى كلفنا شرب ماء البحر في جرعة ثم يعذبنا إن لم نفعل لكان ذلك عدلا وحقا ولكنه تعالى قد تفضل علينا وآمننا من ذلك ولم يكلفنا ما لا نطيق فله الحمد والشكر لا إله إلا هو وكذلك قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} ليس فيها بيان كيفية تلك الصدقة ولا متى تؤخذ أفي كل يوم أم في كل شهر أم في كل عام أم مرة في الدهر ولا مقدار ما يؤخذ ولا من أي مال ففي قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} عمومان اثنان أحدهما الأموال والثاني الضمير الراجع إلى أرباب الأموال فأما عموم الأموال فقد صح الإجماع المنقول جيلا جيلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يوجب الزكاة إلا في بعض الأموال دون بعض مع أن نص الآية يوجب ذلك لأنه إنما قال تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} فالظاهر يقتضي أن ما أخذ مما قل أو كثر فقد أخذ من أموالهم كما أمر وقوله عليه السلام إذ سئل عن الحمير أفيها زكاة أم لا على أن هذا اللفظ ليس مرادا به جميع الأموال وقد قال عليه السلام إن أموالكم عليكم حرام وقال عليه السلام كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ونص عليه السلام على أنه لا يحل له أخذ مال أحد إلا بطيب نفسه وليست الزكاة كذلك بل هم مقاتلون إن منعوها وأيضا فإن لفظة {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} في قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} إنما هي للتبعيض وأيضا فلو كانت الأموال مرادة على عمومها لكان ذلك ممتنعا لأن ذلك كان يوجب الأخذ من كل برة ومن كل خردلة ومن كل سمة لأن كل ذلك أموال فلما صح بكل ما ذكرنا أنه تعالى لم يرد كل مال وجب طلب معرفة الأموال التي تجب فيها الزكاة ومقدار ما يؤخذ منها ومتى يؤخذ من نص آخر أو من الإجماع إذ قد ثبت أن المأخوذ هو شيء من بعض ما يملكونه فلا بد من بيان ذلك الشيء المراد فإنه إذا أخذ شيء يقع عليه اسم شيء واحد من جميع أموالهم فقد أخذ من أموالهم وكان هذا أيضا

موافقا للظاهر وغير مخالف له البتة وليس إلا هذا الوجه إلا أن يوجب أكثر منه نص أو إجماع لأنه قد تعذر الوجه الثاني وهو أن يؤخذ من كل مال جزء وإذا لم يكن لشيء إلا قسمان فسقط أحدهما ثبت الآخر فلو لم تأت نصوص وإجماع على الأخذ من المواشي والذهب والفضة والبر والشعير والتمر لما وجب إلا ما يقع عليه اسم أخذ لأجزأ إعطاء برة واحدة أو شعيرة واحدة أو أي شيء أعطاه المرء ولكن النصوص والإجماع على ما ذكرنا فرض الوقوف عندهما وأما العموم الثاني وهو عموم أرباب الأموال فبين واضح وهو من كل إنسان ذي مال فوجب استعماله على عمومه إذ عرف مقدار ما يؤخذ ومتى يؤخذ ومما يؤخذ فلا مخرج من ذلك إلا ما أخرجه نص أو إجماع على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى وأما النص المفسر الذي يفهم معناه من لفظه وكان يمكننا استعماله على عمومه ولو لم يأتنا غيره فأتى نص آخر أو إجماع فخص منه بعض ما يقع عليه الاسم فإنه لا يخرج منه إلا ما أخرج النص والإجماع والحجة في ذلك هي الحجج التي أثبتنا بها القول بالعموم في أول هذا الباب الذي نحن الآن في فصوله ويلزم من قال لا أبقي منه إلا ما جاء نص أو إجماع في بقائه أن يبيح دماء جميع الأمة إلا ما اتفق على تحريم دمه لأن قوله عليه السلام دماؤكم وأموالكم عليكم حرام لقد اتفق على أنه ليس على عمومه بل لخص منه كثير كالزناة المحصنين وقتلة الأنفس وغيرهم فيلزمهم أن يقتلوا شارب الخمر في الرابعة هذا لو لم يأت فيه نص ولكن على أصلهم الفاسد وأن يقتل الساحر إن كان حنفيا أو شافعيا وأن يقتل السيد بعبده والمؤمن بالكافر إن كان مالكيا وإلا فقد تناقضوا وأقروا بأن العموم الذي قد خص بعضه فإن باقيه على العموم أيضا إلا أن يخصه نص أو إجماع ونحن

نرى إن شاء الله تعالى مسألة فيها تخصيص مترادف مرآة لكيفية العمل فيما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فنقول قال الله عز وجل {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} فلا نص أكثر معاني ولا أعلم من هذا وفيه إباحة النساء والمآكل كلها وكل ما في الأرض وقال تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن لله خبير بما يصنعون} فلا شيء بعد النص المذكور آنفا أعم ولا أكثر معاني من هذا النص الثاني فلو لم يرد غيرهما لحرم النكاح جملة والوطء بالبتة ولكان النساء كلهن مستثنيات مما أبيح النص الأكثر المذكور آنفا فلو لم يرد غير هذين النصين لحرم النساء جملة وقال تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} فكان هذا مبيحا لما حظر النص المذكور الذي فيه حفظ الفروج لو لم يرد غير هذه النصوص لوجب الأخذ بالتحريم لأن الآية التي فيها إباحة النكاح موافقة للنص الأكثر الذي فيه إباحة كل ما في العالم وإنما هي تأكيد وتكرار كسائر ما في القرآن من التكرار والتأكيد الذي أورده الله تعالى كما شاء {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} كما كرر تعالى أخبار الأنبياء عليهم السلام {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين} و {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فكرر إباحة نكاح النساء كما شاء ولسنا نقول إن شيئا من هذه النصوص قبل كل شيء ولا أن شيئا منها بعد شيء وسواء نزل بعضها قبل بعض أو نزلت معا لا فرق عندنا بين شيء من ذلك وليس شيء مما نزل بعد رافعا لشيء نزل قبل إلا بنص جلي في أنه رافع له أو بإجماع على ذلك وإلا فهو مضاف إليه ومعمول به معه ضرورة لا بد من ذلك فلما صح ما قلنا من استثناء تحريم النكاح جملة مما أباح تعالى لنا ووجدناه تعالى قد استثنى إباحة النكاح من حفظ الفروج استثناء تاما بقوله تعالى {ولذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن بتغى ورآء ذلك فأولئك هم لعادون} فصح يقينا أن الزواج وملك اليمين مستثنى مما حرم من إهمال الفروج ثم

وجدها هذا الاستثناء يحتمل أن يؤخذ به على عمومه فيخص به من آية التحريم أشياء كثيرة منها الأختان بملك اليمين والأم والابنة بملك اليمين والكتابية بملك اليمين والحائض والمحرمة والصائمة فرضا والحريمة بصهر أو رضاع ويحتمل ألا يخرج من النص الذي فيه تحريم إهمال الفروج جملة إلا ما خص نص جلي أو إجماع متيقن على إخراجه منه فلو أخرجنا من النص الذي فيه تحريم إهمال الفروج كل ما يحتمل إخراجه لكنا قد أسقطنا ما تيقنا وجوبه بما شككنا في إباحته ونحن إذا لم نخرج منه إلا ما جاء نص جلي أو إجماع بإخراجه منه كنا قد علمنا بما تيقنا لزومه لنا من النص المبيح للوطء وعلمنا أيضا بما تيقنا وجوبه من النص الذي فيه التحريم إذ في استعمالنا ما في إية إباحة الوطء كله رجوع إلى الأصل الأول الذي فيه إباحة كل ما في الأرض وترك ما قد لزم إخراجه منه بيقين فلو فعلنا ذلك لكنا متناقضين لأنها ثلاثة نصوص كما ترى نص عام ثم آخر دونهما في العموم ثم ثالث دونهم معا في العموم فإن قال قائل بل نأخذ بالنص الأخص قلنا له وبالله التوفيق إنك إن فعلت ذلك رجعت إلى قولنا لأننا نوجد لا نصا أخص من النص الذي فيه إباحة الوطء فيلزمك أن تغلب هذا الأخص الذي هو نص رابع وإلا نقضت قولك وهو قول الله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} والمشركات من الكتابيات هن بعض من تملك أيماننا وكذلك الأختان إذ ملكناهما وأما أصحابنا القياسيون فتناقضوا تناقضا فاحشا ظاهر الخطأ لأنهم عمدوا إلى قوله عز وجل {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} إلى قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} وإلى قوله سبحانه وتعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} وهذه كما ترى آيات محرمات لنساء موصوفات وعمدوا إلى قوله تعالى {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير

ملومين} فاستثنوا الأختين بملك اليمين والأم وابنتها بملك اليمين والعمة وبنت أخيها بملك اليمين والخالة وبنت الخالة بملك اليمين من الآية التي فيها إباحة ملك اليمين إلا أن يكون أختان معا أو أم وابنة أو عمة وبنت أخيها فإن أولئك لا يحل وطؤهن ثم إن يستثنوا الإماء الكتابيات بما أباحوه من ملك اليمين فلو أن عاكسا عكس فأباح الأختين والأم والابنة بملك اليمين وحرم الأمة الكتابية بقوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} أي فرق كان يكون بينهم إلا التحكم بلا دليل فإن قالوا قد أبيحت الكتابية قيل لهم أخطأتم إنما أبيحت بالزواج لقوله تعالى {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} فإنما أباح المحصنات الكتابيات بشرط إيتائهن الأجور وإيتاؤهن الأجور لا يكون إلا في الزواج لا في ملك اليمين وهذا ما لا شك فيه عند أحد فبطل أن يكون المراد بالإباحة المذكورة الإماء الكتابيات فبقين على أصل التحريم ولو أننا رضينا لأنفسنا من الحجة بنحو ما يرضون به لأنفسهم لقلنا لهم إن قوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} إنما قصد به الإماء لقوله تعالى في أثر ذلك {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} ولكنا في ذلك نبين بأقوى مما يحتاجون به في أكثر مسائلهم مثل احتجاجهم في إيجاب الخطبة بقوله تعالى {وإذا رأوا تجارة أو لهوا نفضوا إليها وتركوك قآئما قل ما عند لله خير من للهو ومن لتجارة ولله خير لرازقين} ومثل احتجاجهم في عتق الأخ بقوله تعالى {قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ففرق بيننا وبين لقوم لفاسقين} ومثل احتجاجهم في المنع من النفخ في الصلاة بقوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} ومثل احتجاجهم في القسامة ببقرة بني إسرائيل ومثل هذا من التمويه البارد الفاسد الداخل في حدود هذيان المبرسمين ولكن الله عز وجل قد أغنانا بالنصوص الظاهرة التي لا مجال للتأويل فيها وبنصره تعالى لنا عن تكلف بنيات الطرق وادعاء ما لا يصح ومن أمكنته السيوف لم يفتقر إلى المحاربة بحطام التبن ولا سيما من قال منهم إن النص إذا خص بعضه

لم يؤخذ من باقيه إلا ما أجمع عليه فإنه يقال له في هذا المكان إباحة ملك اليمين قد خرج منه بالنص بالإجماع أشياء كثيرة فمنها الذكور والبهائم والأم من الرضاع والأخت من الرضاع وكل حريمة بصهر ورضاع وكل حائض وكل صائمة فرض وأخرجت أنت منه الأختين والأم والابنة والعمة والخالة فيلزمك ألا تبيح مما بقي إلا ما اتفق عليه ولم يتفق على إباحة الأمة الكتابية بملك اليمين ولا جاء بها نص فواجب عليك القول بتحريمها ويقول لسائرهم أنتم أهل القياس فقيسوا ما اختلفنا فيه من وطء الأمة الكتابية بملك اليمين على ما اتفقنا عليه من تحريم الأختين بملك اليمين وسائر ما ذكرنا ويقال للمالكيين منهم أنتم تدخلون التحريم بأدق سبب ولا تدخلون التحليل إلا بأبين وجه فحرموا الوطء للأمة الكتابية إذ لا سبب معكم في تحليلها لا دقيق ولا جليل ولكم في تحريمها أبين سبب فإن ادعوا إجماعا أكذبهم ابن عمر فقد صح عنه تحريم الكتابيات جملة وتلا الآية التي ذكرنا قال علي وأما جمهور أصحابنا الظاهريين فإنهم سلكوا طريقة لهم في ترك ما ظاهره التعارض قد بينا بطلانها فجعلوا قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} معارضا لقوله تعالى {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} ورجعوا إلى الأصل بالإباحة قال علي وهذا خطأ شديد من كل وجه وحتى لو كان التعارض موجودا وكان العمل صحيحا لكان ههنا باطلا فكيف والتعارض غير موجود لقوله تعالى {يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا} ولقوله تعالى والعمل المذكور عنهم فاسد بترك ما قد ثبت اليقين بوجوب الطاعة له قال علي ولو كان العمل المذكور صحيحا لكان الرجوع إلى قوله تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن لله خبير بما يصنعون} أولى منه إلى إباحة قد خص

منها حفظ الفروج ولكن الصواب ما بينا من استثناء الأقل معاني من الأكثر والعجب كل العجب من تحريمهم الأمة الوثنية بملك اليمين بلا خلاف منهم بقوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} وإباحتهم لأمة الكتابية بملك اليمين بلا نص فيها أصلا ولا إجماع فخصوا قوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} بلا دليل وفرقوا بين الأمة الوثنية والكتابية بلا دليل فإن قالوا إن قوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} إنما قصد به الزواج اخطؤوا من وجهين أحدهما تخصيص العموم بلا دليل والثاني تناقضهم وتحريمهم الأمة الوثنية بملك اليمين وإنما جاء نص الإباحة من الكتابيات بالزواج فقط فحرام أن يستثنى من تحريم المشركات بشيء غير الزواج وحده الذي استثني بالنص ولا سيما وهم يبطلون القياس إنما أباح الإماء بملك اليمين من أباحهن قياسا على الحرائر منهن في الزواج والقياس باطل فلم يبق إلا أن يقولوا إن المشركات اسم لا يقع على الكتابيات فإن قالوا هذا وكان القائل مالكيا أو شافعيا تناقض في أنهم حملوا قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إنما لمشركون نجس فلا يقربوا لمسجد لحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم لله من فضله إن شآء إن لله عليم حكيم} على الكتابي كما حملوه على الوثني وإن كان حنفيا تناقض في حمله قوله تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} الآية على الكتابي كحملهم إياها على الوثني وبرهان ذلك قبولهم إسلامهم إن أسلم وليس في آية حرب أهل الكتاب إلا {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} فقط وبالله التوفيق ومما احتج به عيسى بن أبان في قوله إن النص إذا خص منه شيء وجب حمل سائره على الخصوص أن قال إن ذلك مثل شاهدين جرحا بقصة ما فوجب على سائر شهادتهما في كل شيء قال علي بن أحمد وهذا القول فمع ما فيه من الاضطراب وتشبيهه بشيء لا يشبهه إقدام عظيم على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولو كان القياس حقا وقد أعاذ الله تعالى من ذلك لكان هذا القياس أحمق

قياس في الأرض فكيف والقياس كله باطل ولله تعالى الحمد فيقال لعيسى ليت شعري ما الذي شبه كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي ألزمنا الله تعالى توقيره والطاعة له وحرم علينا معصيته بكلام فاسقين قد ثبت جرحتهما وقد أمرنا تعالى ألا نقبل خبرهما بل لقائل هذا القول المردود مثل السوء ولله تعالى ولرسوله المثل الأعلى وهلا قال إذ لم يوفقه الله تعالى لقبول الحق إن النص الذي خص بعضه بمنزلة شاهدين عدلين شهدا لأبيهما فلم يقبلا على مذهبه الفاسد فلا يكون ذلك موجبا لرد شهادتهما في سائر ما شهدا به لغير أبيهما فهذا قياس أصح من قياسه لو كان القياس حقا فكيف والقياس باطل كله فاسد إلا أن الذي علمناهم أمثل لأننا مأمورون بقبول شهادة العدلين كما نحن مأمورون بقبول النص الوارد من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والعمل به فإذا سقط عنا قبول ما شهدا به لدليل قام على ذلك في بعض المواضع لم يوجب ذلك سقوط سائر شهادتهما في سائر المواضع وكذلك النص اللازم لنا قبوله إذا قام دليل على سقوط بعضه في بعض المواضع لم يكن ذلك موجبا لسقوط باقيه وسائره فهذا أشبه مما قال لأن الجرح الذي نظر به مسقط العدالة بالجملة وليس خصوص النص بمسقط للعمل به جملة ولو شبه الشاهد المجرح عدالته بالمنسوخ من الملك والشرائع فأوجب بذلك سقوط جميعها عنا لكان أدخل في التمويه وألطف في التشبيه ولكنهم مع قولهم بالقياس وتركهم له كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فإنك تجدهم أجهل الخلق بترتيب باطلهم وأشدهم اضطرابا فيه وهكذا يكون ما كان من عند غير الله ولله الحمد على ما وفق بمنه قال علي ونسي عيسى نفسه إذ قال بما ذكرنا من أن النص إذا خص بعضه لم يؤخذ من باقيه إلا ما اتفق على الأخذ به منه فهلا تذكر على هذا الأصل إذ قال في نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء إن المرتدة لا تقتل

وهذا نص قد خص منه الزانية المحصنة والقاتلة فهلا أسقط أيضا منه المرتدة ولم يأخذ منه إلا ما اتفق عليه من المنع من قتل الحربيات المأسورات ولكن القوم إنما هم ناصرون لما حضرهم من مسائلهم لا يبالون بما أصلوا في ذلك ولا بما احتجوا ولا يستحيون من نقضه بعد ساعة وإبطاله بأصل مضاد للأصل الأول على حسب ما يرد عليهم من المسائل كل ذلك طاعة لمالك وأبو حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وقلة مبالاة لمخالفة القرآن وترك كلام النبي صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى نستعين من الخذلان ونسأل المزيد من التوفيق قال علي ولا فرق بين تخصيص بعض آية أو حديث لم يرد في ذلك البعض تخصيص لكن لأنه قد خص بعض آخر منهما وبين من أراد من ذلك أن يخص كل آية وكل حديث لأنه قد وجد آيات مخصوصات وأحاديث مخصوصة وكل هذا تحكم بلا دليل أو بدليل فاسد وفي هذا إبطال الشريعة ومن استجاز ما ذكرنا وصوبه لزمه أن يقول بنسخ كل آية لأنه قد وردت آيات منسوخات وهذا يخرج إلى إبطال الإسلام ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من خص سورة بكمالها أو قال بنسخ كل ما فيها لأنه وجد بعضها منسوخا ومخصوصا وهذا ما لا يقولونه وهو موجب قولهم الفاسد قال علي واحتج بعض من ذهب هذا المذهب فقال من حلف أن هذه الآية أو الحديث مخصوصا فيما قد قام الدليل على تخصيص بعضهما لم يحنث قال علي يقال له صدقت ومن نازعك في هذا حتى تلحقه ونحن نقر لك بأن هذا النص مخصوص إذا قام الدليل على خصوص بعضه ولكن الباقي بعد ما خص مأخوذ على موجبه وعلى كل ما اقتضاه لفظه بعد ما خرج منه ونحن على ما لزمنا من وجوب الطاعة له

قال علي ويلزم من قال بهذا أن يقول متى وجدت عددا قد استثني منه شيء وجب أن أسقطه كله ومتى وجدت إنسانا قد وجب أخذ بعض ماله لم أمتنع من أخذ باقته إلا أن يمنعني منه إجماع ومن قال هذا لزمه في قول الله تعالى {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم لطوفان وهم ظالمون} أن يقول لعله قد خصت منها خمسون أخر بالاستثناء فيكون مقامه فيهم تسعمائة عام فقط أو أقل وهذا فساد في العقل وكفر في الإسلام فإن قال قائل قد رخص للزبير وعبد الرحمن في الحرير لحكة كانت بهما فقلتم أنتم هو عام لكل من كان في مثل حالهما قيل له هذا هو نص قوله تعالى {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين} فكل مضطر إلى محرم فهو له حلال وهذا الحديث الذي فيه إباحة الحرير لعبد الرحمن والزبير هو بعض الآية المذكورة وهو بمنزلة مفت سمع أن اليمين على من ادعي عليه فأوجب اليمين بذلك على زيد وعلى عمرو وعلى خالد لأنهم مدعى عليهم فأصاب في ذلك وكل هؤلاء قد اقتضاهم الحديث المذكور فإن قال قائل فهلا عممتم الآية التي ذكرتم في قوله {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين} فأبحتم به أكل الميتة للباغي إذا اضطر إليها وأنتم لا تفعلون ذلك قيل له وبالله تعالى التوفيق إنما منعناه لوجهين أحدهما أن الباغي مستثنى من جملة المضطرين وقد قلنا إنه يجب استثناء الأقل معاني من الأكثر معان والوجه الثاني أن الباغي مضطر لأنه لو ترك البغي لارتفعت ضرورته من أجله فهو مختار لحاله غير مضطر إلى الميتة لأنه لو أراد ترك البغي لكان قادرا على ذلك ولحلت له الميتة حينئذ لضرورة إن كانت به إنما المضطر الذي لا يقدر على دفع ضرورته ومن سلك طريقا وهو باغ وتحصن في حصن وهو باغ فهو المختار لعدم التصرف فليس مضطرا فليس له دخول في جملة من أبيحت له الميتة وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل

فصل في مسائل من العموم والخصوص

فصل في مسائل من العموم والخصوص قال علي ومما تناقض فيه القائلون بتخصيص النصوص بالقياس أن قالوا بعموم قوله تعالى {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير} فقالوا المدخول بها وغير المدخول بها سواء ولم يقيسوا غير المدخول بها في الوفاة على غير المدخول بها في الطلاق كما قاس بعضهم الإحداد على المطلقة ثلاثا على الإحداد على المتوفى عنها زوجها فإن كان القياس حقا فليستعملوه في كل مشتبهين وإن كان باطلا فليجتنبوه قال ومما خص بالإجماع قوله تعالى {يوصيكم لله في أولادكم للذكر مثل حظ لأنثيين فإن كن نسآء فوق ثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها لنصف ولأبويه لكل واحد منهما لسدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه لثلث فإن كان له إخوة فلأمه لسدس من بعد وصية يوصي بهآ أو دين آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من لله إن لله كان عليما حكيما} فخص بنص السنة العبد بأنه لا يرث وخصت السنة أيضا الكافر بأنه لا يرث المسلم ولا المسلم الكافر وقال تعالى {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فخص الكتاب قائل الخطأ بوجوب الكفارة عليه وخص الإجماع المنقول من أحدث ناسيا أنه منتقض الوضوء وقد ادعى قوم أن حد العبد مخصوص بالقياس على حد الأمة قال علي وقد أفكوا في ذلك بل جاء النص بأن حد العبد مخالف لحد الحر في حديث دية المكاتب من طريق علي رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما وقالوا أيضا في قوله تعالى {ولبدن جعلناها لكم من شعائر لله لكم فيها خير فذكروا سم لله عليها صوآف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا لقانع ولمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون} أنه خص منها جزاء الصيد في أنه لا يؤكل منه بالإجماع وهدي المتعة قيس عليه قال علي هذا خطأ إنما أمر تعالى بالأكل من التطوع ما لم يعطب قبل محله وأما كل هدي واجب فقد قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم

بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن لله كان بكم رحيما} فلما كانت هذه الواجبات كلها مأمورا بإخراجها من أموالنا وكان ذلك مسقطا لملكنا عنها كانت قد انتقلت إما إلى ملك المساكين وإما إلى ملك الله عز وجل لا بد من أحد الوجهين المذكورين وما خرج عن ملكنا فلا يحل لنا أن ننصرف فيه إلا بنص مبيح أو إجماع والعجب من حملهم أمر الله تعالى بالأكل منها والإطعام على أن ذلك غير واجب ثم أرادوا أن يخصموا منها بقياس لا يشبه ما أرادوا تشبيهه به نعني هدي المتعة بهدي الجزاء فهلا إذ قاسوا هدي المتعة على هدي الجزاء قاسوا صيام الجزاء على صيام المتعة ولكن هذا في تناقضهم يسير جدا وأيضا فلا إجماع في تحريم الأكل من جزاء الصيد وقد روينا عن بعض التابعين إباحة الأكل منه قال علي وقال بعضهم كيف تتركون ظاهر القرآن الذي من أنكره أو شك فيه كفر لخبر واحد لا تكفرون ما خالفكم فيه ولا تفسقونه قال علي فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق القطع على وجوب الائتمار لهما معا واحد بالدلائل التي قد ذكرناها في باب إثبات العمل بخبر الواحد من هذا الكتاب وكلاهم وحي من عند الله تعالى والقطع في المراد منهما بالمغيب منهما معا إنما هو على حسب الظاهر منهما وإنما يكفر من أنكر تنزيل القرآن أو تنزيل بعضه فقط وأما إن أنكر الأخذ بظاهره وتأول في آياته تأويلات لا يخرج بها عن الإجماع فإننا لا نكفره ما لم تقم الحجة عليه كما لا نكفر من خالفنا في قبول خبر الواحد ما لم تقم الحجة عليه وكلا الأمرين سواء ولو أن امرأ يقول لا أقبل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان كافرا مشركا كمن أنكر القرآن أو شك فيه ولا فرق وبالله تعالى التوفيق

فصل من الكلام في العموم

فصل من الكلام في العموم قال علي وإذا ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فعلا كذا نظرنا فإن كان عرضا منتهكا أو دما مسفوحا أو مالا مأخوذا علمنا أن ذلك واجب لأنه عليه السلام حرم الدماء والأموال والأعراض جملة إلا بحق فما أخذ عليه السلام من ذلك علمنا أنه فرض أخذه وأنه مستثنى من التحريم المذكور من ذلك جلد الشارب وهمه عليه السلام بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة وهو عليه السلام لا يهم إلا لحق واجب لو أصر عليه المهموم فيهم لأنفذه عليهم لا يحل لأحد أن يظن غير ذلك ومن قال إنه عليه السلام يتوعد بما لا يفعل فقد نسب إليه الكذب وناسب ذلك إليه كافر ومثل ذلك القضاء باليمين مع الشاهدين وغير ذلك كثير فصل من العموم قال علي العموم قسمان منه مفسر ومنه مجمل فالمجمل هو الذي لا يفهم من ظاهره معناه والمفسر قد ذكرناه وأما المجمل فلا بد من طلب المراد فيه من أحد موضعين إما من نص آخر وإما من إجماع فإذا وجدنا تفسير تلك الكلمة في نص آخر قلنا به وصرنا إليه ولم نبال من خالفنا فيه ولا استوحشنا منه كثروا أو قلوا صغروا أو جلوا ولم نتكثر بمن وافقنا فيه كائنا من كان من قديم أو من حديث وقليل وكثير وليس ممن كان معه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قلة ولا ذلة ولا وحشة إلى أحد ولا فاقة إلى وفور عدد فإذا لم نجد نصا آخر نفسر هذا المجمل وجب علينا ضرورة فرض طلب المراد من ذلك المجمل في الإجماع المتيقن المنقول عن جميع علماء الأمة الذين قال تعالى

فيهم {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وكيفية العمل في ذلك أن نأخذ بما أجمعوا عليه من المراد بمعنى ذلك المجمل ونترك ما اختلفوا فيه فهذا هو حقيقة ما أمرنا به من الأخذ بالإجماع وترك كل قول لم يقم عليه دليل وهذا الذي نسميه استصحاب الحال وأقل ما قيل فإن قال قائل إن هذان اسمان مختلفان في المعنى فما الفرق بينهما ولم صرتم إلى أحدهما في بعض الأمكنة وإلى الآخر في أمكنة أخرى وما حد المواضع التي تأخذون فيها باستصحاب الحال وما حد المواضع التي تأخذون فيها بأقل ما قيل وأنتم تسمون فعلكم في كلا الموضعين اتباعا للإجماع وإجماعا صحيحا وأنتم لا تسمون من أنفسكم بإجمال لا تستطيعون تفسيره وتعيبون بذلك أصحاب القياس أشد عيب قيل له وبالله تعالى التوفيق صدقت في صفتك وأحسنت في سؤالك والجواب عما سألت عنه إن الذي عملنا فيه بأن سميناه أقل ما قيل فإنما ذلك في حكم أوجب غرامة مال أو عملا بعدد لم يأت في بيان مقدار ذلك نص فوجب فرضا ألا نحكم على أحد لم يرد ناقض في الحكم عليه إلا بإجماع على الحكم عليه وكان العدد الذي قد اتفقوا على وجوبه وقد صح الإجماع في الحكم به وكان ما زاد على ذلك قولا بلا دليل لا من نص ولا إجماع فحرام على كل مسلم الأخذ به وأما الذي عملنا فيه بأن سميناه استصحاب الحال فكل أمر ثبت إما بنص أو إجماع فيه تحريم أو تحليل أو إيجاب ثم جاء نص مجمل ينقله عن حاله فإنما ننتقل منه إلى ما نقلنا النص فإذا اختلفوا ولم يأت نص ببرهان على أحد الوجوه التي اختلفوا عليه وكانت كلها دعاوى فإذا ثبت على ما قد صح الإجماع أو النص عليه ونستصحب تلك الحال ولا ننتقل عنها إلى دعاوى لا دليل عليها وهذا القسم موجود كثيرا فهذا الجواب مستوعب لبيان جميع الوجوه التي سألت عنها ومبين للحد الذي سألت عنه وللفرق الذي سألت عنه ولوجوب المصير إلى ما سألت عن

دليل وجوب المصير إليه وبيان كون كلا الوجهين إجماعا وبالله تعالى التوفيق قال علي ومن خالف الطريق التي ذكرنا فلا بد له ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يقول برأيه بلا دليل في دين الله عز وجل وإما أن يقلد وكل ذلك باطل فلا بد له من الباطل قال علي ونحن نمثل من ذلك أمثله لتكون أبين للطالب فنقول وبالله تعالى التوفيق إن ذلك مثل قوله تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} ومثل ذلك قوله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} وقوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} وقوله تعالى {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتمآسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بلله ورسوله وتلك حدود لله وللكافرين عذاب أليم} وقوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} وقوله تعالى {للذين يؤلون من نسآئهم تربص أربعة أشهر فإن فآءوا فإن لله غفور رحيم} وقوله تعالى {وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم} وقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها وما من صاحب بقر لا يؤدي حقها وما من صاحب فضة أو ذهب لا يؤدي حقها إلا فعل به يوم القيامة كذا وكذا وجاء النص بإيجاب النفقة على الزوجات وذوي الرحم وملك اليمين فأما قوله تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} فإنه حكم في مشركين قد أمرنا بقتلهم وأخذ أموالهم وسبي نسائهم وأطفالهم وأوجب كل ذلك علينا وصح بالنص إيجاب دينار على الواحد منهم فصح أن من بذل منهم أقل من دينار لم يجز حقن دمائهم بذلك فكان الدينار أقل ما قال قائلون إنه جزية يلزم قبولها بالنص وليس في أكثر من ذلك حد ووقف عنده فيقول القائل هو أكثر ما قيل فلو لم يكن ههنا حد يوقف عنده لما وقع عقد ذمته أبدا لأنهم كانوا يكونون إنما بذلوا شيئا طلب منهم أكثر وهذا لا نهاية له وليس من حد حدا بأولى ممن حد حدا آخر فهذا لا ينضبط أبدا فصح أن الحد الأول هو الواجب أخذه وهو الدينار إذا بذلوه ولم يطيقوا أكثر منه وليس في النص لأخذ أكثر من الدينار ممن أطاقه وبالله تعالى التوفيق وأما

زكاة البقر فقد قدمنا ذكر خبر معاذ رضي الله عنه وأن مسروقا أدركه وحضر حكمه وشاهده هذا ما لا شك فيه ولم يكن أخذ زكاة البقر من عمل معاذ نادرا ولا خفيا بل كان فاشيا ظاهرا معلنا مرددا كل عام كثيرا فهذا غاية صحة النقل الموجب للعلم والعمل وكذلك عمله ونقله في الجزية فصح أن زكاة البقر والجزية مسندان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق معاذ وأما عدد الجزية ومقدارها فقد ذكرناه آنفا فهو اللازم إلا أن يتفقوا معنا باختيارهم على أكثر أو يتملكوا دون عهد فيلزموا ما يطيقون ويحرم بذلك دماؤهم وسبيهم وأما الصغار عليهم فإن النص قد ورد بإلزامه إياهم فكل ما وقع عليه اسم صغار فنحن نأتيه فيهم إلا ما منعنا منه نص أو إجماع فقط ولذلك أبحنا دماءهم إن ركبوا فرسا أو حملوا سلاحا أو تكنوا بكنى المسلمين أو تشبهوا بهم أو سبوا مسلما أو أهانوه أو خالفوا شيئا من الشروط التي قد جمعناها في كتاب ذي القواعد لأنه عموم واجب أخذه كله وحمله على كل ما اقتضاه اسمه وهذا بخلاف ما جاء عن المسلمين فإن المسلمين قد جاء النص فيهم بتحريم دمائهم وأموالهم وأعراضهم والإضرار بهم وأوجب الله علينا كرامة كل مسلم بنهينا عن التحاسد والتنازع وأن يحقر أحدنا أخاه المسلم وأمرنا بالتراحم والتعاطف وهذا بخلاف ما أمرنا به في المشركين فلا يحل من مال مسلم ولا من عرضه ولا من دمه ولا من أذاه إلا ما صح بإيجابه فلذلك قلنا في الدية المأخوذة من المسلمين بأقل ما قيل ولما صح تحريم أموال أهل الذمة بالجزية المتفق على قبولها وجب أيضا ألا نحكم عليهم بعد تيقنا تحريم دمائهم وأموالهم وسبيهم إلا بأقل ما قيل عليهم واستصحابا للحال التي قد تيقنا وجوبها علينا فيهم وإنما حرم بعد الجزية مال الذمي استصحابا للحال التي قد تيقنا وجوبها عليهم فيها فلذلك لم نقل أيضا في الدية المأخوذة منهم في قتل بعضهم بعضا إلا بأقل ما قيل وذلك ثلثا عشر دية المسلم إما ثمانمائة درهم وإما ستة

أبعرة وثلثا بعير ما لم ينقضوا ذمتهم فيعودوا بنقضها إلى ما كانوا عليه قبل الذمة بالإجماع والنص وبالله التوفيق وأما قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} فقد بين ذلك نص عن النبي صلى الله عليه وسلم جلي وأما قوله تعالى {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتمآسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بلله ورسوله وتلك حدود لله وللكافرين عذاب أليم} فإننا صرنا في تفسير مقدار هذا الإطعام إلى نص ورد في الواطىء خاصة وصرنا في كفارة الظهار إلى أقل ما قيل في ذلك وهو موافق للنص الوارد في كفارة الواطىء وأما قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} فإننا صرنا في ذلك إلى بيان نصوص وردت في ذلك وتركنا ما لم يأت فيه نص من الأموال فلم نأخذ منه شيئا لما ذكرنا من تحريم أخذ مال مسلم بغير طيب نفسه فحرم أن يؤخذ من مال مسلم شيء أصلا إلا بنص بين جلي أو إجماع لأن قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} هو مستثنى من جملة تحريم أموالهم فلا يخرج من ذلك النص الأكثر الأعم إلا ما بينه نص أو إجماع وأما قوله تعالى {لا جناح عليكم إن طلقتم لنسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على لموسع قدره وعلى لمقتر قدره متاعا بلمعروف حقا على لمحسنين} فإنما نأخذ في مقدار متعة المطلقة بما أوجبه البرهان قبل استصحابا لما قلنا من تحريم مال المسلم جملة وأما قوله {وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم} فإنا لا نجبر السيد على قبول أقل من قيمة المكاتب ولا نجبر المكاتب على أكثر مما يطيق لإجماع القائلين بإيجاب ذلك وهم أهل الحق على إيجاب المقدار الذي ذكرناه وأما قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} فإنا صرنا في ذلك إلى مقتضى ظاهر الآية على ما بيناه في كتابنا في المسائل لأن الأصل ما قد ذكرنا من تحريم مال المسلم جملة ومن أنه لا يحل لأحد أن يفرض شريعة على أحد لا من صيام ولا من غيره إلا ما أوجبه نص وأما قوله عليه السلام ما من صاحب إبل وما من صاحب غنم وما من صاحب بقر وما من صاحب ذهب فإنا صرنا في بيان مقدار الإبل والغنم والبقر المأخوذ منها ومقدار الحق المأخوذ منها إلى نصوص واردة في ذلك مبينة بيانا جليا ولذلك

أوجبنا حلبها يوما وردها فرضا وأما الذهب فإنه لا نص في مقدار ما يؤخذ منه الحق منها ولا في مقدار الحق المأخوذ منها فصرنا في ذلك إلى الإجماع ضرورة وقد قدمنا أنه لا يحل من مال مسلم إلا ما أوجبه نص أو إجماع فلم نوجب في الذهب إلا أقل ما قيل فلم نأخذ أقل من أربعين دينارا من ذهب ولا من الزيادة حتى يبلغ أربعين دينارا أبدا بخلاف الفضة لأن الفضة ورد فيها نص فوجب حمله على عمومه بخلاف الذهب الذي لم يرد في مقدار ما يؤخذ منه نص يصح البتة وبالله تعالى التوفيق وأما حلي الذهب فإنه قد أجمعت الأمة على وجوب الزكاة في الذهب قبل أن يصاغ حليا إذا بلغ المقدار الذي ذكرنا ثم اختلفوا في سقوطها إذا صيغ فاستصحبنا الحال الذي أجمعنا عليها ولم نسقط الاختلاف ما قد وجب باليقين والإجماع وأما النفقات الواجبات فقد أوجبها تعالى بالمعروف وأمرنا بالإحسان في ذلك وهذا يقتضي الشبع والسكن والكفاية وستر العورة بما لا يكون شهرة ولا مثلة فقد رأينا في هذا كله وجه العمل الذي من حفظه ووقف عليه كفي تعبا عظيما ولاح له الحق دون تخطيط ولا إشكال بحول الله وقوته قال علي وأما إذا ورد لفظ لغوي فواجب أن يحمل على عمومه وعلى كل ما يقع في اللغة تحته وواجب ألا ندخل فيه ما لا يفيده لفظه مثل قوله تعالى {وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم} فالخير في اللغة يقع على الصلاح في الدين وعلى المال فلا يجوز أن نخص بهذا النص بعض ما يقع عليه دون بعض إلا بنص فلما قال تعالى {وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم} } ولم يقل معهم ولا قال تعالى عندهم أنه إنما أراد الدين فقط فلذلك قلنا إنه لا يجوز مكاتبة كافر لأنه لا خير فيه البتة وأما المسلم فقوله لا إله إلا الله محمد رسول الله خير كثير ففيه خير على كل حال ولم يقل تعالى خير وبعض الخير خير وبالله تعالى التوفيق ومن ذلك قوله عليه السلام ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة فوجب حمل

دون على كل ما يقتضيه من أقل ومن غير فسقت بذلك الزكاة عن الخضراوات كلها والقطاني والفاكهة وسائر الثمار كلها لأنها غير الحب والتمر ووجب حمل الحب على ما يقع عليه في اللغة لا يقع على القمح والشعير فقط ذكر ذلك الكسائي وغيره من ثقات أهل اللغة في علمهم ودينهم ومثل ما جاء أنه عليه السلام كان يجعل فضل المال في الكراع والسلاح فوجب وضعه في كل ما يسمى كراعا وسلاحا ولذلك لم يجز تحبيس شيء من الأموال إلا ما جاء فيه نص لأنه شرع شريعة فلا يحل الحكم بها إلا بنص وأجزنا أن يحبس المرء على نفسه لأنه داخل في عموم قوله عليه السلام إن شئت حبست الأصل وتصدقت بالثمرة فجائز للمرء أن يتصدق على نفسه وعلى غيره لأنه كله تصدق وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله ابدأ بنفسك فتصدق عليها قال أبو محمد وذكر بعض أهل الكلام في هذا الباب حديثا رواه أبو عبيد في غريب الحديث وهو أمره عليه السلام قوما من جهينة بإدفاء رجل كان أصابه البرد والإدفاء في لغتهم القتل فقتلوه قال علي وهذا حديث مكذوب لا يصح البتة بل نحن على يقين من كذب مفتري لأنه عليه السلام أفصح العرب وأعرفهم في لغتهم ومأمور بالبيان وليس من البيان أن يأمرهم بكلام يقتضي عندهم غير مراده صلى الله عليه وسلم ولا حجة لهم في قصة عدي في الخيطين لأن عديا من قبله أتى سوء الفهم وقد كان لعدي في قوله تعالى {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} كفاية في أن المراد خيط الفجر من خيط الليل وقد كان نزل بعد {دد وقد فعل فعل عدي سائر الصحابة رضوان الله عليهم وهم أهل اللغة وأصابوا في ذلك حتى نزل {لل وانتقلوا عن الظاهر الأول إلى الظاهر النازل بعده وهذا هو الذي لا يجوز لأحد تعديه وبالله تعالى التوفيق وهو الموفق للصواب

الباب الرابع عشر في أقل الجمع

الباب الرابع عشر في أقل الجمع قال علي اختلف الناس في أقل الجمع فقالت طائفة أقل الجمع اثنان فصاعدا وهو قول جمهور أصحابنا وقالت طائفة أقل الجمع ثلاثة وهو قول الشافعي وبه نأخذ واحتج أصحابنا لقولهم بأن قالوا الجمع في اللغة ضم شيء إلى شيء آخر فلما ضم الواحد إلى الواحد كان ذلك جمعا صحيحا قال علي هذا خطأ ولا حجة فيه لأنه يلزمهم على ذلك أن يكون الجسم الواحد مخبرا عنه بالخبر عن الجمع واقعا عليه اسم الجمع لأنه جمع جزء إلى جزء وعضو إلى عضو وليس المراد باسم الجمع الذي اختلفنا فيه هذا المعنى من معاني الضم وإنما المقصود به ما عدا الإفراد والتثنية وليس ذلك إلا ثلاثة أشخاص متغايرة فصاعدا بلا خلاف من أهل اللغة وحفاظ ألفاظها وضباط إعرابها واحتجوا أيضا بأن قالوا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الاثنان فما فوقهما جماعة قال علي لا حجة لهم فيه لأنه حديث لم يصح حدثني أحمد بن عمر بن أنس بن عبد الله بن حسين بن عقال ثنا إبراهيم بن محمد الدينوري ثنا محمد بن أحمد بن الجهم ثنا بشير بن موسى ثنا يحيى بن إسحاق ثنا عليلة بن بدر هو الربيع

بن بدر عن أبيه عن جده عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الاثنان فما فوقهما جماعة وبه إلى ابن الجهم قال ثنا عبد الكريم بن الهيثم حدثنا أبو توبة ثنا مسلمة بن علي عن يحيى بن الحارث عن القاسم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اثنان فما فوقهما جماعة وقال أبو محمد رحمه الله عليلة ساقط بإجماع وأبوه مجهول ومسلمة بن علي ضعيف بلا خلاف وكذلك القاسم عن أبي أمامة فسقط الحديثان وإنما المعتمد عليه في حكم الصلاة قوله عليه السلام لمالك بن الحويرث وابن عمه فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وبإمامته في النافلة صلى الله عليه وسلم ابن عباس وحده واحتجوا أيضا بأن قالوا خبر الاثنين عن أنفسهما كخبر الكثير عن أنفسهم ولا فرق فيقول الاثنان فعلنا وصنعنا كما يقول الجماعة سواء بسواء

قال علي لا حجة لهم في ذلك في إيجابهم بهذا أن يكون الخبر عن الاثنين كالخبر عن الجماعة لأن ذلك قياس والقياس فاسد وأيضا فإن الخبر عن الاثنين بخلاف الخبر عن الجماعة فنقول عن الاثنين فعلا وعن الجماعة فعلوا وأيضا فإن المرأتين تخبران عن أنفسهما كما يخبر الرجلان عن أنفسهما فتقول المرأتان فعلنا وصنعنا وليس ذلك بموجب أن يخبر عنهما كما يخبر عن الرجلين فيقال فعلا بمنزلة فعلنا ولا يجوز في اللغة قياس بإجماع عن أهلها وإنما هي مسموعة والضمائر مختلفة عن الغائب والحاضر والمخبر عن نفسه والتثنية والجمع والمؤنث والمذكر وقد تتفق الضمائر أيضا في مواضع فليس اتفاقها فيها بموجب لاتفاقها في كل موضع ولا اختلافها في بعض المواضع بموجب اختلافها في كل موضع بل كل ذلك مأخوذ عن أهل اللغة كما سمعوه عن العرب وقد يخبر الواحد عن نفسه كما يخبر الاثنان وكما يخبر الجماعة فيقول فعلنا وصنعنا ونفعل ونصنع ونحن نقول وهذا عندنا وليس ذلك بموجب أن يكون الواحد جمعا فبطل احتجاجهم بأن خبر الاثنين عن أنفسهما كخبر الجمع وهو حجة في كون الاثنين جمعا واحتجوا أيضا بقوله تعالى {إن تتوبآ إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} وإنما كان لهما قلبان قال علي ولا حجة لهم في هذا لأن هذا باب محفوظ في الجوارح خاصة وقد نقل النحويون هذا الباب وقالوا إن كل اثنين من اثنين فإنه يخبر عنهما كما يخبر عن الجمع كأن العرب عدت الشيئين المخبر عنهما ثم أضافتهما إلى الشيئين اللذين هما منهما فصارت أربعة فصح الجمع وأنشدوا في ذلك ومهمهين فدفدين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين وهذا باب لا يتعدى فيه مسموعه من العرب فقط ولا يجوز أن يقاس عليه واحتجوا أيضا بقوله عز وجل {وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث

إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأن الضمير في حكم العربية أن يكون راجعا إلى أقرب مذكور إليه وأقرب مذكور إلى الضمير قوله تعالى {وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} فالقوم وداود وسليمان جماعة بلا شك فكأنه تعالى قال وكنا لحكم القوم في ذلك أي للحكم عليهم كما تقول هذا حكم أمر كذا أي الحكم فيه وعليه واحتجوا أيضا بقوله تعالى {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنآ إلى سوآء الصراط} وبين تعالى أنهما اثنان بقوله {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطآء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} ويقول أحدهما {إن هذآ أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب} قال علي لا حجة لهم فيه لأن الخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة وقوعا مستويا وكذلك الزور على الزائر الواحد والاثنين والجماعة وكذلك الإلب والحرب تقول هو إلب علي وهو حرب علي وهما حرب علي وإلب علي وهم حرب علي وإلب علي فلا يسوغ لأحد أن يقول إن المتسورين على داود صلى الله عليه وسلم كانا اثنين دون أن يقول بل كانوا جماعة وقد قال ذلك بعض المفسرين وقال تعالى {هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم} وإنما نزلت في ستة نفر علي وحمزة وعبيد بن الحارث رضي الله عنهم وفي عتبة وشيبة والوليد بن عتبة إذ تبارزوا يوم بدر وقد أخبر تعالى في آخر الآية بما يبين أنهم جماعة يقول تعالى {هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم} إلى منتهى قوله {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن محمد بن عيسى عن إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم بن الحجاج ثنا عمرو بن زرارة

ثنا هشام عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال سمعت أبا ذر يقسم قسما {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة رضي الله عنهم وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وإذا لم يأت نص بين في أن الخصمين المختصمين إلى داود صلى الله عليه وسلم كان إذ تسورا اثنين فقط لا ثالث لهما فليس لأحد أن يحتج بذلك في إبطال ما قد صح في اللغة ولا في إثبات أمر لم يثبت بعد واحتجوا أيضا بقوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} قال علي ولا حجة لهم في ذلك وليس كما ظنوا بل هذا جمع صحيح لأن لكل واحد من السارقين يدان فهي أربع أيد بيقين وقطع يدي السارق جميعا واجب يدا بعد يد إذا سرق سرقة بعد سرقة بنص القرآن واحتجوا أيضا بقوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نسآء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بهآ أو دين آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما} قال علي وهذا عليهم لا لهم أنه لا يجوز أن تحط الأم عن الثلث إلى السدس عندنا إلا بثلاثة من الإخوة لا باثنين وقولنا في ذلك هو قول ابن عباس وهو في اللغة بحيث لا يجهل محله إلا جاهل وإنما حكم من حكم برد الأم إلى السدس باثنين من الإخوة إما بقياس وإما بتقليد وكل ذلك فاسد فإن قيل قد قال بذلك عثمان قيل له قد خالفه ابن عباس وأنكر عليه ذلك وبين عليه أن اللغة خلاف ما يحكم به فلم يقدر عثمان على إنكار ذلك ولم نرد على أن قال لا أقدر أن أرد ما قد توارث به الناس واحتجوا بقوله تعالى حاكيا عن يعقوب عليه السلام في قوله {قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم} قالوا وإنما كان يوسف وأخاه قال علي هذا خطأ بل ما كانوا إلا ثلاثة يوسف وأخاه الذي حبس

من أجل الصواع الذي وجد في رحله والأخ الكبير الذي قال {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين * ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يأبانا إن ابنك سرق وما شهدنآ إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين} فلما فقد يعقوب ثلاثة من بنيه تمنى رجوعهم كلهم واحتجوا أيضا بقوله تعالى {وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} والطائفة تقع على الواحد وعلى الاثنين وعلى الأكثر فأخبر تعالى عن الطائفتين مرة بلفظ الجمع بقوله {وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} ومرة بلفظ الاثنين {وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} وقال تعالى في الآية التالية لها {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} فأمر بالإصلاح بين الاثنين كما أمر بالإصلاح بين الجماعة قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأن الطائفة كما ذكروا تقع على الواحد والاثنين والأكثر فإذا أخبر عنهما بلفظ الجمع فالمراد بهما الجمع والمراد بالطائفتين في أول الآية المذكورة الكثير منهم ومعنى قوله تعالى {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} أي بين الجماعتين المقتتلتين ثم علمنا تعالى وجوب الإصلاح بين الاثنين كوجوبه بين الكثيرين بقوله تعالى {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} وحمل الآية على ما نقول هو الذي لا يجوز غيره لأنه عموم لكيفية الإصلاح بين الكثير والقليل ولو كان ما ظن مخالفنا لما علمنا فيها الإصلاح بين الاثنين فقط وهذا خطأ واحتجوا بقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام {قال كلا فاذهبا بآياتنآ إنا معكم مستمعون} ولم يقل معكما قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأنهم ثلاثة بلا شك المرسلان وفرعون المكلم المرسل إليه فالمستمعون ثلاثة بيقين قال علي فإن قد بطل احتجاجهم بكل ما احتجوا به فلنقل في بيان صحة مذهبنا وبالله تعالى التوفيق

فصل من الخطاب الوارد بلفظ الجمع

فنقول إن الألفاظ في اللغة إنما هي عبارات عن المعاني ولا خلاف بين القرب في أن الاثنين لهما صيغة في الإخبار عنهما غير الصيغة التي للثلاثة فصاعدا وإن للثلاثة فصاعدا إلى ما لا نهاية له من العدد صيغة غير صيغة الخبر عن الاثنين وهي صيغة الجمع ولا خلاف بين أحد من أهل اللسان في أنه لا يجوز أن يقال قام الزيدون وأنت تريد اثنين ولا جاءني الهندات وأنت تريد اثنتين وضمير الغائب موضوع بلا خلاف بين أحد من أهل اللسان في موضع اسم الغائب ومبدل منه فلا يجوز أن يبدل ضمير الجماعة إلا من الجماعة ولا ضمير الاثنين إلا من الاثنين ولو كان ذلك لوقع الإشكال وارتفع البيان وكذلك المخاطبات لا يجوز البتة أن نقول لاثنين قمتم وقعدتم وإنما يقال قمتما وقعدتما ولا يقال لاثنين قمتن ولا يقال للنساء قمتما وإنما قال قمتن فصح ما قلنا بحكم ظاهر اللغة التي بها نزل القرآن وبها تكلم النبي صلى الله عليه وسلم وإلى مفهومها نرجع في أحكام الديانة إلا ما نقلنا عنه نص جلي وبالله تعالى التوفيق وهذا ما لا يجوز خلافه والله الموفق للصواب فصل من الخطاب الوارد بلفظ الجمع قال علي وإذا ورد لفظ بصورة جمع وقدر على استيعابه فلا بد من استيعابه ضرورة وإلا فقد صحت المعصية وخلاف الأمر فإن لم يقدر على ذلك ولم يكن إلى استيعابه سبيل فللناس قولان أحدهما أنه واجب أن يؤدي من ذلك ما أمكن وما انتهى إليه الوسع ولا يسقط عنه إلا ما عجز عنه أو ما قام نص أو إجماع بسقوطه وبهذا نأخذ وقالت طائفة لا يلزم

من ذلك إلا أقل ما يقع عليه اسم ذلك الجمع وهو ثلاثة فصاعدا وما زاد على ذلك فليس فرضا قال علي والحجة للقول الأول هي حجتنا على القائلين بالخصوص أو الوقف وقد لزم عموم ذلك الجمع بيقين فلا يسقط بشك ولا بدعوى فأما ما عجز عنه فساقط وأما ما لم يعجز عنه فباق على وجوب الطاعة له ويبين ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم قال علي فمن ذلك قول الله عز وجل {إنما الصدقات للفقرآء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} الآية وقوله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} فنقول إن الإمام القادر على استيعاب جميع مساكين المسلمين وفقرائهم وغازيتهم وسائر الأصناف المسماة ففرض عليه استيعابهم وأما من عجز عن ذلك فمن دونه فقد أجمعت الأمة بلا خلاف على أن له أن يقتصر على بعض دون بعض ودل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لزينب امرأة عبد الله بن مسعود إذ سألته أيجزي عني أن أتصدق على زوجي وولدي منه من الصدقة فقال عليه السلام نعم قال علي فبهذه النصوص صرنا إلى هذا الحكم والاستيعاب والعموم معناهما واحد وهذا كله من باب استعمال الظاهر والوجوب وقد رام قوم أن يفرقوا بين الاستيعاب والعموم وهذا خطأ ولا يقدرون على ذلك أبدا وقال هؤلاء القوم العموم لبعض ما يقع عليه الاسم عموم ذلك الجزء الذي عم به قال علي فيقال لهم وكذلك الاستيعاب لبعض ما يقع عليه الاسم استيعاب لذلك الجزء الذي استوعب به ولا فرق قال علي والجمع بلفظ المعرفة والنكرة سواء في اقتضاء الاستيعاب كقوله تعالى {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} فهذا عموم

الباب الخامس عشر في الاستثناء

لكل قوم لا يؤمنون وهو بلفظ النكرة كما ترى وقد ظن قوم أن الجمع إذا جاء بلفظ النكرة فإنه لا يوجب العموم فقالوا قولك جاء رجال لا يفهم منه العموم كما يفهم من قولك جاء الرجال قال علي وهذا ظن فاسد لا دليل عليه وإنما هو ألفه لما وقع في أنفسهم في عادات سواء استعملوها في تخاطبهم وبخلاف معهود اللغة في الحقيقة وقد أبطلنا ذلك بالآية التي ذكرنا آنفا وبالله تعالى التوفيق الباب الخامس عشر في الاستثناء قال علي قد بينا في باب الأخبار وفي باب العموم والخصوص كيفية الاستثناء ونحن الآن متكلمون إن شاء الله عز وجل بتأييده لنا في ماهية الاستثناء وأنواعه فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الاستثناء هو تخصيص بعض الشيء من جملته أو إخراج شيء ما مما أدخلت فيه شيء آخر إلا أن النحويين اعتادوا أن يسموا بالاستثناء ما كان من ذلك بلفظ حاشا وخلا وإلا وما لم يكن وما عدا وما سوى وأن يجعلوا ما كان خبرا من خبر كقولك اقتل القوم ودع زيدا مسمى باسم التخصيص لا استثناء وهما في الحقيقة سواء على ما قدمنا قال علي واختلفوا في نحو من أنحاء الاستثناء فقالت طائفة لا يجوز أن يستثنى الشيء من غير جنسه أو نوعه المخبر عنه وقالت طائفة جائز أن يستثنى الشيء من غير جنس أو المخبر عنه وبكلا هذين القولين قالت طوائف من أصحابنا الظاهرين ومن إخواننا القياسيين قال علي ونحن نقول إن استثناء الشيء من غير جنسه ونوعه المخبر عنه

جائز واسمه في العربية عند النحويين الاستثناء المنقطع وهو حينئذ ابتداء خبر آخر كقائل قال أتاني المسلمون إلا اليهود فهذا جائز كأنه قال إلا اليهود فإنهم لم يأتوني وهذا لا ينكره نحوي ولا لغوي أصلا إذا كان على الوجه الذي ذكرناه قال علي والبرهان القاطع في ذلك قوله تعالى {فسجد لملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس ستكبر وكان من لكافرين} وقال تعالى {وإذا قلنا للملائكة سجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من لجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أوليآء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا} فلم يدع تعالى للشك ههنا مجالا إلا بينه وأخبر أن إبليس كان من الجن وقد حمل التهور قوما راموا نصر مذهبهم ههنا فقالوا إن الملائكة يسمون جنا لاجتنانهم قال علي وهذا قول فاحش من وجوه أحدها وأوضحها قول الله عز وجل إذ سأل الملائكة {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} فقالت الملائكة {قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون لجن أكثرهم بهم مؤمنون} ففرق تعالى بين الملائكة والجن فرقا كما ترى والوجه الثاني إخباره عليه السلام إن الملائكة خلقت من نور والجن خلقت من نار ففرق بين النوعين فرقا من خالفه كفر حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج عن عبد الله بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم والثالث إجماع الأمة على أن من سمى جبريل أو ميكائيل جنيا فقد كفر فقد ظهر بطلان هذا القول الفاسد وكان أقصى ما احتج له القائلون به أن قالوا الاجتنان هو الاستتار ومن ذلك يسمى المجن مجنا والجنة جنة فالملائكة والجن مستترون عنا فهم جن

قال علي وهذا هذيان لبعض أهل اللغة وفي كل قوم جنون فلو أن عاكسا عكس عليهم فقال ما اشتق الاجتنان الذي هو الاستتار إلا من الجن بماذا كانوا ينفصلون وأيضا فيقال لهم حتى لو صح قولكم إن الجن اشتقوا من الاجتنان فمن أي شيء اشتق الاجتنان فإن جروا هكذا إلى غير غاية وهذا يوجب أشياء موجودات لا أوائل لها ولا نهاية لعددها وهذا محال ممتنع وموافقة أهل الكفر وإن قالوا ليس للفظ الذي اشتق منه اشتقاق قيل لهم فما الذي جعل تلك اللفظة بأن تكون مبتدأة أولى من هذه الثانية وقد سقط في هذا كبار النحويين منهم أبو جعفر النحاس فإنه ألف كتابا في اشتقاق أسماء الله عز وجل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذا يلزمهم القول بحدوث أسماء الله عز وجل لأن كل شيء مشتق فهو مأخوذ مما اشتق منه وكل مأخوذ فقد كان قبل أن يوجد غير مأخوذ فقد كانت الأسماء على أصلهم غير موجودة والكلام ههنا يطول ويتشعب ويخرجنا عن غرض كتابنا وأسماء الله عز وجل إنما هي أسماء أعلام كقولك زيد وعمرو والمراد بها الله تعالى الذي لم يزل وحده لا شريك له ولا يزال خالق كل شيء لا إله إلا هو رب العرش العظيم وأما الأصوات المسموعة المعبر بها فمخلوقة لم تكن ثم كانت ومنهم أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي فإنه قال في نوادره العشقة نبت يخضر ثم يصفر ثم يهيج ومنه سمي العاشق عاشقا أو ما علم هذا الرجل أن كل نبت في الأرض فهذه صفته فهلا يسمى العاشق باقلا مشتقا من البقل الذي يخضر ثم يصفر ثم يهيج فإن ركب هذا الطريق اتسع له جدا وأخرجه ذلك إلى بعض خرق من أدركناه من أهل الجنون وأدخله

في باب المضاحك والمطايب والمجون والذي نعتقد ونقول ونقطع على صحته أن الاشتقاق كله باطل حاشا أسماء الفاعلين من أفعالهم فقط وأسماء الموصوفين المأخوذة من صفاتهم الجسمانية والنفسانية وهذا أيضا لا ندري هل أخذت الأسماء من الصفات أو أخذت الصفات من الأسماء إلا أننا نوقن أن أحدهما أخذ من صاحبه مثل ضارب من الضرب ومثل آكل من الأكل ومثل أبيض من البياض وغضبان من الغضب وما أشبه ذلك وأما سائر الأسماء الواقعة على الأجناس والأنواع كلها فلا اشتقاق لها أصلا وليس بعضها قبل بعض بل كلها معا وقد كنت أجري في هذا مع شيخنا أبي عبده حسان بن مالك رحمه الله وكان أذكر من لقينا للغة مع شدة عنايته بها وثقته وتحريه في نقلها فكان يقول لي قد قال بهذا الذي تذهب إليه كثير من أهل اللغة قديم وسماه لي وشككت الآن في اسمه لبعد العهد وأظن أنه نفطويه وكيف يسوغ لذي عقل أن يسمي الملائكة جنا وهو يسمع قول الله عز وجل {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق لقول مني لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين} وما علمنا مسلما يقول إن أحدا من الملائكة يدخل جهنم وقد قال تعالى {قل أعوذ برب لناس * ملك لناس * إله لناس * من شر لوسواس لخناس * لذى يوسوس في صدور لناس * من لجنة ولناس} أفتراه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يستعيذ من شر الملائكة هذا ما لا يظنه ذو عقل وقد اعترض على بعض من كلمني في هذا المعنى بقوله تعالى {وجعلوا بينه وبين لجنة نسبا ولقد علمت لجنة إنهم لمحضرون} وقال إنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الرحمن قال علي وهذا ليس بشي لأنه قد روي عن ابن عباس أن قريشا كانت تقول سروات الجن هم بنات الرحمن فإنما عنى تعالى الجن على الحقيقة في هذا المكان لا الملائكة ونسأل من ذهب إلى هذا أيجوز أن يقول قائل والجن

حافون من حول العرش وهذا ما لا يجيزه مسلم وقد أخبر تعالى أن الجن عن السمع لمعزولون ودون السماء بالشهب مقذوفون وأن الملائكة بخلاف ذلك ويلزم من سمى الجن جنا من أجل اجتنانهم أن يسمي دماغه جنيا ويسمي مصيره جنيا لأن كل ذلك مجتن وقد اعترض بعضهم بأن إبليس دخل مع الملائكة في الأمر بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم قال علي وهذا باطل لأن الله تعالى أخبر أنه كان من الجن ولا تدخل الجن مع الملائكة فيما خصت به الملائكة فلا بد أنه تعالى أمر إبليس أيضا بالسجود وقد جاء النص بذلك فقال تعالى {قال يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من لعالين} فقد أيقنا أن الله تعالى أمره بالسجود كما أمر الملائكة فقد وجدنا الله تعالى استثنى إبليس من غير نوعه فلا مجال للشك في هذا المعنى بعد هذا ووجدناه تعالى قد قال أيضا {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} أي لكن خطأ وقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بلباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن لله كان بكم رحيما} وقال تعالى {لا يذوقون فيها لموت إلا لموتة لأولى ووقاهم عذاب لجحيم} فاستثنى عز وجل الموتة الأولى وليست الموتة فيما يذاق أصلا في الجنة واستثنى تعالى التجارة وهي حق من الباطل واستثنى تعالى الخطأ من القتل المحرم وليس المخطىء قاتلا من العمد الحرم واستثنى تعالى القول الطيب سلاما سلاما من قول الإثم ومن هذا الباب لا إله إلا الله واستثنى الله تعالى من جملة الآلهة التي عبدها من سوانا وليس تعالى من جنسها ولا نوعها ولا له عز وجل نوع ولا جنس أصلا وقد قال تعالى {وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا بتغآء وجه ربه لأعلى} وقال النابغة الذبياني ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب فاستثنى الفخر من المعائب وقال أيضا

فصل من الاستثناء

وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيا ما أبينها والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد فاستثنى الأثافي والنؤى من الأحدين وقال آخر وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس وقال تعالى {ولئن شئنا لنذهبن بلذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا * إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا} فاستثنى عز وجل رحمته من الوكيل عليه الذي لا سبيل إليه فأي شيء قاله من أبى استثناء الشيء من غير جنسه في هذه الآيات وفي هذه الآي فهو قولنا وهو أنه استثناء منقطع وعطف خبر على خبر بمعنى لكن أو حتى وقد صح بلا ضرورة أن يخبر بخبر إيجاب عن واحد وبخبر نفي عن آخر ولا فرق بين أن يرد أحد الخبرين على الآخر بحرف العطف وبين أن يرد بحرف الاستثناء وقد جاء كل ذلك كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فصل من الاستثناء قال علي واختلفوا في نوع من أنواع الاستثناء وهو أن يستثنى من الجملة أكثرها ويبقى الأقل فأجازه قوم وهو قول جميع أصحابنا أهل الظاهر وبه نأخذ وبه قال جمهور الشافعيين وأباه قوم وهو قول جمهور المالكيين ولا نعلم لهؤلاء القوم حجة أصلا في المنع من ذلك إلا أن يقول بعضهم إنكم قد وافقتمونا على جواز استثناء ولا نوافقكم على جواز استثناء الأكثر قال علي وهذه حجة إنما تصح فيما لا نص فيه أو فيما لم يقم عليه برهان

وأما كل ما قام فيه برهان عقلي أو شرعي فلا نبالي من وافقنا فيه ولا من خالفنا وقد قامت البراهين على جواز استثناء الأكثر من جملة لا يبقى منها بعد ذلك إلا الأقل قال الله عز وجل {قم لليل إلا قليلا * نصفه أو نقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل لقرآن ترتيلا} فأبدل تعالى النصف من القليل وهو بدل البيان ولم يختلف قط أحد أنه لم يفرض عليه قيام الليل كله وإنما فرض عليه القيام في الليل وهذا البدل يحل محل المبدل منه فالمفهوم أنه قال تعالى قم الليل إلا نصفه ثم زادنا الله تعالى فائدة عظيمة وهي أن النصف قليل بالإضافة إلى الكل قال علي فإن قال قائل كيف تحتجون بهذا وأنتم تقولون إن قيام أكثر من ثلث الليل لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا قيام فوق داود وكان يقوم ثلث الليل بعد أن ينام نصفه ثم ينام سدسه قيل له وبالله تعالى التوفيق معنى قوله تعالى {نصفه أو نقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل لقرآن ترتيلا} إنما هو والله أعلم إعلام بوقت القيام لا بمقدار القيام ليتفق معنى الآية والحديث فكل من عند الله تعالى وما كان من عنده تعالى فلا اختلاف فيه قال الله عز وجل {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فصح أن معنى قوله تعالى {قم لليل إلا قليلا} قم في الليل إلا في قليل في نصفه وهكذا قوله تعالى {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي لليل ونصفه وثلثه وطآئفة من لذين معك ولله يقدر لليل ولنهار علم ألن تحصوه فتاب عليكم فقرءوا ما تيسر من لقرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في لأرض يبتغون من فضل لله وآخرون يقاتلون في سبيل لله فقرءوا ما تيسر منه وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وأقرضوا لله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند لله هو خيرا وأعظم أجرا وستغفروا لله إن لله غفور رحيم} إنما معناه في أدنى وقوله تعالى {كانوا قليلا من لليل ما يهجعون} مع نهيه على لسان نبيه عن قيام أكثر من ثلث الليل بيان أن الثلثين قبل الإضافة إلى الكل لأنهم كانوا يهجعون قليلا وهو الثلثان ويخرج أيضا على أن ما ههنا جحد محقق فيكون معناه كانوا ما يهجعون قليلا من الليل وهو الثلث فأقل فيكون هذا أيضا حسنا موافقا لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الثلث وكلا القولين متفق لأنه إذا هجع الثلثين وقام الثلث فإن الثلثين قليل بالإضافة إلى الكل والثلث أيضا كذلك وبالله تعالى التوفيق

فإن اعترض معترض بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلث كثير قيل له صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلث كثير بالإضافة إلى ما هو أقل منه وهكذا كل عدد من العالم فألف ألف كثيرا بالإضافة إلى عشرة آلاف وألف ألف قليل بالإضافة إلى عشرة آلاف ألف قال علي ونقدر أن الذي أقحم هؤلاء القوم في هذه الورطة تجويزهم للمحتبس استثناء أقل من الثلث ولم يجوزوا له استثناء الأكثر من ذلك فقادهم الخطأ إلى ما هو أشد خطأ منه وإن أولى الناس بالتقنع إذا ذكر هذا الحديث الذي اعترضوا به من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلث كثير فالمالكيون لأنهم يجعلون الثلث كثيرا في الاستثناء من الحبس كما ذكرنا ثم يجعلونه في حكم المرأة ذات الزوج في مالها قليلا فيجوزون لها الثلث دون رأي زوجها ويمنعونها من أكثر من الثلث إلا برأيه ثم يجعلون الثلث كثيرا في الجائحة إذا أصابت من الثمرة ثلثها فصاعدا ويجعلون ما دون الثلث قليلا لا حكم له ثم يجعلون الثلث قليلا في استثناء البائع من حائطه المبيع أو زرعه المبيع مكيلة تبلغ الثلث فأقل ويجعلون ما زاد على الثلث في ذلك كثيرا ممنوعا ثم يجعلون الثلث كثيرا في الشاة تباع ويستثنى منها أرطال فمنعوا من ذلك إن كانت الأرطال مقدار الثلث وأجازوه إن كانت أقل من الثلث ثم يجعلون الثلث قليلا في الدار تكترى وفيها نخل لم يظهر بعد فيه ثمرة أو ظهرت ولم يبد صلاحها فأجازوا دخول تلك الثمرة في الكراء قالوا فإن كانت أكثر من الثلث لم يجز ذلك ويجعلون العشر قليلا وما زاد عليه كثيرا فيمن أمر آخر أن يشتري له جارية بثلاثين فاشترى له جارية بثلاثة وثلاثين قالوا هي لازمة للآمر فإن كان أكثر فهي غير لازمة للآمر وقد قالوا أيضا إن ما زاد على نصف العشر كثير فيمن أمر آخر أن يشتري له عبدا بمائة دينار فاشتراه له بمائة وخمسة دنانير أنه يلزمه

ولا يلزمه إن اشتراه بأكثر ومرة يجعلون النصف قليلا فيمن كان له عند آخر دينارا فصارفه في نصفه بدراهم فأخذ بالنصف الثاني طعاما أن ذلك جائز فإن صارفه بأكثر من النصف وأخذ بالباقي لم يجز ذلك لأنه كثير وقالوا من ابتاع سلعا فوجد بعضها فاسدة لا يجوز بيعها كشاة ميتة بين مذكيات ونحو ذلك فإن كان وجه الصفقة والذي يرجى فيه الربح فسخت الصفقة كلها وإن كان أقل من ذلك فسخ الحرام ونفذ العقد في الحلال وحدوا الكثير في ذلك بالسبعين من المائة فجعلوا ما دون الثلاثة الأرباع قليلا وجعلوا نقص النصف من الأذن والذنب مانعا من جواز التضحية ونرجح في الثلث فما فوقه إلى النصف ثم يجعلون الثلث قليلا في الحلي والسيف والمصحف يكون فيه فضة تقع في ذلك قيمته ما هي فيه فيجيزون بيعه كله أو بعضه أو يكون فيه ذهب يقع في ثلث قيمة ما هو فيه فيباع بالذهب قالوا فإن كان مقدار ذلك أكثر من الثلث مما هو فيه لم يجز بيعه إن كان فضة بفضة أصلا وإن كان ذهبا بذهب أصلا قالوا والسكين بخلاف الحلي والسيف المصحف في ذلك قال علي فمرة كما ترى يجعلونه الثلث قليلا ومرة يجعلونه كثيرا ومرة يجعلون النصف قليلا ومرة يجعلون ما زاد على العشر كثيرا تحكما بآرائهم الفاسدة بلا دليل وإن سماع هذه القضايا الفاسدة التي لم يأذن بها الله عز وجل لعبرة لمن اعتبر وآية لمن تفكر والعجب يتضاعف من قوم قبلوا ذلك ودانوا به كما ترى وتركوا له دلائل القرآن والسنة ونصوصهما وحسبنا الله ونعم الوكيل قال علي وقد جاء في نص القرآن استثناء الأكثر من جملة يبقى منها الأقل بعد ذلك فبطل كلام كل من خالفه قال الله عز وجل لإبليس {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من تبعك من لغاوين} وقد أخبر رسول

الله صلى الله عليه وسلم أنا في الأمم التي تدخل النار كالشعرة السوداء في الثور الأبيض وأنه عليه السلام يرجو أن يكون نصف أهل الجنة وأن بعث أهل النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون للنار واحد إلى الجنة هذا حكم جميع ولد آدم عليه السلام ويكفي من ذلك قوله تعالى {ومآ أكثر لناس ولو حرصت بمؤمنين} فقد استثنى الغاوين من جملة الناس وهم أكثر الناس فاستثنى كما ترى ألفا غير واحد من ألف قال علي وأيضا فإن الاستثناء إنما هو إخراج للشيء المستثنى مما أخبر به المخبر عن الجملة المستثنى منها ولا فرق بين إخراجك من ذلك الأكثر وبين إخراجك الأقل وكل ذلك خبر يخبر به فالخبر جائز عن الأكثر كجوازه عن الأقل ولا يمنع من ذلك إلا وقاح معاند أو جاهل وأيضا فلا شك بضرورة التمييز أن عشرة آلاف أكثر من عشرة آلاف حاشا واحدا فإذا كان ذلك فعشرة آلاف غير واحد قليل بالإضافة إلى عشرة آلاف كاملة وإذا كان ذلك فاستثناء القليل من الكثير جائز لا تمانع فيه وأيضا فإنه لا فرق بين قول القائل ألف غير تسعمائة وتسعة وتسعين وبين قوله واحد ولا فرق بين قول القائل سبعمائة وثلاثمائة وبين قوله ألف وهذا كله من المتلائمات وهي ألفاظ مختلفة معناها واحد وإذا كان ذلك فلا فرق بين استثناء ثلاثمائة من ألف لأنها بعض الألف وبين استثناء تسعة وتسعمائة وتسعين من الألف أيضا لأنها بعض الألف ولا فرق فإن قال قائل إن ربك ألف غير تسعمائة وتسعة وتسعين إذا كان ذلك بمعنى واحد قيل له وبالله تعالى التوفيق لو عقلت معنى تسمية ربك تعالى لم تسمنا هذا ونحن لا يحل عندنا أن نقول إن الله تعالى فرد ولا أنه

فذ ولا نقول إلا واحد وتر كما جاء النص فقط لأن كل ذلك تسمية ولا يحل تسمية الباري تعالى بغير ما سمى به نفسه ومن فعل ذلك فقد ألحد في أسمائه وهو تعالى ليس عددا وإنما يسمى ما دونه واحدا على المجاز وإلا فليس في العالم واحد أصلا لأن الواحد الذي لا يتكثر البتة وليس هذا في العالم البتة حاشا الله تعالى وحده وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل فأخر استثناء الجملة كلها قيل له هذا لا يجوز لأنه كان يتكون أحد الخبرين مبطلا للآخر ومكذبا له كله لأنه إذا قال أتاني إخوتك إلا إخوتك كأن قد قال إتاني إخوتك لم يأتني إخوتك وهذا تناقض وتكاذب وخلف من الكلام ومحال لا يجوز أصلا وليس هذا المحال موجودا في استثناء الأكثر من جملة يبقى منها الأقل ولا في استثناء الشيء من غير جنسه ألا ترى أنك إذا قلت أتاني إخوتك ولم يأتني بنو عمك وأتاني إخوتك ولم يأتوني كلهم لكن بعضهم فهذان الخبران صدق إذا صدق فيهما والإخبار بهما صحيح حسن فهذا فرق ما بين استثناء الجملة كلها وبين استثناء أكثرها واستثناء الشيء من غير جنسه وقد قال قائلون إن من لفظ بعموم في خبره فلا بد له أن يبقي إن استثنى من جنس تلك الجملة ما يقع عليه اسم عموم ولم يجوزوا أن يقول القائل أتاني إخوتك لم يأتني كلهم ولكن أتاني واحد منهم وقالوا إن الآتي ليس إخوة ولكنه أخ فلا يستثنى إلا بأن يبقى ثلاثة فصاعدا قال علي وهذا لا معنى له لأن ألف سنة ليس مطابقا لتسعمائة فإن قال هو مطابق لتسعمائة وخمسين قيل له ومجيء الأخ الواحد مطابق لعدم مجيء جميعهم حاشاه ولا فرق فإن قال قائل فإذا لا تجوزون استثناء الجملة كلها فكيف قلتم إن من قال لفلان عندي مائة دينار إلا عبدا قيمته مائة دينار أو قال لفلان عندي مائة دينار إلا مائة دينار إن هذا الإقرار

فصل من الاستثناء (أيضا)

لا يحكم عليه بشيء منه ولا يقضى لذلك لفلان عليه بشيء قيل له وبالله تعالى التوفيق وهذا موافق لأصلنا لأنه لما كان استثناء جميع الجملة محالا وكان الناطق بذلك ناطقا بمحال لا يجوز فكان كلامه ذلك باطلا وإقراره فاسدا والإقرار لا يجوز إلا صحيحا مجردا من كل ما يبطله فلذلك لم نحكم عليه بهذا الإقرار لأنه متناقض وقد وافقنا خصومنا في ذلك على أن رجلا لو قال بحضرة عدول إني زنيت الساعة أمامكم بامرأة كانت معنا وقتلت الساعة بحضرتكم رجلا مسلما حرام الدم بلا سبب وكذلك لو قال رفعت رجلا مسلما إلى السحاب ثم أرسلته فسقط في البحر فمات أو قال أخذت عصا موسى عليه السلام وطعنت بها رجلا فقتلته فإنه لا يؤخذ بشيء من ذلك ولا يحكم عليه إلا بالهوس والجنون ولا فرق بين ما ذكرنا وبين ما حكمنا نحن به من إسقاط كل إقرار فاسد متناقض يسقط آخره أوله ويبطله ولا فرق بين إسقاط بعض الجملة المقر بها الاستثناء وبين إسقاط جميعها بالتناقض أو بذكر البراء منها وبالله تعالى التوفيق فصل من الاستثناء قال علي وإذا وردت أشياء معطوفات بعضها على بعض ثم جاء الاستثناء في آخرها فإن لم يكن في الكلام نص بيان على أن ذلك الاستثناء مردود على بعضها دون بعض فواجب محله على أنه مردود على جميعها والبرهان على ذلك أنه ليس بعضها أولى بها من بعض فإن قال قائل فهلا قلتم إنه مردود عن أقربها منه لأن الألفاظ التي تقدمت قد حصلت على عمومها فواجب ألا ينتقل عنه إلا بنص أو إجماع فالجواب وبالله تعالى التوفيق

إن كل ألفاظ جمعت في حكم واحد فلم يكمل بعد أمرها حتى ينقضي الكلام فإذا جاء بعقبها استثناء فقد صح الاستثناء يقينا وإذا صح يقينا فقد حصل التخصيص بالنص وصار الاقتصار به على بعض ما قبله دون بعض دعوى مجردة لا دليل عليه فإن قال قائل فإن رده على أقرب ما يليه يقين ورده على كل ما قبله شك قيل له وبالله تعالى التوفيق ليس شكا إذا قام الدليل على صحته بل هو يقين وأيضا فظاهر اللفظ رده على كل ما قبله وتخصيص الظاهر بلا دليل لا يجوز قال علي وكذلك نقول في آية القذف في قوله تعالى {ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون * إلا لذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن لله غفور رحيم} راجع إلى كل ما تقدم ومسقط للفسق عنهم وموجب لقبول شهادتهم فإن قال قائل فهلا أسقطتم به الحد قلنا منع من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لقاذف امرأته البينة وإلا فحد في ظهرك لأنه عليه السلام لم يسقط الحد إلا ببينة لا بالتوبة وقد حد حمله ومسطحا في قذفهم عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ولا شك في توبتهم حين نزول الآية ببراءتها ولو لم يتوبوا لارتدوا وكفروا ولحلت دماؤهم فصح أنهم حدوا بعد يقين توبتهم وكذلك قلنا في قوله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} فلولا بيان الاستثناء أنه مردود إلى الأهل فقط لسقطت به الرقبة ولكن لا حق للأهل في الرقبة ولا صدقة لهم فيها وقد قال تعالى {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وكذلك قلنا في قوله عز وجل {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} فهذا الاستثناء مردود على المخاطبين أنفسهم وهذا القليل عندنا مستثنى من الفضل والرحمة لا من اتباع الشيطان والآية على ظاهرها دون تكلف تأويل ومعناها أن الله رحمكم وتفضل عليكم حاشا قليلا منكم لم يرحمهم ولا تفضل عليهم وهم الكفار

منكم والمنافقون الذين فيكم فلم تتبعوا الشيطان بفضل الله تعالى ورحمته وأما الذين لم يتفضل الله عليهم ولا رحمهم فاتبعوا الشيطان وهذا الذي قلنا هو العيان المشهود والنص المسموع فإن الأقل من المخاطبين الحاضرين مع الصحابة رضي الله عنهم كانوا منافقين خارجين عن الفضل والرحمة متبعين الشيطان فهم القليل المستثنون بقوله تعالى {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} واستثنوا من جملة المتفضل عليهم والمرجومين والممتنعين بذلك من اتباع الشيطان فهو راجع على كل من ذكر في الآية وبالله تعالى التوفيق وللناس في هذه الآية أقوال فقوم قالوا هذا الاستثناء راجع إلى قوله تعالى {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} قال علي وهذا خطأ لأن رد الاستثناء إلى أبعد مذكور دعوى ساقطة فاسدة لم يقل بها قط أحد من النحويين وأهل اللغة الذين إليهم يرجع في مثل هذا وإنما الناس على قولين كما قدمنا قوم قالوا الاستثناء مردود إلى أقرب مذكور وقوم قالوا إلى الجملة كلها فإن وجد استثناء راجع إلى أبعد مذكور فلا يحمل غيره على حكمه لأنه بمنزلة ما خرج عن معهود أصله وكلفظ نقل عن موضوعه وقال بعضهم {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} راجع إلى قوله تعالى {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} أي أذاعوا به إلا قليلا قال علي ويبطل قول هؤلاء بما بطل به قول من ذكرنا قبلهم ولا فرق وقال بعضهم فضل الله ورحمته المذكوران في الآية هما محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن أي لولاهما لكنتم كفارا متبعين الشيطان إلا قليلا ممن هديناه قبل ذلك كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة قال علي وهذا تأويل فاسد النية لأن زيدا وقسا لولا فضل الله ورحمته لهما لاتبعا الشيطان والاستثناء إنما هو مخرج لما استثنى من جملة ما استثنى منه فلا يجوز أن يكون هذا الاستثناء إلا من الفضل والرحمة والامتناع

من اتباع الشيطان الذي ذكر كل ذلك في الآية وبالله تعالى التوفيق قال علي وحتى لو لم يجز في الاستثناء إلا رده إلى أقرب مذكور لما كان في ذلك ما يوجب ألا نقبل شهادة القاذف إذا تاب لأن الفسق مرتفع عنه بالتوبة بنص الآية بإجماع الأمة وإذا ارتفع الفسق ثبتت العدالة ضرورة لأنه ليس في العالم من المخاطبين إلا فاسق أو عدل وإذا ثبتت العدالة وجب قبول الشهادة لقوله تعالى {جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها لأنهار خالدين فيهآ أبدا رضى لله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} فحرام علينا ألا نرضى عمن رضي الله عنه وإذا كان حراما علينا ففرضنا الرضا عنه وإذا كان الرضا عنه فرضا ففرض علينا قبول شهادته لأنه ممن نرضى من الشهداء بنص القرآن في إيجاب شهادة {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} فقد صح أن سقوط الفسق عنه موجب لقبول شهادته والعجب من أصحاب أبي حنيفة في تركهم ظاهر الآية وميلهم إلى رأيهم الفاسد فإن نص الآية إنما يوجب ألا تقبل شهادته بنص القذف وليس في ذلك أن شهادته لا تسقط إلا بعد أن يحد وقالوا هم إن شهادته لا تسقط إلا أن يحد فزادوا في رأيهم ما ليس في القرآن وخالفوا الآية في كل حال فقبلوا شهادته أفسق ما كان قبل أن يحد وردوها بعد أن ظهر الحد وقد أخبر عليه السلام في كثير من الحدود أن إقامتها كفارة لفاعليها وهم أهل القياس بزعمهم فهلا قاسوا المحدود في القذف على المحدود في السرقة والزنى وقد شاركهم المالكيون في بعض ذلك فردوا شهادة المحدود فيما حد فيه وأجازوها فيما لم يحد فيه وهذا كله افتراء على الله لم يأذن به وحكم في الدين بغير نص وبالله تعالى التوفيق قال علي وكذلك قوله عز وجل {ولذين لا يدعون مع لله إلها آخر ولا يقتلون لنفس لتي حرم لله إلا بلحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له لعذاب يوم لقيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل لله سيئاتهم حسنات وكان لله غفورا رحيما} إلى قوله تعالى فإن الاستثناء الذي في آخرها راجع بإجماع إلى كل ما تقدم

قال علي والاشتراط هو معنى الاستثناء في كل ما قلنا من ذلك قوله تعالى {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم} فهذا كما تراه استثناء صحيح لمن خشي العنت مع كل ما تقدم من الشروط دون ذكر من لم يخش العنت وكذلك قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} في كفارات الأيمان فكان هذا الشرط عن عدم كل مذكور في الآية من رقبة وكسوة وإطعام لا على أقرب مذكور فيها وكذلك قوله تعالى في آية المحاربة {إلا لذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فعلموا أن لله غفور رحيم} فكان ذلك راجعا على سقوط كل ما ذكر في الآية من قتل وصلب ونفي وقطع وخزي وعذاب لا على بعض ذلك دون بعض بإجماع فإن اعترض معترض بقوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} وأننا نقول إنه راجع إلى أقرب مذكور قال علي وإنما وجب ذلك لضرورة بينة في تلك الآية فإنه لا يجوز البتة في نصها أن يرد الشرط على كل مذكور فيها لأنه تعالى قال {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} فكان ذكر الدخول من صلة وصف النساء اللواتي هن أمهات الربائب لا بوصف أمهات النساء إذ من المحال الممتنع أن يقول تعالى وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن لأنه كلام فاسد البتة لا يفهم فلما صح أن الدخول المذكور إنما هو مراد به أمهات ربائبنا ضرورة لأنه من صلة اللاتي واللاتي صفة للنساء اللواتي هن أمهات ربائبنا ضرورة كان قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} مردودا إليهن ضرورة أيضا لأنه أحد قسميهن اللذين هما دخول ولا دخول وهو صلة الكلام المتصل به لا مما قبله فإن قال قائل أنتم تجيزون أن يستثنى الشيء من خير جنسه فكيف تقولون فيمن باع بدينار إلا درهما أو إلا قفيز قمح أو ما أشبه هذا

الباب السادس عشر في الكناية بالضمير

قلنا له وبالله تعالى التوفيق هذا عندنا ممتنع في البيع حرام لأنه يرجع إلى بيعتين في بيعة لأن الدرهم والعرض لا يستثنى من غير جنسه عندنا إلا على معنى الاستثناء المنقطع كما بينا في أول هذا الباب فإن كان ذلك فإنما مرجعه إلى القيمة فإن كان ذلك في البيع فقد وجب أنه باعه بدينار إلا ما قابل صرف الدرهم من الدينار وهذه بيعة أو ثمن مجهول وكلاهما حرام في البيوع وهو جائز في الإقرار لأنه أقر له بدينار وذكر أن له عنده درهما فخرج الدرهم أو قيمته مما أقر به وكذلك لو قال مقر له عندي دينار ولي عنده ديناران أو إلا دينارين لي عنده لم يحكم عليه بشيء أصلا لأنه بعد أن أقر له أتى بما سقط به عند الإقرار جملة ولو كان ذلك في البيع لم يجز عند أحد من المسلمين وبالله تعالى التوفيق الباب السادس عشر في الكناية بالضمير قال علي والضمير راجع إلى أقرب مذكور لا يجوز غير ذلك لأنه مبدل من مخبر عنه أو مأمور فيه فلو رجع إلى أقرب مذكور لكان ذلك إشكالا رافعا للفهم وإنما وضعت اللغات للبيان فإذا كانت الأشياء المحكوم فيها أو المخبر عنها كثيرة وجاء الضمير يعقبها ضمير جمع فهو راجع إلى جميعها كما قلنا في الاستثناء ولا فرق ألا ترى أنك لو قلت أتاني زيد وعمرو وخالد فقتلته أنه لا خلاف بين أحد من أهل اللغة في أن الضمير راجع إلى خالد وأنه لا يجوز رده إلى زيد أو إلى عمرو فإن وجد يوما ما في شيء من النصوص رجوع ضمير إلى أبعد مذكور فهو بمنزلة ما ذكرنا من نقل اللفظ عن موضوعه في اللغة ولو قال أتاني زيد وعمرو وخالد

الباب السابع عشر في الإشارة

وعبد الله ويزيد فقتلتهم لكان راجعا بلا خلاف بين أحد من أهل اللغة إلى جميعهم وكلهم قال علي وما يبين أن الشرط في آية التحريم إنما هو في الربائب لا في أمهات النساء ما ذكرنا من أن الضمير راجع إلى أقرب مذكور والضمير بجمع المؤنث في قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسآئكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما} راجع لما قدمنا إلى أقرب مذكور إليه لا يجوز غير ذلك وأقرب مذكور إليه أمهات ربائبنا فوجب أن يكون راجعا إليهن على ما قدمنا وبالله تعالى التوفيق الباب السابع عشر في الإشارة قال علي والإشارة بخلاف الضمير وهي عائدة إلى أبعد مذكور وهذا حكمها في اللغة إذا كانت الإشارة بذلك أو تلك أو هو أو أولئك أو هم أو هي أو هما فإن كانت بهذا أو هذه فهي راجعة إلى حاضر قريب ضرورة وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من أهل اللغة ولا يعرف نحوي أصلا غير ما ذكرنا ولذلك أوجبنا أن يكون القرء في حكم العدة هو الطهر خاصة دون الحيض وإن كان القرء في اللغة واقعا على الحيض كوقوعه على الطهر ولا فرق ولكن لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء فكان قوله عليه السلام تلك إشارة تقتضي بعيدا وأبعد مذكور في الحديث قوله عليه السلام تطهر فلما صح أن الطهر بهذا الحديث هو العدة المأمور أن تطلق لها النساء صح أنه هو العدة المأمور بحفظها لإكمال العدة وبالله تعالى التوفيق

الباب الثامن عشر في المجاز والتشبيه

الباب الثامن عشر في المجاز والتشبيه قال علي اختلف الناس في المجاز فقوم أجازوه في القرآن والسنة وقوم منعوا منه والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن الاسم إذا تيقنا بدليل نص أو إجماع أو طبيعة أنه منقول عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وجب الوقوف عنده فإن الله تعالى هو الذي علم آدم الأسماء كلها وله تعالى أن يسمي ما شاء بما شاء وأما ما دمنا لا نجد دليلا على نقل الاسم عن موضوعه في اللغة فلا يحل لمسلم أن يقول إنه منقول لأن الله تعالى قال {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم} فكل خطاب خاطبنا الله تعالى به أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو على موضوعه في اللغة ومعهوده فيها إلا بنص أو إجماع أو ضرورة حس نشهد بأن الاسم قد نقله الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم عن موضوعه إلى معنى آخر فإن وجد ذلك أخذناه على ما نقل إليه قال علي وهذا الذي لا يجوز غيره ومن ضبط هذا الفضل وجعله نصب عينيه ولم ينسه عظمت منفعته به جدا وسلم من عظائم وقع فيها كثير من الناس قال علي فكل كلمة نقلها تعالى عن موضوعها في اللغة إلى معنى آخر فإن كان تعالى تعبدنا بها قولا وعملا كالصلاة والزكاة والحج والصيام والربا وغير ذلك فليس شيء من هذا مجازا بل هي تسمية صحيحة واسم حقيقي لازم مرتب من حيث وضعه الله تعالى وأما ما نقله الله تعالى عن موضوعه في اللغة إلى معنى تعبدنا بالعمل به دون أن يسميه بذلك الاسم فهذا هو المجاز

كقوله تعالى {وخفض لهما جناح لذل من لرحمة وقل رب رحمهما كما ربياني صغيرا} فإنما تعبدنا تعالى بأن نذل للأبوين ونرحمهما ولم يلزمنا تعالى قط أن ننطق ولا بد فيما بيننا بأن للذل جناحا وهذا لا خلاف فيه وليس كذلك الصلاة والزكاة والصيام لأنه لا خلاف في أن فرضا علينا أن ندعو إلى هذه الأعمال بهذه الأسماء بأعيانها ولا بد وبالله تعالى التوفيق واحتج من منع من المجاز بأن قال إن المجاز كذب والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يبعدان عن الكذب قال علي فيقال له صدقت وليس نقل الله تعالى الاسم عما كان علقه عليه في موضع ما إلى موضع آخر كذبا بل هو الحق بعينه لأن الحق هو ما فعله تعالى والباطل هو ما لم يأمر به أو لم يفعله ومن ظن أن هنا حقا هو عيار على الله تعالى وزمام على أفعاله يلزمه عز وجل أن يجري أفعاله عليه فقد كفر وقد تكلمنا في هذا في باب إثبات حجج العقول ونستوعب الكلام فيه إن شاء الله تعالى في باب إبطال العلل من كتابنا هذا وقد تكلمنا على ذلك أيضا في كتابينا الموسومين بالتقريب والفصل كلاما كافيا وبالله تعالى التوفيق وليست الأسماء موضوعة على المسميات إلا إما بتوقيف وإما باصطلاح ولا موقف إلا الله عز وجل فإذا أوقع الموقف الأول جل وعز اسما ما على مسمى ما في مدة ما أو في معنى ما ثم نقل ذلك الاسم إلى معنى آخر في مكان آخر فلا كذب في ذلك ولا للكذب ههنا مدخل وإنما يكون كاذبا من نقل منا اسما عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر يلبس به بلا برهان فهذا هو الكاذب الآفك الأثيم وكذلك لو اصطلح اثنان على أن يسميا شيئا ما اسما ما مخترع من عندهما أو منقول عن شيء آخر يتفاهما به لا ليلبسا به فلا كذب في ذلك فإذا جاز هذا فيما بيننا فهو للذي يلزم للجميع أن يعبدوه ويطيعوه ما أمكن وهو بذلك تعالى أولى

والتلبيس في هذا هو من قال العسل حلال والمسكر من مصراة عسل فهو حلال فهذا كاذب فإنه أتى إلى عين سماها الله عز وجل خمرا والخمر حرام فسماها بغير اسمها ليستحلها بذلك وقد أنذر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي عن محمد بن إسحاق القاضي عن ابن الأعرابي عن سليمان بن أشعث عن أحمد بن حنبل ثنا زيد بن الحباب ثنا معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم ثنا عبد الرحمن بن غنم قال أنبأ أبو مالك الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ثنا عبد الله بن ربيع عن محمد بن معاوية المرواني عن أحمد بن شعيب ثنا محمد بن عبد الأعلى ثنا خالد هو ابن الحارث عن شعبة سمعت أبا بكر بن حفص يقول سمعت ابن محيريز يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله قال علي فقد بينا وجه الحقيقة في هذا ثم نذكر إن شاء الله تعالى طرفا من الآي التي تنازعوا فيها فإن الشيء إذا مثل سهل فهمه فمن ذلك قوله عز وجل {وسأل لقرية لتي كنا فيها ولعير لتي أقبلنا فيها وإنا لصادقون} فقال قوم معناه واسأل أهل القرية واسأل أهل العير وقال آخرون يعقوب نبي فلو سأل العير أنفسها والقرية نفسها لأجابته قال علي وكلا الأمرين ممكن ومنه قوله تعالى {فنطلقا حتى إذآ أتيآ أهل قرية ستطعمآ أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا} فقد علمنا بضرورة العقل أن الجدار لا ضمير له والإرادة لا تكون إلا بضمير الحي هذه هي الإرادة المعهودة التي لا يقع اسم إرادة في اللغة

على سواها فلما وجدنا الله تعالى وقد أوقع هذه الصفة على الجدار الذي ليس فيه ما يوجب هذه التسمية علمنا يقينا أن الله عز وجل قد نقل اسم الإرادة في هذا المكان إلى ميلان الحائط فسمى الميل إرادة وقد قدمنا أن الله تعالى يسمي ما شاء بما شاء إلا أن ذلك لا يوجب نقل الحقائق التي رتب تعالى في عالمه عن مراتبها ولا نقل ذلك الاسم في غير المكان الذي نقله فيه الخالق عز وجل ولولا الضرورة التي ذكرنا ما استجزنا أن نحكم على اسم بأنه منقول عن مسماه أصلا وقد أنشد أبو بكر محمد بن يحيى الصولي في نقل اسم الإرادة عن موضوعها في اللغة إلى غيره قول الراعي قلق الفؤوس إذا أردن نضولا وذكر أبو بكر الصولي رحمه الله أن ابن فراس الكاتب وكان دهريا سأله في هذه الآية فأجاب أبو بكر بهذا البيت وقد قال قوم إنه تعالى قادر على أن يحدث في الجدار إرادة وبلى هو قادر على ما يشاء وكل ما يتشكل في الفكر ولكن كل ما لم يأتنا نص أنه خرق تعالى فيه ما قد تمت به كلماته من المعهودات فهو مكذب كما أن لكل مدع ما لم يأت بدليل فهو مبطل وكذلك قوله تعالى {وهي تجري بهم في موج كلجبال ونادى نوح بنه وكان في معزل يبني ركب معنا ولا تكن مع لكافرين} فإنه تعالى سمى حركة السفينة جريا وحركة السفينة اضطرارية وهذا مما قلنا من أنه تعالى يسمي ما شاء بما شاء فهو خالق الأسماء والمسميات كلها حاشاه لا إله إلا هو وأما قوله تعالى {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم لطور خذوا مآ آتيناكم بقوة وسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم لعجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} فإنما عنى تعالى حب العجل على ما ذكرنا من الحذف الذي أقيم لفظ غيره مقامه وأما قوله تعالى {يوم نقول لجهنم هل متلأت وتقول هل من مزيد} وهو عندنا حقيقة وإنطاق لها وقد احتج علينا قوم بقول الله تعالى {إنا عرضنا الأمانة على السماوات

والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} قال علي وهذا أيضا عندنا على الحقيقة وأن الله تعالى وضع فيها التمييز إذ خيرها فلما أبت حمل الشرائع وأشفقت من تحمل الأمانة سلبها إياه وسقطت الكلف عنها وممكن أن يكون على نقل اللفظ أيضا والمراد بذلك أنها لم يحملها إذا لم يركب تعالى فيها قوة الفهم والعقل ولا النفس المختارة المميزة وهذا موجود في كلام العرب وأشعارها فإن العرب تقول إذا أرادت أن تمدح أبى ذلك سؤددك وإذا أرادت الذم أبى ذلك لؤمك أي إن سؤددك غير قابل لهذه الفعلة لمضادتها له وكذلك في الذم أي إن لؤمك غير قابل لهذه المكرمة لمضادتها له فعلى هذا كانت إباية السموات والأرض لا على ما سواه إلا أن الأول أصح وبه نقول وإنما فرقنا بين هذا في هذا الوجه وبين ما قلنا آنفا في إنطاق جهنم لأن كلام الله عز وجل كله عندنا بيان لنا وجار على معهود ما أوجبه فهمنا بإدراك عقولنا وحواسنا وإنما قلنا ذلك لقول الله عز وجل {ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم لسمع ولأبصار ولأفئدة قليلا ما تشكرون} وحضنا تعالى على التفكير والتدبر للقرآن وأخبرنا بأنه بيان لنا وكل ذلك يكون إلا بما تميزه عقولنا لا بما يضادها فلما صح ذلك كله وأدانا التدبير والبصر والسمع والعقل إلى أن السموات جمادات لا تعقل وأن الأرض كذلك وأن حد النطق هو التمييز للأشياء وأن التمييز لا يكون إلا في حي وأن الحي هو الحساس المتحرك بإرادة وأن المميز هو بعض الحي لا كله وأن حد التمييز هو إمكان معرفة الأشياء على ما هي عليه وإمكان التصرف في الصناعات والأعمال المختلفة بإرادة وأيقنا أن كل هذه الصفات ليست الأرض ولا الأفلاك ولا الجبال له حاملة علمنا أن هذه اللفظة التي أخبرنا بها تعالى عن هذه التي ليست أحياء لفظة منقولة عن معهودها عندنا إلى معان أخر

من صفات هذه الأشياء المخبر عنها الموجودة فيها على الحقيقة ومن تعدى هذه الطريقة فقد لبس الأشياء ورام إطفاء نور الله تعالى الموضوع فينا وبالجملة فمن أراد إخراج الأمور عن حقائقها في المبادىء ثم عن حقائقها في المعاهد فينبغي أن يتهم في دينه وسوء أغراضه فإن سلم من ذلك فلا بد من وصمة في عقله أو قوة في جهله إلا أن هذا كله لا يعترض على الوجه الأول لأن الإنطاق الذي كان وضعه الله تعالى فيها حينئذ قد سلبها إياه إذ أبت قبول الأمانة وإنما يعترض بهذا كله على من يقول إنها باقية على نطقها إلى اليوم فهذا باطل لا شك فيه بما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وقد ذكر رجل من المالكيين يلقب خويز منداذ أن للحجارة عقلا ولعل تمييزه يقرب من تمييزها وقد شبه الله قوما زاغوا عن الحق بالأنعام وصدق تعالى إذ قضى أنهم أضل سبيلا منها فإن الأنعام لا تعدوا ما رتبها ربها لها من طلب الغذاء وإرادة بقاء النوع وكراهة فسادها بعد كونها وهؤلاء رتبهم خالقهم عز وجل ليعرفوا قدرته وإنها بخلاف قدرة من خلق وليعرفوا رتبة ما خلق على ما هي عليه فبعدوا ذلك فمن مشبه قدرة ربه تعالى حكم عقله فيصرفه به تعالى الله عما يقول أهل الظلم علوا كبيرا ومن مفسد رتب المخلوقات وساع في إبطال حدودها وإفساد الاستدلال بها على التوحيد {من لذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} وسيرد الجميع إلى عالم الغيب

والشهادة فيحكم بيننا فيما فيه نختلف وتالله لتطولن ندامة من لم يجعل حظه من الدين والعلم إلا نصر قول فلان بعينه ولا يبالي ما أفسد من الحقائق في تلك السبيل العضلة وبالله تعالى نعوذ من الخذلان فقال هذا الجاهل إن من الدليل على أن الحجارة تعقل قوله تعالى {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كلحجارة أو أشد قسوة وإن من لحجارة لما يتفجر منه لأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه لمآء وإن منها لما يهبط من خشية لله وما لله بغافل عما تعملون} قال فقد أخبر تعالى أن منها ما يهبط من خشية الله فدل ذلك على أن لها عقلا أو كلاما هذا معناه قال علي ونحن نقول إن من العجب العجيب استدلال هذا الرجل بعقله على أنه لا يخشى الله تعالى إلا ذو عقل فهلا استدل بذلك العقل نفسه على ما شاهد بحسه من أن الحجارة لا عقل لها وكيف يكون لها تمييز وعقل والله تعالى قد شبه قلوب الكفار التي لم تنقد إلى معرفته عز وجل بالحجارة في أنها لا تذعن للحق الوارد عليها فكذب الله تعالى في نفيه المعرفة عن الحجارة نصا إذ جعلها تعالى بمنزلة قلوب الكفار في عنود تلك القلوب عن الطاعة له عز وجل فكيف يكون للحجارة عقل أو تمييز بعد هذا فإن قال قائل فما وجه إضافة الخشية إلى الحجارة قلنا له وبالله تعالى التوفيق قد قدمنا أن الله تعالى رتب الأسماء على المسميات وجعل ذلك سببا للتفاهم ولولا ذلك ما كان تفاهم أبدا ولا فهمنا عنه تعالى شريعة ولا علمنا مراده عز وجل في أمر ولا نهي ولا في خبر أخبرنا به وعرفنا تعالى بذلك التمييز الذي وضع فينا من صفات المخلوقات ما قد عرفناه وجعل لتلك الصفات أسماء نعبر بها عنها ونفاهم بها الأخبار عنها فكان مما رتب لنا من ذلك في اللغة العربية إن سمينا تمييزا حال من رأيناه يفهم ويتكلم ويسأل عن وجوه الأشياء المشكلة فيجاب فيفهم ويسأل عما علم منها فيجب

ويحدث بما رأى وشاهد وسمع ويؤمر بالكلام وينهى عن ضروب مختلفة من الأفاعيل فيفهم ما يزاد منه كل ذلك وكان مما رتب لنا أيضا عز وجل أن لم تكن فيه هذه الصفات سميناه غير مميز فإن كان من الحيوان مما سوى الملائكة والجن والإنس سميناه حيا غير مميز وإن كان من غير الحيوان سميناه جمادا غير حي إن كان من الشجر أو الحجارة أو الأرض أو الماء أو النار أو الهواء أو غير ذلك وأقر تعالى هذه الرتب في أنفسنا بما وضع فيها من التمييز إقرارا صار من أنكر شيئا منه ربما آل به إلى أن نسقط عنه الحدود ولا يقتص منه إن قتل وتسقط عنه الشرائع ويصير في محل من لا يخاطب لعدم عقله وتمييزه فإن زاد ذلك لم يؤمن عليه أن يغل ويداوي دماغه الذي هو منبعث الحس والحركة بأنواع كريهة من العلاج فلما أيقنا أن تلك الصفات المسماة برتبة الله تعالى تمييزا ليست في الحجارة وجب ضرورة أن تسمى مميزة وأيضا فقد قال تعالى مصدقا لإبراهيم خليله عليه السلام في قوله {إذ قال لابيه يأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} وإنما كان يعبد الحجارة فصح بالنص أنها لا تفهم ولا تعقل فلما رأيناه تعالى قد أوقع عليها خشية له علمنا أن هذه اللفظة هنالك منقولة عن موضعها عندنا إلى صفة أخرى من صفات الحجارة وهي تصريفه لها تعالى كيف شاء لا تخرج تلك الخشية عن هذه الجملة التي فسرنا البتة فهذا وجه إضافة الخشية إلى الحجارة إذ الخشية المعهودة عندنا هي الخوف من وعيد الله عز وجل والائتمار لأمره تعالى والحجارة خالية بيقين من كل ذلك وكيف يخشى من لم يؤمر ولا ينهى ولا كلف ولا وعد أم أي شيء يخشى غير العقاب ولا عقاب إلا على عاص ولا عاصي إلا مأمور والحجارة ليست بمأمورة فليست عاصية فلا عقاب عليها ولا خشية عليها نعني الخشية المعهودة فيما بيننا ولا مميز إلا حي والحجارة

ليست حية فليست مميزة ومما ذكرنا من نقل بعض الأسماء إلى غير معهودها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفرس إن وجدناه لبحرا فأوقع عليه السلام لفظة بحر على الفرس الجواد وكذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفق بالقوارير يعني النساء كان ذلك نقلا لاسم القوارير عن موضوعه في اللغة عن الزجاج إلى النساء وكذلك قوله تعالى {قواريرا من فضة قدروها تقديرا} هو نقل أيضا للقوارير عن موضوعه في اللغة عن الزجاج إلى الفضة إلا أنه لا يحل لمسلم أن يقول في لفظه لم يأت نص ولا ضرورة حس بأنها منقولة عن موضوعها إنها منقولة ولا يتعدى بكل ذلك ما جاء في نص أو ضرورة حس ولا يصرف لفظ عن موضوعه إلا بأحد هذين الوجهين وإلا فهي باقية في مرتبتها في اللغة وليس لأحد أن يصرف عنه وجهه إذ لم يصرفه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وإن العجب ليكثر ممن يقول إن الشحم يسمى ندى فإذا سئل من أين قلت ذلك أنشد قول أعرابي جلف كثوب العداب الفرد يضربه الندى تعلى الندى في متنه وتحدرا فيكون ذلك قاطعا لخصمه يستشهد أن الجواري يسمين القوارير وأن الفرس الجواد يسمى بحرا وأن الخشية قد يسمى بها الوقوع تحت التدبير بأن خالق اللغات والمتكلمين أوقع هذا الاسم على هذا المعنى وبأن أفصح العرب سمى النساء قوارير والفرس بحرا ولعمري لو أنه عليه السلام

يقول ذلك قبل بلوغه أربعين عاما وقبل أن ينبأ لكان قوله أعظم حجة لفصاحته وعلمه بلغة قومه وأنه من وسيطة قريش ومسترضع في بني سعد بن أبي بكر بن هوازن فجمع فصاحة الحيين خندف وقيس أهل تهامة والحجارة العالية الذين إليهم انتهت الفصاحة في اللغة العربية الإسماعيلية والذي لا شك فيه فهو أنه عليه السلام أفصح من امرىء القيس ومن الشماخ ومن حسن البصري وأعلم بلغة قومه من الأصمعي وأبي عبيدة وأبي عبيد فما في الضلال أبعد من أن يحتج في اللغة بألفاظ هؤلاء ولا يحتج بلفظة فيها عليه السلام فكيف وقد أضاف ربه تعالى فيه إلى ذلك العصمة ومن الخطأ فيها القول والتأييد الإلهي والنبوة والصدق المقطوع على غيبه الذي صحبه خرق العادات والآيات والمعجزات وفي أقل من هذا كفاية لمن كانت فيه حشاشة فكيف أن يظن به عليه السلام أن يخبر عن ربه تعالى خبرا يكلفنا فهمه وهو بخلاف ما يفهم ويعقل ويشاهد ويحس ما ينسب هذا إليه صلى الله عليه وسلم إلا ملحد في الدين كائد وأعجب العجب أن هؤلاء القوم يأتون إلى الألفاظ اللغوية فينقلونها عن موضوعها بغير دليل فيقولون معنى قوله تعالى {وثيابك فطهر} ليس للثياب المعهودة وإنما هو القلب ثم يأتون إلى ألفاظ قد قام البرهان الضروري على أنها منقولة عن موضعها في اللغة إلى معنى آخر وهو إيقاع الخشية على الحجارة فيقولون ليس هذا اللفظ ههنا منقولا عن موضوعه مكابرة للعيان وسعيا في طمس نور الحق وإقرارا لعيون الملحدين الكائدين لهذا الدين ويأبى الله إلا أن يتم نوره وبالله تعالى التوفيق

فصل في التشبيه

فصل في التشبيه قال علي التشبيه بين الأشياء المشتبهة حق مشاهد فإذا شبه الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا بشيء فهو صدق وحق وتنبيه على قدرة عظيمة لأنه ليس في العالم شيئان إلا وهما مشتبهان من وجه ما وغير مشتبهين من وجه آخر وقد قال الله تعالى {لذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق لرحمن من تفاوت فرجع لبصر هل ترى من فطور} فهذا الذي قلنا هو ارتفاع التفاوت لأن التماثل هو ضد التفاوت وإذا بطل التفاوت صح التماثل ولذلك افتقر الناس إلى معرفة حدود الكلام وضبط الصفات التي تتفق فيها الموصوفات التي سعى قوم من النوكى في إبطالها وهيهات من إبطال الحقائق فإن قال قائل إنه عليه السلام قد شبه ديون الله تعالى بديون الناس في وجوب قضائها وأنتم لا تقولون بقضاء الصلاة عن الميت فالجواب وبالله تعالى التوفيق إننا بتوفيق الله عز وجل لنا أهل الطاعة لهذا الحديث وغيره وقد نسب إلينا الباطل من ظن أننا نخص هذا الحديث أو غيره بلا نص فنقول يقضى الصوم والحج والصلاة المنذورة والمنسية والتي نيم عنها وأما الصلاة المفروضة المتروكة عمدا والصوم المفروض في رمضان المتروك عمدا فإن الذي فرط فيها لا يقدر على قضائها أبدا وليس عليه صيام يقضيه ولا صلاة يقضيها وإنما عليه إثم أمره فيه إلى ربه تعالى فلا يقضى عنه ذلك وبالله تعالى التوفيق قال علي وهذه أيضا من عجائب هؤلاء القوم فإنهم يأتون إلى أشياء لم يشبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض فيحكون لها بحكم واحد لادعائهم أنها مشتبهة فيقولون لا يجوز للنكاح بأقل مما يقطع

الباب التاسع عشر في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الشيء يراه عليه السلام أو يبلغه فيقره صامتا عليه لا يأمر به ولا ينهى عنه

في اليد في السرقة وقد علم كل ذي عقل أنه لا شبه بين السرقة والنكاح ثم يأتون إلى ما أكد الله تعالى شبهه وساوى بينهما فيبطلون التساوي فيهما فيقولون إن ديون الناس تقضى عن الميت وديون الله تعالى لا تقضى عنه فهل في تقحم الباطل أعظم من هذا قال علي وهذا الذي قلنا في المجاوز والتشبيه هو عين الحقيقة بالبراهين التي ذكرنا لم نترك فيه علقة لمتعقب منصف وبالله تعالى التوفيق فأما أهل الشغب فهم بمنزلة التائه في الفلوات وإنما علينا بعون الله تعالى نهج الطريق القصد وإيضاحه حتى لا يوجد بحول الله تعالى وقوته طريق أنهج ولا أخصر منه والحمد لله رب العالمين ويوفق الله تعالى من يشاء بما يشاء وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل الباب التاسع عشر في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الشيء يراه عليه السلام أو يبلغه فيقره صامتا عليه لا يأمر به ولا ينهى عنه قال علي بن أحمد رحمه الله قال قوم من المالكيين أفعاله عليه السلام على الوجوب وهي آكد من أوامره وقال آخرون منهم من الحنفيين الأفعال كالأوامر وقال آخرون من كلتا الطائفتين ومن الشافعيين الأفعال موقوفة على دليلها فما قام منها على أنه واجب صير إليه وما قام دليل أنه منها ندب أو إباحة صير إليه وممن قال بهذا من الشافعيين أبو بكر الصيرفي وابن فورك وقال سائر الشافعيين وجميع أصحاب الظاهر ليس شيء من أفعاله عليه السلام واجبا وإنما ندبنا إلى أن نتأسى به عليه السلام فيها فقط وألا نتركها على معنى

الرغبة عنها ولكن كما نترك سائر ما ندبنا إليه مما إن فعلناه أجرنا وإن تركناه لم نأثم ولم نؤجر إلا ما كان من أفعاله بيانا لأمر أو تنفيذا لحكم فهي حينئذ فرض لأن الأمر قد تقدمها فهي تفسير الأمر قال علي وهذا هو القول الصحيح الذي لا يجوز غيره واحتج من قال إنها على الوجوب وإنها أوكد من الأوامر بما حدثنا سعيد الجعفري قال ثنا أبو بكر بن الأدفوي ثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن النحاس النحوي عن أحمد بن شعيب النسائي عن سعيد بن عبد الرحمن حدثنا سفيان هو ابن عيينة عن الزهري قال وثبتني معمر بعد عن الزهري عن عروة بن الزبير أن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فذكر الحديث وفيه طول فلما فرغ من قصة الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة يا رسول الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم منهم أحدا حتى تنحر وتحلق فخرج عليه السلام فنحر بدنة ودعا بحالقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما قال علي وما نعلم حجة أشنع عليهم من هذا الحديث الذي احتجوا به

لأن الذي أوجب الله علينا طاعته وأمرنا باتباعه هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي أنكر عليهم التأخر عما أمرهم به ولم يأمر باتباع الذين خالفوه حتى فعل ما أمرهم به والذين أوهموه حتى جعلوه يشكوا ما لقي منهم ومن أخذ بفعل الناس وترك أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وعمل بما أنكره عليه السلام ولم يلتفت إلى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وصوب فعل من أغضبه وتعمد ذلك فقد ضل ضلالا ولم نأمن عليه مفارقة الإسلام وليعلم كل ذي لب أن ذلك الفعل من أهل الحديبية رضي الله عنهم خطأ ومعصية ولكنهم مغفور لهم بيقين النص في أنه لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية وليس غيرهم كذلك ولا يحل لمسلم أن يقتدي بهم في ذلك فلا بد لكل فاضل من زلة وكل عالم من وهلة وكل أحد من الخيار فإنه يؤخذ من قوله وفعله ويترك ويرغب من كثير من قوله وفعله إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اقتدى بأهل الحديبية في هذا الفعل الذي أنكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد هلك رضي الله عنهم مضمون لهم المغفرة في ذلك وغيره ولم يضمن ذلك لغيرهم وقد أقر بعضهم رضي الله عنهم على نفسه الخطأ العظيم في هذا الباب كما حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح قال ثنا عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا أبو كريب محمد بن العلاء ومحمد بن عبد الله بن نمير قالا أنبأنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال سمعت سهل بن حنيف بصفين يقول اتهموا رأيكم على دينكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع رد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأعمش عن أبي وائل عن سهل لرددته قال علي ويوم أبي جندل هو يوم الحديبية فقد أقر سهل رضي الله عنهم أنهم أساؤوا الرأي يوم الحديبية حتى لو استطاعوا رد أمر رسول

الله صلى الله عليه وسلم لردوه حدثنا أبو سعيد الجعفري حدثنا ابن الأدفوي ثنا أبو جعفر بن الصفار عن النسائي عن سعيد بن عبد الرحمن حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري قال وثبتني معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم فذكرا حديث الحديبية وفيه أن عمر بن الخطاب قال والله ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ألست نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطى الدنية في ديننا إذا قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت أو ليس وعدتنا أنا سنأتي البيت فنطوف به قال بلى أفأخبرتك أنك تأتيه العام قلت لا قال إنك تأتيه وتطوف به قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطى الدنية إذا قال أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه حتى تموت فوالله إنه لعلى الحق قلت أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به قال بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام قلت لا قال إنك ستأتيه وتطوف به قال الزهري قال عمر فعملت لذلك أعمالا قال علي لم يشك عمر قط مذ أسلم في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومعاذ الله من أن يظن ذلك به ذو مسكة ولكنه شك في وجوب اتباع ما أمرهم به من الحلق والنحر وإمضاء القضية بينه وبين قريش ثم ندم على ذلك كما ترى وعمل لذلك أعمالا مستغفرا مما سلف منه من الأمر الذي ينصره الآن من أضله الله تعالى بالتقليل الفاسد ومثل هذا من غير أهل الحديبية فسق شديد ولكنهم بشهادته صلى الله عليه وسلم مغفور لهم لا يدخله النار منهم أحد إلا صاحب الجمل الأحمر وحده

قال علي وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم دينهم في هذا الباب كما ثنا يحيى بن عبد الرحمن ثنا ابن دحيم ثنا إبراهيم بن حماد ثنا إسماعيل بن إسحاق ثنا نصر بن علي ثنا وهب بن جرير ثنا أبي عن ابن إسحاق قال ثنا عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال حلق يوم الحديبية رجال وقصر آخرون فذكر ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم ترحم على المحلقين ثلاثا وعلى المقصرين واحدة بعد أن ذكر بهم ثلاث مرات فقالوا ما بال المحلقين ظاهرت لهم الترحم فقال صلى الله عليه وسلم إنهم لم يشكوا قال علي لم يشكوا في وجوب تنفيذ أمره وشك المترددون فعوقبوا كما ترى وإن كانوا مغفورا لهم كلهم وكذلك الذين فروا من الزحف يوم أحد فأخبر تعالى أنه إنما استفزهم الشيطان ببعض ما كسبوا ثم أخبر تعالى أنه عفا عنهم فمن اقتدى بهم في الفرار من الزحف فهو غير حاصل على ما حصلوا عليه من العفو بل يبوء بغضب من الله تعالى ولا عجب أعجب ممن يقتدي بأهل الحديبية في خطيئة وقعت منهم قد ندموا عليها واعترفوا بها وينهى عن الاقتداء بهم في فعل فعلوه كلهم موافق لرضا الله عز وجل ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم في نحرهم البدنة في ذلك اليوم عن سبعة والبقرة عن سبعة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم نحروا سبعين بدنة عن سبعمائة إنسان ما سوى البقر فيقول هؤلاء لا يجوز الاقتداء بهم في ذلك تقليدا لما ثم يحض على الاقتداء بهم في خطيئة أخطؤوها قد تابوا منها فهل في عكس الحقائق والمجاهرة بالباطل أشنع من هذين المذهبين وبالله تعالى نعوذ من الخذلان ومن العجائب التي لا يفهم منها إلا الاستخفاف بالدين والخنا احتجاج ابن خويز منداذ المالكي إيجاب أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم

فرضا بحديث الأنصاري الذي قبل امرأته وهو صائم فأمرها أن تستفتي في ذلك أم سلمة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد المرأة فسأل عنها فأخبرته أم سلمة بخبرها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبرتها أني أفعل ذلك فقالت قد فعلت فزاده ذلك شرا وقال يحل الله لرسوله ما شاء فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أما والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بما أتقي قال أبو محمد وإن احتجاج ابن خويز منداذ بهذا الحديث وهو لا يقول به ولا يستحبه ولا يبيحه بل يكره القبلة للصائم ويرغب عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ويسخط الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لرغبته عما كان عليه السلام يفعله لآية من الآيات الشنيعة وهو لا يرى هذا الفعل واجبا ولا مستحبا ولا مطلقا ثم يحتج به في إيجاب أفعاله صلى الله عليه وسلم وليس العجب ممن يطلق لسانه بمثل هذا الخنا فإنه قد عدم الرقبة والحياء والخوف ولا يبالي بالإثم ولا بالعار وإنما العجب ممن يسمعه ثم يقبله ويكتبه مصدقا له مستحسنا وإنا لله وإنا إليه راجعون على دروس العلم وذهابه وهذا الحديث الذي ذكر أعظم حجة في أن أفعاله عليه السلام ليست على الوجوب ولكنها مستحبة مندوب إليها يأتي من تركها راغبا عنها كما يأثم ابن خويز منداذ ونظراؤه في رغبتهم عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في التقبيل وهو صائم ولا يأثم من تركها مستحبا لها غير راغب عنها ولا يؤجر أيضا وأما من فعلها مؤتسيا فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو مأجور والحمد لله رب العالمين

واحتج من قال إن أفعاله عليه السلام كأوامره بأن قال قد أمرنا باتباعه عليه السلام بقوله تعالى {قل يأيها لناس إني رسول لله إليكم جميعا لذي له ملك لسماوات ولأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بلله ورسوله لنبي لأمي لذي يؤمن بلله وكلماته وتبعوه لعلكم تهتدون} قالوا وهذا إيجاب علينا اتباعه في فعله وأمره سواء قال علي الاتباع لا يفهم منه محاكاة الفعل في اللغة أصلا وإنما يقتضي الامتثال لأمره عليه السلام والطاعة لما علم عن ربه عز وجل وقد بين ذلك عليه السلام في قوله من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وبقوله صلى الله عليه وسلم كل أحد يدخل الجنة إلا من أبى قيل ومن يأبى يا رسول الله قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى قال علي والمعصية إنما هي مخالفة الأمر لا ترك محاكاة الفعل وما فهم قط من اللغة أن يسمى تارك محاكاة الفعل عاصيا إلا بعد أن يؤمر بمحاكاته فإنما استثنى عليه السلام من دخول الجنة من خالف الأمر فقط وبقي من لا يحاكي الفعل غير راغب عنه على دخول الجنة فقد صح أنه ليس عاصيا وإذا لم يكن عاصيا فلم يجتنب فرضا فقد صح أن محاكاة الفعل ليست فرضا وأيضا فما فهم عربي قط من خليفة يقول اتبعوا أمري هذا أنه أراد افعلوا ما يفعل وإنما يفهم من هذا امتثال أمره فقط وأيضا فإن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لا يختلف أحد في أنها غير فرض عليه بمجردها ومن المحال أن يكون كذلك ويكون فرضا علينا وهذا هو خلاف الاتباع حقا وقد هذر قوم بأن قالوا من الحجة في ذلك قول الله عز وجل {مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب} قال علي وهذا تخليط لأن الإيتاء في اللغة إنما هو الإعطاء والفعل لا يعطى وإنما يعطينا أوامره فقط ولا سيما وقد اتبع ذلك النهي وإنما توعد الله على مخالفة الأمر بقوله تعالى {لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}

وقال بعضهم الضمير في أمره راجع إلى الله عز وجل قال علي فيقال لهم لا عليكم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمر من الله عز وجل نفسه بقوله تعالى {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فنطقه كله أمر الله عز وجل قال علي الآية كافية في أن اللازم إنما هو الأمر فقط لا الفعل لأن الله عز وجل إنما أخبر أن الوحي من قبله تعالى هو النطق والنطق إنما هو الأمر وأما الفعل فلا يسمى نطقا البتة فصح أن فعله عليه السلام كله إباحة وندب لا إيجاب إلا ما كان منه بيانا لأمر قال علي وقال بعضهم معنى أمره ههنا حاله كما تقول أمر فلان اليوم على إقامة أو أمره على عوج يعني حاله قال علي وهذا يبطل بأن هذه الآية إنما جاءت بإيجاب ما ذكر قبلها من الأمر الذي هو النطق قال الله عز وجل {لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} فصح أن هذا الوعيد في أمره لهم بالبقاء معه وكذلك كان عليه السلام لا يؤذن لشيء من صلوات التنفل كالعيدين والكسوف تفريقا بين الفعل والأمر إذ لو دعوا إلى الصلاة لكان أمرا والأمر فرض وقد حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا زهير بن حرب ثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة أم المؤمنين قالت صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا نترخص فيه فبلغ ذلك ناسا من أصحابه فكأنهم كرهوه وتنزهوا عنه فبلغه ذلك فقام خطيبا فقال ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا

عنه فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية قال علي فهذا نص جلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم ترك فعل ما فعل فصح أنه ليس ذلك واجبا ولو كان واجبا لأنكر تركه وإنما أنكر عليهم إنكاره والتنزه عنه وهذا منكر جدا وقد أنكر عليهم ترك أمره فوضح الفرق بين الفعل والأمر لمن عقل وبالله تعالى التوفيق وبه إلى مسلم حدثنا محمد بن رافع وعبيد الله بن معاذ وابن أبي عمر وقتيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وأبو كريب وأبو بكر بن أبي شيبة قال ابن رافع ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن همام بن منبه وقال ابن معاذ ثنا أبي ثنا شعبة عن محمد بن زياد وقال ابن أبي عمر ثنا سفيان وهو ابن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج وقال قتيبة ثنا المغيرة الخرامي عن أبي الزناد عن الأعرج وقال ابن نمير ثنا أبي عن الأعمش عن أبي صالح السمان وقال ابن أبي شيبة وأبو كريب ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح ثم اتفق همام ومحمد بن زياد والأعرج وأبو صالح كلهم عن أبي هريرة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم عن أنبيائهم ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم وهذه رواية كل من ذكرنا ولم يخالفهم همام في شيء إلا أنه قال ما تركتكم قال أبو محمد وهذا خبر منقول نقل التواتر عن أبي هريرة فلم يوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد إلا ما استطاع مما أمر به واجتناب ما نهى عنه فقط ولا يجوز البتة في اللغة العربية أن يقال أمرتكم بما فعلته وأسقط عليه السلام ما عدا ذلك وأمرهم بتركه ما تركهم وقد علمنا بضرورة

الحس والمشاهدة أنه عليه السلام وكل حي في الأرض لا يخلو طرفة عين من فعل إما جلوس أو مشي أو وقوف أو اضطجاع أو نوم أو اتكاء أو غير ذلك من الأفعال فأسقط عليه السلام عنا كل هذا وأمرنا بتركه فيه حاشا ما أمر به أو نهى عنه فقط فوضح يقينا أن الأفعال كلها منه عليه السلام لا تلزم أحدا وإنما فيها الائتساء المتقدمة فقط قال أبو محمد وصح بالحديث الذي قبل هذا أنه لا حجة في فعل أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ولا في قوله لأن أولئك الذين كرهوا ما فعله عليه السلام قصدوا بذلك الخير في اجتهادهم وقد أنكر عليه السلام ذلك فصح أنه لا حجة إلا فيما جاء عنه عليه السلام فقط والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد وإنما حضنا الله تعالى في أفعاله عليه السلام على الائتساء به بقوله تعالى {لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا} وما كان لنا فهو إباحة فقط لأن لفظ الإيجاب إنما هو علينا لا لنا نقول عليك أن تصلي الخمس وتصوم رمضان ولك أن تصوم عاشوراء وتتصدق تطوعا ولا يجوز أن يقول أحد في اللغة العربية عليك أن تصوم عاشوراء وتتصدق تطوعا ولك أن تصلي الخمس وتصوم رمضان هذا الذي لا يفهم سواه في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى بما ألزمنا من شرائعه قال أبو محمد وقال بعضهم قوله تعالى بعقب الآية المذكورة {لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا} بيان أن ذلك إيجاب لأن هذا وعيد قال أبو محمد التأويل خطأ لأن الائتساء المندوب إليه في الآية المذكورة إنما هو للمؤمنين الذين يرجون الله واليوم الآخر ولم يقل تعالى هو على الذين يرجون الله واليوم الآخر وأما الكفار الذين لا يرجون الله واليوم الآخر فراغبون عن الائتساء به عليه السلام وكذلك قوله

صلى الله عليه وسلم إني أصوم وأفطر وأنكح النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني وصدق عليه السلام أن من ترك شيئا من أفعاله راغبا عنها فهو كافر وأما من تركها غير راغب عنها لكن اقتصارا على الفرض وتخفيفا من التطوع عالما بأنه يترك فضلا كثيرا فقد أفلح كما قال عليه السلام للأعرابي الذي حلف لا يزيد على الأوامر الواجبات شيئا فقال عليه السلام أفلح والله إن صدق دخل الجنة قال أبو محمد وفي هذا الحديث بيان كاف في أن الأوامر هي الفروض وأن أفعاله عليه السلام ليست فرضا لأن الأعرابي إنما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أمر به لا عما يفعل ثم حلف ألا يفعل غير ذلك فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله وحسن فعله وهذا كاف لمن عقل إذ لم يلزمه عليه السلام اتباع أفعاله وهذا ما لا إشكال فيه قال أبو محمد بل أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه رضي الله عنهم التزام المماثلة لأفعاله كما حدث عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية القرشي ثنا أبو خليفة ثنا أبو داود الطيالسي هو هشام بن عبد الملك عن حماد بن سلمة عن أبي نضلة السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى خلع نعليه فوضعهما يساره فخلع القوم نعالهم فلما قضى صلاته قال ما لكم خلعتم نعالكم قالوا رأيناك خلعت فخلعنا قال إني لم أضعهما من بأس ولكن جبريل أخبرني أن فيهما قذرا وأذى فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه فإن كان فيهما أذى فليمسحه قال أبو محمد فهذا عدل من الصحابة أبو سعيد الخدري شهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم التزام مماثلة أفعاله فبطل

كل تعلل بعد هذا وصح ألا يلزم إلا أمره عليه السلام فقط قال أبو محمد وإنما تعلق بما ذكرنا قوم من أصحاب مالك على أنهم أترك خلق الله لأفعاله عليه السلام فقد تركوا فعله عليه السلام في صلاته بالناس وهم وراءه قيام أو جلوس وتركوا فعله عليه السلام في دخوله وإمامته بالناس بعد ابتداء أبي بكر بالتكبير بهم والصلاة وجوزوه في الاستخلاف حيث لم يأت به نص ولا إجماع ورغبوا عن فعله عليه السلام في الصب على بول الصبي واختاروا الصوم في رمضان في السفر ورغبوا عن فعله عليه السلام في الفطر ورغبوا عن فعله عليه السلام في التقبيل وهو صائم وقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من رغب عن ذلك أو تنزه عنه وخطب الناس ناهيا عن ذلك ورغبوا عن فعله عليه السلام في قراءته {والطور} في المغرب وتركوا فعله عليه السلام في تطيبه في حجة الوداع وأخذوا بأمر له متقدم لو كان على ما ظنوه كان منسوخا بآخر فعله عليه السلام وتركوا فعله عليه السلام حكمه بالسلب للقاتل وتركوا فعله عليه السلام في سجوده في سورة {والنجم} وفي {إذا السماء انشقت} وتركوا فعل جميع الصحابة في هذين الموضعين وكل من أسلم من الجن والإنس قال أبو محمد فأما ما كان من أفعاله عليه السلام تنفيذا لأمر فهو واجب فمن ذلك قوله عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم وهمه بإحراق منازل المتخلفين عن الصلاة في الجماعة وجلده شارب الخمر لأنه عليه السلام لما أخبر أن الأموال والأعراض حرام ثم أن ينتهك شر منها أو بأنه يريد انتهاكها علمنا أن ذلك حق وأما بعد الأمر فواجب لا إباحة لأنه عليه السلام لا يهم إلا بأمر حق وقد أمر بجلد الشارب ثم كان فعله بيانا للجلد الذي أمر به

وكذلك ما كان من أفعاله عليه السلام نهيا عن شيء أو أمرا بشيء فهو على الوجوب كإزالته صلى الله عليه وسلم ابن عباس عن يساره ورده إلى يمينه فهذا وإن كان فعلا فهو أمر لابن عباس للوقوف عن يمينه ونهي له عن الوقوف عن يساره وإنما الفعل المجرد هو الذي ليس فيه معنى الأمر فإن قال قائل فهلا قلتم إن همه عليه السلام بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة إباحة لا فرض على أصلكم في انتقال الشيء إذا نسخ إلى أقرب المراتب منه لا إلى أبعدها عنه قيل له وبالله تعالى التوفيق كذلك نقول ما لم يأت دليل على أنه منقول إلى أبعد المراتب عنه ولكن لما قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ثم أخبر عليه السلام أنه قد هم بحرق بيوت المتخلفين علمنا بالنص المذكور أن ذلك حق واجب إنفاذه إذ قد نص أنه لا يستبيح دما ولا مالا إلا بحق والحق فرض ما لم يأت دليل على أنه إباحة قال أبو محمد قد قلنا إن القائلين بأن أفعاله عليه السلام على الوجوب هم أشد الناس خلافا لهذا الأصل الفاسد فإن المالكيين يقولون إن خطبة الإمام يوم الجمعة خطبتين قائما يجلس بينهما ليست فرضا وإنما الفرض خطبة واحدة وما روي قط أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب إلا خطبتين قائما يجلس بينهما فلم يروا فعله عليه السلام ههنا على الوجوب ويقولون إن ترتيب الوضوء ليس فرضا ولا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتب وضوءه ولا ينكسه لا يشك مسلم في ذلك ويرون أن الصلاة للصبح بمزدلفة ليس فرضا ولا يبطل حج من تركه ورسول الله صلى الله عليه وسلم صلاها هناك وآذن أن من لم يدركها هنالك فلا حج له ويرون أن من صلى المغرب قبل مزدلفة ليلة النحر فصلاته تامة ورسول الله صلى الله

عليه وسلم أخرها إلى المزدلفة فلم يصلها إلا فيها ولا يرون رمي جمرة العقبة فرضا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد رماها ولا يرون الضجعة بعد ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح فرضا ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعلها دائما عليها مواظبا لها وكذلك فقهاء المدينة السبعة وأهل المدينة وكل هذه المسائل فجماهير الصحابة والتابعين والفقهاء يرونها فرضا وإنما أتينا بهذه المسائل لئلا يدعو إجماعا على أنها ليست فرضا ومثل هذا لو تتبع كثير وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد فإن تعارض فعل وقول مثل أن يحرم عليه السلام شيئا ثم يفعله فإن هذا إن علمنا أن الفعل كان بعد القول فهو نسخ له وبيان أن حكم ذلك القول قد ارتفع لأنه عليه السلام لا يفعل شيئا محرما ولا يجوز أن يقال في شيء فعله عليه السلام أنه خصوص له إلا بنص في ذلك لأنه عليه السلام قد غضب على من قال ذلك وكل شيء أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حرام وذلك مذكور في حديث الأنصاري الذي سأله عن قبلة الصائم فأخبره عليه السلام أنه يفعل ذلك فقال الأنصاري يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بما آتي وما

أذر أو كما قال عليه السلام فلا يحل لأحد بعد هذا أن يقول في شيء فعله عليه السلام إنه خصوص له إلا بنص مثل النص الوارد في الموهبة بقوله تعالى {يأيها لنبي إنآ أحللنا لك أزواجك للاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك ممآ أفآء لله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك للاتي هاجرن معك ومرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد لنبي أن يستنكحها خالصة لك من دون لمؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان لله غفورا رحيما} ومثل وصاله عليه السلام في الصوم وقوله ناهيا لهم إني لست كهيئتكم ومثل نومه عليه السلام وصلاته دون تجديد وضوء فسئل عليه السلام عن ذلك فقال عيناي تنامان ولا ينام قلبي فما جاء فيه بيان كما ذكرنا فهو خصوص وما لم يأت فيه نص كما قلنا فلنا أن نتأسى به عليه السلام ولنا في ذلك الأجر الجزيل ولنا أن نترك غير راغبين عن ذلك فلا نأثم ولا نؤجر فمما جاء كما ذكرنا نهيه عليه السلام عن الصلاة قائما إذا صلى الإمام جالسا ثم هو عليه السلام صلى جالسا في مرضه الذي مات فيه وصلى أبو بكر مذكرا إلى جانبه قائما فأقر فعلمنا أن ذلك نسخ لإيجاب الجلوس عن المذكر خاصة فإن شاء صلى جالسا وذلك أفضل عندنا وإن شاء قائما كل ذلك جائز حسن وكذلك قلنا في حضه عليه السلام على صيام يوم عرفة ثم أفطر عليه السلام فيه فقلنا صيامه أفضل للحاج وغيره وإفطاره مباح حسن وقد روت عائشة أنه عليه السلام كان يترك الفعل وهو يحبه خشية أن يفعله الناس فيفرض عليهم كما فعل عليه السلام في قيام الليل في رمضان قام ثم ترك خوفا أن يفرض علينا وإنما قلنا هذا لئلا يقول جاهل أيجوز أن يترك عليه السلام الأفضل ويفعل الأقل فضلا فأعلمناه عليه السلام يفعل ذلك رفقا منه كما أخبر عليه السلام أنه لولا رجال من أصحابه لا يتخلفون عنه أصلا وأنه لا يجد ما يحملهم عليه ما تخلف عن سرية يوجهها في سبيل الله فأخبر عليه السلام أنه يتخلف عن الجهاد وهو أفضل خوفا أن يشق على أمته وهذا كثير

قال أبو محمد وأما إذا لم يعلم أي الحكمين قبل الأمر أم الفعل فإنا نأخذ بالزائد كما فعلنا في نهيه عليه السلام عن الشرب قائما وروي عنه عليه السلام أنه شرب قائما وفي نهيه عليه السلام عن الاستلقاء ووضع رجل على رجل وروي عنه أنه عليه السلام رئي مضطجعا في المسجد كذلك فأخذنا ههنا بالزائد وهو النهي في كلا الموضوعين لأن الأصل إباحة الاضطجاع على كل حال والاستلقاء كما يشاء وإباحة الشرب على كل حال فقد تيقنا أننا نقلنا عن هذه الإباحة إلى نهي عن كلا الأمرين بلا شك في ذلك ثم لا ندري هل نسخ ذلك النهي أو لا ولا يحل لمسلم أن يترك شيئا هو على يقين من أنه قد لزمه لشيء لا يدري أهو ناسخ أم لا واليقين لا يبطل بالشك والظن لا يغني من الحق شيئا فنحن على ما صح لدينا أنه قد لزمنا حتى يقيم المدعي لبطلانه علينا البرهان في صحة دعواه وإلا فهي ساقطة وبالله تعالى التوفيق وهكذا قلنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مما يليك مع ما قد صح من تتبعه الدباء من نواحي القصعة ولا فرق على أن هذا الخبر ليس فيه أنه عليه السلام تناول الدباء مما لا يليه بل يمكن تتبعه من نواحي الصحفة مما يليه وليس هكذا الأقوال فإنه صلى الله عليه وسلم إذا قال قولا فيه إباحة ثم جاء بعد عموم تحريم إلا أنه ممكن استثناء إباحة قبل فواجب ضم القولين جميعا إلى واحد واستثناء الأقل من الأكثر لأن القول بيان جلي وليس في الفعل بيان المراد لا بتخصيص ولا بغيره قال أبو محمد فالحاصل من هذا أن القولين إذا تعارضا وأمكن أن يستثنى أحدهما من الآخر فيستعملان جميعا لم يجز غير ذلك وسواء أيقنا أيهما أول أو لم نوقن ولا يجوز القول بالنسخ في ذلك إلا ببرهان جلي من

نص أو إجماع أو تعارض لا يمكن معه استثناء أحدهما من الآخر وأما القول والفعل إذا تعارضا فإن كان الفعل قبل القول أو لم يعلم أقبله أم بعده فالحكم القول ويكون الفعل حينئذ منسوخا ولا يجوز أن يستثنى منه الفعل لأننا لا ندري أحاله نخص أم زمانه أم مكانه إذ ليس في الفعل بيان عموم ولا تفسير حد وإن كان الفعل بعد القول فحينئذ نخص تلك الحال بيقين فقط لأننا من ذلك على يقين ولسنا من تخصيص الزمان والمكان على يقين ولا يجوز أن نحكم في الدين بالشك كما فعلنا فيما قد صح من أن المرأة تقطع الصلاة ثم صح أن عائشة ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي بين يديه معترضة كاعتراض الجنازة فتكره أن تقعد فتؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمسك كما هي فصح بهذا النص أن هذا الفعل كان بعد النهي لأنها أخبرت أنها لو قعدت لآذت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ودل أيضا هذا الخبر على المداومة على ذلك فاستثناء حال الاضطجاع من قطع المرأة الصلاة على سائر أحوالها وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد لو كانت الأفعال على الوجوب لكان ذلك تكليفا لما لا يطلق من وجهين ضروريين أحدهما أنه كان يلزمنا أن نضع أيدينا حيث وضع صلى الله عليه وسلم يده وأن نضع أرجلنا حيث وضع عليه السلام رجله

وأن نمشي حيث مشى وننظر إلى ما نظر إليه وهذا كله خروج عن المعقول والوجه الثاني أن أكثر هذه الأشياء التي تصرف عليه السلام بأفعاله فيها فقد ثبت فكنا من ذلك مكلفين ما لا نطيق فبطل كل قول في هذا الباب حاشا ما ذكرنا من الائتساء به عليه السلام في أفعاله وأما من قال نطلب الدليل فإن وجدنا دليلا على وجوب الفعل صرنا إليه وإن لم نجد دليلا حملنا الأفعال على الائتساء فقط فهي نفس قولنا إلا أننا نحملها على الائتساء أبدا ما لم نجد دليلا على الوجوب فإن وجدناه صرنا إليه وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد وأما الشيء يراه عليه السلام أو يبلغه أو يسمعه فلا ينكره ولا يأمر به فمباح لأن الله عز وجل وصفه عليه السلام فقال {لذين يتبعون لرسول لنبي لأمي لذي يجدونه مكتوبا عندهم في لتوراة ولإنجيل يأمرهم بلمعروف وينهاهم عن لمنكر ويحل لهم لطيبات ويحرم عليهم لخبآئث ويضع عنهم إصرهم ولأغلال لتي كانت عليهم فلذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتبعوا لنور لذي أنزل معه أولئك هم لمفلحون} فلو كان ذلك الشيء منكرا لنهى عنه عليه السلام بلا شك فلما لم ينه عنه لم يكن منكرا فهو مباح المباح معروف وما عرفه عليه السلام فهو معروف ولا معروف إلا ما عرف ولا منكر إلا ما أنكر فمن ذلك غناء الجاريتين في بيته وهو عليه السلام يسمع ولا ينكر فأنكر ذلك أبو بكر فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر إنكاره فصح بذلك ما ذكرنا نصا ووجب الإنكار على كل ما أنكر ما علمه عليه السلام فأقره ومن ذلك زفن السودان فنهاهم عمر فأنكر عليه السلام على عمر إنكاره عليهم ومن ذلك اللعب التي رأى عليه السلام عند عائشة وفيها فرس ذو أجنحة مع نهيه عليه السلام عن الصور فكان ذلك إذا مستثنى مما نهى عنه ومثل إنكاره عليه السلام الصور في الستر مع إباحته لذلك إذا كان رقما في ثوب واستثناءه إياه من جملة ما نهى عنه من الصور فلما قطعت عائشة الستر وسادتين اتكأ عليه السلام عليهما ولم

ينكرهما فصح من ذلك أن المعلق من الثياب التي فيها الصور مكروه ليس حراما ولا مستحبا لكن من تركها أجر ومن استعملها لم يأثم واختار ههنا عليه السلام الأفضل واختاره لعائشة وفاطمة رضي الله عنهما وصح بذلك أن الثياب التي فيها الصور وإذا كانت وسائد فذلك حسن مباح ولا مستحب لا نكرهه أصلا بل نحبه وكذلك الشيء إذا تركه عليه السلام ولم ينه عنه ولا أمر به فهو عندنا مباح مكروه ومن تركه أجر ومن فعله لم يأثم ولم يؤجر كمن أكل متكئا ومن استمع زمارة الراعي فلو كان ذلك حراما لما أباحه عليه السلام لغيره ولو كان مستحبا لفعله عليه السلام فلما تركه كارها له كرهناه ولم نحرمه فإن قال قائل فقد ناموا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلوا ولم يأمرهم بإعادة الوضوء وأنتم لا ترون ذلك قيل له وبالله التوفيق ما روى أحد قط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآهم نياما ولا أعلم أنهم ناموا وإنما جاء الحديث أنه عليه السلام أبطأ بالعشاء الآخرة حتى نام الناس وسمع لهم غطيط وصاح عمر نام النساء والصبيان فالحديث كما تسمع بين في أنهم ناموا وهو عليه السلام غائب غير حاضر وإنما أعلمه عمر بنوم النساء والصبيان وهذان الصنفان ليس عليهم حضور الصلاة في الجماعة فرضا وأيضا فمن أين للمحتج بهذا أن يقول ناموا قعودا نوما قليلا بلا أن يرد ذلك في الحديث ولعل فيهم من نام مستندا إلى صاحبه أو إلى الحائط أو مضطجعا نوما طويلا ما يدري من لم يحضر نومهم كيف كان نومهم ومثل هذا من الدعاوى لا يستجيزها ذو دين متهم بالصدق فلما صح أنه عليه السلام كان غائبا ولم يأتنا نص في أنه عليه السلام علم نومهم وصح أمره عليه السلام في حديث صفوان بن عسال المرادي بالوضوء من النوم جملة لزمنا ألا نزول عما أمرنا لأمر لا ندري أعلمه عليه السلام أم لم يعلمه ولو صح عندنا أنه

عليه السلام علم أنهم ناموا وأقرهم على ذلك لقلنا به ولأسقطنا الوضوء عمن نام جملة على أي حال نام ولو صح في ذلك الخبر أن عمر قال نام الناس لما كان لهم فيه متعلق لأنه كان يكون معناه نام الناس الذين ينتظرونه عليه السلام وكيف وكل طائفة منهم تخالف هذا الخبر لأنهم يخصون بعض أحوال النوم دون بعض وليس بيننا في الخبر أصلا فإن قال قائل أيجوز أن يخفى ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له نعم كما جاز عندكم معاشر الشافعيين والمالكيين والحنفيين قول جابر كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله على أن بيع أمهات الأولاد أشهر من نوم قوم في الليل والقوم في عوزة من المصابيح بركن المسجد وكما يقول المالكيون إنه خفي عليه ذبح آل أبي بكر الفرس وأكلهم إياه بالمدينة وهذا أشيع من نوم قوم في ركن المسجد لقلة الخيل عندهم بالمدينة في أيامه صلى الله عليه وسلم ولشدة العيش عندهم وقلة الإدام وشدة امتزاج أهل بيت أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم ومجاورتهم له فكيف يخفى عليه أنهم ذبحوا فرسا فأكلوه ولا يخفى عليه نوم قوم في ركن المسجد وهو غائب عنهم ولو صح أنه عليه السلام كان حاضرا في المسجد لأمكن أن يختفي نوم من في ركن المسجد عنه فكيف وقد صح أنه عليه السلام كان غائبا عنهم مع أن تخصيص نومهم بأنهم كانوا قعودا لا مستندين ولا مضطجعين ولا متكئين كذب من أقدم عليه وبالله التوفيق قال أبو محمد وفي باب القول بالأخبار من كتابنا في أول الباب المذكور أشياء قاطعة من الكلام في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وفي الشيء يعلمه فيقر عليه إذا استضافت إلى ما ههنا تم الكلام في ذلك وكرهنا تكرارها وبالله تعالى التوفيق

باب الكلام في النسخ وهو الموفي عشرون

الباب العشرون الكلام في النسخ قال أبو محمد علي بن أحمد حد النسخ أنه بيان انتهاء زمان الأمر الأول فيما لا يتكرر وأما ما علق بوقت ما فإذا خرج ذلك الوقت أو أدى ذلك الفعل سقط الأمر به فليس هذا نسخا فلو كان هذا نسخا لكانت الصلاة المنسوخة إذا خرج وقتها والصيام منسوخا بالإحراج والحيض والصيام والحج منسوخا وهذا ما لا يقوله أحد بالإجماع المقطوع به على ألا يسمى نسخا يكفي من الإطالة فيه وبالله تعالى التوفيق مع من سمى هذا نسخا فعليه البرهان على وجوب تسميته نسخا ولا سبيل إلى وجوبه فهو باطل قال تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} قال أبو محمد وقد قال بعض من تقدم إن النسخ هو تأخير البيان نفسه قال أبو محمد والنسخ على ما فسرناه قبل نوع من أنواع تأخير البيان لأن تأخير البيان ينقسم قسمين أحدهما جماعة غير مفهومة المراد بذاتها مثل قوله تعالى {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند لله إن لله بما تعملون بصير} إذا جاء وقت تكليف ذلك بين لنا الحكم المراد منا في ذلك اللفظ المجمل بلفظ آخر مفسر والقسم الثاني عمل مأمور به في وقت ما وقد سبق في علم الله عز وجل أنه سيحيلنا عنه إلى غيره في وقت آخر فإذا جاء ذلك الوقت بين لنا تعالى ما كان مستورا عنا من النقل عن ذلك العمل إلى غيره وبالجملة فإن اسم البيان يعم جميع أحكام الشريعة كلها لأنها كلها إعلام من الله تعالى لنا وبيان المراد منا

فإن قال قائل ليس النسخ من البيان لأن البيان يقع في الأخبار والنسخ لا يقع في الأخبار قيل له وبالله تعالى التوفيق إننا لم نقل إن النسخ هو البيان وإنما قلنا هو نوع من أنواع البيان فكل نسخ بيان وليس كل بيان نسخا فمن البيان ما يقع في الأخبار وفي الأوامر ومنه ما يقع في الأوامر فقط فمن هذا النوع الواقع في الأوامر النسخ هو رفع لأمر متقدم وقد يكون أيضا بيان يقع في الأوامر ليس نسخا لكنه تفسير لجلة إلا أنه لا يجوز لأحد أن يحمل شيئا من البيان على أنه نسخ رافع لأمر متقدم إلا بنص جلي في ذلك أو إجماع أو برهان ضروري على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى في باب كيفية معرفة المنسوخ من المحكم ألا ترى أن قوله تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} فلسنا نقول إنه نسخ أهل الكتاب من هذا الحكم لكنا نقول إن المراد بقوله تعالى في هذه الآية {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} لله إنما هم من عدا أهل الكتاب وبين ذلك تعالى في استثنائه أهل الكتاب في الآية الأخرى وهكذا قولنا في آية الرضاع وآية قطع السارق وقوله تعالى {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم لطوفان وهم ظالمون} فنقول بلا شك إن الله تعالى لم يرد بذلك كل رضاعة ولا كل سارق ثم نسخ ذلك عن بعضهم وكذلك قوله تعالى {لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين} فإنه تعالى لم يرد بذلك العبيد والإماء ثم نسخ خمسين عنهم ولا ألف سنة كاملة ثم استدرك تعالى إسقاط الخمسين عاما لكنه تعالى أراد في كل ما ذكرناه ما بقي عندما استثنى عز وجل وخص من كل ذلك وكذلك قولنا في قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} أنه تعالى لم يرد كل ما يقع عليه اسم نسك أو صدقة أو صيام لكن أراد ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث لكعب بن عجرة

فصل الأوامر في نسخها وإثباتها

فإن قال قائل إن البيان يقع موصولا بعضه ببعض والنسخ لا يقع موصولا فالجواب وبالله تعالى التوفيق إننا قد قلنا في هذا ما يقع فيه من أنه ليس كل بيان نسخا فما كان من البيان نسخا لم يقع موصولا وما كان منه غير نسخ لكن تفسيرا لمراده تعالى في جملة ما فجائز أن يقع موصولا وجائز أن يقع في مكان آخر من القرآن والسنة وبالله تعالى التوفيق والنسخ ينقسم في اللغة إلى قسمين أحدهما التعفية تقول انتسخت دولة فلان ونسخت الربح أو القوم أي عفته جملة والقسم الثاني تجديد الشيء وتكثير أمثاله تقول نسخت الكتاب نسخا كثيرة فالقسم الأول الذي هو التعفية هو الذي قصدناه بالكلام في هذا الباب ولم نقصد القسم الثاني وإنما ذكرناه ليوقف عليه وليعلم أنا لا نقصده بالكلام في هذا الباب فيرتفع التخليط والإشكال إن شاء الله تعالى فصل في الأوامر في نسخها وإثباتها قال أبو محمد الأوامر نسخها وإثباتها تنقسم أقساما أربعة لا خامس لها فقسم ثبت لفظه وحكمه وقسم ارتفع حكمه ولفظه وقسم ارتفع لفظه وبقي حكمه وقسم ارتفع حكمه وبقي لفظه ففي هذه الأقسام الثلاثة الأواخر يقع النسخ وأما القسم الذي صدرنا به فلا نسخ فيه أصلا وأما القسم الذي ارتفع حكمه ولفظه فقد روينا أن رجلا قرأ آية وحفظها ثم أراد قراءتها فلم يقدر فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر عليه السلام أنها رفعت ومن ذلك العشر الرضعات المحرمات ومن ذلك السورة التي ذكر أبو موسى الأشعري أنهم كانوا يقرؤونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت في طول سورة براءة وأنها نسيت فارتفعت من الحفاظ إلا آية منها وهي لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ

جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب والسورة التي ذكرها أيضا أبو موسى أنها كانت تشبه إحدى المسبحات فنسيت ولم يحفظ منها إلا آية ذكرها وقد نص الله تعالى على ذلك إذ يقول {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} وقد روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة فأسقط منها آية فلما سلم قال أثم أبي أو كما قال عليه السلام فأجابه فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عما منعه أن يلقنه الآية فقال أبي ظننت أنها رفعت فقال عليه السلام لم ترفع فهذا بيان صحة ما ذكرنا من أنه يرفع لفظ الآية جملة وأما القسم الذي رفع لفظه وبقي حكمه فآية الرجم وآية الخمس رضعات المحرمات وقد تعلل قوم في رد هذا الحديث بقول عائشة رضي الله عنها فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهما لمما يقرأ من القرآن قال أبو محمد وهذا لا تعلل فيه وإنما معناه أنه يقرأ من القرآن الذي سقط رسمه وإثباته في المصحف ولم تقل قط عائشة إنه من القرآن المتلو في المصحف فبطل تعللهم وأما القسم الذي رفع حكمه وبقي لفظه فقوله تعالى {وللاتي يأتين لفاحشة من نسآئكم فستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في لبيوت حتى يتوفاهن لموت أو يجعل لله لهن سبيلا} وقوله تعالى {أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى لذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} وآيات كثيرة جدا وأما الذي ثبت لفظه وحكمه فسائر الآيات المحكمات والأوامر الواردة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منقسمة على الأقسام الأربعة التي ذكرنا أيضا ولا يظن ظان أن قولنا هذا معارض لقولنا إنه ليس له عليه السلام لفظ إلا قد بلغ إلينا فإننا إنما نفينا بقولنا

فصل في رد المؤلف على القائلين وقد ذكر النسخ وارتفاع اللفظ المنسوخ: وهذا وجه من وجوه الحكمة

هذا أن يكون له عليه السلام لفظ لم ينسخ حكمه فيسقط فلا يبلغ إلينا لا لفظه ولا حكمه فهذا الذي نفينا جملة بقوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وبقوله تعالى {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} وبقوله {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} والحفظ يكون بتبليغ المعنى فكل حكم نقل إلينا كيفية فعله صلى الله عليه وسلم فيه وصفة حكمه ولم ينقل إلينا نص لفظه في ذلك فهو مما ارتفع لفظه وبقي حكمه وذلك نحو ما روي من قسمه عليه السلام مال البحرين وحكمه بالتمييز مع الشاهد ومساقاته ومزارعته أهل خيبر وما أشبه ذلك فهذا لا بد من أنه قد كان له من ذلك لفظ إلا أنه لم ينقل ونقل الحكم فهم بمنزلة ما ذكرنا أنه رفع لفظه من التلاوة وبقي حكمه ولا فرق وكل ذلك وحي من الله تعالى وأما المنسوخ لفظه وحكمه فمرفوع عنا علمه وتتبعه وطلبه فصل في رد المؤلف على القائلين قال أبو محمد قال بعض القائلين وقد ذكر النسخ وارتفاع اللفظ المنسوخ فقال وهذا وجه من وجوه الحكمة يجوز أن يكون علم الله تعالى أن يرفع هذا اللفظ يصلح ما لا يصلح ببقائه وذلك أنه إذا رفع تعالى الكل فقد علم أننا سنقبل على الأمر الناسخ ولا تتداخلنا فيه الشكوك لأن الله تعالى علم أن سيكون قوم من خلقه يبطلون النسخ فكانوا يضلون ببقاء اللفظ المنسوخ فرفعه لهذا المعنى قال أبو محمد وهذا من أفسد قول في الأرض وأسقطه ويقال لمن قال بهذا الهجر أكان الله تعالى غير قادر من وجوه الصلاح على أكثر من أن يرفع بعض كلامه لئلا يضل به قوم من خلقه أو كان قادرا على أن يكفيهم هذه المؤنة كلها ويهديهم بأن يبين لهم المنسوخ بيانا جليا يرفع به عنهم

الشكوك والحيرة فإن قال لم يقدر الله تعالى على أكثر كفر ووصف نفسه من القدرة بأكثر مما وصف به خالقه عز وجل لأنه دائبا يشرح بزعمه ويبين ليهدي الناس فيما يدعي وإن قال بل إنه تعالى قادر على ما ذكرت قيل له فقد فعل ما غيره أصلح لهم منه وهذا ضد مذهبك الفاسد ويقال له أيضا إذا كانت الحكمة عندك رفع لفظ بعض المنسوخ جملة لئلا يضل به قوم فلأي شيء أبقى تعالى لفظا آخر منسوخا حتى ضل به جماعة أنت أحدهم في أشياء كثيرة تدعي أنت فيها النسخ ويخالفك فيها غيرك وأشياء كثيرة تدعي أنت أنها غير منسوخة ويدعي غيرك فيها النسخ فأين تلك الحكمة التي تطالب بها ربك تعالى وما الذي جعل رفع ما رفع أولى بالرفع من المنسوخ الذي أبقي لفظه حتى تحيرت فيه طوائف من أهل الملة وما الذي جعل إبقاء ما أبقي لفظه المنسوخ أولى بالإبقاء مما رفع لفظه من المنسوخ وما الذي أوجب نقض الحكم بما كان أمس فرضا ثم حرم اليوم أو ما كان حراما أمس ثم أبيح اليوم وهل هذا هنا حال استحالت أو طبيعة انتقضت فأوجب ذلك تبديل الشرائع إن هذا لهو الضلال البعيد والغناء الشديد والجهل المظلم والقحة الزائدة وما ههنا شيء أصلا إلا أن الله تعالى أراد أن يحرم علينا بعض ما خلق مدة ما ثم أراد تعالى أن يحرمه علينا ولا علة لشيء من ذلك كما لا علة لبعثه محمدا عليه الصلاة والسلام في العصر الذي بعثه دون أن يبعثه في العصر الذي كان قبله وكما لا علة لكون الصلوات خمسا دون أن تكون ثلاثا أو سبعا

فصل في قوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها}

فصل في قول الله تعالى ما ننسخ من آية قال أبو محمد قال الله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} وقد قرىء أو ننسها ومعنى اللفظين مختلف فالنسخ قد بينا معناه وهو رفع الحكم وأما ننسها فمعناه من النسيان وهو رفع اللفظ جملة وأما ننسأها فهو من التأخير ومعناه أن يؤخر العمل بها إلى مدة معلومة ويفعل الله من كل ذلك ما شاء لا معقب لحكمه فصل في اختلاف الناس على النسخ اختلف الناس في النسخ على ما يقع أعلى الأمر أم على المأمور به قال أبو محمد والصحيح من ذلك أن النسخ إنما يقع على الأمر ولا يجوز أن يقع على المأمور به أصلا لأن المأمور به هو فعلنا وفعلنا لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون قد وقع منا بعد وإما أن يكون لم يقع منا بعد فإن كان قد وقع منا بعد فقد فني لأن أفعالنا أعراض فانية ولا يجوز أن ينهى عما قد فني إذ لا سبيل إلى عودته أبدا وكذلك لا يجوز أن يؤمر أيضا بما قد فني لأنه لا يجوز أن يعود أيضا ولا أن يباح لنا ما قد فني أيضا لأن كل هذا محال وإن كان لم يقع منا فكيف ينسخ شيء لم يكن بعد فصح أن المرفوع إنما هو الأمر المتقدم لا الفعل الذي لم تفعله بعد فإذا قد صح أن الأمر هو المرفوع فهو المنسوخ والنسخ إنما يقع في الآمر لا في الأمر ولا في المأمور به وبالله تعالى التوفيق وبرهان ما ذكرناه قوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} فأخبر تعالى أن الآية هي المنسوخة لا أفعالنا المأمور بها والمنهي عنها والآية هي

فصل وقد تشكك قوم في معاني النسخ والتخصيص والاستثناء

الأمر الوارد من قبله تعالى بإيجاب ما أوجب أو تحريم ما حرم وأما المأمور به فهي حركاتنا وأعمالنا من صلاة وصيام وإقامة حد وغير ذلك فصح ما ذكرنا نصا وبالله تعالى التوفيق فصل في تشكيك قوم في معاني النسخ وقد تشكك قوم في معاني النسخ والتخصيص والاستثناء فقوم جعلوها كلها نوعا واحدا قال أبو محمد وهذا خطأ لأن النسخ هو رفع حكم قد كان حقا وسواء عرفنا أنه سيرفع عنها أو لم نعرف بذلك وقد أعلم الله تعالى موسى وعيسى عليهما السلام أنه سيبعث نبيا يسمى محمدا بشرائع مخالفة لشرائعهما فهذا نسخ قد علمنا به وأما التخصيص فهو أن يخص شخص أو أشخاص من سائر النوع كما خص عليه السلام بفرض التهجد وإباحة تسع نسوة وكما خص أبو هاشم وبنو المطلب بتحريم الصدقة وأبو بردة تجزىء عنه الجزعة في الأضحية وأما الاستثناء فهو ما جاء بلفظ عام ثم استثني منه بعض ما يقع عليه ذلك اللفظ كقوله تعالى {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} وما أشبه ذلك إلا أن التخصيص إذا حقق فيه النظر فهو استثناء صحيح والفرق بين النسخ والاستثناء هو أن الجملة المستثنى منها بعضها ولم يرد قط تعالى إلزامنا إياها بعمومها ولا أراد إلا ما بقي منها بعد الاستثناء وأما النسخ فالذي نهينا عنه اليوم قد كان مراد منا بالأمس بخلاف الاستثناء وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل إن النسخ استثناء الزمان الثاني من إطلاق الفعل على التأييد قيل له وبالله تعالى التوفيق ليس هذا مما نجعله مع الاستثناء المطلق

فصل في مكان النسخ ثم إيجابه ثم امتناعه

نوعا واحدا لما ذكرنا من أن المستثنى لم يرد قط منا بوجه من الوجوه وأن المنسوخ قد كلفناه هذا فرق ظاهر بين فإن كان هذا المخالف يريد أن يقول إن النسخ نوع من أنواع الاستثناء لأن استثناء زمان تخصيصه بالعمل سائر الأزمان لم نأب عليه ذلك ويكون حينئذ صواب القول إن كل نسخ استثناء وليس كل استثناء نسخا وهذا صحيح فصل في إمكان النسخ ثم إيجابه ثم امتناعه قال أبو محمد أنكر بعض اليهود النسخ جملة وقد تكلمنا في هذا في كتابنا الموسوم بالفصل ونعيد ههنا منا ما يليق بغرض كتابنا هذا إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق إن منكري النسخ قالوا ليس من الحكمة أن يأمر الله تعالى بشيء أمس ثم ينهى عن مثله اليوم وهذا من نظائر قول أصحابنا بالعلل وهؤلاء قوم يتعقبون على ربهم تعالى فيقال لهم أخبرونا أي حكمة وجبت عليه تعالى أن يأمر أمس بما أمر به أترى لو لم يأمر تعالى بما أمر به لكانت تبطل حكمته أو لو أمر بغير ما أمر به لكانت تبطل حكمته أو ترون إذ قدس الأرض المقدسة ولعن أريحا ولعن أورشليم أكان ذلك مفسدا لحكمته وإذ حظر العمل في السبت وأباحه في الأحد أرأيتم لو عكس الأمر أكان ذلك مبطلا لحكمته فإن راموا فرقا بين شيء من ذلك لحقوا بالمجانين وجاهروا بما لا يفهم وبما يعلم بطلانه ثم يقال لهم أليس الله تعالى قد ملك قوما من الكفار العصاة الظلمة

ومكنهم وأذل قوما من الكفار العصاة الظلمة وملك غيرهم رقابهم وملك قوما صالحين فضلاء مؤمنين ومكنهم وبسط أيديهم وأذل قوما صالحين فضلاء مؤمنين وملك غيرهم رقابهم ومد أعمار قوم كفار طغاة واخترم آخرين منهم قبل بلوغ الاكتهال وفعل مثل ذلك بقوم مؤمنين أفاضل ومكن قوما عصاة مردة من البيان والكلام في العلوم حتى أضلوا أمما من الخلق وجعل آخرين منهم بلداء أغبياء وفعل مثل ذلك أيضا بالمؤمنين سواء بسواء فما الذي جعل هذا حكمه دون عكس كل ذلك وما الفرق بين هذا من أفعاله تعالى وبين أن يأمر اليوم بأمر ثم ينهى عن مثله غدا وما يفرق بين كل ما ذكر إلا عديم عقل أو وقح سخيف فإن قالوا إن هذا هو البداء لزمهم مثل ذلك في كل ما ذكرنا آنفا وفي إحيائه من يحيي ثم إماتته وفي إغنائه من يغني ثم إفقاره وفي تصحيحه جسم من يرزقه العافية ثم يمرضه وفي الهرم بعد الفتوة فإن قال قائل ما الفرق بين البداء والنسخ قيل له وبالله تعالى التوفيق الفرق بينهما لائح وهو أن البداء هو أن يأمر بالأمر والأمر لا يدري ما يؤول إليه الحال والنسخ هو أن يأمر بالأمر والأمر يدري أنه سيحيله في وقت كذا ولا بد قد سبق ذلك في عمله وحتمه من قضائه فلما كان هذان الوجهان معنيين متغايرين مختلفين وجب ضرورة أن يعلق على كل واحد منها اسم يعبر به عنه غير اسم الآخر ليقع التفاهم ويلوح الحق فالبداء ليس من صفات الباري تعالى ولسنا نعني الباء والدال والألف وإنما نعني المعنى الذي ذكرنا من أن يأمر بالأمر لا يدري ما عاقبته فهذا مبعد من الله عز وجل وسواء سموه نسخا أو بداء أو ما أحبوا وأما النسخ فمن صفات الله تعالى من جهة أفعاله كلها وهو

القضاء بالأمر قد علم أنه سيحيله بعد مدة معلومة عنده عز وجل كما سبق في علمه تعالى ولسنا نكابر على النون والسين والخاء وإنما نعني المعنى الذي بينا وسواء سموه نسخا أو بداء أو ما أحبوا من الأسماء ولكن اسمه عند النسخ وبهذه العبارة نعبر عن هذا المعنى الذي لا يخلو الله تعالى فعل منه أصلا في دار الابتلاء وكل شيء منها كائن فاسد وهذا هو النسخ وهو نوع من أنواع الكون والفساد الجاريين في طبيعة العالم بتقدير خالقه ومخترعه ومدبره ومتممه لا إله إلا هو واسم الصفة الأولى عندنا البداء فيها يعبر عن هذا المعنى الذي هو من صفات المختارين من الإنس والجن وسائر الحيوان وهو خلق مذموم لأنه نتيجة الملل والندم والسآمة وهذه الأخلاق منفية عن الملائكة بنص القرآن فكيف عن الباري تعالى فهذا فرق ما بين البداء والنسخ قد لاح والحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم قال أبو محمد والنسخ قبل حلول الوقت الذي علم الله عز وجل أنه يحيل فيه الحال ممتنع في الوجود لا في قدرته تعالى على ذلك وهو عندنا في ظاهر الأمر ممكن قال أبو محمد وهو في وقت حلوله وبلوغ أمده الذي قدره تعالى كائنا فيه واجب وهو بعد أن علمنا الله عز وجل أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ممتنع لا سبيل إليه في الوجود لا على معنى أنه تعالى لا يوصف بالقدرة على ذلك بل نعوذ بالله من الفكر في هذا أو التشكيك بل هو عز وجل قادر الآن وأبدا على أن يبعث نبيا آخر بدين آخر ولكنه أخبرنا أنه لا يفعل ذلك مريدا لتركه وقوله الحق فعلمنا أن كون ما لا يريد تعالى كونه ممتنع أن يكون أبدا ويقال لمن أبى النسخ ما الفرق بين أن يأمرنا الله بشيء في وقت ما ويبينه لنا ويعلمنا أنه إذا أتى وقت كذا وجب الانتقال إلى شيء آخر وبين أن

يأمرنا ولا يعلمنا أنه سينقلنا إلى شيء آخر وهذا ما لا سبيل إلى وجود فرق فيه أبدا لذي تمييز وعقل لأنه ليس لنا على الله تعالى شرط ولا عليه أن يطلعنا على علمه ولا يتقمن مسارنا ولا أن يأخذ آراءنا في شيء ومدعي هذا ملحد في دين الله عز وجل كافر به مفتر عليه وقد نص تعالى على ذلك بقوله تعالى {لله لا إله إلا هو لحي لقيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في لسماوات وما في لأرض من ذا لذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء وسع كرسيه لسماوات ولأرض ولا يؤوده حفظهما وهو لعلي لعظيم} وبقوله عز وجل {عالم لغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من رتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} وهذا ما لا يخالفنا فيه إلا بعض اليهود وأما أهل الإسلام فكلهم يجيزون النسخ إلا بعض من منع من هذه اللفظة وأجاز المعنى وهذا ما لا ننازعه فيه إذا سلم لنا الصفة المسماة فلسنا ممن يشتغل بالاسم إلا حيث أوجب ذلك النص وأما اليهود فغير منكر من شدة جهلهم وضعف عقولهم وعظيم بهتهم وكذبهم وتناقض أقوالهم وصلابة وجوههم ورخاوة قلوبهم وفرط غيظهم على ربهم عز وجل إذا أحل بهم من البلاء والذل والمهانة والخسة ما أحل أن يدعوا أن لهم على ربهم شروطا أكثر من هذا فهم يدعون لكلب من أخبارهم يسمى إشماعيل لعنة الله عليه وعليهم أن الله تعالى عما يقول اليهود المشركون علوا كبيرا تعلق في خرب بيت المقدس بثياب إشماعيل وهو يعنون ربهم يبكي ويئن كما تئن الحمامة وأنهم يعنون ربهم رغب إلى إشماعيل هذا الرذل أن يبارك عليه بمعنى أن ربهم طلب من إشماعيل البركة فمن كان ربه عنده في نصاب من يطلب بركة إشماعيل لنفسه غير منكر أن يسفهوه

فصل فيما يجوز النسخ فيه وفيما لا يجوز فيه النسخ

فيما أحبوا وهذه صفة جني لعب بعقولهم وسخر منهم لا صفة الباري تعالى عز وجل على أنه قد بين لهم في التوراة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنذروا به فصح بذلك أن شريعتهم إنما علقت لهم بشرط ما لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم المنتظر الذي هو رجاء الأمم والذي يستعلي من جبار فاران ومعه ألوف من الصالحين والذي يجعل الله تعالى كلامه في فمه ومن عصاه انتقم منه فصار ذلك بمنزلة ما أمروا به من العمل في التيه بأوامر ما وفي البيت والشام بأوامر أخر ومثله ما أمروا به من العمل في غير السبت ثم تحريم العمل في السبت وبمنزلة صيام وقت ما والمنع منه في وقت آخر ومثل إباحة الوطء في وقت ما وتحريمه في وقت الحيض وسائر الشرائع المرتبطة بأوقات ما فإذا عدمت تلك الأوقات انتقل حكم تلك الشرائع وكل ذلك لا علة له ولا شيء يوجبه أصلا لا مصلحة ولا غيرها إلا أنه تعالى أراد ذلك كما أراد خلق ما خلق من الخلائق المختلفات فقط وبالله تعالى التوفيق فكيف وفي توراتهم أن الله تعالى أباح لآدم وبنيه أكل حيوان حاشا الدم وهذا خلاف شريعة موسى عليه السلام فقد صح النسخ عندهم فصل فيما يجوز النسخ فيه وفيما لا يجوز فيه النسخ قال أبو محمد النسخ لا يجوز إلا في الكلام الذي معناه الأمر أو النهي وقد بينا في كتابنا الموسوم بكتاب التقريب لحدود المنطق أن الكلام كله ينقسم أربعة أقسام أمر ورغبة وخبر واستفهام فالاستفهام والخبر والرغبة لا يقع فيها نسخ وإنما يسمى الرجوع عن الخبر وعن الاستفهام استدراكا فكل ذلك منفي عن الله عز وجل لأن الرجوع عنهما إنما هو تكذيب للخبر المرجوع عنه

ومعرفة وكراهية لما رجع عن الاستفهام عنه لعرض حدث أو لعلم بشيء كان يجهل وأما الرجوع عن الرغبة فإنما يسمى استقالة أو تنزها عما انحط إليه قبل ذلك وقد قدمنا أن المعاني إذا اختلفت فواجب أن يخالف بين أسمائها لئلا يقع الإشكال وليلوح البيان ويصح الفهم والإفهام فبقي الرجوع عن الأمر بإحداث أمر غيره فيسمى نسخا وهو فعل من علم أن سيرفع أمره ويحيله فإذا ورد الكلام لفظه لفظ الخبر ومعناه معنى الأمر جاز النسخ فيه مثل قوله تعالى {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى لحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ولله عزيز حكيم} وفي هذا توجد منا المعصية مثل قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} فإنما هذا أمر لنا بأن نؤمن كل من دخل مقام إبراهيم وليس هذا خبرا ولو كان خبرا لكان كذبا لأنه قد قتل الناس حوله ظلما وعدوانا قال أبو محمد وموجود في كل لغة أن يرد الأمر بلفظ الخبر وبلفظ الاستفهام كقول القائل لعبده أتفعل أمر كذا أو ترى ما يحل بك وإنما ذلك أن الخبر عن الشيء إيجاب لما يخبر به عنه والأمر إيجاب لفعل المأمور به فهذا اشتراك بين صيغة الخبر وصيغة الأمر فإذا قال قائل حق عليك القيام إلى زيد فهذا خبر صحيح البنية معناه قم إلى زيد وكذلك قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} معناه ليحج الناس منكم من استطاع وكذلك إذا قال القائل قد أوجبت عليك القيام إلى زيد فهذا خبر صحيح البنية معناه قم إلى زيد وكذلك قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لصيام كما كتب على لذين من قبلكم لعلكم تتقون} معناه صوموا فما كان من الأخبار هكذا فالنسخ فيها جائز وأما ما كان خبرا مجردا مثل قام زيد وهذا عمرو ووقع أمس خطب كذا وزيد الآن قائم وغدا يكون أمر كذا فهو لا يجوز النسخ فيه البتة لأنه تكذيب لهذا الخبر والله تعالى منزه عن الكذب

بإخباره تعالى أن قوله الحق وبقوله تعالى {قال فلحق ولحق أقول} وهو موصوف بأنه ينسخ ويحيل ويبدل الأمور بقوله تعالى {يمحو لله ما يشآء ويثبت وعنده أم لكتاب} وبقوله تعالى {قل للهم مالك لملك تؤتي لملك من تشآء وتنزع لملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء بيدك لخير إنك على كل شيء قدير} وبقوله تعالى {قل للهم مالك لملك تؤتي لملك من تشآء وتنزع لملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء بيدك لخير إنك على كل شيء قدير} بإخباره تعالى أنه كل يوم في شأن وقد اختلف أصحابنا في بعض الأوامر أيجوز فيها النسخ أم لا فقالوا كل ما علم بالعقل فلا يجوز أن ينسخ مثل التوحيد وشبهه قال أبو محمد وهذا فاسد من القول لأنه مجمل لما لا يجوز مع ما لا يجوز ولكن يسأل قائل هذا القول فيقال ما أردت بقولك لا يجوز نسخ التوحيد فإن كنت تريد أنه بعد أن أعلمنا الله تعالى أنه لا ينسخ هذا الدين أبدا لا يجوز تبديله وإن كنت تريد أنه لما سلف في سابق علم الله تعالى أنه لا ينسخه أبدا علمنا أنه لا يجوز نسخه فنعم هذا قوله صحيح وهكذا إباحة الكبش وتحريم الخنزير وجميع شرائع الملة الحنيفة المستقرة لا يجوز نسخ شيء منها أبدا ولا فرق بين التوحيد وسائر الشرائع في ذلك البتة وإن كنت تريد أنه تعالى غير قادر على نسخ التوحيد أو أنه تعالى قادر على نسخه والأمر بالتثنية أو التثليث إلا أنه لو فعل ذلك لكان ظلما وعبثا فاعلم أنك مخطىء ومفتر على الله تعالى لأنك معجز له متحكم عليه وقاض بأنك مدبر لخالقك عز وجل وموقع له تحت رتب وقوانين بعقلك إن خالفها عبث وظلم وهذا كلام يؤول إلى الكفر المجرد والشرك المحض مع عظيم ما فيه من الجهل والجنون بل نقول إن الله عز وجل قادر على أن ينسخ التوحيد وعلى أن يأمر بالتثنية والتثليث وعبادة الأوثان وأنه تعالى لو فعل ذلك لكان حكمة وعدلا وحقا ولكان التوحيد كفرا وظلما وعبثا ولكنه تعالى لا يفعل ذلك أبدا لأنه قد أخبرنا أن لا يحيل دينه الذي أمرنا به فلما أمنا

ذلك صار ما تبرأ الله منه كفرا وظلما وعبثا وصار ما أمر به حقا وعدلا وحكمة فقط وليس اعتقادنا التوحيد حقا ولا حكمة بذاته دون أن يكون لله فيه أمر ولكن إنما صار حقا وعدلا وحكمة لأن الله تعالى أمر به ورضيه وسماه حقا وعدلا وحكمة فقط فهذا دين الله عز وجل الذي نص عليه بأن يفعل ما يشاء وأنه {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وأنه لو أراد أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء وهذا هو القول الذي دلت العقول على صحته وبطلان ما عداه لأن العقل يشهد أن الله تعالى خلقه وأنه كان تعالى حقا واحدا أولا إذ لا نفس حيوانية ولا عقل مركب فيها ولا في غيرها ولا جوهر ولا عرض ولا عدد ولا معدود ولا رتبة من الرتب وأنه تعالى خلق النفوس بعد أن لم تكن وخلق العقول على ما هي عليه بعد أن لم تكن ورتب فيها الرتب على ما هي عليه بعد أن لم يكن شيء منها وأنه لو شاء أن يخلق العقول على غير ما هي عليه وأن يرتب الأمور فيها على خلاف ما رتبها لفعله ولما تعذر ذلك عليه ولكان حينئذ هو الحق والعدل والحكمة وما عداه الظلم والجور والعبث لا معقب لحكمه ومن ادعى غير هذا فقد ادعى أن رتبة العقل المجهول في النفس كانت موجودة إذ لا عقل ولا نفس وهذا عين التناقض والخبال والخلف والمحال ومن أنار الله تعالى عقله وسيره لأن يستضيء به وتصور له حدوث العالم بعد أن لم يكن أشرف على صحة ما ذكرناه وأيقنه وشاهده وعلمه ضرورة ولم يكن عنه له محيد أصلا ومن أصحب الله تعالى نفسه والحيرة وتمييزه

الضعف تحير وتصور الأمور بخلاف ما هي عليه ولم يخرج إلى طرف وظن الظنون المردية ولله تعالى الحمد على ما علم وهدى لا إله إلا هو الرحمن الرحيم قال أبو محمد ومن بديع ما قطع أصحابنا على أنه لا يجوز نسخه شكر المنعم وأن كفر المنعم لا سبيل إلى إباحته في العقل أصلا قال أبو محمد فنسأل قائل هذا القول الفاسد فنقول له ما تقول في رجل استنقذ طفلا قد أشرف الأسد على افتراسه فرباه ولا أب له ولا أم ولا مال فأحسن تربيته ثم علمه العلوم وأكرمه وبره ولم يذله ولا استخدمه وموله وزوجه وخوله ثم إن ذلك المحسن إليه زنى وهو محصن وسرق وقذف ثم تاب من كل ذلك وتعبد ثم قامت عليه بذلك بينة عدل وقدم إلى يتيمه وهو بعد حاكم من حكام المسلمين فما ترى أن يفعل فيه أيشكر فيعفو عنه ولا سيما وقد تاب أو يأمر بأن يوجع متناه بالسياط ثم يقطع يده ثم يأمر بشدخ هامته بالحجارة حتى يموت فإن قال أرى أن يعفو عنه كفر إن اعتقد ذلك أو فسق إن أشار بذلك غير معتقد له وإن قال أرى أن يوقع به أنواع العذاب الذي ذكرنا فقد ترك مذهبه الفاسد في ألا يكفر إحسان المنعم فإن قال إن هذا الفعل هو شكره على الحقيقة قال خلاف ما ادعى أن العقل يوجبه وسمى غاية الإساءة إحسانا فإن رجع إلى أن يقول إنما يحسن في العقول شكر المنعم الذي أمر الله تعالى بشكره لا شكر المنعم الذي أمر الله تعالى بالإضرار به وألا يقارض على إحسانه رجع إلى الحق وإلى أنه لا حسن إلا ما فعل الله تعالى ولا قبيح إلا ما نهى الله عنه وهذا الذي لا يجوز غيره

والعجب من ذهاب هؤلاء القوم عن نور الحق في هذه المسألة وهم يسمعون الله تعالى يقول {لا تجد قوما يؤمنون بلله وليوم لآخر يوآدون من حآد لله ورسوله ولو كانوا آبآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم لإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها لأنهار خالدين فيها رضي لله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب لله ألا إن حزب لله هم لمفلحون} وقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا كونوا قوامين بلقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم أو لوالدين ولأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فلله أولى بهما فلا تتبعوا لهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن لله كان بما تعملون خبيرا} فأوجب تعالى القيام عليهم بمر الحق وإن أدى إلى صلبهم وقتلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وأعضائهم وضربهم بالسياط وشدخهم بالحجارة وهتك أستارهم وسبي نسائهم وذراريهم وبيع أملاكهم وبيعهم مماليك وأخذ أموالهم وإن كانوا آباءنا المحسنين إلينا إذا كفروا فأين شكر المنعم وبر الأب على الإطلاق وهذا كله محال وإنما الذي يجب فهو بر الوالدين الأبوين الذين أوجب الله برهما وإنما الذي يجب أيضا فهو شكر المنعم الذي أمر الله بشكره ولم يأمرنا الله تعالى ببر الوالدين لما وجب برهما ولا عقوقهما ولو لم يأمرنا بشكر المنعم لما لزم شكره ولا كفره كما لا يلزم بر الوالدين الحربيين أو المحاربين وكذلك المنعم الحربي أو المحارب ولو لم يأمرنا بالرحمة لما وجبت أيضا كما أننا نضجع

الخروف الصغير ونذبحه ونطبخ لحمه ونأكله ونفعل ذلك أيضا بالفصيل الصغير ونثكل أمه إياه ونولد عليها من الحنين والوله أمرا ترق قلوب سامعيه له وتؤلم نفوس مشاهديها وقد شاهدنا كيف خوار البقر وفعلها إذا وجدت دم ثور قد ذبح وكل هذا حلال بلا مأمور به ويكفر من لم يستحله ويجب بذلك سفك دمه فأي فرق في العقول بين هذا وبين ذبح صبي آدمي لو أبيح لنا ذلك وقد جاء في بعض الشرائع أن موسى عليه السلام أمر في أهل مدين إذا حاربهم بقتل جميع أطفالهم أولهم عن آخرهم من الذكور وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين يصابون في البيات فقال هم من آبائهم فهل في هذا كله شيء غير الأمور الواردة من الله عز وجل وقد قال قوم إذا جاء أمر بشريعة ما وجاء على فعلها وعد وعلى تركها وعيد ثم نسخ ذلك الأمر فقد نسخ الوعد والوعيد عليه قال أبو محمد فيقال له وبالله تعالى التوفيق لم ينسخ الوعد ولا الوعيد لأنهما إنما كانا متعلقين بثبات ذلك الأمر لا على الإطلاق وإنما يصح النسخ فيها لو بقي ذلك الأمر بحبسه ثم يأتي خبر بإسقاط ذلك الوعيد وهذا ما لا سبيل إليه بعد ورود الخبر به ولا نسخ في الوعد ولا في الوعيد البتة لأنه كان يكون كذبا وإخلافا وقد تنزه الله تعالى عن ذلك ولكن الآيات والأحاديث الواردة في ذلك مضموم بعضها إلى بعض ولا يجوز أن نقتصر منها على بعض دون بعض على ما بينا في كتاب الفصل وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد وقد غلط قوم غلطا شديدا وأتوا بأخبار ولدها الكاذبون والملحدون منها أن الداجن أكل صحيفة فيها آية متلوة فذهب البتة

ومنها أن قرآنا أخذه عثمان بشهادة رجلين وشهادة واحدة ومنها أن قراءات كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقطها عثمان وجمع الناس على قراءة واحدة قال أبو محمد وهذا كله ضلال نعوذ بالله منه ومن اعتقاده وأما الذي لا يحل اعتقاد سواه فهو قول الله تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} فمن شك في هذا كفر ولقد أساء الثناء على أمهات المؤمنين ووصفهن بتضييع ما يتلى في بيوتهن حتى تأكله الشاة فيتلف مع أن هذا كذب ظاهر ومحال ممتنع لأن الذي أكل الداجن لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظا له أو كان قد أنسيه فإن كان في حفظه فسواء أكل الدواجن الصحيفة أو تركها وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنسيه فسواء أكله الداجن أو تركه قد رفع من القرآن فلا يحل إثباته فيه كما قال تعالى {سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شآء لله إنه يعلم لجهر وما يخفى} فنص تعالى على أنه لا ينسى أصلا شيئا من القرآن إلا ما أراد تعالى رفعه بإنسائه فصح أن حديث الداجن إفك وكذب وفرية ولعن الله من جوز هذا أو صدق به بل كل ما رفعه الله تعالى من القرآن فإنما رفعه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قاصدا إلى رفعه ناهيا عن تلاوته إن كان غير منسي أو ممحوا من الصدور كلها ولا سبيل إلى كون شيء من ذلك بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجيز هذا مسلم لأنه تكذيب لقوله تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} ولكان ذلك أيضا تكذيبا لقوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} ولكان ما يرفع منه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم خرما في الدين ونقصا منه وإبطالا للكمال المضمون ولكان ذلك مبطلا لهذه الفضيلة التي خصصنا بها والفضائل لا تنسخ والحمد لله رب العالمين

وأما فعل عثمان رضي الله عنه فلم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والقرآن مجموع كما هو مرتب لا مزيد فيه ولا نقص ولا تبديل والقراءات التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باقية كلها كما كانت لم يسقط منها شيء ولا يحل حظر شيء منها قل أو كثر قال الله تعالى {إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} ولبيانه هذا وتقصي الكلام فيه مكانه من باب الإجماع من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى قال أبو محمد وقد قال قوم في آية الرجم إنها لم تكن قرآنا وفي آيات الرضعات كذلك قال أبو محمد ونحن لا نأبى هذا ولا نقطع أنها كانت قرآنا متلوا في الصلوات ولكنا نقول إنها كانت وحيا أوحاه الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم مع ما أوحى إليه من القرآن فقرىء المتلو مثبوتا في المصاحف والصلوات وقرىء سائر الوحي منقولا محفوظا معمولا به كسائر كلامه الذي هو وحي فقط ولسنا ننكر رفع آيات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدور جملة لقوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} ولا نجيز ذلك بعد موته لقوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} فإنما اشترط الله تعالى لنا رفعها معلقا بأن يأتينا بخير منها أو مثلها وهذا ما لا سبيل إليه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الإتيان بآية بعده لا سبيل إليه إذ قد انقطع الوحي بموته ومن أجاز ذلك فقد أجاز كون النبوة بعده ومن أجاز ذلك فقد كفر وحل دمه وماله ولا سبيل إلى أن ينسى عليه السلام شيئا من القرآن قبل أن يبلغه فإذا بلغه وحفظه للناس فلسنا ننكر أن ينساه عليه السلام لأنه بعد محفوظ مثبت وقد جاء مثل ذلك في خبر صحيح أنه سمع رجلا يتلو القرآن فدعا له بالرحمة وأخبر عليه السلام أنه أذكره آية كان نسيها ولأنه قد بلغه كما أمر كما

فصل هل يجوز نسخ الناسخ

حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا ثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ من الليل فقال رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتها من سورة كذا وكذا ورواه عبدة وأبو معاوية عن هشام أذكرني آية كنت أنسيتها فصل هل يجوز نسخ الناسخ قال أبو محمد ولا فرق بين أن ينسخ تعالى حكما بغيره وبين أن ينسخ ذلك الثاني بثالث وذلك الثالث برابع وهكذا كل ما زاد كل ذلك ممكن إذا وجد برهان على صحته وقد جاء في بعض الآثار أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال فكان عاشوراء فرضا ثم نسخ فرضه بصيام رمضان بشرط أن من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا وأفطر هو ثم نسخ ذلك بإيجاب الصيام على الحاضر المطيق الصحيح البالغ العاقل وكان من نام لا يحل له الأكل ولا الوطء ثم نسخ ذلك بإباحة كل ذلك في الليل والحظر لصيام الليل إلى الفجر وقد أوردنا في كتاب النكاح من ديواننا الكبير المسمى بالإيصال بأصح أسانيد أن نكاح المتعة أباحه الله تعالى ثم نسخه ثم أباحه ثم نسخه ثم أباحه ثم نسخه إلى يوم القيامة

فصل في مناقل النسخ

فصل في مناقل النسخ قال أبو محمد مراتب الأوامر في الشريعة كلها خمسة لا سادس لها وهي حرام وهو الطرف الواحد وفرض وهو الطرف الثاني وبين هذين الطرفين ثلاث مراتب فيلي الحرام مرتبة الكراهة وهي الأشياء التي تركها خير من فعلها إلا أن من تركها أجر ومن فعلها لم يأثم وذلك نحو الأكل متكئا والتمسح من الغسل في ثوب معد لذلك وما أشبه ذلك ويلي مرتبة الفرض مرتبة الندب وهي الأشياء التي فعلها خير من تركها إلا أن من فعلها أجر ومن تركها غير راغب عنها لم يأثم وفي هذا الباب يدخل التطوع كله بأفعال الخير وبين هاتين المرتبتين مرتبة المباح المطلق وهو ما تركه وفعله سواء إن فعله لم يؤجر ولم يأثم وإن تركه لم يؤجر ولم يأثم كجلوس الإنسان مربعا أو مرفوع الركبة الواحدة وصباغة ثوبه أخضر أو أسود وحسه الشيء بيده وما أشبه ذلك فإذا نسخ الفرض نظر فإن كان بلفظ لا تفعل بعد أن أمرنا بفعله فهو منتقل إلى التحريم لأن هذه صيغة للتحريم وإن نسخ بأن قال {يأيها لذين آمنوا إذا جآءكم لمؤمنات مهاجرات فمتحنوهن لله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى لكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم لكوافر واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا ذلكم حكم لله يحكم بينكم ولله عليم حكيم} أو بلفظ تخفيف أو بترك أو بفعل لم ينتقل إلا إلى أقرب المراتب وهو الندب وذلك مثل صيام عاشوراء فإنه لما نسخ وجوبه انتقل إلى الندب وكذلك إن نسخ التحريم فإن كان نسخه بلفظ افعل انتقل إلى الفرض لأن هذه صيغة الفرض وإن نسخ بلا جناح أو بتخفيف انتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الكراهة وإذا نسخت الكراهة أو الندب بلفظ افعل انتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الكراهة وإذا نسخت الكراهة أو الندب بلفظ افعل انتقلا إلى الفرض فإن نسخا بلفظ لا تفعل انتقلا إلى التحريم فإن نسخا بتخفيف انتقلا إلى الإباحة المطلقة لأن الإباحة أقرب إليهما من الفرض والتحريم لأن المكروه والمندوب إليه مباحان ولكنهما معلقان

فصل في آية ينسخ بعضها ما حكم سائرها

بشرط كما ترى وقد نسخ تحريم وطء النساء بعد النوم في ليالي الصوم إلا الإباحة بالندب ونسخ المنع من القتال بإيجابه ونسخ فرض استقبال بيت المقدس بالتحريم وقد نسخ فرض بفرض آخر كنسخ حبس الزواني إلى الجلد والرجم أو الجلد والتغريب فصل في آية ينسخ بعضها ما حكم سائرها قال أبو محمد إذا جمعت الآية أو الحديث حكمين فصاعدا فجاء نص أو إجماع بنسخ أحد الحكمين أو تخصيصه أو إخراجه إلى الندب وقف عنده ولم يحل لمسلم أن يقول إن الحكم الآخر منسوخ من أجل هذا الحكم المذكور معه في الآية أو الحديث ولا أنه مخصوص ولا أنه ندب بل يبقى على حكمه كما كان وعلى ما يوجبه ظاهره لقول الله عز وجل {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} ومن ادعى أن هذا الحكم مرتبط بيانه أو نسخه بحكم آخر فقد افترى على الله عز وجل وادعى ما لا دليل عليه ولزمه أن متى وجد في سورة واحدة آية منسوخة أن يقول إن تلك السورة منسوخة كلها من أجل الآية المنسوخة منها ولزمه ما هو أفحش من هذا وهو أن يقول إن القرآن كله منسوخ من أجل وجوده فيه أحكاما كثيرة منسوخة ولا فرق بين عطف حكم على حكم وبين عطف آية على آية ولا فرق بين ذكر حكمين في آية وبين ذكرهما في سورة فإذا وجب أن يكون أحد الحكمين المذكورين في الآية منسوخا لزم مثل ذلك في أحكام السورة كلها لأن الحكم المذكور معها منسوخ أيضا ولا فرق وهذا إبطال للشريعة جملة وخروج عن الإسلام ومن الله تعالى العافية علينا من ذلك وبالله تعالى التوفيق

فصل في كيف يعلم المنسوخ والناسخ مما ليس منسوخا

قال أبو محمد مثال ذلك قوله تعالى {وللاتي يأتين لفاحشة من نسآئكم فستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في لبيوت حتى يتوفاهن لموت أو يجعل لله لهن سبيلا} ثم نسخ تعالى الإمساك في البيوت وأثبت استشهاد الأربعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي وحلوان الكاهن وكسب الحجام وثمن الكلب فخرج كسب الحجام عن التحريم بحديثه عليه السلام أطعمه رقيقك وناضحك فيلزم من خالفنا أن يبيح من أجل ذلك مهر البغي وحلوان الكاهن وهذا ما لا يقوله مسلم وقد قال الطحاوي إن النهي عن ثمن الكلب منسوخ بنسخ إيجاب قتل الكلاب قال أبو محمد ولا أدري في أي عقل أم في أي نص وجد هذا الرجل أنه إذا حرم قتل حيوان حل بيعه أتراه جهل أن يبيعه وبيع كل حر حرام وقتله حرام ما لم يقترف ما حل دمه إن هذه لغباوة شديدة وعصبية لمذهبه الفاسد قبيحة ونعوذ بالله من التقليد المؤدي إلى القول على الله تعالى بمثل هذا بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير وليت شعري ما الفرق بينه وبين من عارضه فقال بل لما حرم الله أكلها حرم بيعها فصل في كيف يعلم المنسوخ والناسخ مما ليس منسوخا قال أبو محمد لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة هذا منسوخ إلا بيقين لأن الله عز وجل يقول {وما أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن لله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فستغفروا لله وستغفر لهم لرسول لوجدوا لله توابا رحيما} وقال تعالى {قل من حرم زينة لله لتي أخرج لعباده والطيبات من لرزق قل هي للذين آمنوا في لحياة لدنيا خالصة يوم لقيامة كذلك نفصل لآيات لقوم يعلمون} فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه ففرض اتباعه

فمن قال في شيء من ذلك إنه منسوخ فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر وأسقط لزوم اتباعه وهذه معصية لله تعالى مجردة وخلاف مكشوف إلا أن يقوم برهان على صحة قوله وإلا فهو مفتر مبطل ومن استجاز خلاف ما قلنا فقوله يؤول إلى إبطال الشريعة كلها لأنه لا فرق بين دعواه النسخ في آية ما أو حديث ما وبين دعوى غيره والنسخ في آية ما أو حديث ما وبين دعوى غيره النسخ في آية أخرى وحديث آخر فعلى هذا لا يصح شيء من القرآن والسنة وهذا خروج عن الإسلام وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون ولا يجوز أن تسقط طاعة أمر أمرنا به الله تعالى ورسوله إلا بيقين نسخ لا شك فيه فإذا قد صح ذلك وثبت فلنقل في الوجوه التي بها يصح نسخ الآية أو الحديث فإذا عدم شيء من تلك الوجوه فقد بطلت دعوى من ادعى النسخ في شيء من الآيات أو الأحاديث قال أبو محمد فإذا اجتمعت علماء الأمة كلهم بلا خلاف من واحد منهم على نسخ آية أو حديث فقد صح النسخ حينئذ فإن اختلفوا نظرنا فإن وجدنا الأمرين لا يمكن استعمالهما معا أو وجدنا أحدهما كان بعد الآخر بلا شك أو وجدنا نصا جليا على منسوخ ووجدنا نصا في ذلك من نهي بعد أمر أو أمر بعد نهي أو نقل من مرتبة إلى مرتبة على ما قدمنا فقد أيقنا بالنسخ مثل قوله عليه السلام نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن الانتباذ في الأسقية فانتبذوا وأباح الانتباذ في كل ظرف ومثل قول جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار ومثل ما روي أنه رخص في الحجامة للصائم والترخيص لا يكون إلا بعد النهي والحجامة هكذا فعل الحاجم والمحجوم معا فهذان وجهان أو نجد حالا قد أيقنا بإبطالها وارتفاعها وحالا أخرى قد أيقنا بنزولها ووجوبها ورفعها للحال الأولى ثم جاء نص من قرآن أو حديث موافق للحال المرفوعة التي قد سقطت بيقين إلا أننا لا ندري هل جاء هذا النص الموافق لتلك الحال

المرفوعة قبل مجيء الحال الرافعة أو بعدها فإذا كان مثل هذا ففرض ألا يترك ما أيقنا بوجوبه علينا وصح عندنا لزومه لنا وحرم علينا أن نرجع إلى حال قد أيقنا بارتفاعها عنا وصح عندنا بطلانها إلا بنص جلي راد لنا إلى الحالة الأولى ورافع عنا الحالة الثانية ومن تعدى هذا فقد قفا ما لا علم له به وترك الحق واليقين واستعمل الشك والظنون وذلك ما لا يحل أصلا فكيف وقول الله تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} وقوله تعالى {لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم} وقوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} شواهد قاطعة بأنه لا يجوز البتة أن يكون الله تعالى تركنا في عمياء وضلالة لا ندري معها أبدا هل هذا الحكم منسوخ أو غير منسوخ هذا أمر قد أمنا وقوعه أبدا إذ لو كان ذلك لكان الدين قد بطل أكثره ولكننا في شك متصل لا ندري أنعمل بالباطل في نصوص كثيرة من القرآن والسنن أم نعمل بالحق وهل نحن في طاعات كثيرة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم على ضلال أو على هدى حاشا لله من هذا فصح يقينا أن حكم تيقنا بطلانه فهو باطل أبدا بلا شك حتى يأتي نص ثابت بأنه قد عاد بعد بطلانه هكذا ولا بد وإلا فلا والحمد لله رب العالمين فمن هذا الباب ما قد أيقنا من أن إباحة زواج أكثر من أربع نسوة قد ارتفعت وأن نكاح أكثر من أربع حرام على كل أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيقين وقد جاء حديث بتخيير من أسلم وعنده أكثر من أربع فكان هذا الحديث موافقا لحال ما نسخ من ترك التحريم لزواج أكثر من أربع وما كان عليه من أسلم وعنده أكثر من أربع لأنهم نكحوهن وذلك غير محظور عليهم فلما نزل التحريم خيروا في أربع منهن وكان من ابتدأ نكح خامسا فصاعدا وأكثر من أربع معا أو أختين

أو أم وابنتها بعد نزول تحريم كل ذلك عاصيا لله عز وجل وعاملا عملا ليس عليه أمره فهو رد ففعله ذلك كله مردود وعقده ذلك فاسد مفسوخ محلول غير ماض أصلا فصح بذلك ارتفاع التخيير وأنه إنما كان ذلك للذين نكحوا أكثر من أربع قبل أن يحظر ذلك وأيضا فلو صح تخيير من ابتدأ نكاح خمس في كفر بعد ورود النهي عن ذلك لما كان في ذلك إباحة تخيير من أسلم وعنده أختان أو حريمتان ومع ذلك أيضا أننا قد أيقنا أنه قد كان في صدر الإسلام إذا نام الرجل في ليل رمضان حرم عليه الوطء والأكل والشرب ثم نسخ ذلك وجاء حديث أبي هريرة عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أدركه الصبح وهو جنب فقد أفطر فكان هذه الحديث موافقا لتلك الحال المنسوخة وقد أيقنا برفعها وبإباحة الوطء إلى تبين طلوع الفجر فلا سبيل إلى الرجوع إلى حظر الوطء إلا ببيان جلي ومن ذلك أننا قد أيقنا بأن الوصية لم تكن مدة من صدر الإسلام فرضا ثم أيقنا نزول وجوب الوصية للوالدين والأقربين ثم جاء حديث عمران بن الحصين في الستة الأعبد فكان هذا الحديث موافقا للحال المرفوعة من ألا يلزم المرء أن يوصي لوالديه وأقربيه فلم يجز لنا أن نرفع به حكم الآية التي أيقنا أنها ناسخة للحال الأولى ولا جاز لنا أن نرجع إلى حالة قد أيقنا أنها حظرت علينا إلا بنص جلي إن هذا الحديث كان بعد نزول الآية وبأن أولئك الأعبد لم يكونوا أقارب الموصي بعتقهم ولا سبيل إلى وجود بيان بذلك أبدا وبالله تعالى التوفيق فصح أن كل ما كان في معنى الحال المتقدمة من إباحة ترك الوصية للوالدين والأقربين منسوخ بيقين ولم يصح أنه عاد بعد أن نسخ ولا يحل الحكم بالظنون وأيضا فقد ملك قوم من العرب أقاربهم وقد

كان هراسة أخا عنترة واستلحف شداد عنترة وكان هراسة عبدا لأخيه وقد كان في نساء الصحابة رضي الله عنهم من باعها عمها أخو أبيها وهي أم ولد أبي اليسر الأنصاري قال أبو محمد ومن استجاز أن يترك اليقين من الآية المذكورة بأن يقول لعل حديث عمران في الأعبد الستة نسخها فليقنعوا من أصحاب أبي حنيفة بقولهم لعل حكم العرايا نسخ بالنهي عن المزابنة وبقولهم لعل القصاص بغير نسخ بالنهي عن المثلة وليقولوا بقول من منع أن يمسح على الخفين وقال لعل ذلك نسخ بآية الوضوء التي بالمائدة وليأخذوا بقول ابن عباس في إباحة الدرهم بالدرهمين ويقولوا لعل النهي عن ذلك نسخ بقوله عليه السلام إنما الربا في النسيئة وليأخذوا بقول عثمان البتي في إبطال العاقلة ويقولوا لعل حكم العاقلة نسخ بقوله تعالى {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وليبطلوا السلم ويقولوا لعله نسخ بنهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك ويستحلوا أكل الحمير والسباع ويقولوا لعل النهي عنها منسوخ بقوله تعالى {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} فإن أبوا من كل ما ذكرنا وقالوا لا نقول في شيء من ذلك إنه منسوخ إلا بيقين فكذلك يلزمهم أن يقولوا أيضا بقول ابن عباس إن الآية القصرى نسخت الآية الطولى فيوجبوا خلود القاتل من المسلمين في نار جهنم أبدا فإن أبوا ألزمهم مثل ذلك في آية الوصية ولا فرق وكذلك القول فيمن قال في رضاع سالم فإنه لما كان مرتبطا بالتبني وكان التبني

منسوخا بطل حكم التعلق به لبطلانه وكل سبب بطل فإن مسببه يبطل بلا شك فإن هذا أيضا خطأ لأنه لم يأت نص ولا إجماع ولا ضرورة مشاهدة بأن هذا الحكم مخصوص به التبني فقط بل هو عموم على ظاهره ولا يجوز تخصيصه بالدعوى بلا نص ولا إجماع فهذه الوجوه الأربعة لا سبيل إلى أن يعلم نسخ آية أو حديث بغيرها أبدا إما إجماع متيقن وإما تاريخ بتأخر أحد الأمرين عن الآخر مع عدم القوة على استعمال الأمرين وإما نص بأن هذا الأمر ناسخ للأول وأمر نتركه وإما يقين لنقل حال ما فهو نقلي لكل ما وافق تلك الحال أبدا بلا شك فمن ادعى نسخا بوجه غير هذه الوجوه الأربعة فقد افترى إثما عظيما وعصى عصيانا ظاهرا وبالله تعالى التوفيق فمما تبين بالنص أنه منسوخ قوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على لناس ويكون لرسول عليكم شهيدا وما جعلنا لقبلة لتي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع لرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على لذين هدى لله وما كان لله ليضيع إيمانكم إن لله بلناس لرءوف رحيم} ثم قال تعالى {قد نرى تقلب وجهك في لسمآء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر لمسجد لحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن لذين أوتوا لكتاب ليعلمون أنه لحق من ربهم وما لله بغافل عما يعملون} فهذا تأخير لائح أن القبلة التي كانت قبل هذه منسوخة وأن التوجه إلى الكعبة كان بعد تلك القبلة وهذا أيضا له إجماع ومثل قوله تعالى {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن لله يتوب عليه إن لله غفور رحيم} فنسخ بذلك النهي عن الوطء في ليل رمضان ومثل قوله تعالى {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} نسخ به قوله تعالى {أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى لذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} وهذا نقل مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع يعني نسخ إباحة الفطر والإطعام من ندب إلى فرض ومثل نسخ قيام الليل فإنه نسخ بالنص المنقول بإجماع من فرض إلى ندب

قال أبو محمد وقد ادعى قوم في قوله تعالى {لآن خفف لله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن لله ولله مع لصابرين} إنه نسخ لقوله تعالى {يأيها لنبي حرض لمؤمنين على لقتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من لذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} قال أبو محمد وهذا خطأ لأنه ليس إجماعا ولا فيه بيان نسخ ولا نسخ عندنا في هذه الآيات أصلا وإنما هي فرض البراز للمشركين وأما بعد اللقاء فلا يحل لواحد منا أن يولي دبره جميع من على وجه الأرض من المشركين إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة على ما نبين في موضعه إن شاء الله تعالى أو من كان مريضا أو زمنا بقوله تعالى {ليس على لضعفآء ولا على لمرضى ولا على لذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على لمحسنين من سبيل ولله غفور رحيم} فإن قالوا إن الضعيف القلب معذور لأنه دخل في جملة الضعفاء قيل لهم هذا خطأ لأن من رضي أن يكون مع الخوالف لضعف قلبه ملوم بالنص غير معذور وأيضا فإن ضعف القلب قد نهينا عنه بقوله تعالى {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} ولا يجوز أن يكون تعالى أراد وهن البدن لأنه لا يستطاع دفعه أصلا والله تعالى لا يكلف إلا ما نطيق وضعف القلب مقدور على دفعه ولو أراد الجبان أن يثبت لثبت ولكنه آثر هواه والفرار على ما لا بد له من إدراكه من الموت الذي لا يعدو وقعه ولا يتقدم ولا يتأخر وهذا بين وبالله تعالى التوفيق والعجب ممن يقول إن هذه الآية مبيحة لهروب واحد أمام ثلاثة فليت شعري من أين وقع لهم ذلك وهل في الآية التي ذكروا فرارا أو تولية دبر بوجه من الوجوه أو إشارة إليه ودليل عليه ما في الآية شيء من ذلك البتة وإنما فيها أخبار عن الغلبة فقط بشرط الصبر وتبشير بالنصر مع الثبات ولقد كان ينبغي أن يكون أشد الناس حياء من الاحتجاج بهذه

الآيات في إباحة الفرار عن ثلاثة أصحاب القياس المحتجين علينا بقول الله تعالى {ومن أهل لكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في لأميين سبيل ويقولون على الله لكذب وهم يعلمون} ويقول لنا إن ما فوق القنطار بمنزلة القنطار فهلا جعلوا ههنا ما فوق الاثنين بمنزلة الاثنين ولكن هكذا يفعل الله بمن ركب ردعه واتبع هواه وأضرب عن الحقيقة جانبا وأما نحن فلو رأينا في الآيات المذكورة ذكر إباحة فرار لقلنا به ولسلمنا لأمر ربنا ولكنا لم نجد فيها لإباحة الفرار أثرا ولا دليلا بوجه من الوجوه وإنما وجدنا فيها أننا إن صبرنا غلب المائة منا المائتين وصدق الله عز وجل فليس في ذلك ما يمنع أن يكون أقل من مائة أو أكثر من مائة يغلبون العشرة آلاف منهم وأقل وأكثر كما قال تعالى {فلما فصل طالوت بلجنود قال إن لله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من غترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو ولذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا ليوم بجالوت وجنوده قال لذين يظنون أنهم ملاقوا لله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن لله ولله مع لصابرين} وهكذا كله إخبار عن فعل الله تعالى ونصره عز وجل لمن صبر منا فتلك الآية التي فيها أن المائة منا تغلب المائتين وهي إخبار عن بعض ما في الآية التي فيها أن المائة منا تغلب الألف وهاتان الآيتان معا هما إخبار عن بعض ما في الآية التي فيها {فلما فصل طالوت بلجنود قال إن لله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من غترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو ولذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا ليوم بجالوت وجنوده قال لذين يظنون أنهم ملاقوا لله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن لله ولله مع لصابرين} فلم يخص في هذه الآية عددا من عدد بل عم عموما تاما فإن قال قليل التحصيل فأي معنى لتكرار ذلك وما فائدته قيل له قد ذكرنا الجواب عن هذا الفضول من السؤال السخيف في باب دليل الخطاب من ديواننا هذا ولكن لا بد من إيراد بعض ذلك لورود هذا السؤال فيقول وبالله تعالى التوفيق هذا اعتراض منك على الله عز وجل والمعنى في ذلك والفائدة كالمعنى والفائدة في تكرار قصة موسى عليه السلام في عدة مواضع بعضها أتم في الخبر من بعض وبعضها مساو

لبعض وكما كرر تعالى العنب والرمان والنخل بعد ذكر الفاكهة وكما كرر تعالى وأقيموا الصلاة والصلاة الوسطى بعد ذكر المحافظة على جميع الصلوات وكما كرر تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} في سورة واحدة إحدى وثلاثين مرة ولم يكررها ثلاثين مرة لا ثمانية وعشرين مرة ولا كررها أيضا في غير تلك السورة وكما أخبر تعالى في مكان بأنه رب السموات والأرض وما بينهما في مكان آخر بأنه رب الشعرى ولم يذكر معها غيرها ولا يسأل رب العالمين عما قال ولا ما فعل وإنما علينا الإيمان بكل ما أتى من عند الله وقبوله كما هو واعتقاده في موجبه ولا نتعداه ولنا الأجر على الإقرار به وعلى تلاوته وعلى قبوله كما ذكرنا فأي حظ أعظم من هذا الحظ المؤدي إلى الجنة وفوز الأبد وهل يبتغي أكثر من هذا الأمر إلا من لا عقل له ولا يسأل الله عما يفعل إلا ملحد أو جاهل أو سخيف أو فاسق لا بد من أحد هذه وما فيها حظ لمختار فإن قال قائل فما معنى قول الله تعالى {لآن خفف لله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن لله ولله مع لصابرين} في الآيات المذكورات وما هذا التخفيف وهو شيء قد خاطبنا الله تعالى به وامتن به علينا فلا بد من طلب معناه والوقوف على مقدار النعمة علينا في ذلك وما هذا الشيء الذي خفف عنا لنحمد الله تعالى عليه ونعرف وجه الفضل علينا فيه فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا السؤال صحيح حسن ووجه ذلك أن أول الآية يبين وجه النعمة عليه وموضع التخفيف وهو قوله تعالى {يأيها لنبي حرض لمؤمنين على لقتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من لذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} فكان في هذه الآية التحريض لنا على قتالهم وإيجاب نهوضنا إليهم وهجومنا على ديارهم ونحن في عشر عددهم هذا هو ظاهر الآية ومفهومها الذي لا يفهم منها أحد غير ذلك ثم خفف عنا تعالى ذلك وجعلنا

في سنة من ترك التعرض للقصد إلى محالهم إذا كان المقاتلون من الجهة المقصودة أكثر من ضعيفنا وكنا بالآية الأولى في حرج إن لم نغزهم ونحن في عشر عددهم فنحن الآن في حرج إن لم نقصدهم إذا كان المقاتلون من الجهة المقصودة مثلينا فأقل فإن كانوا ثلاثة أمثالنا فصاعدا فنحن في سعة من أن لا نقصدهم ما لم ينزلوا بنا وما لم يستنفر الإمام أو أميره إلا أن نختار النهوض إليهم وهم في أضعاف عددنا فأي هذه الوجوه الثلاثة كان قد حرم علينا الفرار جملة ولو أنهم جميع أهل الأرض والملاقي لهم مسلم واحد فصاعدا فهذا هو وجه التخفيف وبهذا تتآلف الآيات المذكورة مع قوله تعالى {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد بآء بغضب من لله ومأواه جهنم وبئس لمصير} ومع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا استنفرتم فانفروا ومع إجماع الأمة على أنه إذا نزل العدو ساحتنا ففرض علينا الكفاح والدفاع وأيضا فقول الله عز وجل {لآن خفف لله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن لله ولله مع لصابرين} يبين وجه التخفيف وإنما هو عمن فيه ضعف فقط فصار هذا التخفيف إنما هو عن الضعفاء فقط كقوله تعالى {لا يستوي لقاعدون من لمؤمنين غير أولي لضرر ولمجاهدون في سبيل لله بأموالهم وأنفسهم فضل لله لمجاهدين بأموالهم وأنفسهم على لقاعدين درجة وكلا وعد لله لحسنى وفضل لله لمجاهدين على لقاعدين أجرا عظيما} وكقوله تعالى {ليس على لضعفآء ولا على لمرضى ولا على لذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على لمحسنين من سبيل ولله غفور رحيم} ومن النسخ الذي بينه النص قول رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقول بالإجماع لا وصية لوارث فنسخ بذلك الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون وبقي الولدان والأقربون الذين لا يرثون على وجوب فرض الوصية لهم قال أبو محمد وقد بينا في كتابنا هذا في باب الكلام في الأخبار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في فصل أفردناه للكلام فيما ادعاه قوم من تعارض الأخبار كلاما استغنينا عن تكراره ههنا فيه بيان غلط قوم فيما ظنوه نسخا وليس بنسخ ولكن اكتفينا بأن نبهنا عليه ههنا لأنه لا غنى بمزيد معرفة فقه النسخ عنه وبالله تعالى التوفيق

فصل لا يضر كون الآية المنسوخة متقدمة في الترتيب والناسخة متأخرة في الترتيب

فصل لا يضر كون الآية المنسوخة متقدمة في الترتيب قال أبو محمد ولا يضر كون الآية المنسوخة في ترتيب المصحف في الخط والتلاوة متقدمة في أول السورة أو في سورة متقدمة في الترتيب وتكون الناسخة لها في السورة أو في سورة متأخرة في الترتيب لأن القرآن لم ترتب آياته وسوره على حسب نزول ذلك لكن كما شاء ذو الجلال والإكرام منزله لا إله إلا الله ومرتبه الذي لم يكل ترتيبه إلى أحد دونه فأول ما نزل من القرآن {} قرأ بسم ربك لذي خلق ثم {يأيها لمدثر} وهما متأخرتان قرب آخر المصحف في الخط والتلاوة وآخر ما نزل آية الكلالة في سورة النساء وسورة براءة وهما في صدر المصحف في الخط والتلاوة فلا يجوز مراعاة رتبة التأليف في معرفة الناسخ والمنسوخ البتة وقد نسخ الله قوله تعالى {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى لحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ولله عزيز حكيم} بقوله تعالى {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير} بإجماع الأمة كلها والناسخة في المصحف في الخط والتلاوة والترتيب والتأليف قبل المنسوخة وفي هذا كفاية وبالله تعالى التوفيق فصل في نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف قال قوم من أصحابنا ومن غيرهم لا يجوز نسخ الأخف بالأثقل قال أبو محمد وقد أخطأ هؤلاء القائلون وجائز نسخ الأخف بالأثقل

والأثقل بالأخف والشيء بمثله ويفعل الله ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وإن احتج محتج بقوله الله تعالى {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} وبقوله تعالى {يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا} وبقوله تعالى {وجاهدوا في لله حق جهاده هو جتباكم وما جعل عليكم في لدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم لمسلمين من قبل وفي هذا ليكون لرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على لناس فأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وعتصموا بلله هو مولاكم فنعم لمولى ونعم لنصير} وبقوله تعالى {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} فلا حجة لهم في شيء من ذلك أما قوله تعالى {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} {وجاهدوا في لله حق جهاده هو جتباكم وما جعل عليكم في لدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم لمسلمين من قبل وفي هذا ليكون لرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على لناس فأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وعتصموا بلله هو مولاكم فنعم لمولى ونعم لنصير} فنعم دين الله كله يسر والعسر والحرج وهو ما لا يستطاع إما ما استطيع فهو يسر وأما قوله تعالى {يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا} فنعم ولا خفيف في العالم إلا وهو ثقيل بالإضافة إلى ما هو أخف منه ولا ثقيل البتة إلا وهو خفيف بالإضافة إلى ما هو أثقل منه هذا أمر يعلم حسا ومشاهدة ولا يشك ذو عقل أن الصلوات الخمس المفروضة علينا أخف من خمسين صلاة وأنها لو كانت صلاة واحدة كانت أخف علينا من الخمس وقد خفف الله تعالى عن المسافر فجعلها ركعتين وعن الخائف فجعلها ركعة واحدة ولو شاء ألا يكلفنا صلاة أصلا لكان أخف بلا شك وقد نص الله تعالى في الصلاة على أنها كبيرة إلا على الخاشعين ولا يشك ذو عقل وحس أن صيام شهر أخف من صيام عام وأن صيام ساعة أخف من صيام يوم فكل ما كلفنا الله تعالى فهو يسر وتخفيف بالإضافة إلى ما هو أشد مما حمله من كان قبلنا كما قال الله تعالى آمرا لنا أن ندعوه فنقول {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وكما نص تعالى أنه وضع بنبيه صلى الله عليه وسلم الإصر الذي كان عليهم والأغلال التي كانوا يطوقونها إذ يقول تعالى {لذين يتبعون لرسول لنبي لأمي لذي يجدونه مكتوبا عندهم في لتوراة ولإنجيل يأمرهم بلمعروف وينهاهم عن لمنكر ويحل لهم لطيبات ويحرم عليهم لخبآئث ويضع عنهم إصرهم

والأغلال لتي كانت عليهم فلذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتبعوا لنور لذي أنزل معه أولئك هم لمفلحون} فهذا هو عين اليسر وعين التخفيف وإسقاط الحرج وأين يقع ما كلفناه نحن مما كلفه بعض قوم موسى من قتل أنفسهم بأيديهم فكل شيء كلفناه يهون عند هذا وكذلك ما في شرائع اليهود من أنه من خطر على ميت تنجس يوما إلى الليل وسائر الثقائل التي كلفوا وحرم عليهم وخفف عنا ذلك كله ولله الحمد والمنة وأما قوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} فإنما معناه بخير منها لكم وكلام الله لا يتفاضل في ذاته فمعناه أكثر أجرا ولو احتج بهذه الآية من يستجيز أن يقول لا ننسخ الأخف إلا بالأثقل لكنا أقوى شغبا ممن خالفه لأنه لا خلاف أن الأثقل فاعله أعظم أجرا وقد قال عليه السلام لعائشة في العمرة هي على قدر نصبك ونفقتك كانت الناسخة أعظم أجرا فلا يكون ذلك إلا لثقلها فهذه الآية عليهم لا لهم فسقط احتجاجهم بكل ما شغبوا به ثم نقول إن من قال إن الله تعالى إنما يلزمنا أخف الأشياء فإنه يلزمه إسقاط الشرائع كلها لأنها كلها ثقال بالإضافة إلى ترك عملها والاقتصار على عمل جزء من كل عمل منها وهذا شيء يعلم بالحس والمشاهدة فصار قول من خالفنا مؤديا إلى الخروج عن الإسلام جملة ولا عمل في الدنيا إلا وفيه كلفة ومشقة وقد قال الشاعر هل الولد المحبوب إلا تعلة وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل وفي الأكل والشرب مشقة فلو أن الإنسان يصل إلى ذوق الطعوم المستطابة والشبع دون تكلف تناول ومضغ وبلع لكان أخف عليه وأقل مشقة وأيسر غررا فرب مختنق بأكله كان في ذلك حتفه أو الإشراف على الحتف ورب متأذ بما يدخل من ذلك في جوفه وبما يدخل بين أضراسه

ومغث لمعدته فيتقيأ فيألم لذلك ومن ملوث لثوبه بما يسقط من يده ولو تتبعنا ما في اللذات من عسر ومشقة لطال ذلك جدا فكيف بالأعمال المكلفة ولكن العسر والمشقة تتفاضل فإنما رفع الله عز وجل عنا في بعض المواضع ما لا نطيق وخفف تعالى في بعضها تخفيفا أكثر من تخفيف آخر وقد جاء في الأثر حفت الجنة بالمكاره فبطل بهذا الحديث نصا قول من قال إن الله تعالى لا ينسخ الأخف بالأثقل وصح أن الله تعالى يفعل ما يشاء فينسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف والشيء بمثله والشيء بإسقاطه جملة ويزيدنا شريعة من غير أن يخفف عنا أخرى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل فإن اعترضوا بقوله تعالى {لآن خفف لله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن لله ولله مع لصابرين} فهذه حجة عليهم بينة لا محيد عنها لأن التخفيف لا يكون إلا بعد تثقيل فإذا ثقل علينا تعالى أولا فما الذي يمنع من أن يثقل علينا آخرا إن شاء وقد كنا برهة خالين من ذلك التثقيل الأول ثم ثقلنا به فما المانع من أن يعود علينا ثانية كما كان أولا وأن نزاد تثقيلا آخر أشد منه ويكفي من هذا كله وجودنا ما لا سبيل لهم إلى دفع نسخه تعالى أشياء خفافا بأشياء ثقال فمن ذلك نسخه تعالى صيام يوم عاشوراء بصيام شهر رمضان ونسخ إباحة الإفطار في رمضان وإطعام مساكين بدل ما يفطر من أيامه بوجوب صيامه فرضا على كل حاضر صحيح بالغ عاقل عالم بالشهر ولزوم الصيام فيه ونسخ سقوط الغسل عن المولج العامد الذاكر لطهارته بإيجاب الغسل عليه ونسخ تعالى إباحة الكلام للمصلي بعد أن كان حلالا بتحريمه وقد كان الكلام فيها فيما ناب الإنسان أخف بلا شك ونسخ تعالى سقوط فرض الجهاد وبيعة المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء بإيجاب القتال وحرم الخمر بعد إحلالها وقال تعالى {كل لطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على

نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بلتوراة فتلوها إن كنتم صادقين} فصح أنه تعالى حرم عليهم أشياء كانت لهم حلالا وقد كان المنسوخ من كل ما ذكرنا أخف من الناسخ بالحس والمشاهدة وقد بين الله تعالى ذلك بإخباره أن في الخمر والميسر منافع للناس فأبطل تعالى علينا تلك المنافع ولا يشك ذو عقل أن عدم المنفعة أثقل من وجودها ونسخ تعالى الأذى والحبس عن الزواني والزناة والرجم والتغريب ولا شك عند من له عقل أن الحجارة والسياط أثقل من السب والسجن وقد اعترض بعض من يخالف قولنا في هذه المسألة بأن قال في نسخ الحبس عن الزواني إن الحبس لم يكن مطلقا وإنما كان مقيدا بوقت منتظرا لقوله تعالى {وللاتي يأتين لفاحشة من نسآئكم فستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في لبيوت حتى يتوفاهن لموت أو يجعل لله لهن سبيلا} قال أبو محمد وهذا الاعتراض ساقط من وجوه ثلاثة أحدها أنه لا يجد مثل هذا الشرط في أذى الزناة وتبكيتهم ولا في سائر ما ذكرنا من الخفائف المنسوخة بالثقائل والثاني أن كل نسخ في الدنيا فهذه صفته وإنما هو مقيد عند الله تعالى بوقت محدود في علمه تعالى كما قالت عائشة في فرض قيام الليل إنه تعالى أمسك خاتمة الآية في السماء اثني عشر شهرا ثم أنزلها ولا فرق بين أن يبدي إلينا ربنا تعالى أنه سينسخ ما يأمرنا به بعد مدة وبين ألا يبدي إلينا ذلك حتى ينسخه وكل ذلك نسخ ولا فرق بين معجل النسخ ومؤجله في أن كل ذلك نسخ والثالث أن السبيل الذي انتظر بهن هو أثقل مما كان عليهن أولا لأنه شدخ بالحجارة حتى يقع الموت بعد الإيلام بالسوط أو نفي في الأرض بعد الإيلام بالسوط فكانت السبيل المحمولة لهن سبيل الهلاك أو البلاء وكل ذلك أشد من الحبس وهذا نفس ما اختلفنا فيه فأجزناه نحن وأبوه هم وقد اعترض بعضهم في نسخ البيعة على بيعة النساء بإيجاب القتال بأن

قال كان القتال أثقل علينا في صدر الإسلام لقلتنا فلما كثر عددنا صار تركه أثقل قال أبو محمد ولو كان لهذا القائل علم بكيفيات الأسماء وحدود الكلام لم يأت بهذا الهذر ويقال له أخبرنا أزاد الناس حين نزول آية إيجاب القتال زيادة قووا بها قوة ثانية أكثر مما كانوا أم لا فإن قال لا نقص قوله وتبرأ منه وأخبر أن الحال بعد نزول هذه الآية الموجبة للقتال بعد أن كان غير واجب كالحال التي كانت قبل نزول إيجاب القتال وبطل ما قدر من التفاضل في القوة الموجبة لنزول إيجاب القتال وإن قال نعم جمع أمرين أحدهما أنه يقفو ما ليس له به علم ويكذب والثاني أنه لم يتخلص بعد من إلزامنا ويقال له لا بد أنه قد كان بين بلوغهم العدد الذي بلغوه حين نزول آية إيجاب القتال عليهم وبين نزول الآية وقت ما لا بد منه فقد كان العدد موجودا ولا قتال عليهم ثم نسخ بإيجاب القتال وأيضا فإنه ليس في المعقول أصلا ولا في الوجود عدد إذا بلغته الجماعة قويت على محاربة أهل الأرض كلهم وقد ألزم الله تعالى المسلمين إذا أمرهم بالقتال مجاهدة كل من يسكن معمور العالم من الناس والمسلمون يومئذ لم يبلغوا الألف وقد علم كل ذي عقل أنه لا فرق في القوة على محاربة أهل الأرض كلهم بين ألف وألفين وبين واحد واثنين وإنما ههنا نزول النصر فإذا أنزل الله تعالى على الإنسان الواحد قوي ذلك الواحد على محاربة أهل الأرض كلهم وعجزوا كلهم عنه كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {هههه المائدة 67 وأيقنا بذلك لو بارزوه كلهم لسقطوا أمامه ولقدر على جميعهم وقد قال بعض المخالفين لقولنا إن الصبر على القتال أثقل لذي النفس الآنفة قال أبو محمد ويكفينا من الرد على هذه المقالة تكذيب الله عز وجل لها فإنه تعالى خاطب الصحابة رضي الله عنهم وهم آنف الناس نفوسا وأحماهم

قلوبا وأعزهم همما أو خاطب أيضا كل مسلم يأتي إلى يوم القيامة وهم أعز الأمم نفوسا وأقرها على الضيم بأن قال تعالى {كتب عليكم لقتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} وكفانا عز وجل الشغب والتعب وبين أن الكتاب مكروه عندنا والمكروه أثقل شيء وأخبرنا سبحانه وتعالى أن المكروه الذي هو أثقل قد يكون لنا فيه خير أكثر مما في الأخف فقد حكم الله تعالى لنا في هذه المسألة حكما جليا لا يسوغ لأحد أن يتكلم بعد سماعه في هذا المعنى بكلمة مخالفة لقولنا والحمد لله رب العالمين واعترض بعضهم بأن قال لم تكن الخمر مباحة بل كانت حراما بالعقل فلم ينسخ إباحتها قال أبو محمد فنقول وبالله تعالى التوفيق إذ هذا القائل لو اشتغل بقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم لكان ذلك أولى به من الكلام في الدين قبل النفقة فيه وقد روينا في الحديث الصحيح تحليلها قبل أن تحرم حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج قال ثنا عبيد الله بن عمر القواريري ثنا أبو همام عبد الأعلى ثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا أيها الناس إن الله يعرض بالخمر ولعل الله سينزل فيها أمرا فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به قال فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال صلى الله عليه وسلم إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده شيء فلا يشرب ولا يبع وروينا من الأطراف الصحاح شربها معلنا بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ذلك عن حمزة وسعد وأبي عبيدة بن الجراح وسهيل بن بيضاء وعبد الرحمن بن عوف وأبي أيوب وأبي طلحة وأبي دجانة سماك

فصل في نسخ الشيء قبل أن يعمل به

بن خرشة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فكيف يقول هذا الجاهل إنها لم تكن حلالا وإن العقل حرمها وأين عقل هذا الجنون العديم العقل على الحقيقة من عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يراهم يشربونها ولا ينكر ذلك عليهم أزيد من ستة عشر عاما بعد مبعثه عليه السلام فإن الخمر لم تحرم إلا بعد أحد وأحد كانت في الثالث من الهجرة وتنادم الصحابة في المدينة بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما وقع لبعضهم من العربدة على بعض ومن الجنايات في شارفي علي ومن التخليط في الصلاة أشهر من أن يجهله من له علم بالأخبار وكل ذلك يعلمه ولا ينكره عليه السلام ولا يحل لمؤمن أن يقول إنه عليه السلام أقر على حرام أصلا ويكفي من هذا ما قدمنا من أمره عليه السلام يبيعها قبل أن تحرم وبأن ينتفع بها والشرب يدخل في الانتفاع وبالله التوفيق فصل في نسخ الشيء قبل أن يعمل به قال أبو محمد أكثر المتقدمون في هذا الفصل وما ندري أن لطالب الفقه حاجة ولكن ما تكلموا ألزمنا بيان الحق في ذلك بحول الله وقوته والصحيح من ذلك أن النسخ بعد العمل به وقبل العمل به جائز كل ذلك

وقد نسخ تعالى عنا إيجابه خمسة وأربعين صلاة في كل يوم وليلة قبل أن يعمل بها أحد قال أبو محمد ومن جعل هذا بداء فقد جعل النسخ بداء ولا فرق وكل ما دخلوه في نسخ الشيء قبل أن يعمل به راجع عليهم في نسخه بعد أن يعمل به ولا فرق والله تعالى يفعل ما يشاء والذي نقدر أن الذي حداهم إلى الكلام في هذه المسألة مذهبهم الفاسد في المصالح ونحن لا نقول بها بل نفوض الأمر إلى الله عز وجل يفعل ما يشاء ليس عليه زمام ولا له متعقب وسنبين ذلك في باب العلل من هذا الديوان إن شاء الله تعالى فإن قال قائل فماذا أراد الله عز وجل منا إذ قال خمسين صلاة في كل يوم وليلة ثم نسخها وردها إلى خمس قبل أن نصلي الخمسين قيل له وبالله تعالى التوفيق إنه أراد منا الطاعة والانقياد والعزيمة على صلاتها والاعتقاد لوجوبها علينا فقط ولم يرد تعالى قط منا كون تلك الصلوات ولا أن نعملها ونحن لا ننكر أن يأمر تعالى بما لم يرد قط منا كونه بل يوجب ذلك ونقول إنه تعالى أمر أبا طالب بالإيمان ولم يرد قط تعالى كون إيمانه موجودا وقد نص تعالى على ذلك بقوله {يأيها لرسول لا يحزنك لذين يسارعون في لكفر من لذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن لذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون لكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فحذروا ومن يرد لله فتنته فلن تملك له من لله شيئا أولئك لذين لم يرد لله أن يطهر قلوبهم لهم في لدنيا خزي ولهم في لآخرة عذاب عظيم} وقوله تعالى {إنك لا تهدي من أحببت ولكن لله يهدي من يشآء وهو أعلم بلمهتدين} فأخبر تعالى أنه لم يجب هداية أبي طالب وأنه أراد ألا يهدي قوما وكلهم مأمور بالاهتداء وقد بينا هذا في كتاب الفصل ولو أنه تعالى لم ينسخها حتى نصليها لعلمنا حينئذ أنه تعالى أراد كونها منا كما علمنا أنه تعالى أراد إسلام أبي بكر وعمر وسائر من أسلم وإنما نعلم ما أراد تعالى كونه بعد ظهوره أو أخبرنا الله تعالى بأنه سيكون والله أعلم وهو الذي أطلعنا عليه من غيبه ونحن كنا مأمورون

بالصلاة وقد يموت كثير من الناس قبل أن يتأتى عليه وقت صلاة بعد بلوغه إنه تعالى إنما أراد من هؤلاء الانقياد والعزيمة فقط والله تعالى لم يرد قط ممن مات قبل حلول وقت الصلاة أن يصليها واحتج بعض من تقدم في إجازة نسخ الشيء قبل العمل به بحديث الزبير إذ خاصم الأنصاري في سيل مهزور ومذينب وجعل الأمر الآخر منه عليه السلام ناسخا للأول وأبطل قول من قال كان الأمر الأول على سبيل الصلح وترك الزبير بعض حقه وقال إن هذا لا يحل أن يقال لأن حكمه عليه السلام كله حق واجب لقول الله تعالى {لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} فلم يخص أمرا دون أمر ولو ساغ ذلك في هذا الحديث لساغ لكل أحد أن يقول في أي حكم حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا على سبيل الصلح لا على سبيل الحقيق وهذا كفر من قائله قال أبو محمد وقد صدق هذا المحتج فيما قال قال بعضهم لو جاز النسخ قبل العمل لجاز قبل الاعتقاد قال أبو محمد وهذا قياس والقياس باطل ولو كان القياس حقا لكان هذا فاسدا إذ ليس سقوط العقل موجبا لسقوط الاعتقاد وقد يعتقد

وجوب الشيء وتصحيحه من لا يفعله من المسلمين العصاة وقد يفعله من لا يعتقده من المنافقين والمرائين وهذا أمر يعلم بالمشاهدة فبطل أن يكون الاعتقاد مرتبطا بالعمل وبطل ما موه به هذا المعترض من أنه لو جاز النسخ قبل العمل لجاز قبل الاعتقاد فإن قالوا لو جاز نسخ الشيء قبل العمل به لكان اعتقاده حسنا وطاعة وفعله قبيحا ومعصية وهذا محال فالجواب إن هذا شغب ضعيف لأنهم جمعوا بين حكم زمانين مختلفين وإنما يكون اعتقاد الشيء حقا إن فعل إذا لم ينسخ فأما إذا نسخ فإنما الواجب اعتقادا أنه معصية إن فعل واعتقاد أنه قد كان طاعة في وقت آخر وهذا ليس محالا فإن قالوا الاعتقاد فعل قيل لهم الاعتقاد فعل النفس منفردة لا شركة للجسد معها فيه والعمل فعل النفس بتحريك الجسد فهو شيء آخر غير الاعتقاد وقد فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بقوله صلى الله عليه وسلم العمل بالنيات فجعل النية وهي الاعتقاد غير العمل قال أبو محمد وقد احتج القدماء من القائلين بقولنا في هذه المسألة بحجج منها أمره تعالى إبراهيم عليه السلام بذبح ولده وقول إبراهيم عليه السلام {إن هذا لهو لبلاء لمبين} وقالوا هذا بيان جلي أن الذي أمر به نسخ قبل أن يكون لأن قوما قالوا إنما أمر بتحريك السكين على حلق ولده فقط فأبطل تعالى قولهم بقول إبراهيم {إن هذا لهو لبلاء لمبين} ولو لم يؤمر بقتله لما كان في تحريك السكين على حلقه بلاء فصح بقول إبراهيم عليه السلام أنه إنما أمر بقتل ولده وإماتته بالذبح ثم نسخ ذلك قبل فعله قال أبو محمد وهذا احتجاج صحيح لا ينفك منه أصلا فإن قال قائل عرفونا ما الذي أراد الله تعالى منا إذا أمرنا بالشيء ثم

نسخه قبل فعله أراد العمل به ثم بدا له قبل فعله أم أراد ألا يعمل به والشيء إذا لم يرده تعالى فقد سخطه وكرهه ولم يرضه فعلى قولكم إنه تعالى يأمرنا بما يكره ويسخط ويلزمنا ما لا يرضى كونه منا قال أبو محمد فيقال وبالله تعالى التوفيق إنه تعالى أمر بما أمر من ذلك ولا مراد له إلا الانقياد في المأمور فقط ولم يرد قط وقوع الفعل ونهانا عنه قبل أن يكون منا ولا يسأل عما يفعل ولسنا ننكر أن يأمرنا تعالى الآن بأمر قد علم أنه بعد مدة ينهى عنه ويسخطه وإنما الذي ننكر أن يأمر تعالى بما هو ساخط له في حين أمره فهذا لا سبيل إليه وأما أن يأمرنا بأمر قد علم أنه سينهانا عنه في ثاني الأمر ويسخطه بعد مرور وقت الأمر به فهذا واجب وهذه صفة كل نسخ وكل أمر مرتبط بكل وقت وبالله تعالى التوفيق وقد اعترض بعضهم في أمره تعالى بخمسين صلاة ثم جعلها تعالى إلى خمس بأن قال إنما يلزمنا الأمر إذا بلغنا وكان ذلك الأمر لم يبلغ بعد إلى المسلمين فأجاب بعض من سلف القائلين بقولنا إنه تعالى قد أبلغ أمره بذلك إلى رسوله فهو سيدنا وإمامنا فكان الخمسون اللازمة له لبلوغ الأمر إليه ثم نسخت عنه قبل أن يعمل بها قال أبو محمد فإن قالوا لم يرد الله تعالى قط بالخمسين إلا خمسا يعطي بكل واحدة عشر حسنات واحتجوا بما في آخر الحديث من قوله تعالى هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا الكلام هو بيان قولنا لا قولهم لأن الخمس لا تكون خمسين في العدد أصلا وإنما هي خمسون في العدد وخمسون في الأجل وكنا ألزمنا أولا خمسين في العدد وهي خمسون في الأجر فقط فأسقط عنا التعب وبقي لنا الأجر فصح أن الساقط غير اللازم ضرورة وبرهان ذلك حطه تعالى إلى خمس

وأربعين وإلى أربعين ثم إلى خمس وثلاثين ثم ثلاثين وهكذا خمسا خمسا حتى بقيت خمسا وهذا لا إشكال فيه في أن الملزم غير المستقر آخرا فبطل اعتراضهم والحمد لله رب العالمين ومن طريق ما اعترض به بعضهم أن قال لعله عليه السلام قد صلى الخمسين صلاة قبل نسخها أو لعل الملائكة صلتها قبل نسخها قال أبو محمد وهذا جهل شديد ولو كان لقائل هذا أدنى علم بالأخبار لم يقل هذا الهجر لأن الإسراء إنما كان في جوف الليل ولم يأت الصباح إلا وهو صلى الله عليه وسلم قد رجع إلى مكة وكان بها قبل مغيب الشفق وبعد غروب الشمس وقبل طلوع الشمس من تلك الليلة وإنما لزمت الخمسون في يوم وليلة وأيضا فهو عليه السلام يذكر بلفظه في الحديث أنه لم ينفك راجعا وآتيا من ربه تعالى إلى موسى عليه السلام وأما الملائكة فلم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم بل بعضهم هم الرسل من الله تعالى إليه وإنما بعث إلى الجن والإنس الساكنين دون سماء الدنيا وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين مع النصوص الواردة في القرآن والحديث في خطاب هذين النوعين فقط وإنما بعث إليهما فقط والملائكة في مكان لا ليل فيه وإنما هي في السموات التي هي الأفلاك وفي الكرسي وتحت العرش وحوله والليل إنما يبلغ إلى فلك القمر الذي هو سماء الدنيا فقط والجن مرجومون بالشهب إذا دنوا منها بنص القرآن بقوله تعالى {ولقد زينا لسمآء لدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب لسعير} فصح يقينا أن الملائكة لا تلزمهم صلاتنا لأنهم لا ليل عندهم ولا نهار وإنما هو أنوار بسيطة صافية وإنما تلزم الصلوات في أوقات الليل والنهار وقد احتج في هذا بعض من تقدم بأن قال يقال لمن أبى ذلك ما الذي أنكرتم أنسخ ما قد فعل أم نسخ ما لم يفعل أن نسخ الأمر الوارد بالفعل

ولا سبيل إلى قسم رابع فإن قالوا نسخ ما قد فعل أحالوا ولا سبيل إلى نسخ ما قد فعل لأنه قد فعل وفني فلا سبيل إلى رده وإن قالوا نسخ ما لم يفعل فقد أثبتوا نسخ الشيء قبل فعله وهذا هو نفس ما أبطلوا لأن الذي لم يفعل هو غير الذي فعل ضرورة فإن قالوا نسخ الأمر فلا فرق بين نسخ الأمر قبل أن يفعل الناس ما أوجب ذلك الأمر وبين نسخه بعد أن يفعل الناس ما أوجب ذلك الأمر والفعل المأمور به على كل حال غير الأمر به فلا يتعلق الأمر بالفعل لأنه غيره لأن الأمر هو فعل الله مجردا والفعل هو فعلنا نحن فبينهما فرق كما ترى قال أبو محمد وهذه حجة ضرورة لا محيد عنها واحتج أيضا بأن قال إن الأمر إذا ورد ففعله فاعلون ثم نسخ فلا خلاف في جواز ذلك ولا شك في أنه قد بقي خلق كثير لم يعملوا به ممن لم يأت بعد وقد كانوا مخاطبين بذلك الأمر حين نزوله فقد نسخ قبل أن يعمل به الذين لم يعملوا به ولا فرق بين أن يجوز نسخه قبل أن يعمل به بعض المأمور وبين نسخه قبل أن يعمل به أحد منهم قال أبو محمد وهذه أيضا حجة ضرورية لا محيد عنها قال أبو محمد وسألني سائل فقال لو أمر الله تعالى بأمر فقال اعملوا بهذا الأمر ثمانية متصلة أو قال أبدا أيجوز نسخ هذا أم لا فقلت إن النسخ جائز في هذه لأنه من باب نسخ الشيء قبل أن يعمل به ولا فرق بين أن يأمرنا بخمسين صلاة نصليها وبين أن يأمرنا بعمل ما أبدا أو ثمانية أيام ثم ينسخه عنا قبل أن يتم عمل ذلك وليس الكذب في الأمر والنهي مدخل وإنما يدخل الكذب في الأخبار فلو أن الأمر خرج بهذا التحديد بلفظ الخبر لم يجز نسخه لأنه كان يكون كذبا مجردا إذ في الأخبار يقع الكذب وهذا بخلاف الأمر إذا خرج بلفظ الخبر غير مرتبط بتحديد وقت فالنسخ

فصل في نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن

جائز فيه لأنه ليس يكون حينئذ كذبا وإنما يكون النسخ حينئذ بيانا للوقت الذي لزمنا ذلك العمل فما جاء بلفظ الخبر على التأييد فلا يجوز نسخه قول الله هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي فلو بدل لكان هذا القول كذبا ومنه لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة والقول في المتعة فهي حرام بحرمة الله ورسوله إلى يوم القيامة فلو نسخ هذان الأمران لكان هذان القولان كذبا إذ كان يبطل وجوده ما أخبرنا بوجوده إلى يوم القيامة وبالله تعالى التوفيق فصل في نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن قال أبو محمد اختلف الناس في هذا بعد أن اتفقوا على جواز نسخ القرآن بالقرآن وجواز نسخ السنة بالسنة فقالت طائفة لا تنسخ السنة بالقرآن ولا القرآن بالسنة وقالت طائفة جائز كل ذلك والقرآن ينسخ بالقرآن وبالسنة والسنة تنسخ بالقرآن وبالسنة قال أبو محمد وبهذا نقول وهو الصحيح وسواء عندنا السنة المنقولة بالتواتر والسنة المنقولة بأخبار الآحاد كل ذلك ينسخ بعضه بعضا وينسخ الآيات من القرآن وينسخه الآيات من القرآن وبرهان ذلك ما بيناه في باب الأخبار من هذا الكتاب من وجوب الطاعة لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كوجوب الطاعة لما جاء في القرآن ولا فرق وأن كل ذلك من عند الله تعالى {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فإذا كان كلامه وحيا من عند الله عز وجل والقرآن وحي فنسخ الوحي بالوحي جائز لأن كل ذلك سواء في أنه وحي

واحتج من منع ذلك بقوله تعالى {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال لذين لا يرجون لقآءنا ئت بقرآن غير هذآ أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأننا لم نقل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدله من تلقاء نفسه وقائل هذا كافر وإنما نقول إنه عليه السلام بدله بوحي من عند الله تعالى كما قال آمرا له أن يقول {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} فصح بهذا نصا جواز نسخ الوحي بالوحي والسنة وحي فجائز نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن واحتجوا أيضا بقوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} قالوا والسنة ليست مثلا للقرآن ولا خيرا منه قال أبو محمد وهذا أيضا لا حجة لهم فيه لأن القرآن أيضا ليس بعضه خيرا من بعض وإنما المعنى نأت بخير منها لكم أو مثلها لكم ولا شك أن العمل بالناسخ خير من العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ وقد يكون الأجر على العمل بالناسخ مثل الأجر على العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ وقد يكون أكثر منه إلا أن فائدة الآية أننا قد أمنا أن يكون العمل بالناسخ أقل أجرا من العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ لكن إنما يكون أكثر منه أو مثله ولا بد من أحد الوجهين تفضلا من الله تعالى لا إله إلا هو علينا وأيضا فإن السنة مثل القرآن في وجهين أحدهما أن كلاهما من عند الله عز وجل على ما تلونا آنفا من قوله تعالى {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} والثاني استواؤهما في وجوب الطاعة بقوله تعالى {من يطع لرسول فقد أطاع لله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا} وبقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وإنما افترقا في ألا يكتب في المصحف غير القرآن ولا يتلى معه غيره مخلوطا به وفي الإعجاز فقط وليس في العالم شيئان إلا وهما يشتبهان من وجه ويختلفان من آخر لا بد من ذلك ضرورة ولا سبيل إلى أن يختلفا من كل وجه ولا أن يتماثلا

من كل وجه وإذ قد صح هذا كله فالعمل بالحديث الناسخ أفضل وخير من العمل بالآية المنسوخة وأعظم أجرا كما قلنا قبل ولا فرق وقد قال تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} وقد تكون المشركة خيرا منها في الجمال وفي أشياء من الأخلاق ونحوها وإن كانت المؤمنة خيرا عند الله تعالى وهذا شيء يعلم حسا ومشاهدة وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقوله تعالى {يمحو لله ما يشآء ويثبت وعنده أم لكتاب} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فالله عز وجل هو المثبت له وهو تعالى الماحي به لما شاء أن يمحو من أوامره وكل من عند الله وهذه الآية حجة لنا عليهم في أنه تعالى يمحو ما شاء بما شاء عن العموم ويدخل في ذلك السنة والقرآن واحتجوا أيضا بقوله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} قالوا والمبين لا يكون ناسخا قال أبو محمد وهذا خطأ من وجهين أحدهما ما قد بينا في أول الكلام في النسخ من أن النسخ نوع من أنواع البيان لأنه بيان ارتفاع الأمر المنسوخ وبيان إثبات الأمر الناسخ والثاني أن قولهم إن المبين لا يكون ناسخا دعوى لا دليل عليها وكل دعوى تعرت من برهان فهي فاسدة ساقطة واحتجوا بقوله تعالى {وإذا بدلنآ آية مكان آية ولله أعلم بما ينزل قالوا إنمآ أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه لم يقل تعالى إني لا أبدل آية إلا مكان آية وإنما قال لنا إنه يبدل آية مكان آية ونحن لم ننكر بل أثبتناه وقلنا إنه يبدل آية ويفعل أيضا غير ذلك وهو تبديل وحي غير ذلك متلو مكان آية ببراهين أخر وكل ما أبطلنا به أقوالهم الفاسدة في دليل الخطاب فهو مبطل لاحتجاجهم بهذه الآية

واحتجوا بقوله تعالى {فتعالى لله لملك لحق ولا تعجل بلقرآن من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما} قالوا فإذا منعه الله تعالى من أن يبين القرآن من قبل أن يقضي إليه وحيه فهو من نسخه أشد منعا قال أبو محمد وهذا شغب وتمويه لأننا لم نجز قط أن يكون الرسول عليه السلام ينسخ الآيات من القرآن قبل أن يقضى إليه وحي نسخها وقائل ذلك عندنا كافر وإنما قلنا إنه عليه السلام إذا قضى إليه ربه تعالى وحيا غير متلو بنسخ آية أبداه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس حينئذ بكلامه فكان سنة مبلغة وشريعة لازمة ووحيا منقولا ولا يضره أن يسمى قرآنا ولا يكتب في المصحف كما لم يضر ذلك سائر الشرائع التي ثبتت بالسنة ولا بيان لها في القرآن من عدد ركوع الصلوات ووجوه الزكوات وما حرم من البيوع وسائر الأحكام وكل ذلك من عند الله عز وجل واحتج بعضهم بقوله تعالى {قل نزله روح لقدس من ربك بلحق ليثبت لذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين} قال وهذا لا يطلق إلا على القرآن قال أبو محمد وهذا كله كذب من قائله وافتراء وكل وحي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشريعة من الشرائع فإذا نزل به الروح القدس من ربه وقد جاء نص الحديث بأن جبريل عليه السلام نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا حتى علمه الصلوات الخمس وليس هذا في القرآن وقد نزله روح القدس كما ترى قال أبو محمد فبطل كل ما احتجوا به وبالله تعالى التوفيق وقد قال الشافعي رحمة الله عليه إذا أحدث الله تعالى لنبيه عليه السلام أمرا برفع سنة تقدمت أحدث النبي عليه السلام سنة تكون ناسخة لتلك السنة الأولى فأنكر عليه بعض أصحابه هذا القول فقال لو جاز أن يقال

في وحي نزل ناسخا لسنة تقدمت فعمل بها النبي صلى الله عليه وسلم أن عمله هذا نسخ السنة الأولى لكان إذا عمل عليه السلام سنة فنسخ بها سنة سالفة له فعمل بها الناس إن عمل الناس نسخ السنة الأولى وهذا خطأ قال أبو محمد وهذا اعتراض صحيح والرسول صلى الله عليه وسلم مفترض عليه الانقياد لأمر ربه عز وجل فإنما الناسخ هو الأمر الوارد من الله عز وجل لا العمل الذي لا بد منه والذي إنما يأتي انقيادا لذلك الأمر المطاع قال أبو محمد فيقال لمن خالفنا في هذه المسألة أيفعل الرسول صلى الله عليه وسلم أو يقول شيئا من قبل نفسه دون أن يوحى إليه به فإن قال نعم كفر وكذبه ربه تعالى بقوله عز وجل {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} وبقوله تعالى آمرا له أن يقول {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} فلما بطل أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم أو قوله إلا وحيا وكان الوحي ينسخ بعضه بعضا كانت السنة والقرآن ينسخ بعضها بعضا قال أبو محمد ومما يبين نسخ القرآن بالسنة بيانا لا خفاء به قوله تعالى {وللاتي يأتين لفاحشة من نسآئكم فستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في لبيوت حتى يتوفاهن لموت أو يجعل لله لهن سبيلا} ثم قال صلى الله عليه وسلم خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم فكان كلامه صلى الله عليه وسلم الذي ليس قرآنا ناسخا للحبس الذي ورد به القرآن فإن قال قائل ما نسخ الحبس إلا قوله تعالى {لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين} قيل له أخطأت لأن هذا الحديث يوجب بنصه أنه قبل نزول آية الجلد لأنه بيان السبيل الذي ذكر الله تعالى وأمر لهم باستماع تلك السبيل وأيضا فإن في الحديث التغريب والجلد وليس ذلك في الآية التي ذكرت فالحديث هو الناسخ على الحقيقة لا سيما إذا كان خصمنا من أصحاب أبي حنيفة والشافعي أو مالك فإنهم لا يرون

على الثيب جلدا إنما يرون الرجم فقط فوجب على قولهم الفاسد ألا مدخل للآية المذكورة أصل في نسخ الأذى والحبس الذي كان حد الزناة والزواني فإن قال قائل منهم ما نسخ الأذى والحبس إلا ما روي مما كان نازلا وهو الشيخ والشيخة فارجموهما البتة قيل له وبالله تعالى التوفيق قد تركت قولك ووافقتنا على جواز نسخ القرآن المتلو بما ليس مثله في التلاوة وبما ليس مثله في أن يكتب في المصحف فإذا جوزت ذلك فكذلك كلامه صلى الله عليه وسلم بنص القرآن وحي غير متلو وليس ذلك بمانع من أن ينسخ به وقد بلح بعضهم ههنا فقال إنما عنى بقوله {لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين} غير المحصنين فقط وقال كما خرج العبد والأمة من هذا النص فكذلك خرج المحصن والمحصنة منه قال أبو محمد فيقال له إذا جوزت خروج حكم ما من أجل خروج حكم آخر بدليل فلا ننكر على أبي حنيفة قوله من تزوج أمه وهو يعلم أنها أمه فوطئها خارج عن حكم الزناة ولا ننكر على مالك قوله إن من وطىء عمته وخالته بملك اليمين وهو يعلم أنهما محرمتان عليه خارج عن حكم الزناة ولا تدخل أنت فيهم اللوطي ولا ذكر له فيهم وهذا من غلطهم أن يخرجوا من الزناة من وقع عليه اسم زان وأن يدخلوا فيهم من لا يقع عليه اسم زان وهذا جهار بالمعصية لله تعالى وخلاف أمره وتحكم في الدين بلا دليل نعوذ بالله من ذلك قال أبو محمد ومما نسخت فيه السنة القرآن قوله عز وجل {يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} فإن القراءة بخفض أرجلكم وفتحها كلاهما لا يجوز إلا أن يكون معطوفا على الرؤوس في المسح ولا بد لأنه لا يجوز البتة أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بخبر غير الخبر عن

المعطوف عليه لأنه إشكال وتلبيس وإضلال لا بيان لا تقول ضربت محمدا وزيدا ومررت بخالد وعمرا وأنت تريد أنك ضربت عمرا أصلا فلما جاءت السنة بغسل الرجلين صح أن المسح منسوخ عنهما وهكذا عمل الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا يمسحون على أرجلهم حتى قال عليه السلام ويل للأعقاب والعراقيب من النار وكذلك قال ابن عباس نزل القرآن بالمسح قال أبو محمد والنسخ تخصيص بعض الأزمان بالحكم الوارد دون سائر الأزمان وهم يجيزون بالسنة تخصيص بعض الأعيان مثل قوله عليه السلام لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وما أشبه ذلك فما الفرق بين جواز تخصيص بعض الأعيان بالسنة وبين جواز تخصيص بعض الأزمان بها وما الذي أوجب أن يكون هذا ممنوعا وذلك موجودا فإن قالوا ليس التخصيص كالنسخ لأن التخصيص لا يرفع النص والنسخ يرفع النص كله قيل لهم إذا جاز رفع بعض النص بالسنة وبعض النص نص فلا فرق بين رفع بعض نص آخر بها وكل ذلك سواء ولا فرق بين شيء منه قال أبو محمد وقد أقروا وثبت الخبر بأن آيات كثيرة رفع رسمها البتة ولا يجوز أن ترفع بقرآن إذ لو رفعت بقرآن لكان ذلك القرآن موجودا متلوا وليس في شيء من المتلو ذكر رفع لآية كذا مما رفع البتة فوجب ضرورة أن ما ارتفع وهذا نفس ما أجزنا من نسخ القرآن بالسنة فإن قالوا إنما رفع بالإنساء قيل لهم الإنساء ليس قرآنا وإنما ذلك هو فعل منه تعالى وأمر بألا يتلى قال أبو محمد ومما نسخ من القرآن بالسنة قوله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم لموت إن ترك خيرا لوصية للوالدين ولأقربين بلمعروف حقا على لمتقين} نسخ بعضها قوله صلى الله عليه وسلم لا وصية لوارث

فصل في نسخ الفعل بالأمر والأمر بالفعل

وقد قال قوم إن آيات المواريث نسخت هذه الآية قال أبو محمد وهذا خطأ محض لأن النسخ هو رفع حكم المنسوخ ومضاد له وليس في آية المواريث ما يمنع الوصية للوالدين والأقربين إذ جائز أن يرثوا ويوصى لهم مع ذلك من الثلث ومن بديع ما يقع لمن قال إن القرآن لا تنسخه السنة أنهم نسوا أنفسهم فجعلوا حديث عمران بن الحصين في الستة الأعبد ناسخا لوصية الوالدين والأقربين فأثبتوا ما نفوا وصححوا ما أبطلوا وقد تكلمنا في بطلان ذلك فأغنى عن ترديده ولا فرق بينهم في دعواهم لذلك وبين من قال بل الآية نسخت حديث الستة الأعبد ومما نسخ من السنة بالقرآن صلحه صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية إلى المدة التي كانت ثم نسخ الله تعالى ذلك في سورة براءة ولم يجز لنا صلح مشرك إلا على الإسلام فقط حاشا أهل الكتاب فإنه تعالى أجاز صلحهم على أداء الجزية مع الصغار وأبطل تعالى تلك الشروط كلها وتلك المدة كلها وبالله تعالى التوفيق فصل في نسخ الفعل بالأمر والأمر بالفعل قال أبو محمد قد بينا أن كل ما فعله صلى الله عليه وسلم من أمور الديانة أو قاله منها فهو وحي من عند الله عز وجل بقوله تعالى {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} وبقوله تعالى {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} والله تعالى يفعل ما يشاء فمرة ينزل أوامره بوحي يتلى ومرة بوحي ينقل ولا يتلى ومرة بوحي يعمل به ولا يتلى ولا ينقل لكنه قد رفع رسمه وبقي حكمه ومرة أن يري نبيه صلى الله عليه وسلم في منامه ما شاء ومرة يأتيه

جبريل بالوحي لا معقب لحكمه فجائز نسخ أمره صلى الله عليه وسلم بفعله وفعله بأمره وجائز نسخ القرآن بكل ذلك وجائز نسخ كل ذلك بالقرآن وكل ذلك سواء ولا فرق وكذلك الشيء يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقره ولا ينكره وقد كان تقدم عنه تحريم جلي فإن ذلك نسخ لتحريمه لأنه مفترض عليه التبليغ وإنكار المنكر وإقرار المعروف وبيان اللوازم وهو معصوم من الناس ومن خلاف ما أمره به ربه تعالى فلما صح كل ما ذكرنا أيقنا أنه إذا علم شيئا كان قد حرمه ثم علمه ولم يغيره أن التحريم قد نسخ وأن ذلك قد عاد حقا مباحا ومعروفا غير منكر وأما إن كان قد تقدم في ذلك الشيء نهي فقط ثم رآه صلى الله عليه وسلم أو علمه فأقره فإنما ذلك بين أن ذلك النهي على سبيل الكرامة فقط لأنه لا يحل لأحد أن يقول في شيء من الأوامر إن هذا منسوخ إلا ببرهان جلي إذ كلها على وجوب الطاعة لها وما تيقنا وجوب طاعتنا له فحرام علينا مخالفته لقول قائل هذا منسوخ ولو جاز قبول ذلك ممن ادعاه بلا برهان لسقطت الشرائع كلها لأنه ليس قول زيد وعمر ومالك والشافعي وأبي حنيفة هذا منسوخ بأولى من قول كل من على ظهر الأرض فيما يستعمله من ذكرنا هذا أيضا منسوخ وقد قال تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} ومن قال في شيء من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم هذا منسوخ أو هذا متروك أو هذا مخصوص أو هذا ليس عليه العمل فقد قال دعوا ما أمركم به ربكم أو نبيكم ولا تعملوا به وخذوا قولي وأطيعوني في خلاف ما أمرتم به قال أبو محمد فحق من قال ذلك أن يعصى ولا يلتفت إلى كلامه إلا أن يأتي ببرهان من نص أو إجماع كما قدمنا في فصل كيفية معرفة المنسوخ من المحكم

فصل في متى يقع النسخ

قال أبو محمد ومما ذكرنا أنه نهى عنه صلى الله عليه وسلم ثم رآه فلم ينكره نهيه المصلين خلف الجالس عن القيام ثم صلى عليه السلام في مرضه الذي مات فيه جالسا والناس وراءه قيام ولم ينكر عليه السلام ذلك فصح أن ذلك النهي الأول ندب إلا من فعل ذلك إعظاما للإمام فهو حرام على ما بين عليه السلام يوم صلاته إذ ركب فرس أبي طلحة فسقط فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي قال أبو محمد قال قوم النسخ يقع حين نزول الوحي لأن المنسوخ على ما بينا إنما هو أمر الله المتقدم لا أفعال المأمورين إلا أن الغائب لا يقع عليه الملامة ولا الوعيد إلا بعد بلوغ الأمر الناسخ إليه وكذلك سائر الأوامر التي لم تنسخ هي لازمة لكل من قرب وبعد ولكل من لم يخلق بعد لكن الملامة والوعيد مرفوعان عمن لم يبلغه حتى يبلغه فإذا بلغته فأطاع حمد وأجر وإن عصى ليم واستحق الوعيد وأجره على فعل ما نسخ مما لم يبلغه نسخه أجر واحد لأنه مجتهد مخطىء كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك والذي نقول به إن النسخ لا يلزم إلا إذا بلغ وبين ما قلنا قوله تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} فإما أوجب الحكم بعد البلوغ فلو أن من بلغه المنسوخ ممن بعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يبلغه الناسخ أقدم على ترك المنسوخ الذي بلغه دون علم الناسخ وعمل بالناسخ كان عليه إثم المستسهل لترك الفرض لا إثم تارك الفرض إنه لا يجوز لمن علم نسخ الحكم أن ينفذ عليه حكم ما بلغه تحريم الحكم على الجاهل لم يجز

له أن يحكم عليه بحكم العالم مثال ذلك رجل لقي رجلا فقتله على نية الحرابة فإذا بذلك المقتول هو قاتل والد الذي قتله أو وجده مشركا محاربا فهذا ليس عليه إثم قاتل مؤمن عمدا ولا قود عليه ولا دية لأنه لم يقتل مؤمنا حرم الدم عليه وإنما عليه إثم مريد قتل المؤمن عمدا ولم ينفذ ما أراد وبين الإثمين بون كبير لأن أحدهما هام والآخر فاعل وكإنسان لقي امرأة فظنها أجنبية فوطئها فإذا بها زوجته فهذا ليس عليه إثم الزنى ومن قذفه حد حد القذف لكن عليه إثم مريد الزنى ولا حد عليه ولا يقع عليه اسم فاسق بذلك وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ولو أن رجلا ممن بلغه فرض استقبال بيت المقدس ولم يبلغه نسخ ذلك وصلى إلى الكعبة لكان مفسدا لصلاته بعبثه فيها لا بصلاته إلى غير القبلة ولأن الائتمار إنما يكون بعد العلم بالأمر اللازم له لا قبل ولا تكون طاعة أصلا إلا بنية وقصد إلى عمل بعدما أمر به علمه بأنه لازم له وإلا فهو عبث لا يسمى ذلك في اللغة طائعا أصلا ولكتب عليه اسم المستسهل للصلاة إلى غير القبلة ومثاله الآن بينما رجل في صحراء أداه اجتهاده إلى جهة ما فخالفها متعمدا فوافق في الوجهة التي صلى إليها إن كانت القبلة على حق فهذا عابث في صلاته فاسق وليس مصليا إلى غير القبلة قال أبو محمد كذلك كانت صلاة أهل قباء ومن كان بأرض الحبشة إلى بيت المقدس صلاة تامة وإن كان النسخ قد وقع بالقبلة إلى الكعبة على من بلغه لأنهم لم يعلموا ذلك ولكن أجرهم على صلاتهم كذلك أجران وأما من بلغه ذلك ثم نسيه أو تأول فيه فأجرهم على صلاته كذلك أجرا واحدا

لأنهم مجتهدون أخطؤوا ما عند الله عز وجل وهم مأمورون باستقبال الكعبة ولكنهم غير ملومين ولا آثمين في ترك ذلك لأنهم معذورون بالجهل وهذا بين وبالله تعالى التوفيق وليس كذلك أهل قباء ومن كان بأرض الحبشة لأن فرضهم البقاء على ما بلغهم حتى ينتقل بلوغ النسخ إليهم قال أبو محمد وقد تبين بهذا ما قلناه في غير موضع من كتابنا أن المخطىء أفضل عند الله من المقلد المصيب وكذلك قلنا في جميع العبادات فإن سأل سائل عن قولنا في الوكيل يعزله موكله أو يموت فينفذ الوكيل ما كان وكل عليه بعد عزله وهو يعلم أنه معزول أو بعد موت الذي وكله وهو لا يعلم بموته قلنا له وبالله تعالى التوفيق قال الله عز وجل {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وقال 9 صلى الله عليه وسلم دماؤكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام فكل أمر انفذه الوكيل بعد عزله وهو غير عالم فنافذ لأن عازله ولا يعلمه مضار وقد قال صلى الله عليه وسلم من ضار أضر الله به فهو منهي عن المضارة وأما ما أنفذ بعد موت موكله وهو عالم أو غير عالم فهو مردود منسوخ لأنه كاسب على غيره بغير نص ولا إجماع ولا يجوز القياس أصلا ولكل حكم حكمه وليست هذه الأمور بابا واحدا فيستوي الحكم فيها إلا أن يكون وكله على دفع وديعة أو دين أو حق لآخر فهذا نافذ عزله أو علم الوكيل أنه عزله أو أنه مات أو لم يعلم لأن الذي فعل حق للمدفوع إليه لا للدافع فليس كاسبا على غيره بل فعل فعلا واجبا على كل أحد أن يفعله أمر بذلك أو لم يؤمر لأنه قيام بالقسط قال الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا كونوا قوامين بلقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم أو لوالدين ولأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فلله أولى بهما فلا تتبعوا لهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن لله كان بما تعملون خبيرا} وقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب} ومن البر إيصال كل أحد حقه وأما القاضي والأمين يعزله الأمير فليس للإمام أن يضيع أمور المسلمين فيبقيهم دون من ينفذ أحكامهم لكن يكتب أو يوصي إلى القاضي أو الوالي

إذا أتاك عهدي فاعتزل عملنا فإن لم يفعل كذلك فكل حكم أنفذه المعزول قبل أن يعلم العزل بحق فهو نافذ لأنه لم يكلف علم الغيب وقد ظلم الإمام إذ عزله دون تقديم غيره والظلم مردود ومن باع مال غيره أو تأمر فحكم فوافق أن صاحب ذلك المال المبيع قد كان وكله قبل أن يبيع ما باع ولم يعلم الوكيل بذلك أو وافق أن الإمام قد كان ولاه ما تأمر عليه ولم يعلم هو بذلك فكل ما فعل فمردود منسوخ لأنهما غير مطيعين بما فعلا بل هما عاصيان لأن الطاعة عمل من الأعمال والأعمال بالنيات ولا نية لهذين فيما فعلا لأنهما لم يفعلا كما أمرا بل كما لم يؤمرا كما قلنا قبل فيمن صلى إلى جهة ولا يشك أنها غير القبلة فوافق أنها القبلة فصلاته فاسدة لأنه لم ينو الطاعة المأمور بها وكذلك من باع فوافق أنه ماله ولا يعلم أو قد ورثه أو استحقه فبيعه ذلك مردود أبدا وكذلك هبته وصدقته لو وهبه أو تصدق به وكذلك لو كان عبدا فأعتقه ويرد كل ذلك لأنه عمل لم يعمل بالنية التي أبيح له أن يعمله بها ولا عمل إلا بنية وأما من لقي امرأة فظنها أجنبية فوطئها فإذا هي زوجته فإنها تستحق بذلك جميع المهر وتحل لمطلقها ثلاثا لأن الوطء لا يحتاج فيه إلى نية وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم بوطء في الكفر ولو تزوجها وهو عاقل ثم جن فوطأها في حال جنونه لاستحقت في ماله جميع الصداق بلا خوف ويلحق به الولد بلا خوف فصح أن الوطء لا يحتاج فيه إلى نية بإجماع وأما من صام رمضان وهو لا يدري فوافق رمضان فلا يجزيه وكذلك الصلاة يصليها وهو لا يدري أدخل وقتها أم لا لأن هذه الأعمال تقضي نية مرتبطة بها لا يصلح العمل إلا بها فإن امتزجت بغير تلك النية أو عدمت ارتباط النية بها بطلت وكذلك الصلاة خاصة فإنها قد دخل فيها عمل يبطلها وهو العبث وكذلك الزكاة يعطيها بغير نية أنها زكاة قال أبو محمد وموت الموكل عزل لوكيله البتة وموت الإمام بخلاف ذلك

فصل في النسخ بالإجماع

وليس موته عزلا لعماله حتى يعزلهم الإمام الوالي بعده لأن مال الموكل قد انتقل إلى وراثة غيره وقد قال تعالى {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات وله عمال باليمن والبحرين وغيرهما فلم يختلف مسلمان في أن موته صلى الله عليه وسلم لم يكن عزلا لمن ولى حتى عزل أبو بكر من عزل منهم والقياس باطل وهاتان مسألتان قد فرق بينهما النص والإجماع ولا سبيل إلى الجمع بينهما فصل في النسخ بالإجماع قال أبو محمد النسخ بالإجماع المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم جائز لأن الإجماع أصله التوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم إما بنص قرآن أو برهان قائم من آي مجموعة منه أو بنص سنة أو برهان قائم منها كذلك أو بفعل منه عليه السلام أو بإقرار منه عليه السلام لشيء علمه فإذا كان الإجماع كذلك فالنسخ به جائز قال أبو محمد وقد ادعى قوم أن الإجماع صح على أن القتل منسوخ على شارب الخمر في الرابعة قال أبو محمد وهذه دعوة كاذبة لأن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو يقولان بقتله ويقولان جيئونا به فإن لم نقتله فنحن كاذبان قال أبو محمد وبهذا القول نقول وبالله تعالى التوفيق فصل في رد المؤلف على من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس قال أبو محمد وقد أجاز قوم نسخ القرآن والسنة بالقياس قال أبو محمد وهذا قول تقشعر منه الجلود والقياس باطل والكلام

الباب الحادي والعشرون في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الأحكام

في إبطاله مكان من هذا الديوان إن شاء الله تعالى ومن العجب العجيب أن القائلين بهذا الأمر العظيم يمنعون من نسخ القرآن بالسنة فهل في عكس الحقائق أعظم من هذا وإذا كان القياس باطلا فالباطل لا يحل استعماله ولا ترك الحقائق له وقد أجاز قوم نسخ السنة بقول الصاحب قال أبو محمد وهذا كفر من قائله وخروج عن الإسلام لقوله تعالى {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} ولقوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فهذا تكذيب للباري تعالى ومن كذب وأجاز لأحد أن يزيد في الدين أو يبدله أو ينقص منه فقد كفر فمن أضل ممن دان بأن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يبطل برأيه وإرادته دينا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن الأمة مجمعة بلا خلاف على أن خبر التواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لأحد أن يعارضه بنظر وخبر الواحد إذا صح عند القائلين به كخبر التواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب الطاعة ولا فرق فمن أجاز نسخه بنظر أو معارضته بقياس فقد تناقض وخرج عن الإجماع وفي هذا ما فيه وبالله تعالى التوفيق الباب الحادي والعشرون في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الأحكام قال الله تعالى {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} وأنبأنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن عبد الله بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت تلا

رسول الله صلى الله عليه وسلم {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله تعالى فاحذروهم وبه إلى مسلم قال ثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني قال حدثنا زكريا عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وأهوى النعمان بأصبعه إلى أذنيه إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن حمى الله محارمه وقال تعالى {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وقال تعالى {وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} قال أبو محمد فوجدناه تعالى قد حض على تدبر القرآن وأوجب التفقه فيه والضرب في البلاد لذلك ووجدناه تعالى قد نهى عن اتباع المتشابه منه ووجدناه صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن المتشابهات التي بين الحرام البين والحلال البين لا يعلمها كثير من الناس فكان ذلك فضلا لمن علمها فأيقنا أن الذي نهى عز وجل عن تتبعه هو غير الذي أمر بتتبعه وتدبره والتفقه فيه وأيقنا بلا شك أن المشتبه الذي غبط صلى الله عليه وسلم عالمه هو غير المتشابه الذي حذر من تتبعه هذا الذي لا يقوم في المعقول سواه إذ لا يجوز أن يكلفنا

تعالى طلب شيء وينهانا عن طلبه في وقت واحد فلما علمنا ذلك وجب علينا طلب المتشابه الذي أمرنا بطلبه لنتفقه فيه وأن نعرف أي الأشياء هو المتشابه الذي نهينا عن تتبعه فنمسك عن طلبه فنظرنا في القرآن وتدبرناه كما أمرنا تعالى فوجدناه جاء بأشياء منها التوحيد وإلزامه فكان ذلك مما أمرنا باعتقاده والفكرة فيه فعلمنا أنه ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه ومنها صحة النبوة وإلزامنا الإيمان بها فعلمنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه ومنها الشرائع المفترضة والمحرمة والمندوب إليها والمكروهة والمباحة وذلك كله مفترض علينا تتبعه وطلبه فأيقنا أن ذلك مما أمرنا بالتفكير فيه بقوله تعالى {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} وبقوله تعالى {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} مثنيا عليهم فأيقنا أنه ليس من المتشابه ومنها أخبار سالفة جاءت على معنى الوعظ لنا وهي مما أمرنا بالاعتبار به بقوله تعالى {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه ومنها وعد أمرنا وحضضنا على العمل لاستحقاقه ووعيد حذرنا منه وكل ذلك مما أمرنا به بالفكرة فيه لنجتهد في طلب الجنة ونفر عن النار فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه فلما علمنا أن كل ما ذكرنا ليس متشابها وعلمنا يقينا أنه ليس في القرآن إلا محكم ومتشابه وأيقنا أن كل محكم فلما أيقنا ذلك ضرورة علمنا يقينا أن ما عدا ما ذكرنا هو المتشابه فنظرنا لنعلم أي شيء هو فنجتنبه ولا نتتبعه وإنما طلبناه لنعلم ماهيته لا كيفيته ولا معناه فلم نجد في القرآن شيئا غير ما ذكرنا حاشا الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور وحاشا الأقسام التي في أوائل بعض السور أيضا فعلمنا يقينا أن هذين النوعين هما المتشابه الذي نهينا عن اتباعه وحذر النبي صلى الله

عليه وسلم من المتبعين له وكذلك وجدنا عمر رضي الله عنه قد أوجع صبيا على سؤاله عن تفسير والذاريات فصح ضرورة أن هذين القسمين هما المتشابه الذي نهينا عن ابتغاء تأويله إذ لم يبق بعد ما ذكرنا مما أمرنا بتتبعه إلا هذان النوعان فلم يبق غيرهما فحرام على كل مسلم أن يطلب معاني الحروف المقطعة التي في أوائل السور مثل {كهيعص} و {حم عسق} و {ن} و {الم} و {ص} و {طسم} وحرام أيضا على كل مسلم أن يطلب معاني الأقسام التي في أوائل السور مثل {والنجم} و {الذاريات} {والطور} {والمرسلات عرفا} {والعاديات ضبحا} وما أشبه ذلك قال أبو محمد وقد قال قوم إن المتشابه هو ما اختلف فيه من أحكام القرآن قال أبو محمد وهذا خطأ فاحش لأن هذا القول دعوى ورأي من قائله لا برهان على صحته وأيضا فإن ما اختلف فيه فلا بد من أن الحق في بعض ما قيل فيه موجود واضح لمن طلبه برهان ذلك قوله تعالى {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وقوله تعالى {بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فالبيان مضمون موجود فمن طلبه طلبا صحيحا وفقه الله تعالى وأيضا فإن الأحكام المختلف فيها فرض علينا تتبعها وابتغاء تأويلها وطلب حكمها الحق فيها والعناية بها والعمل بها وأما المتشابه فحرام علينا بالنص تتبعه وطلب معناه فبطل بذلك أن يكون المختلف فيه متشابها وإذا بطل ذلك صح أنه محكم ولا يضر الحق جهل من جهل ولا اختلاف من اختلف فيه وقال آخرون المتشابه هو ما تقابلت فيه الأدلة قال أبو محمد وهذا خطأ فاحش لأنه دعوى من قائله بلا برهان

ورأي فاسد ولأن تقابل الأدلة باطل وشيء معدوم لا يمكن وجوده أبدا في الشريعة ولا في شيء من الأشياء والحق لا يتعارض أبدا وإنما أتى من أتى في ذلك لجهله بيان الحق ولإشكال تمييز البرهان عليه مما ليس ببرهان وليس جهل من جهل في إبطال الحق ودليل الحق ثابت لا معارض له أصلا وقد بينا وجوه البراهين في كتابنا التقريب وكتابنا الموسوم بالفصل وفي كتابنا هذا ولا سبيل إلى أن يأمرنا تعالى بطلب أدلة قد ساوى فيها بين الحق والباطل ومن نسب هذا إلى الله تعالى فقد ألحد وأكذبه ربه تعالى إذ يقول {ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} وإذ يقول تعالى {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} وبقوله تعالى {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين} فصح أن متشابه الأحكام الذي ذكر صلى الله عليه وسلم أنها لا يعلمها كثير من الناس مبينة بالقرآن والسنة يعلمها من وفقه الله تعالى لفهمه من الفقهاء الذين أمر عز وجل بسؤالهم إذ يقول تعالى {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وقد قال قوم إن قوله تعالى {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} معطوف على الله عز وجل قال أبو محمد وهذا غلط فاحش وإنما هو ابتداء وخبره في {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} والواو لعطف جملة على جملة وبرهان ذلك أن الله حرم تتبع ذلك المتشابه وأخبر أن متبعه وطالب تأويله زائغ القلب مبتغي فتنة وحذر النبي صلى الله عليه وسلم ممن اتبعه ولا سبيل إلى علم معنى شيء دون تتبعه وطلب معناه فإذا كان التتبع حراما فالسبيل إلى علمه مسدود وإذا كانت مسدودة فلا سبيل إلى علمه أصلا فصح أن الراسخين لا يعلمونه أبدا وأيضا فإن فرضا على العلماء بيان ما علموا الناس كلهم يقول الله تعالى {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه ورآء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون} وبقوله عز وجل {إن الذين يكتمون

مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} قال أبو محمد فلو علمه الراسخون في العلم لكان فرضا عليهم أن يبينوه للناس ولو لم يبينوه لكانوا ملعونين ولو بينوه لعلمه الناس ولو علمه الناس لكان محكما لا متشابها ولتساوى فيه الراسخون وغيرهم وهذا ضد ما قال تعالى فبطل بذلك قول من ظن أن الراسخين يعلمونه وأما ذمه عليه السلام من جهل تلك المتشابهات إن وقع حولها فإنما ذلك بنص الحديث خوف مواقعة الحرام البين فصح أن تلك المتشابهات ليست حراما في ذاتها على من جهلها خاصة ليست حراما عليه إذ لم يبلغه تفصيل تحريمها عليه ولكن الورع أن يتركها خوف وقوعه في الحرام البين قال أبو محمد وبين صحة قولنا في هذا الباب ما حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى بن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن عبد الله بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم قال أبو محمد فقد حذر عليه السلام ممن اتبع ما تشابه من القرآن وقد علمنا أن اتباع أحكامه كلها فرض فصح أن المتشابه هو غير ما أمرنا بتدبيره

والتفقه فيه كما ذكرنا وقد تأول قوم في قوله تعالى {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} إن ذلك نزل في قوم من المنافقين كانوا يعترضون على التنازل من القرآن ويقولون لعله سينزل غدا نسخه فيحملون معنى تأويله على أنه مآله أي لا يعلم النازل من القرآن أينسخ أم لا إله إلا الله تعالى قال أبو محمد وهذا فاسد لأنه دعوى بلا برهان وما كان هكذا هو باطل بيقين لقول الله تعالى {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} وتخصيص ما يقتضيه كلام الله تعالى ما لم يقل وكذب عليه نعوذ بالله من هذا وليكن هذا تخصيصا للآية بلا دليل وقد أبطلنا تخصيص الظواهر بلا دليل فيما خلا من كتابنا هذا لأننا الآن قد علمنا ما لكل آية في القرآن وغيرها ما قد نسخ منها وما لم ينسخ بعد أبدا وقال قوم أيضا إن معنى {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} أي وما يعلم علة نزول الآيات إلا الله قال أبو محمد وهذا أيضا فاسد كالذي قبله لأنه دعوى بلا برهان وتقويل لله ما لم يقل وإخبار عنه تعالى بما لم يخبر به عن نفسه ولأنه لو كان كما ذكروا لكان لنزول الآيات علل لا يعلمها إلا الله عز وجل وقد أبطلنا قول من قال إن الله تعالى يفعل لعلة في باب إبطال العلل من كتابنا هذا وبالله تعالى التوفيق

الباب الثاني والعشرون في الإجماع وعن أي شيء يكون الإجماع وكيف ينقل الإجماع

الباب الثاني والعشرون في الإجماع وعن أي شيء يكون الإجماع وكيف ينقل الإجماع قال أبو محمد اتفقنا نحن وجميع أهل الإسلام جنهم وإنسهم في كل زمان إجماعا صحيحا متيقنا على أن القرآن الذي أنزله الله على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما قاله محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حق لازم لكل أحد وإنه دين الإسلام ثم اختلفوا في الطريق المؤدية إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فاعلموا رحمكم الله أن من اتبع نص القرآن وما أسند من طريق الثقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع الإجماع يقينا وأن من عاج عن شيء من ذلك فلم يتبع الإجماع وكذلك إجماع أهل الإسلام كلهم جنهم وإنسهم في كل زمان وكل مكان على أن السنة واجب اتباعها وأنها ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك اتفقوا على وجوب لزوم الجماعة فاعلموا رحمكم الله أن ما اتبع ما صح برواية الثقات مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع السنة يقينا ولزوم الجماعة وهم الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان ومن أتى بعدهم من الأئمة وأن من اتبع أحدا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتبع السنة ولا الجماعة وأنه كاذب في ادعائه السنة والجماعة فنحن معشر المتبعين للحديث المعتمدين عليه أهل السنة والجماعة حقا بالبرهان الضروري وأننا أهل الإجماع كذلك والحمد لله رب العالمين ثم اتفقنا نحن وأكثر المخالفين لنا على أن الإجماع من علماء أهل الإسلام حجة وحق مقطوع به في دين الله عز وجل ثم اختلفنا

فقالت طائفة هو شيء غير القرآن وغير ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه أن يجتمع علماء المسلمين على حكم لا نص فيه لكن برأي منهم أو بقياس منهم عن منصوص وقلنا نحن هذا باطل ولا يمكن البتة أن يكون إجماع من علماء الأمة على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين في أي قول المختلفين هو الحق لا بد من هذا فيكون من وافق ذلك النص هو صاحب الحق المأجور مرتين مرة على اجتهاده وطلبه الحق ومرة ثانية على قوله بالحق واتباعه له ويكون من خالف ذلك النص غير مستجيز لخلافه لكن قاصدا إلى الحق مخطئا مأجورا أجرا واحدا على طلبه للحق مرفوعا عنه الإثم إذا لم يعمد له وقد تيقن ألا يختلف المسلمون في بعض النصوص ولكن يوقع الله عز وجل لهم الإجماع عليه كما أوقع تعالى بينهم الاختلاف فيما شاء أن يختلفوا فيه من النصوص واحتجت الطائفة المخالفة لنا بأن قالت قال الله عز وجل {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قالوا فافترض الله طاعة أولي الأمر كما افترض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وكما افترض طاعة نفسه عز وجل أيضا ولا فرق فلو كان عز وجل إنما افترض طاعتهم فيما نقلوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان لتكرار الأمر بطاعتهم بمعنى لأنه يكتفي عز وجل بذكر طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقط لأنها على قولكم معنى واحد فصح أنه إنما افترض عز وجل طاعتهم فيما قالوه برأي أو قياس مما ليس فيه نص عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد وجمعوا في استدلالهم بهذه الآية إلى تصحيح الإجماع

تصحيح القول بالرأي والقياس فيما ظنوا وقالوا أيضا قال عز وجل {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} قالوا وهذه كالتي قبلها وقالوا أيضا قال الله عز وجل {ومن يشاقق لرسول من بعد ما تبين له لهدى ويتبع غير سبيل لمؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا} قالوا فتوعدوا على مخالفة سبيل المؤمنين أشد الوعيد فصح فرض اتباعهم فيما أجمعوا عليه من أي وجه أجمعوا عليه لأنه سبيلهم الذي لا يجوز ترك اتباعه وذكروا ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا سعيد بن منصور وأبو الربيع العتكي وقتيبة قالوا حدثنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبى عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله زاد العتكي وسعيد في روايتهما وهم كذلك وبه إلى مسلم حدثنا منصور بن أبي مزاحم ثنا يحيى بن حمزة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني عمير بن هاني قال سمعت معاوية على المنبر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفريري ثنا البخاري ثنا الحميدي ثنا الوليد هو ابن مسلم ثنا ابن جابر هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني عمير بن هاني قال سمعت معاوية يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم

ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك قالوا فصح أنه لا تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على غير الحق أبدا لأنه صلى الله عليه وسلم قد أنذر بأنه لا يزال منهم قائم بالحق أبدا قال أبو محمد وقد روي أنه عليه السلام قال لا تجتمع أمتي على ضلالة وهذا وإن لم يصح لفظه ولا سنده فمعناه صحيح بالخبرين المذكورين آنفا قال أبو محمد هذا كل ما احتجوا به ما لهم حجة غير هذا أصلا قال أبو محمد وكل هذا حق لا ينكره مسلم ونحن لم نخالفهم في صحة الإجماع وإنما خالفناهم في موضعين من قولهم أحدهما تجويزهم أن يكون الإجماع على غير نص والثاني دعواهم الإجماع في مواضع ادعوا فيها الباطل بحيث لا يقطع أنه إجماع بلا برهان أما في مكان قد صح فيه الاختلاف موجودا وإما في مكان لا نعلم نحن فيه اختلافا إلا أن وجود الاختلاف فيه ممكن نعم وقد خالفوا الإجماع المتيقن على ما تبين بعد هذا إن شاء الله تعالى فإذا الأمر هكذا فلا حجة لهم في شيء من هذه النصوص أصلا فيما أنكرناه عليهم إنما الأخبار التي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما فيها أن أمته عليه السلام لا تجتمع ولا ساعة واحدة من الدهر على باطل بل لا بد أن يكون فيهم قائل بالحق وقائم بالحق وقائم به وهكذا نقول وهذا الخبر إنما فيه بنص لفظه وجود الاختلاف فقط وأن مع الاختلاف فلا بد فيهم من قائل بالحق وأما قوله تعالى {ومن يشاقق لرسول من بعد ما تبين له لهدى ويتبع غير سبيل لمؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا} فإنها حجة قائمة عليهم والحمد لله رب العالمين وذلك أن الله تعالى لم يتوعد في هذه الآية متبع على غير سبيل المؤمنين فقط لا مع مشاقته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تبين

الهدى وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين واعلم أنه لا سبيل للمؤمنين البتة إلا طاعة القرآن والسنن الثابتة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما إحداث شرع لم يأت به نص فليس سبيل المؤمنين بل هو سبيل الكفر قال الله تعالى {إنما كان قول لمؤمنين إذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم لمفلحون} قال أبو محمد هذه سبيل المؤمنين بنص كلام الله تعالى لا سبيل لهم غيرها أصلا فعادت هذه الآية حجة لنا عليهم وأما قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وقوله تعالى {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} فإن هذا مكان قد اختلف الصدر الأول فيه في من هم أولي الأمر كما حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا محمد بن مفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس ثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ ثنا سعيد بن منصور ثنا أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قال هم الأمراء وروينا عن مجاهد والحسن وعكرمة وعطاء قال هم الفقهاء وروينا ذلك بالسند المذكور إلى سعيد بن منصور عن هشيم وسفيان بن عيينة قال هشيم أخبرنا أبو معاوية ومنصور وعبد الملك بن معاوية عن الأعمش عن مجاهد ومنصور عن الحسن وعبد الملك عن عطاء وقال سفيان عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال أبو محمد فإذا لم يأت قرآن ببيان أنهم العلماء المجمعون ولا صح بذلك إجماع فالواجب حمل الآيتين على ظاهرهما ولا يحل تخصيصهما بدعوى بلا برهان لأنه مع ذلك تقويل لله عز وجل ما لم يقل ونحن نقطع بأنه تعالى

لو أراد بعض أولي الأمر دون بعض لبينه لنا ولم يدعنا في لبس فوجب ما قلناه من حمل الآيتين على عمومهما فنقول إن أولي الأمر منا وإذ هذا هو الحق فمن الباطل المتيقن أن يقول قائل إن الله تعالى أمرنا بقبول طاعة الأمراء العلماء فيما لم يأمر به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فصح أن طاعة العلماء الأمراء إنما تجب علينا فيما أمرنا به مما أمر الله به تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقط وأما قولهم إن الله تبارك وتعالى لو أراد هذا لاكتفى بالأمر بطاعة الرسول عليه السلام على أن يذكر تعالى أولى الأمر فكلام فاسد لأنه يقال لهم إن قلتم إن ذكره تعالى طاعة أولي الأمر منا فيما قالوا برأي أو قياس لا فيما نقلوه إلينا عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قد أغنى أمره تعالى بطاعة الرسول عن تكراره فيلزمكم سواء بسواء أن تقولوا أيضا إن أمره تعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد أمره بطاعة نفسه عز وجل دليل على أنه عز وجل إنما أمرنا بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قاله من عند نفسه لا فيما أتانا به من عند ربه عز وجل إذ قد أغنى أمر بطاعة نفسه عن تكراره لا فرق بين القولين فإن أبيتم من هذا ظهر تناقضكم وتحكمكم بالباطل بلا برهان وإن جسرتم وقلتموه أيضا كنتم أتيتم بعظائم مخالفة للقرآن وللرسول عليه السلام وللإجماع المتيقن إذ جوزتم أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع لم يوح الله تعالى بشيء منها إليه قط والله تعالى قد أكذب هذا القول إذ أمره أن يقول {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} وإذ يقول عز وجل مخبرا عنه صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فأخبر تعالى عن أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق البتة إلا بوحي يوحى إليه وأنه لا يتبع البتة إلا ما يوحي الله تعالى

إليه فقط فمن كذب ربه فلينظر أين مستقره وإذا جوزتم أن يجمع الناس على شرائع يحدثونها لم يوح بها الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولا بينها رسوله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يكذب من قال هذا إذ يقول {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فالدين قد كمل وما كمل فلا مزيد فيه أصلا وأما تكرار الله تعالى الأمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد أمره بطاعة نفسه تعالى وتكراره الأمر بطاعة أولي الأمر بعد أمره بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان كل ذلك ليس فيه إلا طاعة ما أمر الله به فقط لا ما لم يأت به الوحي منه عز وجل فوجه ذلك واضح وهو بيان زائد لولا مجيئه لالتبس على بعض الناس فهم ذلك الأمر وذلك أنه لو لم يأمرنا الله تعالى إلا على الأمر بطاعته فقط لتوهم بعض الجهال أنه لا يلزمنا إلا ما قاله تعالى في القرآن فقط وأنه لا يلزمنا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاءنا به مما ليس في نص القرآن فلما أمر تعالى مع طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ليظهر البيان ولم يمكن أن يمنع من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمرنا إلا معاند له ولو لم يأمرنا تعالى إلا على الأمر بطاعة أولي الأمر منا لأمكن أن يهم جاهل فيقول لا يلزمنا طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما سمعنا منه مشافهة فلما أمرنا تعالى بطاعة أولي الأمر منا ظهر البيان في وجوب طاعة ما نقله إلينا العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم فقط فبطل أن يكون لهاتين الآيتين متعلق والحمد لله رب العالمين فإن قالوا لو كان هذا لما كان قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} معنى لأن ما جاءنا عن الله تعالى وعن النبي صلى الله عليه وسلم فواجب قبوله اتفق عليه أو اختلف فيه فأي معنى للفرق وبين أمره تعالى بطاعة أولي الأمر ثم أمره بالرد عند الشارع إلى الله ورسوله قلنا ليس في قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}

خلاف لأمره تعالى بطاعة أولي الأمر بل كل ذلك ليس فيه إلا طاعة القرآن والسنن المبلغة إلينا فقط ولكن في قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بلله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} معنى زائد ليس فيما تقدم من الآية وهو نهيه تعالى عن تقليد أحد واتباعه والأمر بالاقتصار على القرآن والسنة فقط ولا مزيد وأيضا والكل من المسلمين متفقون على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نصلي إلى بيت المقدس مدة ثم أمرنا بترك تلك القبلة وبالصلاة إلى مكة فوجب ذلك وأنه عليه السلام لو نهانا عن أن نصلي الخمس وعن صوم رمضان لحرم علينا أن نصليها أو نصومه وهكذا في سائر الشرائع أفهكذا القول عندكم وأمرنا بذلك بعد جميع أهل الأرض فإن قالوا نعم كفروا وإن قالوا لا فرقوا بين طاعته عليه السلام وطاعة أولي الأمر فإن قالوا هذا محال لا يجوز أن يجمع الناس على ذلك لأنه كفر وضلال قلنا صدقتم وكذلك أيضا محال لا يجوز أن يجمعوا على إحداث شرع لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم برأي أو بقياس ولا فرق فبطل أن يكون لهم في شيء من النصوص المذكورة متعلق بوجه من الوجوه والحمد لله رب كثيرا

وقالوا لو كان الإجماع لا يكون إلا عن نص وتوقيف لكان ذلك النص محفوظا لأن الله تعالى قال {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} فلما لم يوجد ذلك النص علمنا أن الإجماع ليس على نص قال أبو محمد وهذا كلام أوله حق وآخره كذب ونحن نقول لا إجماع إلا عن نص وذلك النص إما كلام منه صلى الله عليه وسلم فهو منقول ولا بد محفوظ حاضر وإما عن فعل منه عليه السلام فهو منقول أيضا كذلك وإما إقراره إذ علمه فأقره ولم ينكره فهي أيضا حال منقولة محفوظة وكل من ادعى إجماعا علمه على غير هذه الوجوه كلفناه تصحيح دعواه في أنه إجماع لا سبيل إلى برهان على ذلك أبدا بأكثر من دعواه وما كان دعوى بلا برهان فهو باطل فإن لجأ إلى ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع قلنا له وهذا تدبير من الكذب والدعوى الأفيكة بلا برهان وتمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى في باب بعد هذا مفرد لبعض قول من قال إن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فكيف وفيما ذكرنا ههنا من أنها دعوى بلا برهان كفاية قال أبو محمد وإذا قد بطل كل ما اعترضوا به فلنقل بعون الله تعالى على إيراد البراهين على صحة قولنا قال عز وجل {تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون} فأمرنا تعالى أن نتبع ما أنزل ونهانا عن أن نتبع أحدا دونه قطعا فبطل بهذا أن يصح قول أحد لا يوافق النص وبطل

بهذا أن يكون إجماع على غير نص لأن النص باطل والإجماع حق والحق لا يوافق الباطل وقد ذكرنا قوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فصح أنه لا يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الدين وهذا باطل أن يجمع على شيء من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة ويصح بضرورة العقل أنه لا يمكن أن يعرف أحد ما كلفه الله تعالى عباده إلا بخبر من عنده عز وجل وإلا فالخبر عنه تعالى بأنه أمر بكذا ونهي عن كذا كاذب على الله عز وجل إلا أن يخبر بذلك عنه تعالى من يأتيه الوحي من عند ربه فقط وصح أيضا بضرورة العقل أن من أدخل في الدين حكما يقر بأنه لم يأت به وحي من عند الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وقد ذم الله تعالى ذلك وأنكره في نص القرآن فقال {أم لهم شركاء شرعوا لهم من لدين ما لم يأذن به لله ولولا كلمة لفصل لقضي بينهم وإن لظالمين لهم عذاب أليم} قال أبو محمد ومن طريق النظر الضروري الراجع إلى العقل والمشاهدة والحس أننا نسأل من أجاز أن يجمع علماء المسلمين على ما لا نص فيه فيكون حقا لا يسع خلافه فنقول له وبالله تعالى التوفيق أفي الممكن عندك أن يجتمع علماء جميع الإسلام في موضع واحد حتى لا يشذ عنهم منهم أحد بعد افتراق الصحابة رضي الله عنهم في الأمصار أم هذا ممتنع غير ممكن البتة فإن قال هذا ممكن كابر العيان لأن علماء أهل الإسلام قد افترق الصحابة رضي الله عنهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم وهلم جرا لم يجتمعوا مذ أن افترقوا فصار بعضهم في اليمن في مدنها وبعضهم في عمان وبعضهم في البحرين وبعض في الطائف وبعض بمكة وبعض بنجد وبعض بجبل طيىء وكذلك في سائر جزائر العرب ثم اتسع الأمر بعده عليه السلام

فصاروا من السند وكابل إلى مغارب الأندلس وسواحل بلاد البربر ومن سواحل اليمن إلى ثغور أرمينية فما بين ذلك من البلاد البعيدة واجتماع هؤلاء ممتنع غير ممكن أصلا لكثرتهم وتنائي أقطارهم فإن قال ليس اجتماعهم ممكنا قلنا صدقت وأخبرنا الآن كيف الأمر إذا قال بعضهم قولا لا نص فيه أتقطع على أنه حق وأنت لا تدري أيجمع عليه سائرهم أم لا أم تقف فيه فإن قال أقطع بأنه حق قلنا حكمت بالغيب وبما لا تدري وحكمت بالباطل بلا شك فإن قال بل أقف فيه حتى يجمع عليه سائرهم قلنا فإنما يصح إذ قال به آخر قائل منهم فلا بد من نعم فيقال لهم فلو خالفهم فعلى قولك لا يكون حقا فمن قوله نعم فيقال له فكيف يكون حقا ما يمكن أمس أن يكون باطلا وهذا حكم على الله تعالى وليس هذا حكم الله وكفى بهذا بيانا وأيضا فإن اليقين قد صح بأن الناس مختلفون في هممهم واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه وينفرون عما سواه متباينون في ذلك تباينا شديدا متفاوتا جدا فمنهم رقيق القلب يميل إلى الرفق بالناس ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس ومنهم قوي على العمل مجد إلى العزم والصبر والتفرد ومنهم ضعيف الطاقة يميل إلى التخفيف ومنهم جانح إلى لين العيش يميل إلى الترفيه ومنهم مائل إلى الخشونة مجنح إلى الشدة ومنهم معتدل في كل ذلك إلى التوسط ومنهم شديد الغضب يميل إلى شدة الإنكار ومنهم حليم يميل إلى الإغضاء ومن المحال اتفاق هؤلاء كلهم على إيجاب حكم برأيهم أصلا لاختلاف دعاويهم ومذاهبهم فيما ذكرنا وإنما يجمع ذو الطبائع المختلفة على ما استووا فيه من الإدراك بحواسهم وعلموه ببدائة عقولهم فقط وليست أحكام الشريعة من هذين القسمين فبطل أن يصح فيها إجماع على غير توقيف وهذا برهان

قاطع ضروري وأما الإجماع على القياس فيبطل من قرب لأنهم لم يجمعوا على صحة القياس فكيف يجمعون على ما لم يجمعوا عليه قال أبو محمد فاعترض فيها بعض المخالفين فقال قد اختلف الناس في القول بخبر الواحد وقد أجمع على بعض ما جاء به خبر الواحد قال أبو محمد وهذا باطل ومخرقة ضعيفة لأن المسلمين لم يختلفوا قط في وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما اختلفوا في الطريق المؤدية إليه صلى الله عليه وسلم والذين لا يقولون بخبر الواحد ثم أجمعوا على حكم ما جاء من أخبار الآحاد فإنهم يقولون إنما قلنا به لأنه نقل كافة لا لأنه خبر واحد فإن قلتم إن من القياس ما يوافق النص قلنا لكم المتبع حينئذ إنما هو النص ولا نبالي وافقه القياس أو خالفه فلم نتبع القياس قط وافق النص أو خالفه وكذلك لا يجوز الإجماع على قول إنسان دون النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا أحد بعده إلا وقد خالفه طوائف من المسلمين في كثير من قوله وأيضا فإن كان من بعده عليه السلام فممكن أن يصيب وأن يخطىء فاتباع خطأ من أخطأ باطل وأما صواب المصيب في الدين فإنما هو باتباع النص فالنص هو المتبع حينئذ لا قول الذي اتبع النص وإنما يجب اتباع النص سواء وافقه الموافق أو خالفه المخالف وأيضا فإنه يقال لمن أجاز الإجماع على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرونا عما جوزتم من الإجماع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير نص هل يخلو من أربعة أوجه لا خامس لها إما أن يجمعوا على تحريم شيء مات صلى الله عليه وسلم ولم يحرمه أو على تحليل شيء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حرمه أو على إيجاب فرض مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوجبه أو على إسقاط فرض مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجبه وكل هذه الوجوه

كفر مجرد وإحداث دين بدل به دين الإسلام ولا فرق بين هذه الوجوه وبين من جوز الإجماع على إسقاط الصلوات الخمس أو بعضها أو ركعة منها أو على إيجاب صلوات غيرها أو ركوع زائدة فيها أو على إبطال صوم رمضان أو على إيجاب صوم شهر رجب أو على إبطال الحج إلى مكة أو على إيجابه إلى الطائف أو على إباحة الخنزير أو على تحريم الكبش كل هذا كفر صراح لا خفاء به فإن قالوا كل هذه نصوص وإنما جوزنا الإجماع على ما لا نص فيه قلنا وكل ما ذكرنا لا نص فيه وإنما هي شرائع زائدة في دين الله تعالى أو ناقصة منه هذه صفة ما لا نص فيه لا سبيل إلى أن يكون حكم لا نص فيه يخرج من أحد هذين الوجهين فإن قالوا هذا لا يجوز رجعوا إلى قولنا من قرب ومن أجاز شيئا من هذا كفر وبالله تعالى التوفيق وهذا أيضا برهان قاطع في إبطال القول بالقياس بالرأي والاستحسان لا مخلص منه واعلموا أن قولهم هذه المسألة لا نص فيها قول باطل وتدليس في الدين وتطريق إلى هذه العظائم لأن كل ما يحرمه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن مات صلى الله عليه وسلم فقد حلله بقوله تعالى {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وقوله {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين} وكل ما لم يأمر به عليه السلام فلم يوجبه وهذه ضرورة لا يمكن أن يقوم في عقل أحد غيرها وأما كل ما نص يأمر به صلى الله عليه وسلم بالأمر به أو النهي عنه فقد حرمه أو أوجبه فلا يحل لأحد مخالفته فصح أنه لا شيء إلا وفيه نص جلي فصح أنه لا إجماع إلا على نص ولا اختلاف إلا في نص كما ذكرنا ولا قياس يوجب في نص إلا وهو زائد في الدين أو ناقص منه ولا بد ثم نقول لهم أيضا أخبرونا عن الإجماع جملة هل يخلو من أحد ثلاثة

أوجه لا رابع لها بضرورة العقل أما أن يجمع الناس على ما لا نص فيه كما ادعيتم فقد أريناكم بطلان ذلك وأنه محال ذلك وأنه محال وجوده لصحة وجود النصوص في كل شيء من الدين أو يكون إجماع الناس على خلاف النص الوارد من غير نسخ أو تخصيص له وردا قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا كفر مجرد كما قدمنا أو يكون إجماع الناس على شيء منصوص فهذا قولنا هذه قسمة ضرورية لا محيد عنها أصلا وإذ هو كما ذكرنا فاتباع النص فرض سواء أجمع الناس عليه أو اختلفوا فيه لا يزيد النص مرتبة في وجوب الاتباع أن يجمع الناس عليه ولا يوهن وجوب اتباع اختلاف الناس فيه بل الحق حق وإن اختلف فيه وإن الباطل باطل وإن كثر القائلون به ولولا صحة النص عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمته لا يزال منهم من يقوم بالحق ويقول به فبطل بذلك أن يجمعوا على باطل لقلنا والباطل باطل وإن أجمع عليه لكن لا سبيل إلى الإجماع على باطل قال أبو محمد فإذا الأمر كذلك فإنما علينا صلب أحكام القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ليس في الدين سواهما أصلا ولا معنى لطلبنا هل أجمع على ذلك الحكم أو هل اختلف فيه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فإن قيل فقد صححتم الإجماع آنفا ثم توجبون الآن أنه لا معنى له قلنا الإجماع موجود كما الاختلاف موجود إلا أننا لم يكلفنا الله تعالى معرفة شيء من ذلك إنما كلفنا اتباع القرآن وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نقله إلينا الأمر منا على ما بينا فقط ولأن أحكام الدين كلها من القرآن والسنن لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما وحي مثبت في المصحف وهو القرآن وإما وحي غير مثبت في المصحف وهو بيان رسول

الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى {بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} وقال تعالى {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} ثم ينقسم كل ذلك ثلاثة أقسام لا رابع لها إما شيء نقلته الأمة كلها عصرا بعد عصر كالإيمان والصلوات والصيام ونحو ذلك وهذا هو الإجماع ليس من هذا القسم شيء لم يجمع عليه وإما شيء نقل نقل تواتر كافة عن كافة من عندنا كذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ككثير من السنن وقد يجمع على بعض ذلك وقد يختلف فيه كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا بجميع الحاضرين من أصحابه وكدفعه خيبر إلى يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر يخرجهم إذا شاء وغير ذلك كثير وإما شيء نقله الثقة عن الثقة كذلك مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنه ما أجمع على القول به ومنه ما اختلف فيه فهذا معنى الإجماع الذي لا إجماع في الديانة غيره البتة ومن ادعى غير هذا فإنما يخبط فيما لا يدري ويقول ما لا علم له ويقول بما لا يفهم ويدين بما لا يعرف حقيقته وبالله تعالى التوفيق وبه نعوذ من التخليط في الدين بما لا يعقل

فصل ثم اختلف الناس في وجوه من الإجماع

فصل في اختلاف الناس في وجوه من الإجماع قال أبو محمد ثم اختلف الناس في وجوه من الإجماع لا علينا أن

نذكرها إن شاء الله تعالى وإن كنا قد بينا آنفا أنه لا حاجة بأحد إلى طلب إجماع أو اختلاف وإنما الفرض على الجميع والذي يحتاج إليه الكل فهو معرفة أحكام القرآن وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط كما بينا أن أهل العلم مالوا إلى معرفة الإجماع ليعظموا خلاف من خالفه ويزجروه عن خلافه فقط وكذلك مالوا إلى معرفة اختلاف الناس لتكذيب من لا يبالي بادعاء الإجماع جرأة على الكذب حيث الاختلاف موجود فيردعونه بإيراده عن اللجاج في كذبه فقط وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد فقالت طائفة الإجماع إجماع الصحابة رضي الله عنهم فقط وأما إجماع من بعدهم فليس إجماعا وقالت طائفة إجماع أهل كل عصر إجماع صحيح ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفة منهم إذا صح إجماع كل عصر ما فهو إجماع صحيح وليس لهم ولا لأحد بعد أن يقول بخلافه وقالت طائفة منهم أخرى بل يجب مراعاة ذلك العصر فإن انقرضوا كلهم ولم يحدثوا ولا أحد منهم خلافا لما أجمعوا عليه فهو إجماع قد انعقد لا يجوز لأحد خلافه وإن رجع أحد منهم عما أجمع مع أصحابه فله ذلك ولا يكون ذلك إجماعا وقالت طائفة إذا اختلف أهل عصر في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا وقالت طائفة بل

إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما ثم أجمع أهل العصر الذي بعدهم على بعض قول أهل العصر الماضي فهو إجماع صحيح لا يسع أحدا خلافه أبدا وقالت طائفة إذا اختلف أهل العصر على عشرة أقوال مثلا أو أقل أو أكثر فهو اختلاف فيما اختلفوا فيه وهو إجماع صحيح على ترك ما لم يقولوا به من الأقوال فلا يسع أحدا الخروج على تلك الأقوال كلها له أن يتخير منها ما أداه إليه اجتهاده وقالت طائفة ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع صحيح لا يجوز خلافه لأحد وقالت طائفة ليس إجماعا وقالت طائفة إذا اتفق الجمهور على قول خالفهم واحد من العلماء فلا يلتفت إلى ذلك الواحد وقول الجمهور هو إجماع صحيح وهذا قول محمد بن جرير الطبري وقالت طائفة ليس هذا إجماعا وقالت طائفة قول الجمهور والأكثر إجماع وإن خالفهم من هو أقل عددا منهم وقالت طائفة ليس هذا إجماعا وقالت طائفة إجماع كل أهل المدينة هو الإجماع وهذا قول المالكيين ثم اختلفوا فقال ابن بكير منهم وطائفة معه سواء كان عن رأي أو قياس أو نقلا وقال محمد بن صالح الأبهري منهم وطائفة معه إنما ذلك فيما كان نقلا فقط وقالت طائفة إجماع أهل الكوفة وهذا قول بعض الحنفيين وقالت طائفة إذا جاء القول عن الصاحب الواحد أو أكثر من واحد من الصحابة ولم يعرف له مخالف منهم فهو إجماع وإن خالفه من بعد الصحابة رضي الله عنهم وهو قول بعض الشافعيين وجمهور الحنفيين والمالكيين وقال بعض الشافعيين إنما يكون إجماعا إذا اشتهر ذلك القول فيهم وانتشر ولم يعرف له منهم مخالف وأما إذا لم يشتهر ولا انتشر فليس إجماعا بل خلافه جائز ثم ههنا أقوال هي داخلة في باب الهوس إن سلم أصحابها من القصد إلى

التلاعب بالدين كقول بعض الحنفيين ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وأن اختيارات الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود بن علي وسائر العلماء شذوذ خرق الإجماع وكقول بكر بن العلاء القشيري المالكي إن بعد سنة مائتين قد استقر الأمر وليس لأحد أن يختار وكقول إنسان ذكره أبو ثور في رسالة ورد عليه وكان قوله إنه ليس لأحد أن يخرج عن اختيارات الأوزاعي وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح قال أبو محمد أصناف الحمق أكثر من أصناف التمر ويكفي في بطلان كل قول من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} وقوله تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فصح أنه لا برهان في الدين إلا ما حده الله تعالى وأن حدود الله ليست إلا في كلامه وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط وأن من لم يأت في قوله في الدين ببرهان من القرآن وأن حكم مستند ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من الصادقين بل هو كاذب آفك ضال مضل وبالله تعالى التوفيق إلا أنه لا بد بحول الله تعالى من بيان شبه هذه الأقوال الفاسدة التي قد عظم خطأ أهلها وكثر اتباعها لعل الله تعالى يهدي بهداه لنا أحدا فيكون خيرا لنا من حمر النعم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبي ونعم الوكيل واعلموا أن جميع هذه الفرق متفقة على أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح وقائلون بأن كل ما اشتهر فيهم رضي الله عنهم ولم يقع منهم نكير له فهو إجماع صحيح فاعلموا أن إجماع هذه الفرق على ما ذكرنا حاكم لنا عليهم وموجب لنا أننا المتبعون للإجماع وأن مخالفينا كلهم

ذكر الكلام في الإجماع إجماع من هو أإجماع الصحابة أم الأعصار بعدهم أي شيء هو الإجماع وبأي شيء يعرف أنه إجماع

مخالفون للإجماع بإقرارهم والحمد لله رب العالمين كما نذكر في الباب المتصل بهذا إن شاء الله تعالى فصل ذكر الكلام في الإجماع إجماع من هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم أم الأعصار بعدهم وأي شيء هو الإجماع وبأي شيء يعرف أنه إجماع قال أبو محمد قال سليمان وكثير من أصحابنا لا إجماع إلا إجماع الصحابة رضي الله عنهم واحتج في ذلك بأنهم شهدوا التوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صح أنه لا إجماع إلا عن توقيف وأيضا فإنهم رضي الله عنهم كانوا جميع المؤمنين لا مؤمن من الناس سواهم ومن هذه صفته فإجماعهم هو إجماع المؤمنين وهو الإجماع المقطوع به وأما كل عصر بعدهم فإنما بعض المؤمنين لا كلهم وليس إجماع بعض المؤمنين إجماعا إنما الإجماع إجماع جميعهم وأيضا فإنهم كانوا عددا محصورا يمكن أن يحاط بهم وتعرف أقوالهم وليس من بعدهم كذلك قال أبو محمد أما قوله إنهم شهدوا التوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال وهذا إنما هو حجة في أنه لا إجماع إلا عن توقيف ولا شك في أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح وإنما الكلام في الأعصار بعدهم وقد عارضه مخالفوه بأن قالوا قد يجوز أن يحمل أهل عصر بعدهم على دليل نص قرآن أو سنة فهذا يدخل في التوقيف وأما قوله إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا جميع المؤمنين وإن من بعدهم إنما هو بعض المؤمنين فقول صحيح يعرف صدقه بالعيان والمشاهدة

إلا أنه قد عارض مخالفوه في نكتة من هذه الجملة وهو أنه قال إن كان هكذا فإنه مذ ماتت خديجة رضي الله عنها أو بعض قدماء الصحابة رضي الله عنهم فإن الباقين منهم إنما هم بعض المؤمنين لا كلهم أيضا فقل إن الإجماع إنما هو إجماع من أسلم منهم بمكة قبل أن يموت منهم أحد فعارضه بعض أصحابنا بأن قال نعم هذا حق ما جاء قط نص قرآن ولا سنة بتسمية ما اتفق عليه من بقي من بعد من مات إجماعا قال بعض أصحابنا لا ولكن نقول إن كل من مات منهم رضي الله عنهم فنحن موقنون قاطعون بأنه لو كان حيا لسلم الوحي المنزل من القرآن أو البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يمت إلا مؤمنا بكل ما ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بلا شك وليس كذلك من بعدهم لأنه حدث فيمن بعدهم من لا يقول بخبر الواحد الثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقطع عليهم بطاعة ما حكم به صلى الله عليه وسلم بخلاف الصحابة الذين من مات منهم فهو داخل في الإجماع بهذه الجملة فعارضه المخالف فقال إن الأمر وإن كان كذلك فمع ذلك فقد كان يمكن أن يخالف الوحي متأولا باجتهاده كما فعل عمر وخالد وأبو السنابل وغيرهم فإن لم يعتد هذا خلافا لأنه وهم من صاحبه فلا يعتد بخلاف أحد من أهل الإسلام للنص إذا خالفه متأولا باجتهاده لأن كل مسلم كان أو يكون فإنه مسلم لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم به وإن خالف بعد ذلك متأولا باجتهاده مخطئا قاصدا إلى الخير في تقديره فقد صار على هذا القول كل حكم إجماعا وبطل الاختلاف قال أبو محمد وهذا اعتراض غير صحيح ولا يمنع مما أوجبه أبو سليمان من أن من بعد الصحابة إنما هم بعض المؤمنين لا كلهم لأن كل حكم نزل

من الله تعالى بعد موت من مات من الصحابة رضي الله عنهم فلم يكلفوا قط ألا يخالفوا ذلك الحكم لأنه لم يبلغهم وإنما يلزمهم الحكم بعد بلوغه قال عز وجل {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} وإنما كان يراعي إجماعهم عليه أو خلافهم له لو بلغهم وليس من بعدهم إذا بلغ الحكم كذلك بل إن اتبعوه لقد أجمعهم عليه ومن خالفه منهم مجتهدا فقد وجب الاختلاف في ذلك الحكم وأما قوله إن عدد الصحابة رضي الله عنهم كان محصورا ممكنا جمعه وممكنا ضبط أقوالهم وليس كذلك من بعدهم فإنما كان هذا إذا كانوا كلهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل تفرقهم في البلاد وأما بعد تفرقهم فالحال في تعذر حصر أقوالهم كالحال فيمن بعدهم سواء ولا فرق هذا أمر يعرف بالمشاهدة والضرورة قال أبو محمد وأما من قال إن إجماع أهل كل عصر فهو إجماع كل صحيح فقول الباطل لما ذكرنا من أنهم بعض المسلمين لا كلهم لكنه حق لما ذكرنا قبل من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق إلى أن يأتي أمر الله قال أبو محمد ونحن إن شاء الله مبينون كيفية الإجماع بيانا ظاهرا يشهد له الحس والضرورة وبالله تعالى التوفيق فنقول إن الإجماع الذي هو الإجماع المتيقن ولا إجماع غيره لا يصح تفسيره ولا ادعاؤه بالدعوى لكن ينقسم قسمين أحدهما كل ما لا يشك فيه أحد من أهل الإسلام في أن من لم يقل به فليس مسلما كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وكوجوب الصلوات الخمس وكصوم شهر رمضان وكتحريم الميتة والدم والخنزير والإقرار بالقرآن وجملة الزكاة فهذه أمور من بلغته فلم يقر بها فليس مسلما فإذا ذلك كذلك فكل من قال بها فهو مسلم فقد صح أنها إجماع من جميع

أهل الإسلام والقسم الثاني شيء شهده جميع الصحابة رضي الله عنهم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تيقن أنه عرفه كل من غاب عنه صلى الله عليه وسلم منهم كفعله في خيبر إذ أعطاها يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر يخرجهم المسلمون إذا شاؤوا فهذا لا شك عند كل أحد في أنه لم يبق مسلم في المدينة إلا شهد الأمر أو وصل إليه يقع ذلك الجماعة من النساء والصبيان الضعفاء ولم يبق بمكة والبلاد النائية مسلم إلا عرفه وسر به على أن هذا القسم من الإجماع قد خالفه قوم بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم وهما منهم وقصدا إلى الخير وخطأ باجتهادهم فهذان قسمان للإجماع ولا سبيل إلى أن يكون الإجماع خارجا عنهما ولا أن يعرف إجماع بغير نقل صحيح إليهما ولا يمكن أحدا إنكارهما وما عداهما فدعوى كاذبة وبالله تعالى ومن ادعى أنه يعرف إجماعا خارجا من هذين النوعين فقد كذب على جميع أهل الإسلام ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا قال أبو محمد نا محمد بن سعيد بن عمر بن نبات نا محمد بن أحمد بن مفرج نا ابن الورد نا أحمد بن حماد زغبة نا يحيى بن بكير نا الليث بن سعد حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب قال أخبرني أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب الغد حين بايع المسلمون أبا بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استوى أبو بكر على المنبر ثم استوى يعني عمر فتشهد قبل أبي بكر فقال أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله تعالى ولا في عهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا

فصل في من قال إن الإجماع لا يجوز لأحد خلافه

بما هدي له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فهذا عمر رضي الله عنه على المنبر بحضرة جميع الصحابة رضي الله عنهم يعلن ويعترف بأنه يقول القول لم يجده في قرآن ولا في سنة وأنه ليس كما قال ولا ينكر ذلك أحد من الصحابة ويأمر باتباع القرآن ولا يخالفه في ذلك أحد منهم فصح أن قولنا بألا يتبع ما روي عن أحد من الصحابة إلا أن يوجد في قرآن أو سنة هو إجماع الصحابة الصحيح وأن وجوب اتباع النصوص هو الإجماع الصحيح وهو قولنا والحمد لله رب العالمين وأن من خالف هذين القولين فقد خالف الإجماع الصحيح وكذلك من قلد إنسانا بعينه في جميع أقواله أو جهل وكده الاحتجاج بجميع أقوال إنسان بعينه كما فعل الحنفيون والمالكيون والشافعيون خلاف متيقن لجميع عصر الصحابة ولجميع عصر التابعين ولجميع عصر تابعي التابعين أولهم عن آخرهم فنحن ولله الحمد المتبعون للإجماع وهم المخالفون للإجماع المتيقن نسأل الله تعالى أن يفيء بهم إلى الهدى وأن يثبتنا عليه فصل في من قال إن الإجماع لا يجوز لأحد خلافه وأما من قال إن الإجماع لا يجوز لأحد خلافه فقول صحيح وضعوه موضع تلبيس وأخرجوه مخرج تدليس وصارت كلمة حق أريد بها باطل وذلك أنهم أوهموا أن ما لا إجماع فيه فإن الاختلاف فيه سائغ جائز

فصل وأما من قال بمراعاة انقراض العصر في الإجماع

قال أبو محمد وهذا باطل بل كل ما أجمع عليه أو اختلف فيه فهما سواء في هذا الباب فهلا يحل لأحد خلاف الحق أصلا سواء أجمع عليه أو اختلف فيه فإن قيل فهلا عذرتم من خالف الإجماع كما عذرتم من خالف فيم فيه خلاف قلنا كلا لعمري ما فعلنا شيئا مما تقولون ولا فرق عندنا فيما نسبتم إلينا الفرق بينه بل قولنا الذي ندين الله تعالى به هو أنه لا حق في الدين فيما جاء به كلام الله تعالى في القرآن أو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للوحي المنزل إليه وأنه لا يحل لأحد خلاف شيء من ذلك فمن جهل وأخطأ قاصدا إلى الخير لم يتبين له الحق ولا فهمه فخالف شيئا من ذلك فسواء أجمع عليه أو اختلف فيه هو مخطىء معذور مأجور مرة كمن أسلم ولم يبلغه فرض الصلاة أو كمن أخطأ في القرآن الذي لا إجماع كالإجماع عليه فأسقط آية أو بدل كلمة أو زادها غير عامد لكنه مقدر أنه كذلك فهذا لا إثم عليه ولا حرج وهكذا في كل شيء ومن عمد فخالف ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم غير مسلم بقلبه أو بلسانه أنه كحكمه عليه السلام فهو كافر سواء كان فيما أجمع عليه أو فيما اختلف فيه قال تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وإن خالف ما صح عنده من ذلك بعلمه وسلم له بقلبه ولسانه فهو مؤمن فاسق كالزاني وشارب الخمر وسائر العصاة سواء كان مما أجمع عليه أو مما اختلف فيه فهذه الحقائق التي لا يقدر أحد على معارضتها لا الأقوال المموهة وبالله تعالى التوفيق فصل في من قال بمراعاة انقراض العصر في الإجماع وأما من قال بمراعاة انقراض العصر في الإجماع فمن أحسن قول قيل لأن عصر الصحابة رضي الله عنهم اتصل مائة عام وثلاثة أعوام لأن سمية

أم عمار رضي الله عنها ماتت في أول الإسلام ثم لم يزالوا يموت منهم من بلغ أجله كأبي أمامة وخديجة وعثمان بن مظعون وقتلى بدر وأحد وأهل البعوث عاما عاما ومن مات في خلال ذلك إلى أن مات أنس سنة إحدى وتسعين من الهجرة وكان عصر التابعين مداخلا لعصر الصحابة رضي الله عنهم لأنه لما أسلم الاثنا عشر رجلا من الأنصار رضي الله عنهم قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر كاملة لأنهم أسلموا في ذي الحجة في أيام الحج وحملوا مع أنفسهم مصعب بن عمير رضي الله عنه معلما لهم القرآن والدين وبقوا كذلك تمام عام ثم حج منهم سبعون مسلما وثلاث نسوة مسلمات كلهم يعرف اسمه وحسبه وهم أهل بيعة العقبة وتركوا بالمدينة إسلاما كثيرا فاشيا يتجاوز المائتين من الرجال والنساء ثم هاجر صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول فلا شك في أنه قد مات في تلك الخمسة عشر شهرا منهم موتى من نساء ورجال لأنهم أعداد عظيمة وكلهم من جملة التابعين وهم الجمهور إلا من شاهد منهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم الأقل وهكذا كل مسلم ممن أسلم ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم من جميع جزيرة العرب كبلاد اليمن والبحرين وعمان والطائف وبلاد مصر وقضاعة وسائر ربيعة وجبلي طيىء والنجاشي فكل من لم يلق منهم النبي صلى الله عليه وسلم فهو من التابعين فلم يزل التابعون يموت منهم الواحد والاثنان والعشرات والمئون والآلاف من قبل الهجرة بسنة وشهرين إلى أن مات آخرهم في حدود ثمانين ومائة من الهجرة كخلف بن خليفة الذي رأى عمرو بن حريث وكمن ذكر عنه أنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه فمن هذا الواهي دماغه الذي يتعاطى مراعاة انقراض أهل عصر مقدار مائة عام وثلاثة أعوام ثم عصر آخر مقدار مائة سنة وثمانين سنة ويضبط أنفاسهم وإجماعهم هل

اختلفوا بعد ذلك أم لا فكيف أن يوجب ذلك على الناس لا سيما وأهل ذينك العصرين متداخلان مضى كثير من أهل العصر الثاني قبل انقراض العصر الأول بدهر طويل أكثر من مائة عام وقد أفتى جمهورهم من الصحابة كعلقمة ومسروق وشريح وسليمان وربيعة وغيرهم ماتوا في عصر الصحابة وهكذا تتداخل الأعصار إلى يوم القيامة وقد اعترض بعضهم في هذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم خيركم القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فقلت بين الأمرين فرق كما بين النور والظلمة لأن الذي تباينت به الأعصار المذكورة هو شفوف في الفضل لا يلحقه الآخرون معروف لمن تأخر من قرن الصحابة على من تقدم من قرن التابعين وليس كذلك جواز الفتيا لأنه إن لم تجز الفتيا لتابع حتى ينقرض عصر الصحابة لم تجز فتيا من ذكرنا ممن مات من التابعين في عصر الصحابة وهذا باطل أو يقولون إنه يراعي انقراض عصر التابعين مع عصر الصحابة معا ففي هذا مراعاة كل عصر إلى يوم القيامة مع عصر الصحابة لتداخل الأعصار وهذا محال والذي يدخل هذا القول من الجنون أكثر من هذا لأنه يجب على قولهم أنه إذا لم يبق من الصحابة إلا أنس وحده فإنه كان له ولغيره من التابعين أن يرجعوا عما أجمعوا عليه قالها أنس انسد عليهم هذا الباب وألقيت المعلقة فحرم عليهم من الرجوع ما كان مباحا لهم قبيل ذلك وكفى بهذا جنونا وليت شعري متى يمكنه التطوف عليهم في

فصل وأما من قال إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما

آفاقهم بل ألا يزايلهم إلى أن يموتوا ومتى جمعوا له في صعيد واحد ما في الرعونة أكثر من هذا ولا في الهزل والتدين بالباطل ما يفوق هذا ونعوذ بالله العظيم من الضلال فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما وأما من قال إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا فإنه كلام فاسد لأن الاختلاف لا حكم له إلا الإنكار له والمنع منه وإيجاب القول على كل أحد بما أمر الله تعالى به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فقط ولا مزيد فالاختلاف لا يحل أن يثبت ولا يسع أحدا خلاف الحق أصلا لكن من خالفه جاهلا متأولا فهو مخطىء معذور مأجور أجرا واحدا كما ذكرنا آنفا وفرض على كل من بلغه الحق أن يرجع إليه فإن عانده بقلبه أو بلسانه عالما بالحق فهو كافر وإن عانده بفعله عالما ففاسق كما قدمنا وبالله تعالى التوفيق فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان وأما من قال إذا اختلف أهل عصر ما ثم أجمع أهل عصر ثان على أحد الأقوال التي اختلف عليه أهل الماضي فليس لأحد خلاف ما أجمع عليه أهل العصر الثاني فقد قلنا في تعذر علم هذا بما قلنا آنفا وسنزيد في ذلك بيانا لا يحيل إن شاء الله تعالى عن ذي لب وقد قلنا إنه لا معنى لمراعاة ما أجمع عليه مما اختلف فيه إنما هو حق أو خطأ والحق في الدين ليس إلا في كلام الله تعالى أو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه بنقل الثقات مسندا فقط وهذا لا يسع أحدا خلافه ولا يقويه ولا يزيده

فصل قول وأما من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة

رتبة في أنه حق أن يجمع عليه ولا يوهنه أن يختلف فيه والخطأ هو خلاف النص ولا يحل لأحد أن يخطىء لأنه يعذر بتأوله وجهله كما قدمنا أو يكفر بعناده أو بقلبه أو بلسانه أو يفسق بمخالفته بعمله فقط وبالله تعالى التوفيق ولا سبيل إلى إجماع أهل عصر ما على خلاف نص ثابت لأن خلاف النص باطل ولا يجوز إجماع الأمة على باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق فصح أن هذا القول الذي صدرنا في الباب فاسد فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة وأما قول من قال إن افترق أهل العصر على أقوال كثيرة جدا أو أكثر من واحد فإن ما لم يقولوه قد صح الإجماع منهم على تركه فقد قلنا في تعذر معرفة ذلك وحصره ونقول أيضا إن شاء الله تعالى وقد قلنا إنه لا يمكن مع ذلك أن يجمع أهل عصر طرفة عين فما فوقها خطأ على خطأ لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق فهذه الأقوال كلها متخاذلة غير موضوعة وضعا صحيحا خارجة عن الإمكان إلى الامتناع وما كان هكذا فلا وجه للاشتغال به قال أبو محمد فموهوا ههنا بأن قالوا قد صح الإجماع من الصحابة رضي الله عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنع من بيع أمهات الأولاد وكان بيعهم على عهده صلى الله عليه وسلم حلالا وقد صح إجماعهم على جلد شارب الخمر ثمانين جلدة ولم يكن ذلك على عهده صلى الله عليه وسلم وقد صح إجماعهم على إسقاط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا كذبتم وأفكتم أما جلد شارب الخمر ثمانين فيعيذ الله تعالى عمر من أن يشرع حدا لم يأت به وحي من الله تعالى ورسوله

صلى الله عليه وسلم ونحن نسألكم ما الفرق بين ما تدعونه بالباطل من إحداث حد لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر وبين إثبات حد في اللياطة بقطع الذكر أو في الزنى بجلد مائتين أو بقطع يد الغاصب أو بقلع أضراس آكل الخنزير وما الفرق بين هذا كله وبين إسقاط صلاة وزيادة أخرى وإبطال صوم رمضان وإحداث شهر آخر ومن أجاز هنا فقد خرج عن الإسلام وكفر كفرا صراحا ولحق بالباطنية وغلاة الروافض واليهود والنصارى الذين بدلوا دينهم وإنما جلد عمر الأربعين الزائدة تعزيرا كما صح عنه أنه كان إذا أتي بمن تتابع في الخمر جلده ثمانين وإذا أتي بمن لم يكن له منه إلا الوهلة ونحوها جلده أربعين ويا معشر من لا يستحي من الكذب أين الإجماع الذي تدعونه وقد صح أن عثمان وعليا وعبد الله بن جعفر بحضرة الصحابة جلدوا في الخمر أربعين بعد موت عمر كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن راهويه حدثنا يحيى بن حماد ثنا عبد العزيز بن المختار ثنا عبد الله بن الفيروز الداناج مولى ابن عامر ثنا حصين بن المنذر أبو ساسان قال شهدت عثمان أتى الوليد يشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر والثاني أنه قاءها قال عثمان يا علي قم فاجلده فقال علي يا حسن قم فاجلده فقال الحسن ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه فقال علي يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين

وعمر ثمانين وكل سنة فإن كان ضرب الثمانين إجماعا فعثمان وعلي وأبي جعفر والحسن ومن حضرهم خالفوا الإجماع ومخالف الإجماع عندهم كافر فانظروا فيما تقحمهم آراؤهم وحاشا للأئمة الصحابة رضي الله عنهم من الكفر ومن مخالفة الحق ومن إحداث شرع لم يأذن به الله تعالى فإن قيل فما معنى قول علي وكل سنة قلبا صدق لأن التعزير سنة فإن قيل إن التعزير عندكم لا يتجاوز عشر جلدات قلنا يمكن أن يجلده عمر لكل كأس عشر جلدات تعزيرا فهذا جائز وقد تعلل في هذا الخبر بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه في نصر ضلاله فإن ذكر ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني حدثنا أبو إسحاق البلخي ثنا الفربري ثنا عبد الله بن عبد الوهاب ثنا خالد بن الحارث حدثنا سفيان الثوري عن أبي حصين أنه حدث قال سمعت ابن سعد النخعي قال سمعت علي بن أبي طالب قال ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأحد نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه قال أبو محمد فاعجبوا لعمى هذا الإنسان يعلل حديثا صحيحا لا مغمز فيه بحديث مملوء عللا أولها أن راويه مختلف فيه مرة عمير بن سعيد ومرة عمير بن سعد ومرة نخعي ومرة حنفي ثم الطامة الكبرى كيف يجعل

هذا المفتون حجة شيئا يخبر علي عن نفسه أنه يجد في نفسه ما لا يجد من سائر الحدود فإن كان حقا وسنة فلم يجد في نفسه أذى حتى يؤدي ديته إن مات من ذلك الجلد وهلا وجد في نفسه ممن مات في سائر الحدود وفي هذا كفاية ثم معاذ الله أن يثبت علي في الدين ما لم يسنه عليه السلام ثم لو صح لكان وجهه بينا وهو أنه إنما يجد في الأربعين الزائدة التي جلدوها تعزيرا ثم نقول لهم لو ادعى عليكم ههنا خلاف الإجماع لصدق مدعي ذلك عليكم لأنكم تقرون أن عمر أول من جلد في الخمر ثمانين وقد كان استقر الإجماع قبله على أربعين فقد أقررتم على أنفسكم بخلاف الإجماع ونسبتم عمر إلى خلاف الإجماع وقد أعاذه الله تعالى من ذلك وأما أنتم فأنتم أعلم بأنفسكم وإقراركم على أنفسكم لازم لكم فإن لجأتم إلى مراعة انقراض العصر لزمكم مثله في جلد عثمان وعلي في الخمر أربعين بعدهم ولا فرق وأما أمهات الأولاد فكذبه في ذلك أفحش من كل كذب لأن عبد الله بن الربيع قال ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود السجستاني ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فلما كان عمر نهانا فانتهينا فهذا عمل الناس أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام أبي بكر أنبأنا محمد بن سعيد بن ثابت أنبأنا أحمد بن عون الله أنبأنا قاسم بن أصبغ أنبأنا محمد بن عبد السلام الخشني أنبأنا محمد بن بشار أنبأنا محمد بن جعفر غندر أنبأنا محمد بن سعيد بن الحكم بن عتيبة عن زيد بن وهب قال انطلقت أنا ورجل إلى عبد الله بن مسعود نسأله عن أم الولد فإذا هو يصلي ورجلان قد اكتنفاه فلما صلى

سألاه فقال لأحدهما من أقرأك قال اقرأنيها أبو عبدة أو أبو الحكم المزني وقال الآخر أقرأنيها عمر بن الخطاب فبكى ابن مسعود حتى بل الحصى بدموعه وقال اقرأ كما أقرأك عمر فإنه كان للإسلام حصنا حصينا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه فلما أصيب عمر انثلم الحصن فخرج الناس من الإسلام وقال وسألته عن أم الولد فقال تعتق من نصيب ولدها نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا سفيان بن عيينة عن الأعمش عن زيد بن وهب قال مات رجل منا وترك أم ولد فأراد الوليد بن عقبة بيعها في دينه فأتينا ابن مسعود فوجدناه يصلي فانتظرناه حتى فرغ من صلاته فذكرنا ذلك له فقال إن كنتم لا بد فاجعلوها في نصيب ولدها وبه إلى عبد الرزاق عن ابن جريج أنه حدثه قال أخبرنا عطاء بن أبي رباح أن ابن الزبير أقام أم حبي أم ولد محمد بن صهيب في مال ابنها وجعلها من نصيبه ويسمى ابنها خالدا قال عطاء وقال عباس لا تعتق أم الولد حتى يلفظ سيدها بعتقها نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا محمد بن أحمد بن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا هشيم أخبرنا مغيرة بن مقسم عن الشعبي عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أعتقا أمهات الأولاد قال علي بن أبي طالب فقضى بذلك عمر حتى أصيب ثم قضى بذلك عثمان حتى أصيب فلما وليت رأيت أن أرقهن قال أبو محمد وهذا قول زيد بن ثابت وغيره فيقال لهؤلاء الذين قد أعمى الله تعالى أبصارهم أتقرون أن عمر هو أول من منع من بيعهن فمن قولهم نعم ويدعونه إجماعا من كل من معه من الصحابة رضي الله عنهم فيقال لهم قد أقررتم أن عمر قد خالف الإجماع بهذا الفعل إذا قلتم إن المسلمين كانوا على بيعهن حتى نهاهم عمر فهل في خلاف الإجماع أكثر من هذا أو كذبتم إذ قلتم إن عمر أول من حرم بيعهم لا بد من إحداهما وقد أعاذ الله عمر من خلاف

الإجماع وأما أنتم فأعلم بأنفسكم وإقراركم بذلك على أنفسكم لازم لكم ثم لو صح لكم أن عمر رضي الله عنه وكل من أجمعوا على ذلك فصار إجماعا للزمكم أن ابن مسعود وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن الزبير وزيد بن ثابت خالفوا الإجماع وخلاف الإجماع عندكم كفر فانظروا أي مضايق تقتحمون ومن أي أحواف تتساقطون ولا بد من هذا أو من كذبكم في دعوى الإجماع على حكم عمر بذلك لا مخرج من أحدهما وأما نحن فدعوى الإجماع عندنا في مثل هذا إفك وكذب وجرأة على التجليح بالكذب على جميع أهل الإسلام ولا ينكر الوهم بالاجتهاد والخطأ مع قصد إلى طلب الحق والخير على أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقول في شيء من الدين إلا بنص قرآن أو سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نبالي من خالف في ذلك ولا نتكثر بمن ولولا وما نا أحمد بن قاسم قال نا أبو قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا مصعب بن محمد نا عبيد الله بن عمر الرقي عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال لما ولدت مارية إبراهيم قال النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها ولدها مع دلائل من نصوص أخرى ثابتة قد ذكرناها في كتاب الإيصال ما قلنا إلا ببيع أمهات الأولاد لكن السنة الثابتة لا يحل خلافها وما نبالي خلاف

ابن عباس لروايته فقد يخالفها متأولا أنه خصوص أو قد ينسى ما روي وما كلفنا الله تعالى قط أن نراعي أقوال القائلين إنما أمرنا بقبول رواية النافرين ليتفقهوا في الدين المنذرين لمن خلفهم المؤمنين مما بلغهم وصح عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق وأما دعواهم أن عثمان رضي الله عنه أسقط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة المنزل بها القرآن من عند الله عز وجل فعظيمة من عظائم الإفك والكذب ويعيذ الله تعالى عثمان رضي الله عنه من الردة بعد الإسلام ولقد أنكر أهل التعسف على عثمان رضي الله عنه أقل من هذا مما لا نكره فيه أصلا فكيف لو ظفروا له بمثل هذه العظيمة ومعاذ الله من ذلك وسواء عند كل ذي عقل إسقاط قراءة أنزلها الله تعالى أو إسقاط آية أنزلها الله تعالى ولا فرق وتالله إن من أجاز هذا غافلا ثم وقف عليه وعلى برهان المنع من ذلك وأصر فإنه خروج عن الإسلام لا شك فيه لأنه تكذيب لله تعالى في قوله الصادق لنا {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} وفي قوله الصادق {إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} فالكل مأمورون باتباع قرآنه الذي أنزله الله تعالى عليه وجمعه فمن أجاز خلاف ذلك فقد أجاز خلاف الله تعالى وهذه ردة صحيحة لا مرية فيها وما رامت غلاة الروافض وأهل الإلحاد الكائدون للإسلام إلا بعض هذا وهذه الآية تبين ضرورة أن جميع القرآن كما هو من ترتيب حروفه وكلماته وآياته وسوره حتى جمع كما هو فإنه من فعل الله عز وجل وتوليه جمعه أوحى به إلى نبيه عليه السلام وبينه عليه السلام للناس فلا يسع أحدا تقديم مؤخر من ذلك ولا تأخير مقدم أصلا ونحن نبين فعل عثمان رضي الله عنه ذلك بيانا لا يخفى على مؤمن ولا على كافر وهو أنه رضي الله عنه علم أن الوهم لا يعزى منه بشر وأن في الناس

منافقين يظهرون الإسلام ويكنون الكفر هذا أمر يعلم وجوده في العالم ضرورة فجمع من حضره من الصحابة رضي الله عنهم على نسخ مصاحف مصححة كسائر مصاحف المسلمين ولا فرق إلا أنها نسخت بحضرة الجماعة فقط ثم بعث إلى كل مصر مصحفا يكون عندهم فإن وهم واهم في نسخ مصحف وتعمد ملحد تبديل كلمة في المصحف أو في القراءة رجع إلى المصحف المشهور المتفق على نقله ونسخه فعلم أن الذي فيه هو الحق وكيف كان يقدر عثمان على ما ظنه أهل الجهل والإسلام قد انتشر من خراسان إلى برقة ومن اليمن إلى أذربيجان وعند المسلمين أزيد من مائة ألف مصحف وليست قرية ولا حلة ولا مدينة إلا والمعلمون للقرآن موجودون فيها يعلمونه من تعلمه من صبي أو امرأة ويؤمهم به في الصلوات ي المساجد وقد حدثني يونس بن عبد الله بن مغيث قال أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي أحد مقرئين ثلاثة للعامة كانوا فيها وكان هذا القرشي لا يحسن النحو فقرأ عليه قارىء يوما في سورة ق {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} فرده عليه القرشي تحيد التنوين فراجعه القارىء وكان يحسن النحو فلج المقرىء وثبت على التنوين وانتشر ذلك الخبر إلى أن بلغ إلى يحيى بن مجاهد الفزاري الألبيري وكان منقطع القرين في الزهد والخير والعقل وكان صديقا لهذا المقرىء فمضى إليه فدخل عليه وسلم عليه وسأله عن حاله ثم قال له إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرىء فأردت تجديد ذلك عليك فسارع المقرىء إلى ذلك فقال له الفزاري أريد أن أبتدىء بالمفصل فهو الذي يتردد في الصلوات

ف فقال له المقرىء ما شئت فبدأ عليه من أول المفصل فلما بلغ سورة ق وبلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرىء بالتنوين فقال له يحيى بن مجاهد لا تفعل ما هي إلا غير منوتة بلا شك فلج المقرىء فلما رأى يحيى بن مجاهد لجاجه قال له يا أخي إنه لم يحملني على القراءة عليك إلا لترجع إلى الحق في لطف وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو فإن الأفعال لا يدخلها تنوين البتة فتحير المقرىء إلا أنه لم يقنع بهذا فقال يحيى بن مجاهد بيني وبينك المصاحف فبعثوا فأحضرت جملة من مصاحف الجيران فوجدوها مشكولة بلا تنوين فرجع المقرىء إلى الحق وحدثني حمام بن أحمد بن حمام قال حدثني عبد الله بن محمد بن علي عن اللخمي الباجي قال نا محمد بن لبانة قال أدركت محمد بن يوسف بن مطروح الأعرج يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة وكان عديم الورع بعيدا عن الصلاح قال فخطبنا يوم الجمعة فتلا في خطبته {لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم} فقرأها بنونين عننتم قال فلما انصرف أتيناه وكنا نأخذ عنه رأي مالك فذكرنا له قراءته للآية وأنكرناها فقال نعم هكذا أقرأناها وهكذا هي فلج فحاكمناه إلى المصحف فقام ليخرج المصحف ففتحه في بيته وتأمله فلما وجد الآية بخلاف ما قرأها عليه أنف الفاسق من رجوعه إلى الحق فأخذ القلم وألحق ضرسا زائدا قال محمد بن عمر فوالله لقد خرج إلينا والنون لم يتم بعد جفوف مدادها قال أبو محمد فالأول واهم مغفل والثاني فاسق خبيث فلولا كثرة المصاحف بأيدي الناس لتشكك كثير من الناس في مثل هذا إذا شاهدوه ممن يظنون به خيرا أو علما ولخفي الخطأ والتعمد فمثل هذا تخويف عثمان رضي الله عنه ولقد عظمت منفعة فعله ذلك أحسن الله جزاءه

وأما الأحرف السبعة فباقية كما كانت إلى يوم القيامة مثبوتة في القراءات المشهورة من المشرق إلى المغرب ومن الجنوب إلى الشمال فما بين ذلك لأنها من الذكر المنزل الذي تكفل الله تعالى بحفظه وضمان الله تعالى لا يخيس أصلا وكفالته تعالى لا يمكن أن تضيع ومن البرهان على كذب أهل الجهل وأهل الإفك على عثمان رضي الله عنه في هذا أنبأناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني نا إبراهيم بن أحمد البلخي نا الفربري نا البخاري نا أمية هو ابن بسطام نا يزيد بن ربيع عن حبيب بن الشهيد عن ابن مليكة عن ابن الزبير قال قلت لعثمان {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير} قال قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها قال يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه وبه إلى البخاري نا موسى بن إسماعيل نا إبراهيم حدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أم المؤمنين أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بهما إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة إذا اختلفتم

أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق فهذان الخبران عن عثمان إذا جمعا صححا قولنا وهو أنه لم يحل شيئا من القرآن عن مكانه الذي أنزله الله تعالى عليه وأنه أحرق ما سوى ذلك مما وهم فيه واهم أو تعمد تبديله متعمد نا عبد الله بن الربيع التميمي نا عمر بن عبد الملك الخولاني نا أبو سعيد الأعرابي العزي نا سليمان بن الأشعث نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر نا شعبة عن الحكم عن مجاهد عن أبي ليلى عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليه السلام فقال له إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على حرف فقال أسأل الله معافاته ومغفرته إن أمتي لا تطيق على ذلك ثم أتاه الثانية فذكر نحو هذا حتى بلغ سبعة أحرف فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف قرؤوا عليه فقد أصابوا وبه إلى سليمان بن الأشعث نا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لففته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ

فقرأت فقال هكذا نزلت ثم قال صلى الله عليه وسلم إن القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه قال أبو محمد فحرام على كل أحد أن يظن أن شيئا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تطيق ذلك أتى عثمان فحمل الناس عليه فأطاقوه ومن أجاز هذا فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لله تعالى إن أمته لا تطيق ذلك ولم ينكر الله تعالى عليه ذلك ولا جبريل عليه السلام وقال هؤلاء المجرمون إنهم يطيقون ذلك وقد أطاقوه فيا لله ويا للمسلمين أليس هذا اعتراضا مجردا على الله عز وجل مع التكذيب لرسوله صلى الله عليه وسلم فهل الكفر إلا هذا نعوذ بالله العظيم أن يمر بأوهامنا فكيف أن نعتقده وأيضا فإن الله تعالى آتانا تلك الأحرف فضيلة لنا فيقول من لا يحصل ما يقول إن تلك الفضيلة بطلت فالبلية إذا قد نزلت حاشا لله من هذا قال أبو محمد ولقد وقفت على هذا مكي بن أبي طالب المقرىء رحمه الله فمرة سلك هذه السبيل الفاسدة فلما وقفته على ما فيها رجع ومرة قال بالحق في ذلك كما تقول ومرة قال لي ما كان من الأحرف السبعة موافقا لخط المصحف فهو باق وما كان منها مخالفا لخط المصحف فقد رفع فقلت له إن البلية التي فررت منها في رفع السبعة الأحرف باقية بحسبها في إجازتك رفع حركة واحدة من حركات جميع الأحرف السبعة أكثر من ذلك فمن أين وجب أن يراعى خط المصحف وليس هو من تعليم رسول الله لأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب واتباع عمل من دونه من غير توقيف منه عليه السلام لا حجة فيه ولا يجب قبوله وقد صححت القراءة من طريق أبي عمرو بن العلاء التميمي مسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن هذان لساحران} وهو خلاف خط المصحف وما أنكرها مسلم قط

فاضطرب وتلجلج قال أبو محمد وقد قال بعض من خالفنا في هذا إن الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عربا يصعب على كل طائفة منهم القراءة بلغة غيرهم فلذلك فسح لهم في القراءة على أحرف شتى من بعدهم كذلك فقلنا كذب هؤلاء مرتين إحداهما على الله تعالى والثانية على جميع الناس كذبا مفضوحا جهارا لا يخفى على أحد أما كذبهم على الله عز وجل فإخبارهم بأنه تعالى إنما جعله يقرأ على أحرف شتى لأجل صعوبة انتقال القبيلة إلى لغة غيرها فمن أخبرهم بها عن الله تعالى أنه من أجل ذلك حكم بما صح أنه تعالى حكم به وهل يستجيز مثل هذا ذو دين أو مسكة عقل وهل يعلم مراد الله تعالى في ذلك إلا بخبر وارد من عنده عز وجل اللهم عياذك من مثل هذا الترامي من حالق إلى المهالك ومن أخبر عن مراد غيره بغير أن يطلعه ذلك المخبر عنه على ما في نفسه فهو كاذب بلا شك والكذب على الله تعالى أشد من الكذب على خلقه وأما كذبهم على الناس فبالمشاهدة يدري كل أحد صعوبة القراءة على الأعجمي المسلم من الترك والفرس والروم والنبط والقبط والبربر والديلم والأكراد وسائر قبائل العجم بلغة العرب التي بها نزل القرآن أشد مراما من صعوبة قراءة اليماني على لغة المضري والربعي على لغة القرشي بلا شك وأن تعلم العربي للغة قبيلة من العرب غير قبيلته أمكن وأسهل من تعلم الأعجمي للعربية بلا شك والأمر الآن أشد مما كان حينئذ أضعافا مضاعفة فالحاجة إلى بقاء الأحرف الآن أشد منها حينئذ على قول المستسهلين للكذب في عللهم التي يستخرجونها نصرا لضلالهم ولتقليدهم من غلط قاصد إلى خلاف الحق ولاتباعهم وله عالم قد حدروا عنها ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق وبرهان كذبهم في دعواهم المذكورة أنه لو كان ما قالوه حقا لم يكن لاقتضاء نزوله على

سبعة أحرف معنى بل كان الحكم أن تطلق كل قبيلة على لغتها وبرهان آخر على كذبهم في ذلك أيضا أن المختلفين في الخبر المذكور الذي أوردناه آنفا أنهما قرآ سورة الفرقان بحرفين مختلفين كانا جميعا بني عم قرشيين من قريش البطاح من قبيلة واحدة جاران ساكنان في مدينة واحدة وهي مكة لغتهما واحدة وهما عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قريظ بن رزاح بن عدي بن كعب وهشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن كلاب بن مرة بن كعب ويجتمعان جميعا في كعب بن لؤي بين كل واحد منهما وبين كعب بن لؤي ثمانية آباء فقط فظهر كذب من ادعى أن اختلاف الأحرف إنما كان لاختلاف لغات قبائل العرب وأبى ربك إلا أن يحق الحق ويبطل الباطل ويظهر كذب الكاذب ونعوذ بالله العظيم من الضلال والعصبية للخطأ قال أبو محمد وقال آخرون منهم الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها إنما هي وعد ووعيد وحكم وزادوا من هذا التقسيم حتى بلغوا سبعة معان قال أبو محمد المقلدون كالغرقى فأي شيء وجدوه تعلقوا به قال أبو محمد وكذب هذا القول أظهر من الشمس لأن خبر أبي الذي ذكرنا وخبر عمر الذي أوردناه شاهدان بكذبه مخبران بأن الأحرف إنما هي اختلاف ألفاظ القراءات لا تغير القرآن ولا يجوز أن يقال في هذه الأقسام التي ذكرنا أيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا وأيضا فإنهم ليسوا في تقسيمهم هذا بأولى من آخر اقتصر على مبادىء الكلام الأول فجعل القرآن ثلاثة أقسام فقط خبرا وتقديرا وأمرا بشرع وجعل الوعد والوعيد تحت قسم الخبر ولا هم أيضا بأولى من آخر قسم الأنواع التي في اشخاص المعاني فجعل القرآن أقساما كثيرة أكثر من عشرة فقال فرض

وندب ومباح ومكروه وحرام ووعد ووعيد والخبر عن الأمم السالفة وخبر عما يأتي من القيامة والحساب وذكر الله تعالى وأسمائه وذكر النبوة ونحو هذا فظهر فساد هذا وأيضا فإن هذه الأقسام التي ذكروا هي في قراءة عمر كما هي في قراءة هشام بن حكيم ولا فرق فهذا بيان زائد في كذب هذا التقسيم قال أبو محمد فإن ذكر ذاكر الرواية الثابتة بقراءات منكرة صححت عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم مثل ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} ومثل ما صح عن عمر رضي الله عنه من قراءة {صراط لذين أنعمت عليهم غير لمغضوب عليهم ولا لضآلين} ومن أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعد المعوذتين من القرآن وأن أبيا رضي الله عنه كان يعد القنوت من القرآن ونحو هذا قلنا كل ذلك موقوف على من روى عنه شيء ليس منه عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة ونحن لا ننكر على من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطأ فقد هتفنا به هتفا ولا حجة فيما روي عن أحد دونه عليه السلام ولم يكلفنا الله تعالى الطاعة له ولا أمرنا بالعمل به ولا تكفل بحفظه فالخطأ فيه واقع فيما يكون من الصاحب فمن دونه ممن روى عن الصاحب والتابع ولا معارضة لنا بشيء من ذلك وبالله تعالى التوفيق وإنما تلزم هذه المعارضة من يقول بتقليد الصاحب على ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن فهم الذين يلزمهم التخلص من هذه المذلة وأما نحن فلا والحمد لله رب العالمين إلا خبرا واحدا وهو الذي رويناه من طريق النخعي والشعبي كلاهما عن علقمة بن مسعود وأبي الدرداء كلاهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقرأهما {والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * وما خلق الذكر والأنثى}

قال أبو محمد وهذا خبر صحيح مسند عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد إلا أنهما قراءة منسوخة لأن قراءة عاصم المشهورة المأثورة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة ابن عامر مسندة إلى أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما جميعا {وما خلق لذكر ولأنثى} فهي زيادة لا يجوز تركها وأنبأنا يونس بن عبد الله بن مغيث القاضي قال حدثنا يحيى بن مالك بن عابد الطرطوشي أخبرنا الحسن بن أحمد بن أبي خليفة أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا إبراهيم بن أبي داود نا حفص بن عمر الحوضي نا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال اختلفوا في القراءات على عهد عثمان بن عفان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون فبلغ ذلك عثمان فقال عندي تكذبون به وتختلفون فيه فما تأبى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا يا صحابة محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس قال فكتبوا قال فحدثني أنهم كانوا إذا تراودوا في آية قالوا هذه أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلانا فيرسل إليه وهو على ثلاثة من المدينة فيقول كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول كذا وكذا فيكتبونها وقد تركوا لها مكانا قال أبو محمد فهذه صفة عمل عثمان رضي الله عنه بحضرة الصحابة رضي الله عنهم في نسخ المصاحف وحرق ما حرق منها مما غير عمدا وخطأ ومن العجب أن جمهرة من المعارضين لنا وهم المالكيون قد صح عن صاحبهم ما ناه المهلب بن أبي صفرة الأسدي التميمي قال ابن مناس نا ابن مسرور نا يحيى نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب حدثني ابن أنس قال أقرأ عبد الله بن مسعود رجلا {إن شجرة لزقوم * طعام لأثيم} فجعل الرجل يقول طعام اليتيم فقال له ابن مسعود طعام الفاجر قال ابن وهب قلت لمالك

فصل فيمن قال ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع وبسط الكلام فيما هو إجماع وفيما ليس إجماعا

أترى أن يقرأ كذلك قال نعم أرى ذلك واسعا فقيل لمالك أفترى أن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله قال مالك ذلك جائز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا منه ما تيسر مثل تعلمون يعلمون قال مالك لا أرى في اختلافهم في مثل هذا بأسا ولقد كان الناس ولهم مصاحف والستة الذين أوصى لهم عمر بن الخطاب كانت لهم مصاحف قال أبو محمد فكيف يقولون مثل هذا أيجيزون القراءة هكذا فلعمري لقد هلكوا وأهلكوا وأطلقوا كل بائقة في القرآن أو يمنعون من هذا فيخالفون صاحبهم في أعظم الأشياء وهذا إسناد عنه في غاية الصحة وهو مما أخطأ فيه مالك مما لم يتدبره لكن قاصدا إلى الخير ولو أن أمرا ثبت على هذا وجازه بعد التنبيه له على ما فيه وقيام حجة الله تعالى عليه في ورود القرآن بخلاف هذا لكان كافرا ونعوذ بالله من الضلال قال أبو محمد فبطل ما قالوه في الإجماع بأوضع بيان والحمد لله رب العالمين فصل فيمن قال ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع وبسط الكلام فيما هو إجماع وفيما ليس إجماعا قال أبو محمد قد ذكرنا قبل قسمي الإجماع الذي لا إجماع في العالم غيرهما أصلا وهما إما شيء لا يكون مسلما من لا يعتقده كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والبراءة من كل دين يخالف دين الإسلام كجملة القرآن وكالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان فإنه لا يشك مؤمن ولا

كافر في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى هذه الشهادة وحكم باسم الإسلام وحكمه لمن أجابه إليها وحكم باسم الكفر وحكمه لمن لم يجبه إليه وأن أهل الإسلام بعده عليه السلام جروا على هذا إلى يومنا هذا ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات الخمس بكل من حضره خمس مرات كل يوم وليلة وصلاها النساء وأهل العذر في البيوت كذلك وصلاها أهل كل محلة وأهل كل قرية وأهل كل محلة في كل مدينة فيها إسلام في كل يوم من عهده عليه السلام إلى يومنا هذا لا يختلفون في ذلك وكذلك الأذان والإقامة والغسل من الجنابة والوضوء ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم صام شهر رمضان الذي بين شوال وشعبان في كل عام وصامه كل مسلم بالغ حاضر من رجل أو امرأة معه وفي زمانه وبعده في كل مكان وفي كل عام إلى يومنا هذا ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم حج إلى مكة في ذي الحجة وحج معه من لا يحصي عددهم إلا خالقهم عز وجل ثم حج الناس إلى يومنا هذا كل عام إلى مكة في ذي الحجة وهكذا جملة القرآن لا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم أتى به وذكر أن الله تعالى أوحاه إليه وكذلك تحريم الأم والابنة والجدة والخالة والعمة والأخت وبنت الأخت وبنت الأخ والخنزير والميتة وكثير سوى هذا فقطع كل مؤمن وكافر أنه صلى الله عليه وسلم وقف عليه وعلمه المسلمين وعلمه المسلمون جيلا في كل زمان وكل مكان قطعا إلا من أفرط جهله ولم يبلغه ذلك من بدوي أو مجلوب من أهل الكفر ولا يختلف في أنه إذا علمه فأجاب إليه فهو مسلم وإن لم يجب إليه فليس مسلما وأن في بعض ما جرى هذا المجرى أمورا حدث فيها خلاف بعد صحة الإجماع وتيقنه عليها كالخمر والجهاد وغير ذلك فإن بعض الناس رأى ألا يجاهد مع أئمة الجور وهذا يعذر لجهله وخطأه ما لم تقم عليه

الحجة فإن قامت عليه الحجة وتمادى على التدين بخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك حلال الدم والمال لقوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} فإن قيل فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن فهلا أخرجتم بهذه الأشياء من الإيمان كما أخرجتم من الإيمان بوجود الحرج مما قضى صلى الله عليه وسلم وترك تحكيمه قلنا لأنه صلى الله عليه وسلم أتى بالزاني والسارق والشارب فحكم فيهم بالحكم في المسلمين لا بحكم الكافر فخرجوا بذلك من الكفر وبقي من لم يأت بإخراجه عن الكفر على الكفر والخروج عن الإيمان كما ورد فيه النص فهذا أحد قسمي الإجماع والثاني شيء يوقن بالنقل المتصل الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه وفعله جميع من بحضرته ومن كان مستضعفا أو غائبا بغير حضرته كفتح خيبر وإعطائه إياها بعد قسمتها على المسلمين لليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم ولهم نصف ما يخرج منها من زرع أو تمر على أن المسلمين يخرجونهم متى شاؤوا وهكذا كل ما جاء هذا المجيء فهو إجماع مقطوع على صحته من كل مسلم علمه أو بلغه على أنه قد خالف في هذا بعد ذلك من وهم أو خطأ فعذر لجهله ما لم تقم عليه الحجة وكما ذكرنا قبل ولا فرق فلا إجماع في الإسلام إلا ما جاء هذا المجيء ومن ادعى إجماعا فيما عدا ما ذكرنا فهو كاذب آفك مفتر على جميع المسلمين قائل عليهم ما لا علم له به وقد قال تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقال تعالى ذاما لقوم قالوا {وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} وقال تعالى {إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى} وقال تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا} فصح بنص كلام

الله تعالى الذي لا يعرض عنه مسلم أن الظن هو غير الحق وإذ هو غير الحق فهو باطل وكذب بلا شك إذ لا سبيل إلى قسم ثالث وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث قال أبو محمد فهذا هو الحق الذي لا يحيل عليه من سمعه ثم حدث بعد القرن الرابع طائفة قلت مبالاتها بما تطلق به ألسنتها في دين الله تعالى ولم تفكر فيما تخبر به عن الله عز وجل ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن جميع المسلمين قصرا لتقليد من لا يغني عنهم من الله شيئا من أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله الذين قد برئوا إليهم عما هم عليه من التقليد فصاروا إذا أعوزهم شغب ينصرون به فاحش خطأهم في خلافهم نص القرآن ونص حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلحوا وبلدوا ونطحت أظفارهم في الصفا الصلد أرسلوها إرسالا فقالوا هذا إجماع فإذا قيل لهم كيف تقدمون على إضافة الإجماع إلى من لم يروا عنه في ذلك كله أما تتقون الله قال أكابرهم كل ما انتشر في العلماء واشتهر ممن قالته طائفة منهم ولم يأت على سائر خلاف له فهو إجماع منهم لأنهم أهل الفضل والذين أمر الله تعالى بطاعتهم فمن المحال أن يسمعوا ما ينكرونه ولا ينكرونه فصح أنهم راضون به هذا كل ما موهوا به ما لهم متعلق أصلا بغير هذا وهذا تمويه منهم ببراهين ظاهرة لا خفاء بها نوردها إن شاء الله عز وجل وبه نستعين قال أبو محمد أول ما نسألكم عنه أن نقول لكم هذا لا تعلمون فيه خلافا أيمكن أن يكون فيه خلاف من صاحب أو تابع أو عالم بعدهم لم يبلغكم أم لا يمكن ذلك البتة فإن قالوا عند ذلك إن قال هذا القول عالم كان ذلك إجماعا وإن قاله غير عالم لم يكن ذلك إجماعا قلنا لهم قد نزلتم درجة وسؤالنا باق لذلك العالم بحسبه كما أوردناه سواء بسواء فإن قالوا بل يمكن

أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا فإن قالوا بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا فإن قالوا بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا فإن قالوا بل لا يمكن أن يكون في ذلك خلاف قلنا ومن أين لكم بأن ذلك العالم أحاط بجميع أقوال أهل الإسلام ونحن نبدأ لكم بالصحابة رضي الله عنهم فنقول بالضرورة ندري يقينا لا مرية فيه بأنهم كانوا عشرات ألوف فقد غزا صلى الله عليه وسلم حنينا في اثني عشر ألف إنسان وغزا تبوك في أكثر من ذلك وحج حجة الوداع في أضعاف ذلك ووفد عليه من كل بطن من بطون قبائل العرب وفودا أسلموا وسألوه عن الدين وأقرأهم القرآن وصلوا معه كلهم يقع عليه اسم الصحابة ولقد تقصينا من روى عنه فتيا في مسألة واحدة فأكثر فلم نجدهم إلا مائة وثلاثة وخمسين بين رجل وامرأة فقط مع شدة طلبنا في ذلك وتهممنا وليس منهم مكثرون إلا سبعة فقط وهم عمر وابنه عبد الله وعلي وابن عباس وابن مسعود وأم المؤمنين عائشة وزيد بن ثابت والمتوسطون فهم ثلاثة عشر فقط يمكن أن يوجد في فتيا كل واحد منهم جزء صغير فهؤلاء عشرون فقط والباقون مقلون جدا فيهم من لم يرو عنه إلا فتيا في مسألة واحدة فقط ومنهم في مسألتين وأكثر من ذلك يجتمع من فتيا جميعهم جزء واحد هو إلى أصغر أقرب منه الكبر أفترى سائرهم لم يفت ولا مسألة إلا هذا والله هو الكذب البحت والإفك والبهت ثم ما قد نص الله تعالى في قرآنه من أن طوائف من الجن أسلموا قال {قل أوحي إلي أنه ستمع نفر من لجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى لرشد فآمنا به ولن نشرك بربنآ أحدا} وقال تعالى حاكيا عنهم أنهم قالوا {وأنا منا لصالحون ومنا دون ذلك كنا طرآئق قددا} وأنهم قالوا {وأنا منا لمسلمون ومنا لقاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا}

وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أخبر بأن وفدا من الجن أتوه وأسلموا وبايعوه وعلمهم القرآن فصح أن منهم مسلمين صالحين راشدين من خيار الصحابة هذا لا ينكره مسلم ومن أنكره كفر وحل دمه فيا هؤلاء هبكم جسرتم على دعوى العلم بقول عشرات ألوف من الناس من الصحابة وإن لم يبلغكم عنهم فيما ادعيتم إجماعهم عليه كلمة أتراكم يمكنكم الجسر على دعوى إجماع أولئك الصحابة من الجن على ما تدعون بظنكم الكاذب الإجماع عليه لئن أقدمكم على ذلك القاسطون من شياطين الجن فانقدتم لهم لتضاعفن فضيحة كذبكم وليلوحن إفككم لكل صغير وكبير ولئن ردعكم عن ذلك رادع ليبطلن دعواكم الإجماع وهذا لا مخلص منه فإنهم كسائر الصحابة مأمورون منهيون مؤمنون موعودون متوعدون ولا فرق فإن قالوا إن شرائعهم غير شرائعنا قلنا كذبتم بل شرائعنا وشرائعهم سواء لتصديق الله تعالى لهم في قولهم {وأنا منا لمسلمون ومنا لقاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا} والإسلام واحدا إلا ما جاء به نص صحيح بأنهم خصوا به كما خصوا أيضا طوائف من الناس كقريش بالإمامة وبني عبد المطلب بالخمس من الخمس ونحو ذلك ثم انقضى عصر الصحابة رضي الله عنهم وأتى عصر التابعين فملؤوا الأرض بلاد خراسان وهي مدن عظيمة كثيرة وقرى لا يحصيها إلا خالقها عز وجل وكابل وفارس وأصبهان والأهواز والجبال وكرمان وسجستان ومكران والسودان والعراق والموصل والجزيرة وديار ربيعة وأرمينية وأذربيجان والحجاز واليمن والشام ومصر والجزائر وإفريقية وبلاد البربر وأرض الأندلس ليس فيها قرية كبيرة إلا وفيها من يفتي ولا فيها مدينة إلا وفيها مفتون فمن الجاهل القليل الحياء المدعي

إحصاء أقوال كل مفتي في جميع هذه البلاد مذ أفتوا إلى أن ماتوا إن كل واحد يعلم ضرورة أنه كذاب آفك ضعيف الدين قليل الحياء فبطل دعوى الإجماع كما بطل كل محال مدعي إلا حيث ذكرنا قبل فقط فإن قالوا إنما يقول المرء هذا إجماع عندي فقط قلنا قوله هذا كلا قول لأن الإجماع عنده إذا لم يكن إجماعا عند غيره فمن الباطل أن يكون الشيء مجمعا عليه عند غير مجمع عليه معا وأيضا فإن قوله هذا إجماع عندي باطل لأنه منهي عن القطع بظنه فمعنى قوله هذا إنما هو أنه يظن إجماع وقد مضى الكلام في المنع من القطع بالظن وقال تعالى {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند لله عظيم} الآية وقال تعالى {هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} وهذا مالك يقول في موطئه إذ ذكر وجوب رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه ثم قال هذا ما لا خوف فيه عن أحد من الناس ولا في بلد من البلدان قال أبو محمد وهذه عظيمة جدا وإن القائلين بالمنع من رد اليمين أكثر من القائلين بردها ونا أحمد بن محمد بن الجسور نا وهب بن مسرة نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن القاسم قال نا مالك ليس كل أحد يعرف أن اليمين ترد ذكر هذا في كتاب السرقة من المدونة هذا الشافعي يقول في زكاة البقر في الثلاثين تبيع وفي الأربعين مسنة لا أعلم فيه خلافا وإن الخلاف في ذلك عن جابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب وقتادة وعمال ابن الزبير بالمدينة ثم عن إبراهيم النخعي وعن أبي حنيفة لأشهر من أن يجهله من يتعاطى العلم إلى كثير لهم جدا من مثل هذا إلا من قال لا أعلم خلافا فقد صدق عن نفسه ولا ملامة عليه وإنما البلبلة والعار والنار على من أقدم على الكذب جهارا فادعى

الإجماع إذ لم يعلم خلافا وقد ادعوا أن الإجماع على أن القصر في أقل من ستة وأربعين ميلا غير صحيح وبالله إن القائلين من الصحابة والتابعين بالقصر في أقل من ذلك لأكثر أضعافا من القائلين منهم بالقصر في ستة وأربعين ميلا ولو لم يكن لهؤلاء الجهال الذين لا علم لهم بأقوال الصحابة والتابعين إلا الروايات عن مالك بالقصر في ستة وثلاثين ميلا وفي أربعين ميلا وفي اثنين وأربعين ميلا وفي خمسة وأربعين ميلا ثم قوله من تأول فأفطر في ثلاثة أميال في رمضان لا يجاوزها فلا شيء عليه إلا القضاء فقط وادعوا الإجماع على أن دية اليهودي والنصراني تجب فيها ثلث دية المسلم لا أقل وهذا باطل روينا عن الحسن البصري بأصح طريق أن ديتهما كدية المجوسي ثمانمائة درهم وادعوا الإجماع أنه يقبل في القتل شاهدان وقد روينا عن الحسن البصري بأصح طريق أنه لا يقبل في القتل إلا أربعة كالزنى ومثل هذا لهم كثير جدا كدعواهم الإجماع على وجوب خمس من الإبل في الموضحة وغير ذلك كثير جدا ولقد أخرجنا على أبي حنيفة والشافعي ومالك مئين كثيرة من المسائل قال فيها كل واحد منهم بقول لا نعلم أحدا من المسلمين قاله قبله فاعجبوا لهذا فقالوا إنما نقول ذلك إذا انتشر القول في الناس فلم يحفظ عن أحد من العلماء إنكار ذلك فحينئذ نقول إنه إجماع لما ذكرنا من أنهم يقرون على ما ينكرون كما نقول في أصحاب مذهب الشافعي وأصحاب مذهب مالك وأصحاب مذهب أبي حنيفة وإن لم يرو لنا ذلك عن واحد منهم وكما نقول ذلك في أهل البلاد التي غلبت عليها الشبه والروافض والاعتزال ومذهب الخوارج أو مذهب مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة وإن لم يرو لنا ذلك

عن كل واحد من أهلها قلنا لهم لم تخلصوا من هذا القول الذي هو حسبكم واحد منهم في كتابكم وآخرها إلا على كذبتين زائدتين على كذبكم في دعوى الإجماع كنتم في غنى عن اختفائهما إحداهما قولكم إنكم تقولون ذلك إذا انتشر قول طائفة من الصحابة أو من بعدهم فقالوا ههنا فمن هذا نسألكم من أين علمتم بانتشار ذلك القول ومن أين قطعتم بأنه لم يبق صاحب من الجن والإنس إلا علمه ولا يفتي في شرق الأرض ولا غربها عالم إلا وقد بلغه ذلك القول فهذه أعجوبة ثانية وسوأة من السوءات لا يجيزها إلا ممخرق يريد أن يطبق عين الشمس نصرا لتقليده وتمشية لمقولته المنحلة عما قريب ثم يندب حين لا تنفعها الندامة والكذبة الأخرى قولكم فلم ينكروها فحتى لو صح لكم أنهم كلهم علموها فمن أين قطعتم بأنهم لم ينكروها وأنهم رضوها وهذه طامة أخرى ونحن نوجدكم أنهم قد علموا ما أنكروا وسكنوا عن إنكاره لبعض الأمر نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن دحيم بن خليل نا إبراهيم بن حمادة نا إسماعيل بن إسحاق القاضي نا علي بن عبد الله هو ابن المديني نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد نا أبي عن محمد بن إسحاق الزهري محمد بن مسلم بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن

مسعود أنه وزفر بن أوس بن الحدثان أتيا عبد الله بن عباس فأخبرهما بقوله في إبطال العول وخلافه لعمر بن الخطاب في ذلك قال فقال له زفر فما منعك يا ابن عباس أن تشير عليه بهذا الرأي قال هبته نا حمام بن أحمد نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي ثنا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا أيوب الأنصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر فلما استخلف عمر تركهما فلما توفي عمر ركعهما قيل له ما هذه قال إن عمر كان يضرب الناس عليهما نا جهم نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي الديري نا عبد الرزاق عن معمر أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب جاء عمر بن الخطاب بأمة سوداء كانت لحاطب فقال إن العتاقة أدركت وقد أصابت فاحشة وقد أحصنت فدعاها عمر فسألها عن ذلك فقالت نعم من مرعوش بدرهمين وهي حينئذ تذكر ذلك لا ترى به بأسا فقال عمر لعلي وعبد الرحمن وعثمان أشيروا علي فقال علي وعبد الرحمن نرى أن ترجمها فقال عمر لعثمان أشر فقال قد أشار عليك أخواك قال عزمت عليك إلا أشرت علي برأيك قال فإني لا أرى الحد إلا على من علمه وأراها تستهل به كأنها لا ترى به بأسا فقال عمر صدقت والذي نفسي بيده ما الحد إلا عمن علمه فضربها عمر مائة وغربها عاما وبه عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه قال توفي عبد الرحمن بن حاطب وأعتق من صلى من رقيقه وصام

وكانت له نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه فلم يرعها إلا حبلها وكانت ثيبا فذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحدثه فأرسل إليها عمر فسألها فقال أحبلت فقال نعم من مرعوش بدرهمين وإذا هي تستهل به لا تكتمه فصادف عنده علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وعثمان فقال أشيروا علي وكان عثمان جالسا فاضطجع فقال علي وعبد الرحمن قد وقع عليها الحد فقال عمر أشر علي يا عثمان قال قد أشار عليك أخواك قال أشر علي أنت قال عثمان أراها تستهل به كأنها لا تعلمه وليس الحد إلا على من علمه فأمر بها عمر فجلدت مائة وغربها ثم قال لعثمان صدقت والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه فهذا ابن عباس يخبر أنه منعته الهيبة من الإنكار على عمر فيما يقطع ابن عباس أنه الحق ويدعو فيه إلى المباهلة عند الحجر الأسود وهذا أبو أيوب رجل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعي الإنكار على عمر ضربه على الصلاة بعد العصر وبعيد ضربه وهذا عثمان سكت وقد رأي أمرا أنكره في أشنع الأشياء وأعظمها وهو دم حرام يسفك بغير واجب سأله عمر فتمادى على سكوته إلى أن عزم عليه وقد يسكت المرء لأنه لم يلح له الحق أو يسكت موافقا ثم يبدو له وجه الحق أو رأى آخر بعد مدة فينكر ما كان يقول ويرجع عنه كما فعل علي في بيع أمهات الأولاد وفي التخيير بعد موافقته لعمر على كلا الأمرين أو ينكر فلا يبلغنا إنكاره ويبلغ غيرنا في أقصى المشرق وأقصى المغرب أو أقصى اليمين أو أقصى إرمينية وأما تنظيركم بأهل مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والبلاد التي ظهر فيها وغلب عليها قول ما فهذا أعظم حجة عليكم لأنه لا يختلف اثنان أن

جمهور القائلين بمذهب رجل ممن ذكرتم لم يخلو قط من خلاف لصاحبهم في المسألة والمسألتين والمسائل وكذلك لم تخل قط البلاد المذكورة من مخالف لمذهب أهلها ولا أكثر من غلبة مذهب مالك على الأندلس وإفريقية وقد كان طوائف علماء مخالفون له جملة قائلون بالحديث أو بمذهب الظاهر أو مذهب الشافعي وهذا أمر مشاهد في كل وقت ولا أكثر من غلبة الإسلام على البلاد التي غلب عليها ولله الحمد وإن فيها مع ذلك يهود ونصارى وملحدين كثيرا جدا فظهر فساد تنظيرهم عيانا وعاد ما موهوا به مبطلا لدعواهم وثبت بهذا حتى لو انتشر القول وعرفه جميع العلماء وإن في الممكن أن يخالفه جمهورهم أو بعضهم ثم هذا عمر قد جلد التي لم يرد عليها الرجم لجهلها وهي محصنة مائة وغربها عاما بحضرة علي وعبد الرحمن وعثمان ولم ينكروا عليه ذلك فإن كان عندهم إجماعا فيقولوا به وليس من خصومنا الحاضرين أحد يقول بهذا وإن كان سكوتهم ليس موافقة ولا رضى فليتركوا هذا الأصل الفاسد المهلك في الدين لمن تعلق به ولا بد من أحدهما بالتلاعب بدين الله عز وجل وقد أريناهم سكوتهم رضي الله عما يقولون به فمن الجاهل المنكر لهذا حتى لو صح لهم أنهم عرفوه فكيف وهذا لا يصح أبد الأبد على ما بينا فإن قال قائل فإذ هو كما قلتم فمن أين قطعتم بالخلاف فيه وإن لم يبلغكم وهلا أنكرتم ذلك على أنفسكم كما أنكرتموه علينا إذ قلنا إنه إجماع قلنا نعم فقلنا ذلك لبرهانين ضروريين قاطعين أحدهما أن الأصل من الناس وجود الاختلاف في آرائهم لما قدمنا قبل اختلاف أغراضهم وطبائعهم والثاني لأن الله تعالى بذلك قضى إذ يقول {ولو شآء ربك لجعل لناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين} فصح إن الأصل هو الاختلاف الذي أخبر تعالى

أننا لا نزال عليه والذي له خلقنا إلا من استثنى من الأقل وبرهان ثالث وهو الذي لا يسع أحدا خلافه وهو أن ما ادعيتم فيه الإجماع بالظن الكاذب كما قدمنا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا إما أن تدعوه في أمر موافق لنص القرآن أو السنة الثابتة المسندة فهذا أمر لا نبالي اتفق عليه أم اختلف فيه إنما الغرض أن يؤخذ بالنص في ذلك سواء أجمع الناس أم اختلفوا ولا معنى حينئذ للاحتجاج بدعوى الإجماع عليه والحجة قائمة بالنص الوارد فيه فلا حاجة إلى القطع بالظن الكاذب في دعوى الإجماع البتة وإما أن تدعوه في أمر لا يوافقه نص قرآن ولا سنة صحيحة مسندة بل هو مخالف لها في عمومها أو ظاهرهما لتصححوه بدعواكم الكاذبة في أنه إجماع فهذه كبيرة من الكبائر وقصد منكم إلى رد اليقين بالظنون وإلى مخالفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بدعوى كاذبة مفتراة وهذا لا يحل وإذا كان هذا القسم فنحن نقطع حينئذ ونثبت أنه لا بد من خلاف ثابت فيما ادعيتموه إجماعا لأن الله تعالى قد أعاذ أمة نبيه صلى الله عليه وسلم من الإجماع على الباطل والضلال لمخالفة القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم لم تقتنعوا بأن كذبتم على جميع الأمة حتى نسبتم إليهم الإجماع على الخطأ في مخالفة القرآن والسنة الثابتة وهذه من العظائم التي نعوذ بالله العظيم من مثلها وليس ههنا قسم ثالث أصلا لما قد أوردنا من البراهين على أنه لا يمكن وقوع نازلة لا يكون حكمها منصوصا في القرآن وبيان النبي صلى الله عليه وسلم إما باسمها الأعم وإما باسمها الأخص قال أبو محمد واعلموا أن إقدام هؤلاء القوم وجسرهم على معنى الإجماع حيث وجد الاختلاف أو حيث لم يبلغنا ولكنه ممكن أن يوجد أو مضمون أن يوجد فإنه قول خالفوا فيه الإجماع حقا وما روي قط عن صاحب ولا عن تابع القطع بدعوى الإجماع حتى أتى هؤلاء الذين جعلوا

الكلام في دين الله تعالى مغالبة ومجاذبة وتحققا بالرياسة على مقلدهم وكفى بهذا فضيحة وأيضا قد تيقن إجماع المسلمين على أنه لا يحل لأحد أن يقطع بظنه اليقين فيه فهذا إجماع آخر فقد خالفوه في هذه المسألة نا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا

محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال قال رجل لابن مسعود أوصني بكلمات جوامع فقال له ابن مسعود اعبد الله ولا تشرك به شيئا وزل مع القرآن حيث زال ومن أتاك بحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضا ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريبا حبيبا قال أبو محمد هذه جوامع الحق اتباع القرآن وفيه اتباع بيان الرسول وأخذ الحق ممن أتى به ولئن كان لا خير فيه وممن يجب بغضه وإبعاده وألا يقلد خطأ فاضل وإن كان محبوبا واجبا تعظيمه نا حمام بن أحمد نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا عبد الله بن يونس المرادي نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا معاوية بن هشام نا سفيان هو الثوري عن جبلة بن عامر بن مطر قال قال لي حذيفة في كلام فأمسك بما أنت عليه اليوم فإنه الطريق الواضح كيف أنت يا عامر بن مطر إذا أخذ الناس طريقا مع أيهما تكون قال عامر فقلت له مع القرآن أحيا مع القرآن وأموت قال له حذيفة فأنت إذا أنت قال أبو محمد اللهم إني أقول كما قال عامر أكون والله مع القرآن أحيا متمسكا به وأموت إن شاء الله متمسكا به ولا أبالي بمن سلك غير طريق القرآن ولو أنهم جميع أهل الأرض غيري قال أبو محمد وهذا حذيفة يأمر بترك طريق الناس واتباع طريق القرآن إذا خالفه الناس نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا أحمد بن فريس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن المنصور نا هشيم أخبرنا مغيرة عن الشعبي عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب وعليا أعتقا أمهات الأولاد قال عبيدة قال علي فقضى بذلك عمر حتى أصيب ثم ولي عثمان فقضى بذلك حتى أصيب فلما وليت رأيت أن أرقهن قال أبو محمد هذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم ير حكم عمر ثم حكم عثمان المشتهر المنتشر الفاشي والذي وافقهما عليه إجماعا بل سارع إلى خلافه إذ أراه اجتهاده الصواب في خلافه ولعمر الله إن أقل من هذا بدرجات ليقطع هؤلاء المجرمون بأنه إجماع والسند المذكور قيل إلى سعيد بن منصور نا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي نا عبد الملك بن سليمان عن أبي إسحاق السبيعي عن الشعبي قال أحرم عقيل بن أبي طالب في موردتين فقال له عمر خالفت الناس فقال له علي دعنا منك فإنه ليس لأحد أن يعلمنا السنة فقال له عمر صدقت فهذا علي وعقيل لم ينكرا خلاف الناس ورجع عمر عن قوله إلى ذلك إذ لم يكن ما أضافه إلى الناس سنة يجب اتباعها بل السنة خلافه فلا ينكر خلاف جمهور الناس للسنة وبه إلى سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عطاء بن أبي رياح قال قلت لابن عباس إن الناس لا يأخذون بقولي ولا بقولك ولو مت أنا وأنت ما اقتسموا ميراثنا على ما نقول قال ابن عباس فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا قال أبو محمد فهذا ابن عباس بأصح إسناد عنه لا يلتفت إلى الناس ولا إلى ما اشتهر عندهم وانتشر من الحكم بينهم إذا كان خلافا لحكم الله تعالى

في مثل هذا يدعي من لا يبالي بالكذب الإجماع وبه إلى سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي زيد أنه سمع ابن عباس يقول في قول الله عز وجل {يأيها لذين آمنوا ليستأذنكم لذين ملكت أيمانكم ولذين لم يبلغوا لحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة لفجر وحين تضعون ثيابكم من لظهيرة ومن بعد صلاة لعشآء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين لله لكم لآيات ولله عليم حكيم} قال ابن عباس لم يؤمن بهذه الآية أكثر الناس وإني لآمر هذه أن تستأذن علي يعني جارية له قال أبو محمد وهذا كالذي قبله نا يحيى بن عبد الرحيم نا أحمد بن دحيم نا إبراهيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا علي بن المديني نا سفيان بن عيينة نا مصعب بن عبد الله بن الزبير عن أبي مليكة عن ابن عباس قال أمر ليس في كتاب الله عز وجل ولا في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وستجدونه في الناس كلهم ميراث الأخت مع البنت فهذا ابن عباس لم ير الناس كلهم حجة على نفسه في أن يحكم بما لم يجد في القرآن ولا في السنة نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب نا أحمد بن محمد نا محمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من الصحابة يصنعها فقال وما هن يا ابن جريج قال رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ورأيتك تلبس النعال السبتية ورأيتك تصبغ بالصفرة ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا أروا الهلال ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية فقال له ابن عمر أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ وأما الإهلال فإني لم أر رسول

الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته قال أبو محمد فهذا ابن عمر رضي الله عنه بأصح إسناد إليه لم ينكر مخالفته لجميع أصحابه فيما اقتدى فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أنكر على ابن جريج إخباره بأن أصحابه يخالفونه فصح أنه لم ير أصحابه كلهم قدوة فيما وافق وحدانية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو الحق الذي لا يسع أحدا القصد إلى خلافه قال أبو محمد ثم هذا أبو حنيفة يقول ما جاء عن الله تعالى فعلى الرأس والعينين وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعا وطاعة وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم تخيرنا من أقوالهم ولم نخرج عنهم وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال فلم ينكر عن نفسه مخالفة التابعين وإنما لم ير الخروج عن أقوال الصحابة توقيرا لهم وهذا مالك يفتي بالشفعة في الثمار ويقول إثر فتياه به وإنه لشيء ما سمعته ولا بلغني أن أحدا قاله فهذا مالك لم ير القول بما لم يسمع عن أحد قال به خلافا للإجماع كما يدعي هؤلاء الذين لا معنى لهم وهذا الشافعي يقول في رسالته المصرية ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا قال حمام بن أحمد ويحيى بن عبد الرحمن بن مسعود قال حمام نا عباس بن أصبغ وقال يحيى نا أحمد بن سعيد بن حزم ثم اتفق عباس وأحمد قالا جميعا نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا عبد الرحمن بن حنبل قال سمعت أبي يقول ما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب من ادعى الإجماع فهو كذاب لعل الناس قد اختلفوا ما بد به ولم ينتبه إليه فليقل لا نعلم الناس اختلفوا دعوى بشر المريسي والأصم ولكن يقول لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغني ذلك قال أبو محمد صدق أحمد ولله دره وبئس القدوة بشر بن

عتاب المريسي وعبد الرحمن بن كيسان الأصم ولعمري إنهما لمن أول من هجم على هذه الدعوى وهما المرءان يرغب قولهما نا يوسف بن عبد الله النمري نا عبيد الله بن محمد نا الحسن بن سلمون نا عبد الله بن علي بن الجارود نا إسحاق بن منصور قال سمعت إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه وقد ذكر له قول أحمد بن حنبل في مسألة فقال إسحاق أجاد لقد ظننت أن أحدا لا يتابعني عليها فهذا إسحاق لا ينكر القول بما يقع في تقديره أنه لا يتابعه أحد عليه إذا رأى الحق فيما قاله به من ذلك قال أبو إسحاق فهؤلاء الصحابة والتابعون ثم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود كلهم يوجب القول بما أداه إليه اجتهاده أنه الحق وألا يعلم قائلا به قبله فبمن تعلق هؤلاء القوم ليت شعري بل بالمريسي والأصم كما قال أحمد رحمه الله قال أبو محمد ولئن كان ما اشتهر من قول طائفة من الصحابة أو التابعين ولم يعرف له خلاف إجماعا فيما في الأرض أشد خلافا للإجماع ممن قلدوه دينهم مالك والشافعي وأبي حنيفة ولقد أخرجنا لهم مئين من المسائل ليس منها مسألة إلا ولا يعرف أحد قال بذلك القول قبل الذي قاله من هؤلاء الثلاثة فبئس ما وسموا به من قلدوه دينهم وقد ذكر محمد بن جرير الطبري أنه وجد للشافعي أربعمائة مسألة خالف فيها الإجماع وهكذا القول حرفا حرفا في أقوال ابن أبي ليلى وسفيان والأوزاعي وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زيادة وأشهب وابن الماجشون والمزني وأبي ثور وأحمد وإسحاق وداود ومحمد بن جرير ما منهم أحد إلا وقد صحت عنه أقوال في الفتيا لا يعلم أحد من العلماء قالها قبل ذلك القائل ممن سمينا وأكثر ذلك فيما لا شك في انتشاره واشتهاره ثم ليعلموا أن كل فتيا جاءت عن تابع لم يرو عن صاحب في تلك المسألة

قول فإن ذلك التابع قال فيها بقول ولا يعرف أن أحدا قاله فالتابعون على هذا القول الخبيث مخالفون للإجماع كلهم أو أكثرهم ومخالف الإجماع عند هؤلاء الجهال كافر فالتابعون على قولهم كفار ونعوذ بالله العظيم من كل قول أدى إلى هذا واعلموا أن الذي يدعي ويقطع بدعوى الإجماع في مثل هذا فإنه من أجهل الناس بأقوال الناس واختلافهم وحسبنا الله ونعم الوكيل فظهر كذب من ادعى أن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع وبالله تعالى التوفيق وأعجب شيء في الدنيا أنهم يدعون في مثله هذا أنه إجماع ثم يأتون إلى الإجماع الصحيح المقطوع به المتيقن فيخالفونه جهارا وهو أنه لا شك عند أحد من أهل العلم أنه لم يكن قط في عصر الصحابة رضي الله عنهم أحد أتى إلى قول صاحب أكبر منه فأخذ به كله ورد لقوله نصوص القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يحتال لنصره بكل ما أمكنه من حق أو باطل أو مناقضة ثم لا شك عند أحد من أهل العلم في أنه لم يكن قط في عصر التابعين أحد أتى إلى قول تابع أكبر منه أو إلى قول صاحب فأخذ به كله كما ذكرنا ثم لا خلاف بين أحد من أهل العلم في أنه لم يكن في القرن الثالث أحد أتى إلى قول تابع أو قول صاحب فأخذ به كله فهذا الإجماع المقطوع به المتيقن في ثلاثة أعصار متصلة ثم هي الأعصار المحمودة قد خالفها المقلدون الآخذون بأقوال أبي حنيفة فقط أو بأقوال مالك فقط أو بأقوال الشافعي فقط وهو عمل محدث مخالف للإجماع الصحيح فلهذا أعجبوا فهو مكان العجب حقا أن يخالفوا الإجماع المتيقن جهارا ثم يدعون الإجماع حيث لا إجماع ونعوذ بالله العظيم من الضلال

فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافا وأن قول من سواه فيمن خالفهم فيه إجماع

فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافا وأن قول من سواه فيمن خالفهم فيه إجماع قال أبو محمد ذهب محمد بن جرير الطبري إلى أن خلاف الواحد لا يعد خلافا وحكى أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي أن أبا حازم عبد العزيز بن عبد الحميد القاضي الحنفي فسخ الحكم بتوريث بيت المال ما فضل عن ذوي السهام وقال إن زيد بن ثابت لا يعد خلافا على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم قال أبو محمد فيقال لهم ما معنى قولكم لا يعد خلافا أتنفون وجود خلاف فهذا كذب تدفعه المشاهدة والعيان أم تقولون إن الله تعالى أمركم ألا تسموه خلافا أو رسوله صلى الله عليه وسلم أمركم بذلك فهذه شر من الأولى لأنه كذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم أم تقولون إن قليل ذلك الخلاف من الضعة والسقوط في المسلمين إما لفسقه وإما لجهله بحيث لا يكون وجود قوله إلا كعدمه ففي هذا ما فيه إذ ينزلون زيد بن ثابت أو ابن عباس أو غيرهما من التابعين الأئمة في هذه المنزلة ولعمري إن من أنزل عالما من الصحابة رضي الله عنهم أو من التابعين أو من أئمة المسلمين هذه المنزلة لأحق بهذه الصفة وأولى بها ولا يخرج قولكم من إحدى هذه الثلاث قبائح إذ لا رابع لها فإن قالوا إنما قلنا إنه خطأ وشذوذ قلنا قد قدمنا أن كل من خالف أحدا فقد شذ عنه وكل قول خالف الحق فهو شاذ عن الحق فوجب أن كل

خطأ فهو شذوذ عن الحق وكل شذوذ عن الحق فهو خطأ وليس كل خطأ خلافا للإجماع فليس كل شذوذ خلافا للإجماع ولا كل حق إجماعا وإنما نكلمكم ههنا في قولكم ليس خلافا ولكون ما عداه إجماعا فقد ظهر كذب دعواهم وفسادها والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد ووجدناهم احتجوا برواية لا تصح عليكم بالسواد الأعظم ووجدنا من طريق محمد بن عبد السلام الخشني عن المسيب بن واضح عن المعتمر بن سليمان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تجتمع أمة محمد على ضلالة أبدا وعليكم بالسواد الأعظم فإنه من شذ شذ إلى النار قال أبو محمد المسيب بن واضح منكر الحديث لا يحتج به روى المنكرات منها أنه أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ضرب أباه فاقتلوه وهذا لا يعرف ولو صح الخبر المذكور لكان معناه من شذ عن الحق لا يجوز غير ذلك وبما أنبأناه أحمد بن عمر بن أنس العذري نا عبد الله بن الحسين نا عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا أبو قلابة نا وهب بن جرير بن حازم قال سمعت عبد الملك بن عمير يحدث عن جابر بن سمرة قال خطبنا عمر بن الخطاب فقال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كقيامي فيكم فقال من أحب منكم بحبوحة الجنة فليلتزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني إبراهيم بن الحسن نا حجاج بن محمد نا يوسف بن أبي إسحاق عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن الزبير قال قام عمر بن الخطاب أمير المؤمنين على باب الجابية فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كقيامي فيكم فقال يا أيها الناس أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف قبل أن

يستحلف ويشهد قبل أن يستشهد فمن سره أن ينال بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة فإن يد الله فوق الجماعة ولا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما ألا إن الشيطان مع واحد وهو من الاثنين أبعد من سائته سيئته وسرته حسنته فهو المؤمن وبه إلى أحمد بن شعيب نا الربع بن سليمان نا إسحاق بن بكر عن يزيد بن عبد الله عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال إن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كقيامي فيكم فقال أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب فيحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد وبه إلى أحمد بن شعيب نا إسحاق بن إبراهيم وهو ابن راهويه نا جرير هو ابن عبد الحميد عن عبد الملك بن مالك بن عمر عن جابر بن سمرة قال خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب فيحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد وبه إلى أحمد بن شعيب نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه نا جرير هو ابن عبد الحميد عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف على اليمين قبل أن يستحلف ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد عليها فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن

الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد لا يخلو رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان ألا من كان منكم تسوءه سيئته وتسره حسنته فهو مؤمن قال أبو محمد هذا الخبر لم يخرجه أحد ممن اشترط الصحيح ولكنا نتكلم فيه على علاته فنقول وبالله تعالى نتأيد إنه إن صح فإن ما ذكر فيه من الجماعة إنما هي بلا شك جماعة الحق ولو لم يكونوا إلا ثلاثة من الناس وقد أسلمت خديجة رضي الله عنها أم المؤمنين وسائر الناس كفار فكانت على الحق وسائر أهل الأرض على ضلال ثم أسلم زيد بن حارثة وأبو بكر رضي الله عنهم فكانوا بلا شك هم الجماعة وجميع أهل الأرض على الباطل وقد نبىء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فكان على الحق واحدا وجميع أهل الأرض على الباطل والضلال وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن زيد بن عمر بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده قال أبو محمد وذلك لأن زيدا آمن بالله تعالى وحده وجميع أهل الأرض على ضلالة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء قيل ومن هم يا رسول الله قال النزاع من القبائل وقال صلى الله عليه وسلم الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة وقال صلى الله عليه وسلم إن الساعة لا تقوم إلا على من لا خير فيهم نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن عباد وابن أبي عمر كلاهما عن مروان بن معاوية الفزاري عن يزيد بن كيسان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء وبه إلى مسلم

نا الفضل بن سهل نا شبابة به سوار نا عاصم هو ابن محمد العمري عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ نا أحمد بن محمد بن الجسور نا محمد بن أبي دليم أخبرنا ابن وضاح أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء قال النزاع من القبائل وبالسند المتقدم إلى مسلم نا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة على أحد يقول لا إله إلا الله وقال الله عز وجل وذكر أهل الحق فقال {ركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} وقال تعالى {وقال لذي شتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنآ أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في لأرض ولنعلمه من تأويل لأحاديث ولله غالب على أمره ولكن أكثر لناس لا يعلمون} في سورة يوسف وقال تعالى {وإن تطع أكثر من في لأرض يضلوك عن سبيل لله إن يتبعون إلا لظن وإن هم إلا يخرصون} وقال تعالى {ومآ أكثر لناس ولو حرصت بمؤمنين} وكلام الله تعالى حق وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حق والحق لا يتعارض وهذه النصوص التي أوردناها هي قرآن منزل أو أثر في غاية الصحة منقول نقل التواتر وكلاهما في غاية البيان فالأقل في الدين هم أهل الحق وأن أكثر الناس على ضلال وعلى جهل وأن الواحد قد يكون هو المصيب وجميع الناس هم على باطل لا تحتمل هذه النصوص شيئا غير هذا البتة فلو صحت تلك الآثار التي قدمنا لوجب ضرورة أنها ليست في الدين لكن في شيء آخر وبالضرورة تدري أنها ليست على عمومها لأن انفراد الرجل وحده في بيته غير منكر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله

أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده وبرهان كاف قاطع لكل من له أقل فهم في أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد قط بالجماعة المذكورة كثرة العدد لا يشك في ذلك لأن النصارى جماعة واليهود جماعة والمجوس وعباد النار جماعة أفترونه صلى الله عليه وسلم أراد هذه الجماعات حاشا لله من هذا فإن قالوا إنما أراد جميع المسلمين قلنا فإن المنتمين إلى الإسلام فرق فالخوارج جماعة والروافض جماعة والمرجئة جماعة والمعتزلة جماعة أفترونه عليه السلام أراد شيئا من هذه الجماعات حاشا له من ذلك فإن قالوا إنما أراد أهل السنة قلنا أهل السنة فرق فالحنفية جماعة والمالكية جماعة والشافعية جماعة والحنبلية جماعة وأصحاب الحديث الذين لا يتعدونه جماعة فأي هذه الجماعات أراد صلى الله عليه وسلم وليس بعضها أولى بصحة الدعوى من بعض فصح يقينا قطعا كما أن الشمس طالعة من مشرقها أنه عليه السلام لم يرد قط إلا جماعة أهل الحق وهم المتبعون للقرآن ولما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من بيانه للقرآن بقوله وفعله وهذه هي طريق جميع الصحابة رضي الله عنهم وخيار التابعين من بعدهم حتى حدث التقليد المهلك فإذا لا شك في كل هذا وقد بينا أن أمره عليه السلام بلزوم الجماعة إنما أراد يقينا أهل الحق وإن كانوا أقل من أهل الباطل بلا شك لم يرد كثرة العدد قط فلنتكلم بعون الله تعالى وقوته على ما في تلك الآثار من أن الشيطان مع الفذ أو الواحد وهو من الاثنين أبعد وقد أوضحنا بما لا إشكال فيه أنه عليه السلام لم يرد بذلك الدين بما لو أوردنا آنفا من النصوص وببرهان آخر وهو قوله وهو من الاثنين أبعد فلو أراد الدين لكان المنفرد بقوله مصاحبا للشيطان فإن استضاف إليه آخر بعد عنه الشيطان فعاد الباطل

حقا بدخول إنسان فيه وهذا باطل متيقن ليست هذه صفة الدين بل الباطل باطل وإن دخل فيه آلاف فصح بلا شك أنه لم يرد الدين ولا عموم التوحيد بكل حال فقد صح أنه إنما عنى خاصا من الأحوال بلا شك فإذا ذلك كذلك فلا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد حال كذلك إلا بنص صحيح عنه بذلك وإن الناسب إليه صلى الله عليه وسلم ما لم يقل كاذب عليه وقد أخبر عليه السلام أنه من كذب عليه فليتبوأ مقعده من النار فإذا كان الأمر كما قلنا يقينا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي أن يسافر المرء وحده وفي تلك الأخبار أنفسها لا ينفرد رجل مع امرأة فإن الشيطان ثالثهما فنحن على يقين من أنه ههنا نهي عن الوحدة وأن الشيطان ههنا مع الواحد فإن كان اثنين فقد خرج عن النهي وبعد الشيطان عنهما فبطل التعلق بتلك الآثار فيما ذهب إليه من ذهب وأن خلاف الواحد لا يعد خلافا واعلموا أنه لا يمكن البتة للحنفيين ولا المالكيين ولا الشافعيين أن يحتجوا بشيء من ذلك الأثر لأن خلاف الواحد عندهم خلاف إلا من شذ منهم من مذاهب أصحابه وقد قلنا إننا أخرجنا لكل واحد من أبي بكر ومالك والشافعي مئين من المسائل انفرد كل واحد منهم بقوله فيها عن أن يعرف أحد قبله قاله بذلك القول وبرهان ضروري أيضا هو أنه قد بينا أن له لو صح ذلك القول عن النبي صلى الله عليه وسلم لعلمنا أنه لم يرد بذلك الدين أصلا لأن اليهود والنصارى والمجوس والملحدين ثم الرافضة والمعتزلة والمرجئة والخوارج جماعات عظيمة فالشيطان بعيد عنهم ومجانب لهم لأنهم أكثر من واحد يأبى الله تعالى هذا وتالله ما عش الشيطان ولا بحبوحته إلا فيهم وبلا شك أن أهل الباطل كلما كثروا فإن الشيطان أقوى فيهم منه مع المنفرد

نا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا مؤمل بن إسماعيل البصري نا سفيان الثوري عن عبد الملك بن أبجر عن طلحة بن مصرف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال ربع السودان من لا يلبس الثياب أكثر من جميع الناس فصح بكل هذا يقينا لا مجال للشك فيه أنه لا يرد قط بذلك الدين وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى في تلك الأخبار على أصحابه وعلى قرن التابعين ثم على القرن الثالث فإذا أثنى عليهم فهم الجماعة التي لا ينبغي أن تخالف وكل من خالفهم فهو أهل الباطل ولو كانوا أهل الأرض تلك القرون الثلاثة هي التي لم تقلد أحدا وإنما كانوا يطلبون القرآن والسنن فنحن معهم والحمد لله رب العالمين وكل من قلد إنسانا بعينه فقد خالف الجماعة والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد وقد شغب بعضهم بأن قال لما أجمع نظراء هذا الواحد وعلمنا أنهم مؤمنون يقينا بالجملة وأنهم من الأمة بلا شك ولم نقطع هذا الواحد المخالف لهم بأنه من الأمة وكان واجبا علينا اتباع من نوقن أنهم من الأمة دون من لا نوقن أنه منها قال أبو محمد وهذا خطأ لأن الله تعالى أمرنا عند التنازع بالرد إلى القرآن والسنة بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} ومخالفة الواحد تنازع في المشاهدة والعيان ولم يقل تعالى فردوه إلى الأكثر ولا إلى من لم يخالفهم إلا واحد فصار من رد إلى غير القرآن والسنة عاصيا لله عز وجل مخالفا لأمره وقد حصل لذلك الواحد من ظاهر الإسلام في الحكم كالذي لكل واحد من مخالفيه ولا فرق

قال أبو محمد واحتجوا أيضا بما رويناه من طريق ابن وهب أخبرني أبو فهد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبع الأقلون العلماء الأكثرين قال أبو محمد وهذا مرسل لا خير فيه وباطل بلا شك أول ذلك أنه محال وهو عليه السلام لا يأمر بالمحال لأنه لا يمكن أن يتبع الأقل والأكثر إلا بعد إمكان عد جميعهم وقد بينا أن عد جميعهم لا يمكن البتة بوجه من الوجوه ولا يقدر عليه إلا الخالق وحده لا شريك له ووجه آخر وهو أن الصحابة رضوان الله عنهم قد أصفقوا أثر موت النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتل أهل الردة ولا ينفذ بعث أسامة بن زيد وخالفهم أبو بكر وحده فكان هو المحق وكانوا على الخطأ فإن قالوا قد رجعوا إلى قوله قلنا نعم وهذه حجتنا وإنما سألناكم عن الحال قبل أن يرجعوا إلى قول أبي بكر في ذلك وقد شغب بعضهم بما روي من أن الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب قلنا إنما هذا في نص الخبر نفسه في السفر فقط وإلا فالمصلي النافلة وحده على قولهم شيطان ومصلي الفريضة مع آخر شيطانان وفي هذا ما فيه نعوذ بالله العظيم من البلاء ثم نسألكم هل ذلك الواحد عندكم مخالف للإجماع أم لا فإن قالوا نعم قلنا لهم ومخالف الإجماع عندكم كافر فمن قولهم نعم قلنا لهم فعلى هذا فابن عباس كافر وزيد بن ثابت عندكم كافر إذ أقررتم أنهما خالفا الإجماع وبالله إن نسب ذلك إليهما فهو والله أحق منهما بل هما المؤمنان الفاضلان رضي الله عنهما وإن أبوا من تكفير من خالف هذا النوع من الإجماع تناقضوا وظهر فساد قولهم وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد أخبرنا عبد الرحمن بن خالد الهمداني نا إبراهيم بن أحمد

البلخي حدثنا الفريرى نا البخاري نا عبد العزيز بن عبد الله نا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة قال إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولو آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثا ثم يتلو {إن لذين يكتمون مآ أنزلنا من لبينات ولهدى من بعد ما بيناه للناس في لكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون * إلا لذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} إلى قوله {إن لذين يكتمون مآ أنزلنا من لبينات ولهدى من بعد ما بيناه للناس في لكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون * إلا لذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق وإن إخواننا من الأنصار يشغلهم العمل في أموالهم وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون قال أبو محمد ففي هذا أن الواحد قد يكون عنده من السنن ما ليس عند الجماعة وإذا كان عنده من السنة ما ليس عند غيره فهو المصيب في فتياه بهذا دون غيره قال أبو محمد وبالعيان ندري أن المسلمين أقل من غيرهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود وذكر عليه السلام الصلاة والسلام أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد إلى الجنة ثم بالمشاهدة ندري أن الصالحين والعلماء أقل من الطالحين والجهال وأن هذين الصنفين هم الأكثر والجمهور وبالمشاهدة ندري أن الزكي من العلماء هم أقل منهم بخلاف قول المخالف وقد ذكر في باب إبطال التقليد قول ابن مسعود لا يقول أحدكم أنا مع الناس وذكرنا قبل هذا قول حذيفة كيف أنت إذا سلك القرآن طريقا وسلك

فصل في قول من قال قول الأكثر هو الإجماع ولا يعتد بقول الأقل

الناس طريقا آخر وبينا قبل وبعد أن العرض إنما هو اتباع القرآن وما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا معنى لقول أحد دون ذلك كثر القائلون به أو قلوا وهذا باب ينبغي أن يتقى فقد عظم الضلال به وكثر الهالكون فيه ونعوذ بالله العظيم من البلاء قال أبو محمد وكلامنا هذا كله تطوع منا وإلا فلو اكتفينا من كل ذلك بما نذكره الآن إن شاء الله تعالى وهو أن نقول لهم إن كل من ادعى في أي قولة كانت لا نحاشي قولة من الأقوال أن العلماء كلهم أجمعوا عليها إلا واحدا خالفهم فقط أو إلا اثنين أو إلا ثلاثة أو أي عدد ذكروا فإنه كذاب مفتر آفك قليل الحياء لأنه لا سبيل بوجه من الوجوه إلى معرفة ذلك يقينا ولا إلى القطع به أصلا لما قدمنا من تعذر إحصاء عدد المفتين من المسلمين فوضح أن هذه مسألة فارغة ولا حجة للاشتغال بها أو كثرة من ضل بها فصل في قول من قال قول الأكثر هو الإجماع ولا يعتد بقول الأقل قال أبو محمد في الباب الذي قبل هذا نقض هذه المقالة وفيه ذكرنا كل ما يمكن أن يشغبوا به فأغنى عن إعادته إلا أن هنا سؤالا رائدا وهو أن نقول لهم قلتم المحال وأتيتم في دينكم الباطل والذي لا يمكن وجوده وذلك إلى أنه لا سبيل إلى توفية حكمهم هذا حقه إلا إحصاء عدد جميع من تكلم في تلك المسألة من صاحب وتابع فمن بعدهم ثم يعرف الأثر ولو بواحد وهذا مع أنه محال فهو حمق وقول بلا برهان وأيضا فما الفرق بينكم وبين من قال قول الطائفة التي هي أفضل وأشهر في العلم

فصل في إبطال قول من قال الإجماع هو إجماع أهل المدينة

أولى وإن كانوا أقل عددا فحصل التعارض وبطل القولان لأنهم بلا دليل وبالله تعالى التوفيق فصل في إبطال قول من قال الإجماع هو إجماع أهل المدينة قال أبو محمد هذا قول لهج به المالكيون قديما وحديثا وهو في غاية الفساد واحتجوا في ذلك بأخبار منها صحاح ادعوا فيها أنها تدل على أن المدينة أفضل البلاد ومنها مكذوب موضوع في رواية محمد بن الحسن بن زبالة وغيره ليس هذا مكان ذكرها لأن كلامنا في هذا الكتاب إنما هو على الأصول الجامعة لقضايا الأحكام لا لبيان أفضل البلاد وقد تقصينا تلك الأخبار في كتابنا المعروف بالإيصال في آخر كتاب الحج منه وتكلمنا على بيان سقوط ما سقط منها ووجه ما صح منها بغاية البيان والحمد لله رب العالمين وبجمع ذلك أنهم قالوا المدينة مهبط الوحي ودار الهجرة ومجتمع الصحابة ومحل سكنى النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامها فأهلها أعلم بذلك ممن سواهم وهم شهداء آخر العمل من النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوا ما نسخ وما لم ينسخ ثم اختلفوا فقالت طائفة منهم إنما إجماعهم إجماع وحجة فيما كان من جهة النقل فقط وقالت طائفة منهم إجماعهم إجماع وحجة من جهة النقل كان أو من جهة الاجتهاد لأنهم أعلم بالنصوص التي منها يستنبط وعليها يقاس فإذا هم أعلم بذلك فاستنباطهم وقياسهم أصح من قياس غيرهم واستنباط

غيرهم وقالوا من المحال أن يخفى حكم النبي صلى الله عليه وسلم على الأكثر وهم الذين بقوا بالمدينة ويعرفه الأقل وهم الخارجون عن المدينة مع شغلهم بالجهاد وذكروا قول عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم إذ أراد أن يقوم بالموسم الذي بلغه من قول القائل لو قد مات عمر لقد بايعنا فلانا فقال عمر لأقومن بالعشية فلأحذرن الناس من هؤلاء الرهط يريدون يغصبونهم فقال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس ويغلبون على مجلسك فأخاف ألا ينزلوها على وجهها فيطيروا بها كل مطير فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة فتخلو بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ويحفظون مقالتك وينزلوها على وجهها نا بهذا عبد الرحمن بن عبد الله نا إبراهيم بن أحمد حدثنا الفربري نا البخاري نا موسى بن إسماعيل نا عبد الواحد نا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عتبة قال حدثني ابن عباس قال قال لي عبد الرحمن بن عوف لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل فقال له إن فلانا يقول لو قد مات عمر فبايعنا فلانا ثم ذكر نصه كما أوردنا قال أبو محمد هذا كل ما شغبوا به وكله لا حجة لهم في شيء منه على ما تبين إن شاء الله عز وجل أما دعواهم أن المدينة أفضل البلاد فدعوى قد بينا إبطالها في غير هذا المكان وبينا أن مكة أفضل البلاد بنص القرآن والسنن الثابتة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم وليس هذا مكان الكلام في ذلك لكن نقول لهم هبكم أنه كما تقولون وليس كذلك فأي برهان في كونها أفضل البلاد على أن إجماع أهلها هو الإجماع ألا يستحي من يدري أن كلامه مكتوب

وأنه محاسب به بين يدي الله عز وجل من أن يموه هذا التمويه البارد ونحن نقول إن مكة أفضل البلاد وليس ذلك بموجب اتباع أهلها دون غيرهم ولا أن إجماعهم دون إجماع غيرهم ولا أنهم حجة على غيرهم إذ ليس فضل البقعة موجبا لشيء من ذلك وأيضا فإنه لا يختلف مسلمان في أنه قد كان في المدينة منافقون وهم شر الخلق قال تعالى {وممن حولكم من لأعراب منافقون ومن أهل لمدينة مردوا على لنفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وقال تعالى {إن لمنافقين في لدرك لأسفل من لنار ولن تجد لهم نصيرا} وكان فيها فساق كما في سائر البلاد وزناة وكذابون وشربة خمر وقذفة كما في سائر البلاد ولا فرق وأهلها اليوم وإنا لله وإنا إليه راجعون غلاة الروافض الكفرة أفترون لهؤلاء فضلا يوجب اتباعهم من أجل سكناهم المدينة فمن قولهم لا لكن إنما توجب الحجة بالفضلاء من أهل المدينة قلنا لهم ومن أين خصصتم فضلاء المدينة دون فضلاء غيرهم من البلاد وهذا ما لا سبيل إلى وجود برهان على صحته أبدا وأيضا فالمدينة فضلها باق بحسبه كما كان لم يتغير ولايتغير أبدا وأهلها أفسق الناس فقد بطل أن تكون للبقعة حكم في وجوب اتباع أهلها وصح أن الفاضل فاضل حيث كان والفاسق فاسق حيث كان وأما قولهم إن أهل المدينة أعلم بأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن سواهم فهو كذب وباطل وإنما الحق أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم العالمون بأحكامه صلى الله عليه وسلم سواء بقي منهم من بقي بالمدينة أو خرج منهم من خرج لم يزد الباقي بالمدينة بقاؤه فيها درجة في علمه وفضله ولا حظ الخارج منهم عن المدينة خروجه عنها درجة من علمه وفضله وأما قولهم إنهم شهدوا آخر حكمه صلى الله عليه وسلم وعلموا ما نسخ مما لم ينسخ فتمويه فاحش وكذب ظاهر بل الخارجون من الصحابة عن المدينة

شهدوا من ذلك كالذي شهده المقيم بها منهم سواء كعلي وابن مسعود وأنس وغيرهم ولا فرق والكذب عار في الدنيا ونار في الآخرة فظهر فساد كل ما موهوا به وبنوه على هذا الأصل الفاسد وأسموه بهذا الأساس المنهار وأما قولهم إن من المحال أن يخفى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأكثر وهم الباقون بالمدينة وبعلمه الأقل وهم الخارجون عن المدينة فتمويه ظاهر وشغب غث وإنما كان ممكن أن يموهوا بذلك لو وجدوا مسألة رويت من طريق كل من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم وأفتى بها كل من بقي بالمدينة من الصحابة وأما ولا يجدوا هذا أبدا ولا في مسألة واحدة وإنما وجد فتيا الواحد والاثنين والثلاثة ونحو ذلك وروايتهم كذلك فممكن أن يغيب حكم النبي صلى الله عليه وسلم عن النفر من الصحابة وبعلمه الواحد والأكثر منهم وقد يمكن أن يكون الذي حضر ذلك الحكم يخرج عن المدينة ويمكن أن يبقى بها ويمكن خلاف ذلك أيضا ولا فرق وإنما تفرق الصحابة في البلاد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وأما قول عبد الرحمن لعمر الذي ذكرنا في تأخير الأمر حتى يقدم المدينة فيخلو بوجوه الناس وأهل الفقه وأهل العلم فوالله ما أدرك مالك من هؤلائك أحدا وإنما أخذ عنهم كما فعل أهل الأمصار سواء ولا فرق وأيضا فما كل قول قاله عبد الرحمن ووافقه عليه عمر رضي الله عنه حجة وقد علم جميع أهل الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخطب الخطبة التي عهد فيها إلى الناس وجعلها كالوداع لهم وقررهم ألا هل بلغت وأشهد الله تعالى عليهم إلا في الموسم أحفل ما كان في الأعراب وغيرهم ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من رأي رآه عبد الرحمن وعمر رضي الله عنهما وبرهان ذلك أنه لو سلك الأئمة هذا الرأي ما تعلم

جاهل شيئا أبدا فصح أنه لا بد من مخاطبة الرعاع والجهال بما يلزم علمه والعجب كله أنهم يموهون إجماع أهل المدينة ثم لا يحصلون إلا على رأي مالك وحده ولا يأخذون بسواه وهم أترك الناس لأقوال أهل المدينة كعمر وابن عمر وعائشة وعثمان ثم سعيد بن المسيب والقاسم وغيرهم ومن عجائب الدنيا التي لا نظير لها أن يتهالكوا على تقاليد رأي ابن القاسم المصري وسحنون التنوفي من إفريقية لأن ابن القاسم أخذ عن مالك ولأن سحنون أخذ عن ابن القاسم المصري عن مالك ولا يرون لأخذ مسروق والأسود وعلقمة عن عائشة أم المؤمنين وعن عمر وعثمان رضي الله عنهما وجها ولا معنى ثم لا يستحيون مع هذا من أهل التمويه بأهل المدينة وإنما ذكرنا من أخذ عن هؤلاء المدنيين تنكيتا لهم وكشفا لتناقضهم وهم أترك خلق الله لإجماع أهل المدينة أجمعوا كلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على إعطاء أموالهم التي قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مفتتحي خيبر إلى اليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم يقرونهم ما أقرهم الله تعالى ويخرجونهم متى شاؤوا وبقي كذلك إلى أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة أربعة أعوام ثم مدة أبي بكر رضي الله عنه إلى آخر عام من خلافة عمر رضي الله عنه فقال المدعون إنهم على مذهب أهل المدينة هذا عقد فاسد وعمل باطل مفسوخ تقليدا لخطأ مالك حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور نا وهب بن ميسرة نا ابن وضاح بن يحيى نا مالك عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن حاتم نا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال نحرنا يومئذ تسعين بدنة اشتركنا

كل سبعة في بدنة فهذا إجماع أهل المدينة حقا وعملهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة حقا فقال هؤلاء المنتسبون إلى اتباع أهل المدينة هذا عمل لا يجوز ولا يجزىء تقليدا لخطأ مالك وخلافا لأهل المدينة وتمويها برواية عن ابن عمر قد جاء عنه خلافها وتركوا عمل أهل المدينة كل من حضر منهم مع عمر في سجوده في {إذا لسمآء نشقت} وسجودهم مع عمر إذ قرأ السجدة وهو يخطب يوم الجمعة فنزل عن المنبر فسجد وسجدوا معه ثم رجع إلى خطبته فقال هؤلاء المنتمون إلى اتباع أهل المدينة هذا لا يجوز تقليدا لخطأ مالك في ذلك ولا سبيل إلى أن يوجد عمل لأهل المدينة أعم من هذا وتركوا إجماع أهل المدينة إذ صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر صلاة صلاها بالناس فقالوا هذه صلاة فاسدة تقليدا لخطأ مالك في ذلك والعجب احتجاجهم كلهم في ترك إجماع أهل المدينة على هذا وعملهم برواية الجعفي الكذاب الكوفي عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يؤمن أحد بعدي جالسا وهذه رواية ليس في رواية أهل المدينة أنتن منها فهل في العجب أكثر من هذا وهم يقولون إن إجماع أهل الكوفة هو الإجماع فإن روايات أهل الكوفة الصحاح مدخولة حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرنا أبو أيوب بن محمد الوزان نا عمرو بن أيوب نا أفلح بن حميد نا محمد بن حميد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن سليمان بن عبد الملك عام حج جمع

ناسا من أهل العلم فيهم عمر بن عبد وخارجة بن زيد بن ثابت والقاسم بن محمد وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر وابن شهاب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة فكلهم أمره بالطيب وقال القاسم أخبرتني عائشة أنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله حين حل قبل أن يطوف بالبيت ولم يختلف عليه أحد منهم إلا أن عبد الله بن عبد الله قال كان عبد الله رجلا حادا محدا كان يرمي الجمرة ثم يذبح ثم يحلق ثم يركب فيفيض قبل أن يأتي منزله قال سالم صدق فهذه فتيا أهل المدينة وفقهائها عن سلفهم فقال هؤلاء المدعون إنهم يتبعون أهل المدينة لا يجوز ذلك تقليدا لخطأ مالك واحتجوا برواية كوفية ليست موافقة لقولهم أيضا لكن موهوا بإيرادها وذكر قيس بن مسلم عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وعامل عمر بن الخطاب الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر فله الشطر وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا وكذا ورأى ذلك الزهري قال أبو محمد فهل يكون عمل يمكن أن يقال إنه إجماع أظهر من هذا أو أفشى منه فقال هؤلاء المموهون باتباع أهل المدينة هذا لا يحل ولا يجوز تقليدا لخطأ مالك في ذلك والعجب أن مالكا لم يدع إجماع أهل المدينة إلا في نيف وأربعين مسألة فاستحل هؤلاء القدر بنفحة وقمحوا جميع آرائه في إجماع أهل المدينة وإنا لله وإنا إليه راجعون على فشو

الكذب واختداع أهل الغفلة والاغترار بالباطل ثم إن المسائل المذكورة التي ذكر مالك أنها إجماع أهل المدينة تنقسم قسمين أحدهما لا يعلم فيه خلاف من أحد من الناس في سائر الأمصار وهو الأقل والثاني قد وجدنا فيه الخلاف كما هو موجود في غير المدينة قال أبو محمد ونقول لهم لا يخلو ما ادعيتموه من إجماع أهل المدينة من أن يكون عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يكون عن اجتهاد وقد تقدم إبطالنا لكل اجتهاد أدى إلى ما لا نص فيه أو إلى خلاف النص ثم لو صح لهم فمن أين جاز أن يكون اجتهاد أهل المدينة أولى من غيرهم والنصوص التي يقيسون عليها معروفة عند غيرهم كما هي عندهم إذ كتمانها محال غير ممكن ولا فرق بين دعواهم هذه ودعوى غيرهم أو يكون إجماعهم عن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق إلا هذا الوجه فلا يخلو ذلك التوقيف من أن يكون علمه الخارجون من المدينة من الصحابة أو جهلوه أو علمه من علمه من أهل المدينة سائر الناس أو كتموه فإن كان علمه الخارجون من المدينة من الصحابة أو علمه من علمه ممن بقي في المدينة من سائر الناس فقد استوى في العلم به أهل المدينة وغيرهم ضرورة وإن كان من بقي في المدينة كتمه عن سائر أهل البلاد فهذا محال غير ممكن لأن كل سر جاوز اثنين شائع فكيف ما علمه جميع أهل المدينة بزعمهم وحتى لو صح أنهم كتموه لسقطت عدالتهم قال الله عز وجل {إن لذين يكتمون مآ أنزلنا من لبينات ولهدى من بعد ما بيناه للناس في لكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون} ولقد أعاذهم الله من هذا فبطل ضرورة ما ادعوه من إجماع أهل المدينة

وأيضا فإن الإجماع لا يصح نقله إلا بإجماع مثله أو بنقل تواتر وهم لا يرجعون في دعواهم الكاذبة لإجماع أهل المدينة إلا إلى إنسان واحد وهو مالك فهو نقل واحد كنقل غيره من العلماء ولا فرق وأيضا فيقال لهم أخبرونا هل خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغ أحكام الدين أو بعضها أو حكم واحد منها المقيمين بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم عمن علم الله عز وجل أنهم سيخرجون عن المدينة فإن قالوا نعم كفروا وكذبوا إذ جعلوه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الدين عمن يلزمه من علم الديانة كالذي يلزم غيره وصاروا إلى أقوال الروافض من كثب وإن قالوا لا ثبت أن السنن هي بيان الدين في غير المدينة كما هي في المدينة ضرورة ولا فرق وأيضا فإن من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجاهدون ويحجون ومن خرج عن المدينة منهم كانوا يفدون على عمر وعثمان فقد وجب التداخل بينهم وهكذا صحت الآثار بنقل التابعين من سائر الأمصار عن أهل المدينة وبنقل التابعين من أهل المدينة ومن بعدهم عن أهل الأمصار فقد صحب علقمة ومسروق عمر وعثمان وعائشة أم المؤمنين واختصوا بهم وأكثروا الأخذ عنهم وكذلك صحب عطاء عائشة أم المؤمنين وصحب الشعبي وابن سيرين بن عمر وصحب قتادة بن المسيب وأخذ الزهري عن أنس وأخذ مالك عن أيوب وحميد المكي وأخذ عبيد الله بن عمر عن ثابت البناني وأخذ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس وأخبرني يوسف بن عبد الله النمري قال نا عبد الوارث بن حسرون نا قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير بن حرب نا أحمد بن حنبل نا عبد الرحمن بن مهدي سمعت مالك بن أنس يقول قال سعيد بن المسيب إن كنت لأسير الأيام والليالي

في طلب الحديث الواحد فاستوى الأمر في المدينة وغيرها بلا شك وأيضا فنقول لهم هل تعمد عمر وعثمان رضي الله عنهما أن يبعثا من يعلم أهل البصرة والكوفة والشام ومصر دينهم وأحكامهم أم أغفلا ذلك وضيعاه وعمالهما يترددون على هذه البلاد ووفود هذه البلاد يفدون عليهما كل عام أم لم يتركا ذلك بل علماهم كل ما يجب علمه من الدين ولا بد من أحد هذه الأقسام فإن قالوا تعمدنا كتمان الدين عنهم أو ضيعوا ذلك كذبوا جهارا ونسبوا الخليفتين الفاضلين إلى ما قد نزههما الله تعالى عنه مما هو أعظم الجور وأشد الفسق بل هو الانسلاخ من الإسلام وإن قالوا ما تركا ذلك علماهم كل ما يجب علمه والعمل به من الدين قلنا صدقتم وقد ثبت بهذا أن أهل المدينة وغيرهم سواء في المعرفة والعلم والعدالة وظهر فساد دعواهم الكاذبة في دعوى إجماع أهل المدينة أنبأنا محمد بن سعيد بن بنات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر غندر نا شعبة نا أبو إسحاق السبيعي قال سمعت حارثة بن مضرب قال قرأت كتاب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة إني بعثت عليكم عمارا أميرا وعبد الله معلما ووزيرا وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر فخذوا عنهما واقتدوا بهما فإنني آثرتكم بعبد الله على نفسي إثرة حدثني أحمد بن عمر بن أنس العدوي نا عبد الله بن الحسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن محمد بن الجهم نا إسماعيل بن إسحاق القاضي نا أحمد بن يونس نا قيس بن أشعث عن الشعبي قال ما جاءك عن عمر فخذ به فإنه كان إذا أراد أمرا استشار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإذا أجمعوا على شيء كتب به فهذا تعليم عمر ما عنده من العلم لأهل الأمصار فصار الأمر في المدينة وغيرها سواء وأيضا فنقول لهم إذا كان إجماع أهل المدينة عندكم هو الإجماع

ومن قولكم إن من خالف الإجماع كافر فتكفرون كل من خالف إجماع أهل المدينة بزعمكم أم لا فإن قالوا نعم لزمهم تكفير ابن مسعود وعلي وكل من روي عنه فتيا مخالفة لما يدعون فيه إجماع أهل المدينة من صاحب أو تابع فمن دونهم وفي هذا ما فيه وإن أبوا من ذلك قلنا لهم كذبتم في الدعوى إن إجماعهم هو الإجماع فارجعوا عن ذلك واقتصروا على أن تقولوا صوابا أو حقا ونحو ذلك قال أبو محمد وأيضا فلا شيء أظهر ولا أشهر ولا أعلن ولا أبين ولا أفشى من الأذان الذي هو كل يوم وليلة خمس مرات برفع الأصوات في مساجد الجماعات في الصوامع المشرفات لا يبقى رجل ولا امرأة ولا صبي ولا عالم ولا جاهل إلا تكرر على سمعه كذلك ولا يستعمله المسافرون كما يستعمله الحاضرون ولا يطول به العهد فينسى وفي المدينة فيه من الاختلاف كالذي خارج المدينة صح عن ابن عمر أن الأذان وتر وروي عنه وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قولهما في الأذان حي على خير العمل نا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن منهال نا حماد بن سلمة نا أيوب السختياني وقتادة كلاهما عن محمد بن سيرين عن ابن عمر أنه مر على مؤذن فقال له أوتر أذانك نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الديري نا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول الأذان ثلاثا ثلاثا وبه إلى عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن رجل عن ابن عمر أنه كان إذا قال في الأذان حي على الفلاح قال حي على خير العمل ومن ادعى أن الصحابة في الكوفة والبصرة ومكة بدلوا الأذان فلكافر مثله أن يدعي ذلك على الصحابة بالمدينة وكلاهما كاذب ملعون وحق صحابة المدينة والكوفة والبصرة جائز واجب فرض سواء على كل مسلم ولا فرق من ادعى ذلك على التابعين

بالكوفة والبصرة فالفاسق مثله أن يدعي على التابعين بالمدينة إذ لا فرق بينهم ومن ادعى ذلك على الولاة بالبصرة والكوفة فلغيره أن ينسب مثل ذلك إلى الولاة بالمدينة فقد وليها من الفساق كالذين ولوا البصرة والكوفة كالحجاج وخالد القسري وطارق وعثمان بن حيان المري وكلهم نافذ أمره في الدماء والأموال والأحكام وموضعهم من الفسق بالدين بحيث لا يخفى فهذا أصل عظيم ثم الزكاة فالزهري يراها في الخضر ومالك لا يراها وابن عمر لا يرى الزكاة مما أنبتت الأرض إلا في البر والشعير والتمر والزيت والسلت ومالك يخالفه ولا شيء بعد الأذان بالصلاة أشهر من عمل الزكاة وابن عمر لا يجيز في زكاة الفطر إلا التمر والشعير ومالك يخالفه وقال ابن عمر وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وأبو سليمان وعبد الرحمن بن عوف والزهري وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عدل الناس بصاع شعير في صدقة الفطر مدين من بر وروي ذلك أيضا عن عمر وعثمان وأسماء بنت أبي بكر فخالفهم مالك فصح أنهم أترك الناس لعمل أهل المدينة وقال بعضهم من خرج عن المدينة اشتغل بالجهاد قلنا لا يشغل الجهاد عن تعليم الدين فقولكم هذا مجاهدة بالباطل وقالوا إن كان ابن مسعود إذا أفتى بفتيا أتى المدينة فيسأل عنها فإن أفتى بخلاف فتياه رجع إلى الكوفة ففسخ ما عمل قال أبو محمد وهذا كذب إنما جاء أنه أفتى بمسألتين فقط فأمر عمر بفسخ ذلك وعمر الخليفة فلم يمكنه خلافه نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن دحيم نا إبراهيم بن حماد قال نا إسماعيل بن إسحاق نا حجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عمرو الشيباني أن

رجلا سأل ابن مسعود عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها أيتزوج أمها قال نعم فتزوجها فولدت له فقدم على عمر فسأله فقال فرق بينهما قال ابن مسعود إنها ولدت قال عمر وإن ولدت عشرا ففرق بينهما قال أبو محمد والخلاف في هذا موجود بالمدينة نا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عنان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال إن طلق الابنة قبل أن يدخل بها تزوج أمها وإن ماتت موتا لم يتزوج أمها نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن دحيم نا إبراهيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا إسماعيل بن أبي أويس نا عبد الرحمن بن أبي الموال عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة أن رجلا من بني ليث يقال له الأجدع تزوج جارية شابة فكان يأتيها فيتحدث مع أمها فهلكت امرأته ولم يدخل بها فخطب أمها وسأل عن ذلك ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من رخص له ومنهم من نهاه قال أبو محمد هذا والمسألة المذكورة منصوصة في القرآن الذي هو عند جميع الناس كما هو عند أهل المدينة لا يمكن أن يدعوا فيها توفيقا حتى خفي عمن هو خارج المدينة لكن من أباح ذلك حمل الأم على حكم الربيبة ومن منع أخذ بظاهر الآية وعمومها وهو الحق فلا مزية ههنا لأهل المدينة على غيرهم أصلا وقد صح أن عمر استفتى ابن مسعود بالبتة وأخذ بقوله وهذا مدني إمام أخذ بقول كوفي وذكر غريبة تضحك الثكالى ويدل على ضعف دين المموه وقلة عقله وهي أنهم ذكروا خبر ابن عمر إذ رأى سعدا وهو يمسح فلم يأخذ بعمله حتى رجع إلى المدينة فسأل أباه قال أبو محمد وهذا عليهم لا لهم لأن ابن عمر مدني وقد خفي عليه حكم

المسح وسعد مدني فلم يأخذ ابن عمر بفعله إلا أن يقولوا إنه لا يجوز أن يؤخذ بقول مدني إلا إذا كان بين جدران المدينة فهذا حمق لا يقوله من لا مسكة له وموهوا بما أنبأنا عبد الله بن الربيع قال نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن المثنى نا خالد بن الحارث نا حميد عن الحسن قال قال ابن عباس وهو أمير البصرة في آخر الشهر أخرجوا زكاة صومكم فنظر الناس بعضهم إلى بعض فقال من هنا من أهل المدينة قوموا فعلموا إخوانكم فإنهم لا يعلمون أن هذه الزكاة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل ذكر أو أنثى حر أو مملوك صاعا من شعير أو تمر أو نصف صاع من قمح قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لوجوه أولها أنه خبر ساقط منقطع أخذه الحسن بلا شك من غير ثقة ذلك لأن الحسن لم يكن بالبصرة أيام ابن عباس أميرا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وإنما نزلها الحسن أيام معاوية لا خلاف في هذا وثانيها أن البصرة بناها عتبة بن غزوان المازني من بني مازن بن منصور أخي سليم بن منصور وهذا بدري من أكابر المهاجرين الأولين الممتحنين في الله تعالى في أول الإسلام سنة أربع عشرة من الهجرة في صدر أيام عمر رضي الله عنه وإنما وليها ابن عباس لعلي في آخر سنة ست وثلاثين بعد يوم الجمل بعد اثنتين وعشرين سنة من بنيانها وسكنها الصحابة والتابعون رضي الله عنهم ووليها أبو موسى الأشعري بعد عتبة بن غزوان والمغيرة بن شعبة وغيرهما أيام عمر وطول أيام عثمان رضي الله عنهما وولي قبض زكاتها أنس بن مالك في تلك الأيام فكيف يدخل في عقل من له مسكة عقل أن مصرا يسكنه عشرات الألوف من المسلمين منهم مئون من الصحابة رضي الله عنهم تداوله الصحابة من قبل عمر وعثمان فلم يكن فيهم أحد يعلمهم زكاة الفطر التي يعلمها النساء والصبيان في كل مدينة وكل قرية لتكررها في كل عام في العيد إثر رمضان حتى بقوا المدة المذكورة ليس فيهم أحد علم ذلك

وأهل المدينة يعرفونها فكيف يكتم مثل هذا والوفود من البصرة يفدون على الخليفتين بالمدينة وتالله إن هذه لمصيبة على عمر وعثمان وأهل المدينة أعظم منها على أهل البصرة إذ تعمدوا ترك تعليمهم أو ضيعوا ذلك وكل ذلك باطل لا يمكن البتة وكذب لا خفاء به ومحال ممتنع لما ذكرنا وثالثها أن المحتجين بهذا الخبر وهم المقلدون لمالك أول مبطل لحكم هذا الخبر فلا يرون ما فيه من نصف صاع قمح مكان صاع شعير في زكاة الفطر أفليس من الرزايا والفضائح والبلايا والقبائح من يموه بخبر يحتج به فيما ليس فيه منه شيء على من لا يراه حجة لو صح لأنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم المحتج به أول مخالف لما احتج به وأول مبطل ومكذب لما فيه مما لو صح ذلك الخبر لما حل لأحد خلافه لأنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله العظيم من مثل هذا المقال في الدنيا والآخرة وإذ قد صححوا ههنا رواية الحسن عن ابن عباس فقد نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا محمد بن أيوب الرقي نا أحمد بن عروة بن عبد الخالق البزار نا محمد بن المثنى نا يزيد بن هارون نا حميد الطويل عن الحسن البصري قال خطبنا ابن عباس بالبصرة فقال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الصغير والكبير والحر والعبد صاع من تمر أو صاع من شعير أو بنصف صاع من بر ومن أتى بدقيق قبل منه ومن أتى بسويق قبل منه وهم أول عاص لما في هذا الخبر فيا للناس مرة يصححون رواية الحسن عن ابن عباس إذا ظنوا أنهم يموهون به في إثبات باطل دعواهم ومرة يبطلونهم ويكذبونها إذا خالفت رأي مالك فيزورون شاهدهم ويكذبون أنفسهم ألا ذلك هو الضلال المبين قال أبو محمد وهذا خبر رواه ابن سيرين وأبو رجاء عن ابن عباس وهما حاضران لولايته فلم يذكروا فيه ما ذكر ابن عباس من القول يا أهل المدينة قوموا علموا إخوانكم فصح أنها زيادة من لا خير فيه

قال أبو محمد فبطل كل ما موهوا به ونحن ولله الحمد على ثقة من أن الله لو أراد أن يجعل إجماع أهل المدينة حجة لما أغفل أن يعين ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا لم يفعل فنحن نثبت بأنه لم يجعل قط إجماعهم حجة على أحد من خلقه هذا لو صح وجود إجماع لهم في شيء من الأحكام فكيف ولا سبيل إلى وجود ذلك أبدا إلا حيث يجمع سائر أهل الإسلام عليه أو حيث نقل إجماعهم كلهم ورضاهم بذلك الحكم وتسليمهم لهم وإلا فدعوى إجماعهم كذب بحت على جميعهم ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا قال أبو محمد وهذا مالك يقول في موطئه الذي رويناه عنه من طرق في كتاب البيوع منه في أوله في باب ترجمته العيب في الرقيق قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا فيمن باع عبدا أو وليدة أو حيوانا بالبراءة فقد برىء من كل عيب إلا أن يكون علم في ذلك عيبا فكتمه فإن كان علم في ذلك عيبا فكتمه لم تنفعه تبرئته وكان ما باع مردودا عليه قال أبو محمد والذي عليه العمل عند أصحابه ومقلديه من قوله هو أن حكم الحيوان مخالف لحكم الرقيق وأن بيع البراءة لا يجوز البتة في الحيوان لكنه كالعروض لا يبرأ من عيب فيه علمه أو لم يعلمه قال أبو محمد فإذا كان عند هؤلاء المجرمين إجماع أهل المدينة إجماعا لا يحل خلافه وهذا مالك ههنا قد خالف ما ذكر أنه الأمر المجتمع عليه عندهم فلا بد ضرورة من أحد حكمين لا ثالث لهما أما إبطال تهويلهم بإجماع أهل المدينة وبخلافه وجواز مخالفته وإما أن يلحقوا بمالك الذي قلدوه دينهم ما يلحق مخالف الإجماع الذي يقر أنه إجماع وهذا صعب ممن خالف ما يقر أنه إجماع وفي هذا كفاية لمن له أدنى عقل ومن أراد الله تعالى توفيقه قال أبو محمد والقوم كما ترى يموهون بإجماع أهل المدينة فإن حقق عليهم لم يحصلوا من جميع أهل المدينة ومن إجماعهم إلا على ما انفرد به سحنون

فصل فيمن قال إن الإجماع هو إجماع أهل الكوفة

القيرواني وعيسى بن دينار الأندلسي عن ابن القاسم المصري عن مالك وحده من رأيه وظنه وكثير من ذلك رأي ابن القاسم واستحسانه وقياسه على أقوال مالك فاعجبوا لهذه الأمور القبيحة كيف يستحسنها ذو ورع أو من يدري أن الله سيسأله عن قوله وفعله ونعوذ بالله العظيم من الخذلان فإن موهوا بما روي من عمل قضاة المدينة الذين أدرك مالك فليعلم كل ذي فهم أن النازلة كانت تقع في المدينة وغيرها فلا يقضي فيها الأمير ولا القاضي حتى يخاطب الخليفة بالشام ثم لا ينفذ إلا من خاطبه به فإنما هي أوامر عبد الله والوليد وسليمان ويزيد وهشام والوليد بحسبكم والقليل من ذلك من عهد عمر بن عبد العزيز أقصر مدته هذا أمر مشهور في كتب الأحاديث فصل فيمن قال إن الإجماع هو إجماع أهل الكوفة قال أبو محمد إنما نتكلم بما يمكن أن يموه قائله بشغب يخفى على الجهال أو فيما يمكن أن يخفى وجه الحق فيه على بعض أهل العلم لخفاء الدلائل أو لتعارضها وإما ما لا شبه فيه غير الأحموقة والعصبية فلا ولا فرق بين إجماع أهل الكوفة وإجماع أهل البصرة وإجماع أهل الفسطاط هذا إن أرادوا إجماع من كان بها من الصحابة أو من بعدهم من التابعين أو على أن يسمح لهم في العصر الثالث وأما إن نزلنا عن ذلك فلا فرق بين أهل الكوفة وأهل أوقانية وأهل أوطانية وفساونسا ولو أن امرأ نصح نفسه فأقصر

فصل في إبطال قول من قال إن قول الواحد من الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع وإن ظهر خلافه في العصر الثاني

عن التلبيس في الدين وإضلال المساكين المغترين وشغل نفسه بالقرآن كلام الله تعالى وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم افترض الله تعالى علينا طاعته وترك التعصب لقول فلان وفلان كان أسلم لمعاده وأبعد له من الفضيحة في العاجلة وما توفيقنا إلا بالله تعالى فصل في إبطال قول من قال إن قول الواحد من الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع وإن ظهر خلافه في العصر الثاني قال أبو محمد قال بهذا طوائف من المالكيين والحنفيين ثم أقحم هذا الشغب معهم الشافعيون ثم اختلفوا فقالت طائفة سواء انتشر أو لم ينتشر فهو إجماع وقالت طائفة إنما يكون إجماعا إذا اشتهر وانتشر وأما إذا لم يشتهر ولا انتشر فلا يكون إجماعا وقالت طائفة إنما يكون إجماعا إذا كان من قول أحد الأئمة الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فقط وانتشر مع ذلك وإلا فليس إجماعا وإن كان من قول غيرهم فلا يكون حجة وإن انتشر وقالت طائفة ليس شيء من ذلك إجماعا ولكنه حجة قال أبو محمد فإنما قال من قال منهم هذه الأقوال عند ظفره بشيء منها مع انقطاع الحبل بيده وعدمه شيئا ينصر به خطأه وتقليده ثم هم أترك الناس لذلك إذا خالف تقليدهم لا مؤنة عليهم في إبطال ما صححوا وتصحيح ما أبطلوا في الوقت إنما حسب أحدهم نصر المسأل بينه وبين خصمه في حينه ذلك فإذا انتقلا إلى أخرى فأخف شيء على كل واحد منهم تصحيح ما أبطل في المسألة التي انقضى الكلام وإبطال ما صحح فيها فقد ذكر الأجهري محمد بن صالح المالكي عن ابن بكير وكل واحد منهم من جملة مذهب مالك

ومقلديه أنه كانت أصوله مبنية على فروعه إذا خرج قوله في مسألة على العموم قال من قولي العموم وإذا خرج قوله في أخرى على الخصوص قال من قولي الخصوص ولقد رأيت لعبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي في كتابه المعروف بشرح الرسالة في باب من يعتق على المرء إذا ملكه فذكر قول داود لا يعتق أحد على أحد وذكر قول أبي حنيفة يعتق كل ذي رحم محرم فقال من حجتنا على داود قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من ملك ذا رحم محرم فهو حر وهذا نص جلي ثم صار إلى قول أبي حنيفة بعد ستة أسطار فقال فإن احتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من ملك ذا رحم محرم فهو حر قلنا هذا خبر لا يصح ولا أحصي كم وجدت للحنفيين والمالكيين والشافعيين تصحيح رواية ابن لهيعة وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا كان فيها ما يوافق تقليدهم في مسألتهم تلك ثم ربما أتى بعدها بصفحة أو ورقة أو أوراق احتجاج خصمهم عليهم برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أو برواية ابن لهيعة فيقولون هذه صحيفة وابن لهيعة ضعيف قال أبو محمد وهذا فعل من لا يتقي الله عز وجل ومن عمله يوجب سوء الظن بباطن معتقده ونعوذ بالله من الخذلان قال الله تعالى {إنما لنسيء زيادة في لكفر يضل به لذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم لله فيحلوا ما حرم لله زين لهم سوء أعمالهم ولله لا يهدي لقوم لكافرين} وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند لله أن تقولوا ما لا تفعلون} وقال تعالى {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بلإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض لكتاب وتكفرون ببعض فما جزآء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في لحياة لدنيا ويوم لقيامة يردون إلى أشد لعذاب وما لله بغافل عما تعملون} فأنكر الله تعالى على من صحح شيئا مرة ثم أبطله أخرى مع أن أقوالهم التي ذكرنا في هذا الباب دعاوى فاسدة بلا برهان ولا استدلال أصلا إلا ما تقدم إفسادنا له من قولهم إنهم لا يقرون على باطل فقلنا لهم ومن لكم بأنهم لم ينكروا ذلك وسائر ما ذكرنا هنالك وقد كتبنا في مناقضتهم في هذا الباب وغيره كتابا ضخما تقصينا فيه عظيم تناقضهم وفاحش تضاد حجاجهم وأقوالهم ونذكر هنا إن شاء الله تعالى يسيرا دالا على الكثير إذ لو جمع

تناقضهم لأتى منه ديوان أكبر من ديواننا هذا كله نعم وقد تعدوا عقدهم الفاسد في هذا الباب إلى أن قلدوا قول صاحب قد خالفه غيره من الصحابة في قولهم ذلك أو قد صح رجوع ذلك الصاحب عن ذلك القول فاحتجوا به وادعوا إجماعا فمن ذلك احتجاج المالكيين في التحريم على الناكح جاهلا في العدة يدخل بها أن يتزوجها أبدا احتجاجا بما روي عن عمر في ذلك وقد صح عن علي خلافه وصح رجوع عمر عن القول وكتعلقهم بما روي عن عمر في امرأة المفقودة وقد خالفه عثمان وعلي في ذلك وكتعليق الحنفيين بما روي عن ابن مسعود في جعل الآبق وخالفوه في تلك القضية نفسها في تحديد المسافة وكتوريثهم المطلقة ثلاثا في المرض تعلقا بعمر وعثمان وقد خالفهما ابن عباس وابن الزبير وقد اختلف عمر وعثمان في ذلك أيضا وكخلاف المالكيين والشافعيين عمر بن الخطاب وتقليد الحنفيين له فيما صح عنه من طريق الشعبي عن شريح أنه كتب إليه أن يحكم في غير الدابة بربع ثمنها وكتقليد المالكيين والحنفيين له في جلده في الخمر أربعين وخالفه الشافعيون في ذلك وقد صح عن عمر وعثمان وعلي وأبي بكر جلد أربعين في الخمر وكتقليد المالكيين والحنفيين لعائشة أم المؤمنين في ما لم يصح عنها في إنكارها بيع شيء إلى أجل ثم يبتاعه البائع له بأقل من ذلك الثمن وخالفها الشافعي في ذلك وخالفها فيه أيضا زيد بن أرقم وكتقليدهم عمر في أجل العنين وقد خالفه في ذلك علي ومعاوية والمغيرة بن شعبة وكتقليد الحنفيين والمالكيين عمر في تقويم الدية بالذهب والفضة وخالفه الشافعي وخالفه الحنفيون والمالكيون أيضا في تقويم الدية بالبقر والغنم والحلل وكتقليد المالكيين والحنفيين ما روي عن أبي بكر وعمر وعثمان في حيازة الهبات وقد خالفهم ابن مسعود وروي الخلاف في ذلك عن أبي بكر

وكتقليد المالكيين والشافعيين لعمر في رد المنكوحة بالعيوب وخالفوه في الرجوع بالصداق وخالفه في ذلك علي وغيره وكخلاف المالكيين والشافعيين عمر وابن مسعود في قولهما من ملك ذار رحم محرم فهو حر ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة في ذلك وكخلاف المالكيين والزبير وقدامة بن مظعون وأبا الدرداء وابن مسعود في إباحة نكاح المريض ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف وكمخالفة الحنفيين والمالكيين أبا بكر وعمر وخالد بن الوليد وابن الزبير وعثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم في القود من اللطمة وكسر الفخذ لا يعرف لهم من الصحابة مخالف كخلافهم في إضعاف القيمة في ناقة المزني ولا يعرف من الصحابة مخالف في ذلك وكخلافهم عمر في قضائه في الترقوة بحمل وفي ضلع بحمل ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة ومثل هذا لهم كثير جدا جاوز المئين من القضايا قد جمعناها والحمد لله في كتابنا الموسوم بكتاب الإعراب عن الحيرة والالتباس الموجودين في مذاهب أهل الرأي والقياس قال أبو محمد وأما قول من قال منهم إذا كان ذلك من فعل الإمام فهم أترك الناس لذلك مع تعري قولهم من الدلالة ومما حضر ذكره من ذلك احتجاجهم في جلد الشاهد بالزنى والشاهدين والثلاثة إذ لم يتموا أربعة حد القاذف احتجاجا بجلد عمر أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد بحضرة الصحابة في ذلك المقام نفسه إذ قال أبو بكرة لما تم جلده وقام أشهد أن المغيرة زنى فأراد عمر جلده فقال له علي إن جلدته فارجم المغيرة فتركه وكلهم يرى جلده ثانية إذا قالها بعد تمام جلده أفلا حياء إذ لا تقوى وهل سمع بأفحش من هذا العمل وأفصح منه ومثل هذا لهم كثيرا جدا

واما دعواهم وقولهم في الاشتهار والانتشار فطريف جدا وإنما هم قوم أتى أسلافهم كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وعيسى بن أبان ونظرائهم وكمالك وابن وهب وسحنون وإسماعيل ونظرائهم وكالشافعي والمزني والربيع وابن شريح ونظرائهم فاحتجوا لما قاله الأول منهم بمرسل أو رواية عن صاحب نجدها في الأكثر لا تصح أو تصح ونجد فيها خلافا من صاحب آخر أو لا نجد فأشاعوها في أتباعهم فتلقاها الأتباع عنهم وتدارسوها وتهادوها بينهم وأذاعوا عند القلة الآخذة عنهم فتداولوها على ألسنتهم ومجامعهم وفي تواليفهم وفي مناظرتهم بينهم أو مع خصومهم فوسموها بالانتشار والاشتهار والتواتر ونقل الكواف وهي في أصلها هباء منبث وباطل مولد أو خامل في مبدئه وإن كان صحيحا لم يعرف منتشرا قط فهذه صفة ما تدعون فيه الانتشار والتواتر كالخبر المضاف إلى معاذ رضي الله عنه في اجتهاد الرأي فما عرفه قط أحد في عصر الصحابة ولا جاء قط عن أحد منهم أنه ذكره لا من طريق صحيحة ولا من طريق واهية ولا متصلة ولا منقطعة ولا جاء قط عن أحد التابعين أنه عرفه ولا ذكره في رواية صحيحة ولا سقيمة لا موصولة ولا مقطوعة حتى ذكره أبو عون محمد بن عبيد الله وحده وإنما أخذه عن مجهول لا يعرفه أحد عن مثله فيما ادعى وزعم ذلك المجهول أيضا فأخذه عن أبي عون فيما بلغنا رجلان فقط شعبة وأبو إسحاق الشيباني ثم اختلفوا أيضا في كافة لفظه ومعناه على أبي عون فلما ظفر القائلون بالرأي عند شعبة وثبوا عليه وطاروا به شرقا وغربا وكادوا يضربون الطبول حتى عرفه من لا يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة وادعوا فيه التواتر ومعاذ الله من هذا فما أصله إلا مظلم ولا مخرجه إلا واه ولا منبعثه إلا من باطل وتوليد موضوع مفتعل ممن لا يعرف عمن لم يسم ممن لم يعرف قط في عصر الصحابة ولا في عصر التابعين ولا ذكره أحد منهم غير أبي عون

بن عبيد الله الثقفي وحده كما ذكرنا فهذه صفة جمهور ما يدعون فيه التواتر والانتشار بل صفة جميعه وأتوا إلى المشهور المنتشر الفاشي فخالفوه بلا كلفة ولا مؤنة كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا بالأصحاب وككونه صلى الله عليه وسلم إمامنا في صلاة ابتدأها أبو بكر وكالمساقاة إلى غير أجل وغير ذلك من حكم عمر في إضعاف القيمة في ناقة المزني على رقيق حاطب وإضعاف عثمان الدية على القاتل في الحرم وغير ذلك كثير جدا قال أبو محمد وفي كلامنا في الفصل الذي ذكرنا آنفا في كلامنا في الإجماع الذي أبطلنا فيه قول من قال إن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع إبطال لقولهم في هذا الباب لأنه إذا بطل القول بدعوى الإجماع فيما لا يعرف فيه خلاف والقول بدعوى الإجماع فيما يوجد فيه الخلاف العظيم أظهر بطلانا وأفحش سقوطا قال أبو محمد وليست منهم طائفة إلا وهي تضحك غيرها منهم بهذا الحجر يعني مخالفة الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم فإن كان هذا إجماعا ومخالف الإجماع عندهم كافر فكلهم كافر على هذا الأصل الفاسد إذ ليس منهم طائفة إلا وقد خالفت صاحبا فيما لا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف في أزيد من مائة قضية وتمادوا عليها مع احتجاج بعضهم على بعض بذلك وتنكيثهم لهم أبدا ويلزمهم تكفير فضلاء التابعين بمثل هذا نفسه ولا بد لهم ضرورة من هذا أو من ترك دعواهم في هذا الفصل الإجماع وهذا أولى بهم لأنه ترفيه عن أنفسهم وترك لدعوى الكذب وقصة واحدة تكفي في خلاف الإجماع إذا قامت به الحجة على مخالفه فكيف وقد جمعنا لهم من ذلك مئين من المسائل على كل طائفة من الحنفيين والمالكيين

فصل وأما من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة إلخ

والشافعيين وبالله التوفيق وأما قول من قال منهم إن قول الصاحب الذي لا يعرف له من الصحابة مخالف حجة وليس إجماعا فهو أيضا عائد عليهم فيما خالفوا فيه الذي لا يعرف له منهم مخالف وسيأتي الرد على هذا القول في باب الكلام في إبطال التقليد إن شاء الله عز وجل وبه نستعين لا إله إلا هو ويكفي من إبطال ذلك أنه لم يأت قرآن ولا سنة بإيجاب تقليد الصاحب الذي لا يعرف له منهم مخالف لا سيما فيما خالف تلك الرواية عن ذلك الصاحب نص القرآن أو السنة الثابتة وفي هذا خالفناهم لا في رواية عن صاحب موافقة للقرآن أو السنة وإذا لم يأت بذلك قرآن ولا سنة فهو قول فاسد ودعوى باطلة وإنما جاء النص باتباع القرآن وبيان النبي صلى الله عليه وسلم فقط وبأن الدين قد كمل والحمد لله رب العالمين فصل في من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأما من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر بن الهذيل العنبري ومحمد بن الحسن مولى بني شيبان والحسن بن زياد اللؤلؤي وقول بكر بن العلاء ليس لأحد أن يختار بعد التابعين من التاريخ وقول القائل ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي وسفيان الثوري ووكيع بن الجراح الكلابي وعبد الله بن المبارك مولى بني حنظلة فأقوال في غاية الفساد وكيد الدين لا خفاء به وضلال مغلق وكذب على الله تعالى إذا نسبوا ذلك إليه أو دين جديد أتونا به من عند أنفسهم ليس من دين محمد صلى الله عليه وسلم في شيء وهي كما نرى متدافعة متفاسدة ودعاوى متفاضحة متكاذبة ليس بعضها بأولى من بعض ولا بعضها بأدخل في الضلالة والحمق من بعض ويقال لبكر من بينهم فإذا لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا

غيرك فمن أين ساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين أو من هو مثله من فقهاء الأمصار أو من جاء بعد متعقبا عليه وعلى غيره ممن هو أعلم منه بالسنن وأصح نظرا أو مثله كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهما ويقال له أيضا إن قولك هذا السخيف الدال على ضلالة قائله وجهالته وابتداعه ما لم يقله مسلم قبله يوجب أن أشهب وابن الماجشون ومطرف بن عبد الله وأصبغ بن الفرج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعدل وهم أئمتك بإقرارك كان لهم أن يختاروا إلى أن انسلخ ذو الحجة من سنة مائتين فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومائتين وغابت الشمس من تلك حرم عليهم في الوقت بلا مهلة ما كان مطلقا لهم قبل ذلك من الاختيار فهل سمع بأسخف من هذا الاختلاط وليت شعري ما الفرق بين سنة مائتين وبين سنة ثلاثمائة أو أربعمائة أو غيرها من سني التاريخ ويقال للحنفيين أليس من عجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والقول في دين الله تعالى بالظن الكاذب والرأي الفاسد والشرع لما لم يأذن به الله تعالى لأبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد بن الحسن واللؤلؤي على جهلهم بالسنن والآثار وفساد رأيهم وقياساتهم التي لم يوفقوا منها إلا لكل بارد متخاذل والتي هي في المضاحك أدخل منها في الجد ويجعلون تلك الأقوال الفاسدة خلافا على القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يجيزون الأخذ بالسنن الثابتة للشافعي ولا لأحمد بن حنبل ولا لإسحاق بن راهويه وداود بن علي وأبي ثور ومحمد بن نصر ونظرائهم على سعة علم هؤلاء بالسنن ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم وعلى تبحرهم في

معرفة أقوال الصحابة والتابعين وثقة نظرهم ولطف استخراجهم للدلائل وأن من قال منهم بالقياس فقياسه من أعذب القياس وأبعده من ظهور الفساد فيه وأجرأه على علته مع شدة ورع هؤلاء وما منحهم الله تعالى من محبة المؤمنين لهم وتعظيم المسلمين علمائهم وعامتهم لهم وحلول أبي حنيفة وأصحابه في صدر هذه المنازل فإن موهوا بتقدم عصر أبي حنيفة وموه المالكيون بتقديم عصر مالك وتأخر عصر من ذكرنا قلنا هذا عجب آخر وقد علمنا وعلمتم أنه لم يكن بين آخر وقت فتيا أبي حنيفة وأول أوقات الشافعي إلا نحو ثلاثين عاما ولم يكن بين آخر فتيا مالك وبين أول فتيا الشافعي إلا عام أو نحوه ولعله قد أفتى في حياة مالك وقد أفتى الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن واللؤلؤي أحياء وكذلك أفتى المغيرة وابن كنانة وابن القاسم وابن وهب وأشهب وابن الماجشون أحياء ومات الشافعي وأشهب في شهر واحد ومات الحسن بن زياد بعدهم بنحو عام ومات الماجشون ومطرف بعدهما بأعوام كثيرة فليت شعري من المبيح لبعضهم ما حجزوه عن بعض ثم لم يكن بين آخر فتيا مالك وأول وقت فتيا أحمد وإسحاق وأبي ثور إلا عشرين عاما أفي مدة عشرين عاما يغلق باب الاختبار تعالى الله عن قول المجانين وكل هؤلاء أفتى والحسن بن زياد حي فما الذي أباح للحسن بن زياد ولابن القاسم من الفتيا ما لم يبح لأحمد وإسحاق وأبي ثور وبالله إن بينهم وبين ذينك من التفاوت في العلم أكثر مما بين المشرق والمغرب ثم أفتى داود بن علي ومحمد بن نصر ونظراؤهما مع أحمد وإسحاق وأبي ثور ثم هكذا ينشأ العلماء ويموت العلماء عاما عاما وما هو إلا ليلة ثم جمعة ثم شهر إلى شهر وعام إلى عام حتى يرث الله الأرض ومن عليها فمن حد حدا أو وقف الاختيار عليه ومنعه بعده فقد سخف وكذب واخترع دين ضلالة وقال بلا علم ونعوذ بالله العظيم من مثل

هذا قال الله عز وجل {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وقال تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} وقال تعالى {تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون} وقال تعالى {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} فلم يخص عز وجل عصرا من عصر ولا إنسانا من إنسان فمن خالف هذا فهو مضل داخل في أعداد النوكى لإطلاقه لسانه بالتخليط والحق في هذا الذي لا يحل خلافه فهو إن خالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى في القرآن وفي السنن المبينة للقرآن لا يحل لأحد أصلا ولا يجوز أن يعد قول قائل كائنا من كان خلافا لذلك بل يطرح على كل حال وأما خلاف أبي حنيفة ومالك ففرض على الأمة لا نقول مباح بل فرض لا يحل تعديه لأنهما لا يخلو أن في كل فتيا لهم من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا إما موافقة النص من القرآن والسنة الثابتة وإما مخالفة النص كذلك فإن كانت فتياهما أو فتيا أحدهما موافقة نص القرآن أو السنة فالمتبع هو القرآن والسنة لا قول أبي حنيفة ولا قول مالك لأن الله تعالى لم يأمرنا قط باتباعهما فمتبعهما مخالف لله تعالى وإن كانت فتياهما مخالفة للنص فلا يحل لأحد اتباع ما خالف نص القرآن والسنة وهكذا نقول في كل مفت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنبأنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال قال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي قال ولا على ملة عثمان أنا على ملة النبي صلى الله عليه وسلم نا يونس بن عبد الله بن مغيث نا يحيى بن عابد نا الحسين بن أحمد بن أبي خليفة نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا يوسف

بن يزيد القراطيسي نا سعيد بن منصور نا هشيم عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال كان يكره أن يقال سنة أبي بكر وعمر ولكن سنة الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نا حمام بن أحمد نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا عبد الله بن يونس المرادي نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا محمد بن بشر نا عبد الله بن الوليد نا عبيد بن الحسين قال قالت الخوارج لعمر بن عبد العزيز تريد أن تسير فينا بسيرة عمر بن الخطاب قال عمر بن عبد العزيز قاتلهم الله ما أردت دون رسول الله إماما فهؤلاء الصحابة والتابعون فيمن تعلق المخالفون فإن موهوا بكثرة أتباع أبي حنيفة ومالك وبولاية أصحابهما القضاء فقد قدمنا أن الكثرة لا حجة فيها ويكفي من هذا قول الله عز وجل {وإن تطع أكثر من في لأرض يضلوك عن سبيل لله إن يتبعون إلا لظن وإن هم إلا يخرصون} وقال {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من لخلطآء ليبغي بعضهم على بعض إلا لذين آمنوا وعملوا لصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فستغفر ربه وخر راكعا وأناب} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء وأنذر عليه السلام بدروس العلم وظهور الجهل فلعمري لئن كان العلم ما هم عليه من حفظ رأي أبي حنيفة ومالك والشافعي فما كان العلم قط أكثر مما هو منه الآن وهيهات إذا هبطت نجران من رمل عالج فقولا لها ليس الطريق هنالك ولكن الحق والصدق هو ما أنذر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دروس العلم والذي درس هو اتباع القرآن والسنن فهذا هو الذي قل بلا شك وأصحابه هم الغرباء القليلون جعلنا الله منهم ولا عدا بنا عنهم وثبتنا في عدادهم وأحشرنا في سوادهم آمين آمين وأما ولايتهم القضاء فهذه أخزى وأندم وما عناية جورة الأمراء وظلمة الوزراء خلة محمودة ولا خصلة مرغوب فيها في الآخرة وأولئك القضاة وقد عرفناهم إنما ولاهم الطغاة العتاة من ملوك بني العباس وبني مروان بالعنايات

والتزلف إليهم عند دروس الخير وانتشار البلاء وعودة الخلافة ملكا عضوضا وانبراء على أهل الإسلام وابتزازا للأمة أمرها بالغلبة والعسف فأولئك القضاة هم مثل من ولاهم من المبطلين سنن الإسلام المحيين لسنن الجور والمكر والقبالات وأنواع الظلم وحل عرى الإسلام وقد علمنا أحوال أولئك القضاة الذين يأخذون دينهم عنهم وكيف كانوا في مشاهدة إظهار البدع من المحنة في القرآن بالسيف والسياط والسجن والقيد والنفي ثم سائر ما كانوا يتشاهدونه معهم على ما استعانوا هم عليه من تسمية أمور ملكهم فمثل هؤلاء لا يتكثر بهم وإنما كان أصل ذلك تغلب أبي يوسف على هارون الرشيد وتغلب يحيى بن يحيى على عبد الرحمن بن الحكم فلم يقلد للقضاء شرقا وغربا إلا من أشار به هذان الرجلان واعتنيا به والناس حراص على الدنيا فتلمذ لهما الجمهور لا تدينا لكن طلبا للدنيا وولاية القضاء والفتيا والتديك على الجيران في المدن والأرياض والقرى واكتساب المال بالتسمي بالفقه هذا أمر لا يقدر أحد على إنكاره فاضطرت العامة إليهم في أحكامهم وفتياهم وعقودهم ففشا المذهبان فشوا طبق الدنيا قال الله عز وجل {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين

والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ولله عنده حسن المآب} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وصار من خالفهم مقصودا بالأذى مطلوبا في دمه أو مهجورا مرفوضا إن عجزوا عن أذاه لمنزلة له عند السلطان أو لكفه للسانه وسده لبابه إذ وسعته التقية والصبر صبر وكذلك إفريقية كان الغالب فيها السنن والقرآن إلى أن غلب أسد بن الفرات بن أبي حنيفة ثم ثار عليهم سحنون بن أبي مالك فصار القضاء فيهم دولا يتصاولون على الدنيا تصاول الفحول على الشول إلى أن تولى القضاء بها بنو هاشم الخيار وكان مالكيا فتوارثوا القضاء كما تورث الضياع فرجعوا كلهم إلى رأي مالك طمعا في الرياسة عند العامة فقط هذا أمر لا يقدر أحد على إنكاره قرب إلينا داء الأمم قبلنا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إننا سنركب سنن من قبلنا فقيل اليهود والنصارى يا رسول الله قال فمن إذا وهذا مما أنذر به رسول الله فهو من معجزات نبوته وبراهينه عليه السلام وهكذا قلدت هاتان الطائفتان أحبارهم وأساقفتهم فحملوهم على آرائهم قال أبو محمد وتكلموا أيضا في معنى نسبوه إلى الإجماع وهو أن يختلف المسلمون في مسألتين على أقوال فيقوم برهان من النص على صحة أحد تلك الأقوال في المسألة الواحدة فقال أبو سليمان إنه برهان على صحة قولهم في المسألة الأخرى وخالفه في ذلك ابنه أبو بكر وأبو الحسن بن المغلس وجمهور أصحابنا وقول أبي سليمان في هذه المسألة خطأ لا خفاء به لأنه قول

بلا برهان ثم يجب لو صح هذا أن يكون صواب من أصحاب في مسألة برهانا على أنه مصيب في كل مسألة قالها وهذا لا يخفى على أحد بطلانه وما ندري كيف وقع لأبي سليمان هذا الوهم الظاهر الذي لا يشكل وتكلموا أيضا في معنى نسبة هذا الإجماع وهو أن يصح إجماع الناس على أن حكم أمر كذا كحكم أمر كذا ثم اختلفوا فمن مانع لا من موجب ومن مبيح لكليهما أو من موجب حكما في كليهما فقال برهان من النص على حكم ما جاء في إحدى المسألتين فواجب أن يكون حكم الأخرى كحكمها لصحة الإجماع على أن حكمهما سواء قال أبو محمد لو أمكن ضبط جميع أقوال علماء جميع أهل الإسلام حتى لا يشذ منها شيء لكان هذا حكما صحيحا ولكن لا سبيل لضبط ذلك البتة وغير ما قدمنا مما لا يكون مسلما من لم يقل به وحتى لو أمكن معرفة قول العالم فقد كان يمكن رجوعه عن ذلك القول إذا ولى عنه السائل ليعرف قول غيره فوضح أنه لا سبيل البتة ولا إمكان أصلا في حصر أقوال جميع علماء أهل الإسلام في فتيا خارجة عن الجملة التي ذكرنا قال أبو محمد ونحن في غنى فائض ولله الحمد عن هذا التكلف وفي مناديح رحبة في هذا التعسف بنصوص القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا سبيل إلى وجود شرع لم ينص على حكمه والحمد لله رب العالمين والمتكلمون في هذه المسألة حكمهم فيها بالمساقاة والمزارعة على الثلث والربع فإنهم قالوا قد اختلف الناس في ذلك فمن مانع من المساقاة أو المزارعة جملة ومن مبيح لها جملة ثم صح النص بإباحتها عن النصف وقد صح الإجماع على أن حكمها أقل من النصف وأكثر من النصف كالحكم في النصف

قال أبو محمد ما نحتاج إلى هذه الشغاب الحرجة والدعاوى المعوجة بل نقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح لأصحاب الضياع في تلك المعاملة النصف والمعاملين النصف فدخلها دون النصف ضرورة بالمشاهدة فيما جعل لكل طائفة من النصف فإذا تراضى الفريقان على أن يترك أحدهما مما يجعل له أخذه جزءا مسمى ويقتصر على بعضه فذلك له إذ كل أحد محكم في مثل ذلك مما جعل له كما لو وهب الوارث بعض ميراث لمن يشركه في الميراث أو لغيره فإن قيل فهلا أجزتم هذا بعينه في التراضي فيما يقع فيه الربا على خلاف التماثل قلنا لم يجز ذلك لأن النص الوارد في الربا مما عنى التماثل وحظره وتوعدنا عليه ولم يأت حكم نص المساقاة المزارعة والمواريث واشتراط مال المملوك المبيع والثمرة المأبورة بالمنع مما عدا ذلك بل أباح الاشتراط للنصف أو الكل ولم يمنع ما دخل في الإباحة المذكورة بالنص ما هو أقل من النصف أو الكل وبالله التوفيق قال أبو محمد علي وكثيرا ما نحتج مع المخالفين بما أجمعوا عليه معنا ثم ننكر عليهم الانتقال عنه إلى حكم آخر كقولنا لمن حرم الماء وحكم بنجاسته في إبل حرام حله فلم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه ومثل هذا كثير جدا فعاب ذلك علينا من لم يحصل وقال قد جمعتم في هذه الطريق وجهين من عظيمين أحدهما الاحتجاج بإجماعهم معكم وأنتم تنكرون دعوى معنى الإجماع وتجعلونها كذبا على الأمر أن يقال لكم فما الذي أنكرتم على اليهود إذ قالوا قد أجمعتم معنا على نبوة موسى عليه السلام وصحة التوراة وحكم السبت وخالفناكم في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة القرآن وشرائع دينكم قال أبو محمد فقلنا ما تناقضنا في شيء من ذلك وأما احتجاجنا على مخالفينا

فصل وتكلموا أيضا في معنى نسبوه إلى الإجماع

موافقتهم لنا على حكم ما وإنكارنا عليه الخروج مما أجمع معنا عليه فإنما فعلنا ذلك لخروجه عما قد حكم بصحته إلى قول آخر بلا برهان من قرآن أو سنة فقط فبينا عليهم القول في الدين بلا برهان وهذا حرام ومعيب بالقرآن والسنة ولم ندع إجماعا ولم نصححه إنما ادعينا على الخصم ما ينكره من إجماعه معنا بمعنى موافقته لنا فقط فلاح الفرق بين الدعوى المكذوبة وأما الذي أنكرناه على اليهود فإنه ضد المسألة التي تكلمنا فيها آنفا وهو امتناع اليهود من الإقرار بما ظهر البرهان بصحته وأقوى من برهانهم على ما ادعوا أننا أجمعنا معهم عليه وأنكرنا على المذكورين آنفا أن قالوا قولا بلا برهان وخروجهم عما قد صح البرهان بصحته وأنكرنا على اليهود تركهم القول بما قد صح برهانه وتماديهم على ما قد صح البرهان ببطلانه وسلكنا بين الطائفتين طريق الحق وشارع النجاة والحمد لله رب العالمين وهو الثبات مع البرهان إذا ثبت والانتقال معه إذا نقل فقط وبالله تعالى التوفيق فصل في معنى نسبوه إلى الإجماع وتكلموا أيضا في معنى نسبوه إلى الإجماع وهو أن ذكروا أن يختلف الناس على قولين فأكثر في مسألة فيشهد النص من القرآن والسنة بصحة قول من تلك الأقوال فيبطل سائرها ثم تقع فروع من تلك المسألة فقالوا يجب أن يكون المقول به هو ما قاله من شهد النص لصحه قوله في أصل تلك المسألة ونظروا ذلك بالحكم العاقلة قال بها قوم ولم يعرفها قوم منهم عثمان البتي فصح النص بقول من صححها فلما صرنا إلى من هم العاقلة وجب أن ينظروا إلى من أجمع القائلون بالعاقلة على أنه من العاقلة فيكون من العاقلة ومن اختلفوا فيه أهو من العاقلة أم لا ألا يكون من العاقلة

فصل واختلفوا هل يدخل أهل الأهواء أم لا

قال أبو محمد وقولنا ههنا هو قولنا فيما سلف من أنه إذا أمكن أن يعرف الإجماع في ذلك لكان حجة لكن لا سبيل إلى إحصائهم ولا إلى حصر أقوالهم لما قدمنا قبل ونحن في سعة والحمد لله عن التعلق بهذه الثنايا الأشبة والتورط في هذه المضايق القشبة بما قد بينه لنا ربنا عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من النص الذي لا دين لنا فيه وما عداه فليس من دين الله تعالى ولا من عنده عز وجل وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل بطن عقولة وألزم اليهودية من قتل بينهم لو اعترفوا أنه قتله بعضهم خطأ أو قام بذلك بينة فوجب بذلك أن العاقلة هم بطن القاتل خطأ الذي ينتمي إليه حتى بلغ إلى القبيلة التي تقف عندها وهكذا في كل شيء والحمد لله رب العالمين فصل واختلفوا هل يدخل أهل الأهواء أم لا قال أبو محمد قد أوضحنا قبل والحمد لله رب العالمين أن الإجماع لا يكون البتة إلا عن نص منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على باطل لم يأت من عند الله تعالى من رأي ذي رأي أو قياس من قائس يحكمان بالظن فإن ذلك كذلك والسؤال باق وهل نقبل نقل أهل الأهواء وروايتهم فقولنا في هذا وبالله تعالى التوفيق إن من يشهد بقلبه ولسانه أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق وأنه بريء من كل دين غير دين محمد صلى الله عليه وسلم فهو المؤمن المسلم ونقله واجب قبوله إذا حفظ ما ينقل ما لم يمل

عن إيمانه إلى كفر أو فسق وأهل الأهواء وأهل كل مقالة خالفت الحق وأهل كل عمل خالف الحق مسلمون أخطؤوا ما لم تقم عليهم الحجة فلا يكدح شيء من هذا في إيمانهم ولا في عدالتهم بل هم مأجورون على ما دانوا به من ذلك وعملوا أجرا واحدا إذا قصدوا به الخير ولا إثم عليهم في الخطأ لأن الله تعالى يقول {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} ونقلهم واجب قبوله كما كانوا وكذلك شهادتهم حتى إذا قامت على أحد منهم الحجة في ذلك من نص قرآن أو سنة ما لم تخص ولا نسخت فأيما تمادى على التدين بخلاف الله عز وجل أو خلاف رسوله صلى الله عليه وسلم أو نطق بذلك فهو كافر مرتد لقول الله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وإن لم يدن لذلك بقلبه ولا نطق به لسانه لكن تمادى على العمل بخلاف القرآن والسنة فهو فاسق بعمله مؤمن بحقده وقوله ولا يجوز قبول نقل كافر ولا فاسق ولا شهادتهما قال الله تعالى {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} وقد فرق بعض السلف بين الداعية وغير الداعية قال أبو محمد وهذا خطأ فاحش وقول بلا برهان ولا يخلو المخالف للحق من أن يكون معذورا بأنه لم تقم عليه الحجة أو غير معذور لأنه قامت عليه الحجة فإن كان معذورا فالداعية وغير الداعية سواء كلاهما معذور مأجور وإن كان غير معذور لأنه قد قامت عليه الحجة فالداعية وغير الداعية سواء وكلاهما إما كافر كما قدمنا وإما فاسق كما وصفنا وبالله تعالى التوفيق ولا فرق فيما ذكرنا بين من يخالف الحق بنحلة أو بفتيا إذا لم يفرق الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بين ذلك إنما قال {تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون} عم عز وجل ولم يخص قال بعضهم إن الصحابة اختلفوا في

الفتيا فلم ينكر بعضهم على بعض بل أنكروا على من خالف في ذلك قلنا ليس كما قلتم إنما لم ينكروا على من لم تقم الحجة عليه في المسألة فقط وأنكروا أشد الإنكار على من خالف بعد قيام الحجة عليه وكيف لم ينكروا وقد ضربوا على ذلك بالسيوف من خالفهم فأي إنكار أشد من هذا أو ليس عمر قد قال والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون آخرنا موتا وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فما قدح هذا في عدالته إذ قال مخطئا ثم رجع إلى الحق إذ سمع القرآن {إنك ميت وإنهم ميتون} وإن المتمادي على هذا القول بعد قيام الحجة عليه كافر من جملة غالية السبائية أو ليس ابن عباس يقول أما تخافون أن يخسف الله بكم الأرض أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر وكان إسحاق بن راهويه يقول فيما روى عنه محمد بن نصر المروزي في الإمام أنه سمعه يقول من صح عنده حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم خالفه يعني باعتقاده فهو كافر قال أبو محمد صدق والله إسحاق رحمه الله تعالى وبهذا نقول وقد روي عن عمر أنه قتل رجلا أبى عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي بحكم عمر وكيف لو أدرك عمر وابن عباس رضي الله عنهما وإسحاق رحمه الله من نقول له قال الله عز وجل كذا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا قال أبى سحنون ذلك ومن قلنا له هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنا في غنى عنه ما أحتاج إليه مع قول العلماء ومن قال لنا لو رأيت شيوخي يستدبرون القبلة في صلاتهم ما صليت إلى القبلة والله ما في بدع أهل البدع شيء

يفوق هذه وليت شعري إن كان هؤلاء القوم مؤمنون بالله تعالى وبالبعث وبأنهم موقوفون وأن الله سيقول لهم ألم آمركم باتباع كتابي المنزل وبنبي المرسل ألم أنهكم عن اتباع آبائكم ورؤسائكم ألم آمركم برد ما تنازعتم فيه إلي وإلى رسولي وقدمت إليكم الوعيد فماذا أعدوا من الجواب لذلك الموقف الفظيع والمقام الشنيع والله لتطولن ندامتهم حين لا ينفعهم الندم وكأن به قد أزف وحل نسأل الله أن يوزعنا شكر ما من علينا من اتباع كلامه وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ومن أن بغض إلينا اتباع من دونه ودون رسوله صلى الله عليه وسلم ونسأله أن يميتنا على ذلك وأن يفيء بأهل الجهالة والضلالة آمين آمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي الكريم

الباب الثالث والعشرون في استصحاب الحال وبطلان جميع العقود والعهود والشروط إلا ما أوجبه منها قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة

الباب الثالث والعشرون في استصحاب الحال وبطلان جميع العقود والعهود والشروط إلا ما أوجبه منها قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة قال أبو محمد إذا ورد النص من القرآن أو السنة الثابتة في أمر ما على حكم ما ثم ادعى مدع أن ذلك الحكم قد انتقل أو بطل من أجل أنه انتقل ذلك الشيء المحكوم فيه عن بعض أحواله أو لتبدل زمانه أو لتبدل مكانه فعلى مدعي انتقال الحكم من أجل ذلك أن يأتي ببرهان من نص قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة على أن ذلك الحكم قد انتقل أو بطل فإن جاء به صح قوله وإن لم يأت به فهو مبطل فيما ادعى من ذلك والفرض على الجميع الثبات على ما جاء به النص ما دام يبقى اسم ذلك الشيء المحكوم فيه عليه لأنه اليقين والنقلة دعوى وشرع لم يأذن الله تعالى به فهما مردودان كاذبان حتى يأتي النص بهما ويلزم من خالفنا في هذا أن يطلب كل حين تجديد الدليل على لزوم الصلاة والزكاة وعلى صحة نكاحه مع امرأته وعلى صحة ملكه لما يملك ويقال للمخالف في هذا أخبرنا

أتحكم أنت بحكم آخر من عندك أم تقف فلا تحكم بشيء أصلا لا بالحكم الذي كنت عليه ولا بغيره فإن قال بل أقف قيل له وقوفك حكم لم يأتك به نص وإبطالك حكم النص الذي قد أقررت بصحته خطأ عظيم وكلاهما لا يجوز وإن قال بل أحدث حكما آخر قيل له أبطلت حكم الله تعالى وشرعت شرعا لم يأذن به الله وكلاهما من الطوام المهلكة نعوذ بالله من كل ذلك ويقال له في كل حكم تدين به لعله قد نسخ هذا النص أو لعل ههنا ما يخصه لم يبلغك ويقال له لعلك قد قتلت مسلما أو زنيت فالحد أو القود عليك فإن قال أنا على البراءة حتى يصح علي شيء ترك قوله الفاسد ورجع إلى الحق وناقض إذ لم يكن سلك في كل شيء هذا المسلك ويلزمهم أيضا ألا يرثوا موتاهم إذ لعلهم قد ارتدوا أو لعلهم قد تصدقوا بها أو لعلهم أدانوا ديونا تستغرقها فيلزمهم إقامة البينة على براءة موتاهم في حين موتهم على كل ذلك والذي يلزمهم يضيق عنه جلد ألف بعير ويلزمهم ألا يقولوا بتمادي نبوة نبي حتى يقيم كل حين البرهان على صحة نبوته وأما نحن فلا ننتقل عن حكم إلى حكم آخر إلا ببرهان وكذلك نقول لكل من ادعى النبوة كمسيلمة والأسود وغيرهما عهدناكم غير أنبياء فأنتم على بطلان دعواكم حتى يصح ما يثبتها وكذلك نقول لمن ادعى أن فلانا قد حل دمه بردة أو زنى عهدناه بريئا من كل ذلك فهو على السلامة حتى يصح الدليل على ما تدعيه وكذلك نقول لمن ادعى أن فلانا العدل قد فسق أو أن فلانا الفاسق قد تعدل أو أن فلانا الحي قد مات أو أن فلانة قد تزوجها فلان أو أن فلانا طلق امرأته أو أن فلانا قد زال ملكه عما كان يملك أو أن فلانا قد ملك ما لم يكن يملكه وهكذا كل شيء على أننا

ما كنا عليه حتى يثبت خلافه فإنما جاء قوم إلى هذه الحماقات في مواضع يسيرة أخطؤوا فيها فنصروا خطأهم بما يبطل كل عقل وكل معقول وذلك نحو قولهم إن الماء إذا حلته نجاسة فقد تنجس وإن من شك بعد يقينه بالوضوء فعليه الوضوء وأشباه هذا فقالوا إن الماء الذي حكم الله بطهارته لم يكن حلته نجاسة فقلنا لهم وإن الرجل الذي حرم الله دمه لم يكن شاب ولا حلق رأسه ولا عليه صفرة من مرض لم يكن فيه فبدلوا حكمه لتبدل بعض أحواله وقالوا عليه ألا يصلي إلا بيقين طهارة لم يتلها شك قلنا فحرموا على من شك أباع أمته أم لم يبعها أن يطأها أو يملكها لشكه في انتقال ملكه وحدوا كل من شككتم أزنى أم لم يزن وقد ذكرنا اعتراضهم بمسألة قول اليهود قد وافقتمونا على صحة نبوة موسى صلى الله عليه وسلم وبينا أننا لم ننتقل إلى الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا ببراهين أظهر من براهين موسى لولاها لم نتبعه ونحن لا ننكر الانتقال من حكم أوجبه القرآن أو السنة إذ جاء نص آخر ينقلنا عنه إنما أنكرنا الانتقال عنه بغير نص أوجب النقل عنه لكن لتبدل حال من أحواله أو لتبدل زمانه أو مكانه فهذا هو الباطل الذي أنكرناه وقال المالكيون من شك أطلق امرأته أم لم يطلقها فلا شيء عليه فأصابوا ثم قالوا فإن أيقن أنه طلقها ثم شك أو واحدة أو اثنتين أو ثلاثا فهي طالق ثلاثا وقالوا من شك أطلق امرأة من نسائه أم لا فلا شيء عليه فإن أيقن أنه طلق إحداهن ثم لم يدر أيتهن هي فهن كلهن طلق ففرقوا بين ما لا فرق بينه بدعوى عارية عن البرهان فإن قالوا إن ههنا هو على يقين من الطلاق فقلنا نعم وعلى شك من الزيادة على طلاقها واحدة

والشك باطل كسائر ما قدمنا قبل وكذلك ليس من نسائه امرأة يوقن أنه طلقها فقد دخلتم فما أنكرناه على المخالفين من نقل الحكم بالظنون بل وقعوا في الباطل المتيقن وتحريم يقين الحلال من باقي نسائه اللواتي لم يطلقهن بلا شك وفي تحليل الحرام المتيقن إذ أباحوا الفروج اللواتي لم تطلق للناس ولزمهم على هذا إذا وجدوا رجالا قد اختلط بينهم قاتل لا يعرفونه بعينه أو زان محصن لا يعرفونه بعينه أن يقتلوهم كلهم نعم وأن يحملوا السيف على أهل مدينة أيقنوا أن فيها قاتل عمد لا يعرفونه بعينه وأن يقطعوا أيدي جميع أهلها إذا أيقنوا أن فيها سارقا لا يعرفونه بعينه وأن يحرموا كل طعام بلد قد أيقنوا أن فيه طعاما حراما لا يعرفونه بعينه وأن يرجموا كل محصنة ومحصن في الدنيا لأن فيهم من قد زنى بلا شك ولزمهم فيمن تصدق بشيء من ماله ثم جهل مقداره أن يتصدق بماله كله ومثل هذا كثير جدا فظهر فساد هذا القول وبطلانه بيقين لا شك فيه فإن قيل وما الدليل على تمادي الحكم مع تبدل الأزمان والأمكنة قلنا وبالله تعالى التوفيق البرهان على ذلك صحة النقل من كل كافر ومؤمن على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا بهذا الدين وذكر أنه آخر الأنبياء وخاتم الرسل وأن دينه هذا لازم لكل حي ولكل من يولد إلى القيامة في جميع الأرض فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان ولا لتغير الأحوال وأن ما ثبت فهو ثابت أبدا في كل زمان وفي كل مكان وعلى كل حال حتى يأتي نص ينقله عن حكمه في زمان آخر أو مكان آخر أو حال أخرى وكذلك إن جاء نص بوجوب حكم في زمان ما أو في مكان أو في حال ما وبين لنا ذلك في النص وجب ألا يتعدى النص فلا يلزم ذلك الحكم حينئذ في غير ذلك الزمان ولا في غير ذلك المكان ولا في غير تلك الحال قال تعالى {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم

نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يدرك صلى أن يصلي حتى يكون على يقين من التمام وعلى شك من الزيادة لأنه على يقين من أنه لم يصل ما لزمه فعليه أن يصليه وهذا هو نص قولنا وأما إذا تبدل الاسم فقد تبدل الحكم بلا شك كالخمر يتخلل أو يخلل لأنه إنما حرمت الخمر والخل ليس خمرا وكالعذرة تصير ترابا فقد سقط حكمها وكلبن الخنزير والحمر والميتات يأكلها الدجاج ويرتضعه الجدي فقد بطل التحريم إذا انتقل اسم الميتة واللبن والخمر ومن حرم ما لا يقع عليه الاسم الذي جاء به التحريم فلا فرق بينه وبين من أحل بعض ما وقع عليه الاسم الذي جاء به التحريم وكلاهما متعد لحدود الله تعالى {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} وهذا حكم جامع لكل ما اختلف فيه فمن التزمه فقد فاز ومن خالفه فقد هلك وأهلك وبالله تعالى التوفيق وكل احتياط أدى إلى الزيادة في الدين ما لم يأذن به الله تعالى أو إلى النقص منه أو إلى تبديل شيء منه فليس احتياطا ولا هو خيرا بل هو هلكة وضلال وشرع لم يأذن به الله تعالى والاحتياط كله لزوم القرآن والسنة وأما العقود والعهود والشروط والوعد فإن أصل الاختلاف فيها على قولين لا يخرج الحق عن أحدهما وما عداهما فتخليط ومناقضات لا يستقر لقائلها قول على حقيقة فأحد القولين المذكورين إما أنها كلها لازم حق إلا ما أبطله منها نص والثاني أنها كلها باطل غير لازم إلا ما أوجبه منها نص أما ما أباحه منها نص فكان من حجة من قال إنها كلها حق لازم إلا ما أبطله منها نص أن قال قال الله عز وجل {ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن لعهد كان مسؤولا} وقال عز وجل {هو لذي بعث في لأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم لكتاب ولحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو لعزيز لحكيم} وقال عز وجل {والذين هم

لأماناتهم وعهدهم راعون} وقال تعالى {إن لله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما لذين آمنوا فيعلمون أنه لحق من ربهم وأما لذين كفروا فيقولون ماذآ أراد لله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا لفاسقين * لذين ينقضون عهد لله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر لله به أن يوصل ويفسدون في لأرض أولئك هم لخاسرون} وقال تعالى {أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} وقال تعالى {ليس لبر أن تولوا وجوهكم قبل لمشرق ولمغرب ولكن لبر من آمن بلله وليوم لآخر ولملائكة ولكتاب ولنبيين وآتى لمال على حبه ذوي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل ولسآئلين وفي لرقاب وأقام لصلاة وآتى لزكاة ولموفون بعهدهم إذا عاهدوا ولصابرين في لبأسآء ولضراء وحين لبأس أولئك لذين صدقوآ وأولئك هم لمتقون} وقال تعالى {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين * إن الذين يشترون بعهد لله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في لآخرة ولا يكلمهم لله ولا ينظر إليهم يوم لقيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} وقال تعالى {إن لذين يبايعونك إنما يبايعون لله يد لله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه لله فسيؤتيه أجرا عظيما} وقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أوفوا بلعقود أحلت لكم بهيمة لأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي لصيد وأنتم حرم إن لله يحكم ما يريد} وقال تعالى {وإما تخافن من قوم خيانة فنبذ إليهم على سوآء إن لله لا يحب لخائنين} وقال عز وجل {لذين يوفون بعهد لله ولا ينقضون لميثاق} وقال تعالى {ولا تشتروا بعهد لله ثمنا قليلا إنما عند لله هو خير لكم إن كنتم تعلمون} وقال تعالى {ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا لكيل ولميزان بلقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد لله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} وقال تعالى {يوفون بلنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا} وقال تعالى {ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن لله يعلمه وما للظالمين من أنصار} وقال عز وجل {ومنهم من عاهد لله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من لصالحين * فلمآ آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا لله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} وقال تعالى {وذكر في لكتاب إسماعيل إنه كان صادق لوعد وكان رسولا نبيا} وذكروا ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ني زهير بن حرب ثنا وكيع نا سفيان هو الثوري عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر وبه إلى مسلم نا عبد الأعلى بن حماد ثنا حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من علامات المنافق ثلاث وإن صلى وإن صام وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وبه إلى مسلم ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ثنا أبي ثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة رفع لكل غادر لواء فقيل هذه غدرة فلان ابن فلان وبه إلى مسلم ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا شعبة عن خليد عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة وبه إلى مسلم ني زهير بن حرب ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ثنا المستمر بن الريان ثنا أبو نضرة عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمر عامة وبه إلى مسلم حدثني عبد الله بن هاشم ني عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان هو الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغفلوا ولا تغدروا وذكر باقي الحديث وبه إلى

مسلم نا محمد بن المثنى نا يحيى بن سعيد القطان عن عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا أحمد بن صالح نا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع أخبره قال بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقي في قلبي الإسلام فقلت يا رسول الله إني والله لا أرجع إليهم أبدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع قال فذهبت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني نا إبراهيم بن أحمد البلخي نا الفربري ثنا البخاري نا إسحاق نا يعقوب نا ابن أخي ابن شهاب عن عمه أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة فذكرا جميعا خبر النبي صلى الله عليه وسلم وفيه إنه لما كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو يوم الحديبية على قضية المدة كان فيما اشترط سهيل بن عمرو أنه لا يأتيك منا أحد إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه وأبى سهيل أن يقاضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على ذلك فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل بن أبي سهل يومئذ إلى أبيه سهيل بن عمرو ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود حدثنا محمد بن عبيد أن محمد بن ثور حدثهم عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة

قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فذكر الحديث وفيه ثم رجع إلى المدينة فجاءه أبو بصير برجل من قريش يعني أرسلوا في طلبه فدفعه إلى رجلين فخرجا به فلما بلغا ذا الحليفة نزلوا يأكون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل قد جربت به فقال أبو بصير أرني أنظر إليه فأمسكه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد رأى هذا ذعرا فقال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال قد أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم قد نجاني الله منهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر وتفلت أبو جندل فلحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن الفتح نا عبد الوهاب نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو أسامة عن الوليد بن جميع نا أبو الطفيل نا حذيفة بن اليمان قال ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل فأخذنا كفار قريش فقالوا إنكم تريدون محمدا فقلنا ما نريده ما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم حدثني محمد بن سعيد نا نبات ثنا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد ابن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر نا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي والحكم بن عتيبة أن حذيفة بن الحسيل بن اليمان وأباه أسرهما المشركون فأخذوا عليهما ألا يشهدا بدرا فسألا النبي صلى الله عليه وسلم

فرخص لهما ألا يشهدا حدثنا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك الخولاني نا محمد بن بكر نا سليمان بن الأشعث نا قبيصة نا الليث عن محمد بن عجلان أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر بن ربيع العدوي حدثه عن عبد الله بن عامر أنه قال دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها فقالت ها تعال أعطك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تعطيه قالت أعطيه تمرا فقال لها رسول الله أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني نا إبراهيم بن أحمد البلخي نا الفربري نا البخاري نا بشربن مرحوم نا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا مسدد نا يحيى بن سعيد هو القطان نا شعبة حدثني أبو حمزة نا زهد بن مضرب قال سمعت عمران بن حصين يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون ويخونون ولا يؤتمنون وذكر باقي الخبر وبه إلى البخاري نا محمد بن مقاتل أنا عبد الله بن المبارك أنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال قال عمر يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال أوف بنذرك حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود السجستاني نا سليمان بن داود المهري ثنا ابن وهب حدثني سليمان بن بلال ثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم المسلمون على شروطهم حدثنا المهلب الأسدي نا ابن مناس نا ابن مسرور نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب نا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأي المؤمن واجب وبه إلى ابن وهب أخبرني إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ولا تعد أخاك عدة وتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة وبه إلى ابن وهب أخبرني الليث بن سعيد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال لصبي تعال هاه لك ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة قالوا فهذه نصوص توجب ما ذكرنا إلا أن يأتي نص بتخصيص شيء من عمومها فيخرج ويبقى ما عداه على الجواز قال أبو محمد ووجدنا من قال ببطلان كل عقد وكل شرط وكل عهد وكل وعد إلا ما جاء نص بإجازته باسمه ويقولون قال الله عز وجل {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وقال تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} وقال تعالى {ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} حدثنا عبد الرحمن بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني ثنا أبو أسامة أنبأنا هشام بن عروة عن أبيه قال أخبرتني عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب عشية فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني ثنا أبو إسحاق البلخي حدثنا الفربري

نا البخاري نا علي بن عبد الله نا سفيان عن يحيى هو ابن سعيد الأنصاري عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين قالت قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شروطا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة شرط قالوا فهذه الآيات وهذا الخبر براهين قاطعة في إبطال كل عهد وكل عقد وكل وعد وكل شرط ليس في كتاب الله الأمر به أو النص على إباحة عقده لأن العقود والعهود والأوعاد شروط واسم الشرط يقع على جميع ذلك قال أبو محمد وأيضا فيقال لمن أوجب الوفاء بعقد أو عهد أو شرط أو وعد ليس في نص القرآن أو السنة الثابتة إيجاب عقد وإنفاذه إننا بالضرورة ندري أنه لا يخلو كل عقد وعهد وشرط ووعد التزمه أحد لأحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون في نص القرآن أو السنة إيجابه وإنفاذه فإن كان كذلك فنحن لا نخالفكم في إنفاذ ذلك وإيجابه وإنما أن يكون ليس في نص القرآن ولا في السنة إيجابه ولا إنفاذه ففي هذا اختلفنا فنقول لكم الآن فإن كان هكذا فإنه ضرورة لا ينفك من أحد أربعة أوجه لا خامس لها أصلا إما أن يكون فيه إباحة ما حرم الله تعالى في القرآن أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا عظيم لا يحل قال تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} ونسألهم حينئذ عمن التزم في عهده وشرطه وعقده ووعده إحلال الخنزير والأمهات وقتل النفس فإن أباح ذلك كفر وإن فرق بين شيء من ذلك تناقض وسخف وتحكم في الدين بالباطل وإما أن يكون التزم فيه تحريم ما أباحه الله تعالى في القرآن أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا عظيم لا يحل قال تعالى

{يأيها النبي لم تحرم مآ أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} ونسألهم حينئذ عمن حرم الماء والخبز والزواج وسائر المباحات وقد صح أن محرم الحلال كمحلل الحرام ولا فرق وإما أن يكون التزم ما أوجبه الله تعالى في القرآن أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا عظيم لا يحل ونسألهم حينئذ عمن التزم في عهده وعقده وشرطه إسقاط الصلوات وإسقاط صوم شهر رمضان وسائر ذلك فمن أجاز ذلك فقد كفر وإما أن يكون أوجب على نفسه ما لم يوجبه الله تعالى عليه فهذا عظيم لا يحل ونسألهم عمن التزم صلاة سادسة أو حج إلى غير مكة أو في غير أشهر الحج وكل هذه الوجوه تعد لحدود الله وخروج عن الدين والمفرق بين شيء من ذلك قائل في الدين بالباطل نعوذ بالله من ذلك فإن قد صح ما ذكرنا فلم يبق إلا الكلام على الآيات التي احتج بها أهل المقالة الأولى وعلى الأحاديث التي شغبوا بإيرادها وبيان حكمها حتى يتألف بعون الله تعالى ومنه مع هذه فإن الدين كله واحد لا تخالف فيه قال الله عز وجل {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فنقول وبالله تعالى نتأيد إن كل ما ذكروا من ذلك فلا حجة لهم في شيء منه أما قول الله عز وجل {ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن لعهد كان مسؤولا} و {كبر مقتا عند لله أن تقولوا ما لا تفعلون} {ولذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} {أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} {ليس لبر أن تولوا وجوهكم قبل لمشرق ولمغرب ولكن لبر من آمن بلله وليوم لآخر ولملائكة ولكتاب ولنبيين وآتى لمال على حبه ذوي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل ولسآئلين وفي لرقاب وأقام لصلاة وآتى لزكاة ولموفون بعهدهم إذا عاهدوا ولصابرين في لبأسآء ولضراء وحين لبأس أولئك لذين صدقوآ وأولئك هم لمتقون} و {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} و {إن لذين يبايعونك إنما يبايعون لله يد لله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه لله فسيؤتيه أجرا عظيما} و {وذكروا نعمة لله عليكم وميثاقه لذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا وتقوا لله إن لله عليم بذات لصدور} و {يوفون بلنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا} و {ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن لله يعلمه وما للظالمين من أنصار} و {وذكر في لكتاب إسماعيل إنه كان صادق لوعد وكان رسولا نبيا} والحديثان اللذان فيهم أوف بنذرك وذم الذين ينذرون ولا يوفون والخبر فيم أعطى بي ثم غدر فإنها جمل قد جاء نص آخر يبين أنها كلها ليست على عمومها ولكنها في بعض العهود وبعض العقود وبعض النذور وبعض الشروط وهي قول رسول الله

صلى الله عليه وسلم لا نذر في معصية الله تعالى ولا فيما يملك العبد وقوله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله تعالى فلا يعصه مع ما ذكرنا من قوله صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فصح بهذه النصوص أن تلك الآيات والخبرين إنما هي فيمن شرط أو نذر أو عقد أو عاهد على ما جاء القرآن أو السنة بإلزامه فقط وقد وافقنا المخالفون ههنا على أن من نذر أو عقد أو عاهد أو شرط أن يزني أو يكفر أو يقتل مسلما ظلما أو أن يأخذ مالا بغير حق أو أن يترك الصلاة فإنه لا يحل له الوفاء بشيء من ذلك لأنه معصية ولا فرق بين هذا وبين شرط وعاهد وعقد أن يضيع حدا أو أن يبطل حقا أو أن يمنع مباحا والمفرق بين ذلك مبطل متناقض متحكم في الدين بالباطل فارتفع الإشكال في هذا الباب جملة والحمد لله رب العالمين وكذلك قول الله عز وجل {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم} فهذا غاية البيان في صحة قولنا والحمد لله رب العالمين وباليقين ندري أن من حرم على نفسه أن يتزوج على امرأته أو أن يتسرى عليها أو ألا يرحلها أو ألا يغيب عنها فقد حرم ما أحل الله تعالى له وما أمره تعالى به إذ يقول {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} وقال تعالى {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} وقال عز وجل {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} وقال تعالى {عندها جنة لمأوى} وقال تعالى {هو لذي يسيركم في لبر ولبحر حتى إذا كنتم في لفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف وجآءهم لموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا لله مخلصين له لدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من لشاكرين} وكذلك من عاهد على تأمين من لا يحل تأمينه وعلى إبقاء مال في ملك من لا يحل له تملكه وعلى اسقاط حد الله تعالى أو قود فإنه قد عقد على معصية وسمى الحلال حراما

والقرآن قد جاء بتكذيب من فعل ذلك وبنهيه عن ذلك وهكذا ما لم يذكر ما ليس في القرآن أو السنة إمضاؤه ومن عجائب الدنيا احتجاج من احتج بالخبر الذي فيه أوف بنذرك وهو أو مخالف لهذا الخبر لأنه ورد في معنيين أحدهما الوفاء بما نذره المرء في جاهليته وكفره وهم لا يقولون بإنفاذ ذلك والثاني أنه ورد في اعتكاف ليلة وهم لا يقولون بذلك فمن أعجب شأنا ممن يحتج بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما ليس فيه منه شيء أصلا وهو قد عصى ذلك الخبر في كل ما فيه ونعوذ بالله من هذه الأحوال فليس في عكس الحقائق أكثر من هذا وأما نحن فنلزم من نذر في كفره طاعة الله عز وجل ثم أسلم أن يفي بما نذر من ذلك اتباعا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وكذلك من نذر اعتكاف ليلة فإنه يلزمه الوفاء به أيضا ومما قدمنا قبل من نذر الباطل وعقده من شرط لامرأته إن نكح عليها فالداخلة بنكاح طالق وإن تسرى عليها فالسرية حرة وإن غاب عنها مدة كذا أو أرحلها فأمرها بيدها تطلق نفسها أو تمسك فكل هذا معاص وخلاف لأمر الله تعالى وتعد لحدود الله لأن الله تعالى لم يجعل قط أمر امرأة بيدها إلا المعتقة ولها زوج فقط بل جعل أمر النساء إلى الرجال وبأيديهم فقال تعالى {لرجال قوامون على لنسآء بما فضل لله بعضهم على بعض وبمآ أنفقوا من أموالهم فلصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ لله وللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن وهجروهن في لمضاجع وضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن لله كان عليا كبيرا} وجعل الطلاق إلى الرجال لا إلى النساء فقال تعالى {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} ولم يجعل طلاقا قبل نكاح ولا عتقا قبل ملك فمسمى كل حكم مما ذكرنا حلالا مفتر على الله تعالى منهي عن كل ذلك فصح أنها عقود باطل لا يصح شيء منها وكذلك بين الله تعالى حكم الطلاق فجعله في كل حال واقعا إذا وقع حيث أطلق الله تعالى إيقاعه وغير واقع حيث لم يطلق الله تعالى إيقاعه فمن طلق إلى أجل أو أخرج طلاقه أو عتاقه مخرج

اليمين فقد تعدى حدود الله تعالى وليس شيء من ذلك طلاقا واقعا ولا عتاقا واقعا أصلا لا حين يوقعه مخالفا لأمر الله تعالى ولا حيث لا يوقعه أصلا وهذا بيان لا يحيل على من نصح نفسه وبالله التوفيق قال أبو محمد ثم نظرنا فيما احتجوا به من قوله عز وجل {لذين ينقضون عهد لله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر لله به أن يوصل ويفسدون في لأرض أولئك هم لخاسرون} و {وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين} {ولا تشتروا بعهد لله ثمنا قليلا إنما عند لله هو خير لكم إن كنتم تعلمون} {ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا لكيل ولميزان بلقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد لله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} فوجدنا هذه الآيات في غاية البيان في صحة قولنا {لحمد لله رب لعالمين} لأن عهد الله إنما هو مضاف إلى الله تعالى ولا يضاف إلى الله عز وجل إلا ما أمر به لا ما نهى عنه وما كان خلاف هذا فهو عهد إبليس لا عهد الله تعالى ومن أضافه إلى الله تعالى فقد كذب عليه ثم نظرنا في احتجاجهم بقول الله تعالى {وإما تخافن من قوم خيانة فنبذ إليهم على سوآء إن لله لا يحب لخائنين} فوجدنا حجة لنا عليهم لأن الله تعالى لم يأمره عليه السلام بالتمادي على عهد من خاف منه خيانة بل ألزمه تعالى أن ينبذ إليهم عهدهم فصح أن كل عهد أمر الله عز وجل بنبذه وطرحه فهو عهد منقوض مرفوض لا يحل التمادي عليه ثم نظرنا فيما احتجوا به من قول الله عز وجل {ومنهم من عاهد لله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من لصالحين * فلمآ آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا لله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} فوجدناه لا حجة لهم فيه لأن هؤلاء قوم عاهدوا الله عز وجل لئن رزقهم مالا ليصدقن وليكونن من الصالحين وهذا فرض على كل أحد لأن الصدقة اسم يقع على الزكاة وعلى التطوع فواجب حمله على عمومه ما لم يمنع من شيء منه نص فدخل في ذلك مانع الزكاة وهذه كبيرة وكذلك سائر فروض المال وخرج منه صدقة التطوع

لأنه نذر فيما لا يملك بعد وكذلك كون المرء من الصالحين فرض عليه نذره أو لم ينذره وقد قال تعالى {ولا يحسبن لذين يبخلون بمآ آتاهم لله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم لقيامة ولله ميراث لسماوات ولأرض ولله بما تعملون خبير} فهذا حكم من بخل بفرائض المال من الزكاة وغيرها مما جاءت بإيجابه النصوص حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا زهير بن حرب ثنا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية ثنا أيوب هو السختياني عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا موسى بن إسماعيل ثنا وهيب ثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه وبه إلى البخاري ثنا أبو عاصم وأبو نعيم كلاهما عن مالك عن طلحة بن عبد الملك عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا ابن أبي عمر العدني ثنا مروان بن معاوية الفزاري ثنا حميد حدثني ثابت عن أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى سخيا يتهادى بين ابنيه فقال ما بال هذا قالوا نذر أن يمشي قال إن الله عن تعذيب

هذا لنفسه لغني وأمره أن يركب ثم نظرنا فيما احتجوا به من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن إخلاف الوعد خصلة من خصال النفاق فوجدناهم لا حجة لهم فيه أول ذلك الحنفيين والمالكيين المخالفين لنا في كثير من هذا الباب مع عظيم تناقضهم في ذلك مجمعون على أن من قال لآخر لأهبن لك غدا دينارا أو سأهبك اليوم هذا الثوب وما أشبه هذا فإنه لا يقضي عليه بشيء من ذلك عندهم فهم أول تارك لما احتجوا به وأما نحن فإننا رأينا الله عز وجل قد أسقط الحكم عمن وعد آخر أن يعطيه شيئا سماه وأكد ذلك باليمين بالله تعالى ثم لم يفعل فلم يلزمه الله عز وجل إلا كفارة اليمين فقط لا الوفاء بما وعد ولم يجعل عليه في ذلك ملامة ثم وجدنا الله تعالى يقول {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشآء لله وذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا} فصح بهذا أن من وعد وعدا ولم يقل إن شاء الله فهو عاص لله عز وجل مخالف لأمره وإذا كان قوله ذلك معصية لله تعالى فهو مردود غير نافذ ثم إننا وجدناه إن وعد وقال إن شاء الله فقد استثنى مشيئة الله تعالى وبالضرورة ندري أن كل ما شاء الله تعالى كونه فهو واقع لا محالة قال الله عز وجل {إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} وأن كل ما لم يكن فإن الله تعالى لم يشأ كونه فإذا لم يفت هذا الواعد بما وعد ولو يوجبه إلا أن يشاءه الله تعالى فقد أيقنا ضرورة أن الله تعالى لم يشأ كونه فلم يخالفه عقده لأنه لم يوجبه إلا بمشيئة الله تعالى لم يشأها عز وجل فصح بهذا يقينا أن الوعد الذي يكون إخلافه خصلة من خصال النفاق إنما هو الوعد بما افترض الله تعالى الوفاء به وألزم فعله وأوجب كونه كالديون الواجبة والأمانات الواجب أداؤها والحقوق المفترضة فقط لا ما عدا ذلك فإن هذه الوجوه قد أوجب الله تعالى الوعيد على العاصي في ترك أدائها وأوقع الملامة على المانع منها وأمر

بأدائها وإن كان عز وجل لم يرد كون ما لم يكن منها ولا حجة لنا على الله تعالى بل لله الحجة البالغة فلو شاء الله لهداكم أجمعين ووجدناهم أيضا قد أجمعوا على أن الوصايا أوعاد يعدها الموصي ثم يختلفوا أن له الرجوع عنها إن شاء إلا العتق فإنهم قد اختلفوا في جواز الرجوع عنه وهذا كله رجوع منهم إلى قولنا وتناقض في قولهم وأما نحن فلم نجز الرجوع في العتق في الوصية لأنه عقد حض الله تعالى عليه وغبط به وما كان هكذا فلا يجوز الرجوع فيه لأنه عقد قد لزم إذا التزمه فلا يسقط إلا بنص ولا نص في جواز الرجوع فيه والعتق المؤجل جائز بخلاف الهبات المؤجلة وسائر العقود المؤجلة لأن التأجيل شرط فلا يجوز إلا ما في كتاب الله تعالى فلما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم باع المدبر ولم ينكر التدبير صح أن العتق إلى أجل شرط في كتاب الله تعالى فهو نافذ لازم لا رجوع فيه بخلاف سائر العقود المؤجلة التي لا نص في إجازتها وأما الكلام في قوله صلى الله عليه وسلم كان منافقا خالصا وكانت فيه خصلة من النفاق فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل فيه إنه يكون كافرا والمنافق أصله من نافقاء اليربوع وهو باب يعده اليربوع في جحره مخفيا مغطى بالتراب فلما كان المسر للكفر المظهر للإيمان يبطن غير ما يظهر سمي منافقا لما ذكرناه فليس كل منافق كافرا إنما المنافق الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان وأما من أسر شيئا ما وأظهر غيره ففعله نفاق وليس كفرا وهو بذلك الفعل منافق لا كافر فلما كان من إذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان يسرون خلاف ما يظهرون

ويقولون ما لا يفعلون كان فعلهم ذلك نفاقا وكانوا بذلك منافقين ومما يصح هذا أن المرتد عن الإسلام إلى الكفر حكمه القتل وهؤلاء المذكورون من المخاصم الفاجر والواعد المخلف والمعاهد الغادر والمؤتمن الخائن والكذاب في حديثه لا قتل عليهم لأنه لا نص في قتلهم ولا قال به أحد فضلا عن أن يكون فيه إجماع فصح ما قلناه والحمد لله رب العالمين ثم نظرنا فيما احتجوا به من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لكل غادر لواء يوم القيامة فهو داخل في هذا الخبر المتقدم وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى أنه خصم من أعطى به تعالى ثم غدر وإنما ذلك كله فيمن عاهد على حق واجب عهدا أمر الله تعالى به نصا في القرآن أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ثم غدر فهذا عظيم جدا وكذلك من وعد بأداء دين واجب عليه وأداء أمانة قبله ثم أخلف فهي معصية نعوذ بالله تعالى منها وليس كذلك من عاهد أو وعد على معصية أو بمعصية كمن عاهد آخر على الزنى أو على هذم الكعبة أو على قتل مسلم أو على ترك الصلاة أو على ما ذكرنا قبل من إيجاب ما لم يجب أو اسقاط ما يجب أو تحريم ما أحل الله تعالى أو إحلال ما حرم الله تعالى أو وعد بشيء من ذلك فهذا كله هو الحرام المفسوخ المردود وبالله تعالى التوفيق وهكذا القول فيما احتجوا به من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج فإنما هذا بلا شك في الشروط التي أمر الله تعالى أن يستحل بها الفروج من الصداق المباح ملكه الواجب إعطاؤه والنفقة والكسوة والإسكان والمعاشرة بالمعروف وتدك المضارة أو التسريح بإحسان لا بما نهى الله تعالى عن أن يستحل به الفروج من الشروط المفسدة من تحليل حرام أو تحريم حلال أو إسقاط واجب أو إيجاب ساقط حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد

البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبيد الله بن موسى عن زكريا بن أبي زائدة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لامرأة أن تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإنما لها ما قدر لها وبه إلى البخاري ثنا محمد بن عرعرة عن شعبة عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلقي وأن يبتاع المهاجر للأعرابي وأن تشترط المرأة طلاق أختها وذكر باقي الحديث فصح أن اشتراط المرأة في نكاحها طلاق غيرها ممن هي في عصمة الناكح لها أو طلاق من يتزوجها بعد أن تزوجها باطل وحرام منهي عنه وشرط مفسوخ فاسد لا يحل عقده ولا إمضاؤه وصح أن كل نكاح عقد على ما لا يحل فإنه لا يحل وهو مفسوخ أبدا ولو ولدت فيه عشرات من الأولاد لأنه عقد بصحة ما لا صحة له وعلى أنه لا يصح إلا بصحة ما لا يصح فهو لا يصح وهذا في غاية البيان والحمد لله رب العالمين وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ثم نظرنا فيما احتجوا به من حديث حذيفة فوجدناه ساقطا لا يصح سنده أما من طريق شعبة فهو مرسل ولا حجة في مرسل وأما الطريق الأخرى فمن رواية الوليد بن جميع وهو ساقط مطرح وأيضا فإن الله تعالى يأبى إلا أن يفضح الكاذبين والكذب في هذا الخبر ظاهر متيقن لأن حذيفة مدني الدار هو وأبوه قبله حليف لبني عبد الأشهل من الأنصار ولم يكن له طريق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤديه إلى قريش

أصلا لأن طريق المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خرج إلى بدر خلفه لطريق قريش من مكة إلى بدر فوضع كذب ذلك الحديث يقينا وبالله تعالى التوفيق ثم لو صح وهو لا يصح لكان منسوخا بلا شك لما سنذكره إن شاء الله تعالى في خبر أبي جندل بعد هذا وبالله تعالى نتأيد ثم نظرنا في الحديث الذي فيه المسلمون عند شروطهم فوجدناه أيضا قد ثناه أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا محمد بن يحيى بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت الرقي ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا عمرو بن علي ثنا محمد بن خالد ثنا كثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون عند شروطهم وبه إلى البزار ثنا محمد بن المثنى نا محمد بن الحارث نا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على شروطهم ما وافقوا الحق قال علي وكل هذا لا يصح منه شيء أما الطريق الأول ففيها كثير بن زيد وهو هالك تركه أحمد ويحيى والثاني عن الوليد بن رباح وهو مجهول والأخرى كثير بن عبد الله وهو كثير بن زيد نفسه مرة نسب إلى أبيه ومرة إلى جده ثم أبوه أيضا نحوه والثالثة من طريق محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني وهو ضعيف ثم لو صح وهو لا يصح لكان حجة لنا عليهم لأن فيه إضافة النبي صلى الله عليه وسلم الشروط إلى المسلمين ولا شروط للمسلمين إلا الشروط التي أباح الله تعالى في القرآن أو السنة الثابتة عقدها لا شروط للمسلمين غيرها لأن المسلمين لا يستجيزون إحداث شروط لم يأذن الله تعالى

بها هذه شروط الشيطان وأتباعه لا شروط المسلمين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة والضلالة في النار والعجب كله من احتجاج الحنفيين والمالكيين بهذه الأخبار وهم أول مخالف لها فيقولون كل شرط في نكاح فهو باطل ما لم يعقده بيمين ثم يتناقضون في اليمين فيجعلون يمينا ما لم يجعل الله تعالى قط يمينا ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأي تناقض أكثر من هذا وأيضا ففي الخبر المذكور الناس على شروطهم ما وافقوا الحق ولعمري لو صح هذا لكان من عظيم حجتنا عليهم لأنه أبطل كل شرط لم يوافق الحق ولا يوافق الحق شيء إلا أن يكون في القرآن أو في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا القول فيما روي عن عمر الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا فعاد كل ما شغبوا فيه من صحيح ثابت أو باطل زائف حجة لنا عليهم والحمد لله رب العالمين ثم نظرنا في حديث أبي جندل فوجدناه لا حجة لهم فيه لوجوه ستة أولها أنه لم يكن عقد للنبي صلى الله عليه وسلم بعد رده من جاء من قريش إليه إذ جاء أبو جندل كما ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد حدثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن محمد هو المسندي نا عبد الرزاق حدثنا معمر أخبرني الزهري أنا عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه فذكر حديث الحديبية وفيه فقال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما فبينما هو كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال صلى الله عليه وسلم إنا لم نفض

الكتاب بعد قال فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم فأجزه لي فقال ما أنا بمجيز ذلك لك قال بلى فافعل ما أنا بفاعل قال مكرز بلى قد أجزناه لك فهذا أمر لا يقول به المخالفون لنا أن يرد إليهم من جاء منهم قبل أن يتم التعاقد على ذلك فكيف يحتجون بما لا يحل عندهم أليس هذا من البلايا والفضائح والوجه الثاني أنه كما ترى لم يرده عليه السلام إلا حتى أجازه من لا تقدر قريش على معارضته وهو من رهط سهيل بن عمرو لأنه سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي والذي أجار أبا جندل هو مكرز بن حنفص بن الأخيف بن علقمة بن عبد الحارث بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي من سادات بني عامر بن لؤي فبطل تعلقهم برد النبي صلى الله عليه وسلم أبا جندل إذ لم يرده إلا بجوار وأمان والوجه الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إلى الكفار أحدا

من المسلمين في تلك المدة إلا وقد أعلمه الله عز وجل أنهم لا يفتنون في دينهم ولا في دنياهم وأنهم سينجون ولا بد كما حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أبو بكر بن أبي شيبة نا عفان نا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لم نرده عليكم ومن جاء منا رددتموه علينا قالوا يا رسول الله أتكتب هذا قال نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم إلينا فسيجعل الله له فرجا ومخرجا قال أبو محمد قد قال الله عز وجل واصفا لنبيه صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فأيقنا أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن من جاءه من عند كفار قريش مسلما فسيجعل الله له فرجا ومخرجا وحي من عند الله صحيح لا داخلة فيه فصحت العصمة بلا شك من مكروه الدنيا والآخرة لمن أتاه منهم حتى تتم نجاته من أيدي الكفار لا يستريب في ذلك مسلم يحقق النظر وهذا أمر لا يعلمه أحد من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحل لمسلم أن يشترط هذا الشرط ولا أن يفي به إن شرطه إذ ليس عنده من علم الغيب ما أوحى الله تعالى به إلى رسوله وبالله تعالى التوفيق والوجه الرابع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد من رد المسلمين إلى المشركين إلا أحرارا إلى أهلهم وآبائهم وقومهم والمخالفون في هذا لا يردون المسلمين الأحرار إلا عبيدا إلى الكفار الذين يعذبونهم

أشد العذاب ويأتون الفاحشة المحرمة في النساء وربما قتلوهم فما ندري كيف يستسهل مثل هذا مسلم والوجه الخامس أن أبا سعيد الجعفري حدثنا قال نا محمد بن علي بن الأدفوي نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس عن أحمد بن شعيب عن سعيد بن عبد الرحمن نا سفيان عن الزهري قال سفيان وثبتني معمر بعد ذلك عن الزهري عن عروة بن الزبير قال إن المسور بن مخرمة ومروان أخبراه بخبر الحديبية فذكر الحديث وفي آخره خروج أبي بصير وهو عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي حليف بني نوفل بن عبد مناف إلى سيف البحر وانفلات أبي جندل بن سهيل إليه قال فجعل لا يخرج رجل من قريش قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير لقريش تخرج إلى الشام إلا اعترضوا لهم فيقتلونهم ويأخذون أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله وبالرحم إلا أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم قال أبو محمد فهذا أبو بصير وأبو جندل ومن معهما من المسلمين قد سفكوا دماء قريش المعاهدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا أموالهم ولم يحرم ذلك عليهم ولا كانوا بذلك عصاة ولا شك في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قادرا على منعهم من ذلك لو نهاهم فلم يفعل فصح يقينا أنه عهد منسوخ بخلاف ما يقوله المخالفون اليوم وإنه إنما لزم من كان بالمدينة فقط دون من كان خارجا عنها والوجه السادس وهو القاطع لكل شغب والحاسم لكل علقة وهو صحة اليقين بأن ذلك العهد منسوخ ممنوع منه محرم عقده في الأبد

مما في سورة براءة من قول الله تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} وبقوله تعالى أيضا في سورة براءة {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} وبقوله تعالى أيضا في سورة براءة {وإن أحد من لمشركين ستجارك فأجره حتى يسمع كلام لله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} وبقوله تعالى أيضا في سورة براءة {كيف يكون للمشركين عهد عند لله وعند رسوله إلا لذين عاهدتم عند لمسجد لحرام فما ستقاموا لكم فستقيموا لهم إن لله يحب لمتقين} وسورة براءة آخر سورة أنزلت كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري نا أبو الوليد هو الطيالسي ثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب قال آخر آية أنزلت {يستفتونك قل لله يفتيكم في لكلالة إن مرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا ثنتين فلهما لثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ لأنثيين يبين لله لكم أن تضلوا ولله بكل شيء عليم} وآخر سورة نزلت براءة قال أبو محمد وبها عهد النبي صلى الله عليه وسلم آخر عهده إلى الكفار عام حجة أبي بكر الصديق بالناس وبعد الحديبية التي كانت فيها قصة أبي جندل بثلاثة أعوام وشهر لأن الحديبية كانت في ذي القعدة عام ست من الهجرة قبل خيبر فلما كان ذو القعدة المقبل بعد الحديبية بعام كامل اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء سنة سبع من الهجرة ثم كان فتح مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة بعد عمرة القضاء بعام غير شهرين وحج تلك السنة عتاب بن أسيد بالمسلمين ثم حج أبو بكر في ذي الحجة سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام وشهرين كما ثنا حمام ثنا الأصيلي ثنا

المروزي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا سعيد بن عفير نا الليث نا عقيل عن ابن شهاب أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال بعثني أبو بكر في تلك الحجة وذكر الحديث وفيه ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب وأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة فأذن معنا علي رضي الله عنه يوم النحر في أهل منى ببراءة وألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فصح باليقين أنه لا يحل أن يعاهد مشرك عهدا ولا يعاقد عقدا إلا على الإسلام فقط أو على غرم بالجزية والصغار إن كان كتابيا وصح يقينا أن كل عهد أو عقد أو شرط عقد معهم أو عوهدوا عليه أو شرط لهم بخلاف ما ذكرنا فهو باطل مردود لا يحل عقده ولا الوفاء به إن عقد بل يفسخ ولا بد وأول ما نسخ الله عز وجل من العهد الذي كان يوم الحديبية فرد النساء كما حدثنا حمام بن أحمد ثنا الأصيلي ثنا المروزي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن محمد ثنا عبد الرزاق ثنا معمر قال أخبرني الزهري أخبرني عروة عن المسور بن مخرمة ومروان فذكر حديث الحديبية وشرط سهيل الذي ذكرنا وفيه ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله عز وجل {يأيها لذين آمنوا إذا جآءكم لمؤمنات مهاجرات فمتحنوهن لله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى لكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم لكوافر واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا ذلكم حكم لله يحكم بينكم ولله عليم حكيم} إلى قوله {يأيها لذين آمنوا إذا جآءكم لمؤمنات مهاجرات فمتحنوهن لله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى لكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم لكوافر واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا ذلكم حكم لله يحكم بينكم ولله عليم حكيم} حدثنا محمد بن سعيد بن نبات حدثنا محمد بن أحمد بن مفرج ثنا عبد الله بن جعفر بن الورد ثنا عمرو بن أحمد بن سرح وأحمد بن زغبة قالا حدثنا يحيى بن بكير ثنا الليث بن سعد عن عقيل عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير ومروان بن الحكم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ

يعني يوم الحديبية فذكر الحديث وفيه فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما وجاء المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله عز وجل فيهن {يأيها لذين آمنوا إذا جآءكم لمؤمنات مهاجرات فمتحنوهن لله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى لكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم لكوافر واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا ذلكم حكم لله يحكم بينكم ولله عليم حكيم} حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله نا أبو إسحاق البلخي نا الفربري نا البخاري نا إسحاق ثنا يعقوب ثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة يخبران خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية وذكر الحديث وفيه أن سهيلا كاتب النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يأتيه من المشركين أحد وإن كان على دين الإسلام إلا رده إلى المشركين قالا وجاءت المؤمنات مهاجرات فكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عاتق فجاء أهلها يسألون رسول الله أن يرجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا محمد بن عبيد أن محمد بن ثور حدثهم عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية فذكر الحديث وشرط قريش في رد من جاء مسلما إليهم وفيه ثم جاء نسوة مهاجرات مؤمنات فنهاهم الله أن يردوهن وأمرهم أن يردوا الصداق قال أبو محمد فإذا نسخ الله تعالى عهد نبيه عليه السلام وعقده وشرطه

فمن هذا الجاهل الذي يجيز هذا الشرط لأحد بعده تبرأ إلى الله من ذلك قال أبو محمد وهكذا القول في حديث أبي رافع أنه منسوخ ببراءة على أنه حديث ننكره وإن كنا لا نعلم في سنده علة ولكنا نعجب منه لأن أبا رافع كان مولى النبي صلى الله عليه وسلم مولى عتاقة فكيف صار مع مشركي قريش رسولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونزول براءة كان بعد إسلام جميع قريش وبعد حديث أبي رافع بلا شك قال أبو محمد فلما لاح بكل ما ذكرنا أنه لا حجة في شيء مما ذكرنا لمن أجاز النذور والعقود والشروط والعهود على الجملة إلا ما عين بنص أو إجماع على أنه لا يجوز منها رجعنا إلى القول الثاني فوجدناه صحيحا ووجدنا النصوص التي احتجوا بها مبينة مفسرة قاضية على هذه الجملة التي احتج بها خصومهم وجدنا النصوص شاهدة بصحة قولهم فمن ذلك نص النبي عليه السلام وهو الذي قال فيه الله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فقال عليه السلام ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله كل شرط في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط شرط الله أوثق وكتاب الله أحق فصح بهذا النص وقد ذكرنا في هذا الباب بسنده أن كل شرط اشترطه إنسان على نفسه أو لها على غيره فهو باطل لا يلزم من التزمه أصلا إلا أن يكون النص أو الإجماع قد ورد أحدهما بجواز التزام ذلك الشرط بعينه أو بإلزامه وليس ذلك إلا في شروط يسيرة قد ذكرناها في كتابنا المرسوم بذي القواعد وأما النذور فإن عبد الله بن يوسف حدثنا قال حدثنا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر نا شعبة بن منصور عن عبد الله بن مرة عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال

إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل قال ابن المثنى وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور عن عبد الله بن مرة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم به وبه إلى مسلم نا قتية نا عبد العزيز يعني الدراوردي عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا وإنما يستخرج به من البخيل حدثنا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك نا محمد بن بكر نا أبو داود ثنا مسلم بن إبراهيم نا هشام هو الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية قال إن الله لغني عن نذرها مرها أن تركب فبطلت بهذين النصين النذور كلها ولم يلزم منها شيء إلا ما أتى به النص إما بإيجابه وإما بإباحة التزامه وليس ذلك إلا فيما كان طاعة لله عز وجل فقط على ما بينه عليه السلام إذ يقول من نذر أن يطيع الله فليطعه وقد ذكرناه بسنده في هذا الباب وما عدا ذلك فلا يلزم من التزامه أصلا وأما العقود فإن عبد الله بن يوسف حدثنا قال نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم نا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد كلاهما عن أبي عامر العقدي نا عبد الله بن جعفر الزهري عن سعد بن إبراهيم أن القاسم بن محمد قال له أخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فصح بهذا النص بطلان كل عقد عقده الإنسان والتزمه إلا ما صح أن يكون عقدا جاء النص أو الإجماع بإلزامه باسمه أو بإباحة التزامه بعينه وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبطال صلح الذين صالح الذي زنى ابنه بامرأته وأما وأي المؤمن واجب فمرسل وفيه أيضا هشام بن سعد وهو

ضعيف وكذلك لا تعد أخاك وتخلفه مرسل أيضا والمحتجون بذلك أشد الناس خلافا له فلا يقضون على من وعد بإنجازه وأما إذا قلت لصبي تعال هاه لك فمنقطع لأن ابن شهاب لم يلق أبا هريرة ولو صح لم يكن لهم فيه حجة لأن ذلك اللفظ هبة صحيحة لازمة وأما العهود فإن الله عز وجل يقول في سورة براءة التي هي آخر سورة أنزلها آخر عهد عهد به إلى المسلمين والمشركين نسخ به جميع ما تقدم فقال تعالى {كيف يكون للمشركين عهد عند لله وعند رسوله إلا لذين عاهدتم عند لمسجد لحرام فما ستقاموا لكم فستقيموا لهم إن لله يحب لمتقين} فأبطل عز وجل كل عهد يعهده أحد لمشرك إلا على ما نص في السورة المذكورة من غرم الجزية مع الصغار لأهل الكتاب خاصة واستثنى تعالى الذين عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المسجد الحرام خاصة وهم الذين ذكروا في أول السورة إذ يقول تعالى {برآءة من لله ورسوله إلى لذين عاهدتم من لمشركين * فسيحوا في لأرض أربعة أشهر وعلموا أنكم غير معجزي لله وأن لله مخزي لكافرين} فلما انقضت تلك الأربعة الأشهر لم يبق لمشرك على مسلم عهد إلا السيف أو الإسلام إلا أن يكون كتابيا فيرضى بغرم الجزية مع الصغار فيجاب إلى ذلك وإلا فالسيف فصح بهذا النص أن كل عهد عاهده مسلم مشركا على غير الجزية مع الصغار فهو عهد الشيطان مفسوخ مردود لا يحل الوفاء به ولا فرق بين من أخذ بحديث أبي جندل وبين من صلى إلى بيت المقدس وترك الكعبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كلا الأمرين ثم نسخا والعجب كل العجب ممن لا يراعي حدود الله تعالى فيعقد عقودا بخلافها ويراعي عهد كافر قد أمر الله ورسوله بفسخه والعجب كل العجب من المالكيين القائلين إنه إن نزل عندنا كفار

حربيون بأمان وعندهم أسارى رجال ونساء مسلمون ومسلمات أنهم لا ينتزعون منهم ويتركون ويردونهم إلى بلادهم ولا يمنعون من الوطء قال أبو محمد ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من هذا القول الملعون الذي تقشعر أجساد المسلمين من سماعه فكيف من اعتقاده فليت شعري لو عاهدوهم على نبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو على قلب المساجد كنائس أو على تعليق النواقيس في المآذن أتراهم كانوا يرون الوفاء لهم بهذه العهود مع ما يسمعون من قوله تعالى {كيف يكون للمشركين عهد عند لله وعند رسوله إلا لذين عاهدتم عند لمسجد لحرام فما ستقاموا لكم فستقيموا لهم إن لله يحب لمتقين} ثم يتعلقون بحديث أبي جندل وهو منسوخ لما نص الله تعالى في براءة مما قد تلوناه في هذا الباب فإن تعلقوا بقول الله تعالى {وإن أحد من لمشركين ستجارك فأجره حتى يسمع كلام لله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} فهذه حجة عليهم لا لهم لأن الله تعالى لم يبح في هذه الآية أن يطلقوا على مسلم ولا على ماله ولا على إذلاله وإنما أباح حقن دمائهم فقط ولا مزيد أما سمعوا قوله تعالى {محمد رسول لله ولذين معه أشدآء على لكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من لله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر لسجود ذلك مثلهم في لتوراة ومثلهم في لإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فستوى على سوقه يعجب لزراع ليغيظ بهم لكفار وعد لله لذين آمنوا وعملوا لصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} ومن أباح لكافر تملك مسلم فقد انقلبت صفتهم فصاروا رحماء على الكافرين أشداء بينهم نعوذ بالله من هذه الصفة القبيحة وقوله تعالى {ما كان لأهل لمدينة ومن حولهم من لأعراب أن يتخلفوا عن رسول لله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل لله ولا يطأون موطئا يغيظ لكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن لله لا يضيع أجر لمحسنين} حدثنا حمام ثنا الأصيلي نا المروزي نا الفربري نا البخاري نا محمد بن العلاء أنبأنا أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني نا أبو إسحاق البلخي نا الفربري حدثناالبخاري نا سعيد بن الربيع نا شعبة عن الأشعث سمعت معاوية بن سويد يقول سمعت البراء بن عازب قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع فذكر فيها نصر المظلوم

حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم نا قتيبة نا الليث عن عقيل عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة وبه إلى مسلم نا عبد الله بن مسلمة بن قعب نا داود بعني ابن قيس عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله وبه إلى مسلم ثنا محمد بن عبد الله بن نمير نا أبي نا زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وبه إلى محمد بن عبد الله بن نمير نا حميد بن عبد الرحمن عن الأعمش عن خيثمة عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله قال أبو محمد فأعرضوا عن هذا كله وقد علمنا أنه لا ظلم للمسلم ولا إسلام له ولا خذلان له ولا تضييع لحاجته ولا أتم لكربته ولا فضيحة له ولكل مسلم ولا أشد خلافا على الله تعالى وعلى رسول صلى الله عليه وسلم من ترك المسلم والمسلمة عند المشرك يذلها ويطؤها ووجب بهذا ضرورة أن الإمام إذا تعاصى عليه خارج عن طاعته ظالم طالب دنيا فلم يراجع الطاعة إلا بأمان وعهود وعقود على ألا يتعرض في شيء من حاله ولا مما بيده فإنه أمان فاسد وعقد باطل وعهود ساقطة وشروط مفسوخة كلها ولا يسقط عنه شيء إلا حد المحاربة فقط بنص القرآن إذ يقول تعالى {إلا الذين

تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فعلموا أن لله غفور رحيم} ولا يسقط بذلك قود لمسلم في نفس فما دونها ولا حد من حدود الله تعالى ولا حق لمسلم في مال أخذه بغير حق بل يقام عليه الحكم في كل ذلك بما أوجبه القرآن أو السنة وإلا فالإمام عاص لله تعالى إن أغفل ذلك قال أبو محمد وهم يقولون فيمن قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها إنها تطلق عليه ويحتجون ب {يا أيها لذين آمنوا أوفوا بلعقود أحلت لكم بهيمة لأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي لصيد وأنتم حرم إن لله يحكم ما يريد} ويرون في رسول الله أتى من دار الحرب فأسلم أنه يرد إلى الكفار ثم يقولون في رجل كان له شريك مسلم في دار فعرض عليه شريكه أن يأخذ الشقص بما يعطى فيه أو يترك فيبيعه ممن يريده فأباح له شريكه أن يبيع وعقد معه وأشهد الناس طائعا على ترك شفعته وأنه لا يقوم بها فباع الشريك قالوا فذلك العهد وذلك العقد ساقطان لا يلزمان وله الأخذ بالشفعة قال أبو محمد أفيكون في عكس الحقائق أشنع من هذا وهذا شرط قد جاء النص بإلزامه فأبطلوه وهو حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وأجازوا شروطا منسوخة لا يحل عقدها الآن أصلا حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي نا مسلم نا أبو الطاهر نا ابن وهب عن ابن جريج أن أبا الزبير أخبره أنه سمع جابر بن عبد الله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع فإن أبى فشريكه أحق به حتى يؤذنه وبه إلى مسلم نا محمد بن عبد الله بن نمير نا عبد الله بن إدريس نا ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعه أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه

فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به فهذا حديث قد صح سماع أبي الزبير من جابر ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأخذ أم الترك للشريك إلا قبل بيع شريكه ولم يجعل له بعد البيع حقا إلا إن كان الشريك لم يؤذنه قبل البيع فعكس هؤلاء القوم الحقائق كما ترى فيتركون احتجاجهم ب {يا أيها لذين آمنوا أوفوا بلعقود أحلت لكم بهيمة لأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي لصيد وأنتم حرم إن لله يحكم ما يريد} حيث شاؤوا فيبطلونه العقود لا يحل لمسلم القرار على سماعها فكيف إمضاؤها مما قد جاء النص بإبطاله التي أمر الله تعالى بإمضائها ويحتجون ب {يا أيها لذين آمنوا أوفوا بلعقود أحلت لكم بهيمة لأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي لصيد وأنتم حرم إن لله يحكم ما يريد} حيث شاؤوا فيمضون عقودا ويبطلون من النذور ما قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنفاذه باسمه كالنذر في الجاهلية الذي أمر عليه السلام عمر بالوفاء به فعكس هؤلاء القوم في أقوالهم الحق عكسا ويقولون من باع بيعا فاشترط شروطا تفسده فقال أنا أسقط الشرط جاز ذلك وصح البيع قالوا فإن باع بيعا إلى أجل مجهول فقال أنا أعجل الثمن وأسقط الأجل قالوا فذلك لا يجوز والبيع فاسد قالوا ومن اشترى عبدا بشرط أن يعتقه فذلك جائز لازم له ولا يرده بعيب يجده فيه لكن يأخذ أرش العيب قالوا فإن أعتقه بشرط ألا يفارقه لم يجز ذلك قالوا ومن قال لآخر بعني عبدك للعتق بأربعين دينارا فقال لا بل بخمسين دينارا فأبى المشتري فقال العبد لسيده يعني منه بأربعين دينارا وأنا أعقد لك وأشرط لك على نفسي بالعشرة الدنانير الزائدة وأشهد لك بذلك فأجاب السيد إلى ذلك والتزم العبد العشرة الدنانير طائعا وأشهد البينة على نفسه بذلك فاشترى المشتري العبد فأعتقه قالوا لا يلزم العبد مما عقد على نفسه وأشهد عليها به شيء أصلا قالوا فلو قال لعبده أنت حر وعليك خمسون دينارا جاز ذلك ولزم العبد أن يؤديها شاء أم أبى قالوا ومن شارط عبده على أن يخدمه هذه السنة التي أولها شهر كذا

ثم أنت حر والتزم العبد ذلك فأبقى العبد تلك السنة كلها قالوا فهو حر ولا يلزمه من شرط الخدمة شيء وقد ذكرنا قولهم في الشفعة وقالوا فيمن باع ثمر حائطه وشرط للمشتري على نفسه ألا يقوم بالجائحة إن أجيح فأجيح قالوا لا يلزمه ذلك الشرط وله القيام بالجائحة ثم قالوا في مريض شاور ورثته في أن يوصي بأكثر من ثلثه وهم في غير كفالته فأجازوا له ذلك فأوصى بأكثر من الثلث ثم مات قالوا يلزمهم ما التزموا ولا قيام لهم عليه قال أبو محمد وهذا عكس الحقائق وإجازة ما لا يجوز وتحليل ما حرم الله تعالى وإبطال ما لا يجوز سواه وقالوا لو تراضى المكاتب وسيده وتشارطا أن المكاتب متى فعل أمرا كذا فمحو كتابته بيد سيده ففعل المكاتب ذلك الشيء وأقر بفعله أو قامت عليه بذلك بينة قالوا هذا شرط لا يلزم ولا يكون محو كتابته إلى سيده لكن إلى السلطان ثم قالوا إن حكم خصمان بينهما رجلا من عرض المسلمين لا سلطان له فحكم بينهما برضاهما ثم امتنع أحد الخصمين قالوا ذلك الحكم لازم لهما ورضاهما به أو لا جائز عليهما وهذا كله ينقض بعضه بعضا قالوا فإن شرط على مكاتبه وصفاء غير موصوفين قالوا ذلك شرط جائز لازم قالوا فإن تشارطا برضا منهما أن ما ولد للمكاتب بل تمام أداء كتابته من ولد فإنهم غير داخلين في الكتابة قالوا هذا شرط لا يلزم ولا يجوز هذا هو قولهم إن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وأنه إن عجز عاد رقيقا قالوا فإن شرط على مكاتبه أضاحي مسماة وعملا معروفا وخدمة محدودة وكسوة ثم أدى بالمكاتب نجومه مجموعة قبل حلول الأجل المشترط أجبر السيد على قبضها وعجل العتق للمكاتب وبطلت شروطهما في الآجال التي اتفقت الأمة على أنها شروط جائزة لازمة قالوا وسقط شرط الخدمة والعمل والسفر بلا عوض يكلفه المكاتب ولم

يسقط شرط الأضحية والكسوة ولا يلزم أيضا لكن يقول كل ذلك ويدفع قيمته مع ما عجل من نجوم كتابته فأبطلوا شرط الآجال الذي صححه الله تعالى بلا دليل وتكلموا في سائر الشروط فأبطلوا بعضها وعوضوا من بعضها كل ذلك تحكم بلا دليل ولكن تناقض لا معنى له فإذا تعلقوا في إسقاط أجل المكاتب بعمر بن الخطاب إذ أجبر أنسا على تعجيل عتق مكاتبه إذ عجل له النجوم كلها قيل لهم هذا عجب من العجب هذه قضيتان اختلف فيهما عمر وأنس فخالفتم عمر حيث لا يحل خلافه واتبعتم أنسا في إحدى القضيتين ثم خالفتم أنسا حيث لا يحل خلافه في القضية الثانية وتعلقتم بعمر وذلك أن عمر أجبر أنسا على مكاتبة سيرين فكان القرآن يشهد لعمر في هذه القضية بالصواب بقوله تعالى {وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم} فخالفتم عمر وقلتم لا يجوز أن يجبر السيد على مكاتبة عبده وإن علم فيه كل خير ثم أجبر عمر أنسا على إسقاط الآجال في المكاتب وتعجيل عتقه إذا عجل المكاتب كل ما عليه وأنس يأبى ذلك والنص يشهد لأنس في هذه القضية بالصواب لأن هذا العقد في الآجال المشترطة في الكتابة داخلة في العقود التي اجتمعت الأمة على جوازها فهي داخلة في عموم قوله تعالى {ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن لعهد كان مسؤولا} وكل عقد صح بنص أو إجماع فلا يجوز إبطاله إلا بنص آخر أو إجماع ولا نص ولا إجماع على إسقاط آجال المكاتب بتعجيل ما عليه فخالفتم أنسا في هذه القضية وخالفتم عمر في الأولى فلو قيل لكم اجتهدوا في الخطأ ما أمكنكم أكثر من هذا قالوا ومن وطىء مكاتبته فحملت خيرت بين التمادي على المكاتبة وبين إسقاطها ويذهب الشرط والعقد ضياعا قالوا ومن كان له على آخر دين إلى أجل من طعام وذهب إلى أجل مسمى فأتاه بهما قبل الأجل قالوا يجبر على قبض الذهب قبل الأجل ولا يجبر على قبض الطعام إلا حتى يحين الأجل فمرة يثبتون الشروط ويحتجون ب {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد}

والمسلمون عند شروطهم ومرة يبطلون كل ذلك كيفما وافقهم قالوا ومن كان له على آخر دين إلى أجل مسمى أو حال فقال له أنا أنظرك بالدين الذي لي عليك إلى عشرة أيام بعد الأجل الذي هو إليه وأهبك غدا دينارا قالوا يقضى عليه بالتأخير شاء أم أبى ولا يقضى عليه بالهبة الدينار الذي ذكر أصلا قالوا ولو قال لغريمه جئني بحقي قبلك والحق حال لا مؤجل وأنا أهبك نصفه فأتاه به لزمه ما وعده أن يهبه وقضى عليه بذلك قالوا ولو قال مالي في المساكين صدقة لزمه ثلث ماله ولم يقض عليه به أن يتصدق بالثلث فإن فرط حتى تلف الثالث ولم يؤمر أن يتصدق منه بشيء قالوا فلو تصدق على إنسان معين بدار قضي عليه بذلك قالوا فلو قال داري هذه صدقة على زيد أو قال على المساكين إن دخلت دار عمرو فدخلها عامدا ذاكرا ليمينه قالوا لا يقضى عليه بشيء ولا يحكم عليه بإمضاء ما تصدق به لا للمعين ولا للمساكين قالوا ولو قال ذلك في غير يمين قضي عليه بإمضاء ما تصدق به على المعين قالوا فلو قال عبدي حر إن دخلت دار عمرو فدخلها قضي عليه بعتق العبد قالوا ولو قال في نذر إن جاء أبي سالما فعلي أن أعتق عبدي هذا حرا لله فجاء أبوه سالما لم يقض عليه بعتق ذلك العبد فلو قال إن اشتريت عبد فلان فهو حر فاشتراه قالوا يقضى عليه بعتقه وهذا ضد النص وضد حكم النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول من نذر أن يطيع الله فليطعه وإذ يقول عليه السلام إنه لا نذر فيما لا يملك ابن آدم فقضوا هم عليه بإمضاء النذر فيما لم يملك إذ نذره ولم يقضوا عليه بالطاعة التي ألزمه الله تعالى إمضاءها والوفاء بها قالوا فلو قال أنا أهبك غدا درهما لم يقض عليه بذلك قالوا ولو قال له إن تبع هذا الثوب أنا أقويك بثمنه وبدرهم أهبه لك قالوا يقضى عليه بذلك قالوا ومن شرط لامرأته أن لا يرحلها ولا يتسرى عليها ولا يتزوج عليها لم

يلزمه شيء من ذلك وجاز له النكاح وله أن يرحلها ويتسرى عليها ويتزوج قالوا فلو زاد في كل ذلك فإن فعل فأمرها بيدها أو قال فالسرية حرة والداخلة بنكاح طالق فإن كل ذلك يلزمه ويقضى عليه به قال أبو محمد وليس في التلاعب أكثر من هذا قالوا ومن شرط على نفسه نفقة امرأة ولده الناكح ولم يلزمه في الكبير وثبت النكاح واختلفوا في لزوم ذلك في امرأة الصغير قالوا فإن تزوج امرأة على أنه إن جاء بصداقها المسمى إلى أجل مسمى فذلك وإلا فلا نكاح بينهما فسخ أبدا جاء بالصداق إلى ذلك الأجل أو لم يجىء هذا مع قولهم إن من شرط في البيع شرطا يفسده فرضي إسقاط الشرط صح البيع وهم يقولون إن البيوع تشبه النكاح حتى إنهم أبطلوا النكاح حين النداء إلى الجمعة قياسا على بطلان البيع حينئذ ثم قالوا فإن تزوجها بصداق مسمى إلى الميسرة فإن رضي بإسقاط الشرط عجل الصداق جاز النكاح وإن أبى من إسقاط الشرط فسخ النكاح قالوا ومن قال لآخر إن جئتني بأمر كذا في وقت كذا فقد زوجتك ابنتي فلانة فأتى بذلك الشيء في ذلك الوقت قالوا لا يجوز له أن يفي بهذا الشرط فإن أنكحه بذلك الشرط فسخ النكاح أبدا قالوا ومن زوج أمته عبد غيره وتشارطا أن ما ولدت فهو حر فسخ النكاح ولزم سيدها تحرير ما ولدت بالشرط قالوا فلو تشارطا أن ما ولدت فهو رقيق بينهما قالوا ينفذ النكاح ويثبت والولد رقيق لسيد الأمة ويبطل الشرط ففي الأول بطل النكاح وثبت الشرط وفي الثانية عكس ذلك وهو ثبات النكاح وبطلان الشرط قالوا فلو تزوج المرأة على أن لها من النفقة كذا وكذا فدخل بها قالوا بطل الشرط وينفذ النكاح ولها نفقة أمثالها قالوا فلو تزوجها على أن أمرها بيدها إن تزوج عليها قالوا يثبت النكاح ويثبت الشرط ويكون أمرها بيدها إن تزوج قالوا إن تزوجها على ألا ينفق عليها ورضيت بذلك وأشهدت على نفسها فدخل بها ثم بدا لها قالوا ذلك لها ولا يلزم ذلك الشرط ويقضى لها

عليه بالنفقة قالوا فلو تزوج امرأة على مائة فلما هموا بالفراغ قالوا يضع لك خمسين على ألا تخرجها من دارها أو قالوا من ولدها فقال نعم فزوجوه على ذلك الشرط وهو راض وهي راضية وتشاهدوا ثم بدا له فأراد إرحالها قالوا ذلك له ويوفيها المائة الكاملة ولا يلزم واحدا منهما ما تشارطاه فلو قالت له أتزوجك بمائة وأضع عنك خمسين على أن تخرجني فقال نعم وتشاهدا على ذلك فلما تزوجها أراد أن يرحلها قالوا فذلك له شرط على نفسه في ألا يرحلها مفسوخ وشرطها على نفسها فيما أسقطت عنه من الخمسين لازم لها لا ترجع عليه بشيء قالوا فلو قال لها إن رحلتك فأمرك بيدك فذاك لازم له قالوا ولو قال لها إن غبت عنك سنة فأمرك بيدك فله أن يطأها قبل أن يغيب ولا يسقط بذلك ما جعل لها من الشرط قالوا فلو قال لها وهي حامل إذا وضعت حملك فأمرك بيدك قالوا فإن وطئها بعد هذا القول وقبل أن تضع حملها فقد سقط ما جعل من لها الشرط وقالوا من خالع امرأته على أن عليها نفقة ولدها ست سنين لم يلزمها من ذلك إلا رضاع سنتين فقط ثم تعود النفقة على الأب ويسقط عنها ما شرطت على نفسها قالوا فإن طلقها طلقة سنة فأعطته مالا على أن لا رجعة له عليها قالوا ذلك لازم لها وله وكأنه خلع قالوا فلو تشارطا في الخلع إنك إن خاصمتني فأنت امرأتي فخاصمته فإن لها ذلك والشرط باطل لا يلزم قال أبو محمد فهلا قالوا هو لازم وكأنه رجعة كما قالوا في التي قبلها وكأنه خلع قالوا ومن كان لامرأته عليه دين فخالعها على أن يجعل لها نصف الدين وتبرئه من الباقي قالوا فالطلاق نافذ والإبراء جائز لازم وتجير على أن ترد إليه ما عجل فيبقى إلى أجله هذا وهم يجبرون سيد المكاتب والغريم على قبض ما عجل لها بضد ما فعلوه في المرأة قالوا وإن قالت أمة تحت عبد إن أعتقت فقد تخيرت نفسي أو قالت فقد تخيرت زوجي وأشهدت على

نفسها بذلك قالوا فليس ذلك بشيء ولا يلزمها ولها استئناف الخيار إن أعتقت وهم يقولون في عبد أو حر قال إن تزوجت فلانة فهي طالق أو قال كظهر أمي فتزوجها القائل ذلك فهي طالق وكظهر أمه ويقولون في قائل قال إن وكلني زيد بطلاق امرأته فلانة فهي طالق فوكله زيد بطلاق تلك المرأة إنها لا تكون طالقا إلا أن يحدث لها الوكيل طلاقا إن شاء وإلا فلا ويقولون في قائل قال متى طلقت زوجتي أو قال إن طلقت زوجتي هذه فهي مراجعة مني فطلقها قالوا لا تكون مراجعة بذلك إلا أن يحدث لها رجعة إن شاء قالوا ومن باع جارية على أن تعتق فذلك جائز لازم قالوا فإن باعها على أن لا تباع قالوا لا يجوز ويفسخ البيع إلا أن يرضى البائع إسقاط الشرط فيتم البيع ويسقط الشرط وقالوا ومن باع بثمن مجهول فسخ البيع فإن باع نصف جارية له من زيد واشترط على المشتري نفقتها سنة قالوا إن كان ذلك ثابتا في الحياة والموت جاز الشرط وليس في الثمن المجهول أكثر من هذا لاختلاف الشبع وتناول النفقة في الصحة والمرض قالوا ومن باع سلعة بثمن مسمى على أن يتجر له في ثمنها سنة فلا بأس بذلك إذا كان ذلك ثابتا عليه إن تلف الثمن أخلف مكانه غيره وهم لا يجيزون القراض إلى أجل قالوا من عرف كيل صبرة له من طعام فابتاعها منه مبتاع جزافا وقال له المشتري ما أبالي عرفت أنت أيها البائع كيلها أم لم تعرف فتبايعنا على ذلك قالوا فلا يلزم هذا الشرط المشتري وله أن يرد إن شاء قالوا فلو لم يعلم البائع كيلها فباعها جزافا قالوا فذلك للمشتري لازم ولا رد له وتناقضهم فيما يلزمونه من العقود والشروط وما لا يلزمونه منها أكثر من أن يحصى أو يحاط به إلا في المدة الطويلة وفيما ذكرنا كفاية لمن عقل والحنفيون مثلهم في ذلك وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد فلما قام البرهان بكل ما ذكرنا وجب أن كل عقد أو

شرط أو عهد أو نذر التزمه المرء فإنه ساقط مردود ولا يلزمه منه شيء أصلا إلا أن يأتي نص أو إجماع على أن ذلك الشيء الذي التزمه بعينه واسمه لازم له فإن جاء نص أو إجماع بذلك لزمه وإلا فلا والأصل براءة الذمم من لزوم جميع الأشياء إلا ما ألزمنا إياه نص أو إجماع فإن حكم حاكم بخلاف ما قلنا فسخ حكمه وورد بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد قال أبو محمد أبو محمد فإذ قد ثبت كل ما ذكرنا بالبراهين الضرورية فقد ثبت أن كل ما لا يصح بصفة ما وشرط ما وعقد ما ففسدت تلك الصفة وذلك الشرط وذلك العقد في حين التعاقد فإن ذلك الشيء لا يصح أبدا ويبطل ذلك العقد ويفسخ أبدا لأن ما تعلقت صحته بما لا يجوز فلا صحة له إذ لم يصح ما لا تمام له إلا به وهذا أمر يعم بالضرورة وبذلك وجب إبطال كل نكاح انعقد بشرط فاسد أو بصفة فاسدة وكذلك كل بيع انعقد على ما لا يجوز فإن كل ذلك يفسخ أبدا ووجب بذلك بطلان كل صلاة صليت في مكان مغصوب يعلم المصلي فيه أنه مغصوب وكل صلاة فعل فيها المرء ما لا يجوز له وبذلك حرمت ذبيحة الغاصب والسارق والمعتدي وبسكين مغصوبة وبالله تعالى التوفيق وصح بهذا كله أن كل عقد أو عهد أو نذر أو شرط أوجبها أو أباح إيجابها نص فإنها نافذة لازمة فمن ادعى سقوط شيء من ذلك فقوله باطل وكل ذلك باق بحسبه لازم كما كان إلا أن يأتي مدعي بطلانه بنص على بطلانه فيجب الوقوف حينئذ عند ما أوجبه النص مثال ذلك أن الإجارة عقد قد جاء النص بجوازه وإباحة التزامه وصح الدليل من النص والإجماع على أن الإجارة إلى غير أجل وعلى غير عمل محدود باطل مردودة لا تجوز لأنها أكل مال بالباطل والإجارة على ما ذكرنا حرام مردودة بإجماع الأمة كلها من مجيز لها ومن مانع

منها وبالنص ولا بد أن تكون الإجارة إلى أجل معلوم أو إلى غير أجل ولا سبيل إلى قسم ثالث بوجه من الوجوه وقد بطل أحد القسمين المذكورين فوجب ضرورة إذ قد جاء النص بإباحة الإجارة أن يصح القسم الآخر فصح وجوب ذكر الأجل المسمى في الإجارة ضرورة بالنص وبمقدمتي الإجماع اللتين ذكرنا فإذ قد صح ذلك فذكر الأجل في عقد الإجارة شرط صحيح وإذا كان ذلك فقد ثبت عقده وما ثبت عقده الآن فلا يبطل في ثان إلا بنص فصح أن لا رجوع للمؤاجر ولا للمستأجر فيما عقدوه ما داموا أحياء وما لم ينتقل ملك الشيء المستأجر عن المؤاجر له وما كانت عين ذلك الشيء قائمة فإن انتقل الملك أو مات أحدهما بطل عقد الإجارة لقول الله عز وجل {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وليس صحة عقد الإجارة مانعا من إخراج المؤاجر عن ملكه الشيء الذي أجر وإن أدى ذلك إلى بطلان العقد لأن البيع مباح له بالنص وليس بيعه ماله نقضا لعقده وإنما ينقض ذلك العقد ملك غير العاقد للشيء المعقود فيه قال أبو محمد وقال بعضهم أنتم إذا منعتم من نقض عقد الإجارة والكتابة والتدبير والعتق بصفة ثم أجزتم للعاقدين أن يخرجوا عن ملكهم الأعيان التي عقدوا فيها هذه العقود وذلك مبطل للعقود فقد تناقضتم وأجزتم إبطالها قيل لهم وبالله تعالى التوفيق لم نمنع قط من أن يفعل الإنسان في ماله ما أبيح له قبل العقد الذي عقد فيه وليس ذلك العقد بمحرم عليه ما كان له حلالا من إخراج ذلك الشيء عن ملكه ومدعي هذا متحكم في الدين قائل بغير بيان من الله تعالى وإذا منعنا أن يفسخ بقوله ما عقد بقوله مما أبيح له عقده أو أمر به فقط وإنما يلزم هذا التعقب القائلين بالقياس الذي يحرمون به المسكوت عنه لتحريم المأمور بتحريمه والرهن وغيره سواء فيما ذكرنا إذا لم يمنع من إخراجه من الرهن بالبيع والعتق

نص وأما المنكرون لهذا فقد تناقضوا فيه أقبح تناقض وقالوا بما أنكروه علينا يعني أصحاب مالك فقالوا لا تقبل شهادة النساء في عتق أصلا ثم قالوا إن شهدت امرأتان بدين على زيد لعمرو حلف عمرو معهما ورد عتق زيد لعبد الذي أعتقه ودين عمرو محيط بماله فقد أجازوا في رد العتق شهادة النساء وكذلك قالوا لو شهدت امرأتان بابتياع زيد وعمرو لأمة كانت تحت زيد قبلتا مع يمين البائع وفسخ نكاح الأمة ومثل هذا لهم كثير جدا قال أبو محمد ومن استؤجر على عمل معلوم فهو عقد قد جاء النص بإباحته واتفق القائلون بالإجارة على لزومه في حين عقده واختلفوا هل ينفسخ في ثانية أو لا فوجب أن يبقى على ما جاء الدليل به من صحته ما لم يأت نص بفسخه وهكذا القول في المدبر وفي الموصي بعتقه وفي المعتق بصفه وفي المكاتب أنها عقود قد اتفق الناس على ما جاءت به النصوص من صحتها في حين عقدها وعلى القضاء بها ما لم يرجع العاقد لها فيها ثم اختلفوا هل لعاقدها فسخها في ثاني عقده إياها أو لا فوجب ألا يكون له في شيء منها رجوع إلا بنص ولا نص ولا إجماع في إباحة الرجوع في ذلك لا بتراضيها ولا بغيره فلا يجوز أصلا بخلاف المؤاجرة وكان إخراجه لكل ما ذكرنا عن ملكه جائزا ويبطل بذلك العقد لانتقال الملك كما قلنا في الشيء المؤاجر ولا فرق وأما المكاتب فإنما يخرج عن الملك منه ما لم يؤد خاصة وفي ذلك المقدار يبطل العقد لا فيما أدى وهو قول علي وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء النص ببيع المدبر وبيع المكاتب ما لم يؤد فوجب إباحة ذلك وممن رأى للمؤجر والمستأجر أن يفسخ الإجارة أيهما شاء متى شاء قبل الأجل وإن كره الآخر مسروق وشريح والشعبي وممن رأى ألا رجوع لموصي في العتق خاصة الأوزاعي والثوري وأما العارية فبخلاف ما ذكرنا لأن العارية المطلقة التي ليست إلى أجل هي التي صحت بالنصوص وبالإجماع وأما

شرط التأجيل فيها فهو باطل لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى ولا جاء به نص ولا إجماع فهو باطل وجمهور الفقهاء يقولون إن العارية التي يشترط التأجيل فيها ليست شيئا وهو شرط لا يلزم فلم يتفق على صحته فهو باطل وكذلك الوعد بالعارية لا يلزم لما ذكرنا وهكذا القول في ضمان ما لم يلزم بعد من المال وفي ضمان الوجه أن كل ذلك باطل لأنها شروط لم يأت بصحتها نص ولا إجماع ويبطل بما ذكرنا ضمان النفقة على زيد وعلى من لم يأت نص ولا إجماع بإيجاب النفقة عليه وهكذا ضمان الصداق عمن لم يتزوج بعد ووجب بما ذكرنا الرجوع في الشركة والقراض لأيهما شاء متى شاء وإن كره الآخر لأن شرط التأجيل فيها باطل إذ لم يأت بإباحته نص ولا إجماع وهكذا القول في كل شرط شرطه المحبس في الحبس من أجل محدود أو من بيعه إن احتيج كل ذلك باطل لما ذكرنا وكذلك إن شرط في الهبة والعمرى والرقبى استرجاع شيء منها فهو باطل كله لما ذكرنا بخلاف وجوب ذكر الأجل في الإجارة وبخلاف وجوب الرجوع في العارية وأما ضمان ما قد وجب من الأموال فهو عقد مجمع على صحته وقد جاء النص به وكذلك الحوالة وإذ هما كذلك فلا رجوع لأحد فيها لما ذكرنا من أن ما صح في أول لم يبطل في ثان إلا بنص أو إجماع وكذلك الحبس والهبات والصدقات والعمرى كل ذلك قد بان عن الملك فالرجوع فيه كسب على غيره وقد جاء النص ببطلان ذلك قال الله تعالى {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وأما القرض المؤجل فقد صح النص فيه بالأجل وإذا صح بالنص فهو ثابت فلا رجوع لأحد فيه إذا كان شرط الأجل في حيز القرض لقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} فإن انعقد حالا ثم شرط على نفسه أجلا فهو شرط فاسد لا يلزمه والدين حال كما كان لأنه شرط ليس في كتاب الله ولا أجمع على لزومه فهو باطل وأما المزارعة والمساقاة المعقودتان إلى أجل فقد

ادعى قوم أن كل من أجازهما وهم أهل الحق قد أجازوهما إلى أجل مسمى فالأجل فيهما شرط صحيح وإذا كان صحيحا في حين العقد فهو لازم وإذا كان لازما في وقته لم يبطل في ثانية إلا بنص أو إجماع ولا نص ولا إجماع في ذلك إلا بتراضيهما معا للإجماع على ذلك قال أبو محمد وهذا خطأ بل قد صح الإجماع على عقدهما بغير أجل ولم يأت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين تجويزهما إلى أجل فعقدهما إلى أجل لا يجوز البتة لأنه لم يوجد نص ولا إجماع فهو شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل بحكم النبي صلى الله عليه وسلم وليس تراضي المتعاقدين عقدا صحيحا أو المتشارطين شرطا صحيحا بنص أو إجماع ثم تراضيا معا على فسخه أو تأجيله مجيزا لهما ذلك بل رضاهما بفسخه أو تأجيله باطل والعقد والشرط باق كما كان إلا أن يبيح لهما النص أن يتراضيا على فسخه فيكون لهما ذلك حينئذ وإلا فلا لأنه ليس لأحد أن يوجب ولا أن يحرم ولا أن يحلل إلا بنص ومن تعدى ذلك فقد تعدى حدود الله تعالى وشرع من الدين ما لم يأذن به الله قال الله تعالى {أم للإنسان ما تمنى} والكل عبيد لا أمر لهم ولا حكم إلا ما حكم به عليهم ولهم خالقهم ومولاهم عز وجل وأما النكاح والبيع فقد جاء النص بصفة عقدهما وبصفة فسخهما فليس لأحد أن يعقدها بغير تلك الصفة فإن فعل فليس نكاحا ولا بيعا وهو مردود مفسوخ أبدا ومن عقدهما كما أمر فليس له فسخهما إلا بالصفة التي أتى النص بفسخهما بها وإلا كان فسخه باطلا مردودا وثبت عقدهما كما كان وقد حرم بيع أم الولد بالنص الوارد في ذلك مما قد ذكرناه في كتاب الإيصال وفي المحلى فلم يلتفت إلى الخلاف في ذلك وقد صح النص بجواز الهبة ووجوب قبولها وتحريم الرجوع فيها فلم يجز الرجوع في شيء من الهبة ولا الصدقة من ذلك حاشا العطية للولد فقط للنص في ذلك ولم يأت نص ولا إجماع

على رد الحبس لا بتراض ولا بغير تراض فلم يجز أصلا قال أبو محمد فإن قال قائل أنتم لا تلزمون أحدا الوفاء بعهده ووعده إلا أن يوجب ذلك عليه نص ومن مذهبكم أن وعد الله تعالى ووعيده نافذان لا سبيل إلى دخول خلف فيهما فالجواب أن هذا الذي نقول هو الذي لا يجوز تعديه لأننا متعبدون ليس لنا أن نلتزم شيئا إلا ما ألزمنا خالقنا تعالى فإلزامنا فعل شيء لم يأتنا نص ولا إجماع بأن نفعله باطل والله تعالى ليس كذلك لأنه ليس فوقه أمر فكل ما قضى به نافذ وكل ما قاله فحق وأيضا فوعدنا نحن ليس خبرا لأنه لا علم لنا بما يكون في المستأنف والله تعالى ليس كذلك لأنه عليم بما يكون قبل أن يكون فكل ما أخبر تعالى أنه يفعله فلا بد أن يفعله ومن أجاز غير ذلك أجاز على الله تعالى الكذب في خبره تعالى الله عن ذلك قال الله عز وجل {قال فلحق ولحق أقول} ما خالف الحق فهو باطل تعالى الله عن الباطل فوعد الله تعالى ووعيده خبر لا بد من كونه لأنه حق وصدق وعلم منه تعالى بما يكون من ذلك وعلمه صادق لا يخيس أصلا ولا يظن ظان أننا نقول بالوعيد كقول المعتزلة من إبطال سيئة واحدة للحسنات ومن الخلود على المصر على الكبائر ومعاذ الله من ذلك ولكنا نقول بما جاء به النص من الموازنة وذهاب السيئات بالحسنات بمعنى أن الحسنات تذهب السيئات وبأن من استوت حسناته وسيئاته أو رجحت حسناته لم ير نار أصلا ولكن من رجحت سيئاته وكبائره ممن مات مصرا فهؤلاء الذين يخرجون من النار بالشفاعة ولا خلود على مسلم في النار ولا يدخل الجنة كافر أبدا وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل

الباب الرابع والعشرون وهو باب الحكم بأقل ما قيل

الباب الرابع والعشرون وهو باب الحكم بأقل ما قيل قال أبو محمد رحمه الله ادعى قوم أن هذا أيضا نوع من أنواع الإجماع صحيح لا شك فيه وقالوا لأنه قد صح إلزام الله عز وجل لنا اتباع الإجماع والنص وحرم علينا القول بلا برهان فإذا اختلف الناس في شيء فأوجب قوم فيه مقدارا ما وذلك نحو النفقات والأروش والديات وبعض الزكوات وما أشبه ذلك وأوجب آخرون أكثر من ذلك واختلفوا فيما زاد على ذلك فالإجماع فرض علينا أن نأخذ به وأما الزيادة فدعوى من موجبها إن أقام على وجوبها برهانا من النص أخذنا به والتزمناها وإن لم يأت عليها بنص فقوله مطرح وهو مبطل عند الله عز وجل بيقين لا شك فيه ونحن محقون في الأخذ بأقل ما قيل عند الله عز وجل بيقين لأنه أمر مجتمع عليه والاتفاق من عند الله عز وجل ولزوم ما اجتمع عليه فرض لا شك فيه والاختلاف ليس من عند الله عز وجل قال الله تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} قال أبو محمد كان يكون هذا حقا صحيحا لو أمكن ضبط أقوال جميع أهل الإسلام في كل عصر وإذ لا سبيل إلى هذا فتكلفه عناء لا معنى له ولا بد من ورود النص في كل حكم من أحكام الشريعة لكن إذا ورد نص بإيجاب عمل ما فبأقل ما يقع عليه اسم فاعل لما أمر به يسقط عنه الفرض كمن أمر بصدقة فبأي شيء تصدق فقد أدى ما أمر به ولا يلزمه زيادة لأنها دعوى بلا نص ولا غاية لذلك فهو باطل ولا سبيل إلى أن يكون الله تعالى

حكم في الشريعة يلزمنا لم يجعل عليه دليلا من نص وقال الله تعالى {وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} فما لم يكن في الكتاب فليس من الدين في شيء وهو ساقط عنا بيقين ومنهم من قال بل نأخذ بأكثر ما قيل لأنه لا يخرج من لزمه فرض عما لزمه إلا بيقين ولا يقين إلا بعد أن يستوعب كل ما قيل قال أبو محمد وهذا باطل لأنه صار بهذا القول قافيا ما ليس له به علم ومثبتا حكما بلا برهان وهذا حرام بنص القرآن وإجماع الأمة وكل من خالفنا في هذا الأصل فإنه يتناقض ضرورة ويرجع إلى القول به ألا ترى أننا اتفقنا كلنا على إيجاب خمس صلوات وادعى قوم أن الوتر فرض فوجب الانقياد لما اجتمعوا عليه وترك ما اختلفوا فيه إلا أن يأتوا بدليل على ما زادوا وكذلك اتفقنا على أن في خمسين من البقر بقرة وقال قوم في كل خمس بقرات شاة وقال قوم في الثلاثين تبيع وفي الأربعين وقال قوم فيما زاد على الأربعين بحساب ذلك بجزء من بقرة فوجب الأخذ بما اتفقوا عليه وترك ما اختلفوا فيه إذا لم يأتوا بدليل على ما ادعوا من ذلك ووجب أن يلزم أحدا إلا البقرة في خمسين وهي المتفق عليه منهم ومن غيرهم لا ما زاد في إيجاب الغرامة في ذلك ثم نقول لمن خالفنا في هذا الأصل أرأيت إن اجتمع الناس على مقدار ما ثم قال قوم بأزيد منه ولم يأتوا على صحة قولهم بدليل هل لك بد من ثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن تقول بما أجمعوا عليه وبترك ما اختلفوا فيه وهو قولنا هذا الذي خالفتنا فيه أو تأخذ بأكثر ما قيل بلا دليل فتصير قافيا ما ليس لك به علم ومثبتا حكما بلا برهان فهذا حرام بنص القرآن وبإجماع الأمة لم يقل به أحد ويصير قائله منتهكا إما عرضا حراما وإما مالا حراما وإما موجبا شرعا لم يأذن به الله تعالى وكل ذلك حرام لا يحل أصلا وإما أن يترك هذين القولين فيفارق الإجماع جملة ويأتي أيضا بقول لم يقله

أحد فإذ قد سقط هذان القولان بالضرورة البرهانية صح القول الأول ضرورة بيقين لا بد منه وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل لا يجوز أن يخلو أحد القولين من دليل عليه إما أن يقوم الدليل على صحة القول بالمقدار الأقل وإما أن يقوم الدليل على صحة الزيادة عليه قال أبو محمد لسنا نحتاج إلى التطويل معه ههنا لكنا نقول وبالله تعالى التوفيق لسنا ننازعك فيما قام الدليل عليه وإنما نسألك عن مسألة قال فيها قوم بمقدار ما وقال آخرون بزيادة لا دليل عليها بأيديهم شرط أن تكون المسألة من مسائل الإجماع المجرد التي قد أحال النص فيها على طاعة أولي الأمر منا على اتباع سبيل المؤمنين فإن قلت إن عدم الدليل على صحة الزيادة على أقل ما قيل هو دليل على صحة القول بأقل ما قيل فهذا هو نفس قولنا شئت أم أبيت وبالله تعالى التوفيق وقد احتج بعض من ضغط هذا الباب ممن اضطر إلى الشغب بمثل ما نذكره وشبهه إلى أن قال ما الفرق بينكم وبين من قال هذه قصة قد لزم فيها حكم بإجماع فلا يخرج المرء عما لزم بإجماع إلى سقوطه عنه إلا بإجماع آخر فالواجب أن يقال بأكثر ما قيل فيقال له هذا تمويه فاسد لأنهما أمران أردت مزجهما وتصييرهما أمرا واحدا ولا يصح ذلك لأن كون وجوب الحكم في مسألة ما هو شيء آخر غير وجوب مقدار ما في ذلك الحكم فليس اتفاق الأمة على أن ههنا حكما واجبا مما يوجب في ذلك مقدارا محدودا بل هذا هو باب آخر فإذا وجب الحكم نظرنا حينئذ في قدر الحكم فيه بنص وارد فإن لم يرد نص صرنا فيه إلى الإجماع فالعدد المتفق عليه واجب قبوله بإجماع ومن ادعى زيادة كلف الدليل فإن أتى به لزم اتباعه وإلا سقط قوله بقول الله تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} ومن هذا النوع هو علمنا أن علينا دينا وشرائع إلا أنه

من ادعى وجوب شيء ما يدخله في الشرع لم يلتفت إليه ولم يجب قبوله إلا بنص أو إجماع وهكذا علمنا بوجوب حكم ما علينا ليس يوجب قبولنا من كل من حد لنا ذلك الحكم بحد ما إلا أن يأتي على حده بنص أو إجماع وهذا كله باب واحد والأصل أن لا حكم على أحد ولا شيئا حراما على أحد بقوله تعالى {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وبقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} وبقوله صلى الله عليه وسلم إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فلا يحل لأحد من مال أحد ولا من دمه ولا من عرضه ولا من بشرته إلا ما أباحه نص أو إجماع وما عدا ذلك فباطل بالنصوص التي ذكرنا فأقل ما قيل في كل ما ذكرنا هو واجب بالإجماع على وجوبه وكل زيادة على ذلك فباطل إلا أن يأتينا مدعيها بنص يصحح قوله وصح بالنص المذكور أنه إن اتفق الناس أو جاء نص بإيجاب مقدار منا من عرض مسلم أو بشرته أو ماله فهو وجوبه ثم إن ادعى مدع وجوب زيادة في ذلك ولم يأت على صحة دعواه بنص فهو باطل بيقين لأنه لا محل ما قد حرم الله تعالى وكذلك القول فيمن حرم شيئا مما في الأرض حاشا ما جاء في تحريمه نص أو إجماع وكذلك من فرض شيئا زائدا على ما أوجب أنه فرض نص أو إجماع وكفى بهذا بيانا ويلزمنا من قال بخلاف هذا إن كان مالكيا أو شافعيا أن يوجب الزكاة في العسل لأن الأمة مجمعة على أن في الأموال زكاة بقوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} فيلزمهم ألا يسقط هذا الحق اللازم بإجماع إلا بإجماع آخر

ولزمه إن كان حنفيا أن يوجب الزكاة في الحلي والعوامل بما ذكرنا ومثل هذا كثير جدا مسقط أكثر مذاهبهم ومفسد لجمهور أقوالهم في الصلاة والطهارة والحج وسائر أبواب الفقه كلها وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل إذا قلتم لو كان هذا القول الزائد واجبا لجاء به دليل فماذا تقولون لمن قال لكم لو كان ساقطا لجاء بإسقاطه دليل فالواجب أن هذا قول صحيح وقد نصصنا على الدلائل الواردة بإسقاط كل قول بتحريم أو بتحليل أو إيجاب حكم لم يأت بصحته نص أو إجماع وهي الآيات التي تلوناها آنفا فوجب بها أن كل مقدار اتفق على وجوبه أو أخذه فهو واجب ومن زاد على ذلك بدعواه شيئا فهو مفتر مبطل بتلك النصوص ما لم يأت على صحة دعواه بنص وهذا أمر جلي لا إشكال فيه ولا يذهب عنه إلا مخذول أو معاند وإنما هذا فيما لم يرد فيه نص وأما ما جاء فيه نص فلا نراعي فيه ما اتفق عليه منه ولا نبالي بمن خالفنا حينئذ ولا نراعي فيه استصحاب حال ولا أقل ما قيل فيه ولكن نأخذ بالنص زائدا كان على ما اتفق عليه أو ناقصا عنه أو موافقا له لأن الدليل قد قام حينئذ والبرهان صح على وجوب الانتقال إلى ما جاء به النص وصح بذلك الأخذ بالزائد على أقل ولو لم ينفرد بالرواية للزائد إلا إنسان واحد ثقة وخالفه جميع أهل الأرض لكان القول بما رواه ذلك الواحد واجبا لأنه محق ولكان فرضا علينا خلاف كل من خالف رواية ذلك الواحد ولو أنهم جميع أهل الأرض سواء لأنهم كلهم حينئذ مبطلون يلزمهم قبول رواية ذلك الواحد الحق أكثر من كل من خالفه وأولى أن يتبع قال الله تعالى {يأيها لذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا هتديتم إلى لله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون} فعم تعالى ولم يخص وقال تعالى {فقاتل في سبيل لله لا تكلف إلا نفسك وحرض لمؤمنين عسى لله أن يكف بأس لذين كفروا ولله أشد بأسا وأشد تنكيلا} فإن قال قائل فما تقولون في شاهدين شهد أحدهما لزيد على عمرو

بدينار وشهد له الآخر عليه بدينارين أتقولون بأقل ما اتفقنا عليه قال أبو محمد هذا قد قام البرهان من النص على وجوب القضاء له بالدينار بشهادتهما ومن نص آخر ثان يقضي له بالدينار الباقي إن حلف المدعى له ما شاهده فهذا من باب ما قام الدليل على وجوب الحكم بالزيادة فيه وقد قال بعض من خالفنا إن القائل بما أخذتم به من أقل ما قيل لم يقل به لأنه أقل ما قيل وإنما قال به لدليل ما أوجبه عنده فقولوا بدليله حتى نناظركم عليه قال أبو محمد فيقال من قال بهذا وبالله تعالى التوفيق إنا لا نتعنى باستدلال المستدلين لأنه قد يستدل المرء بدليل غير واجب فيخرجه البحث إلى قول صحيح كما عرض لابن مسعود إذ سئل عن امرأة توفي عنها زوجها قبل أن يدخل بها وقبل أن يفرض لها صداقا فقال بعد شهر أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فالله ورسوله بريئان ثم أفتى بما وافق الحق من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يكون علمه فنحن لا نبالي باستدلال ابن مسعود بل لا نقول به أصلا لكنا نقول بما أخرجه إليه السعد لأنه وافق قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا وجدنا القائل قد أوجب مقدارا ما ووافقه على إيجابه جميع العلماء أولهم عن آخرهم فقد أوجب الله تعالى علينا اتباع الإجماع وألا نخالف سبيل المؤمنين وأولي الأمر منا ولا نبالي باستدلاله في ذلك إذ لم يأمر الله تعالى باتباع استدلال الواحد أو الطائفة من العلماء وإنما أمرنا تعالى باتباع ما اتفقوا عليه وترك ما تنازعوا فيه حتى نرده فنحكم فيه القرآن والسنة فقد فعلنا ذلك فأخذنا بما أجمعوا عليه وهو أقل ما قيل لقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فلا يحل لمسلم خلاف هذا وكلفنا من زاد على ذلك المقدار زيادة يتورع فيها أن يأتي ببرهان من النص إن كان صادقا بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فإن جاء ببرهان من القرآن والسنة

قبلنا منه وإلا تركنا قوله لأن من لم يأت ببرهان فليس صادقا لقوله تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} وقد علم كل ذي حس صحيح من الناس أن الاستدلال على القول شيء آخر غير القول المستدل عليه فقد أدى التقليد أقواما إلى أقوال صحاح والتقليد فاسد لكن البحث أوقعهم عليها فصادفوا أقوالا فيها أحاديث صحاح لم تبلغهم قط ولا استدلوا بها ومن علم كيفية المقدمات علم أن من المقدمات الفاسدة تنتج إنتاجا صحيحا في بعض الأوقات ولكن ذلك لا يصحب بل يخون كثيرا وقد بينا هذا في كتابنا الموسوم بكتاب التقريب بيانا كافيا والحمد لله رب العالمين كثيرا فقد صح بما ذكرنا أنه قد يخطىء في كيفية الاستدلال من يصيب في القول المستدل عليه وقد صح أيضا أنه قد يصيب المرء في ابتداء الاستدلال ثم لا يوفيه حقه فيخطىء في القول المستدل عليه فقد استدل قوم بنصوص صحاح ثم تأولوا فيها ما ليس فيها وقاسوا عليها ما لم يذكر فيها وأصابوا في الاستدلال بالنص وأخطؤوا في الحكم به فيما ليس موجودا في ذلك النص وقد استدل سعد رضي الله عنه على تحريم البيضاء جملة بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الرطب بالتمر فصح بهذا أنه ليس علينا اتباع استدلال القائلين بالفتيا وإنما علينا اتباع الفتيا إن أيدها نص أو إجماع ولا نبالي أخطأ قائلها في استدلاله عليها أم أصاب وكذلك يلزمنا ترك الفتيا إذا لم يقم عليها برهان من النص أو الإجماع وإن استدل قائلها بنص صحيح إلا أنه ظن أن ذلك النص يوجب ما أفتى به وذلك النص في الحقيقة غير موجب لتلك الفتيا وأيضا فإن من المسائل مسائل ليس يروى فيها نص وإنما هي إجماع مجرد على أمر أمره النبي صلى الله عليه وسلم كإجماع الناس على القراض وكإجماع طوائف من الناس على الإيجاب في دية الذمي إذا قتله ذمي ثمانمائة درهم أو ستة أبعرة وثلثي بعير واختلف آخرون في الزيادة على ذلك إلى أن ساواه قوم

بدية المسلم وقال آخرون نصف دية المسلم وقال آخرون ثلث دية المسلم فاحتج الموجبون في ذلك ثمانمائة درهم أو ستة أبعرة وثلثي بعير بأن قالوا هذا مجمع على وجوبه وما زاد على ذلك فمختلف فيه وذكروا ما رويناه من طريق يونس بن عبيد أن الحسن البصري قال دية اليهودي والنصراني ثمانمائة درهم وقال بهذا المقدار في دية المجوسي خاصة مالك والشافعي ورووه عن عثمان رضي الله عنه واحتج من أوجب في ذلك نصف الدية بروايات عن بعض الصحابة وآثار من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهي صحيفة لا تصح وقد اختلف الصحابة في هذا فبطل هذا القول واحتج من أوجب في ذلك ثلث الدية وهم الشافعي وأصحابه بأن رووا ذلك عن بعض الصحابة وقد قلنا إن الصحابة مختلفون في ذلك فليس بعضهم في ذلك حجة دون بعض واحتج في ذلك بعض أصحاب الشافعي بأن ادعى أنه أقل ما قيل وهذا باطل لما أوردناه من قول الحسن آنفا وقال بعضهم ممن يعرف الاختلاف لم نقل ذلك لشيء من هذا كله لكن لقوله تعالى {أعنده علم لغيب فهو يرى * أم لم ينبأ بما في صحف موسى} فوجب ألا يساوى به المسلم ولا المسلمة فوجب حطه إلى ثلث الدية وقال أبو محمد وهذا احتجاج فاسد البتة لأنهم يساوون بينهما في أنه إن غصب المسلم مال ذمي أن يغرمه الذمي ما غصب وفي قطعهما في السرقة ويحلف كل واحد منهما للآخر في الدعوى وأيضا فقد جعلوا دية الذمي أكثر من دية يد المسلمة ومن دية عينها وساووه بمأمومة الحر المسلم ولا شك في أن حرمة شعرة من مسلم أعظم من حرمة كل ذمي في الأرض فكيف عضو من أعضاء المسلم ونجدهم قد فضلوا على المسلم في بعض المواضع فقالوا لا يقتل الكافر الحر إذا قتل عبدا مسلما فجعلوه ههنا أعظم حرمة من المسلم وهذا قول سوء تقشعر منه الجلود ويلزمهم على هذا أن أبا جهل وأبا لهب

كانا أعظم حرمة من زيد بن حارثة وبلال بعد إسلامهما وقبل عتقهما ومعاذ الله من هذا وإنما يجب استعمال قوله عز وجل {أعنده علم لغيب فهو يرى} في ألا يساوى بينهما في القود أصلا وأما في الحقوق الواجبة فيما دون الأجسام والكرامة والحرمة فليس التساوي فيها تساويا في القدر لأنه لا خلاف بين أحد من أن أحكام الأموال يستوي فيها أبو بكر والصحابة وأهل الذمة وبالله تعالى التوفيق فكان الواجب ألا يكلف الذمي غرما بعد الجزية إلا ما أوجبه نص أو إجماع وقد أوجب الإجماع المذكور عليه إما ثمانمائة درهم وإما ستة أبعرة وثلثي بعير ووقع التنازع في الزيادة فلما لم يأت بشيء من ذلك نص صحيح وجب أن يطرح ولا يلتفت إليه فإن قالوا بتقليد صاحب في ذلك قيل لهم ليس الصاحب الذي قلدتم بأولى من صاحب آخر خالفه في ذلك مع أن التقليد كله باطل على ما سنبينه في بابه من ديواننا هذا إن شاء الله تعالى فإن قال قائل أنتم متناقضون في قولكم بأقل ما قيل في المقادير اللازمة في الأموال والحدود وفي الأعداد كلها وترككم الزيادة إلا أن يوجبها نص مع قولكم إن من اتفق عليه من زمان ما ثم ادعى قوم ارتفاعه فإن الواجب التمادي عليه والثبات على ما قد اتفق على وجوبه حتى يأتي مدعي ارتفاعه ببرهان على ما ادعى من ذلك فهلا قلتم إنه لا يلزم هذا الحكم إلا مدة الزمان الذي اتفق على لزومه فيها دون الأزمان والأعيان التي اختلف في لزوم ذلك فيها ولها كما قلتم لا نأخذ في المقادير اللازمة في الأموال والحدود والأعداد إلا بما اتفق عليه دون ما اختلف فيه قال أبو محمد فيقال له وبالله تعالى التوفيق إن هذا شغب ضعيف وتمويه فاسد ولا تناقض بين القولين أصلا بل هما شيء واحد وباب واحد لأن الإجماع على وجوب الحكم وورود النص كالإجماع على أقل المقادير والأعداد

كلاهما قد صح فيه الإجماع ثم إن الدعوى لانتقال الحكم عما كان علمه وللزوم النص بعض ما يقتضيه لفظه دون بعض الدعوى للزيادة على أقل ما قيل من المقادير والأعداد ولا فرق وكلا الأمرين إيجاب شرع وحكم بلا نص وذلك لا يحل اتباعه وثباتنا على ما اتفقنا على أنه واجب أو أنه مباح أو أنه حرام وتركنا من فارق ما اتفقنا على وجوبه من المقادير والأعداد ولا فرق ومسقط الحق بعد وجوبه كالزائد فيه أو الناقص منه وكالشارع غيره ولا فرق بين كل ذلك أصلا فهو كله باب واحد كما ترى ولا شغب من أراد التمويه بالفرق بين الأمرين وإنما موه من موه في ذلك وغلط من غلط لأنه رأى أحد الأمرين زيادة على ما اتفق عليه ورأى الآخر خروجا عما اتفق عليه فظن أنهما بابان مختلفان فأخطأ في ذلك بل هو كله باب واحد لأنه كله ممن خالفنا خروج عما اتفق عليه بلا دليل ومفارقة ما أجمع عليه بلا برهان وهو كله في مذهبنا نحن باب واحد لأنه كلها منا ثبات على ما اتفق عليه ولزوم لما صح الإجماع فيه وامتناع من مفارقته وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإنه لم يقل قط مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حكم اليوم بحكم ما أن هذا الحكم لا يلزم الناس غدا إلا باستئناف برهان مجدد بل الأمة كلها مجمعة على وجوب حكم النص وتماديه إلى يوم القيامة وكذلك حكمه عليه السلام على زان أو سارق هو حكم منه على كل زان أو سارق إلى يوم القيامة وهكذا كل ما حكم به النص في عين ما هو حكم في نوع تلك العين أبدا ولو كان خلاف ذلك ونعوذ بالله من هذا الظن لبطلت لوازم نبوته صلى الله عليه وسلم في الزمان الآتي بعده وهذا كفر من معتقده فصح أن حكمه صلى الله عليه وسلم في زمانه حكم باق في كل زمان أبد الأبد ولم يقل قط مسلم إنه صلى الله عليه وسلم إذا حكم بأخذ درهم أو ضرب عشرة أسواط أو إيجاب ركعتين أو صوم يوم إنه يجب بذلك أخذ درهمين وضرب عشرين

سوطا أو إيجاب أربع ركعات وصوم يومين بل هذه حدود الله تعالى التي حرم تعديها وأخبر أن متعديها من الظالمين بقوله تعالى {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} فهذا فرق أوضح من الشمس لا يراها العميان وقد تغيب عن بعض الأماكن في بعض الأوقات وهذا برهان لا يغيب نوره أبدا ويراه كل ذي عقل وحس سليم ممن خوطب بالديانة وأيضا فإن أقل ما قيل حق ويقين لأنه إجماع وخصمنا موافق لنا على وجوبه والزيادة عليه شك ودعوى وظن ولا يحل رفع اليقين بالشك ولا ترك الحق بالظن ولا مفارقة الواجب بالدعوى وقد حرم الله تعالى ذلك إذ يقول عز وجل {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا} وفيما ذكرنا كفاية لمن له عقل ونصح نفسه وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل أنتم تقولون إن الإجماع والنص أصلان والعمل بهما فرض وأنتم تأخذون في النص بالزائد أبدا ولا تأخذون بالمتيقن عليه وتأخذون في الإجماع بأقل ما قيل وهو المتفق عليه فكيف هذا فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن الإجماع راجع إلى النص وإلى التوقيف كما بينا في أول الكلام في الإجماع وإنما أخذنا به لأنه نقل العمل أو إقرار على أمر معلوم علمه عليه السلام فأقره ولم ينكره وليس اختلاف الموجبين للمقادير المختلفة في الأحكام نقلا لشيء من ذلك وإنما هو أن ما عدم أن يقوم عليه دليل نص فإما رأى من قائله أو قياس أو تقليد وكل ذلك باطل ودعوى بلا دليل فلذلك لزم تركه وأما الزيادة في النص من أحد الرواة فهو نقل صحيح والأخذ بالنقل الصحيح واجب والسبب الموجب لقبول الزيادة من العدل في الرواية هو السبب نفسه الموجب لقبول أقل ما قيل في الإجماع إنما ذلك قبول ما صح من النقل فقط وأما ما اختلف فيه ولم يأت أحد من المختلفين فيه بنص فليس نقلا والسبب المانع من قبول التقليد

هو السبب المانع من قبول ما زاده قائل على ما اتفق عليه هو وغيره من العلماء بأجمعهم دون دليل يأتي به يوجب زيادته ما زاد وهو كله تقليد وقد قال بعض الشافعيين محتجا في أخذ الشافعي رحمه الله في دية اليهودي والنصراني بأنها ثلث دية المسلم بأن ذلك أقل ما قيل قال أبو محمد وليس كذلك وقد روينا عن يونس بن عبيد عن الحسن أن دية النصراني واليهودي ثمانمائة درهم وقد صح عن بعض المتقدمين أنه لا دية له فليس ثلث الدية أقل ما قيل وأما نحن فإنا نقول إنه لا دية لذمي أصلا لا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي إذا قتله مسلم خطأ أو عمدا وإن قتله عندنا يهوديا كان أو نصرانيا أو مجوسيا أقل ما قيل وهو ثمانمائة درهم أو ستة أبعرة وثلثا بعير وبرهاننا على ذلك أن الله تعالى إنما ذكر قبل الخطأ والدية فيه إن كان المقتول مؤمنا هذا هو نص الآيات الواردات في ذلك فلم يذكر الله تعالى لذمي دية وقال عليه السلام من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يأخذوا الدية وإما أن يستقيدوا أو كما قال عليه السلام ونهى عليه السلام أن يقتل مؤمن بكافر فبطلت الدية إن قتله مسلم لأنه عليه السلام إنما جعل الدية في العمد حيث يكون الخيار فيها أو في القود وليس ذلك بين المؤمن والكافر لكنه بين الكفار فيما بينهم وبين المؤمنين فيما بينهم فصح قولنا وبالله تعالى التوفيق وحرام أخذ شيء من مال مسلم إلا بنص أو إجماع وأما إن قتل ذمي مسلما عمدا فقد بطلت ذمته ولا بد من قتله وأخذ ماله كله ولا رأي في ذلك لولي المقتول ولا دية وحديث عبد الله بن سهل ثابت العمل وليس فيه ذكر أن الدية التي ذكر عليه السلام كانت في عمد إذ قد يقتلونه خطأ ولا في قوله عليه السلام في ذلك الحديث أتقسمون على رجل فيسلم برمته أنه لو أسلم لكان فيه لولي المقتول خيار فلا يجوز التزيد في الحديث ما ليس فيه وسورة براءة مبينة لأحكام أهل الذمة التي

لا يجوز تعديها وهي ناسخة لكل ما كان قبلها وقد احتج بعض الموافقين لنا في هذا الفصل بأن قال يقال لمن قال قد اتفق على وجوب حكم ما في هذه المسألة فلا تبرأ من ذلك الحكم إلا بإجماع آخر على البراءة منه قال فيقال له لو شهد عدلان على أن زيدا غصب مالا من عمرو ولم يثبت قدر ذلك المال للزم على قولكم أن يقال للمشهود عليه قد ثبت عليك حق فلا تبرأ حتى يقر المغصوب منه ببراءتك من كل حق له عندك فلما أجمع الناس بلا خلاف على أنه لا يقال له ذلك لكن يقال له قد ثبت قبلك حق ما فأقر بما شئت واحلف على ما أنكرت ولا يلزمك غير ذلك صح قولنا بأقل ما قيل وبطل اعتراضكم وبالله تعالى التوفيق واحتج أيضا بأن قال من الدليل على الأخذ بأقل ما قيل إن شاهدين لو شهدا على زيد أنه سرق وقال أحدهما ربع دينار وقال آخر بل سدس دينار فإنه يؤخذ بأقل ما اتفقا عليه فلا يقطع ولا يغرم إلا سدس دينار فقط قال أبو محمد وهاتان حجتان تلزم أصحاب القياس وليس مما نرضى أن نحتج به وإنما اعتمادنا على البراهين الضرورية التي قدمنا وبالله تعالى نعتصم وقال هذا القائل أيضا إن المقدرين إذا اختلفا في تقدير السلعة فإننا نأخذ بما اتفقا عليه قال فإن قال لنا قائل فلم تأخذون بالزيادة في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقولون عند هذا الزائد علم لم يكن عند من لم يأت بتلك الزيادة فهلا قلتم وعند هذا المقدار الزائد علم زائد بقيمة هذه السلعة فهلا أخذتم به قال أبو محمد وهذا الذي اعترض به على القائل بما ذكرنا اعتراض فاسد لكنا نقول الجواب عن هذا أن تقدير المقدار ليس من باب الخبر في الدين لأن الخبر نقل عن مشاهدة يوجب حكما على الناس كلهم وتقدير المقدار إنما هو من باب الشهادة التي لا يقبل فيها إلا اثنان أو واحد مع يمين الطالب فلو

كان مع هذا المقدار الزائد آخر عدل يشهد بتلك الزيادة لأخذنا بها وإن كان ذلك فيما يؤخذ فيه باليمين مع الشاهد حلف المشهود له مع ذلك المقدر الزائد واستحق الزيادة وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى قال {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} ثم أوجب تعالى الدية في قتل المؤمن خطأ فهي لازمة للمؤمن والذمي بعموم الخطاب ولزوم الدين لكل إنسي وجني ولم يأت نص بإيجاب دية لذمي إن قتل خطأ فهو معفو عنه جملة أصابه مسلم أو ذمي وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين وإما أن يودى وإما أن يقاد أو كلام هذا معناه وصح أنه عليه السلام قال لا يقتل مسلم بكافر فصح أن الدية لا تجب في العمد إلا حيث يجب التخيير فيها بين الدية وبين القود وليس ذلك في قتل المسلم الذمي أصلا فبطل أن يكون على المسلم دية في الذمي لا في عمد ولا في خطأ فإن قتل الذمي ذميا فهو داخل في هذا الخطاب والقود بينهما أو الدية وليس إلا أحد القولين إما ما اتفق على وجوبه كما قال الحسن وإما الدية التي قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلم فنظرنا في قول الحسن فوجدناه لا ينسند أصلا ولا وجه له فسقط ولا ندري أيضا هل أجمع على مقدار ذلك أو لا بل لعل من العلماء من قال لا دية لذمي أصلا ولعل في العلماء من يقول بأقل مما قال الحسن فسقط هذا القول ووجدنا الله يقول {وأن حكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم وحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل لله إليك فإن تولوا فعلم أنما يريد لله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من لناس لفاسقون} فصح أن دية الذمي على الذمي كدية المسلم على المسلم ولسنا في ذلك جاعلين لهم كالمسلمين حاشا لله من ذلك نحكم بينهم بالحكم بين المسلمين كما أمر الله تعالى ونحن وهم نقتل الذمي بالذمي كما نقتله بالمسلم وليس هذا مساواة المسلم بالمجرم وبالله تعالى حسبنا

الباب الخامس والعشرون في ذم الاختلاف

الباب الخامس والعشرون في ذم الاختلاف قال أبو محمد قال قوم هذا مما يسع فيه الاختلاف قال أبو محمد وهذا باطل والاختلاف لا يسع البتة ولا يجوز لما نذكره بعد هذا وإنما الفرض علينا اتباع ما جاء به القرآن عن الله تعالى الذي شرع لنا دين الإسلام وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله تعالى ببيان الدين فقال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} ولا مزيد وقال تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فما صح في النصين أو أحدهما فهوالحق ولا يزيده قوة أن تجمع عليه أهل الأرض ولا يوهنه ترك من تركه فصح أن الاختلاف لا يجب أن يراعى أصلا وقد غلط قوم فقالوا الاختلاف رحمة واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم قال أبو محمد وهذا من أفسد قول يكون لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا هذا ما لا يقوله مسلم لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف وليس إلا رحمة أو سخط وأما الحديث المذكور فباطل مكذوب من توليد أهل الفسق لوجوه ضرورية أحدها أنه لم يصح من طريق النقل والثاني أنه صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يأمر بما نهى عنه وهو عليه السلام قد أخبر أن أبا بكر قد أخطأ في تفسير فسره وكذب عمر في تأويل تأوله في الهجرة وكذب أسيد بن حضير في تأويل تأوله فيمن رجع عليه سيفه وهو يقاتل وخطأ أبا السنابل في فتيا أفتى بها في العدة وقد ذكرنا هذا المعنى في باب إبطال التقليد من كتابنا هذا مستوعبا فأغنى عن إيراده ههنا

وفيما ذكرنا كفاية فمن المحال الممتنع الذي لا يجوز البتة أن يكون صلى الله عليه وسلم يأمر باتباع ما قد أخبر أنه خطأ فيكون حينئذ أمر بالخطأ تعالى الله عن ذلك وحاشا له صلى الله عليه وسلم من هذه الصفة وهو عليه السلام قد أخبر أنهم يخطئون فلا يجوز أن يأمرنا باتباع من يخطىء إلا أن يكون صلى الله عليه وسلم أراد نقلهم لما رووا عنه فهذا صحيح لأنهم رضي الله عنهم كلهم ثقات فعن أيهم نقل فقد اهتدى الناقل والثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول الباطل بل قوله الحق وتشبيه المشبه للمصيبين بالنجوم تشبيه فاسد وكذب ظاهر لأنه من أراد جهة مطلع الجدي قام جهة مطلع السرطان لم يهتد بل قد ضل ضلالا بعيدا وأخطأ خطأ فاحشا وخسر خسرانا مبينا وليس كل النجوم يهتدى بها في كل طريق فبطل التشبيه المذكور ووضح كذب ذلك الحديث وسقوطه وضوحا ضروريا قال أبو محمد وقد ذم الله تعالى الاختلاف في غير ما موضع من كتابه قال الله عز وجل {ذلك بأن لله نزل لكتاب بلحق وإن لذين ختلفوا في لكتاب لفي شقاق بعيد} وقال تعالى {كان لناس أمة واحدة فبعث لله لنبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم لكتاب بلحق ليحكم بين لناس فيما ختلفوا فيه وما ختلف فيه إلا لذين أوتوه من بعد ما جآءتهم لبينات بغيا بينهم فهدى لله لذين آمنوا لما ختلفوا فيه من لحق بإذنه ولله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم} وقال تعالى مفترضا للاتفاق وموجبا رفض الاختلاف {يأيها لذين آمنوا تقوا لله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * وعتصموا بحبل لله جميعا ولا تفرقوا وذكروا نعمة لله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من لنار فأنقذكم منها كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تهتدون} إلى قوله تعالى {وعتصموا بحبل لله جميعا ولا تفرقوا وذكروا نعمة لله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من لنار فأنقذكم منها كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تهتدون} وقال تعالى {ولا تكونوا كلذين تفرقوا وختلفوا من بعد ما جآءهم لبينات وأولئك لهم عذاب عظيم} فصح أنه لا هدى في الدين إلا ببيان الله تعالى لآياته وأن التفرق في الدين حرام لا يجوز وقال تعالى {وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين} وقال تعالى {شرع لكم من لدين ما وصى به نوحا ولذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا لدين

ولا تتفرقوا فيه كبر على لمشركين ما تدعوهم إليه لله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب} وقال تعالى {وأن هذا صراطي مستقيما فتبعوه ولا تتبعوا لسبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} وقال تعالى {إن لذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنمآ أمرهم إلى لله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} وقال تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدوي نا أحمد بن زيد ثنا أبو عمران الجوني قال كتب إلى عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله يعرف في وجهه الغضب فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله نا أبو إسحاق البلخي نا الفربري نا البخاري حدثنا أبو الوليد هو الطيالسي نا شعبة أخبرني عبد الملك بن ميسرة قال سمعت النزال بن سبرة قال سمعت عبد الله بن مسعود قال سمعت رجلا قرأ آية سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كلاكما محسن قال شعبة أظنه قال لا تختلفوا فإن من قبلكم اختلفوا فهلكوا حدثنا محمد بن سعيد ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ أنبأنا محمد بن عبد السلام الخشني نا بندار نا غندر نا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث وذكر شعبة في آخره قال حدثني مسعر عنه فرفعه إلى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ولا تختلفوا حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم نا عبيد الله بن معاذ نا أبي نا شعبة عن محمد بن زياد سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم

بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم وبه إلى مسلم نا يحيى بن يحيى وإسحاق بن منصور وأحمد بن سعيد بن صخر الدارمي قال يحيى أنا أبو قدامة الحارث بن عبيد وقال إسحاق نا عبد الصمد هو ابن عبد الوارث التنوري ثنا همام وقال أحمد نا حبان نا أبان قالوا كلهم نا أبو عمران الجوني عن جندب بن عبد الله البلخي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا وبه إلى مسلم حدثني زهير بن حرب نا جرير عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال قال أبو محمد ففي بعض ما ذكرنا كفاية لأن الله تعالى نص على أن الاختلاف شقاق وأنه بغي ونهى عن التنازع والتفرق في الدين وأوعد على الاختلاف بالعذاب العظيم وبذهاب الريح وأخبر أن الاختلاف تفريق عن سبيل الله ومن عاج عن سبيل الله تعالى فقد وقع في سبيل الشيطان قال تعالى {لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم} وقد نص تعالى على أن الاختلاف ليس من عنده ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به وإنما أراده تعالى إرادة كون كما أراد كون الكفر وسائر المعاصي فإن قال قائل إن الصحابة قد اختلفوا وأفاضل الناس أفيلحقهم هذا الذم قيل له وبالله تعالى التوفيق كلا ما يلحق أولئك شيء من هذا لأن كل امرىء منهم تحرى سبيل الله ووجهة الحق فالمخطىء منهم مأجور أجرا واحدا لنيته الجميلة في إرادة الخير وقد رفع عنهم الإثم في خطئهم لأنهم لم يتعمدوه ولا قصدوه ولا استهانوا بطلبهم

والمصيب مأجور منهم أجرين وهكذا كل مسلم إلى يوم القيامة فيما خفي عليه من الدين ولم يبلغه وإنما الذم المذكور والوعيد الموصوف لمن ترك التعلق بحبل الله تعالى الذي هو القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم بعد بلوغ النص إليه وقيام الحجة به عليه وتعلق بفلان وفلان مقلدا عامدا للاختلاف داعيا إلى عصبية وحمية الجاهلية قاصدا للفرقة متحريا في دعواه برد القرآن والسنة إليها فإن وافقها النص أخذ به وإن خالفها تعلق بجاهليته وترك القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء هم المختلفون المذمومون وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم مقلدين له غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فإن قال قائل فإذ لا بد من مواقعة الاختلاف فكيف التخلص من هذا الذم الوارد في المختلفين قيل له وبالله تعالى التوفيق قد علمنا الله تعالى الطريق في ذلك ولم يدعنا في لبس وله الحمد فقال تعالى {وأن هذا صراطي مستقيما فتبعوه ولا تتبعوا لسبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} وقال تعالى {وعتصموا بحبل لله جميعا ولا تفرقوا وذكروا نعمة لله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من لنار فأنقذكم منها كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تهتدون} وقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فإذا وردت الأقوال فاتبع كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم الذي هو بيان عما أمرنا الله تعالى به وما أجمع عليه جميع المسلمين فهذا هو صراط الله تعالى وحبله الذي إذا تمسكت به أخرجك من الفرقة المذمومة ومن الاختلاف المكروه إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر كما قال الله تعالى وهذا هو الذي أجمع عليه جميع أهل الإسلام قديما وحديثا فإن لم يكن قط مسلم إلا ومن عقده وقوله إن كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه السلام فرض قبوله وأنه لا يحل لأحد معارضته بشيء من ذلك ولا مخالفته وبقيت سائر الأقوال

المأخوذة من تقليد فلان وفلان ومن القياس ومن الاستحسان وهي الاختلاف المذموم الذي لا يحل اتباعه فمن تركها فقد ترك الاختلاف وأصحاب أولئك الأقوال كلها مأمورون بتركها والرجوع إلى حبل الله تعالى وصراطه فإذا تركوها فقد تركوا الاختلاف والفرقة ورجعوا إلى الفرض عليهم من الاتفاق اللازم ولهذا قلنا بفسخ قضاء كل قاضي قضى به بخلاف النص وسواء قال به طوائف من العلماء أو لا قال الله عز وجل {ولو شآء ربك لجعل لناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين} فاستثنى تعالى من رحم من جملة المختلفين وأخرج المرحومين من جملة المختلفين وعديدهم ومن ظن أن قوله تعالى {إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين} أنه يعني وللرحمة خلقهم وأرادوا بذلك استباحة الاختلاف فهو في غاية الفساد ببرهانين ضروريين أحدهما أن الله تعالى استثنى من رحم فأخرجهم من جملة المختلفين فلو أنه تعالى خلق المختلفين للرحمة لاستثنى المرحومين من أنفسهم ولأخرجهم من جملة أنفسهم وهذا باطل لا يجوز ومحال في الكلام لا يفهم والبرهان الثاني أن المختلفين موجودون وكل موجود عن حالة ما فلا شك عند كل مسلم أنه تعالى إنما خلقه ليكون على تلك الحالة وصح يقينا بلا مرية أنه الاختلاف الذي هم عليه بالعيان خلقهم إلا أن يقول قائل إن الضمير الذي في خلقهم وهو الهاء والميم راجع إلى من رحم فيكون المراد حينئذ استثناء المرحومين من جملة المختلفين وأن أولئك الذين اعتصموا بحبل الله تعالى للرحمة فهذا صحيح لا شك فيه وذم الاختلاف وخروجه من الرحمة باق بحسبه وممن قال بهذا من السلف الصالح عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس كما كتب إلى المهلب عن ابن مناس عن ابن مسرور عن يونس بن عبد الأعلى أخبرني ابن وهب أخبرني عبد الله بن يزيد عن المسعودي قال سمعت عمر بن عبد العزيز قرأ هذه الآية {ولو شآء ربك لجعل لناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين} قال خلق أهل رحمته ألا

الباب السادس والعشرون في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها باطل

يختلفوا قال ابن وهب وسمعت مالكا يقول فيها الذين رحمهم الله لم يختلفوا قال أبو محمد معنى قولنا الاختلاف في الدين غير جائز إنما هو أن طاعة أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز خلافها البتة وليس فيما جاء من عند الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم تخالف إنما هو محكم أو خاص من جملة مخصوصة منها أو ناسخ ومنسوخ فقط وإذ لا حق إلا فيما جاء من عند الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلاف الحق لا يحل هذا أمر لا يخفى صوابه على أحد كما أن الثلاثة أكثر من الاثنين وبالله تعالى التوفيق الباب السادس والعشرون في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها باطل قال أبو محمد علي بن أحمد ذهبت طائفة إلى أن كل مجتهد مصيب وأن كل مفت محق في فتياه على تضاده واحتجوا بما روي عن عثمان رضي الله عنه إذ سئل عن الجمع بين الأختين بملك اليمين فقال أحلتهما آية وحرمتهما آية قال أبو محمد ولا حجة لهم في ذلك لوجوه أحدها أن قول عثمان وقول كل أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم لا يلزم قبوله إلا بموافقة نص قرآن أو سنة له أو إجماع والثاني أن كل ما يأتي بعد هذا إن شاء الله عز وجل من البراهين في إثبات أن الحق في واحد مبطل لتأويلهم الفاسد وهي دلائل كثيرة جمة والثالث أن عثمان لم يرد ما ذهبوا إليه من كون الشيء حراما حلالا معا في وقت واحد على إنسان واحد فهذا غاية المحال الممتنع وإنما أراد أنه لم يلح له فيها حكم يقف عليه لأنه رأى قوله تعالى {إلا على أزواجهم أو ما ملكت

أيمانهم فإنهم غير ملومين} ورأى قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} فلم يبن له أي الأمرين تغلب فأخبر عن ظاهر الآية الواحدة أنها قد تحتمل أن تكون محللة لهما مخصوصة من الأخرى وأن ظاهر الثانية قد يحتمل أن يكون محرما لهما مخصصا من الأخرى فوقف في ذلك واحتجوا بقوله عليه السلام إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر قال أبو محمد وهذا من طريق ما احتج به من لا يعقل ولا يحل له الكلام في العلم لأن نص الحديث بكلامه صلى الله عليه وسلم أن المجتهد يخطىء وإذا أخطأ فهذا قولنا لا قولهم وليس مأجورا على خطأه والخطأ لا يحل الأخذ به ولكنه مأجور على اجتهاده الذي هو حق لأنه طلب للحق وليس قول القائل برأيه اجتهادا وأما خطأه فليس مأجورا عليه لكنه مرفوع في الإثم بقوله تعالى {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} واحتجوا بالصواب في اختلاف القراءات وبالأشياء المباحات في الكفارات وأنها كلها حق على اختلافها قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن القراءات المختلفة ليست متنافية ونحن لم ننكر الصواب فيما لا يتنافى ولا فيما أمر به تعالى وإنما أنكرنا أن يكون قول القائل لحم السبع على غير المضطر حلال حقا ويكون قال القائل لحم السبع على غير المضطر حرام حقا فيكون الشيء حراما حلالا طاعة معصية مأمورا به منهيا عنه في وقت واحد لإنسان واحد من وجه واحد فهذا الذي نفينا وأبطلنا وهذا لا يسع في عقل من له مسكة من عقل لأنه غاية الامتناع الذي لا يتشكل في النفس فضلا عن أن يطلق استعماله واختلاف القراءات التي ذكروا مثل {بسم الله لرحمن لرحيم} يقرأ بها بعض القراء في أوائل السور ويسقطها بعضهم فكل ذلك مباح من أسقطها فقد أبيح له ومن قرأها فقد أبيح له وكذلك المخبر في كفارة الأيمان هي العتق والإطعام

والكسوة فليس شيء من ذلك متنافيا وأيها فعل المرء فقد فعل ما أبيح له ولم يقل أحد إنه لو فعل الوجه الذي ترك لكان مخطئا وهذا غير ما اختلفنا فيه لأنه قد تكون أشياء كثيرة مباحة وغير ممكن أن يكون شيء واجبا تركه وواجبا فعله على إنسان واحد في وقت واحد وهذا فرق لا يشكل إلا على جاهل واحتجوا أيضا بأن قالوا قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أثر غزوة الخندق ألا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة فصلى قوم العصر إذ دخل وقتها قبل أن يبلغوا بني قريظة وقالوا لم يرد منا هذا وأخرها آخرون حتى صلوها في بني قريظة مع الليل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف إحدى الطائفتين قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن المجتهد المخطىء لا يعنف وكانت صلاة من صلى أمرا قد فات فلا وجه لتعنيفهم ولكن الصواب بلا شك في فعل إحدى الطائفتين ولو كنا معه ما صلينا العصر إلا في بني قريظة معه ولو نصف الليل وقد ذكرنا أيضا الكلام في هذا الحديث في باب الكلام في الأوامر الواردة في القرآن والحديث وحملها على ظاهرها وعلى الوجوب والفور في قرب آخر ذلك الباب قبل فصل ترجمته كيفية ورود الأوامر حدثنا النباتي نا ابن عون الله نا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني نا بندار ثنا ابن أبي عدي ثنا شعبة عن طارق بن عبد الله عن طارق بن شهاب قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال إني أجنبت فلم أصل قال أصبت وأتاه رجل فقال إني أجنبت فتيممت وصليت فقال أصبت قال أبو محمد وهذا كالأول سواء بسواء لأن كل مجتهد معذور ومأجور لأن الذي سأل أولا لم يكن عنده أمر التيمم بلا شك ومن هذه صفته فحكمه ألا يصلي أصلا وهو جنب حتى يتطهر والثاني كان عالما بالتيمم فأدى فرضه كما يلزمه وكان حكمهما مختلفا لا متفقا وكلاهما أصاب

وجه العمل فيما عليه بقدر علمه ولم ننكر هذا إنما أنكرنا أن يكون الشيء حقا باطلا من وجه واحد في وقت واحد وقالوا إن كان مخالفكم مخطئا ففسقوه كما يفسق الخوارج قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق إننا لا نفسق الخوارج ولا غيرهم ولكننا نقول من قامت عليه الحجة بحديث لا معارض له أو آية لا معارض لها أو برهان ضروري فتمادى على قوله المخالف للحق أو تناقض فاحتج في مكان مما لا يصح مثله في غير ذلك المكان وبنى عليه ذلك فتمادى على قوله الفاسد في فتيا في شيء من الفقه أو في اعتقاد فهو فاسق وكل ذلك سواء وهذا ابن عباس يقول بتخليد القائل فمن فسق القائلين بإنفاذ الوعيد فليبدأ بتفسيق ابن عباس ومن فسق ابن عباس فهو والله الفاسق حقا وابن عباس البر ابن البر الفاضل ابن الفاضل رضي الله عنهما واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم قال أبو محمد وقد تقدم إبطالنا لهذا الحديث وبينا أنه كذب في باب ذم الاختلاف من كتابنا هذا فأغنى عن ترداده واحتجوا باختلاف الصحابة وأنهم لم ينقض بعضهم أحكام بعض ولا منعوا مخالفهم من الحكم بخلافهم قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنهم قد أنكر بعضهم على بعض الاختلاف في الفتيا كإنكارهم غير ذلك وقد قال ابن عباس من شاء باهلته عند الحجر الأسود في العول في الفرائض وفي تخليد القاتل وقال أما تخافون أن يخسف الله بكم الأرض أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر وقال ابن عباس أأنتم أعلم أم الله تعالى يقول {لذين آمنوا يقاتلون في سبيل لله ولذين كفروا يقاتلون في سبيل لطاغوت فقاتلوا أولياء لشيطان إن كيد لشيطان كان ضعيفا} فقلتم أنتم لها نصف ما ترك وإن كان له ولد وهذا ابن عمر يقول إذ أمر بالمتعة في الحج فقيل له أبوك نهى عنها فقال أيهما أولى أن يتبع كلام الله

أو كلام عمر وهذا عمران بن الحصين يقول في نهي عمر عن المتعة في الحج نزل بها القرآن وعملناها مع النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها رجل برأيه ما شاء وهذا ابن الزبير يقول لابن عباس في متعة النساء لئن فعلتها لأرجمنك فجرب إن شئت وهذا عمر قد فسخ بيع أمهات الأولاد وردهن حبالى من تستر وفسخ فعل أبي بكر في استرقاق نساء المرتدين وكان يضرب على الركعتين بعد العصر وكان طلحة وأبو أيوب وعائشة يصلونهما وتستر بها أبو أيوب وأبو طلحة مدة حياة عمر فلما مات عاوداهما وقال ابن مسعود إذ سمع فتيا أبي موسى الأشعري في ابنة وابنة وابن أخت ثم قال عن ابن مسعود إنه سيوافقني في هذا فقال ابن مسعود لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين فجعل الفتيا بالخطأ ضلالا وخلافا للهدى وهذا أكثر من أن يحاط به إلا في سفر ضخم جدا فبطل ما احتجوا به من ذلك وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقوله عليه السلام إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما سمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار أو كما قال عليه السلام قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما أمر به من الحكم الظاهر من البينة أو اليمين وأخبر الناس أن ذلك لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ولا يحيل شيئا عن وجهه فلو كان حكم أحد من الحكام حقا وإن كل ما خالفه حقا لكان ذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم ولكان هذا بيان واضح في أن الحق في واحد وأن ما خالفه خطأ وحكم النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر بأن المال لزيد هو غير وجوب كون ذلك المال ملكا على الحقيقة لزيد فهما شيئان متغايران وإذا كانا كذلك فمن الممكن أن يكون أحدهما حقا والآخر باطلا فبطل احتجاجهم بذلك في قول الحق في وجهين مختلفين بل قد أخبر عليه السلام أن الحق حق

وأن حكمه لا يحيله عن وجهه ولا يوجب إحلال المقضي به لغير صاحبه فإن قالوا مشاغبين أحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظاهر الأمر بما نهى عن أخذه في الباطن حكم بحق أو حكم بباطل فإن قلتم بباطل كفرتم وإن قلتم بحق فهو قولنا قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق لا يحل لمسلم أن يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بباطل وهو يعلم أنه باطل ومن أجاز هذا أو ظن جوازه فهو كافر حلال الدم والمال ولكن القول أنه صلى الله عليه وسلم ما حكم بشهادة الشهود واليمين إلا بحق مقطوع على أنه حق كما أمره الله عز وجل وأمر المحكوم له بخلاف ما هو في باطنه حق بألا يأخذه ثم نقول إنه قد صح يقينا أنه عليه السلام يحكم بما هو عنده حق فيوافق خلاف ما أمر الله تعالى به وهذا لا يسمى باطلا ومن سمى هذا باطلا فهو كافر وذلك نحو سلامه صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر بالمدينة من ركعتين أو ثلاث وإعراضه عن الأعمى فنزل في ذلك من القرآن ما نزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قصد في كل ذلك ما هو حق عنده ولم يكن ذلك عند الله تعالى كذلك فصح أن الحق في واحد ولا بد فمن خالفه ناسيا أو هو يرى أنه حق فليس آثما ولكنه مأجور أجرا واحدا ومن خالفه عامدا عالما فهو إما فاسق وإما كافر إن كان خلافا للإسلام وبالله تعالى التوفيق ويسألون عن فقيهين رأى أحدهما إباحة دم إنسان ورأى الآخر تحريمه ورأى أحدهما تارك الصلاة كافرا ولم يره الآخر كافرا ورأى أحدهما الساحر كافرا ولم يره الآخر كافرا فإن أطلقوا أن كل ذلك حق عند الله عز وجل لحقوا بالمجانين وجعلوا إنسانا واحدا كافرا في جهنم مخلدا أبد الأبد مؤمنا في الجنة مخلدا أبد الأبد وهذا غاية الجنون وليس هذا الباب من نوع ما أمرنا بإعطائه وحرم على الآخذ أخذه فهذان حكمان على إنسانين مختلفين كسائل سأل وهو غني فأعطاه المسؤول فالمعطي محسن مأجور والآخذ

فاسق عاص آكل سحتا وكذلك فادي الأسير ومعطي الرشوة في دفع مظلمة وقد جاء النص بذلك في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المسألة وقالوا أيضا ما تقولون فيمن صلى أربعا وشك أصلى ثلاثا أم أربعا فأنتم تأمرونه بأن يصلي حتى يكون على يقين من أنه صلى أربعا فقد أمرتموه بركعة خامسة فأنتم قد أمرتموه بالخطأ فالجواب وبالله تعالى التوفيق إننا لم نأمره قط بأن يصلي خامسة وإنما أمرناه أن يصلي أربعا لا أكثر والخامسة التي زاد فيها هو فيها مخطىء بلا شك عند الله عز وجل وما أمر بها قط وهو يدري أنها خامسة ولكن أمر بها يقينا إذا لم يدر أنها خامسة والإثم عنه مرفوع فيها ولسنا ننكر رفع المأثم وإنما ننكر رفع الخطأ في الباطن فلو لم يصل الخامسة وهو غير موقن بأنه صلى أربعا لكان مفسدا لصلاته لأنه لم يصل الخامسة التي أمر بصلاتها ومن باب إقدامه على ترك إتمام صلاته قبل أن يوقن بتمامها فهما شيئان متغايران دخل الغلط على من أراد مزجهما وهكذا القول في الاجتهاد في القبلة إنما هو مأمور بمقابلة المسجد الحرام فقط وغير مأمور بالصلاة إلى جهة غيرها لكن الإثم عنه مرتفع إن وافق غيرها باجتهاده وهو مخطىء وغير مأجور في ذلك وإنما يؤجر على اجتهاده لا على ما أداه إليه الاجتهاد إلا أن يكون يؤديه إلى حق فحينئذ يؤجر أجرين أجرا على الطلب وأجرا على الإصابة ولسنا نقول إن كل مجتهد فهو مأمور بما أداه إليه اجتهاده بل هذا عين الخطأ ولكنا نقول كل مجتهد فهو مأمور بالاجتهاد وبإصابة الحق والاجتهاد فعل المجتهد وهو غير الشيء المطلوب فإذا أمرنا بالطلب لا بالشيء الذي وجد ما لم يكن عين الحق والاجتهاد كله حق وهو طلب الحق وإرادته وإنما غلط من غلط لأنه توهم أن الاجتهاد هو فعل المجتهد للشيء الذي أداه إليه اجتهاده فسقطوا سقوطا فاحشا وقال تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فأوجب تعالى التفقه وهو طلب الحقائق في

واجبات الشريعة وقال عليه السلام أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا ففي هذا إيجاب إصابة الحق وفي نهيه تعالى عن الكلام بغير علم إيجاب لإصابة الحق حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج ثنا الصموت ثنا البزار وهو أحمد بن عمر بن عبد الخالق نا الحسين بن مهدي نا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبي سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإن حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر وقد شغب بعضهم في قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فقال معناه فتخطى صاحب الحق قال أبو محمد وهذا عليهم لا لهم لأنه ليس إلا خطأ أو صواب فإذا تخطى صاحب الحق فقد حصل في الخطأ ولم يأمر الله تعالى قط الحاكم بإصابة صاحب الحق لأنه تكليف ما ليس في وسعه إنما أمره بالحكم بالبينة العدلة عنده أو اليمين أو بالإقرار أو بعلمه فما حكم به من ذلك في موضعه فقد حكم بيقين الحق أصاب صاحب الحق أو لم يصب فإن قال قائل بل تخطى الخطأ قيل له هذا خروج عن المعقول لأنه إذا تخطى الخطأ قيل له هذا خروج عن المعقول لأنه إذا تخطى الخطأ فقد أصاب وإذا أصاب فمن الذي أعطي أجرا واحدا على صوابه ومن الذي أعطي أجرين على صوابه وهذا وسواس ورقة في الدين ودليل على فساد الاعتقاد وقال بعضهم لو كان الحق في واحد لكان ما خالفه ضلالا قال أبو محمد ونعم هو ضلال ولكن ليس كل ضلال كفرا ولا فسقا إلا إذا كان عمدا وأما إذا كان عن غير قصد فالإثم مرفوع فيه كسائر الخطأ ولا فرق وقال بعضهم لو كان الحق في واحد لنص الله على ذلك نصا لا يحتمل التأويل

قال أبو محمد فالجواب أن الله تعالى قد فعل والآيات التي تلونا في باب ذم الاختلاف من كتابنا هذا وهو قبل هذا الباب الذي نحن فيه فإن تلك الآيات ناصة نصا جليا على أن الحق في واحد وأن سائر الأقوال كلها فاسدة وخطأ وأمره تعالى بالرد عند التنازع إلى القرآن والسنة بيان جلي أن القول الذي يشهد له النص هو الحق وهو من عند الله تعالى وما عداه باطل ليس من عنده وقد أخبر تعالى أن الاختلاف ليس من عنده عز وجل فصح أن ما لم يكن من عنده تعالى فهو باطل فصح أن الحق في واحد ضرورة وبالله تعالى التوفيق واحتج بعضهم في ذلك بأن الحاكم مأمور بإنفاذ ما يشهد به الشاهدان العدلان عنده وقد يشهدان على باطل فهو مأمور بما هو في الباطن باطل قال أبو محمد وهذا تمويه شديد ونعم قد أمره الله بإنفاذه شهادة هذين الشاهدين اللذين يشهدان بالباطل بل نهاه عن ردهما لأنه لا يدري أنهما فاسقان على الحقيقة أو مغفلان لا عدلان ولكن لما لم يعلمهما كذلك رفع عنه الإثم في الباطن وأمره بالحكم فهما في الظاهر وليس يدخل بهذا في جملة المجتهدين بل قد حكم بالحق المقطوع على أن الله تعالى أمره بالحكم به ولو رده لكان عاصيا لله تعالى فهذا بمنزلة ما أمرنا به من فك الأسير ففكه بالمال فرض علينا وأخذ العدو ذلك المال حرام عليه وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقوله فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من علم الحقيق عن أن ينفذ بخلاف ما يدرك أنه حق وسألت بعضهم فقلت له ما تقول فيمن لقي أجنبية فظنها زوجته فوطئها أمصيب هو محق أم مخطىء فقال لي ما حرمها الله قط عليه مع جهله بأنها أجنبية فقلت له لقد أقدمت على عظيمة في قولك إن الله تعالى لم يحرم عليه الأجنبية مع

بلوغ التحريم إليه وخرقت الإجماع والنص بكذبك في قوله تعالى {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن بتغى ورآء ذلك فأولئك هم لعادون} وهذه ليست بزوجة له ولا ملك يمين فهو عاد مخطىء واطىء حرام إلا أن الإثم عنه ساقط لجهله فقط وأيضا فإذا لم تكن حراما عليه فهي بلا شك حلال له إذ ليس في العالم إلا حلال أو حرام وقال ابن عباس ما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلا محرما ومحللا قال ذلك لإنسان سمعه يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الضب لا أحله ولا أحرمه فقال له ابن عباس ما ذكرنا أو كلاما هذا معناه فانقطع واحتج بعضهم باستخلاف أبي بكر على القضاء زيد بن ثابت وهو مخالفه في أقضية كثيرة قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأننا لا نقلد أبا بكر ولا غيره وهم يخالفون أبا بكر في عدة قضايا بلا دليل فلا ينكروا علينا خلافه حيث قام الدليل على خلاف قوله وقال بعضهم لو كان الله تعالى كلفنا إصابة الحق وإدراك الصواب لكان تعالى قد كلفنا ما لا نطيق قال أبو محمد وهذا تمويه ضعيف وكذب القائل ما ذكرنا وما كلفنا عز وجل من ذلك إلا ما نطيق لأنه قد أدرك الصواب كثير من الناس ووجدوه وجودا صحيحا أيقنوا فيه أنهم محقون وما أمكن بعضنا فهو لسائرنا ممكن وما توفيقنا إلا بالله تعالى وقال بعضهم لو كان الناس مكلفين عين الصواب لكان على من خالفه الإعادة لكل ما عمل بغير الحق قال أبو محمد أما ما كان من الشرائع مرتبطا بوقت محدود الأول والآخر فلا إعادة على من تركه أصلا إلا حيث جاء النص بإعادته لأنه لا سبيل إلى رجوع وقت تلك الشريعة وهي لم نؤمر بها إلا في ذلك الوقت فلا سبيل إلى أدائها إذ لا سبيل إلى الوقت الذي لا تؤدى إلا فيه كالصلاة وما أشبهها والصيام ونحوه فلا يقضي شيئا من ذلك لا جاهل ولا عامد

ولا متأول حاشى الناسي والنائم للصلاة وحاشا المريض والمسافر والمتقيىء عمدا للصوم فقط وأما ما كان مرتبطا بوقت محدود الأول غير محدود الآخر أو كان غير مرتبط بوقت فهو مؤدى أبدا ومعاد ولا بد كإنسان جهل الزكاة في البر فبقي سنين مسلما مالكا لمقدار تجب فيه الزكاة منه ثم علم بعد ذلك فعليه الزكاة للسنين الخالية وكإنسان لم يعلم أن السلم في غير المكيل والموزون لا يجوز فسلم سنين جمة في حيوان أو فيما لا يكال ولا يوزن ثم علم فعليه فسخ كل ما أخذ من ذلك ورده إلى أربابه والحكم فيه كحكم الغاصب فيما بيده إذا تاب ولا فرق وكإنسان أداه اجتهاده إلى أنه لا نفقة لموروثه وذي رحمه المحرمة عليه فأقام كذلك عشرات سنين ثم علم فهي دين عليه يؤديها إليهم أبدا ويخرج من رأس ماله إن مات وهكذا في كل شيء وبالله تعالى التوفيق وشغب بعضهم بأن العامي إذا اختلف عليه الفقهاء فإنه مخير في أقوالهم قال أبو محمد وهذا خطأ ولسنا نقول به وقد بينا هذه المسألة في باب التقليد من كتابنا هذا فأغنى عن إعادته وموه بعضهم بأن قال الميتة عين واحدة وهي حلال للمضطر حرام على غير المضطر قال أبو محمد وهذا عين الشغب والتمويه لأننا لم ندفع نحن اختلاف حكم العين الواحدة على إنسانين متغايرين أو في وقتين مختلفين بل هذا لازم في كل عين فمال زيد حلال لزيد حرام على عمرو والأكل في شوال حلال للبالغين العقلاء وحرام عليهم في رمضان وهكذا جميع الشرائع أولها عن آخرها وهكذا كل أحد مرة تلزمه الصلاة إذا دخل وقتها ومرة تحرم عليه قبل دخول وقتها ومرة يحرم دم زيد ومرة يحل وإنما أنكرنا أن تكون الميتة حلالا لزيد حراما عليه في وقت واحد وأن يكون البيع تاما قبل التفرق بالأبدان غير تام قبل التفرق بالأبدان والقصاص من القاتل واجبا

حراما في وقت واحد فمثل هذا الجنون أنكرنا لأنه لا يصدقه ذو عقل ولا من به طباخ ولأنه شيء لا يقدر عليه أحد لأنه يؤدي إلى الوسواس وإلى أن يقال لزيد إن فعلت هذا الفعل فأنت مأجور عليه وفي الجنة وأنت آثم عليه وفي النار وفي وقت واحد ولا سبيل إلى أن يكون أحد في النار وفي الجنة في وقت واحد ولا أن يكون بفعل واحد عاصيا لله عز وجل بذلك الفعل مطيعا له في وقت واحد فهذا الوسواس أبطلنا لا غيره مما يعقل وقال بعضهم لو كنا مكلفين إصابة الحق لكان تعالى قد نصب عليه دليلا من أصابه علم أنه أصابه ومن أخطأه علم أنه أخطأه قال أبو محمد والجواب عن هذا أن أوائل مذاهبنا كلها نحن نقول فيها بذلك وأصل مذهبنا أن الأخذ بظاهر القرآن والحديث الصحيح حق ونحن على يقين من أننا مصيبون في ذلك وفي كل قول أدانا إليه أخذنا بظاهر القرآن والحديث الصحيح وأن من خالفنا مخطىء عند الله عز وجل ونحن على يقين من ذلك لا نشك فيه ولا يكن خلافه وإنما يخفى علينا الحق في بعض الجزئيات مثل بناء حديثين بأعيانهما لا ندري أيهما الناسخ من المنسوخ ولسنا ننكر خفاء الحق علينا في بعض هذه المواضع وقد علم غيرنا بلا شك وجه الحق فيما خفي علينا كما علمناه نحن فيما خفي على غيرنا ومن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وورود الأوامر منه علم اليقين فيما غاب عنا بلا شك وقال بعضهم قد يكون الإنسان على مذهب يعضده ويقاتل عنه ويعتقد الحق فيه ثم ينتقل إلى غيره

قال أبو محمد لو قال هذا من يبطل الحقائق لكان أشبه بقوله وهذا لا معنى له لأن كل من كان على مذهب ثم تركه لآخر فإنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما البتة إما أن يكون على حق ثم دخلت عليه شبهة لم ينعم فيها النظر ولا تقصي البرهان على شرائطه فترك الحق للباطل وأخطأ في ذلك أو كان على مذهب لم يقم له على صحته برهان وإنما اعتقده بشبهة لم يتقص فيها طرائق البرهان فتركه لشبهة أخرى دخلت عليه فانتقل من باطل إلى مثله أو تركه لشيء يقوم عليه برهان صحيح فانتقل من باطل إلى حق فهو لا بد مغفل ضرورة ومخطىء بلا شك ومضرب عن طلب البرهان الصحيح إما أنه لم يبلغه وإما لأنه لم يتقصه ولا تأمله فلا بد له من الخطأ كما قلنا إما في اعتقاده الأول الذي انتقل عنه وإما في اعتقاده الثاني الذي انتقل إليه أو في كليهما ونحن لم ننف الخطأ عن الناس بل أثبتناه وإنما نفينا التضاد على الحق وأن ينتقل من حق غير منسوخ إلى حق مضاد لذلك الحق الذي انتقل عنه فهذا هو المحال الذي لا سبيل إليه البتة وقد بينا وجوه البراهين الصحاح الذي لا يصح شيء إلا بها والبرهان الذي لا يكون أبدا إلا صحيحا وبينا ما يظن أنه برهان وليس ببرهان في كتابنا الموسوم بالتقريب لحدود المنطق وهو كتاب جليل المنفعة عظيم الفائدة لا غنى لطالب الحقائق عنه فمن أحب أثلج وأن يقف على علم الحقائق فليقرأه ثم ليقرأ كلامنا في وجوه المعارف من كتابنا الموسم بكتاب الفصل ثم ليقرأ كتابنا هذا فإنه يلوح له الحقائق دون إشكال وبالله تعالى التوفيق فإذا بطل كل ما شغبوا به بحمد الله فلنقل في إقامة البرهان على إبطال قولهم الفاسد وبالله تعالى نعتصم فمن ذلك أن القائلين بهذه المقالة إنما يقولون بها باتفاق منهم حيث لا يوجد نص من قرآن أو سنة صحيحة على حسب اختلافهم في صفة ما يجب قبوله

من السنن وأما حيث يوجد نص قرآن أو سنة فلا يسع أحدا عندهم اجتهد في خلافها بل هو مخطىء مخالفها عندهم قال أبو محمد فإذا كان هذا قولهم فقد كفينا بحمد الله تعالى مؤونتهم لأنه لا نازلة إلا وفيها نص موجود ولو لم يكن كذلك لكان ذلك الحكم شرعا في الدين ليس من الدين وهذا تناقض وموهوا أيضا بلفظه الاجتهاد فقالوا هذا مما يسوغ فيه الاجتهاد وهذا مما لا يسوغ فيه الاجتهاد قال أبو محمد حقيقة الأمر هي أنهم إن كانوا يعنون بالاجتهاد اجتهاد المرء نفسه في طلب حكم دينه في مظان وجوده ولا مظان لوجود الدين إلا القرآن والسنن فقد صدقوا والاجتهاد المذكور فرض على كل أحد في كل شيء من الدين فهو قولنا وإن كانوا يعنون بالاجتهاد أن يقول برأيه ما أداه إليه ظنه فهذا باطل لا يحل أصلا في شيء من الدين وإيقاع لفظه الاجتهاد على هذا المعنى باطل في الديانة وباطل في اللغة وتحريف للكلم عن مواضعه ونعوذ بالله من هذا ومما يبطل قولهم وإن كان فيما أوردنا كفاية أنهم يقولون إن كل قائل مجتهد فهو حق محق مصيب ونحن نقول إنهم في قولهم هذا مخطئون عند الله عز وجل بلا شك وإنهم فيه على باطل فإذا حكموا لنا بالصواب والصدق في قولنا فقد أقروا ببطلان قولهم لأننا محقون في قولنا أنهم مخطئون بإقرارهم وفي هذا كفاية لمن عقل ويقال لهم أفي المتكلمين في الفتيا أحد أخطأ أم لا فإن قالوا لا كابروا لأن الحس يشهد بأن الخطأ موجود وإن قالوا نعم تركوا قولهم الفاسد إن كل مجتهد مصيب ويسألون عن نهيه تعالى عن التفرق أنهي عن حق أم عن باطل فإن قالوا عن حق كفروا وإن قالوا نهي عن باطل تركوا قولهم الفاسد وكل آية تلوناها في باب ذم الاختلاف من كتابنا هذا فهي مبطلة لقولهم الفاسد في هذا الباب

وبالله تعالى التوفيق ومن ذلك قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فلم يطلق لنا تعالى البقاء على التنازع وأمرنا بالرد إلى النص والأخذ به وأيضا فإن الدين ليس موكولا إلى ما أراد القائلون أن يقولوه وقائل هذا كافر وإنما الدين مردود إلى نص إجماع فمن خالف الوجه في ذلك فهو مخطىء وأيضا فإن الله تعالى يقول {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وليس في الوسع أن يعتقد أحد كون شيء واحد حراما حلالا في وقت واحد على إنسان واحد ولا أن الدين ينتقل حكمه من تحليل إلى تحريم إذا حرم الشي مفت ما وحلله مفت آخر وأيضا فإن المفتي ليس له أن يشرع ولا أن يحلل ولا أن يحرم وإنما عليه أن يخبر عن الله تعالى بحكمه في هذه النازلة ومن المحال أن يكون حكم الله تعالى فيها غير مستقر إما بتحليل وإما بتحريم وإما بوجوب قوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} مبين أن الحكم قد استقر في كل نازلة إما بتحريم وإما بتحليل وإما بإيجاب ومن حلل وحرم باختلاف الفقهاء فقد أقر أنهم يحرمون ويحللون ويوجبون فهذا كفر ممن اعتقده وقوله تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون} مبطل لقول من قال إن الشيء يكون حراما حلالا باختلاف الفقهاء فيه ومخبر أن قائل ذلك كاذب وأنه ما حرم الله تعالى فهو حرام لا حلال وما أحله تعالى فهو حلال لا حرام وكذلك القول فيما أوجب تعالى وقال صلى الله عليه وسلم إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فلو لم يكن علينا إصابة الحق وكنا لا يلزمنا شيء إلا الاجتهاد فقط لكان كل أحد من الناس عالما بحكم تلك المشتبهات بل كانوا ناقلين بأقوالهم للحرام البين إلى التحليل وللحلال البين إلى التحريم وهذا كفر وتكذيب للنبي صلى

الله عليه وسلم فصح لما ذكرنا أن من لم يعلم تلك المشتبهات فقد جهلها ومن جهلها فقد أخطأها ولم يصب الحق فيها وصح أن القائل في الحرام أنه حلال أو في الحلال أنه حرام مخطىء بيقين لا شك فيه وبالله تعالى التوفيق ويلزم من قال إن كل قائل مجتهد مصيب أن يقول إن من قال إن المتأولين كفار أن يكون محقا صادقا وأن يقول إن من قال إنهم مؤمنون فساق أن يكون محقا صادقا وأن يقول إن من قال إنهم مؤمنون غير فساق أن يكون محقا صادقا فيلزم من هذا أن يكون الرجل كافرا مؤمنا فاسقا فاضلا في وقت واحد وهذا لا يقوله من يقذف بالحجارة ويلزم من هذا أن يكون المرء في الجنة مخلدا وفي النار مخلدا في وقت واحد لأن الكافر مخلد في النار والمؤمن مخلد في الجنة فإذا كان المرء كافرا بقول من قال فيه إنه كافر ومؤمنا بقول من قال فيه إنه مؤمن فهو في الجنة وفي النار في وقت واحد وهذا ما لا يقوله إلا موسوس وكل ذلك قد قال به فضلاء أئمة من أهل العلم يعني تكفير أهل الأهواء وإبطال تكفيرهم من الصحابة والتابعين إلى هلم جرا ويكفي من هذا أن تعالى قد نص على أن سبيله واحدة وأن سائر السبل متفرقة عن سبيله وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على تخطئة جماعة من الصحابة رضي الله عنهم من المجتهدين كتخطئته عليه السلام أبا بكر في تفسيره للرؤيا وعمر في قوله في هجرة المهاجرين إلى الحبشة وأسيد بن الحضير في قوله بطل جهاد عامر بن الأكوع وسائر الفتاوى التي أخطؤوا فيها كأبي السنابل في وضعه على الحامل المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين ومثل هذا كثير وبالله تعالى التوفيق حدثنا محمد بن سعيد نا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشتي ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان

الباب السابع والعشرون في الشذوذ

الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خالد بن سعد قال دخل أبو مسعود على حذيفة فقال اعهد إلي قال ألم يأتك اليقين قال بلى فإن الضلالة كل الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر أو تنكر ما كنت تعرف وإياك والتلون في دين الله أو في أمر الله فإن دين الله واحد فبين حذيفة ووافقه أبو مسعود رضي الله عنهما وهذا نص قولنا والذي لا يجوز غيره وهو ما استقر عليه الأمر إذا مات النبي صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل الباب السابع والعشرون في الشذوذ قال أبو محمد الشذوذ في اللغة التي خوطبنا بها هو الخروج عن الجملة وهذه اللفظة في الشريعة موضوعة باتفاق على معنى ما واختلف الناس في ذلك المعنى فقالت طائفة الشذوذ هو مفارقة الواحد من العلماء سائرهم وهذا قول قد بينا بطلانه في باب الكلام في الإجماع من كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين وذلك أن الواحد إذا خالف الجمهور إلى حق فهو محمود ممدوح والشذوذ مذموم بإجماع فمحال أن يكون المرء محمودا مذموما من وجه واحد في وقت واحد وممتنع أن يوجب شيء واحد الحمد والذم معا في وقت واحد من وجه واحد وهذا برهان ضروري وقد خالف جميع الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في حرب أهل الردة فكانوا في حين خلافهم مخطئين كلهم فكان هو وحده المصيب فبطل القول المذكور وقال طائفة الشذوذ هو أن يجمع العلماء على أمر ما ثم يخرج رجل

منهم عن ذلك القول الذي جامعهم عليه وهذا قول أبي سليمان وجمهور أصحابنا وهذا المعنى لو وجد نوع من أنواع الشذوذ وليس حدا للشذوذ ولا رسما له وهذا الذي ذكروا لو وجد شذوذ وكفر معا لما قد بينا في باب الكلام في الإجماع أن من فارق الإجماع وهو يوقن أنه إجماع فقد كفر مع دخول ما ذكر في الامتناع والمحال وليت شعري متى تيقنا إجماع جميع العلماء كلهم في مجلس واحد فيتفقون ثم يخالفهم واحد منهم والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق إن حد الشذوذ هو مخالفة الحق فكل من خالف الصواب في مسألة ما فهو فيها شاذ وسواء كانوا أهل الأرض كلهم بأسرهم أو بعضهم والجماعة والجملة هم أهل الحق ولو لم يكن في الأرض منهم إلا واحد فهو الجماعة وهو الجملة وقد أسلم أبو بكر وخديجة رضي الله عنهما فقط فكانا هم الجماعة وكان سائر أهل الأرض غيرهما وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشذوذ وفرقة وهذا الذي قلنا لا خلاف فيه بين العلماء وكل من خالف فهو راجع إليه ومقربه شاء أو أبى والحق هو الأصل الذي قامت السموات والأرض به قال الله تعالى {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهمآ إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل} فإذا كان الحق هو الأصل فالباطل خروج عنه وشذوذ منه فلما لم يجز أن يكون الحق شذوذا وليس إلا حق أو باطل صح أن الشذوذ هو الباطل وهذا تقسيم أوله ضروري وبرهان قاطع كاف ولله الحمد ويسأل من قال إن الشذوذ هو مفارقة الواحد للجماعة ما تقول في خلاف الاثنين للجماعة فإن قال هو شذوذ سئل عن خلاف الثلاثة للجماعة ثم يزاد واحدا واحدا هكذا أبدا فلا بد له من أحد أمرين إما أن يجد عددا ما بأنه شذوذ وإن ما زاد عليه ليس شذوذا فيأتي بكلام فاسد

لا دليل عليه فيصير شاذا على الحقيقة أو يتمادى حتى يخرج عن المعقول وعن إجماع الأمة فيصير شاذا على الحقيقة أيضا ولا بد له من ذلك وبالله تعالى التوفيق فكل من أداه البرهان من النص أو الإجماع المتيقن إلى قول ما ولم يعرف أحد قبله قال بذلك القول ففرض عليه القول بما أدى إليه البرهان ومن خالفه فقد خالف الحق ومن خالف الحق فقد عصى الله تعالى قال تعالى {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} ولم يشترط تعالى في ذلك أن يقول به قائل قبل القائل به بل أنكر تعالى ذلك على من قاله إذ يقول عز وجل حاكيا عن الكفار منكرا عليهم أنهم قالوا {ما سمعنا بهذا فى الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق} قال أبو محمد ومن خالف هذا فقد أنكر على جميع التابعين وجميع الفقهاء بعدهم لأن المسائل التي تكلم فيها الصحابة رضي الله عنهم من الاعتقاد أو الفتيا فكلها محصور مضبوط معروف عند أهل النقل من ثقات المحدثين وعلمائهم فكل مسألة لم يرو فيها قول عن صاحب لكن عن تابع فمن بعده فإن ذلك التابع قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله بلا شك وكذلك كل مسألة لم يحفظ فيها قول عن صاحب ولا تابع وتكلم فيها الفقهاء بعدهم فإن ذلك الفقيه قد قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله ومن ثقف هذا الباب فإنه يجد لأبي حنيفة ومالك والشافعي أزيد من عشرة آلاف مسألة لم يقل فيها أحد قبلهم بما قالوه فكيف يسوغ هؤلاء الجهال للتابعين ثم لمن بعدهم أن يقولوا قولا لم يقله أحد قبلهم ويحرم ذلك على من بعدهم إلينا ثم إلى يوم القيامة فهذا من قائله دعوى بلا برهان وتخرص في الدين وخلاف الإجماع على جواز ذلك لمن ذكرنا فالأمر كما ذكرنا فمن أراد الوقوف على ما ذكرنا فليضبط كل مسألة جاءت عن أحد من الصحابة فهم أول هذه الأمة

الباب الثامن والعشرون في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا وتسمية الفقهاءالمذكورين في الاختلاف بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم

ثم ليضرب بيده إلى كل مسألة خرجت عن تلك المسائل فإن المفتي فيها قائل بقول لم يقله أحد قبله إلا أن بيننا نحن وبين غيرنا فرقا وهو أننا لا نقول في مسألة قولا أصلا إلا وقد قاله تعالى في القرآن أو رسوله عليه السلام فيما صح عنه وكفى بذلك أنسا وحقا وأما من خالفنا فإن أكثر كلامه فيما لم يسبق إليه فمن رأيه وكفى بهذا وحشة والحمد لله رب العالمين كثيرا وصلى الله على محمد خاتم النبيين وحسبنا الله ونعم الوكيل الباب الثامن والعشرون في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا وتسمية الفقهاءالمذكورين في الاختلاف بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم قال أبو محمد أما الصحابة رضي الله عنهم فهو كل من جالس النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة وسمع منه ولو كلمة فما فوقها أو شاهد منه عليه السلام أمرا يعيه ولم يكن من المنافقين الذين اتصل نفاقهم واشتهر حتى ماتوا على ذلك ولا مثل من نفاه عليه السلام باستحقاقه كهيت المخنث ومن جرى مجراه فمن كان كما وصفنا أولا فهو صاحب وكلهم عدل إمام فاضل رضي فرض علينا توقيرهم وتعظيمهم وأن نستغفر لهم ونحبهم وتمرة يتصدق بها أحدهم أفضل من صدقة أحدنا بما يملك وجلسة من الواحد منهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عبادة أحدنا دهره كله وسواء كان من ذكرنا على عهده عليه السلام صغيرا أو بالغا فقد كان النعمان بن بشير وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ابنا علي رضي الله عنهم أجمعين من أبناء العشر فأقل إذ مات النبي صلى الله عليه وسلم وأما الحسين فكان حينئذ ابن ست سنين إذ مات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان محمود بن الربيع ابن خمس سنين

إذ مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعقل مجة مجها النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه من ماء بئر دارهم وكلهم معدودون في خيار الصحابة مقبولون فيما رووا عنه عليه السلام أتم القبول وسواء في ذلك الرجال والنساء والعبيد والأحرار وأما من أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقله وسنه إلا أنه لم يلقه فليس من الصحابة ولكنه من التابعين وكأبي عثمان النهدي وأبي رجاء العطاردي وشريح بن الحارث القاضي وعلقمة والأسود ومسروق وقيس بن أبي حازم والرحيل الجعفي ونباتة الجعفي وعمرو بن ميمون وسلمان بن ربيعة الباهلي وزيد بن صوحان وأبي مريم الحنفي وكعب بن سور وعمرو بن يثربي وغيرهم وأعداد لا يحصهم إلا خالقهم عز وجل ومن هؤلاء من أفتى أيام عمر بن الخطاب وقضى بين الناس زمن عمر وعثمان وأما من ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أن لقيه وأسلم ثم راجع الإسلام وحسنت حاله كالأشعث بن قيس وعمرو بن معدي كرب وغيرهما فصحبته له معدودة وهو بلا شك من جملة الصحابة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت على ما سلف لك من خير وكلهم عدول فاضل من أهل الجنة قال الله تعالى {محمد رسول لله ولذين معه أشدآء على لكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من لله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر لسجود ذلك مثلهم في لتوراة ومثلهم في لإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فستوى على سوقه يعجب لزراع ليغيظ بهم لكفار وعد لله لذين آمنوا وعملوا لصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} وقال تعالى {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل لله ولله ميراث لسماوات ولأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل لفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من لذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد لله لحسنى ولله بما تعملون خبير} وقال تعالى {إن لذين سبقت لهم منا لحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما

شتهت أنفسهم خالدون * لا يحزنهم لفزع لأكبر وتتلقاهم لملائكة هذا يومكم لذي كنتم توعدون} قال أبو محمد هذه مواعيد الله تعالى ووعد الله مضمون تمامه وكلهم ممن مات مؤمنا قد آمن وعمل الصالحات وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوا لي أصحابي فلو كان لأحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقد قال قوم إنه لا يكون صاحبا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة لكن من تكررت صحبه قال أبو محمد وهذا خطأ بيقين لأنه قول بلا برهان ثم نسأل قائله عن حد التكرار الذي ذكر وعن مدة الزمان الذي اشترط فإن حد في ذلك حدا كان زائدا في التحكم بالباطل وإن لم يجد في ذلك حدا كان قائلا بما لا علم له به وكفى بهذا ضلالا وبرهان بطلان قوله أيضا إن اسم الصحبة في اللغة إنما هو لمن ضمته مع آخر حالة ما فإنه قد صحبه فيها فلما كان من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير منابذ له ولا جاحد لنبوته قد صحبه في ذلك الوقت وجب أن يسمى صاحبا وأما التابعون ومن بعدهم فإنما لنا ظواهر أحوالهم إذ لا شهادة من الله تعالى لأحد منهم بالنجاة وليس كل التابعين فمن بعدهم عدلا فإنما يراعى أحوالهم فمن ظهر منه الفضل والعلم فهو مقبول النقل قال أبو محمد وقد غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن بحنين في اثني عشر ألف مقاتل كلهم يقع عليهم اسم الصحبة ثم غزا تبوك في أكثر من ذلك ووفد عليه جميع البطون من جميع قبائل العرب وكلهم صاحب وعددهم بلا شك يبلغ أزيد من ثلاثين ألف إنسان ووفد عليه صلى الله عليه وسلم وفود الجن فأسلموا وصح لهم اسم الصحبة وأخذوا عنه صلى الله عليه وسلم القرآن وشرائع الإسلام وكل من ذكرنا ممن لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه

فكل امرىء منهم إنسهم وجنهم فلا شك أفتى أهله وجيرانه وقومه هذا أمر يعلم ضرورة ثم لم ترو الفتيا في العبادات والأحكام إلا عن مائة ونيف وثلاثين منهم فقط من رجل وامرأة بعد التقصي الشديد فكيف يسع من له رمق من عقل أو مسكة من دين وشعبة من حياء أن يدعي عليهم الإجماع فيما لا يوقن أن جميعهم قال به وعلمه لا سيما وإنما ننازعهم في دعوى الإجماع عليهم في الخطأ المخالف لكلام الله عز وجل في القرآن والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا هو العجب وفيما ذكرنا يقين العلم بكذب من ادعى الإجماع على ما يمكن أن يخفى من أحكام القرآن والسنن فكيف على خلاف القرآن والسنن قال أبو محمد وهذا حين نذكر إن شاء الله تعالى اسم كل من روى عن مسألة فما فوقها من الفتيا من الصحابة رضي الله عنهم وما فات منهم إن كان فات إلا يسيرا جدا ممن لم يرو عنه أيضا إلا مسألة واحدة أو مسألتان وبالله تعالى التوفيق المكثرون من الصحابة رضي الله عنهم فيما روي عنهم من الفتيا عائشة أم المؤمنين عمر بن الخطاب ابنه عبد الله علي بن أبي طالب عبد الله بن العباس عبد الله بن مسعود زيد بن ثابت فهم سبعة يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سفر صخم وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن العباس في عشرين كتابا وأبو بكر المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا رضي الله عنهم أم سلمة أم المؤمنين أنس بن مالك أبو سعيد الخدري أبو هريرة عثمان بن عفان عبد الله بن عمرو بن العاص عبد الله بن الزبير أبو موسى الأشعري سعد بن أبي وقاص سلمان الفارسي جابر بن عبد الله معاذ

بن جبل وأبو بكر الصديق فهم ثلاثة عشر فقط يمكن أن يجمع من فتيا كل امرىء منهم جزء صغير جدا ويضاف أيضا إليهم طلحة الزبير عبد الرحمن بن عوف عمران بن الحصين أبو بكرة عبادة بن الصامت معاوية بن أبي سفيان والباقون منهم رضي الله عنهم مقلون في الفتيا لا يروي الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك فقط يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث وهم رضي الله عنهم أبو الدرداء أبو اليسر أبو سلمة المخزومي أبو عبيدة بن الجراح سعيد بن زيد الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب النعمان بن بشير أبو مسعود أبي بن كعب أبو أيوب أبو طلحة أبو ذر أم عطية صفية أم المؤمنين حفصة أم المؤمنين أم حبيبة أم المؤمنين أسامة بن زيد جعفر بن أبي طالب البراء بن عازب قرظة بن كعب أبو عبد الله البصري نافع أخو أبي بكرة لأمه المقداد بن الأسود أبو السنابل بن بعكك الجارود العبدي ليلى بنت قائف أبو محذورة أبو شريح الكعبي أبو برزة الأسلمي أسماء بنت أبي بكر أم شريك الحولاء بنت تويت أسيد بن الحضير الضحاك بن قيس حبيب بن مسلمة عبد الله بن أنيس حذيفة بن اليمان ثمامة بن أثال عمار بن ياسر عمرو بن العاص أبو الغادية الجهني السلمي أم الدرداء الكبرى الضحاك بن خليفة المازني الحكم بن عمرو الغفاري وابصة بن معبد الأسدي عبد الله بن جعفر عوف بن مالك عدي بن حاتم عبد الله بن أبي أوفى عبد الله بن سلام عمرو بن عبسة عتاب بن أسيد عثمان بن أبي العاص عبد الله بن سرجس عبد الله بن رواحة عقيل بن أبي طالب عائذ بن عمرو أبو قتادة عبد الله بن معمر العدوي عمير بن سعد عبد الله بن أبي بكر الصديق عبد الرحمن بن

أبي بكر الصديق عاتكة بنت زيد بن عمرو عبد الله بن عوف الزهري سعد بن معاذ أبو منيب سعد بن عبادة قيس بن سعد عبد الرحمن بن سهل سمرة بن جندب سهل بن سعد الساعدي معاوية بن مقرن سويد بن مقرن معاوية بن الحكم سهلة بنت سهيل أبو حذيفة بن عتبة سلمة بن الأكوع زيد بن أرقم جرير بن عبد الله البجلي جابر بن سمرة جويرية أم المؤمنين حسان بن ثابت حبيب بن عدي قدامة بن مظعون عثمان بن مظعون ميمونة أم المؤمنين مالك بن الحويرث أبو أمامة الباهلي محمد بن مسلمة خباب بن الأرت خالد بن الوليد ضمرة بن العيص طارق بن شهاب ظهير بن رافع رافع بن خديج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس هشام بن حكيم بن حزام أبوه حكم بن حزام شرحبيل بن السمط أم سليم دحية بن خليفة الكلبي ثابت بن قيس بن الشماس ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرق المغيرة بن شعبة بريدة بن الحصيب الأسلمي رويفع بن ثابت أو حميدة أو أسيد فضالة بن عبيد رجل يعرف بأبي محمد روينا عنه وجوب الوتر هو من الأنصار اسمه مسعود بن أوس نجاري بدري زينب بنت أم المؤمنين أم سلمة عتبة بن مسعود بلال المؤذن مكرز عرفة بن الحارث سيار بن روح أو روح بن سيار أبو سعيد بن المعلى العباس بن عبد المطلب بسر بن أبي أرطاة ويقال بسرة بن أرطاة صهيب بن سنان أم أيمن أم يوسف ماعز الغامدية وأما فقهاء التابعين الذين روي عنهم الفتيا فمن بعدهم فنحن إن شاء الله تعالى نذكر من عرف منهم على البلاد المشهورة في صدر

الإسلام خاصة وأما بعد ذلك فلا يحصيهم إلا الله عز وجل مكة أعزها الله عطاء بن رباح مولى أم كرز الخزاعية طاوس بن كيسان الفارسي والأسود والد عثمان بن الأسود مجاهد بن جبر عبيد بن عمر الليثي ابنه عبد الله بن عبيد عمرو بن دينار عبد الله بن أبي مليكة عبد الله بن سابط عكرمة مولى ابن عباس وهؤلاء من أصحاب ابن عباس رضي الله عنهم وقد أخذوا أيضا عن ابن عمر وأم المؤمنين عائشة وعلي جابر ثم أبو الزبير المكي وعبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية وعبد الله بن طاوس ثم بعدهم عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح سفيان بن عيينة وكان أكثر فتياه في المناسك وكان يتوقف في الطلاق وبعدهم مسلم بن خالد الزنجي سعيد بن سالم القداح وبعدهما محمد بن إدريس الشافعي ثم ابن عمه إبراهيم بن محمد الشافعي أبو بكر عبد الله ابن الزبير الحميدي أبو الوليد موسى بن أبي الجارود ثم أبو بكر بن أبي مسرة ثم غلب عليهم تقليد الشافعي إلا من لا نقف الآن على اسمه منهم المدينة أعزها الله وحرسها سعيد بن المسيب المخزومي وكان على بنت أبي هريرة وأخذ عنه كثيرا وعن سعد بن أبي وقاص وغيره عروة بن الزبير بن العوام القسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأخذ عن عائشة أم المؤمنين عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي وأخذ عن ابن عباس خارجة بن زيد بن ثابت وأخذ عن أبيه أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي سليمان بن يسار أخذ عن أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة وعن غيرهما من الصحابة

وهؤلاء هم الفقهاء السبعة المشهورون في المدينة وكان من أهل الفتيا أيضا فيها أبان بن عثمان بن عفان وأخذ عن أبيه عبد الله وسالم ابنا عبد الله بن عمر أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ابنه محمد وأخذ عن جابر أبو بكر بن سليمان أبي خيثمة العدوي عدي قريش نافع مولى ابن عمر روينا عنه نحو عشر مسائل من فتياه عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أخي أبي أمامة أسعد بن زرارة رضي الله عنه وذكر سفيان أنها كانت تستفتى في البيوع وأخذت عن عائشة وعن الصواحب الأنصاريات ومروان بن الحكم قبل أن يقوم بالشام وكان دون هؤلاء وبعدهم أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وابناه محمد وعبد الله عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان وابنه محمد عبد الله والحسن ابنا محمد بن الحنفية وهو محمد بن علي بن أبي طالب جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق مصعب بن محمد بن شرحبيل العبدري محمد بن المنكدر التيمي محمد بن مسلم بن شهاب الزهري وقد جمع محمد بن أحمد بن مفرج فتاويه في ثلاثة أسفار ضخمة على أبواب الفقه عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري أبو الزناد عبد الله بن يزيد بن هرمز عمر بن حسين سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ربيعة بن أبي عبد الرحمن مولى بن تميم من قريش وهو ربيعة الرأي العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي زيد بن أسلم عثمان بن عروة بن الزبير صفوان بن سليم إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي ثم كان بعد هؤلاء عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب محمد بن عبد الرحمن

بن أبي ذئب القرشي العامري محمد بن إسحاق مالك بن أنس عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ولي قضاء المدينة وبفتياه ضرب جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس مالك بن أنس وبعدهم أصحاب مالك كعبد العزيز بن أبي حازم والمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي ومحمد بن مسلمة بن محمد بن هشام بن إسماعيل بن الوليد بن المغيرة وله ديوان كبير جدا سماعه من مالك وعبد الله بن نافع الأعور الصائغ وعبد الملك بن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ومطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار وأبو مصعب أحمد بن بكر الحارث بن أبي زرارة بن المصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري وهو آخر من بقي من الفقهاء المشاهير بالمدينة ومات سنة اثنتين وأربعين ومائتين أيام المتوكل وولي قضاء المدينة وقل العلم بها بعد ذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل فقهاء البصرة بعد الصحابة رضي الله عنهم عمرو بن سلمة الجرمي وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولأبيه صحبة أبو مريم الحنفي كعب بن سور عمرو بن يثربي والحسن بن أبي الحسن وأدرك خمسمائة من الصحابة وقد جمع بعض الفقهاء فتياه في سبعة أسفار ضخمة جابر بن زيد أبو الشعثاء أخذ عن ابن عباس محمد بن سيرين يحيى بن يعمر أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي مسلم بن يسار أبو العالية الرياحي مولى بكر بن

عبد الله المزني حميد بن عبد الرحمن مطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي زرارة بن أوفى أبو بردة بن أبي موسى الأشعري معبد بن عبد الله عكيم الجهني عبد الملك بن يعلى الليثي القاضي بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري وهؤلاء لقوا أكابر الصحابة رضي الله عنهم ثم كان بعدهم أيوب بن كيسان السختياني سليمان بن طرخان التيمي مولى يونس بن عبيد عبد الله بن عون خالد بن أبي عمران القاسم بن ربيعة أشعث بن عبد الملك الحمراني حفص بن سليمان المنقري قتادة بن دعامة السدوسي إياس بن معاوية القاضي وبعدهم سوار بن عبد الملك القاضي العنبري أبو بكر العتكي عثمان بن مسلم البتي طلحة بن إياس القاضي عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي أشعث بن جابر عمرو بن عبيد ثم كان بعد هؤلاء عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي سعيد بن أبي عروبة حماد بن سلمة حماد بن زيد عبد الله بن داود الخريبي إسماعيل بن علية بشر بن المفضل بن لاحق معاذ بن معاذ العنبري أبو عاصم الضحاك بن مخلد معمر بن راشد قريش بن أنس عبيد الله بن معاذ محمد بن عبد الله الأنصاري كلثوم بن كلثوم ثم دخل عندهم رأي أبي حنيفة بيوسف بن خالد وغيره ورأى مالك بأحمد بن المعذل إلا قليلا ممن لم يبلغنا أمره وممن بلغنا ذكره كسليمان بن حرب الواشجي فإنه كان جاريا على السنن الأولى في فتياه

وإبراهيم بن علية ويحيى بن أكثم القاضي وعبد السلام بن عمر ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وخالد بن الحارث الهجيمي وعبد الوارث بن سعيد التنوري وشعبة بن الحجاج ونظرائهم من أئمة المحدثين ممن لا شك في سعة علمه بالسنن والآثار عن الصحابة وفي أنه كان لا يقلد أحدا في دينه فهم معدودون فيمن ذكرنا ولكن فتاويهم قليلة جدا وإنما كانوا يعولون في فتياهم على ما رووا من فتاوى الصحابة والتابعين ولا يكادون في كثير ممن ذكرنا لا يحفظ عنه إلا المسألة والمسألتين ونحو ذلك وكثير منهم أكثر من الفتيا جدا فقهاء الكوفة بعد الصحابة رضي الله عنهم علقمة بن قيس النخعي الأسود بن يزيد النخعي وهو عم علقمة أخو أبيه أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل الهمداني مسروق بن الأجدع الهمداني عبيدة السلماني شريح بن الحارث الكندي القاضي سلمان بن ربيعة الباهلي زيد بن صوحان سويد بن غفلة الحارث بن قيس الجعفي عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي أخو الأسود بن يزيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود القاضي خيثمة بن عبد الرحمن أبو حذيفة سلمة بن صهيب أبو عطية مالك بن عامر أبو الأخوص عبد الله بن سخيرة رزبن حبيش الأسدي خلاس بن عمرو وهو من أصحاب علي رضي الله عنه عمرو بن ميمون الأودي من أصحاب معاذ بن جبل همام بن الحارث نباتة الجعفي الحارث بن سويد زيد بن معاوية النخعي معضد الشيباني الربيع بن خيثم الثوري عتبة بن فرقد السلمي ابنه عمرو صلة بن زفر العبسي شريك بن حنبل أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي عبيد بن نضلة وهؤلاء أصحاب ابن مسعود وعلي وأكابر التابعين كانوا يفتون في الدين ويستفتيهم

الناس وأكابر الصحابة أحياء حاضرون يجوزون لهم ذلك وأكثرهم قد أخذ عن عمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين وعلي وغيرهم ولقي عمر بن ميمون معاذ بن جبل وصحبه وأخذ عنه ففعل ذلك وأوصاه معاذ عند موته أن يلحق بابن مسعود فيصحبه ويطلب العلم عنده ويضاف إلى هؤلاء أبو عبيدة وعبد الرحمن ابنا عبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري وأخذ عن مائة وعشرين من الصحابة وميسرة وزاذان والضحاك المسرفي ثم كان بعدهم إبراهيم النخعي وعامر الشعبي وسعيد بن جبير مولى بني أسد صاحب ابن عباس والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي وأبو بكر بن أبي موسى الأشعري وكان سائر إخوته بالبصرة ومحارب بن دثار سدوسي والحكم بن عتيبة وجبلة بن سحيم الشيباني وصحب ابن عمر ثم كان بعد هؤلاء حماد بن أبي سليمان ومنصور بن المعتمر السلمي والمغيرة بن مقسم الضبي وسليمان الأعمش مولى بني أسد ومصعر بن كدام الهلالي ثم كان بعد هؤلاء محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي وعبد الله بن شبرمة القاضي الضبي وسعيد بن أشوع القاضي وشريك القاضي النخعي والقاسم بن معن وسفيان بن سعيد الثوري وأبو حنيفة النعمان بن ثابت والحسن بن صالح بن حي ثم كان بعدهم حفص بن غياث القاضي ووكيع بن الجراح وأصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف القاضي وزفر بن الهزيل بصري سكن الكوفة وحماد بن أبي حنيفة والحسن بن زياد اللؤلؤي القاضي ومحمد بن الحسن قاضي الرقة وعافية القاضي وأسد بن عمرو ونوح بن دراج القاضي وأصحاب سفيان الثوري كالأشجعي والمعافى بن عمران وصاحبي الحسن بن حي حميد الرؤاسي ويحيى بن آدم وقوم من أصحاب الحديث لم يشتهروا بالفتيا ثم غلب عليهم تقليد

أبي حنيفة وإنما ذكرنا من ذكرنا من أصحاب أبي حنيفة دون سائرهم لأنهم لم يستهلكوا في التقليد بل خالفوه باختيارهم في كثير من الفقه فدخلوا من أجل ذلك في جملة الفقهاء وكذلك من ذكرنا في فقهاء المدينة من أصحاب مالك ومن نذكره منهم في فقهاء أهل مصر وأما من استهلك في التقليد فلم يخالف صاحبه في شيء فليس أهلا أن يذكر في أهل الفقه ولا يستحق أن يلحق اسمه في أهل العلم لأنه ليس منهم ولكنه كمثل الحمار يحمل أسفارا وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل فقهاء أهل الشام بعد الصحابة رضي الله عنهم أبو إدريس الخولاني ولقي معاذا وأخذ عنه شرحبيل بن الصمت عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي قبيصة بن ذؤيب الخزاعي وطلب بالمدينة وجنادة بن أبي أمية وسليمان بن حبيب المحاربي والحارث بن عميرة الزبيدي وخالد بن معدان وعبد الرحمن بن غنم الأشعري وجبير بن نفير ثم كان بعدهم عبد الرحمن بن جبير بن نفير ومكحول وعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة وكان عبد الملك بن مروان يعد في الفقهاء قبل أن يلي ما ولي وحدير بن كريب ثم كان بعد هؤلاء يحيى بن حمزة القاضي وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي وإسماعيل بن أبي المهاجر وسليمان هو مولى ابن موسى الأموي وسعيد بن عبد العزيز ثم مخلد بن الحسين والوليد بن مسلم والعباس بن يزيد صاحب الأوزاعي وشعيب بن إسحاق صاحب أبي حنيفة وأبو إسحاق الفزاري صاحب ابن المبارك ثم لم يكن بعد هؤلاء في الشام فقيه مشهور

فقهاء مصر بعد الصحابة رضي الله عنهم يزيد بن أبي حبيب وبكير بن عبد الله بن الأشج وبعدهما عمرو بن الحارث وقد روي عن ابن وهب أنه قال لو عاش لنا عمرو بن الحارث ما احتجنا معه إلى مالك ولا إلى غيره وهو أنصاري والليث بن سعد وعبيد الله بن أبي جعفر وبعدهم أصحاب مالك كعبد الله بن وهب وعثمان بن كنانة وأشهب وابن القاسم على غلبة تقليد مالك عليه إلا في الأقل ثم أصحاب الشافعي كأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ثم غاب عليهم تقليد مالك وتقليد الشافعي إلا قوما قليلا لهم اختيارات كمحمد بن يوسف وأبي جعفر أحمد بن محمد الصحاوي وغيرهما وكان بالقيروان سحنون بن سعيد وله كثير من الاختيار وسعيد بن محمد بن الحداد وكان بالأندلس ممن له أيضا شيء من الاختيار يحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب وبقي بن مخلد وقاسم بن محمد صاحب الوثائق يحفظ لهم فتاوى يسيرة وكذلك أسلم بن عبد العزيز القاضي ومنذر بن سعيد وممن أدركنا من أهل العلم على الصفة التي من بلغها استحق الاعتداد به في الاختلاف مسعود بن سليمان بن مفلت ويوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري وكان باليمن مطرف بن مازن قاضي صنعاء وعبد الرزاق بن همام وهشام بن يوسف ومحمد بن ثور وسماك بن الفضل والأئمة المتقدمين من أهل الثبات على السنن الأول ولكنهم ليسوا

في أعداد أهل الأمصار منهم خراسانيون ومنهم من سكن بغداد قال أبو محمد عبد الله بن المبارك الخراساني ونعيم بن حماد وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي صاحب الشافعي بغدادي وأحمد بن محمد بن حنبل مروزي سكن بغداد وإسحاق بن راهويه نيسابوري سكن بغداد وأبو عبيد القاسم بن سلام اللغوي كوفي سكن بغداد وسليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وحسين بن علي الكرابيسي بغدادي وكان أبو خيثمة زهير بن حرب يجري مجراهم ولم يكن له اتساعهم وأبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي صليبة وأبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازيان وكان هشيم بن بشير له اختيارات وكان بعد هؤلاء داود بن علي ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن إسماعيل البخاري ثم محمد بن جرير الطبري ومحمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري وأصحاب داود كمحمد ابنه وعبد الله بن أحمد بن المغلس وعبد الله بن محمد رويم وعبد الله بن محمد الرضيع وأبي بكر بن النجار وأبي بكر أحمد بن محمد الأواني والخلال وأبي الطيب محمد بن أحمد الدياجي بغداديون كلهم ومن نظرائهم ولكنهم من أصحاب القياس أبو عبيد علي بن حرب قاضي مصر وأبو إسحاق إبراهيم بن جعفر بن جابر قاضي حلب وكانا مائلين إلى الشافعي ومن هؤلاء أيضا محمد بن شجاع البلخي وأحمد بن أبي عمران وبكار بن قتيبة بصري ولي قضاء مصر وبها مات فهؤلاء أيضا لهم

اختيارات وإن كانوا في الأغلب لا يفارقون أبا حنيفة وأصحابه زفر وأبا يوسف ومحمد بن الحسن قال أبو محمد وهذا الباب له منفعة عظيمة في تكذيب دعوى الإجماع في مسائل الفقه التي لا تعم أقوال الناس فيها إلا بالرواية فهؤلاء الذين ذكرناهم الذين يعتد خصومنا بأقوالهم في الخلاف وبإجماعهم في الإجماع بعد إجماع الصحابة وهؤلاء الذين رويت عنهم الأقوال في مسائل الفقه وكثير من هؤلاء لا يحفظ عنهم إلا المسألتان والثلاث وربما فاتنا من لم نذكر إلا أنهم بلا شك يسير وممن لا يحفظ عنه إلا اليسير جدا ونحن بشر والكمال من الناس للنبيين عليهم السلام ولمن وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بالكمال وبالله تعالى التوفيق فإذا لم يضبط من التابعين إلا من سمينا وكل من يدري شيئا من الأخبار يوقن قطعا بأنهم ملؤوا الأرض من أقصى السند وأقصى خراسان إلى أرمينية وأذربيجان إلى الموصل وديار ربيعة وديار مضر إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا إلى أقصى الأندلس إلى أقاصي بلاد البربر إلى الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب إلى العراق إلى الأهواز إلى فارس إلى كرمان إلى سجستان إلى كابل إلى السند وأصبهان وطبرستان وجرجان والجبال وأن جميع هذه البلاد فشا فيها الإسلام وغلب عليها ولله تعالى الحمد وإنه لم يكن للمسلمين في جميع ما ذكرنا من البلاد ولا قرية ضخمة إلا كان فيها المفتي والمقرىء وربما أكثر من واحد فكيف يسوغ لدى عقل له حظ من دين يخاف الله تعالى في الكذب ويتقي العار والشهرة والافتضاح بالإفك على كل مفت كان في البلاد المذكورة في دعواه الإجماع على ما لا يتيقن أن كل واحد من مفتي جميع تلك البلاد قال به

الباب التاسع والعشرون في الدليل

وإذا كان ممن سميناهم جزءا يسيرا ممن لم يبلغنا اسمه لا يوجد لأكثرهم إلا مسائل يسيرة جدا وهم عدد يسير فأين فتاويهم في سائر ما لم يرد عنهم فكيف بمن لم يسم منهم فصح يقينا أنه لا يحصي جميع أقوال التابعين ثم أقوال أهل عصر بعدهم في كل نازلة إلا الله تعالى خالقهم الذي لا يخفى عليه شيء من خلقه ووالله ما أحصت الملائكة ذلك لأن كل ملك إنما يحصي أقوال من جعل عليه حفيظا ورقيبا عتيدا لا قول من سواه فكيف أن يتعاطى الاحصاء لذلك كله من لم يؤت العلم إلا قليلا فوضح وضوحا كالشمس في يوم صحو أن كل من ادعى الإجماع على ما عدا ما قد جاء اليقين بأن من لم يقله لم يكن مسلما فهو كاذب آفك مفتر ونعوذ بالله من الكذب على كافر واحد فكيف على ناس كثير فكيف على مؤمن فكيف على جميع علماء أهل الإسلام أولهم عن آخرهم قديما وحديثا هذا أمر تقشعر منه الجلود ونعوذ بالله العظيم من الخذلان ثم إنه لا سبيل أن يوجد في مسألة ذكر قول لكل من سمينا على قلتهم فيمن لم نسم وإنما يوجد في المسألة رواية عن بضع عشر رجلا فأقل مختلفين أيضا ومن عنى بروايات المصنفات والأحاديث المنثورة وقف على ما قلنا يقينا وكل هذا مبين كذب من ادعى الإجماع على غير ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق الباب التاسع والعشرون في الدليل قال أبو محمد ظن قوم بجهلهم أن قولنا بالدليل خروج منا عن النص والإجماع وظن آخرون أن القياس والدليل واحد فأخطؤوا في ظنهم أفحش خطأ ونحن إن شاء الله عز وجل نبين الدليل الذي نقول به بيانا يرفع الإشكال

جملة فنقول وبالله تعالى التوفيق الدليل مأخوذ من النص ومن الإجماع فأما الدليل المأخوذ من الإجماع فهو ينقسم أربعة أقسام كلها أنواع من أنواع الإجماع وداخلة تحت الإجماع وغير خارجة عنه وهي استصحاب الحال وأقل ما قيل وإجماعهم على ترك قولة ما وإجماعهم على أن حكم المسلمين سواء وإن اختلفوا في حكم كل واحدة منها وهذه الوجوه قد بيناها كلها في كلامنا في الإجماع فأغنى عن تردادها وبالله تعالى التوفيق وأما الدليل المأخوذ من النص فهو ينقسم أقساما سبعة كلها واقع تحت النص أحدها مقدمتان تنتج نتيجة ليست منصوصة في إحداهما كقوله صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل خمر حرام النتيجة كل مسكر حرام فهاتان المقدمتان دليل برهاني على أن كل مسكر حرام وثانيها شرط معلق بصفة فحيث وجد فواجب ما علق بذلك الشرط مثل قوله تعالى {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} فقد صح بهذا أن من انتهى غفر له وثالثها لفظ يفهم منه معنى فيؤدى بلفظ آخر وهذا نوع من تسميه أهل الاهتبال بحدود الكلام المتلائمات مثل قوله تعالى {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} فقد فهم من هذا فهما ضروريا أنه ليس بسفيه وهذا هو معنى واحد يعبر عنه بألفاظ شتى كقولك الضيغم والأسد والليث والضرغام وعنبسة فهذه كلها أسماء معناها واحد وهو الأسد رابعها أقسام تبطل كلها إلا واحدا فيصح ذلك الواحد مثل أن يكون هذا الشيء إما حرام فله حكم كذا وإما فرض له حكم كذا وإما مباح فله حكم كذا فليس فرضا ولا حراما فهو مباح له حكم كذا أو يكون قوله يقتضي أقساما كلها فاسد فهو قول فاسد وخامسها قضايا واردة مدرجة فيقتضي ذلك أن الدرجة العليا فوق التالية لها بعدها وإن كان لم ينص

على أنها فوق التالية مثل قولك أبو بكر أفضل من عمر وعمر أفضل من عثمان فأبو بكر بلا شك أفضل من عثمان وسادسها أن نقول كل مسكر حرام فقد صح بهذا أن بعض المحرمات مسكر وهذا هو الذي تسميه أهل الاهتبال بحدود الكلام عكس القضايا وذلك أن الكلية الموجبة تنعكس جزئية أبدا وسابعها لفظ ينطوي فيه معان جمة مثل قولك زيد يكتب فقد صح من هذا اللفظ أنه حي وأنه ذو جارحة سليمة يكتب بها وأنه ذو آلات يصرفها ومثل قوله تعالى {كل نفس ذآئقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} فصح من ذلك أن زيدا يموت وأن هندا تموت وأن عمرا يموت وهكذا كل ذي نفس وإن لم يذكر نص اسمه فهذه هي الأدلة التي نستعملها وهي معاني النصوص ومفهومها وهي كلها واقعة تحت النص وغير خارجة عنه أصلا وقد بيناها وأنعمنا الكلام عليها في كتابنا الموسوم بكتاب التقريب واقتصرنا ههنا على هذا المقدار من ذكرها فقط وجميع هذه الأنواع كلها لا تخرج من أحد قسمين إما تفصيل لجملة وإما عبارة عن معنى واحد بألفاظ شتى كلغة يعبر عنها بلغة أخرى وأما ما أدرك بالحس فقط جاء النص بقبوله عز وجل {ألهم أرجل يمشون بهآ أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركآءكم ثم كيدون فلا تنظرون} وسائر النصوص المستشهد فيها بالحواس وبالعقل مع أن الحواس والعقل أصل لكل شيء وبهما عرفنا صحة القرآن والربوبية والنبوة فلم نحتج في إثباتها بالنص لأنه لولا النص لم يصح ما يدرك بالعقل والحواس لكن حسما لشغب أهل الضعف العاكسين للاستدلال القائلين لا نأخذ إلا ما في النصوص وقد مضى الكلام في هذا في باب إثبات حجة العقل من كتابنا هذا وبالله تعالى التوفيق والاستدلال هو غير الدليل لأنه قد يستدل من لا يقع على الدليل وقد يوجد الاستدلال وهو طلب الدليل ممن لا يجد ما يطلب وقد يرد الدليل مهاجمة على من لا يطلبه إما بأن يطالعه في كتاب أو يخبره به مخبر

الباب الثلاثون في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض ووقت لزوم الشرائع للإنسان

أو يثوب إلى ذهنه دفعه فصح أن الاستدلال غير الدليل وصح أن دليلنا غير خارج عن النص أو الإجماع أصلا وأنه إنما هو مفهوم اللفظ فقط والعلة لا تسمى دليلا والدليل لا يسمى علة فالعلة هي كل ما أوجب حكما لم يوجد قط أحدهما خاليا من الآخر كتصعيد النار للرطوبات واستجلابها الناريات فذلك من طبعها وههنا خلط أصحاب القياس فسموا الدليل علة والعلة دليلا ففحش غلطهم وسموا حكمهم في شيء لم ينص عليه بحكم قد نص عليه شيء آخر دليلا وهذا خطأ بل هذا هو القياس الذي ننكره ونبطله فمزجوا المعاني وأوقعوا على الباطل اسم معنى صحيح وعلى معنى صحيح اسم معنى باطل فمزجوا الأشياء وخلطوا ما شاؤوا ولم يصفوا بعض المعاني من بعض فاختلط الأمر عليهم وتاهوا ما شاؤوا والحمد لله على هدايته وتوفيقه وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وبالله تعالى التوفيق والحول والقوة به عز وجل الباب الثلاثون في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض ووقت لزوم الشرائع للإنسان قال أبو محمد قال الله تعالى {يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا وشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب لمسرفين} فأمر تعالى بني آدم جملة كما ترى وقال عز وجل {لذين يتبعون لرسول لنبي لأمي لذي يجدونه مكتوبا عندهم في لتوراة ولإنجيل يأمرهم بلمعروف وينهاهم عن لمنكر ويحل لهم لطيبات ويحرم عليهم لخبآئث ويضع عنهم إصرهم ولأغلال لتي كانت عليهم فلذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتبعوا لنور لذي أنزل معه أولئك هم لمفلحون} وقال تعالى {في جنات يتسآءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخآئضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا

اليقين} فنص تعالى كما ترى أنه يعذب المكذبين بيوم الدين وهم الكفار بلا شك على تركهم الصلاة وترك إطعام المسكين وقال عز وجل {ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بلله لعظيم * ولا يحض على طعام لمسكين} فنص تعالى كما ترى أيضا على أن نوع الكفار معذبون لأنهم لم يطعمون المساكين وقال {ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر لناس لا يعلمون} وأمره تعالى أن يقول {قل يأيها لناس إني رسول لله إليكم جميعا لذي له ملك لسماوات ولأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بلله ورسوله لنبي لأمي لذي يؤمن بلله وكلماته وتبعوه لعلكم تهتدون} هو نص جلي على لزوم شرائع الإسلام كلها للكفار كلزومها للمؤمنين إلا أن منها ما لا يقبل منهم إلا بعد الإسلام كالصلاة والصيام والحج وهم في ذلك كالجنب وتارك النية والمحدث لا تقبل منه صلاة حتى يطهر ولا صيام ولا حج إلا بإحداث النية في ذلك وقال تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} فنص تعالى على أنهم عصاة إذ لا يحرمون ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} فصح أن طعامنا حل لهم شاؤوا أو أبوا وقال تعالى {وأن حكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم وحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل لله إليك فإن تولوا فعلم أنما يريد لله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من لناس لفاسقون} وروينا عن ابن عباس بسند جيد أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى {سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جآءوك فحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فحكم بينهم بلقسط إن لله يحب لمقسطين} وإذا قد صح كل هذا بيقين فواجب أن يحدوا على الخمر والزنى وأن تراق خمورهم وتقتل خنازيرهم ويبطل رباهم ويلزمون من الأحكام كلها في النكاح والمواريث والبيوع والحدود كلها وسائر الأحكام مثل ما يلزم المسلمون ولا فرق ولا يجوز غير هذا وأن يؤكل ما ذبحوا من الأرانب وما نحروا من الجمال ومن كل ما لا يعتقدون تحليله لأن كل ذلك حلال لهم بلا شك ومن خالف قولنا فهو مخطىء عند

الله عز وجل بيقين وقد أنكر تعالى ذلك عليهم فقال تعالى {أفحكم لجاهلية يبغون ومن أحسن من لله حكما لقوم يوقنون} وكل من أباح لهم الخمر ثم لم يرض حتى أغرمها المسلم إذا أراقها علهيم فقد حكم بحكم الجاهلية وترك حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لحكم الطاغوت والشيطان الرجيم نعوذ بالله من ذلك مع أن خصومنا في هذا يتناقضون أقبح تناقض فيحدونهم في القذف والسرقة كما يحدون المسلمين ولا يحدونهم في الزنى والخمر ويأكلون بعض الشاة التي يذكيها اليهودي ولا يأكلون بعضها إنفاذا لإفك اليهود وتركا لنص الله تعالى على أن طعامنا حل لهم وطعامهم حل لنا وبالله تعالى نعوذ من مثل هذه الأقوال الفاحشة الخطأ وقال تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ أن تقولوا يوم لقيامة إنا كنا عن هذا غافلين} وقال تعالى {وذكروا نعمة لله عليكم وميثاقه لذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا وتقوا لله إن لله عليم بذات لصدور} وقال تعالى {صبغة لله ومن أحسن من لله صبغة ونحن له عابدون} وقال تعالى {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة لله لتي فطر لناس عليها لا تبديل لخلق لله ذلك لدين لقيم ولكن أكثر لناس لا يعلمون} وحدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا أبو غسان المسمعي ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار بن عثمان واللفظ لأبي غسان وابن المثنى قالا ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما تجهلون مما علمني يومي هذا كل مال نحلته عبدا حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم

وحرمت عليهم ما أحللت لهم قال أبو محمد عياض بن حمار هذا من بني تميم فكان صديق النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وحرميه ومعنى حرميه أن عياضا كان من الحلة وكان النبي صلى الله عليه وسلم من الحمس وكان لكثير من رجال الحلة إخوان من الحمس يطوفون في ثيابهم فكان كل صديق منهم يقال له هذا حرمي فلان فكان عياض يطوف إذا طاف بالكعبة في ثياب النبي صلى الله عليه وسلم وبالسند المذكور إلى مسلم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه قال أبو محمد هذه الآيات التي تلونا والحديثان اللذان ذكرنا يبينان مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ورواه عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من يولد يولد على هذه الفطرة وفيه حتى تكونوا أنتم تجدعونها فصح بهذا كله ضرورة أن الناس كلهم مولودون على الإسلام وهذا تأويل قوله تعالى {إنا عرضنا لأمانة على لسماوات ولأرض ولجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها لإنسان إنه كان ظلوما جهولا} فقبول الملة الإسلامية هي الأمانة وأن الله تعالى خلق الأنفس كلها جملة وهي الحساسة العاقلة المميزة ثم واثقها بالإسلام فقبلته ثم أقرها حتى نقل كل نفس منها إلى جسدها فأقامت فيه ما أقامت ثم تعود إلى مقرها عند سماء الدنيا حيث رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فأهل السعادة في محل اليمين في سرور وخير وأهل الشقاء في محل الشمال في نكد ومشقة إلى يوم القيامة فينزلون منازلهم من الجنة والنار بعد أن تكسي

أجسادا على العظام المخرجة من القبور بعد أن أرمت وهذا نص قوله تعالى {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة سجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من لساجدين} ونص قوله تعالى {وأمآ إن كان من أصحاب ليمين * فسلام لك من أصحاب ليمين} وقال تعالى {فأصحاب لميمنة مآ أصحاب لميمنة * وأصحاب لمشأمة مآ أصحاب لمشأمة} وقوله تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ أن تقولوا يوم لقيامة إنا كنا عن هذا غافلين} بيان جلي أن النفوس إذا حلت الأجساد الكدرة الأرضية في الدنيا فإنها ينتقص تمييزها ويذهب ذكرها لما سلف وأنها إذا فارقتها صح حسها وذكا تمييزها وصفا إدراكها قال تعالى {وما هذه لحياة لدنيآ إلا لهو ولعب وإن لدار لآخرة لهي لحيوان لو كانوا يعلمون} وأخبر تعالى أن الدنيا غرور فسبحان مخترع الكل ومدبره لا إله إلا هو فبهذا وبغيره قلنا ألا يترك أحد على غير دين الإسلام إلا من صح النص على إقراره وأن النبي عليه السلام أقرهم فأوجبنا ألا نقبل جزية ولا نقر على غير الإسلام من خرج من دين كتابي إلى دين كتابي آخر ولا من دان آباؤه بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بدين كتابي انتقلوا إليه عن كفرهم ولا من كان في أجداده أو جداته من أي جهة كان مسلم أو مسلمة وإن بعد وبعدت ولا من سبي وهو بالغ وسواء سبي مع أبويه أو مع أحدهما ولا يترك كافر بتباعه أصلا ولا يقبل من كل من ذكرنا إلا الإسلام أو السيف لأن الإسلام دين كل مولود وقد قال عليه السلام من غير دينه فاقتلوه وقال تعالى {ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين} فحرم القبول من أحد غير الإسلام إلا من جاء النص بتركه عليه وأنه مخصوص من هذه الآية والدلائل على هذا تكثر جدا وقوله تعالى {لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم} مخصوص بالنصوص الثابتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكره غير أهل الكتاب

على الإسلام أو السيف وأيضا فإن الأمة كلها مجمعة على إكراه المرتد على الإسلام والقوم الذين أخبر عز وجل أنهم أوتوا الكتاب ثم أمر تعالى بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد قد ماتوا وحدث غيرهم والحس يشهد بأن هؤلاء الذين هم أبناء أولئك ليسوا الذين أوتوا التوراة والإنجيل والصحف والزبور بل هم غيرهم بلا شك فإنما أقروا بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمن تناسل منهم وأمر بذلك فيمن توالد منهم فقط لا نص فيه فهو داخل في قوله تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} وهذا بين والله تعالى الموفق لا إله إلا هو وقد نص تعالى على أنه لا يضيع عمل عامل منا من ذكر أو أنثى وروينا بالسند المتقدم إلى مسلم قال ثنا عثمان بن أبي شيبة نا جرير عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ به ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام وبه إلى مسلم نا حسن الحلواني وعبد بن حميد قال حسن نا وقال عبد ثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثنا أبي عن صالح هو ابن كيسان عن ابن شهاب قال أنبأ عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت على ما أسلفت من خير وبه إلى مسلم ثنا ابن أبي عمر ثنا سفيان هو ابن عيينة عن عبد الله بن عمير عن عبد الله بن الحارث هو ابن نوفل قال

سمعت العباس بن عبد المطلب يقول قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك قال نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح وقد رواه أيضا وكيع ويحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير بالسند المذكور ورواه أيضا عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في أبي طالب قال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه قال أبو محمد قال الله تعالى {ولنذيقنهم من لعذاب لأدنى دون لعذاب لأكبر لعلهم يرجعون} وقال تعالى {لنار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم لساعة أدخلوا آل فرعون أشد لعذاب} وقال تعالى {إن لمنافقين في لدرك لأسفل من لنار ولن تجد لهم نصيرا} فصح بالضرورة أنه لا أشد إلا بالإضافة إلى ما هو أقل منه وأن الدرك الأسفل له درك أعلى لأن كل ذلك من باب الإضافة وصح يقينا بقوله تعالى {ومن جآء بلسيئة فكبت وجوههم في لنار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} أن الناس في الجنة يتفاضلون على مقدار أعمالهم وأنهم في النار أشد عذابا من بعض والنصوص التي ذكرناها تشهد بذلك وصح أن من عمل خيرا وهو كافر ثم أسلم فإن ذلك الخير محسوب له مكتوب وهو مثاب عليه ومأجور وأن من عمل سوءا في كفره ثم أسلم ولم يقلع عن تلك السيئات فإنها كلها مكتوبة عليه محسوبة وهو معاقب عليها وهذا نص كلام الله تعالى الذي تلونا ونص فتيا النبي صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن ذلك وهذا ما لا يحل لأحد خلافه وقد اعترض قوم في مخالفة ذلك بقوله تعالى {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين} قاله أبو محمد وهذا لا حجة فيه بل هو حجة لنا لأنه إنما نص أنه إنما يغفر ما انتهى عنه ومن تمادى على إساءته في إسلامه فلم ينته فلم يستحق أن

يغفر له ما قد سلف وإنما يغفر له الشرك الذي انتهى عنه فقط ولو انتهى عن سائر إساءاته لغفرت له أيضا وهذا نص الآية التي احتجوا بها واعترضوا أيضا بما رويناه بالسند المتقدم إلى مسلم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا حفص بن غياث عن داود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت قلت يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه قال لا ينفعه إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين قال أبو محمد وهذا حجة لنا عليهم قوية جدا لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل السبب في أن ما فعل لا ينفعه أنه لم يسلم فصح أنه لو أسلم لنفعه ذلك كما نفع حكيما وهذا نص قولنا ونحن لم نقل قط إن الله تعالى يأجر كافرا مات على كفره وعلى ما عمل من خير وإنما قلنا من أسلم بعد كفره أجر على كل خير عمل في كفره واعترضوا بقول الله تعالى {ولقد أوحي إليك وإلى لذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من لخاسرين} قال أبو محمد وهذا حجة لنا لأن الشرك يحبط الأعمال والإسلام يزكيها ويبين ذلك قوله تعالى {فستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فلذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها لأنهار ثوابا من عند لله ولله عنده حسن لثواب} وإنما شرطنا أنه ينتفع بما عمل في كفره من خير إن أسلم لا إن لم يسلم واعترضوا أيضا بما رويناه عن مسلم بالسند المذكور قال ثنا محمد بن المثنى ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد نا حيوة بن شريح ثنا يزيد بن أبي حبيب عن ابن شماسة المهري قال حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فحدثنا أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الإسلام يهدم ما كان قبله وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها وإن الحج يهدم ما كان قبله قال أبو محمد وإنما يهدم الإسلام الكفر الذي هو مضاده وحديث ابن مسعود زائد على ما في حديث عمرو غير مضاد له بل هو مبين بيانا زائدا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضاد بعضه بعضا ففي حديث ابن مسعود

زيادة حكم على ما في حديث عمرو من أنه من أساء في الإسلام أخذ بما عمل في الجاهلية ومن أحسن في الإسلام سقط عنه ما عمل في الجاهلية فإنما معنى حديث عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله بشرط الإحسان فيه وبالله تعالى التوفيق واعترضوا أيضا بما حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن محمد بن عيسى عن عمرويه عن إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم ثنا زهير بن حرب ثنا يزيد بن هرون أنبأ همام بن يحيى عن قتادة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الأخرى وأما الكافر فيعطى بحساب ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأننا لم نقل إن الكافر ينعم في الآخرة إذا مات على كفره وإنما قلنا إن بعض أهل النار أشد عذابا من بعض وهذا إجماع الأمة ونص القرآن والسنة الذي من خالفه كفر وهذا الحديث حجة لنا عليهم لأن الكافر إذا أسلم فهو مؤمن فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يظلمه حسنة مما عمل من حسنة في حال كفره ثم أسلم فهي داخلة تحت هذا الوعد الصادق المضمون إنجازه فصح أنه يجازى بها في الآخرة فصح قولنا يقينا وبالله تعالى التوفيق وكذلك قوله تعالى {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بلله وبرسوله ولا يأتون لصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} قال أبو محمد وهذا بيان جلي على أن السبب المانع من قبول نفقاتهم هو الكفر فإذا ارتفع ذلك ارتفع السبب المانع من قبول نفقاتهم فإذا ارتفع ذلك السبب فقد وجب قبول النفقات وهذا نص القرآن والسنة وبالله تعالى التوفيق

وأما وقت لزوم الشريعة فإنها تنقسم قسمين شريعة تعتقد ويلفظ بها وشريعة تعمل وتنقسم هذه الشريعة قسمين قسم في المال وقسم على الأبدان فأما شريعة الأموال فهي لازمة لكل صغير وكبير وجاهل بها وعارف ومجنون وعاقل لدلائل من النص وردت على العموم في الزكاة والإجماع على وجوب النفقات عليهم وأما شرائع الأبدان والاعتقاد فإنها تجب بوجهين أحدهما البلوغ مبلغ الرجال والنساء وهو البلوغ المخرج عن حد الصبا والثاني بلوغ الشريعة إلى المرء وأما الحدود فإنها تلزم من عرف أن الذي فعل حرام وسواء علم أن فيه حدا أم لا وهذا لا خلاف فيه وأما من لم يعرف أن ما عمل حرام فلا حد عليه فيه وبرهان ذلك قول الله تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} فإنما جعل الله تعالى وجوب الحجة ببلوغ النذارة إلى المرء وقال تعالى {خذ لعفو وأمر بلعرف وأعرض عن لجاهلين} فأمر أن يهدر فعل الجاهل وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تخونوا لله ولرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} فإنما نهى الله تعالى عن وجوب ذلك عليه وحدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا يونس بن الأعلى ثنا ابن وهب أنا عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار قال أبو محمد فإنما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به على من سمع بأمره صلى الله عليه وسلم فكل من كان في أقاصي الجنوب والشمال والمشرق وجزائر البحور والمغرب وأغفال الأرض من أهل الشرك فسمع بذكره صلى الله عليه وسلم ففرض عليه البحث عن حاله وإعلامه والإيمان به أما من لم يبلغه ذكره صلى الله عليه وسلم فإن كان موحدا فهو مؤمن على الفطرة الأولى صحيح الإيمان لا عذاب عليه

في الآخرة وهو من أهل الجنة وإن كان غير موحد فهو من الذين جاء النص بأنه يوقد له يوم القيامة نار فيؤمرون بالدخول فيها فمن دخلها نجا ومن أبى هلك قال الله عز وجل {من هتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} فصح أنه لا عذاب على كافر أصلا حتى يبلغه نذارة الرسول صلى الله عليه وسلم وأما من بلغه ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ثم لا يجد في بلاده من يخبره عنه ففرض عليه الخروج عنها إلى بلاد يستبرىء فيها الحقائق ولولا إخباره صلى الله عليه وسلم أنه لا نبي بعده للزمنا ذلك في كل من نسمع عنه أنه ادعى النبوة ولكنا قد أمنا ذلك والحمد لله وأخبرنا الصادق إن كل من يدعي النبوة بعده كذاب ولا سبيل إلى أن يأتي بآية معجزة فإن ظهر من أحد منهم ذلك فهي نيرنجات وحيل وجوهها معروفة لمن بحث عنها ومن أهل هذه الصفة كان مسيلمة والجلاح ومن أهلها الدجال لا حقيقة لكل ما ظهر من هؤلاء وأشباههم وإنما هي حيل كما ذكرنا يبين ذلك حديث المغيرة بن شعبة في الدجال وكل من كان منا في بادية لا يجد فيها من يعلمه شرائع دينه ففرض على جميعهم من رجل أو امرأة أن يرحلوا إلى مكان يجدون فيها فقيها يعلمهم دينهم أو أن يرحلوا إلى أنفسهم فقيها يعلمهم أمور دينهم وإن كان الإمام يعلم ذلك فليرحل إليهم فقيها يعلمهم قال الله تعالى {دع إلى سبيل ربك بلحكمة ولموعظة لحسنة وجادلهم بلتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بلمهتدين} وبعث صلى الله عليه وسلم معاذا وأبا موسى إلى اليمن وأبا عبيدة إلى البحرين معلمين للناس أمور دينهم ففرض ذلك على الأئمة وقال تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} قال أبو محمد والبلوغ عندنا ينقسم أقساما فهو في الرجل والمرأة الاحتلام بنص ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من ذلك حدثنا عبد الله بن ربيع عن محمد بن إسحاق القاضي عن ابن الأعرابي عن سليمان بن الأشعث ثنا موسى بن

إسماعيل حدثنا وهيب عن خالد الحذاء عن أبي الضحى عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق قال أبو محمد الصبي يقع على الجنس ويدخل فيه الذكر والأنثى وقد أخبر عليه السلام في حديث عائشة أن المرأة تحتلم فصار الإحتلام بلوغا صحيحا في المرأة والرجل وسواء احتلما من أحد عشر عاما أو أقل أو أكثر ويكون البلوغ أيضا في المرأة بالحيض كما حدثنا عبد الله بن ربيع عن عمر بن عبد الملك الخولاني عن محمد بن بكر البصري ثنا سليمان بن الأشعث ثنا محمد بن عبيد ثنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين أن عائشة نزلت على صفية أم طلحة الطلحات فرأت بنات لها فقالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل وفي حجرتي جارية فألقى لي حقوه فقال شقيه شقتين فأعط هذه نصفا والفتاة التي عند أم سلمة نصفا وإني لا أراها إلا قد حاضت أو لا أراهما إلا قد حاضتا وبه إلى أبي داود ثنا المثنى ثنا حجاج بن المنهال ثنا حماد هو ابن زيد عن قتادة عن محمد بن سيرين عن صفية بنت الحارث عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقبل صلاة الحائض إلا بخمار قال أبو محمد والإنبات بلوغ صحيح كما روينا عن عبد الله بن ربيع عن محمد بن إسحاق عن ابن الأعرابي عن أبي داود ثنا محمد بن كثير ثنا سفيان ثنا عبد الملك بن عمير ثنا عطية القرظي قال كنت فيمن سبي من قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت فيمن لم ينبت قال أبو محمد ومن المحال الممتنع أن تقتل الناس بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم أبحق أم بباطل هذا ما لا يظنه مسلم البتة وقتلى قريظة قتلوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره وقال لسعد بن معاذ حكمت فيهم بحكم الملك كما حدثنا عبد الله بن ربيع عن محمد بن معاوية عن أحمد بن شعيب

عن محمود بن غيلان ثنا وكيع ثنا سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير قال سمعت عطية القرظي يقول عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلي سبيله فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي قال أبو محمد فمن لم ينبت ولا احتلم من رجل أو امرأة أو لم تحض المرأة فإذا تجاوزا تسعة عشر عاما قمرية بساعة فقط لزمهم حكم البلوغ لأنه إجماع وأما من جعل إكمال خمسة عشر عاما بلوغا وإن لم يكن هناك حيض ولا احتلام ولا إنبات فقول لا دليل عليه وأما حجتهم بحديث ابن عمر عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربعة عشر عاما فردني ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمسة عشر عاما فأجازني فلا حجة لهم في ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل إني أجزته لسنه وكان عام الخندق بالمدينة لا خروج عليهم فيه فالله أعلم لماذا أجازه إما لأنهم لم يسافروا عن موضعهم أو لأنه قد بلغ فلا حجة في ذلك أصلا وبالله تعالى التوفيق ولا نهى عليه السلام عن غزو الأشداء من الصبيان فتكون إجازته دليلا على أنه قد كان بلغ ومما يدل على أن الشرائع لا تلزم إلا من عرفها ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه لم يزجر عدي بن حاتم عما تأوله في العاقلين لكن علمه وسقط اللوم عن عدي لأنه تأول جاهلا وأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر معاوية بن الحكم بإعادة الصلاة إذ تكلم فيها عامدا وأنه صلى الله عليه وسلم أمر الذي لم يتم صلاته مطمئنا في ركوعه وسجوده بالإعادة مرارا فلما أعلمه أنه لا يدري أكثر علمه ولم يذكر الراوي أنه أمره بإعادة إلا أن أمره صلى الله عليه وسلم بأن يعمل ما علمه أمر له بعمله وكذلك ما نص من صلاة أهل قباء إلى بيت المقدس وقد كان نسخ ذلك وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقد من أسامة إذ قتل الرجل بعد قوله لا إله إلا الله وأعلمه صلى الله عليه وسلم أنه قد فعل في ذلك ما لا يحل وكذلك لم يقد

الباب الحادي والثلاثون في صفة التفقه في الدين وما يلزم كل امرىء طلبه من دينه وصفة المفتيالذي لم يفت في الدين وصفة الاجتهاد الواجب على أهل الإسلام

صلى الله عليه وسلم بني جذيمة ممن قتلهم مع خالد بن الوليد فهذا يبطل قول من أوجب إعادة صلاة أو إقامة حد أو قضاء صوم على جاهل متأول وبذلك قضى عمر وعثمان إذ درء الحد عن السوداء المعترفة بالزنى لجهلها بتحريمه وهذا بين وبالله تعالى التوفيق الباب الحادي والثلاثون في صفة التفقه في الدين وما يلزم كل امرىء طلبه من دينه وصفة المفتيالذي لم يفت في الدين وصفة الاجتهاد الواجب على أهل الإسلام قال أبو محمد قال الله تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فبين الله عز وجل في هذه الآية وجه التفقه كله وأنه ينقسم قسمين أحدهما يخص المرء في نفسه وذلك مبين في قوله تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فهذا معناه تعليم أهل العلم لمن جهل حكم ما يلزمه والثاني تفقه من أراد وجه الله تعالى بأن يكون منذرا لقومه وطبقته قال تعالى {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} ففرض على كل أحد طلب ما يلزمه على حسب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه في تعرف ما ألزمه الله تعالى إياه وقد بينا أن الاجتهاد هو افتعال من الجهد فهو في الدين إجهاد المرء نفسه في طلب ما تعبده الله تعالى به في القرآن وفيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا دين غيرهما فأقلهم في ذلك درجة من هو في غمار العامة ومن حدث عهده بالجلب من بلاد الكفر وأسلم من الرجال والنساء وقد ذكرنا كيف يطلب هؤلاء علم ما يلزمهم من شرائع الإسلام في باب إبطال التقليد من كتابنا هذا فأغنى عن ترداده ونذكر منه ههنا ما لا بد من ذكره وهو أن كل

مسلم عاقل بالغ من ذكر أو أنثى حر أو عبد يلزمه الطهارة والصلاة والصيام فرضا بلا خلاف من أحد من المسلمين وتلزم الطهارة والصلاة المرضى والأصحاء ففرض على كل من ذكرنا أن يعرف فرائض صلاته وصيامه وطهارته وكيف يؤدي كل ذلك وكذلك يلزم كل من ذكرنا أن يعرف ما يحل له ويحرم من المآكل والمشارب والملابس والفروج والدماء والأقوال والأعمال فهذا كله لا يسع جهله أحدا من الناس ذكورهم وإناثهم أحرارهم وعبيدهم وإمائهم وفرض عليهم أن يأخذوا في تعلم ذلك من حين يبلغون الحلم وهم مسلمون أو من حين يسلمون بعد بلوغهم الحلم ويجبر الإمام أزواج النساء وسادات الأرقاء على تعليمهم ما ذكرنا إما بأنفسهم وإما بالإباحة لهم لقاء من يعلمهم وفرض على الإمام أن يأخذ الناس بذلك وأن يراتب أقواما لتعليم الجهال ثم فرض على كل ذي مال تعلم حكم ما يلزمه من الزكاة وسواء الرجال والنساء والعبيد والأحرار فمن لم يكن له مال أصلا فليس تعلم أحكام الزكاة عليه فرضا ثم من لزمه فرض الحج ففرض عليه تعلم أعمال الحج والعمرة ولا يلزم ذلك من لا صحة لجسمه ولا مال له ثم فرض على قواد العساكر معرفة السير وأحكام الجهاد وقسم الغنائم والفيء ثم فرض على الأمراء والقضاة تعلم الأحكام والأقضية والحدود وليس تعلم ذلك فرضا على غيرهم ثم فرض على التجار وكل من يبيع غلته تعلم أحكام البيوع وما يحل منها وما يحرم وليس ذلك فرضا على من لا يبيع ولا يشتري ثم فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو دسكرة وهي المجشرة عندنا أو حلة أعراب أو حصن أن ينتدب منهم لطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها ولتعلم القرآن كله ولكتاب كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام أولها عن آخرها وضبطها بنصوص ألفاظها وضبط كل ما أجمع المسلمون عليه ما اختلفوا فيه من يقوم بتعليمهم وتفقيههم من القرآن والحديث

والإجماع يكتفي بذلك على قدر قلتهم أو كثرتهم بالآية التي تلونا في أول هذا الكتاب بحسب ما يقدر أن يعمهم بالتعليم ولا يشق على المستفتي قصده فإذا انتدب لذلك من يقوم بما ذكرنا فقط سقط عن باقيهم إلا ما يلزمه خاصة نفسه فقط على ما ذكرنا آنفا ولا يحل للمفقه أن يقتصر على آراء الرجال دون ما ذكرنا فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في ذلك كله كما ذكرنا ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المحتوين على صنوف العلم وإن بعدت ديارهم ولو أنهم بالصين لقوله تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} والنفار والرجوع لا يكون إلا برحيل ومن وجد في محلته من يفقهه في صنوف العلم كما ذكرنا فالأمة مجمعة على أنه لا يلزمه رحيل في ذلك إلا القصد إلى مسجد الفقيه أو منزله فقط كما كان الصحابة يفعلون مع النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا القول في حفظ القرآن كله وتعليمه ففرض على كل مسلم حفظ أم القرآن وقرآن ما وفرض على جميع المسلمين أن يكون في كل قرية أو مدينة أو حصن من يحفظ القرآن كله ويعلمه الناس ويقرئه إياهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءاته فصح بكل ما ذكرنا أن النفار المذكور فرض على الجماعة كلها حتى يقوم بها بعضهم فيسقط عن الباقين وأما من قال إنه ليس فرضا على الجماعة لكنه فرض على بعضهم بغير أعيانهم فنكتفي من إبطال قوله بأنه يحمل خطاب الله تعالى واقعا على لا أحد لأنه إذا لم يعين تعالى من يخاطب ولا خاطب الجميع فلم يخاطب أحدا عز وجل عن ذلك وفي هذا سقوط الفرض عن كل من لم يخاطب فهو ساقط على كل أحد إذ كل أحد لم يخاطب وفي هذا بطلان الدين وبالله تعالى التوفيق فالناس في ذلك على مراتب فمن ارتفع فهمه عن فهمهم أغتام المجلوبين من بلاد العجم منذ قريب وعن فهم أغتام العامة فإنه لا يجزيه في ذلك ما يجزي

من ذكرنا لكن يجتهد هذا على حسب ما يطيق في البحث عما نابه من نص الكتاب والسنة ودلائلهما ومن الإجماع ودلائله ويلزم هذا إذا سأل الفقيه فأفتاه أن يقول له من أين قلت هذا فيتعلم من ذلك مقدار ما انتهت إليه طاقته وبلغه فهمه وأما المنتصبون لطلب الفقه وهم النافرون للتفقه الحاملون لفرض النفار عن جماعتهم المتأهبون لنذارة قومهم ولتعلم المتعلم وفتيا المستفتي وربما للحكم بين الناس ففرض عليهم تقصي علوم الديانة على حسب طاقتهم ومن أحكام القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم ورتب النقل وصفات النقلة ومعرفة السند الصحيح مما عداه من مرسل ضعيف هذا فرضه اللازم له فإن زاد إلى ذلك معرفة الإجماع والاختلاف ومن أين قال كل قائل وكيف يرد أقاويل المختلفين المتنازعين إلى الكتاب والسنة فحسن وفرض عليه تعلم كيفية البراهين التي يتميز بها الحق من الباطل وكيف يعمل فيما ظاهره التعارض من النصوص وكل هذا منصوص في القرآن قال تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فهذا إيجاب لتعلم أحكام القرآن وأحكام أوامر النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذين أصل الدين وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} فوجب بذلك تعرف عدول النقلة من فساقهم وفقهائهم ممن لم يتفقه منهم وأما معرفة الإجماع والاختلاف فقد زعم أن هذا يجب بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قال ففرض علينا معرفة ما اتفق عليه أولو الأمر منا لأننا مأمورون بطاعتهم ولا يمكننا طاعتهم إلا بعد معرفة إجماعهم الذي يلزمنا طاعتهم فيه وأما معرفة الاختلاف ومعرفة ما يتنازعون فيه ومعرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة فبقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} ففرض علينا معرفة ما يتنازعون فيه ومعرفة كيف يرد ذلك

إلى الكتاب والسنة لأننا إن لم نعرف الاختلاف ظننا أن القول الذي نسمعه من بعض العلماء لا خلاف فيه فنتبعه دون أن نعرضه على القرآن والسنة فنخطىء ونعصي الله تعالى إذ أخذنا قولا نهينا عن اتباعه قال أبو محمد وهذا خطأ لأننا إنما أمرنا تعالى بطاعة أولي الأمر فيما نقلوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أن يقولوا من عند أنفسهم بحكم لا نص فيه فما جاز هذا قط لأحد أن يفعله ولا حل لأحد قط أن يطيع من فعله وقد توعد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على هذا أشد الوعيد فكيف على من دونه قال تعالى {ولو تقول علينا بعض لأقاويل * لأخذنا منه بليمين * ثم لقطعنا منه لوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين} فصح أن من قال في الدين بقول أضافه إلى الله تعالى فقد كذب وتقول على الله تعالى الأقاويل وأن من لم يضفه إلى الله تعالى فليس من الدين أصلا لكن معرفة الاختلاف علم زائد قال سعيد بن جبير أعلم الناس أعلمهم بالاختلاف وصدق سعيد لأنه علم زائد وكذلك معرفة من أين قال كل قائل فأما معرفة كيفية إقامة البرهان فبقوله تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فلم نقل شيئا إلا ما قاله ربنا عز وجل وأوجبه علينا والحمد لله رب العالمين وإنما نحن منبهون على ما أمرنا الله تعالى وموقفون على مواضع الأوامر التي مر عليها من يمر غافلا أو معرضا ومنذرون قومنا فيما تفقهنا فيه ونفرنا لتعلمه بمن الله عز وجل علينا كما أمرنا تعالى إذ يقول {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} ولا نقول من عند أنفسنا شيئا ونعوذ بالله من ذلك ولم يبح الله تعالى ذلك لأحد لا قديما ولا حديثا وبالله تعالى نتأيد وقال تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} ففرض علينا معرفة الناسخ من المنسوخ وفرض على من قصد التفقه في الدين كما ذكرنا

أن يستعين على ذلك من سائر العلوم بما تقتضيه حاجته إليه في فهم كلام ربه تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم} ففرض على الفقيه أن يكون عالما بلسان العرب ليفهم عن الله عز وجل وعن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون عالما بالنحو الذي هو ترتيب العرب لكلامهم الذي به نزل القرآن وبه يفهم معاني الكلام التي يعبر عنها باختلاف الحركات وبناء الألفاظ فمن جهل اللغة وهي الألفاظ الواقعة على المسميات وجهل النحو الذي هو علم اختلاف الحركات الواقعة لاختلاف المعاني فلم يعرف اللسان الذي به خاطبنا الله تعالى ونبينا صلى الله عليه وسلم ومن لم يعرف ذلك اللسان لم يحل له الفتيا فيه لأنه يفتي بما لا يدري وقد نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وبقوله تعالى {ومن لناس من يجادل في لله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} وبقوله تعالى {هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} وبقوله تعالى {هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} وقال تعالى {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند لله عظيم} وفرض على الفقيه أن يكون عالما بسير النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم آخر أوامره وأولها وحربه صلى الله عليه وسلم لمن حارب وسلمه لمن سالم وليعرف على ماذا حارب ولماذا وضع الحرب وحرم الدم بعد تحليله وأحكامه صلى الله عليه وسلم التي حكم بها فمن كانت هذه صفته وكان ورعا في فتياه مشفقا على دينه صليبا في الحق حلت له الفتيا وإلا فحرام عليه أن يفتي بين اثنين أو أن يحكم بين اثنين وحرام على الإمام أن يقلده حكما أو يتيح له فتيا وحرام على الناس أن يستفتوه لأنه إن لم يكن عالما بما ذكرنا فلم يتفقه في الدين وإن لم يكن مشفقا على دينه فهو فاسق وإن لم يكن صليبا لم يأمر بمعروف ولا نهى عن منكر والأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر فرضان على الناس قال تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى لخير ويأمرون بلمعروف وينهون عن لمنكر وأولئك هم لمفلحون} وهذا متوجه إلى العلماء بالمعروف وبالمنكر لأنه لا يجوز أن يدعو إلى الخير إلا من علمه ولا يمكن أن يأمر بالمعروف إلا من عرفه ولا يقدر على إنكار المنكر إلا من يميزه فإن كان مع ما ذكرنا قويا على إنفاذ الأمور حسن السياسة حل له القضاء والإمارة وإلا فلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر يا أبا ذر إني أحب إليك ما أحب لنفسي إنك ضعيف فلا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وكان أبو ذر رضي الله عنه ممن له أن يفتي ولم يكن ممن له أن يقضي لأنه لم يكن له حسن التأتي في تناول ما يريد بل كانت فيه عجرفة ومهاجمة ربما صار بها منذرا وقد أمر صلى الله عليه وسلم معاذا وأبا موسى إذ بعثهما قاضيين على اليمن ومعلمين للدين وأميرين بأن ييسرا ولا ينفرا هذا على عظيم فضل أبي ذر وكريم سوابقه في الإسلام وزهده وورعه ورفضه للدنيا وثباته على ما فارق عليه نبيه صلى الله عليه وسلم وصدعه بالحق وأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم وتقدمه على أكثر الصحابة فحد الفقه هو المعرفة بأحكام الشريعة من القرآن ومن كلام المرسل بها الذي لا تؤخذ إلا عنه وتفسير هذا الحد كما ذكرنا المعرفة بأحكام القرآن وناسخها ومنسوخها والمعرفة بأحكام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخه ومنسوخه وما صح نقله مما لو يصح ومعرفة ما أجمع العلماء عليه وما اختلفوا فيه وكيف يرد الاختلاف إلى القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا تفسير العلم بأحكام الشريعة وكل من علم مسألة واحدة من دينه على الرتبة التي ذكرنا أجاز له أن يفتي بها وليس جهله بما جهل بمانع من أن يفتي بما علم ولا علمه بما علم بمبيح

له أن يفتي فيما جهل وليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد غاب عنه من العلم كثير هو موجود عند غيره فلو لم يفت إلا من أحاط بجميع العلم لما حل لأحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتي أصلا وهذا لا يقوله مسلم وهو إبطال للدين وكفر من قائله وفي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم الأمراء إلى البلاد ليعلموا الناس القرآن وحكم الدين ولم يكن أحد منهم يستوعب جميع ذلك لأنه قد كان تنزل بعدهم الآيات والأحكام بيان صحيح بأن العلماء وإن فاتهم كثير من العلم فإن لهم أن يفتوا ويقضوا بما عرفوا وهذا الباب أيضا بيان جلي على أن من علم شيئا من الدين علما صحيحا فله أن يفتي به وعليه أن يطلب علم ما جهل مما سوى ذلك ومن علم أن في المسألة التي نزلت حديثا قد فاته لم يحل له أن يفتي في ذلك حتى يقع على ذلك الحديث ومن لم يعلم الأحكام على الصفة التي ذكرنا قبل لكن إنما أخذ المسائل تقليدا فإنه لا يحل لمسلم أن يستفتيه ولا يحل له أن يفتي بين اثنين ولا يحل للإمام أن يوليه قضاء ولا حكما أصلا ولا يحل له إن قلد ذلك أن يحكم بين اثنين وليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو يخطىء ويصيب فليس خطأه بمانع من قبول صوابه وبالله تعالى التوفيق فلا يوجد مفت في الديانة وفي الطب أبدا إلا أحد ثلاثة أناسي إما عالم يفتي بما بلغه من النصوص بعد البحث والتقصي كما يلزمه فهذا مأجور أخطأ وأصاب وواجب عليه أن يفتي بما علم وإما فاسق يفتي بما يتفق له مستديما لرياسة أو لكسب مال وهو يدري أنه يفتي بغير واجب وإما جاهل ضعيف العقل ويفتي بغير يقين علم وهو يظن أنه مصيب ولم يبحث حق البحث ولو كان عاقلا لعرف أنه جاهل فلم يتعرض لما لا يحسن حدثني أبو الزناد سراج بن سراج وخلف

بن عثمان البحام وأبو عثمان سعيد بن محمد الضراب كلهم يقولون سمعت عبد الله بن إبراهيم الأصيلي يقول قال لي الأبهري أبو بكر محمد بن صالح كيف صفة الفقيه عندكم بالأندلس فقلت له يقرأ المدونة وربما المستخرجة فإذا حفظ مسائلهما أفتى فقال لي هذا ما هو فقلت له نعم فقال لي أجمعت الأمة على أن من هذه صفته لا يحل له أن يفتي قال أبو محمد علي بن أحمد وحدثني أبو مروان عبد الملك بن أحمد المرواني قال سمعت أحمد بن عبد الملك الإشبيلي المعروف بابن المكري ونحن مقبلون من جنازة من الربض بعدوة نهر قرطبة وقد سأله سائل فقال له ما المقدار الذي بلغه المرء حل له أن يفتي ثم أخبرني أحمد بن الليث الأنسري أنه حمل إليه وإلى القاضي أبي بكر يحيى بن عبد الرحمن بن واقد كتاب الاختلاف الأوسط لابن المنذر فلما طالعاه قالا له هذا كتاب من لم يكن عنده في بيته لم يشم رائحة العلم قال وزادني ابن واقد أن قال ونحن ليس في بيوتنا فلم نشم رائحة العلم قال أبو محمد لم نأت بما ذكرنا احتجاجا لقولنا ولكن إلزاما لهم ما يلتزمونه فإن قول أكابر أهل بلادنا عندهم أثبت من العيان وأولى بالطاعة مما رووا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى نعوذ من الخذلان قد بينا صفة الطلب والمفتي والاجتهاد الذي نأمر به ونصوب من فعله وهو طلب الحكم في المسألة من نص القرآن وصحيح الحديث وطلب الناسخ من المنسوخ وبناء الحديث بعضه مع بعض ومع القرآن وبناء الآي بعضها مع بعض على ما بينا فيما سلف من كتابنا هذا ليس عليه غير هذا البتة وإن طالع أقوال الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم عصرا عصرا ففرض

عليه أن ينظر من أقوال العلماء كلها نظرا واحدا ويحكم فيها القرآن والسنة فلأيها حكم اعتقده وأفتى به واطرح سائرها وإن لم يجد شيئا مما بلغه منها بل عليه أن يأخذ بالنص وإن لم يبلغه أن قائلا قال به لما قد بيناه في كلامنا في الإجماع من امتناع الإحاطة بأقوال العلماء السالفين ومن قيام البرهان على أنه لا يخلو عصر من قائل الحق فهذا هو الاجتهاد الصحيح الذي يؤجر من فعله على كل حال فإن وافق الحق عند الله عز وجل أجر أجرا ثانيا على الإصابة فحصل له أجران وإن لم يوافق لإدراك الحق لم يأثم وقد حصل له أجر الطلب للحق وإرادته كما قال الشاعر وما كل موصوف له الحق يهتدي ولا كل من أم الصوى يستبينها وكل ما سمي اجتهادا من غير ما ذكرنا فهو باطل وإفك وزين بأن سمي اجتهادا كما سمي اللديغ سليما والمهلكة مفازة والأسود السخامي أبا البيضاء والأعمى بصيرا وكما سمى قوم المسكر نبيذا وطلاء وهو الخمر بعينها ويبين ما قلنا قوله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران أو كما قال صلى الله عليه وسلم واعتراضها ههنا أمر نحتاج إلى تفسيره لغلط أكثر الناس فيه وهو إيقاع اسم الحفظ واسم العلم واسم الفقه على كل ما يستحق شيئا من هذه الأسماء لأنها أسماء واقعة على صفات متغايرة فوجب بيانها فنفسر ذلك في علم الشريعة التي عرضنا في ديواننا هذا الكلام فيها وبالله تعالى التوفيق وبه عز وجل نتأيد لا إله إلا هو فنقول وبالله تعالى نستعين الحفظ اسم واقع على وصفه المرء وهي ذكره لأكثر سواد ما صنف وجمع وذكر في علمه وغرضه الذي قصد كحافظ سواد القرآن وحافظ سواد الحديث ونصوصه أو حافظ نصوص مسائل مذهبه الذي يقصد

وينتحل فهذا معنى الحفظ وأما اسم العلم فهو واقع على صفة في المرء وهو اتساعه على الإشراف على أحكام القرآن وروى الحديث صحيحه وسقيمه فقط فإن أضاف إلى ذلك الوقوف على أقوال الناس كان ذلك حسنا كلما اتسع باع المرء في هذه المعاني زاد استحقاقه لاسم العلم وهكذا في كل علم من العلوم ويكون مع ذلك ذاكرا لأكثر ما عنده وليس هذا حقيقة معنى لفظة العلم في اللغة لكنه معناه في قولهم فلان عالم وفلان أعلم من فلان وأما تفسير لفظة العلم في اللغة فقد فسرناه في كتابنا هذا وفي كتابنا الموسوم بالفصل وأما اسم الفقه فهو واقع على صفة في المرء وهي فهمه لما عنده وتنبهه على حقيقة معاني ألفاظ القرآن والحديث ووقوفه عليها وحضور كل ذلك في ذكره متى أراده ويزيد القياسيون علينا ههنا زيادة وهي معرفته بالنظائر في الأحكام والمسائل وتمييزه لها فهذه معاني الأسماء المذكورة في قولهم فلان حافظ وفلان عالم وفلان فقيه فإن قال قائل أيجوز الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فالجواب أنه فيما لم يؤمروا به ولا نهوا عنه ولكنه مباح لهم جائز كاجتهادهم فيما يجعلونه علما للدعاء إلى الصلاة ولم يكن ذلك على إيجاب شريعة تلزم وإنما كان إنذارا من بعضهم لبعض كقول أحدنا لجاره إذا نهض للصلاة قم بنا إلى الصلاة حتى إذا نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بما وافق رؤيا عبد الله بن زيد الأنصاري أبطل كل ما كانوا تراضوا به وقد اجتهد قوم بحضرته صلى الله عليه وسلم فيمن هم السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة وجوههم كالقمر ليلة البدر فأخطؤوا في ذلك حتى بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم من هم ولم يعنفهم في اجتهادهم وقد أخطؤوا فيه ولكن بين

صلى الله عليه وسلم أنهم لم يصيبوا وأن الحق في خلاف ما قالوا كلهم فإنما يجوز الاجتهاد في تأويل مثل هذا وفيما يعرف به بعضهم بعضا بحضور الصلاة وما أشبه ذلك وأما في إيجاب فرض أو تحريم شيء أو ضرب حد فحرام أن يجوز فيه لأحد اجتهاد برأيه فقط أو قول بوجه من الوجوه لأنهم كانوا يكونون بذلك شارعين ما لم يأذن به الله ومفترين على الله تعالى وقد نزههم الله تعالى عن ذلك وكل ما جاز لهم رضوان الله عليهم أن يجتهدوا فيه فهو جائز لنا ولكل إلى يوم القيامة وما حرم علينا من ذلك وغيره فقد كان حراما عليهم ولا فرق وقد أفتى أبو السنابل باجتهاده في المتوفى عنها زوجها وهي حامل فأخذ بآية الأربعة أشهر وعشرا فأخطأ وهو مجتهد فله أجر واحد لأنه لم يصب حكم الله تعالى وأما حديث معاذ فيما روي من قوله أجتهد رأيي وحديث عبد الله بن عمر وفي قوله أجتهد بحضرتك يا رسول الله فحديثان ساقطان أما حديث معاذ فإنما روي عن رجال من أهل حمص لم يسموا وحديث عبد الله منقطع أيضا لا يتصل فإن قال قائل أيجوز للأنبياء عليهم السلام الاجتهاد فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن من ظن أن الاجتهاد يجوز لهم في شرع شريعة لم يوح إليهم فيها فهو كفر عظيم ويكفي من إبطال ذلك أمره تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} وقوله {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} وقوله تعالى {ولو تقول علينا بعض لأقاويل * لأخذنا منه بليمين * ثم لقطعنا منه لوتين} وأنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن الشيء فينتظر الوحي ويقول ما أنزل علي في هذا شيء ذلك في حديث في زكاة الحمير وميراث البنتين مع العم والزوجة وفي أحاديث جمة وإن كان السائل عن هذا يعني أيجوز عليه الاجتهاد في قبول شاهدين لعلهما مغفلان فهذا

جائز والحكم بيمين لعلها كاذبة فهذا جائز لأنه صلى الله عليه وسلم بهذا أمر نصا وهو صلى الله عليه وسلم لم يؤت علم الغيب في كل موضوع وإنما أمر بقبول الشاهدين العدلين عنده من المسلمين أو العدل كذلك مع يمين الطالب أو المرأة الواحدة في الرضاع أو الكافرين في الوصية في السفر أو الواحد على رؤية الهلال أو الأربعة العدول في الزنى أو المرأتين مكان الرجل أو يمين المدعى عليه إن مبطلا وإن محقا ما لم يعلم هو ببطلان الشهادة أو قوله ويسلط الله من يشاء على ظلم من يشاء حتى ينصف كل مظلوم يوم الحشر و {ووضع لكتاب فترى لمجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يويلتنا ما لهذا لكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} ولا مثقال ذرة إلا جازى عليها إلا ما أسقط من ذلك بالتوبة أو باجتناب الكبائر وهذا الذي قلنا هو نص جلي وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وبقوله عليه السلام من حلف على منبري هذا بيمين كاذبة حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار وبقوله عليه السلام إذا قال له الحضرمي في خصمه يا رسول الله إنه فاجر لا يرع عن شيء وكان عليه السلام قد أوجب عليه اليمين فقال صلى الله عليه وسلم للحضرمي ليس لك إلا ذلك وإذ قال له أصحابه حين قتل عبد الله بن سهل يا رسول الله أتقبل أيمان يهودي فلم يجعل لهم صلى الله عليه وسلم غير ذلك وبقوله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين إن أحدكما كاذب فهل منكم تائب فبين عليه السلام أنه إنما يفعل ما أمره به ربه تعالى ولم يكلف قط أن يعطي الحق صاحبه بيقين ولا أن يعلم عيب الشهود ولا كلفنا نحن شيئا من ذلك أيضا وإنما أمر أن يقضي بالبينة العدلة عنده ولا يقدر على أكثر من أن يحكم بالعدالة الظاهرة إليه وبظاهر العلم عنده وكما أمر بقبول

اليمين من المنكر وهما شيئان متغايران أحدهما بما شهدت به البينة وألا يقضي على من حلف في قضية ألزم فيها اليمين فهذا هو الذي ألزم النبي صلى الله عليه وسلم وألزمنا نحن بعده صلى الله عليه وسلم والثاني أن يمكن صاحب الحق في علم الله تعالى من حقه وهذا لا سبيل إلى علمه في كل موضع فإن حرمنا هذا وحرمنا وفاق العدل عند الله عز وجل فلا إثم ولا حرج لأنه لا سبيل إلى علم ذلك بيقين ولا كلفناه وهذا لا يسمى اجتهادا على الإطلاق ولكنه يقين اتباع ما أمر به عليه السلام من الحكم بالعدول على حسب ما يطيق على معرفته وهو الظاهر وبقبول يمين المنكر ولا سبيل إلى اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في شرع الشرائع والأوامر عنده واردة متيقنة ولا إشكال فيها يعمل خاصها من عامها وناسخها من منسوخها ومستثناها من المستثنى منه علم يقين ومشاهدة في جميع ما أنزل عليه وأما الاجتهاد الذي كلفناه نحن فهو طلب هذه المعاني ولم نشاهدها كلها فنعلمها لكن نقبلها من الثقات الذين أمرنا الله تعالى بقبول نذارتهم إلى أن يبلغونا إلى الذين شهدوها وهم ونحن لا نعلم كل ذلك علم يقين فإن اعترض معترض بفعله عليه السلام في أخذ الفداء فنزل من عتابه على ذلك ما نزل فالجواب أننا لا ننكر أن يفعل عليه السلام ما لم يتقدم نهي من ربه تعالى له عنه إلا أنه لا يترك وذلك ولا بد من أن ينبه عليه وأما الوهم من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقصد بذلك فعل الخير فلسنا ننكره إلا أنه لا يقر عليه البتة وهذا لا يجوز أن يكون في شرع شريعة ولا إيجاب فرض ولا تحريم وإنما هو فيما قدره مباحا له إذ لم ينه عنه قبل ذلك لكن كفعله بابن أم مكتوم إذ نزلت {عبس وتولى} وقد احتج بعضهم ممن أجاز الاجتهاد بالرأي في الدين بأمر سليمان وداود

عليهم السلام {وداوود وسليمان إذ يحكمان في لحرث إذ نفشت فيه غنم لقوم وكنا لحكمهم شاهدين} قال أبو محمد وهذه مسألة اختلف الناس فيها على وجوه فقوم قالوا نسخ الله حكم داود بحكم سليمان عليهما السلام قال أبو محمد وهذا باطل لأنه لو كان كذلك لكان داود مفهما لها لأنه كان يكون حاكما بأمر أمر به قبل أن ينسخ ولما كان سليمان أولى بالإفهام منه وقال بعضهم حكم بدليل منصوب لم يوافق فيه الحقيقة وحكم سليمان فوافق الحقيقة قال أبو محمد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق إن داود عليه السلام حكم بظاهر الأمر مثل ما لو حكمنا نحن بشهادة شاهدين عدلين عندنا وهما في علم الله عز وجل المغيب عنا مغفلان فأطلع الله تعالى على غيب تلك المسألة سليمان عليه السلام فأوحى إليه بيقين من هو صاحب الحق فيها بخلاف شهادة الشهود أو نحو ذلك مما أفهم الله تعالى سليمان فيه بيقين عين صاحب الحق فهذا وجه تلك الآية الذي لا يجوز خلافه لبطلان كل تأويل غيره ولقوله تعالى في الآية نفسها {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود لجبال يسبحن ولطير وكنا فاعلين} فصح أن داود بالحكم والعلم الذي آتاه الله تعالى في تلك المسألة وأن سليمان عليهما جميعا السلام حكم فيها بالحكم والعلم الذي آتاه الله تعالى فيها بالفهم الزائد لحقيقتها وأما ادعاء المرأتين في الولد ودعاء سليمان عليه السلام بالسكين ليشقه بينهما فإن سليمان عليه السلام إنما أراد اختبار صبرهما ولم يهم قط بشق الصبي وإنما دعا بالسكين موهما لهما بذلك وقد يكون الله تعالى أمره بذلك كما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح إسماعيل عليه السلام ولم يرد قط تعالى ذبحه وإنما أراد اختبار صبر إبراهيم عليه السلام واختبار صبر المرأتين فقط ثم نهاه عن شقه إذ لاح أيتهما أمه كما نهى إبراهيم عن ذبح إسماعيل فهذا أيضا وجه ظاهر حسن والله أعلم

وأما أمر موسى والخضر عليهما السلام فإن الخضر نبي موحى إليه ولم يفعل شيئا من كل ما فعل باجتهاد كما يظن من لا عقل له وإنما فعل كل ذلك بوحي أوحاه الله إليه وبيان ذلك نص الله تعالى بأن حكى عنه أنه قال لموسى {وأما لجدار فكان لغلامين يتيمين في لمدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغآ أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} وأما سؤال موسى عليه السلام له عن ذلك فإنما فعله ناسيا لعهده ولسنا ننكر أن تنسى الأنبياء عليهم السلام وقد صلى نبينا صلى الله عليه وسلم خامسة ناسيا وسلم من ثلاث ومن اثنين ناسيا وهذا الذي قلنا هو نص القرآن في قوله تعالى حاكيا عن موسى أنه قال للخضر {قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا} قال أبو محمد فإن احتجوا بما حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي عن عمر بن عبد الملك الخولاني عن محمد بن بكر البصري عن سليمان بن الأشعث نا إبراهيم بن موسى ثنا عيسى نا أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه فهذا حديث ساقط مكذوب لأن أسامة بن زيد هذا ضعيف لا يحتج بحديثه متفق على أنه كذلك ويبين كذبه ما ذكرنا في أول هذا الباب من الأحاديث التي فيها تركه عليه السلام الحكم فيما لم ينزل عليه فيه شيء وانتظاره الموحى في كل ذلك ويكفي من ذلك قول الله تعالى آمرا له أن يقول {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} وقوله تعالى {وما ينطق

عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} وأمر الله تعالى له أن يقول {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرآن غير هذآ أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} فلو أنه صلى الله عليه وسلم شرع شيئا لم يوح إليه به لكان مبدلا للدين من تلقاء نفسه وكل من أجاز هذا فقد كفر وخرج عن الإسلام وبالله تعالى نعوذ من الخذلان فإن احتج فيها معترض بقوله تعالى {إنآ أنزلنا إليك لكتاب بلحق لتحكم بين لناس بمآ أراك لله ولا تكن للخآئنين خصيما} فإن الذي أراه الله تعالى هو الذكر والوحي بنص الآية لأن أولها {إنآ أنزلنا إليك لكتاب بلحق لتحكم بين لناس بمآ أراك لله ولا تكن للخآئنين خصيما} وقال تعالى {وإن كادوا ليفتنونك عن لذي أوحينآ إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا} ثم توعده على ذلك فقال {إذا لأذقناك ضعف لحياة وضعف لممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا} فبين تعالى أنه عليه السلام لو أوجب شيئا في الدين بغير وحي لكان مفتريا على ربه تعالى وقد عصمه الله عز وجل من ذلك وكفر من أجازه عليه فصح أنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئا إلا بوحي فسقط الاجتهاد الذي يدعيه أهل الرأي أو القياس جملة وقال تعالى {وأنزلنآ إليك لكتاب بلحق مصدقا لما بين يديه من لكتاب ومهيمنا عليه فحكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من لحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء لله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} فصح بهذه الآية أن كل نبي كان قبله فهكذا كانوا أيضا إنما اتبع كل نبي شرعته التي أوحي إليه بها فقط وأما أمور الدنيا ومكايد الحروب ما لم يتقدم نهي عن شيء من ذلك وأباح صلى الله عليه وسلم تعالى له التصرف فيه كيف شاء فلسنا ننكر أن يدبر عليه السلام كل ذلك على حسب ما يراه صلاحا فإن شاء الله تعالى إقراره عليه أقره وإن شاء إحداث منع له من ذلك في المستأنف منع إلا أن كل ذلك مما تقدم الوحي إليه بإباحته إياه ولا بد وأما في التحريم والإيجاب فلا سبيل إلى ذلك البتة وذلك مثل ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة فهذا مباح

لأن لهم أن يهبوا من أموالهم ما أحبوا ما لم ينهوا على ذلك ولهم أن يمنعوه ما لم يؤمروا بإعطائه وكذلك منازله صلى الله عليه وسلم في حروبه له أن ينزل من الأرض حيث شاء ما لم ينه عن مكان بعينه أو يؤمر بمكان بعينه وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في تلقيح ثمار أهل المدينة لأنه مباح للمرء أن يلقح نخله ويذكر تينه ومباح أن يترك فلا يفعل شيئا من ذلك وقد أخبرني محمد بن عبد الله الهمداني عن أبيه أنه ترك تينه سنين دون تذكير فاستغنى عن التذكير فلعل النخل كذلك لو توبع عليه ترك التلقيح سنة بعد سنة لاستغنى عن ذلك وهذا كله ليس من أمور الدين الواجبة والمحرمة في شيء إنما هي أشياء مباحة من أمور المعاش من شاء فعل ومن شاء ترك وإنما الاجتهاد الممنوع منه ما كان في التحريم والإيجاب فقط بغير نص وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التلقيح على قولنا وقال صلى الله عليه وسلم أنتم أعلم بأمور دنياكم وقد حدثنا بهذا الحديث عبد الله بن يوسف بن ناهي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمر والناقد وكلاهما عن أسود بن عامر ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة وثابت وهشام عن أبيه عن عائشة وثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون النخل فقال لو لم تفعلوا لصلح قال فخرج شيصا فمر بهم فقال ما لنخلكم فقالوا قلت كذا وكذا قال أنتم أعلم بأمور دنياكم قال أبو محمد فهذا بيان جلي مع صحة سنده في الفرق بين الرأي في أمر الدنيا والدين وأنه صلى الله عليه وسلم لا يقول الدين إلا من عند الله تعالى

وأن سائر ما يقول فيه برأيه ممكن فيه أن يشار عليه بغيره فيأخذ عليه السلام به لأن كل ذلك مباح مطلق له وإننا أبصر منه بأمور الدنيا التي لا خير معها إلا في الأقل وهو أعلم منا بأمر الله تعالى وبأمر الدين المؤدي إلى الخير الحقيقي وهذا نص قولنا وبالله تعالى التوفيق وفي هذا كفاية والحمد رب العالمين ومن ذلك ما قال أبو بكر يوم الحديبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال له بعض من حضر أرى أن نميل على عيال هؤلاء فقال أبو بكر نرى أن نمضي لوجهنا فهذا كله مباح للإمام أن يغزو وله أن يؤخر الغزو ويومه ذلك وشهره ذلك ويغزو بعد ذلك فاعلم الآن أن الاجتهاد إنما هو طلب الحقيقة من الوجوه المؤدية إليها لا من حيث لا يؤدي إليها والطلب كما ذكرنا هو الاستدلال فالاستدلال والاجتهاد شيء واحد وقد يستدل من لا يقع على حقيقة الدليل وكون الشيء في نفسه حقا هو شيء آخر لأنه قد يكون الشيء حقا ولا يوافق له طالبه ولا يضر ذلك الحق كما أن في منازلنا أشياء لا يعلمها غيرنا من الناس وليس جهل من جهلها أو ظن فيها غير ما فيها مما يحيل الحق عن وجهه كما لا نريده علم من علمه درجة في أنه حق والحق المعلوم والحق المجهول سواء في أنهما حق واقعان تحت جنس الحق وكل شيئين وقعا تحت نوع واحد أو تحت جنس واحد فإنهما متساويان في ذلك النوع وذلك الجنس مساواة صحيحة نعني فيما أوجبه لهما تلك الجنسية أو تلك النوعية وكل من بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر فقد لزمه البحث عنه فإن لم يفعل فقد عصى الله تعالى وكل من قامت عليه حجة من أصول صححها وأقر بأنها حق فلاحت له وفهمها ثم لم يرجع إلى موجبها لتقليد أو لأنه ظن أن

ههنا حجة أخرى لا يعلمها فهو فاسق وذلك نحو من أقر بخبر الواحد فأتاه حديث صحيح مسند فتركه لقياس أو لهوى أو تقليدا لمالك أو للشافعي أو لأبي حنيفة أو لأحمد أو لداود أو لصاحب من الصحابة أو تابع أو فقيه قديم أو حديث معتقدا أن ذلك الفقيه أو الصاحب كان عنده فضل علم جهله هو أو أن النص الذي قاس عليه أحق أن يتبع فهو فاسق ساقط العدالة عاص لله عز وجل وأما من تعلق بحديث آخر معارض للحديث الذي بلغه فما دام لا يحقق أصلا في بناء الأحاديث بعضها على بعض فهو مأجور على اجتهاده وإن كان مخطئا ولا إثم عليه في خطئه وهكذا القول في الآي وفي الأحاديث والآي ولا فرق وأما من ذكرنا قبل فبخلاف ذلك لأنه ترك الحق وهو يعلمه فدخل فيمن شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى وأما إذا حقق أصلا في بناء الأحاديث أو الآي أو الأحاديث مع الآي فالتزمه ثم لم يعتقد موجبه فهو فاسق كما قدمنا للآية التي قال تعالى فيها {ومن يشاقق لرسول من بعد ما تبين له لهدى ويتبع غير سبيل لمؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا} وهذا الذي فعل ما ذكرنا فقد ترك ما أقر بلسانه أنه هدى وأنه أمر الله تعالى ورسوله عليه السلام وصار فيمن شهد على نفسه وكذلك من أبى قبول خبر الواحد أو أبى قبول وجه العمل في البناء الصحيح في النصوص فأقيمت الحجة عليه في ذلك كله من براهين راجعة إلى النصوص وفهمها ولاحت له فلم يرجع إلى الحق في ذلك وإنما يعذر من لم تقم عليه حجة بجهله فقط وكذلك من قامت عليه البراهين في إبطال القياس فتمادى عليه وأما من أجاز أن يكون صاحب فمن دونه ينسخ أمرا أمر به رسول الله صلى

الباب الثاني والثلاثون في وجوب النيات في جميع الأعمال والفرق بين الخطأ الذي تعمد فعله ولم يقصد به خلاف ما أمر وبين الخطأ الذي لم يتعمد فعله وبين العمل المصحوب بالقصد إليه وحيث يلحق عمل المرء غيره بأجر أو إثم وحيث لا يلحق

الله عليه وسلم أو يحدث شريعة فهذا كافر مشرك حلال الدم والمال بمنزلة اليهود والنصارى وعليه لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين ونحن برآء منه وهو بريء منا فإن لم تقم عليه الحجة فهو مخطىء مأجور مرة لقصده إلى الخير وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل الباب الثاني والثلاثون في وجوب النيات في جميع الأعمال والفرق بين الخطأ الذي تعمد فعله ولم يقصد به خلاف ما أمر وبين الخطأ الذي لم يتعمد فعله وبين العمل المصحوب بالقصد إليه وحيث يلحق عمل المرء غيره بأجر أو إثم وحيث لا يلحق قال أبو محمد قال الله عز وجل {ومآ أمروا إلا ليعبدوا لله مخلصين له لدين حنفآء ويقيموا لصلاة ويؤتوا لزكاة وذلك دين لقيمة} وقال تعالى {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين لناس ومن يفعل ذلك بتغآء مرضات لله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} وقال {ولا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم لله خيرا لله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن لظالمين} وقال تعالى {لقد رضي لله عن لمؤمنين إذ يبايعونك تحت لشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل لسكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} وقال تعالى {أفلم يسيروا في لأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى لأبصار ولكن تعمى لقلوب لتي في لصدور} وقال تعالى {إذا جآءك لمنافقون قالوا نشهد إنك لرسول لله ولله يعلم إنك لرسوله ولله يشهد إن لمنافقين لكاذبون} حدثنا حمام بن أحمد حدثنا عبد الله بن إبراهيم ثنا أبو زيد المروزي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أبو نعيم ثنا زكريا عن عامر هو الشعبي سمعت النعمان بن بشير سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول فذكر الحديث وفيه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله

وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا عبد الله بن مسلمة بن قعنب نا داود يعني ابن قيس عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات حدثنا القاضي حمام بن أحمد ثنا عبد الله بن إبراهيم الأصيلي ثنا أبو زيد المروزي نا محمد ابن يوسف الفربري نا محمد بن إسماعيل البخاري نا الحميدي نا سفيان نا يحيى بن سعيد الأنصاري قال أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت عمر بن الخطاب يقول على المنبر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا عمرو الناقد نا كثير بن هشام نا جعفر بن برفان عن يزيد الأصم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم قال أبو محمد فصح بكل ما ذكرنا أن النفس هي المأمورة بالأعمال وأن الجسد آلة لها فإن نوت النفس بالعمل الذي تصرف فيه الجسد وجها ما فليس لها غيره وصح أن الله تعالى لا يقبل إلا ما أمر به بالإخلاص له فكل عمل لم يقصد به الوجه الذي أمر الله تعالى به فليس ينوب عما أمر الله تعالى به فبطل قول من قال إن من توضأ تبردا أو تعليما أو تيمم بغير نية أو لم يأكل ولا شرب ولا وطأ بغير نية أو مشى في المناسك بغير نية إنه يجزيه عن الوضوء المأمور به للصلاة وعن التيمم المأمور به للصلاة وعن الصيام المأمور به أو المتطوع به لله عز وجل وعن الحج المأمور به أو المتطوع به لله

عز وجل لأنه لم يخلص في كل ذلك لله عز وجل ولا فعله ابتغاء مرضاته تعالى ولا نوى به ما أمر به وقد أخبر الله تعالى على لسان نبيه عليه السلام أنه لا ينظر إلى الصور فإذا لم ينظر إلى الصور فقد بطل أن يجزي عمل الصورة المنفرد على عمل القلب الذي هو النية وصح أنه تعالى إنما ينظر إلى القلب وما قصد به فقط ولا بيان أكثر من تكذيب الله عز وجل لمنافقين في شهادتهم أن محمدا رسول الله وهذا عين الحق وعنصره الذي لا يتم حق إلا به فلما كانوا غير ناوين لذلك القول بقلوبهم صاروا كاذبين فيه وهذا بيان جلي في بطلان كل قول وعمل لم ينو بالقلب ونحن نحكي أقوال الكفار ونتلوها في القرآن ولكنا لم ننوها بقلوبنا لم يضرنا ذلك شيئا وصح بنص الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن التقوى في القلب فكل عمل لم يقصده القلب فليس تقوى وكل عمل لم يقصد بالمضغة التي بها يصلح الجسد فهو باطل وإن عمله الجسد وفي هذا كفاية على أن القائلين بخلاف قولنا يتناقضون أقبح تناقض فمن مفرق بين التيمم والوضوء ومن مفرق في النية في الصوم بين أول النهار وآخره ومن مفرق في الحج بين الإحرام وبين سائر فرائضه كل ذلك استطالة في الدين بالآراء الفاسدة والأهواء المضلة بلا دليل من الله تعالى فإن قال قائل منهم إنما أمر الله تعالى بغسل أعضاء الوضوء فغاسلها وإن لم تكن له نية قد غسلها قيل له وبالله تعالى التوفيق ما أمر الله تعالى قط بغسلها مجردا عن النية بذلك للصلاة وبيان ذلك في الآيتين اللتين ذكرنا وفي الحديثين اللذين نصصنا وأيضا فإن الصلاة حركات من وقوف وانحناء ووضع رأس بالأرض فإن فعل ذلك إنسان متمددا ومتأملا شيئا بين يديه ومستريحا حتى أتم بذلك ركعتين في وقت صلاة الصبح لا ينوي بذلك صلاة الصبح أتروه يجزيه ذلك من صلاة الصبح المفترضة عليه وهذا ما لا يقولونه

فقد حصلوا على التناقض فإن احتجوا في الصيام بما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل على عائشة فيقول أعندكم طعام فإن قالت لا قال إني صائم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق لا حجة لكم في ذلك لأنه ليس فيه نص على أنه صلى الله عليه وسلم استأنف الصوم من حينئذ وجائز أن يكون صلى الله عليه وسلم سأل هل عندكم طعام وهو قد نوى الصيام فلو وجد طعاما أفطر عليه وترك الصوم كما روى من طريق عائشة أنها قربت إليه طعاما فأكل وقال صلى الله عليه وسلم إني كنت أصبحت صائما وهذا جائز لنا نحن أيضا وأما عمل بلا نية فلا سبيل إليه لما قدمنا قبل فإن قالوا فإنكم تجيزون غسل النجاسة بلا نية فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن كل نجاسة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزالتها بعمل موصوف وبعدد محدود فلا بد في إزالتها من النية ولا تجزى إلا بالقصد إليه تأدية العمل المأمور به فيها وإلا فلا وأما كل نجاسة أمرنا باجتنابها فقط دون أن يجد لنا فيها عمل أو عدد فكيف ما زالت فقد زالت وقد اجتنبناها وأيضا فإنه لولا الإجماع ما أجزنا ذلك ههنا وأيضا فإن لباس الثوب النجس حلال إلا في الصلاة وفرض الصلاة أن يصلي قاصدا بنيته إلى لباس وثياب طاهرة عنده لا نجاسة فيه فإذا صلى في ثوب هذه صفته ناويا لذلك فقد أدى فرضه كما أمر بالنية التي أمر بها وليس غسلها فرضا لا يجزي سواه بل لو قطعها أو انقطع موضعها من ثوبه أو لبس ثوبا آخر أجزأه فحسبنا أن يكون الثوب طاهرا لا نجاسة فيه ولا نبالي كيف زالت النجاسة عنه ولا فرق بين إجازة مالك النية للصوم لرمضان في أول ليلة منه ويجزي ذلك عنده من تحديد النية كل ليلة وبين إجازة أبي حنيفة إحداث النية لصيام كل يوم من رمضان قبل زوال الشمس وإن لم ينوه من الليل ولا فرق بين تقديم النية قبل وقت العمل وبين تأخيرها

عن وقت العمل وفي كلا الوجهين يحصل العمل المأمور به مؤدى بلا نية مصاحبة له ولا يجوز أن يؤدى عمل إلا بنية متقدمة يتصل بها ومعها الدخول فيه بلا مهلة ولا يعرى الابتداء به منها ولو أمكن ذلك في الصوم حتى تكون النية متصلة بطلوع الفجر لما أجزأ غير ذلك ولكن لما كان ذلك غير ممكن في كل وقت أجزأ ذلك على قدر الطاقة هذا مع الحديث الوارد في هذا المعنى من طريق حفصة لا صيام لمن لم يبيته من الليل وبالله تعالى التوفيق ولا بد لكل عمل من نية وكل شيء يتصرف فيه المرء فلا يخلو من أحد وجهين إما حركة وإما إمساك عن حركة وإنما يفرق بين الطاعة من هذين الوجهين وبين المعصية منهما وبين اللغو منهما النيات فقط ولا فرق بين الطاعة والمعصية واللغو في الحركات والإمساك عن الحركات إلا بالنيات فقط وإلا فكل واحد فهو إما واقع تحت جنس الحركة وإما واقع تحت جنس الإمساك عن الحركة فوجب بالضرورة أن لا يتم عمل ولا يصح أن يكون حركة أو إمساك متوجهين إلى الطاعة المأمور بها خارجين عن المعصية وعن اللغو إلا بنية هذا أمر لا محيد عنه أصلا إلا لجاهل لا معرفة له بحقائق الأمور فمن صلى بنية رياء ففاسق عاص ومن صلى بنية الطاعة التي أمر بها فمطيع فاضل ومن ركع وسجد وقام وقعد لا بنية رياء ولا بنية الطاعة فذلك لغو وليس مطيعا ولا عاصيا ومن توضأ بنية الرياء ففاسق عاص ومن توضأ بنية الطاعة كما أمر فمطيع فاضل ومن غسل أعضاءه تبردا بلا نية طاعة ولا بنية رياء فليس مطيعا ولا عاصيا وإذا لم يكن مطيعا فلم توضأ الوضوء الذي هو طاعة الله عز وجل مأمور به وكذلك الصوم والحج والجهاد والزكاة لأن الصوم إنما هو إمساك عن الأكل والشرب والوطء والقيء والكذب والغيبة ومباشرة من لا يحل للمرء مباشرته فإن أمسك عن كل ذلك

بنية الرياء فهو عاص لله عز وجل فاسق غير صائم وإن أمسك عن كل ذلك بنية الطاعة في تركه كما أمر فهو مطيع فاضل صائم وإن أمسك عن كل ذلك لا بنية الرياء ولا بنية الطاعة كما أمر فليس مطيعا ولا عاصيا وإذا لم يكن كذلك فليس صائما وإذا لم يمسك بنية الطاعة عن ذلك في صوم الفرض في الوقت الذي أمر فيه بالإمساك عن كل ما ذكرنا فهو عاص لأنه خالف ما أمر به وهكذا القول في رمي الجمار والوقوف بعرفة والمزدلفة والطواف والسعي وكذلك سائر الأشياء كلها فمن أكل الشعير مؤثرا بالبر المساكين ناويا للبر في ذلك ففاضل محمود ومن أكله لؤما وبخلا وخزن البر مستكثرا للمال فمذموم آثم ومن مشى راجلا وحمل متاعه بيده تواضعا لله تعالى لا بخلا ولا دناءة وتصاون عن الخسائس مع ذلك وتصدق ناويا بكل ذلك ما ذكرنا فهو فاضل محمود ومن فعل ذلك بخلا ودناءة فمذموم وإن فعل بنية رياء ففاسق ومن أنكح بنته عبده أو علجا كما فعل ضرار بن عمرو تواضعا ونيته التسوية بين المسلمين وهو مع ذلك عزيز النفس غير طمع ولا جشع ففاضل محمود عند أهل العقول رائض لنفسه الغضبية ومن فعل ذلك طمعا أو مهانة نفس فمذموم ساقط ومن لبس الوشي المرتفع الذي ليس حريرا بنية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فمأجور فاضل ومن لبسه بنية التخنث والأشر والإعجاب ففاسق مذموم وهكذا جميع الأعمال أولها عن آخرها فصح أن لا عمل أصلا إلا بنية كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل أنتم تقولون فيمن أعتق في نفسه أمته أو عبده ونوى عتقهما وأمضاه نية صحيحة إلا أنه لم يلفظ بعتقهما أنهما لا يكونان بذلك حرين ولا يكون هو معتقا لا عند الله ولا في الحكم فإن العبد والأمة باقيان مملوكين له كما كانا وتقولون فيمن طلق في نفسه ونوى الطلاق إلا أنه لم يلفظ

بلفظ من ألفاظ الطلاق إنه لا يكون مطلقا بذلك لا عند الله ولا في الحكم وإنما امرأته حلال له كما كانت حتى أنكم تقولون إنه إن لفظ بلفظ ليس من ألفاظ الطلاق ونوى به الطلاق إنه لا يلزمه بذلك طلاق وإنها امرأته كما كانت حلال له في الحكم والفتيا معا وتقولون إن من وهب نيته أو تصدق بنيته بشيء من ماله مسمى ولكنه لم يلفظ بلفظ من ألفاظ الهبة أو الصدقة إنه بذلك غير واهب ولا متصدق ولا يلزمه شيء لا في الفتيا ولا في القضاء وإن اعترف بذلك وأقر بأنه نواه ثم تقولون إن من نوى في حال صيامه أنه تارك للصوم عامدا بذلك ذاكرا لصومه إلا أنه لم يأكل ولم يشرب ولا وطىء ولا فعل فعلا ينقض الصوم فإن صومه قد بطل وأنه قد أفطر وتقولون فيمن نوى في حال صلاته إنه تارك الصلاة خارج عنها إلا أنه لم يفارق ما هو فيه من هيئتها أنه قد بطلت صلاته إذا تعمد ذلك وهو ذاكر أنه في صلاة وتقولون فيمن نوى في حال إعطائه زكاة ماله أنه ليس ذلك عن زكاته المفترضة عليه إنه كذلك غير مؤد فرض زكاته وأن عليه أداءها ثانية وتقولون فيمن نوى في حال تذكيته ما يذكي أنه عابث غير قاصد إلى التذكية المأمور بها إنها ميتة لا يحل أكلها وتقولون فيمن نوى في حال عمرته وحجه إنه رافض لهما وهو مع ذلك متماد في عملهما فإن حجه وعمرته قد بطلا وتقولون فيمن نوى في حال وضوئه وغسله إن بعض عمله لهما لا ينوي به أداء الغسل الوضوء المفترضين عليه إن ذلك الغسل والوضوء ناقصان لا بد من إعادة ما عمل بغير نية وتقولون فيمن أتم كل هذه الأعمال بنية لها فلما أتمها نوى بطلانها إنه لا يبطل شيء منها بذلك وأنها ماضية جازية جائزة فما الفرق بين ما جوزتموه وبين ما أبطلتموه من ذلك وهل كل ذلك إلا سواء وما الفرق بين استغناء النية في بعض هذه الوجوه عن مضامة العمل إليها وبين افتقارها إلى مضامة العمل

إليها في بعضها فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن جميع الأعمال المأمور بها هي مفتقرة إلى نية تصحبها كما قدمنا لما ذكرنا في أول هذا الباب من وجوب القصد إلى الله تعالى والإخلاص له بالعمل فمتى قصد المرء إلى إبطال تلك النية فقد بطل ذلك العمل إذ لم يأت به كما أمر من إصحاب النية إياه فلذلك بطل ما ذكرنا من الوضوء والغسل والصوم والحج لأنه ليس إلا صائم أو غير صائم أو مصل أو غير مصل ومتوضىء أو غير متوضىء وهكذا في الزكاة والحج وغير ذلك فإذا لم يكن صائما ولا مصليا ولا متوضئا كما أمر فهو غير صائم ولا متوضىء ولا مصل وهكذا سائر الأعمال وهكذا القول عندنا فيمن طلق أو عتق أو تصدق بغير نية إن كل ذلك لا يلزمه عند الله تعالى وإن كنا نقضي عليه بإمضائه لأنا لا نعلم نيته في ذلك ولو علمنا أنه بغير نية لما حكمنا عليه بشيء من ذلك أصلا فلو وصل قوله كله فقال عبدي حر بغير نية مني لعتقه أو قال ذلك في الطلاق والنكاح والصدقة والهبة لما أنفذنا عليه شيئا من ذلك أصلا وكل ما ذكرنا وما لم نذكر من سائر الأعمال فلا تجزىء فيه النية دون العمل ولا العمل دون النية ولا بد من اقترانهما معا لأنه مأمور من الله تعالى بهما معا فلا بد في الصلاة من حركات محدودة معمولة مع النية ولا بد في الوضوء من مثل ذلك أيضا ولا بد في الحج من مثل ذلك ولا بد في الصوم من إمساك عن كل ما أمر بالإمساك عنه مع النية أيضا ولا بد في العتق والطلاق والنكاح والهبة والصدقة من نطق ولفظ مع النية في كل ذلك لأنه لا يعلم شيء من ذلك إلا بالألفاظ المعبرة عنه وإن انفرد في كل ما ذكرنا عمل دون نية فهو باطل وإن انفرد نية فيه دون عمل فهي باطل أيضا فمن نوى أن يصلي أو يتوضأ أو يحج أو يصوم ولم يصل ولا توضأ ولا

حج ولا صام فلا شيء له فلا يظن الظان أن قولنا اختلف في شيء مما ذكرنا بل هو كله باب واحد وهو أنه لا بد من عمل ونية لا حكم لأحدهما دون الآخر ومن خالفنا في هذا فإنه يتناقض فمرة يقول بقولنا في بعض المواضع ومنها الصلاة ومرة لا يقول بقولنا دون دليل لكن اتباعا للهوى والتقليد الذي لا يحل فإن قال فإنكم تقولون فيمن أفطر ناسيا غير ذاكر لصومه أو تكلم أو عمل أو أكل ناسيا في صلاته غير ذاكر أنه في صلاة أو قتل صيدا وهو محرم غير معتمد لقتله إنه لا شيء عليه في كل ذلك ثم تقولون من أحدث بشيء يخرج من مخرجيه من غائط أو بول أو ريح أو مذي أو ودي أو مني ناسيا أو نام مغلوبا فقد بطلت طهارته وتقولون إن من ذبح أو نحر أو تصيد فلم يسم الله تعالى ناسيا أو عامدا فكلاهما سواء لا يحل أكل شيء من ذلك فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن الأصل الذي تجري عليه الفتيا أنه لا شيء على الناس لقوله تعالى {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} فلا يخرج عن هذا النص إلا ما أخرجه نص أو إجماع فلهذا النص ولما أخبرنيه أبو العباس أحمد بن عمر العذري أنا الحسين بن عبد الله الجرجاني ثنا عبد الرزاق بن أحمد بن عبد الحميد الشيرازي أخبرتنا فاطمة بنت الحسن بن الريان المخزومي وراق القاضي أبي بكار بن قتيبة قالت ثنا الربيع بن سليمان المؤذن ثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ففي هذا الحديث نص التسوية

بين العمل المقصود نسيانا بغير نية وبين الخطأ الذي لم يقصد فلهذا ولنصوص أخر لم يبطل الصوم بفطر نسيان ولا بطلت الصلاة لعمل نسيان وهكذا كل نسيان إلا نسيانا استثناه من هذا النص نص آخر أو إجماع كما صح من الإجماع المتيقن المقطوع به في الأحداث المذكورة أنها تنقض الطهارة على كل حال بالنسيان والعمد وبالضرورة ندري أنه لم يزل الناس يحدثون في كل يوم من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلهم يوجب الوضوء من ذلك فصح أنه إجماع منقول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك النوم لأنه لا يكون إلا بغلبة أبدا لا بقصد ولو قصد المرء دهره كله أن ينام لم يقدر إلا أن يغلبه النوم وأما سائر الأحداث التي لا إجماع فيها فإنها لا تنقض الطهارة عندنا إلا بالقصد والعمد لا بالنسيان كاللمس للنساء وكمس الفرج وأما الذكاة فإن النص ورد بألا نأكل مما لم يذكر اسم الله عليه قال تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر سم لله عليه وإنه لفسق وإن لشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} وقال تعالى {يسألونك ماذآ أحل لهم قل أحل لكم لطيبات وما علمتم من لجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم لله فكلوا ممآ أمسكن عليكم وذكروا سم لله عليه وتقوا لله إن لله سريع لحساب} فلما كان ما ذكاه الناس للتسمية مما لم يذكر اسم الله عليه بلا شك كان مما نهينا عن أكله بالنص وأما الإثم فساقط عن الناسي جملة وقد رام قوم أن يتوصلوا إلى إباحة ما نسي ذكر اسم الله عليه بقوله عز وجل في الآية المذكورة {ولا تأكلوا مما لم يذكر سم لله عليه وإنه لفسق وإن لشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} وقالوا الفسق لا يقع إلا على النسيان قال أبو محمد وهذا تمويه ضعيف لأننا لم نقل إن الله تعالى أوقع اسم الفسق على نسيان الناسي للتسمية وإنما قلنا ما في نص الآية إن ذلك الشيء المذبوح أو المنحور أو المتصيد الذي لم يسم الله تعالى عليه عمدا أو نسيانا هو نفسه المسمى فسقا كما سمى الله تعالى الخمر والميسر رجسا من عمل الشيطان فبطل تمويههم وكان الناس لذكر اسم الله تعالى على التذكية غير مذك وغير المذكى لا يحل أكله وكذلك من نسي أن يذكي ففك الرقبة وكذلك من

نسي النية في مدخل صلاته ومدخل صومه ومدفع زكاته فهؤلاء كلهم غير مصل ولا صائم ولا مزك إلا أن الزكاة ليست مرتبطة بوقت محدود الطرفين فهي تقضى أبدا وقد جاء النص بوجوب قضاء الصلاة على الناسي وأما الصيام فهو مرتبط بوقت محدود الطرفين فلا سبيل إلى نقله إلا بنص آخر وكذلك المذكي إنما هو عمل في شيء بعينه لا يقدر على استرجاعه بعد موته فلما لم يسم الله عليه بنسيان أو عمد فهو ميتة لا يحل أكله والتسمية في اللغة لا تقع إلا على ما ذكرنا باللسان لا على ما استقر في القلب دون ذكر باللسان والعجب كل العجب ممن يرى على المفطر ناسيا القضاء ولا يعذره وقد جاء النص بأنه صائم تام الصوم ثم يرى أكل ما نسي ذكر اسم الله تعالى عليه من المذبوحات وغيرها ويعذر ههنا بالنسيان حيث عم النص بالمنع منه وهذا كما ترى وبالله تعالى التوفيق وكذلك من افتتح العمل الذي أمر به بنية قصد إليه كما أمر ثم نسي النية في درج ذلك العمل وكان العمل متصلا غير منقطع فهذا لا يبطل عمله بالنسيان للنص الذي ذكرنا فبطل بكل ما ذكرنا ما ظنه الظان من أن قولنا إن كون الفطر بنية الفطر عمدا في الصوم دون الأكل واقع أنه مخالف لقولنا إن العتق والطلاق بالنية دون النطق غير واقعين بل هو كله باب واحد وذلك أن الإمساك عما ينقض الصوم بغير نية قصد بذلك إلى أداء الصوم فاسد باطل وكذلك نية الصوم دون الإمساك عما ينقض الصوم عمدا باطل فاسد وكذلك العتق والطلاق دون نية لهما باطل وكذلك النية لهما دون إظهارهما بما لا يكونان إلا به فاسدة باطل ولاح أن الشك إنما وقع لمن وقع في هذا لاختلاف الأجوبة وبيان تحقيق رفع الإشكال في هذا الباب هو أن يسأل السائل فيقول ما تقولون فيمن طلق في نيته دون قول وفيمن أعتق في نيته دون قول

وفيمن أفطر في نيته دون عمل يفسد به الصوم وفيمن نوى إبطال صلاته التي هو فيها بنيته دون عمل مضاد للصلاة أو نوى تبردا في خلال وضوئه ولم يحدث حدثا ينقض الوضوء وفعل كل ذلك عامدا ذاكرا لما هو فيه فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن نقول له كل من ذكرت لا عتق له ولا طلاق له ولا صوم له ولا وضوء له ولا صلاة له ومثل هذا الإيمان فإنه قول ونية فمن عدم النية ولفظ بالإيمان فهو إيمان له ومن عدم القول ونوى بالإيمان فلا إيمان له وإذا كان لا إيمان له فهو كافر لأنه ليس إلا مؤمن أو كافر وأما من أتم العمل الذي أمر به كما أمر به من عمل ونية ثم نوى بعد انقضائه نقضه وإبطاله لم يكن ذلك العمل منتقضا لأنه قد كمل وتأدى كما أمر الله تعالى وانقضى وقته فلا ينقضه نية مستأنفة وكذلك لا تصلح العمل الفاسد نية غير مضامة له إما متقدمة وإما متأخرة وقد أقمنا البراهين على أن كل ما صح في وقت لم يبطل في ثان إلا بنص أو إجماع وما بطل في وقت لم يصح في ثان إلا بنص أو إجماع وهذا القول فيمن طلق بنية وأعتق بنيته دون لفظ إن الملك والنكاح قد صحا في أول فلا يبطلان في ثان إلا بنص ولا نص ولا إجماع في بطلانهما بالنية دون الألفاظ الموضوعة لنقضهما وبطل بما ذكرنا قول من أراد أن يحقق جواز العمل بنية متقدمة له غير متصلة به لأنه لو جاز أن يكون بين النية والعمل دقيقة لجاز أن يكون بينهما مائة عام ولا فرق وقد قال المالكيون إن في أول ليلة من شهر رمضان تجزىء النية لصيام باقيه وهذا باطل لأنه لو جاز ذلك لأجزت نية واحدة في أول رمضان يصومه المرء عن إحداث نية لكل رمضان يأتي وهم لا يقولون ذلك فإن قالوا إنه يحول بين رمضان ورمضان شهور لا صيام فيها قيل لهم وكذلك يحول بين كل يومين من أيام رمضان ليل لا صيام فيه ولكل يوم حكمه وقد

يمرض ويسافر فيفطر ولا يبطل لذلك صيام ما سلف ومن قولهم إن انتقاض صيام يوم من رمضان بطاعة أو بمعصية لا ينقض صيام ما سلف فيه وهذا هدم لقولهم فإن ادعوا في ذلك إجماعا أكذبهم سعيد بن المسيب عميد أهل المدينة لأنه يقول من أفطر في رمضان يوما عمدا فعليه قضاء الشهر كله لأنه عنده كيوم واحد وكصلاة واحدة إن انتقضت منها ركعة تعمدا انتقضت كلها فاستبان بكل ما ذكرنا أن كل هذا نوع واحد لا خلاف بين شيء منه ولم نقل هذا على أننا حاكمون لبعض ما ذكرنا بمثل حكمنا لسائره قياسا ومعاذ الله من ذلك ولكنا أرينا أصحاب القياس تناقضهم في ذلك حيث يرتضونه ويصححونه ويحكمون به من القياس الفاسد وأما نحن فإنما معتمدنا في كل ما ذكرنا على ما قد بيناه من أن كل عمل خلا من نية أو كل نية خلت من عمل فكل ذلك فاسد لقوله تعالى {ومآ أمروا إلا ليعبدوا لله مخلصين له لدين حنفآء ويقيموا لصلاة ويؤتوا لزكاة وذلك دين لقيمة} فأمرنا بشيئين كما ترى العبادة وهي العمل والإخلاص وهو النية فلا يجزىء أحدهما دون الآخر وبقوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى فصح بهذا النص أنه لا عمل إلا بنية مقترنة معه غير متقدمة ولا متأخرة وقوله تعالى {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} إلا أن يأتي نص باستثناء شيء من هذه النصوص فنصير إليه وإلا فلا وقد سألني بعضهم فقال ما تقول فيمن أفطر ناسيا لصومه فقلت له صومه تام قال فما تقول فيمن ترك ركعة من صلاته ناسيا فقلت يصليها ما لم ينتقض وضوءه أو يعيد الصلاة كلها إن انتقض وضوءه فقال لي لم فرقت بين الأمرين وهلا أجزت الصلاة مع نسيان بعضها كما أجزت الصيام مع نسيان بعضه بإفطار في بعض نهاره فالجواب وبالله تعالى التوفيق إننا لسنا من أصحاب القياس فيلزمنا هذا

السؤال وإنما اتبعنا النص الوارد فيمن أفطر ناسيا أنه يتم صومه واتبعنا فيمن نسي صلاته أو بعضها أن يصليها لأننا مأمورون بالصلاة بالنص وبعض الصلاة صلاة فمن لم يصل ناسيا قيل له بالنص أقم الصلاة التي نسيت إذا ذكرتها ولا مزيد ولكنا نتطوع ونريه فساد ما أراد إلزامنا إياه من طريق القياس الذي يدعونه وهم أترك الناس لطرده فنقول وبالله تعالى التوفيق ليس يشبه تارك ركعة ناسيا من أفطر ناسيا وإنما يشبه من أفطر ناسيا من تكلم في صلاته ناسيا ويشبه تارك الركعة ناسيا من نسي أنه صائم فنوى الفطر في باقي نهاره إلا أن النص فرق بين حكميهما وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها ولم يأمر في نسيان الصوم بذلك والصوم له وقت محدود حده الله تعالى فلا سبيل إلى نقله إلى وقت آخر أصلا إلا حيث جاء النص بنقله فقط ومن تعدى ذلك فقد تعدى حدود الله تعالى قال الله عز وجل {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} نعوذ بالله من الظلم والظلم حرام وأما من نوى أن يفطر ولو بعد ساعة ولم ينو أنه مفطر في وقته ذلك فلا يكون بذلك مفطرا أصلا فإن جازت تلك الساعة ولم يحدث فيها نية للفطر مجددة لم يضر صومه تلك شيئا وصومه تام وهكذا من نوى أن يزني ولم يزن أو أن يشرب ولم يشرب أو أن يتصدق ولم يتصدق لا يكتب له ولا عليه ما لم يفعل من كل ذلك شيئا وهو كله باب واحد ولا عمل إلا بنية مصحبة للدخول فيه يكون أول الدخول فيه بعد إحداثها والخطأ يكون على ضربين أحدهما فعل لم يقصده الإنسان أصلا وذلك كرجل رمى غرضا فأصاب إنسانا لم يقصده وكإنسان جر نفسه فاستجر ذبابا فدخل حلقه وهو صائم أو أراد حك فخذه فمس ذكره فهذا وجه وهو الذي يسميه أهل الكلام التولد لأنه تولد عن فعله ولم يقصد هو فعله والوجه

الثاني فعل قصد الإنسان عمله إلا أنه لم ينو بذلك طاعة ولا معصية ولا نوى بذلك ما حدث من فعله ولا قصد إلى بعض ما أمر به ولا إلى خلاف ما أمر به كإنسان لطم آخر فوافق منية الملطوم أو كإنسان صائم عمد الأكل وهو غير ذاكر لصومه ولا قاصد إفساد صومه أو نسي أنه في صلاة فقصد إلى الأكل أو إلى الكلام أو إلى المشي غير عامد لإفساد صلاته أو نسي أنه على طهارة فقصد إلى مس ذكره غير قاصد بذلك إلى نقض وضوئه أو سقاه إنسان بحضرة عدول من إناء أخبره أن فيه نبيذا غير مسكر فلما جرع منه قاصدا إلى شربه علم أنه خمر فأزاله عن فيه بعد أن شرب منه أو وطىء امرأة لقيها في فراشه عامدا لوطئها وهو يظنها امرأته فإذا بها أجنبية أدخلت عليه أو قرأ آية قاصدا إلى الألفاظ التي قرأ يظنها من القرآن وهي بخلاف ذلك في القرآن أو قتل صيدا عامدا لقتله غير ذاكر لإحرامه وهو محرم فهذا وجه ثان وكلاهما مرفوع لا ينقض شيء من ذلك عملا ولا إيمانا ولا يوجب إثما ولا حكما إلا حيث جاء النص بأنه يوجب حكما مما ذكرنا فيوقف عنده ويكون مستثنى من الجملة التي ذكرنا منها طرفا كالنص الوارد في إيجاب الدية على العاقلة لأنه في كلا الوجهين المذكورين لم ينو معصية وكذلك من فعل أي فعل كان ولم ينو به الطاعة لله تعالى فهو غير موجب له أجرا ولا أدى ما أمر به وأما العمد المرتبط بالقصد إلى ما يحدث من ذلك العمد أو إلى بعض ما هو فيه كقصد الصائم إلى الأكل وهو ذاكر لأنه صائم فرض وكضربه إنسانا بما يمات منه قاصدا لضربه به عالما بأنه قد يمات من مثله وكتبديله القرآن عامدا عالما بأنه ليس كذلك في المصحف وكشربه الخمر وهو يعلمها خمرا وكوطئه أجنبية وهو يعلم أنها ليست له زوجا ولا ملك يمين فهذا كله يوجب الحكم بالإثم وبما أتى به النص وإنما قلنا في قاتل الصيد عامدا لقتله غير ذاكر لإحرامه

إنه لا جزاء عليه لقوله تعالى في آخر الآية {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} والنقمة لا تقع إلا على عاص ولا يكون عاصيا بقتل الصيد أصلا إلا حتى يعمد قتله وهو مع ذلك ذاكر لإحرامه عالم بأنه منهي عن قتله في تلك الحال هذا ما لا خلاف فيه أعني أنه لا يأثم إلا في هذه الحال وكذلك من قصد بنيته إلى فعل الطاعة فهو مؤد لما أمر به من ذاك والنفس هي الفعالة وفعلها المعرفة بما نفعله وغرضها فيه وهي المحركة للجسد فلا بد من توفيتها فعلها الذي أمرت به بتمامه ومما ذكرنا من لقي رجلا في صف المشركين فظنه مشركا فقتله عمدا وهو لا يعلم أنه مسلم فإذا هو مسلم فلا خلاف في أنه لا قود عليه ولا إثم وكذلك سقط الإثم والقود عن المتأول من الحكام وإن كان عامدا ليس ذلك إلا لأنه لم يقصد خلاف ما أمر به وهو يعلمه معصية وكذلك من أكل لحم خنزير وهو يظنه لحم كبش أو حنث غير ذاكر ليمينه فكل هذا لا شيء عليه فيه ولا قضاء ولا إثم ولا تعزير ولا حد فإن جاء نص في شيء ما من ذلك كان مستثنى كمن صلى وهو يظن أنه متوضىء فإذا به غير متوضىء فذكر بعد ذلك فهذا لم يصل فليصل لقوله عليه السلام لا صلاة إلا بطهور وهذا لم يصل كما أمر وأما من صلى وفي ثوبه شيء فرض اجتنابه على من بلغه أو صلى إلى غير القبلة فإن كان ممن لم يبلغه فرض اجتناب ذلك الشيء ولا فرض القبلة فصلاته تامة لأنه لم يكلف ما لم يبلغه فإن كان ممن بلغه كل ذلك فعليه أن يعيد الصلاة ما دام وقتها لأنه علم ووقتها قائم إذ لم يصل تلك الصلاة كما أمر ففرض عليه أن يصليها كما أمر وأما بعد الوقت فلا لأنه لا يصلي صلاة إلا في وقتها حاشا النائم والناسي والسكران فإنهم خصوا بالنص فيهم وكالدية وعتق الكفارة في قتل الخطأ فهذا مستثنى بالنص من سائر ما لم يقصده المرء واعلم أن خصومنا يتناقضون في كل ما ذكرنا تناقضا لا يرجعون فيه إلى أصل لكن مرة يلزمونه ومرة لا يلزمونه دون برهان من الله تعالى في كل

ذلك ومما يؤيد ما قلنا ما حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال سمعت أبا وائل هو شقيق بن سلمة يقول ثنا أبو موسى الأشعري أن رجلا أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وقد روى الأعمش هذا الحديث فذكر فيه الذي يقاتل شجاعة وحمية وغضبا ورياء وأنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل في سبيل الله إلا من قاتل لتكون كلمة الله عز وجل العليا فلو أجزأ عمل بغير نية لأجزأ الجهاد الذي هو أفضل الأعمال بعد الإيمان ولكن لا سبيل إلى أن يجزىء عمل بغير نية ومن هذا الباب أيضا المكره على الكفر فإن عبد بلسانه ولم يعبد بقلبه فلم يخرج بذلك عن الإيمان قال الله تعالى {من كفر بلله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بلإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من لله ولهم عذاب عظيم} فإنما راعى تعالى عمل القلب فقط وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم إذ سئل عمن أكل ناسيا فأخبر عليه السلام أنه لم ينتقض صومه بذلك ولا شك في أن هذا الصائم عمد الأكل ولكنه كان ذاكرا لصيامه فصح ما قلنا نصا وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى {فقاتل في سبيل لله لا تكلف إلا نفسك وحرض لمؤمنين عسى لله أن يكف بأس لذين كفروا ولله أشد بأسا وأشد تنكيلا} احتج بهذا قوم في إبطال أن يحج أحد عن غيره أو يصلي أحد عن غيره أو يصوم أحد عن غيره وقد أخطؤوا في ذلك خطأ فاحشا وليس في هذه الآية معارضة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحج عن الشيخ الكبير وبالصيام عن الولي الميت وبقضاء النذر عن

الميت لأن كل ما ذكرنا فالحي المؤدي هو المكلف ذلك في نفسه وهي شريعة ألزمه الله تعالى إياها وافترضها عليه كالصلوات الخمس وسائر صيامه في رمضان فقد تعين في ذلك فرضا على الولي زائدا كلفه في نفسه هو مأجور على أدائه لأنه أدى فرضا كلفه والله تعالى متفضل على الميت والمحجوج عنه بأجر آخر زائد وخزائن الله لا تنفد وفضله تعالى لا ينقطع فبطل ظن من جهل ولم يفهم وقدر أن بين الآية التي ذكرنا والأحاديث التي وصفنا تعارضا وقد تناقضوا فأجازوا أن يؤدي المرء الدين عن غيره وجعلوا له أجرا بذلك وللميت المؤدى عنه حطيطة الدين الذي عليه وهكذا قلنا نحن في سائر ما أمرنا بأدائه من الصوم والحج والصلاة المنذورة ولا فرق وأوجبوا غرم بني عم المرء الدية عن القاتل خطأ فنقضوا قولهم فإن قالوا الإجماع أوجب ذلك كذبوا لأن عثمان البتي لا يرى ذلك يعني غرم العاقلة الدية عن قاتل الخطأ قال أبو محمد رحمه الله واحتج مخالفنا أيضا في ذلك بقوله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} قال أبو محمد وقد بينا فيما خلا أن يضاف كل ما قاله صلى الله عليه وسلم إلى ما قال ربه تعالى فصح أنه تعالى قد يتفضل على المرء بأن يلحقه دعاء ولده بعد موته وليس بما سعى وأنه تلحقه صدقة وليه عنه وليس مما سعى وكذلك سائر ما نص عليه السلام على أنه يلحقه وقال تعالى {وقال لذين كفروا للذين آمنوا تبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون * وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم لقيامة عما كانوا يفترون} وقال تعالى {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم لقيامة ومن أوزار لذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون} وأخبر عليه السلام أن من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجر من عمل

بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن سن سنة سيئة كان له مثل وزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا قال أبو محمد وكل هذا متفق لا تعارض فيه أصلا لأن معنى قوله تعالى {وقال لذين كفروا للذين آمنوا تبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون} أي أنهم لا يسقطون عنهم بتقليدهم إياهم إثما ولكن للعامل إثمه وللسان مثل ذلك أيضا وهذا بين وبالله تعالى التوفيق وكذلك ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألا يحنط الميت المحرم ولا يمس طيبا ولا يغطى وجهه ولا رأسه وأن يكفن في ثوبه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا وما أمر به صلى الله عليه وسلم في الشهيد ألا يغسل ولا يكفن وأن يدفن في ثيابه وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون دم والريح ريح مسك فكلا الأمرين عمل كلفناه نحن وألزمناه فمن فعله أطاع الله تعالى ومن لم يفعله عصى الله عز وجل فتخيل أهل الجهل والاستخفاف بأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن عمل الميت قد انقطع فيا ليت شعري من قال لهم إن هذا عمل أمر به الميت وإنما قيل لهم إنه عمل أمرنا نحن به في الميت كما أمرنا بغسل سائر موتانا وتحنيطهم بالسدر والكافور والصلاة عليهم فهذا كله سواء ولا فرق وتلبية المحرم يوم القيامة فضل له حينئذ وجزاء كثعب جرح الشهيد ولا فرق فبطل تمويه أهل الجهل والحمد لله وقوله تعالى {يأيها لناس تقوا ربكم وخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد لله حق فلا تغرنكم لحياة لدنيا ولا يغرنكم بلله لغرور} وقوله تعالى {وتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} وقوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر لذين يخشون ربهم بلغيب وأقاموا لصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى لله لمصير} وقوله تعالى {ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان لله عليما حكيما} وقوله تعالى {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون}

الباب الثالث والثلاثون في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد صلى الله عليه وسلم أيلزمنا اتباعها ما لم ننه عنها أم لا يجوز لنا اتباع شيء منها أصلا إلا ما كان منها في شريعتنا وأمرنا نحن به نصا باسمه فقط

قال أبو محمد رحمه الله فهذا كله لا يعارض ما ذكرنا البتة وإنما معناه أن أحدا لا يحمل إثم غيره ولا وزره إلا أن يكون سن ذلك العمل السوء فله مثل إثم صانعيه أبدا لأن الآي مضاف بعضها إلى بعض وقد قال تعالى {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان لله على كل شيء مقيتا} وأخبر عليه السلام أن كل قتيل يقتل فعلى ابن آدم الأول كفل منه لأنه أول من سن القتل فمعنى الآي الأول أن الله لا يلقي إثم أحد على بريء منه وأما من استن الشر ورتبه فله حظ من كل فعل يوافق ما سبق وكذلك من سن الخير أبدا فلا يلحق عمل أحد أحدا أبدا إلا ما جاء به النص فيصير حينئذ فعلا مأمورا به من كلف أداه يؤجر على فعله ويأثم بتركه كسائر ما أمر به ولا فرق وبالله تعالى التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل الباب الثالث والثلاثون في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد صلى الله عليه وسلم أيلزمنا اتباعها ما لم ننه عنها أم لا يجوز لنا اتباع شيء منها أصلا إلا ما كان منها في شريعتنا وأمرنا نحن به نصا باسمه فقط قال أبو محمد رحمه الله قد ذكرنا الوجوه التي تعبدنا الله تعالى بها والتي لا حكم في شيء من الدين إلا منها وهذا حين نذكر إن شاء الله تعالى الوجوه التي غلط بها قوم في الديانة فحكموا بها وجعلوها أدلة وبراهين وليست كذلك والصحيح أنه لا يحل الحكم بشيء منها في الدين وهي سبعة أشياء شرائع الأنبياء السالفين قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والاحتياط والاستحسان والتقليد والرأي ودليل الخطاب والقياس وفيه العلل ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون هذه الأوجه بابا بابا ومبينون وجه سقوطها

وتحريم الحكم بها وبالله تعالى نتأيد فأما شرائع الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فالناس فيها على قولين فقوم قالوا هي لازمة لنا ما لم ننه عنها وقال آخرون هي ساقطة عنا ولا يجوز العمل بشيء منها إلا أن نخاطب في ملتنا بشيء موافق لبعضها فنقف عنده ائتمارا لنبينا صلى الله عليه وسلم لا اتباعا للشرائع الخالية قال أبو محمد وبهذا نقول وقد زاد قوم بيانا فقالوا إلا شريعة إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد أما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي هذه الشريعة التي نحن عليها نفسها والبراهين على ذلك قائمة سنذكرها إن شاء الله تعالى وإنما الاختلاف الذي ذكرنا في ما كان من شرائع الأنبياء عليهم السلام موجودا نصه في القرآن أو عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما ليس في القرآن ولا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فما نعلم من يطلق إجازة العمل بذلك إلا أن قوما أفتوا بها في بعض مذاهبهم فمن ذلك تحريم بعض المالكيين لما وجد في ذبائح اليهود ملتصق الرئة بالجنب وهذا مما لا نص في القرآن ولا في السنة على أنه حرم على اليهود نعم ولا هو أيضا متفق عليه عند اليهود وإنما هو شيء انفردت به الربانية منهم وأما العانانية والعيسوية والسامرية فإنهم متفقون على إباحة أكله لهم فتحرى هؤلاء القوم وفقنا الله وإياهم ألا يأكلوا شيئا من ذبائح اليهود فيه بين أشياخ اليهود لعنهم الله اختلاف وأشفقوا من مخالفة هلال وشماي شيخ الربانية وحسبنا الله ونعم الوكيل ومن طريف ما وقع لبعضهم في هذا الباب وسمجه وشنعه الذي ينبغي لأهل العقول أن يستجيروا بالله عز وجل من مثله أن إسماعيل بن إسحاق قال في رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين الزانيين إنما فعل ذلك

صلى الله عليه وسلم تنفيذا لما في التوراة ورأى هو من رأيه الفاسد أن يرفع نفسه عن تنفيذ ما فيها من الرجم على اليهود الزناة المحصنين إذا زنوا فصان نفسه عما وصف به نبيه صلى الله عليه وسلم ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول الفاسد ومن هذا الاعتقاد فلو كفر جاهل بجهله لكان قائل هذا القول أحق الناس بالكفر لعظيم ما فيه واحتج أيضا في ألا يقول الإمام آمين إذا قال {بسم الله لرحمن لرحيم} بأن موسى عليه السلام إذا دعا لم يؤمن وأمن هارون عليهما السلام فسماهما تعالى داعيين بقوله تعالى {قال قد أجيبت دعوتكما فستقيما ولا تتبعآن سبيل لذين لا يعلمون} قال أبو محمد وفي هذا الاحتجاج من الغثاثة والبرد والسقوط والمجاهرة بالقبيح ما فيه لأنه يقال له قبل كل شيء من أخبرك أن موسى عليه السلام دعا ولم يؤمن وأن هارون أمن ولم يدع وهذا شيء إنما قاله بعض المفسرين بغير إسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذا لا يؤخذ إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن كافة تنقل عن مثلها إلى ما هنالك فمن فاته هذان الوجهان فقد فاته الحق ولم يبق بيده إلا المجاهرة بالكذب وأن يقفو ما ليس له به علم أو أن يروى ذلك عن إبليس الملعون فإنه قد أدرك لا محالة تلك المشاهد كلها إلا أنه غير ثقة ثم يقال له هذا لو صح لك ما ادعيت من أن موسى دعا ولم يؤمن وأن هارون أمن ولم يدع فأي شيء في هذا مما يبطل قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الإمام وإذا أمن فأمنوا وقول الراوي أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإمام كان يقول إذا فرغ من أم القرآن في الصلاة آمين هذا ولعل موسى قد أمن إذ دعا ولعل هارون دعا إذ دعا موسى وأمنا أو أمن أحدهما أو لم يؤمن واحد منهما ونص القرآن يوجب أنهما دعوا معا بقوله تعالى {قال قد أجيبت دعوتكما فستقيما ولا تتبعآن سبيل لذين لا يعلمون} وليس في القرآن دليل على تأمين وقع منهما ولا من أحدهما فهل سمع بأغث من هذا الاحتجاج أو أسقط منه أو أقل حيلة أو أبرد تمويها ممن يحتج بمثله

في إبطال السنن الثابتة ثم قال له من عجائب الدنيا أنك جعلت فعل موسى وهارون الذي لم يصح قط ناسخا لقول محمد صلى الله عليه وسلم الصحيح في التأمين وهذا عكس الحقائق وقد كنا نعجب من قول شيخ من شيوخهم أدركناه مقدما في مشاورة القضاة له على جميع مفتيهم فإن ذلك الشيخ قال في كتاب ألفه وقد رأيناه ووقفنا عليه وناولناه بيده وهو مكتوب كله بخطه وأقر لنا بتألفه وقرأه غيرنا عليه فكان في بعض ما أورد فيه أن قال روينا بأسانيد صحاح إلى التوراة أن السماء والأرض بكتا على عمر بن عبد العزيز أربعين سنة قال أبو محمد هذا نص لفظه فلا أعجب من الشيخ المذكور في أن يروي عن التوراة شيئا من أخبار عمر بن عبد العزيز وهذا إسماعيل يبطل قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمن يعني الإمام فأمنوا وتأمينه عليه السلام وهو الإمام بما لم يصح من ترك موسى للتأمين وترك هارون للدعاء واحتجوا أيضا في إباحة قتل المسلمين وسفك الدماء المحرمة بدعوى المريض أن فلانا قتله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو أعطي قوم بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم فأباحوا ذلك بدعوى المريض واحتجوا بما ذكر بعض المفسرين من أن المقتول من بني إسرائيل لما ضرب ببعض البقرة حيي وقال فلان قتلني قال أبو محمد وهذا ليس في نص القرآن وإنما فيه ذكر قتل النفس والتدارىء فيها وذبح البقرة وضربه ببعضها وكذلك يحيي الله الموتى فمن زاد على ما ذكرنا في تفسير هذه الآية فقد كذب وادعى ما لا علم لديه فكيف أن يستبيح بذلك دما حراما ويعطي مدعيا بدعواه وقد حرم الله تعالى ذلك فمن أعجب ممن يحتج بخرافات بني إسرائيل التي لم تأت في نص ولا في نقل كافة ولا في خبر مسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه العظائم

هذا مع أن تلك الخرافة ليس فيها ذكر قسامة أصلا ولا أنه لا يحلف في القسامة إلا اثنان فصاعدا فهذه الزوائد من أين خرجت وحسبنا الله ونعم الوكيل ثم أتى إلى قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} فقال لا نأخذ بها ولا نقتل مؤمنا بكافر ولا حرا بعبد لأن هذا من شرائع من كان قبلنا ونسي أخذه في القسامة بخرافة مروية عن بني إسرائيل وترك لها فعل النبي صلى الله عليه وسلم في القسامة ثم ترك ههنا نص الله تعالى في أنه كتب عليهم أن النفس بالنفس وأعلى ما روي في حديث بقرة بني إسرائيل فحديث حدثناه أحمد بن عمر ثنا عبد الله بن حسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن الجهم ثنا أبو بكر الوراق نا علي بن عبد الله هو ابن المديني وعياش بن الوليد قال علي نا يحيى بن سعيد وسفيان بن عيينة قال يحيى نا ربيعة بن كلثوم حدثني أبي عن سعيد بن جبير أن ابن عباس قال إن أهل المدينة من بني إسرائيل وجدوا شيخا قتيلا في أصل مدينتهم فأقبل أهل مدينة أخرى فقالوا قتلتم صاحبنا وابن أخ له شاب يبكي فأتوا موسى عليه السلام فأوحى الله إليه {وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين} فذكر حديث البقرة بطوله وفي آخره فأقبلوا بالبقرة حتى انتهوا بها إلى قبر الشيخ وابن أخيه قائم عند قبره فذبحوها فضرب ببضعة من لحمها القبر فقام الشيخ ينفض رأسه ويقول قتلني ابن أخي طال عليه عمري وأراد أكل مالي ومات وقال سفيان ثنا ابن سوقة سمعت عكرمة يقول كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا فوجدوا قتيلا قد قتل على باب فجروه إلى باب آخر فتحاكموا إلى موسى عليه السلام فقال {وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين} فذبحوها فضربوه بفخذها فقام فقال قتلني فلان وكان رجلا له مال كثير وكان ابن أخيه قتله وقال عياش بن الوليد نا يزيد

بن زريع نا سعيد عن قتادة قال كان قتيل في بني إسرائيل فأوحى الله عز وجل إلى موسى أن اذبح بقرة فاضربوه ببعضها فذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها فأحياه الله عز وجل فأنبأ بقاتله وتكلم ثم مات وذكر لنا أنهم وليه الذي كان يطلب بدمه هو قتله من أجل ميراث كان بينهم فلا يورث قاتل بعده وبه إلى ابن الجهم ثنا محمد بن مسلمة ثنا يزيد بن هارون أنبأ هشام عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال كان في بني إسرائيل رجل عقيم لا يولد له وكان له مال كثير وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلا حتى أتى به في آخرين فوضعه على باب رجل منهم ثم أصبح يدعيه عليهم فأتوا موسى عليه السلام فقال {وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين} فذبحوها فضربوه ببعضها فقام فقالوا من قتلك فقال هذا لابن أخيه ثم مال ميتا فلم يعط ابن أخيه من ماله شيئا ولم يورث قاتل بعده وبه إلى ابن الجهم حدثنا محمد الفرج وإبراهيم بن إسحاق الحربي قال محمد واللفظ له ثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل قتله رجل ثم ذكر معناه وقال الحربي نا حسين بن الأسود نا عمرو بن محمد نا أسباط عن السدي نحوه وروينا أيضا نحوه من طريق إسماعيل بن إسحاق عن عبد الله بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال أبو محمد وهذه مرسلات وموقوف لو أتت فيما أنزل علينا ما جاز الاحتجاج بها أصلا فكيف فيما أنزل في غيرنا وليس في القرآن نص بشيء مما ذكر في هذه الأخبار أكثر من أنهم تدارؤوا في نفس مقتولة منهم فأمرهم عز وجل أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها {فقلنا ضربوه ببعضها كذلك يحيي لله لموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون} ولم يقل تعالى في القرآن إن الميت قال فلان قتلني ولا أنه

صدق في ذلك ولا أنه أقيد به وكل من زاد على ما في القرآن شيئا بغير نص من الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أتى عظيمة وحتى لو صح كل هذا لما كانت فيه حجة أصلا لأن ذلك كان يكون معجزة وإحياء ميت ومن عاد من الآخرة فلا شك في أنه لا يقول إلا الحق وأما الأحياء فيما بيننا فالكذب غير مأمون عليهم ودعوى الباطل وهم لا يصدقونه في درهم يدعيه ولا في درهم يقر به لوارث ويصدقونه في الدم الذي يوجب قتل عدوه عندهم أو أخذ ماله في الدية ونحن الآن إن شاء الله تعالى نذكر كل ما في القرآن من شرائع النبيين عليهم السلام قبلنا ونبين ما اتفق على تركه منها وما اختلف في الأخذ منها ثم نذكر إن شاء الله تعالى حجج الآخذين بها والمانعين منها وبالله تعالى التوفيق فمن شرائع سليمان عليه السلام قول الله تعالى {قال أبو محمد وهذا لا خلاف بيننا في سقوط عقاب الطير وإن أفسدت علينا ومنها قوله تعالى {} قال أبو محمد هذا مما اختلف فيه فادعى قوم فيها دعاوى من أن سليمان عليه السلام كلف أصحاب الغنم جبر ما أفسدت من الزرع أو الكرم ليلا وهذا باطل لأنه ليس ذلك في الآية ولا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر في بعض التفاسير التي لا تصح وذلك من نحو ما ذكر فيها أن ملكين زنيا وقتلا النفس التي حرم الله تعالى وشربا الخمر وقد نزه الله تعالى الملائكة عن ذلك وأن الزهرة كانت زانية فمسخت كوكبا مضيئا يهتدى به في البر والبحر حتى أدت هذه الروايات الفاسدة بعض أهل الإلحاد إلى أن قال لو كان هذا لما

بقيت محصنة إلا زنت لتمسخ كوكبا والتي ذكر فيها أن يوسف عليه السلام قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من امرأته وقد نزه الله تعالى أنبياءه عن ذلك وهذا كثير جدا وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جرح العجماء جبار ولا ينسند حديث ناقة البراء أصلا وإنما هو منقطع من جميع جهاته ومن شريعة زكريا عليه السلام قوله تعالى {} وهذا ساقط بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله لأصمت يوما إلى الليل وبالجملة فلم نؤمر بالصمت ومن صمت عن غير الواجب من الكلام والمستحب من الذكر فقد أحسن ومنها قوله تعالى {} فاحتج بهذا قوم في الحكم بالقرعة ثم جعلوا ذلك حكما في المستلحق من الأولاد وفي المشكوك في طلاقها من النساء وفي غير ذلك وهذا لا يلزم بل يبطل من وجهين أحدهما أن هذا قياس والقياس باطل والثاني أنه غير مأمور به في شريعتنا ومن شرائع موسى عليه السلام قوله تعالى {} ونحن لا نخلع نعالنا في الأرض المقدسة ومنها قوله تعالى {} قال أبو محمد وهذا لا خلاف في أنه منسوخ وأن الله تعالى قد أحل لهم كل ذلك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم بقوله {}

وهذه الشحوم من طعامنا فهن حل لهم وإن رغمت أنوفهم وأنوف المجتنبين لها اتباعا لدعوى اليهود في تحريم ذلك ومنها قوله تعالى {} قال أبو محمد أما نحن فلا نأخذ بهذا لأننا لم نؤمر به وإنما أمر به غيرنا وإنما أوجبنا القود في كل هذا وفيما دونه بين المسلمين فيما بينهم وساوينا في كل ذلك بين الحر والعبد والذكر والأنثى بقوله تعالى مخاطبا لنا {} وبقوله تعالى مخاطبا لنا {} وبقوله تعالى {} ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنون تتكافأ دماؤهم فأقدنا في كل ذلك من الحر للحر والعبد للحرة والأمة وأقدنا من العبد للعبد وللحر وللحرة وللأمة وكذلك من الحرة والأمة ولا فرق وأقدنا لكل من ذكرنا من الكافر ولم نقد كافرا من مؤمن أصلا لقول الله تعالى {} وبقوله صلى الله عليه وسلم ولا يقتل مؤمن بكافر ومنها قوله تعالى {} وهذا منسوخ بإجماع ومنها قوله تعالى {} قال أبو محمد وهذا منسوخ بإجماع ومنها الأمر بذبح بقرة صفراء فاقع لونها وهذا لا يلزم في شيء من الأحكام بإجماع ومن شريعة لوط عليه السلام {} ولا يحل في شريعتنا رجم المكذب بالنذر وقد احتج قوم في رجم من فعل فعل لوط بهذه الآية

قال أبو علي ونسوا أن فاعل ذلك من قوم لوط كان كافرا وذلك منصوص في القرآن في الآية نفسها إذ أخبر تعالى أنهم كذبوا بالنذر وأن صبيانهم ونساءهم رجموا معهم ولم يكونوا ممن فعل ذلك الفعل ونسوا أيضا قوله تعالى {} فكان يلزمهم إذا طردوا أصلهم الفاسد أن يسلموا عينهم كل من راود ذكرا عن نفسه لأن الله تعالى طمس أعين قوم لوط إذ راودوا ضيفه كما رجمهم لما أتوا الذكور وكفروا فمن فرق بين شيء من ذلك فقد تحكم في دين الله عز وجل بلا برهان ولا هدى من الله تعالى ومن شريعة يوسف عليه السلام {} قال أبو محمد وهذا مما لا خلاف فيه أنه لا يجوز أن نحكم به الآن بين الناس في تداعيهم الزنى ومنها {} قال أبو محمد فاحتج قوم بهذا في إثبات الجعل وهذا لا يلزم لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالكم عليكم حرام مبطل للجعل إلا أن يوجبه نص في شريعتنا أو تطيب به نفس الجاعل ومنها قوله تعالى {} قال أبو محمد وهذا لا خلاف بيننا وبين خصومنا في أنه لا يحكم به بيننا وأنه لا يسترق السارق لأجل سرقته وكان يلزمهم القول به لأنه ليس مجمعا على تركه بل قد روينا عن زرارة بن أوفى القاضي أنه باع حرا في دين وروينا أيضا عن الشافعي من طريق غريبة وقد كان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى {} ومن شريعة أيوب عليه السلام {}

فاحتج بهذا قوم في إباحة جلد الزاني والقاذف والشارب إذا كانوا مرضى يعرجون فيه مائة أو ثمانون أو أربعون شمراخا وفي بر يمين من حلف ليجلدن غلامه كذا وكذا جلدة قال أبو محمد والذين احتجوا بدعواهم في كلام الميت في أمر بقرة بني إسرائيل أن فلانا قتلني يأبون ههنا من أن يبرأ الحالف إذا ضرب بضغث ويكفي هذا من قبيح التناقض وفاحشة ونحن وإن كنا نرى الجلد بالضغث للمريض فإنما نجيزه من غير هذه الآية لكن من الحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يجلد المريض الذي زنى بعثكول فيه مائة شمراخ ونرى البر يقع بما يقع عليه اسم جلد واسم ضرب ومن شريعة موسى وصهره عليهما السلام {} قال أبو محمد وبهذا يحتج من يبيح النكاح على إجارة إلى أحد أجلين لم يوقت أحدهما بعينه وهذا عندنا وعند خصومنا لا يجوز لأن الإجارة المجهولة الأجل فاسدة لأنها أكل مال بالباطل والنكاح على شيء فاسد لأن كل ما لا يصح إلا بصحة ما لا يصح فلا شك في أنه لا يصح لا سيما وتلك الإجارة للمنكح لا حظ فيها للمنكحة والصداق في ديننا إنما هو للمنكحة بنص قول الله تعالى {} ولا حظ فيها للأب ولا للولي ومن عجائب الدنيا ما حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا سحنون ثنا ابن القاسم قال احتج مالك في جواز فعل الرجل بإنكاح ابنته البكر بغير رضاها بقول الله تعالى عن صهر موسى {}

قال علي فأي عجب أعجب من احتجاجه بهذه الآية فيما لا يوجد في الآية أصلا وفي الممكن أنها رضيت فلم يذكر ثم يخالف الآية نفسها في أربعة مواضع أحدهما إنكاح إحدى ابنتي بغير عينها والثاني إنكاحه بإجارة الثالث الإجارة إلى أحد أجلين أيهما أوفى فالنكاح ثابت والرابع إنكاح امرأة بخدمة أبيها ثم بعد هذا كله من له بأنها كانت بكرا ولعلها ثيب أليس في هذا الاحتجاج عبرة لمن اعتبر ولعلها بكر عانس وهو لا يرى إنكاح هذه إلا بإذنها ورضاها فكيف والاحتجاج بالآية لا يصح لما قدمنا من أن شرائع الأنبياء عليهم السلام لا تلزمنا ومن شرائع الخضر عليه السلام قوله تعالى {} ثم قال {} قال أبو محمد ولا خلاف في شريعتنا أنه لا يحل قتل غلام خوف أن يرهقهما طغيانا وكفرا ومن شريعة نوح عليه السلام {} قال أبو محمد فأخذ بهذا الأزارقة واستباحوا قتل الأطفال وغاب عنهم أن قول نوح عليه السلام إنما كان فيمن كان في عصره من الكفار فقط الذين أهلكهم الله تعالى ولم يبق لهم نسلا بقوله تعالى {} وبقوله تعالى {} ولم يحمل نوح مع نفسه عليه السلام إلا المؤمنين فقط من قومه وولده وغاب عنهم بجهلهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم هو ولد كافر وكافرة وأن عمر كذلك وقد قال عليه السلام أو ليس خياركم أولاد المشركين ونحن نترك الكفار ولا نقتلهم بل نأخذ منهم الجزية وننكح إليهم ونعاملهم ونأكل ذبائحهم ولا نستحل قتل طفل من أطفال أهل الحرب عمدا بل يهديهم

الله بنا ولا يضلوننا والحمد لله رب العالمين وقد نقل كافة بني إسرائيل أن موسى عليه السلام قتل صبيان أهل مدين وقتل يوشع صبيان أهل أريحا الأطفال بأمر الله تعالى بذلك وهذا في شريعتنا غير جائز ومن شريعة يونس عليه السلام قوله تعالى {} قال أبو محمد فاحتج بهذا قوم في الحكم بالقرعة وقد مضى الكلام في ذلك ولا خلاف بين أحد منا أنه لا يجوز أن يلقى أحد في البحر بالقرعة ومن شريعة مريم عليها السلام {} وليس هذا من شرط الصوم عندنا ومن شرائع الله تعالى في بني إسرائيل قوله تعالى {} ونحن نعتدي كثيرا فلا نمسخ ولله الحمد ومن شريعة أهل زمان زكريا عليه السلام قول أم مريم {} قال أبو محمد وهذا غير جائز عندنا أصلا ومن شريعة يعقوب عليه السلام {} قال أبو محمد وهذا لا يحل عندنا وليس لأحد أن يحرم على نفسه ما لم يحرم الله عز وجل عليه إلا أن طوائف من علمائنا اختلفوا في تحريم الزوجة والأمة فقال به قوم ومنع منه آخرون وبالمنع منه نقول ولا يحل لأحد أن يحرم زوجة ولا غيرها ولا تكون بذلك حراما ولا طلاقا ولا كفارة في ذلك وهي حلال له كما كانت وكذلك سائر ماله ومن شرائع بني إسرائيل {}

قال أبو محمد وهذا لا يلزمنا ومن شريعة آدم عليه السلام قوله {} قال أبو محمد ولا خلاف في أنه لا يجوز عندنا التحاكم بالقرابين ولا يحل عندنا الاستسلام للقتل ظلما بل المقتول دون نفسه شهيد ومن شريعة الكتابيين في زمان أصحاب الكهف {} قال أبو محمد وهذ حرام في شريعتنا وقد قال عليه السلام إن أولئك كانوا إذا مات فيهم رجل صالح بنوا على قبره مسجدا أولئك شرار الخلق قال أبو محمد فهذه شرائع يلزم من قال باتباع شرائع الأنبياء عليهم السلام أن يقول بها وإلا فقد نقضوا أصلهم واحتج الموجبون للأخذ بشرائع الأنبياء عليهم السلام بقوله تعالى {} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن هذا منسوخ وأن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأت بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام واحتجوا بقوله تعالى {} قال أبو محمد وهذا إنما عني الله تعالى به أنبياء بني إسرائيل لا محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه تعالى يقول {}

وبيان ذلك قوله تعالى {} ونحن ليس لنا نبيون وإنما لنا نبي واحد والأنبياء كلهم مسلمون وقد حكى الله تعالى عن أنبياء سالفين أنهم قالوا أمرنا بأن نكون من المسلمين وأيضا فقد قال تعالى حاكيا عن أهل الكتاب أنهم قالوا لنا {} فصح أن الله تعالى نهى عن دين اليهود والنصارى وأمرنا بدين إبراهيم عليه السلام وقال تعالى {} فصح يقينا أن إبراهيم كانت شريعته قبل التوراة وأن شريعته لازمة لنا فمن المحال الممتنع أن نؤمر باتباع شيء نزل بعد شريعتنا وهذا متناقض فبطل تأويل من ظن الخطأ في قوله تعالى {} وصح أنهم أنبياء بني إسرائيل فقط فإن قالوا لا خلاف بين التوراة وبين شريعة إبراهيم عليه السلام ولا بين شريعتنا واحتجوا بما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الأنبياء إخوة من علات وأمهاتهم شتى ودينهم واحد قلنا لهم هذا حجة عليكم لا لكم إن تأولتم فيه اتفاق أحكام شرائعهم أكذبهم القرآن في قوله تعالى {وأنزلنآ إليك لكتاب بلحق مصدقا لما بين يديه من لكتاب ومهيمنا عليه فحكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من لحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء لله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وأكذبهم قوله تعالى عن عيسى عليه السلام {ومصدقا لما بين يدي من لتوراة ولأحل لكم بعض لذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فتقوا لله وأطيعون} وأكذبهم أمر السبت وتحريم كل ذي ظفر وما حرم إسرائيل على نفسه ولكن معنى قوله صلى الله عليه وسلم ودينهم واحد إنما يعني التوحيد الذي لم يختلفوا فيه أصلا واحتجوا بقوله تعالى {أولئك لذين هدى لله فبهداهم قتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين}

قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن الذي أمرنا أن نقتدي بهم فيه هو ما اتفقت فيه شريعتنا وشريعتهم مثل قوله تعالى {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا لله وبلوالدين إحسانا وذي لقربى واليتامى ولمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون} فأما باقي الآية في قوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} فلم نأخذه من هذه الآية لكن من أمر الله تعالى لنا بذلك في آية أخرى ومثل قوله عز وجل {شرع لكم من لدين ما وصى به نوحا ولذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا لدين ولا تتفرقوا فيه كبر على لمشركين ما تدعوهم إليه لله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب} فنص تعالى على أنهم كلهم أمروا ألا يتفرقوا في الدين وهذا هو نفس إخباره عليه السلام أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد وقد نص الله تعالى على أنه أمر بعضهم بترك العمل في السبت ولم يأمرنا نحن بذلك وأحل الخمر مدة وحرمها بعد ذلك فصح يقينا أن الذي نهوا عن التفرق فيه وأن الذي شرع لجميعهم من الدين الواحد إنما هو التوحيد وأن الذي فرق فيه بينهم هي الشرائع والأعمال الواجبات والمحرمات وهذا هو نفس قولنا وقد قال تعالى {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن ستطعت أن تبتغي نفقا في لأرض أو سلما في لسمآء فتأتيهم بآية ولو شآء لله لجمعهم على لهدى فلا تكونن من لجاهلين} وقال {وأنزلنآ إليك لكتاب بلحق مصدقا لما بين يديه من لكتاب ومهيمنا عليه فحكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من لحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء لله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} قال تعالى {ولكل وجهة هو موليها فستبقوا لخيرات أين ما تكونوا يأت بكم لله جميعا إن لله على كل شيء قدير} فصح بالنص أنه تعالى فرق بين الشرائع وبين منهاج كل واحد منهم وبين وجهة كل واحد منهم وقد قال تعالى {يريد لله ليبين لكم ويهديكم سنن لذين من قبلكم ويتوب عليكم ولله عليم حكيم} فصح أن الله تعالى لا يتناقض كلامه وصح أن الذي أمرنا أن نتبع فيه سننهم هو غير الشرائع التي فرق بيننا وبينهم فيها فصح أنه التوحيد الذي سوى فيه بينهم كلهم في التزامه فصح أنه هو الهدى الذي أمر صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بهم ويبين ذلك أيضا قوله تعالى حاكيا عن رسوله يوسف عليه السلام أنه قال {واتبعت ملة آبآئي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنآ أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل لله علينا وعلى لناس ولكن أكثر لناس لا يشكرون}

قال أبو محمد فبين نصا أنهم اتفقوا في التوحيد خاصة وإلا فقد نص تعالى على أن إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام حرم على نفسه أشياء كانت له حلالا وليس هذا في شريعة إبراهيم عليه السلام فصح يقينا أنه كان مباحا لإسرائيل أن يحرم على نفسه بعض الطعام وأما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي شريعتنا نفسها على ما نبين في آخر هذا الباب إن شاء الله عز وجل وليس في شريعتنا أن يحرم أحد على نفسه طعاما أحله الله له وقد جمع يعقوب بين الأختين وهذا لا يحل في شريعتنا التي هي شريعة إبراهيم فلما سوى يوسف عليه السلام بين ملة إبراهيم ويعقوب وشرائعهما مفترقة علمنا أن ذلك في التوحيد وحده لا فيما سواه فاعترض بعض خصومنا بأن قال إذا حملتم قوله تعالى على أن ذلك في التوحيد وحده لا فيما سواه عريتم الآية من الفائدة لأن التوحيد مأخوذ بالعقل قال أبو محمد هذا من أغث احتجاج يورده مشغب ويلزم من قال بهذا أن يحذف من القرآن كل آية مكررة مثل {وغيرها والتوحيد عرف بالعقل ضرورة ولكن ما يجب الإقراء به فرضا ولا صح الوعيد على جاحده بالقتل والنار في الآخرة بالعقل وإنما وجب ذلك كله بإنذار الرسل فقط فالآية المذكورة أوجبت اعتقاد التوحيد وأوجبت الإقرار به ولم يجب ذلك قط بالعقل لأن العقل لا يشرع ولا يخبر بمن يعذب الله تعالى في الآخرة ولا بمن ينعم وإنما العقل مميز بين الممتنع والواجب والممكن ومميز بين الأشياء الموجودات وبين الحق الموجود المعقول والباطل المعدوم المعقول فهذا ما في العقل ولا مزيد وقال بعضهم نحمل قوله تعالى {أولئك لذين هدى لله فبهداهم قتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين} على ما لم يأتنا فيه نص أنه نسخ من شرائعهم ونحمل قوله {وأنزلنآ إليك لكتاب بلحق مصدقا لما بين يديه من لكتاب ومهيمنا عليه فحكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من لحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء لله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} على ما نسخ من شرائعهم

قال أبو محمد هذا تأويل منهم مجرد من الدليل وما تجرد عن الدليل فهو دعوى ساقطة وقد بينا الدلائل على أن الذي أمرنا بالاقتداء بهم فيه إنما هو التوحيد وحده فقط واحتجوا بقول الله تعالى {وأنزلنآ إليك لكتاب بلحق مصدقا لما بين يديه من لكتاب ومهيمنا عليه فحكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من لحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء لله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} قال أبو محمد وقد بين الله تعالى في آية أخرى غير هذه الآية بقوله تعالى {وأنزلنآ إليك لكتاب بلحق مصدقا لما بين يديه من لكتاب ومهيمنا عليه فحكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من لحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء لله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} {ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين} واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر ثنية الربيع أو الجرح الذي جرحت على حسب اختلاف الروايات في ذلك كتاب الله القصاص قال أبو محمد إنما عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى {لشهر لحرام بلشهر لحرام ولحرمات قصاص فمن عتدى عليكم فعتدوا عليه بمثل ما عتدى عليكم وتقوا لله وعلموا أن لله مع لمتقين} وهذا الذي خوطبنا به نحن هو اللازم لنا ولم يأت نص عن أنه عليه السلام عنى غير هذه الآية أصلا فإن قال قائل فلعله عليه السلام إنما عنى بذلك قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} الآية وما علمكم بأنه عنى عليه السلام الآية التي تلوتم دون هذه فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن البرهان على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعن بقوله كتاب الله القصاص قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} أنه ليس في سورة التوراة قبول أرش وإنما الأرش في حكم الإسلام وفي الحديث المذكور أنهم قبلوا الأرش فصح أنه صلى الله عليه وسلم لم يعن قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون}

واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم إذا رأى اليهود يصومون يوم عاشوراء نحن أولى بموسى منهم قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بصيامه ولولا أن الله تعالى أمره بصيامه ما اتبع اليهود في ذلك وقد صح أنه كان يوما تصومه قريش في الجاهلية فصامه صلى الله عليه وسلم تبررا واحتجوا أيضا بأن قالوا لما كانت شريعة الأنبياء عليهم السلام حقا وجب اتباع الحق حتى يأتي ما ينقلنا عنه قال أبو محمد والجواب وبالله تعالى التوفيق إن تلك الشرائع وإن كانت حقا على الذين خوطبوا بها فلم تكتب قط علينا وليس ما كان حقا على واحد كان حقا على غيره إلا أن يوجبه الله تعالى عليه وإنما كتب علينا الإقرار بالأنبياء السالفين وبأنهم بعثوا إلى قومهم بالحق لا إلى كل أحد ولم يكتب علينا العمل بشرائعهم واحتجوا بدعائه صلى الله عليه وسلم بالتوراة يوم رجم اليهوديين وأنه عليه السلام سألهم ما تجدون في التوراة فلما أخبروه بالرجم وأنهم تركوه قال صلى الله عليه وسلم أنا أول من أحيا أمر الله تعالى قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه بل هو تأويل سوء ممن تأوله لأنه صلى الله عليه وسلم بلا شك في شريعته المنزلة عليه قد أمر برجم من أحصن من الزناة وإنما دعا صلى الله عليه وسلم بالتوراة حسما لشغب اليهود وتبكيتا لهم في تركهم العمل بما أمروا به وإعلاما لهم بأنهم خالفوا كتابهم الذي يقرون أنه أنزل عليهم ومن قال إنه صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين اتباعا للتوراة لا لأمر الله تعالى له برجم كل من أحصن من الزناة في شريعته المنزلة عليه فقد كفر وفارق الإسلام وحل دمه لأنه ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم عصيان ربه فيما أمره به في شريعته المنزلة عليه إذ تركها واتبع ما أنزل في التوراة

وقد أخبر تعالى أن اليهود يحرفون الكلم عن مواضعه فمن الكفر العظيم أن يقول من يدعي أنه مسلم إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بكتاب قد أخبر أنه محرف ووالله إن العجب ليعظم ممن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بما في التوراة في رجم يهوديين زنيا وهو يرفع نفسه الخسيسة عن هذا فيقول إن قدم إلي يهوديان زنيا لم أقم عليهما الحد ورددتهما إلى أهل دينهما فهو يترفع عما يصف به نبيه صلى الله عليه وسلم نبرأ إلى الله تعالى من نصر كل مذهب يؤدي إلى مثل هذه البوائق والكبائر وحسبنا الله ونعم الوكيل واحتجوا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم سدل ناصيته كما يفعل أهل الكتاب ثم فرقها بعده وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شيء قال أبو محمد وهذا الحديث من أقوى الحجج عليهم لأنه نص فيه على أنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شيء فصح أنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يفعل ذلك في المباح له فعله وتركه مما لم ينه عنه ولا أمر به وهذا غير ما نحن فيه وإنما كلامنا في وجوب شرائعهم ما لم ننه عنها وفي سقوطها حتى نؤمر بها وأما الزي المباح وفرق الشعر وسدله فكل ذلك مباح حتى الآن فعله وتركه هذا كل ما احتجوا به قد أبطلنا شغبهم فيه وبالله تعالى التوفيق ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون البراهين المبينة قولنا المبطلة قولهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ويحيى بن يحيى

واللفظ له قال أبو بكر نا هشيم ثنا سيار ثنا يزيد الفقير ثنا جابر وقال يحيى أنا هشيم عن سيار عن يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وذكر باقي الحديث وبه إلى مسلم ثنا قتيبة بن سعيد وعلي بن حجر قالا ثنا إسماعيل وهو ابن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فضلت على الأنبياء بست فذكرهن وفيها أرسلت إلى الخلق كافة قال أبو محمد هذا الحديث يكفي من كل شغب موه به المبطلون ويبين أن كل نبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم إنما بعث إلى قومه خاصة وإذا كان ذلك صح بيقين أن غير قومه لم يلزموا بشريعة نبي غير نبيهم فصح بهذا يقينا أنه لم يبعث إلينا أحد من الأنبياء غير محمد صلى الله عليه وسلم وإذ قد صح ذلك فقد قال تعالى {وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يقوم عبدوا لله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من لأرض وستعمركم فيها فستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب} {وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم عبدوا لله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون} {وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم عبدوا لله ما لكم من إله غيره قد جآءتكم بينة من ربكم فأوفوا لكيل ولميزان ولا تبخسوا لناس أشياءهم ولا تفسدوا في لأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين} وقال تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم {ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر لناس لا يعلمون} وقال تعالى آمرا له أن يقول {قل يأيها لناس إني رسول لله إليكم جميعا لذي له ملك لسماوات ولأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بلله ورسوله لنبي لأمي لذي يؤمن بلله وكلماته وتبعوه لعلكم تهتدون} مخاطبا للناس كلهم وأمره تعالى أن يدعو الإنس والجن إلى الإيمان وقال تعالى {لتنذر قوما مآ أنذر آبآؤهم فهم غافلون} فصح أنهم لم يكونوا ملزمين شريعة أحد من الأنبياء وقال تعالى {يا أهل لكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من لرسل أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير ولله على كل شيء قدير} فعلمنا أن الشرائع التي بعث بها موسى عليه السلام لم تلزم غير بني إسرائيل حاشا التوحيد وحده على ما بينا قبل وعلى ما بينه تعالى إذ يقول {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من لمشركين} {قولوا آمنا بلله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ولأسباط ومآ أوتي موسى

وعيسى وما أوتي لنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل مآ آمنتم به فقد هتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم لله وهو لسميع لعليم} قال أبو محمد فصح بهذه الآية أيضا أن الذي تساوى فيه كل من ذكر الله من النبيين هو اللازم لنا وليس ذلك إلا التوحيد وحده وإلا فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أن شرائعهم كانت مختلفة فسقط عنا بذلك جميع شرائعهم إلا الذي سوى بينهم فيه وهو التوحيد فقط ومن ألزمنا شرائع الأنبياء قبلنا فقد أبطل فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم وأكذبه في إخباره أنه لم يبعث نبي إلا إلى قومه خاصة حاشا لأن خصومنا يريدون منا اتباع شرائع من قبلنا فيوجبون بذلك أنهم مبعوثون إلينا وهذا الباطل والكذب ويبين هذا أيضا قوله تعالى {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم} وهذه صفة فعل الله تعالى الذي لم يزل حكمه موصوفا بها في خلقه في علمه وقال تعالى {أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب لموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون * تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} قال أبو محمد هذه كافية في هذا الباب لأنه تعالى ما سوى بينهم فيه وهو عبادة الله تعالى وحده والإقرار بأنه الإله وحده ثم أخبرنا تعالى أنه لا يسألنا عما كان أولئك الأنبياء يعملون وإذا لم نسأل عن عملهم فقد تيقن كل ذي حس سليم أن ما لا نسأل عنه فإنه غير لازم لنا ولو كان لنا لازما لسئلنا عنه فصح بهذا كله ما ذكرنا وهي براهين ضرورية لا محيد عنها وأعمالهم هي شرائعهم التي بعثوا بها فقد سقط عنا بالنص طلبها وإذ سقط عنا طلبها

فقد سقط عنا حكمها إذ لا سبيل إلى التزام حكم شيء إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بعد طلبه وبالله تعالى التوفيق وأما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي شريعتنا هذه بعينها ولسنا نقول إن إبراهيم بعث إلى الناس كافة وإنما نقول إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة بالشريعة التي بعث تعالى بها إبراهيم عليه السلام إلى قومه خاصة دون سائر أهل عصره وإنما لزمتنا ملة إبراهيم لأن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها إلينا لا لأن إبراهيم عليه السلام بعث بها قال تعالى {ثم أوحينآ إليك أن تبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من لمشركين} وقال تعالى {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من لمشركين} قال أبو محمد فانبلجت المسألة والحمد لله رب العالمين ونسخ الله تعالى عنا بعض شريعة إبراهيم كما نسخ أيضا عنا بعض ما كان يلزمنا من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فمن ذلك ذبح الأولاد نسخ عنه عليه السلام كما نسخ عنا أيضا بقوله تعالى {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبلوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا لنفس لتي حرم لله إلا بلحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} وبقوله تعالى {وإذا لموءودة سئلت * بأى ذنب قتلت} وبقوله تعالى {قد خسر لذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم لله فترآء على لله قد ضلوا وما كانوا مهتدين} ونسخ الاستغفار للمشركين بقوله تعالى {وما كان ستغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} وبقوله تعالى {ما كان للنبي ولذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب لجحيم} وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب بالاستغفار كما وعد إبراهيم عليه السلام أباه بالاستغفار حتى نهى الله تعالى كليهما عن ذلك

وأما قول إبراهيم عليه السلام لقومه إذ رأى الكوكب {فلمآ رأى لقمر بازغا قال هذا ربي فلمآ أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من لقوم لضالين} فإنما كانت تقريرا لهم تبكيتا لا استدلالا ومعاذ الله أن يقول إبراهيم بالعبودية لأحد دون الله تعالى ومن كان مثل إبراهيم سبقت له من الله تعالى سابقة علم في انتخابه للرساله والخلة لا يستدل بكبر الشمس على ربوبيتها وهو يرى الفلك أكبر منها فصح أن ذلك توبيخ لهم على فساد استدلالهم في عبادتهم للنجوم وأن هذا إنما هو كما قال {ذق إنك أنت لعزيز لكريم} أي عند نفسك في الدنيا وعند قومك المغرورين وإلا فهو في تلك الحال الدليل المهان وقال قوم متكلفون متنطعون ماذا كانت شريعة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينبأ قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن يقال لهم في نفس سؤالكم جوابكم وهو قولكم أن ينبأ وأن لم يكن نبيا فلم يكن مكلفا شيئا من الشرائع التي لم يؤمر بها ومن الهذيان أن يكون مأمورا بما لم يؤمر به فصح أنه لم يكن ألزم شيئا من الشريعة حاشا التوحيد اللازم لقومه من عهد إبراهيم عليه السلام لولده ونسله حتى غيره عمرو بن لحي وحاشا ما صانه الله تعالى عنه من الزنى وكشف العورة والكذب والظلم وسائر الفواحش والرذائل التي سبق في علم الله تعالى أنه سيحرمها عليه وعلى الناس لا إله إلا هو وقد قال قوم إن نوحا بعث إلى أهل الأرض كلهم قال أبو محمد وهذا خطأ لأنه تكذيب لقوله صلى الله عليه وسلم إن كل نبي حاشاه إنما بعث إلى قومه خاصة فصح أن نوحا عليه السلام كذلك ولا فرق وإنما غرق تعالى من غرق من غير قومه كما غرق الأطفال حينئذ وسائر الحيوان ويفعل ربنا تعالى ما شاء لا معقب لحكمه وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث وذكر صلى الله عليه وسلم

جيشا يخسف بهم فقيل له يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم المكره وغيره فأخبر صلى الله عليه وسلم أنهم وإن عمهم العذاب في الدنيا فكل أحد يبعث على نيته يوم القيامة أو كلاما هذا معناه فليس في إهلاك الله تعالى من أهلك بالطوفان دليل على أن جميعهم بعث إليهم نوح بل نص القرآن مثبت أن نوحا عليه السلام لم يبعث إلى غير قومه البتة بقوله تعالى {إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} فمن ادعى أن قومه كانوا جميع أهل الأرض فقد كذب وقفا ما ليس له به علم وقد حرم ذلك بقوله {وآت ذا لقربى حقه ولمسكين وبن لسبيل ولا تبذر تبذيرا} ولا في النص أيضا أن جميع أهل الأرض هلكوا بالطوفان لا في القرآن ولا في الحديث الصحيح والله أعلم ولا علم لنا إلا ما علمنا والكذب والقول بغير علم لا يستسهله فاضل نعوذ بالله من الخذلان فإن تعلق متعلق بما حدثناه عن عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا أبو إسحاق المستملي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا إسحاق بن نضر ثنا محمد بن عبيد ثنا أبو حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة وقال أنا سيد الناس يوم القيامة ثم ذكر صلى الله عليه وسلم صفة القيامة وفيه أن الناس يأتون نوحا فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وذكر باقي الحديث قيل له وبالله تعالى التوفيق ليس لك في هذا حجة لأنه لم يقل إلى جميع أهل الأرض وبعض أهل الأرض يقع عليه اسم أهل

الأرض وما كنا لنستجيز تخصيص هذا العموم لولا ما ذكرنا قبل من رواية جابر وأبي هريرة وشهادتهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن كل نبي قبله إنما بعث إلى قومه خاصة حاشاه عليه السلام فإنه بعث إلى الناس كافة وفضل على جميع الأنبياء بذلك وقد قال قوم إن آدم عليه السلام بعث إلى ولده وهم أهل الأرض قاطبة في وقتهم بلا شك قال أبو محمد وهذا شغب لا يصح لأن الحديث الذي ذكرنا آنفا يبطل هذه الدعوى وقد أخبر عليه السلام في هذا الحديث أن نوحا أول من بعث إلى أهل الأرض وقد روى أن شيثا كان نبيا وإذا كان ذلك فليس آدم مبعوثا إليه فإن قال قائل ومن أين استجزت الاحتجاج في دفع بعث آدم إلى أهل الأرض بنبوة شيث ولم يأت في نص صحيح ولا في إجماع وأنت تنكر مثل هذا على غيرك قال أبو محمد فنقول له وبالله تعالى التوفيق وإنما قلنا ذلك لأنه قد صح عندنا بيقين أنه لم يبعث قط نبي إلى جميع الناس حاشا محمدا صلى الله عليه وسلم فمن قال إن آدم ونوحا أو غيرهما بعث إلى جميع الناس في زمانه فهو كاذب بلا شك مخالف لمحمد صلى الله عليه وسلم مبطل لفضيلته فلما صح ذلك عندنا علمنا أن آدم لا يخلو من أحد وجهين ضرورة لا ثالث لهما إما أن يكون معه نبي آخر لم يبعث آدم إليه أو يكون ولده لم يلزموا شريعة أبيهم آدم وقد ينبأ المرء في مهده كما نبىء عيسى عليه السلام فلعله قد ولد لآدم ولد نبىء في حين خروجه إلى الدنيا فلا يكون آدم مبعوثا إليه والله أعلم إلا أن اليقين الذي لا شك فيه أن آدم لم يبعث إلى جميع ناس عصره ولا ناس هنالك إلا هو وامرأته حواء وولده فقط وبالله تعالى التوفيق

وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكرنا آنفا إن نوحا أول الرسل إلى أهل الأرض ولا شك في آدم رسول الله عز وجل فإن معناه عندنا والله أعلم أن رسالة آدم عليه السلام إنما كانت لأهل السماء قائلا لهم عن الله عز وجل {وعلم آدم لأسمآء كلها ثم عرضهم على لملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين} ومنبئا لهم بأسمائهم ومسلما عليهم على ما جاء في القرآن والحديث الصحيح وإنه لم يبعث إلى أهل الأرض أصلا وأن أولاده وامرأته أوحي إليهم التوحيد ثم بعث إلى كل طائفة نبي منها ثم بعث نوح إلى قومه خاصة بشريعة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل إلى أهل الأرض بالعذاب العام لهم ولجميع الحيوان بلا شك لا شريعة ألزموها فهذا موافق لما صح في القرآن من خبره عليه السلام وكل ما أرسله تعالى فبلا شك أنه إنما أرسله بأمر ما هذا ما لا بد منه فوجب أن يعرف بماذا أرسل إلى أهل الأرض فلم نجده إلا العذاب العام لكل من في الأرض ووجدنا النص قد جاء بإرساله إلى قومه خاصة بشريعته فصح الأمر ولله الحمد وبهذا تتألف الأحاديث كلها والقرآن وقد روينا في هذا الحديث تأويلا آخر عن قتادة والحكم وهو ما حدثناه أحمد بن عمر العذري ثنا أبو ذر عبد بن السرخسي قال ثنا إبراهيم بن خزيم قال ثنا عبد بن حميد قال حدثني يونس عن شيبان عن قتادة قال بعث نوح حين بعث الشريعة بتحليل الحلال وتحريم الحرام وبه إلى عبد قال حدثنا أبو نعيم ثنا ابن أبي غنية عن الحكم

قال جاء نوح بالشريعة بتحريم الأخوات والأمهات والبنات قال أبو محمد فتأول هذان الإمامان أن نوحا أول من بعث بالتحريم والتحليل والذي يظهر إلينا فالذي قدمنا أولا والله أعلم سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

الباب الرابع والثلاثون في الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه

الباب الرابع والثلاثون في الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه قال أبو محمد علي بن أحمد رحمه الله ذهب قوم إلى تحريم أشياء من طريق الاحتياط وخوف أن يتذرع منها إلى الحرام البحت واحتجوا في ذلك بما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني ثنا أبي نا زكريا عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال سمعته يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه وإن لكل مالك حمى وإن حمى الله محارمه وذكر باقي الحديث قال أبو محمد هذا الحديث روي بألفاظ كما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد بن كثير أنا سفيان عن أبي فروة عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال النبي صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما شبه عليه في الإثم كان لما استبان أترك ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن

يواقعه حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد بن عبد الأعلى ثنا خالد بن الحارث ثنا ابن عون الشعبي قال سمعت النعمان بن بشير يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الحلال بين وإن الحرام بين وإن بين ذلك أمورا مشتبهات وسأضرب لكم في ذلك مثلا إن الله عز وجل ذكره حمى وإن حمى الله ما حرم وإنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يرع فيه وإنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر قال أبو محمد هذا هو أبو فروة الأكبر وأما أبو فروة الأصغر فهو مسلم بن سالم الجهني وكلاهما كوفي ثقة فهذا حض منه صلى الله عليه وسلم على الورع ونص جلي على أن ما حول الحمى ليست من الحمى وأن تلك المشتبهات ليست بيقين من الحرام وإذا لم تكن مما فصل من الحرام فهي على حكم الحلال بقول تعالى {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين} فما لم يفصل فهو حلال بقوله تعالى {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وبقوله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرمه فحرم من أجل مسألته وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رويناه آنفا من طريق أبي فروة عن الشعبي أن هذا إنما هو مستحب للمرء خاصة فيما أشكل عليه وأن حكم من استبان له الأمر بخلاف ذلك وكذلك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روينا آنفا من طريق ابن عون عن الشعبي بيانا جليا أن المخوف على من واقع الشبهات إنما هو أن يجسر بعدها على الحرام فصح بهذا البيان صحة ظاهره أن معنى رواية زكريا عن الشعبي التي يقول فيها وقع في الحرام أنه إنما هو على معنى آخر وهو كل فعل أدى إلى أن يكون فاعله متيقنا أنه راكب حرام في حالته تلك وذلك نحو ماءين كل واحد منها مشكوك في طهارته متيقن نجاسة أحدهما بغير عينه فإذا توضأ بهما جميعا كنا موقنين بأنه إن صلى صلى

وهو حامل نجاسة وهذا ما لا يحل وكذلك القول في ثوبين أحدهما نجس بيقين لا يعرف بعينه وسائر ألفاظ من ذكرنا على ما لا يتيقن فيه تحريم ولا تحليل وأما ما يوقن تحليله فلا يزيله الشك عن ذلك ولا معنى لقول من قال هذا على المقاربة كما قال الله تعالى {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير} إذ لا خلاف في أن معنى هذا ليس في انقضاء العدة لكن إذا بلغ أجل العدة من الطلاق وهذا هو الذي لا يجوز غيره إذ لا يجوز صرف الآية عن ظاهرها بالدعوى ومن روى في حديث النعمان الذي ذكرنا لفظه أوشك فهو زائد على ما رواه زكريا فزيادة العدل مقبولة فكيف وقد زاد هذه اللفظة ومعناها من هو أجل من زكريا ومثله وهما ابن عون وأبو فروة وبهذا تتألف الأحاديث وطرقها ويصح استعمال جيمع أقوال الرواة وبالله تعالى التوفيق فإن تعلقوا بما حدثناه صاحبنا أحمد بن عمر بن أنس العذري قال أنا أحمد بن علي الكسائي بمكة أنا أبو الفضل العباس بن محمد بن نصر الوافقي ثنا هلال بن العلاء الرقي ثنا إبراهيم بن سعيد ثنا أبو النضر ثنا أبو عقيل عن عبد الله بن يزيد الدمشقي عن ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس كلاهما عن عطية السعدي وكانت له صحبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس فالقول في هذا الحديث كالقول في حديث النعمان سواء بسواء وإنما هو حض لا إيجاب وقد علمنا أن من لم يجتنب المتشابه وهو الذي لا بأس به فليس من أهل الورع وأهل الورع هم المتقون لأن المتقين جمع متق والمتقي الخائف ومن خاف مواقعه الحرام فهو الخائف حقا

ولعمري إن أولى الناس ألا يحتج بهذا الحديث من يرى قول الله تعالى {وللمطلقات متاع بلمعروف حقا على لمتقين} ليس فرضا بل قالوا المتعة ليست بواجبة فقد صرحوا بأن كون المرء من المتقين ليس عليه بواجب لا سيما وفي هذا الحديث معنى الحض لا الإيجاب وفي الآية التي تلونا لفظ معنى الفرض بقوله تعالى {وللمطلقات متاع بلمعروف حقا على لمتقين} وكل مسلم لفظ بالتوحيد اتقى النار فهو متق إلا أن لفظ المتقين لا يطلق إلا على المستكملين لدرجة الخوف كما أن من صلح في فعلة واحدة من أفعاله فهو صالح ومن فعل فضلا فهو به فاضل إلا أنه بلا خلاف لا يطلق على المرء اسم صالح وفاضل إلا بعد أن يبلغ الغاية التي تمكنه من الطاعات والورع ومعاذ الله أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام المذكور إلا على هذا الوجه هذا إن صح عنه لأنه لو كان ظن خصومنا في هذا الحديث حقا لكان نصه عليه السلام على ترك ما لا بأس به أعظم الحكم بأنه من أعظم الناس لأن ما لا بأس به هو المباح فعله فكان على هذا الظن الفاسد يكون المباح محظورا وهذا فاسد لا يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقوله إلا جاهل أو كافر لأنه ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إباحة الشيء للناس ونهيهم عنه في وقت واحد وهذا محال لا يقدر عليه أحد قال الله تعالى {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وليس استباحة الشيء وإيجاب الامتناع منه في وقت واحد في وسع أحد فالله تعالى قد أكذب من ظن هذا الظن وصح أن معنى هذا الحديث لو صح إنما هو على الحض لا على الإيحاب فلو كان المشتبه حراما وفرضا تركه لكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك لكنه حض على تركه وخاف على مواقعه أن يقدم على الحرام ونظر ذلك صلى الله عليه وسلم بالراتع حول الحمى فالحمى هو الحرام وما حول الحمى ليس من الحمى والمشتبهات ليس من الحرام وما لم يكن حراما فهو حلال وهذا في غاية البيان وهذا هو الورع الذي يحمد فاعله ويؤجر ولا يذم تاركه ولا يأثم ما لم يواقع الحرام البين

وأما حديث عطية السعدي الذي ذكرنا آنفا فلا يظن أن فيه حجة لمن قال بالاحتياط وقطع الذرائع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين فيه الشيء الذي ليس به بأس الذي لا يكون العبد من المتقين إلا بأن يدعه فلو كان هذا الحديث صحيحا وعلى ظاهره لوجب به أن يجتنب كل حلال في الأرض لأن كل حلال فلا بأس به ولا يحص في ذلك الحديث أي الأشياء التي لا بأس بها لا يكون العبد من المتقين لا بأن يدعها فظهر وهي تلك الرواية وفيه أبو عقيل وليس بالمحتج به وصح أنه لو صح لكان على الورع فقط فإن تعلقوا بما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن حاتم بن ميمون ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس بن سمعان الأنصاري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن البر والإثم قال البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس وبما حدثناه أحمد بن محمد الجسوري ثنا أحمد بن الفضل الدينوري ثنا محمد بن جرير الطبري حدثني محمد بن عوف الطائي ثنا محمد بن إسماعيل ثنا أبي ثنا ضمضم عن شريح بن عبيد قال زعم أيوب بن مكرز أن غلاما من الأزد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه يسأله عن الحرام والحلال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الحلال ما اطمأنت إليه النفس وإن الإثم ما حاك في صدرك وكرهته أفتاك الناس ما أفتوك فالأول فيه معاوية بن صالح بالقوي

وفي الثاني مجهولون وهو منقطع أيضا ومعاذ الله أن يكون الحرام والحلال على ما وقع في النفس والنفوس تختلف أهواؤها والدين واحد لا اختلاف فيه قال الله تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} ومن حرم المشتبه وأفتى بذلك وحكم به على الناس فقد زاد في الدين ما لم يأذن به الله تعالى وخالف النبي صلى الله عليه وسلم واستدرك على ربه تعالى بعقله أشياء من الشريعة ويكفي من هذا كله إجماع الأمة كلها نقلا عصرا عن عصر أن من كان في عصره صلى الله عليه وسلم وبحضرته في المدينة إذا أراد شراء شيء مما يؤكل أو ما يلبس أو يوطأ أو يركب أو يستخدم أو يتملك أي شيء كان أنه كان يدخل سوق المسلمين أو يلقى مسلما يبيع شيئا ويبتاعه منه فله ابتياعه ما لم يعلمه حراما بعينه أو ما لم يغلب الحرام عليه غلبة يخفي معها الحلال ولا شك أن في السوق مغصوبا ومسروقا ومأخوذا بغير حق وكل ذلك قد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى هلم جرا فما منع النبي صلى الله عليه وسلم من شيء من ذلك وهذا هو المشتبه نفسه وقوله صلى الله عليه وسلم إذ سأله أصحابه رضي الله عنهم فقالوا إن أعرابا حديثي عهد بالكفر يأتوننا بذبائح لا ندري أسموا الله تعالى عليها أم لا فقال عليه الصلاة والسلام سموا الله وكلوا أو كلاما هذا معناه يرفع الإشكال جملة في هذا الباب وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أمر في من أطعمه أخوه شيئا أن يأكل ولا يسأل فنحن نحض الناس على الورع كما حضهم النبي صلى الله عليه وسلم ونندبهم إليه ونشير عليه باجتناب ما حاك في النفس ولا نقضي بذلك على أحد ولا نفتيه به فتيا إلزام كما لم يقض بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد وقد احتج بعضهم في هذا بقول الله تعالى {ياأيها لذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا نظرنا وسمعوا وللكافرين عذاب أليم} قالوا فنهوا عن لفظة {ياأيها لذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا نظرنا وسمعوا وللكافرين عذاب أليم} لتذرعهم بها إلى سب النبي صلى الله عليه وسلم

قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن الحديث الصحيح قد جاء بأنهم كانوا يقولون راعنا من الرعونة وليس هذا مسندا وإنما هو قول لصاحب ولم يقل الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم إنكم إنما نهيتم عن قول راعنا لتذرعكم بذلك إلى قول راعنا وإذا لم يأت بذلك نص عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم في قول أحد دونه وقد قال بعض الصحابة في الحمر إنما حرمت لأنها كانت حمولة الناس وقال بعضهم إنما حرمت لأنها كانت تأكل القذر وكلا القولين غير صواب لأن الدجاج تأكل من القذر ما لا تأكل الحمير ولم يحرم قط صلى الله عليه وسلم الدجاج والناس كانوا أفقر إلى الخيل للجهاد منهم إلى الحمير وقد أباح صلى الله عليه وسلم أكل الخيل في حين تحريمه الحمير فبطل كلا القولين وهكذا من قال إن الله تعالى إنما نهى عن قول {وقولوا} لئلا يتذرعوا بها إلى قول راعنا فلا حجة في قوله لأنه أخبر عما عنده ولم يسند ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الآية حجة عليهم لا لهم لأنهم إذ نهوا عن راعنا وأمروا بأن يقولوا {وسمعوا} ومعنى اللفظين واحد فقد صح بلا شك أنه لا يحل تعدي ظواهر الأوامر بوجه من الوجوه وهذه حجة قوية في إبطال القول بالقياس وبالعلل وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإنما أمر الله تعالى في نص القرآن بأن لا يقولوا {وقولوا} وأن يقولوا {وسمعوا} المؤمنين الفضلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعظمين له الذي لم يعنوا بقول {وقولوا} قط الرعونة وأما المنافقون الذين كانوا يقولون {وقولوا} يعنون من الرعونة فما كانوا يلتفتون إلى أمر الله تعالى ولا يؤمنون به فظهر يقين فساد قولهم وتمويههم بهذه الآية وقالوا إنما منعنا من نكح في العدة ودخل بها أن ينكحها في الأبد لأنه استعجل نكاحها قبل أوانه قالوا وكذلك حرمنا القاتل الميراث لأنه استعجله قبل أوانه قال علي وهذه علة مفتقرة إلى ما يصححها لأنها دعوى فاسدة

ويقال لهم ومن أين لكم أن من استعجل شيئا قبل أوانه حرم عليه في الأبد ثم لم يلبثوا أن تناقضوا أسخف تناقض فقالوا من تزوج امرأة ذات زوج فدخل بها فأتى زوجها لم تحرم عليه في الأبد بل له نكاحها إن طلقها زوجها أو مات عنها وهو قد استعجله قبل أوانه ويلزمهم أن من سرق مالا لغيره أن يحرم عليه في ملكه في الأبد لأنه استعجله قبل وقته وأن من قتل آخر أو تحرم عليه أمته في الأبد لأنه استعجل تحللها قبل أوانه ويلزمهم أيضا ألا يرث ولاء موالي من قتل لأنه استعجل استحقاقه قبل أوانه وأن من قتل لا يدخل في حبس معقب عليه بعد موت مقتوله وألا يرث من انتقل التعصيب له إليه بعد موت مقتوله وهذا كثير جدا فإن قالوا قد يمكن أن يموت هو قبل مقتوله قلنا وقد يموت هو قبل موت مقتوله باعتباط ونحو ذلك ولا فرق وأصحاب مالك يلزمون الطلاق ثلاثا من يشك أطلق ثلاثا أم أقل ويفرقون بين من طلق إحدى امرأتيه ثم لم يدر أيتهما المطلقة وبينهما معا فيطلقون كلتا امرأتيه ويحرمون حلالا كثيرا خوف مواقعة الحرام وفي هذا عبرة لمن اعتبر ليت شعري كما تشفقون في الاستباحة من مواقعة الحرام أما تشفقون في قطعهم بالتحريم وبالتفريق من مواقعة الحرام في تحريمهم ما لم يحرمه الله تعالى وقد علم كل ذي دين أن تحريم المرء ما لم يصح تحريمه عنده حرام عليه فقد وقعوا في نفس ما خافوا بلا شك ومن العجيب أن خوف الحرام أن يقع فيه غيرهم ولعله لا يقع فيه قد أوقعهم يقينا في مواقعتهم يقين الحرام لأنهم حرموا ما لم يحرمه الله تعالى ومحرم الحلال كمحلل الحرام ولا فرق والعجب كل العجب أنهم يحتاطون بزعمهم على هذا الذي جهل أي امرأتيه طلق خوف أن يواقع التي طلق وهو لا يعلمها فيكون قد أوقع حراما لا يعلمه بعينه ولا يتقون الله تعالى فيحتاطون على أنفسهم التي أمروا بالاحتياط عليها وقال لهم ربهم تعالى {يأيها لذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا

هتديتم إلى لله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون} فيحرمون عليه الثانية التي هي امرأته بلا شك ولم يطلقها قط فيخرجونها عن ملكه بغير إذن من الله تعالى ويبيحون فرجها لمن لا شك في أنه حرام عليه من سائر من يتزوجها من الناس وهي غير مطلقة ولا منفسخة ولا متوفى عنها فيقعون في أعظم مما صانوا عنه غيرهم لأن الشاك في الطلاق لو واقع ذلك الحرام لكان غير آثم لأنه لا يعلمه حراما بعينه وهم يبيحون شيئا لا شك في أنه حرام غير مباح وقد كان الأولى بهم ألا يقدموا على إباحة المرأتين اللتين لم يطلق إحداهما بلا شك للأجنبيين فصاروا محلين للفروج المحرمة بيقين وأيضا فإنهم حكموا بالطلاق على امرأة لم تطلق من أجل غيرها طلقت والله تعالى يقول {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} ولا يحل لأحد أن يحتاط في الدين فيحرم ما لم يحرم الله تعالى لأنه يكون حينئذ مفتريا في الدين والله تعالى أحوط علينا من بعضنا على بعض فالفرض علينا ألا نحرم إلا ما حرم الله تعالى ونص على اسمه وصفته بتحريمه وفرض علينا أن نبيح ما وراء ذلك بنصه تعالى على إباحة ما في الأرض لنا إلا ما نص على تحريمه وألا نزيد في الدين شيئا لم يأذن به الله تعالى فمن فعل غير هذا فقد عصى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وأتى بأعظم الكبائر ثم عطفوا فأسقطوا الاحتياط وتعمدوا إلى إسقاط الواجب في رجل شهد عليه أربعة عدول بأنه أعتق خادمه هذه منذ عام كامل وهو منكر لذلك وهو مقر بوطئها فيحكمون بشهادتهم حين أدائها ولا يحدونه على وطء حرة بلا إنكاح فهذا غاية الإقدام على المحرمات فأين الاحتياط والعجب أنهم يكذبون الشهود إذ لم يحكموا بنص شهادتهم ولم يشهد القوم بأنها حررت الآن وإنما شهدوا أنها حررت منذ عام وكانوا غيبا إلى اليوم وفي هذا من السقوط والإقدام غير قليل ويقال لمن جعل الاحتياط أصلا يحرم به ما لم يصح بالنص تحريمه أنه يلزمك أن يحرم كل مشتبه يباع في السوق مما يمكن أن يكون حراما أو حلالا ولا

توقن بأنه حلال ولا بأنه حرام ويلزمك أن تحرم معاملة من في ماله حرام وحلال وهم لا يقولون بشيء من ذلك وهذا نقض لأصولهم في الحكم بالاحتياط ورفع الذريعة والتهمة وقد تناقضوا في هذه المواضع وقال بعضهم محتجا لأصولهم في الحكم بالاحتياط إن الحرام يدخل بأرق سبب كتحريم الله تعالى نكاح ما نكح الآباء فحرم ذلك بالعقد وإن لم يكن وطىء قالوا وأما التحليل فلا يدخل إلا بأقوى الأسباب كتحليل المطلقة لزوجها ثلاثا لا تحل له بعقد زوج آخر حتى يطأ قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه وإنما اتبعنا في كلا الموضعين النصين الواردين فيهما وقولهم إن التحريم يدخل بأرق سبب والتحليل لا يدخل إلا بأغلظ سبب قول فاسد لا دليل عليه لأنه لم يأت به نص ولا اتفق على صحته ونحن نوجدهم تحريما لا يدخل بأغلظ سبب وهو أن الله تعالى حرم الربيبة التي دخل المرء بأمها وكانت في حجره فالربيبة لا تحرم إلا بما نص الله على تحريمها به ووجدناها باتفاق منا ومنهم لا تحرم بالعقد على أمها فقط ووجدنا التحليل في الأيمان المغلظة المعظمة باسم الله تعالى يدخل بإطعام عشرة مساكين أو بالاستثناء الذي هو كلمات يسيرة لا مؤونة فيها فإن قالوا إنما وجب هذان الحكمان بالنص قلنا لهم وكذلك تحريم ما نكح الآباء وتحليل المطلقة ثلاثة بوطء زوج آخر إنما وجبا بالنص لا بما ادعيتم من رقة سبب وغلظة ووجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم على نفسه ما أحل الله تعالى له فلم يحرم عليه بذلك ولا أغلظ من تحريم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يدخل التحريم بذلك إذ لم يكن نزل بذلك عليه نص وتحلل من تلك اليمين بكفارة فدخل التحليل بأرق سبب وأهونه فبطل ما ادعوا من ذلك وأيضا فإن حجتهم بأن المطلقة لا تحل لزوجها الأول إلا بأغلظ سبب ثم أباحوها وأيضا فإن حجتهم بأن المطلقة لا تحل لزوجها الأول إلا بأغلظ سبب ثم أباحوها بالوطء دون الإنزال فقد نقضوا أصولهم في ذلك وأدخلوا التحليل بسبب رقيق لأن الحسن البصري وهو أحد الأئمة يقول لا تحل للأول

إلا بأن يطأها الثاني وينزل وإلا فلا وجعل الإنزال تمام ذوق العسيلة وهم لا يقولون بذلك وأيضا فإنهم يبيحون للمرء نكاح من زنى بها أبوه ولا يحرمون عليه امرأته إن زنى بجريمتها فهنا لا يدخلون التحريم بأرق سبب بل بأغلظ سبب وهو المتفق عليه في وطء الحلال ويبيحون قتل المقر بالزنى مرة واحدة فيدخلون التحليل على الدم الحرام الذي هو أغلظ الحرمات بأرق سبب وغيرهم لا يبيح دمه إلا بإقرار أربع مرات يثبت عليها ولا يرجع عنها أصلا وكل هذا تناقض منهم وهدم لما أصلوه من أن التحريم يدخل بأرق الأسباب ولا يدخل التحليل إلا بأغلظ الأسباب ومما يبطل قولهم غاية الإبطال قول الله تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون} وقوله تعالى {قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون} فصح بهاتين الآيتين أن كل من حلل أو حرم ما لم يأت بإذن من الله تعالى في تحريمه أو تحليله فقد افترى على الله كذبا ونحن على يقين من أن الله تعالى قد أحل لنا كل ما خلق في الأرض إلا ما فصل لنا تحريمه بالنص لقوله تعالى {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين} فبطل بهذين النصين الجليين أن يحرم أحد شيئا باحتياط أو خوف تذرع وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من توهم أنه أحدث ألا يلتفت إلى ذلك وأن يتمادى في صلاته وعلى حكم طهارته هذا في الصلاة التي هي أوكد الشرائع حتى يسمع صوتا أو يشم رائحة فلو كان الحكم الاحتياط حقا لكانت الصلاة أولى ما احتيط لها ولكن الله تعالى لم يجعل لغير اليقين حكما فوجب بما ذكرنا أن كل ما تيقن تحريمه فلا ينتقل إلى التحليل إلا بيقين آخر من نص أو إجماع وكل ما تيقن تحليله فلا سبيل أن ينتقل إلى التحريم إلا بيقين آخر من نص أو إجماع وبطل الحكم باحتياط

وصح أن لا حكم إلا لليقين وحده والاحتياط كله هو ألا يحرم المرء شيئا إلا ما حرم الله تعالى ولا يحل شيئا إلا ما أحل الله تعالى وبطل بهذا أن تطلق امرأة على زوجها إذ شك أطلقها أم لا لأنها زوجة بيقين فلا تحرم عليه إلا بيقين آخر من نص أو إجماع وبالله تعالى التوفيق نعم حتى لقد أداهم هذا الأصل الفاسد إلا أن حكموا في أشياء كثيرة بالتهمة التي لا تحل فأبطلوا شهادة العدول لآبائهم وأبنائهم ونسائهم وأصدقائهم تهمة لهم بشهادة الزور والحيف والحكم بالتهمة حرام لا يحل لأنه حكم بالظن وقد قال تعالى عائبا لقوم قطعوا بظنونهم فقال تعالى {بل ظننتم أن لن ينقلب لرسول ولمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن لسوء وكنتم قوما بورا} وقال تعالى عائبا قوما قالوا {وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} وقال تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا} وقال تعالى {إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الظن أكذب الحديث قال أبو محمد فكل من حكم بتهمة أو باحتياط لم يستيقن أمره أو بشيء خوف ذريعة إلى ما لم يكن بعد فقد حكم بالظن وإذا حكم بالظن فقد حكم بالكذب والباطل وهذا لا يحل وهو حكم بالهوى وتجنب للحق نعوذ بالله من كل مذهب أدى إلى هذا مع أن هذا المذهب في ذاته متخاذل متفاسد متناقض لأنه ليس أحد أولى بالتهمة من أحد وإذا حرم شيئا حلالا خوف تذرع إلى حر فليخص الرجال خوف أن يزنوا وليقتل الناس خوف أن يكفروا وليقطع الأعناب خوف أن يعمل منها الخمر وبالجملة فهذا المذهب أفسد مذهب في الأرض لأنه يؤدي إلى إبطال الحقائق كلها وبالله تعالى التوفيق فإن تعلق متعلق بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعقبة بن الحارث إذ تزوج بنت أبي إهاب بن عزيز فأتت الأمة السوداء فقالت إني أرضعتكما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم دعها عنك كيف بك وقد قيل فهذا لا يقوله

رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد صح عنده وجوب الحكم بقول تلك الأمة السوداء والخبر إذا صح عند الحاكم والشهادة إذا ثبتت عنده لزمه أن يحكم بهما فإن قال قائل لم يكن ذلك من قول الأمة السوداء شهادة لوجهين أحدهما أنه لم تؤد ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أخبرت بذلك عقبة بن الحارث وليس حكم الشهادة إلا أن تؤدى عند الحاكم والوجه الثاني أنه صلى الله عليه وسلم قد قال إن شهادة المرأة نصف شهادة رجل فلا سبيل إلى تعدي هذه القضية ولا إلى أن تكون شهادة المرأة كشهادة رجل فكيف أن تكون كشهادة رجلين ولا سبيل إلى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر عقبة بأن يدع زوجه وينهاه عنها بالظن الذي قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكذب الحديث هذا ما لا يظنه مسلم بالنبي صلى الله عليه وسلم لا سيما في الفراق بين الزوجين الذي عظمه الله تعالى بقوله عز وجل واصفا للسحرة {وتبعوا ما تتلوا لشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن لشياطين كفروا يعلمون لناس لسحر ومآ أنزل على لملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين لمرء وزوجه وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن لله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن شتراه ما له في لآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} فإذ قد بطل أن يكون حديث الأمة السوداء شهادة أو حكما بالظن فلم يبق إلا أنه خبر صدقه النبي صلى الله عليه وسلم وعلم صحته فقضى به قيل له أما قولك لم تؤده عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أدى شهادتهما بذلك وقولها إليه صلى الله عليه وسلم الثقة وهو المقول له ذلك وشهادة واحدة على شهادة واحدة عندنا جائزة وأما قولك أنه صلى الله عليه وسلم قال شهادة المرأة نصف شهادة الرجل فنعم وهو صلى الله عليه وسلم القائل لما ذكرت وهو القائل لعقبة بن الحارث دعها عنك فهو صلى الله عليه وسلم أمره بفراقها بشهادة السوداء فالمرأة الواحدة مقبولة في هذا المكان بهذا الحديث وأما في سواه فامرأتان مقام رجل بالنص الآخر الذي ذكرت ولا يحل ترك أحدهما للآخر هذا على أن المالكيين الحاكمين باحتياط وقطع الذرائع في العظائم التي لم يأذن بها الله تعالى لا يحكمون بقول امرأة لزوج وامرأته إني قد

أرضعتكما ولا يفرقون بينهما بذلك فهم يخالفون النصوص كما ترى حيث كان يكون لهم فيه متعلق ويفرقون بالاحتياط حيث لم يأت فيه نص يتعلق به متعلق وبالله التوفيق فإن احتجوا بما حدث أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس العذري أنا الحسن بن أحمد بن فراس ثنا أحمد بن محمد بن سهل المعروف ببكير بن الحداد ثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي ثنا عمرو بن محمد العثماني ثنا إسماعيل بن أبي أويس عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مشكل حرام وليس في الدين إشكال فهذا حديث لا تقوم به حجة لضعف سنده لأن حسين بن عبد الله ضعيف وأبوه وجده غير مشهورين في أصحاب النقل وأما كل أشياء أو شيئين أيقنا أن فيهما حراما لا نعلمه بعينه فحكمهما التوقف أو ترك التوقف على ما قد قسمناه في غير هذا الموضع حتى يتبين الحرام من الحلال لأن هذا المكان فيه يقين حرام يلزم اجتنابه فرضا وهذا بخلاف المشكوك فيه الذي لا يقين فيه أصلا حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان الثوري عن أبيه عن تميم بن سلمة عن ابن عمرة قال إن الله يحب أن يؤتى مياسره كما يحب أن تؤتى عزائمه قال فذكرت ذلك لعبد الرحمن الرحال فقال قال ابن عباس إن الله يحب أن تقبل رخصه كما يحب أن يؤتى حده وبه نصا إلى عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن مالك بن الحارث عن عمرو بن شرحبيل قال قال عبد الله بن مسعود إن الله يحب أن تؤتى مياسره كما يحب أن تؤتى عزائمه قال أبو محمد فهذا يبين أنه لا يجوز التحري في اجتناب ما جاء عن

الباب الخامس والثلاثون في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك

الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وإن كانت رخصة وأن كل ذلك حق وسنة ودين فبطل ما تعلقوا به من الاحتياط الذي لم يأت به نص ولا إجماع وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل الباب الخامس والثلاثون في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك قال أبو محمد رحمه الله إنما جمعنا هذا كله في باب واحد لأنها كلها ألفاظ واقعة على معنى واحد لا فرق بين شيء من المراد بها وإن اختلفت الألفاظ وهو الحكم بما رآه الحاكم أصلح في العاقبة وفي الحال وهذا هو الاستحسان لما رأى برأيه من ذلك وهو استخراج ذلك الحكم الذي رآه قال المالكيون بالاستحسان في كثير من مسائلهم روى العتبي محمد بن أحمد قال ثنا أصبغ بن الفرج قال سمعت ابن القاسم يقول قال مالك تسعة أعشار العلم الاستحسان قال أصبع بن الفرج الاستحسان في العلم يكون أغلب من القياس ذكر ذلك في كتاب أمهات الأولاد من المستخرجة وأما الحنفيون فأكثروا فيه جدا وأنكره الشافعيون وأنكره من أصحاب مذهب أبي حنيفة أحمد بن محمد الطحاوي فأما القائلون به فإننا نجدهم يقولون في كثير من مسائلهم إن القياس في هذه المسألة كذا ولكنا نستحسن فنقول غير ذلك قال أبو محمد واحتج القائلون بالاستحسان بقول الله عز وجل {لذين يستمعون لقول فيتبعون أحسنه أولئك لذين هداهم لله وأولئك هم أولو لألباب}

قال أبو محمد وهذا الاحتجاج عليهم لا لهم لأن الله تعالى لم يقل فيتبعون ما استحسنوا وإنما قال عز وجل {إن تكفروا فإن لله غني عنكم ولا يرضى لعباده لكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات لصدور} وأحسن الأقوال ما وافق القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم هذا هو الإجماع المتيقن من كل مسلم ومن قال غير هذا فليس مسلما وهو الذي بينه عز وجل إذ يقول {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} ولم يقل تعالى فردوه إلى ما تستحسنون ومن المحال أن يكون الحق فيما استحسنا دون برهان لأنه لو كان ذلك لكان الله تعالى يكلفنا ما لا نطيق ولبطلت الحقائق ولتضادت الدلائل وتعارضت البراهين ولكان تعالى يأمرنا بالاختلاف الذي قد نهانه عنه وهذا محال لأنه لا يجوز أصلا أن يتفق استحسان العلماء كلهم على قول واحد على اختلاف هممهم وطبائعهم وأغراضهم فطائفة طبعها الشدة وطائفة طبعها اللين وطائفة طبعها التصميم وطائفة طبعها الاحتياط ولا سبيل إلى الاتفاق على استحسان شيء واحد مع هذه الدواعي والخواطر المهيجة واختلافها واختلاف نتائجها وموجباتها ونحن نجد الحنفيين قد استحسنوا ما استقبحه المالكيون ونجد المالكيين قد استحسنوا قولا قد استقبحه الحنفيون فبطل أن يكون الحق في دين الله عز وجل مردودا إلى استحسان بعض الناس وإنما كان يكون هذا وأعوذ بالله لو كان الدين ناقصا فأما وهو تام لا مزيد فيه مبين كله منصوص عليه أو مجمع عليه فلا معنى لمن استحسن شيئا منه أو من غيره ولا لمن استقبح أيضا شيئا منه أو من غيره والحق حق وإن استقبحه الناس والباطل باطل وإن استحسنه الناس فصح أن الاستحسان شهوة واتباع للهوى وضلال وبالله تعالى نعوذ من الخذلان وقد روى الفتيا بالرأي في مسائل عن الصحابة فإن قال قائل إذ قد ظهر الفتيا بالرأي في الصحابة فقد أجمعوا على الرضا به قيل له وبالله تعالى التوفيق ليس كما تقول بل لو قال قائل إنهم رضي الله

عنهم أجمعوا على ذمه لكان مصيبا لأن الذين روى عنهم الفتيا منهم رضي الله عنهم مائة ونيف وثلاثون لا يحفظ التكثير منهم من الفتيا إلا عن عشرين ثم لا يحفظ عن أحد من هؤلاء المذكورين تصويب القول بالرأي ولا أنه دين ولا أنه لازم بل أكثرهم قد روي عنه ذم ما أخبر به من الرأي وعلى أي وجه أفتى به من أنه غير لازم ثم تعكس عليهم السؤال فنسألهم أعصم أحد من الخطأ بعد النبي صلى الله عليه وسلم فمن قولهم وقول جميع المسلمين إنه لم يعصم أحد من الخطأ بعد النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان من دونه يخطىء ويصيب فإذ الأمر كذلك أفيسوغ لأحد أن يقول إنهم قد أجمعوا على الخطأ وأراد تصحيح الخطأ بذلك وهذا ما لا يقوله أحد وإنما يكون الإجماع صحيحا إذا أجمعوا على صحة القول بشيء ما ولم يصحح قط أحد منهم القول بالرأي وأيضا فإنه ليس منهم أحد أفتى برأيه في مسألة إلا وقد أفتى غيره فيها بنص رواه أو موافق لنص فإذ الأمر كذلك فإن الواجب عرض تلك الأقوال على القرآن والسنة فالقرآن والسنة يشهدان بصحة قول من وافق قوله النص لا من قال برأيه وبالله تعالى التوفيق واحتجوا في الاستحسان بقول يجري على ألسنتهم وهو ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وهذا لا نعلمه ينسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه أصلا وأما الذي لا شك فيه فإنه لا يوجد البتة في مسند صحيح وإنما نعرفه عن ابن مسعود كما حدثنا المهلب التميمي عن محمد بن عيسى بن مناس عن محمد بن مسرور عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني عبد الله بن يزيد عن عبد الرحمن بن عبد الله عتبة عن عاصم بن بهدلة عن شقيق عن عبد الله بن مسعود فذكر كلاما فيه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن

قال أبو محمد وهذا لو أتى من وجه صحيح لما كان لهم فيه متعلق لأنه إنما يكون إثبات إجماع المسلمين فقط لأنه لم يقل ما رآه بعض المسلمين حسنا فهو حسن وإنما فيه ما رآه المسلمون فهذا هو الإجماع الذي لا يجوز خلافه لو تيقن وليس ما رآه بعض المسلمين بأولى بالاتباع مما غيرهم من المسلمين ولو كان ذلك لكنا مأمورين بالشيء وضده وبفعل شيء وتركه معا وهذا محال لا سبيل إليه ثم يقال لهم ما معنى قولكم الاستحسان في هذه المسألة وجه كذا فجوابهم في ذلك أحد جوابين أحدهما ما كانوا عليه فيما قارب عصر أبي حنيفة ومالك وهو الذي يرونه أحوط أو أخف أو أقرب من العادة والمعهود أو أبعد من الشناعة وهذا كله بالجملة راجع إلى ما طابت عليه أنفسهم وهذا باطل بقوله تعالى {وأما من خاف مقام ربه ونهى لنفس عن لهوى * فإن لجنة هي لمأوى} {ومآ أبرىء نفسي إن لنف 4 س لأمارة بلسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} وبقوله تعالى {بل تبع لذين ظلموا أهوآءهم بغير علم فمن يهدي من أضل لله وما لهم من ناصرين} وقال تعالى {فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} وفي هذه الآي إبطال أن يتبع أحد ما استحسن بغير برهان من نص أو إجماع ولا يكون أحد أحوط على العباد المؤمنين من الله خالقهم ورازقهم وباعث الرسل إليهم والاحتياط كله اتباع ما أمر الله تعالى به والشناعة كلها مخالفته ولا مني لما نافرته قلوب لم تعتده وهذا كله ظنون فاسدة لا تجوز إلا عند من لم يتمرن بمعرفة الحقائق ولا حسن إلا ما أمر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم أو أباحاه ولا قبيح ولا شنيع

إلا ما نهى عنه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وجواب لهم ثان أجاب به الكرخي وهو أن قال هو أدق القياسين قال أبو محمد وهذا القول يبطله كل ما نورده إن شاء الله في باب إبطال القياس من ديواننا هذا وبالله تعالى التوفيق ويقال لهم إن كان ههنا قياس يوجب ترك قياس آخر ويضاده ويبطله فقد صح بطلان دلالة القياس بإقراركم وصح بالبرهان الضروري إبطال القياس كله جملة بهذا العمل لأن الحق لا يتضاد ولا يبطل بعضه بعضا ولا يضاد برهان برهانا أبدا لأن معنى المضاد أن يبطل أحد المعنيين الآخر والشيء إذا أبطله الحق فقد بطل والباطل لا يكون حقا في حال كونه باطلا وإذا أبطل بعض الشيء بعضا فواجب أن يكون كله باطلا لما قلنا من أن الحق لا يبطل بعضه بعضا فإذا شهد بعض القياس عندكم بإبطال بعض قياس آخر فنوع القياس كله متفاسد مبطل بعضه بعضا فهو كله باطل فإن قالوا إن الحديث ينقض بعضه بعضا وكذلك الآي على سبيل النسخ وكذلك النظر وليس ذلك دليلا على بطلان جميع القرآن والحديث والنظر قال أبو محمد فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق هذا تمويه شديد ولا يجوز أن تبطل آية آية أخرى ولا حديث حديثا آخر إلا من طريق النسخ أو يكون أحد الحديثين ضعيف النقل فليس داخلا حينئذ فيمال أمرنا بطاعته وكذلك النظر لأن النظر الصحيح إنما هو البرهان وإنما تأتي أغاليط وشبه بظن قوم أنها برهان وليست برهانا فليس هذا داخلا في النظر وليس ما قلتم في القياسين من هذا الباب في شيء لأن القياس ليس فيه ناسخ ولا منسوخ ولا قلتم إن أحد القياسين مموه ليس قياسا بل قلتم هما معا قياس فاستحسنا أدقهما فتركتم أحد القياسين وأبطلتموه وأنتم تقرون أنه قياس وإذا كان بعض النوع باطلا فهو كله باطل ولا يجوز أن يجمع الحق والباطل نوع واحد أبدا

ولا يظن القائلون بإبطال الاستحسان الهاربون إلى القول بترجيح العلل وتغليب كثرة الأشباه أنهم يتخلصون من هذا الإلزام بما فزعوا إليه لأنهم على كل حال قد أبطلوا العلة المرجح عليها الأخرى وأبطلوا حكم الأشباه القليلة ولم يوجبوا بها حكما ولا صححوا بها قياسا بل حكموا بأن العلل يبطل بعضها بعضا وأن بعض الأشباه لا يحكم به ولا من أجله يحكم به ولا من أجله بحكم واحد ولا يوجب الاشتباه اتفاقا في الحكم بالتشابه وبالعلل وبطل بذلك القول بالقياس جملة لأن كل طريق من الجدال أبطل بعضه بعضا وكذب بعضه بعضا وتناقض وتفاسد فهو كله فاسد باطل والحق لا يعارض الحق أبدا ولا يقوم دليل على صحة ضدين في معنى واحد أبدا وقد اعترف مالك رحمه الله بالحق في هذا وبرىء ممن قلده كما حدثنا رجل من أصحابنا اسمه عبد الرحمن بن سلمة قال ثنا أحمد بن خليل ثنا خالد بن سعد ثنا عبد الله بن يونس المرادي من كتابه نا بقي بن مخلد نا سحنون والحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك أنه كان يكثر أن يقول إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين قال أبو محمد ونحن نقول لمن قال بالاستحسان ما الفرق بين ما استحسنت أنت واستقبحه غيرك وبين ما استحسنه غيرك واستقبحته أنت وما الذي جعل أحد السبيلين أولى بالحق من الآخر وهذا ما لا انفكاك منه وبالله تعالى التوفيق وأما الاستنباط فإن أهل القياس ربما سموا قياسهم استنباطا وهو مأخوذ من أنبطت الماء وهو إخراجه من الأرض والتراب والأحجار وهو غيرها فالاستنباط هو استخراج الحكم من لفظ هو خلاف لذلك الحكم وهذا باطل ومن العجب أنه احتجوا في ثباته بقول الله عز وجل {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} وهذا من عظيم مجاهرتهم الدالة على رقة دين من احتج بهذا في إثبات الاستنباط غشا لمن

اعتبر به وتلبيسا على من أحسن الظن بكلامه وهذه الآية مبطلة الاستنباط بلا شك لأن لو في كلام العرب الذي نزل به القرآن حرف يدل على امتناع الشيء لا امتناع غيره فنص تعالى على أن المستنبطين لو ردوه إلى الرسول وإلى أهل العلم الناقلين لسنن النبي صلى الله عليه وسلم لعلموا الحق فلم يردوه واتكلوا على استنباطهم فلم يعلموا الحق هذا شيء ظاهر لا يجوز أن يحتمل تأويلا غير ما ذكرنا ولا حجة أعظم في إبطال الاستنباط من هذه الآية لو أنصفوا أنفسهم وقد قال بعضهم إن الضمير في قوله تعالى راجع إلى الرسول وإلى أولي الأمر لا إلى الضمير الذي في قال أبو محمد وهذا ليس بمخرج للفظ الآية عن إبطال الاستنباط الذي يريدون نصره لأنه إن كان كما ذكروا فمعنى الآية حينئذ إنهم لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلم الحق الذين يستنبطونه أي يستخرجون علمه من عند الرسول وأولي الأمر قال أبو محمد وهذا قولنا لا قولهم لأن كل قول أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الإجماع فهو حق بلا شك وإنما ينكر عليهم أن يستخرجوا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومن إجماع الأمة معنى لا يفهم من مسموع ذلك الكلام ولا يقتضيه موضوعه في اللغة العربية فهذا الذي راموا نصره وخالفناهم فيه لا ما أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأئمة الناقلين للحكم عنه صلى الله عليه وسلم ومن استجاز مثل هذا التمويه في دين الإسلام فلا يستجيزه من له دين أو حياء فإن تعلقوا بحديث رويناه عن عمر في سبب نزول هذه الآية وفيه أن عمر قال فكنت أنا الذي استنبطت ذلك الأمر فلا حجة لهم فيه بل هو عليهم لا لهم وهو حديث حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم حدثني زهير بن حرب نا عمر بن يونس الحنفي ثنا عكرمة بن عمار عن سماك أبي زميل قال

حدثني عبد الله بن العباس حدثني عمر بن الخطاب فذكر حديث إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه وأن عمر قال فقلت يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهم فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول ونزلت الآية آية التخيير {إن تتوبآ إلى لله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير * عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا} قال عمر فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ونزلت هذه الآية {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} قال عمر فكنت أنا الذي استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله عز وجل آية التخيير قال أبو محمد وقبل كل شيء فهذا اللفظ إنما روي من هذه الطريق وفيها عكرمة بن عمار وهو منكر الحديث جدا وقد روينا من طريقه حديثا موضوعا مكذوبا من طريق هذا الإسناد نفسه عكرمة بن عمار عن سماك أبي زميل عن ابن عباس وهكذا لا شك فيه ليس في سنده أحد متهم غيره وهذا الحديث الذي فيه أن أبا سفيان بن حرب بعد إسلامه كان المسلمون يجتنبونه وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ابنته أم حبيبة وأن يستكتب ابنه معاوية وأن يستعمله يعني نفسه ويوليه قال أبو محمد وهذا هو الكذب البحت لأن نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة كان وهي بأرض الحبشة مهاجرة وأبو سفيان كان بمكة قبل الفتح بمدة طويلة ولم يسلم أبو سفيان إلا ليلة يوم الفتح ولأن الصحيح

عنه صلى الله عليه وسلم قوله إنا لا نستعمل على عملنا من أراده روينا ذلك من طريق أبي موسى الأشعري فظهر كذب رواية عكرمة بن عمار بيقين لا إشكال فيه ولا يخلو ضرورة هذا الخبر من أن عكرمة بن عمار وضعه أو أخذه عن كذاب وضعه فدلسه هو إلى أبي زميل وكلتاهما مسقطة لعدالته مبطلة لروايته ثم لو صح وهو لا يصح لكان حجة عليهم لأن فيه أن آية التخيير نزلت يومئذ وهي مخالفة لرأي عمر واستنباطه فليس فيه صح إلا أن الذي استنبطه عمر ليس فيه ذكر التخيير لهن ولا أشار إليه ثم ليس فيه أيضا إلا أمر ظاهر منصوص عليه من قدرة الله تعالى أن يبدله خيرا منهن إن طلقن وهذا أمر ظاهر لا يجهله مسلم وأن الله تعالى معه والملائكة والمؤمنين وهذا أيضا متيقن يدريه كل مسلم قبل أن يقوله عمر وليس هذا هو الاستنباط الذي يشيرون إليه ونمنعه نحن من إخراج حكم في شرع

الدين ليس له نص في قرآن ولا سنة فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة والحمد لله رب العالمين وأما الرأي فإنهم احتجوا في تصويب القول به بقول الله عز وجل {فبما رحمة من لله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ لقلب لانفضوا من حولك فعف عنهم وستغفر لهم وشاورهم في لأمر فإذا عزمت فتوكل على لله إن لله يحب لمتوكلين} وبقوله تعالى {ولذين ستجابوا لربهم وأقاموا لصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} ومن الحديث بالأثر الصحيح في مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين فيما يعملون به لوقت الصلاة قبل نزول الأذان فقال بعضهم نار وقال بعضهم بوق وقال بعضهم ناقوس وبما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس ثنا أبو داود ثنا عبد الله بن أحمد السرخسني ثنا إبراهيم بن خزيم نا عبد بن حميد نا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري وذكر حديث مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في القتال يوم الحديبية قال الزهري فكان أبو هريرة يقول ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاور لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا المهلب ثنا ابن مناس بن مسرور نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب نا إبراهيم بن نشيط عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزم فقال تستشير الرجل ذا الرأي ثم تمضي إلى ما أمرك به وبه إلى ابن وهب أخبرني عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عيسى الواسطي يرفعه قال ما شقي عبد بمشورة ولا سعد عبد استغنى برأيه حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا فرج بن فضالة نا محمد بن عبد الأعلى عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبيه قال جاء خصمان

يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي يا عمرو اقض بينهما قلت أولى بذلك مني يا نبي الله قال وإن كان قلت على ماذا أقضي قال إن أصبت القضاء بينهما فلك عشر حسنات وإن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة قال سعيد بن منصور وحدثناه فرج بن فضاله عن ربيعة بن يزيد عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله إلا أنه إن أصبت فلك عشرة أجور وإن أخطأت فلك أجر واحد حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي ثنا عبد الملك بن عمر الخولاني نا محمد بن بكر البصري نا أبو داود السجستاني نا حفص بن عمر نا شعبة عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي عن الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال كيف تقضي إذا عرض لك القضاء قال أقضي بكتاب الله عز وجل قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله قال أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله قال أبو داود وثناه مسدد قال ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا شعبة ثنا أبو عون هو محمد بن عبيد الله الثقفي عن الحارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فذكر معناه

كتب إلى يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري قال ثنا عبد الوارث بن سفيان ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال ثنا إبراهيم بن أبي الفياض البرقي الشيخ الصالح ثنا سليمان بن بزيغ الإسكندراني ثنا مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب قال قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم يمض فيه منك سنة قال اجمعوا له العالمين أو قال العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن خالد ثنا عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال السلمي ثنا عبد الحميد بن بهرام ثنا شهر بن حوشب حدثني ابن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بني قريظة والنضير قال له أبو بكر وعمر يا رسول الله إن الناس يزيدهم حرصا على الإسلام أن يروا عليك زيا حسنا من الدنيا فانظر إلى الحلة التي أهداها لك سعد بن عبادة فالبسها فليرك اليوم المشركون أن عليك زيا حسنا قال أفعل وأيم الله لو أنكما تتفقان لي على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبدا ولقد ضرب لي ربي مثلا فأمثالكما في الملائكة كمثل جبريل وميكائيل فأما ابن الخطاب فمثله في الملائكة كمثل جبريل إن الله لم يدمر أمة قط إلا بجبريل ومثله في الأنبياء كمثل نوح إذ قال {وقال نوح رب لا تذر على لأرض من لكافرين ديارا} ومثل ابن أبي قحافة في الملائكة كمثل ميكائيل إذ يستغفر لمن في الأرض ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم إذ قال {رب إنهن أضللن كثيرا من لناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} ولو أنكما تتفقان لي على أمر واحد ما عصيتكما في مشاورة أبدا ولكن شأنكما في المشاورة شيء كمثل جبريل وميكائيل ونوح وإبراهيم

قال أبو محمد هذا كل ما موهوا به من الحديث وقالوا قد جاء النص بوجوب طاعة أولي الأمر منا عموما فهو فيما قالوه برأيهم أيضا وقالوا قد اتفقنا على وجوب تقديم الإمام إذا مات الإمام ولا نص على إمام بعينه فثبت أنه إنما يقدم بالرأي والإمامة من قواعد الدين وذكروا عن الصحابة ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي حدثنا ابن مفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي ثنا سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة وأبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير كلاهما عن الأعمش عن عمارة بن عميرة عن عبد الرحمن بن يزيد قال أكثر الناس على عبد الله بن مسعود يوما فقال إنه قد أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك إن الله تعالى قدر أن بلغنا من الأمور ما ترون فمن عرض قضاء منكم بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله تعالى فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله تعالى وليس فيما يقضي به النبي صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون فاجتهد رأيه وليقل إني أرى وأخاف فإن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور متشابهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك حدثنا حمام ثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي ثنا عبد الله بن يونس المرادي ثنا بقي بن مخلد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا بن أبي زائدة عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن عبد الله بن مسعود مثله بتمامه وزاد فيه فإن أتاه أمر لا يعرفه فليقر ولا يستحي وبه إلى ابن أبي شيبة ثنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس أنه كان إذا سئل عن أمر فكان في القرآن أخبر به فإن لم يكن في القرآن فكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر به فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر فإن لم يكن قال برأيه حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا ابن المفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن

فراس ثنا محمد بن علي بن زيد ثنا سعيد بن منصور ثنا سفيان بن عيينة حدثني عبيد الله بن أبي يزيد قال شهدت ابن عباس إذا سئل عن شيء فإن كان في كتاب الله تعالى قال به فإن لم يكن في كتاب الله عز وجل وحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به وإن لم يكن في كتاب الله ولا حدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخبر به عن أبي بكر وعمر واجتهد وقال برأيه وبه إلى سعيد بن منصور ثنا هشيم أخبرنا سيار عن الشعبي قال لما بعث عمر شريحا على قضاء الكوفة قال انظر ما تبين لك من كتاب الله فاتبع فيه السنة وما لم يتبين في السنة فاجتهد فيه برأيك وبه إلى سعيد بن منصور حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي قال كتب عمر إلى شريح إذا أتاك أمر في كتاب الله فاقض به ولا يلفتنك عنه الرجال فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به أئمة الهدى فإن لم يكن في كتاب الله عز وجل ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيما قضى به أئمة الهدى فأنت بالخيار إن شئت أن تجتهد رأيك وإن شئت أن تؤامرني ولا أرى مؤامرتك إياي إلا خيرا لك حدثنا حمام ثنا الباجي ثنا عبد الله بن يونس ثنا بقي بن مخلد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي عن شريح أن عمر بن الخطاب كتب إليه إذا جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلفتنك عنه الرجال فإن جاء أمر ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله

صلى الله عليه وسلم فاقض بها فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به أئمة الهدى فإن لم يكن في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت إن شئت أن تجتهد رأيك وتقدم فتقدم وإن شئت أن تؤخر فتأخر ولا أرى التأخير إلا خيرا لك قال أبو محمد هذا كل ما موهوا به ما نعلم لهم شيئا غيره وكله لا حجة لهم في شيء منه أما قوله تعالى {فبما رحمة من لله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ لقلب لانفضوا من حولك فعف عنهم وستغفر لهم وشاورهم في لأمر فإذا عزمت فتوكل على لله إن لله يحب لمتوكلين} وقوله عز وجل {ولذين ستجابوا لربهم وأقاموا لصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} فإن كل مخالف ومؤلف لا يمتري أن ذلك ليس في شرع شيء من الدين ولو أن أحدا يقول إن الصلاة فرضت برأي ومشورة أو قال ذلك في الصيام أو الحج أو في شيء من الدين لكان كاذبا آفكا كافرا مع ذلك وكيف يكون هذا مع قول الله تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون} وقوله تعالى {قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون} وقوله تعالى {تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون} وقوله {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} فصح يقينا أنه لم يجعل الله قط إلى الصحابة تحريما ولا تحليلا فقد صح أنه لم يأمره الله تعالى قط بمشورتهم في شيء من الدين لا سيما مع قوله تعالى {فبما رحمة من لله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ لقلب لانفضوا من حولك فعف عنهم وستغفر لهم وشاورهم في لأمر فإذا عزمت فتوكل على لله إن لله يحب لمتوكلين} فصح أنه ليس في الآية التي شغبوا بها قبول رأيهم أصلا بل رد تعالى الأمر إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يعزم عليه مع التوكل على الله وكيف يسع مسلما أن يخطر هذا الجنون بباله مع قول الله عز وجل {وآعلموا أن فيكم رسول لله لو يطيعكم في كثير من لأمر لعنتم ولكن لله حبب إليكم لأيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم لكفر ولفسوق ولعصيان أولئك هم لراشدون} فكيف

يجوز قبول رأي قوم لو أطاعهم لوقع العنت عليهم في أكثر الأمر أم كيف يدخل في عقل ذي عقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تجب عليه طاعة أصحابه هذا هو الكفر المحض والسخف البين بل طاعته هي الفرض عليهم التي لا يصح لهم إيمان إلا بها قال الله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} ثم إن وجوه الحمق في هذه المقالة جملة بادية ليت شعري كيف كان يكون الأمر لو اختلفوا عليه في الشرع فإن قيل لا يلزم إلا باتفاقهم خرجنا إلى الكلام في الإجماع وبطل الكلام في الرأي وقد كتبنا في دعوى الإجماع ما فيه كفاية ولله تعالى الحمد وأيضا فلا فرق بين جواز شرع شريعة من إيجاب أو تحريم أو إباحة بالرأي لم ينص تعالى عليه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وبين إبطال شريعة شرعها الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالرأي والمفرق بين هذين العملين متحكم بالباطل مفتر وكلاهما كفر لا خفاء به فصح يقينا أن الذي أمره الله تعالى بمشاورتهم فيه وغبطهم بأن يكون أمرهم فيه شورى بينهم إنما هو ما أبيح لهم التصرف فيه كيف شاؤوا فقط فتشاورهم من يولي على بني فلان وأي الطرق إلى من يغزو من القبائل أفضل وأسهل وآمن وأين يكون النزول فقط وهذا كمشاورة المرء منا جاره إلى أي خياط أدفع ثوبي وأي لون ترى لي أن أصبغه ومثل هذا ولا مزيد وقد يكون عند الصحابة من المعرفة بالطرق المسلوكة والمياه ما ليس عنده صلى الله عليه وسلم وأما ما لا يؤخذ من الدين إلا من الوحي فلا ولا كرامة لأحد بعده أن يكون لسواه حظ في ذلك معه ولا بعده وبالله تعالى التوفيق فظهر فساد تمويههم بالآيتين

وأما المشاورة التي كانت قبل نزول الأذان فأعظم حجة عليهم أول ذلك أن الأمر حينئذ كان مباحا كل ما قالوه ولم ينزل في شيء منه إيجاب ولا تحريم وهذا لا ننكر فيه المشاورة إلى اليوم ثم إنه لم يأخذ صلى الله عليه وسلم في ذلك بشيء من آرائهم بل بما صوبه الوحي مما أريه في منامه عبد الله بن زيد ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان ما جاز الالتفات إلى رؤيا عبد الله بن زيد ولا إلى رؤيا غيره فصح أن آراءهم رضي الله عنهم لا يلزم قبولها فكيف أراء من بعدهم وأما الخبر عن أبي هريرة ما رأيت أحدا كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقب ذكرى الزهري لمشاورته صلى الله عليه وسلم أصحابه في القتال يوم الحديبية فهو نفس كلامنا هذا على أن كلا الخبرين مرسل لأن الزهري لم يلق أبا هريرة قط ولا سمع منه كلمة ولم ينكر أن يشاورهم في مكايد الحروب وتعجيلها وتأخيرها وأما الخبر الذي فيه ما الحزم فقال أن تستشير الرجل ذا الرأي ثم تمضي لما أمرك به فمرسل ثم هو بعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد يختلف عليك الرجلان ذوا الرأي فلأيهما تمضي حاش الله أن ينطق رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الباطل وأما الخبر ما شقي عبد بمشورة فمرسل ولا حجة في مرسل ونحن لا ننكر المشورة في غير الدين كما أننا ننكر بل نكفر من يشاور أيصلي الخمس أم لا أيصوم رمضان أم لا ونقطع أن مسلما لا يخالفنا في هذا وأما حديث عمرو بن العاص فأعظم حجة عليهم لأن فيه أن الحاكم المجتهد يخطىء ويصيب فإذ ذلك كذلك فحرام الحكم في الدين بالخطأ وما أحل الله تعالى قط إمضاء الخطأ فبطل تعلقهم به وأما خبر علي فموضوع مكذوب ما كان قط من حديث علي ولا من حديث سعيد بن المسيب ولا من حديث يحيى بن سعيد ولا من حديث

مالك ولم يروه قط أحد عن مالك إلا سليمان بن يزيع الإسكندراني وهو مجهول ولا يخلو ضرورة من أنه وضعه أو دلسه عمن وضعه وهذا خبر لا يحل لأحد أن يرويه والكذب لا يعجز عنه من لا يتقي الله تعالى وبرهان كذب هذا الحديث ووضعه أنه لا يجوز البتة أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم كلاما يصح نزول حكم في الدين بالناس لا قرآن فيه ولا بيان فيه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله صلى الله عليه وسلم دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاتركوه ومع قول الله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فقد أخرج صلى الله عليه وسلم ما لم ينص فيه بأمر أو بنهي عن الفرض والندب والتحريم والكراهة وبأمره بترك ما لم يأمرنا أو ينهانا وأبقاه في جملة المباح المطلق فصار من المحال الممتنع وجود نازلة لا حكم لها في النصوص وأما حديث ابن غنم ففيه ثلاث بلايا إحداها أنه مرسل والثانية عبد الحميد بن بهرام وهو ضعيف والثالثة شهر بن حوشب وهو متروك ثم لو صح لما كان لهم فيه متعلق لأنه ليس فيه إلا قبول رأي أبي بكر وعمر

فقط لا قبول رأي غيرهما وهذا خلاف عمل أهل الرأي كلهم اليوم ثم فيه قبولهما إلا في لبس حلة وهذا مباح لا يمنع من قبول رأي خادم أو عبد أو جار إن شاء الذي أشير عليه بذاك ثم فيه اختلافهما فبطل التعلق برأي خالفه رأي آخر وأما احتجاجهم بوجوب طاعة أولي الأمر منا فقد قلنا في ذلك قبل بما أغنى وإنه لا يخلو رأيهم من أن يوجد فيه اختلاف بينهم أو لا يوجد فإن وجد اختلاف منهم فليس بعضهم يقول رأيه أولى من بعض وإن لم يوجد فيه اختلاف فقد قلنا إن القطع بأنه إجماع أولي الأمر باطل ممتنع لا سبيل إليه مع أن قول الله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} مبطل لدعوى من ادعى أنه تعالى أمرنا بطاعتهم فيما ليس فيه نص أو في خلاف النص لأنه شرع شريعة لم يشرعها الله تعالى أو إبطال شريعة شرعها الله تعالى وكلا الأمرين كفر لا يجوز البتة إجماع العلماء عليه وقد يجوز الوهم في هذا على الطائفة فصح أننا إنما أمرنا بطاعتهم فيما بلغوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط وأما ما قالوه في الإمامة فقد نص صلى الله عليه وسلم على أن الأئمة من قريش وأمرنا بأن نفي ببيعة الأول فالأول وأن نتعاون على البر والتقوى وأن نسمع ونطيع لمن قادنا بكتاب الله عز وجل فهذه صفة إذا وجدت في أي عين وجدت فطاعته واجبة بالنص لأنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى كل من يأتي إلى يوم القيامة فلا معنى للأسماء المعلقة على أعيان الرجال في ذلك أصلا وهذا كالعتق في الكفارات والصدقة على المساكين وكالضحايا وغير ذلك من سائر الشريعة وكأمره تعالى في بني إسرائيل بذبح بقرة ولم يميز بقرة بعينها وإنما نرد الأحكام في الأنواع الجامعة للأشخاص ثم في أي شخص نفذ الحق فقد أجزأ وهذا لا خلاف فيه من أحد وكالنص على الماء فبأي ماء تطهر أجزأ وإنما يبطل الرأي في شرع الشريعة بما لا نص فيه فظهر تمويههم بهذا في الرأي

وأما خبر معاذ فإنه لا يحل الاحتجاج به لسقوطه وذلك أنه لم يرو قط إلا من طريق الحارث بن عمرو وهو مجهول لا يدري أحد من هو حدثني أحمد بن محمد العذري ثنا أبو ذر الهروي نا زاهر بن أحمد الفقيه نا زنجويه بن محمد النيسابوري نا محمد بن إسماعيل البخاري هو مؤلف الصحيح فذكر سند هذا الحديث وقال رفعه في اجتهاد الرأي قال البخاري ولا يعرف الحارث إلا بهذا ولا يصح هذا نص كلام البخاري رحمه الله في تاريخه الأوسط ثم هو عن رجال من أهل حمص لا يدري من هم ثم لا يعرف قط في عصر الصحابة ولا ذكره أحد منهم ثم لم يعرفه أحد قط في عصر التابعين حتى أخذه أبو عون وحده عمن لا يدري من هو فلما وجده أصحاب الرأي عند شعبة طاروا به كل مطار وأشاعوه في الدنيا وهو باطل لا أصل له ثم قد رواه أيضا أبو إسحاق الشيباني عن أبي عون فخالف فيه شعبة وأبو إسحاق أيضا ثقة كما حدثنا حمام وأبو عمر الطلمنكي قال حمام نا أبو محمد الباجي نا عبد الله بن يونس نا بقي نا أبو بكر بن أبي شيبة وقال الطلمنكي نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور ثم اتفق ابن أبي شيبة وسعيد كلاهما عن أبي معاوية الضرير نا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي هو أبو عون قال لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال يا معاذ بما تقضي قال أقضي بما في كتاب الله قال فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله قال أقضي بما قضي به نبيه صلى الله عليه وسلم قال فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه قال أقضي بما قضى به الصالحون قال فإن

جاءك أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ولا قضى به الصالحون قال أؤم الحق جهدي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعل رسول رسول الله يقضي بما يرضى به رسول الله فلم يذكر أجتهد رأيي أصلا وقوله أؤم الحق هو طلبه للحق حتى يجده حيث لا توجد الشريعة إلا منه وهو القرآن وسنن النبي صلى الله عليه وسلم على أننا قد حدثنا أحمد بن محمد الله الطلمنكي نا أحمد بن عون الله نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري قال نا إسحاق بن راهويه قال قال سفيان بن عيينة اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم لا أن يقول برأيه وأيضا فإنه مخالفون لما فيه تاركون له لأن فيه أنه يقضي أولا بما في كتاب الله فإن لم يجد في كتاب الله فحينئذ يقضي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كلهم على خلاف هذا بل يتركون نص القرآن إما لسنة صحيحة وإما لرواية فاسدة كما تركوا مسح الرجلين وهو نص القرآن لرواية جاء بالغسل وكما تركوا الوصية للوالدين والأقربين لرواية جاءت لا وصية لوارث وكما تركوا جلد المحصن وهو نص القرآن لظن كاذب في تركه ومثل هذا كثير فكيف يجوز لذي دين أن يحتج بشيء هو أول مخالف له وبرهان وضع هذا الخبر وبطلانه هو أن من الباطل الممتنع أن يقول رسول الله فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله وهو يسمع قول ربه تعالى {تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون} وقوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وقوله تعالى {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} مع الثابت عنه صلى الله عليه وسلم من تحريم القول بالرأي في الدين من قوله صلى الله عليه وسلم فاتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بالرأي فضلوا وأضلوا ثم لو صح لكان معنى قوله أجتهد رأيي إنما معناه أستنفذ جهدي حتى

أرى الحق في القرآن والسنة ولا أزال أطلب ذلك أبدا وأيضا فلو صح لكان لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون ذلك لمعاذ وحده فيلزمهم ألا يتبعوا رأي أحد إلا رأي معاذ وهم لا يقولون بهذا أو يكون لمعاذ وغيره فإن كان ذلك فكل من اجتهد رأيه فقد فعل ما أمر به وإذ الأمر كذلك فإن كل من فعل ما أمر به فهم كلهم محقون ليس أحد منهم أولى بالصواب من آخر فصار الحق على هذا في المتضادات وهذا خلاف قولهم وخلاف المعقول بل هذا المحال الظاهر وليس حينئذ لأحد أن ينصر قوله بحجة لأن مخالفه أيضا قد اجتهد رأيه وليس في الحديث الذي احتجوا به أكثر من اجتهاد الرأي ولا مزيد فلا يجوز لهم أن يزيدوا فيه ترجيحا لم يذكر في الحديث وأيضا فليس أحد أولى من أحد مع هذا فلكل واحد منا أن يجتهد برأيه فليس من اتبعوا أولى من غيره ومن المحال البين أن يكون ما ظنه الجهال في حديث معاذ لو صح من أن يكون صلى الله عليه وسلم يبيح لمعاذ أن يحلل برأيه ويحرم برأيه ويوجب الفرائض برأيه ويسقطها برأيه وهذا ما لا يظنه مسلم وليس في الشريعة شيء غير ما ذكرنا البتة وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقع فيه المشورة منه وفرق بينه وبين الدين كما حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا أبو بكر بن مفرج القاضي نا محمد بن أيوب الصموت الرقي نا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار نا عمرو بن علي نا عفان بن مسلم نا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتا فقال ما هذه الأصوات قالوا النخل يؤبرونه فقال لو لم يفعلوا لصلح فأمسكوا عنه فصار شيصا فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إذا كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم وإن كان شيئا من أمر دينكم فإلي وبه إلى البزاز نا هدبة بن خالد نا جهاد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوتا في النخل فقال ما هذا قال يؤبرون النخل قال لو تركوها أصلحت فتركوها فصارت شيصا فأخبروه بذلك فقال أنتم أعلم بما يصلحكم في دنياكم وأما آخرتكم فإلي قال أبو محمد فهذه عائشة وأنس لم يدعا في روايتها إشكالا وأخبرا أنه صلى الله عليه وسلم أعلمنا أننا أعلم بما يصلحنا في دنيانا منه ففي هذا كان يشاور أصحابه وأخبرا أنه صلى الله عليه وسلم جعل أمر آخرتنا إليه لا إلى غيره وأمر الآخرة هو الدين والشريعة فقط فلم يجعل ذلك صلى الله عليه وسلم إلى أحد سواه وبطل بذلك رأي كل أحد وحرم القول بالرأي جملة في الدين وبالله تعالى التوفيق وهذا يبين معنى قول الله عز وجل {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} إنما هو في أمر الدين فكل ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من تحريم أو تحليل أو إيجاب فهو عن الله تعالى بيقين وما كان من غير ذلك فكما قلنا لقوله صلى الله عليه وسلم إذ قيل له حاضت صفية فقال عقري حلقي وكقوله صلى الله عليه وسلم إني اتخذت عند الله عهدا أيما امرىء سببته أو لعنته في غير كنهه أو جلدته فاجعلها له طهرة أو كما قال صلى الله عليه وسلم ومثل قوله صلى الله عليه وسلم لذي اليدين لم تقصر ولا نسيت وهذا يبين فساد قول من اعترض بمثل هذا على سائر أوامره صلى الله عليه وسلم ليردها ناطقا في ذلك بلسان أهل الإلحاد المعترضين في الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان حدثنا أحمد بن عمرو العذري ثنا أبو ذر الهروي ثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ثنا إبراهيم بن خزيم الشاشي ثنا عبد الرزاق ثنا سفيان الثوري عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار قال عبد وحدثناه أيضا عبيد الله بن موسى وأبو نعيم وأبو سفيان الثوري

عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار حدثنا حمام بن أحمد ثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن مسلم نا أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي ثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينزع الله العلم من صدور الرجال ولكن ينزع العلم بموت العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمذاني نا أبو إسحاق البلخي نا محمد بن يوسف الفربري نا محمد بن إسماعيل البخاري ثنا سعيد بن تليد نا ابن وهب حدثني عبد الرحمن بن شريح وغيره وعن أبي الأسود عن عروة قال حج علينا عبد الله بن عمرو بن العاص فسمعته يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعا ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون وأما ما رووه عن أبي مسعود من قوله فليجتهد رأيه فهو خبر لا يصح لأن محمد بن سعيد بن نبات حدثناه قال ثنا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن أبي عدي ثنا شعبة نا الأعمش عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير قال الأعمش أحسبه قال قال ابن مسعود لقد أتى علينا حين وما نسأل وما نحن هناك ثم ذكر بنصه فصح أن الأعمش شك فيه أهو عن ابن مسعود أم لا ثم لو صح لكان معناه فليجتهد رأيه أي ليجهد نفسه حتى يرى السنة في ذلك يبين هذا قوله في الخبر نفسه ولا يقل إني أخاف وأرى فنهاه عن أن يقول أرى وهذا نهي عن الفتيا بالرأي وكذلك قوله فيه نفسه

فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وإن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات فإنما أمره بالتورع والطلب فقط وأما الرواية عن عمر فإن فيها نصا تخييره بين اجتهد رأيه أو الترك ورأى الترك خيرا له فصح أنه لم ير القول بالرأي حقا لأن الحق لا خيار في تركه لأحد ثم هم مخالفون لما فيه أيضا مما ذكرنا من أنهم لا يبدؤون بالطلب في القرآن كما في ذلك الخبر ثم بالسنن بل يتركون القرآن لما يصح من السنن ولما لا يصح وهذا خلاف أمر عمر في ذلك الخبر فكيف يحتجون بشيء هم أول مخالف له هذا مع أن ظاهر ذلك الخبر الانقطاع وأما خبر عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس فليس فيه أن ابن عباس أخبر بذلك عن نفسه ولا أنه أمر به فإذا هو ظن من عبيد الله والثابت عن ابن عباس النهي عن تقليد أبي بكر وعمر ثم قصة خالفوا فيها ابن مسعود وعمر وابن عباس فلو صح هذا عنهم لكان كبعض ما خالفوهم فيه فليس بعض حكمهم أولى بالتقليد من بعض مثل ما صح عن عمر وابن مسعود وابن عباس من القول بأن من تسحر يرى أنه ليل فإذا به نهار فصومه تام ومثل قضائهم ثلاثتهم في اليربوع جفرة ومثل هذا كثير وأما ما رووه عن بعض الصحابة من الفتيا بالرأي فإنما أفتى منهم من أفتى برأيهم على سبيل الإخبار بذلك أو الصلح لا على أنه حكم بات ولا على أنه لازم لأحد فقال خصومنا إنما ذموا الرأي الذي يحكم به على غير أصل وأما الذي حكموا به فهو الرأي المردود إلى ما يشبه من قرآن أو سنة فقلنا لهم هذه دعوى منكم فإن وجدتم عن أحد منهم تصحيحا فلكم مقال وإلا فقد كذبتم عليهم فنظرنا فلم نجد قط عن أحد من الصحابة كلمة تصح تدل على الفرق بين رأي مأخوذ عن شبه لما في القرآن والسنة وبين غيره من

الآراء إلا في رسالة مكذوبة عن عمر ووجدنا قولهم في ذمهم الرأي جملة وأنهم حكموا به على ما قلنا كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن حارثة بن مضرب قال جاء ناس من أهل الشام إلى عمر بن الخطاب فقالوا إنا أصبنا أموالا خيلا ورقيقا نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور فقال عمر ما فعله صاحباي قبل فأفعله فاستشار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال له علي هو حسن إن لم تكن جزية يؤخذون بها بعد راتبة قال أبو محمد فهذا نص ما قلنا من أنهم لا يرون ما حكموا فيه برأيهم أمرا راتبا وأيضا فقد روينا عنهما وعن غيرهما في إبطال الرأي آثارا أصح مما شغبوا به ولسنا نوردها احتجاجا بها إذ لا حجة في أحد إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في إجماع متيقن لا خلاف فيه وإنما نوردها لتلزمهم ما أرادوا إلزامنا وهو لازم لهم لأنهم يحتجون بمثله ومن جعل شيئا ما حجة في مكان ما لزمه أن يجعله حجة في كل مكان وإلا فهو متناقض متحكم في الدين بلا دليل حدثنا أحمد بن عمر ثنا أبو ذر الهروي نا عبد الله بن أحمد السرخسي نا إبراهيم بن خزيم نا عبد بن حميد ثنا أبو أسامة عن نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة قال قال أبو بكر الصديق أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد حدثنا محمد بن سعيد النباتي نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا ابن أبي عدي عن شعبة عن

الأعمش عن عبد الله بن مرة عن أبي معمر عن أبي بكر الصديق قال أية أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم حدثنا المهلب عن ابن مناس نا محمد بن مسرور نا يونس بن عبد الأعلى ثنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عمر بن الخطاب قال وهو على المنبر يا أيها الناس إنما الرأي إنما كان من رسول الله مصيبا لأن الله عز وجل كان يريه وإنما هو منا الظن والتكلف وبه إلى ابن وهب حدثنا عبد الله بن عياش عن ابن عجلان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال اتقوا الرأي في دينكم كتب إلي النمري حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي الباجي وعبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي القاضي قال أحمد نا أبي وقال القاضي نا سهل بن إبراهيم قال عبد الله الباجي وسهل ثنا أحمد بن فطيس نا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي نا عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي عن مجالد عن الشعبي عن عمرو بن حريث قال قال عمر بن الخطاب إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا كتب إلي النمري أخبرنا محمد بن خليفة نا محمد بن الحسين البغدادي نا أبو بكر بن أبي داود نا محمد بن عبد الملك القزاز نا أبو مريم نا نافع بن يزيد عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم قال

قال عمر بن الخطاب إياكم والرأي فإن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلت منهم أن يحفظوه فقالوا في الدين برأيهم حدثنا المهلب عن ابن مناس عن ابن مسرور عن يونس بن عبد الأعلى عن وهب أخبرني ابن لهيعة عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي أن عمر بن الخطاب قال أصبح أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يعوها وتفلتت أن يرووها فاستقوها بالرأي حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق بن السليم نا ابن الأعرابي ثنا أبو داود السجستاني ثنا أبو كريب محمد بن العلاء ثنا حفص بن غياث ثنا الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد خير عن علي بن أبي طالب قال لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر الخفين حدثنا عبد الله بن ربيع عن عبد الله بن محمد بن عثمان عن أحمد بن خالد عن علي بن عبد العزيز عن الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن قتادة قال قال علي القضاء ثلاثة رجل حاف فهو في النار ورجل اجتهد برأيه فأخطأ فهو في النار ورجل أصاب فهو في الجنة حدثنا حمام بن أحمد ثنا أبو محمد الباجي ثنا عبد الله بن يوسف ثنا بقي بن مخلد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا شبابة بن سوار عن شعبة عن قتادة قال سمعت رفيعا أبا العالية يقول قال علي بن أبي طالب القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل جار متعمدا فهو في النار ورجل أراد الحق فأخطأ فهو في النار ورجل أراد الحق فأصاب فهو في الجنة قال قتادة قلت

لأبي العالية أرأيت هذا الذي أراد الحق فأخطأ قال كان حقه إذا لم يعلم القضاء أن يكون قاضيا حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس ثنا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا فرج بن فضالة عن مالك بن زياد قال سمعت عراك بن مالك وقال له عمر بن عبد العزيز يا عراك ما قولك في القضاة فقال يا أمير المؤمنين القضاة ثلاثة رجل ولي القضاء ولا علم له بالقضاء فأحل حراما وحرم حلالا فهو في النار على أم رأسه ورجل ولي القضاء وله علم بالقضاء فاتبع الهوى وترك الحق فهو في النار على أم رأسه ورجل ولي القضاء وله علم بالقضاء فاتبع الحق وترك الهوى فهو يستقام به ما استقام وإن هو مال سلك مسلك أصحابه قال أبو محمد وقد روي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روينا بالسند الصحيح المذكور إلى سعيد بن منصور نا خلف بن خليفة ثنا أبو هاشم قال لولا حديث ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى بين الناس بجهل فهو في النار ورجل عرف الحق فخار فهو في النار لقلنا إن القاضي إذا اجتهد فليس عليه شيء نعم وعن عمر بن الخطاب كما روينا بالسند المذكور إلى سعيد بن منصور نا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري نا موسى بن عقبة قال خطب عمر بن الخطاب بالجابية فذكر الخطبة وفيها أن عمر قال ليس لهالك هلك معذرة في تعمد ضلالة حسبها هدى ولا في ترك حق حسبه ضلالا قال أبو محمد ليس هذا مخالفا لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر لأن هذا فيمن لم يعرف بالحق وسائر ما ذكرنا

قيل فيمن عرف بالحق فلج مقدرا أنه على صواب مغلبا لظنه الكاذب على يقين ما جاءه من الهدى والنور ويه إلى سعيد بن منصور حدثنا خالد بن عبد الله عن أبي سنان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال من أفتا فتيا يعمى بها فإنهما عليه يعني يخطىء فيها فيخطىء آخذها منه حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي نا محمد بن أحمد بن مفرج نا سعيد بن السكن نا الفربري نا البخاري نا موسى بن إسماعيل نا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل قال قال سهل بن حنيف يا أيها الناس اتهموا آراء على دينكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا أبو العلاء عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري نا أبو أسامة عن مالك بن مغول عن أبي حصين عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال سمعت سهل بن حنيف بصفين يقول اتهموا آراءكم على دينكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته

حدثنا أحمد بن عمر ثنا أبو ذر نا عبد الله بن أحمد نا إبراهيم بن خزيم ثنا عبد بن حميد حسن بن علي الجعفي عن زائدة عن ليث عن بكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من جهنم حدثنا المهلب نا ابن مناس نا ابن مسرور نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب أخبرني بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن ابن عباس قال من أحدث رأيا ليس في كتاب الله عز وجل لم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل حدثنا يونس بن عبد الله القاضي نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم نا أحمد بن خالد نا محمد بن عبد الله الخشني نا محمد بن بشار نا يونس نا عبيد العمري ثنا مبارك بن فضالة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه قال يا أيها الناس اتهموا آراءكم على الدين فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أجتهد والله ما آلو وذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب فقال اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا نكتب باسمك اللهم فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت فقال يا عمر تراني قد رضيت وتأبى قال أبو محمد أما الرواية عن أبي بكر وعلي وسهل وابن عباس والتي تورد بعد هذا عن عمر وابن مسعود فصحاح ولا سبيل لهم إلى أن يأتوا برواية عن صاحب يثبت فيها التصويب للفتيا بالرأي فأن وجد يوما ما فتيا عن أحدهم برأي فلا بد من أن يوجد عنه التبرؤ من ذلك كما حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا علي بن حجر نا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أتاه قوم فقالوا إن رجلا منا تزوج امرأة ولم يفرض صداقا ولم يجمعها إليه حتى مات فقال عبد الله ما سئلت عن شيء مذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد علي من هذا فأتوا غيري فاختلفوا إليه فيها شهرا

ثم قالوا له في آخر ذلك من نسأل وأنت أخيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا البلد ولا نجد عندك قال سأقول فيها بجهد رأيي فإن كان صوابا فمن أتاه الله وحده لا شريك له وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء فقد ذكر الحديث وفي آخره أنه رضي الله عنه إذ أخبر بالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بوفاق ما أفتى به فما رئي عبد الله فرح فرحه يومئذ إلا بإسلامه وبه إلى أحمد بن شعيب أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري ثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن عبد الله عن زائدة عن منصور عن إبراهيم عن علقمة والأسود قالا أتى عبد الله بن مسعود في رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها فتوفي قبل أن يدخل بها فقال عبد الله سلوا هل تجدون فيها أثرا وذكر باقي الحديث حدثنا محمد بن سعيد بن نبات عن عبد الله بن محمد بن قاسم القلعي

نا محمد بن أحمد الصواف نا بشر بن موسى بن صالح الأسدي نا عبد الله بن الزبير الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة عن الأعمش عن مسلم بن صبيح هو أبو الضحى عن مسروق قال قال ابن مسعود يا أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل لم لا يعلم لا أعلم فإن الله علم المرء وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل مآ أسألكم عليه من أجر ومآ أنآ من لمتكلفين} قال أبو محمد هذا في غاية الصحة وكل ما رويناه الآن من ابن عمر وابن مسعود وابن عباس يبين مرادهم بقولهم فليجتهد رأيه لو صح ذلك عنهم وأنه ليس على القول في الدين بالرأي أصلا لكن بأن يجتهد حتى يرى الحق في القرآن والسنة حدثنا حمام نا الباجي نا عبد الله بن يونس نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا يزيد بن هارون نا حماد بن سلمة عن قتادة أن أبا موسى الأشعري قال لا ينبغي لقاض أن يقضي حتى يتبين له الحق كما يتبين له الليل عن النهار فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال صدق قال أبو محمد هذا يبين أنهم لم يجيزوا القول بالرأي الذي إنما هو ظن وبين أنهم كانوا يرون خبر الواحد يوجب العلم والقطع به ولا بد أخبرني محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا مؤمل بن إسماعيل الحميري نا سفيان الثوري نا أبو إسحاق الشيباني عن أبي الضحى عن مسروق قال كتب كاتب لعمر بن الخطاب هذا ما رأى الله ورأى عمر فقال عمر بئس ما قلت إن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر

حدثنا يونس بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم نا أحمد بن خالد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا يحيى بن سعيد القطان نا مجالد عن الشعبي عن مسروق قال قال عبد الله بن مسعود يذهب العلماء ويبقى قوم يقولون برأيهم قال الشعبي لعن الله أرأيت قال أبو محمد والله ما أفتى قط أحد من الصحابة رضي الله عنهم باجتهاد رأيه إلا كما ترى بعد أن يبحث عن السنة فتغيب عنه وهي عند غيره بلا شك ثم لا يجعل رأيه ذلك إلا مما يخاف الله تعالى فيه ويشفق منه ويتبرأ من التزامه وكذلك كان التابعون رحمهم الله فأتى اليوم ناس يجعلونه دينا يبطلون به كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله من الخذلان وقد روينا أيضا عن ابن عمر كما نا المهلب نا ابن مناس أنا ابن مسرور نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب أخبرني عمر بن الحارث أن عمرو بن دينار أخبره أن عبد الله بن عمر كان إذا لم يبلغه شيء في الأمر يسأل عنه قال إن شئتم أخبرتكم بالظن قال عمرو بن دينار أخبرني بذلك طاوس عنه قال أبو محمد وهذا سند في غاية الصحة وحدثنا يونس بن عبد الله نا يحيى بن مالك بن عائذ عبد الرحمن بن إسماعيل أبو عيسى الخشاب نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي نا يونس بن عبد الأعلى أنا ابن وهب أنا عمر بن الحارث قال قال لي عمرو بن دينار أخبرني طاوس عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن أمر لم يبلغه فيه شيء قال إن شئتم أخبرتكم بالظن قال أبو محمد كتب إلي يوسف بن عبد البر النمري قال ذكر أبو يوسف يعقوب بن شيبة نا محمد بن حاتم بن ميمون حدثني يعقوب بن

إبراهيم بن سعد الزهري نا أبي عن ابن إسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن الزبير قال أنا والله لمع عثمان بن عفان بالجحفة ومعه رهط من أهل الشام منهم حبيب بن مسلمة الفهري إذ قال عثمان وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج أن أتموا الحج وخلصوه في أشهر الحج فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل فإن الله قد أوسع في الخير فقال له علي عمدت إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورخصة رخص الله للعباد بها في كتابه تضيق عليهم فيها وتنتهي عنها وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار ثم أهل بعمرة وحج معا فأقبل عثمان على الناس فقال وهل نهيت عنها إني لم أنه عنها إنما كان رأيا أشرت به فمن شاء أخذه ومن شاء تركه كتب إلي النمري حدثنا أحمد بن سعيد نا ابن أبي دليم نا ابن وضاح نا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي نا ضمرة بن ربيعة عن عثمان بن عطاء هو الخراساني عن أبيه قال أضعف العلم علم النظر أن يقول الرجل رأيت فلانا يفعل كذا ولعله قد فعله ساهيا كتب إلي النمري قال ذكر الحسن بن علي الحلواني نا عامر نا حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة عن ابن سيرين قال لم يكن أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلمأهيب لما لا يعلم مع أبي بكر ولم يكن أحد أهيب لما لا يعلم بعد أبي بكر من عمر وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله تعالى منها أصلا ولا في السنة أثرا فاجتهد رأيه ثم قال هذا رأيي فإن يكن صوابا فمن الله عز وجل وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله تعالى

كتب إلي النمري قال قرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ أخبرهم قال نا بكر بن حماد نا مسدد بن مسرهد نا يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج حدثني سليمان بن عتيق عن طلق بن حبيب عن الأحنف بن قيس عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون كتب إلي النمري حدثنا عبد الله بن محمد نا عبد الله بن محمد القاضي بالقلزم نا محمد بن إبراهيم بن زياد بن عبد الله الرازي نا الحارث بن عبد الله بهمدان نا عثمان بن عبد الرحمن الوقاص عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله وبرهة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعملون بالرأي فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا كتب إلي النمري حدثنا محمد بن خليفة نا محمد بن الحسين الآجري نا محمد بن الليث نا جبارة بن المغلس نا حماد بن يحيى الأبح عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله ثم تعمل برهة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تعمل بعد ذلك بالرأي فإذا أعملوا بالرأي ضلوا كتب إلي النمري أنا أبو زيد العطار نا علي بن محمد بن مسرور نا أحمد بن داود نا سحنون نا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن عبد الله بن أبي جعفر قال قال عمر بن الخطاب السنة ما سنه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا تجعلونه خطأ الرأي سنة للأمة

كتب إلي النمري حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا الحسن بن إسماعيل المهندس ثنا عبد الملك بن بحر نا محمد بن إسماعيل نا سنيد داود نا يحيى بن زكريا هو ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر الشعبي قال أتى زيد بن ثابت قوم فسألوه عن أشياء فأخبرهم بها فكتبوها ثم قالوا لو أخبرناه قال فأتوه فأخبروه فقال أغدرا لعل كل شيء حدثتكم خطأ إنما أجتهد لكم رأيي وبه نصا إلى سنيد نا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار قال قال لجابر بن زيد إنهم يكتبون ما يسمعون منك فقال إنا لله وإنا إليه راجعون يكتبون رأيا أرجع عنه غدا حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا بن وضاح نا ابن وهب عن الليث بن سعد قال إن ربيعة كتب إليه يقول أرى أن كل محبوسة منتظرة زوجا في غيبة إن نفقتها لها ورب من يكون لو حمل ذلك عليه لكانت فيه هلكة دنياه وذمته فالمرأة ذات الزوج في نفقتها حتى يقع ميراثها ويتبين هلاك زوجها وإن قائلا ليأثر عن بعض الناس بالمدينة غير ذلك وهذا رأينا والسنة أملك بذلك حدثنا يونس بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم نا أحمد نا خالد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار بندار نا يحيى بن سعيد القطان نا صالح بن مسلم أن عامرا الشعبي قال له في مسألة من النكاح سأله عنها في حديث إن أخبرتك برأيي فبل عليه كتب إلي النمري حدثنا محمد بن خليفة نا محمد بن الحسين الأجري نا جعفر بن محمد الفريابي نا العباس بن الوليد بن مزيد أنا أبي سمعت الأوزاعي

يقول عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول قال الفريابي وحدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول سمعت حماد بن زيد يقول قيل لأيوب السختياني ما لك لا تنظر في الرأي فقال أيوب قيل للحمار ما لك لا تجتر فقال أكره مضغ الباطل كتب إلي النمري حدثنا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير نا الحوطي نا إسماعيل بن عياش عن سوادة بن زياد وعمرو بن مهاجر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الناس إنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه إلى قاسم حدثنا ابن وضاح نا يوسف بن عدي نا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب قال قال الربيع بن خيثم إياكم أن يقول الرجل لشيء إن الله حرم هذا أو نهى عنه فيقول الله عز وجل كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه أو يقول إن الله تعالى أحل هذا وأمر به فيقول الله تعالى كذبت لم أحله ولم آمر به وكتب إلي النمري حدثنا محمد بن خليفة نا محمد بن الحسين الأجري نا أبو بكر بن أبي داود السجستاني نا أحمد بن سنان قال سمعت الشافعي يقول مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي قد عولج حتى برأ فأغفل ما يكون قد هاج به وبه إلى ابن أبي داود السجستاني قال سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول لا تكاد ترى أحدا نظر في هذا الرأي إلا وفي قلبه دغل كتب إلي النمري حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني نا يوسف بن يعقوب النجيرمي بالبصرة أنا العباس بن الفضل سمعت سلمة بن

شبيب يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول رأي الشافعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة الآثار كتب إلي النمري قال ذكر محمد بن حارث الخشني أنا أبو عبد الله محمد بن عثمان النحاس سمعت أبا عثمان سعيد بن محمد بن الحداد يقول سمعت سحنون بن سعيد يقول ما أدري ما هذا الرأي سفكت به الدماء واستحلت به الفروج واستحقت به الحقوق غير أنا رأيناه رجلا صالحا فقلدناه كتب إلي النمري أنا عبد الرحمن بن يحيى ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا عبيد الله بن يحيى بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى أنه كان يأتي بن وهب فيقول له من أين فيقول له من عند ابن القاسم فيقول له اتق الله فإن أكثر هذه المسائل رأي قال أبو محمد فقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفتوا برأيهم على سبيل الإلزام ولا على أنه حق لكن على أنه ظن يستغفرون الله تعالى منه أو على سبيل صلح بين الخصمين فلا يحل لمسلم أن يحتج بشيء أتى عنهم على هذه السبيل وأما التابعون فقد ذكرنا منهم طرفا صالحا وحدثنا أيضا يونس بن عبد الله القاضي قال ثنا يحيى بن عائذ ثنا هشام بن محمد بن قرة عن أبي جعفر أحمد بن سلامة الطحاوي ثنا إبراهيم بن مرزوق ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا أبو عقيل ثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة أنه قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يقول للحسن بن أبي الحسن البصري وقد قصدته أنا والحسن فقال أبو سلمة للحسن بلغني أنك تفتي برأيك فلا تفتي برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتابا منزلا وبه إلى الطحاوي حدثنا سليمان بن شعيب ثنا خالد بن عبد الرحمن ثنا

مالك بن مغول عن الشعبي قال ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا به وما كان من رأيهم فاطرحوه في الحش حدثنا أحمد بن عمر ثنا أبو ذر ثنا زاهر بن أحمد نا زنجويه بن محمد ثنا محمد بن إسماعيل البخاري نا محمد بن محبوب نا عبد الواحد نا الزبرقان بن عبد الله الأسدي أن أبا وائل شقيق بن سلمة قال له إياك ومجالسة من يقول أرأيت أرأيت قال أبو محمد وقد روينا عن الشعبي أنه قال قد ترك هؤلاء الأرأيتيون المسجد أبغض إلي من كناسة أهلي حدثنا عبد الرحمن بن سلمة صاحب لنا ثنا أحمد بن خليل نا خالد بن سعد أخبرني محمد بن عمر بن لبابة أخبرني أبان بن عيسى بن دينار وكان فاضلا عن أبيه عن ابن القاسم عن مالك عن ابن شهاب قال دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي قال أبان وكان أبي قد أجمع على ترك الفتيا بالرأي وأحب الفتيا بما روي من الحديث فأعجلته المنية عن ذلك حدثنا المهلب ثنا بن مناس نا ابن مسرور نا يونس بن عبد الأعلى ثنا ابن وهب أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل يتيم عروة قال سمعت عروة بن الزبير يقول ما زال أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ المولدون أبناء سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوهم وبه إلى ابن وهب حدثني أبي لهيعة أن رجلا سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء فقال لم أسمع في هذا شيئا فقال له الرجل فأخبرني أصلحك الله برأيك قال لا ثم عاد عليه فقال إني أرضى برأيك فقال

له سالم إني لعلي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأوى بعد ذلك رأيا غيره فلا أجدك حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن محمد القلعي ثنا أبو علي محمد بن أحمد الصواف عن بشر بن موسى الأسدي ثنا عبد الله بن الزبير الحميدي قال قال سفيان بن عيينة ما زال أمر الناس معتدلا حتى غير ذلك أبو حنيفة بالكوفة والبتي بالبصرة وربيعة بالمدينة قال أبو محمد هؤلاء النفر غفر الله لنا ولهم أول من فتح باب الرأي وعول عليه واعترض بالقياس على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك زلة عالم ووهلة فاضل سمح الله للجميع بمنه آمين كتب إلى النمري يوسف بن عبد الله أنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن هو ابن الزيات ثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد القاضي المالكي البصري ثنا موسى بن إسحاق نا إبراهيم بن المنذر نا معن بن عيسى قال سمعت مالك بن أنس يقول أنا بشر أخطىء وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه أخبرني بعض أصحابنا محمد بن أبي نصر عن أبي عمر وعثمان بن أبي بكر حدثني أبو نعيم بأصبهان ثنا عبد الله بن محمد بن عبد الكريم ثنا الحسن بن منصور ثنا الحنيني قال قال مالك بن أنس إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن وحدثني ابن أبي نصر نا عثمان بن أبي بكر نا أبو نعيم إبراهيم بن عبد الله ثنا محمد بن إسحاق قال سمعت عثمان بن صالح يقول جاء رجل إلى مالك فسأله عن مسألة فقال له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فقال الرجل أرأيت فقال مالك {لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}

حدثنا عبد الرحمن بن سلمة ثنا أحمد بن خليل ثنا خالد بن رسول ثنا عبد الله بن يونس المرادي نا بقي بن مخلد نا سحنون والحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك أنه كان يكثر أن يقول {وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} ويه إلى خالد قال سمعت محمد بن عمر لبابة يقول أخبرني أبو خالد مالك بن علي القرشي القطني الزاهد وكان فاضلا خيرا مجتهدا في العبادة قال أخبرني القعنبي قال دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه فسلمت ثم جلست فرأيته يبكي فقلت يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك فقال لي يا ابن قعنب وما لي لا أبكي ومن أحق بالبكاء مني والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت بها برأيي سوطا سوطا وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه وليتني لم أفت بالرأي أو كما قال وبه إلى خالد حدثنا أحمد بن خالد أنا يحيى بن عمر أنا الحارث بن مسكين أنا ابن وهب قال قال لي مالك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء قال أبو محمد أفيحل لأحد صح هذا عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي عنه أخذنا ديننا ثم يفتي بعد ذلك بغير ما أتاه به الوحي ويستعمل الرأي والقياس معاذ الله من ذلك أخبرنا أحمد بن عمر ثنا أحمد بن محمد بن عيسى نا محمد بن غندر نا خلف بن قاسم نا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي نا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو نا أبو مسهر نا سعيد بن عبد العزيز قال كان إذا سئل لا يجيب حتى يقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هذا رأيي والرأي يخطىء ويصيب قال أبو محمد ويقال لمن يقضي بالرأي في الدين فحلل به وحرم وأوجب

أخبرنا عنك في قولك بالرأي هذا حرام أو هذا واجب عمن تخبر بأنه حرم هذا أو أوجب هذا أعنك أم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لله فإن كنت تخبر بذلك عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم كنت كاذبا عليهما لأنك تقول عنهما ما لم يقله الله تعالى ولا نبيه صلى الله عليه وسلم وإن كنت تقول ذلك عن نفسك فقد صرت محللا ومحرما وشارعا وفي هذا ما فيه نعوذ بالله منه وأيضا فإنك تصير قاضيا على الباري تعالى ومتحكما عليه أن تلزم في دينه الذي لم يشرعه سواه أحكاما تشرعها أنت وفي هذا البرهان كفاية وبالله تعالى نتأيد حدثنا أحمد بن عمر بن أنس نا الحسين بن يعقوب نا سعيد بن فحلون نا يونس بن يحيى المفامي نا عبد الملك بن حبيب أخبرني بن الماجشون أنه قال قال مالك بن أنس من أحدث في هذه الأمة اليوم شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله تعالى يقول { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا وقد ذكر الطحاوي عن أبي حنيفة أنه قال علمنا هذا رأي فمن أتانا بخير منه قبلناه حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا إسماعيل بن إسحاق البصري نا خالد بن سعد نا محمد بن إبراهيم بن حيون الحجاري نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال سمعت أبي يقول الحديث الضعيف أحد إلينا من الرأي حدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه وأصحاب رأي فتنزل به النازلة من يسأل فقال أبي يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي ضعيف الحديث أقوى من رأي أبي حنيفة قال أبو محمد صدق أحمد رحمه الله لأن من أخذ بما بلغه عن رسول

الباب السادس والثلاثون في إبطال التقليد

الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يدري ضعفه فقد أجر يقينا على قصده إلى طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أمره الله تعالى وأما من أخذ برأي أبي حنيفة أو رأي مالك أو غيرهما فقد أخذ بما لم يأمره الله تعالى قط بالأخذ به وهذه معصية لا طاعة وقد تبرأ كل من ترى من الصحابة والتابعين ومن الفقهاء من الرأي وندموا على ما قد قدموا منه وتبرؤوا ممن قلدهم في شيء منه فمن أضل ممن دان ربه تعالى برأي قد تمنى الذي رآه أن يضرب عن كل مسألة منه سوطا ولعلها أزيد من عشرة آلاف مسألة ومن أضل ممن دان ربه تعالى برأي من قال من أتانا بخير من رأينا قبلناه ولا شك عند كل ذي مسكة عقل من المسلمين أن كلام الله تعالى وكلام محمد صلى الله عليه وسلم خير من رأي أبي حنيفة ومالك هذا مع ما قد أوردناه في هذا الباب من الأحاديث الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الفتيا بالرأي ومن البراهين القاطعة في ذلك وحسبنا الله ونعم الوكيل الباب السادس والثلاثون في إبطال التقليد قال أبو محمد علي علي بن أحمد علي اعتقاد المرء قولا من قولين فصاعدا ممن اختلف فيه أهل التمييز المتكلمون في أفانين العلوم فإنه لا يخلو في اعتقاده ذلك من أحد وجهين إما أن يكون اعتقده ببرهان صح عنده أو يكون اعتقده بغير برهان صح عنده فإن كان اعتقده ببرهان صح عنده يخلو أيضا من أحد وجهين إما أن يكون اعتقده ببرهان حق صحيح في ذاته وإما أن يكون اعتقده بشيء يظن أنه برهان وليس ببرهان لكنه شغب وتمويه موضوع وضعا غير مستقيم وقد بينا كل برهان حق صحيح في ذاته في كتابنا الموسوم بالتقريب وبينا في كتابنا هذا أن البرهان في الديانة

إنما هو نص القرآن أو نص كلام صحيح النقل مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو نتائج مأخوذة من مقدمات صحاح من هذين الوجهين وأما القسم الثاني الذي هو شغب يظن أنه برهان وليس برهانا فمن أنواعه القياس والأخذ بالمرسل والمقطوع والبلاغ وما رواه الضعفاء والمنسوخ والمخصص وكل قضية فاسدة قدمت بالوجوه المموهة التي قد بيناها في كتاب التقريب وأما ما اعتقده المرء بغير برهان صح عنده فإنه لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون اعتقده لشيء استحسنه بهواه وفي هذا القسم يقع الرأي والاستحسان ودعوى الإلهام وإما أن يكون اعتقده لأن بعض من دون النبي صلى الله عليه وسلم قال وهذا هو التقليد وهو مأخوذ من قلدت فلانا الأمر أي جعلته كالقلادة في عنقه وقد استحى قوم من أهل التقليد من فعلهم فيه وهم يقرون ببطلان المعنى الذي يقع عليه هذا الاسم فقالوا نقلد بل نتبع قال أبو محمد ولم يتخلصوا بهذا التمويه من قبيح فعلهم لأن الحرم إنما هو المعنى فليسموه بأي اسم شاؤوا فإنهم ما داموا آخذين بالقول لأن فلانا قاله دون النبي صلى الله عليه وسلم فهم عاصون لله تعالى لأنهم اتبعوا من لم يأمرهم الله تعالى باتباعه ويكفي من بطلان التقليد أن يقال لمن قلد إنسانا بعينه ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدته بل قلد من هو بإقرارك أعلم منه وأفضل منه فإن قال بتقليد كل عالم كان قد جعل الدين هملا وأوجب الضدين معا في الفتيا هذا ما لا انفكاك منه لكن شغبوا وأطالوا فوجب تقصي شغبهم إذ كتابنا هذا كتاب تقص لا كتاب إيجاز وبالله تعالى نتأيد قال أبو محمد ونحن ذاكرون إن شاء الله ما موه به المتأخرون لنصر قولهم في التقليد ومبينون بطلان كل ذلك بحول الله وقوته ثم نذكر البراهين الضرورية الصحاح على إبطال التقليد جملة وبالله تعالى التوفيق

فمما شغبوا به أن قال بعضهم روي أن ابن مسعود كان يأخذ بقول عمر قال أبو محمد وهذا باطل لأن خلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يتكلف إيراده وإنما وافقه كما يتوافق أهل الاستدلال فقط وما نعرف رواية أن ابن مسعود رجع إلى قول عمر إلا رواية ضعيفة لا تصح في مسألة واحدة وهي في مقاسمة الجد الأخوة مرة إلى الثلث ومرة إلى السدس ولعل نظائر هذه الرواية لو تقصيت لم تبلغ أربع مسائل وإنما جاء فيها أيضا أن ابن مسعود أنفذها بقول عمر لأن عمر كان الخليفة وابن مسعود أحد عماله فقط وأما اختلافهما فلو تقصي لبلغ أزيد من مائة مسألة وقد ذكرنا بعد هذا بنحو ورقتين سند الحديث المذكور من اتباع ابن مسعود عمر وبينا وهي تلك الرواية وسقوطها ومما حضرنا ذكره من خلاف ابن مسعود لعمل في أعظم قضاياه وأشهرها ما حدثناه محمد بن سعيد النباتي نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر نا شعبة عن الحكم بن عتيبة عن زيد بن وهب قال انطلقت أنا ورجل إلى عبد الله بن مسعود نسأله عن أم الولد وإذا هو يصلي ورجلان قد اكتنفاه عن يمينه وعن يساره فلما صلى سألاه الخطاب فقال لأحدهما من أقرأك قال أقرأنيها أبو عمرة أو أبو حكم المزني وقال الآخر أقرأنيها عمر بن الخطاب فبكى حتى بل الحصا بدموعه وقال له اقرأ كما أقرأك عمر فإنه كان للإسلام حصنا حصينا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه فلما أصيب عمر انثلم الحصن فخرج الناس من الإسلام قال سألته عن أم الولد فقال تعتق من نصيب ولدها

قال أبو محمد فهذا ابن مسعود بهذا السند العجيب الذي لا مغمز فيه بعد موت عمر على ما في نص هذا الحديث من ذكره موت عمر يخالفه في أمهات الأولاد فلا يراهن حرائر من رأس مال سادتهن ولكن من نصيب أولادهن كما تعتق على كل أحد أمه إذا ملكها ومع ذلك أن ابن مسعود إلى أن مات كان يطبق في الصلاة وعمر كان يضع اليدين على الركبتين وينهى عن التطبيق وكان ابن مسعود يضرب الأيدي لوضعها على الركب وابن مسعود يقول في الحرم هي يمين وعمر يقول هي طلقة واحدة وكان ابن مسعود يقول في رجل زنى بامرأة ثم تزوجها لا يزالان زانيين ما اجتمعا وعمر يأمر الزاني أن يتزوج التي زنى بها وابن مسعود يقول بيع الأمة طلاقها وعمر لا يرى بيعها طلاقا ويخالفه في قضايا كثيرة جدا والعجب كله ممن يحتج بالكذب من أن ابن مسعود كان يقلد عمر وهم لا يرون تقليد عمر ولا ابن مسعود في كل أقوالهما وإنما يقلدون من لم يقلده قط ابن مسعود ولا رآه كأبي حنيفة ومالك والشافعي وحسبك بمقدار من يحتج بمثل هذا في الغباوة والجهل وقوله مخالف لما احتج به وكيف يجوز أن يقلد ابن مسعود عمر وقد حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي حدثنا مسلم بن الحجاج نا إسحاق بن راهويه نا عبدة بن سليمان نا الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة الأسدي عن عبد الله بن مسعود قال لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله عز وجل ولو أعلم

أن أحدا أعلم به مني لرحلت إليه قال شقيق فجلست في حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدا يرد ذلك عليه ولا يعيبه وبه إلى مسلم نا أبو كريب نا يحيى بن آدم نا قطبة عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال والذي لا إله غيره ما من كتاب الله تعالى سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا هو أعلم بكتاب الله تعالى مني تبلغه الإبل لركبت إليه قال أبو محمد وكان ابن مسعود من الملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث قال أبو موسى الأشعري كنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له وقال ابن مسعود البدري وقد قام عبد الله بن مسعود ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله تعالى من هذا القائم فقال أبو موسى لقد كان يشهد إذا غبنا ويؤذن له إذا حججنا روينا هذا السند المذكور إلى مسلم قال حدثناه أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني نا يحيى بن آدم نا قطبة عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن أبي الأحوص أنه سمع أبا مسعود وأبا موسى يقولان ذلك قال أبو محمد فمن كانت هذه صفته وهو يخبر أنه ما من آية في القرآن إلا وهو يعلم فيما أنزلت أيجوز أن يظن به ذو عقل أنه يقلد أحدا من الناس

هذا محال ممتنع لا سبيل إليه وإنما يقلد من يجهل الحكم في النازلة فيأخذ بقول من يقدر أنه يعلمه وكيف يمكن أن يقلد ابن مسعود عمر وقد كان كما حدثنا محمد بن سعيد نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار بندار نا محمد بن عدي وأبو داود الطيالسي كلاهما عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي عبيد الله بن عبد الله بن مسعود عن مسروق قال ما شهدت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالإخاذ فالإخاذة تكفي الواحد والاثنين والثلاثة والإخاذة تكفي الفئام من الناس وإني أتيت عبد الله بن مسعود وعمر وعثمان فوجدت عبد الله كفاني فلزمت عبد الله قال أبو محمد فقد بين مسروق أنه جربهم فوجد ابن مسعود لا يقصر عن عمر في العلم بل كلام مسروق يدل على تقدم ابن مسعود عنده على عمر في العلم ولذلك اكتفى به عنه وقد ذكرنا في باب الإجماع من كتابنا هذا في باب من ادعى أن الإجماع هو إجماع أهل المدينة صفة منزلة ابن مسعود عند عمر في العلم في كتابه إلى أهل الكوفة واحتج بعضهم بأن قال لا بد من التقليد لأنك تأتي الجزار فتقلده في أنه سمى الله عز وجل وممكن أن يكون لم يسم وهكذا في كل شيء قال أبو محمد المحتج بهذا إما كان بمنزلة الحمير في الجهل وإما كان رقيق الدين لا يستحي ولا يتقي الله عز وجل فيقال له إن كان ما ذكرت عندك تقليدا فقلد كل فاسق وكل قائل وقلد اليهود والنصارى فاتبع دينهم لأنا كذلك نبتاع اللحم منهم ونصدقهم أنهم سموا الله تعالى على ذبائحهم كما نبتاعه من المسلم الفاضل ولا فرق ولا فضل بين ابتياعه من زاهد عابد وبين

ابتياعه من يهودي فاسق ولا أثرة ولا فضيلة لذبيحة العالم الورع على ذبيحة الفاسق الفاجر فقلد كل قائل على ظهر الأرض وإن اختلفوا كما نأكل ذبيحة كل جزار من مؤمن أو ذمي فإن قال بذلك خرج عن الإسلام وكفى مؤونته ولزمه ضرورة ألا يقلد عالما بعينه دون من سواه كما أنه لا يقلد جزارا بعينه دون من سواه وإن أبى من ذلك فقد أبطل احتجاجه بتقليد الجزار وغيره وسقط تمويهه ولكن ليعلم الجاهل أن هذا الذي شغب به هذا المموه من تصديقنا الجزار والصانع وبائع سلعة بيده ليس تقليدا أصلا وإنما صدقناهم لأن النص أمر بتصديقهم وقد سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه بعينها فقالوا يا رسول الله إنه يأتي قوم حديثو عهد بالكفر بذبائح لا ندري أسموا الله تعالى عليها فقال صلى الله عليه وسلم سموا الله أنتم وكلوا أو كما قال صلى الله عليه وسلم وأمر تعالى بأكل طعام أهل الكتاب وذبائحهم فإن أتونا في تقليد رجل بعينه بنص على إيجاب تقليده أو بإجماع على إيجاب تقليده صرنا إليه واتبعناهم ولم يكن ذلك تقليدا حينئد لأن البرهان كان يكون حينئذ قد قام على وجوب اتباعه واحتج بعضهم بأن قال روي عن عمر أنه قال إني لأستحي من الله عز وجل أن أخالف أبي بكر قال أبو محمد وهذا يبطل من خمسة أوجه أولها أن هذا حديث مكذوب محذوف لا يصح منفردا هذا اللفظ كما أوردوه وإنما جاء بلفظ إذا حقق فهو حجة عليهم وسنورده عند الفراغ بذكر حججهم ثم الابتداء بالاحتجاج عليهم في هذا الباب إن شاء الله تعالى والثاني أن خلاف عمر لأبي بكر أشهر من أن يجهله من له أقل علم

بالروايات فمن ذلك خلافه إياه في سبي أهل الردة سباهم أبو بكر وبلغ الخلاف عن عمر له أن نقض حكمه في ذلك وردهن حرائر إلى أهليهن إلا من ولدت لسيدها منهن ومن جملتهن كانت خولة الحنفية أم محمد بن علي وخالفه في قسمة الأرض المفتتحة فكان أبو بكر يرى قسمتها وكان عمر يرى إيقافها ولم يقسمها وخالفه في المفاضلة أيضا في العطاء فكان أبو بكر يرى التسوية وكان عمر يرى المفاضلة وفاضل ومن أقرب ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا سليمان بن الأشعث حدثنا محمد بن داود بن سفيان وسلمة بن شبيب قالا ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال قال عمر إني إن لا أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف وإن استخلف فإن أبا بكر قد استخلف قال ابن عمر فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فعلمت أنه لا يعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وأنه غير مستخلف قال أبو محمد فهذا نص خلاف عمر لأبي بكر فيما ظن أنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد خالفه في فرض الجد وفي غير ذلك كثيرا بالأسانيد الصحاح المبطلة لقول من قال إنه كان لا يخالفه والثالث أن هذا لو صح كما أوردوه وموهوا به وهو لا يصح كذلك لكان غير موجب لتقليد مالك وأبي حنيفة ولا يتمثل في عقل ذي عقل

إن في تقليد عمر لأبي بكر ما يوجب تقليد أهل زماننا لمالك وأبي حنيفة فبطل تمويههم بما ذكروا والرابع أن المحتج بما ذكرنا عن عمر ينبغي أن يكون أوقح الناس وأقلهم حياء لأنه احتج بما يخالفه وانتصر بما يبطله لأنه لا يستحي مما استحى منه عمر لأن المحتجين بهذا يخالفون أبا بكر وعمر في أكثر أقوالهم وقد ذكرنا خلاف المالكيين لما رووا في الموطأ عن أبي بكر وعمر فيما خلا من كتابنا فأغنى عن ترداده وبينا أنهم رووا عن أبي بكر ست قضايا خالفوه منها من خمس وخالفوا عمر في نحو ثلاثين قضية مما رووا في الموطأ فقط فهلا استحيا هذا المحتج مما استحيا منه عمر ويلزمه أن يقلد أبا بكر وعمر وإلا فقد أقر على نفسه بترك الحق إذ ترك قول عمر وهو يحتج بقوله في إثبات التقليد والخامس أنه لو صح أن عمر قلد وقد أعاذه الله من ذلك لكان هو وسائر من خالفه من الصحابة وأبطلوا التقليد راجيا أن ترد أقوالهم إلى النص فلأيها شهد النص أخذ به والنص يشهد لقول من أبطل التقليد واحتجوا بما حدثناه محمد بن سعيد ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا بندار ثنا غندر ثنا شعبة عن جابر بن يزيد الجعفي عن الشعبي أن جندبا ذكر له قول في مسألة من الصلاة لابن مسعود فقال جندب إنه لرجل ما كنت لأدع قوله لقول أحد من الناس وبه إلى الشعبي عن مسروق قال كان ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفتون الناس ابن مسعود وعمر بن الخطاب وعلي وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم لقول ثلاثة كان عبد الله يدع قوله لقول عمر وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب

قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لوجوه أحدها أن راوي هذين الخبرين جابر الجعفي وهو كذاب فسقط الاحتجاج به والثاني أنه كذب هذا الحديث الأخير بين ظاهر بما هو في الشهرة والصحة كالشمس وهو أن خلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يتكلف إيراده وخلاف أبي موسى لعلي كذلك ومن جملة خلافه إياه امتناعه من بيعته ومن حضور مشاهده وليس في الخلاف أعظم من هذا وكذلك خلاف زيد لأبي في القراءات والفرائض وغير ذلك أشهر من كل مشتهر فوضح كذب جابر في روايته هذه والثالث أنه لو صح كل هذا لكان عليهم لا لهم لأن الذين كان هؤلاء المذكورون يقلدون بزعمهم هم غير الذين يقلد هؤلاء المتأخرون اليوم فلا حجة لمن قلد مالكا وأبا حنيفة والشافعي فيمن قلد عمر وعليا وأبيا بل هو حجة عليهم لأنه إن كان تقليد هؤلاء حقا فتقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة باطل وإن كان تقليد من تقدم باطلا فتقليد من تأخر أبطل فمن المحال الباطل أن يقلد ابن مسعود عمر أو غيره مع ما حدثناه المهلب عن ابن مناس عن ابن مسرور عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب قال سمعت سليمان يحدث عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول اغد عالما أو متعلما ولا تغدون إمعة قال ابن وهب فذكر لي سفيان عن أبي الزعراء عن أبي الأحوص عن ابن مسعود إنه الإمعة فيكم الذي يحقب دينه الرجال

واحتجوا أيضا بالأعمى يدل على القبلة وبالراكب في السفينة يدله الملاحون على القبلة وعلى الوقت قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه من باب قبول الخبر لا من باب قبول الفتيا في الدين بلا دليل ولا من باب تحريم أمر كان مباحا أو إيجاب فرض لم يكن واجبا أو إسقاط فرض قد وجب وهذا الذي ذكروا ليس تقليدا وإنما هو إخبار والناس مجمعون على قبول خبر الواحد في أشياء كثيرة منها الهدية وحال إدخال الزوج على الزوجة وقبول قول المرأة الذمية والمسلمة إنها طاهر فيستباح وطؤها بعد تحريمه بالحيض وغير ذلك فقبول الأعمى لخبر المخبر له عن الوقت والقبلة إذ وقع به تصديقه أمر قد قام الدليل على صحته بل أكثر هذه الأمور توجب العلم الضروري بالجبلة وبطل أن يكون ما ذكروا تقليدا واحتج بعضهم بقول الله تعالى {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا وتخذ لله إبراهيم خليلا} قال أبو محمد وهذا من القحة ما هو لأن الشيء الذي يأمر به الله ليس تقليدا ولكنه برهان ضروري والتقليد إنما هو اتباع من لم يأمرنا عز وجل باتباعه وإنما التقليد الذي نخالفهم فيه أخذ قول رجل ممن دون

النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرنا ربنا باتباعه بلا دليل يصحح قوله لكن فلانا قاله فقط فهذا هو الذي يبطل ولكن من لا يتقي الله عز وجل ممن قد بهره الحق وعجز عن نصره الباطل وأراد استدامة سوقه ولا يبالي إلى ما أداه ذلك أوقع على اعتقاد الحق الذي قد ثبت برهانه اسم التقليد فسمى الانقياد لخبر الواحد تقليدا وسمى الإجماع تقليدا وسمى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر باتباعه من ملة إبراهيم عليه السلام تقليدا فإن أرادوا منا تصحيح هذه المعاني فهي صحاح لقيام النص بوجوبها وإن أرادوا أن يتطرقوا بذلك إلى تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة فذلك حرام وباطل وليس في اتباع ملة إبراهيم ما يوجب اتباع مالك وأبي حنيفة والشافعي لأنهم غير إبراهيم المأمور باتباعه ولم نؤمر قط باتباع هؤلاء المذكورين وإنما هذا بمنزلة من سمى الخنزير كبشا وسمى الكبش خنزيرا فليس ذلك مما يحل الخنزير ويحرم الكبش وكذلك إنما نحرم اتباع من دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير دليل ونوجب اتباع ما قام الدليل على وجوب اتباعه ولا نلتفت إلى من مزج الأسماء فسمى الحق تقليدا وسمى الباطل اتباعا وقد بينا قبل وبعد أن الآفة العظيمة إنما دخلت على الناس وتمكن بهم أهل الشر والفسق والتخليط والسفسطة ولبسوا عليهم دينهم فمن قبل اشتراك الأسماء واشتباكها على المعاني الواقعة تحتها ولذلك دعونا في كتبنا إلى تمييز المعاني وتخصيصها بالأسماء المخلفة فإن وجدنا في اللغة اسما مشتركا حققنا المعاني التي تقع تحته وميزنا كل معنى منها بحدوده التي هي صفاته التي لا يشاركه فيها سائر المعاني حتى يلوح البيان فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة والله تعالى يلبس على من على الناس وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله ثنا

قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا بندار ثنا غندر ثنا شعبة ثنا عمرو بن مرة عن حصين عن ابن أبي ليلى قال حدثنا أصحابنا أنهم كانوا إذا صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فدخل الرجل أشاروا إليه فقضى ما سبق به فكانوا من بين قائم وراكع وقاعد ومصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء معاذ فقال لا أراه على حال إلا كنت معه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن معاذا قد سن لكم سنة فكذلك فافعلوا

قال أبو محمد وهذا حديث كما ترى لم يذكر ابن أبي ليلى من حدثه به والضمير الذي في كانوا لا بيان فيه أنه راجع إلى المحدثين لابن أبي ليلى بل لعله راجع إلى الصحابة غير المحدثين لابن أبي ليلى ولا تؤخذ الحقائق بالشكوك وحتى لو صح هذا الحديث لما كانت فيه حجة لوجهين أحدهما أن الذين يقلدونهم غير معاذ فلو صح تقليد معاذ ما كان ذلك إلا مبطلا لتقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي والثاني أن فعل معاذ لم يصر سنة إلا حيث أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحين أمر به لا بفعل معاذ ويكون حينئذ معنى أن معاذا سن سنة أي فعل فعلا جعله الله لكم سنة فإنما صار سنة حين أمر به عليه السلام فقط مع أنه حديث مرسل لا يحتج به وقد روينا عن معاذ ما يبطل ظن الظان في هذا الحديث وما يبطل به التقليد وهو ما حدثنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار بندار ثنا غندر ثنا شعبة قال أنبأني عمرو بن مرة قال سمعت عبد الله بن سليمة يقول قال معاذ بن جبل يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال المنافق بالقرآن فسكتوا فقال معاذ أما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وإن افتتن فلا تقطعوا منه أناتكم فإن المؤمن أو قال المسلم يفتتن ثم يتوب وأما القرآن فإن له منارا كمنار الطريق لا يخفى

على أحد فما علمتم منه فلا تسألوا عنه أحدا وما لم تعلموا فكلوه إلى عالمه وأما الدنيا فمن جعل الله غناه في قلبه فقد أفلح ومن لا فليست بنافعته دنياه قال أبو محمد رحم الله معاذا لقد صدع بالحق ونهى عن التقليد في كل شيء وأمر باتباع ظاهر القرآن وألا يبالي من خالف فيه وأمر بالتوقف فيما أشكل وهذا نص مذهبنا وبالله تعالى التوفيق ومن العجب احتجاجهم بهذا الخبر ولا يدري أحد لماذا فإن كانوا أرادوا بذلك تقليد معاذ وأنه كان يسن السنن فقد جاء عنه أنه كان يورث المسلم من الكافر فيقلدوه وإلا فقد لعبوا بدينهم وإن كانوا يحتجون به في إيجاب تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي فهذا حمق ما سمع بأظرف منه وأين تقليد معاذ من تقليد هؤلاء واحتج بعضهم بقوله تعالى {محمد رسول لله ولذين معه أشدآء على لكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من لله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر لسجود ذلك مثلهم في لتوراة ومثلهم في لإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فستوى على سوقه يعجب لزراع ليغيظ بهم لكفار وعد لله لذين آمنوا وعملوا لصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} وبقوله تعالى {لقد رضي لله عن لمؤمنين إذ يبايعونك تحت لشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل لسكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} وبقوله تعالى {لا يستوي لقاعدون من لمؤمنين غير أولي لضرر ولمجاهدون في سبيل لله بأموالهم وأنفسهم فضل لله لمجاهدين بأموالهم وأنفسهم على لقاعدين درجة وكلا وعد لله لحسنى وفضل لله لمجاهدين على لقاعدين أجرا عظيما} وبقوله عز وجل {ولسابقون لأولون من لمهاجرين ولأنصار ولذين تبعوهم بإحسان رضي لله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها لأنهار خالدين فيهآ أبدا ذلك لفوز لعظيم} فقالوا من أثنى الله تعالى عليه فقوله أبعد من الخطأ وأقرب من الصواب واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وبما روي عنه صلى الله عليه وسلم من الحديث الذي فيه اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وقالوا إن الصحابة رضي الله عنهم شهدوا الوحي فهم أعلم بما شهدوا وقال بعضهم قول الخلفاء من الصحابة حكم وحكمهم لا يجب أن ينقض واحتجوا بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي الأمر

منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وبما روى من أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم قال أبو محمد كل هذا لا حجة لهم فيه بل الآيات التي ذكرنا حجة عليهم وأما قوله تعالى {محمد رسول لله ولذين معه أشدآء على لكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من لله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر لسجود ذلك مثلهم في لتوراة ومثلهم في لإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فستوى على سوقه يعجب لزراع ليغيظ بهم لكفار وعد لله لذين آمنوا وعملوا لصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} وقوله {لقد رضي لله عن لمؤمنين إذ يبايعونك تحت لشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل لسكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} وقوله تعالى {لا يستوي لقاعدون من لمؤمنين غير أولي لضرر ولمجاهدون في سبيل لله بأموالهم وأنفسهم فضل لله لمجاهدين بأموالهم وأنفسهم على لقاعدين درجة وكلا وعد لله لحسنى وفضل لله لمجاهدين على لقاعدين أجرا عظيما} وقوله تعالى {ولسابقون لأولون من لمهاجرين ولأنصار ولذين تبعوهم بإحسان رضي لله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها لأنهار خالدين فيهآ أبدا ذلك لفوز لعظيم} فإنما هذا كله ثناء عليهم رضوان الله عليهم ولم ننازع في الثناء عليهم ولله الحمد بل نحن أشد توقيرا لهم وأعلم بحقوقهم من هؤلاء المحتجين بهذه الآية في غير مواضعها لأننا نحن إنما تركنا أقوال الصحابة لقول محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجب من حقه صلى الله عليه وسلم عليهم كالذي يجب من حقه علينا ولا فرق والذي ألزموا طاعته كما ألزمناها سواء بسواء وهم إنما تركوا أقوال الصحابة الذين احتجوا في فضلهم بما ذكرنا لقول أبي حنيفة ومالك والشافعي وإنما قلنا نحن ليس وجوب الثناء عليهم بموجب أن يقلدوا إذ قد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر وعمر اللذين هما أفضل رجالهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخطأ كما حدثنا حمام بن أحمد ثنا عبد الله بن إبراهيم نا أبو زيد المروزي نا الفربري نا البخاري نا إبراهيم بن موسى نا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبرهم أنه قدم ركب من بني تميم عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر أمر القعقاع بن معبد بن زرارة قال عمر بل أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر ما أردت إلا خلافي قال عمر ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك {يأيها لذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر

بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} حتى انقضت يعني الآية قال البخاري ثنا محمد بن مقاتل ثنا وكيع عن نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال قال ابن الزبير فكان عمر بعد إذ حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخي السرار لم يسمعه حتى يستفهمه قال البخاري نا بسرة بن صفوان بن جميل نا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال قال ابن الزبير فكان عمر بعد إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخي السرار لم يسمعه حتى يستفهمه قال البخاري نا بسرة بن صفوان بن جميل نا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال كاد الخيران يهلكان أبو بكر وعمر رفعا أصواتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما حدثنا عبد الله بن ربيع عن محمد بن إسحاق بن السليم عن ابن الأعرابي عن أبي داود وقال نا محمد بن يحيى بن فارس نا عبد الرزاق كتبته من كتابه قال أنا معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال كان أبو هريرة يحدث أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الليلة رؤيا فعبر لها أبو بكر فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصبت بعضا وأخطأت بعضا فقال أقسمت يا رسول الله بأبي أنت لتحدثني بالذي أخطأت فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقسم قال أبو محمد فمن أخطأ فغير جائز أن يؤخذ قوله بغير برهان يصححه والنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان منه على طريق إرادة الخبر ما لا يوافق إرادة ربه تعالى لم يقره تعالى على ذلك حتى يبين له وأما أبو بكر رضي

الله عنه فقد رام من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين له وجه خطئه فيما عبر فلم يفعل صلى الله عليه وسلم وأما ما تعلقوا به بما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله لأبي بكر وعمر لولا اختلافكما علي ما خالفتكما فأول ذلك أن هذا خبر لا يصح ولو صح لكان حجة في إبطال تقليدهما لأن الأمر الموجود فيهما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخذ برأيهما في أمور الدنيا ففرض علينا اتباعه صلى الله عليه وسلم وألا نأخذ بقولهما في أمور الشريعة وهذا بين وأما قوله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين فقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بما لا يقدر عليه ووجدنا الخلفاء الراشدين بعده صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا اختلافا شديدا فلا بد من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن نأخذ بكل ما اختلفوا فيه وهذا ما لا سبيل إليه ولا يقدر عليه إذ فيه الشيء وضده ولا سبيل إلى أن يورث أحد الجد دون الإخوة بقول أبي بكر وعائشة ويورثه الثلث فقط وباقي ذلك للإخوة على قول عمر ويورثه السدس وباقيه للإخوة على مذهب علي وهكذا في كل ما اختلفوا فيه فبطل هذا الوجه لأنه ليس في استطاعة الناس أن يفعلوه فهذا وجه أو يكون مباحا لنا بأن نأخذ بأي ذلك شيئا وهذا خروج عن الإسلام لأنه يوجب أن يكون دين الله تعالى موكولا إلى اختيارنا فيحرم كل واحد منا ما يشاء ويحل ما يشاء ويحرم أحدنا ما يحله الآخر وقول الله

تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وقوله تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} وقوله تعالى {وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين} يبطل هذا الوجه الفاسد ويوجب أن ما كان حراما حينئذ فهو حرام إلى يوم القيامة وما كان واجبا يومئذ فهو واجب إلى يوم القيامة وما كان حلالا يومئذ فهو حلال إلى يوم القيامة وأيضا فلو كان هذا لكنا إذا أخذنا بقول الواحد منهم فقد تركنا قول الآخر منهم ولا بد من ذلك فلسنا حينئذ متبعين لسنتهم فقد حصلنا في خلاف الحديث المذكور وحصلوا فيه شاؤوا أو أبوا ولقد أذكرنا هذ مفتيا كان عندنا بالأندلس وكان جاهلا فكانت عادته أن يتقدمه رجلان كان مدار الفتيا عليهما في ذلك الوقت فكان يكتب تحت فتياهما أقول بما قاله الشيخان فقضى أن ذينك الشيخين اختلفا فلما كتب تحت فتياهما ما ذكرنا قال له بعض من حضر إن الشيخين اختلفنا فقال وأنا أختلف باختلافهما قال أبو محمد فإذ قد بطل هذان الوجهان فلم يبق إلا الوجه الثالث وهو أخذ ما أجمعوا عليه وليس ذلك إلا فيما أجمع عليه سائر الصحابة رضوان الله عليهم معهم وفي تتبعهم سنن النبي صلى الله عليه وسلم والقول بها وأيضا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أمر باتباع سنن الخلفاء الراشدين لا يخلو ضرورة من أحد وجهين إما أن يكون صلى الله عليه وسلم أباح أن يسنوا سننا غير سننه فهذا ما لا يقوله مسلم ومن أجاز هذا فقد كفر وارتد وحل دمه وماله لأن الدين كله إما واجب أو غير واجب وإما حرام وإما حلال لا قسم في الديانة غير هذه الأقسام أصلا فمن أباح أن يكون للخلفاء الراشدين سنة لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أباح أن يحرموا شيئا كان حلالا على عهده صلى الله عليه وسلم إلى أن مات أو أن يحلوا شيئا حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن يوجبوا فريضة لم يوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن يسقطوا فريضة فرضها رسول الله صلى الله عليه

وسلم ولم يسقطها إلى أن مات وكل هذه الوجوه من جوز منها شيئا فهو كافر مشرك بإجماع الأمة كلها بلا خلاف وبالله تعالى التوفيق فهذا الوجه قد بطل ولله الحمد وأما أن يكون أمر باتباعهم في اقتدائهم بسنته صلى الله عليه وسلم فهكذا نقول ليس يحتمل هذا الحديث وجها غير هذا أصلا وقال بعضهم إنما نتبعهم فيما لا سنة فيه قال أبو محمد وإذ لم يبق إلا هذا فقد سقط شغبهم وليس في العالم شيء إلا وفيه سنة منصوصة وقد بينا هذا في باب إبطال القياس من كتابنا هذا وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بما أخبرناه عبد الله بن ربيع قال نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن بشار نا أبو عمر نا سفيان هو الثوري عن الشيباني هو أبو إسحاق عن الشعبي عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله فكتب إليه أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به الصالحون فإن لم يكن في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقض فيه الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أرى التأخر إلا خيرا لك والسلام عليكم قال أبو محمد وهذا عليهم لا لهم لأن عمر لم يقل بما قضى به بعض الصالحين وإنما قال ما قضى به الصالحون فهذا هو إجماع جميع الصالحين وفي هذا الحديث إباحة عمر ترك الحكم بالقياس واختياره لذلك

ويقال لهم في احتجاجهم بما روي من الأمر بإلتزام سنة الخلفاء الراشدين المهديين هذا حجة عليكم لأن سنة الخلفاء الراشدين المهديين كلهم بلا خلاف منهم ألا يقلدوا أحدا وألا يقلد بعضهم بعضا وأن يطلبوا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وجدوها فينصرفوا إليها ويعملوا بها وقد أنكر عمر رضي الله عنه أشد الإنكار على رجل سأله عن مسألة في الحج فلما أفتاه قال له الرجل هكذا أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه عمر بالدرة وقال له سألتني عن شيء قد أفتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي أخالفه رويناه من طريق عبد الرزاق وقال عمر رضي الله عنه إن الرأي منا هو التكليف وإن الرأي من النبي صلى الله عليه وسلم كان حقا قال أبو محمد فمن كان متبعا لهم فليتبعهم في هذا الذي اتفقوا فيه من ترك التقليد وفيما أجمعوا عليه من اتباع سنن النبي صلى الله عليه وسلم وفيما نهوا عنه من التكلف فإنه يوافق بذلك الحق وقول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الخلفاء قد خالفهم من في عصرهم فقد خالف عمر زيد وعلي وغيرهما وخالف عثمان وعمر وخالف عمر أبا بكر في قضايا كثيرة فما منهم أحد قال لمن خالفه لم خالفتني وأنا إمام فلو كان تقليدهم واجبا لما تركوا أحدا يعمل بغير الواجب وأما تمويه من احتج بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فهذه الآية مبطلة للتقليد إبطالا لا خفاء به وهي أعظم الحجج عليهم لأنه تعالى إنما أمر بطاعتهم فيما نقلوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في غير ذلك وإن قالوا بل فيما قالوه باجتهادهم قلنا قد سلف منا إبطال هذا الظن ثم لو سلم ذلك لما وجب ذلك إلا في جميعهم لا في بعضهم لأن الله عز وجل لم يقل وبعض أولي الأمر منكم وإنما أمرنا باتباع أولي الأمر منا وهم أهل العلم كلهم فإذا أجمعوا على أمر ما

فلا خلاف في وجوب اتباعهم وقد بين تعالى ذلك في الآية نفسها ولم يدعنا في لبس فقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فأسقط تعالى عند التنازع الرد إلى أولي الأمر وأوجب الرد إلى القرآن والسنة فقط وإنما أمر بطاعة أولي الأمر منا ما لم يكن تنازع وهذا هو قولنا ولله الحمد وأما الرواية إن معاذا سن لكم فقد قلنا إنه حديث لا يصح سنده ولو صح لما كانت لهم فيه حجة لأن الدخول مع الإمام كيد وجد ليس من قبل أن معاذا فعله لكن من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم صوبه وأمر به فقوله صلى الله عليه وسلم ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وإلا فقد فعل معاذ في تطويل الصلاة أمرا غضب منه صلى الله عليه وسلم ونهاه عن العودة فلو كان ما فعل معاذ سنة لكان تطويله الصلاة إذ أم الناس سنة وهذا خطأ فصح أنه ليس فعل معاذ ولا غيره سنة إلا حتى يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ويصححها وهذا قولنا لا قولهم وأما الرواية اقتدوا باللذين من بعدي فحديث لا يصح لأنه مروي عن مولى لربعي مجهول وعن المفضل الضبي وليس بحجة كما حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور نا أحمد بن الفضل الدينوري نا محمد بن جبير نا عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي نا محمد بن كثير الملائي نا المفضل الضبي عن ضرار بن

مرة عن عبد الله بن أبي الهذيل العتري عن جدته عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد وكما حدثناه أحمد بن قاسم قال نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم بن أصبغ قال حدثني قاسم بن أصبغ نا إسماعيل بن إسحاق القاضي نا محمد بن كثير أنا سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير عن مولى الربعي عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد وأخذناه أيضا عن بعض أصحابنا عن القاضي أبي الوليد بن الفرضي عن ابن الدخيل عن العقيلي نا محمد بن إسماعيل نا محمد بن فضيل نا وكيع نا سالم المرادي عن عمرو بن هرم عن ربعي بن حراش وأبي عبد الله رجل من أصحاب حذيفة عن حذيفة قال أبو محمد سالم ضعيف وقد سمى بعضهم المولى فقال هلال مولى ربعي وهو مجهول لا يعرف من هو أصلا ولو صح لكان عليهم لا لهم لأنهم نعني أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي أترك الناس لأبي بكر وعمر وقد بينا أن أصحاب مالك خالفوا أبا بكر مما رووا في الموطأ خاصة في خمسة مواضع وخالفوا عمر في نحو ثلاثين قضية مما رووا في الموطأ خاصة وقد ذكرنا أيضا أن عمر وأبا بكر اختلفا وأن اتباعهما فيما اختلفا فيه متعذر ممتنع لا يقدر عليه أحد وإنما الصحيح في هذا الباب ما ناولنيه بعض أصحابنا وحدثنيه أيضا

يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري كلاهما عن أبي الوليد عبد الله بن يوسف القاضي عن ابن الدخيل عن العقيلي نا محمد بن إسماعيل نا إسماعيل بن أبي أويس عن عبد الله بن أبي عبد الله البصري وثور بن يزيد الديلي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم اعقلوا أيها الناس قولي فقد بلغت وقد تركت فيكم أيها الناس ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا كتاب الله وسنة نبيه وبه إلى العقيلي ثنا موسى بن إسحاق ثنا محمد بن عبيد المحاربي ثنا صالح بن موسى الطلحي عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما أبدا ما أخذتم بهما أو عملتم بهما كتاب الله وسنتي ولم يتفرقا حتى يردا علي الحوض وأما الرواية أصحابي كالنجوم فرواية ساقطة وهذا حديث حدثنيه أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس العذري قال أنا أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد الهروي الأنصاري قال أنا علي بن عمر بن أحمد الدارقطني ثنا القاضي أحمد كامل بن كامل خلف ثنا عبد الله بن روح ثنا سلام بن سليمان ثنا الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم قال أبو محمد أبو سفيان ضعيف والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة وهذا منها بلا شك فهذا رواية

ساقطة من طريق ضعيف إسنادها وكتب إلي أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري أن هذا الحديث روي أيضا من طريق عبد الرحمن بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر قال وعبد الرحيم بن زيد وأبوه متروكان وحمزة الجزري مجهول وكتب إلي النمري حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد أن أبا عبد الرحمن بن مفرج حدثهم قال ثنا محمد بن أيوب الصموت قال قال لنا البزار وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فهذا كلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلا بلا شك أنها مكذوبة لأن الله تعالى يقول في صفة نبيه صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فإذا كان كلامه صلى الله عليه وسلم في الشريعة حقا كله فهو من الله تعالى بلا شك وما كان من الله تعالى فلا اختلاف فيه بقوله تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} وقد نهى تعالى عن التفرق والاختلاف بقوله {وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين} فمن المحال أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع كل قائل من الصحابة رضي الله عنهم وفيهم من يحلل الشيء وغيره منهم يحرمه ولو كان ذلك لكان بيع الخمر حلالا اقتداء بسمرة بن جندب ولكان أكل البرد للصائم حلالا اقتداء بأبي طلحة وحراما اقتداء بغيره منهم ولكان ترك الغسل من الإكسال واجبا اقتداء بعلي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب وحراما اقتداء بعائشة وابن عمر ولكان بيع الثمر قبل ظهور الطيب فيها حلالا اقتداء بعمر حراما اقتداء بغيره منهم وكل هذا مروي عندنا بالأسانيد

الصحيحة تركناها خوف التطويل بها وقد بينا آنفا إخباره عليه السلام أبا بكر بأنه أخطأ وقد كان الصحابة يقولون بآرائهم في عصره صلى الله عليه وسلم فيبلغه ذلك فيصوب المصيب ويخطىء المخطىء فذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم أفشى وأكثر فمن ذلك فتيا أبي السنابل لسبيعة الأسلمية بأن عليها في العدة آخر الأجلين فأنكر صلى الله عليه وسلم ذلك وأخبر أن فتياه باطل وقد أفتى بعض الصحابة وهو صلى الله عليه وسلم حي بأن على الزاني غير المحصن الرجم حتى افتداه والده بمائة شاة ووليدة فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك الصلح وفسخه وذكر صلى الله عليه وسلم السبعين ألفا من أمته يدخلون الجنة وجوههم كالقمر ليلة البدر فقال بعض الصحابة هم قوم ولدوا على الإسلام فخطأ النبي صلى الله عليه وسلم قائل ذلك وقالوا إذ نام النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح ما كفارة ما صنعنا فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قولهم ذلك وأراد طلحة بحضرة عمر بيع الذهب بالفضة نسيئة فأنكر ذلك عمر وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ذلك وباع بلال صاعين من تمر بصاع من تمر فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأمره بفسخ تلك البيعة وأخبره أن هذا عين الربا وباع بعض الصحابة بريرة واشترط الولاء فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولام عليه وقال عمر لأهل هجرة الحبشة نحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم فكذبه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وقال جابر كنا نبيع أمهات الأولاد ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا وأخبر أبو سعيد أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر والنبي صلى الله عليه وسلم حي فذكر الأقط والزبيب وإنما فرض صلى الله عليه وسلم التمر والشعير فقط وأمر سمرة النساء بإعادة الصلاة أيام الحيض وقال قوم من الصحابة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أما أنا فأفيض على رأسي يعنون في غسل الجنابة كذا وكذا مرة فأنكر ذلك النبي صلى الله عليه

وسلم وكان علي يغتسل من المذي والنبي صلى الله عليه وسلم حي فأنكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال أسيد وغيره إذ رجع سيف أبي عامر الأشعري عليه بطل جهاده وقالوا ذلك في عامر بن الأكوع فكذبهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وأفتى عمر المجنب في السفر ألا يصلي شهرا بالتيمم ولكن يترك الصلاة حتى يجد الماء وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يناول القدح أبا بكر وهو عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أن الواجب غير ذلك وهو أن يناوله الأيمن فالأيمن وكان عن يمينه أعرابي وتمعك عمار في التراب كما تتمعك الدابة فأنكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر نداءه إياه إذ أخر صلى الله عليه وسلم العتمة وقال له ما كان لكم أن تنذروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أسامة إذ قتل الرجل بعد أن قال لا إله إلا الله يا رسول الله إنما قالها تعوذا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هلا شققت عن قلبه وأنكر عليه قتله إياه وخطأه في تأويله حتى قال أسامة وددت أني لم أكن أسلمت إلا ذلك اليوم وقال خالد رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فأنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكر فعله ببني جذيمة وتنزه قوم منهم عن أشياء فعلها صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك صلى الله عليه وسلم وغضب منه وتأول عمر أنه أخطأ إذ قبل وهو صائم فخطأه صلى الله عليه وسلم في تأويله ذلك وأخبر أنه لا شيء عليه فيه وتأول الأنصاري تقبيله صلى الله عليه وسلم وهو صائم وإصباحه جنبا وهو صائم أن ذلك خصوص له صلى الله عليه وسلم فخطأه صلى الله عليه وسلم في ذلك وغضب منه وتأول عدي في الخيط الأبيض أنه عقال أبيض والنبي صلى الله عليه وسلم حي وأعظم من هذا كله تأخر أهل الحديبية عن الحلق والنحر والإحلال إذ أمرهم بذلك صلى الله عليه وسلم حتى غضب وشكاهم إلى أم سلمة أم المؤمنين وكل ما ذكرنا محفوظ عندنا بالأسانيد الصحاح الثابتة

وأخبرني أحمد بن عمر ثنا أبو ذر نا زاهر بن أحمد السرخسي أنا أبو محمد بن زنجويه بن محمد النيسابوري أنا محمد بن إسماعيل البخاري نا أبو النعمان نا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال سعيد هو ابن المسيب قضى عمر في الإبهام وفي التي تليها بخمس وعشرين وقال سعيد ووجد بعد ذلك في كتاب آل حزم في الأصابع عشرا عشرا فأخذ بذلك أخبرني محمد بن سعيد نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا الخشني نا بندر نا يحيى القطان عن شعبة عن أبي إسحاق عن مسروق قال سألت ابن عمر عن نقض الوتر فقال ليس أرويه عن أحد إنما هو شيء أقوله برأيي قال أبو محمد فكيف يجوز تقليد قوم يخطئون ويصيبون أم كيف يحل لمسلم يتقي الله تعالى أن يقول في فتيا الصاحب مثل هذا لا يقال بالرأي وكل ما ذكرناه فقد قالوه بآرائهم وأخطؤوا فيه حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا الخشني نا بندار نا شعبة قال سمعت أبا إسحاق يحدث عن رجل من بني سليم قال سمعت ابن عباس يقول في العزل إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه شيئا فهو كما قال وأما أنا فأقول برأيي هو زرعك إن شئت سقيته وإن شئت أعطشته وقالعلي في مسيره إلى صفين هو رأي رأيته ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بشيء وقال عمر الرأي منا هو التكلف وقال معاوية في بيع الذهب بالذهب متفاضلا هذا رأي وقال ابن مسعود في قصة بروع بنت واشق أقول فيها برأيي فإن كان حقا فمن الله وإن كان باطلا فمني والله ورسوله بريئان وقال عمران بن الحصين وذكر متعة الحج قال فيها رجل برأيه ما شاء يعني عمر وقال عبيدةلعلي رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة وقال أبو هريرة في حديث النفقة وزاد

في آخره زيادة فقيل له هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا هذا من كيس أبي هريرة فها هم رضي الله عنهم يعترفون أنهم يقولون برأيهم وأنهم قد يخطئون في ذلك فصح بذلك بطلان قول من ذكرنا وحدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد عن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم نا أبو كريب وإسحاق بن راهويه وإسحاق بن يونس وقال أبو كريب نا أبو معاوية واللفظ له قالا جميعا عن الأعمش عم مسلم وهو أبو الضحى عن مسروق عن عائشة قالت ترخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر استنزه عنه ناس من الناس فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بان الغضب في وجهه ثم قال ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية قال أبو محمد ورواه مسلم أيضا عن زهير بن حرب عن جرير عن الأعمش بسنده فقال بلغ ذلك ناسا من أصحابه حدثنا أحمد بن عمر نا علي بن الحسين بن فهر نا الحسن بن علي بن شعبان وعمر بن محمد بن عراك قالا نا أحمد مروان نا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي نا حرملة عن ابن وهب سئل مالك عمن أخذ بحديثين مختلفين حدثه بهما ثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتراه من ذلك في سعة قال لا والله حتى يصيب الحق وما الحق إلا في واحد قولان مختلفان يكونان صوابا ما الحق وما الصواب إلا في واحد قال أبو محمد وهذا حجة على المالكيين القائلين بتقليد من احتجوا به من الصحابة وقد اختلفوا فصح بكل ما ذكرنا أنه لا يحل اتباع فتيا صاحب ولا تابع ولا أحد

دونهم إلا أن يوجبها نص أو إجماع ويبطل بذلك قول من قال فيما رواه عن الصاحب بخلاف ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا لا يقال بالرأي وصح أنه قد يخطىء المرء منهم فيقول برأيه ما يخالف ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم واحتجوا بمنع عمر من بيع أمهات الأولاد بما روي من سنة وضع الأيدي على الركب في الصلاة ومن قوله في جوابه لعمرو بن العاص إذ قال له وقد احتلم خذ ثوبا غير ثوبك فقال لو فعلتها لصارت سنة قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم في شيء منه أما بيع أمهات الأولاد فقد خالف في ذلك ابن مسعود وعلي وزيد بن ثابت وابن عباس عمر فرأوا بيعهن فما الذي جعل عمر أولى بالتقليد من هؤلاء وإنما منعنا من بيعهن لنص ثابت أوجب ذلك فقد ذكرناه في كتاب الإيصال إلى فهم الخصال وقال أصحابنا إنما منعنا من ذلك لإجماع الأمة على المنع من بيعهن إذا حملن من وسادتهن ثم اختلفوا في بيعهن بعد الوضع فقلنا نحن لا نترك ما اتفقنا عليه إلا بنص أو إجماع آخر طردا لقولنا باستصحاب الحال وأما وضع الأيدي على الركب فقد صح من طريق أبي حميد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم مسندا وضع الأيدي على الركب في الركوع وأما قول عمر لو فعلتها لكانت سنة فليس على ما ظن الجاهل المحتج بذلك في التقليد ولكن معنى ذلك لو فعلتها لاستن بذلك الجهال بعدي فكره عمر أن يفعل شيء يلحقه أحد من الجهال بالسنن كما قال طلحة إذ رأى عليه ثوبا مصبوغا وهو محرم إنكم قوم يقتدى بكم فربما رآك من يقول رأيت على طلحة ثوبا مصبوغا وهو محرم أو كلاما هذا معناه فعلى هذا الوجه قال عمر لو فعلتها لكانت سنة لا على أن يسن في الدين

ما لم ينزل به وحي وقد كانوا رضي الله عنهم يفتون بالفتيا فيبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها فيرجعون عن قولهم إلى الحق الذي بلغهم وهذا لا يحل غيره وقد فعل أبو بكر نحو ذلك في الجدة وبحث عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وفعل ذلك عمر في الاستئذان ثلاثا حتى قال له أبي بن كعب يا عمر لا تكن عذابا على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال عمر سبحان الله إنما سمعت شيئا فأردت أن أتثبت ورجع عن إنكاره لقول أبي موسى ولم يعرف حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند المغيرة بن شعبة وكذلك أمر المجوس وباع معاوية سقاية من ذهب بأكثر من وزنها حتى أنكر ذلك عليه عبادة بن الصامت وبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وأراد عمر قسمة مال الكعبة فقال له أبي إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك فأمسك عمر وكان يرد الحيض حتى يطهرن ثم يطفن بالبيت حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك فرجع عن قوله وكان يرد المفاضلة في دية الأصابع حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم المساواة بينها فرجع عن قوله إلى ذلك وترك قوله وكان لا يرى توريث المرأة في دية زوجها حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك فترك قوله ورجع إلى ما بلغه وكان ينهى عن متعة الحج حتى وقف على أنه صلى الله عليه وسلم أمر بها فترك قوله ورجع إلى ما بلغه وأمر برجم مجنونة زنت حتى أخبره علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كلاما معناه إن المجنون قد رفع عنه القلم فرجع عن رجمها ونهى عن التسمي بأسماء الأنبياء فأخبره طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا محمد فأمسك ولم يتماد على النهي عن ذلك وأراد ترك الرمل في الحج ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فرجع عما أراد من ذلك ومثل هذا كثير

وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أن أصحابه قد يخطئون في فتياهم فكيف يسوغ لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول إنه صلى الله عليه وسلم يأمر باتباعهم فيما قد خطأهم فيه وكيف يأمر بالاقتداء بهم في أقوال قد نهاهم عن القول بها وكيف يوجب اتباع من يخطىء ولا ينسب مثل هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا فاسق أو جاهل لا بد من إلحاق إحدى الصفتين به وفي هذا هدم الديانة وإيجاب اتباع الباطل وتحريم الشيء وتحليله في وقت واحد وهذا خارج عن المعقول وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ومن كذب عليه ولج في النار نعوذ بالله من ذلك وأما قولهم إن الصحابة رضي الله عنهم شهدوا الوحي فهم أعلم به فإنه يلزمهم على هذا أن التابعين شهدوا الصحابة فهم أعلم بهم فيجب تقليد التابعين وهكذا قرنا فقرنا حتى يبلغ الأمن إلينا فيجب تقليدنا وهذه صفة دين النصارى في اتباعهم أساقفتهم وليست صفة ديننا والحمد لله رب العالمين وقد قلنا ونقول إن كل ما احتجوا به مما ذكرنا لو كان حقا لكان عليهم لا لهم لأنه ليس في تقليد الصحابة ما يوجب تقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي فمن العجب العجيب أنهم يقلدون مالكا وأبا حنيفة والشافعي فإذا أنكر ذلك عليهم احتجوا بأشياء يرومون بها إيجاب تقليد الصحابة وهم يخالفون الصحابة خلافا عظيما فهل يكون أعجب من هذا ونعوذ بالله من الخذلان وليس من هؤلاء الفقهاء المذكورين أحد إلا وهو يخالف كل واحد من الصحابة في مئين من القضايا وفي عشرات منها فقد بطل ما نصروا وتركوا ما حققوا وقد ذكرنا في باب الإجماع إبطال قول من قال باتباع الصاحب الذي لا مخالف له يعرف من الصحابة وبينا هنالك أنهم الناس لذلك وأنهم قد خالفوا أحكاما كثيرة لعمر بحضرة المهاجرين والأنصار لم يرو

عن واحد منهم إنكارا لفعله ذلك كإضعافه الغرم على حاطب في ناقة المزني وغير ذلك وهذا حكم مشتهر منتشر لم يعارضه فيه أحد من الصحابة ولا روي عن أحد منهم إنكارا لذلك فقد تركوه هم يشهدون أن حكم الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة هو الحق فقد أقروا على أنفسهم أنهم تركوا الحق وأنهم أصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ويقال لهم أيضا كيف كان حال حكم الصحابي الواحد الذي لا يعرف له مخالف قبل أن يشتهر وينتشر أكان لازما أن يؤخذ به أو كان غير لازم فإن قال كان غير لازم أوجب أن ذلك الحكم في الدين وجب بعد أن كان غير واجب وهذا كفر وتكذيب لله عز وجل في قوله {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وإن قال كان لازما فقد أوجب لزومه قبل الانتشار وسقط شرطهم الفاسد في الانتشار وهذا القول الفاسد يوجب أن دين الله مترقب فإن انتشر لزم وإن لم ينتشر لم يلزم وهذا كفر بارد وشرك وسخف وبالله تعالى التوفيق وهم يخالفون عمر وزيد بن ثابت في قضاء عمر في الضلع بحمل وفي الترقوة بحمل وفي قضاء زيد في العين القائمة بمائة دينار ولا يعرف له من الصحابة مخالف حتى تحكم بعضهم فلم يستحي من الكذب فقال إنما كان ذلك منهما على وجه الحكومة قال أبو محمد وهذه دعوى فاسدة لا دليل لهم على صحتها أصلا ولا يعجز عن مثلها أحد ويقال لهم مثل ذلك في تقويم الدية بألف دينار وبعشرة آلاف درهم أو باثني عشر ألف درهم ولا فرق وخالفوا ابن عمر وأبا برزة في قولهما إن كل متبايعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا بأبدانهما عن مكان البيع ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة وخالف مالك ابن عمر وابن عباس في قولهما إن استطاعة الحج ليست إلا الزاد والراحلة

وخالفوا جابر بن عبد الله في نهيه عن بيع المصاحف ولا يعرف لابن عمر ولا لابن عباس ولا لجابر في هاتين المسألتين مخالف من الصحابة وخالف مالك والشافعي أم سلمة وعثمان بن أبي العاص في قولهما إن أقصى أمد النفاس أربعون يوما ولا يعرف لهما في ذلك مخالف من الصحابة وخالف مالك ابن مسعود وأبا الدرداء والزبير وقدامة بن مظعون في إباحة نكاح المريض وجواز ميراثه للمرأة ولا يعلم لهم من الصحابة مخالف في ذلك وخالفوا أبا بكر وعمر وخالد بن الوليد وسويد بن مقرن في إقادتهم من اللطمة ولا يعلم لهم في ذلك مخالف من الصحابة قال أبو محمد وقد أبطلنا في باب الإجماع قول من قال باتباع الأكثر وهذه نصوص يوجب تكرارنا إياها أنها تقليد صحيح فتدخل في باب التقليد وادعوا هم أنها إجماع فوجب التنبيه عليها أيضا في باب الإجماع لذلك وقد بينا هنالك وفي باب الأخبار من كتابنا هذا بطلان قول من قال محال أن يغيب حكم النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكثر ويعلمه الأقل وذكر حديث أبي هريرة إن أخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول لله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث وإن كان منقولا من طريق الآحاد فإن البرهان يضطر إلى تصديقه لأنه لا شك عند كل ذي عقل ومعرفة بالأخبار أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا في ضنك شديد من العيش وكانوا مكدودين في تجارة يضربون لها آفاق بلاد العرب على خشونتها وقلة أموالها وفي نخل يعاونونه بالنص والكد الشديد فإذا وجد أحدهم فرجة حصر وسمع فبطل قول من قال إنه لا يجوز أن يغيب

حكمه عليه السلام عن الأكثر ويعلمه الأقل وصح ضد ذلك لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وأيضا فنقول لمن قال باتباع الأكثر إنه يلزمك أن تعدهم كلهم ثم تعرف من قال بأحد القولين وتعرف عدد من قال بالقول الثاني وهذا أمر لم يفعلوه قط في شيء من مسائلهم وقد قال تعالى {يأيها لذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند لله أن تقولوا ما لا تفعلون} ونقول لهم أيضا هلا قلتم بالأكثر عددا في الشهود إذا اختلفوا على أن عليا يقول بذلك فأين تقليدكم الإمام الصحابي وأين قولكم باتباع الأكثر عددا فإن قالوا النص منعنا من ذلك وتركوا قولهم إن الصحابي أعلم منا ولا شك أن عليا رضي الله عنه قد عرف من النص الوارد في الشهادات كالذي عرف مالك وأبو حنيفة والشافعي مع أن النص لم يرد في عدد الشهود إلا في الزنى والطلاق والديون فقط وقد رجع الصحابة من قول إلى قول وخالف كل إمام منهم الإمام الذي كان قبله فقد كانت الضوال أيام عمر مهملة لا تمس ثم رأى عثمان بيعها وقد ذكرنا ما خالف فيه عمر أبا بكر قبل هذا وقد نهى عثمان عن القران فلبى علي بهما معا قاصدا معلنا بخلافه فلما قال له في ذلك قال له علي ما كنت لأترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد وحدثني أحمد بن عمر بن عمر نا أبو ذر نا زاهر بن أحمد أنا زنجويه بن محمد نا محمد بن إسماعيل البخاري نا محمد بن يوسف نا سفيان عن أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال قلت لأبي بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان أبا المنذر ما المخرج من هذا الأمر قال كتاب الله تعالى ما استبان لك فاعمل به وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه

قال أبو محمد فليقلدوا عليا وأبيا في هذا فإنهما على الحق المبين فيه الذي لا يحل خلافه أصلا وهؤلاء عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود يرون رد فضلات المواريث على ذوي الأرحام وزيد بن ثابت وحده يرى رد الفضل على بيت المال دون ذوي الأرحام وإن كان خصمنا مالكيا أو شافعيا فقد ترك قول الأئمة من الصحابة وقول الجمهور منهم وأخذ بقول زيد وحده وكذلك فعلوا في الأقراء فقالوا هي الأطهار وجمهور الصحابة على أنه الحيض والأقل على أنها الأطهار فإن قالوا قد جاء النص إن زيدا أفرضكم قيل هذا الحديث لا يصح

ولو صح لكان عليكم لأن في ذلك الحديث ومعاذ أفقهكم فقلدوا معاذا في الفتيا وفي قتل المرتد دون أن يستتاب وفي توريث المؤمن من الكافر وفي أشياء كثيرة خالفتموه فيها واحتج بعضهم بقوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بلمعروف وتنهون عن لمنكر وتؤمنون بلله ولو آمن أهل لكتاب لكان خيرا لهم منهم لمؤمنون وأكثرهم لفاسقون} وبقوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على لناس ويكون لرسول عليكم شهيدا وما جعلنا لقبلة لتي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع لرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على لذين هدى لله وما كان لله ليضيع إيمانكم إن لله بلناس لرءوف رحيم} قال أبو محمد وهذا لا يوجب التقليد لأنه قد بينا أنهم لم يتفقوا إلا على ما لا خلاف فيه وعلى الأخذ بسنن النبي صلى الله عليه وسلم وإنكار رأيهم إذا كان فيه خلاف للسنن وعلى ما قد خالفه هؤلاء الحاضرون كالمساقات إلى غير أجل لكن نقركم ما أقركم الله تعالى ونخرجكم إذا شئنا وغير ذلك مما قد كتبناه في موضعه فقط وقد وجدنا أبا أيوب ترك صلاة الركعتين بعد العصر طول مدة عمر فلما مات رجع يصليهما فسأله عن ذلك سائل فقال كان عمر يضرب الناس عليهما وقال ابن عباس قولا فقيل له أين كنت عن هذا أيام عمر فقال هبته حدثنا بذلك يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا ابن دحيم ثنا إبراهيم بن حماد ثنا إسماعيل بن إسحاق ثنا علي بن عبد الله بن المديني ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني محمد بن مسلم بن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان عند ابن عباس فذكر عول الفرائض فأنكره ابن عباس فقال له زفر بن أوس ما منعك يا ابن عباس أن تشير بهذا الرأي على عمر قال هبته وقد روينا عن ابن عباس من طرق صحيحة أنه هم أن يسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي سنة كاملة لا يقدم على أن يسأله عن ذلك هيبة له وروينا عنه أنه قال كنت أضرب الناس مع عمر على الركعتين بعد العصر

ثم روينا عنه القول بصلاتهما بعد عمر كما حدثنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا بندار ثنا غندر ثنا شعبة عن أبي حمزة قال قال لي ابن عباس لقد رأيت عمر يضرب الناس على الصلاة بعد العصر وقال ابن عباس صل إن شئت ما بينك وبين أن تغيب الشمس وقد ذكر أبو موسى حديث الاستئذان فتهدده عمر بضرب ظهره وبطنه فصح بهذا أن سكوتهم قد يكون تقبة للإسلام أو لئلا يقع تنازع واختلاف وقد يكون تثبتا أو لما شاء الله عز وجل وليس قول أحد لا سكوته حجة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قوله وسكوته حجة قائمة على ما أعلم واحتج بعضهم بأن حكم الإمام لا ينقض لأن أبا بكر ساوى بين الناس وأن عمر فاضل بينهم فلم يرد أحد ما أعطاه أبو بكر قال أبو محمد وهذا خطأ لأن ما ذكروا من مساواة أبي بكر ومفاضلة عمر ليس حكما وإنما هي قسمة مال موكولة إلى اجتهاد الإمام مباح له أن يفاضل ومباح له أن يسوي وليس هذا شريعة تحليل ولا تحريم ولا إيجاب وقد دون عمر ولم يدون أبو بكر وبالجملة فقد يخطىء الإمام غيره واتباع من يجوز أن يخطىء هو الحكم بالظن وقد نهى الله تعالى عن اتباع الظن وأما وجوب طاعة الأئمة فذلك حق كل إمام عدل كان أو يكون إلى يوم القيامة وإنما ذلك فيما وافق طاعة الله عز وجل وكان حقا وليس ذلك في أن يشرعوا لنا قولا لم يأتنا به نص ولا إجماع وبالجملة فكل ما تكلموا به في هذا المكان وموهوا به عن المسلمين وسودوا كتبهم بما سيطول الندم عليه يوم القيامة فهم أترك الناس وأشدهم خلافا للأمة الذين أوجبوا تقليدهم

فيه وقد بينا ذلك في غير مكان من كتبنا وبالله تعالى التوفيق واحتج بعضهم بما حدثنا المهلب ثنا ابن مناس ثنا ابن مسرور ثنا يوسف بن عبد الأعلى ثنا ابن وهب أخبرني من سمع الأوزاعي يقول حدثني عبدة بن أبي لبابة أن ابن مسعود قال ألا لا يقلدن رجل رجلا دينه إن آمن آمن وإن كفر كفر فإن كان مقلدا لا محالة فليقلد الميت ويترك الحي فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة قال أبو محمد وهذا باطل لأن ابن وهب لم يسم من أخبره ولا لقي عبدة بن أبي لبابة بن مسعود مع أنه كلام فاسد لأن الميت أيضا لا تؤمن عليه الفتنة إذا أفتي بما أفتي ولا فرق بينه وبين الحي في هذا هذا على أن بعض من يخالفنا في التقليد عكس هذا الأمر برأيه وهو المعروف بالباقلاني قال من قلد فلا يقلد إلا الحي ولا يجوز تقليد الميت فكان هذا طريقا من الضلالة جدا لأنه دعوى فاسدة بلا برهان وقول مع سخفه ما نعلم قاله قبله أحد أخبرني أحمد بن عمر العذري ثنا أحمد بن محمد بن عيسى البلوي غندر ثنا خلف بن قاسم ثنا ابن الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النضري الدمشقي ثنا أبو مسهر ثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله عن السائب بن زيد بن أخت نمر أنه سمع عمر بن الخطاب يقول إن حديثكم شر الحديث إن كلامكم شر الكلام فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل قال فلان وقال فلان ويترك

كتاب الله من كان منكم قائما فليقم بكتاب الله وإلا فليجلس فهذا قول عمر لأفضل قرن على ظهر الأرض فكيف لو أدرك ما نحن فيه من ترك القرآن وكلام محمد صلى الله عليه وسلم والإقبال على ما قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وحسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون واحتج بعضهم في ذلك بقبول قول المقومين لأثمان المتلفات والشهادة على أمثالها وهذا من باب الشهادة والخبر لا من باب التقليد لأن الله عز وجل قد أمرنا بالانتصاف من المعتدي بمثل ما اعتدى فيه فلم نأخذ عن الشاهد بأن هذا الشيء مماثل لقيمة كذا شريعة حرمها الله ولا أوجبها ولكنا علمناه عالما بتلك السلعة أو تلك الجرحة فقبلنا شهادته في ذلك على الظالم وليس هذا من باب قال مالك وأبو حنيفة هذا حرام وهذا واجب وهذا مباح فيما لا نص فيه ولا إجماع وقد أمرنا بالشهادة على الحقوق وبقبولها وبالحكم بها وكل ما أمرنا به فليس تقليدا فينبغي لمن اتقى الله عز وجل ألا يلبس على المؤمنين فليس في كتمان العلم وتحريف الكلم عن مواضعه أشد ولا أضر من أن يضل المرء جليسه الذي أحسن الظن به وقعد إليه ليعلمه دين الله عز وجل يسمي له باسم التقليد المحرم شريعة حق ثم يدس له معها التقليد المحرم فيكون كمن دس السم في العسل والبنج في الكعك فيتحمل إثمه وإثم من اتبعه إلى يوم القيامة وقد قال بعض أهل الجهل لو كلفنا النظر لضاعت أمورنا قال أبو محمد وهذا كلام فاسد من وجوه أحدها أنه يقال له بل لو كلفنا التقليد لضاعت أمورنا لأننا لم نكن ندري من نقلد من الفقهاء المفتين وهم دون الصحابة أزيد من مائتي رجل معروفة أسماؤهم وفي الحقيقة لا يدري عددهم إلا الله تعالى إذ بالضرورة ندري أنه قد كان في كل قرية كبيرة للمسلمين مفت وفي كل مدينة من مدائنهم عدة من المفتين والمسلمون قد ملؤوا الأرض من السند إلى آخر الأندلس وسواحل البربر ومن سواحل اليمن إلى ثغور أذربيجان وإرمينية فما بين ذلك والحمد لله رب العالمين

وأيضا فإن النظر به صلاح الأمور لا ضياعها وأيضا فإن كل امرىء منا مكلف أن يعرف ما يخصه من أمر دينه على ما بينا قبل مما يجب على كل أحد من معرفة أحكام صلاته وصيامه وما يلزمه وما يحرم عليه وما هو مباح له وهذا هو النظر نفسه ليس النظر شيئا غير تعريف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذه اللوازم لنا ولو كلفنا الله تعالى إضاعة أمورنا للزمنا ذلك كما لزم بني إسرائيل قتل أنفسهم إذا أمروا بذلك وهذا أعظم من إضاعة الأمور وقد أمرنا بهرق الخمور وطرح الجيف ورمي السمن الذائب يموت فيه الفأر وحرم علينا الربا وفي هذا كله إضاعة أموال عظيمة لها قيم كثيرة لو أبيحت لكانت من أنفس المكاسب وأوفرها فكيف وليس في النظر إضاعة أمر بل فيه حفظ كل شيء وتوفية كل الأمور حقها ولله الحمد وقد صح عن الصحابة أنهم قالوا بآرائهم صح ذلك عن أبي بكر وابن مسعود وعمر وعلي وغيرهم وكلهم يقول أقول في هذا برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني وزاد بعضهم ومن الشيطان والله ورسوله بريئان وفعل ذلك أيضا من بعدهم فإذا صح ذلك صح أنهم تبرؤوا من ذلك الرأي ولم يروه على الناس دينا فحرام على كل من بعدهم أن يأخذ من فتاويهم بشيء يتدين به إلا أن يصح به نص عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا أحمد بن خالد نا أبو علي الحسن بن أحمد قال حدثني محمد بن عبيد بن حساب نا حماد بن زيد عن المثنى بن سعيد رده إلى أبي العالية قال قال العباس ويل للأتباع من عثرات العالم قيل له كيف ذلك قال يقول العالم من قبل رأيه ثم يبلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيأخذ به وتمضي الأتباع بما سمعت قال حماد بن زيد حدثنا النعمان بن راشد قال كان الزهري ربما أملى علي حتى إذا جاء الرأي ووقفته عليه فأكتبه فيقول اكتب إنه رأي ابن شهاب

وإنه لعلك أن يبلغك الشيء فيقول ما قاله ابن شهاب إلا بأثر فليعلم أنه رأيي قال أبو محمد لم يدعا رضي الله عنهما من البيان شيئا إلا أتيا به فأعلمك ابن عباس أن كاتب رأي العالم والآخذ به له الويل وأن العالم يقول برأيه وأنه يلزمه ترك ذلك الرأي إذا سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه وأعلمك الزهري أنه يقول برأيه وينهاك عن أن تقول فيما أتاك عنه إنه لم يقله إلا بأثر وهكذا يفعل هؤلاء الجهال فإنهم يقولون لم يقل هذا مالك وفلان وفلان إلا بعلم كان عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ويحكمون بالظن ويتركون اليقين نعوذ بالله من الخذلان واحتج بعضهم في إثبات التقليد بغريبة جروا فيها على عادتهم في الاحتجاج بكل ما جرى على أفواههم وذلك الحديث الذي فيه إن ابني كان عسيفا على هذا قالوا فقد كان الناس يفتون ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي قال أبو محمد وهذا أعظم حجة عليهم في إبطال التقليد لأن المفتين اختلفوا في تلك المسألة ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي فأفتى بعضهم على الزاني غير المحصن بالرجم وأفتى بعضهم عليه بجلد مائة وتغريب عام فكان هذا التنازع لما وقع قد وجب فيه الرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فرد الأمر إليه فحكم بالحق وأبطل الباطل وهكذا الأمر الآن قد اختلف المفتون حتى الآن في تلك المسألة بعينها فقال أبو حنيفة عليه الجلد ولا تغريب عليه حرا كان أو عبدا وقال مالك عليه الجلد والتغريب إلا أن يكون عبدا وقلنا نحن وأصحاب الشافعي عليه الجلد والتغريب على العموم عبدا كان أو غير عبد فوجب أن يرد هذا التنازع الذي بيننا إلى القرآن والسنة فوجدنا نص السنة يشهد لقولنا فوجب الانقياد له فهذا الحديث يبطل التقليد جملة ونحن لم ننكر فتيا العلماء للمستفتين وإنما أنكرنا أن يؤخذ

بها برهان يعضدها ودون رد لها إلى نص القرآن والسنة لأن ذلك يوجب الأخذ بالخطأ وإذا كان في عصره صلى الله عليه وسلم من يفتي بالباطل فهم من بعد موته صلى الله عليه وسلم أكثر وأفشى فوجب بذلك ضرورة أن نتحفظ من فتيا كل مفت ما لم تستند فتياه إلى القرآن والسنة والإجماع واحتجوا أيضا فقالوا إن الصحابة رضي الله عنهم شهدوا أسباب الأوامر منه صلى الله عليه وسلم وما خرج منها على رضا وما خرج منها على غضب فوجب اتباعهم في فتاويهم لذلك قال أبو محمد فيقال لهم وبالله التوفيق إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث مبينا على كل من يأتي إلى يوم القيامة لا على أصحابه وحدهم فكل سبب من غضب أو رضى يوجب حكما فقد نقلوه إلينا ولزمهم أن يبلغوه فرضا بقوله صلى الله عليه وسلم ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع فقد نقلوا كل ما شهدوه من ذلك إذا لم يكونوا في سعة من كتمانه وقد أعاذهم الله من ذلك ولو كتموا شيئا مما يوجب حكما في الشريعة مما سمعوا أو مما شاهدوا لاستحقوا أقبح الصفات وقد أعاذهم الله من ذلك ونزههم عنه فلم يقتصروا رضي الله عنهم على فتاويهم دون تبليغ منهم لما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم وشاهدوه منه كما نقلوا إلينا غضبه على الأنصاري الذي أراد أن يقول بالخصوص في قبلة الصائم وغضبه على معاذ في تطويله الصلاة إذا كان إماما وغضبه على من تنزه عما فعل صلى الله عليه وسلم وغضبه على اليهود إذ قال والذي اصطفى موسى على البشر وإعراضه عن عمار إذ تخلق وعن عائشة وفاطمة إذ علقتا السترين المزينين وسروره بقول مجزز المدلجي في أسامة بن زيد وسروره باجتماع الصدقة بين يديه إذ أمر بالصدقة إذا أتاه القوم المجتابون للثمار وإشاحته بوجهه المكرم صلى الله عليه وسلم

وأفضل التحيات إذ ذكر النار أورده مسلم في كتاب الزكاة وحياءه صلى الله عليه وسلم من الأنصارية المستفتية في غسل المحيض ووصفه الجبة التي على البخيل إذا أراد أن يتصدق وإشارته على كعب بن مالك بيده في إسقاط النصف من دينه على ابن أبي حدرد وتعجبه بنظره وهيئة وجهه من العباس إذ احتمل المال الكثير دون أن يكون منه صلى الله عليه وسلم في ذلك كلام وضربه صلى الله عليه وسلم بعود في يده بين الماء والطين في حديث أبي موسى ومثل هذا كثير جدا فلم يكن له صلى الله عليه وسلم هيئة ولا حال يوجب حكما من كراهة أو نهي أو إباحة أو ندب أو أمر إلا وقد نقلت إلينا لأن كل ذلك مما بين به صلى الله عليه وسلم مراد ربه تعالى ولو كتموا ذلك عنا لما بلغوا كما لزمهم ولو اقتصروا على تبليغ بعض ذلك دون بعض لدخلوا في جملة من يكتم العلم ولسقطت عدالتهم بذلك وقد نزههم الله تعالى عن هذا وحفظ دينه وقضى بتبليغه إلينا جيلا بعد جيل إلى أن يأتي بعض آيات ربك {هل ينظرون إلا أن تأتيهم لملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل نتظروا إنا منتظرون} وقد علموا رضي الله عنهم أن فتاويهم لا تلزمنا وإنما يلزمنا قبول ما نقلوا إلينا عن نبينا صلى الله عليه وسلم وقد خالف بعض التابعين الصحابة بحضرتهم فما أنكر الصحابة عليهم ذلك كما أنكروا عليهم مخالفة ما رووه كفعل ابن عمر في ابنه إذ روى حديث الخذف وحديث النهي عن منع النساء إلى المساجد

فقال ابنه لا تفعل ذلك فأنكر ابن عمر ذلك إنكارا شديدا وكان لا ينكر على من خالفه في فتياه وكذلك سائر الصحابة رضي الله عنهم كإنكار ابن عباس على عروة وغير معارضة حديث النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر وعمر وكإنكار عمرأن ابن الحصين إذ ذكر حديث الحياء على من عارضه بما كتب في الحكمة وكقول أبي هريرة إذا حدثتك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال في حديث الوضء مما مست النار ووجدنا ابن عباس لم ينكر على عكرمة مخالفته له في الذبيح ولم ينكر أبو هريرة على من خالفه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في إفطار من أصبح جنبا وجميعهم رضي الله عنهم على هذا السبيل لا ينكر على من يخالفه في فتياه وينكر على من خالف روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أشد الإنكار ولكن أصحابنا يغفر الله لهم ويسددهم أضربوا على الواجب عليهم من تدبر أحكام القرآن ورواية أخبار النبي صلى الله عليه وسلم واختلاف العلماء ومعرفة مراتب الاستدلال المفرق بين الحق والباطل وأقبلوا على ظلمات بعضها فوق بعض من قراءة طروس معكمة مملوءة من قلت أرأيت فقنعوا

بجوابات لا دلائل عليها وأفنوا في ذلك أعمارهم فصفرت أيديهم من معرفة الحقائق وظلموا من اغتر بهم والأقل منهم شغلوا أنفسهم في أنواع القياس وتخصيص العلل واستخراج علل لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله ولا يقوم على صحتها برهان فقطعوا أيامهم بالترهات ولو اعتنوا بما ألزمهم الله تعالى الاعتناء به من تدبر القرآن وتتبع سنن النبي صلى الله عليه وسلم لاستناروا واهتدوا ولاستحقوا بذلك الفوز والسبق وما توفيقنا إلا بالله تعالى وقال بعض من قوي جهله وضعف عقله ورق دينه إذا اختلف العالمان وتعلق أحدهما بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أو آية وأتى الآخر بقول يخالف ذلك الحديث وتلك الآية فواجب اتباع من خالف الحديث لأننا مأمورون بتوقيرهم ونحن عالمون أن هذا العالم لو تعمد خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان كافرا أو فاسقا وفي براءته من ذلك ما يوجب أنه كان عنده علم يوجب ترك ذلك الحديث ورفع حكم تلك الآية لم يكن عند القائل بهما وبهذا يوصل إلى توقير جميعهم قال أبو محمد وهذا القول في غاية الفساد من وجوه أحدهما أن قائل هذا من أي المذاهب كان أترك الناس لهذا الأصل ويلزمه أن يبيح بيع الخمر تقليدا لسمرة وألا يبيح التيمم للجنب في السفر أصلا تقليدا لعمر وأن يبيح بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها تقليدا له وأن يسقط الكفارة عن الواطىء في نهار رمضان تقليدا لإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير وأن يتعمد بالجملة كل قولة خالف صاحبها الحديث والقرآن فيأخذ بها وهذا ما لا يفعله مسلم وفيه ترك لمذاهب في الأكثر ومنها أنه لو صح ما ذكر هذا الجاهل لوجب تفسيق ذلك العالم ضرورة ولاستحق لعنة الله عز وجل لأنه كان يكون كاتما لعلم عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن فعل هذا فقد استحق اللعنة بقول الله تعالى {إن

الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون} وأيضا فلو كان ما ذكر هذا الجاهل لكان ذلك النص الذي توهمه عند ذلك العالم المخالف للحديث قد ضاع ولم ينقل وهذا باطل لأن كلامه صلى الله عليه وسلم كله وحي والوحي ذكر والذكر محفوظ قال الله تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} وأيضا فيقال لهذا الجاهل ولعل هذا العالم لم يبلغه هذا الحديث أو بلغه فنسيه جملة أو لم ينسه لكنه لم يخطر على باله إذا خالفه كما نسي عمر أن بين يديه محمد بن مسلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا أيوب الأنصاري صاحب رحل النبي صلى الله عليه وسلم وأبا موسى الأشعري عامله صلى الله عليه وسلم على بعض اليمن وهذان لا يعرفان إلا بكناهما حتى إن أكثر الناس لا يعرف اسمهما البتة فنهى عن التسمي بأسماء الأنبياء عليهم السلام فإذا جاز كما ترى أن لا يمر بباله شيء وهو بين يديه وفي حفظه حتى ينهى عنه فهو فيما يمكن مغيبة عنه أمكن وأحرى وكما نسي عمر أيضا قوله تعالى {إنك ميت وإنهم ميتون} حين موت النبي صلى الله عليه وسلم فقال والله ما مات ولا يموت حتى يسوسنا كلنا حتى تليت عليه هذه الآية فخر مغشيا عليه ثم قام وقال والله كأني ما سمعتها قط قبل وقتي هذا وكما نهى عن المغالاة في صدقات النساء حتى ذكرته المرأة بقول الله تعالى {وإن أردتم ستبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا} فاعترف بالحق ورجع عن قوله وقد كان حافظا لهذه الآية ولكنه لم يذكرها في ذلك الوقت وكما نسي عثمان رضي الله عنه وهو أحفظ الناس للقرآن قوله تعالى {ووصينا لإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك لتي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من لمسلمين} أمر برجم التي ولدت لستة أشهر وهو حافظ للآية المذكورة

حتى ذكر بها فذكرها وأمر ألا ترجم أو لعل ذلك العالم كان ذاكرا لتلك الآية وذلك الحديث ولكنه تأول تأويلا ما من خصوص أو نسخ بما لا يصح وجهه كما فعلوا رضي الله عنهم في نهيه صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية فقال بعضهم إنما نهى عنها لأنها كانت حمولة الناس وقال بعضهم لأنها لم تخمس وقال بعضهم لأنها كانت تأكل القذر وقال بعضهم بل حرمت البتة ومثل هذا كثير فهذا كله يخرج تارك الحديث من العلماء السالفين عن الفسق وعن المجاهرة بخلاف نص القرآن والحديث ومعصية النبي صلى الله عليه وسلم الموجبة سخط الله تعالى حدثنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا بندار ثنا غندار نا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام ضال يضل الناس بغير ما أنزل الله ومصور ورجل قتل نبيا أو قتله نبي قال أبو محمد فنعيذ الله من سلف من القصد إلى هذه المرتبة وإنما البلية على من تدين بما لم يؤده إليه اجتهاده مما هو عالم مقر أنه لم ينزله الله تعالى وكل من سلف من الأئمة رضي الله عنهم إنما أداهم إلى ما أفتوا به اجتهادهم فالمخطىء منهم معذور مأجور أجرا واحدا هذا لا يظن بهم مسلم سواه وإنما أن يكون عندهم علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجله

ترك الحديث المنقول ولم يبلغوه ولا نقلوه فهم مبرؤون من ذلك ومنزهون عنه لأن فاعل ذلك ملعون وأما الخطأ فليس ذلك منفيا عنهم بل هو ثابت عليهم وعلى كل بشر فصح بما ذكرنا أن التأويل الذي ذكره الجاهل الذي وصفنا قوله ورام به إثبات التقليد هو الذي يوجب لو صح على العلماء الفسق ضرورة ويوجب لهم اللعنة وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك وأما نحن فننزههم عن ذلك ولكنا نقول إنهم يصيبون ويخطئون وكان كل ما قالوه مردود إلى القرآن والسنة ومعروض عليهما فلأيهما شهد القرآن والسنة فهو الصحيح وغيره متروك معذور صاحبه الذي قاله ومأجور باجتهاده وأما مقلده ومتبعه فملوم آثم عاص لله عز وجل وبالله تعالى التوفيق وذكر بعضهم أن إبراهيم النخعي قال لو رأيتهم يتوضؤون إلى الكوعين ما تجاوزتهما وأنا أقرؤها {لمرافق ومسحوا} قال أبو محمد هذا كذب على إبراهيم ولو صح ما انتفعوا به ولكان ذلك خطأ من إبراهيم عظيما فما إبراهيم معصوم من الخطأ فكيف ولا يصح عنه لأن راويه عنه أبو حمزة ميمون وهو ساقط جدا غير ثقة وإنما الصحيح عنه خلاف هذا من الطرق الصحاح كما حدثنا أحمد بن عمر بن أنس ثنا أبو ذر الهروي ثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ثنا إبراهيم بن خزيم نا عبد بن حميد الكسي ثنا محمد بن بشر العبدي عن الحسن بن

صالح عن أبي الصباح عن إبراهيم النخعي قال لا طاعة مفترضة إلا لنبي وكما حدثنا حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم الأصلي عن أبي زيد المروزي عن محمد بن يوسف الفربري عن البخاري محمد بن إسماعيل ثنا محمد بن يوسف ثنا سفيان هو الثوري عن منصور عن سعيد بن جبير قال كان ابن عمر يدهن بالزيت قال فذكرته لإبراهيم النخعي فقال ما تصنع بقوله حدثني الأسود عن عائشة قالت كأني أنظر وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم قال أبو محمد فهذا الذي يليق بإبراهيم رحمه الله وهو ألا يلتفت إلى قول ابن عمر إذا وجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فكيف يظن من له مسكة عقل أن إبراهيم يترك قول ابن عمر لشيء رواه عن الأسود عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويترك نص القرآن لقوم لم يسمعهم ما يظن هذا بإبراهيم وينسبه إليه وقاح سخيف جاهل وبالله تعالى نعوذ من الخذلان

وأتى بعضهم بعظيمة فقال إن عمر بن عبد العزيز قال يحدث للناس أحكام بمقدار ما أحدثوا من الفجور قال أبو محمد هذا من توليد من لا دين له ولو قال عمر ذلك لكان مرتدا عن الإسلام وقد أعاذه الله تعالى من ذلك وبرأه منه فإنه لا يجيز تبديل أحكام الدين إلا كافر والصحيح عن عمر بن عبد العزيز ما حدثناه حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم عن أبي أحمد الجرجاني عن الفربري عن البخاري ثنا العلاء بن عبد الجبار ثنا عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا يقبل إلا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فهذا عمر بن عبد العزيز لا يأمر ولا يجيز إلا حديث النبي

صلى الله عليه وسلم وحده وروي أيضا أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه عدي بن عدي الكندي عامله على الموصل يقول إن وجدتها أكثر البلاد سرقا ونقبا أفآخذهم بالظنة أم أحكم بمر الحق فكتب إليه عمر بن عبد العزيز إن أخذتم بمر الحق فمن لم يصلحه الحق فلا أصلحه الله قال فما خرجت منها إلا وهي أصلح البلاد قال أبو محمد والذي اخترع هذه الكذبة على عمر بن عبد العزيز لا يخلو من أحد وجهين إما إن يكون كافرا أو زنديقا ينصب للإسلام الحبائل أو يكون جاهلا لم يدرك مقدار ما أخرج من رأسه لأن إحداث الأحكام لا يخلو من أحد أربعة أوجه إما إسقاط فرض لازم كإسقاط بعض الصلاة أو بعض الصيام أو بعض الزكاة أو بعض الحج أو بعد حد الزنى أو حد القذف أو إسقاط جميع ذلك وإما زيادة في شيء منها أو إحداث فرض جديد وإما إحلال محرم كتحليل لحم الخنزير والخمر والميتة وإما تحريم محلل كتحريم لحم الكبش وما أشبه ذلك وأي هذه الوجوه كان فالقائل به مشرك لاحق باليهود والنصارى والفرض على كل مسلم قتل من أجاز شيئا من هذا دون استتابة ولا قبول توبة إن تاب واستصفاء ماله لبيت مال المسلمين لأنه مبدل لدينه وقد قال صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه ومن الله تعالى نعوذ من غضبه لباطل أدت إلى مثل هذه المهالك واحتجوا بكتابة أبي بكر المصحف بعد أن لم يكن مجموعا وذكروا حديثا عن زيد بن ثابت أنه قال افتقدت آية من سورة براءة هي {لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم} فلم أجدها إلا عند

رجل واحد وذكروا في ذلك تكاذيب وخرافات أنهم كانوا لا يثبتون الآية إلا حتى يشهد عليها رجلان وهذا كله كذب بحت من توليد الزنادقة وأما جمع أبي بكر رضي الله عنه المصحف فنعم ووجه ذلك بين وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه القرآن مفرقا فيأمر بضم الآية النازلة إلى آية كذا من سورة كذا فلم يكن يمكن أن يكتب القرآن في مصحف جامع لأجل ذلك فلما مات صلى الله عليه وسلم واستقر الوحي وعلم أنه لا مزيد فيه ولا تبديل كتبه أبو بكر حينئذ وأثبته وأما افتقار زيد بن ثابت الآية فليس ذلك على ما ظنه أهل الجهل وإنما معناه أنه لم يجدها مكتوبة إلا عند ذلك الرجل وهذا بين في حديث حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله عن أبي إسحاق البلخي عن الفربري عن البخاري حدثنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري قال أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت قال لما نسخنا المصحف في المصاحف

فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين {من لمؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا لله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} قال أبو محمد بيان ما قلناه منصوص في هذا الحديث نفسه وذلك أن زيدا حكى أنه سمع هذه الآية من النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانت عند زيد أيضا وقد يدخل هذا الحديث علة وهي أن خارجة لم يحك أنه سمعه من أبيه وأيضا فقد حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال ثنا محمد بن معاوية المرواني ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن معمر ثنا أبو داود هو الطيالسي حدثنا أبو عوانة عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سارها قبل وفاته فقال لها إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة وإنه عارضني به العام مرتين ولا أرى الأجل إلا قد اقترب وذكر باقي الحديث فهذا نص جلي على أن القرآن إنما هو جمعه وألفه الله تعالى وأقرأه جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في عام موته مرتين كما هو وإنه لم يجمعه أحد دون الله تعالى فهو كما هو الآن على ذلك الجمع الأول

وأيضا فقد حدثنا أحمد بن محمد الجسوري ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال أي القراءتين تعدون أول قلنا قراءة عبد الله قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض عليه القرآن في كل رمضان مرة إلا العام الذي قبض فيه فإنه عرض عليه مرتين فحضره عبد الله فشهد ما نسخ منه وما بدل قال أبو محمد أبو ظبيان هو حصين بن جندب الجنبي وقد ذكرنا من جمع القرآن على عهده صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هذه الآية في جملته عندهم وليس عدم زيد وجودها إلا عند خزيمة بموجب أنها لم تكن إلا عند خزيمة بل كل من قرأ على عثمان وأبي الدرداء وابن مسعود وعلي قد قرؤوا عليهم هذه الآية بلا شك وفي هذا كفاية وقد روى قوم أن الآية التي افتقد زيد من سورة براءة وهي {لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم} وهذا كذب بحت لكل ما ذكرنا آنفا وأيضا فقد روي عن البراء أن آخر سورة نزلت سورة براءة وبعث النبي بها صلى الله عليه وسلم فقرأها على أهل الموسم علانية وقال بعض الصحابة وأظنه جابر بن عبد الله ما كنا نسمي براءة إلا الفاضحة قال أبو محمد فسورة قرئت على جميع العرب في الموسم وتقرع بها كثير من أهل المدينة ومنها يكون منها آية خفيت على الناس هذا ما لا يظنه من له رمق وبه حشاشة

ويبين كذب هذه الأخبار ما رويناه بالأسانيد الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل سورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم وأنه صلى الله عليه وسلم كانت تنزل عليه الآية فيرتبها في مكانها ولذلك تجد آية الكلالة وهي آخر آية نزلت وهي في سورة النساء في أول المصحف وابتداء سورة {قرأ بسم ربك لذي خلق} في آخر المصحف وهما أول ما نزل فصح بهذا أن رتبة الآي ورتبة السور مأخوذة عن الله عز وجل إلى جبريل ثم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا كما يظنه أهل الجهل أنه ألف بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك ما كان القرآن منقولا نقل الكافة ولا خلاف بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس أنه منقول عن محمد صلى الله عليه وسلم نقل التواتر ويبين هذا أيضا ما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن كل ليلة في رمضان على جبريل فصح بهذا أنه كان مؤلفا كما هو عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقولهصلى الله عليه وسلم تركت فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي والأحاديث الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ المص والطور والمراسلات في صلاة المغرب وأن معاذا قرأ في حياته صلى الله عليه وسلم البقرة في صلاة العتمة وأنه صلى الله عليه وسلم خطب ب {ق ولقرآن لمجيد} وذكر صلى الله عليه وسلم خواتم آل عمران وسورة النساء وأمره صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ القرآن من أربعة من أبي وعبد الله بن مسعود وزيد ومعاذ وقول عبد الله بن عمرو بن العاص للنبي عليه السلام في قراءة القرآن كل ليلة وأمره صلى الله عليه وسلم أن لا يقرأ في أقل من ثلاث والذين جمعوا القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم جماعة ذلك منهم أبو زيد وزيد وأبي ومعاذ وسعيد بن عبيد وأبو

الدرداء وأمر صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بقراءة القرآن في أيام لا تكون أقل من ثلاث فكيف يقرأ ويجمع وهو غير مؤلف هذا محال لا يمكن البتة وهذا كلها أحاديث صحاح الأسانيد لا مطعن فيها وبهذا يلوح كذب الأخبار المفتعلة بخلافها لأن تلك لا تصح من طريق النقل أصلا فبطل ظنهم أن أحدا جمع القرآن وألفه دون النبي صلى الله عليه وسلم ومما يبين بطلان هذا القول ببرهان واضح أن في بعض المصاحف التي وجه بها عثمان رضي الله عنه إلى الآفاق واوات زائدة على سائرها وفي بعض المصاحف {له ما في لسماوات وما في لأرض وإن لله لهو لغني لحميد} في سورة الحديد وفي بعضها بنقصان هو وأيضا فمن المحال أن يكون عثمان رضي الله عنه أقرأ الخلفاء وأقدمهم صحبة وكان يحفظ القرآن كله ظاهرا ويقوم به في ركعة ويترك قراءته التي أخذها من فم النبي صلى الله عليه وسلم ويرجع إلى قراءة زيد وهو صبي من صبيانه وهذا ما لا يظنه إلا جاهل غبي ومنها أن عاصما روى عن زر وقرأ عليه لم يقرأ على زيد ولا على من قرأ على زيد شيئا إلا أنه قد صح عنه أنه عرض على زيد فلم يخالف ابن مسعود وهذا ابن عامر قارىء أهل الشام لم يقرأ على زيد شيئا ولا على من قرأ على زيد وإنما قرأ على أبي الدرداء ومن طريق عثمان رضي الله عنهما وكذلك حمزة لم يأخذ من طريق زيد شيئا وقد غلط قوم فسموا الأخذ بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم

وبما اتفق عليه علماء الأمة تقليدا وهذا هو فعل أهل السفسطة والطالبين لتلبيس العلوم وإفسادها وإبطال الحقائق وإيقاع الحيرة فلا شيء أعون على ذلك من تخليط الأسماء الواقعة على المعنى ومزجها حتى يوقعوا على الحق اسم الباطل لينفروا عنه الناس ويوقعوا على الباطل اسم الحق ليوقعوا فيه من أحسن الظن بهم وليجوزوه عند الناس كما يحكى عن فساق باعة الدواب أنهم يسمون أورايهم بأسماء البلاد فإذا عرض الحمار للبيع أقسم بالله إن البارحة نزل من بلد كذا وكذا وهو يعني الآري الذي اعتلف فيه ويظن المبتاع أنه من جلب المذكور فهذا فعل أهل الشر والفسق وفاعل هذا في الديانة أسوأ حالا وأعظم جرما من فاعله في سائر المعاملات فاعلم الآن أن قبول ما صح بالنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وقبول ما أوجبه القرآن بنصه وظاهره وقبول ما أجمعت عليه الأمة ليس تقليدا ولا يحل لأحد أن يسميه تقليدا لأن ذلك تلبيس وإشكال ومزج الحق بالباطل لأن التقليد على الحقيقة إنما هو قبول ما قاله قائل دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير برهان فهذا هو الذي أجمعت الأمة على تسميته تقليدا وقام البرهان على بطلانه وهو غير ما قام البرهان على صحته فحرام أن يسمى الحق باسم الباطل والباطل باسم الحق وقد قال تعالى {إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى} وقد أنذر عليه السلام بقوم يستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها وقد احتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} قالوا وقد أوجب الله تعالى على الناس قبول نذارة المنذر لهم قالوا وهذا أمر منه تعالى بتقليد العامي للعالم قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى لم يأمر قط بقبول

ما قال المنذر مطلقا لكنه يقال إنما أمر بقبول ما أخذ ذلك في تفقههم في الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الله عز وجل لا ما اخترع مخترع من عند نفسه ولا ما زاد زائد في الدين من قبل رأيه ومن تأول ذلك على الله عز وجل وأجاز لأحد من المخلوقين أن يشرع شريعة غير منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كفر وحل دمه وماله وقد سمى الله من فعل ذلك مفتريا فقال تعالى {قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون} قال أبو محمد وظن قوم أنهم تخلصوا من التقليد بوجه به تحققوا بالدخول فيه وتوسطوا عنصره وهو أنهم يبطلون حجاجا تؤيد ما وجدوا أسلافهم عليه فقط ثم لا يبالون أشغبا كانت الحجاج أم حقا ويضربون عن كل حجة خالفت قولهم فإن كانت آية أو حديثا تأولوا فيها التأويلات البعيدة وحرفوهما عن مواضعهما فدخلوا في قوله تعالى {من لذين هادوا يحرفون لكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا وسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في لدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا وسمع ونظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم لله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} فإن أعياهم ذلك قالوا هذا خصوص وهذا متروك وليس عليه العمل قال أبو محمد وهذا أقبح ما يكون من التقليد وأفحشه كالذي يفعل مقلدو مالك وأبي حنيفة والشافعي فإنهم إنما يأخذون من الحجاج ما وافق مذهبهم وإن كان خبرا موضوعا أو شغبا فاسدا ويتركون ما خالفه وإن كان نص قرآن أو خبرا مسندا من نقل الثقات والعجب أنهم ينسون التقليد ويقولون إن المقلد عاص لله ويقولون لا يجوز أن يؤخذ من أحد ما قامت عليه حجة ويقولون ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك ثم إنهم مع هذا لا يفارقون قول صاحبهم بوجه من الوجوه وأما أهل بلادنا فليسوا ممن يتغنى بطلب دليل على مسائلهم وطالبه

منهم في الندرة إنما يطلبه كما ذكرنا آنفا فيعرضون كلام الله تعالى وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم على قول صاحبهم وهو مخلوق مذنب يخطىء ويصيب فإن وافق قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم قول صاحبهم أخذوا به وإن خالفاه تركوا قول الله جانبا وقوله صلى الله عليه وسلم ظهريا وثبتوا على قول صاحبهم وما نعلم في المعاصي ولا في الكبائر بعد الشرك المجرد أعظم من هذه وأنه لأشد من القتل والزنى لأن فيما ذكرنا الاستخفاف بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالدين ولأن من ذكرنا قد جاءته موعظة من ربه فلم ينته وعاد إلى ما نهي عنه وعرف أنه باطل فتدين به واستحله وعلمه الناس وأما القاتل والزاني فعالمان أن فعلهما خطأ وأنهما مذنبان فهما أحسن حالا ممن ذكرنا وقد قال تعالى {لذين يأكلون لربا لا يقومون إلا كما يقوم لذي يتخبطه لشيطان من لمس ذلك بأنهم قالوا إنما لبيع مثل لربا وأحل لله لبيع وحرم لربا فمن جآءه موعظة من ربه فنتهى فله ما سلف وأمره إلى لله ومن عاد فأولئك أصحاب لنار هم فيها خالدون} هذا وهم يقرون أن الفقهاء الذين قلدوا مبطلون للتقليد وأنهم قد نهوا أصحابهم عن تقليدهم وكان أشدهم في ذلك الشافعي فإنه رحمه الله بلغ من التأكيد في اتباع صحاح الآثار والأخذ بما أوجبته الحجة حيث لم يبلغ غيره وتبرأ من يقلد جملة وأعلن بذلك نفعه الله به وأعظم أجره فلقد كان سببا إلى خير كثير فمن أسوأ حالا ممن يعتقد أن التقليد ضلال وأن التقليد هو اعتقاد القول قبل اعتقاد دليله ثم هم لا يفارقون في شيء من دينهم وهذا مع ما فيه من المخالفة لله عز وجل ففيه من

نقص العقل والتمييز عظيم نعوذ بالله من الخذلان ونسأله التوفيق والعصمة فكل شيء بيده لا إله إلا هو وحدثنا طائفة من الأشعرية أبدعوا في قولهم بالتقليد قولا طريفا في السخف وهو أن قالوا الفرض على العامي إذا نزلت به النازلة أن يسأل عن أفقه من في ناحيته فإذا دل عليه سأله فإذا أفتاه لزمه الأخذ به ولا يحل للعامي أن يأخذ بقول ميت من العلماء قديما كان أو حديثا صاحبا كان أو تابعا أو من بعدهم فإن نزلت بذلك العامي تلك النازلة بعينها مرة أخرى لم يجز له أن يأخذ تلك الفتيا التي أفتاه الفقيه بها ولكن يسأله مرة ثانية أو يسأل غيره فما أفتاه به أخذ به سواء كانت تلك الفتيا الأولى غيرها وقالوا إن الفرض على كل أحد إنما هو ما أداه إليه اجتهاده فيما لا نص فيه فكل مجتهد في هذا الموضع فهو مصيب قال أبو محمد ويكفي من بطلان هذا القول أنها كلها قضايا مفتراة ودعاوى بلا برهان أصلا فإن قالوا قال الله تعالى {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} قلنا صدق الله تعالى وكذب محرف قوله أهل الذكر هم رواة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء بأحكام القرآن برهان ذلك قوله تعالى {ثاني عطفه ليضل عن سبيل لله له في لدنيا خزي ونذيقه يوم لقيامة عذاب لحريق} فصح أن الله تعالى إنما أمرنا بسؤالهم ليخبرونا بما عندهم من القرآن والسنن لا لأن يشرعوا لنا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى بآرائهم الفاسدة وظنونهم الكاذبة وفي هذا كفاية وبالله تعالى التوفيق

فصل في ذكره قول الله تعالى في إبطال التقليد

فصل ما قاله الله تعالى في إبطال التقليد قال أبو محمد قد ذكرنا كل ما موه به القائلون بالتقليد وبينا بطلانه وانتقاضه بعون الله تعالى لنا ولله الحمد ونحن الآن ذاكرون ما قاله الله تعالى في إبطال التقليد ونبين وجه الحجاج في بيان سقوطه وأنه لا يحل تصريفه في دين الله عز وجل أصلا فمن ذلك أن يقال لمن قلد ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدت أنت فإن أخذ يحتج في فضل من قلد ووصف سعة علمه سئل أكان قبله أحد أفضل منه وأعلم أم لم يكن قبله أحدا أعلم منه ولا أفضل منه فإن قال لم يكن قبله أحد أفضل منه كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله إننا لا ندرك بإنفاقنا مثل أحد ذهبا مد أحد من أصحابه ولا نصيفه وبقوله صلى الله عليه وسلم إنه ما من عام إلا والذي بعده دونه وقائل هذا مخالف للإجماع وخارج عن سبيل المؤمنين ولا شك عند كل مؤمن أن أبا بكر وعائشة وعليا وعمر ومعاذا وأبيا وزيدا وابن مسعود وابن عباس أعلم بما شاهدوا من نزول القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل من سفيان الثوري والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وابن القاسم وداود ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وأبي ثور وهؤلاء الفقهاء رحمهم الله هم الذين قلدتهم الطوائف بعدهم ما نعلم الآن على ظهر الأرض أحدا يقلد غيرهم لا سيما وقد حدثنا أحمد بن عمر العذري ثنا علي بن الحسن بن فهر ثنا القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي ثنا جعفر بن محمد الفريابي حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني

الهيثم بن جميل قلت لمالك بن أنس يا أبا عبد الله إن عندنا قوما وضعوا كتبا يقول أحدهم حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وحدثنا فلان عن إبراهيم بكذا ونأخذ بقول إبراهيم قال مالك صح عندهم قول عمر قلت إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم فقال مالك هؤلاء يستتابون قال أبو محمد فإن قال بلى قد كان من ذكرتم وغيرهم مما كان بعد ما ذكرتم ومع هؤلاء المذكورين وقبلهم أفضل منهم وأعلم بالدين قيل له فلم تركت الأفضل والأعلم وقلدت الأنقص فضلا وعلما فإن قال لأنه أتى بعض الأولين متعقبا قيل له فقلد من أتى بعدهم أيضا متعقبا على هؤلاء فإن كان مالكيا أو شافعيا أو حنفيا أو سفيانيا أو أوزاعيا قيل له فقلد أحمد بن حنبل فإنه أتى هؤلاء ورأى علمهم وعلم غيرهم وتعقب على جميعهم ولا خلاف بين أحد من علماء أهل السنة أصحاب الحديث منهم وأصحاب الرأي في سعة علمه وتبجحه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وفتاوى الصحابة والتابعين وفقهه وفضله وورعه وتحفظه في الفتيا أو قلد إسحاق بن إبراهيم الحنظلي فقد كان كذلك مع دقة النظر وصحة الفهم أو قلد أبا ثور فقد كان غاية في ذلك كله وإن كان حنبليا فقيل له قلد محمد بن نصر المروزي فإنه أتى متعقبا بعد أحمد ولقد لقي أحمد وأخذ عنه وحوى علمه ولقي أصحاب مالك والشافعي وأصحاب أصحاب أبي حنيفة وأخذ علمهم وقد كان في الغاية التي لا وراء بعدها في سعة العلم بالقرآن والحديث والآثار والحجاج

ودقة النظر مع الورع العظيم والدين المتين أو محمد بن جرير الطبري فكان في علمه ودينه بحيث عرف أو الطحاوي فقد كان من العلم أو داود بن علي فكان من سعة الرواية والعلم بالقرآن والحديث والآثار والإجماع والاختلاف ودقة النظر والورع بحيث لا مزيد وقد أتى متأخرا متعقبا مشرفا على مذهب كل من تقدمه فإن قلد داود قيل له قلد من أتى بعده متعقبا عليه ومخالفه كولده وابن سريج وكالطبري وكمحمد بن نصر المروزي والطحاوي وهكذا أبدا يقلد الآخر فالآخر وهذا خروج عن المعقول والقياس وعن الدين جملة وحتى لو مالوا إلى تقليد الأفضل لبطل عليهم بأن الأفاضل على خلاف ذلك فقد رجع عمر إلى قول المرأة من عرض النساء إذ هم بالمنع من المغالاة في الصداق وعمر أفضل منها بلا شك وقد كان أبو بكر وعمر يجمعان الصحابة ويسألانهم فلو كان قول الأفضل واجبا أن يتبع لما كان لجمعهما الصحابة معنى لأنهما أفضل ممن جمعا ليعرفا ما عندهم ولكانا في ذلك مخطئين وكل هذه أقوال فاسدة بلا برهان على صحة شيء منها وليس طريق الفضل من طريق الاتباع في شيء فقد يخطىء الفاضل فيحرم اتباعه على الخطأ ولا ينقص ذلك من فضله شيئا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء سلمان أفقه إذ منعه سلمان من قيام جميع

الليل ومن مواترة الصيام فكان سلمان أفقه من أبي الدرداء وكان أبو الدرداء أفضل من سلمان فأبو الدرداء بدري عقبي لا تجزأ سلمان منه وأول مشاهد سلمان فالخندق فقد شهد صلى الله عليه وسلم أن الأنقص فضلا أتم فقها وقد قال صلى الله عليه وسلم فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وقد قال صلى الله عليه وسلم ورب مبلغ أوعى من سامع وإنما خاطب بذلك الصحابة فغير منكر ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق ويكفي من هذا أن كل ما ذكرنا من الفقهاء الذين قلدوا مبطلون التقليد ناهون عنه مانعون منه مخبرون أن فاعله على باطل وقد حدثنا حمام عن الباجي عن أسلم القاضي عن المازني عن الشافعي أنه نهى الناس عن تقليده وتقليد غيره وحدثنا عبد الرحمن بن سلمة ثنا أحمد بن خليل ثنا خالد بن سعد ثنا أحمد بن خالد أنا يحيى بن عمر أنا الحارث بن مسكين ثنا ابن وهب قال سمعت مالكا وقال له ابن القاسم ليس أحد بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر قال له مالك من أين علموا ذلك قال منك يا أبا عبد الله قال مالك ما أعلمها أنا فكيف يعلمونها هم قال أبو محمد كيف وقد أغنانا الله تعالى عن قولهم في ذلك بما نص في كتابه من إبطال التقليد فمن قول الله عز وجل {مثل لذين تخذوا من دون لله أوليآء كمثل لعنكبوت تخذت بيتا وإن أوهن لبيوت لبيت لعنكبوت لو كانوا يعلمون} ثم قال الله تعالى على أثر هذه الآية {وتلك الأمثال نضربها

للناس وما يعقلهآ إلا العالمون} قال أبو محمد فمن اتخذ رجلا إماما يعرض عليه قول ربه وقول نبيه صلى الله عليه وسلم فما وافق فيه قول ذلك الرجل قبله وما خالفه ترك قول ربه تعالى وقول نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يقر أن هذا قول الله عز وجل وقول رسوله صلى الله عليه وسلم والتزم قول إمامه فقد اتخذ دون الله تعالى وليا ودخل في جملة الآية المذكورة اللهم إننا نبرأ إليك من هذه الفعلة فلا كبيرة أعظم منها وقال تعالى {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم لله لذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون لله ولا رسوله ولا لمؤمنين وليجة ولله خبير بما تعملون} {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم لله لذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون لله ولا رسوله ولا لمؤمنين وليجة ولله خبير بما تعملون} } قال أبو محمد ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلا بعينه عيارا من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام سائر علماء الأمة وقال تعالى {يوم تقلب وجوههم في لنار يقولون يليتنآ أطعنا لله وأطعنا لرسولا * وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا لسبيلا} وقال تعالى {فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين} وقال تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} قال أبو محمد فمن لم يأت بكتاب الله تعالى شاهد لقوله أو ببرهان على صدق قوله وإلا فليس صادقا لكنه كاذب آفك مفتر على الله عز وجل ومن أطاع سادته وكبراءه وترك ما جاءه عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ضل بنص القرآن واستحق الوعيد بالنار نعوذ بالله منها وما أدى إليها وقال تعالى حاكيا عن الجن الذين أسلموا مصدقا لهم ومثبتا عليهم {وأنا ظننآ أن لن تقول لإنس ولجن على لله كذبا} فبطل ظن من ظن ذلك في رئيس قلده لم يأمر الله تعالى بأن يقلده وقال تعالى {إذ تبرأ لذين تبعوا من لذين تبعوا ورأوا لعذاب وتقطعت بهم الأسباب}

قال أبو محمد هكذا والله يقول هؤلاء الفضلاء الذين قلدهم أقوام قد نهوهم عن تقليدهم فإنهم رحمهم الله تبرؤوا في الدنيا والآخرة من كل من قلدهم وفاز أولئك الأفاضل الأخيار وهلك المقلدون لهم بعد ما سمعوا من الوعيد الشديد والنهي عن التقليد وعلموا أن أسلافهم الذين قلدوا قد نهوهم عن تقليدهم وتبرؤوا منهم إن فعلوا ذلك ومن ذلك ما حدثنا أحمد بن عمر ثنا علي بن الحسن بن فهر حدثنا أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي ثنا جعفر بن محمد الفريابي ثنا محمد بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ثنا مالك قال كان ربيعة يقول لابن شهاب إن حالي ليس يشبه حالك أنا أقول برأيي من شاء أخذه وعمل به ومن شاء تركه وقد ذكرنا قول مالك وندامته على القول به وقال أبو حنيفة علمنا هذا رأي من أتانا بخير منه قبلناه منه وقال عز وجل {وإذا قيل لهم تبعوا مآ أنزل لله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} قال أبو محمد وهذا نص ما فعل خصومنا بلا تأويل ولا تدبر بل تعرض عليهم الآية والحديث الصحيح الذي يقرون بصحته وكلاهما مخالف لمذاهب لهم فاسدة فيأبون قبولها لا بفارق ما وجدنا عليه آباءنا وكبراءنا فقد أجابهم تعالى جوابا كافيا وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال تعالى {فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} وقال تعالى {أفرأيت من تخذ إلهه هواه وأضله لله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد لله أفلا تذكرون} قال أبو محمد هذه صفة ظاهرة من كل مقلد يعرفها من نفسه ضرورة لأنه هوى تقليد فلان فقلده بغير علم ووجدناه لا ينتفع بسمعه فيما يسمع من الآي والسنن المخالفة لمذهبه ولا انتفع بصره فيما أري من ذلك ولا بعقله فيما علم من ذلك ووجدناه ترك طلب الهدى من كتاب الله تعالى وكلام نبيه

صلى الله عليه وسلم وطلب الهدى ممن دون الله تعالى فضل ضلالا بعيدا فواحسرتاه عليهم وواأسفاه لهم وقال تعالى {قل أندعوا من دون لله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا لله كلذي ستهوته لشياطين في لأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى لهدى ئتنا قل إن هدى لله هو لهدى وأمرنا لنسلم لرب لعالمين} قال أبو محمد وهذا نص فعل المقلد لأنه التزم اتباع من لا ينفعه ولا يضره ولا يشفع له يوم القيامة ولا ينيله من حسناته حسنة ولا يحط عنه من سيئاته سيئة وكذلك دعاه أصحابه إلى الهدى بزعمهم فأكذبهم تعالى وقال {ولن ترضى عنك ليهود ولا لنصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى لله هو لهدى ولئن تبعت أهوآءهم بعد لذي جآءك من لعلم ما لك من لله من ولي ولا نصير} فلم يجعل هدى إلا ما جاء من عنده تعالى وقال تعالى {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليهآ آباءنا ولله أمرنا بها قل إن لله لا يأمر بلفحشآء أتقولون على لله ما لا تعلمون} وهكذا فعل المقلدون فإنهم أباحوا لحوم السباع والحمر الأهلية وقد جاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتحريمها وآخذوا الناسي وألزموا شريعة الكفارة المخطىء وقد جاء نص القرآن والسنة بإسقاط ذلك كله فلما أخبروا أن ذلك كله فواحش قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها وقال تعالى ذاما لقوم قلدوا أسلافهم وحاكيا عنهم أنهم قالوا {بل قالوا إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون * وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبآءكم قالوا إنا بمآ أرسلتم به كافرون} وقال تعالى {وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل لله وإلى لرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنآ أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} وقال تعالى {يأيها لناس كلوا مما في لأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات لشيطان إنه لكم عدو مبين * إنما يأمركم بلسوء ولفحشآء وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون * وإذا قيل لهم تبعوا مآ أنزل لله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}

ومن قلد فقد قال على الله ما لا يعلم وهذا نص كلام رب العالمين الذي إليه معادنا وبين يديه موقفنا وهو سائلنا عما أمرنا به من ذلك ومجازينا بحسب ما أطعنا أو عصينا فليتق الله على نفسه أمرؤ يعلم أن وعد الله حق وأن هذه عهود ربه إليه وليتب عن التقليد وليفتش حاله فإن رأى فيها هذه الصفات التي ذمها الله تعالى فليتدارك نفسه بالتوبة من ذلك وليرجع إلى بشرى قبول قول ربه تعالى إذ يقول {ولذين جتنبوا لطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى لله لهم لبشرى فبشر عباد * لذين يستمعون لقول فيتبعون أحسنه أولئك لذين هداهم لله وأولئك هم أولو لألباب} {ولذين جتنبوا لطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى لله لهم لبشرى فبشر عباد * لذين يستمعون لقول فيتبعون أحسنه أولئك لذين هداهم لله وأولئك هم أولو لألباب} فالمحروم من حرم هذه البشرى وخرج عن هذه الصفة المحمودة نسأل الله أن يكتبنا في عداد أهلها وأن يثبتنا في جملتهم آمين فقد فاز من وصفه الله تعالى بأنه هداه وبأنه مبشر وأنه من أولي الألباب وهذه صفة من استمع الأقوال فلم يقلد واختار أحسنها والأحسن هو ما شهد الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بالحسنى مما وافق القرآن والسنة وبالله تعالى التوفيق فقد صح بنص كلام الله تعالى بطلان تقليد الرجال والنساء جملة وتحريم اتباع الآباء والرؤساء البتة وعلى هذا كله السلف الصالح أخبرنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر غندر ثنا شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء وهو ما دون الولد والوالد فقال عمر بن الخطاب إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر قال أبو محمد هذا هو الحديث الذي موهوا به واستحلوا الكذب بإبراء مفردا مما قبله وإنما استحى عمر من مخالفة أبي بكر رضي الله عنهما في اعترافه بالخطأ وأنه ليس كلامه كله صوابا لا في قوله في الكلالة

وبرهان ذلك أن عمر أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء وقد اعترف بأنه لم يفهمها قط وحتى لو صح أنه وافق أبا بكر في الكلالة في الحديث المذكور لما كانت فيه حجة لأن الشعبي راوي الحديث لم يدرك عمر وأبعد روايته فعن علي على اختلاف في رؤيته أيضا وأما الاضطراب عن عمر في الجد فإن محمد بن سعيد أخبرني عن أحمد بن عون الله عن قاسم بن أصبغ عن الخشني عن بندار عن ابن أبي عدي شعبة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال قال عمر بن الخطاب حين طعن إني لم أقض في الجد شيئا وأما الاختلاف عنه رضي الله عنه في الكلالة فهو أن حماما حدثني قال ثنا ابن مفرج عن عبد الأعلى بن محمد بن الحسن قاضي صنعاء عن الديري عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كتب في الجد والكلالة كتابا فمكث يستخير الله يقول اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه حتى إذا طعن دعا بالكتاب فمحي فلم يدر أحد ما كان فيه فقال إني كنت كتبت في الجد والكلالة كتابا وكنت أستخير الله فيه فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه قال عبد الرزاق وحدثنا ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب أوصى عند الموت فقال الكلالة كما قلت قال ابن عباس وما قلت قال من لا ولد له قال أبو محمد هذا أصح سند يرد في هذا الباب عن عمر لاتصاله وعدالة ناقليه وإمامتهم وصحة سماع بعضهم من بعض وهو كما ترى مخالف لرأي أبي بكر في الكلالة لأن أبا بكر كان يقول الكلالة من لا ولد له ولا والد

وعمر عند الموت يقول الكلالة من لا ولد له فقط بالسند الذي لا داخلة فيه فبطل بهذا ما رواه الشعبي الذي أبعد ذكره رؤيته عليا رضي الله عنه بالكوفة يتوضأ في الرحبة هذا إن صح أنه رآه أيضا أخبرنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر غندر ثنا شعبة عن عاصم عن الشعبي قال سئل عبد الله بن مسعود عن امرأة توفي عنها زوجها ولم يفرض لها فاختلف إليه شهرا فقال ما سئلت عن شيء منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد علي منه لم ينزل فيه قرآن ناطق ولا سنة ماضية أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن الشيطان والله منه بريء وذكر الحديث قال أبو محمد فهذا ابن مسعود يعترف بالخطأ وبمغيب السنن عنه وفي هذه القصة سنة صحيحة خفيت عنه ثم علمها بعد ذلك ولا سبيل إلى أن يوجد عن أحد من الصحابة والتابعين غير الاعتراف بجواز الخطأ عليهم والصحيح من رواية الشعبي في الخبر الذي ذكرنا هو ما أخبرناه محمد بن سعيد بن نبات عن أحمد بن عون الله عن قاسم بن أصبغ عن الخشني عن بندار عن غندر ثنا شعبة عن يحيى بن سعيد التيمي تيم الرباب قال

ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقض حتى يبين لنا فيهن أمرا ينتهي إليه الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا فهذا هو المتصل من طريق الشعبي ثم إنا نقول إن العجب ليطول ممن اختار أخذ أقوال إنسان بعينه لم يصحبه من الله عز وجل معجزة ولا ظهرت عليه آية ولا شهد الله له بالعصمة عن الخطأ ولا بالولاية وأعجب من ذلك إن كان من التابعين فمن دونهم ممن لا يقطع على غيب إسلامه ولا بيد مقلده أكثر من حسن الظن به وأنه في ظاهر أمره فاضل من أفاضل المسلمين لا يقطع له على غيره من الناس بفضل ولا يشهد له على نظارته بسبق إن هذا لهو الضلال المبين فليت شعري ما الذي أوجب عليه أن يميل إليه دون أن يميل إلى غيره ممن هو مثله في الظاهر أو أفضل منه في الظاهر أو في الحقيقة من سابقي الصحابة حتى صاروا يتدينون بقوله في دينهم الذي هو وسليتهم إلى الله تعالى لا يرجون النجاة من عذاب الآخرة بسواه ونجدهم المساكين في أمور دنياهم لا يقلدون أحدا ولا يبتاع أحدهم شيئا فما دونه أو فما فوقه إلا حتى يقيسه ويتأمل جددته ويتقي الغبن فيه وهو لا يتقي الغبن في دينه الذي فيه هلاكه أو نجاته في الأبد فتجده قد قبله مجازفة وأخذه مطارفة هات ما قال مالك وابن القاسم وسحنون إن كان مالكيا أو ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن إن كان حنفيا أو ما قال الشافعي إن كان شافعيا ولا مزيد ووالله لو أن هؤلاء رحمهم الله وردوا عرصة القيامة بملء السموات والأرض حسنات ما رحموه منها بواحدة ولو أنه المغرور ورد ذلك الموقف بملء السموات والأرض سيئات ما حطوا منها واحدة ولا عرجوا عليه ولا التفتوا إليه ولا نفعوه بنافعة ونجده يضرب عن كلام نبيه

صلى الله عليه وسلم الذي لا يرجو شفاعة سواه ولا أن ينقذه من أطباق النيران بعد رحمة الله تعالى إلا اتباعه إياه فأين الضلال إن لم يكن في فعل هؤلاء القوم ثم ننحط في سؤالهم درجة فنقول ما الذي دعاكم إلى التهالك على قول مالك وابن القاسم فهلا تبعتم أقوال عمر بن الخطاب وابنه فتهالكتم عليها فهما أعلم وأفضل من مالك وابن القاسم عند الله عز وجل بلا شك ونقول للحنفيين ما الذي حملكم على التماوت على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن فهلا طلبتم أقوال عبد الله بن مسعود وعلي فتماوتم عليها فهما أفضل وأعلم من أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن عند الله تعالى بلا شك ونقول لمن قلد الشافعي رحمه الله ألم ينهكم عن تقليده وأمركم باتباع كلام النبي صلى الله عليه وسلم حيث صح فهلا اتبعتموه في هذا القولة الصادقة التي لا يحل خلافها لأحد أو ليس قد قال رحمه الله وقد ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيمن مات وعليه صيام صام عنه وليه فقال رحمه الله إن صح هذا الحديث فبه أقول ونبرأ من كل مذهب خالف حديث النبي صلى الله عليه وسلم والحديث المذكور في غاية الصحة من طريق عائشة رضي الله عنها ثم أنتم دأبا تتحيلون في إبطاله بأنواع من الحيل الباردة ونهاكم عن قبول المرسل ثم أنتم تأخذون به في تحريم بيع اللحم بالحيوان تقليدا لغلطه رحمه الله الذي لم يعصم منه أحد فقد كان تقليد ابن عباس أولى بكم إذ ولا بد لأنه أفضل وأعلم عند الله عز وجل من الشافعي وقد قال قائلون منهم نحن لم نرزق من العقل والفهم ما يمكننا أن نأخذ الفقه من القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا بالتي تملأ الفم فيقال لهم أمنعكم الله تعالى العقل الذي تفهمون به عند ما قد ألزمكم فهمه إذ يقول عز وجل {أفلا يتدبرون لقرآن أم على قلوب أقفالهآ} وقد سمعتموه يقول {يأيها لذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا هتديتم إلى لله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون} وسمعتموه يقول {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل

نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وسمعتموه يقول {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} فلولا أن في وسعكم الفهم لأحكام القرآن ما أمركم بتدبره ولولا أن في وسعكم الفهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ما أمره بالبيان عليكم ولا أمركم بطاعته هذا إن كنتم تصدقون كلام ربكم فليت شعري كيف قصرت عقولكم عن فهم ما افترض الله تعالى عليكم تدبره والأخذ به واتسعت عقولكم للفهم عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وما أمركم الله تعالى قط بالسماع منهم خاصة دون سائر العلماء ولا ضمن لكم ربكم تعالى قط العون على فهم كلامهم كما ضمن لكم في فهم كلامه إنه لا يكلفكم إلا وسعكم وقد أيقنا أن الله عز وجل لا يأمرنا بشيء إلا وقد سبب لنا طرق الوصول إليه وسهلها وبينها فقد أيقنا بلا شك عندنا أن وجوه معرفة أحكام الآي والأحاديث التي أمرنا بقبولها بينة لمن طلبها إن صدقتم ربكم وإن كذبتم كفرتم وأما ما لم نؤمر باتباعه من رأي مالك وأبي حنيفة وقول الشافعي فلا سبيل إلى أن نقطع بأن فهمه ممكن لنا حدثنا أحمد بن عمر العذري نا أبو محمد الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فراس أنا أبو حفص عمر بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي نا أبو الحسن علي بن عبد العزيز نا الأصبهاني نا عبد السلام نا غطيف بن أعين المحاربي عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي يا ابن حاتم ألق هذا الوثن من عنقك فألقيته ثم افتتح سورة براءة فقرأ حتى بلغ قوله تعالى

{تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} فقلت يا رسول الله ما كنا نعبدهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يحلون لكم الحرام فتستحلونه ويحرمون عليكم الحلال فتحرمونه قلت بلى قال فتلك عبادتكم قال أبو محمد فسمى النبي صلى الله عليه وسلم اتباع من دون النبي صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم عبادة وكل من قلد مفتيا يخطىء ويصيب فلا بد له من أن يستحل حراما ويحرم حلالا وبرهان ذلك تحريم بعضهم ما يحله سائرهم ولا بد أن أحدهم مخطىء أفليس من العجب إضراب المرء عن الطريق التي أمره خالقه بسلوكها وضمن له بيان نهج الصواب فيها وأمره أن يكون همه نفسه لا ما سواها فيترك ذلك كله ويقصد إلى طريق لم يؤمر بسلوكها ولا ضمن له نهج الصواب فيها بل قد نهي عن ذلك وعيب عليه ولامه ربه عز وجل على ذلك أشد الملامة مع أن الذي قلدوه ينهاهم عن تقليده فمن أضل من هؤلاء وقد احتج بعض من قلد مالكا بأنه المعني بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنذاره بزمان يأتي لا يوجد فيه عالم أعلم من عالم المدينة أخبرنا عبد الله بن ربيع التميمي عن محمد بن معاوية عن أحمد بن شعيب أنا علي بن محمد ثنا محمد بن كثير عن سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن

أبي الزناد عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله يضربون أكباد الإبل ويطلبون العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة فقال النسائي قوله أبو الزناد خطأ إنما هو أبو الزبير قال أبو محمد وهكذا حدثناه أحمد بن عبد الله الطلمنكي ثنا ابن مفرج قال ثنا محمد بن أيوب الصموت ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا عمرو بن علي ثنا سفيان بن عيينة عن ابن جريح عن أبي الزبير عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن تضرب أكباد المطي فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة قال البزار لم يرو ابن جريج عن أبي صالح غير هذا الحديث حدثنا أحمد بن عمر ثنا علي بن الحسن بن فهر أنا محمد بن علي ثنا محمد بن عبد الله البيع إجازة أنا أبو النضر الفقيه أحمد بن محمد العنزي ثنا عثمان بن سعيد الدارمي ثنا أبو مسلم عن عبد الرحمن بن يونس المستلمي نا معن بن عيسى حدثني زهير أبو المنذر التميمي ثنا عبيد الله بن عمر بن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ناس من المشرق في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة وقال عالم أهل المدينة حدثنا أحمد بن عمر ثنا فهر نا ابن أحمد بن إبراهيم بن فراس ثنا ابن الأعرابي ثنا محمد بن إسماعيل الصوفي ثنا علي بن المديني ثنا سفيان بن عيينة

فذكر الحديث فقال ابن عيينة وضعناه على مالك بن أنس قال ابن فراس ثنا محمد بن أحمد اليقطيني نا محمد بن أحمد بن سلم الحراني ثنا أبو موسى الأنصاري وذكر هذا الحديث فقال بلغني عن ابن جريج أنه كان يقول نرى أنه مالك بن أنس قال أبو محمد هذا حديث لم يقنعوا بقبيح فعلهم في التقليد حتى أضافوا إلى ذلك الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة المذكورة في الحديث المذكور على أن في سنده أبو الزبير وهو مدلس ما لم يقل حدثنا أو أخبرنا ومع ذلك فليست تلك الصفة موجودة في عصر مالك لأنه كان في عصره ابن أبي ذئب وعبد العزيز بن الماجشون وسفيان الثوري والليث والأوزاعي وكل هؤلاء لا يمكن لمن له أقل إنصاف وعلم أن يفضله في علمه وورعه على واحد منهم ولا في فهمه للقرآن ولا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضي الله عنهم وليت شعري ما الذي دلهم على أنه مالك دون أن يقولوا إنه سعيد بن المسيب الذي كان أفقه من مالك وأفضل وذكروا عن سفيان بن عيينة أنه قال كانوا يرونه مالكا قالوا فإنما عنى سفيان بذلك التابعين قال أبو محمد فزادوا كذبة وما دليلهم على أن سفيان عنى بذلك التابعين لو صح عن سفيان ولعله عنى بذلك مقلدي مالك من صغار أصحابه قال أبو محمد هذا بارد وكذب وليت شعري أي شيء من إدراك سفيان للتابعين مما يوجب أنه عناهم بهذا القول فكيف يصح عن سفيان إلا ما رويناه آنفا من أنه ظن منه ومثل هذا من الإقدام على القطع بالظنون

لا يستسهله إلا من يستسهل الكذب نعوذ بالله من ذلك ومما يوضح كذبهم في هذا على سفيان بن عيينة ما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس العذري ثنا أحمد بن عيسى بن إسماعيل البلوي ثنا غندر ثنا خلف بن القاسم الحافظ ثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري قال محمد بن أبي عمر قال سفيان بن عيينة لو سئل أي الناس أعلم لقالوا سفيان يعني الثوري فهذا سفيان بن عيينة يقطع بأنهم كانوا يقولون سفيان أعلم الناس فدخل في ذلك مالك وغيره وأما الرواية عن أبي جريج فلا يدرى عمن هي وإنما هي بلاغ ضعيف كما ترى وبالله تعالى التوفيق وقد ضربت آباط الإبل أيام عمر في طلب العلم حقا الذي هو العلم بالحقيقة وهو القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر الناس في خلافته إلى المدينة متعلمين للعلم ومتفقهين في الدين وما كان في أقطار البلاد يومئذ أحد يقطع على أنه أعلم من عمر لا سيما مع شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالعلم والدين وأقصى ما يمكن أن يشك هل يساويه في العلم علي وعائشة ومعاذ وابن مسعود وأما أن يقطع بأنهم أعلم منه جملة فلا أصلا وأما الإكثار من الرأي فليس علما أصلا ولو كان علما لكان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن أعلم من مالك لأنهم أكثر فتيا ورأيا منه فإذا ليس الرأي علما وإنما العلم حفظ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين فقد كان في عصر مالك من هو أوسع علما منه كشعبة وسفيان ومن هو مثله كسفيان بن عيينة والأوزاعي وهشيم وغيره فظهر كذب من كذب في الحديث المذكور وبالله تعالى التوفيق ثم لو صح وصح أنه مالك باسمه ونسبه لكان إنما فيه أنه لا يوجد أعلم منه قط وليس فيه أنه لا يوجد مثله في العلم فبطل احتجاجهم ولم يمنع وجود مثله في العلم

وعارضهم بعض الشافعيين بما حدثناه هشام بن سعيد الخير بن فتحون قال ثنا عبد الجبار المقرىء بمصر نا الحسن بن الحسين النجيرمي ثنا جعفر بن محمد الأصبهاني نا يونس بن حبيب نا أبو داود الطيالسي نا جعفر بن سليمان عن النضر بن معبد عن الجارود عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما اللهم إنك أذقت أولها عذابا أو وبالا فأذق آخرها نوالا فقالوا هذه صفة الشافعي فما ملأ الأرض علما قرشي غيره وحدثنا أحمد بن محمد بن الجسور قال نا ابن أبي دليم نا ابن وضاح نا أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر الأزهري عن سهل بن أبي حثمة

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعلموا من قريش ولا تعلموها وقدموا قريشا ولا تؤخروها فإن للقرشي قوة الرجلين من غير قريش قال أبو محمد وهذا حديث صحيح أصح من حديثهم الذي شنعوا به وأما الحقيقة في ذلك الحديث فهي أن الصفة التي بين صلى الله عليه وسلم في ذلك الحديث لم تأت بعد هذا إن صح الحديث المذكور لأن الزمان إلى الآن لم تكن قط فيه البلاد عارية من عالم يضاهي علماء المدينة فقد كان في عصر الصحابة بالعراق ابن مسعود وعلي وسليمان وكان بالشام معاذ وأبو الدرداء وكان بمكة ابن عباس ولا يحل لذي ورع وعلم أن يقول إن عمر وعائشة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت كانوا أفقه من علي وابن مسعود ومعاذ وما ابن عباس بمتأخر عمن ذكرنا ثم أتى التابعون فلا يقدر ذو ورع وعلم أن يقول إن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار كانا أفقه من عطاء والحسن وعلقمة والأسود ثم أتى صغار التابعين فلا يقدر ذو ورع وعلم أن يقول إن ربيعة والزهري وأبا الزناد كانوا أفقه من إبراهيم النخعي وعامر والشعبي وسعيد بن جبير وأيوب السختياني وعمر بن عبد العزيز ثم أتى عصر مالك فكان معه ابن أبي ذئب وسفيان الثوري والأوزاعي وابن جريج والليس وليس أحد ممن ذكرنا دونه في رواية ولا دراية ولا ورع ثم هكذا إلى أن انقطع الفقه من المدينة جملة واستقر في الآفاق فإنما ذلك الحديث إن صح إذا قرب قيام الساعة وأرز الإيمان إلى المدينة ومكة وغلب الدجال على الأرض حاشا مكة والمدينة فحينئذ

يكون ذلك وإنما حتى الآن فلم تأت صفة ذلك الحديث وهذا بين ظاهر وأما الإنذار بما ذكرنا فكما حدثنا حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم عن أبي زيد المروزي عن محمد بن يوسف عن محمد بن إسماعيل البخاري حدثنا إبراهيم بن المنذر نا أنس بن عياض حدثني عبيد الله عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها وكما حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن رافع والفضل بن سهل الأعرج ثنا شبابة بن سوار قال ثنا عاصم بن محمد العمري عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها وكما حدثنا حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم عن أبي زيد عن الفربري عن البخاري ثنا إبراهيم بن المنذر ثنا الوليد بن مسلم ثنا أبو عمرو الأوزاعي ثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة وذكر باقي الحديث ثم نقول لهم هبكم حتى لو صح الحديث المذكور ثم لو صح أنه مالك بلا شك أي شيء كان يكون فيه مما يوجب اتباعه دون غيره من العلماء ولا شك عند أحد من نقلة الحديث في صحة الحديث المسند إلى رسول الله

صلى الله عليه وسلم أنه رأى رؤيا فيها أنه أعطي قدحا فشرب منه حتى رأى الري يجري في أظفاره ثم ناول فضله عمر فقيل له يا رسول الله ما أولت ذلك فقال صلى الله عليه وسلم العلم وصحة الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أري أمته وعليهم قمص بعضها إلى الثديين وعلى عمر قميص يجره وأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك الدين فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمر من أعلم أمته وأصحابه ومن أئمتهم دينا ولا خلاف بين أحد المسلمين أن عمر وعليا وابن مسعود وعائشة أعلم من مالك بلا شك وليس ذلك يوجب تقليد أحد ممن ذكرنا ولا اتباعه على جميع أقواله كما فعلوا هم بمالك فبطل تعلقهم بالحديث المذكور لو صح وتأولهم فيه كذب بحت لا يحل لأحد نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الفرق بينهم في الإقدام وبين الشافعيين لو استحلوا أن يقولوا إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في هذا الأمر برهم لبرهم وفاجرهم لفاجرهم إن المراد بهذا هو الشافعي لأنه قرشي النسب فيجب أن يكون الناس تبعا له وبين الداوديين لو أنهم استحلوا فقال إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن العلم أو هذا الدين بالثريا لتناوله رجل أو رجال من أبناء فارس المراد بهذا داود وأبو حنيفة لأنهما من أبناء فارس هذا على أن هذين الحديثين صحيحان لا شك في صحتهما وحديث عالم المدينة معلول لا يصح فإن قالوا قد كان في قريش علماء غير الشافعي وفي الفرس علماء غير داود وأبي حنيفة قيل لهم وقد كان بالمدينة علماء غير مالك بلا شك وكان هذا استحلال للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستجيزه ذو ورع قال أبو محمد وأما احتجاجهم بقول مالك هذا العمل ببلدنا فهذا لا معنى له لأن العمل بالمدينة قبل مولد مالك بثلاث وعشرين سنة لم يجز

إلا بالظلم والجور والفسق ولا وليهم إلا الفساق من عمال بني مروان ثم عمال بني العباس كالحجاج وحبيش بن دلجة وطارق وعبد الرحمن بن الضحاك وغيرهم ممن لا يعتد بهم وما أدرك مالك قط بالمدينة بعقله عمل أمير ووال يقتدي به أصلا ولقد كان التغيير بدأ في السنن من قبل ما ذكرنا كقول مروان ذهب ما هنالك ودليل ما ذكرنا تركهم عمل عمر وعثمان في نصوص الموطأ فبطل الاحتجاج بالعمل جملة ولا يبق إلا

الرواية التي رواها ثقات العلماء عن أمثالهم إذ لم يمكن الظالمين أن يحولوا بينهم وبين ألسنتهم كما حالوا بينهم وبين العمل وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ومن البرهان اللائح على بطلان التقليد أن أهل العصر الأول والعصر الثاني والعصر الثالث وهي القرون التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما حدثنا عبد الله بن ربيع عن محمد بن إسحاق بن السليم عن ابن الأعرابي عن أبي داود عن مسدد وعمرو بن عون قالا ثنا أبو عوانة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن الحصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم والله أعلم أذكر الثالث أم لا ثم يظهر قوم يشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يوفون ويحربون ولا يؤتمنون ويفشون فيهم السمن قال أبو محمد وهكذا في كتابي والصواب يخونون ولا يؤتمنون وبلفظة يخونون رويناه من طريق مسلم عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن أبي حمزة عن زهدم عن عمران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة يطلبون حديث النبي صلى الله عليه وسلم والفقه في القرآن ويرحلون في ذلك إلى البلاد فإن وجدوا حديثا عنه صلى الله عليه وسلم عملوا به واعتقدوه ولا يقلد أحد منهم أحدا البتة فلما جاء أهل العصر الرابع تركوا ذلك كله وعولوا على التقليد الذي ابتدعوه ولم يكن

قبلهم فاتبع ضعفاء أصحاب أبي حنيفة أبا حنيفة وأصحاب مالك مالكا ولم يلتفتوا إلى حديث يخالف قولهما ولا تفقهوا في القرآن والسنن ولا بالوا بهما إلا من عصمه الله عز وجل وثبته على ما كان عليه السلف الصالح في الأعصار الثلاثة المحمودة من اتباع السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفقه في القرآن وترك التقليد وأما أفاضل أصحاب أبي حنيفة ومالك فما قلدوهما فإن خلاف ابن وهب وأشهب وابن الماجشون والمغيرة وابن أبي حازم لمالك أشهر من أن يتكلف إيراده وقد خالفه أيضا ابن القاسم وكذلك خلاف أبي يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد لأبي حنيفة أشهر من أن يتكلف إيراده وكذلك خلاف أبي ثور والمزني للشافعي رحمه الله وكذلك خالف أصبغ وسحنون ابن القاسم وخالف بن المواز أصبغ وكذلك خالف محمد بن علي بن يوسف المزني في كثير وكذلك خالف الطحاوي أيضا أبا حنيفة وأصحابه فإن كان النظر حقا فقد أخطؤوا في التقليد وإن كان التقليد حقا فقد أخطؤوا النظر وترك التقليد فقد ثبت الخطأ عليهم على كل حال والخطأ واجب أن يجتنب قال أبو محمد وقد سألناهم فقلنا لهم أنتم مقرون معنا بأن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله عليه السلام ينزل إذا خرج الدجال اللعين فيدبر أهل الإسلام بملتهم لا بملة أخرى فقالوا لنا أبرأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن أو بتقليد مالك وابن القاسم وسحنون يحكم بين المسلمين ويقضي في الدين ويفتي المستفتين ألا إن هذا هو الضلال المبين ولقد نكس الإسلام وذلت النبوة وهانت الرسالة وخزي الحق وأهله إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وروحه وكلمته يرجع تابعا لمثل هؤلاء الذين لا يقطع لهم بنجاة ولا يضمن ما هم عليه عند الله تعالى فلا والله بل ما يقضي ويحكم ويفتي إلا بما أتى به أخوه في الرسالة وصاحبه في النبوة وقسيمه في نزول الوحي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم

وليبطلن الآراء الفاسدة فلا خوف من أحد فمن أضل طريقه ممن يدين بشيء هو موقن أنه لم يكن أول الإسلام ولا يكون عند نزول المسيح عليه السلام ومن يضلل الله فما له من هاد ابن فراس نا محمد بن علي بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا هشيم أنا ابن أبي ليلى عن أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل أن رجلا مات وترك ابنته وابنة ابنه وأخته لأبيه وأمه فأتوا أبا موسى الأشعري فسألوه عن ذلك فقال لابنته النصف والنصف الباقي للأخت فأتوا ابن مسعود فذكروا ذلك له فقال لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين إن أخذت بقول الأشعري وتركت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا ابن مسعود يسمي القول من الصاحب إذا خالف النص ضلالا وخلافا للهدى وحدثنا أحمد بن عمر نا أبو ذر نا عبد الله بن أحمد نا إبراهيم بن خزيم نا عبد بن حميد نا أبو نعيم عن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال سئل حذيفة عن قوله تعالى {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج لرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فلله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} قال لم يكونوا يعبدونهم ولكن إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه قال أبو محمد هذه صفة المقلدين لأبي حنيفة ومالك والشافعي ولا يحرمون إلا ما جاء عن صاحبهم تحريمه ولا يحلون إلا ما جاءهم عن صاحبهم تحليله نبرأ

إلى الله تعالى من مثل هذا الاعتقاد ونعوذ به منه في أحد من ولد آدم حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الرحمن بن سلمة نا أحمد بن خليل نا خالد بن سعد أخبرني أسلم بن عبد العزيز القاضي وسعيد بن عثمان العناني قالا نا يونس بن عبد الأعلى نا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال ليس من أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي يوسف بن عبد الله النمري أنا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا دحيم نا ابن وهب نا ابن لهيعة عن بكير بن الأشج أن رجلا قال للقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عجبا لعائشة كانت تصلي في السفر أربعا ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين فقال يا ابن أخي عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وجدتها فإن من الناس من لا يعاب كتب إلي النمري ثنا سعيد بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا الحميدي نا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال عمر بن الخطاب إذا رميتم الجمرة بسبع حصيات وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب والنساء قال سالم قالت عائشة أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف بالبيت قال سالم فسنة رسول الله أحق أن تتبع

قال أبو محمد فنحن نسألهم أن يعطونا في الأعصار الثلاثة المحمودية عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابعي التابعين رجلا واحدا قلد عالما كان قبله فأخذ بقوله كله ولم يخالفه في شيء فإن وجدوه ولن يجدوه والله أبدا لأنه لم يكن قط فيهم فلهم متعلق على سبيل المسامحة ولم يجدوه فليوقنوا أنهم قد أحدثوا بدعة في دين الله تعالى لم يسبقهم إليها أحد وليعلموا أن عصابة من أهل العصر الرابع ابتدعوا في الإسلام هذه البدعة الشنعاء إلا من عصم الله تعالى منهم والبدع محرمة وشر الأمور محدثاتها وليعلموا أن طلاب سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت والعاملين بها والمتفقهين في القرآن الذين لا يقلدون أحدا هم على منهاج الصحابة والتابعين والأعصار المحمودة وأنهم أهل الحق في كل عصر والأكثرون عند الله تعالى بلا شك وإن قل عددهم وبالله تعالى التوفيق وليعلم من قرأ كتابنا أن هذه البدعة العظيمة نعني التقليد إنما حدثت في الناس وابتدىء بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عاما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن قط في الأسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعدا على هذه البدعة ولا وجد فيهم رجل يقلد عالما بعينه فيتبع أقواله في الفتيا فيأخذ بها ولا يخالف شيئا منها ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم ثم لم تزل تزيد حتى عمت بعد المائتين من الهجرة عموما طبق الأرض إلا من عصم الله عز وجل وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم نسأل الله تعالى أن يثبتنا عليه وألا يعدل بنا عنه وأن يتوب على من تورط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين وأن يفيء بهم إلى منهاج سلفهم الصالح

حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال نا محمد بن إسحاق بن السليم قال نا ابن الأعرابي عن أبي داود نا أبو بكر بن شيبة نا وكيع عن الأوزاعي عن يحيى ابن أبي كثير عن أبي قلابة قال قال أبو مسعود وهو البدري لأبي عبد الله وهو حذيفة أو قال أبو عبد الله وهو حذيفة لأبي مسعود البدري ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بئس مطية الرجل وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عذاب القبر على أن المنافق أو المرتاب يقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فهذا التقليد مذموم في التوحيد فكيف ما دونه وقال ابن مسعود لا تكن إمعة فسئل ما هو فقال الذي يقول أنا مع الناس حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا بشار بندار نا ابن أبي عدي أنبأنا شعبة عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال لا يكونن أحدكم إمعة يقول إنما أنا مع الناس ليوطن أحدكم نفسه إن كفر الناس ألا يكفر وبه إلى بندار نا محمد بن جعفر نا شعبة قال سمعت أبا إسحاق يقول سمعت هبيرة وأبا الأحوص عن ابن مسعود قال إذا وقع الناس في الشر قل لا أسوة لي في الشر وبه إلى بندار قال ثنا سعيد بن عامر نا شعبة عن الحكم قال ليس

أحد من الناس إلا وأنت آخذ من قوله أو تارك إلا النبي صلى الله عليه وسلم وبه إلى بندار نا أبو داود نا شعبة عن منصور عن سعيد بن جبير أنه قال في الوهم يعيد قال فذكرت ذلك لإبراهيم فقال ما تصنع بحديث سعيد بن جبير مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا محمد بن سعيد عن القلعي عن الصواف عن بشر بن موسى عن الحميدي قال قال سفيان ما زال أمر الناس معتدلا حتى غير أبو حنيفة بالكوفة والبتي بالبصرة وربيعة بالمدينة قال أبو محمد وصدق سفيان فإن هؤلاء أول من تكلم بالآراء ورد الأحاديث فسارع الناس في ذلك واستحلوه والناس سراع إلى قبول الباطل والحق مر ثقيل وقد أوردنا قبل هذا المكان بأوراق يسيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا {تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} قال له عدي بن حاتم وكان قبل ذلك نصرانيا يا رسول الله ما كنا نعبدهم فقال له صلى الله عليه وسلم كلاما معناه إنهم كانوا يحرمون ما حرموا عليهم ويحلون ما أحلوا لهم وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه هي العبادة قال أبو محمد ولا جرم فقد حرم مقلدو مالك شحوم البقر والغنم إذا ذبحها يهودي وحرموا الجمل والأرنب إذا ذكاهما يهودي تقليدا لخطأ مالك في ذلك وردوا قول الله تعالى في ذلك بعينه {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} وأحل أصحاب أبي حنيفة ثمن الكلب الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم

وحرم من اتبعه منهم المساقاة التي أحلها الله تعالى تقليدا لخطأ أبي حنيفة في ذلك وردوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره في ثمن الكلب أنه سحت وتحريمه إياه وهذا نص ما حرم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من فعل اليهود والنصارى وقد أنذر صلى الله عليه وسلم بذلك وقال لتركبن سنن من كان قبلكم فقيل له يا رسول الله اليهود والنصارى فقال صلى الله عليه وسلم كلاما معناه نعم حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا ابن دحيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا حجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة نا عطاء بن السائب عن أبي البختري أن سلمان قال لزيد بن صوحان وأبي قرة كيف أنتما عند زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق ودنيا مطغية تقطع الأعناق ثم قال أما زلة العالم فإن اهتدى فلا تحملوه دينكم وإن زل فلا تقطعوا منه أناتكم وأما جدال المنافق بالقرآن والقرآن حق فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فما أضاء لكم فاتبعوه وما شبه عليكم فكلوه إلى الله عز وجل وذكر باقي الحديث قال أبو محمد فهذا سلمان ينهى أن يقلد العلماء ويأمر باتباع ظاهر القرآن الذي هو كمنار الطريق وينهى عن التأويلات والمتشابه منه وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين حدثنا يوسف بن عبد الله النمري أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن هو ابن الزيات نا محمد بن أحمد القاضي المالكي البصري نا موسى بن إسحاق نا إبراهيم بن المنذر الخزامي قال نا معن بن عيسى القزاز قال سمعت مالك بن أنس يقول إنما أنا بشر أخطىء وأصيب فانظروا في رأيي فكل

فصل فيما يفعل العالم إذا سئل عن مسألة فأعيته

ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه فهذا مالك ينهى عن تقليده وكذلك أبو حنيفة وكذلك الشافعي فلاح الحق لمن لم يغش نفسه ولم تسبق إليه الضلالة نعوذ بالله منها فصل في سؤال الرواة عن أقوال العلماء قال أبو محمد فإن قال قائل فكيف يفعل العالم إذا سئل عن مسألة فأعيته أو نزلت به نازلة فأعيته قيل له وبالله تعالى التوفيق يلزمه أن يسأل الرواة عن أقوال العلماء في تلك المسألة النازلة ثم يعرض تلك الأقوال على كتاب الله تعالى وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره الله تعالى إذ يقول {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} وإذ يقول {وما ختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى لله ذلكم لله ربي عليه توكلت وإليه أنيب} وقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} ولم يقل تعالى فردوه إلى مالك وأبي حنيفة والشافعي فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليرد ما اختلف فيه من الدين إلى القرآن والسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وليتق الله ولا يرد ذلك إلى رجل من المسلمين لم يؤمر بالرد عليه ومن أبى فسيرد ويعلم وقد قال الله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فلم يجعل البيان إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم فمن رد إلى سواه فقد عدم البيان وحصل على الضلالة ونعوذ بالله منها فالتقليد كله حرم في جميع الشرائع أولها عن آخرها من التوحيد والنبوة والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام فإن قال قائل فما وجه قوله تعالى {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} قيل له وبالله تعالى التوفيق إنه تعالى أمرنا أن نسأل أهل العلم عما حكم به الله تعالى في هذه المسألة وما روي عن رسول الله صلى الله

عليه وسلم فيها ولم يأمرنا أن نسألهم عن شريعة جديدة يحدثونها لنا من آرائهم وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله فليبلغ الشاهد الغائب وبينه تعالى بقوله {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فالدين قد كمل فلا مدخل لأحد فيه بزيادة ولا نقص ولا تبديل وكل هذا كفر ممن أجازه وقد أمر تعالى المتفقهين أن ينفروا لطلب أحكام الدين ولم يأمرهم أن يقولوا من عند شيئا بل حرم تعالى ذلك بذمه قوما شرعوا لهم في الدين ما لم يأذن به الله وبقوله عز وجل {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فإنما نحن دعاة إلى تفهم القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ومبلغون من ذلك إلى من تقدمناه في الطلب ما بلغه إلينا من تقدمنا ومعلمون إياه ومعاذ الله من التزيد في هذا أو من تبديله أو من النقص منه فإن قال قائل فكيف يصنع العامي إذا نزلت به النازلة قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق إنا قد بينا تحريم الله تعالى للتقليد جملة ولم يخص الله تعالى بذلك عاميا من عالم ولا عالما من عامي وخطاب الله تعالى متوجه إلى كل أحد فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده والعامي والعذراء المخدرة والراعي في شعف الجبال كما هو حرام على العالم المتبحر ولا فرق والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسولهصلى الله عليه وسلم في كل ما خص المرء من دينه لازم لكل من ذكرنا كلزومه للعالم المتبحر ولا فرق فمن قلد من كل من ذكرنا فقد عصى الله عز وجل وأثم ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد فلا يلزم المرء منه إلا مقدار ما يستطيع عليه لقوله تعالى {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} ولقوله تعالى

{فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} والتقوى كله هو العمل في الدين بما أوجبه الله تعالى فيه ولم يكلفنا تعالى منه إلا ما نستطيع فقط ويسقط عنا ما لا نستطيع وهذا نص جلي على أنه لا يلزم أحدا من البحث على ما نزل به في الديانة إلا بقدر ما يستطيع فقط فعلى كل أحد حظه من الاجتهاد ومقدار طاقته منه فاجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاه أن يقول له هكذا أمر الله ورسوله فإن قال له نعم أخذ بقوله ولم يلزمه أكثر من هذا البحث وإن قال له لا أو قال له هذا قولي أو قال له هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة أو أبي يوسف أو الشافعي أو أحمد أو داود أو سمى له أحد من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبي صلى الله عليه وسلم أو انتهزه أو سكت عنه فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء وأن يطلبه حيث كان إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم الله تعالى وحكم محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك وما يجب في دين الإسلام في تلك المسألة ولو علم أنه يفتيه بغير ذلك لتبرأ منه وهرب عنه وفرض على الفقيه إذا علم أن الذي أفتاه به هو في نص القرآن والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع أن يقول له نعم هكذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وحرام عليه أن ينسب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا قاله بقياس أو استحسان أو تقليد لأحد دون النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إن فعل ذلك كان بذلك كاذبا على رسوله عليه السلام ومقولا له ما لم يقل وقد وجبت له النار يقينا بنص قوله صلى الله عليه وسلم من كذب علي فليلج النار وهذا الذي قلنا لا يعجز عنه واحد وإن بلغ الغاية في جهله لأنه لا يكون أحد من الناس مسلما حتى يعلم أن الله تعالى ربه وأن النبي عليه السلام وهو محمد بن عبد الله رسول الله بالدين القيم

فإن قال قائل فإن أفتاه الفقيه بفتيا منسوخة أو مخصوصة أو أخطأ فيها فنسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليست من قوله سهوا أو تعمد ذلك فما الذي يلزم العامي من ذلك وقد روينا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال قلت لأبي رحمه الله الرجل تنزل به النازلة وليس يجد إلا قوما من أصحاب الحديث والرواية لا علم لهم بالفقه وقوما من أصحاب الرأي من يسأل فقال يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي ضعيف الحديث خير من الرأي قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا ينقسم ستة عشر قسما وهي من بلغه خبر منسوخ أو آية منسوخة ولم يعلم بنسخ ذلك فالعامي والعالم في ذلك سواء والواجب عليهما بلا شك العمل بذلك المنسوخ ولم يؤمرا قط بتركه إلا إذا بلغهما النسخ قال تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} فأخبر تعالى أنه لا تلزم النذارة إلا من بلغه الأمر فما دام النسخ لم يبلغه فلم يلزمه وإذا لم يلزمه فلم يؤمر به {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وليس في وسع أحد أن يعلم ما لم يعلم في حين جهله به ولا أن يعرف الشريعة قبل أن تبلغه وقد لزمه الأمر الأولى بيقين فلا يسقط عنه إلا ببلوغ الناسخ إليه بنص القرآن وهكذا كان الصحابة الذين بأرض الحبشة والصلاة قد فرضت بمكة إلى بيت المقدس وعرفوا ذلك فصلوا كذلك بلا شك ثم حولت القبلة إلى الكعبة بالمدينة بعد ستة عشر شهرا من الهجرة ولا خلاف بين أحد أنهم لم يلزمهم التحول إلى الكعبة ولا سقط عنهم فرض الصلاة ولا كان لهم أن يصلوا إلى غير القبلة التي صح عندهم الأمر بها ما لم يبلغهم النسخ وقد سمى الله تعالى صلاة من مات قبل أن يبلغهم بالنسخ إيمانا فقال

تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على لناس ويكون لرسول عليكم شهيدا وما جعلنا لقبلة لتي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع لرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على لذين هدى لله وما كان لله ليضيع إيمانكم إن لله بلناس لرءوف رحيم} وهكذا فعل أهل قباء صلوا نصف صلاتهم إلى بيت المقدس ولا شك أنهم لم يبتدئوها إلى بيت المقدس إلا والقبلة قد نسخت لكن لما لم يعلموا ذلك لم يلزمهم ما لم يعلموا ولا سقط عنهم ما كان لزمهم إلا بعد بلوغ النسخ إليهم وهكذا القول في كل ما صح نسخه ولم يصح عند بعض الناس وأما إن قامت عليه الحجة فعاند تقليدا ففاسق وهذا في غاية البيان فيما قلنا والحمد لله رب العالمين وأما من بلغه الخبر المنسوخ أو الآية المنسوخة ولم يعرف أنهما منسوخان فأقدم على تركهما بغير علم الناسخ فهو عاص لله تعالى لأنه ترك الفرض الواجب عليه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فهذا وجهان في النص المنسوخ الذي لم يبلغ المرء نسخه ثم وجهان آخران في عكس هذه المسألة وهما نص غير منسوخ من آية أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم ظنه عالم من العلماء منسوخا فترك العمل به وأفتى بذلك عاميا وأخبره أن الحديث أو الآية منسوخان فتركه العامي أو عملا به وهما يظنان ويقدران أنه منسوخ وهذا خلاف ما تقدم لأنهما ههنا تركا العمل بما أوجبه الله تعالى عليهما إلا أن من ترك ذلك مجتهدا يرى أن الذي فعل هو الحق ولم يتبين له غيره بعد فهو مخطىء له أجر واحد ومن ترك ذلك مقلدا فهو عاص لله عز وجل آثم لا حظ له في الآخرة أصلا لأنه ترك الحق للباطل دون اجتهاد فهذه أربعة أوجه ثم وجهان آخران وهما من بلغه حديث صحيح فلم يصح عنده فعمل به أو تركه فأما الذي عمل بحديث صحيح وهو يعتقد فيه أنه غير صحيح فإنه مقدم على ما يرى أنه باطل فهو عاص لله تعالى بنيته في ذلك فإن تركه

وهو عنده غير صحيح ولم تقم الحجة عليه بصحته فهو محسن مأجور ولا شيء عليه لأنه لم يبلغه بعد ما يلزمه اتباعه وأما من صح عنده الخبر فتركه فإنه لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون مقدما مستجيزا لخلاف ما صح عنده من الله عز وجل ولا إثم عليه في نفس عمله بما وافق الحق فهذا قسم وقسم ثان وهو أن يستحل خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك لقول الله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} ثم وجهان آخران وهما عكس اللذين قبلهما وهما من بلغه حديث غير صحيح فظنه صحيحا فعمل به فهذا مأجور على نيته واجتهاده أجرا واحدا ولا إثم عليه فيما خالف فيه الحق لأنه لم يقصد والأعمال بالنيات فلو تركه عمدا لكان متسهلا لخلاف ما صح عنده عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عاص لله تعالى بهذه النية فقط آثما فيها فإن لم يكن مستسهلا لذلك لكن اتفق له ترك العمل بذلك فلا إثم عليه لأنه لم يترك حقا وهذا حكم من أفتاه فقيه بفتيا غير صحيحة فإنها لا تلزمه ولا هو مأمور بها ولو كان عاصيا بترك العمل بها لكان مأمورا بها وهي باطل فكان يكون مأمورا بالباطل وهذا خطأ متيقن لكنه إن تركها مستسهلا لترك العمل بالواجب عليه فهو عاص بهذه النية فقط لا بتركه للعمل بغير الواجب وبالله تعالى التوفيق ومن أفتى آخر بفتيا صحيحة إلا أنه لم يأته عليها بدليل فإنه إن عمل بها مقلدا فهو آثم في تقليده مأجور إن شاء الله تعالى بعمله بها إن أراد الله تعالى ثم وجهان وهما من بلغه نص مخصوص فعمل به على عمومه ولم يبلغه

الخصوص وترك العمل بعمومه فوافق الحق وهو لا يعلمه أو بلغه نص عام فتأول فيه الخصوص فأما الذي عمل بالعموم في الخصوص ولم يبلغه الخصوص وهو يظنه عموما فمأجور أجرين لأن فرضه أن يعمل بما بلغه حتى يبلغه خلافه إذ وجوب الطاعة لله تعالى فرض عليه فلو تأول أنه مخصوص دون دليل يقوم له على ذلك لكن مطارفة فعمل بالخصوص فوافق الحق فإن كان مستسهلا لمخالفة ظاهر ما يأتيه عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم بلا دليل فهو فاسق عاص بهذه النية فقط غير عاص فيما فعل لأنه لم يخطىء في ذلك فإن فعل ذلك باتفاق دون قصد إلى خلاف ما بلغه من الظواهر عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه البتة والقياس وقول من دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير نص ولا إجماع والرأي كل ذلك خطأ ولم يكن قط حقا البتة ثم وجهان وهما حاكم شهد عنده رجلان هما عنده عدلان فوافق أن شهدا بباطل إما عمدا وإما غلطا فإنه حق مأمور بالحكم بشهادتهما لأنه قد ورد النص بقبول شهادة العدول عندنا ولم نكلف علم غيبهما وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بظاهر الشهادة أو اليمين ولعل الباطن خلاف ذلك وهو صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالحق الذي لا يحل خلافه ففرض على الحاكم أن يحكم بشهادة العدول عنده وإن كانوا كاذبين أو مغفلين وهو في ذلك مأجور أجرين ولا إثم عليه فيما خفي عنه فإن لم يحكم بتلك الشهادة فهو عاص لله عز وجل فاسق بتلك النية وبعمله معا والإثم عليه في تركه الحكم بها ثم وجهان وهما حاكم شهد عنده عدلان بحق فلم يعرفهما فهو غير مأمور بالحكم بشهادتهما ولا يحل له أن يحكم بها أصلا وهما عنده مجهولان ولا إثم عليه فيما خفي عنه من ذلك فلو حكم بها فهو آثم عاص

بهذه النية وبعمله فاسق بها والإثم عليه في نفس حكمه وإن كان بما وافق الحق وعمدة القول في هذا الباب كله أن الإثم ساقط عن المرء فيما لم يبلغه والإثم لازم له فيما بلغه فخالفه عمدا أو تقليدا وأنه لا يجب على المرء إلا ما جاء به النص أو الإجماع حقا لا ما أفتاه به المفتون مما لم يأت به نص ولا إجماع وأخبر بأنه نص أو إجماع وأنه مأجور على نيته ومثاب عليها فإن كانت خيرا فخير وإن كانت شرا فشر وإن المرء لا يأثم بعمل ما أمر به وإن لم يعلم أنه مأمور به ولا يأثم بترك ما لم يؤمر به وإن لم يعلم أنه ليس مأمورا به وإن ظن أنه مأمور به لأن النية غير العمل إلا أن يبلغه نص فيخالفه وإن كان مخصوصا أو منسوخا بعد أن يبلغه الناسخ أو المخصص ومن هذا الباب من لقي امرأة فراودها عن نفسها فأجابته فوطئها وهو يظنها أجنبية فإذا بها امرأته ولم يكن عرفها بعد ولا كان دخل بها أو لقي إنسانا فقتله وهو يظنه مسلما حرام الدم فإذا به قاتل أبيه عمدا أو كافر حربي أو انتزاع مالا من مسلم كرها فإذا به ماله نفسه فكل هذا إن كان مستسهلا للزنى أو لغصب المال وقتل النفس فهو آثم بتلك النية فاسق بها عاص لله عز وجل ولا إثم عليه في وطئه ولا أخذه ماله ولا قتله الحربي ولا قاتل أبيه لأنه لم يواقع في ذلك إلا مباحا له وقد يظن ظان أن المستسهل للإثم وإن لم يواقعه لا يكتب عليه إثم ذلك لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة قال أبو محمد وهذا الحديث بين أن الذي لا يكتب عليه إثم فهي السيئة

التي لم يعملها وهذا ما لا شك فيه ولم يقل صلى الله عليه وسلم إن إثم الهم بالسيئة لا يكتب عليه والهم بالشيء غير العمل به قال ضابىء بن الحارث البرجمي هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله ثم استدركنا هذا وتأملنا النصوص فوجدناها مسقطة حكم الهم جملة وأنه هو اللمم المغفور جملته فإن قال قائل فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة قيل له قد صح ذلك وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى فمن هم بسيئة ثم تركها قاصدا بتركها إلى الله تعالى كتبت له حسنة بهذه النية الجميلة فإن تركها لا لذلك لكن ناسيا أو مغلوبا أو بدا له فقط فإنها غير مكتوبة عليه لأنه لم يعملها ولا أجر له في تركها لأنه لم يقصد بذلك الله تعالى ولا يكون من هم بالسيئة مصرا إلا من تقدم منه مثل ذلك الفعل قال الله تعالى {ولذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا لله فستغفروا لذنوبهم ومن يغفر لذنوب إلا لله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} فصح أن لا إضرار إلا على من قد عمل بالشيء الذي هو مصر عليه وهو عالم بأنه حرام عليه وأما من هم بقبيح ولم يفعله قط فهو هام به لا مصر عليه بالنصوص التي ذكرنا فإن قال قائل ما تقولون في حربي كافر لقي مسلما فدعاه المسلم إلى الإسلام فأسلم ثم علمه الشرائع وقال له هذه شرائع الإسلام أيلزمه العمل بما أخبره من ذلك أم لا قيل له وبالله تعالى التوفيق الكلام في هذا كالكلام فيما تقدم وهو أن ما كان مما أمره به موافقا للنص أو الإجماع فهو واجب عليه قبوله ومأجور فيه إن عمله أجران وعاص فيه إن لم

يفعله وما كان من ذلك بخلاف النص فهو غير واجب عليه ولا يأثم في ترك العمل به إلا إن استسهل خلاف ما ورد عليه من النص فهو آثم في هذه النية فقط فلو عمل بذلك أجر أجرا واحدا بقصده إلى الخير فقط ولم يؤجر على ذلك العمل ولا إثم فيه لأنه ليس حقا فيؤجر عليه ولم يقصد عمل الخطأ وهو يعلمه فيأثم عليه وهذا حكم العامي في كل ما أفتاه فيه فقيه من الفقهاء وهذا حكم العالم فيما اعتقده وأفتى به باجتهاد لا يوقن فيه أنه مصيب للحق عند الله عز وجل فهي أربع مراتب هو إنسان عمل بالحق وهو يدري أنه حق فله أجران أجر النية وأجر العمل وآخر عمل الباطل وهو يدري أنه حق فله أجران أجر النية وأجر العمل وآخر عمل الباطل وهو يدري أنه باطل فله إثمان إثم النية وإثم العمل وقال تعالى {ومن جآء بلسيئة فكبت وجوههم في لنار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} فالنية عمل النفس المجرد والعمل على الجوارح بتحريك النفس لها فهما عملان متغايران وثالث عمل بالحق وهو يظنه باطلا أو ترك الباطل وهو يظن أن ذلك الباطل الذي ترك حق فلا إثم عليه فيما عمل ولا فيما ترك لأنه لم يعمل محرما عليه ولا ترك واجبا عليه ولا يؤجر أيضا في شيء من ذلك لأنه لم يقصد بنيته في ذلك وجه الله تعالى فإن نوى في ذلك استسهال مخالفة الحق فهو آثم بهذه النية فقط لا بما فعل ولا بما ترك ورابع عمل بالباطل وهو يظنه حقا أو ترك الحق وهو يظنه باطلا فهذا مأجور في نيته للخير أجرا واحدا ولا إثم عليه فيما فعل ولا فيما ترك ولا أجر أيضا لأنه لم يعمل صوابا فيؤجر ولا قصد الباطل وهو يعلمه باطلا فيأثم فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة واليقين فيها والحق عند الله بلا شك وما عدا هذا فحيرة ودعوى بلا دليل فإن سأل العامي فقيهين فصاعدا فاختلفوا عليه فقد قال قوم يأخذ بالأخف وقال قوم يأخذ بالأثقل وقال قوم لا يلزمه منها وقال قوم هو مخير يأخذ ما يشاء من ذلك

قال أبو محمد أما من قال هو مخير فقد أمره باتباع الهوى وذلك حرام وأخطأ بلا شك وجعل الدين مردودا إلى اختيار الناس يعمل بما شاء وأجاز فيه الاختلاف والله تعالى يقول {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} وقال تعالى {وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين} وقال تعالى {فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} فالاختلاف ليس من أمر الله تعالى الذي أباحه وأمر به وقد علمنا أن حكم الله تعالى في الدين حكم واحد وأن سائر ذلك خطأ وباطل فقد خيره هذا القائل في أخذ الحق أو تركه وأباح له خلاف حكم الله تعالى وهذا الباطل المتيقن بلا شك فسقط هذا القول بالبرهان الضروري وأما من قال يأخذ بالأثقل فلا دليل على صحة قوله أيضا وكذلك قول من قال يأخذ بالأخف وكل قول بلا دليل فهي دعوى ساقطة فإن احتج بقول الله عز وجل {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} فقد علمنا أن كل ما ألزم الله تعالى فهو يسر وبقوله تعالى {وجاهدوا في لله حق جهاده هو جتباكم وما جعل عليكم في لدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم لمسلمين من قبل وفي هذا ليكون لرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على لناس فأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وعتصموا بلله هو مولاكم فنعم لمولى ونعم لنصير} قال أبو محمد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق إنه إن أفتاه فقيهان فصاعدا بأمور مختلفة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو غير فاسق بتركه قبول شيء منها لأنه إنما يلزمه ما ألزمه النص في تلك المسألة وهو لم يدره بعده فهو غير آثم بتركه ما وجب مما لم يعلمه لكنه يتركهم ويسأل غيرهم ويطلب الحق مثال ذلك رجل سأل كيف أحج فقال له فقيه أفرد فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها وقال له آخرون اقرن فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي لم تكن له بعد الهجرة غيرها وقال له آخرون تمتع فهكذا فعل رسول الله

صلى الله عليه وسلم في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها ففرض عليه أن يتركهم ويستأنف سؤال غيرهم ثم يلزمه ما قلنا آنفا قبل هذا من موافقته للحق أو حرمانه إياه بعد اجتهاده ويكون العامي حينئذ بمنزلة عالم لم يبين له وجه الحكم في مسألة ما إما بتعارض أحاديث أو آي أو أحاديث وآي فحكمه التوقف والتزيد من الطلب والبحث حتى يلوح له الحق أو يموت وهو باحث عن الحق عالي الدرجة في الآخرة في كلا الأمرين ولا يؤاخذه الله تعالى بتركه أمرا لم يلح له الحق فيه لما قدمنا قبل من أن الشريعة لا تلزم إلا من بلغته وصحت عنده والأصل إباحة كل شيء بقوله تعالى {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وبقوله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن أمر لم يحرم فحرم من أجل مسألته والأصل ألا يلزم أحدا شيء إلا بعد ورود النص وبيانه وبقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم} وبقوله عليه السلام لو قلتها لوجبت فاتركوني ما تركتكم وبقوله صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان خشيت أن يفرض عليكم فمن علم أن عليه الحج ولم يدر كيف يقيمه فلا يؤاخذ من تركه ما وجب عليه من عمل الحج إلا بما علم لا بما لا يعلم ولكن عليه التزيد في البحث حتى يدري كيف يعمل ثم حينئذ يلزمه الذي علم ولا يؤاخذ الله تعالى أحدا بشيء لم تقم عليه الحجة ولا صح عنده وجهه لأنه لم يبلغه ذلك الحكم قال تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} وأما من قال إن الفرض على العامي أن يقبل ما أفتاه به الفقيه ولم يفسر كما فسرنا فقد أخطأ

ونحن نسأل قائل هذا القول فنقول له إن كنت شافعيا فماذا تقول في عامي سأل مالكيا أو حنفيا عن رجل أعتق أمته وتزوجها وجعل عتقها صداقها فأفتاه بأنها ليست له بزوجة وأن نكاحه فاسد أتجيز له أن يعتر بغير طلاق فيزوجها من غيره فيبيح له فرجا حرمه الله عليه أو تراه عاصيا إن قام معها وإن كان مالكيا قلنا له ما تقول في عامي سأل شافعيا أو حنبليا عن نكاح امرأة أمه أرضعته رضعتين فأفتاه بنكاحها أتبيح له ذلك وتقول إنه لازم الأخذ بقوله أو سأل حنفيا عن المساقاة أتجوز فحرمها عليه أيكون الأخذ بتحريم المساقاة واجبا عليه فإن قال نعم قيل له من أوجب عليه تحريم ذلك إذ يقول إنه واجب عليه أن يأخذ بقول الفقيه الذي يفتيه أنت أم الله عز وجل فإن قال الله عز وجل كذب على الله تعالى وأقر مع ذلك أن الله تعالى أوجب عليه خلاف مذهبه وإن قال أنا أوجبت ذلك ترك مذهبه وزادنا أنه يحرم ويحلل وهذا خروج عن الإسلام وكذلك يسأل الحنفي عن عامي استفتى مالكيا عن كلام الإمام في الصلاة بما فيه إصلاحها فأفتاه بجواز ذلك أيلزمه الأخذ بقوله فيصير له الكلام في الصلاة مباحا ثم يلزمه كل ما ذكرنا آنفا وهكذا نسأل كل معتقد لمسألة يستعظم مخالفة من خالفه فيها من عامي سأل فقيها فأفتاه بما يستعظمه هذا الذي نسأله نحن أفرض الله تعالى عليه قبول ذلك المعنى أم لا فإن قال لا ترك قوله الفاسد إن العامي قد فرض الله تعالى عليه قبول ما أفتاه الفقيه المسؤول وإن لج وقال نعم

صار حاكما بتحريم شيء وتحليله في وقت واحد وجعل حكم الله تعالى مردودا إلى حكم ذلك المفتي وجعل حكم ذلك المفتي مبطلا لحكم الله تعالى ولحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وجعل دين الله تعالى موكولا إلى آراء الرجال ومتبدلا بتبدل الفتاوى فمرة ساقطا ومرة لازما وفي هذا مفارقة الإسلام ومكابرة العقل وإبطال الحقائق وبالله تعالى التوفيق والناس فيما يعتقدونه ولا يخلون من أحد أربعة أوجه لا خامس لها إما أن يكون المرء طلب الصواب فأداه اجتهاده إلى الصواب حقا فاعتقده على بصيرة وإما أن يكون طلب الصواب فحرم إدراكه لبعض العوارض التي سبقت له في علم الله تعالى وإما أن يكون قلد فوافق في تقليده الصواب وإما أن يكون قلد فوافق في تقليده الخطأ فأما الوجهان الأولان فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من اجتهد فأصاب فله أجران وأن من اجتهد فأخطأ فله أجر وقوله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم عموم لكل مجتهد لأن كل من اعتقد في مسألة ما حكما ما فهو حاكم فيها لما يعتقد هذا هو اسمه نصا لا تأويلا لأن الطلب غير الإصابة وقد يطلب من لا يصيب على ما قدمنا ويصيب من لا يطلب فإذا طلب أجر فإذا أصاب فقد فعل فعلا ثانيا يؤجر عليه أجرا ثانيا أيضا فإن أشكل عليه بعد طلبه فلم يأت محرما عليه ولا اعتمد معصية فلا إثم عليه ولم يفعل ما أمر به من الإصابة فلا أجر له فيما لم يفعل وله بالطلب أجر واحد ولكن الطلب يختلف فمنه طلب أمر به وطلب لم يؤمر به فالطلب الذي أمر به هو الطلب في القرآن والسنن ودليلهما فمن طلب في هذه المعادن الثلاثة فقد طلب كما أمر فله أجر الطلب لأنه مؤد لما أمر به منه على ما ذكرنا والطلب الذي لم يؤمر به هو الطلب في القياس وفي دليل الخطاب

وفي الاستحسان وفي قول من دون النبي صلى الله عليه وسلم فلم يطلب كما أمر فلا أجر له على طلب ذلك لكن لما كانت نيته بذلك القصد إلى الله عز وجل وطلب الحق وابتغاءه كان غير قاصد إلى الخطأ وهو يدري أنه خطأ فله من ذلك نية من هم بخير وهم بحسنة وهي الطلب الذي لم يفعله وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من هم بحسنة ولم يعملها فإنها تكتب له حسنة والحسنة بلا شك أجر فالأجر هنا يتفاضل فمن هم بالطلب ثم طلب كما أمر فله عشر حسنات لأنه هم بحسنة فعملها ومن هم بالطلب كما أمر فله حسنة واحدة لأنه لم يعملها كما أمر حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا أبو كريب ثنا أبو خالد الأحمر عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب وإن عملها كتبت وبه إلى مسلم حدثنا شيبان بن فروخ ثنا عبد الوارث هو ابن سعيد التنوري عن الجعد أبي عثمان ثنا أبو رجاء العطاري عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة

ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة قال أبو محمد وأما القسم الثالث وهو المقلد المصيب فهو في تقليده عاص لله عز وجل لأنه فعل أمرا قد نهاه الله عنه وحرمه عليه فهو آثم بذلك ويبعد عنه أجر المعتقد للحق لأنه لم يصبه من الوجه الذي أمره الله تعالى به وكل من عمل عملا بخلاف أمر الله تعالى فهو باطل ولا شك أن المجتهد المخطىء أعظم أجرا من المقلد المصيب وأفضل لأن المقلد المصيب آثم بتقليده غير مأجور بإصابته والمجتهد المخطىء مأجور باجتهاده غير آثم لخطئه فأجر متيقن وأجر مضمون أفضل من أجر محروم وإثم متيقن بلا شك فإن قال قائل فردوا شهادة كل مسلم لم يعرف الإسلام من طريق الاستبدال لأنه مقلد والمقلد عاص قيل له ليس من اتبع من أمره الله تعالى باتباعه مقلدا بل هو مطيع فاعل ما أمر به محسن وإنما المقلد من اتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه فهذا عاص لله تعالى ثم لو علمنا أن هذا المسلم إنما اعتقد من الإسلام تقليدا لأبيه وجاره ولمن نشأ معه ولو أنه نشأ من غير المسلمين لم يكن مسلما لما جاز قبول شهادته وهذا لا يبعد من الكفر بل إن عقد نيته على هذا فهو كافر بلا شك وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم إذ وصف فتنة الناس في قبورهم فقال صلى الله عليه وسلم وأما المنافق أو المرتاب لا ندري أسمى أي ذلك قال فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته وهذا نص ما قلنا والمسلمون بحمد الله في أغلب أمورهم مبعدون عن هذا بل تجد منهم الأكثر من عقد قلبه على أنه لو كفر أبوه وأهل مصره ما كفر هو ولو أحرق بالنار فهذا ليس مقلدا والحمد لله رب العالمين

وكذلك من قلد في فتيا أو نحلة وقامت عليه الحجة فعند فهو فاسق مردود الشهادة ولو لم يفهمها فهو معذور ولا يضر ذلك شهادته قال الله تعالى {يجادلونك في لحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى لموت وهم ينظرون} فذم عز وجل من عند بعد أن تبين له الحق وعذر النبي صلى الله عليه وسلم عمر إذ لم يفهم آية الكلالة فهذا فرق ما بين الأمرين وبالله تعالى التوفيق وأما القسم الرابع وهو المقلد المخطىء فله إثم معصية التقليد وإثم المعصية باعتقاده الخطأ فعليه إثمان وقد يخرج على القسم الثالث الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليصلي الصلاة وما له منها إلا نصفها ثلثها ربعها فيكون ذلك على قدر ما وافق فيه الحق من أحكام صلاته وقد بينا فيما خلا كيفية اجتهاد طالب الفقه وما يلزمه من معرفة الرواة والثقات والمجرحين والمسند المرسل وبناء النصوص بعضها على بعض من الآي والأحاديث والاستثناء والإضافة وزيادات العدول والناسخ والمنسوخ والمحكم والعام والخاص والمجمل والمفسر والإجماع والاختلاف وكيفية الرد إلى القرآن والسنة وفهم البراهين والشغب على حسب ما تنتهي إليه طاقته وبينا في هذا الباب وجه اجتهاد العامي وأما من أباح للعامي أن يقلد فقد أخطأ بالبراهين التي قدمنا من نهي الله تعالى عن التقليد جملة ومع خطئه فقد تناقض لأن القائل بما ذكرنا قد أوجب على العامي البحث عن أفقه أهل بلده وهذا النوع من أنواع الاجتهاد فقد فارق التقليد وتركه ولم يقل أحد أن العامي يقلد كل من خرج إلى يده فقد صح معنى ترك التقليد من العامي وغيره بإجماع لما ذكرنا آنفا

وإن أجاز لفظه مجيزون ناقضون في إجازتهم إياه وكل من أقر بلفظ وأنكر معناه فقد أقر بفساد مذهبه وأيضا فإنه إن بحث عن أفقه أهل بلده لم يكد يجد اتفاقا على ذلك بل في الأغلب يدله قوم على رجل ويدله آخرون على آخر وأيضا فقد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه ومن لا يعلم عنده ومن غيره أعلم منه وقد شهدنا نحن قوما فساقا حملوا اسم التقدم في بلدنا وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة ولا يجوز قبول شهادتهم وقد رأيت أنا بعضهم وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض لحافا ويتخذ في منزله الصور ذوات الأرواح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه ويفتي بالهوى للصديق فتيا وعلى العدو فتيا ضدها ولا يستحي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى وانحرافه عليه شاهدنا نحن هذا عيانا وعليه جمهور أهل البلد إلى قبائح مستفيضة لا نستجيز ذكرها لأننا لم نشاهدها هذا مع ما فشا في الناس من فتيا من يسمونه في الفقه بالتقليد والقياس والاستحسان وإنما أوقع العامة في سؤالهم حسن الظن بهم أنهم لا يقدمون على الفتيا بغير علم ولا بما لا يصح عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو علمت العامة أنهم ليس عندهم في أكثر ما يفتونهم به علم عن الله عز وجل ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم يوقعونهم في مخالفة القرآن والسنة ما سألوهم ولا استفتوهم بل لعلهم كانوا يقدمون عليهم إقداما يتلفهم فمن استفتى فقيهين فأفتاه كل واحد منهما بفتيا غير الذي أفتى به الآخر وقال له أحدهما كذا قال الله عز وجل وقال الآخر كذا قال رسول الله صلى

الله عليه وسلم فاللازم له أن يأخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله عز وجل {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يخالف ربه عز وجل لكنه يبين مراده تعالى ولأنه لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نعلم أن القرآن كلام الله تعالى ولا درينا دين الله تعالى ولا عرفنا مراد ربنا تعالى ولا أوامره ولا نواهيه ولا خلاف بين أحد المسلمين في وجوب المصير إلى قوله صلى الله عليه وسلم وترك ما أمرنا أن نترك العمل به من القرآن فمن ذلك أنه لا خلاف بين أحد من المسلمين حاشا الأزارقة في وجوب الرجم على الزاني المحصن وليس ذلك في القرآن ولا في عدد الصلوات وكيفية أخذ الزكوات وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها إلا من شذ عن الحق في ذلك وليس في القرآن شيء من ذلك أصلا وهكذا سائر الأحكام والعبادات كلها وبالله تعالى التوفيق وبرهان قولنا في هذا ما حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي ثنا محمد بن إسحاق بن السليم عن أبي داود نا أحمد بن حنبل نا سفيان بن عيينة عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر بما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدناه في كتاب الله تبعناه

فصل في بطلان حجة من قال بعمل أهل المدينة وإجماعهم

فصل هل يجوز تقليد أهل المدينة وقال قوم بتقليد أهل المدينة وقد ذكرنا في باب الكلام في الأخبار من كتابنا هذا وفي باب الإجماع من كتابنا هذا بطلان من احتج بعمل أهل المدينة وإجماعهم فأغنى عن تردده ولكن لا بد أن نذكر ههنا طرفا نشاكل غرضنا في هذا الباب إن شاء الله تعالى احتج قوم في تقليد أهل المدينة بقبول قولهم في المد والصاع وهذا لا حجة لهم فيه لأن هذا داخل فيما نقلوه مسندا بالتواتر على أن ذلك أيضا مما قد اختلفوا فيه فقد روي عن موسى بن طلحة بن عبيد الله وهو مدني ما يخالف قولهم ويوافق قول أبي حنيفة ولو كان قبول قولهم في المد والصاع موجبا لقبول قولهم في غير ذلك لوجب تقليد أهل مكة في جميع أقوالهم لاتفاق الأمة كلها يقينا بلا خلاف من أحد منهم على قبول قولهم في موضع عرفة وموضع مزدلفة وموضع منى وموضع الجمار وموضع الصفا وموضع المروة وحدود الحمى فما خالف أحد من جميع فرق الإسلام لا قديما ولا حديثا قول أهل مكة وهذا أكثر من المد والصاع على أن الأمة لم توافق قولهم في المد والصاع وأيضا فإن قولهم في المد والصاع هو أقل ما قيل فهو حجة عندنا من هذه الجهة كما لو قال غيرهم ذلك سواء ولا فرق لأن ما قالوا الصاع ثمانية أرطال وقال قوم أكثر من ذلك وقال جمهور أهل المدينة وقوم من غيرهم خمسة أرطال ونيف فكان هذا المقدار متفقا على وجوب إخراجه في زكاة الفطر وجزاء الصيد وكفارة الواطىء في رمضان والمظاهر وحلق الرأس للمحرم قبل بلوغ الهدي محله فوجب الوقوف عند الإجماع في ذلك وكان ما زاد مختلفا فيه لم يجب القول به إلا بنص ولا نص مسندا صحيحا في ذلك فلم يجب القول بإخراج الزيادة على ذلك بغير نص

ولا إجماع وأجمعت الأمة كلها بلا خلاف في أحد منها على أن المد والصاع المذكورين في زكاة الفطر هما المذكوران في المقدار الذي تلزم فيه الزكاة من الحب والتمر وأنهما سواء فلما صح المقدار المذكور في زكاة الفطر صح أنه يعينه في زكاة الحب والتمر ولا فرق ويكفي من هذا أنه نقل مبلغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكافة وأما الخلاف في المد والصاع فإنما هو خلاف رأي لا خلاف رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فسقط ذلك الخلاف والحمد لله رب العالمين واحتجوا في ذلك بما روي من قول عبد الرحمن بن عوف لعمر رضي الله عنهما إن الموسم يجمع رعاع الناس فاصبر حتى تأتي المدينة فتخلو بوجوه الناس فالجواب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يتبع من عبد الرحمن بن عوف وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل التبليغ الذي أمره الله به إلا في مكة في حجة الوداع في الموسم الجامع لكل عالم وجاهل وهنالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا هل بلغت فقال الناس اللهم نعم فقال صلى الله عليه وسلم اللهم اشهد ولم يجعل صلى الله عليه وسلم ذلك التبليغ العام الذي أقام به الحجة في المدينة ولا في خاص من الناس ولا بحضرة وجوه الناس خاصة دون الرعاع وكذلك لم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة سورة براءة في المدينة وهي آخر سورة نزولا وهي الجامعة للسير وأحكام الخلافة والإمامة حتى يبعث بها عليا ليقرأ في الموسم بمكة في حجة أبي بكر رضي الله عنهما بحضرة كل من حضر وإنما يكون الانفراد بوجوه الناس في الآراء التي تدار ويستضر بكشفها وتجري مجرى الأسرار ومثل هذا كانت مقالة عمر التي حضه عبد الرحمن على تأخيرها إلى أن يخلو بوجوه الناس ولم تكن من الشرائع الواجب معرفتها من الفرض والحرام والمباح ونحن إنما نتكلم مع خصومنا في

الشرائع التي تلزم أهل صين الصين والخالدات ومن في حوزارين وأقاضي الزنج وأقاضي بلاد الصقالبة كما يلزم الصحابة وأهل المدينة لزوما مستويا لا تفاضل فيه ولم ننازعهم في إدارة رأي ولا في تحذير من طالب خلافة فلو تركوا التمويه لكان أولى بهم ولو كانت تلك المقالة من واجبات الشرائع ما أخرها عمر ولا أمره ابن عوف بتأخيرها والعجب أن القائلين بهذا قد خالفوا إجماع أهل المدينة حقا فمن ذلك سجودهم مع عمر في {إذا لسمآء نشقت} يوم جمعة فقالوا ليس عليه العمل فتركوا إجماع أهل المدينة ومن ذلك اشتراكهم في الهدي يوم الحديبية فقالوا ليس عليه العمل فتركوا إجماع أهل المدينة الصحيح وادعوه حيث لا يصح وهكذا يكون عكس الحقائق والأمور في الديانة لا تؤخذ إلا من نص منقول ولا نص على وجوب اتباع أهل المدينة دون غيرهم فإذا كان ذلك دعوى بلا برهان فهو افتراء على الله عز وجل أنه أوجب ذلك وهو تعالى لم يوجبه وهذا عظيم جدا ونسأل الله التوفيق وإذا كان نقل أهل المدينة وغيرهم إنما حكمه أن يراعى الفاسق فيجتنب نقله والعدل فيقبل نقله ففي المدينة عدول وفساق ومنافقون وغيرهم شر خلق الله تعالى وفي الدرك الأسفل من النار وقال تعالى {وممن حولكم من لأعراب منافقون ومن أهل لمدينة مردوا على لنفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وقال تعالى {إن لمنافقين في لدرك لأسفل من لنار ولن تجد لهم نصيرا} وفي سائر البلاد أيضا عدول وفساق ومنافقون ولا فرق وكيف يدعي هؤلاء المغفلون تقليد أهل المدينة وهم يخالفون عمر بن

الخطاب في نيف وثلاثين قضية من موطأ مالك خاصة وخالفوا أبا بكر وعائشة وابن عمر وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري وغيرهم من فقهاء المدينة في كثير من أقوالهم جدا فإن كان تقليد أهل المدينة واجبا فمالك مخطىء في خلافه لهؤلاء فيجب عليهم أن يتركوه إذا خالف من أهل المدينة والحقيقة التي لا شك فيها هي أن مرادهم بالدعاء إلى أهل المدينة والتشييع بوجوب طاعتهم إنما هو دعاء إلى قول مالك وحده لا يبالون بأحد سواه من أهل المدينة وأعجب من هذا أنهم فيما يدعون فيه إجماع أهل المدينة من المسائل ليس عندهم في صحة ذلك إلا نقل مالك وحده ومن المحال أن يثبت الإجماع بنقل واحد لا برهان بيده وكل ما جوزوه على سائر الثقات من رواة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمن دونه إلى قيام الساعة فهو جائز على مالك ولا فرق فظهر بطلان قولهم لكل ذي حس سليم وأيضا فإن مالك بن أنس رحمه الله لم يدع إجماع أهل المدينة في موطئه إلا في نحو ثمان وأربعين مسألة فقط مع أن الخلاف موجود من أهل المدينة في أكثر تلك المسائل بأعيانها وأما سائرها فلا خلاف فيها بين أحد لا مدني ولا غيره ولم يدع إجماعا في سائر مسائله فاستجاز أهل الجهل على الحقيقة من اتباعه الكذب المجرد والجهل الفاضح ونعوذ بالله من الخذلان في إطلاق الدعوى على جميع أقوالهم أو أكثرها أنها إجماع أهل المدينة وحتى لو صح لهم هذا القول الفاسد لوجب ألا تقبل رواية القاسم وأشهب وابن عبد الحكم وسائر المالكيين قديما وحديثا لأنهم ليسوا مدنيين فإن قال قائل إنهم أخذوا عن أهل المدينة قيل وكذلك أهل البصرة والكوفة والشام ومصر ومكة واليمن أخذوا عن أصحاب رسول الله

صلى الله عليه وسلم الذين هم أفضل وأعلم من الذين أخذ عنهم المذكورون وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي به هدى الله تعالى من شاء من أهل المدينة وغيرهم والقرآن واحد مشهور في غير المدينة كما هو بالمدينة وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم معروفة منقولة في غير المدينة كما هي بالمدينة والدين واحد ويهب الله من يشاء من أهل المدينة وغير أهل المدينة ما شاء من الحظ في دينه والفهم في كتابه وأهل المدينة وغيرهم سواء ولا فرق بينهم وما عدا هذا القول فإفك وزور وكذب وبهتان وبالله التوفيق وقد ذكرنا أن مالكا وأبا حنيفة والشافعي لم يقلدوا ولا أجازوا لأحد أن يقلدهم ولا أن يقلد غيرهم وروي أن مالكا أفتى في مسألة في طلاق البتة أنها ثلاث فنظر إلى أشهب قد كتبها فقال امحها أنا كلما قلت قولا جعلتموه قرآنا ما يدريك لعلي سأرجع عنها غدا فأقول هي واحدة وهذا ابن القاسم لا يرى بيع كتب الرأي لأنه لا يدري أحق فيها أم باطل ويرى جواز بيع المصاحف وكتب الحديث لأنها حق وقال مالك عند موته وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطا على أنه لا صبر لي على السياط وذكر الشافعي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بعض جلسائه يا أبا عبد الله أنأخذ به فقال له يا هذا أرأيت علي زنارا أرأيتني خارجا من كنيسة حتى تقول لي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنأخذ بهذا ولم يزل رحمه الله في جميع كتبه ينهي عن تقليده وتقليد غيره وهكذا حدثني القاضي أبو بكر حمام بن أحمد عن عبد الله بن محمد الباجي عن القاضي أسلم بن عبد العزيز بن هشام عن أبي إبراهيم المزني عن الشافعي فترك هؤلاء القوم ما أمرهم به أسلافهم وعصوهم في الحق واتبعوا آراءهم تقليدا وعنادا للحق

حدثنا القاضي يونس بن عبد الله ومحمد بن سعيد بن نبات قال يونس نا يحيى بن مالك بن عائن نا أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل الخشاب نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا إبراهيم بن أبي الجحيم نا محمد بن معاذ نا سفيان بن عيينة وقال محمد بن سعيد نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا أبو موسى الزمن هو محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري ثم اتفق ابن عيينة والثوري واللفظ للثوري عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال قال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي قال لا ولا على ملة عثمان أنا على ملة النبي صلى الله عليه وسلم قال محمد بن المثنى وثنا مؤمل نا سفيان الثوري عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال قال لي معاوية أنت قلت ما أنا بعلوي ولا عثماني ولكني على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا يونس بن عبد الله نا يحيى بن مالك بن عائذ حدثنا الحسين بن أحمد بن أبي حنيفة نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا يوسف بن يزيد القراطيسي نا سعيد بن منصور نا هشيم عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال

كان يكره أن يقال سنة أبي بكر وعمر ولكن سنة الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فإذا كان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم لا يستجيزون نسبة ما يعبدون به ربهم ولا مذاهبهم إلى أبي بكر ولا إلى عمر ولا إلى عثمان ولا إلى علي ولا ينتسبون إلى أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بهم لو شاهدوا ما نشاهده من المصائب الهادمة للإسلام على من امتحنه الله به من الانتماء إلى مذهب فلان وفلان والإقبال على أقوال مالك وأبي حنيفة والشافعي وترك أحكام القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ظهريا والحمد لله على تثبيته إيانا على دينه وسنته التي مضى عليها أهل الأعصار المحمودة قبل أن تحدث بدعة التقليد وتفشو وبالله نعتصم كتب إلي النمري يوسف بن عبد الله الحافظ نا سعيد بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن يزيد بن أبي زيادة عن إبراهيم هو النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم عليها الكبير وتتخذ سنة المبتدعة جرى عليها الناس فإذا غير منها شيء قيل غيرت السنة قيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم وكثر أمراؤكم وقل أمناؤكم والتمست

الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين حدثنا أحمد بن عمر العذري نا أبو ذر عبد بن أحمد نا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي نا إبراهيم بن خزيم بن مهر نا عبد بن حميد نا محمد بن الفضل نا الصعق بن حزن عن عقيل الجعدي عن أبي إسحاق الهمداني عن سويد بن غفلة عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له يا عبد الله بن مسعود قلت لبيك يا رسول الله قال أتدري أي الناس أفضل قلت الله ورسوله أعلم قال فإن أفضل الناس أفضلهم عملا إذ فقهوا في دينهم ثم قال يا عبد الله بن مسعود قلت لبيك يا رسول الله قال هل تدري أي الناس أعلم قلت الله ورسوله أعلم

قال أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان تزحف على استه كتب إلي النمري نا سعيد بن سيد نا عبد الله بن محمد نا أحمد بن خالد نا ابن وضاح نا إبراهيم بن محمد الشافعي نا أبو عصام رواد بن الجراح العسقلاني عن سعيد بن بشر عن قتادة قال من لم يعرف الاختلاف لم يشم الفقه بأنفه كتب إلي النمري ثنا أحمد بن سعيد بن بشر نا أحمد بن أبي دليم نا ابن وضاح نا إبراهيم بن يوسف الفريابي نا ضمرة بن ربيعة عن عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال لا ينبغي لأحد أن يفتي أحدا من الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه هكذا روينا عن سعيد بن جبير وهكذا قال أحمد بن حنبل وغيره كتب إلي النمري قال روى عيسى بن دينار عن أبي القاسم قال سئل مالك قيل له لمن تجوز الفتيا قال لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه قيل له اختلاف أهل الرأي قال لا اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك يفتي ولا يجوز لمن لم يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلي

قال النمري وقال يحيى بن سلام لا ينبغي لمن لم يعرف الاختلاف أن يفتي ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلي كتب إلي النمري نا خلف بن القاسم نا الحسن بن رشيق نا علي بن سعيد الرازي نا محمد بن المثنى نا عيسى بن إبراهيم سمعت يزيد زريع يقول سمعت سعيد بن أبي عروبة يقول من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالما كتب إلي النمري أخبرني خلف بن القاسم نا محمد بن شعبان القرظي نا إبراهيم بن عثمان نا عباس الدوري قال سمعت قبيصة بن عقبة يقول لا يفلح من لم يعرف الاختلاف كتب إلي النمري أخبرني قاسم بن محمد نا خالد بن سعيد نا محمد بن فطيس نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال سمعت أشهب يقول سئل مالك عن اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خطأ وصواب فانظر في ذلك كتب إلي النمري وذكر يحيى بن إبراهيم بن مزين حدثني أصبغ قال قال ابن القاسم سمعت مالكا والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كما قال ناس فيه توسعة ليس كذلك إنما هو خطأ وصواب كتب إلي النمري أخبرني عبد الرحمن بن يحيى أنا أحمد بن سعيد نا محمد

بن ريان نا الحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك أنه قال في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مخطىء ومصيب فعليك بالاجتهاد وذكره إسماعيل في المبسوط عن أبي ثابت المدني عن ابن القاسم عن مالك كتب إلي النمري نا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير حدثني أبي عن سعيد بن عامر ثنا شعبة عن الحاكم بن عتيبة قال ليس أحد من خلق الله تعالى إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي النمري ثنا خلف بن القاسم نا ابن أبي العقب بدمشق نا أبو زرعة ثنا ابن أبي عمر نا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال ليس أحد من خلق الله عز وجل إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي النمري نا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير أنا الغلاقي نا خالد بن الحارث قال قال سليمان التيمي لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله كتب إلي النمري نا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا يوسف بن عدي نا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن أبي البختري في قوله عز وجل {تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} قال أما أنهم لو أمروهم أن تعبدوهم من دون الله تعالى ما أطاعوهم ولكن

أمروهم فجعلوا حلال الله تعالى حرامه وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية قال ابن وضاح وحدثنا موسى بن معاوية نا وكيع نا سفيان والأعمش جميعا عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال قيل لحذيفة بن اليمان في قول الله تعالى {تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} أكانوا يعبدونهم قال لا ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه كتب إلي النمري أنا سعيد بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال قال معاذ بن جبل يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال المنافق بالقرآن فسكتوا فقال أما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وإن افتتن فلا تقطعوا منه أناتكم فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب وأما القرآن فله منار كمنار الطريق لا يخفى على أحد فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه ما شئتم فيه فكلوه إلى عالمه وذكر باقي الحديث قال أبو محمد هذا هو نص ما ذهبنا والحمد لله رب العالمين في اتباع الظاهر وترك تقليد كتب إلي النمري ثنا محمد بن إبراهيم ثنا محمد بن أحمد بن مفرج ثنا أبو سعيد البصري بمكة ثنا الحسن بن عفان العامري ثنا الحسين الجعفي عن زائدة عن عطاء بن السائب عن أبي البختري قال قال سليمان الفارسي كيف

أنتم عند ثلاث زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فما عرفتم منه فخذوا وما لم تعرفوا فكلوه إلى عالمه كتب إلي النمري ثنا عبد الوارث بن سفيان ويعيش بن سعيد قالا أنا قاسم بن أصبغ ثنا بكر بن حماد ثنا بشر بن حجر أنا خالد بن عبد الله الواسطي عن عطاء يعني ابن السائب عن أبي البختري عن علي بن أبي طالب قال إياكم والاستنان بالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله عز وجل فيه وذكر الحديث كتب إلي النمري قال ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك قال ليس كل ما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه يقول الله عز وجل {لذين يستمعون لقول فيتبعون أحسنه أولئك لذين هداهم لله وأولئك هم أولو لألباب} قال أبو محمد لو اتبع مقلدوه وهذا القول منه لاهتدوا ونعوذ بالله من الخذلان وقالوا أيضا إن جمهور الصحابة كانوا بالمدينة وإنما خرج عنها الأقل ومن المحال أن تغيب السنة عن الأكثر ويدريها الأقل قال أبو محمد وهذا فاسد من القول جدا لأن الرواية إنما جاءت عن ألف صاحب وثلاثمائة صاحب ونيف أكثرهم من غير أهل المدينة وجاءت الفتيا عن مائة ونيف وثلاثين منهم فقط أكثرهم من غير أهل المدينة وهذه الأمور لا تطلق جزافا ولا يؤخذ الدين عمن لا يبالي أن يطلق لسانه

بما لا يدري ولا اهتبل به يوما من دهره قط ولا شغل بالبحث عنه ليلة من عمره وإنما يؤخذ ممن جعله وكده وعمدته وآثره على طلب رياسة الدنيا وأعده حجة ليلقى بها ربه إذا سئل يوم القيامة ثم إن كل قولة قلدوا فيها مالكا من تلك الآراء المضطربة وتلك المسائل التي فيها القولان والثلاثة وهي أكثر أقواله فليس كل واحدة منها شهدها جميع أصحابه الباقين بالمدينة نعم ولا سائر الأحكام التي أسندها إلى من أسندها إليه إنما هي حكم حكم بها حاكم إما رضيه غيره منهم وإما سخطه ومن ادعى إجماعهم عليه فقد ادعى الكذب الذي لا يخفى على أحد إذ لا شك أنهم لم يكونوا كلهم ملازمين لكل حكم حكم به الإمام هنالك أو قاضيه فظهر سقوط ما احتجوا به وبالله تعالى التوفيق

الباب السابع والثلاثون في دليل الخطاب

الباب السابع والثلاثون في دليل الخطاب قال أبو محمد هذا مكان عظيم فيه خطأ كثير من الناس وفحش جدا واضطربوا فيه اضطرابا شديدا وذلك أن طائفة قالت إذا ورد نص من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم معلقا بصفة ما أو بزمان ما أو بعدد ما فإن ما عدا تلك الصفة وما عدا ذلك الزمان وما عدا ذلك العدد فواجب أن يحكم فيه بخلاف الحكم في هذا المنصوص وتعليق الحكم بالأحوال المذكورة دليل على أن ما عداها مخالف لها وقالت طائفة أخرى وهم جمهور أصحاب الظاهريين وطوائف من الشافعيين منهم أبو العباس بن سريج وطوائف من المالكيين إن الخطاب إذا ورد كما ذكرنا لم يدل على أن ما عداه بخلافه بل كان موقوفا على دليل قال أبو محمد هذا القول هو الذي لا يجوز غيره وتمام ذلك في قول أصحابنا الظاهريين أن كل خطاب وكل قضية فإنما تعطيك ما فيها ولا تعطيك حكما في غيرها لا أن ما عداها موافق لها ولا أنه مخالف لها لكن كل ما عداها موقوف على دليله

وتحير في هذا بعض أصحاب القياس من الحنفيين والشافعيين والمالكيين كأبي الحسين القطان الشافعي وأبي الفرج القاضي المالكي لما رأوا عظيم تناقضهم في هذا الباب فقالوا دليل الخطاب على مراتب فمنه ما يفهم منه أن ما عدا القضية التي خوطبنا بها فحكمها كحكم هذه التي خوطبنا ومنه ما لا يفهم منه أن ما عدا القضية التي خوطبنا بها فحكمها بخلاف حكم هذه التي خوطبنا ومنه ما لا يفهم أن ما عدا القضية التي خوطبنا بها موافق لحكم هذه التي خوطبنا بها ولا مخالف ومثلوا القسم الأول بقوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} قالوا ففهمنا أن غير {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} وبآيات كثيرة سنذكرها في باب القياس من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى لأن ذلك المكان أمكن بذكرها ومثلوا القسم الثاني بأمثلة اضطربوا فيها فقال الشافعيون والحنفيون من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائمة الغنم في كل أربعين شاة شاة قالوا فدل ذلك على أن ما عدا السائمة لا زكاة فيها وأنها ليست بمنزلة السائمة وأدخل المالكيون هذا الحديث في القسم الأول وقالوا بل ما دل إلا أن غير السائمة بمنزلة السائمة وقال الألوان هذا بمنزلة من قال إذا دخل زيد الدار فأعطه درهما فيعلم أن هذا شرط فيه وإنه إن دخل أعطى درهما وإن لم يدخل لم يعط شيئا ومثل المالكيون هذا القسم الآخر بقوله تعالى {ولخيل ولبغال ولحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} قالوا فدل ذكر الركوب والزينة على أن ما عداهما ممنوع كالأكل ونحوه قال أبو محمد فأما هؤلاء المتحيرون الذين ذكرنا آخرا يعني الذين قالوا إن الخطاب قد يدل في مواضع على أن ما عداه بخلافه ويدل في مواضع أخر على أن ما عداه ليس بخلافه فإنهم لعبوا في هذا المكان بالخطاب كما يلعب بالمخراق

فمرة حكموا لغير المنصوص بأن المنصوص يدل على أن حكمه كحكمه ومرة حكموا بأن المنصوص يدل على أن حكمه ليس كحكمه فليت شعري كيف يمكن أن يكون خطابان يردان بالحكم في اسمين فيفهم من أحدهم أن غير الذي ذكر مثل الذي ذكر ويفهم من الآخر أن غير الذي ذكر بخلاف الذي ذكر وهذا ضد ما فهم من الأول وتالله ما خلق الله تعالى عقلا يقوم فيه هذا إلا عقل من غالط نفسه فتوهم ما لا يصح بدعوى لا يعجز عن مثلها أحد بلا دليل وكل من لم يبال بما قال يقدر أن يدعي أنه فهم من هذا اللفظ غير ما يعطي ذلك اللفظ قال أبو محمد وأما أكياسهم فإنهم سموا القسم الأول قياسا وسموا الثاني دليل الخطاب فقد رأوا إذ فرقوا بين معنى واحد باسمين أنهم قد سلموا بذلك من التناقض وهم من التورط فيه بمنزلة من سمى كل ذلك دليل الخطاب ولا فرق ونحن نسألهم من كلامهم فنقول لهم ما الفرق بينكم إذ قالت طائفة منكم إن ذكر السائمة يدل على أن غير السائمة بخلاف السائمة وقالت طائفة أخرى بل ذكر السائمة إلا على أن غير السائمة موافق لحكم السائمة ما الفرق بينكم وبين من عكس عليكم قولكم إن قول الله تعالى {ومن أهل لكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في لأميين سبيل ويقولون على الله لكذب وهم يعلمون} إن ذكر القنطار يدل على أن ما عدا القنطار مثل القنطار فقال بل ما يدل ذكر القنطار إلا على أن ما عدا القنطار بخلاف القنطار فقد يفزع الخائن من خيانته إذا كانت كثيرة وقد يحتقر اليسير فلا يخونه فهلا جعلتم القنطار ههنا حدا للكثير كما جعلت طوائف منكم ذكره صلى الله عليه وسلم المائتي درهم في وجوب الزكاة فيها دليلا على أن العشرين دينارا كثير فلا يحلف عند المنبر أحد في أقل منها وأن ما دونها قليل فلا يحلف فيها إلا في مجلس الحاكم وجعلت طوائف أخر منكم

ذكره صلى الله عليه وسلم ربع الدينار في قطع السارق دليلا على أن ربع الدينار كثير وأن ما عداه قليل فلا يستباح فرج بأقل منه ولا يحلف عند المنبر في أقل منه وجعلت طوائف أخر ما رووا من ذكره صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم في قطع السارق دليلا على أن العشرة دراهم كثيرة وإن ما دونها قليل فلا يستباح فرج بأقل منها حتى جعلوا ذلك حدا فيما يسقط مما بين قيمة العبد ودية الحر قال أبو محمد ومما ادعوا فيه أنهم فهموا منه أن المسكوت عنه بخلاف حكم المنصوص عليه قوله تعالى {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضآروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} قالوا فهذا يدل على أن غير الحامل بخلاف الحامل قال أبو محمد هذا خطأ لأن المطلقة لا تخلو من أن يكون طلاقها رجعيا أو غير رجعي فإن كان رجعيا فلها النفقة إذا كانت ممسوسة كانت حاملا أو كانت غير حامل باتفاق من جميعنا وإن كان غير رجعي فلا نفقة لها بنص السنة سواء كانت حاملا أو غير حامل وإنما جاء النص المذكور في الطلاق الرجعي وبنص الآيات في قوله تعالى في الآية التي ابتدأ فيها في هذه السورة بتعليم الطلاق ثم عطف سائر الآيات عليها {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا لشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بلله وليوم لآخر ومن يتق لله يجعل له مخرجا} وهذا لا يكون إلا في رجعي وأمسك تعالى عن ذكر غير الحامل في هذه السورة فبينت السنة أن التي هي موطوءة وليست حاملا بمنزلة الحامل ولا فرق ولا يحل لأحد أن يقول لم سكت عن ذكر غير الحامل ههنا فإن قال ذلك مقدم قيل له سكت عن ذلك كما سكت فيها عن ذكر الخلع وعن ذكر المتوفى عنها زوجها وعن الفسخ وغير ذلك فإن قالوا قد ذكر الله تعالى ذلك في آيات أخر قيل وكذلك أيضا قد ذكر وجوب النفقة لغير الحامل بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن أراد أن يجد جميع الأحكام كلها في آية واحدة فهو عديم عقل متعلل في إفساد الشريعة ويأبى الله إلا أن يتم نوره

وادعوا أن جماعة من أهل اللغة منهم المبرد وثعلب قالوا بذلك قال أبو محمد أما إدخال هذا الباب في اللغة فتمويه ضعيف وإيهام ساقط لأن اللغة إنما يحتاج فيها إلى أربابها في معرفة الحروف المجموعة التي تقوم منها الكلمات وأن يخبرونا على ماذا تركبت من المسميات فقط وأما معرفة هل يدخل في حكم الخبر عن الاسم ما قد أقروا لنا أنه ليس يقع عليه ذلك الاسم أو لا يدخل في حكمه فليس هذا في قوة علم اللغة ولا من شروطها إنما يظن هذا من اختلطت عليه العلوم ولم تبلغ قوته أن يفرق بينها وهذا أمر موجود في طبائع العرب والعجم وحتى لو صح ذلك عن ثعلب وعن المبرد وعن الأصمعي وخلف معهم لكان قولهم مع قول جميع أهل اللغة أولهم عن آخرهم بلا خلاف منهم بل قول أهل كل لغة للناس من عرب وعجم إن اسم حجر لا يفهم منه فرس وإن اسم جمل لا يفهم منه كلب وإن من قال ركبت اليوم سفينة أنه لا يفهم منه أنه ركب أيضا حمارا أو أنه لم يركبه وأن من قال أكلت خبزا أنه لا يفهم منه أكل لحما مع الخبز أم لم يأكله ولكان في شهادة العقول كلها باتفاقها على صحة ما ذكرنا كغاية في إبطال قول من قال بخلاف ذلك كائنا من كان ومبين صدق من قال إنما عدا الخبر المخبر به موقوف على دليله قال أبو محمد واعترض بعضهم بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله في الاستغفار لمن مات من المنافقين لأزيدن على السبعين فقال هذا القائل في هذا دليل على أن ما عدا السبعين يغفر لهم به ولا بد قال أبو محمد وهذا خطأ من وجهين أحدهما أن ذلك دعوى بلا دليل ولو قطع صلى الله عليه وسلم بذلك لكان حقا ولكنه لم يقطع على ذلك وأنه لما يئس من المغفرة لهم بالسبعين رجا بالزيادة وهذا الحديث من أعظم حجة عليهم

في دعواهم التي نسوا أنفسهم فيها فقالوا إن ما عدا القنطار في قوله تعالى {وإن أردتم ستبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا} وما عدا الأف من قوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} بمنزلة القنطار والأف فهلا قالوا إن ما عدا السبعين بمنزلة السبعين كما قالوا إن ما عدا السبعين بمنزلة السبعين كما قالوا إن ما عدا القنطار بمنزلة القنطار أو هلا قالوا إن ما عدا القنطار بخلاف القنطار كما قالوا إن ما عدا السبعين بخلاف السبعين بل قد أكذب الله تعالى قولهم بإنزاله {سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر لله لهم إن لله لا يهدي لقوم لفسقين} وبنهيه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم جملة فبين تعالى بهذه الآية العامة أن ما عدا السبعين بمنزلة السبعين ولا يظن جاهل أننا بهذا القول يلزمنا أن ما عدا المنصوص عليه له حكم المنصوص ومعاذ الله من ذلك ولو ظننا ذلك كما ظنوا لكنا مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رجا أن يكون ما عدا السبعين بخلاف السبعين فإننا لم نقل إن بذكر السبعين وجب أن يكون ما عدا السبعين موافقا للسبعين ولا مخالفا لها بل قلنا ممكن أن يكون ما عدا السبعين موافقا للسبعين في ألا يغفر لهم وممكن أن يكون بخلاف السبعين في أن يغفر لهم وإنما ننتظر في ذلك ما يرد في البيان كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فرق ثم ينزل الله تعالى ما شاء إما بموافقة لما قد ذكر وإما بمخالفة له وكان الأصل إباحة الاستغفار جملة بقوله عز وجل {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} والصلاة ههنا الدعاء بلا خلاف والاستغفار دعاء وهو نوع من أنواع الدعاء فلما نص على خروج السبعين من جملة الدعاء لهم كان ما بقي على ظاهر الإباحة المتقدمة حتى نهى عن الاستغفار لهم جملة وعن الصلاة عليهم البتة وقد جاء نص الحديث هكذا كما قلنا من أخباره صلى الله عليه وسلم أنه مخير في ذلك فأخذ بظاهر اللفظ حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو أسامة نا

عبيد الله بن عمير عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين اعترضه عمر في الصلاة على عبد الله بن أبي إنما خيرني الله فقال {ستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لله لهم ذلك بأنهم كفروا بلله ورسوله ولله لا يهدي لقوم لفاسقين} وسأزيد على السبعين فأخذ صلى الله عليه وسلم بظاهر اللفظ في التخيير والأصل المتقدم في إباحة الاستغفار حتى نهى عن ذلك جملة وقال بعضهم ما عدا الاسم المذكور فبخلاف المذكور إلا أن تقترن إليه دلالة قال أبو محمد فنقول له ما الفرق بينك وبين من عارضك من أهل مذهبك أراد أن ينصر القياس نفسه كما أردت أنت أن تنصر دليل الخطاب فنسيت نفسك فقال لك ما عدا الاسم المذكور فهو داخل في حكم المذكور ما لم تقترن إليه دلالة قال أبو محمد وهكذا يعرض للحمل المائل المرتب على غير اعتدال وبخلاف القوام إذا أراد صاحبه أن يعدل أحد شقيه مال عليه الآخر ثم يقال لهم جميعا ما هذه الدلالة المقترنة التي يشير كل واحد منكما إليها أهي كهانة منكم أم هي طبيعية توجب ضرورة فهم ما ذكر كل واحد منكما على تضادكما أم هي نص واحد فهم لا يدعون كهانة فلم يبق إلا أن يقولوا هي ضرورة توجب فهم كل ما لم يذكر أو أن يقولوا هو نص يبين حكم ما لم يذكره في هذا النص الآخر فأي ذلك قالوا فقد وافقونا في قولنا إنه لا يدل شيء مذكور على شيء لم يذكر وإن الذي لم يذكر في هذا النص فإنما ننتظر فيه نصا آخر إلا أن توجب ضرورة ما أن نعرف حكمه كما أوجبت ضرورة الحس في قوله تعالى {هو لذي جعل لكم لأرض ذلولا فمشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه لنشور} إننا لا نقدر أن نمشي في الهواء ولا في السماء ولا أن نأكل من غير رزقه واحتج بعضهم في قول أبي عبيد في قوله صلى الله عليه وسلم لأن يمتلىء جوف

أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلىء شعرا وأنكر أبو عبيد قول من قال إن ذلك إنما هي في الشعر الذي هجي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيد لو كان ذلك لكان قد أباح القليل من الشعر الذي هجي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لا يحل قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه بل هو على خلاف ما ظنوا وهو أن الأصل أن رواية الشعر حلال باستنشاد النبي صلى الله عليه وسلم للأشعار وسماعه إياها وأما رواية ما هجي به صلى الله عليه وسلم فحرام سماعه وقراءته وكتابته وحفظه بقول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تدخلوا بيوت لنبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فدخلوا فإذا طعمتم فنتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي لنبي فيستحيي منكم ولله لا يستحيي من لحق وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من ورآء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول لله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند لله عظيما} وبقوله تعالى آمرا بتعزيره وتوقيره في غير ما آية فلما جاء النهي عن امتلاء الجوف من الشعر كان ذلك مخرجا لكثير منه من جمله كله المباح وبقي ما دون الامتلاء مما سوى هجو النبي صلى الله عليه وسلم على الإباحة وحد الامتلاء هو ألا يكون للإنسان علم إلا الشعر فقط وحد ما دون الامتلاء أن يعلم المرء ما يلزمه ويروي مع ذلك من الشعر ما شاء واحتجوا أيضا بقول أبي عبيد فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لي الواجد يحل عرضه وعقوبته أن ذلك مخرج لغير الواحد عن إحلال العرض والعقوبة قال أبو محمد وليس هذا كما ظنوا ولكن لما أخبر صلى الله عليه وسلم أن أعراضنا علينا حرام وأن المسلم أخو المسلم لا يسلمه لا يظلمه كان كل أحد حرام العرض والعقوبة فلما جاء النص بتغيير المنكر باليد وكان لي الواجد منكرا لأنه منهي عنه كان ذلك مدخلا لعقوبته في جملة تغيير المنكر المأمور به ومخرجا له مما حرم من أعراض الناس جملة وعقوباتهم هذا الذي لا يفهم ذو لب

سواه ولا ينفقه غيره واحتجوا بأن الشافعي أحد أئمة أهل اللغة وقد قال إن ذكره صلى الله عليه وسلم السائمة دليل على أن ما عدا السائمة بخلاف السائمة قال أبو محمد أما إمامة الشافعي رحمه الله في اللغة والدين فنحن معترفون بذلك ولكنه رضي الله عنه بشر يخطىء ويصيب وليت شعري أين كان الشافعي رحمه الله عن هذا الاستدلال إذ قال جل ذكره في رقبة القتل أن تكون مؤمنة دليل على أن المسكوت عنه من دين الرقبة في الظهار بمنزلة المنصوص في رقبة القتل أن تكون أيضا مؤمنة وليت شعري أي فرق بين ذكره تعالى الأيمان في رقبة القتل وذكره صلى الله عليه وسلم السائمة في حديث أنس فبقول قائل رقبة الظهار التي سكت عن ذكر دينها بمنزلة رقبة القتل التي ذكر دينها وأما غير السائمة من الغنم وإن كان السوم لم يذكر في حديث ابن عمر فبخلاف السائمة وما الفرق بين من عكس الحكم فقال بل غير السائمة بمنزلة السائمة كما قال المالكيون وأما الرقبة المسكوت عن دينها فبخلاف الرقبة المنصوص على دينها فتجزىء في الظهار كافرة كما قال الحنفيون وفي هذا كفاية وأما نحن فنقول لو لم يرد في السائمة إلا حديث أنس لما أوجبنا زكاة في غير السائمة لأن الأصل أن لا زكاة على أحد إلا أن يوجبها نص فلو لم يأت نص إلا في السائمة لما وجبت زكاة إلا فيها لكن لما ورد حديث ابن عمر بإيجاب زكاة كل أربعين من الغنم كان حديث السائمة بعض الحديث الذي فيه ذكر الغنم جملة فأوجبنا الزكاة في الغنم سائمة كانت أو غير سائمة ولما نص تعالى في القتل على رقبة مؤمنة قلنا لا يجزىء في القتل إلا مؤمنة كما أمر الله تعالى ولما لم يذكر الإيمان في رقبة الظهار قلنا يجزىء الظهار أي رقبة كانت كما قال تعالى سواء كانت كافرة أو مؤمنة إلا أن المؤمنة أحب

إلينا لقوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} {ولمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق لله في أرحامهن إن كن يؤمن بلله وليوم لآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل لذي عليهن بلمعروف وللرجال عليهن درجة ولله عزيز حكيم} إلا أن الكافرة تجزىء لعموم ذكره تعالى الرقبة فقط واحتجوا أيضا بإجماع المسلمين على أن ما عدا المنصوص عليه من عدد الزوجات أن يكون أربعا حرام قال أبو محمد وليس هذا من الوجه الذي ظنوا ولكنه لما أمر تعالى بحفظ الفروج جملة حرم النساء البتة إلا ما استثنى منهن فقط أيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فسخ نكاح الزائدة على أربع فكفى حكمه صلى الله عليه وسلم من كل دليل سواه وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقوله تعالى {ولمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق لله في أرحامهن إن كن يؤمن بلله وليوم لآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل لذي عليهن بلمعروف وللرجال عليهن درجة ولله عزيز حكيم} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه تعالى قد أباح لهن النكاح بالنص فقال عز وجل {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير} قال أبو محمد والنكاح المباح من المعروف واحتجوا أيضا بقوله تعالى {ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن الأم إن أرادت أن ترضعه أقل من حولين أو أكثر من حولين فذلك مباح لها ما لم يكن في الفطام قبل الحولين ضرر على الرضيع وكنا نقول إنه لا يحرم إلا ما كان في الحولين من الرضاع لأن الأصل أن الرضاع لا يحرم شيئا فلما حرم تعالى نكاح النساء بالرضاع ووجدناه تعالى قد جعل حكم الرضاع الذي أمر به حولين وما زاد عن الحولين فليس مأمورا ولكنه مباح وجب أن يكون الرضاع المحرم هو الرضاع المأمور به لا ما سواه إلا أن يقوم دليل على ما سواه من نص أو إجماع فيصار إليه ولكن المصير إلى قول الله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} وحمل ذلك على عمومه وكلام رسول الله صلى الله

عليه وسلم إذ أخبر أن سالما وهو رجل ذو لحية تحرم عليه التي أرضعته لا يجوز مخالفة شيء من ذلك وبالله تعالى التوفيق هذا على أن أكثر القائلين بدليل الخطاب المذكور قد جعلوا ما زاد على الحولين بشهر وقال بعضهم بستة أشهر وقال بعضهم بسنة كاملة بمنزلة الحولين وحرموا بكل ذلك تناقضا لما أصلوه وهدما لما أسسوه وبيانا منهم أن حكمهم بذلك من عند غير الله تعالى واحتجوا فقالوا قد أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم فمحال أن يذكر الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم لفظة إلا لفائدة وقد ذكر عليه السلام السائمة فلو لم يكن لها فائدة لما ذكرها قال أبو محمد وهذا سؤال أهل الإلحاد وهو مع ذلك غث وتمويه شديد ونحن مقرون أن الله تعالى لم يذكر لفظه إلا لفائدة وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ولكنا نخالفهم في ماهية تلك الفائدة فنحن نقول إن الفائدة في كل لفظة هي الانقياد لمعناها والحكم بموجبها والأجر الجزيل في الإقرار بأنها من عند الله عز وجل وألا نسأل لأي شيء قبل هذا وألا نقول لم لم يقل تعالى كذا وألا نتعدى حدود ما أمرنا الله به فنضيف إلى ما ذكر ما لم يذكره أو نحكم فيما لم يسم من أجل ما سمي بخلاف أو وفاق وألا تخرج مما أمرنا به شيئا بآرائنا بل نقول إن هذه كلها أقوال فاسدة واعتراضات كل جاهل زائغ عظيم الجرأة فلا فائدة أعظم مما أدى إلى الجنة وأنقذ من النار وأما هم فهم أعرف بالفوائد التي يبطلونها من غير ما ذكرنا وقالوا قد كان يغني ذكر الغنم جملة عن ذكر السائمة قال أبو محمد فيقال لهم هذا تعليم منكم لربكم عز وجل كيف ينزل

وحيه ولنبيه صلى الله عليه وسلم كيف يبلغ عن ربه تعالى فمن أضل ممن ينزل نفسه في هذه المنزلة ويقال لهم ما الفرق على مذهبكم الفاسد بين ذكره تعالى في الاستغفار سبعين مرة ومراده تعالى بلا خوف منا ومنكم أن ما فوق السبعين بمنزلة السبعين بما بين في الآية الأخرى وبين ذكره صلى الله عليه وسلم السائمة ومراده أيضا مع السائمة غير السائمة بما بين في حديث آخر وهلا اكتفى بذكر النهي عن الاستغفار جملة عن السبعين مرة ويقال لهم في سؤالهم فما معنى ذكر السائمة وقد كان يغني ذكر الغنم جملة ما معنى ذكره تعالى جبريل وميكائيل بعد ذكره الملائكة في قوله تعالى {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن لله عدو للكافرين} وقد كان يغني ذكر الملائكة جملة وما معنى قوله تعالى {إن إبراهيم لحليم أواه منيب} أترى إسماعيل لم يكن حليما أواها وما معنى قوله تعالى في إسماعيل {وذكر في لكتاب إسماعيل إنه كان صادق لوعد وكان رسولا نبيا} أترى إبراهيم وموسى وعيسى لم يكن وعدهم صادقا ويقال لهم قد وجدنا الله تعالى يأتي في القرآن وهو المعجز نظمه بذكر قصة من خبر أو شريعة أو موعظة فيذكر من كل ذلك بعض جملته في مكان ثم يذكر تعالى ذلك الخبر بعينه وتلك الشريعة بعينها وتلك الموعظة بعينها في مكان آخر بأتم مما ذكرها به في غير ذلك الموضع ولا يعترض في هذا إلا طاعن على خالقه عز وجل لأن الذي ذكرنا موجود في أكثر من مائة موضع في القرآن في قصة موسى ونوح وإبراهيم وآدم وصفة الجنة والنار وأمر الصلاة والحج والصدقة والجهاد وغير ذلك وقد كان صلى الله عليه وسلم يكرر الكلام إذا تكلم به ثلاثا ولا فرق بين تكرار جميعه وبين تكرار بعضه فكرر صلى الله عليه وسلم ذكر الغنم السائمة في مكان وذكر في مكان آخر الغنم جملة كما كرر قوله تعالى {ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين} وكما كرر تعالى ذكر موسى عليه السلام في القرآن في مائة وثلاثين

موضعا وإبراهيم عليه السلام في أربع وستين موضعا ولم يذكر إدريس واليسع وإلياس وذا الكفل إلا في موضعين من القرآن فقط وكما كرر تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} أكثر من آية في سورة واحدة إحدى وثلاثين مرة فهل لأحد أن يعترض فيقول هلا بلغها أكثر أو هلا اقتصر على عدد منها أقل أو ما كان يكفي مرة واحدة كما قال هؤلاء المخطئون هلا اكتفى بذكر الغنم عن ذكر السائمة وقد بينا أنه لا فائدة لله تعالى في شيء مما خلق ولا في تركه ما ترك وأن الفائدة لنا في ذلك الأجر العظيم في الإيمان بكل ذلك كما قاله تعالى {وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما لذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} وأخبر تعالى أن الكفار قالوا {وما جعلنآ أصحاب لنار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن لذين أوتوا لكتاب ويزداد لذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب لذين أوتوا لكتاب ولمؤمنون وليقول لذين في قلوبهم مرض ولكافرون ماذآ أراد لله بهذا مثلا كذلك يضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر} فنحن نزداد إيمانا بما أوردنا ولا نسأل ماذا أراد الله بهذا مثلا فليختاروا لأنفسهم أي السبيلين أحبوا كما قال علي بن عباس أمامك فانظر أي نهجيك تنهج طريقان شتى مستقيم وأعوج وقد يمكن أن تكون الفائدة في تكرار السائمة والاقتصار عليها في بعض المواضع فائدة زائدة على ما ذكرنا وهي أننا قد علمنا أن بعض الفرائض أوكد من بعض مثل الصلاة فإنها أوكد من الصيام وليس ذلك بمخرج صيام رمضان على أن يكون فرضا ومثل القتل والشرك فإنهما أوكد في التحريم من لطمة المرء المسلم ظلما وليس ذلك بمخرج للطمة ظلما من أن تكون حراما وإنما المعنى فيما ذكرنا من التأكيد أن هذا أعظم أجرا وهذا أعظم وزرا وما استواء كل ذلك في الوجوب وفي التحريم فسواء لا تفاضل في شيء من ذلك وكل ذلك سواء إن هذا حرام وهذا حرام وإن هذا واجب وهذا

واجب فيكون على هذا أجر المزكي غير للسائمة أعظم من أجر المزكي غير السائمة وكل مؤد فرضا ومأجور على ما أدى ويكون إثم مانع زكاة السائمة أعظم من إثم مانع زكاة غير السائمة وكلاهما مانع فرض ومحتقب إثم فلتخصيص السائمة بالذكر في بعض المواضع على هذا فائدة عظيمة كما أن الزاني بامرأة جاره أو امرأة المجاهد والحريمة أعظم إثما من الزاني بامرأة أجنبية أو امرأة أجنبي ذمي أو حربي وكل زان وآت كبيرة وآثم إلا أن الإثم يتفاضل ومثل هذا قوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} وكقوله تعالى {فأما ليتيم فلا تقهر * وأما لسآئل فلا تنهر} فهل في هذا إباحة قهر غير اليتيم ونهر غير المسكين أو المنع من الإحسان إلى غير الآباء من ذوي القربى والجيران وسائر المسلمين ولكنه لما كان قهر اليتيم ونهر المسكين وترك الإحسان إلى الوالدين أعظم وزرا وأعظم أجرا خصوا بالذكر في بعض المواضع وعموا مع سائر الناس في مواضع أخر فلعل السائمة مع غير السائمة كذلك وكذلك ذكره تعالى الصلوات إذ يقول عز من قائل {حافظوا على لصلوات ولصلاة لوسطى وقوموا لله قانتين} فيسأل هؤلاء المقدمون كما سألوا فيقال لهم المعنى في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم السائمة بالذكر في بعض الأحاديث كالمعنى في تخصيصه تعالى الصلاة الوسطى بالمحافظة دون الصلوات في لفظ مفرد وقد عمهما تعالى في سائر الصلوات كما عم رسوله صلى الله عليه وسلم السائمة مع غير السائمة في حديث ابن عمر فبطل بما ذكرنا اعتراضهم بطلب الفائدة في تكرار السائمة وبأن ذكر الغنم جملة كان يكفي ولاح أن سؤالهم سؤال إلحاد وشر وبالله تعالى التوفيق وقد يكفي من هذا قوله تعالى {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون ولا تنطع أعظم من قول قائل لم قال الله تعالى أمرا كذا ولم يقل أمرا كذا وبالله تعالى نستعين

وقالوا إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الولاء لمن أعتق دليل على أن ولاء لمن لم يعتق قال أبو محمد وليس كما ظنوا ولكن لما كان الأصل أن لا ولاء لأحد على أحد بقوله تعالى {يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس لتقوى ذلك خير ذلك من آيات لله لعلهم يذكرون} وبقوله تعالى {بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم فقال لكافرون هذا شيء عجيب} وبقوله صلى الله عليه وسلم كل المسلم على المسلم حرام ثم جاء الحديث المذكور وجب به الولاء لمن أعتق وبقي من لم يعتق على ما كان عليه مذ خلق من أن لا ولاء لأحد عليه إلا من أوجب عليه الإجماع المنقول المتيقن إلى حكم النبي صلى الله عليه وسلم ولولا مثل من تناسل من المعتق من أصلاب أبنائه الذكور من كل من يرجع إليه نسبه ممن حمل به بعد الولاء المنعقد على الذي ينتسب إليه كأسامة بن زيد وغيره ولولا قوله صلى الله عليه وسلم إنما الولاء لمن أعتق ما وجب المعتق ولاء على المعتق لأن ذلك إيجاب شريعة وشرط والشرائع لا تكون إلا بإذن من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وكل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ووجدنا هذا الحديث الذي احتجوا به لم يمنع من وجوب الولاء لغير من أعتق مثل ما ذكرنا من وجوب ولاء ولد المعتق ولم يعتقه أحد ولا ولدته أمه ولا حمل به إلا وهو حر لولد معتق أبيه وهو لم يعتقه قط ولا ملكه قط ولا أعتق أباه ولا جده ولا ملكهما قط ولا أعتقه أبو هذا الذي ولاؤه الآن ولا جده ولا ملكاه قط فبطل ما ادعوه من القول بدليل الخطاب ومن أعجب الأشياء أن هؤلاء المحتجين بهذا الحديث في تصحيح الحكم بدليل الخطاب هم أشد الناس نقضا لأصولهم في ذلك وهدما لما احتجوا به لأنهم قد حكموا بالولاء لغير المعتق على من لم يعتق قط بلا دليل لا من نص ولا من إجماع لكن تحكما فاسدا فأوجبت طوائف منهم أن الولاء يجزىء العم والجد إذا أعتقا وأوجبوه ينتقل كانتقال الكرة في اللعب بها وقد

أكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الولاء لحمة كلحمة النسب والنسب لا ينتقل فوجب ضرورة أن الولاء كالنسب لا ينتقل وهم يقولون في العبد ينكح معتقة فتلد له إن ولاء ولدها لسادتها قالوا أعتق أبوهم يوما ما عاد ولاء والدها إلى معتق أبيهم قال أبو محمد أفيكون أعجب من هذا بينما المرء من بني تميم لكون أمه مولاة منهم ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حملوه على غير وجهه مولى القوم منهم إذ صار بلا واسطة من الأزد بعتق رجل من الأزد لأبيه أفيكون في خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلع عن ربه تعالى أكثر من هذا أو يكون في إكذابهم أنفسهم أن قالوا قوله صلى الله عليه وسلم إنما الولاء لمن أعتق دليل على أن لا ولاء لمن لم يعتق وهذا الذي حروا ولاءه مرة من اليمانية إلى المضرية ومرة من الفرس إلى قريش لم يعتقه أحد ولا ملك قط ولا حملته أمه إلا وهو حر وأوجبوا الولاء لموالي الأم على ولدها من حربي وعلى ولد الملاعنة بلا نص ولا إجماع فأين احتجاجهم بدليل الخطاب ولكن غرض القوم إقامة الشغب في المسألة التي هم فيها فقط ولا يبالون أن ينقضوا على أنفسهم ألف مسألة بما يريدون به تأييد هذه حتى إذا صاروا إلى غيرها لم يبالوا بإبطال ما صححوا به هذه التي انقضى الكلام فيها في نصرهم للتي صاروا إليها فهم دأبا ينقضون ما أبرموا ويصححون ما أبطلوا ويبطلون ما صححوا فصح أن أقوالهم من عند غير الله عز وجل لكثرة ما فيها من الاختلاف والتفاسد وإنما هم قوم توغلوا فانتسبوا في التقليد لأقوال فاسدة يهدم بعضها بعضا فألفوها ألفة كل ذي دين لدين أبيه ودين من نشأ معه فلا يبالون بما قالوا في إرادتهم نصر ما لم ينصره الله تعالى من تلك المذاهب الفاسدة وقالوا قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات دليل على أن لا عمل

إلا بنية وأن ما عمل بغير نية باطل قال أبو محمد ليس ذلك كما ظنوا ولكن لما قال الله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} وقال تعالى {ومآ أمروا إلا ليعبدوا لله مخلصين له لدين حنفآء ويقيموا لصلاة ويؤتوا لزكاة وذلك دين لقيمة} كان قد بطل كل أمر إلا تأدية ما أمرنا به من العبادة بإخلاص القصد بذلك إلى الله تعالى فبهذه الآية بطل أن يجزى عمل بغير نية إلا ما أوجبه نص أو إجماع فكان مستثنى من هذه الجملة مثل ما ثبت بالإجماع المنقول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جواز لحاق دعاء الحي للميت بالميت ومثل لحاق صيام الولي عن الميت بالميت وصدقته عنه والحج عنه وتأدية الديون إلى الله تعالى وللناس عنه وإن لم يأمر هو بذلك ولا نواه ولحاق الأجر من كل عامل بمن علمه ذلك العمل أو سنه ولحاق الوزر من كل عامل بمن علمه ذلك العمل أو سنه وإنما وجب بالحديث الذي ذكروا أن من عمل شيئا بنية ما فله ما نوى فإن نوى به الله تعالى وتأدية ما أمر به من كيفية ذلك العمل فله ذلك وقد أدى ما لزمه وإن نوى غير ذلك فله أيضا ما نوى فإن لم ينو شيئا فلا ذكر له في هذا الحديث لكن حكمه في سائر ما ذكرنا قبل والعجب ممن احتج بهذا الحديث من أصحاب القياس وهم أترك الناس له فأما الحنفيون فينبغي لهم التقنع عند ذكر هذا الحديث والاحتجاج به فإنهم يجيزون تأدية صيام الفرض بلا نية أصلا بل بنية الفطر وتأدية فرض الوضوء بغير نية الوضوء لكن بنية التبرد وقالوا كلهم وأصحاب الشافعي وأصحاب مالك إن كثيرا من فرائض الحج التي يبطل الحج بتركها تجزي بغير نية فأما الحنفيون فقالوا من أحرم وحج ينوي التطوع أجزأه ذلك عن حج الإسلام وقال الشافعيون أعمال الحج كلها حاشا الإحرام تجزيه بلا نية أداء الفرض وقال المالكيون الوقوف بعرفة يجزي بلا نية وأن الصيام لآخر يوم من رمضان يجزي بنية كانت قبله بنحو ثلاثين يوما والصلاة تجزيه

بلا نية مقترنة بها وقال بعضهم غسل الجمعة يجزي من غسل الجنابة وقال بعضهم دخول الحمام بلا نية يجزي من غسل الجنابة فأبطلوا احتجاجهم بالحديث المذكور وأكذبوا قولهم في دليل الخطاب وأوجبوا جواز أعمال بلا نية حيث أبطلها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأبطلوا صيام الولي عن الولي والحج عن الميت وأداء ديون الله تعالى عنه وقد أوجبها الله تعالى واحتجوا أن لا عمل إلا بنية العامل ولا نية للمعمول عنه في ذلك فاستدركوا على ربهم ما لم يستدركوه على أنفسهم وهذا غاية الخذلان واحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن يعلى بن منبه رحمة الله عليه إذ سأل عن قصر الصلاة وقد ارتفع الخوف قالوا فلما جاء القصر في القرآن في حال الخوف دل ذلك على أن الأمر بخلاف الخوف قال أبو محمد وقد غلط في ذلك من أكابر أصحابنا أبو الحسن عن عبد الله بن أحمد بن المغلس فظن مثل ما ذكرنا وهذا لا حجة لهم فيه لأن الأصل في الصلوات كلها على ظاهر الأمر الإتمام وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدد ركعات كل صلاة ثم جاء النص بعد ذلك في القصر في حال السفر مع الخوف فكان ذلك مستثنى من سائر الأحوال فلما رأى عمر القصر متماديا مع ارتفاع الخوف أنكر خروج الحال التي لم تستثن في علمه عن حكم النص الوارد في إتمام الصلاة في سائر الأحوال غير الخوف فأخبر صلى الله عليه وسلم أن حال السفر فقط مستثناة أيضا من إيجاب الإتمام وإن لم يكن هنالك خوف فكان هذا نصا زائدا في استثناء حال السفر مع الأمن

فإنما أنكر ذلك من جهل أن هذه الصدقة الواجب قبولها قد نزل بها الشرع وهو عمر رضي الله عنه ولسنا ننكر مغيب الواحد من الصحابة أو الأكثر منهم عن نزول حكم قد علمه غيره منهم وأما الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها فرضت الصلاة فلا حجة فيه علينا بل هو حجة لنا وقد يظن عمر إذا نقلت صلاة الحضر إلى أربع ركعات أن صلاة السفر أيضا منقولة والغلط غير مرفوع عن أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد وتعلل بعض من غلط في هذا الباب من أصحابنا بأن قالوا قوله صلى الله عليه وسلم استنشق اثنتين بالغتين إلا أن تكون صائما في حديث لقيط بن صبرة الأيادي في ذلك مانع من مبالغة الصائم في الاستنشاق قال أبو محمد وليس ذلك كما ظنوا ولكن حديث لقيط فيه إيجاب المبالغة على غير الصائم فرضا لا بد له من ذلك وفيه استثناء الصائم من إيجاب ذلك عليه فسقط عن الصائم فرض المبالغة وليس في سقوط الفرض ما وجب المنع منها فليس في الحديث المذكور منع الصائم منها لكنه له مباحة لا واجبة ولا محظورة لأن الإباحة واسطة بين الحظر والإيجاب فإذا سقط الإيجاب لم ينتقل إلى الحظر إلا بنهي وارد لكن ينتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الإباحة أو الندب وإذا سقط التحريم ولم ينتقل إلى الوجوب إلا بأمر وارد لكنه ينتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الإباحة أو الكراهة وقد بينا هذا في باب النسخ من هذا الكتاب قال أبو محمد وقال بعض من غلط في هذا الفصل أيضا من أصحابنا إن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان بن عسال المرادي ألا

ينزع المسافرون الخفاف ثلاثا إيجاب لنزعها بعد الثلاث وإيجاب على المقيم نزعها بعد يوم وليلة فأوجبوا من ذلك أن يصلي الماسح بعد انقضاء الأمدين المذكورين حتى ينزع خفيه ولم يوجبوا عليه بعد ذلك أن يجدد غسل رجليه ولا إعادة وضوئه وأنكر ذلك أبو بكر بن داود رحمهما الله وأصاب في إنكاره قال أبو محمد وليس في الحديث المذكور إيجاب نزع الخفين ولا المنع من نزعهما وإنما فيه المنع من إحداث مسح زائد فقط وهو الخيار بعد انقضاء أحد الأمدين بين أن ينزع ويصلي دون تجديد وضوء ولا غسل رجليه وبين ألا ينزعهما ويصلي بالمسح المتقدم ما لم ينتقض وضوءه فإذا انتقض وضوءه فقد حرم عليه المسح وإذا حرم عليه المسح لزمه فرض الوضوء فلا بد حينئذ من غسل الرجلين وإذا لم يكن بد من غسل الرجلين فلا سبيل إلى ذلك إلا بإزالة الخفين فحينئذ لزم نزع الخفين لا قبل أن يحدث وبلغنا عن بعض أصحابنا أنه يقول إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء لا ينجسه شيء دليل على أن ما عداه ينجس فيقال له وبالله تعالى التوفيق هذا ليس بشيء لوجوه أولها أنها دعوة مجردة بلا دليل ويقال ما الفرق بينك وبين من قال بل ما هو إلا دليل على أنه مثل الماء في أنه لا ينجس فإن قال هذا قياس والقياس باطل قيل له هل كان القياس باطلا إلا لأنه حكم بغير نص فلا بد له من نعم فنقول له وهكذا حكمك لما عدا الماء أنه بخلاف الماء حكم بغير نص ولا فرق ومنها أننا نقول به أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم الطعام بالطعام مثلا بمثل أفيه منع من بيع ما عدا الطعام مثل بمثل أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم نعم الإدام الخل أفيه حكم على أن ما عداه بئس الإدام أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل

الخبث أو لم ينجس على أنه أصح من حديث بئر بضاعة أيصح منه أن ما دون القلتين ينجس ومثل هذا كثير لو تتبع فلو قال قد جاء فيما عدا ما ذكر في هذه الأحاديث نصوص صح بها عندنا حكمها قلنا له وقد جاء فيما عدا الماء نص على إباحته بقوله تعالى ف {يأيها لناس كلوا مما في لأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات لشيطان إنه لكم عدو مبين} فلا سبيل إلى تحريم شيء من ذلك إلا بنص وارد فيه ولا إلى تنجيس شيء منه من أجل نجاسة حلته إلا بنص وارد فيه ولا فرق وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد واحتجوا بأن الناس مجمعون على أن من قال لآخر لا تعط غلامي درهما حتى يعمل شغلا كذا قالوا فهذا يقتضي أنه إذا عمله وجب أن يعطي الدرهم قال أبو محمد وهذا خطأ وإن أعطاه المقول له هذا القول الدرهم بعد انقضاء ذلك الشغل وكان ذلك الدرهم من مال السيد فعليه ضمانه إن تلف الدرهم ولم يوجد المدفوع إليه ودليل ذلك إجماع الناس على أن المقول له ذلك يسأل الآمر فيقول له إذا عمل ذلك الشغل أعطيه الدرهم أم لا فلو اقتضى هذا الكلام إعطاءه الدرهم بعمل الشغل المذكور ما كان للاستفهام المأمور به معنى وأيضا فإن الأمة مجمعة على أن الآمر لو قال للمأمور عند استفهامه إياه لا تعطه إياه حتى أجد لك ما تعمل فيه أن ذلك حسن في الخطاب ولازم للمأمور وإنما في الكلام المذكور المنع من إعطاء الدرهم قبل عمل الشغل وليس فيه بعد عمل الشغل لا إعطاؤه ولا منعه وذلك موقوف على أمر له حادث إما بمنع وإما بإعطاء فإن قالوا فقول الله تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} أليس إعطاؤهم الجزية

مانعا من قتلهم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق إنما في الآية الأمر بقتلهم إلى وقت إعطاء الجزية ثم ليس فيها إلا المنع من قلتهم بعد إعطائها ولا إيجاب قتلهم ولكن لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقتل ذا عهد في عهده وقال صلى الله عليه وسلم لمن كان يبعث من قواده فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم هذا نص كلامه صلى الله عليه وسلم لكل من يبعثه إلى كتابي حربي حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن هاشم قال أبو بكر ثنا وكيع بن الجراح وقال إسحاق ثنا يحيى بن آدم وقال عبد الله ثنا عبد الرحمن بن مهدي كلهم قالوا ثنا سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فلما قال صلى الله عليه وسلم ذلك مبينا أن دماءهم وأموالهم وأذاهم بالظلم وسبي عيالهم وأطفالهم حرام بإعطائهم الجزية بنص قوله صلى الله عليه وسلم كف عنهم فالكف يقتضي كل هذا وكثير ممن يحتج علينا بما ذكرنا قد نسوا أنفسهم فقالوا في نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الزرع حتى يشتد إن ذلك غير مبيح لبيعه بعد اشتداده ولكن حتى يضفى من تبنه ويداس قال أبو محمد وبيع الزرع عندنا بعد اشتداده مباح وإن لم يصف ولا ديس لقوله تعالى {لذين يأكلون لربا لا يقومون إلا كما يقوم لذي يتخبطه لشيطان من لمس ذلك بأنهم قالوا إنما لبيع مثل لربا وأحل لله لبيع وحرم لربا فمن جآءه موعظة من ربه فنتهى فله ما سلف وأمره إلى لله ومن عاد فأولئك أصحاب لنار هم فيها خالدون} فلا يخرج من هذه الجملة إلا ما جاء نص أو إجماع بتحريمه ولهذه الجملة أجزنا بيع منخل بعد أن تزهى والعنب بعد أن يسود والثمر بعد أن يبدو فيه الطيب وليس لأن هذه النواهي توجب إباحة البيع بعد حلول الصفات المذكورة فيها وكذلك قلنا في قوله تعالى {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب لله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من

الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون} وإنما حرم الأكل من حين يتبين طلوع الفجر بالأمر المتقدم لهذا النسخ فإن الأمر قد كان ورد بتحريم الأكل والشرب والوطء مذ ينام المرء إلى غروب الشمس من غد ثم نسخ ذلك وأبيح لنا الوطء والأكل والشرب إلى حين يتبين طلوع الفجر الثاني فبقي ما بعده على الأصل المتقدم في التحريم وبنصوص وردت في ذكر تحريم كل ذلك بطلوع الفجر الثاني وبقوله تعالى {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} ولو لم يكن ههنا إلا قوله تعالى {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} ما كان فيه إيجاب الصيام ولا المنع منه وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله إنما حرم القتال بقوله صلى الله عليه وسلم فإذا قالوها عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وهكذا سائر النصوص التي وردت على هذا الحسب وبالله تعالى التوفيق وذكروا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع أو كما قال صلى الله عليه وسلم قالوا فدل ذلك على أن التي لم تؤبر بخلاف التي أبرت وأنها للمبتاع قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأننا لم نقض من هذا الحديث أن الثمرة التي تؤبر للمبتاع لكن لما كانت التي تؤبر غائبة لم تظهر بعد كانت معدومة وكانت بعض ما في عمق النخلة المبيعة كانت داخلة في المبيع لأنها بعضه ثم نقول لهم وبعد أن بينا بطلان ظنكم فنحن نريكم إن شاء الله تعالى تناقضكم في هذا المكان فنقول إن كنتم إذا قضيتم بأن المسكوت عنه بخلاف المذكور فما قولكم لمن قال لكم بل ما المسكوت عنه ههنا إلا في حكم المذكور قياسا عليه فتكون الثمرة التي لم تؤبر للبائع أيضا قياسا على التي أبرت وقد قال أبو حنيفة لا فرق بين الإبار وعدمه فنسي قوله لم يذكر صلى الله عليه وسلم السائمة إلا لأنها بخلاف غير السائمة ولولا ذلك لما

كان في زكاة السائمة فائدة وجعل ههنا ذكره صلى الله عليه وسلم الإبار لا لفائدة وجعله كترك الإبار فبان اضطراب هؤلاء القوم جملة وبالله تعالى التوفيق واحتج الطحاوي في إسقاط الزكاة عما أصيب في أرض الخراج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت العراق قفيزها ودرهمها الحديث قال فلو كان في أرض الخراج شيء غير الخراج لذكره صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فيقال للطحاوي أرأيت إن قال لك قائل إن قوله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء العشر دليل على أن لا خراج على شيء من الأرض لأنه لو كان فيها خراج لذكره في هذا الحديث فإن قال قد ذكر الخراج في الحديث الذي قدمنا آنفا قيل له وقد ذكر العشر ونصف العشر في الحديث الذي ذكر آنفا فإن قال قائل ما تقولون في خطاب ورد من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم معلقا بشرط قيل له ينظر أتقدمت ذلك الخطاب جملة حاظرة لما أباح ذلك الخطاب أو مبيحة لما حظر أم لم يتقدمه جملة بشيء من ذلك لكن تقدمت جملة تعمه وتعم معه غيره موافقة لما في ذلك النص ولا بد من أحد هذه الوجوه لأن الجملة التي نص عليها بقوله تعالى {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} مبيحة عامة لا يشذ عنها إلا ما نص عليه وفصل بالتحريم فلا سبيل إلى خروج شيء من النصوص عن هذه الجملة ولا بد لكل نص ورد من أن يكون مذكورا فيه بعض ما فيها بموافقة أو يكون مستثنى منها بتحريم فإن وجدنا النص الوارد وقد تقدمته جملة مخالفة له استثنيناه منها وتركنا سائر تلك الجملة على حالها ولم نحظر إلا ما حظر ذلك النص فقط ولم نبح إلا ما أباح فقط ولم نتعده وإن وجدناه موافقا

لجملة تقدمته أبحنا ما أباح ذلك الخطاب وأبحنا أيضا ما أباحته الجملة الشاملة له ولغيره معه أو حظرنا ما حظره لك الخطاب وحظرنا أيضا ما حظرته الجملة الشاملة له ولغيره معه ولم نسقط من أجل ذلك الشرط شيئا مما هو مذكور في الجملة الشاملة له ولغيره وهذا هو مفهوم الكلام في الطبائع في كل لغة من لغات بني آدم عربهم وعجمهم ولا يجوز غير ذلك وقد ذكرنا في باب الأخبار من كتابنا هذا بيان هذا العمل ونظرناه بمسائل جمة ولكن لا بد لنا أيضا ههنا من تشخيص شيء من ذلك ليتم البيان بحول الله وقوته فليس كل أحد يسهل عليه تمثيل مسائل تقضيها الجملة التي ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وليس قولنا آنفا تقدمته جملة بمعنى تقدم وقت النزول فليس لذلك عندنا معنى إلا في النسخ وحده وإلا فالقرآن والحديث كله عندنا ككلمة واحدة وكأنه نزل معا لوجوب طاعة جميع ذلك علينا وإنما نعني بقولنا تقدمته أي عمت ذلك الخطاب وغيره معه ولكن لما كنا نجعل تلك الجملة مقدمة يستثنى منها ذلك النص أو نضيفه إليها على معنى البيان لها سمينا ورودها من أجل ما ذكرنا تقدما قال أبو محمد فمما ذكرنا قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} فالجملة المتقدمة لهذا الشرط هي أمره تعالى باستعمال الماء فرضا على كل حال لمن أراد الصلاة الواجبة أو التطوع فإن تيمم مع وجود الماء والصحة ولم يستعمل الماء كان عاصيا لأنه لم يأت بما أمر به ولأنه لم يستعمل ما أمر باستعماله في غسل أعضائه المذكورة في آية الوضوء والغسل فإن تيمم مع وجود الماء والصحة واستعمل الماء أيضا كان متكلفا لم يؤمر به والمتكلف لذلك إن سلم من سلم من الإسم لم يسلم من الفضول وسوء الاختيار وقد أمر الله تعالى فيه صلى الله عليه وسلم أن يقول {قل مآ أسألكم عليه من أجر ومآ أنآ من لمتكلفين} فإن اعتقد

وجوب التيمم مع استعمال الماء في حال الصحة ووجود الماء كان عاصيا كافرا لاعتقاده ما لا خلاف أنه لم يؤمر به وزيادة في الدين وتعديه حدود الله تعالى فلما بطلت هذه الوجوه كلها لم يبق إلا استعمال التيمم عند عدم الماء المقدور عليه في السفر وعند المرض وهكذا القول في قوله تعالى {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم} إلى منتهى قوله {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم} قال أبو محمد فنظرنا هل نجد جملة متقدمة لإباحة نكاح الفتيات المؤمنات بالزواج فوجدنا قبلها متصلا بها ذكر ما حرم الله تعالى من النساء من قوله تعالى {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} إلى منتهى قوله فحرم الله تعالى بهذا النص كل محصنة والإحصان يقع على معان منها العفة ومنها الزوجية ومنها الحرية فلم يجز لنا إيقاع لفظة {ة على بعض ما يقع تحتها دون بعض بالبراهين التي ذكرنا في باب العموم فحرم بقوله تعالى كل عفيفة من أمة أو حرة وكل حرة وكل ذات زوج وقد حرم الزواني من الإماء والحرائر بقوله تعالى { لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين} فحرمت كل امرأة في الأرض بهذين النصين إلا ما استثنى من ذلك بنص أو إجماع ثم قال تعالى متصلا بالتحريم المذكور غير مؤخر لبيان مراده تعالى {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} فأباح تعالى ما شاء مما ملكت أيماننا وليس في هذا إباحة الزواج ثم زادنا تعالى بيانا متصلا فقال {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} فاستثنى تعالى الزواج أيضا بالإباحة المذكورة والعمل في هذا يكثر إلا أن اختصار القول والغاية في ذلك قول الله تعالى {خلق لكم ما في الأرض جميعا} فهذه آية لو تركنا وظاهرها لكان

كل ما خلق الله تعالى في الأرض حلالا لنا لكن حرم الله تعالى أشياء مما في الأرض فكانت مستثناة من جملة التحليل فمن ذلك قوله تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} مع الآية التي تلونا آنفا من قوله تعالى في آية التحريم {والمحصنات من النساء} فلو تركنا وهذين النصين لحرم النساء كلهن وكن مستثنيات من جملة التحليل ثم قال تعالى {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} فاستثنى الله عز وجل من جملة النساء المحرمات الأزواج وملك اليمين فلو تركنا وهذه الآية لحلت كل امرأة بالزواج خاصة وبملك اليمين فقط لا بالزنى من أم أو إبنة أو حريمة لأن المتزوجات والمملوكات بعض النساء وكانت هذه الآية موافقة لقوله تعالى {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} ولقوله تعالى {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} ولا فرق بين شيء من هذه الآيات ثم قال تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم} الآية إلى منتهى قوله {وأن تجمعوا بين الاختين} وقال تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} وقال تعالى {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} وقال تعالى {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وحرم بالرضاعة ما يحرم من النسب وحرم النص فعل قوم لوط ونكاح الزواني ونكاح الزناة للمسلمات وحرم بالإجماع والنص بقوله تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} إلى قوله تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} ووطء البهائم والمشركة وبدليل النص أيضا فكان كل ما ذكرنا مستثنى مما أبيح من النساء بالزواج وملك اليمين

لأن ما في هذه النصوص أقل مما ذكر في آية إباحة الأزواج وملك اليمين وقال تعالى {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} إلى قوله عز وجل {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} فاستثنى تعالى الكتابيات بالنكاح خاصة وهذا يقع على الإماء منهن والحرائر وبقيت الأمة الكتابية حراما وطؤها بملك اليمين خاصة وبقوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} ولما يأت في شيء من النصوص ما يبيحها ثم نظرنا في قوله تعالى {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم} فوجدناه تعالى إنما ذكر في هذه الآية إباحة نكاح الأمة لمن لم يجد طولا وخشي العنت وبقي حكم واحد الطول الذي لا يخاف العنت فلم نجده تعالى ذكر في هذه الآية إباحة ولا تحريما عليه فرجعنا إلى سائر الآي فوجدناه تعالى قد أباح نكاح الإماء المؤمنات لكل مسلم ولم يخص فقيرا من غني ولا من عنده حرة ممن ليست عنده حرة بقوله تعالى {وأنكحوا لأيامى منكم ولصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم لله من فضله ولله واسع عليم} فكان للعبد مباحا أن ينكح حرة وأمة وللحر أيضا كذلك ولا فرق وكذلك الأمة الكتابية نكاحها للمسلم حلال بقوله تعالى {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} وهذا قول عثمان البتي وغيره والعجب من الحنفيين في منعهم الزكاة عن غير السائمة بذكره صلى الله عليه وسلم السائمة في حديث أنس وإباحتهم ههنا نكاح الأمة المسلمة لمن وجد طولا لحرة مسلمة فهلا سألوا أنفسهم عن الفائدة في ذكره تعالى {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم} كما سألوا هناك عن الفائدة في ذكر السائمة ولكن هكذا يكون من اتبع رأيه وقياسه وهواه المضل والعجب من المالكيين في عكسهم ذلك فقالوا ليس في قوله صلى الله عليه وسلم

في السائمة ما يوجب أن يسقط الزكاة من غير السائمة وقالوا ههنا ذكره تعالى عادل الطول والأمة المؤمنة موجب التحريم الأمة الكتابية ثم في الوقت أباحوا الأمة المؤمنة لواجد الطول قال أبو محمد فكلا الفريقين تناقض كما ترى وحرم بعضهم نكاح الأمة المؤمنة على واجد الطول بحرة كتابية وليس هذا في نص الآية أصلا وإنما منع من منع من ذلك قياسا للكتابية على المسلمة وقد أكذب الله تعالى هذا القياس الفاسد بقوله {أفنجعل لمسلمين كلمجرمين * ما لكم كيف تحكمون} فلو كان القياس حقا لكان هنا باطلا وإذا قاسوا واجد الطول للحرة الكتابية على واجد الطول للحرة المسلمة ولم ينص تعالى إلا على واجد الطول للحرة المسلمة فقط فهلا فعلوا مثل ذلك فقاسوا إباحة الأمة الكتابية بالنكاح لعادم الطول لحرة وخائف العنت على إباحة الأمة المؤمنة لخائف العنت وعادم الطول كما فعلوا في التي ذكرنا قبل قال أبو محمد وهذا مما تركوا فيه القول بدليل الخطاب لأنه كان يلزمهم على أصلهم أن يقولوا إن ذكره تعالى المحصنات المؤمنات دليل على أن الكافرات بخلافهم ولكن أكثرهم لم يفعلوا ذلك فنقضوا أصلهم في دليل الخطاب ونحن وإن وافقنا أبا حنيفة في بعض قوله ههنا فلسنا ننكر اتفاقنا مع خصومنا في هذه المسائل وقد يجتمع المصيب والمخطىء في طريقهما الذي يطلبانه أحدهما بالجد والبحث والعلم بيقين ما يطلب والثاني بالجد والبحث والاتفاق وغير منكر أن يخرجهم الرؤوف الرحيم تعالى إلى الغرض المطلوب وإن تعسفوا الطريق نحوه ولكنهم مع ذلك تحكموا بلا دليل أصلا فقالوا من كانت عنده حرة فحرام عليه نكاح الأمة وهذا قول ليس في النص ما يوجبه أصلا

وقولنا في هذا هو قول عثمان البتي وغيره وقد روي عن مالك إجازة نكاح الأمة على الحرة إذا رضيت بذلك الحرة وأجاز أبو حنيفة وأصحابه نكاح المسلمة والكتابية لواجد طول لحرة مسلمة وإن لم يخش العنت إذا لم تكن عنده حرة فيؤخذ من قول كل واجد ما أصاب فيه فبان بما ذكرنا تحليل الله تعالى حرائر أهل الكتاب وإماءهم في الزواج وبقي ما ملكت منهن على التحريم لبراهين ذكرناها في باب الإخبار من كتابنا هذا ويقال لهم إنكم منعتم من نكاح الأمة الكتابية وقلتم ليست كالأمة المسلمة فنقيسها عليها وقد تناقضتم فأبحتم نكاح الحرة الكتابية لواجد طول لحرة مسلمة وإن لم يخف عنتا وحرمتم عليه نكاح الأمة المسلمة حتى أن بعضهم قال إن من وجد طولا لحرة كتابية لم يحل له نكاح الأمة المسلمة وحتم أن بعضهم لم يقتل الحر الكتابي المسلم ولا خلاف بين مسلمين أن الأمة المسلمة خير عند الله عز وجل وعند كل مسلم من كل حرة كتابية كانت في الدنيا أو تكون إلى يوم البعث فإن قالوا فأي معنى أو أي فائدة في قصد الله تعالى بالذكر في الآية المذكورة آنفا عادم الطول وخائف العنت والمحصنة المؤمنة والأمة المؤمنة إذا كان واجد الطول وآمن العنت والأمة الذمية والمحصنة والكافرة سواء في كل ذلك قال أبو محمد فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق هذا سؤال إلحاد وقد ذكر الله تعالى في بعض الآيات التي تلونا بعض ما ذكره في غيرهن فلم يكن ذلك متعارضا وقد قال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وليس تخصيصه الذين آمنوا بالذكر ههنا موجبا أن طاعة الله عز وجل لا تلزم الذين كفروا بل هي لازمة للكفار كلزومها للمؤمنين ولا فرق وقد ذكرنا

طرقا من هذا في باب الأخبار وفي باب العموم من كتابنا هذا قال أبو محمد وكذلك قوله تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} وهم كلهم قد وافقونا على أن كل من لم يخف أيضا ألا يعدل فمباح له الاقتصار على واحدة وعلى ما ملكت يمينه فتركوا ههنا مذهبهم في دليل الخطاب وكان يلزمهم ألا يبيحوا الواحدة فقط إلا لمن خاف ألا يعدل فإن قالوا إن ذلك إجماع قيل لهم قد أقررتم أن الإجماع قد صح بإسقاط قولكم في دليل الخطاب ويقال لهم سلوا أنفسكم ههنا فقولوا أي فائدة وأي معنى لقصد الله تعالى بالذكر من خاف أن يعدل كما قلتم لنا أي فائدة وأي معنى لقصد الله تعالى بالذكر لمن خاف العنت وعدم الطول وهذا ما لا انفكاك منه والحمد لله فإن قالوا فهلا قلتم مثل هذا في قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} وقوله تعالى أيضا {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} وقوله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} فتوجبوا إباحة الصيام لمن وجد الرقبة والهدي قلنا لا سواء والأصل أنه لا يلزمنا صيام فرض أصلا إلا ما أوجبه نص كما أن الأصل إباحة نكاحة الإماء بقوله تعالى {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} وقوله تعالى {وأنكحوا لأيامى منكم ولصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم لله من فضله ولله واسع عليم} فلم نوجب الصوم فرضا إلا حيث أوجبه النص وأحللنا النكاح في كلتا الآيتين لأنهما معا نص واجب وطاعته

فصل من هذا الباب في معنى الاستثناء

وأيضا فإن حكم واجد الرقبة في كفارة الوطء وواجد النسك من الهدي في التمتع وواجد الغنى في الإطعام والكسوة والرقبة في كفارة اليمين منصوص على لزوم كل ذلك لهم فلو صام كان عاصيا لله عز وجل تاركا لما نص على وجوبه عليه وليس كذلك واجد الطول وآمن العنت لأنه لا نص على منعه من نكاح الإماء أصلا لا في نص ولا في إجماع فبين الأمرين أعظم الفرق وقد ذهب بعضهم وهو أبو يوسف إلى المنع من صلاة الخوف على ما جاءت به الروايات ولقوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم لصلاة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود لذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن لله أعد للكافرين عذابا مهينا} قال فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن فينا لم نصل كذلك قال أبو محمد فأول ما يدخل عليه أنه لا يلزمه ألا يأخذ الأئمة زكاة من أحد لأن الله تعالى قال {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} فإنما خوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما خوطب بتعليمه كيفية صلاة الخوف ولا فرق فقد ظهر تناقضه وأيضا فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي ملزم لنا أن نصلي صلاة الخوف وغير صلاة الخوف كما رئي صلى الله عليه وسلم يصليهما وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم أرضوا مصدقيكم وقوله صلى الله عليه وسلم في كتاب الزكاة فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها ومن سئل فرقها فلا يعط موجب لأخذ الأئمة الزكاة بإرسال المصدقين وبالله تعالى التوفيق فصل من هذا الباب قال أبو محمد كل لفظ ورد بنفي ثم استثني منه بلفظة إلا أو لفظة حتى فهو غير جار إلا بما علق به مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ ومثل لا صلاة إلا بأم القرآن ولا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وهذا هو المفهوم من الخطاب بالضرورة

لأنه نفى قبول الصلاة إلى أن يتوضأ ووجب قبولها بعد الوضوء بالآية التي فيها {يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} وبالحديث من توضأ كما أمر ونفى الصلاة إلا بأم القرآن وأثبتها بأم القرآن لأنه لا بد لكل مصل من أن يقرأ أم القرآن أو لا يقرؤها ولا سبيل إلى وجه ثالث أصلا بوجه من الوجوه والصلاة فرض فلما لم يكن بد من الصلاة ولم يكن فيها بد من قراءة أم القرآن أو ترك قراءتها وكان من لم يقرأها ليس مصليا فمن قرأها فيها فهو مصل بلا شك وفرض على كل مسلم بالغ أن يصلي كما أمر ففرض عليه أن يقرأ أم القرآن وهذا برهان ضروري قاطع وكذلك نفيه صلى الله عليه وسلم القطع جملة ثم أوجبه مستثنى في ربع دينار فصاعدا إلا أن هذا لو لم يتقدم فيه نص أو إجماع لم قطعنا إلا في الذهب فقط ولكن لما قال تعالى {ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده وأجمعت الأمة على أن حديث ربع دينار لم يقصد به صلى الله عليه وسلم إبطال القطع في غير الذهب وجب علينا أن نستعمل الآية على عمومها فلا يخرج منها إلا سارق أقل من ربع دينار ذهب فقط فمن سرق أقل من ربع دينار ذهب فلا قطع عليه ومن سرق من غير الذهب شيئا قل أو كثر أي شيء كان له قيمة وإن قلت فعليه القطع بالآية والحديث الذي فيه لعن الله السارق قال أبو محمد ومن أبى هذا فإنما يلجأ أن يقول المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في ذكره ربع الدينار إنما عنى القيمة قال أبو محمد وهذه دعوى لا دليل عليها وأن من ظن النبي صلى الله عليه وسلم سها عما تنبه له هذا المتعقب فقد عظم غلطه {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا} وليت شعري أي شيء كان المانع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا قطع إلا في قيمة ربع الدينار فصاعدا فيكشف عنا الإشكال وقد أمره

ربه تعالى بالبيان والذي نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه أراد القيمة ولم يبينها فإنما هو تلبيس لا بيان وقد أعاذ الله تعالى من ذلك والحديث الذي فيه ذكر القيمة ليس فيه بيان بأن القطع من أجل القيمة فليس لأحد أن يقول إن التقويم كان من أجل القطع إلا كان لآخر أن يقول بل لتضمين السارق ما جنى في ذلك قال أبو محمد ثم يقنعوا إلا بأن نسبوا إلى الذي وصفه ربه تعالى بأنه رؤوف بنا رحيم وأنه عزيز عليه ما عنتنا إنه زادنا تلبيسا بقوله صلى الله عليه وسلم لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده إنه إنما في بيضة الحديد التي يقاتل بها وأنه صلى الله عليه وسلم عنى حبلا مزينا يساوي ربع دينار هذا مع أنها دعاوى بارية عارية من الأدلة فهي أيضا فاسدة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يرد بهذا عذر السارق وكيف يريد عذره وهو يلعنه وإنما أراد صلى الله عليه وسلم شدة مهانة السارق ورذالته وأنه يبيح يده فيما لا خطب له من بيضة أو حبل وهذا الذي لا يعقل سواه ولهم من مثل هذا ما ينسبونه إلى مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم غثائث جمة يوقرون أنفسهم عن مثلها فمن ذلك ما ينسبون إلى الآية التي في الوصية في السفر أن قول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم لموت حين لوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين} أي من غير قبيلتكم وهذا من الهجنة بحيث لا يجوز أن ينسب إلى من له أدنى معرفة باللغة ومجاري الكلام فكيف بخالق الكلام والبيان لا إله إلا هو ومن ذلك قول بعض المالكيين في قوله صلى الله عليه وسلم للذي خطب المرأة ولا شيء معه التمس ولو خاتما من حديد قال هذا القائل إنما كلفه صلى الله عليه وسلم خاتما مزينا مليحا يساوي ربع دينار وهذا وهم يسمعون كلام الرجل أنه لا يملك إلا إزاره فقط وأنه لا يقدر على حيلة فيقول له صلى الله عليه وسلم

ولو خاتما من حديد أفيسوغ عن عقل من له مسكة أن يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلف من هذه صفته خاتما بديعا يساوي ربع مثقال وهذا مع ما فيه من الافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم والكذب عليه فقول مفضوح ظاهر العوار لأنه لم يكن بلغ عن غلاء الحديد بالمدينة ومنه مساحيهم ومناحلهم لعمل النخل ودروعهم للقتال أن يساوي خاتم منه قريبا من وزنه من الذهب ولو نطقت بهذا مخدرة غريرة لأضحكت بقولها وبالله عز وجل نستعين قال أبو محمد وقد اعترض بعض الحنفيين على قوله صلى الله عليه وسلم لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا فقال هذا اللفظ لا يوجب قطعا في الربع دينار قال أبو محمد وهذه قحة ظاهرة ومجاهرة لا يرضاها لنفسه من في وجهه حياء وهو بمنزلة من قال {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} أن هذا اللفظ لا يوجب نهيا ولا منعا ومن قال في مثل هذا إن هذا الخطاب لا يوجب القطع في ربع دينار وأن لا صلاة إلا بقراءة القرآن ألا يوجب القراءة ثم قال في الأوامر أنها غير لازمة وأنها على الندب ثم قال في الألفاظ إنها على الخصوص ثم قال في الكلام إنه ليس على ظاهره ثم ترك النص فلم يحكم به ثم أتى إلى أشياء لم تنص فحرمهاوأحلها برأيه فما نعلم أحدا ولا الحلاج ولا الغالية من الروافض أشد كيدا للإسلام منه وأما الجاهل فهو معذور وأما من قامت عليه الحجة فتمادى فهو فاسق بلا شك وسيرد فيعلم وما توفيقنا إلا بالله فإن قال قائل إن مثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا إيمان لمن لا أمانة له

قيل له وبالله تعالى التوفيق هذا على ظاهره ونعم لا إيمان أصلا لمن لا أمانة له ولا يجوز أن نخص بذلك أمانة دون أمانة والإسلام هو الأمانة التي عرضها الله تعالى على السماوات والأرض وقبول الشرائع فمن عدم هذه الأمانة التي هي بعض الأمانات فلا إيمان له ومن قيل فيه لا أمانة له فهو محمول على كل أمانة لا على بعضها دون بعض وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه فكذلك نقول إن الفعل المذموم منه ليس إيمانا لأن الإيمان هو جميع الطاعات والمعصية إذا فعلها فليس فعله إياها إيمانا فإذا لم يفعل الإيمان فلم يؤمن يعني في تركه ذلك الفعل خاصة وإن كان مؤمنا بفعله للطاعات في سائر أفعاله وقد بينا هذا في كتاب الفصل والإيمان هو الطاعات كلها وليس التوحيد وحده إيمانا فقط فمعنى لا إيمان له أي لا طاعة وكذلك إذا عصى فلم يطع وإذا لم يطع فلم يؤمن وليس يلزمنا أنه إذا لم يؤمن في بعض أحواله أنه كفر ولا أنه لا يؤمن في سائرها لكن إذا لم يطع فلم يؤمن في الشيء الذي عصى به وآمن فيما أطاع فيه فإن قال أنه يلزمكم بهذا أن تقولوا إنه مؤمن لا مؤمن قلنا نعم هو مؤمن بما آمن به غير مؤمن فيما لم يؤمن به وهذا شيء يعلم ضرورة ولم نقل إنه مؤمن لا مؤمن على الإطلاق وهكذا يلزم خصومنا في مسيء ومحسن ولا فرق فإن قلتم من أحسن في جهة وأساء في أخرى فهو مسيء عاص فيما أساء فيه ومحسن طائع فيما أحسن فيه أفترى يلزمكم من هذا أن تقولوا هو عاص طائع ومحسن مسيء على الإطلاق ونحن لا نأبى هذا إذا كان من وجهين مختلفين ولا نعيب به أحدا

وأما من قال لا صلاة لمن لم يقرأ ولا صيام لمن لن يبيته من الليل إنما معناه لا صلاة كاملة فهذه دعوى لا دليل عليها وأيضا فلو صح قولهم لكان عليهم لا لهم لأن الصلاة إذا لم تكن كاملة فهي بعض صلاة وبعض الصلاة لا تقبل إذا لم تتم كما أن صيام بعض يوم لا يقبل حتى يتم اليوم فإن قال إنما معناه أنها صلاة كاملة إلا أن غيرها أكمل منها فهذا تمويه لأن الصلاة إذا تمت بجميع فرائضها فليس غيرها أكمل منها في أنها صلاة ولكن زادت قراءته وتطويله الذي لو تركه لم يضر ولا سميت صلاته دون ذلك ناقصة وقد أمر تعالى بإتمام الصيام وإقامة الصلاة فمن لم يقمها ولا أتم صيامه فلم يصل ولا صام لأنه لم يأت بما أمر به وإنما فعل غير ما أمر به والناقص غير التام وقد قال صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وليس هذا مما يكتفى به في إقامة الصلاة وإتمام الصيام فقط لكن كل ما جاءت به الشريعة زائدا أبدا ضم إلى هذا ومن العجب العجيب أن قوما لم يبطلوا الصلاة بما أبطلها به صلى الله عليه وسلم من عدم القراءة لأم القرآن ومن ترك إقامة الأعضاء في الركوع والسجود ومن فساد الصفوف وأبطلوها بما لم يبطلها به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم من وقوف الإمام في موضع أرفع من المأمومين ومن اختلاف نية الإمام والمأموم ثم فعلوا مثل ذلك في الصيام فلم يبطلوه بما أبطله به الله تعالى من عدم النية في كل ليلة ومن الغيبة والكذب ثم أبطلوه بما لم يبطله به الله تعالى من الأكل ناسيا ومن الحقنة ومن الكحل بالعقاقير فقلبوا الديانة كما ترى وحرموا الحلال وأحلوا الحرام وبالله تعالى نعوذ من الخذلان وإياه نسأل التوفيق لا إله إلا هو قال أبو محمد وكذلك نقول في حديث أبي ذر رضي الله عنه فيما يقطع

الصلاة فذكر الكلب الأسود وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما بال الأسود من

الأحمر من الأصفر من الأبيض فقال صلى الله عليه وسلم الكلب الأسود شيطان فليس في هذا الحديث أن سائر الكلاب لا تقطع الصلاة ولا أنها تقطع فلما ورد حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب كان هذا عموما لكل كلب وهو قول أنس وابن عباس وغيرهما ومن أنكر هذا علينا من الشافعيين والمالكيين فليتفكروا في قولهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم ومن تولى رجلا بغير إذن مواليه فيلزمهم أن يبيحوا له تولي غير مواليه بإذنهم وهذا قول عطاء وغيره وهم يأبون ذلك ومثل هذا من تناقضهم كثير فصل في إبطال دعواهم في دليل الخطاب قال أبو محمد والمفهوم من الخطاب هو أن التأكيد إذا ورد فإنه رفع للشغب وحسم لظن من ظن أن الكلام ليس على عمومه وقد ضل قوم في قوله تعالى {فسجد لملائكة كلهم أجمعون} فقالوا إن حملة العرش ومن غاب عن ذلك المشهد لم يسجد قال أبو محمد ويكفي من إبطال هذا الجنون قوله تعالى {مآ أشهدتهم خلق لسماوات ولأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ لمضلين عضدا} فليت شعري من أين استحلوا أن يقولوا إن أحدا من الملائكة لم يسجد مع قوله تعالى {فسجد لملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع لساجدين} ومثل هذا من الإقدام يسيء الظن بمعتقد قائله إذ ليس فيه إلا رد قول الله تعالى بالميت وقد رام بعض الشافعيين أن يجعل قول الله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} بعد قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} من استطاع إليه على معنى أن ذلك ليس بيانا للذين ألزموا الحج ولا على أنه موافق لقوله تعالى {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وقال إن هذا خطاب فائدة أخرى موجب أن الاستطاعة من غير قوة قال أبو محمد ولسنا نأبى أن تكون الاستطاعة أيضا شيئا غير القوة للجسم لكننا نقول إن الاستطاعة كل ما كان سببا إلى تأدية الحج من زاد وراحلة وقوة جسم ولا نقول كما قال المالكيون إن الاستطاعة هي قوة الجسم فقط وإن من عدمها وقدر على زاد وراحلة فهو غير مستطيع ولا كما قال الشافعيون إنما الاستطاعة إنما هي الزاد والراحلة فقط وأن قوة الجسم ليست استطاعة بل نقول إن قوة الجسم دون الراحلة استطاعة وإن الزاد والراحلة وإن كان واجدهما مقعد الرجلين مبطل اليدين أعمى أنه مستطيع بماله حملا للآية على عمومها مع شهادة قول الله تعالى وحديث النبي صلى الله عليه وسلم لصحة قولنا يعني حديث الخثعمية وقوله تعالى {وأذن في لناس بلحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} قال أبو محمد وقد ذكرنا فيما خلا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن شيء فأجاب أن ذلك الجواب محمول على عموم لفظه لا على ما سئل عنه صلى الله عليه وسلم فقط لأنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث معلما فلا فرق بين ابتدائه بأمر وتعليم وبين جوابه عما سئل ومخبرا أيضا عما لم يسأل عنه فإن قال قائل فاحملوا قوله صلى الله عليه وسلم الخراج بالضمان على عمومه فاجعلوا الخراج للغاصب بضمانه قيل له وبالله تعالى التوفيق الحديث في ذلك لا يقوم بمثله حجة لأنه عن مخلد بن خفاف وعن مسلم بن خالد الزنجي وكلاهما ليس قويا في الحديث وأيضا فلو صح لمنع من حمله على الغاصب قوله

صلى الله عليه وسلم من الطريق المرضية ليس لعرق ظالم حق حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي عن محمد بن إسحاق عن ابن الأعرابي عن سليمان بن الأشعث حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب هو الثقفي حدثنا أيوب هو السختياني عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فخص هذا الحديث الظالمين من جملة الضامنين فنفى الخراج للمشتري بحق وأيضا فقوله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بلباطل وتدلوا بها إلى لحكام لتأكلوا فريقا من أموال لناس بلإثم وأنتم تعلمون} مانع من أكل مال بغير حق جملة وبالله تعالى التوفيق وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالبيان فلفظه كله جوابا كان أو غير جواب محمول على عمومه فإن لم يعط الجواب عموما غير ما سئل عنه لم يحمل على ما سواه حينئذ كما أفتى صلى الله عليه وسلم الواطىء في رمضان بالكفارة فوجب ألا يجعل على غير الواطىء لأنه ليس في لفظه صلى الله عليه وسلم ما يوجب مشاركة غير الواطىء للواطىء في ذلك وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم لمن أساء الصلاة أو صلى خلف الصفوف منفردا بالإعادة أمر لمن فعل مثل ذلك الفعل وحكم في ذلك الفعل متى وجد وأمره صلى الله عليه وسلم بغسل المحرم أمر في كل ميت في حال إحرام وذكر صلى الله عليه وسلم أو ذكر ربه تعالى المسجد الحرام حكما في المسجد الحرام أنه لا يشركه فيه غيره لأنه ليس ههنا مسجد حرام غيره وليس لكل لفظ إلا مقتضاه ومفهومه فقط وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش حكم في قريش لا يشاركهم فيه غيرهم ولا يقتصر به على بعضهم دون بعض إلا من منع منه إجماع من امرأة أو مجنون أو من لم يبلغ

فصل في إبطال دعواهم في دليل الخطاب

وكذلك حب الأنصار فضل في جميع الأنصار لا يعدوهم إلى غيرهم ولا يقتصر به على بعضهم دون بعض وكذلك ذو القربى وكذلك فضل أبي بكر لا يشركه فيه غيره وكذلك فضل علي لا يشركه فيه غيره لأن الحكم على الأسماء فكل اسم مسماه لا يعدي به إلى غيره ولا يبدل منه غيره ولا يقتصر به على بعض مسماه دون بعض ولا في الأحوال دون بعض فصل في إبطال دعواهم في دليل الخطاب قال أبو محمد قد أوعينا بحول خالقنا تعالى لا بحولنا الكلام في كل ما شغبوا به وأبنا حل شكوكهم جملة ثم نأتي بالبراهين المبطلة لدعواهم في ذلك إن شاء الله عز وجل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم يقال لهم أرأيتم قول الله عز وجل {ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا لكيل ولميزان بلقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد لله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} فيه إباحة أن يقرب مال من ليس يتيما بغير التي هي أحسن فإن قالوا لا ما فيه إباحة لذلك تركوا قولهم الفاسد إن ذكر السائمة دليل على أن غير السائمة بخلاف السائمة ولا فرق بين ذكره صلى الله عليه وسلم السائمة في موضع والغنم جملة في موضع آخر وبين قوله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بلباطل وتدلوا بها إلى لحكام لتأكلوا فريقا من أموال لناس بلإثم وأنتم تعلمون} في مكان ثم قال في آخر {ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا لكيل ولميزان بلقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد لله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} وكذلك لا فرق بين من قال إن الحديث الذي فيه ذكر السائمة بيان للحديث الذي فيه ذكر الغنم جملة وبين من قال إن ذكر مال اليتيم في الآية بيان للأحوال المحرمة ويعلم أن المراد بها مال اليتيم خاصة ويقال لهم أترون قول الله تعالى {إن عدة لشهور عند لله ثنا عشر شهرا في كتاب لله يوم خلق لسماوات ولأرض منهآ أربعة حرم ذلك الدين القيم

فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا لمشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة وعلموا أن لله مع لمتقين} مبيحا للظلم في سائر الأشهر غير الحرم أو ترون قوله تعالى {لملك يومئذ لله يحكم بينهم فلذين آمنوا وعملوا لصالحات في جنات لنعيم} مانعا من أن يكون الملك في غير يومئذ لله وكذلك قوله تعالى {وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم} أتراه مبيحا للبغاء إن لم يردن تحصنا وكذلك قوله تعالى {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة لنسآء أو أكننتم في أنفسكم علم لله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة لنكاح حتى يبلغ لكتاب أجله وعلموا أن لله يعلم ما في أنفسكم فحذروه وعلموا أن لله غفور حليم} أتراه مبيحا لمواعدتهن في العدة جهرا وكذلك قوله تعالى {لعن لذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} أتراه مانعا من لعن من كفر من غير بني إسرائيل وكذلك قوله تعالى {أحل لكم صيد لبحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد لبر ما دمتم حرما وتقوا لله لذي إليه تحشرون} أتراه مانعا من أكل الثمار والحبوب وما ليس من صيد البحر ولا طعامه كما قال المالكيون إن قوله تعالى {ولخيل ولبغال ولحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} مانع من أكل الخيل إذ لم يذكر الأكل وإذا عارضوا بهذه الآية الحديث الذي فيه إباحة للخيل فهلا عارضوا بالآية التي ذكرنا إباحة كل ما اختلف فيه فحرموه بها ويقال لهم أترون قوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها مسقطا لقتلهم إن جحدوا نبوة موسى وعيسى عليهما السلام ويقال لهم لو كان قولكم حقا إن الشيء إذا علق بصفة ما دل على أن ما عداه بخلافه لكان قول القائل مات زيد كذبا لأنه كان يوجب على حكمهم أن غير زيد لم يمت وكذلك زيد كاتب وكذلك محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ذلك يوجب ألا يكون غيره رسول الله ويلزمهم أيضا إذ قالوا بما ذكرنا أن يبيحوا قتل الأولاد لغير الإملاق لأن الله تعالى إنما قال {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا} ويلزمهم في قوله تعالى {وآمنوا بمآ أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فتقون} إن ذلك مبيح لأن يشترى بها ثمن كثير فلما تركوا مذهبهم في كل ما ذكرنا وكان قول القائل مات زيد وزيد

فصل في عظيم تناقضهم في هذا الباب

كاتب ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيلمة كذاب حقا ولم يكن في ذلك منع من أن غير زيد قد مات وأن غير زيد كتاب كثير وأن موسى وعيسى وإبراهيم رسل الله وأن الأسود العنسي والمغيرة الجلاح وبناتا كذابون بطل قول هؤلاء القوم إن الخطاب إذا ورد بصفة ما وفي اسم ما أو في زمان ما أن ما عداه بخلاف ولا يغلط علينا من سمع كلامنا هذا فيظن أننا إذ أنكرنا قولهم إن غير المذكور بخلاف المذكور إننا نقول إن غير المذكور موافق للمذكور بل كلا الأمرين عندنا خطأ فاحش وبدعة عظيمة وافتراء بغير هدى ولكنا نقول إن الخطاب لا يفهم منه إلا ما قضي لفظه فقط وأن لكل قضية حكم اسمها فقط وما عداه فغير محكوم له لا بوفاقها ولا بخلافها لكنا نطلب دليل ما عداها من نص وارد اسمه وحكم مسموع فيه أو من إجماع ولا بد من أحدهما وبالله تعالى التوفيق فصل في عظيم تناقضهم في هذا الباب قال أبو محمد وبالجملة فإن مذهبهم في القياس ومذهبهم في دليل الخطاب ومذهبهم في الخصوص مذاهب يبطل بعضها بعضا ويهدم بعضها بعضا وذلك أنهم قالوا في القياس إذا نص على حكم ما فنحن ندخل ما لا ينص عليه في حكم المنصوص عليه ونتبع السنة ما لا سنة فيه فإذا أوجب الربا في البر بالبر أوجبناه نحن في التبن بالتبن وإذا وجبت الكفارة على العامد في الصيد أوجبناه نحن على المخطىء

وقالوا في دليل الخطاب إذا نص على حكم ما فنحن نخرج ما لم ينص عليه من حكم المنصوص عليه ولا نتبع السنة ما لا سنة فيه فقالت طوائف منهم لا نزكي غير السائمة لأنه ذكرت السائمة في بعض الأحاديث وقالت طائفة منهم لا نأكل الخيل لأنه إنما ذكر في الآية الركوب والزينة وقالت طوائف منهم لا نقضي بالمتعة إلا التي طلقت ولم تمس ولا فرض لها لأن هذه قد ذكرت بصفتها في بعض الآيات قال أبو محمد وهذا ضد قولهم في القياس وإبطاله وقالوا في الخصوص لا نقضي لجميع ما اقتضاه النص لكن نخرج منه بعض ما يقع عليه لفظ فقالوا في قوله تعالى {يستفتونك قل لله يفتيكم في لكلالة إن مرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا ثنتين فلهما لثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ لأنثيين يبين لله لكم أن تضلوا ولله بكل شيء عليم} إنما عنى الذكر من الأولاد دون الإناث وقالوا في قوله تعالى {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا لشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بلله وليوم لآخر ومن يتق لله يجعل له مخرجا} إنما عنى من الأحرار لا من العبيد ومن الأباعد لا من الإخوة والآباء والأبناء والأزواج وقالوا في قوله تعالى {لشهر لحرام بلشهر لحرام ولحرمات قصاص فمن عتدى عليكم فعتدوا عليه بمثل ما عتدى عليكم وتقوا لله وعلموا أن لله مع لمتقين} وفي قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} لا قصاص من جرح إلا من الموضحة فقط ولا قصاص من متلف ولا من لطم ولا من نتف شعر قال أبو محمد وهذا مذهب يبطل قولهم في القياس وفي دليل الخطاب معا ونحن نرى إن شاء الله تعالى تناقضهم في مذاهبهم هذه في مسألة واحدة روى المالكيون حديث القطع في ربع دينار فقالوا لا يستباح فرج زوجة بأقل من ربع دينار قياسا على ما يقطع فيه يد السارق وذكر ربع الدينار في القطع موجب ألا يكون الصداق أقل منه ثم قالوا لا يقطع المستعير لأنه ليس سارقا وذكر الله تعالى السارق موجب ألا يقطع من ليس سارقا ثم قالوا من سرق شيئا فأكله قبل أن يخرج من حرزه وإن كان يساوي دنانير فلا قطع عليه فخصوا بالقطع بعض السراق دون بعض

فصل في عظيم تناقضهم أيضا في هذا الباب

وكذلك فعل الحنفيون سواء بسواء إلا أنهم قالوا لا يقطع سارق لحم ولا مصحف ولا فاكهة ولا زرنيخ وروى محمد بن المغيرة المخزومي عن مالك أن الإناء يغسل من ولوغ الخنزير سبعا قياسا على الحديث الوارد في الكلب ثم قالوا لا يغسل من لعاب الكلب ثوب ولا جسد لأنه إنما ذكر في الحديث الإناء ولم يذكر غيره ثم روى ابن القاسم عنه أنه قال لا يهرق الإناء إلا أن يكون فيه ماء وأما غير الماء فلا يضره ولوغ الكلب وأما الشافعيون فأتوا إلى آية الظهار فقاسوا على الأم والأخت وقالوا ذكر الله تعالى الأم دليلا على أن الأخت مثلها ثم قالوا ذكر الله تعالى المظاهر دليلا على أن المرأة إذا ظاهرت من زوجها بخلاف ذلك ثم قالوا ومن ظاهر من أمته فلا كفارة عليه فخصوا بعض النساء المذكورات في الآية بلا دليل كل ذلك ومثل هذا في أقوالهم كثير بل هو أكثر أقوالهم وما سلم منها من التناقض إلا الأقل وكلها يهدم بعضها بعضا ويدل هذا دلالة قطع على أن أقوالهم من عند غير الله تعالى إذا ما كان من عند الله تعالى فلا اختلاف فيه ولا تعارض وبعضه يصدق بعضا فصل من تناقضهم في ذلك أيضا قال أبو محمد نص الله تعالى على إيجاب الدية والكفارة في قتل المؤمن خطأ فأوجبها القياسيون في قتل المؤمن الذمي خطأ ولا ذكر له في الآية أصلا ثم اختلفوا فطائفة أوجبت الكفارة في قتل العمد قياسا على قتل الخطأ وطائفة منعت من ذلك وكان تناقض هذه الطائفة أعظم لأنهم أوجبوا الكفارة على قاتل الصيد خطأ قياسا على قاتله عمدا ومنعوا

من الكفارة في قتل المؤمن عمدا ولم يقيسوه على قتله خطأ هذا وكلهم يسمع قول الله تعالى {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فوجب بهذين النصين ألا يؤخذ أحد بخطأ من فعله إلا ما جاء به النص من إيجاب الكفارة على المخطىء في قتل المؤمن وما أجمعت الأمة عليه من ضمان الخطأ في إتلاف الأموال وأن الوضوء ينتقض بالأحداث الخارجة من المخرجين بالنسيان كالعمد فقط ومن تناقضهم أن قالت طوائف منهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم من باع نخلا وفيها تمر قد أبر فهو للبائع إلا أن يشترط المبتاع فقال بعضهم إذا ظهر أبر أو لم يؤبر فهو للبائع وهذا قول أبي حنيفة وقد كثر تناقض أصحابه في دليل الخطاب جدا وقالت طوائف منهم واجب أن تكون الرقبة في الظهار إلا مؤمنة لأن الرقبة التي ذكرت في كفارة القتل لا تكون إلا مؤمنة فوجب أن تكون الرقبة المسكوت عن ذكر دينها في الظهار مثل الرقبة المذكور دينها في القتل ثم قال بعض هذه الطائفة لما ذكر صلى الله عليه وسلم القلتين في قوله إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا وجب أن يكون لها ما دون القلتين بخلاف القلتين قال أبو محمد فهلا قالوا في الرقبة كذلك وأوجبوا أن يكون المسكوت عنها بخلاف المذكور دينها كما جعلوا المسكوت عنه فيما دون القلتين بخلاف المذكور من القلتين أو هلا جعلوا المسكوت عنه مما دون القلتين مثل القلتين كما جعلوا المسكوت عن دينها في الظهار مثل المذكور دينها في القتل وقالت طائفة أخرى منهم لا يقول المأموم سمع الله لمن حمده لأن

ذلك لم يذكر في بعض الأحاديث ولا يقول الإمام آمين لأنه لم يذكر ذلك في بعض الأحاديث وإن كان قد ذكر في غيرها لكن يغلب المسكوت ههنا فلا نقول إلا ما جاء في كلا الحديثين ذكره ثم قالت الجزية من غير أهل الكتاب وإن كان الله تعالى لم يأمر بأخذها إلا من أهل الكتاب وادعوا ذلك على عثمان رضي الله عنه قال أبو محمد وهذا لا يصح عن عثمان أصلا وأول من أخذ الجزية من غير أهل الكتاب فالقاسم بن محمد الثقفي قائد الفاسق الحجاج أخذها من عباد البد من كفرة أهل السند وأما عثمان رضي الله عنه فلم يتجاوز إفريقية وأهلها نصارى ولا تجاوز في الشرق خراسان وفي الشمال أذربيجان وأهلها مجوس ومن عجائبهم التي تغيظ كل ذي عقل ودين والتي كان يجب عليهم أن يراقبوا الله تعالى في القول بها أو يستحيوا من تقليد من أخطأ فيها إطباقهم على أن قول الله تعالى {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب لله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} فليس يدخل فيه القاتل خطأ وأن القاتل خطأ بخلاف القاتل عمدا في ذلك ثم أجمع الحنفيون والشافعيون والمالكيون على قول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} إلى منتهى قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} فقالوا كلهم إن القاتل الصيد وهو محرم خطأ تحت هذا الحكم وهم يسمعون هذا الوعيد الشديد الذي لا يستحقه مخطىء بإجماع الأمة فيكون في عكس الحقائق والتحكم في

دين الله تعالى أعظم من هذا التلاعب في حكمين وردا بلفظ العمد ففرقوا بينهما كما ترى وحسبنا الله ونعم الوكيل وقالوا ذكر الله تعالى {لذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا للائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من لقول وزورا وإن لله لعفو غفور} فقالوا نقيس من يظاهر بجريمته أو بشيء محرم على الأم ونلحق المسكوت عنه بالمذكور ثم قالوا لا نقيس تظاهر المرأة من زوجها بتظاهره منها ولا نلحق عنه بالمذكور ثم قالوا نوجب الكفارة على المرأة الموطوءة نهارا في رمضان قياسا على الرجل الواطىء في رمضان فيلحق المسكوت عنه بالمذكور وقد قالوا كما ذكرنا نلحق الرقبة المسكوت عنها في الظهار بالرقبة المذكور دينها في القتل ثم قالوا نوجب في التعويض من الصيام في كفارة القتل إطعاما وإن كان قد عوض من الصيام بالإطعام في كفارة الظهار التي قسنا آنفا رقبتها على رقبة القتل وقاس بعضهم التيمم على الوضوء أن لا بد من بلوغ التيمم إلى المرفقين وأبوا أن يقيسوا مسح الرأس في التيمم على مسحه في الوضوء وقالوا الحكم المسكوت عنه بحكم المذكور ههنا ثم لم يقيسوا قوله تعالى في الرجعة {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا لشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بلله وليوم لآخر ومن يتق لله يجعل له مخرجا} على قوله تعالى في الدين {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} فقالوا هذا لا نحكم عنه للمسكوت عنه بحكم المذكور وقالوا هنالك نحكم للمسكوت عنه بحكم المذكور وأما الحنفيون فحكموا في آيتي الشهادة المسكوت عنه بحكم المذكور فقبلوا النساء في الرجعة والطلاق والنكاح وفي آية التيمم فأوجبوا إلى المرفقين ولم يحكموا في رقب الظهار والقتل والكفارة للمسكوت عنه بحكم المذكور ولا حكموا لغير السائمة بحكم السائمة ففرقوا ههنا بين المسكوت عنه وبين المذكور فكل طائفة منهم تحكمت في دين الله بعقولها وتقليدها الفاسد بلا برهان وقد احتج بعضهم علي حيث وافق هواه بأن البدل حكمه حكم المبدل

منه فأعلمته بأن ذلك باطل بلغة العرب التي خوطبنا بها في القرآن والسنة وبحكم الشريعة أما اللغة فإن البدل على أربعة أضرب بدل البعض من الكل وبدل البيان وبدل الغلط وبدل الصفة من الموصوف فليس في هذه الوجوه بدل يكون حكمه حكم المبدل منه إلا بدل البيان وحده كقولك مررت بزيد رجل صالح على أن أحدهما نكرة الآخر معرفة وأما القرآن فقد أبدل الله تعالى من عتق رقبة الكفارة صيام ثلاثة أيام ومن عتق رقبة الظهار صيام شهرين متتابعين وأبدل من عتق رقبة الكفارة إطعام عشرة مساكين ومن هؤلاء العشرة صيام ثلاثة أيام وأبدل من صيام الشهرين إطعام ستين مسكينا وأبدل تعالى من هدي المتعة صيام عشرة أيام ومن هدي الأذى صيام ثلاثة أيام فبطل ما ادعوه وقالت طائفة منهم في قوله صلى الله عليه وسلم من مس فرجه فليتوضأ لا ينقض الوضوء إلا من مسة بباطن يده دون ظاهرها فلم يحكموا في ذلك بكل ما يقع عليه اسم مس ثم قالوا في ذلك بحديث لا يصح فيه من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ قال أبو محمد ولو صح لما كان مانعا من إيجاب الوضوء في مسه بغير اليد لأنه إنما يكون في هذه الرواية التي احتجوا بها ذكر الإفضاء باليد فقط وكان يكون في الحديث الآخر المس جملة كما لم يكن في قوله صلى الله عليه وسلم من مس فرجه فليتوضأ ما يوجب إسقاط الوضوء من الريح والغائط بل كان مضافا إليه ومجموعا معه ثم نقضوا هذا فقالوا في حديثين وردا أحدهما إذا وقعت الحدود

فلا شفعة والآخر إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فاستعملوا كلا اللفظين ولم يجعلوهما حديثا واحدا بل أوجبوا قطع الشفعة بتحديد الحدود وإن لم تصرف الطرق وقالوا نعم إذا حدث الحدود فلا شفعة وإذا زيد في ذلك فصرفت الطرق فلا شفعة أيضا قال أبو محمد ولم يفعل ذلك الحنفيون ههنا ولكنهم قد نقضوه فيما ذكرنا آنفا من مس الفرج ونقضه بعضهم في حديثين رويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحدهما أنه عليه السلام مسح بناصيته وفي الآخر أنه مسح على العمامة فقالوا هذا حديث واحد ولا يجزىء المسح على العمامة دون الناصية قال أبو محمد وهذا خلاف ما فعلوا في الشفعة مع أن كون الحديث الذي فيه ذكر الناصية غير الحديث الذي فيه ذكر العمامة أبين من أن يحتاج فيه كلفة لأن راوي الناصية المغيرة بن شعبة وراوي العمامة فقط بلال وعمرو بن أبي أمية الضمري معا فمن ادعى أنهما حديث واحد فقد افترى وقفا ما ليس له به علم وذلك لا يحل وقد كان ينبغي لهم أن يحكموا المسكوت عنه من المسح على الرأس المستور بحكمهم على الرجلين المستورين كما حكموا بالمسح على الجرموقين قياسا على الخفين وكما قاسوا المسح على الجبائر في الذراعين على المسح على الخفين في الرجلين والجبائر لم يأت ذكرها في نص صحيح أصلا وإذا جاز عندهم تعويض المسح عليها من غسل الذراعين فتعويض المسح على العمامة من مسح الرأس أولى لأن هذا مسح عوض من مسح وذلك مسح عوض من غسل وكان قياس الرأس على الرجلين لأنهما طرفا الجسد ولأنهما جميعا يسقطان في التيمم أولى من قياس الذراعين بالجبائر على الرجلين ولكن القوم ليسوا في شيء وإنما يقولون ما خرج إلى أفواههم دون تعقب وقلدهم من تلاهم

وأتوا إلى قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لقصاص في لقتلى لحر بالحر ولعبد بلعبد ولأنثى بلأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فتباع بلمعروف وأدآء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن عتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} فتناقضوا فقالوا هذه الآية موجبة أنه لا يقتل الحر بالعبد وليست موجبة ألا يقتل الذكر بالأنثى أفيكون أقبح تحكما ممن يقول إن قوله تعالى {لحر بالحر} موجب ألا يقتل حر بعبد ويقولون إن قوله تعالى {ولأنثى بلأنثى} موجبا ألا تقتل الأنثى بالذكر والذكر بالأنثى وأما نحن فإن قوله صلى الله عليه وسلم المؤمنون تتكافأ دماؤهم عموم موجب عندنا قتل الحر بالعبد والعبد بالحر والذكر بالأنثى والأنثى بالذكر وكذلك قوله تعالى {وجزآء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على لله إنه لا يحب لظالمين} موجب القصاص بين الحر والعبد والذكر والأنثى فيما دون النفس يقص فيه للحر من العبد وللعبد من الحر والإماء والحرائر فيما بينهن ومع الرجال كذلك ولا قصاص لكافر من مؤمن أصلا لنصوص أخر ليس هذا مكان ذكرها وقال بعضهم قوله تعالى {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} يدل على أن الدم الذي يكون مسفوحا ليس حراما قال أبو محمد وهم قد نسوا أنفسهم في هذه الآية لأنه إذا كان ذكر المسفوح موجبا أن يكون غير المسفوح مباحا فوجب أن يكون ذكر لحم الخنزير في الآية نفسها موجبا إباحة جلده وشعره وهم لا يقولون هذا فقد تناقضوا فإن ادعوا إجماعا كذبوا لأن كثيرا من الفقهاء يبيحون بيع جلده والانتفاع به إذا دبغ والخرز بشعره فهذا تناقض لم يبعد عنهم فينسوه وأيضا فإن قوله تعالى في سورة المائدة في آية منها من آخر ما نزل {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا

الباب الثامن والثلاثون في إبطال القياس في أحكام الدين

تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} مبين أن كل دم فهو حرام ويدخل في ذلك المسفوح وغير المسفوح وهذا بين وبالله تعالى التوفيق الباب الثامن والثلاثون في إبطال القياس في أحكام الدين قال أبو محمد علي بن أحمد رضوان الله عليه ذهب طوائف من المتأخرين من أهل الفتيا إلى القول بالقياس في الدين وذكروا أن مسائل ونوازل ترد لا ذكر لها في نص كلام الله تعالى ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجمع الناس عليها قالوا فننظر إلى ما يشبهها مما ذكر في القرآن أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحكم فيما لا نص فيه ولا إجماع بمثل الحكم الوارد في نظيره في النص والإجماع فالقياس عندهم هو أن يحكم لما لا نص فيه ولا إجماع بمثل الحكم فيما فيه نص أو إجماع لاتفاقهما في العلة التي هي علامة الحكم هذا قول جميع حذاق أصحاب القياس وهم جميع أصحاب الشافعي وطوائف من الحنفيين والمالكيين وقالت طوائف من الحنفيين والمالكيين لاتفاقهما في نوع من الشبه فقط وقال بعض من لا يدري ما القياس ولا الفقه من المتأخرين وهو محمد بن الطيب الباقلاني القياس هو حمل أحد المعلومين على الآخر في إيجاب بعض الأحكام لهما أو إسقاطه عنهما من جمع بينهما بأمر أو بوجه جمع بينهما فيه قال علي وهذا كلام لا يعقل وهو أشبه بكلام المرورين منه بكلام غيرهم وكله خبط وتخليط ثم لو تحصل منه شيء وهو لا يتحصل لكان دعوى كاذبة بلا برهان وأطرف شيء قوله أحد المعلومين فليت

شعري ما هذان المعلومان ومن علمهما ثم ذكر إيجاب بعض الأحكام أو إسقاطه وهما ضدان ثم قال من جمع بينهما بأمر أو بوجه جمع بينهما فيه وهذه لكنه وعي وتخليط ونسأل الله السلامة وإنما أوردناه ليقف على تخليطه كل من له أدنى فهم ثم نعود إلى ما يتحصل منه معنى يفهم وإن كان باطلا من أقوال سائر أهل القياس وبالله تعالى التوفيق وقال أبو حنيفة الخبر المرسل والضعيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من القياس ولا يحل القياس مع وجوده قال والرواية عن الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم أولى القياس قال ولا يجوز الحكم بالقياس في الكفارات ولا في الحدود ولا في المقدرات وقال الشافعي لا يجوز القياس مع نص قرآن أو خبر صحيح مسند فقط وأما عند عدمهما فإن القياس واجب في كل حكم وقال أبو الفرج القاضي وأبو بكر الأبهري المالكيان القياس أولى من خبر الواحد المسند والمرسل وما نعلم هذا القول عن مسلم يرى قبول خبر الواحد قبلهما وقسموا القياس بثلاثة أقسام فقسم هو قسم الأشبه والأولى وهو إن قالوا إذا حكم في أمر كذا بحكم كذا فأمر كذا أولى بذلك الحكم وذلك نحو قول أصحاب الشافعي إذا كانت الكفارة واجبة في قتل الخطأ وفي اليمين التي ليست غموسا فقاتل العمد وحالف اليمين الغموس أولى بذلك وأحوج إلى الكفارة وكقول المالكي والشافعي إذا فرق بين الرجل وامرأته لعدم الجماع فالفرقة بينهم العدم النفقة التي هي أوكد من الجماع أولى وأوجب وكقول الحنفي والشافعي والمالكي إذا لزمت المظاهر بظهر الأم الكفارة فالمظاهر بفرج أمه أولى

وقسم ثان وهو قسم المثل وهو نحو قول أبي حنيفة ومالك إذا كان الواطىء في نهار رمضان عمدا تلزمه الكفارة فالمتعمد للأكل مثله في ذلك وإذا كان الرجل يلزمه في ذلك الكفارة فالمرأة الموطوءة باختيارها عامدة في وجوب الكفارة عليها مثل الرجل وكقول من قال من التابعين ومن بعدهم إذا كان ظهار الرجل من امرأته يوجب عليه الكفارة فالمرأة المظاهرة من زوجها في وجوب الكفارة عليها مثل الرجل وكقول الشافعي إذا وجب غسل الإناء من ولوغ الكلب فيه سبعا فهو من الخنزير كذلك وكقول المالكيين إذا وجب على الزاني الذي ليس محصنا جلد مائة وتغريب عام فقاتل العمد إذا عفي له عن دمه مثله وكقول الحسن إذا ورثت المطلقة ثلاثا في المرض فهو في وجوب الميراث له منها إن ماتت كذلك أيضا والقسم الثالث قسم الأدنى وهو نحو قول مالك وأبي حنيفة إذا وجب القطع في مقدار ما في السرقة وهو عضو يستباح فالصداق في النكاح مثله وكقول أبي حنيفة إذا كان خروج البول والغائط وهما نجسان ينقض الوضوء فخروج الدم وهو نجس متى خرج من الجسد أيضا كذلك وكقول الشافعي إذا كان مس الذكر ينقض الوضوء فمس الدبر الذي هو عورة مثله كذلك وكقول المالكي إذا كان قول أف عمدا في الصلاة يبطلها فالنفخ فيها عمدا كذلك قال أبو محمد فهذه أقسام القياس عند المتحذلقين القائلين به وذهب أصحاب الظاهر إلى إبطال القول بالقياس في الدين جملة وقالوا لا يجوز الحكم البتة في شيء من الأشياء كلها إلا بنص كلام الله تعالى أو نص كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من فعل أو إقرار أو إجماع من جميع علماء الأمة كلها متيقن أنه قاله كل واحد

منهم دون مخالف من أحد منهم أو بدليل من النص أو من الإجماع المذكور الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا والإجماع عند هؤلاء راجع إلى توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بد من لا يجوز غير ذلك أصلا وهذا هو قولنا الذي ندين الله به ونسأله عز وجل أن يثبتنا فيه ويميتنا عليه بمنه ورحمته آمين وشغب أصحاب القول بالقياس بأشياء موهوا بها ونحن إن شاء الله تعالى ننقض كل ما احتجوا به ونحتج لهم بكل ما يمكن أن يعترضوا به ونبين بحول الله تعالى وقوته بطلان تعلقهم بكل ما تعلقوا به في ذلك ثم نبتدىء بعون الله عز وجل بإيراد البراهين الواضحة الضرورية على إبطال القياس ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فما شغبوا به أن قالوا قال الله عز وجل {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} فوجب إذ منع من قول {لهمآ} للوالدين أن يكون ضربهما أو قتلهما ممنوع لأنهما أولى من قول {أف} وقال تعالى {وإذ قال موسى لقومه ياقوم ذكروا نعمة لله عليكم إذ جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من لعالمين} قالوا فوجب أن ما فوق القنطار وما دونه داخل كل ذلك في حكم القنطار في المنع من أخذه وقال تعالى {ونضع لموازين لقسط ليوم لقيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} قالوا فعلمنا أن ما دون مثقال حبة وما فوقها داخلان في حكم مثقال حبة الخردل أنه تعالى يأتي بها وقال تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} قالوا فعلمنا أن ما فوق مثقال الذرة وما دونها يرى أيضا وقال تعالى {ومن أهل لكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في لأميين سبيل ويقولون على الله لكذب وهم يعلمون} قالوا فعلمنا أن ما فوق القنطار والدينار وما دونهما في حكم القنطار والدينار وقال تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بلباطل وتدلوا بها إلى لحكام لتأكلوا فريقا من أموال لناس بلإثم وأنتم تعلمون} قالوا فعلمنا أن ما عدا الأكل من اللباس وغيره حرام إذا كان بالباطل وقال تعالى {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا} فعلمنا أن

قتلهم لغير الإملاق حرام كما هو خشية الإملاق قالوا وقول الناس لا تعط فلانا حبة فإنه مفهوم منه أن ما فوق الحبة وما دونها داخل كل ذلك في حكم الحبة قالوا ومن ادعى من هذه الآي فهم ما عدا ما فيها من غيرها فهو خارج عن المعقول وعن اللغة قالوا وأنتم توافقوننا في كل ما قلنا في هذه الآيات وهذا الفصل وتقرون معنا بأن ما عدا هذه المنصوصات فإنه داخل في حكمها قالوا وهذا إقرار منكم بالقياس وترك لمذهبكم في إبطاله قال أبو محمد قال الله عز وجل {أم للإنسان ما تمنى} وكل ما ذكروا فلا حجة لهم فيه أصلا بل هو أعظم حجة عليهم لأنه ينعكس عليهم في القول بدليل الخطاب فإنهم على ما ذكرنا في بابه في هذا الديوان يقولون إن ما عدا المنصوص فهو مخالف للمنصوص فيلزمهم على ذلك الأصل أن يقولوا ههنا إن ما عدا {أف} فإنه مباح وما عدا الدينار والقنطار والأكل ومثقال الخردلة والذرة وخشية الإملاق بخلاف حكم ذلك فقد ظهر تناقضهم وهدم مذاهبهم بعضها لبعض ثم نعود فنقول وبالله تعالى التوفيق أما قول الله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * وخفض لهما جناح لذل من لرحمة وقل رب رحمهما كما ربياني صغيرا} فلو لم يرد غير هذه اللفظة لما كان فيها تحريم ضربهما ولا قتلهما ولما كان فيها إلا تحريم قول {أف} فقط ولكن لما قال الله تعالى في الآية نفسها {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * وخفض لهما جناح لذل من لرحمة وقل رب رحمهما كما ربياني صغيرا} اقتضت هذه الألفاظ من الإحسان والقول الكريم وخفض الجناح والذل والرحمة لهما والمنع من انتهارهما وأوجبت أن يؤتى إليهما كل بر وكل خير وكل رفق فبهذه الألفاظ وبالأحاديث الواردة في ذلك وجب بر الوالدين

بكل وجه وبكل معنى والمنع من كل ضرر وعقوق بأي وجه كان لا بالنهي عن قول {أف} وبالألفاظ التي ذكرنا وجب ضرورة أن من سبهما أو تبرم عليهما أو منعهما رفده في أي شيء كان من غير الحرام فلم يحسن إليهما ولا خفض لهما جناح الذل من الرحمة ولو كان النهي عن قول {أف} مغنيا عما سواه من وجوه الأذى لما كان لذكر الله تعالى في الآية نفسها مع النهي عن قول {أف} النهي عن النهر والأمر بالإحسان وخفض الجناح والذل لهما معنى فلما لم يقتصر تعالى على ذكر الأف وحده بطل قول من ادعى أن بذكر الأف علم ما عداه وصح ضرورة أن لكل لفظة من الآية معنى غير سائر ألفاظها ولكنهم جروا على عادة لهم ذميمة من الاقتصار على بعض الآية والإضراب عن سائرها تمويها على من اغتر بهم ومجاهرة لله تعالى بما لا يحل من التدليس في دينه كما فعلوا في ذكرهم في الاستنباط قول الله تعالى {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} وأضربوا عن أول الآية في قوله تعالى {وإذا سمعوا مآ أنزل إلى لرسول ترى أعينهم تفيض من لدمع مما عرفوا من لحق يقولون ربنآ آمنا فكتبنا مع لشاهدين} وأول الآية مبطل للاستنباط وكما فعل من فعل منهم في قول الله تعالى {وإذا قرىء لقرآن فستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} وأضربوا عما بعدها من قوله تعالى {وذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون لجهر من لقول بلغدو ولآصال ولا تكن من لغافلين} قال أبو محمد ومن البرهان الضروري على أن نهي الله تعالى عن أن يقول المرء لوالديه ليس نهيا عن الضرب ولا عن القتل ولا عما عدا الأف أن من حدث عن إنسان قتل آخر أو ضربه حتى كسر أضلاعه وقذفه بالحدود وبصق في وجهه فشهد عليه من شهد ذلك كله فقال الشاهد إن زيدا يعني القاتل أو القاذف أو الضارب قال لعمرو يعني

المقتول أو المضروب أو المقذوف لكان بإجماع منا ومنهم كاذبا آفكا شاهد زور مفتريا مردود الشهادة فكيف يريد هؤلاء القوم بنا أن نحكم بما يقرون أنه كذب فكيف يستجيزون أن ينسبوا إلى الله تعالى الحكم بما يشهدون أنه كذب ونحن نعوذ بالله العظيم من أن نقول إن نهي الله عز وجل عن قول للوالدين يفهم منه النهي عن الضرب لهما أو القتل أو القذف فالذي لا شك فيه عند كل من له معرفة بشيء من اللغة العربية أن القتل والضرب والقذف لا يسمى شيء من ذلك فبلا شك يعلم كل ذي عقل أن النهي عن قول ليس نهيا عن القتل ولا عن الضرب ولا عن القذف وأنه إنما هو نهي عن قول فقط وأما ذكره تعالى القنطار في آية الصداق وآية وفاء أهل الكتاب فما فهمنا قط أن ما عدا القنطار فهو حكم القنطار من هاتين الآيتين لكن لما قال تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} قال أبو محمد فبهذه الآية حرم على الزوج أن يأخذ مما أعطى زوجته شيئا وسواء قل أو كثر إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله أو تطيب نفسها كما قال تعالى {وآتوا لنسآء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} لولا هذه الآية وما في معناها من سائر الآيات والأحاديث التي فيها تحريم الأموال جملة وتحريم العود في الهبات لما كان في آية القنطار مانع مما عدا القنطار أصلا وبرهان عن ذلك أنه لو شهد شاهدان لزيد أن له على عمرو قنطارا وكان في علمهما الصحيح أنه له عليه قنطارين أو أكثر من قنطار أو أقل من

قنطار لكانا شاهدي زور كذابين آفكين وما علمنا في طبيعة بشر أحدا يفهم من قول القائل أخذ لي عمرو قنطارا أنه آخذ له أكثر من قنطار ومدعي هذا مفتر على اللغة ومكابر للحس داخل في نصاب الموسوسين مبطل للحقائق ويقال له لعله تعالى إذا ذكر سبع سموات إنما أراد بها خمس عشرة أو أكثر من ذلك وهذا هو بطلان الحقائق وفساد العقل على الحقيقة وأما الآية التي فيها ذكر الدينار والقنطار في ائتمان أهل الكتاب فقد أخبرنا تعالى أنهم يقولون أو من قال منهم {ومن أهل لكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في لأميين سبيل ويقولون على الله لكذب وهم يعلمون} ففي هذا استجازة أهل الكتاب لخون أماناتنا قلت أو كثرت وقد علمنا بضرورة العقل والمشاهدة وعلم الناس قبل نزول هذه الآية المذكورة أن في أهل الكتاب وفي المسلمين أوفياء يفون بالقليل والكثير وغدرة يغدرون بالقليل والكثير لأن هذا من صفات الناس وإن في الناس من يفي بالقليل تصنعا ويخون الكثير رغبة وأن فيهم من يغدر بالقليل خسة نفس واستهانة ويفي بالكثير مخافة الشهرة أو انقطاع رزقه إن كان لا يعيش في مكسبة إلا بائتمان الناس إياه وهذا كله موجود مشاهد معلوم بالحس فإن قالوا فما فائدة الآية إذن قيل لهم وبالله تعالى التوفيق الفائدة فيها عظيمة فأول ذلك الأجر العظيم في تلاوتها في التصديق أنها من عند الله عز وجل وأيضا فالتنبيه لنا على التفكر في عظيم القدرة في ترتيبه لنا طبائع الناس فمنهم الوفي الكافر والخائن الكافر وأيضا فائتمانهم على المال فإن ذلك مباح لنا إذا قدرنا فيهم الأمانة وإبطال قول من منع من الوصية إليهم بالمال وهذا مثل قوله تعالى {أفلا ينظرون إلى لإبل كيف خلقت} ومثل قوله تعالى {ونزلنا من لسمآء مآء مباركا فأنبتنا به جنات وحب لحصيد} وقد علمنا ذلك قبل نزول القرآن ولكنه تنبيه ووعظ وتحريك إلى اكتساب الأجر بالاعتبار والفكرة في قدرة الله عز وجل وذكره تعالى

القنطار ههنا كذكره السبعين استغفارة في قوله تعالى {ستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لله لهم ذلك بأنهم كفروا بلله ورسوله ولله لا يهدي لقوم لفاسقين} وقد سبق في علم الله تعالى أنه سيبين مراده من ذلك أنه تعالى لا يقبل استغفاره لهم أصلا وقد قلنا غير مرة إن مثل هذا السؤال فاسد وأنه تعالى لا يسأل عما يفعل ونحن نسأل عن كل فعلنا وقولنا وأما قوله تعالى {ونضع لموازين لقسط ليوم لقيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} وقوله تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} فإنما علمنا عموم ذلك كله فيما دون الذرة وما فوقها من قوله تعالى {ووضع لكتاب فترى لمجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يويلتنا ما لهذا لكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} وبقوله تعالى {فستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فلذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها لأنهار ثوابا من عند لله ولله عنده حسن لثواب} وبقوله تعالى {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} فهذه الآيات بينت أن ما فوق الذرة والخردلة وما دونها محسوب كل ذلك ومجازى به وكذلك قوله تعالى {يبني إنهآ إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في لسماوات أو في لأرض يأت بها لله إن لله لطيف خبير} فإنما علمنا العموم في ذلك من قول الله تعالى {وما من دآبة في لأرض إلا على لله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} فشمل تعالى جميع أرزاق الحيوان في هذه الآية فدخل في ذلك ما هو دون الخردلة وما فوقها وقد أجاب أبو بكر بن داود عن هذا السؤال أن قال إن الذي هو فوق الذرة ذرة وذرة وهكذا ما زاد لأنه زاد على الذرة بعض ذرة فذاك البعض إذا أضيف إلى أبعاض الذرة جاء من ذلك مقدار الذرة وأما ما دون مثقال الذرة فحكمه مأخوذ من غير هذا المكان قال علي وهذا جواب صحيح ضروري والذي نعتمد عليه عموما في جميع هذا الباب فهو الذي قلنا آنفا وأن المرجوع إليه في كل ما جرى هذا المجرى نصوص أخر أو إجماع متيقن أو ضرورة المشاهد بالحواس والعقل فقط فإن لم نجد نصا ولا إجماعا ولا ضرورة اقتصرنا على ما جاء به

النص وقفنا حيث وقف ولا مزيد وإلا فإن ذكره تعالى لما ذكر من هذه المقادير وهذه الأحوال في هذه الآيات كذكره تعالى أخبار بعض الأنبياء عليهم السلام في مكان وذكره تعالى لهم في مكان آخر بأكمل مما ذكرهم به في غيرها ولا يسأل عما يفعل وأما قوله عز وجل {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بلباطل وتدلوا بها إلى لحكام لتأكلوا فريقا من أموال لناس بلإثم وأنتم تعلمون} فإنما علمنا أن ما عدا الأكل حرام بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام وبآيات أخر وأحاديث أخر فبالحديث المذكور حرم التصرف في أموال الناس بغير ما أمر الله تعالى به بالأكل وغير الأكل ولو تركنا والآية المذكورة ما حرم بها شيء غير الأكل ولكان ما عدا الأكل موقوفا على طلب الدليل فيه إما بمنع وإما إباحة من غيرها ولما وجب أن تحكم فيما عدا الأكل من الآية لا بتحريم ولا بتحليل كما يقولون معنا إن الله حرم الأكل على الصائم ولم يحل عليه تملك الطعام ولا ما عدا الأكل من بيه وهبة وغير ذلك فأي فرق بين الأكل المحرم على الصائم وبين الأكل المحرم على الناس في أموالهم وكما أباحوا هم ونحن الأكل من بيت الأب والأم والصديق والأقارب المنصوصين فهلا أباحوا أخذ ما وجدوا للأقارب ما عدا الأكل قياسا على الأكل المباح أهلا حرموا على الصائم تملك الطعام وبيعه قياسا على ما صح من تحريم الأكل عليه كما زعموا أنهم إنما حرموا تملك الأموال بالظلم والباطل قياسا على تحريم الله تعالى أكلها بالباطل فإذ لم يفعلوا ذلك فقد تركوا القياس الذي يقرون أنه حق فظهر تناقضهم والحمد لله رب العالمين وحتى لو لم يرد نص جلي في تحريم الأموال جملة لكان الإجماع على تحريمها كافيا ولعلمنا حينئذ أن اسم الأكل موضوع على أخذ منقول عن موضوعه المختص له في اللغة كما تقول العرب أكلتنا السنة أي أفنت

أموالنا وكما قال الشاعر فإن قومي لم تأكلهم الضبع يريد لم تفنهم وأما قوله تعالى {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا} فإنما حرم قتلهم جملة لغير الإملاق من آيات أخر وهي قول الله تعالى {قد خسر لذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم لله فترآء على لله قد ضلوا وما كانوا مهتدين} وبقوله تعالى {ولا تقتلوا لنفس لتي حرم لله إلا بلحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في لقتل إنه كان منصورا} وبقوله تعالى {وإذا لموءودة سئلت * بأى ذنب قتلت} وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام وأما قوله تعالى {يولج لليل في لنهار ويولج لنهار في لليل وسخر لشمس ولقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم لله ربكم له لملك ولذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} فإنما أخبر عز وجل في موضع آخر على أنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع وما كان هذا فبالضرورة نعلم أنها لا تملك شيئا وهكذا الحكم في كل ما موهوا به فإن الله تعالى قد بين لنا مراده ولو لم يرد غير النصوص التي ذكرنا لوجب ألا نتعدى البتة إلى ما لم يذكر بها وللزم ألا نحكم بها أصلا إلا فيما وردت فيه ومن تعدى هذا فإنه متعد لحدود الله تعالى {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} نعوذ بالله من ذلك وأما قول الناس لا تعط فلانا حبة فإنما يعلم مراد القائل في ذلك أمجدا قال ذلك أم هازلا أم مقتصرا على الحبة أم لأكثر منها بما يشهده من حال الأمر في امتناعه وتسهله وأكثر ذلك فهذا القول من قائله لا يتأتى مجردا البتة ولا بد ضرورة من أن يقول لا تعطه البتة شيئا ولا حبة وربما زاد لا قليلا ولا كثيرا فهذا هو المعهود من تخاطب الناس فيما بينهم ومن ادعى غير هذا فهو مجاهر مدع على العقل ما ليس فيه بل هو مخالف لموجب العقل ولمقتضى اللغة على الحقيقة وبالله تعالى نعتصم فإن ذكروا قول الله تعالى {أم لهم نصيب من لملك فإذا لا يؤتون لناس نقيرا} فقد قال تعالى في آية أخرى {قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية لإنفاق وكان لإنسان قتورا} فنص تعالى على الإمساك والإمساك على عمومه يقتضي النقير

وغير النقير وأقل من النقير وأكثر منه واحتجوا في ذلك أيضا بقول الله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بلمعروف وتنهون عن لمنكر وتؤمنون بلله ولو آمن أهل لكتاب لكان خيرا لهم منهم لمؤمنون وأكثرهم لفاسقون} وبقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قالوا فلم يخص الله تعالى ما قال أولو الأمر منا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم مما قالوه بقياس قال أبو محمد هذا الاحتجاج منهم جمع الشناعة والإثم لأن الله تعالى لم يأمر قط أولي الأمر منا أن يقولوا بآرائهم ولا بقياساتهم ولا أن يقولوا ما شاؤوا وإنما أمرهم الله تعالى أن يقولوا ما سمعوا أو يتفقهوا في الدين الذي أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وينذروا بذلك قومهم وهذا بين في قوله تعالى {وعتصموا بحبل لله جميعا ولا تفرقوا وذكروا نعمة لله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من لنار فأنقذكم منها كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تهتدون} وفي قوله تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} وفي قوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وفي قوله تعالى {إنما يأمركم بلسوء ولفحشآء وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} قال أبو محمد ومن قال بقياسه فقد تعدى حدود الله وقفا ما لا علم به وأخبر عن الله تعالى بما لا يعلم أحد ما عند الله تعالى إلا بإخبار من الله تعالى بذلك وإلا فهو باطل وقد بينا فيما خلا أن قول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} إنما هو جميع أولي الأمر لا بعضهم ولم يجمعوا قط على القول بالقياس فكيف نكون نحن مأمورين باتباعهم فيما افترقوا فيه وهذا ضد أمر الله تعالى في القرآن وبرهان قاطع وهو أن الله تعالى قال {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} وحدود الله تعالى هي كل ما حد وبين فصح أنه ليس لأحد أن يتعدى في شيء من الدين ما حده الله تعالى في القرآن وعلى لسان رسوله صلى الله

عليه وسلم بالوحي فبطل أن يحمل أولوا الأمر على تعدي حدود الله تعالى لأنه باطل فقد اتفقنا أنهم لا يجمعون على باطل وكل ما لم يكن من حدود الله تعالى ووحيه فهو من عند الله ضرورة لا بد من ذلك وقد قال تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فصح بهذه الآية أنه لا يمكن أن يكون إجماع أبدا إلا على ما جاء من عند الله تعالى بالوحي الذي لا يعلم ما عند الله تعالى إلا به والذي قد انقطع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبطل بهذه النصوص يقينا أن يجمعوا على غير نص صحيح واحتجوا بقول الله تعالى في آية الكلالة {يستفتونك قل لله يفتيكم في لكلالة إن مرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا ثنتين فلهما لثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ لأنثيين يبين لله لكم أن تضلوا ولله بكل شيء عليم} قالوا فأنتم تقولون إن الميراث ههنا إنما هو بعد الدين والوصية قالوا وليس هذا في الآية فإنما قلتموه قياسا على سائر آيات المواريث التي فيها أنها بعد الوصية والدين قال أبو محمد وهذا خطأ عظيم ونعوذ بالله تعالى من أن نثبت الميراث في مواريث الإخوة بعد الوصية والدين من طريق القياس وما أثبتنا ذلك إلا بنص النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يقدم إلى الجنازة فيسأل صلى الله عليه وسلم أعليه دين فإن قيل له لا صلى عليه وإن قيل له نعم سأل صلى الله عليه وسلم أعليه وفاء فإن قيل له نعم صلى عليه وإن قالوا لا قال صلى الله عليه وسلم صلوا على صاحبكم ولم يصل هو عليه وبقوله صلى الله عليه وسلم إن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين أو كلاما هذا معناه وقوله صلى الله عليه وسلم إن صاحبكم مرتهن بدينه وبأمره صلى الله عليه وسلم جملة بالوصية لمن عنده شيء يوصي فيه وبأمره صلى الله عليه وسلم بالوصية بالثلث فدون وقال صلى الله عليه وسلم في الوصية بالثلث والنهي عن

الوصية بأكثر إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة أو كما قال صلى الله عليه وسلم فعم صلى الله عليه وسلم الورثة كلهم ولم يخص أخا ولا أختا من غيرهما فصح ضرورة ألا ميراث لأحد إلا بعد الدين ثم الوصية فسقط تمويههم بذكر الآية المذكورة ثم نعكس عليهم هذا السؤال المذكور بعينه فنقول لهم إذا فعلتم أنتم ذلك في آية الكلالة قياسا على سائر المواريث فيلزمكم أن توجبوا الإطعام في كفارة القتل لمن عجز عن الصيام والرقبة قياسا على كفارة الظهار وقياسا على كفارة الواطىء في نهار رمضان ولا تفرقوا بين الأمرين فقد ذكر الله تعالى في كلتا الآيتين عتق الرقبة ثم الصيام لشهرين متتابعين ثم ذكر تعالى في أحدهما تعويض الإطعام من الصيام فافعلوا ذلك في المسكوت عنه من الآية الأخرى لا سيما وأنتم قد قستم أو بعضكم المسكوت عنه من دين الرقبة في الظهار على المنصوص عليه من أن تكون مؤمنة في قتل الخطأ فما الذي جعل قياس الرقبة في الظهار على التعويض في القتل حقا وجعل قياس التعويض بالإطعام من الصيام في كفارة قتل الخطأ على التعويض بالإطعام من الصيام في كفارة الظهار باطلا ولولا التخليط والموق ونعوذ بالله من الخذلان واحتج بعضهم بأن قال إن ثبات العشرين منا للمائتين من الكفار منسوخ بالقياس على نسخ ثبات المائة منا للألف من الكفار قال أبو محمد وهذا تخليط وكذب وعكس الخطأ على الخطأ وما نسخ قط ثبات المائة للألف ولا ثبات العشرين للمائتين وقد بينا هذه المسألة في باب الكلام في النسخ من ديواننا هذا وبالجملة لا يحل لمسلم أن يقول في آية ولا حديث بالنسخ إلا عن نص صحيح لأن طاعة الله

وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واجبة فإذا كان كلامهما منسوخا فقد سقطت طاعته عنا وهذا خطأ ومن ادعى سقوط طاعة الله تعالى وسقوط طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم في مكان ما من الشريعة فقوله مطروح مردود ما لم يأت على صحة دعواه بنص ثابت فإن أتى به فسمعا وطاعة وإن لم يأت به فهو كاذب مفتر إلا أن يكون ممن لم تقم عليه الحجة فهو مخطىء معذور باجتهاده وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} وهذا عمدة ما موهوا به في إثبات القياس مع آية الاعتبار ومع قوله تعالى {فقلنا ضربوه ببعضها كذلك يحيي لله لموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون} قال أبو محمد وهذا من أطرف ما شغبوا به من الجرأة على التمويه بكلام الله تعالى ووضعه في غير موضعه فهذا عظيم جدا نعوذ بالله من الخذلان وما فهم أحد قط له عقل أن للقياس في هذه الآية مدخلا أو طريقا أو نسبة بوجه من الوجوه وما هذه الآية إلا نص جلي أمر تعالى ذوي عدل من المؤمنين أن يحكما في الصيد المقتول بما يشبهه من النعم فهذا نص لا قياس وإنما كان يكون قياسا لو قالوا كما أمرنا تعالى إذا قتلنا الصيد المحرم علينا قتله أن نجزيه بمثله من النعم فكذلك إذا قتلنا شيئا من النعم حراما علينا لملك غيرنا له فواجب علينا أن نجزيه بمثله من الصيد وأيضا فكما قاسوا ملك الله تعالى الصيود فأوجبوا الجزاء على قاتلها مخطئا وخالفوا القرآن في ذلك قياسا على ملك الناس فواجب عليهم على أصلهم الفاسد أن يقيسوا ملك الناس من النعم ومن الصيد إذا قتله فيلزموه أن يجزيه بمثله إن كان

صيدا فمن النعم وإن كان من النعم فمثله من الصيد فهذا حقيقة القياس الذي إن قالوه كفروا وإن تركوا القياس وتناقضوا ووفقوا في تركهم له وأيضا فإن كانت هذه الآية متيحة للقياس فينبغي ألا يكون إلا حتى يحكم فيه ذوا عدل منا أو يكون عدل ذلك صياما فهكذا هو الحكم في الآية وأما الآية المذكورة فلا نسبة بينها وبين القياس البتة وإنما فيها أن الصيد يكون مثلا للنعم وهذا أمر لا ننكره فالعالم كله متماثل في بعض أوصافه وإنما أنكرنا أن نحكم في الديانة شيء لم يأت فيه ذلك الحكم من الله تعالى بمثل الحكم المنصوص فيما يشبهه فهذا هو الباطل والخطأ والحرام الذي لا يحل وبالله تعالى نتأيد واحتج أيضا بعضهم بقول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا} وبقوله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} قالوا فقستم واجد الثمن للماء والثمن للرقبة وإن لم يكن عنده رقبة ولا ماء على من عنده الرقبة والماء فلم تجيزوا لهما التيمم ولا الصيام قال أبو محمد وهذا من ذلك التمويه المعهود ويعيذنا الله تعالى أن نقول بالقياس في شيء من الدين وليس ما ذكروا قياسا ولكنه نص جلي بلا تأويل فيه البتة لأن الله تعالى إنما قال في آية كفارة قتل الخطأ والعود للظهار بعد إيجاب الرقبة {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} ولم يقل تعالى فمن لم يجد رقبة ولكنه تعالى أطلق الوجود فكل وجود يتوصل به إلى عتق الرقبة فإنه مانع من الصيام فالواجب اتباعه لأنه موافق لظاهر الآية الذي لا يجوز خلافه وهكذا القول في كفارة الواطىء في نهار رمضان وأما التيمم لمن لم يكن له ماء وعنده ثمن يبتاع به الماء فإن أصحابنا قالوا ما ذكر هؤلاء ورأوا واجبا على من وجد ماء للشراء أن يبتاعه بقيمته في الوقت لا بأكثر وقال غيرهم بأكثر من قيمته ما لم يجحف به وقال الحسن البصري

يبتاعه بكل ما يملك إن لم يبع منه بأقل قال أبو محمد ولعل من حجة أصحابنا أن يقولوا إن قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} يقتضي بعموم هذا اللفظ واجده بالابتياع والاستيهاب كما يقول القائل أمر كذا موجود في السوق فيقولوا إن واجده بالابتياع والاستيهاب واجد للماء قال أبو محمد وأما نحن فلا يجوز عندنا بيع الماء البتة بوجه من الوجوه ولا بحال من الأحوال لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الماء فهذا عندنا على عمومه وقولنا هذا هو قول إياس بن عبد الله المزني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره فلا يجوز ابتياع الماء للوضوء البتة ولا للغسل لأنه منهي عن ابتياعه وهو غير واجد للماء فحكمه التيمم إلا أن يتطوع عليه صاحب الماء بأن يهبه إياه فذلك جائز وهو حينئذ واجد للماء مالك له ففرضه التطهر به وأما من اضطر إلى شرب الماء وخشي الهلاك من العطش ولم يجد من يتطوع له بماء يحيي به رمقه ففرض عليه إحياء نفسه كيف أمكن بغلبة أو بأخذه سرا مختفيا بذلك أو بابتياعه فإذا لم يقدر على غير البيع فابتاعه فهو حينئذ جائز له والثمن حرام على البائع وهو باق على ملك المبتاع المضطر وهو بمنزلة من اضطر إلى ميتة أو لحم خنزير فلم يجده مع ذلك إلا بثمن ففرض عليه أن يبتاعه لإحياء نفسه وكذلك ما يبذل من المال في فدى الأسرى وفي الرشوة لدفع المظلمة فهذا كله باب واحد وهو مباح للمعطي وحرام على الآخذ لأن المعطي مضطر والآخذ آكل مال بالباطل عاص لله تعالى نعوذ بالله ثم نعكس عليهم اعتراضهم هذا فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق إن كان هذا عندهم قياسا فيلزمهم أن يقولوا بقول الحسن في ابتياع الماء بكل ما يملك لأنه واجد له فلا يسعه التيمم مع وجود الماء كما يقولون فيمن لم يجد رقبة

إلا بكل ما يملك وهو قادر على اكتساب ما يقوم بقوته وقوت عياله بعد ذلك فإنه لا يجزيه عندهم إلا ابتياع الرقبة بملكه كله فإن لم يقولوا في الماء كذلك فقد تناقضوا وتركوا القياس الذي يزعمون أنه دين وهذا ما لا انفكاك منه واحتجوا بقوله تعالى {ليس على لأعمى حرج ولا على لأعرج حرج ولا على لمريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبآئكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند لله مباركة طيبة كذلك يبين لله لكم لآيات لعلكم تعقلون} قالوا ولم يذكر تعالى بيوت الأولاد فوجب إباحة الأكل من بيوت الأولاد قياسا على الإباحة من بيوت الآباء قال أبو محمد وهذا في غاية الفساد والكذب ومعاذ الله أن تكون الإباحة للأكل من بيوت الأولاد قياسا على إباحة ذلك من بيوت الآباء والأقارب وما أبحنا الأكل من بيوت الأولاد إلا بنص جلي وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أطيب ما أكل أحدهم من كسبه وإن ولد أحدكم من كسبه فبهذا أبحنا الأكل من بيوت الأولاد ولكن يلزمهم إذا فعلوا ذلك قياسا بزعمهم على بيوت الآباء أن يسقطوا الحد على الابن الواطىء أمة أبيه كما أسقطوا الحد عن الأب إذا وطىء أمة ولده ولزمهم أن يسووا في جميع الأحكام بين الأبناء والآباء وسائر القرابات كما فعلوا ذلك قياسا على الأكل وإلا فقد تناقضوا وتركوا القياس واحتجوا بقول الله تعالى {لا جناح عليهن في آبآئهن ولا أبنآئهن ولا إخوانهن ولا أبنآء إخوانهن ولا أبنآء أخواتهن ولا نسآئهن ولا ما ملكت أيمانهن وتقين لله إن لله كان على كل شيء شهيدا} بقوله تعالى {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبآئهن أو آبآء بعولتهن أو أبنآئهن أو أبنآء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسآئهن أو ما ملكت أيمانهن أو لتابعين غير أولي لإربة من لرجال أو لطفل لذين لم يظهروا على عورات لنسآء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى لله جميعا أيها لمؤمنون لعلكم تفلحون} قالوا فأدخلتم من لم يذكر في الآيتين المذكورتين من الأعمام والأخوال في حكم من ذكر فيهما قال أبو محمد وهذا ليس قياسا بل هو نص جلي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة إنه عمك فليلج عليك وقال صلى الله عليه وسلم لا تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم فأباح لكل ذي محرم أن يسافر

معها وإذا سافر معها فلا بد له من رفعها ووضعها ورؤيتها فدخل ذو المحارم كلهم بهذا النص في إباحة رؤية المرأة فبطل ظنهم أن ذلك إنما هو قياس وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقول الله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} قالوا فأدخلتم بنات البنين وإن سفلن وبنات البنات وإن سفلن والجدات وإن علون وعمات الآباء والأجداد وخالاتهم وعمات الأمهات والجدات وخالاتهن وإن بعدن في التحريم وإن لم يذكرن في آية التحريم قالوا وهذا قياس وكذلك أدخلتم تحريم ما نكح الأجداد وإن علوا وبنو البنين وإن سفلوا قياسا على تحريم ما نص عليه من نكاح نساء الآباء وحلائل الأبناء قال أبو محمد وهذه دعوى فاسدة بل هذا نص جلي وبنو البنين وبنو البنات وإن سفلوا وبنات البنين وبنات البنات وإن سفلن فإنه يقع عليهن في اللغة بنص القرآن اسم البنين والبنات وإن سفلن قال الله تعالى {يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس لتقوى ذلك خير ذلك من آيات لله لعلهم يذكرون} فجعلنا بنين له وبنو البنين بنون بالنص والجد والجدة وإن بعدا فاسم الأب والأم يقع عليهما كما قال تعالى {يابني آدم لا يفتننكم لشيطان كمآ أخرج أبويكم من لجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهمآ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا لشياطين أوليآء للذين لا يؤمنون} يعني آدم وحواء وهكذا القول فيمن سفل من أولاد الإخوة والأخوات ومن علا من الأعمام والأخوال والعمات والخالات فمن كنت من ولد أخيه فهو عمك وعمتك وأنت ابن أخيه وأخيها ومن كنت من ولد أخته فهو خالك وخالتك وأنت ابن أخته وأختها وإنما فرقنا بين أحكام بعض من يقع عليه الاسم الواحد في المواضع التي فوق النص أو الإجماع المنقول المتيقن بينهم فيها وهذا أيضا الذي ذكروا إجماع والإجماع لا يجوز خلافه ثم نقول لهم إذا فعلتم ذلك بزعمكم قياسا فيلزمكم أن تسووا أيضا قياسا بين كل من ذكرنا في الإنكاح والمواريث ووجوب الإنفاق

وهم لا يفعلون ذلك فقد نقضوا أصلهم وأقروا بترك القياس وهكذا تكون الأقوال الفاسدة وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقول الله تعالى في المطلقة ثلاثا {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ إن ظنآ أن يقيما حدود لله وتلك حدود لله يبينها لقوم يعلمون} قالوا فقستم وفاة هذا الزوج الثاني وفسخ نكاحه عنها على علاقة لها في كونها إذا مسها في ذلك حلالا المطلق ثلاثا قالوا لنا بل لم تقنعوا بذلك حتى قلتم إن كانت ذمية طلقها مسلم ثلاثا فتزوجها ذمي فطلقها بعد أن وطئها لم تحل بذلك لمطلقها ثلاثا ولا تحل إلا بموته عنها أو بفسخ نكاحه منها قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق أننا أبحنا لها الرجوع إليه بالوفاة وبالفسخ لوجهين أحدهما الإجماع المتيقن والثاني النص الصحيح الذي عنه تم الإجماع وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرظية المطلقة ثلاثا أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك قال علي فهذا الحديث أعم من الآية وزائد على ما فيها فوجب الأخذ به ووجب أن كل ما كان بعد ذوق العسيلة مما يبطل به النكاح فهي به حلال رجوعها إلى الزوج المطلق ثلاثا لأنه صلى الله عليه وسلم إنما جعل الحكم الرافع للتحريم ذوق العسيلة في النكاح الصحيح فإذا ارتفع بذلك التحريم فقد صارت كسائر النساء فإذا خلت من ذلك الزوج بفسخ أو وفاة أو طلاق كان لها أن تنكح من شاءت من غير ذوي محارمها ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذوق العسيلة طلاقا من فسخ من وفاة وأيقنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يبحها للزوج الأول وهي بعد في عصمة الزوج الثاني ولا خلاف بين أحد في ذلك وأما طلاق الذمي وسائر الكفار فليس طلاقا لأن كل ما فعل الكافر وقال غير اللفظ بالإسلام فهو باطل مردود إلا ما أوجب إنفاذه النص

أو الإجماع المتيقن المنقول أو أباحه له النص أو الإجماع كذلك فإذا لفظ بالطلاق فهو لغو لأنه لا نص ولا إجماع في جواز طلاقه فليس مطلقا وهو بعد في عصمته لصحة نكاحهم بالنص من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للكفار لما أسلموا مع نسائهم على نكاحهم معهن ولأنه صلى الله عليه وسلم من ذلك النكاح خلق وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم مخلوق من أصح نكاح ولا يحل لمسلم أن يمر بباله غير هذا ولم يمنع تعالى في الآية من إباحة رجعتها بعد وفاة الزوج أو فسخ نكاحه وإنما ذكر تعالى الطلاق فقط وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجمال لفظه الطلاق وغيره وقد كان يلزم من قال بذلك الخطاب منهم ألا يبيحها إلا بعد الطلاق لا بعد الفسخ والوفاة فهذه الآية حجة عليهم لا لهم وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إذا نكحتم لمؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا} قالوا فقستم الكافرات في ذلك على المؤمنات قال أبو محمد وهذا خطأ وقد بينا في باب مفرد من كتابنا هذا لزوم شريعة الإسلام لكل كافر ومؤمن مستويا بقوله تعالى {وأن حكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم وحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل لله إليك فإن تولوا فعلم أنما يريد لله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من لناس لفاسقون} فهذا لازم في كل حكم حاشا ما فرق النص والإجماع المتيقن فيه بين أحكامنا وأحكامهم وما كان كرامة لنا فإنه ليس لهم فيه حظ لقول الله تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} والصغار لا يجتمع مع الكرامة أصلا وأيضا فالأمة كلها مجمعة على أن حكم العدة في الطلاق وسقوطها على الذمية كحكمها على المسلمة والإجماع لا يجوز خلافه وأيضا فإن الآيات التي أوجب الله تعالى فيها العدد على المطلقات معلومة محصورة لا خلاف بين المسلمين أن المراد بها الممسوسات وأصل الناس كلهم على البراءة من وجوب الأحكام عليهم حتى يلزمهم الحكم نص أو إجماع وإلا فلا يلزم

أحدا حكم إلا أن يلزمه إياه نص أو إجماع فبقيت الذمية المطلقة غير الممسوسة لم يأت قط بإيجاب عدة عليها فلم يجز لأحد أن يلزمها عدة لم يأت بها نص ولا إجماع ووجب المتعة لها ونصف الصداق بإيجاب الله تعالى ذلك لكل مطلقة فرض لها صداق المتعة خاصة لكل مطلقة وهي إحدى المطلقات فبطل ظن هؤلاء القوم والحمد لله رب العالمين واحتجوا بما في القرآن من الآيات التي فيها خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وحده مثل قوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم لصلاة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود لذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن لله أعد للكافرين عذابا مهينا} ومثل قوله تعالى {وآخرون عترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى لله أن يتوب عليهم إن لله غفور رحيم} وما أشبه ذلك قالوا فقلتم هي لازمة لنا ومباحة كلزومها النبي صلى الله عليه وسلم وإباحتها له قال أبو محمد وهذا من التخليط ما هو لأن النص حكم علينا بذلك إذ يقول {لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا} وبقوله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وبغضبه صلى الله عليه وسلم على من تنزه عن أن يفعل مثل فعله فبطل تمويههم بأن هذا قياس وصح وجوب كل شريعة خوطب بها صلى الله عليه وسلم علينا ما لم ننه عن ذلك كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الوصال لست كهيئتكم فلو قال قائل إن الذين تعلقوا به مما ذكروا هو حجة عليهم في إبطال القياس لكان حقا لنص النبي صلى الله عليه وسلم على أنه ليس كهيئتنا ولا كأحدنا ولا مثلنا وإذ ليس مثلنا والقياس عند القائلين به إنما هو قياس الشيء على مثله لا على ما ليس مثله فقد بطل القياس ههنا فيلزمهم ألا يحكموا على الناس بشيء خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وحده وإن فعلوا ذلك خرجوا من الإسلام فصح أنه لا مدخل لهذه الآيات ولا لهذا المعنى في القياس البتة وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقول الله تعالى {هو لذي أخرج لذين كفروا من أهل لكتاب من ديارهم لأول لحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من لله فأتاهم لله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم لرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي لمؤمنين فعتبروا يأولي لأبصار}

قال أبو محمد وهذه هي قاعدتهم بظنهم في القياس وما كانوا أبعد قط من القياس منهم في هذه الآية وما فهم قط ذو عقل من قول الله تبارك وتعالى {هو لذي أخرج لذين كفروا من أهل لكتاب من ديارهم لأول لحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من لله فأتاهم لله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم لرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي لمؤمنين فعتبروا يأولي لأبصار} تحريم مد بلوط بمدي بلوط وما للقياس مجال على هذه الآية أصلا بوجه من الوجوه ولا علم أحد قط في اللغة التي بها نزل القرآن أن الاعتبار هو القياس وإنما أمرنا تعالى أن نتفكر في عظيم قدرته في خلق السموات والأرض وما أحل بالعصاة كما قال تعالى في قصة إخوة يوسف عليه السلام {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي لألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق لذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} فلم يستح هؤلاء القوم أن يسموا القياس اعتبارا وعبرة على جاري عادتهم في تسمية الباطل باسم الحق ليحققوا بذلك باطلهم وهذا تمويه ضعيف وحيلة واهية وقد قال تعالى {إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى * أم للإنسان ما تمنى} فأبطل الله تعالى كل تسمية قام بصحتها برهان إما من لغة مسموعة من أهل اللسان وإما منصوصة في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم وما عدا ذلك فباطل وهل هذه الطريقة التي سلكوا من التمويه والغش بقلع الأسماء عن مواضعها وتحريف الكلم عن مواضعه إلا كمن سمى من النخاسين أواريهم بأسماء المدن ثم يحلف بالله لقد جاءت هذه الدابة أمس من بلد كذا تدليسا وغشا وأهل القياس جارون على هذه الطريقة في تسميتهم القياس عبرة واعتبارا ونسألهم في أي لغة وجدوا ذلك وقد أكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي لألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق لذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} فليت شعري أي قياس في قصة يوسف عليه السلام أترى أنه أبيح لنا بيع إخوتنا كما باعه إخوته أو ترى

أن من باعه إخوته يكون ملكا على مصر ويغلو الطعام في أيامه أو ترى إذ قال الله تعالى {هو لذي أخرج لذين كفروا من أهل لكتاب من ديارهم لأول لحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من لله فأتاهم لله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم لرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي لمؤمنين فعتبروا يأولي لأبصار} أنه أمرنا قياسا على ذلك أن نخرب بيوتنا بأيديهم وأيدينا قياسا على ما أمرنا الله تعالى أن نعتبر به من هدم بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين أما سمعوا قول الله تعالى {وإن لكم في لأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين * ومن ثمرات لنخيل ولأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون} أفيجوز لذي مسكة عقل أن يقول إن العبرة ههنا القياس وإن معنى هذه الآية {وإن لكم في لأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين} لقياسا أما يرى كل ذي حس سليم أن هذه الآية مبطلة للقياس لما قص تعالى عليه أنه يخرج من بين فرث حرام ودم لبنا حلالا وأننا نتخذ من تمر النخيل والأعناب مسكرا حراما خبيثا ورزقا حلالا وهما من شيء واحد فظهر أن تساوي الأشياء لا يوجب تساوي حكمها وصح أن معنى العبرة التعجب فقط هذا أمر يدريه النساء والصبيان والجهال حتى حدث من كابر الحس وادعى أن الاعتبار القياس مجاهرة بالباطل تالله ما قدرنا أن عاقلا يرضى لنفسه بهذه الخساسة وبهذا الكذب في الدين وبعاجل هذه الفضيحة نعوذ بالله والقوم كالفريق يتعلق بما وجد ولو لم يكن في إبطال القياس إلا هذه الآية لكفى لأن أولها قوله تعالى {هو لذي أخرج لذين كفروا من أهل لكتاب من ديارهم لأول لحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من لله فأتاهم لله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم لرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي لمؤمنين فعتبروا يأولي لأبصار} فنص الله تعالى كما نسمع على أنه أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم وأن المؤمنين لم يظنوا قط ذلك وأن الكفار لم يحتسبوا قط ذلك فثبت يقينا بالنص في

هذه الآية أن أحكام الله عز وجل جارية على خلاف ما يحتسب الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم والقياس إنما هو يحتسبه القائسون لا نص فيه ولا إجماع كظن المالكي أن علة الربا الإدخار في المأكولات في الجنس وظن الحنفي أنها الوزن أو الكيل في الجنس وظن الشافعي أنها الأكل في الجنس وهذه كلها ظنون واحتسابات فصح أن أحكام الله تعالى تأتي بخلاف ما يقع في النفوس فهذه الآية أبين شيء في إبطال القياس والحمد لله رب العالمين وقد قوى بعضهم احتجاجهم بما ذكرنا في قوله {لمؤمنين} بما روي عن ابن عباس من قوله في دية الأصابع ألا اعتبرتم ذلك بالأسنان عقلها سواء وإن اختلفت منافعها قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن ابن عباس إنما أراد بقوله هلا اعتبرتم أي هلا تبينتم ذلك بالأصابع فاستبنتم لأن العبارة عن الشيء هو ما يتبين به الشيء أي هلا تبينتم أن اختلاف المنافع لا يوجب اختلاف الدية أو هلا فكرتم وعجبتم في الأصابع ورأيتم أن اختلاف منافعها لا يوجب اختلاف دياتها ولا اختلاف أحكامها كما أن الأسنان أيضا كذلك وهذا نص جلي من ابن عباس على إبطال القياس والعلل الموجبة عند القائلين بالقياس لاستواء الأحكام لأنهم يقولون إن الدية إنما هي عوض عن الأعضاء المصابة فيقيسون فقد السمع على فقد البصر في الدية لأن المنفعة بذلك متساوية فأبطل ابن عباس ذلك ورد إلى نص ولم يجد الأصابع أصلا للأسنان يقاس عليه ولا جعل الأسنان أصلا للأصابع يقاس عليه بل سوى بين كل ذلك تسوية واحدة وهذا هو ضد القياس لأن القياس عند القائلين به إنما هو رد الفرع إلى الأصل وليس ههنا أصل وفرع بل

النص ورد أن الأصابع سواء وأن الأسنان سواء ورودا مستويا فبطل تمويههم الذي راموا به تصحيح أن القياس يسمى عبرة ولقد ناظرني كبيرهم في مجلس حافل بهذا الخبر فقلت له إن القياس عند جميع القائلين به وأنت منهم إنما هو رد ما اختلف فيه إلى ما أجمع عليه أو رد ما لا نص فيه إلى ما فيه نص وليس في الأصابع ولا في الأسنان إجماع بل الخلاف موجود في كليهما وقد جاء عن عمر المفاضلة بين دية الأصابع وبين دية الأضراس وجاء عنه وعن غيره التسوية بين كل ذلك فبطل ههنا رد المختلف فيه إلى المجمع عليه والنص في الأصابع والأسنان سواء ثم من المحال الممتنع أن يكون عند ابن عباس نص ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسوية بين الأصابع وبين الأضراس ثم يفتي هو بذلك قياسا فقال لي وأين النص بذلك عن ابن عباس فذكرت له الخبر الذي حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ثنا محمد بن بكر ثنا سليمان بن الأشعث السجستاني ثنا عباس بن عبد العظيم العنبري ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ثنا شعبة بن الحجاج ثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصابع سواء الأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء يعني الإبهام والخنصر فانقطع وسكت وزاد بعضهم جنونا فاحتج في إثبات القياس بقول الله تعالى {وقال لملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يأيها لملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون} قال أبو محمد وهذا من الجنون ما هو لأن العبارة إنما هي في اللغة البيان عن الشيء تقول هذا الكلام عبارة عن كذا وعبرت عن فلان إذا بينت

عنه ولا مدخل للحكم في شيء من ذلك لشيء لم يذكر اسمه في الشريعة بالحكم في شيء ذكر فيها اسمه فعارضوا بأن قالوا العبور هو الجواز والتجاوز من شيء إلى شيء تقول عبرت النهر قالوا والقياس تجاوز شيء منصوص إلى شيء لا نص فيه قال أبو محمد هذا من المكابرة القبيحة لأن هذا من الأسماء المشتركة التي هي مثل ضرب من ضراب الجمل وهو سفادة الناقة وضرب بمعنى الإيلام بإيقاع جسم على جسم المضروب بشدة والضرب العمل وهكذا عبرت الرؤيا فسرتها وعبرت النهر أي تجاوزته فهذان معنيان مختلفان ليس أحدهما من الآخر في ورد ولا صدر ومصدر عبرت النهر إنما هو العبور ومصدر عبرت الرؤيا إنما هو العبارة ومصدر اعتبرت في الشيء إذا فكرت فيه الاعتبار والعبرة الاسم والعبرة والاستعبار التأهب للبكاء والأخذ فيه والعبرى نبات يكون على شطوط الأنهار والعبرانية لغة بني إسرائيل والعبير ضرب من الطيب فإذا قلنا إن معنى عبرت النهر إنما هو تجاوزته ومعنى عبرت الرؤيا إنما هو فسرتها فقد وضح أن هذا غير هذان ولو أن المعبر للرؤيا تجاوزها لما كان مبينا لها بل يكون تاركا لها آخذا في غيرها كما فعل عابر النهر إذا تجاوزه إلى البر والاعتبار أيضا معنى ثالث غير هذين بلا شك فخلط هؤلاء القوم وأتوا بالسفسطة المجردة وهو أن يأتي بألفاظ مشتركة تقع على معاني شتى فيخلط بها على الناس ليوهم أهل العقل أشياء تخرجهم عن نور الحق إلى ظلمة الباطل وقد حذر الأوائل من هذا الباب جدا وأخبروا أنه أقوى الأسباب في دخول الآفات على الأفهام وفي إفساد الحقائق وقد نبهنا نحن عليه في مواضع كثيرة من كتابنا هذا ومن سائر كتبنا وقد بينا ذلك في كتاب التقريب ولم نبق فيه غاية وبالله تعالى التوفيق

ثم مع ذلك لم يقنعوا بهذا الباب من الباطل حتى زادوا عليه زيادة كثيرة وهو أنهم سموا القياس عبرة جرأة وتمويها والتسمية في اللغة والكلام المستعمل بيننا كله لا تخلو من وجهين لا ثالث لهما أحدهما اسم سمع من العرب والعرب لا تعرف القياس في الأحكام في جاهليتها لأنهم لم يكن لهم شريعة كتابية قبل محمد صلى الله عليه وسلم فبطل أن يكون للقياس عندهم اسم والقسم الثاني اسم شرعي أوقعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على بعض أحكام الشريعة كالصلاة والزكاة والإيمان والكفر والنفاق وما أشبه ذلك وتعالى الله ورسوله عن أن يقيسا فبطل أن يكون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سميا القياس عبرة فهذان القسمان من الأسماء لازمان لكل متكلم بهذه اللغة ولكل مسلم وأما الأسماء التي يتفق عليها أقوام من الناس التفاهم في مرادهم فلذلك لهم مباح بإجماع إلا أنهم ليس لهم أن يلبسوا بذلك على الناس وهم في أعظم إثم وحرج إن سموا ما يخالفهم فيه غيرهم باسم واقع على معنى حقيقي ليلزموا خصومهم قبول ما خالفهم فيه تمويها على الضعفاء وعدوانا كمن سمى الخمر عسلا يستحلها بذلك لأن العسل حلال فبطل أن يسمي القياس عبرة أو اعتبارا وعلمنا أن أصحاب القياس الذي أحدثوا هذه البدعة هم الذين أحدثوا له هذا الاسم كما أنذر النبي صلى الله عليه وسلم بقوم يأتون في آخر الزمان يسمون الخمر بغير اسمها ليستحلوها بذلك فقد فعل أصحاب القياس ذلك بعينه وسموا الباطل عبرة واعتبارا لهم ليصبح لهم باطلا بذلك لأن العبرة حق {يريدون أن يطفئوا نور لله بأفواههم ويأبى لله إلا أن يتم نوره ولو كره لكافرون} وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بآبدة أنست ما قبلها وهو أن بعضهم استدل على صحة القياس

بقول الله تعالى واصفا لأمر آدم عليه السلام إذ تكشفت عورته عند أكل الشجرة فقال تعالى {فدلاهما بغرور فلما ذاقا لشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق لجنة وناداهما ربهمآ ألم أنهكما عن تلكما لشجرة وأقل لكمآ إن لشيطآن لكما عدو مبين} قال أبو محمد إنما شرطنا أن نتكلم فيما يعقل وأما الهذيان فلسنا منه في شيء ولا ندري وجه القياس في تغطية آدم عورته بورق الجنة وليت شعري لو قال لهم خصمهم مجاوبا لهم بهذا الهذيان إن هذه حجة في إبطال القياس بماذا كانوا ينفكون منه وهل كان يكون بينه وبينهم فرق واحتجوا أيضا بقول الله تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام إذ قال {إن لله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما لذين آمنوا فيعلمون أنه لحق من ربهم وأما لذين كفروا فيقولون ماذآ أراد لله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا لفاسقين} قال أبو محمد وهذه كالتي قبلها وما يعقل أحد من إحياء الله عز وجل الطير قياسا ولا أنه يوجب أن يكون الأرز بالأرز متفاضلا حراما وأن الاحتجاج بمثل هذا مما ينبغي المسلم أن يخاف الله عز وجل فيه وما بين هذا وبين من احتج في إثبات القياس وفي إبطاله بقول الله تعالى {قل أعوذ برب لناس} فرق ولكن من لم يبال بما تكلم سهلت عليه الفضائح وليس العار عارا عند من يقلده واحتجوا بقول الله تعالى {مثل ما ينفقون في هذه لحياة لدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم لله ولكن أنفسهم يظلمون} وبقوله تعالى {كأنهن لياقوت ولمرجان} قال أبو محمد وهذا من نحو ما أوردناه آنفا من العجائب المدهشة بينما نحن في تحريم شيء لم يذكر تحريمه في القرآن والسنة ولا في الإجماع من أجل شبهه لشيء آخر حرم في النص حتى خرجنا إلى تشبيه الحور العين بالياقوت والمرجان فكل ذي عقل يدري أن الياقوت والمرجان يباع ويدق ويسرق ويخرج من البحر الملح وأنه لا يعقل ولا هو حيوان أفترى الحور العين يفعل بهن هذا كله تعالى الله عن ذلك وقد علم كل مسلم أن الحور العين عاقلات أحياء ناطقات يوطأن ويأكلن ويشربن فهل الياقوت

والمرجان كذلك وإنما شبه الله تعالى الحور العين بالياقوت والمرجان في الصفاء فقط ونحن لا ننكر تشابه الأشياء وإنما ننكر أن نحكم المتشابهات بحكم واحد في الشريعة بغير نص ولا إجماع فهذا هو الزور والإفك والضلال وأما تشابه الأشياء فحق يقين وكذلك شبه الله تعالى بطلان أعمال الكفار ببطلان الزرع بالريح التي فيها الصر فأي مدخل للقياس ههنا أترى من بطل زرعه خالدا في جهنم كما يفعل بالكافر أو ترى الكافر إذا حبط عمله ذهب زرعه في فدانه كما يذهب زرع من أصاب زرعه ريح فيها صر هذا ما لا يقوله أحد ممن له طباخ وأما الحقيقة فإن هاتين الآيتين تبطلان القياس إبطالا صحيحا لأن الله تعالى مثل الحور العين بالياقوت والمرجان ومثل أعمال الكفار بزرع أصابته ريح فيها صر ولم يكن تشبيه الحور بالياقوت والمرجان يوجب للياقوت والمرجان الحكم أحكام الحور العين ولا للحور العين الحكم بأحكام الياقوت والمرجان ولا كان شبه عمل الكفار بالزرع الذاهب يوجب للزرع الحكم بأحكام أعمال الكفار من اللعين والبراءة والوعيد ولا لأعمال الكفار بأحكام الزرع من الانتفاع بتبنه في علف الدواب وغير ذلك فصح أن تشابه الأشياء لا يوجب لها التساوي في أحكام الديانة ولا شيء أقوى شبها من شيئين شبه الله عز وجل بعضها ببعض فإذا كان الشبه الذي أخبرنا الله تعالى به لا يوجب لذينك المتشابهين حكما واحدا فيما لم ينص فيه فبالضرورة تعلم أن الشبه لا يوجب لذينك المتشابهين حكما واحدا فيما لم ينص فيه فبالضرورة تعلم أن الشبه المكذوب المفترى من دعاوى أصحاب القياس أبعد عن أن يوجب لما شبهوا بينهما حكما واحدا وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقول الله تعالى {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي

لعظام وهي رميم * قل يحييها لذي أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم * لذي جعل لكم من لشجر لأخضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون * أوليس لذي خلق لسماوات ولأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو لخلاق لعليم} قال أبو محمد وهذا من عجائبهم وطوامهم ليت شعري ما في هذه مما يوجب القياس أو أن يحكم في ألا يكون الصدق أقل مما يقطع فيه اليد وأن يرجم اللوطي كما يرجم الزاني المحصن ولكاد احتجاجهم بهذه الآية أن يخرجهم إلى الكفر لأنه تعالى لم يوجب أنه يعيد العظام من أجل أنه أنشأها أول مرة ولا أخبر تعالى أن إنشاءه لها أول مرة يوجب أن يعيدها ومن ظن هذا فقد افترى ومع ذلك فلو كان إنشاء الله تعالى للعظام أو لا يوجب أن يحييها ثانية لوجب ضرورة إذا أفناها أيضا بعد أن أنشأها أولا أن يفنيها ثانية بعد أن أنشأها ثانية وهذا ما لا يقولونه ولا يقول به أحد من المسلمين إلا جهم بن صفوان وحده ولو كان ذلك أيضا لوجب أن يعيدهم إلى الدنيا ثانية كما ابتدأهم ونشأهم فيها أول مرة وهذا كفر مجرد لا يقول به إلا أصحاب التناسخ فقبح الله كل احتجاج يفر صاحبه من الانقطاع والإذعان للحق إلى ما يؤدي إلى الكفر فبطل تمويههم بهذه الآية وصح أن معناها هو اقتضاء ظاهرها فقط وهو أن القادر على خلق الأشياء ابتداء قادر على إحياء الموتى وقد بين الله تعالى نصا إذ يقول {ومن آياته أنك ترى لأرض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها لمآء هتزت وربت إن لذي أحياها لمحى لموتى إنه على كل شيء قدير} فبين عز وجل أنه إنما بين ذلك قدرته على كل شيء وإنما عارض الله تعالى بهذا قوما شاهدوا إنشاء الله تعالى للعظام من مني الرجل والمرأة أقروا بذلك وأنكروا قدرته تعالى على إنشائها ثانية وإحيائها

فأراهم الله تعالى فساد تقسيمهم لقدرته كما قال في أخرى {أولم يروا أن لله لذي خلق لسماوات ولأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي لموتى بلى إنه على كل شيء قدير} فهذه كتلك وليس في شيء منها أن نحكم لما لا نص فيه بالحكم بما فيه نص من تحريم أو إيجاب أو إباحة أصلا وأن هذا كله باب واحد ليس بعضه مقيسا على بعض ولا أصلا والآخر فرعا وإقدام أصحاب القياس وجرأتهم متناسبة في مذاهبهم وفيما يؤيدونها نعوذ بالله من الخذلان واحتجوا أيضا بقول الله تعالى {وهو لذي يرسل لرياح بشرى بين يدي رحمته حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به لمآء فأخرجنا به من كل لثمرات كذلك نخرج لموتى لعلكم تذكرون} وبقوله

تعالى {يأيها لناس إن كنتم في ريب من لبعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في لأرحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل لعمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى لأرض هامدة فإذآ أنزلنا عليها لمآء هتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} ولقوله تعالى {ولله لذي أرسل لرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به لأرض بعد موتها كذلك لنشور} وبقوله تعالى {ونزلنا من لسمآء مآء مباركا فأنبتنا به جنات وحب لحصيد} إلى قوله {ونزلنا من لسمآء مآء مباركا فأنبتنا به جنات وحب لحصيد} وبقوله تعالى {أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل لذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا} قال أبو محمد وهذا كله من جنس ما ذكرناه آنفا والمحتج بهذه الآيات في إثبات القياس في الأحكام إما جاهل أعمى لا يدري ما القياس وإما مموه لا يبالي ما قال ولا ما أطلق به لسانه في استدامة حاله ولو كان هذا قياسا لوجب أن يحيي الله الموتى كل سنة في أول الربيع ثم يموتون في أول الشتاء كما تفعل الثمار وجميع النبات وهذا مما لا يقوله إلا ممرو وإنما أخبر تعالى في كل هذه الآيات بأنه يحيي الموتى ويقدر على كل ذلك لا على أن بعض ذلك مقيس على بعض البتة وذكروا أيضا في ذلك قول الله تعالى {ويقول لإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا * أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} وبقوله تعالى {يأيها لناس إن كنتم في ريب من لبعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في لأرحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل لعمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى لأرض هامدة فإذآ أنزلنا عليها لمآء هتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} {يأيها لناس إن كنتم في ريب من لبعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في لأرحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل لعمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى لأرض هامدة فإذآ أنزلنا عليها لمآء هتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} قال أبو محمد هذا هو إبطال القياس على الحقيقة لأنه لا سبيل إلى أن يخلق ثانية من نطفة ولا من علقة ولا من مضغة فإنما معنى هذه الآية من الله تعالى علينا وتذكيره لنا بقدرته على ما يشاء لا إله إلا هو وكذلك الآية التي قبلها أن الإنسان لم يك شيئا ثم خلق ولا سبيل إلى أن يعود لا شيء أبدا بل نفسه عائدة إلى حيث رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ويعود الجسم ترابا ثم يجمعان يوم القيامة فيخلد حيا باقيا أبد الأبد بلا نهاية ولا فناء في نعيم أو عذاب فبطل القياس ضرورة من حيث راموا إثباته تمويها على اغترابهم وهذه الآيات كلها هي بمنزلة قوله تعالى {أأنتم أشد خلقا أم لسمآء بناها * رفع سمكها فسواها} فإنما بين قدرته على ما شاهدنا وعلى ما أخبرنا به مما لم نشاهد وهذا إبطال للقياس ولظنون الجهال لأن الله تعالى نص على تشابه الأشياء كلها بعضها لبعض ولم يوجب من أجل ذلك التشابه أن تستوي في أحكامها وهذا هو نفس قولنا في إبطال القياس في تسوية الأحكام بين الأشياء المشتبهات وبالله التوفيق ومثل ذلك قوله تعالى {وضرب لهم مثل لحياة لدنيا كمآء أنزلناه من لسماء فختلط به نبات لأرض فأصبح هشيما تذروه لرياح وكان لله على كل شيء مقتدرا} وكقوله تعالى {إنا بلوناهم كما بلونآ أصحاب لجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين * ولا يستثنون} الآيات إلى قوله تعالى {كذلك لعذاب ولعذاب لآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} قال أبو محمد ولا شبه أقوى من شبه شهد الله تعالى بصحبته فإذا كان

الله تعالى قد شبه الحياة الدنيا بالنبات النابت من الماء النازل من السماء فهي أشبه الأشياء به وشبه تلف جثث أولئك العصاة بالعدل وذلك لا يوجب استواءهما في شيء من الحكم في الشريعة غير الذي نص الله تعالى عليه من البلى بعد الجدة فقط فبطل ظنهم الفاسد والحمد لله رب العالمين وكذلك أيضا قوله تعالى {محمد رسول لله ولذين معه أشدآء على لكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من لله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر لسجود ذلك مثلهم في لتوراة ومثلهم في لإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فستوى على سوقه يعجب لزراع ليغيظ بهم لكفار وعد لله لذين آمنوا وعملوا لصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} قال أبو محمد وذلك الزرع يرعى وليس متعبدا ولا جزاء عليه في الآخر والقوم الذين شبهوا به ولا شك أنهم خلاف ذلك وأنهم متعبدون مجازون بالجزاء التام في الآخرة وأن العجب ليكثر من عظيم تمويههم في الدين وتدليسهم فيه باحتجاجهم بهذه الآيات في القياس وما عقل قط ذو مسكة عقل أنه يجب في هذه الآيات تحريم بيع التبن بالتبن متفاضلا إذا حرم بيع التمر بالتمر متفاضلا وما قائل هذا قريب من الاستخفاف بالقرآن والشرائع ونعوذ بالله من هذا واحتج بعضهم في إثبات القياس بآبدة أنست ما تقدم وهو أنه قال من الدليل على صحة القياس قول الله تعالى {ولمرسلات عرفا} قال فأشار إلى العرف قال أبو محمد وهذا دليل على فساد عقل المحتج به في إثبات القياس وقلة حيائه ولا مزيد وبالله تعالى نعوذ من الخذلان ونسأله التوفيق ولا عرف إلا ما بين الله تعالى نصا أنه عرف وأما عرف الناس فيما بينهم فلا حكم له ولا معنى وما عرف الناس مذ نشؤوا إلا الظلم والمكوس واحتجوا أيضا بأن قالوا قال الله عز وجل {ولبلد لطيب يخرج نباته بإذن ربه ولذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف لآيات لقوم يشكرون} قالوا

فإذا جاء النص بجلد قاذف المحصنات وأنتم تجلدون قاذف الرجال المحصنين كما تجلدون قاذف المحصنات من النساء وهذا قياس قال أبو محمد وهذا ظن فاسد منهم وحاشا لله أن يكون قياسا ونحن نبدأ فنبين بحول الله وقوته من أين أوجبنا جلد قاذف الرجال من نص القرآن والسنة فإذا ظهر البرهان على ذلك لائحا بحول الله وقوته وأنه من النص عدنا إلى بيان أنه لا يجوز أن يكون قياسا وأنه لو استعمل ههنا القياس لكان حكمه غير ما قالوا وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله تعالى نتأيد إن قول الله عز وجل {ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون} عموم لا يجوز تخصيصا إلا بنص أو إجماع فممكن أن يريد الله تعالى النساء المحصنات كما قلتم وممكن أن يريد الفروج المحصنات وهذا غير منكر في اللغة التي بها نزل القرآن وخاطبنا بها الله تعالى قال الله عز وجل {وأنزلنا من لمعصرات مآء ثجاجا} يريد من السحاب المعصرات فقلنا نحن إنه أراد الفروج المحصنات وقلتم أنتم إنه أراد النساء المحصنات فوجب علينا ترجيع دعوانا بالبرهان الواضح فقلنا إن الفروج أعم من النساء لأن الاقتصار بمراد الله تعالى على النساء خاصة تخصيص لعموم اللفظ وتخصيص العموم لا يجوز إلا بنص أو إجماع وأيضا فإن الفروج هي المرمية لا غير ذلك من الرجال والنساء برهان ذلك ما قاله تعالى {ولذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} وقال تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن لله خبير بما يصنعون} {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن لله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبآئهن أو آبآء بعولتهن أو أبنآئهن أو أبنآء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسآئهن أو ما ملكت أيمانهن أو لتابعين غير أولي لإربة من لرجال أو لطفل لذين لم يظهروا على عورات لنسآء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى لله جميعا أيها لمؤمنون لعلكم تفلحون} وقال تعالى {إن لمسلمين ولمسلمات ولمؤمنين ولمؤمنات ولقانتين ولقانتات ولصادقين ولصادقات ولصابرين ولصابرات ولخاشعين ولخاشعات ولمتصدقين ولمتصدقات ولصائمين ولصائمات ولحافظين فروجهم ولحافظات ولذاكرين لله كثيرا ولذاكرات أعد لله لهم مغفرة وأجرا عظيما} وقال

تعالى {ومريم بنة عمران لتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من لقانتين} فصح أن الفرج هو المحصن وصاحبه هو المحصن له بنص القرآن حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد بن نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه أنا عبد الرزاق ثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال ما رأيت أن شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه وبه إلى مسلم ثنا إسحاق بن منصور أنا هشام المخزومي هو ابن سلمة ثنا وهيب بن خالد ثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه قال أبو محمد فصح يقينا أن المرمية هي الفروج خاصة وأن المحصنة على الحقيقة هي الفروج إلا ما عداها وصح أن الزنى الواجب فيه الحد هو زنى الفروج خاصة لا زنى سائر الأعضاء ولا زنى النفس دون الفرج فلا حد في النص كما أوردنا في زنى العينين ولا في الرجلين ولا في زنى اللسان ولا في زنى الأذنين ولا في زنى القلب الذي هو مبعث الأعمال وصح أن

من رمى العينين بالزنى أو رمى الرجلين بالزنى أو رمى القلب بالزنى أو رمى الأذنين بالزنى أو رمى اليدين بالزنى أو رمى أي عضو كان بالزنى ما عدا الفرج فليس راميا ولا حد عليه بالنص لأن الفرج إن كذب فهو كله لغو فصح يقينا أن الرمي الذي يحد فيه الحدود ورد الشهادة والتفسيق إنما رمي الفروج بلا شك بيقين لا مرية فيه فإذ ذلك كذلك فقد صح أن مراد الله تعالى بالحدود ورد الشهادة في الآية المتلوة إنما هي رمي الفروج فقط فصح قولنا بيقين لا مجال للشك فيه وهذا إذ هو كذلك ففروج الرجال والنساء داخلات في الآية دخولا مستويا ثم نسألهم فنقول لهم أخبرونا عن قول الله تعالى {ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون} إذ قلتم أنه تعالى أراد بهذه اللفظة ههنا النساء فقط هل أراد الله أن يحد قاذف الرجل أم لا ولا بد من إحداهما فإن قالوا لم يرد بقوله تعالى فقد حكموا على أنفسهم أنهم يحكمون بخلاف ما أراد الله تعالى وكفونا أنفسهم وإن قالوا إن الله تعالى أراد أن يحد قاذف الرجل قلنا لهم إن هذا عجب أن يكون تعالى يريد في دينه وعلمه من عباده أن يحد قاذف الرجل ثم لا يأمرنا إلا بحد قاذف النساء فقط حاشا لله من ذلك فإنه تلبيس لا بيان فإن قالوا اقتصر على النساء ونبهنا بذلك على حكم قاذف الرجال قلنا له هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ولم تأتوا بأكثر من الدعوى الكاذبة التي فيها خالفناكم فإن كانت عندكم حجة من نص جلي على صحة هذه الدعوى وإلا فهي كذب بحت ولستم بصادقين فيها بنص القرآن قالوا الإجماع قد صح على وجوب حد قاذف الرجل قلنا لهم وأي دليل لكم في الإجماع والإجماع لنا لا لكم لأن الإجماع إنما كان من هذا النص المذكور فهاتوا دليلا على أنه كان عن قياس ولا سبيل لهم إلى دليل ذلك أصلا لا برهاني ولا إقناعي ولا شغبي وظهر بطلان قولهم

والحمد لله رب العالمين ثم نعود إلى إبطال أن يكون حد قاذف الرجل قياسا جملة ولا بد فنقول وبالله تعالى نتأيد إننا وجدنا أحكام الرجال والنساء تختلف في مواضع فالرجال عليهم الجمعات والجماعات فرضا والنساء لا تلزمهن جمعة ولا جماعة فرضا وقد استووا في حكم سائر الصلاة والزكاة والمرأة لا تسافر في غير واجب إلا مع زوج أو ذي محرم والرجل يسافر حيث شاء دون زوجة ودون ذي محرم والخوف عليه من أن يزني كالخوف عليها من أن تزني ولا فرق لأن زناها لا يكون إلا مع رجل وحكمهن في اللباس مخالف لحكم الرجل فلا يجوز للرجل لباس القمص والعمائم والسراويل في الإحرام وهذا مباح للنساء واستووا في تحريم الطيب عليهم وعليهن في الإحرام والرجال عليهم الصلاة مع الإمام بمزدلفة صلاة الصبح ومباح للنساء السفر قبل ذلك فاستووا فيما عدا ذلك والجهاد على الرجال ولا جهاد على النساء وشهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل وخصومنا ههنا لا يقبلون النساء أصلا إلا في الأموال مع رجل ولا بد وفي عيوب النساء والولادات فقط ويقبلون الرجال فيما عدا ذلك ولا يقيسون الرجال عليهن ولا يقيسوهن على الرجال وليس هذا إجماعا ودية المرأة نصف دية الرجل وكثير من الحاضرين من خصومنا ههنا يسوون بينهن وبين الرجال في مقدور محدود من الديات ويفرقون بين أحكامهم وأحكامهن في سائر ذلك ولا يقيسون النساء على الرجال ولا الرجال على النساء وحد المرأة كحد الرجل في القذف والخمر والزنى والقتل والقطع في السرقة وفرق بين الحاضرين من خصومنا في التغريب في الزنى بين الرجال والنساء وفرق آخرون منهم في حد الردة بين الرجال والنساء فرأوا قتل الرجل في الردة ولم يروا قتل المرأة في الردة وتركوا القياس ههنا وللرجل أن ينكح أربعا ويتسرى ولا يحل

للمرأة أن تنكح إلا واحدا ولا تتسرى ولم يقيسوا عليهن إلى كثير مثل هذا اكتفينا منه بهذا المقدار فلما وجدنا أحكام الرجال وأحكام النساء تختلف كثيرا وتتفق كثيرا على حسب ورود النص في ذلك فقط بطل أن يقاس حكم الرجال على النساء إذا اقتصر النص عن ذكرهن أو أن تقاس النساء على الرجال إذا اقتصر النص على ذكرهم إذ ليس الجمع بين أحكامهن وأحكام الرجال حيث لم يأت النص بالتفريق قياسا على ما جاء النص فيه متساويا بين أحكامهن وأحكامهم أولى من التفريق بين أحكامهن وأحكام الرجال حيث لم يأت النص بالجمع قياسا على ما جاء النص فيه مفرقا بين أحكامهن وأحكامهم وهذا في غاية الوضوح والحقيقة بلا شك فيها فلو كان القياس حقا لكان قياس قاذف الرجل في إيجاب الحد عليه على قاذف المرأة باطلا متيقنا لا يجوز الحكم به أصلا فارتفع توهمهم جملة والحمد لله رب العالمين ومن أوضح برهان على أن حد قاذف الرجل ليس عن قياس على قاذف المرأة بالزنى أن بعد أمر الله بجلد قاذف المحصنات بسطر واحد فقط قوله تعالى {ولذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهدآء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بلله إنه لمن لصادقين} الآيات فلا خلاف بين أحد من الأمة أنه لا يقاس قاذفة زوجها أن تلاعن على قاذف زوجته أن يلاعن فلو كان القياس حقا لما كان قياس قاذف الرجل على قاذف المرأة أن يجلد الحد أولى ولا أصح من قياس قاذف زوجته أن تلاعنه أيضا ولا يجد أحد فرق بين الأمرين أصلا فصح أن القياس باطل إذ لو كان حقا لاستعمله الناس في الملاعنة وصح أن جلد قاذف الرجل ليس عن قياس وأنه عن نص كما ذكرنا وبالله التوفيق

واحتج بعضهم بقول الله تعالى {هو لذي أنزل عليك لكتاب منه آيات محكمات هن أم لكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه بتغاء لفتنة وبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا لله ولراسخون في لعلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا لألباب} قال أبو محمد وجمجم هذا المحتج ولم يصرح على ههنا أشياء من القرآن مفتقرة إلى القياس قال أبو محمد وهذا كلام يسيء الظن بمعتقد قائله ولا قول أسوأ من قول من قال إن الله تعالى شبه على عباده فيما أراد منهم وفيما كلفهم وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين تلك الأشياء وتركها مهملة واحتاجوا فيها إلى قياسهم الفاسد وقد بينا الكلام في باب مفرد في ديواننا هذا وأخبرنا أنه لا يحل لأحد أن يتبع متشابه القرآن ولا أن يطلب معنى ذلك المتشابه وليس إلا الإقرار به وأنه من عند الله تعالى كما قال عز وجل في آخر الآية المذكورة {هو لذي أنزل عليك لكتاب منه آيات محكمات هن أم لكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه بتغاء لفتنة وبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا لله ولراسخون في لعلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا لألباب} وأخبر تعالى فيها فقال {هو لذي أنزل عليك لكتاب منه آيات محكمات هن أم لكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه بتغاء لفتنة وبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا لله ولراسخون في لعلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا لألباب} فنص تعالى على أن من طلب تأويل المتشابه فهو زائغ القلب مبتغي فتنة ونحن نبرأ إلى الله من هذه الصفة فثبت بالنصوص ضرورة أن تأويل المتشابه لا يعلمه أحد إلا الله عز وجل وحده فقط لأن ابتغاء معرفته حرام وما حرم ابتغاء معرفته فقد سد الباب دون معرفته ضرورة إذ لا يوصل إلى شيء من العمل إلا بعد ابتغائه فما حرم ابتغاؤه فلا سبيل إلى الوصول إليه وهذا بين لا خفاء فيه وطرق المعارف معروفة محصورة وهي الحواس والعقل اللذان ركبهما الله في المتعبدين من الحيوان وهم الملائكة والجن ومن وضع من ذلك فيه شيء من الإنس ثم ما أمر الله بتعرفه وتعرف حكمه فيه مما جاء من عنده عز وجل وهو القرآن والسنة فقط وهذه كلها طرق أمرنا بسلوكها والاستدلال بها وقد نهينا عن طلب معنى المتشابه فصح أنه لا يوصل إلى معرفة معناه من جهة

شيء من الحواس ولا من المعقول ولا من القرآن ولا من السنة فإذا كان الأمر كذلك فلا سبيل لمخلوق إلى معرفته إلا أن الذي صح في الآي المحكمات التي أمرنا الله بتدبرها وبتعلمها وبطلب تأويلها والتفقه فيها فطاعة القرآن فيما أمر الله تعالى فيه ونهى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الذي أمر فيه ونهى وترك التعدي لهذه الحدود وبطلان ما عداها فبطل القياس ضرورة لأنه غير هذه الحقائق والحمد لله رب العالمين واحتجوا فقالوا حرم الله تعالى لحم الخنزير فحرمتم شحمه والأنثى منه وهذا قياس قال أبو محمد وهذا ظن فاسد منهم ومعاذ الله أن نحرم شحم الخنزير وأنثاه بقياس بل بالإجماع الصحيح وبالنص في القرآن ولو كان الشحم كحكم اللحم لوجب إذ حرم على بني إسرائيل الشحم أن يحرم عليهم اللحم فإذا لم يكن ذلك فقد صح أن الشحم لم يحرم من الخنزير قياسا على اللحم ومن الطرائف أن المحتجين بهذا يقولون أو أكثرهم إن الشحم جنس غير اللحم ويجيزون رطل لحم برطلي شحم حتى إن جمهورهم وهم صحاب أبي حنيفة يرون شحم الظهر غير شحم البطن فيجيزون رطل شحم بطن برطلي شحم الأوز فأين هذيانهم إنه إنما حرم شحم الخنزير قياسا على لحمه والشافعيون والحنفيون والمالكيون يقولون من حلف ألا يأكل شحما فأكل لحما فإنه لا يحنث ولا خلاف بينهم أن من قال لآخر ابتع لي بهذا الدرهم لحما فابتاع له به شحما فإنه ضامن فبطل قياسهم البارد إن الشحم من الخنزير مقيس على لحمه ولا خلاف بينهم أن العظم لا نسبة بينه وبين اللحم ولا يجوز أن يقاس عليه ونحن وهم مجمعون على أن من سحق عظم الخنزير فاستفه فقد عصى الله تعالى فصح ضرورة أنه لم يحرم

شحمه قياسا على لحمه ولا أنثاه قياسا على ذكره وبطل تمويههم والحمد لله وإنما حرم شحم الخنزير وغضروفه ودماغه ومخه وعصبه وعروقه وجلده وشعره وعظمه وعضله وسنه وظلفه وملكه والأنثى منه ولبنها بقول الله تعالى {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} والضمير في لغة العرب راجع إلى أقرب مذكور وقد أفردنا لذلك بابا في كتابنا هذا وأقرب مذكور إلى الضمير الذي في {يأيها لذين آمنوا إنما لخمر ولميسر ولأنصاب ولأزلام رجس من عمل لشيطان فجتنبوه لعلكم تفلحون} هو الخنزير لا اللحم فالخنزير كله بالنص رجس والرجس كله خبيث محرم بقول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا إنما لخمر ولميسر ولأنصاب ولأزلام رجس من عمل لشيطان فجتنبوه لعلكم تفلحون} فرجع الضمير في قوله تعالى إلى الرجس لأنه تعالى لو أراد الأربعة المذكورة في أول الآية لقال فاجتنبوها فلما لم يقل تعالى ذلك ولم يجز أن يكون الضمير راجعا في قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إنما لخمر ولميسر ولأنصاب ولأزلام رجس من عمل لشيطان فجتنبوه لعلكم تفلحون} إلى الشيطان لأننا غير قادرين على اجتنابه صح ضرورة أنه راجع إلى الرجس وعمل الشيطان فكان الرجس كله محرما وهو من عمل الشيطان محرم مأمور باجتنابه فكل ما كان رجسا فهو باجتنابه والخنزير رجس فكله محرم مأمور باجتنابه وكذلك الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وكل رجس بالنص المذكور وبالله تعالى التوفيق وإنما قلنا هذا حسما للأقوال وإنما فالضمير راجع إلى عمل الشيطان والرجس بنص الآية من عمل الشيطان فهو مأمور باجتنابه بيقين والخنزير رجس بنص القرآن والخنزير كله حرام والخنزير في لغة العرب التي بها

خوطبنا اسم للجنس يقع تحته الذكر والأنثى والصغير والكبير فبطل ما ظنوا أن تحريم الشحم إنما هو جهة القياس وبالله تعالى التوفيق ثم نقول لهم أخبرونا عن قول الله تعالى {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} ماذا أراد به عندكم اللحم وحده دون الشحم فإن قلتم ذلك فقد أباح الشحم على قولكم وهذا خلاف الإسلام وخلاف قولكم أم أراد به الشحم واللحم والعظم واللبن فهذا باطل لأن كل ذلك يقع عليه عند أحد اسم لحم فقد حصل قولكم بين كذب وكفر لا بد من إحداهما فإن قالوا حرم اللحم ودل بذلك على الشحم قلنا هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين وفي هذا خالفناكم وكذبنا دعواكم فحصلوا في ضلال محض واحتج بعضهم بأن قال يلزمكم ألا تبيحوا قتل الكفار إلا بضرب الرقاب فقط لقول الله تعالى {فإذا لقيتم لذين كفروا فضرب لرقاب حتى إذآ أثخنتموهم فشدوا لوثاق فإما منا بعد وإما فدآء حتى تضع لحرب أوزارها ذلك ولو يشآء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ولذين قتلوا في سبيل لله فلن يضل أعمالهم} قال أبو محمد والجواب بأن الله تعالى إنما قال هذا في المتمكن منهم من الكفار وهذا فرض بلا شك ولا يحل خلافه فمن أراد الإمام قتله من الأسارى لم يحل قتله إلا بضرب الرقبة خاصة لا بالتوسيط ولا بالرماح ولا بالنبل ولا بالحجارة ولا بالخنق ولا بالسم ولا بقطع الأعضاء وأما من لا يتمكن منه فقد قال تعالى {إذ يوحي ربك إلى لملائكة أني معكم فثبتوا لذين آمنوا سألقي في قلوب لذين كفروا لرعب فضربوا فوق لأعناق وضربوا منهم كل بنان} وقال تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} فقتل هؤلاء واجب كيف ما أمكن بالنص المذكور وهذا لا نعلم فيه خلافا وهو ظاهر الآيات المذكورات ويبين أن المراد بالآية التي فيها ضرب رقاب الأسرى فقط قوله تعالى في تلك الآية بعينها {هو لذي أنزل لسكينة في قلوب لمؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود لسماوات ولأرض وكان لله عليما حكيما} فاستثنى الأسرى من جملة قوله تعالى {إذ يوحي ربك إلى لملائكة أني معكم فثبتوا لذين آمنوا سألقي في قلوب لذين كفروا لرعب فضربوا فوق لأعناق وضربوا منهم

كل بنان} و {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} وقال بعضهم أيضا يلزمكم ألا تجيزوا أن يبدأ في غسل الذراعين في الوضوء إلا من الأنامل لقول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} قال أبو محمد وهذا خطأ وقول فاسد لأن الله تعالى لم ينص على أن يبدأ في ذلك من مكان من اليدين بعينه وإنما جعل عز وجل المرافق نهاية موضع الغسل لا نهاية عمل الغسل فكيف ما غسل الغاسل ما بين أطراف الأنامل إلى نهاية المرافق فقد فعل ما أمر به في النص ولا مزيد واحتج بعضهم بقول الله تعالى {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا لشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بلله وليوم لآخر ومن يتق لله يجعل له مخرجا} قالوا وإنما قال ذلك تعالى في الطلاق والرجعة يعني اشتراط العدالة واشترط تعالى الرضا في الرجل والمرأتين في الديون فقط فكان ذلك في سائر الأحكام قياسا على الطلاق والرجعة قال أبو محمد وهذا الاحتجاج من غريب نوادرهم فأول ذلك أن المحتج بهذا إن كان مالكيا فقد نسي نفسه في إباحتهم شهادة الطبيب الفاسق وفي شهادة الصبيان في الدماء والجراحات خاصة وهم غير موصوفين بعدالة ولم يقس على ذلك الصبايا ولا تحريق الثياب وإن كان حنفيا فقد نسي نفسه في قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض ونقضهم كلهم هذا الأصل في رد شهادة العبيد العدول والأقارب العدول وأما نحن فلم نأخذ قبول شهادة العدول فيما عدا الطلاق والرجعة والديون قياسا على ذلك ونعوذ بالله من هذا وإنما لزم قبول العدول في كل موضع حاشا ما استثناه النص من قبول شهادة الكفار في الوصية في السفر فقط في قول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} فنهانا الله تعالى عن قبول الفاسق ليس في البالغين العقلاء وإلا فاسق أو عدل فوجب علينا التبين في كل شاهد وكل مخبر حتى نعلم أفاسق هو فلا نعمل

بخبره ولا بشهادته إذا أنبأنا بها أو نعلم أهو عدل فنعمل بخبره وشهادته فبطل ظن هذا الجاهل وأما قبول عدلين في سائر الأحكام فقد كان يلزم هذا الجاهل إن التزم القياس أن يقيس جميع الشهادات في السرقة والقذف والخمر والقصاص والقتل على الشهادة في الزنى فلا يقبل في شيء مما ذكرنا إلا أربعة شهداء لا أقل لأن الحدود بالحدود أشبه من الحدود بالطلاق والرجعة والديون والزنى حد وكل ما ذكرناه في السرقة والقذف والخمر حد وكان يلزمه أيضا أن يقيس على الديون فيقبل في سائر الأشياء رجلا وامرأتين كما جاء النص في الأموال وإلا فلأي معنى وجب أن يقاس على الرجعة والطلاق دون أن يقاس على الديون فإن ادعى الإجماع قيل له كذبت وجهلت فالحسن البصري لا يقبل في القتل إلا أربعة شهداء عدول وهذا عمر بن الخطاب وعطاء بن أبي رباح يقبلان في الطلاق النساء دون الرجال وعطاء يقبل في الزنى ثماني النسوة وأبو حنيفة يقبل في الطلاق والرجعة والنكاح رجلا وامرأتين ولا يقبل ذلك في الحدود وقول الحسن أدخل في القياس لأن القتل أشبه بالزنى الذي يكون فيه القتل في الإحصان فهو قتل وقتل فالقتل بالقتل أشبه من القتل بالطلاق وقول عمر وعطاء أشبه بالقياس لأنهما جعلا مكان كل رجل امرأتين وجلد الزنى جلد وجلد القذف والخمر جلد فالجلد بالجلد أشبه من الجلد بالرجعة في النكاح وهذا ما لا يحل يخيل على من له أدنى حس سليم لا سيما المالكيين الذين يقولون بقياس القتل على الزنى أنه إن عبر عن القاتل أن يجلد مائة سوط ويغرب سنة قياسا على الزاني غير المحصن فهلا قلدوه عليه فيما يقبل عليه من عدد الشهود ولكن هكذا يكون من سلك السبل

فتفرقت به عن سبيل الله تعالى والعجب أن مالكا أجاز في القتل شاهدا واحدا وأيمان الأولياء وهذا قياس على الشاهد واليمين في الأموال فلا أجاز ذلك في الطلاق والنكاح والعتق وغير ذلك وأي فرق بين هذه الوجوه نعوذ بالله من التخليط والآراء والمقاييس الفاسدة في دين الله تعالى واحتج بعضهم في ذلك بالآية الواردة في تعبير الرؤيا وهذا تخليط ما شئت والرؤيا قتل كل كلام لا يقطع بصحتها وقد تكون أضغاثا والحكم في الدين استباحة للدماء والفروج والأموال وإيجاب العبادات وإسقاط لكل ذلك ولا يجوز الحكم في شيء من ذلك برؤيا أحد دون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كانت هذه الرؤيا التي جعلها هذا المحتج أصلا لتصحيح القياس لا يجوز القطع بها في دين الله تعالى فالقياس الذي هو فرعها أبعد من ذلك على قضيته الفاسدة التي رضيها لنفسه وأيضا فإن كثيرا من الرؤيا يفسر فيها الشيء بضده فيحمد القيد والسواد ويذم العرس وليس هذا من القياس في ورود ولا صدر ولو كان ذلك في القياس لوجب إذا جاء النص بالأمر أن يفهم منه النهي أو بالنهي أن يفهم منه ضده وهذا عكس الحقائق وبالجملة فهذا شغب فاسد ضعيف لأن الحكم بالقياس عندهم إنما هو أن يحكم المسكوت عنه بحكم المنصوص عليه وهذا هو غير العمل في الرؤيا جملة ومن شبه دينه بالرؤيا وفيها الأضغاث وما تتحدث به النفس فقد كفى خصمه مؤنته وبالله تعالى التوفيق وذكروا أيضا قول الله تعالى {ولقد صرفنا للناس في هذا لقرآن من كل مثل فأبى أكثر لناس إلا كفورا} وقوله تعالى {وتلك لأمثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا لعالمون} قال أبو محمد صدق الله تعالى وكذب أصحاب القياس وما أنكر ضرب

الله تعالى الأمثال إلا كافر بل قد ضرب الله عز وجل الأمثال في إدبار الدنيا بالزرع وفي أعمال الكفار بسراب بقيعة وفي الظالمين بالأمم السالفين فهذا لا يعقله فيغبط به إلا العالمون ولعمري إن من صرف هذا الأمثال عما وضعها الله تعالى له إلى تحريم القديد بالقديد إلا مثل بمثل أو البتة وإلى أن على المرأة الموطوءة في نهار رمضان عتق رقبة وإلى أن الصداق لا يكون إلا عشرة دراهم أو ربع دينار وإلى أن من لاط حد حد الزنى لجريء على القول على الله تعالى بغير علم وليت شعري لو ادعى خصمهم عليهم واستحل ما يستحلونه فادعى في هذه الآيات أنها تقتضي ضد مذاهبهم فيما ذكرنا أكان بينه وبينهم فرق ونعوذ بالله من الخذلان وكما نقول إن الله تعالى ضرب لنا الأمثال وإن أمثاله المضروبة كلها حق لأنه تعالى قال ذلك فيها فكذلك نقول لا يحل لنا ضرب الأمثال لله تعالى لأنه قال تعالى {فلا تضربوا لله لأمثال إن لله يعلم وأنتم لا تعلمون} والقياس ضرب أمثال الله تعالى بيقين منا ومنهم فهو حرام وباطل لنهي الله تعالى عنا نصا وبالله تعالى التوفيق فهذا كل ما شغبوا به من القرآن ووضعهوه في غير مواضعه وقد أوردناه وبينا ذلك لكل ذي حس سليم أنه لا حجة لهم في شيء منه وأن أكثره مانع من القول في الدين بغير نص من الله تعالى واحتجوا من الحديث بما كتب به إلي يوسف بن عبد الله النمري حدثنا سعيد ابن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار المدائني عن الليث بن سعد عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن عبد الملك بن سعيد الأنصاري عن جابر بن عبد الله عن عمر بن

الخطاب قال هششت إلى المرأة فقبلتها وأنا صائم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أتيت أمرا عظيما قبلت وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت لو مضمضت بماء وأنت صائم قلت لا بأس قال ففيم قال أبو محمد لو لم يكن في إبطال القياس إلا هذا الحديث لكفى لأن عمر ظن أن القبلة تفطر الصائم قياسا على الجماع فأخبره صلى الله عليه وسلم أن الأشياء المماثلة والمتقاربة لا تستوي أحكامها وأن المضمضة لا تفطر ولو تجاوز الماء الحلق عمدا لأفطر وأن الجماع يفطر والقبلة لا تفطر وهذا هو إبطال القياس حقا ولا شبه بين القبلة والمضمضة فيمكنهم أن يقولوا إنه صلى الله عليه وسلم قاس القبلة على المضمضة لأنهم لا يرون القياس إلا بين شيئين مشتبهين وبضرورة العقل والحس نعلم أن القبلة من الجماع أقرب شيئا لأنهما من باب اللذة فهما أقرب شبها من القبلة إلى المضمضة ثم إن الحديث عائد للمالكيين لأنهم يستحبون المضمضة للصائم في الوضوء ويكرهون له القبلة فقد فرقوا بإقرارهم بين ما زعموا أنه عليه السلام سوى بينهما وفي هذا ما فيه فبطل شغبهم بهذا الحديث وعاد عليهم حجة والحمد لله رب العالمين واحتجوا بما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا إبرهيم بن نصر ثنا الفضل بن دكين ثنا طلحة بن عمر عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى

الله عليه وسلم قال إذا كنت إماما فقس الناس بأضعفهم قال أبو محمد طلحة بن عمرو ركن من أركان الكذب متروك الحديث قاله أحمد ويحيى وغيرهما وهذا حديث مشهور من طريق أبي هريرة وعثمان بن أبي العاص ليس في شيء منه هذه اللفظة البتة إلا من هذه الطريق الساقطة ولو صحت ما كانت لهم فيه حجة أصلا لأنه ليس هنا شيء مسكوت قيس بمنصوص عليه وإنما أمر صلى الله عليه وسلم الإمام أن يخفف الصلاة على قدر احتمال أضعف من خلفه وليس يخرج من هذا تحريم البلوط بالبلوط متفاضلا والنص قد جاء بإيجاب أن يخفف الإمام الصلاة رفقا بالناس كلهم فكيف وإنما جاء هذا الخبر بلفظين اقتد بأضعفهم واقدر الناس بأضعفهم كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا أحمد بن سليمان ثنا عفان بن مسلم ثنا حماد بن سلمة ثنا سعيد الجريري عن أبي العلاء عن مطرف بن الشخير عن عثمان بن أبي العاص قال قلت يا رسول الله اجعلني إمام قومي قال أنت إمامهم واقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب نا قتيبة نا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم السقيم والضعيف والكبير وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء وهكذا رواه أيضا

أبو سلمة عن أبي هريرة واحتجوا أيضا بما حدثناه عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر نا أبو داود نا قتيبة عن الليث عن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين قال أبو محمد وقد قلنا مرارا إننا لا ننكر نقل لفظ إلى معنى آخر إذا صح ذلك بنص آخر أو إجماع ولكن إذا كان عندهم هذا قياسا فإنه يلزمهم أنه متى سمعوا ذكر جحر في أي شيء ذكر أن يقيسوا عليه كل ما في العالم كما جاء النهي عن البول في الجحر فلم يقيسوا عليه غيره فإذا لم يفعلوا فلا شك أنه إنما انتقل إلى ههنا لفظ الجحر إلى كل ما عداه بالإجماع وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم للخثعمية وللمستفتية التي ماتت وعليها صوم وهو حديث مشهور رويناه من طرق ومن بعضها ما حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني أحمد بن عمر الوكيعي ثنا حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن سليمان الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها قال لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها قال نعم قال فدين الله أحق أن يقضى قال الأعمش فقال الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل جميعا ونحن جلوس حين حدث مسلم هذا الحديث فقال سمعنا مجاهدا يذكر هذا الحديث عن ابن عباس

ومنها ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب حدثنا خشيش بن أصرم النسائي عن عبد الرزاق أنا معمر عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رجل يا نبي الله إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه قال أرأيت لو كان على أبيك دين كنت قاضيه قال نعم قال فدين الله أحق أخبرني محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر غندر نا شعبة عن أبي بشر هو جعفر بن أبي وحشية قال سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أن امرأة نذرت أن تحج فماتت فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فاقضوا الله فهو أحق بالوفاء قال أبو محمد وهذا من أعجب ما احتجوا به وأشده فضيحة لأقوالهم وهتكا لمذاهبهم الفاسدة أما الشافعيون والحنفيون والمالكيون فينبغي لهم أن يستحوا من ذكر حديث الصوم الذي صدرنا به لأنهم عاصون له مخالفون لما فيه من قضاء الصيام عن الميت فكيف يسوغ لهم أو تواتيهم ألسنتهم بإيجاب القياس من هذا الحديث وليس فيه للقياس أثر البتة ويقدمون على خلافه فيقولون لا يصوم أحد عن أحد وأما المالكيون والحنفيون فإنهم زادوا إقداما فلا يقولون بقضاء ديون الله تعالى من الزكاة والنذور والكفارات من رأس مال أحد ويقولون ديون الناس أحق بالقضاء من ديون الله تعالى واقضوا الناس فهم أحق بالوفاء وإن ديون الناس من رأس المال وديون الله تعالى من الثلث إن أوصى بها وإلا فلا تؤدى البتة لا من الثلث ولا من غيره والله إن الجلود لتقشعر من أن

يكون الرسول صلى الله عليه وسلم يقول اقضوا الله فهو أحق بالوفاء ودين الله أحق أن يقضى فيقول هؤلاء المساكين بآرائهم المخذولة تقليدا لمن لم يعصم من الخطأ ولا أتته براءة من الله تعالى بالصواب من أبي حنيفة ومالك وأصحابهما دعوا كلام نبيكم صلى الله عليه وسلم ولا تلتفتوه وخذوا قولنا فاقضوا ديون الناس فدينهم أحق من دين الله تعالى قال أبو محمد ما نعلم في البدع أقبح من هذا ولا أشنع منه لأن أهل البدع لم يصححوا الأحاديث فهم أعذر في تركها وهؤلاء يقولون بزعمهم بخبر الواحد العدل وأنه حق لا يجوز خلافه وليس لهم في هذه الأسانيد مطعن البتة ثم يقدمون على المجاهرة بخلافها والذي لا يشك فيه أن من بلغته هذه الآثار وصحت عنده ثم استجاز خلاف ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إتباعا لقول أبي حنيفة ومالك فهو كافر مشرك حلال الدم والمال لاحق باليهود النصارى وأما من صحح مثل هذا الإسناد وحكم به في الدين ثم قال في هذه لا يصح فهو فاسق وقاح قليل الحياء بادي المجاهرة نعوذ بالله من كلتي الخطتين فهما خطتا خسف ثم تركهم كلهم أن يقيسوا الصوم عن الميت وإن أوصى به على الحج عنه إذا أوصى به وهم يدعون أنهم أصحاب قياس فهم أول من ترك القياس في الحديث الذي احتجوا به مع تركهم لحديث الصوم وقياسهم عليه

وهم لا يأخذون به ثم نقول وبالله تعالى التوفيق إنه ليس في هذا الحديث قياس أصلا ولا دلالة على القياس ولكنه نص من الله تعالى أخبر في آية المواريث فقال {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم لربع مما تركن من بعد وصية يوصين بهآ أو دين ولهن لربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن لثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بهآ أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو مرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما لسدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركآء في لثلث من بعد وصية يوصى بهآ أو دين غير مضآر وصية من لله ولله عليم حليم} فعم الله عز وجل الديون كلها وبضرورة العقل علمنا أن ما أوجبه الله علينا في أموالنا فإنه يقع عليه اسم دين بلا شك ثم بالنصوص علمنا وبضرورة العقل أن أمر الله أولى بالانقياد له وأحق بالتنفيذ وأوجب علينا من أمر الناس وكان السائل والسائلة للنبي صلى الله عليه وسلم مكتفين بهذا النص لو حضرهما ذكره فأعلمها للنبي صلى الله عليه وسلم بأن كل ذلك دين وزادهم علما بأن دين الله تعالى أحق بالقضاء من ديون الناس وهذا نص جلي فأين للقياس ههنا أثر أو طريق لو أن هؤلاء القوم أنصفوا أنفسهم ونظروا لها ولكن ما في المصائب أشنع من قول من قال إذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصام عن الميت ويحج عنه وأخبر أنه دين الله تعالى وهو أحق بالقضاء من سائر ديون الناس فترك ذلك واجب فلا يجوز أن يصام عن ميت ولا يستعمل هذا الحديث فيما جاء فيه لكن منه استدللنا على أن بيع العسل في قيره بعسل في قيره لا يجوز أو أن بيع رطل لحم تيس برطلي لحم أرنب لا يجوز أو أن رطل قطن برطلي قطن لا يجوز تبارك الله ما أقبح هذا وأشنعه لمن نظر بعين الحقيقة ونعوذ بالله من الخذلان واحتجوا بما روى الحديث المشهور أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إن امرأتي ولدت ولدا أسود وهو يعرض لنفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لك من إبل قال

نعم قال ما ألوانها قال حمر قال هل فيها من أورق قال إن فيها لورقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى ترى ذلك أناه أو كلاما هذا معناه فقال له الرجل لعل عرقا نزعه فقال صلى الله عليه وسلم لعل هذا عرقا نزعه قالوا وهذا قياس وتعليم للقياس قال أبو محمد وهذا من أقوى الحجج عليهم في إبطال القياس وذلك لأن الرجل جعل خلاف ولده في شبه اللون علة لنفيه عن نفسه فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم الشبه وأخبره أن الإبل الورق قد تلدها الإبل الحمر فأبطل صلى الله عليه وسلم أن تتساوى المتشابهات في الحكم ومن المحال الممتنع أن يكون من له مسكة عقل يقيس ولادات الناس على ولادات الإبل والقياس عندهم إنما هو رد فرع إلى أصله وتشبيه ما لم ينص بمنصوص وبالضرورة نعلم أنه ليس الإبل أولى الولادة من الناس ولا الناس أولى من الإبل وأن كلا النوعين في الإيلاء والإلقاح سواء فأين ههنا مجال للقياس وهل من قال إن توالد الناس مقيس على توالد الإبل إلا بمنزلة من قال إن صلاة المغرب إنما وجبت فرضا لأنها قيست على صلاة الظهر وإن الزكاة إنما وجبت قياسا على الصلاة وهذه حماقة لا تأتي بها عضاريط أصحاب القياس لا يرضون بها لأنفسهم فكيف أن يضاف هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي آتاه الله الحكمة والعلم دون معلم للناس وجعل كلامه على لسانه ما أخوفنا أن يكون هذا استخفافا بقدر النبوة وكذبا عليه صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نعجب من إقدام أصحاب القياس في نسبتهم إلى

عمر وعلي وعبد الرحمن رضي الله عنهم قياس حد الشارب على حد القاذف ونقول إن هذا استنقاص للصحابة إذ ينسب مثل هذا الكلام السخيف إليهم حتى أتونا بالثالثة الأثافي والتي لا شوى لها فنسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاس ولادة الناس على ولادة الإبل فأذكرنا هذا الفعل منهم قول بشر بن أبي حازم الأسدي غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعقبوا بالصيلم هذا مع أن بعضهم لا يأخذ بهذا الحديث فيما ورد فيه ويروى في التعريض الحد وهو يسمع فيه أن الأعرابي كان يعرض بنفي ولده فلم يزده النبي صلى الله عليه وسلم على أن أراد بطلان ظنه ووجوب الحكم بظاهر المولد والفراش ولم ير عليه حدا أفيكون أعجب ممن يترك الحديث فيما ورد فيه ويطلب فيه ما لا يجده أبدا ومن أن القاتل إذا عفي عنه ضرب مائة سوط ونفي سنة قياسا على الزاني إن هذا العجب ونسأل الله العصمة والتوفيق واحتجوا أيضا بقول النبي صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن الإبل تكون في الرسل كأنها الظباء فيدخل فيها البعير الأجرب فتجرب كلها فقال صلى الله عليه وسلم ومن أعدى الأول قال أبو محمد وهذا كما قبله وأطم وما فهم قط أحد أن هذا القياس وجها بل فيه إبطال القياس حقا لأنهم أرادوا أن يجعلوا الإبل إنما جربت

من قبل الأجرب الذي انتقل حكمه إليها فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الظن الفاسد وأخبر أن كل وارد من قبل الله عز وجل وأنه فعل ذلك بالإبل والنعم ولا فرق وذكروا ما حدثناه أحمد بن قاسم ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم ثنا جدي قاسم بن أصبغ ثنا إسماعيل هو ابن إسحاق ثنا علي هو ابن المديني ثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ثنا هشام هو ابن حسان عن الحسن عن عمران ابن الحصين قال أسرينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلما كان من آخر السحر عرسنا فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس فجعل الرجل يثب دهشا فزعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اركبوا فركب وركبنا فسار حتى ارتفعت الشمس ثم نزل فأمر بلال فأذن قضى حاجاتهم وتوضؤوا فصلينا ركعتين قبل الغداة ثم أقام فصلى بنا فقلنا يا رسول الله ألا نقضيها لوقتها من الغد فقال لا ينهاكم ربكم عن الربا ويقبله منكم قالوا فقاس صلى الله عليه وسلم حكم قضاء صلاتين مكان صلاة على الربا قال أبو محمد وهذا باطل من وجوه أحدها أنه قد تكلم في سماع الحسن بن عمران بن الحصين فقيل سمع منه وقيل لم يسمع منه وأيضا فإنه قد صح من طريق جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال جابر كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم دين فقضاني وزادني فهذا أشبه بالربا من صلاتين مكان صلاة إلا أن هذا حلال والربا حرام وأيضا فقد صح عن

النبي صلى الله عليه وسلم فيمن جامع عامدا في يوم رمضان أن يصوم مكانه ستين يوما أو ثمانية وخمسين يوما أو تسعة وخمسين يوما فلو كان القياس كما ذكروا لكان هذا عين الربا على أصلهم وأيضا فإن هذا الحديث لا يقول به المالكيون والشافعيون لأنهم لا يرون أن يؤذن للصلاة الفائتة ولا يصلي ركعتا الظهر قبل صلاة الصبح إذا فاتت ولا أقبح من قول من يحتج بخبر ثم هو أول مخالف لنصه وحكمه والقول الصحيح هو أن هذا الخبر حجة في إبطال القياس لأنهم رضي الله عنهم أرادوا أن يصلوا مكان صلاة صلاتين وقد نهاهم الله تعالى عن تعدي حدوده ومن تعدي الحدود أن يزيد أحد شرعا لم يأمر الله تعالى به والربا في لغة العرب الزيادة فصح بهذا الخبر نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى عن الزيادة على ما أمر به فقط وبيقين يدري كل ذي حس أن القول بالقياس زيادة في الشرع على ما أمر الله تعالى به فلما حرم الله تعالى الأصناف الستة متفاضلة في ذاتها زادوا هم ذلك في المأكولات أو المكيلات أو الموزونات أو المدخرات فزيادتهم هذه هي الربا حقا والله تعالى قد نهى عنه فهذا الخبر حجة لو صح في إبطال القياس وإلا فلا نسبة بين الصلاة والبيع وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن هذا الخبر نص جلي لا مدخل للقياس فيه أصلا ولا بينه وبين شيء من القياس نسبة لأنه اسم الربا يجمع الزيادة في الدين والزيادة في الصلاة بنص هذا الخبر فتحريم الربا مقتضى لتحريم الأمرين وكل ما جاء به النص فصحيح وكل ما أرادوا هم أن يريده مما ليس منصوصا عليه فهو باطل فظهر أن من احتج بهذا الخبر فموه بما ليس مما يريد في شيء بل هو حجة عليه والحمد لله رب العالمين

ثم لو صح لهم نصوصا من القرآن والسنن ووردت باسم القياس وحكمه وهذا لا يوجد أبدا لما كان لهم في شيء من ذلك حجة لأنه كان يكون الحكم حينئذ أن ما قاله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو الحق وإنما ما يقولونه هم مما لم يقله الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فهو الباطل الذي لا يحل القول به وفي هذا كفاية لمن عقل وقد أوجب الله تعالى وحرم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وفي كتابه ولم يحل لأحد أن يحرم ولا أن يوجب ولا أن يحل ما لم يحله الله تعالى ولا أوجبه ولا حرمه لأن الله تعالى حرم وأوجب وأحل وكل ذلك تعد لحدود الله تعالى وموهوا أيضا بأن قالوا لو كان العلم كله جلي لاستوى العالم والجاهل في البيان ولو كان العلم كله خفيا لاستوى العالم والجاهل في الجهل به فصح أن بعضه جلي وبعضه خفي فوجب أن يقاس الخفي على الجلي قال أبو محمد وهذا كلام في غاية الفساد لأنه إذا كان بعضه جليا وبعضه خفيا فالواجب على أصلهم هذا الفاسد أن يستوي العالم والجاهل في تبين الجلي منه وأن يستوي الجاهل والعالم في خفاء الخفي منه عليهما أيضا فبطل العلم على أصلهم الخبيث الظاهر الفساد وأما نحن فنقول إن العلم كله جلي بين نعني علم الديانة قال تعالى {ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا عليك لكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} وقال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين للناس ما نزل إليه والمبين بين والحمد لله رب العالمين لمن يعلم اللغة التي بها خوطبنا وإنما خفي ما خفي من علم الشريعة على من خفي عليه لإعراضه عنه وتركه النظر فيه وإقباله على وجود الباطل التي ليست طريقة إلى فهم الشريعة أو لنظره في ذلك بفهم

كليل إما لشغل بال أو مرض أو غفلة ولو لم يكن علم الدين جليا كله ما أمكن الجهل فهم شيء منه أبدا نعني مما يدعون أنه خفي فلما صح أن العالم ممكن له إقامة البرهان وإيضاح ما خفي على الجاهل حتى يفهمه ويتبين له صح أن العلم كله جلي بين نعني علم الديانة والحمد لله رب العالمين وموهوا أيضا بما روي من قول نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما حدثناه عن عبد الله بن ربيعة التميمي ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا سليمان بن الأشعري ثنا حفص بن عمر العوضي عن شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله عز وجل قال فإن لم تجد في كتاب الله عز وجل قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله قال اجتهد رأيي ولو آلو قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله قال أبو محمد وحدثنا أيضا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ثنا محمد بن بكر ثنا داود ثنا مسدد ثنا يحيى هو القطان عن شعبة بن أبي عون عن الحارث بن عمر عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ

بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فذكر معناه قال أبو محمد هذا حديث ساقط لم يروه أحد من غير هذا الطريق وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يسموا فلا حجة فيمن لا يعرف من هو وفيه الحارث بن عمر وهو مجهول لا يعرف من هو ولم يأت هذا الحديث قط من غير طريقه أخبرني أحمد بن عمر العذري ثنا أبو ذر الهروي ثنا زهر بن أحمد الفقيه زنجويه بن النيسابوري ثنا محمد بن إسماعيل البخاري هو جامع الصحيح قال فذكر سند هذا الحديث وقال رفعه في اجتهاد الرأي قال البخاري ولا يعرف الحارث إلا بهذا ولا يصح هذا كلام البخاري رحمه الله وأيضا فإن هذا الحديث ظاهر الكذب والوضع لأن من المحال البين أن يكون الله تعالى يقول {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} و {وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} و {ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا عليك لكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ينزل في الديانة ما لا يوجد في القرآن ومن المحال البين أن يقول الله تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يقع في الدين ما لم يبينه صلى الله عليه وسلم ثم من المحال الممتنع أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بالرأي فضلوا وأضلوا جاء هذا بالسند الصحيح الذي لا اعتراض فيه وقد ذكرنا في باب الكلام في الرأي ثم يطلق الحكم في الدين بالرأي فهذا كله كذب ظاهر لا شك فيه وقد كان في التابعين الراوين عن الصحابة رضي الله عنهم خبث كثير وكذب ظاهر كالحارث الأعور وغيره ممن شهد

عليه بالكذب فلا يجوز أن تؤخذ رواية عن مجهول لم يعرف من هو ولا ما حاله ولقد لجأ بعضهم إلى أن ادعى في هذا الحديث أنه منقول نقل الكافة قال أبو محمد ولا يعجز أحد عن أن يدعي في كل حديث مثل هذا ولو قيل له بل الحديث الذي جاء من طريق ابن المبارك إن أشد الفرق فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال ويحلون الحرام هو من نقل الكافة أكان يكون بينه وبين فرق ولكن من لم يستح قال ما شاء ولكن الذي لا شك فيه أنه من نقل الكواف كلها نقل تواتر يوجب العلم الضروري فقول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فهذا هو الذي لا شك في صحته وليس فيه الرد عند التنازع إلا إلى الله تعالى وهو القرآن وإلى الرسول وهو كلامه صلى الله عليه وسلم ولا أذكر القياس في ذلك فصح أن ما عدا القرآن والحديث لا يحل الرد إليه عند التنازع والقياس أصلا ليس قرآنا ولا حديثا فلا يحل الرد إليه أصلا وبالله تعالى التوفيق مع أن هذا الحديث الذي ذكرنا من طريق معاذ لا ذكر للقياس فيه البتة بوجه من الوجوه ولا بنص ولا بدليل وإنما فيه الرأي والرأي غير القياس لأن الرأي إنما هو الحكم بالأصلح والأحوط والأسلم في العاقبة والقياس هو الحكم بشيء لا نص فيه بمثل الحكم في شيء منصوص عليه وسواء كان أحوط أو لم يكن أصلح أو لم يكن كان أسلم أو أقتل استحسنه القاتل له أو استشنعه وهكذا القول في قوله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإذا اجتهد فأصاب فله أجران ليس فيه للقياس أثر لا بدليل

ولا بنص ولا للرأي أيضا لا يذكر ولا بدليل بوجه من الوجوه وإنما فيه إباحة الاجتهاد فقط والاجتهاد ليس قياسا ولا رأيا وإنما الاجتهاد إجهاد النفس واستفراغ الوسع في طلب حكم طلب النازلة في القول والسنة فمن طلب القرآن وتقرأ آياته وطلب في السنن وتقرأ الأحاديث في طلب ما نزل به فقد اجتهد فإن وجدها منصوصة فقد أصاب فله أجران أجر الطلب وأجر الإصابة وإن طلبها في القرآن والسنة فلم يفهم موضعا منهما ولا وقف عليه وفاتت إدراكه فقد اجتهد فأخطأ فله أجر ولا شك أنها هنالك إلا أنه قد يجدها من وفقه الله لها ولا يجدها من لم يوفقه الله تعالى لها كما فهم جابر وسعد وغيرهما آية الكلالة ولم يفهمها عمر وكما قال عثمان في الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية فأخبر أنه لم يقف على موضع حقيقة حكمهما ووقف غيره على ذلك بلا شك ومحال أن يغيب حكم الله تعالى عن جميع المسلمين وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بما حدثناه أحمد بن قاسم ثنا أبي قاسم بن محمد ثنا جدي قاسم ابن أصبغ نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا سعيد بن أبي مريم أنا سلمة بن علي حدثني الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال حض رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعلم العلم قبل ذهابه قال صفوان بن عسال وكيف وفينا كتاب الله ونعلمه أولادنا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك فيه ثم قال أليست التوراة والإنجيل في أيدي اليهود والنصارى فما أغنت عنهم حين تركوا ما فيهما قال أبو محمد هذا الحديث من أعظم الحجج عليهم في وجوب إبطال القياس لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن من ترك القرآن والعمل به فقد

ترك العلم أو سلك سبيل اليهود والنصارى وأصحاب القياس أهل هذه الصفة لأنهم تركوا القرآن والعمل به وأقبلوا على قياساتهم الفاسدة ونعوذ بالله من الخذلان ثم يقال لهم إنما تعلقتم بتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم فعل من حرم التوفيق من أمته في ذلك بفعل اليهود والنصارى إذ نبذوا كتابهم ونحن نقر بصحة هذا التشبيه وإنما ننكر أن يكون حكم من فعل ذلك من المسملين كحكم من أشبه فعله من اليهود والنصارى وأما أهل القياس فيلزمهم لزوما ضروريا إذ حكموا للمشتبهين بحكم واحد أن يحكموا فيمن ترك أحكام القرآن منا بما نحكم به في اليهود والنصارى من القتل والسبي للذراري والنساء وأخذ الجزية إن سالموا فإن تمادوا على قياسهم لحقوا بالصفرية الأزارقة وعاد هذا من الحكم عليهم في تركهم لأحكام القرآن والعمل بالقياس وإن جحدوا عن ذلك تناقضوا وتركوا القياس وبالله تعالى التوفيق فهذا كل ما موهوا به من إيراد الحديث الذي قد أوضحنا بحول الله تعالى وقوته أنه كله حجة عليهم وموجب لإبطال القياس وكل من له أدنى حس يرى أن إيرادهم ما أوردوا لا طريق للقياس فيه ولأنهم يوهمون الضعفاء أننا ننكر تشابه الأسماء ونحن ولله الحمد أعلم بتشابه الأسماء منهم وأشد إقرارا به منهم وإنما ننكر أن نحكم في الدين للمتشابهين في بعض الصفات بحكم واحد من إيجاب أو تحريم أو تحليل بغير إذن من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا أنكرنا وفي هذا خالفنا لا في تشابه الأشياء فلو تركوا التمويه الضعيف لكان أولى بهم وادعى بعضهم دون مراقبة إجماع الصحابة رضي الله عنهم على القول بالقياس وهذه مجاهرة لا يعدلها في القبح شيء أصلا وباليقين نعلم أن

ما روي قط عن أحد من الصحابة القول بأن القياس حق بوجه من الوجوه لا من طريق تصح ولا من طريق ضعيفة إلا حديثا واحدا نذكره إن شاء الله تعالى بعد فراغنا من ذكر تمويههم بدلائل الإجماع وهو لا يصح البتة ولو أن معارضا يعارضهم فقال قد صح إجماع الصحابة على إبطال القياس أكان يكون بينه وبينهم فرق في أنها دعوى ودعوى بل إن قائل هذا من إجماعهم على إبطال القياس يصح قوله ببرهان نذكره إن شاء الله تعالى وهو أنه قد صح بلا شك عند كل أحد من ولد آدم يدري الإسلام والمسلمين من مؤمن أو كافر أن جميع الصحابة مجمعون على إيجاب ما قال الله تعالى في القرآن مما لم يصح نسخه وعلى إيجاب ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنه لا يحل لأحد أن يحرم ولا يحلل ولا أن يوجب حكما لم يأت به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في الديانة وعلى أن رسول الله لم يلبس على أمته أمر دينها وأنه صلى الله عليه وسلم قد بينه كله للناس وهذا كله مجمع عليه من جميع الصحابة أولهم عن آخرهم بلا شك ولولا ذلك ما كانوا مسلمين فإن هذا مجمع عليه بلا شك فهذه المقدمات مبطلة للقياس لأنه عند القائلين به حوادث في الدين لم ينزل الله تعالى فيها حكما في القرآن بينا ولا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حكمها بنصه عليها وهذا ما لا يشك مسلم أن الصحابة لو سمعوا قائلا يقول بهذا لبرئوا منه وأيضا فالصحابة عشرات ألوف روى الحديث منهم ألف وثلاثمائة ونيف مذكورون بأسمائهم وروى الفقه والفتيا منهم عن نحو مائة ونيف وأربعين مسمين بأسمائهم حاشا الجمل المنقول عن أكثرهم أو جميعهم

كإقامة الصلاة وأداء الزكاة والسجود فيما سجد بهم إمامهم فيه من سجود القرآن والاشتراك في الهدى والصلاة الفريضة خلف التطوع ومثل هذا كثير وإنما أوردنا بنقل الفتيا من ذكر عنه باسمه أنه أجاز أمر كذا أو نهى عن أمر كذا أو أوجب كذا أو عمل كذا فما منهم أحد روي عنه إباحة القياس ولا أمر به البتة بوجه من الوجوه حاشا الحديث الواحد الذي ذكرنا آنفا وسنذكره إن شاء الله تعالى بإسناده ونبين وهيه وسقوطه وروي أيضا نحو عشر قضايا فيها العمل بما يظن أنه قياس فإذا حقق لم يصح أنه قياس منها صحيح السند ومنها ساقط السند ويروى عنهم أكثر من ذلك وأصح في إبطال القياس نصا وأما القول بالعمل التي يقول بها حذاق القياسيين عند أنفسهم ولا يرون القياس جائزا إلا عليها فباليقين ضرورة تعلم أنه لم يقل قط بها أحد من الصحابة بوجه من الوجوه ولا أحد من التابعين ولا أحد تابعي التابعين وإنما هو أمر حدث في أصحاب الشافعي واتبعهم عليه أصحاب أبي حنيفة ثم تلاهم فيه أصحاب مالك وهذا أمر متيقن عندهم وعندنا وما جاء قط في شيء من الروايات عن أحد من كل من ذكرنا أصلا لا في رواية ضعيفة ولا سقيمة أن أحدا من تلك الأعصار علل حكما بعلة مستخرجة يجعلها علامة للحكم ثم يقيس عليها ما وجد تلك العلة فيه مما لم يأت في حكمه نص وإذا لا يجوز القياس عند جمهور أصحاب القياس إلا على علة جامعة بين الأمرين هي سبب الحكم وعلامته وإلا فالقياس باطل ثم أيقنوا هم ونحن على أن ليس أحد من الصحابة ولا من تابعيهم ولا من تابعي تابعيهم نطق بهذا اللفظ ولا نبه على هذا المعنى ولا دل

عليه ولا علمه ولا عرفه ولو عرفوه ما كتموه فقد صح إجماعهم على إبطال القياس بلا شك وقد اضطر هذا الأمر وهذا البرهان طائفة من أصحاب القياس إلى الفرار من ذكر العلل وتعليل الأحكام جملة وعن لفظ القياس ولجؤوا إلى التشبيه والتمثيل والتنظير وهو المعنى الذي فروا منه بعينه لأنه لا بد لهم من التعريف بالشبه بين الأمرين الموجب تسوية حكم ما لم ينص عليه مع ما نص عليه منهما فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار وكمحلل الخمر باسم النبيذ وأكثر ما هي هذه الطائفة فمن أصحاب مالك وأحمد ومن لم يقلد أحدا من علماء أصحاب الحديث ومنهم نبذ من أصحاب مالك ويسير من أصحاب أبي حنيفة فكيف يستحل من له علم وورع وفرار عن الكذب أن يدعي الإجماع فيما هذه صفته وفي أمر قد روي عن أصحابه أزيد من عشرين ألف قضية ليس فيها ما يدل على القياس إلا قضية واحدة لا تصح ونحو عشر قضايا يظن أنها قياس وليست عند التحقيق قياسا وهم مجمعون معنا على أنه لم يحفظ قط عن أحد من الصحابة قياس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإذ ذلك كذلك فنحن نبرأ إلى الله تعالى من كل دين حدث بعده صلى الله عليه وسلم ولو كان القياس حقا لما أغفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانه العمل به ثم من الباطل المتيقن أن يكون القياس مباحا في الدين ثم لا يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي شيء نقيس ولا على ما نقيس ولا أين نقيس ولا كيف نقيس فصح أن القياس باطل لا شك فيه وأما القول والرأي والاستحسان والاختيار فكثير عنهم رضي الله عنهم جدا ولكنه لا سبيل إلى أن يوجد لأحد منهم أن جعل رأيه دينا أوجبه حكما وإنما قالوا إخبارا منهم بأن هذا الذي يسبق إلى قلوبهم وهكذا

يظنون على سبيل الصلح بين المختصمين ونحو هذا مع أن أصحاب القياس قد كفونا ولله الحمد التعلق بهذا الباب لأنهم نعني حذاقهم ومتكلميهم مبطلون للرأي والاستحسان إلا أن يكون قياسا على علة جامعة وقد أصفق على هذا أكابر المتأخرين من الحنفيين المالكيين وسلكوا في ذلك مسلك الشافعيين وتركوا طرائق أسلافهم في الاعتماد على الرأي والاستحسان وقياس التمثيل المطلوب والتشبيه ولو لم يفعلوا لكان أمرهم أهون مما يظن لأنه لم يبق إلا بالرأي وحده مجردا والاستحسان المطلق فليس رأي زيد أولى من رأي عمرو ولا استحسان زيد أولى من استحسان رأي عمرو فحصل الدين وأعوذ بالله لو كان ذلك هملا غير حقيقة وحراما حلالا معا وحقا باطلا معا وتخليطا فاسدا وهذا أبين من أن يغلط فيه من له حس وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بإجماع الأمة على تقديم أبي بكر إلى الخلافة وأن ذلك قياس على تقديم النبي صلى الله عليه وسلم له إلى الصلاة وأن عمر قال للأنصار ارضوا لإمامتكم من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاتكم وهي عظم دينكم قال أبو محمد وهذا من الباطل الذي لا يحل ولو لم يكن في تقديم أبي بكر حجة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف عليا على المدينة في غزوة تبوك وهي آخر غزواته عليه السلام فقياس الاستخلاف على الاستخلاف اللذين يدخل فيهما الصلاة والأحكام أولى من قياس الاستخلاف على الصلاة وحدها

فإن قالوا إن استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر هو آخر فعله قيل لهم وبالله تعالى التوفيق إن عليا لم ينحط فضله بعد أن استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في غزوة تبوك بل زاد خيرا بلا شك فلم يكن استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الصلاة لأجل نقيصة حدثت في علي لم تكن فيه إذا استخلفه على تبوك كما لم يكن استخلافه عليه السلام عليا على المدينة في عام تبوك لأنه كان أفضل من أبي بكر فليس استخلاف أبي بكر على الصلاة حاطا لعلي وإنما العلماء في خلافة أبي بكر على قولين أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه وولاه خلافته على الأمة وأقامه بعد موته مقامه صلى الله عليه وسلم في النظر عليه ولها وجعله أميرا على جميع المؤمنين بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وهذا هو قولنا الذي ندين الله تعالى به ونلقاه إن شاء الله تعالى عليه مقرونا منا بشهادة التوحيد وحجتنا الواضحة في ذلك إجماع الأمة حينئذ جميعا على أن سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كانوا أرادوا ذلك أنه خليفة على الصلاة لكان أبو بكر مستحقا لهذا الاسم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والأمة كلها مجمعة على أنه لم يستحق أبو بكر هذا الاسم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه إنما استحقه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إذ ولي خلافته على الحقيقة وأيضا فلو كان المراد بتسميتهم إياه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة لا على الأمة لما كان بهذا الاسم في ذلك الوقت أولى من أبي زهم وابن أم مكتوم وعلي فكل هؤلاء فقد استخلفه النبي صلى

الله عليه وسلم على المدينة ولا من عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس وقد استخلفه صلى الله عليه وسلم على مكة ولا من عثمان بن أبي العاص الثقفي فقد استخلفه صلى الله عليه وسلم على الطائف ولا من خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس فقد استخلفه صلى الله عليه وسلم على صنعاء فلما اتفقت الأمة كلها على أنه لا يسمى أحد ممن ذكرنا خليفة رسول الله لا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعد موته يسمى بذلك علي إذ ولي الخلافة علمنا ضرورة أنه سمي أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه استخلفه على الخلافة التامة بعد موته في ولاية جميع أمور الأمة وهذا بين وبالله تعالى التوفيق ومعنى خليفة فعيلة من مخلوف وهذا الهاء للمبالغة كقولك عقير وعقيرة منقول عن معقورة فهذا قول والقول الثاني أنه إنما قدمه المسلمون لأنه كان أفضلهم وحكم الإمامة أن يكون في الأفضل واحتجوا بامتناع الأنصار في أول الأمر وبقول عمر إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني وإن لا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه بل بعضه عائد عليهم لأن الأنصار

لم يكونوا ليتركوا رأيهم وهم أهل الدار والمنعة السابقة الذين لم يبالوا بمخالفة أهل المشرق والمغرب وحاربوا جميع العرب حتى أدخلوهم في الإسلام طوعا وكرها إلا لنص من النبي صلى الله عليه وسلم لا لرأي أضافهم النزاع إليهم من المهاجرين وأما قول عمر فظن منه وقد قال رضي الله عنه إذ بشره ابن عباس عند موته بالجنة والله إن علمك بذلك يا ابن عباس لقليل فخفي عليه شهادة النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة مع ما في القرآن من ذلك لأهل الحديبية وهم منهم فهكذا خفي عليه نص النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر وهذا من عمر مضاف إلى ما قلنا آنفا ومضاف إلى قول يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم والله ما مات رسول الله وإلى قوله يوم أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب في مرضه الذي مات فيه كما حدثنا حمام بن أحمد ثنا عبد الله بن إبراهيم ثنا أبو زيد المروزي ثنا محمد بن يوسف ثنا البخاري ثنا يحيى بن سليمان الجعفي ثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قال ائتوني بكتاب اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي فقال عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وكثر اللغط فقال قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع فخرج ابن عباس يقول إن الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه وحدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن منصور عن سفيان الثوري سمعت سليمان هو الأحول عن سعيد

بن جبير عن ابن عباس فذكر الحديث وفيه إن قوما قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم ما شأنه هجر قال أبو محمد هذه زلة العالم التي حذر منها الناس قديما وقد كان في سابق علم الله تعالى أن يكون بيننا الاختلاف وتضل طائفة وتهتدي بهدى الله أخرى فلذلك نطق عمر ومن وافقه بما نطقوا به مما كان سببا إلى حرمان الخير بالكتاب الذي لو كتبه لم يضل بعده ولم يزل أمر هذا الحديث مهما لنا وشجى في نفوسنا وغصة نألم لها وكنا على يقين من أن الله تعالى لا يدع الكتاب الذي أراد نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكتبه فلن يضل بعده دون بيان ليحيا من حي عن بينة إلى أن من الله تعالى بأن أوجدناه فانجلت الكربة والله المحمود وهو ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا عبيد الله بن سعيد ثنا يزيد بن هارون ثنا إبراهيم بن سعد ثنا صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر قال أبو محمد هكذا في كتابي عن عبد الله بن يوسف وفي أم أخرى ويأبى الله والمؤمنون

وهكذا حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام الطرسوسي ثنا يزيد بن هارون ثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وفيه إن ذلك كان في اليوم الذي بدىء فيه عليه السلام بوجعه الذي مات فيه بأبي هو وأمي قال أبو محمد فعلمنا أن الكتاب المراد يوم الخميس قبل موته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام كما روينا عن ابن عباس يوم قال عمر ما ذكرنا إنما كان في معنى الكتاب الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يكتبه في أول مرضه قبل يوم الخميس المذكور بسبع ليال لأنه صلى الله عليه وسلم ابتدأه وجعه يوم الخميس في بيت ميمونة أم المؤمنين وأراد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وكانت مدة علته صلى الله عليه وسلم اثني عشر يوما فصح أن ذلك الكتاب كان في استخلاف أبي بكر لئلا يقع ضلال في الأمة بعده صلى الله عليه وسلم فإن ذكر ذاكر معنى ما روي عن عائشة إذ سئلت من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف فإنما معناه لو كتب الكتاب في ذلك قال أبو محمد فهذا قول ثان وقالت الزيدية إنما استخلف أبو بكر استيلانا للناس كلهم لأنه كان هنالك قوم ينافرون عليا فرأى علي أن قطع الشغب أن يسلم الأمر إلى أبي بكر وإن كان دونه في الفضل قال أبو محمد وأما أن يقول أحد من الأمة إن أبا بكر إنما قدم قياسا على تقديمه إلى الصلاة فيأبى الله ذلك وما قاله أحد قط يومئذ وإنما تشبث بهذا القول الساقط المتأخرون من أصحاب القياس الذين لا يبالون بما نصروا به أقوالهم مع أنه أيضا في القياس فاسد لو كان القياس حقا لما بينا قبل

ولأن الخلافة ليست علتها علة الصلاة لأن الصلاة جائز أن يليها العربي والمولى والعبد والذي لا يحسن سياسة الجيوش والأموال والأحكام والسير الفاضلة وأما الخلافة فلا يجوز أن يتولاها إلا قرشي صليبة عالم بالسياسة ووجوهها وإن لم يكن محكما للقراءة وإنما الصلاة تبع للإمامة وليست الإمامة تبعا للصلاة فكيف يجوز عند أحد من أصحاب القياس أن تقاس الإمامة التي هي أصل على الصلاة التي هي فرع من فروع الإمامة هذا ما لا يجوز عند أحد من القائلين بالقياس وقد كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم أكابر المهاجرين وفيهم عمرو وغيره أيام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ممن تجوز له الخلافة فكان أحقهم بالصلاة لأنه كان أقرأهم وقد كان أبو ذر وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وابن مسعود أولى الناس بالصلاة إذا حضرت إذا لم يكونوا بحضرة أمير أو صاحب منزل لفضل أبي ذر وزهده وورعه وسابقته وفضل سائر من ذكرنا وقراءتهم ولم يكونوا من أهل الخلافة ولا كان أبو ذر من أهل الخلافة ولا كان أبو ذر من أهل الولايات ولا من أهل الاضطلاع بها وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر إني أحب لك ما أحب لنفسي وإنك ضعيف فلا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأسامة بن زيد على من هو أفضل منهم وأقرأ وأقدم هجرة وأفقه وأسن وهذه هي شروط الاستحقاق للإمامة في الصلاة وليست هذه شروط الإمارة وإنما شروط الإمارة حسن السياسة ونجدة النفس والرفق في غير مهانة والشدة في غير عنف والعدل والجود بغير إسراف وتمييز صفات الناس في أخلاقهم وسعة الصدر مع

البراءة من المعاصي والمعرفة بما يخصه في نفسه في دينه وإن لم يكن صاحب عبارة ولا واسع العلم ولو حضر عمرو وخالد وأسامة مع أبي ذر وهم غير أمراء ما ساغ لهم أن يؤموا تلك الجماعة ولا أن يتقدموا أبا ذر ولا أبي بن كعب ولو حضروا في مواضع يحتاج فيها إلى السياسة في السلم والحرب لكان عمرو وخالد وأسامة أحق بذلك من أبي ذر وأبي ولما كان لأبي ذر وأبي من ذلك حق مع عمرو وخالد وأسامة وبرهان ذلك استعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا وأسامة وعمرا دون أبي ذر وأبي وأبو ذر وأبي أفضل من عمرو وأسامة وخالد بدرج عظيمة جدا وقد حضر الصحابة يوم غزوة مؤتة فقتل الأمراء وأشرف المسلمون على الهلكة فما قام منهم أحد مقام خالد بن الوليد كلهم إلا الأقل أقدم إسلاما وهجرة ونصرا وهو حديث الإسلام يومئذ فما ثبت أحد ثباته وأخذ الراية ودبر الأمر حتى انحاز بالناس أجمل انحياز فليست الإمامة والخلافة من باب الصلاة في ورد ولا صدر فبطل تمويههم بأن خلافة أبي بكر كانت قياسا على الصلاة أصلا فإن قالوا لو كانت خلافة أبي بكر منصوصا عليه من النبي صلى الله عليه وسلم ما اختلفوا فيها قال أبو محمد فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق هذا تمويه ضعيف لا يجوز إلا على جاهل بما اختلف فيه الناس وهل اختلف الناس إلا في المنصوصات والله العظيم قسما برا ما اختلف اثنان قط فصاعدا في شيء من الدين إلا في منصوص بين في القرآن والسنة فمن قائل ليس عليه العمل ومن قائل هذا تلقى بخلاف ظاهره ومن قائل هذا خصوص ومن قائل هذا منسوخ ومن قائل هذا تأويل وكل هذا منهم بلا دليل في أكثر دعواهم

كاختلافهم في وجوب الوصية لمن لا يرث من الأقارب والإشهاد في البيع وإيجاب الكتابة وقسمة الخمس وقسمة الصدقات وممن تؤخذ الجزية والقراءات في الصلوات والتكبير فيها والاعتدال والنيات في الأعمال والصوم ومقدار الزكاة وما يؤخذ فيها المتعة في الحج والقرآن والفسخ وسائر ما اختلف الناس فيه وكل ذلك منصوص في القرآن والصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى هذا وعلى النسيان للنص كان اختلاف من اختلف في خلافة أبي بكر وأما الأنصار فإنهم لما ذكروا وكان قبل ذلك قد نسوا حتى قال قائلهم منا أمير ومنكم أمير ودعا بعضهم إلى المداولة وبرهان ما قلنا أن عبادة بن الصامت الأنصاري روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأنصار بايعوه على ألا ينازعوا الأمر أهله وأنس بن مالك الأنصاري روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأئمة من قريش فبهذا ونحوه رجعت الأنصار عن رأيهم ولا ذلك ما رجعوا إلى رأي غيرهم ومعاذ الله أن يكون رأي المهاجرين أولى من رأي الأنصار بل النظر والتدبير بينهم سواء وكلهم فاضل سابق وقد قال عمر يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم والله ما مات رسول الله وهو يحفظ قول الله عز وجل {إنك ميت وإنهم ميتون} فلما ذكر بها خر مغشيا عليه وهكذا عرض للأنصار وقد روينا ذلك نصا كما حدثنا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري فذكر حديث وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فقال رجال أدركناهم فذكر باقي الحديث وفيه أن أبا بكر قال وقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد إن الأئمة من قريش والناس برهم تبع

لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم قال صدقت أو قال نعم قال أبو محمد ومن أعاجيب أهل القياس أنهم في هذا المكان يحتجون بأن إمامة أبي بكر كانت قياسا لا نصا ثم نسوا أنفسهم أو تناسوا عمدا فإذا أرادوا إثبات التقليد للمصاحب قالوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر قال أبو محمد وهذا اعجب ما شئت منه فإن كان هذا الحديث صحيحا فقد صح النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلافة أبي بكر بعده ثم على خلافة عمر بعد أبي بكر وبطل قولهم إن بيعة أبي بكر كانت قياسا على صلاته بالناس وإن كان هذا الحديث لا يصح فلم احتجوا به في تقليد الإمام من الصحابة أفيكون أقبح من هذه المناقضات بما يبطل بعضه بعضا ولكن إنما شأن القوم نصر المسألة التي يتكلمون فيها بما أمكن من حق أو باطل أو ضحكة أو بما يهدم عليهم سائر مذاهبهم ليوهموا من بحضرتهم من المغرورين بهم أنهم غالبون فقط فإذا تركوها وأخذوا في غيرها لم يبالوا أن ينصروها أيضا بما يبطل قولهم في المسألة التي تركوا وهكذا أبدا ونعوذ بالله من الخذلان واحتجوا بأن أبا بكر قاتل أهل الردة مع جميع الصحابة قياسا على منع الصلاة واحتجوا في ذلك بما روي من قوله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة حتى إن بعض أصحاب القياس قال على هذا عول أبو بكر لا على الآية التي في براءة قال أبو محمد وهذا من الجرأة واستحلال الكذب ونسب الضلال إلى أبي بكر بحيث لا مرمى وراءه ومن نسب هذا إلى أبي بكر فقد نسب إليه

الضلالة وقد أعاذه الله من ذلك وبيان كذبهم في هذا الاعتراض أوضح من كل واضح لأن أبا بكر لم يقل لأقاتلنهم لأنهم فرقوا بين الصلاة والزكاة وإنما قال لأقاتلن المفرقين بين الصلاة والزكاة وإنما فعل ذلك بلا شك وقوفا عند إلزام الله تعالى لنا وللمسلمين قديما وحديثا إذ يقول تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} فلم يبح الله تعالى لنا ترك سبيلهم إلا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فهذا الذي حمل أبا بكر على قتالهم لا ما يدعونه من الكذب المفضوح من القياس الذي لا طريق له ههنا وصدق أبو بكر في إيجابه قتال من فرق بين الصلاة والزكاة لأن نص الله تعالى عليهما سواء وليست إحداهما أصلا والأخرى فرعا فيجب قياس الفرع على الأصل وهذا تخليط ما شئت منه ولو اتعظوا بهذا القول من أبي بكر فلم يفرقوا ما ساوى النص بينه لكان أولى بهم لكنهم لم يفعلوا بل قالت طائفة منهم الزكاة تجزىء إلا بنية والصلاة تلزم العبد والزكاة لا تلزمه وإن كان ذا مال وأما في سائر النصوص فلا يبالون أن يقولوا في بعض النص هذا مخصوص وفي بعضه هذا عموم وفي بعضه هذا واجب وفي بعضه هذا ندب ومثل هذا لهم كثير وقد عارض الصحابة أبا بكر بقول النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله قال أبو محمد ونسبوا رضي الله عنهم الآية التي ذكرنا آنفا في براءة وكلهم قد سمعها لأنها في سورة براءة التي قرئت على الناس كلهم في الموسم في حجة أبي بكر سنة تسع

وفي الجملة أيضا أبو هريرة وابن عمر وكلاهما قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بقتال الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة كما حدثنا ابن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو غسان مالك بن عبد الواحد المسمعي ثنا عبد الملك بن الصباح عن شعبة عن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله قال مسلم وحدثنا أمية بن بسطام ثنا يزيد بن زريع نا روح عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله قال أبو محمد فلولا هذه النصوص من القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الصحابة الحديث الذي تعلقوا به ولكن ليس كل أحد يحضره في كل حين ذكر كل ما عنده واحتجوا بإجماع الأمة على استخلاف إمام إذا مات إمام ولا نص على المستخلف قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن النص قد صح بطاعة أولي الأمر منا وجاءت الآثار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب

الطاعة للأئمة ولزوم البيعة وهذا ما يوجب استخلاف إمام إذا مات الإمام فهو نص صحيح على وجوب الاستخلاف لمن يوثق بدينه ويقوم بأمور المسلمين من قريش نصوصا بينة على وجوب العدل على الإمام والرفق بالرعية والنصح لهم فصفات الإمام منصوصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينة واضحة فمن كانت فيه تلك الصفات فقد نص على تقديمه وإفراده بالأمر ما عدل كالأمر بالعتق ولا حاجة بنا إلى تسمية المعتق وإيجاب الأضحية والنسك ولا حاجة بنا إلى صفة لونها وهكذا جمع الشريعة وليت شعري أي مدخل للقياس في هذا إن هذا الأمر كان ينبغي لكل ذي عقل أن يستحي من الاحتجاج بمثله واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نبي بعدي قالوا لنا فقولوا إنه يكون بعده رسول لأنه أخبر بأنه لا يكون بعده نبي ولم يقل لا رسول بعدي قال أبو محمد وهذا جهل مظلم ممكن أتى بهذا لأن هذا من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا فلو قال عليه السلام لا رسول بعدي لأمكن أن يقول بعده نبي لكن إذ قال لا نبي بعدي فقد صح أنه لا رسول بعده لأن كل رسول فهو نبي بلا شك ولا سبيل إلى وجود رسول ليس نبيا فبطل هذا التمويه الضعيف على أن هذا كله لو صح لهم كما ادعوه ومعاذ الله من ذلك لما كان من شيء منه دليل على قياس التين على البر ولا على وجوب القياس في الشرائع فكيف وكل ما أوتوا به عليهم هو لا لهم والحمد لله رب العالمين وقد حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس الأودي عن المختار بن فلفل عن أنس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إن النبوة والرسالة قد انقطعت

فجزع الناس فقال قد بقيت مبشرات وهن جزء من النبوة قال أبو محمد واحتجوا بأن الحائض إنما أمرت بالتيمم إذ عدمت الماء في السفر قياسا على الجنب قال أبو محمد هذا تمويه ضعيف ومعاذ الله أن نأمر الحائض بذلك قياسا بل بالنص وهو قوله تعالى إذ أمر باعتزال الحيض حتى يطهرن {ويسألونك عن لمحيض قل هو أذى فعتزلوا لنسآء في لمحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم لله إن لله يحب لتوابين ويحب لمتطهرين} فأمرهن الله تعالى بالطهور جملة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فالتراب طهور والماء طهور بالنص وفسر الإجماع أن التراب لا يستعمل ما دام يوجد الماء لغير المريض أو من أوجبه له النص فدخلت الحائض في هذا النص ولقد كان ينبغي لمن فرق بين الحائض والجنب فيما أباح لها من قراءة القرآن ومنعه الجنب من ذلك أن يعلم أنه ترك القياس واحتجوا أيضا بإيجاب الزكاة في الجواميس وأنه إنما وجب ذلك قياسا على البقر قال أبو محمد وهذا شغب فاسد لأن الجواميس نوع من أنواع البقر وقد جاء النص بإيجاب الزكاة في البقر والزكاة في الجواميس لأنها بقر واسم البقر يقع عليها ولولا ذلك ما وجدت فيها زكاة وكذلك البخت والمهاري والفوالج هي أنواع من الإبل وكذا الضأن والماعز يقع عليها اسم

الغنم وقد قال بعض الناس البخت ضأن الإبل والجواميس ضأن البقر وقد رأينا الحمر المريسية وحمر الفجالين وحمر الأعراب المصامدة نوعا واحدا وبينها من الاختلاف أكثر مما بين الجواميس وسائر البقر وكذلك جميع الأنواع واحتجوا بأن الناس قاسوا على ذي الحليفة وأنهم قاسوا ذات عرق على قرن قال أبو محمد وهذا كذب وباطل لأن الحديث في توقيت ذات عرق لأهل العراق مشهور ثابت مسند لا يجهله من له بصر بالحديث حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم القاضي ومحمد بن معاوية قال ابن إسحاق ثنا أبو سعيد الأعرابي ثنا سليمان بن الأشعث ثنا هشام بن بهرام وقال ابن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن عبد الله عمار ثنا أبو هاشم محمد بن علي قال بهرام ثنا المعافى بن عمران وقال أبو هاشم عن المعافى بن عمران ثم اتفقا عن أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق قال أبو محمد هشام بن بهرام ثقة والمعافى ثقة جليل وأفلح بن حميد كذلك

وأما قياسهم على ذي الحليفة فهذيان لا يدرى ما هو ولا ماذا قيس عليه والمواقيت مختلفة فمنها ذو الحليفة على عشر ليال ومنها الجحفة على ثلاث ليال ومنها قرن على أكثر من ليلة ومنها يلملم على ليلة فعلى أي هذا يقاس إن هذا الأمر لا يفهمه إلا ذو لب واحتجوا بما روي من قول ابن عمر فعدل الناس بصاع من شعير مدين من بر قال أبو محمد وهذا من طرائف ما احتجوا به لأن المحتج بهذا إن كان مالكيا أو شافعيا فهو مخالف لهذا الإجماع عنده ومن أقر على نفسه بأنه مخالف للإجماع فأقل ما عليه اعترافه بأنه مخالف للحق ثابت على الباطل غير تائب عنه وهذا فسق مجرد ومن أعجب العجب احتجاج المرء بما لا يراه حجة ولكن هذا غير بديع منهم فهذا أبو حنيفة يحتج أن الخيار لا يكون إلا ثلاثة أيام لا أكثر بحديث المصراة فإذا قيل له فهذا الذي تحتج به أتأخذ به قال لا وهذا مالك احتج في تضمين القائد والسائق ما تجنيه الدابة المسوقة والمقودة بأن عمر غرم بني سعد بن ليث نصف دية رجل من جهينة أصاب أصبعه رجل من بني سعد بن ليث كان يجري فرسه فمات الجهني فإذا سئل أتبدي المدعى عليهم في هذا المكان كما فعل عمر قال لا يجوز ذلك وإذا قيل له أتغرم المدعى عليهم بغير أن يحلف المدعون كما فعل عمر في هذا المكان قال لا يجوز ذلك وإذا قيل له أتقتصر في هذا المكان على نصف

الدية كما فعل عمر قال يجوز ذلك وإذا قيل له أتجعل ما جنى الذي يجري فرسه على عاقلته في هذا المكان كما فعل عمر قال لا يجوز ذلك ثم يجعل هذا الحديث نفسه حجة في تضمين القائد والسائق قياسا على الراكب وهذا عجب عجيب ثم تلاه في ذلك ابن الجهم فاحتج أنه لا يجزئه من ذبح الهدي أو الأضحية ليلا بالنهي عن حصاد الليل وجذاذه فإذا قيل له أتمنع من حصاد الليل وجذاذه قال لا فهو يخالف ما أقر أنه حجة فيما ورد فيه ويحتج به فيما ليس منه في ورد ولا صدر ثم تلاه في ذلك ابن أبي زيد فاحتج في مخالفته نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على القبر بصلاته صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة السوداء رضي الله عنها فإذا سئل أتأخذ بصلاته صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة السوداء قال لا قال أبو محمد وهذا كثير منهم جدا كاحتجاج المالكيين في شق زقاق الخمر وكسر أوانيها بالحديث الوارد في إحراق رجل الغال فإذا قيل لهم

أتحرقون رجل الغال قالوا لا وقد رأيت لرجل منهم يدعى الأبهر ويكنى بأبي جعفر احتجاجا أن الصداق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم بحديث رواه إن الصداق لا يكون أقل من عشرة دراهم ومثل هذا من نوادرهم كثير وحسبنا الله ونعم الوكيل ثم نرجع إلى ما احتجوا به من قول ابن عمر فعدل الناس بصاع من شعير نصف صاع بر فأول ذلك أن ابن عمر الذي يروون عنه هذا القول لا يرضى به ولا يقول به حدثنا أحمد بن محمد الجسور ثنا أحمد بن مطرف نا عبد الله بن يحيى نا أبي ثنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر مرة واحدة فإنه أخرج شعيرا حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر الزاهد نا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع بن عمران بن حدير عن أبي مجلز قال قلت لابن عمر إن الله تعالى قد أوسع والبر أفضل من التمر قال إن أصحابي سلكوا طريقا فأنا أحب أن أسلكه حدثنا أحمد بن عمر بن أنس نا عبد الله بن حسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا ابن اجهم نا معاذ بن المثنى نا مسدد نا إسماعيل بن إبراهيم نا محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام عن عياض بن سعد قال ذكرت لأبي سعيد الخدري صدقة الفطر فقال لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاع زبيب أو صاع أقط فقلت له

أو مدين من قمح قال لا تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها قال أبو محمد أفيكون أعجب ممن يدعى الإجماع على قول يقول به ابن عمر إن الصحابة على خلاف ذلك الإجماع كما ذكرنا وإنه لا يخرج البر أصلا اتباعا لطريق أصحابه ثم يقول أبو سعيد تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها فأين الإجماع لولا الجنون وقلة الدين ومن طرائف الدهر قول الطحاوي ههنا إنما أنكر أبو سعيد المقوم لا القيمة فيكون أعجب من هذه المهاجرة وهو يذكر أنه قال أبو سعيد وقد ذكر القيمة لا أقبلها ولا أعمل بها فهل ضمير المؤنث راجع إلى القيمة وهذا ما لا يشك فيه ذو بصر بشيء من مخاطبات الناس ولكن الهوى يعمي ويصم حدثنا أحمد بن عمر العذري ثنا عبد الله بن حسين بن عقال ثنا إبراهيم بن محمد الدينوري ثنا محمد بن أحمد بن الجهم ثنا موسى بن إسحاق الأنصاري ثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا جرير عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أم المؤمنين قالت كان الناس يعطون زكاة رمضان نصف صاع فأما إذا وسع الله تعالى على الناس فإني أرى أن يتصدق بصاع فصح بما ذكرنا أن قول ابن عمر وعائشة فعدل الناس بذلك مدين من بر إنما هو على الإنكار لفعل من فعل ذلك وبرهان هذا ثبات ابن عمر وعائشة على صاع صاع لا على ما ذكروا من عمل الناس فلو كان عمل

الناس عندهما حقا لما وسعهما خلافه فبطل تمويههم وبالله تعالى التوفيق مع أن عائشة لم تقل نصف صاع من بر ولعلها عنت من لا يجد أكثر من نصف صاع شعير إلا أنه لا شك أن ما حكته من فعل الناس في ذلك لم يكن عندها حجة ولا عملا مرضيا ولكن كقولها إذا أمرت هي وأمهات المؤمنين أن يخطر على حجرهن بجنازة سعد فأنكر الناس ذلك فقالت ما أسرع الناس إلى إنكار ما لا علم لهم به وقالوا وقد وجدنا مسائل مجمع عليها ولا نص فيها فصح أنها قياس قال أبو محمد قد ذكرنا هذه المسألة في باب الإجماع من ديواننا هذا وتكلمنا عليها وبيناها بعون الله تعالى غاية البيان وأرينا البراهين الضرورية على أن ذلك لا يجوز البتة وأنها إنما هي أحوال كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر بها وقد علمها ومن ذلك القراض وليس ههنا شيء يقاس عليه جواز القراض بل القياس يمنع من جوازه لأنه إجازة إلى غير أجل وعلى غير عمل موصوف وبأجرة فاسدة وربما لم يأخذ شيئا فضاع عمله وربما أخذ قليلا أو كثيرا وهكذا القول في سائر الإجماعيات من المسائل مع أن قولهم إنها عن قياس خبر كاذب ودعوى بلا دليل والبرهان قد قام على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين جميع واجبات الإسلام وحلاله وحرامه فكل ما أجمع عليه فعن الرسول وبيانه بلا شك هذا هو اليقين إذ لا يجوز إجماع الناس على شريعة لم يأت بها نص فبطل أن يكون قياس وبالله تعالى التوفيق واعترضوا ههنا على من أجاب من أصحابنا في هذه المسألة بأن قال الناس مختلفون في القياس بلا شك فكيف يجوز أن يجمعوا على ما اختلفوا فيه وهذا تخليط ظاهر

قال أبو محمد وهذا جواب صحيح عياني لا مجال للشك فيه فاعترض بعض أصحاب القياس فيه بأن قال لنا إنكم تجيزون الإجماع عن سنن كثيرة أتت في أخبار الآحاد وقد علمتم أن أخبار الآحاد مختلف في قبولها وهذا هو الذي أنكرتم قال أبو محمد وهذا تمويه ضعيف منحل ظاهر الانحلال لأننا لم ندع إجماع الناس على ما اختلفوا عليه من قبول خبر الواحد وإنما قلنا ونقول إن الأمة كلها مجمعة على قبول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خلاف بين أحد ممن ينتمي إلى الإسلام في ذلك من جميع الفرق أولها عن آخرها ثم اختلفوا في الطريق المؤدية إلى معرفة صحة ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا نحن خبر الواحد العدل من جملة ذلك وقال آخرون ليس من جملة ذلك ثم تأتي سنن قلنا نحن صحت عندنا من طريق من الآحاد وقال من خالفنا إنما صحت عندنا من طريق التواتر ولو لم تأت إلا من طريق الآحاد فقط ما أخذنا بها فهذه الصفة النقل هو الذي اتفق الناس كلهم من المسلمين على قبوله وأجمعوا على الأخذ به كإجماع الناس على أن في خمس من الإبل شاة وعلى أن فيما سقي بالنضح من القمح والشعير نصف العشر وسائر ما أجمعوا عليه من آيات النبوة التي جاءت من طريق الكافة وجاءت أيضا من طريق الآحاد وليس هكذا أمر القياس الذي ادعوه ولكنا لا ننكر أن تأتي مسائل تستوي في حكم القياس على أصولهم وقد صح بها نص أو إجماع أيضا فأخذنا نحن بها لأن النص أتى بها أو لأنها إجماع ولم نبال وافقت القياس أو خالفته وأيضا فإن من ينكر القياس ينكره على كل حال وبكل وجه وفي كل وقت وليس في فرقة من فرق المسلمين أحد ينكر الخبر جملة بوجه من

الوجوه بل كلها مجمعة بلا خلاف عن أن الديانة لا تعرف إلا بالخبر وإنما أنكرت طوائف خبر الواحد وقالت بخبر التواتر وقال آخرون بالخبر المشتهر وقال آخرون بخبر الواحد العدل فالفرق بين ما أنكرنا وبين ما نظروه به بين واضح وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بإيجاب التحرير على المسيء قالوا وهذا قياس قال أبو محمد وهذا من ذلك المرار ليت شعري على أي شيء قيس التعزير إن كانوا إنما قالوا به قياسا وأما نحن فإنما قلنا به للنص الوارد في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يجلد أحد في غير حد أكثر من عشر جلدات وأما السجن فإنما هو منع المسجون من الأذى للناس أو من الفرار بحق لزمه وهو قادر على أدائه فقط وهذا وقع تحت قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أوفوا بلعقود أحلت لكم بهيمة لأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي لصيد وأنتم حرم إن لله يحكم ما يريد} وله حد لا يتجاوز وهو توبة المسجون وإقلاعه أو خروجه عما لزمه من الحق أو موته إن فعل به ذلك قصاصا واحتجوا أيضا بالتوجه إلى القبلة عند المعاينة فإذا غبنا عنها فبالاجتهاد قال أبو محمد وهذا من ذلك التخليط وليس ههنا شيء قيس عليه ذلك بوجه من الوجوه ولا هو أيضا موكول إلى الرأي ولا إلى الاستحسان ولكنه نص من الله تعالى {قد نرى تقلب وجهك في لسمآء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر لمسجد لحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن لذين أوتوا لكتاب ليعلمون أنه لحق من ربهم وما لله بغافل عما يعملون} فأما وصولنا إلى معرفة جهة القبلة فبالدليل الذي أنكروه علينا ولم يعرفوا ما هو وظنوه قياسا وهذه مسألة يلوح فيها لمن له أدنى حس الفرق بين الدليل والقياس لأن جهة طلب القبلة ليس قياسا أصلا ولا ههنا شيء يقاس عليه ولا هو موكول إلى رأي كل إنسان فيستقبل أي جهة شاء ولا إلى

استحسانه فصح أنه يتوصل إلى ذلك بدليل ليس رأيا ولا قياسا ولا استحسانا وإنما كان يكون قياسا إذا خفيت عنا الكعبة توجهنا إلى بيت المقدس قياسا عليها لأنها قد كانت أيضا قبلة أو إلى المدينة وهذا كفر من قائله وهذا نحو قولكم لما حرم البر بالبر نسيئة حرمنا التبن بالتبن نسيئة وإنما الدليل على جهتها مطالع الكواكب والشمس ومعرفة نسبة العرض من الطول وقالوا أيضا قد أسقطتم الزكاة عن الثياب قياسا على سقوطها عن الحمير وتركتم أخذ الزكاة من الثياب بعموم قول الله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} وقوله تعالى {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين} قال أبو محمد وكذبوا في ذلك ما شاؤوا ومعاذ الله أن نترك أخذ الزكاة من الثياب قياسا على الحمير ولكن لما كانت الآيتان المذكورتان لم ينص عز وجل فيهما على مقدار ما يؤخذ في الزكاة ولا متى يؤخذ لم يحل لأحد العمل بما لم يبين له إذ لا يدري أيأخذ الأقل أو الأكثر أو كل يوم أو كل شهر أو كل سنة أو مرة من الدهر ووجب عليه طلب بيان الزكاة في نص آخر فوجدناه صلى الله عليه وسلم قد قال إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام قال هذا في حجة الوداع بعد نزول {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين} بيقين وبعد نزول {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} بيقين لا شك فيه عند أحد من المسلمين لأن هاتين الآيتين نزلتا في صدر الهجرة فوجب بهذا النص ألا يؤخذ من مال أحد شيء إلا بنص على ما أخذه باسمه فما نص صلى الله عليه وسلم في واجب أخذه في الزكاة وجب قبوله وما لم ينص على وجوبه فلا يحل أخذه لأحد فهكذا سقطت الزكاة عن الثياب والعروض كلها على كل حال وأيضا فقد قال صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو

تمر صدقة ودون في لغة العرب بمعنى غير وبمعنى أقل قال تعالى {من ورآئهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما تخذوا من دون لله أوليآء ولهم عذاب عظيم} يريد من غير الله فوجب بهذا الحديث أن لا يؤخذ شيء من غير التمر والحب إلا ما جاء النص على وجوب أخذه بعينه واسمه وليس حمل لفظه دون على بعض ما تقتضيه أولى من حملها على كل ما تقتضيه وأيضا فإن سقوط الزكاة عن الثياب المتخذة لغير التجارة إجماع لا خلاف فيه من أحد والإجماع الانقياد وكان يلزمهم وهو الموجبون لاستعمال القياس والتدين به أن يوجبوا الزكاة في الثياب قياسا على وجوبها في القمح والتمر والذهب والفضة لأن هذا كله موات لا حيوان فالثياب بالذهب والفضة والقمح والتمر أشبه منها بالحمير وليت شعري ما الذي أوجب عندهم قياس الثياب على الحمير دون أن يقيسوها على الغنم والإبل فيوجبوا فيها الزكاة لأن الثياب لا تكون إلا من جلود أو نبات إلا من شذ كالحرير وهو أيضا من حيوان فقياسها على ما هي مأخوذة منه أولى من قياسها على ما لا شبه بينها وبينه هذا إن كان القياس حقا بل ههنا قياس هو أقرب وأشبه على أصولهم وهو قياس المنتقاة على الثياب المتخذة للتجارة وكما أوجب المالكيون الزكاة في غير السائمة قياسا على السائمة وكما قالوا يجمع بين الذهب والفضة في غير التجارة كما يجمع بينهما في التجارة وبين سائر العروض المتخذة للتجارة فبطل تمويههم والحمد لله رب العالمين واحتجوا أيضا بوجوب الزكاة في الذهب وقالوا هو قياس على الفضة قال أبو محمد وهذا في الفساد كالذي قبله لأن الخبر في زكاة الذهب ووجوب حق الله تعالى فيه أشهر من أن يجهله ذو علم بالآثار ثم اختلف العلماء

فقالت طائفة بيان المأخوذ منه مرجوع فيه إلى الإجماع إذ لم يصح فيه أثر فما أجمع المسلمون على وجوب تزكيته من الذهب قلنا به وما اختلفوا فيه لم نوجبه إلا بنص وما اتفقوا فيه ثم اختلفوا لم نزل عن إجماعهم إلا بنص وبالله التوفيق وقالت طائفة بل في المقدار الذي يجب فيه الزكاة من المذهب نص صحيح فالواجب الوقوف عنده بهذا نقول واحتجوا أيضا بتسويتنا في حديث عتق الشقص واشتراط مال العبد بأننا سوينا بين العبد والأمة في ذلك وهذا خطأ بل النص قد جاء في ذلك بلفظ مملوك وهذا اسم يقع على الأمة كوقوعه على العبد وأيضا فإن لفظة العبد واقعة على الجنس وقولنا عبيد يقع على الذكور والإناث لأنك تقول عبد وعبدة بلا خوف من أهل اللغة ولهم علينا في خاصتنا اعتراض ننبه عليه وهو أن أصحابنا لا يجوزون المزارعة ونحن نجيزها وهذا الاعتراض علينا على أصحابنا في المساقاة فإنهم يقولون إن الشروط فاسدة بقوله صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فأنتم إذا أجزتم المساقاة والمزارعة على النصف فكلم مقال لفعله صلى الله عليه وسلم في خيبر فلم أجزتموها بالثلث والربع وقد جاء النهي نصا عن ذلك فهل هذا إلا قياس الثلث والربع على النصف قال أبو محمد ومعاذ الله أن نقول قياسا وما قلنا ذلك اتباعا للإجماع فإن الأمة كلها بلا خلاف من أحد منها مساوية بين النصف وبين سائر الأجزاء يقينا فمن مانع من كل ذلك قاطع على أن حكم كل ذلك سواء مبيح لكل ذلك قاطع على أن كل ذلك سواء فقد صح الإجماع يقينا على أن حكم النصف وسائر الأجزاء سواء ثم وجدنا النص قد جاء بالمساقاة والمزارع على النصف فوجب القول به وصح بالإجماع أن حكم سائر الأجزاء

كحكم النصف والنصف حلال فسائر الأجزاء حلال وهذا برهان متيقن لا يجوز خلافه وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن المتعاقدين على النصف والنصف فقد تعاقدا على ما دون النصف بدخول ذلك في النصف فإذا اقتصر أحدهما على بعض ماله أن يعاقد عليه مع سائره فذلك جائز له بالنص المجيز له أن يعاقد على ما دون النصف مع قوله تعالى {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا لذي بيده عقدة لنكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا لفضل بينكم إن لله بما تعملون بصير} فتجافيه عن بعض ماله أن يشترطه فضل منه واحتجوا بقيم المتلفات ومهر المثل ومقدار المتعة والنفقات وإن كل ذلك لا نص فيه قالوا فوجب الرجوع إلى القياس قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه البتة ولا للقياس هنا مدخل أصلا لأنه ليس ههنا شيء آخر منصوص عليه يقيسون عليه هذه الأشياء وهذا هو القياس عندهم فبطل تمويههم إن هذا القياس وما هو إلا نص جلي لا داخلة فيه وهو قول الله تعالى {لشهر لحرام بلشهر لحرام ولحرمات قصاص فمن عتدى عليكم فعتدوا عليه بمثل ما عتدى عليكم وتقوا لله وعلموا أن لله مع لمتقين} فهل في البيان أكثر من هذا وهل هذا إلا نص على كل قصة وجب فيها ضمان المثل فأي معنى للقياس فيمن أتلف الآخر ثوبا قيمته دينار فقضى عليه بثوب مثله فإن لم يوجد فمثله من القيمة في سوق البلد الذي وقع فيه الغصب أو الذي وقع فيه الحكم وكذلك امرأة وجب لها مهر مثلها بالنص فعلم مقدار ما تطيب به نفس مثلها في المعهود الذي أحالنا الله تعالى عليه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وكذلك نص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن للأزواج والأقارب والمماليك النفقة والكسوة بالمعروف وساوى في ذلك بين الأقارب وبين من ذكرنا وأحالنا على المعروف والمعروف هو غير المنكر فهو ما تعارفه الناس في نفقات من ذكرنا وما فيه مصالحهم

من كسوة معروفة لأمثالهم وإسكان وغير ذلك مما لا قوم للمعاش إلا به مما لا جوع فيه ولا عري ولا عطش ولا برد ولا شهرة ولا اتضاع ولا إسراف ولا تبذير ولا تقصير ولا تقتير فهذا هو المنكر وضده هو المعروف فأين القياس ههنا وعلى أي شيء قاسوا ما ذكرنا فإذ ليس ههنا شيء يقاس عليه ما ذكرنا البتة فقد بطل أن يكون قياسا وبطل تمويههم في ذلك واحتجوا أيضا بأروش الجراحات والجنايات والديات قال أبو محمد وهذا في التمويه كالذي قبله وقولنا في ذلك إن كل ما أوجبه من ذلك نص وقف عنده وما لم يوجبه نص فهو ساقط لا يقضى به للنص الوارد إن دماءنا وأموالنا علينا حرام وما تيقن أنه أجمع عليه واختلف في مقداره وجب من ذلك أقل ما قيل فقط وما عدا ذلك فتحكم في الدين لا يحل وأي شيء في معرفة مقدار شبع الناس في الجمهور في أقواتهم في ذلك البلد مما يكون فيه للقياس معنى وكذلك ما اتفقوا على وجوبه في المتعة وهل شيء من هذا يوجب تحريم البلوط بالبلوط متفاضلا إن انطلاق اللسان بمثل هذا لعظيم ونعوذ بالله من نصر الباطل والتمادي عليه فهذا كل ما احتجوا به من دلائل الإجماع فقد بينا بحول الله وقوته أنه عائد عليهم ومبطل للقياس والحمد لله كثيرا كما هو أهله واحتجوا أيضا بأحاديث وردت عن الصحابة رضي الله عنهم كرسالة منسوبة إلى عمر رضي الله عنه ذكروا أنه كتب بها إلى أبي موسى وكقول ابن عباس ولا أرى كل شيء إلا مثله ولو لم يعتبروا ذلك إلا بالأصابع أرأيت من ادهن وعن سعد أينقض الرطب إذا يبس وعن معمر بن عبد الله أخشى أن يضارع وعن أبي سعيد فأيما أولى التمر أو الورق

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا سكر هذى وعن علي وزيد في الجد وعن علي لو كان هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل حمزة وعن ابن عباس قد أمر الله بالتحكيم بين الزوجين وفي أرنب قيمتها ربع درهم وعن علي في احتجاجه بمحو اسمه من الصحيفة بمحو النبي صلى الله عليه وسلم اسمه يوم الحديبية من الصحابة وعن علي وعمر في قتل الجماعة بالواحد وبالقطع في السرقة قال أبو محمد هذا كل ما يحضرنا ذكره مما يمكنهم أن يتعلقوا به ونحن إن شاء الله تعالى نذكر كل ما يحضرنا ذكر كل ذلك بأسانيده ونبين بعون الله عز وجل أنه لا حجة لهم في شيء منه لو صح فكيف وأكثر ذلك لا يصح فأما رسالة عمر فحدثنا بها أحمد بن عمر العذري نا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي نا أبو سعيد الخليل بن أحمد القاضي السجستاني نا يحيى بن محمد بن صاعد نا يوسف بن موسى القطان نا عبيد الله بن موسى نا عبيد الله بن موسى نا عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه قال كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري فذكر الرسالة وفيها الفهم الفهم يعني فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة ثم اعرف الأمثال والأشكال فقس الأمور عند ذلك ثم اعمد إلى أشبهها بالحق وأقربها إلى الله عز وجل وذكر باقي الرسالة وحدثناها أحمد بن عمر نا عبد الرحمن بن الحسن الشافعي نا القاضي أحمد بن محمد الكرخي نا محمد بن عبد الله العلاف نا أحمد بن علي بن محمد الوراق نا عبد الله بن سعد نا أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نا سفيان عن إدريس بن يزيد الأودي عن سعيد بن أبي موسى الأشعري بن أبي بردى عن أبيه قال كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى فذكر الرسالة وفيها الفهم فيما يتلجلج في نفسك مما ليس في الكتاب ولا السنة ثم قس

الأمور بعضها ببعض ثم انظر أشبهها بالحق وأحبها إلى الله تعالى فاعمل به وفيها أيضا المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجريا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة وذكر باقيها قال أبو محمد وهذا لا يصح لأن السند الأول فيه عبد الملك بن الوليد بن معدان وهو كوفي متروك الحديث ساقط بلا خلاف وأبوه مجهول وأما السند الثاني فمن بين الكرجي إلى سفيان مجهولون وهو أيضا منقطع فبطل القول به جملة ويكفي من هذا أنه لا حجة في قول أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم وكم قصة خالفوا فيها عمر وأيضا فلا يخلو من أن تكون صحيحة أو غير صحيحة فإن كانت غير صحيحة فهو قولنا ولا حجة علينا فيها وإن كانت صحيحة تقوم بها الحجة فقد خالف أبو حنيفة ومالك والشافعي والحاضرون من خصومنا المحتجين بها ما فيها فأجازوا شهادة المجلود في الخمر والزنى إذا تاب وأجاز مالك والشافعي شهادة المجلود في حد القذف إذا تاب وهذا خلاف ما في رسالة عمر وإن ادعوا إجماعا كذبهم الأوزاعي فإنه لا يجيز شهادة مجلود في شيء من الحدود أصلا كما في رسالة عمر التي صححوا وأجازوا شهادة الأخ لأخيه والمولى لذي ولائه ولم يجعلوهما ظنينين في ولاء وقرابة وردوا شهادة الأب العدل لابنه وجعلوه ظنين في قرابة وليس إجماعا لأن عثمان البتي وغيره يجيز شهادته له وردوا شهادة العبد وهو مسلم وكل هذا خلاف ما في رسالة عمر ومن الباطل المحال أن تكون حجة علينا في القياس ولا تكون حجة

عليهم فيما خالفوها فيه ويكفي في هذا إقرارهم بأنها حق وحجة ثم خلافهم ما فيها فقد أقروا بأنهم خالفوا الجن والحجة ونحن لا نقر بها ولله الحمد والصحيح عن عمر غير هذا من إنكار القياس مما سنذكره في هذا الباب إن شاء الله تعالى وأما الرسالة التي تصح عن عمر فهي غير هذه وهي التي حدثنا بها عبد الله بن ربيع التميمي نا محمد بن معاوية المرواني نا أحمد بن شعيب النسائي نا محمد بن بشار نا أبو عامر العقدي نا سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله فكتب إليه عمر أن اقض بما في كتاب الله تعالى فإن لم يكن في كتاب الله فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى الصالحون فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولم يقض به الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أرى التأخر إلا خيرا لك والسلام قال أبو محمد وهذا ترك الحكم بالقياس جملة واختيار عمر لترك الحكم إذا لم يجد المرء تلك النازلة في كتاب ولا سنة ولا إجماع فسقطت الرواية عن عمر في الأمر بالقياس لسقوط راويها ولوجه ثان ضروري مبين لكذب تلك الرسالة وأنها موضوعة بلا شك وهو اللفظ الذي فيها ثم اعمد لأشبهها بالحق وأقربها إلى الله عز وجل وأحبها إليه تعالى فاقض به قال أبو محمد وهذا باطل موضوع وما يدري القايس إذا شبهت الوجوه أيها أحب إلى الله عز وجل أو أيها أقرب إليه وهذا ما يقطعون به ولا يقطع به أحد له حظ من علم ثم قوله اعمد إلى أشبهها بالحق ولا نعلم إلا حقا أو باطلا فما أشبه

الحق فلا يخلو من أن يكون حقا أو باطلا فالباطل لا يحل الحكم به وإن كان حقا فلا يجوز أن يقال في الحق إنه أشبه طبقته ونظرائه بالحق ولكن يقال في الحق إنه حق بلا شك ولا يجوز أن يقال فيه يشبه الحق فصح أن القياس باطل بلا شك وبطلت تلك الرسالة بلا شك وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل افتقطعون في خبر الواحد العدل أنه حق إذا قضيتم به أم تقولون إنه باطل أم تقولون إنه يشبه الحق وهذا نفس ما دخلتم علينا قال أبو محمد والجواب وبالله التوفيق إن خبر الواحد العدل المتصل وشهادة العدلين حق عند الله عز وجل مقطوع به إلا أننا نحن نقول إن كل خبر صح مسندا بنقل من اتفق على عدالته فهو حق عند الله بخلاف الشهادات وقال غيرنا إن كل شخص من أشخاص الأخبار وأشخاص الشهادات إما حق عند الله فهو حق مطلق وإما باطل عند الله فهو باطل مطلق ولا يجوز أن يقال إنه يشبه الحق ولا إنه أشبه بالحق من غيره ولسنا نوقفهم في هذه المراجعة على مذهبهم في أشخاص القياس وإنما نتكلم على ما رووا عن عمر من لفظ أشبهها بالحق فعلى هذه اللفظة تكلمنا وفسادها بينا لنرى بعون الله كذب الرواية في ذلك عن عمر وأما ولا أحسب كل شيء إلا مثله فحدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد الأشقر ثنا أحمد بن علي القلانسي ثنا مسلم ثنا قتيبة ثنا حماد وهو ابن زيد عن عمر بن دينار عن طاوس عن ابن عباسأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه قال ابن عباس واحسب كل شيء مثله قال أبو محمد ولا حجة لهم في هذا لأن كثيرا من أصحاب القياس لا يقولون بهذا ولا يرون غير الطعام داخلا في حكم الطعام في ذلك بل يرون

ما عدا الطعام جائز بيعه قبل أن يستوفى وهذا قول المالكيين فمن المحال أن يحتج امرؤ بشيء يقر أنه خطأ لا يجوز أن يؤخذ به وأيضا فإن ابن عباس لم يقطع بصحة ظنه في ذلك وإنما أخبر أنه يحسب كل شيء مثل الطعام في ذلك وهذا هو الذي قلنا عنهم رضي الله عنهم إنهم لا يقطعون برأيهم فيما رأوه وإنما هو ظن لا يثبتونه دينا وليس حكم القياس عند القائلين به من باب الحسبان الذي ذكره ابن عباس في هذا الحديث فصح يقينا أنه لا مدخل للقياس في هذا الحديث فاحتجاجهم به باطل وبالله تعالى التوفيق وأما لو لم تعتبروا ذلك إلا بالأصابع فحدثناه حمام بن أحمد ثنا محمد بن أبي مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو يعقوب الدبري ثنا عبد الرزاق ثنا مالك عن داود بن الحصين عن أبي غطفان أن مروان أرسله إلى ابن عباس يسأله ماذا جعل في الضرس قال فيه خمس من الإبل قال فردني إلى ابن عباس فقال أتجعل مقدم الفم مثل الأضراس فقال ابن عباس لو أنك لا تعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء قال أبو محمد وهذا لا مدخل للقياس فيه البتة بل هو إبطال للتعليل جملة لأن مروان علل الدية بأنها عرض من العضو المصاب فينبغي أن تكون دية العضو الأفضل أكثر وهذه هي علل أصحاب القياس على الحقيقة فأراه ابن عباس بطلان هذا وتناقضه في قوله بأن الأصابع منافعها متفاضلة وديتها سواء وهذا إبطال العلل على الحقيقة وفي إبطال العلل إبطال للقياس إذ لا قياس إلا على علة جامعة عند حذاق القائلين به فهذا الحديث مبطل للقياس كما ذكرنا وراد إلى النص وألا يتعقب بتعليل وبالله تعالى التوفيق وبرهان واضح فيما ذكرنا هو أن القياس بلا خلاف إنما هو أن يحكم لما

نص فيه بالحكم فيما نص أو فيما اختلف فيه بالحكم فيما اجتمع عليه وليس في الأصابع إجماع فيقاس عليه الأضراس بل الخلاف موجود فيها كما هو في الأضراس وليس في الأصابع نص دون الأضراس بل الخلاف موجود فيها كما هو في الأضراس وليس في الأصابع نص دون الأضراس بل النص فيهما جميعا فبطل أن تكون الأصابع أصلا يقاس عليه الأضراس فأما الخلاف في كل ذلك فكما حدثنا حمام بن أحمد ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الديري ثنا عبد الرزاق ثنا ابن جريج أخبرني يحيى بن سعيد هو الأنصاري قال قال ابن المسيب قضى عمر بن الخطاب فيما أقبل من الفم أعلى الفم وأسفله خمس قلانص وفي الأضراس بعير بعير وقال عبد الرزاق أيضا عن سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب جعل في الإبهام خمس عشرة وفي السبابة والوسطى عشرا عشرا وفي البنصر تسعا وفي الخنصر سبعا فبطل أن يكون ههنا إجماع في الأصابع يقاس عليه أمر الأسنان والأضراس وأما النص فإن عبد الله بن ربيع ثنا قال حدثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود السجستاني ثنا عباس بن عبد العظيم العنبري ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث التنوري ثنا شعبة حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء فصح أن النص عند ابن عباس في الأضراس كما هو في الأصابع بأصح إسناد وأجوده وشعبة لم يسمع قتادة حديثا إلا فقه على سماعه إلا حديثا واحدا في الصلاة فبطل أن يكون ابن عباس أراد بقوله ولو لم تعتبروا ذلك بالأصابع قياسا البتة

وبالله تعالى التوفيق نعم قد روى التسوية أيضا بين الأضراس والأسنان وبين الأصابع عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مسندا وفي كتاب عمرو بن حزم أيضا فبطل ما ظنوه بيقين والحمد لله رب العالمين وأما أرأيت لو ادهن فحدثناه حمام بن أحمد حدثنا ابن مفرج حدثنا ابن الأعرابي حدثنا الديري حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن جعفر بن يرقان قال كان أبو هريرة يتوضأ مما مست النار فبلغ ذلك ابن عباس فأرسل إليه أرأيت لو أخذت دهنة طيبة فدهنت بها لحيتي أكنت متوضئا قال أبو هريرة يا ابن أخي إذا حدثت بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال جدلا قال أبو محمد وليس ههنا للقياس مدخل البتة بوجه من الوجوه وابن عباس قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شاهده أكل شيئا مما مست النار فلم يتوضأ وهذا الحديث عنه مشهور فلم يترك ابن عباس الوضوء مما مست النار قياسا لكن اتباعا للنص وإنما عارض أبا هريرة بأمر الدهن في هذا الحديث ليعلم أيطرد أبو هريرة قوله أم لا يرى الوضوء من الدهن فقط فإنما هو استفهام عن مذهب أبي هريرة في الدهن أيوجب الوضوء أم لا ليس في هذا الحديث شيء غير هذا البتة ولكن في قول أبي هريرة إذا حدثت بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال جدلا إبطال صحيح للقياس لأن القياس ضرب أمثال في الدين لم يأذن بها الله تعالى وقد نهى أبو هريرة عن ذلك وأمره باتباع الحديث والتسليم

له فهذا الحديث عليهم لا لهم والصحيح عن ابن عباس إبطال القياس على ما ذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى وأما أينقص الرطب إذا يبس فحدثناه أحمد بن محمد الجسور نا أحمد بن سعيد بن حزم نا عبيد الله بن يحيى نا أبي عن مالك بن أنس عن عبد الله بن زيد أن زيدا أبا عياش أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت قال له سعد أيتهما أفضل فقال البيضاء فنهاه عن ذلك وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال صلى الله عليه وسلم أينقص الرطب إذا يبس فقالوا نعم فنهاه عن ذلك قال أبو محمد فأول هذا إن هذا خبر لا يصح لأن زيدا أبا عياش مجهول

فارتفع الكلام فيه وأيضا فلو صح لما كانت لهم فيه حجة لأن جميع أصحاب القياس أولهم عن آخرهم لا يرون هذا قياسا ولا يمنعون من البيضاء بالسلت فمحال أن يحتج قوم بما لا يقولون به وأيضا فإن هذا ليس قياسا عند القائلين به لأنه تنظير للأفضل بما ينقص إذا يبس وهذا ليس شبها البتة عند من يقول بالقياس فسقط تعلقهم بهذا الأثر والحمد لله رب العالمين وأما أخاف أن يضارع فحدثناه عبد الله بن يوسف بن نامي نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم حدثني أبو الطاهر أخبرني ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن أبا النضر حدثه أن بسر بن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع قمح فقال بعه ثم اشتر به شعيرا فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع فلما جاء معمرا أخبره بذلك فقال له معمر لم فعلت ذلك انطلق فرده ولا تأخذ إلا مثلا بمثل فإني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الطعام بالطعام مثلا بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير فقيل إنه ليس بمثله قال إني أخاف أن يضارع قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه أصلا وإنما هو تورع من معمر بن عبد الله لا إيجاب ولا أنه قطع بذلك وبيان ذلك إخبار معمر بأنه يخاف أن يضارع ولم يقطع بأنه يضارع وأيضا فإن الحنفيين والشافعيين لا يقولون بهذا وهم يجيزون القمح بالشعير متفاضلا فلا وجه لاحتجاج المرء

بما لا يراه صحيحا ولا ممن يخطىء ويصيب ممن لا يلزم اتباعه ولعل من جهل يظن أن احتجاجنا بمن دون النبي صلى الله عليه وسلم هو أننا نرى من دونه صلى الله عليه وسلم حجة لازمة فليعلم من ظن ذلك أن ظنه كذب وأننا لا نورد قولا عمن دون النبي صلى الله عليه وسلم إلا على أحد وجهين لا ثالث لهما إما خوف جاهل يدعي علينا خلاف الإجماع فنريه كذبه وفساد ظنونه وأنه لا إجماع فيما ظن فيه إجماعا وإما لنرى من يحتج بمن دون النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يحتج به مخالف له فنوقفه علي تناقضا في أنه يخالف من يراه حجة حاشا موضعا واحدا وهو حكم الحكمين بجزاء الصيد فإننا نورده احتجاجا به لقول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} فألزمنا الله عز وجل قبول العدلين ههنا فنحن نورد قول العدلين من السلف رضي الله عنهم احتجاجا بقولهما لأن الله تعالى أوجب ذلك وأما حديث أيما أولى فحدثناهابن نامي نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا إسحاق بن إبراهيم أنا عبد الأعلى أنا داود عن أبي نضر قال سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم ير بأسا فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري إذ جاءه رجل فسأله عن الصرف فقال ما زاد فهو ربا فأنكرت ذلك لقولهما فقال لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه صاحب نخلة بصاع من تمر جنيب وكان تمر النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا اللون فقال النبي صلى الله عليه وسلم

أنى لك هذا قال انطلقت بصاعين واشتريت به هذا الصاع فإن سعر هذا في السوق كذا وسعر هذا كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلك أرأيت إذا أردت ذلك فبع تمرا بسلعة ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت قال أبو سعيد فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أما الفضة بالفضة قال أبو محمد وهذا ليس قياسا لأن النهي عن التفاضل في الفضة بالفضة عند أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم كما روينا وبالسند المذكور إلى مسلم حدثنا محمد بن رمح ثنا الليث بن سعد عن نافع مولى ابن عمر قال ذهب ابن عمر وأنا معه حتى دخل على أبي سعيد الخدري فذكر سؤال ابن عمر لأبي سعيد عن الصرف فقال أبو سعيد وأشار بأصبعه إلى عينيه وأذنيه فقال أبصرت عيناني وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تفشوا بعضه على بعض وذكر الحديث وبه إلى مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا وكيع نا إسماعيل بن مسلم العبدي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل فمن زاد واستزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء قال أبو محمد فمن المحال البين أن يكون نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل عند أبي سعيد سماعا من لفظ النبي صلى الله

عليه وسلم ويعول في تحريمه على القياس فصح أن هذا الأثر لا مدخل للقياس فيه أصلا لأن القياس عند القائلين به إنما هو حكم في شيء ولا نص فيه على نحو الحكم في نظيره مما جاء فيه النص والنص عند أبي سعيد مسموع في الفضة بالفضة كما هو في التمر بالتمر فبطل ضرورة إقرار أصحاب القياس أن يكون أحد الأمرين عنده قياسا على الآخر فإن قيل فما وجه قول أبي سعيد إذن هو القول فنقول وبالله تعالى التوفيق إننا لا نشك أن أبا نضرة مسخ لفظ أبي سعيد وحذف منه ما لا يقوم المعنى إلا به كما فعل في صدر هذا الحديث نفسه من قوله سألت ابن عباس وابن عمر عن الصرف فلم يريا به بأسا وهذا كلام مطموس لأن الصرف لا بأس به عند كل أحد من الأمة إذا كان على ما جاء به النص من التماثل والتعاقد في الفضة بالفضة وفي الذهب بالذهب ومن التفاضل والتناقد في الذهب بالفضة فطمس أبو نضرة كل هذا وكذلك فعل بلا شك في كلام أبي سعيد ولا يجوز غير هذا أصلا إذ من الباطل أن يروي من هو أوثق من أبي نضرة عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يوجب أن التفاضل في الفضة بالفضة ربا ثم لا يعول أبو سعيد في تحريم ذلك إلا على تحريم التمر بالتمر متفاضلا هذا ما لا يدخل في عقل أحد وجميع أصحاب القياس لا يجوزون هذا القياس ولا يدخلون الصفر بالصفر قياسا على الربا في التمر بالتمر فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة والحمد لله رب العالمين وبالله تعالى نعتصم وأما سكر هذى فحدثناه حمام بن أحمد ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن عكرمة أن عمر بن الخطاب شاور الناس في حد الخمر وقال إن الناس قد

شربوها واجترؤوا عليها فقال له علي إن السكران إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فاجعله حد الفرية فجعله عمر حد الفرية ثمانين وحدثناه أيضا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا عبيد الله بن يحيى بن يحيى ثنا أبي ثنا مالك عن ثور بن زيد الديلي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب نرى أن نجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى أو كما قال فجلد عمر في الخمر ثمانين حدثناه محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا ابن أبي خالد عن عامر الشعبي قال استشارهم عمر في الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف هذا رجل افترى على القرآن رأى أن تجلده ثمانين حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي نا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن خالد نا عبد الله بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن محارب بن دثار إن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شربوا الخمر بالشام وإن يزيد بن أبي سفيان كتب فيهم إلى عمر فذكر الحديث وفيه إنهم احتجوا على عمر بقول الله تعالى {ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين} فشاور فيهم الناس فقال لعلي ماذا ترى فقال أرى قد شرعوا في دين الله تعالى ما لم يأذن به الله تعالى فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم فإنهم قد أحلوا ما حرم الله وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين ثمانين

فقد افتروا على الله الكذب وقد أخبر الله تعالى بحد ما يفتري به بعضنا على بعض حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي ثنا سعيد بن عفير ثنا يحيى بن فليح بن سليمان المدني عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس أن الشراب كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر لو فرضنا لهم حدا فتوخى نحو ما كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي ثم كان عمر فجلدهم كذلك أربعين حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين قد شرب فأمر به أن يجلد فقال لم تجلدني بيني وبينك كتاب الله فقال عمر وفي أي كتاب الله تجد ألا أجلدك

قال له إن الله تعالى يقول في كتابه {ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين} فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد فقال عمر ألا تردون عليه ما يقول فقال ابن عباس إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على الباقين فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن يحرم عليهم الخمر وحجة على الباقين لأن الله تعالى يقول {يأيها لذين آمنوا إنما لخمر ولميسر ولأنصاب ولأزلام رجس من عمل لشيطان فجتنبوه لعلكم تفلحون} ثم قرأ الأخرى فإن كان من الذين {ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين} فإن الله نهاه أن يشرب الخمر فقال عمر صدقت فما ترون فقالعلي إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة فأمر به عمر فجلد ثمانين قال محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي وحدثنا سعيد بن أبي مريم أنا يحيى بن فليح بن سليمان حدثني ثور بن زيد الديلمي عن عكرمة عن ابن عباس فذكر هذا الحديث وفي آخر ثم سأل من عنده عن الحد فيها فقال علي بن أبي طالب إنه إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلده ثمانين فجلده عمر ثمانين

حدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا يوسف بن سليمان نا حاتم بن إسماعيل نا أسامة بن زيد عن ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن بن أزهر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد فأتي بسكران فأمر من كان في أيديهم وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب عليه ثم إن أبا بكر أتي بسكران فتوخى الذي كان يومئذ من ضربهم فضرب أربعين ثم ضرب عمر أربعين قال ابن شهاب ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن وبرة الكلبي قال بعثني خالد بن الوليد إلى عمر فأتيته وعنده علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف متكئون معه في المسجد فقلت له إن خالد بن الوليد يقرأ عليك السلام ويقول لك إن الناس انتهكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فما ترى فقال عمر هم هؤلاء عندك قال فقال علي أراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون فأجمعوا على ذلك فقال عمر بلغ صاحبك ما قالوا فضرب خالد ثمانين وضرب عمر ثمانين قال وكان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنهمك في الشراب ضربه ثمانين وإذا أتي بالرجل الذي كان منه زلة الضعيف ضربه أربعين وفعل ذلك عثمان أربعين وثمانين قال أبو محمد فهذا كل ما ورد في ذلك قد تقصيناه وكله ساقط لا حجة

فيه مضطرب ينقض بعضه بعضا أما الآثار التي صدرنا بها من طريق الثقات أيوب ومالك والشعبي ومحارب بن دثار فمرسلات كلها لا يدري عمن هي في أصلها فسقط الاحتجاج بها وأما المتصلان فمن طريق يحيى بن فليح بن سليمان وهو مجهول البتة والحجة لا تقوم بمجهول وأبو فليج متكلم فيه مضعف والثاني عن أسامة بن زيد وهو ضعيف بالجملة فسقط كل ما في هذا الباب مع أنه لو صح هذان الأثران المتصلان لكان حجة عليهم قاطعة لأن في رواية يحيى بن فليح أن أبا بكر فرض الحد في الخمر أربعين فلو جاز لعمر أن يزيد على ما فرض

أبو بكر لمن بعد عمر أن يزيد ويحيل الحد الذي فرض عمر أو يسقط منه ولا فرق فإن لم يكن فرض أبي بكر بحضرة جميع الصحابة حجة وعمر وغيره بالحضرة وفي أقل من هذا يزعمون أنه إجماع ففرض عمر وقد مات كثير من الصحابة قبل ذلك الفرض أحرى ألا يكون حجة وهذا على أقوالهم إجازة لمخالفة وفي هذا ما فيه وأن من يرى ما في هذا الخبر من فعل أبي بكر بحضرة الصحابة إجماعا ثم يرى رسالة مكذوبة من عمر إلى الأشعري إجماع لمنحرف عن الحق وأما الذي من طريق أسامة بن زيد ففيه بيان جلي على أن عمر لم يجعل ذلك فرضا واجبا وأنه إنما كان منه تعزيرا وذلك أنه ذكر فيه إذا أتي بالمنهمك في الشراب جلده ثمانين جلدة وإذا أتي بالذي كانت منه في ذلك زلة الضعيف جلده أربعين وأن عثمان أيضا جلد أربعين وثمانين فباليقين يعلم كل ذي عقل أنه لو كانت الثمانون فرضا لما جاز أن يحال في بعض الأوقات فسقط احتجاجهم بالجملة وعاد عليهم مسقطا لقولهم فكيف ولا يصح من ذلك كله شيء وقد نزه الله عز وجل عليا رضي الله عنه عن هذا الكلام الساقط الغث ثم سأل عمر عن من عنده عن الحد فيهما فقال علي بن أبي طالب الذي ليس وراءه مرمى في السقوط والهجنة لوجوه أحدها أنه لا يحل لمسلم أن يظن أن عمر وعليا يضعان شريعة في الإسلام لم يأت بها النبي صلى الله عليه وسلم ولكانا في ذلك كالذين أنكرا عليهم في الحديث نفسه أنهم شرعوا ما لم يأذن به الله تعالى فمن المحال أن ينكر على علي من شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى ويشرع هو في الحين نفسه شريعة لم يأذن بها الله تعالى وهذا ما لا يظنه بعلي ذو عقل ودين ولا فرق بين وضع حد في الخمر وبين إسقاط حد الزنى أو الزيادة فيه أو إسقاط ركعة من الظهر أو زيادة فيها أو فرض صلاة غير الصلوات المعهودة أو وضع حد مفترض في أكل الربا

وكل هذا كفر ممن أجازه ثم المشهور عن علي رضي الله عنه بالسند الصحيح أنه جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين في أيام عثمان رضي الله عنه فبطل يقينا أن يكون يرى الحد ثمانين ويجلد هو أربعين فقط وهذا الحديث يكذب كل ما عن علي بخلافه وأيضا فليس كل من يشرب الخمر يسكر وشارب الجرعة لا يسكر والحد عليه ولا كل من يسكر يهذي ففي الناس كثير يغلب عليهم السكون حينئذ نعم وذكر الله تعالى الآخرة والبكاء والدعاء والتأدب الزائد ولا كل من يهذي يفتري فالمبرسم يهذي ولا يفتري ولا كل من يفتري يلزمه الحد فقد يفتري المجنون والنائم فلا يحدان فوضح أن هذا الكلام المنسوب إلى علي وقد نزهه الله تعالى عنه من الكذب في منزله ينزه عنها كل ذي عقل فكيف مثله رحمة الله عليه وأيضا فإن كان يجلد لفرية لم يفترها بعد فهذا ظلم بإجماع الأمة ولا خلاف بين اثنين أنه لا يحل لأحد أن يؤاخذ مسلما أو ذميا بما لم يفعل ولا أن يقدم إليه عقوبة معجلة لذنب لم يفعله عسى أن يفعله أو عسى ألا يفعله وإنما عندنا هذا من فعل ظلمة الملوك ذوي الأعياث المشتهرين بأتباعهم من السخفاء المتطايبين بمثل هذا وشبه من السخف ومثل هذا الجنون لا يضيفه إلى عمر وعلي إلا جاهل بهما وبمحلهما من الفضل والعلم رضي الله عنهما وعهدنا بهؤلاء القوم يقولون ادرؤوا الحدود بالشبهات فصاروا ههنا يقيمون الحدود وينسبون إلى عمر وعلى إقامتها بأضعف الشبهات لأن لا شبهة

أحمق من شبهة من يقيم حد القذف على شارب الخمر خوف أن يفتري وهو لم يفتر بعد وأيضا فإن كان حد الشارب إنما هو للفرية فأين حد الخمر وإن كان للخمر فأين حد الفرية ولا يحل سقوط حد لإقامة آخر وأيضا فإنه إذا سكر هذى وإذا هذى كفر فينبغي لهم أن يضربوا عنقه وإذا شرب سكر وإذا سكر زنى فينبغي لهم أن يرجموه ويجلدوه وإذا شرب سكر وإذا سكر سرق فينبغي لهم أن يقطعوا يده وإذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى خرج فأفسد أموال الناس وأقر في ماله لغيره فينبغي لهم أن يلزموه كل هذه الأحكام فإن لم يفعلوا فقد أبطلوا حدهم إياه ثمانين لأنه إذا هذى افترى وهذا كله جنون نبرأ إلى الله تعالى منه ونقطع يقينا بلا شك أنه كذب موضوع مفترى على علي رضي الله عنه لم يقله قط وكذلك الرواية التي ذكرنا أيضا عن عبد الرحمن بن عوف فهالكة جدا مبعد عن مثله أن يقول افترى على القرآن اجلده ثمانين وهذا محال ظاهرا وكيف يمكن أن يفتري أحد على الله تعالى أو على القرآن فرية توجب ثمانين جلدة والفرية الموجبة لذلك إنما هي في القذف بالزنى فقط وهذا ما لا سبيل إلى إضافته إلى القرآن لأنه ليس إنسانا فإن صحح أهل القياس هذه القضية فليوجبوا ثمانين جلدة حدا واجبا لا يتعد على كل من افترى على أحد بكذبة مثل أن يرميه بكفر أو بتهمة أو بسرقة أو كذب على القرآن أو على الله تعالى وهذا ما لا يقولونه فقد أقروا بضعف هذا القياس

الذي جعلوه أصلهم وبنوا عليه أو أنهم تركوا القياس في سائر ما ذكرنا ولا بد لهم من أحد الوجهين ضرورة وأول من كان يلزمهم هذا فهم لأنهم مفترون فيما يدعونه من القياس وبالله تعالى التوفيق والصحيح في هذا الباب هو ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر نا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر قال أبو محمد فصح أنه تعزير لا حد نعني الأربعين الزائدة وقد حدثنا حمام ثنا ابن مفرج نا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق ثنا ابن جريج ثنا عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبيد بن عمير يقول كان الذي يشرب الخمر يضربونه بأيديهم ونعالهم ويصكونه فكان ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وبعض إمارة عمر حتى خشي أن يغتال الرجال فجعله أربعين سوطا فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين ثم قال هذا أدنى الحدود حدثنا أحمد بن عمر العذري نا عبد الله بن حسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري ثنا ابن الجهم نا موسى بن إسحاق نا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو خالد عن حجاج عن الأسود بن هلال عن عبد الله هو ابن مسعود أنه أتي برجل قد شرب خمرا في رمضان فضربه ثمانين وعزره عشرين وقد فعل ذلك أيضا علي بالنجاشي

حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا أبو إسحاق البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن عبد الوهاب أنا خالد بن الحارث ثنا سفيان الثوري ثنا أبو حصين قال سمعت عمير بن سعد النخعي قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه هكذا رويناه من طريق الهمداني وغيره عمير بن سعد والصواب سعيد كما رويناه من طريق يزيد بن زريع حدثنا عبد الله بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا إسحاق بن راهويه ثنا يحيى بن حماد ثنا عبد العزيز بن المختار ثنا عبد الله بن فيروز الديباج مولى ابن عامر نا حصين بن المنذر أبو ساسان قال شهدت عثمان أتي بالوليد صلى الصبح ركعتين

فقال أزيدكم فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر والثاني أنه قاءها فقال عثمان يا علي فاجلده فقال علي للحسن قم فاجلده فقال الحسن ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه علي فقال علي يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال أمسك جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة قال أبو محمد فهذه الأحاديث مبينة ما قلنا من أن زيادة عمر على الأربعين التي هي حد الخمر إنما هي تعزير فمرة زاد عشرين فقط ومرة زاد أربعين ومرة زاد علي وابن مسعود ستين وأخبر علي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن ذلك يعني الزيادة على الأربعين فقط ومن ظن غير هذا فإنه يكذب النقل الصحيح ويصدق الواهي الضعيف الساقط وهذا علي يجلد في أيام عثمان بحضرة الحسن وعبد الله بن جعفر وسائر من هنالك من الصحابة وغيرهم أربعين فقط وقال عمر وعبد الرحمن بأخف الحدود فصح يقينا أن تلك الزيادة على الأربعين لم يوجبوها فرضا ولا حدا البتة ونعيذهم بالله تعالى من ذلك ولو أخبار مرسلة وردت بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر ثمانين لكفر من يقول إن حد الخمر ثمانون ولكن من تعلق بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد اجتهد فإن وفق لخبر صحيح فله أجران وإن يسر لخبر غير صحيح وهو لا يدري وهيه فهو معذور وله أجر واحد

وهو مخطىء وإنما الشأن والبلية في اثنين هالكين وهو من قامت عليه حجة صحيحة فتمادى فهو ضال فاسق أو مقلد بغير علم متجاسر في دين الله عز وجل فهو أيضا ضال فاسق ونعوذ بالله من الخذلان وأما القياس في الجد فحدثنا حمام بن أحمد القاضي بالغرب ثنا ابن مفرج القاضي برية نا عبد الأعلى بن محمد بن الحسن البوسي قاضي صنعاء نا أبو يعقوب الدبري نا عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن عيسى هو ابن أبي عيسى الخياط عن الشعبي قال كره عمر الكلام في الجد حتى صار جدا فقال إنه كان من أبي بكر أن الجد أولى من الأخ وذكر الحديث وفيه فسأل عنه زيد بن ثابت فضرب له مثلا شجرة خرجت لها أغصان قال فذكر شيئا لا أحفظه فجعل له الثلث قال الثوري وبلغني أنه قال يا أمير المؤمنين شجرة نبتت فانشعب منها غصن فانشعب من الغصن غصنان فما جعل الغصن الأول أولى من الغصن الثاني وقد خرج الغصنان من الغصن الأول قال ثم سأل عليا فضرب له مثلا واديا سال فيه سيل فجعله أخا فيما بينه وبين ستة فأعطاه السدس وبلغني عنه أن عليا حين سأله عمر جعله سيلا قال فانشعب منه شعبة ثم انشعبت شعبتان فقال أرأيت لو أن ماء هذه الشعبة الوسطى يبس أما كان يرجع إلى الشعبتين جميعا قال الشعبي فكان زيد يجعله أخا حتى يبلغ ثلاثة وهو ثالثهم فإن زادوا على ذلك أعطاه الثلث وكان علي يجعله أخا ما بينه وبين ستة وهو سادسهم ويعطيه

السدس فإن زادوا على ستة أعطاه السدس وصار ما بقي بينهم وحدثنا أيضا أحمد بن عمر العذري عن عبد الرحمن بن الحسن العباسي عن أحمد بن محمد الكرجي أنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاف النصيبي ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي نا إسماعيل بن أبي أويس حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث بين الجد والإخوة قال زيد وكان رأيي يومئذ الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته فتحاورت أنا وعمر محاورة شديدة فضرب له في ذلك مثلا فقلت لو أن شجرة تشعب من أصلها غصن ثم تشعب في ذلك الغصن خوطان ذلك الغصن يجمع الخوطين دون الأصل ويغدوهما ألا ترى يا أمير المؤمنين أن أحد الخوطين أقرب إلى أخيه منه إلى الأصل قال زيد فأنا أعبر له وأضرب له هذه الأمثال وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الأخوة ويقول والله لولا إني قضيته اليوم لبعضهم لقضيت به للجد كله ولكن لعلي لا أخيب سهم أحد ولعلهم أن يكونوا كلهم ذي حق وضرب علي وابن عباس يومئذ لعمر مثلا معناه لو أن سيلا سال فخلج من خليج ثم خلج من ذلك الخليج شعبتان

قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لوجهين أحدهما أن كلا من هذين الإسنادين ضعيف في الأول عيسى بن أبي عيسى الخياط وهو ضعيف ومع ذلك منقطع لأن الشعبي لم يدرك عمر والثاني فيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف البتة فهذا وجه والثاني أنهما صحا لما كان فيهما للقياس مدخل بوجه من الوجوه ولا بمعنى من المعاني لأن السيل لا يستحق ميراثا أصلا لا سدسا ولا ثلثا وكذلك الغصن ولا فرق ومن أنوك النوك أن يظن أحد بمثل علي وزيد رضي الله عنهما إن أحدهما قاسم الجد مع الإخوة إلى خمسة وهو سادسهم ثم له السدس وإن كثروا وإن الثاني قاسم بالجد الإخوة إلى اثنين هو ثالثهما لا ينقضه من الثلث ما بقي أو السدس من رأس المال قياسا على غصنين تفرعا من غصن شجرة وأن إدخال أصحاب القياس لهذا في القياس في القحة الظاهرة والاستخفاف البادي فإن قال قائل فما وجه هذين الصاحبين لهذين المثلين في هذه المسألة فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا باطل بلا شك ونحن نبت أنهم رضي الله عنهم ما قالوا قط شيئا من هذا ولقد كانوا أرجح عقولا وأثقب نظرا وأضبط لكلامهم في الدين من أن يقولوا شيئا من هذا الاختلاط ولكن عيسى الخياط وعبد الرحمن بن أبي الزناد غير موثوق بهما ولعل

الشعبي سمعه ممن لا خير فيه كالحارث الأعور وأمثاله ثم لو قال قائل إن وجه ذلك لو صح بين ظاهر لا خفاء به وهو أن زيدا وعليا رضي الله عنهما يذهبان من رأيهما الذي لم يوجباه حتما على أحد إلى أن الميراث يستحق بالدنو في القرابة فإذا كان ذلك والإخوة عندهما أقرب من الجد فإذ هم أقرب من الجد فلا يجوز أن يمنعوا من الميراث معه وللجد فرض بإجماع فلم يجز أن يمنع أيضا من أجلهم وخالفهما غيرهما في قولهما إن الأخ أقرب من الجد فههنا ضربا هذين المثلين ليريا أن قربى الأخ من الأخ المتولدين من الأب كقربى الغصن والغصن المتفرعين من غصن واحد ومن شجرة أو كقربى جدول من جدول تفرعا جميعا من خليج من واد لكان قولا وهذا تشبيه حسي عياني ضروري لا شك فيه إلا أنه ليس من قبل التشبيه بقرب الولادة تستحق الميراث فالعم وابن الأخ أقرب من الجد ولا خلاف بيننا وبين خصومنا أنهما لا يرثان معه شيئا وابن البنت أقرب ابن العم الذي يلتقي مع المرء إلى الجد العاشر وأكثر ولا يرث معه شيئا بإجماع الأمة ونحن لم ننكر الاشتباه وإنما أنكرنا أن نوجب أحكاما لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل الاشتباه في الصفات فبطل أن يكون لهذا الخبر مدخل في القياس أو تعلق به بوجه من الوجوه ولكن تمويه أصحاب القياس في قياسهم وفيما يحتجون به لقياسهم متقارب كله في الضعف والسقوط والتمويه على الضعفاء المغترين بهم نسأل الله أن يفيء بهم إلى الهدى والتوفيق بمنه وأما قول علي إذ بلغه أن معاوية قال إذ قتل عمار فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتل عمارا الفئة الباغية فقال معاوية

إنما قتله من أخرجه فبلغ ذلك عليا فقال فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن هو قتل حمزة فلا أعجب من تجليح من أدخل هذا القياس وهل هذا إلا الائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم في قتل الصالحين بين يديه ناصرين له ومن استجاز أن يقول إن هذا قياس فليقل إن قول لا إله إلا الله قياس لأنه إذا قيل لنا لم تقولون ذلك قلنا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها وأن الاشتغال بمثل هذا لعناء لولا الرجاء في الأجر الجزيل في بيان تمويه هؤلاء القوم الذين اختدعوا الأغمار بمثل هذه الدعاوى وإنما هذا من علي رضي الله عنه ليري معاوية تناقض قوله إنه إنما قتل عمارا من أخرجه وهذا مثل قول المالكي والحنفي إن نكاح من اعتق أمته وتزوجها وجعل عتقها صداقها نكاح فاسد فيقول لهم أصحابنا والشافعيون فنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن صفية فاسد فإن أقدموا على ذلك كفروا وإن كعوا عنه تناقضوا وكقول الحنفي إن الحكم باليمين مع الشاهد مخالف للقرآن فنقول لهم نحن والشافعيون والمالكيون فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إذن مخالف للقرآن فإن قالوا بذلك كفروا وإن كعوا تناقضوا وكقول المالكيين إن صلاة الصحيح المؤتم بإمام مريض قاعدة فاسدة فنقول لهم نحن والشافعيون والحنفيون فصلاة الناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه كذلك وأمره صلى الله عليه وسلم الناس

إذا صلى إمامهم قاعدا أن يصلوا قعودا فاسد كل ذلك باطل فإن قالوه كفروا وإن كعوا عنه تناقضوا وإن من ظن أن هذا قياس لمخذول أعمى القلب ومن هذا الباب هو قول علي فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن هو قتل حمزة إذ أخرجه وأي قياس ههنا لو عقل هؤلاء القوم وحسبنا الله ونعم الوكيل وكذلك قصة علي رضي الله عنه يوم القضية بينه وبين أهل الشام إذ أراد أن يكتب علي أمير المؤمنين فأنكر ذلك عمرو ومن حضر من أهل الشام وقالوا اكتب اسمك واسم أبيك ففعل فقالت الخوارج لما محا أمير المؤمنين قد خلعت نفسك فاحتج عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إذ أنكر سهيل بن عمرو حين القضية يوم الحديبية أن يكتب في الكتاب محمد رسول الله فمحا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب محمد بن عبد الله فقال علي أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم محا نفسه من النبوة إذ محا رسول الله من الصحيفة قال أبو محمد وهذا كالذي في قصة عمار سواء بسواء ولا مدخل للقياس ههنا وإنما هو إئتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم وكلا الأمرين محو من رق ليس أحدهما مقيسا على الآخر وهكذا الأمر حديثا وقديما وإلى يوم القيامة وليس إذا كتبت نار ثم محى امحت النار من الدنيا وهذا من جنون الخوارج وضعف عقولهم إذ كانوا أعرابا جهالا بل قولهم في هذا هو القياس المحقق لأنهم قاسوا محو الخلافة عن علي على محو اسمه من الصحيفة وهذا قياس يشبه عقولهم وقد علم كل ذي مسكة عقل أنه إذا محيت سورة من لوح فإنها لا تمحى بذلك من الصدور

ومن ظن أن بين القياس وبين قول علي نسبة فإنما هو مكابر للعيان لأن القياس إنما هو تحريم أو إيجاب أو إباحة في شيء غير منصوص تشبيها له بشيء منصوص وليس في هذه القضية تحريم ولا إيجاب ولا تحليل وبالله تعالى التوفيق وأما قول ابن عباس للخوارج إذ أنكروا تحكيم الحكمين يوم صفين إن الله تعالى أمر بالتحكيم بين الزوجين وفي أرنب قيمتها ربع درهم فإن هذا الخبر حدثناه أحمد بن محمد الجسور ثنا وهب بن مسرة ثنا محمد بن وضاح ثنا عبد السلام بن سعيد التنوخي ثنا سحنون ثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عمن حدثه عن ابن عباس قال أرسلني علي إلى الحرورية لأكلمهم فلما قالوا لا حكم إلا لله قلت أجل صدقتم لا حكم إلا لله وإن الله قد حكم في رجل وامرأته وحكم في قتل الصيد فالحكم في رجل وامرأته والصيد أفضل أو الحكم في الأمة يرجع بها ويحقن دماؤها ولم شعثها قال أبو محمد وهذا لا يصح البتة لأنه عمن لم يسم ولا يدري من هو ثم هبك أنه أصح من كل صحيح وأننا شهدنا ابن عباس يقول ذلك فإنه ليس من القياس من ورد ولا صدر بل هو نص جلي ومعاذ الله أن يظن ذو عقل بأن عليا ومعاوية ومن معهما من الصحابة حكموا في النظر للمسلمين قياسا على التحكيم في الأرنب وبين الزوجين فما يظن هذا إلا مجنون البتة وهل تحكيم الحكمين إلا نص قول الله عز وجل {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فنص تعالى على أن كل تنازع في شيء من الدين فإن الواجب فيه تحكيم كتاب الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم والتنازع بين علي ومعاوية لا يجهله من له أقل معرفة في الأخبار ففرض عليهما تحكيم القرآن

كما فعلا فأي قياس ههنا لو أنصف هؤلاء القوم عقولهم فإن كان هذا عندهم قياسا فقد ضيعوه وتركوه ويلزمهم إن تحاكم إليهم اثنان في بيع أو دين أو غير ذلك فليبعثوا من أهل كل واحد منهما حكما وإلا فقد تركوا القياس بزعمهم فإن قالوا فهلا كفاهم حكم واحد حتى احتجوا إلى اثنين قيل لهم وبالله تعالى التوفيق إن أهل العراق لم يرضوا حكما من أهل الشام ولا رضي أهل الشام حكما من أهل العراق فلذلك اضطروا إلى حكم من كلتا الطائفتين وأما الرواية عن علي وعمر في قتل الجماعة بالواحد فكما حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني عمرو قال قال أخبرني حيي بن يعلى بن أمية أنه سمع أباه يعلى يقول وذكر قصة الذي قتله امرأة أبيه وخليلها أن عمر بن الخطاب كتب إلي اقتلهما فلو اشترك في دمه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم قال ابن جريج فأخبرني عبد الكريم وأبو بكر قالا جميعا إن عمر كان يشك فيها حتى قال له علي يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور فأخذ هذا عضوا وأخذ هذا عضوا كنت قاطعهم قال نعم قال فذلك حين

ليس أحدهما أصلا للآخر لأن النص قد ورد بقتل من قتل وكما ورد بقطع من سرق ليس أحد النصين في القرآن بأقوى من الآخر قال تعالى {ولكم في لقصاص حياة يأولي لألباب لعلكم تتقون} وقال تعالى {وجزآء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على لله إنه لا يحب لظالمين} وقال تعالى {ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} ولم يخص تعالى من كلا الأمرين منفرد من مشارك فلو صح لكان علي إنما أنكر على عمر اختلاف حكمه فقط وتركه أحد النصين وأخذه بالآخر وهذا هو الذي ننكره نحن سواء بسواء فخرج هذا الخبر لو صح من أن يكون له في القياس مدخل أو أثر أو معنى والحمد لله رب العالمين ثم قد روينا عن علي أنه كان لا يرى قتل اثنين بواحد فلو قاله لكان قد تركه ورجع عنه ورآه باطلا من الحكم فهذا كل ما ذكروه مما روي عن الصحابة قد بيناه بأوضح بيان بحول الله تعالى وقوته أنه ليس لهم في شيء منه متعلق وهو أنه إما شيء بين الكذب لم يصح وإما شيء لا مدخل للقياس فيه البتة فإذا الأمر كما ترون ولم يصح قط عن أحد من الصحابة القول بالقياس وأيقنا أنهم لم يعرفوا قط العلل التي لا يصح القياس إلا عليها عند القائل به فقد صح الإجماع منهم رضي الله عنهم على أنهم لم يعرفوا ما القياس وبأنه بدعة حدثت في القرن الثاني ثم فشا وظهر في القرن الثالث كما ابتدأ التقليد والتعليل للقياس في القرن الرابع وفشا وظهر في القرن الخامس فليتق الله امرؤ على نفسه وليتداركها بالتوبة والنزوع عمن هذه صفته فحجة الله تعالى قد قامت باتباع القرآن والسنة وترك ما عدا ذلك من

القياس والرأي والتقليد ولقد كان من بعض الصحابة نزعات إلى القياس أبطلها رسول الله صلى الله عليه وسلم نذكرها إن شاء الله تعالى في الدلائل على إبطال القياس إذا استوعبنا بحول الله تعالى وقوته كل ما اعترضوا به وبقيت أشياء من طريق النظر موهوا بها ونوردها إن شاء الله تعالى ونبين بعونه عز وجل بطلان تعلقهم وأنه لا حجة لهم في شيء منها كما بينا بتأييد الله تبارك وتعالى ما شغبوا به من القرآن وما موهوا به من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وما لبسوا به من الإجماع وما أوهموا به من آثار الصحابة وبالله تعالى التوفيق فمن ذلك أنهم قالوا إن القياس هو من باب الاستشهاد على الغائب بالحاضر فإن لم يستشهد بالحاضر على الغائب فلعل فيما غاب عنا نارا باردة قال أبو محمد هذه شغبية فاسدة فأول تمويههم ذكرهم الغائب والحاضر في باب الشرائع وقد علم كل مسلم أنه ليس في شيء من الديانة شيء غائب عن المسلمين وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين للناس دينهم اللازم لهم قال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فلا يخلو رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون لم يبلغ ولا بين للناس فهذا كفر ممن قاله بإجماع الأمة بلا خلاف وإما أن يكون صلى الله عليه وسلم بلغ كما أمر به وبين للناس جميعهم دينهم وهذا هو الذي لا شك فيه فأين الغائب من الدين ههنا لو عقل هؤلاء القوم إلا أن يكون هؤلاء القوم وفقنا الله وإياهم يتعاطون استخراج أحكام في الشريعة لم ينزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم فهي غائبة عنا فهذا كفر ممن أطلقه واعتقده وتكذيب

لقول الله عز وجل {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد وأما تمويههم بذكر النار ولعل في الغائب نارا باردة فكلام غث في غاية الغثاثة لأن لفظة نار إنما وقعت في اللغة على كل حار مضيء صعاد فإن كنتم تريدون أن شيئا حارا يكون باردا فهذا تخليط وعين المحال وأما لفظة نار فقد وقعت أيضا في اللغة على ما لا يحرق فالنار عند العرب اسم الميسم الذي توسم به الإبل فيقولون ما نارها بمعنى ما وسمها فليس الاسم مضطرا إلى وجوده كما هو ولا بد ولكنه اتفاق أهل اللغة وليس من قبل أننا شاهدنا النار محرقة صعادة مضيئة وجب ضرورة أن تسمى نارا ولا بد بل لو سموها باسم آخر ما ضر ذلك شيئا وليس أيضا من قبل أننا شاهدنا النار على هذه الهيئة عرفنا أن ما غاب عنا منها كذلك أيضا بل قد علمنا أن أهل اللغة لم يوقعوا اسم نار في الغائب والحاضر إلا على الحار المضيء المحرق الصعاد فإن قلتم فلعل في الغائب جسما مضيئا باردا صعادا قلنا لكم هذا ما لا دليل عليه والقول بما لا دليل عليه غير مباح وقد عرفنا صفات العناصر كلها إلا إن قلتم لعل الله تعالى عالم بهذه الصفة فالله تعالى قادر على ذلك ولكنه تعالى لم يخلق في هذا العالم مما شاهدنا بالحواس أو بالعقل أو بالمقدمات الراجعة إلى الحواس والعقل غير ما شاهدنا بذلك ولعله تعالى قد خلق عوالم بخلاف صفة عالمنا هذا إلا أن هذا أمر لا نحققه ولا نبطله ولكنه ممكن والله أعلم ولا علم لنا إلا ما علمنا الله وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا فقالوا إن في النصوص جليا وخفيا فلو كانت كلها

جلية لاستوى العالم والجاهل في فهمها ولو كانت كلها خفية لم يكن لأحد سبيل إلى فهمها ولا إلى علم شيء منها قالوا فوجب بذلك ضرورة أن نستعمل القياس من الجلي على معرفة الخفي قال أبو محمد وهذه مقدمة فاسدة والأحكام كلها جلية في ذاتها لأن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} ولا يحل لمسلم أن يعتقد أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالبيان في جميع الدين فلم يفعل ولا بين وهذا ما لا يجوز لمسلم أن يخطره بباله فإذ لا شك في هذا ونوقن أنه صلى الله عليه وسلم قد بين الدين كله فالدين كله بين وجميع أحكام الشريعة الإسلامية كلها جلية واضحة وقد قال عمر رضي الله عنه تركتم على الواضحة ليلها كنهارها أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا وقال أيضا رضي الله عنه سننت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض إلا أن يضل رجل عن عمد قال أبو محمد إلا أن من الناس من لا يفهم بعض الألفاظ الواردة في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم لشغل بال أو غفلة أو نحو ذلك وليس عدم هذا الإنسان فهم ما خفي عليه بمانع أن يفهمه غيره من الناس وهذا أمر مشاهد يقينا وهكذا عرض لعمر رضي الله عنه إذا لم يفهم آية الكلالة وفهمها غيره وقال عمر رضي الله عنه اللهم من فهمته إياها فلم يفهمها عمر وقال ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة وما أغلظ لي بشيء ما أغلظ لي فيها إلى أن طعن بأصبعه في صدري وقال لحفصة ما أراه يفهمها أبدا أو كما قال صلى الله عليه وسلم فصح ما قلناه يقينا وأخبر صلى الله عليه وسلم أن آية الصيف كافية الفهم وأن عمر لم يفهمها ليس لأنها غير كافية بل هي كافية بينة ولكن لم ييسر لفهمها

وكذلك أخبر صلى الله عليه وسلم أن الحلال بين وأن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فلم يقل صلى الله عليه وسلم إنها مشتبهات على جميع الناس وإنما هي مشتبهة على من لا يعلمها وإذ هذا كذلك فحكم من لا يعلم أن يسأل من يعلم كما قال تعالى {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} ولم يقل فارجعوا إلى القياس فوضع دعوى هؤلاء القوم وصح أن الدين كله بين واضح وسواء كله في أنه جلي مفهوم إلا أن من الناس من يخفى عليه الشيء منه بعد الشيء لإعراضه عنه وتركه النظر فيه فقط وقد يخفى على العالم الفهم أيضا إذا نظر في مقدماته وقضاياه بفهم كليل إما لشغل بال وإما لطلبه في اللفظ ما لا يقتضيه فقط حتى يعلمه إياه العلماء الذين هو عندهم بين جلي ولو لم يكن الأمر هكذا لما عرف الجاهل صحة قول مدعي الفهم أبدا فصح أنه لما أمكن العالم إقامة البرهان حتى يفهم الجاهل من القضايا كالذي فهم العالم فإن العلم كله جلي ممكن فهمه لكل أحد ولولا ذلك ما فهم الجاهل شيئا ولا لزم من لا يفهم العمل بما لا يفهم وأيضا فيلزم فيما كان منه خفيا ما ألزموه لو كان كله خفيا وفي الجلي منه ما يلزم لو كان كله جليا ولا فرق وليس للقياس ههنا طريق البتة وبالله تعالى التوفيق واحتجوا فقالوا لما رأينا البيضتين إذا تصادمتا تكسرتا علمنا أن ذلك حكم كل بيضة لم تنكسر قالوا وهذا قياس قال أبو محمد وهذا خطأ ولم نعلم ذلك قياسا ولكن علمنا بأول العقل وضرورة الحس أن كل رخص الملمس فإنه إذا صدمه ما هو أشد منه اكتنازا أثر فيه إما بتفريق أجزائه وإما بتبديل شكله ولم نقل

قط إن البيضة لما أشبهت البيضة وجب أن تنكسر إذا لاقت جرما صليبا بل هذا خطأ فاحش وفي هذا القول إبطال القياس حقا فبيضة الحنش وبيضة الوزعة وبيضة صغار العصافير لا تشبه بيضة النعام البتة في أغلب صفاتها إلا أنهما جميعا واقعان تحت نوع البيض وكلاهما ينكسر إذا لاقا جسما صليبا مكتنزا ونحن لو خرطنا صفة بيضة من عاج أو من عود البقس حتى تكون أشبه ببيضة النعامة من الماء بالماء ولم تشبه بيضة الحجلة إلا في الجسمية فقط ثم ضربنا بها الحجر لما انكسرت فصح أن الشبه لا معنى له في إيجاب استواء الأحكام البتة وبطل قولهم إننا علمنا انكسار ما بأيدينا من البيض لشبهها بما شاهدنا انكساره منها وصح أنه من أجل الشبه بينهما وجب انكسار هذه كانكسار تلك وإنما الذي يصح بهذا فهو قولنا إن كل ما كان تحت نوع واحد فحكمه مستو وسواء اشتبها أو لم يشتبها فقد علمنا أن العنب الأسود الضخم المستطيل أو المستدير أشبه بصغار عيون البقر الأسود منه بالعنب الأبيض الصغير لكن ليس شبهه به موجبا لتساويهما في الطبيعة ولا بعده عن مشابهة العنب بموجب لاختلافهما في الطبيعة فبطل حكم التشابه جملة وصح أن الحكم للاسم الواقع على النوع الجامع لما تحته وهكذا قلنا نحن إن حكمه صلى الله عليه وسلم في واحد من النوع حكم منه في جميع النوع وأما القياس الذي ننكر فهو أن يحكم لنوع لا نص فيه بمثل الحكم في نوع آخر قد نص فيه كالحكم في الزيت تقع فيه

النجاسة بالحكم في السمن يقع فيه الفأر وما أشبه هذا فهذا هو الباطل الذي ننكره وبالله التوفيق ومعرفة المرء بأول طبيعته لا ينكرها إلا جاهل أو مجنون فنحن نجد الصغير يفر عن الموت وعن كل شيء ينكره وعن النار وإن كان لم يحترق قط ولا رأى محترقا وعن الإشراف على المهواة ونجده يضرب بيده إذا غضب وهو لا يعلم أن الضرب يؤلم ويعض بفمه قبل نبات أسنانه وهو لم يعضه قط أحد فيدري ألم العض نعم حتى نجد ذلك في الحيوان غير الناطق فنجد الصغير من الثيران ينطح برأسه قبل نبات قرنيه والصغير من الخنازير يشتر بفمه قبل كبر ضرسه والصغير من الدواب يرمح قبل اشتداد حافره وهذا كثير جدا فبمثل هذا الطبع علمنا أن كل رخص المجسمة فإنه يتغير بانكسار أو تبدل شكل إذا لاقى جسما صليبا وبه علمنا أن كل نار في الأرض وفيما تحت الفلك فهي محرقة لا بالقياس البارد الفاسد وليس هذا في شيء من الشرائع البتة بوجه من الوجوه لأنه لم تكن النار قط منذ خلقها الله تعالى إلا محرقة حاشا نار إبراهيم لإبراهيم عليه السلام وحده لا لغيره بالنص الوارد فيها ولم يجز أن يقاس عليها غيرها ولا كانت البيضة قط إلا متهيئة للانكسار إذا لاقت شيئا صلبا وقد كان البر بالبر حلالا متفاضلا برهة من الدهر وكذلك كل شيء من الشريعة واجب فقد كان غير واجب حتى أوجبه النص وغير حرام حتى حرمه النص فليست ههنا شيء أن يجب أن يقاس عليه ما لم يأت بإيجابه نص ولا تحريم أصلا وبالله تعالى التوفيق

واحتجوا بأن قالوا إن علمنا بما في داخل هذه الجوزة والرمانة على صفة ما إنما هو قياس على ما شاهدنا من ذلك وإلا فلعل داخلهما جوهر أو شيء مخالف لما عهدناه وكذلك أن في رؤوسنا أدمغة وفي أجوافنا مصرانا وأن هذا الصبي لم تلده حمارة وأن الأحياء يموتون إنما علمنا ذلك قياسا على ما شاهدنا قال أبو محمد وهذا من أبرد ما موهوا به وما علم قط ذو عقل أن من أجل علمنا بأن ما في داخل هذه الرمانة كالذي في داخل هذه وأن في أجوافنا مصرانا وفي رؤوسنا أدمغة وأن الناس لم تلدهم الأتن وأن الأحياء يموتون علمنا أن الزيت ينجس إذا مات فيه عصفور ولا ينجس إذا مات فيه مائة عقرب وأن التمرة بالتمرة حرام والتفاحة بالتفاحة حلال وأن البئر إذا مات فيها سنور نزح منها أربعون دلوا فإن سقط فيها نقطة بول نزحت كلها وأن من مس دبره انتقض وضوءه وأن من مس أنثييه لم ينتقض وضوءه وهل بين هذه الوجوه والتي قبلها تشبيه وإن المشبه بين هاتين الطريقتين لضعيف التمييز وتلك أمور طبيعية ضرورية تولى الله عز وجل إيقاعها في القلوب لا يدري أحد كيف وقع له علمها وهذه الأخر إما دعاوى لا دليل عليها وإما سمعية لم تكن لازمة ثم ألزم الله منها بالنص لا بالكهانة ولا بالدعوى ونحن نجد الصغير الذي لم يحب بعد وإنما هو حين هم أن يجلس إذا رأى رمانة قلق وشره إلى استخراج ما فيها وأكلها وكذلك الجوز وسائر ما يأكله الناس فليت شعري متى تعلم هذا الصبي القياس بأن ما في هذه الرمانة كالتي أطعمناه عام أول أو قبل هذا بشهر ولقد كان ينبغي لهم أن يعرفوا على هذا أحكام القياس بطبائعهم دون أن يأخذوها تقليدا عن أسلافهم

ولو أنهم تدبروا العالم وتفكروا في طبائعه وأجناسه وأنواعه وفصوله وخواصه وأعراضه لما نطقوا بهذا الهذيان فإن كانوا يريدون أن يسموا جري الطبائع على ما هي عليه قياسا فهذه لغة جديدة ولم يقصدوا بها وجه الله تعالى لكن قصدوا الشغب والتخليط كمن سمى الخنزير أيلا ليستحله والأيل خنزيرا ليحرمه وكل هذه حيل ضعيفة لا يتخلصون بها مما نشبوا فيه من الباطل وإنما تكلمهم عن المعنى لا على ما بدلوه برأيهم من الأسماء فإذ حققوا معنا المعنى الذي يرمون إثباته ونحن نبطله فحينئذ يكلف البرهان من ادعى أمرا منا ومنهم فمن أتى به ظفر ومن لم يأت به سقط وليسموه حينئذ بما شاؤوا ويكفي من سخف هذا الاحتجاج منهم أن يقال لكل ذي حس هل نسبة التين من البر كنسبة الجوزة من الجوزة وكنسبة الرمانة من الرمانة وكنسبة الإنسان من الإنسان فإن وجد في العالم أحمق يقول نعم لزمه إخراج البلوط والتين عن زكاة البر كيلا بكيل وهذا ما لا يقوله مسلم ولزمه أن يقول فيمن حلف لا يأكل برا فأكل تينا أن يحنث ولزمه أكثر من هذا كله وهو الكذب إن التين بر وإن قالوا لا تركوا قولهم في تشبيه القياس في الشرائع لمعرفتنا بأن ما في هذه الرمانة كهذه والذي لا نشك فيه فهذا الاحتجاج منهم مبطل لقولهم ومثبت لقولنا لأن الرمانة من الرمانة والجوزة من الجوزة والإنسان من الإنسان كالسمن من السمن والفأر من الفأر وكل نوع من نوعه والجوز مخالف للرمان كخلاف السنور من الفأر وخلاف الزيت للسمن وهذا هو الذي ينكره ذو عقل وأنه إذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم البر بالبر متفاضلا

لزم ذلك في كل بر ولم يجب فيما ليس ببر إلا بنص آخر وإذا أمر بهرق السمن المائع الذي مات فيه الفأر وجب ذلك في كل سمن مات فيه فأر ولم يجب ذلك في غير السمن الذي مات فيه الفأر وهذا هو الذي لا تعرف العقول غيره وبالله تعالى التوفيق وأما تحريم البلوط قياسا على البر وهرقهم الزيت قياسا على السمن فهو كمن قال الذي داخل اللوز كالذي داخل الرمان ولا فرق فبطل قولهم بالبرهان الضروري وصح أن القياس إنما هو قياس نوع على نوع آخر وهذا باطل بنفس احتجاجهم وبالله تعالى التوفيق ويقال لهم أمعرفتكم بأنكم تموتون وهو شيء يستوي في الإقرار به كل ذي حس هو مثل معرفتكم بالشرائع كالصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك مما يحرم في البيوع والنكاح وما يحل فإن قالوا لا كفونا أنفسهم وأبطلوا ما استدلوا به ههنا وإن قالوا نعم كابروا ولزمهم أن يكونوا مستغنين عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم كانوا يدرون الشريعة بطبائعهم قبل أن يعلموها وهذا ما لا يقوله ذو عقل ويقال لهم هل كان على قشر الرمان قط على لوز فإن قالوا نعم لحقوا بسكان المارستان وإن قالوا لا سألناهم أكانت الخمر قط حلالا وكان بيع البر بالبر متفاضلا غير محرم في صدر الإسلام أو لم يزل ذلك والخمر حلالا مذ خلق الله الخمر وللبر بينة الطبع فإن قالوا كانت الخمر وبيع البر متفاضلا غير حرام برهة من الإسلام ثم حرم ذلك أقروا بأن ذلك ليس من باب ما في قشر اللوز والرمان في ورد ولا صدر لأن الطبائع قد استقرت مذ خلق الله تعالى العالم على رتبة واحدة هذا معلوم بأول العقل والحس اللذين يدرك بهما علم الحقائق وأما الشرائع فغير مستقرة ولم يزل تعالى مذ خلق الخلق ينسخ شريعة بعد شريعة فيحرم في هذه ما أحل في تلك

ويسقط في هذه ما أوجب في تلك ويوجب في هذه ويحل فيها ما أسقط في تلك وما حرم إلى أن نص الله تعالى أنه لا تبدل هذه الملة أبدا فصح أن من شبه الطبائع التي تعلم بالحس والعقل بالشرائع التي لا تعلم إلا بالنص لا مدخل للعقل ولا للحس في تحريم شيء منها ولا في إيجاب فرض منها إلا بعد ورود النص بذلك فهو غافل جاهل ولو احتج بهذا يهودي لا يرى النسخ لكان هذا الاحتجاج أشبه بقوله منه بقول أصحاب القياس وأما الموت فهو حكم كل جسم مركب من العناصر إلى نفس حية فقد رتب الله تعالى في العالم هذا اصطحابهما مدة ثم افتراقهما ورجوع كل عنصر إلى عنصره وليس هذا قياسا يوجب موت أهل الجنة والنار فبطل تمويههم وبالله تعالى التوفيق وقالوا القياس فائدة زائدة على النص قال أبو محمد لا فائدة في الزيادة على ما أمر الله تعالى به ولا في النقص منه بل كل ذلك بلية ومهلكة وتعد لحدود الله تعالى وظلم وافتراء وبالله تعالى نعوذ من ذلك ولا أعظم جرما ممن يقر على نفسه أنه يزيد على النص الذي أذن الله به ولم يأذن في تعديه وبالله تعالى نعوذ من الخذلان واحتج بعضهم فقال لمن سلف من أصحابنا فقهكم في اتباع الظاهر يشبه فعل الغلام الذي قال له سيده هات الطست والإبريق فأتاه بهما ولا ماء في الإبريق فقال له وأين الماء لم تأمرني وإنما أمرتني بطست وإبريق فهاهما وأنا لا أفعل إلا ما أمرتني قال أبو محمد فقال لهم وبالله تعالى التوفيق بل فقهكم أنتم يشبه فعل المذكور على الحقيقة إذ قال له سيده إذا أمرتك بأمر فافعله

وما يشبهه فعلمه سيده القياس حقا على وجهه وحفظ الغلام ذلك وقبله قبولا حسنا فوجد سيده حرارة فقال سق إلي الطبيب فإني أجد التياثا فلم ينشب أن أتاه بعض إخوانه فزعا فقال له يا فلان من مات لك فقال ما مات لي أحد فقال له فإن الغاسل والمغتسل والنعش وحفار القبور عند الباب فدعا غلامه فقال له ما هذا الباب فقال له ألم تأمرني إذا أمرتني بأمر أن أفعله وما يشبهه قال نعم قال فإنك أمرتني بسوق الطبيب لالتياثك وليس يشبه العلة وإحضار الطبيب إلا الموت والموت يوجب حضور الغاسل والنعش والحفار لحفر القبر فأحضرت كل ذلك وفعلت ما أمرتني وما يشبهه فنحن نقول إن هذا الغلام أعذر في الائتمار لأمر مولاه في الإبريق الفارغ إذ لعله يريد أن يعرضه على جليسه أو يبيعه أو يقبله لمذهب له فيه منه في جلب الحفار والغاسل والنعش قياسا على العلة والطبيب ولقد كان الغلام قوي الفهم في القياس إذ لا قياس بأيديكم إلا مثل هذا وهو أن تشبهوا حالا بحال في الأغلب فتحكمون لهما بحكم واحد وهو باب يؤدي إلى الكهانة الكاذبة والتخرص في علم الغيب والتحذلق في الاستدراء على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيما لم يأذن به عز وجل وبالله تعالى نعوذ من ذلك واحتجوا فقالوا أنتم تقولون إذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عين ما فهو حكم واحد في جميع نوع تلك العين التي يقع عليها اسم نوعها وهذا قياس

قال أبو محمد هذا تمويه زائف وقد بينا وجه هذه المسألة وهو أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى كل من يخلق إلى يوم القيامة من الإنس والجن وليحكم كل نوع من أنواع العالم بحكم ما أمره به ربه تعالى ولا سبيل إلى أن يخاطب صلى الله عليه وسلم من لم يخلق بعد بأكثر من أن يأمر بالأمر فيلزم النوع كله إلا أن يخص صلى الله عليه وسلم كما خص أبا بردة بن نيار بقوله يجزيك ولا تجزىء جذعة عن أحد بعدك قالوا فهلا قلتم في أمره صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت حبيش بما أمرها به إذا استحيضت إنه لازم لكل امرأة تسمى فاطمة فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق لم ينص عليه السلام على أن ذلك حكم كل امرأة تسمى فاطمة وإنما نص صلى الله عليه وسلم على أن دم الحيض أسود يعرف فإذا أقبل فافعلي كذا وإذا أدبر فافعلي كذا فنص صلى الله عليه وسلم على صفة الحيض والطهر والاستحاضة وعلى حكم كل ذلك متى ظهر فوجب التزام ذلك متى وجد الحيض أو الطهر أو الاستحاضة ثم ينعكس هذا السؤال عليهم بعد أن أريناه أنه حجة لنا فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أنتم أهل القياس وتفتيش العلل في الديانة وتعدي القضايا عما نص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما لم ينصا عليه وأنتم أهل الكهانة والاستدراك في الديانة ما لم يذكر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فاستعملوا مذهبكم في هذا الحديث فقد قال عليه السلام في دم الاستحاضة عندكم إنما هو عرق وبين أن دم الحيض أسود يعرف فكما قستم الحمرة والصفرة والكدرة على الدم الأسود

فجعلتموه كله حيضا فكذلك قيسوا كل عرق يسيل من المرأة من رعاف أو جرح على عرق الاستحاضة وأحكموا لها حينئذ بحكم الاستحاضة وإلا كنتم متناقضين وتاركين للقياس ولا شك عند كل ذي حسن إن كان القياس حقا إن قياس عرق يدمي عن عرق يدمي أشبه وأولى من قياس الدلاع أو الشاهبلوط على البر والتمر على أن بعضهم قد فعل ذلك وهم الحنفيون وأوجبوا أن الوضوء ينتقض بكل عرق دمي قياسا على عرق المستحاضة عندهم فيلزمهم أن يوجبوا من ذلك الغسل كما جاء النص على المستحاضة وهذا ما لا انفكاك لهم منه وبالله تعالى التوفيق وقالوا لم نعلم أن أجسام أهل الصين كأجسامنا إلا قياسا منا بالشاهد على الغائب قال أبو محمد وهذا من الجنون المكرر وقد بينا آنفا أن علمنا بهذا علم ضروري أولي يعرف ببديهة العقل ولم يكن المميز قط من الناس إلا وهو عالم بطبعه أن كل من مضى أو يأتي أو غاب عنه من الناس فعلى هيئتنا بلا شك ولا يتشكل في عقل أحد سوى هذا وبالضرورة يعلم كل ذي عقل أن علمنا أن المطلقة ثلاثا لا تحل لمطلقها إلا بعد زواج يطؤها ليس من علمنا بأن أهل الصين من الناس هم على هيئاتنا بل كان جائزا أن تحل له بعد ألف طلقة دون زوج ولولا النص وهكذا القول في البئر وسائر ما وردت به النصوص لأنه قد كانت هذه الأعيان موجودة آلافا من السنين ليس فيها شيء من هذا التحريم ولا هذا الإيجاب ولم تكن الأجسام قط خالية من حركة أو سكون ولا كانت أجسام الناس على خلاف هذا الشكل الذي هم عليه والمشبه للشرائع بالطبائع مجنون أو في أسوأ حالا من الجنون

لأن من سلك سبيل المجانين وهو مميز فالمجنون أعذر منه ولو أنصفوا أنفسهم لعلموا أن الذي قالوا حجة عليهم لأن علمنا بأن أجسام الناس في الصين وفيما يأتي إلى يوم القيامة على هيئة أجسامنا هو كعلمنا بعد ورود النص بأن كل بر في الصين والهند وكل بر يحدثه الله تعالى إلى يوم القيامة فحرام بيع بعضه ببعض متفاضلا وأما هم فإنه يلزمهم إذ نقلوا حكم البر المذكور إلى التين والأرز أن ينقلوا حكم أجسام الناس إلى أجسام البغال فيقولوا إن بغال الصين على هيئة أجسام الناس لأن نسبة الأرز إلى البر كنسبة البغال إلى الناس ولا فرق وكل ذلك أنواع مختلفة ويلزمهم أيضا إذا قاسوا الغائب على غير نوعه من الشاهد أن يقولوا إن الملائكة والحور العين لحم ودم قياسا على الناس وأنهم يمرضون ويفيقون ويموتون وأن فيهم حاكة وملاحين وفلاحين وحجامين وكرباسيين قياسا على الشاهد وإلا فقد نقضوا وبطلوا قياسهم للغائب على الشاهد والحق من هذا أن لا غائب عن العقل من قسمة العالم التي تدرك بالعقل ولا غائب عن السمع من الشريعة وبالله تعالى نعتصم وكل ذلك ثابت حاضر معلوم والحمد لله رب العالمين وقالوا إن كل مشتبهين فوجب أن يحكم لهما بحكم واحد من حيث اشتبها قال أبو محمد وهذا تحكم بلا دليل ودعوى موضوعة وضعها غير مستقيم والحقيقة في هذا أن الشيئين إذا اشتبها في صفة ما فهما جميعا فيها مستويان استواء واحدا ليس أحدهما أولى بتلك الصفة من الآخر

ولا أحدهما أصل والثاني فرع ولا أحدهما مردود إلى الآخر ولا أحدهما أولى بأن يكون قياسا على الآخر من أن يكون الآخر قياسا كزيد ليس أولى بالآدمية من عمرو ولا حمار خالد أولى بالحمارية من حمار محمد والغراب الأسود والسح ليس أحدهما أولى بالسواد من الآخر وهذا كله باب واحد في جميع ما في العالم وكذلك الشرائع ليس بر بغداد بأولى بالتحريم في بيع بعضه ببعض متفاضلا من بر الأندلس ولا سمن المدينة إذا مات فيه الفأر وهو مائع بأولى أن يهراق من سمن مصر فهذا هو الذي لا شك فيه وأما ما يريدون من دس الباطل وما لا يحل جملة الواجب فلا يجوز لهم بعون الله تعالى إلا على جاهل مغتر بهم أهلكوه إذ أحسن الظن بهم وذلك أنهم يريدون أن يأتوا إلى ما ساوى نوعا آخر في بعض صفاته فيلحقونه به فيما لم يستو معه وهذا هو الباطل المحض الذي لا يجوز البتة أول ذلك أنه تحكم بلا دليل وما كان هكذا فقط سقط وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المؤمن كقتله وكل مسلم يعلم أنه لا تشابه أقوى من تشابه أخبر به صلى الله عليه وسلم فإذا لا شك في هذا وصح يقينا أن لعن المؤمن كقتله وأجمعت الأمة بلا خلاف أن لعن المؤمن لا يبيح دم اللاعن كما يبيح القتل دم القاتل ولا يوجب دية كما يوجب القتل دية فبطل قول من قال إن الاشتباه بين الشيئين يوجب لهما في الشريعة حكما واحدا فيما لم على اشتباههما فيه وبعد فإن البرهان يبطل قولهم من نفس هذه المقدمة التي رتبوا وذلك

أنه ليس في العالم شيئان أصلا بوجه من الوجوه إلا وهما مشتبهان من بعض الوجوه وفي بعض الصفات وفي بعض الحدود لا بد من ذلك لأنهما في محدثان أو مؤلفات أو جسمان أو عرضان ثم يكثر وجود التشابه على قدر استواء الشيئين تحت جنس أعلى ثم تحت نوع فنوع إلى أن تبلغ نوع الأنواع الذي يلي الأشخاص كقولنا الناس أو الجن أو الخيل أو البر أو التمر وما أشبه ذلك فواجب على هذه المقدمة الفاسدة التي قدموا إذا كانت عين ما مما في العالم حراما إما أن يكون ما في العالم أوله عن آخره حراما قياسا عليه لأنه يشبهه ولا بد في بعض الوجوه إن تمادوا على هذا سخطوا وكفروا وإن أبوا منه تركوا مذهبهم الفاسد في قياس الحكم فيما لم ينص عليه من الأنواع على ما نص عليه منها ثم نلزمهم إلزاما آخر وهو أننا نجد أيضا شيئا آخر حلالا فيلزم أن يكون كل ما في العالم حلالا قياسا على هذا لأنه أيضا يشبهه من بعض الوجوه وهذا إن قالوه حمقوا وخرجوا عن الإسلام وإن أبوا منه تركوا مذهبهم الفاسد في قياس الحكم فيما لم ينص عليه من الأنواع على ما نص عليه منها ثم تجمع عليهم هذين الإلزامين معا فيلزمهم أن يجعلوا الأشياء كلها حراما حلالا معا قياسا على ما حرم وما حلل وهذا تخليط ولا شك في فساد كل قول أدى إلى مثل هذا السخف فإذ لا شك في بطلان هذا الهذيان فالواجب ضرورة أن يحكم بالتحريم فيما جاء فيه النص بالتحريم وأن يحكم بالتحليل فيما جاء فيه النص بالتحليل وأن يحكم بالإيجاب فيما جاء فيه النص بالإيجاب ولا يتعدى حدود الله تعالى فلم يبق لهم إلا أن يقولوا إن النص لا تستوعب كل شيء قال أبو محمد وهذا قول يؤول إلى الكفر لأنه قول بأن الله تعالى لم يكمل لنا ديننا وأنه أهم أشياء من الشريعة تعالى الله عن هذا والله تعالى

أصدق منهم حيث يقول {وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} و {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} و {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فبطل قولهم بالقياس والحمد لله رب العالمين وما نعلم في الأرض بدع السوفسطائية أشد إبطالا لأحكام العقول من أصحاب القياس فإنهم يدعون على العقل ما لا يعرفه العقل من أن الشيء إذا حرم في الشريعة وجب أن يحرم من أجله شيء آخر ليس من نوعه ولا نص الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على تحريمه وهذا ما لا يعرفه العقل ولا أوجب العقل قط تحريم شيء ولا إيجابه إلا بعد ورود النص ولا خلاف في شيء من العقول أنه لا فرق بين الكبش والخنزير ولولا أن الله حرم هذا وأحل هذا فهم يبطلون حجج العقول جهارا ويضادون حكم العقل صراحا ثم لا يستحبون أن يصفوا بذلك خصومهم فهم كما قال الشاعر ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه مراد لعمري ما أراد قريب وأيضا فإنه يقال لهم إذا قلتم إن كل شيئين اشتبها في صفة ما فإنه يجب التسوية بين أحكامهما في الإيجاب والتحليل وبالتحريم في الدين فما الفرق بينكم وبين عكس من عليكم هذا القول بعينه فقال بل كل شيئين في العالم إذا افترقا في صفة ما فإنه يجب أن يفرق أحكامهما في الإيجاب والتحليل والتحريم في الدين فأجاب بعضهم بأن قال هذا لا يجب دون أن يأتي بفرق فقال أبو محمد وهذا تحكم عاجز عن الفرق ويقال له بل قولك هو الذي لا يجب فما الفرق

وقال بعضهم هذا قياس منكم فإنكم ترومون إبطال القياس بالقياس فأنتم كالذين يرومون إبطال حجة العقل بحجة العقل قال أبو محمد فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق لم نحتج عليكم بهذا تصويبا منا له ولا للقياس لكن أريناكم أن قولكم بالقياس ينهدم بالقياس ويبطل بعضه بعضا وليس في العالم أفسد من قول من يفسد بعضه بعضا فأنتم إذا أقررتم بصحة القياس فنحن نلزمكم ما التزمتم به ونحجكم به لأنكم مصوبون له مصدقون لشهادته وهو قولكم بالفساد وعلى مذاهبكم بالتناقض أقررتم به أو أنكرتموه وأما نحن فلم نصوبه قط ولا قلنا به فهو يلزمكم ولا يلزمنا وكل أحد فإنما يلزمه ما التزم ولا يلزم خصمه كما أن أخبار الآحاد المتصلة بنقل الثقات لازم لنا للاحتجاج بها علينا في المناظرة ولا نلزم من أنكرها فمن ناظرنا بها لم ندفعه عما يلزمنا بها وهذا هو فعلنا بكم في القياس وأما تشبيهكم إيانا في ذلك بمن جنح في إبطال حجة العقل بحجة العقل فتشبيه فاسد لأن المحتج علينا في إبطال حجة العقل لا يخلو من أحد وجهين إما أن يصوب ما يحتج به ويحققه فقد تناقض أو يبطل ما يأتي به فقد كفانا مؤنته ولسنا نحن كذلك في احتجاجنا عليكم بالقياس لكنا نقول لكم إن كان القياس حقا عندكم فإنه يلزمكم منه كذا وكذا وليس يقول لنا المبطلون لحجج العقول هكذا لكنهم محققون لما يحتجون به فيتناقضون إذا حققوا ما أبطلوا كما تناقضتم أنتم في إبطالكم ما حققتموه من نتائج القياس فطريقكم هي طريقهم ونحن نقول إن هذا الذي نعارضكم به من القياس أنتم التزمتم حكمه وهو عندنا باطل كقولكم سواء بسواء فإن التزمتموه أفسد قولكم وإن أبيتموه فكذلك لأنكم تقرون حينئذ بإبطال ما قد صوبتموه ولا فساد

أشد من فساد قول أدى إلى التزام الباطل وليس من يبطل قضايا العقل كذلك لأنه لا يصح شيء أصلا إلا بالعقل أو بالحواس مع العقل أو ما أنتج من ذلك فمن أبطل حجة العقل ثم ناظر في ذلك بحجة العقل فإن صححها رجع إلى الحق ودخل معنا وإن أبطلها سقط القول معه لأنه يقر أنه يتكلم بلا عقل وليس القياس هكذا بإقراركم ويكفي من هذا أن من رام إبطال حجة العقل بحجة فقد رام ما لا يجده أبدا وحجة العقل لا تبطل حجة العقل أصلا بل توجبها وتصححها وكذلك من رام إبطال خبر الواحد بخبر الواحد فإنه لا يجد أبدا خبرا صحيحا يبطل خبر الواحد وهكذا كل شيء صحيح فإنه لا يوجد شيء صحيح يعارضه أبدا هذا يعلم ضرورة ولو كان ذلك لكان الحق يبطل الحق وهذا محال في البنية وليس كذلك القياس لأنه يبطل بالقياس جهارا وبأسهل عمل فصح أنه باطل وهكذا كل باطل في العالم فإنه يبطل بعضه بعضا بلا شك وقال بعضهم من الدليل على أن حكم المماثلين حكم واحد أن الله عز وجل قد تحدى العرب بأن يأتوا بمثل هذا القرآن وأعلم أنهم لو أتوا بمثله لكان باطلا لأن مثل الباطل لا يكون إلا باطلا ومثل الحق لا يكون إلا حقا قال أبو محمد هذا قول صحيح وهو حجة عليهم لأن المشبه للباطل في أنه باطل هو بلا شك باطل وبهذا أبطلنا القياس بالقياس ورأينا أنه كله باطل وليس ما أشبه الباطل في أنه مخلوق مثله وأنه كلام مثله يكون باطلا بل هذا حكم يؤدي إلى الكفر لأن الكفر كلام والكذب كلام والقرآن كلام والحق كلام وليس ذلك بموجب اشتباه كل ذلك في غير ما اشتبه فيه يرومون وأيضا فهذا من ذلك التمويه الذي إذا كشف عاد مبطلا لقولهم بعون

الله عز وجل وذلك أننا لم ننكر قط أن ما وقع عليه مع غيره اسم يجمع تلك الأشخاص فإنها كلها مستحقة لذلك الاسم بل نحن أهل هذا القول ونقول إن كل ما يوضع من الكلام في غير مواضعه التي وضعها الله تعالى فيها في الشرائع أو في غير المواضع التي وضعه فيها أهل اللغات للتفاهم فهو باطل وتحريف للكلم عن مواضعه وتبديل له وهذا محرم بالنص وتدليس بضرورة العقل وكل ما كان من الكلام موضوعا في مواضعه التي ذكرنا فهو حق فإذ لا شك في هذا فلم نحكم لشيء من الباطل بأنه باطل من أجل شبهه بباطل آخر بل ليس أحد الباطلين أولى أن يكون باطلا من سائر الأباطيل بل كل الأباطيل في وقوعها تحت الباطل سواء ولا أحد الحقين أولى أن يكون حقا من حق آخر بل كل حق فهو في أنه حق سواء مع سائر الحقوق كلها وليس شيء من ذلك مقيسا على غيره والقول مطرد هكذا بضرورة العقل في كل ما في العالم من الشرائع وغيرها فكذلك كل بر فهو بر وكل تمر فهو تمر وكل ما أشبه البر مما ليس برا فليس برا وكل ما أشبه الذهب مما ليس ذهبا فليس ذهبا وكل ما أشبه الحرام مما لم ينه النص عنه فليس حراما وهكذا جميع الأشياء أولها عن آخرها فهذا الذي أتوا به مبطل للقياس لو عقلوا وأنصفوا أنفسهم وبالله تعالى التوفيق وإنما عول القوم على التمويه والكذب والتلبيس على من اغتر بهم فقالوا إن أصحاب الظاهر ينكرون تماثل الأشياء ثم جعلوا يأتون بآيات وأحاديث ومشاهدات فيها تماثل أشياء وهذا خداع منهم لعقولهم وما أنكرنا قط تماثل الأشياء بل نحن أعرف بوجوه التماثل منهم لأننا حققنا النظر فيها فأبانها الله تعالى لنا وهم خلطوا وجه نظرهم فاختلط الأمر عليهم وإنما أنكرنا أن نحكم للمتماثلات في صفاتهما من أجل ذلك في الديانة بتحريم أو إيجاب

أو تحليل دون نص من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع من الأمة فهذا الذي أبطلنا وهو الباطل المحض والتحكم في دين الله تعالى بغير هدى من الله نعوذ بالله من ذلك وقالوا أيضا إن أصحاب الظاهر يبطلون حجج العقول قال أبو محمد وكذبوا بل نحن المثبتون لحجج العقول على الحقيقة وهم المبطلون لها حقا لأن العقل يشهد أنه يحرم دون الله تعالى ولا يوجب دون الله تعالى شريعة وأنه إنما يفهم ما خطب الله تعالى به حامله ويعرف الأشياء على ما خلقها الله تعالى عليه فقط وهم يحرمون بعقولهم ويشرعون الشرائع بعقولهم بغير نص من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم ولا إجماع من الأمة فهذا هو إبطال حجج العقول على الحقيقة وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بالموازنة يوم القيامة قال أبو محمد وهذا من أغرب ما أبدوا فيه عن جهلهم وهل هذا إلا نص جلي وأي شيء من موازنة أعمال العباد وجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته والعفو عن التائب بعد أن أجرم والعفو عن الصغائر باجتناب الكبائر والمؤاخذة بها لمن فعل كبيرة وأصر عليها مما يحتج به في إيجاب تحريم الأرز بالأرز متفاضلا وهل يعقل وجوب هذا من موازنة الأعمال يوم القيامة وجزاء الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة وجزاء السيئة بمثلها إلا مجنون مصاب وقالوا أخبرونا عن قولكم بالدليل أبنص قلتموه أم بغير نص فإن قلتم قلناه بنص فأروناه وإن قلتم بغير نص دخلتم فيما عبتم من القياس قال أبو محمد وقد أفردنا فيما خلا من كتابنا هذا بابا لبيان الدليل

الذي نقول به فأغني عن ترداده إلا أننا نقول ههنا جوابا لهم وبالله تعالى التوفيق ما لا يستغني هذا المكان عن إيراده وهو أن الدليل نقول هو المقصود بالنص نفسه وإن كان بغير لفظه كقول الله تعالى {إن إبراهيم لحليم أواه منيب} فبالضرورة نعلم أنه ليس بسفيه ومثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل خمر حرام فصح ضرورة من هذا اللفظ أن كل مسكر حرام فدليلنا هو النص والإجماع نفسه لا ما سواهما وبالله تعالى التوفيق وقالوا لا نص في ميراث من بعض حر وبعضه عبد ولا في حده ولا في ديته فما تقولون في ذلك وكذلك نكاحه وطلاقه والجناية عليه ومنه قال أبو محمد وصاحب هذا الكلام كان أولى به أن يتعلم قبل أن يتكلم وذلك أن النص ورد بعموم ميراث الأبناء والبنات والآباء والأمهات والإخوة والأخوات والعصبة والأزواج فواجب ألا يخرج عن النص أحد فيمنع الميراث إلا بنص والنص قد صح من حديث علي وابن عباس إن المكاتب إذا أصاب حدا أو دية أو ميراثا ورث وورث منه وأقيم عليه الحد وودي بمقدار ما أدى دية وميراث حر وبمقدار ما لم يؤده دية عبد وميراث عبد فحص أن العبد لا يرث وقد قال قوم من العلماء إن لهما من الميراث بمقدار ما فيهما من الحرية وقال آخرون لا شيء لهما من الميراث فكان قول هؤلاء مساقطا لمخالفته النص ولأنه دعوى بلا دليل فلم يبق قول من قال إن لهما من الميراث بمقدار ما فيهما من الحرية فقلنا به فهكذا القول في حده وديته إذ قد بطل قول من قال إن حده كحد

الحر بحديث ابن عباس في المكاتب إذا في نص ذلك الحديث الفرق بين حد الحر وحد العبد وأما نكاحه فإن النص جاء بأن كل عبد نكح بغير إذن مواليه فنكاحه عهر والمعتق بعضه ليس عبدا كله ولا حرا كله ولا ينتقل عن حكمه المجمع عليه والثابت عليه بالنص إلا بنص آخر أو إجماع فهو غير خارج عن هذا النص فليس له أن ينكح كسائر المسلمين إلا بإذن من له فيه ملك وطلاقه جائز على عموم النص في المطلقين وأما جنايته والجناية عليه وشهادته فكالأحرار ولا فرق إذ لم يمنع من ذلك نص ولا إجماع هذا مع صحة حديث ابن عباس في ميراث المكاتب وديته وحدوده وإن ذلك بمقدار ما فيه من الحرية والرق وقسموا أنواع القياس فقال بعضهم من القياس قياس المفهوم مثل قياس رقبة الظهار على رقبة القتل قالوا ومنه قياس العلة كالعلة الجامعة بين النبيذ والخمر وهي الإسكار والشدة ومنه قياس الشبه ثم اختلفوا في هذا النوع من القياس فقالوا هو على الصفات الموجودة في العلة وذلك مثل أن يكون في الشيء خمسة أوصاف من التحليل وأربعة من التحريم فيغلب الذي فيه خمسة أوصاف على الذي فيه أربعة أوصاف وقال آخرون منهم وهو على الصور كالعبد يشبه البهائم في أنه سلعة متملكة ويشبه الأحرار في الصور الآدمية وأنه مأمور منهي بالشريعة قال أبو محمد وكل هذا فاسد باطل متناقض لأنه كله دعاوى باردة بلا دليل على صحة شيء منها ثم تسميتهم قياس الرقبة في الظهار على الرقبة في القتل أنه مفهوم وليت شعري بماذا فهموه حتى علموا أنها لا تجزىء إلا مؤمنة هذا وقد خالفهم إخوانهم من القائسين في ذلك من أصحاب أبي حنيفة فلم يفهموا من هذا القياس العجيب ما فهم الشافعي والمالكي وكل

ما فهم من كلام فأهل اللغة متساوون في فهمه بلا شك فصار دعواهم للفهم كذبا ثم هلا إذا فهموا أن كلتا الرقبتين سواء مشوا في قياسهم ففهموا أنه يجب التعويض من الصيام في القتل إطعام ستين مسكينا كالتعويض لذلك من صيام الظهار كما تساوى التعويض من رقبتي الظهار والقتل صيام شهرين متتابعين فما هذا التباين في فهم ما لا تقضيه الآية ولا اللغة وأما قولهم قياس العلة وأن النبيذ مقيس على الخمر فكذب مجرد بارد سمج وجرأة على الله تعالى وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل مسكر حرام فساوى صلى الله عليه وسلم بين كل مسكر ولم يخص من عنب ولا تمر ولا تين ولا عسل ولا غير ذلك ثم أخبر أن كل مسكر حرام فليست خمر العنب في ذلك بأولى من خمر التين ولا خمر العنب أصلا وغيرها فرعا بل كل ذلك سواء بالنص فظهر برد قولهم وفساده فإن قالوا فهلا كفرتم من استحل نبيذ التين المسكر كما تكفرون مستحل عصير العنب المسكر قيل له وبالله تعالى التوفيق إنما كفرنا من استحل عصير العنب المسكر لقيام الحجة بالإجماع ولو استحله جاهل لم يعرف الإجماع في ذلك ما كفرناه حتى يعرفه بالإجماع وكذلك لم نكفر مستحل نبيذ التين لجهله بالحجة في ذلك ولو أنه يصح عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم كل مسكر على عمومه ثم يستجيز مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لكان كافرا بلا شك وقد أفردنا بعد هذا بابا ضخما في إبطال قولهم في العلل وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم في موازنة صفات التحليل وصفات التحريم فإنا نقول لهم هبكم لو سامحناكم في هذا الهذيان المفترى وماذا تصنعون إذا تساوت

عندكم صفات التحريم وصفات التحليل فإن قالوا نغلب التحريم احتياطا قلنا لهم ولم لا تغلبوا التحليل تيسيرا لقول الله تعالى {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} وإن قالوا نغلب التحليل قيل لهم وهلا غلبتم التحريم ولقول الله تعالى {كتب عليكم لقتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} فظهر بطلان قولهم وفساده وبالجملة فليس تغليب أحد الوجهين أولى من الآخر وقد قال تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون} فنص تعالى على أن كل محرم ومحلل بغير نص من الله تعالى فهو كاذب ومفتر وبالله تعالى التوفيق وأيضا فلو كانت صفة شبه التحريم توجب التحريم وصفة شبه التحليل توجب التحليل لما وجد كلا الأمرين في شيء واحد البتة لأنه كان يجب من ذلك أن يكون الشيء حراما حلالا معا وهذا حمق محال فصح أن الشبه لا يوجب تحريما ولا تحليلا كثرت الأوصاف بذلك أو قلت وقد أقدم بعضهم فقال إن الله تعالى قال {يسألونك عن لخمر ولميسر قل فيهمآ إثم كبير ومنافع للناس وإثمهمآ أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل لعفو كذلك يبين لله لكم لآيات لعلكم تتفكرون} قالوا غلب تعالى الإثم فحرمها قال أبو محمد هذا من الجرأة على القول على الله تعالى بغير علم وهذا يوجب إن الله تعالى اعترضه في الخمر والميسر أصلان أحدهما المنافع والثاني الإثم فغلب الإثم هذا هو نص كلامهم وظاهره ومقتضاه وليت شعري من رتب هذا الإثم في الخمر والميسر وقد كانا برهة قبل التحريم حلالين لا إثم فيهما وقد شربها أفاضل الصحابة رضي الله عنهم وأهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتنادم الصالحون عليها أزيد من ستة عشر عاما في الأصل صح ذلك عن عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح وسهيل بن بيضاء وأبي بن كعب وأبي دجانة وأبي طلحة

وأبي أيوب ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عمرو بن حرام وغيرهم كلهم شربوا الخمر بعد الهجرة واصطحبها جماعة يوم أحد ممن أكرمهم الله تعالى في ذلك اليوم بالشهادة فهل أحدث الإثم فيها بعد أن لم يكن إلا الله تعالى فأين قول هؤلاء النوكى إن الله تعالى حرمها لأجل الإثم الذي فيها أو لأجل الشدة والإسكار وهل هذا إلا كذب بحت وهل حدث الإثم إلا بعد حدوث التحريم بلا فصل وهل خلط قط عن الشدة والإسكار مذ خلقها الله تعالى فبطل قولهم بتجاذب الأوصاف والحمد لله كثيرا وأما قولهم في تغليب الصورة الآدمية في العبيد على شبهة البهائم إنه سلعة مملوكة فقول بارد وهلا إذ فعلوا ذلك قبلوا شهادته إذ غلبوا شبهة الأحرار على شبهة البهائم وهل هذا كله إلا لهو ولعب وشبيه بالخرافات نعوذ بالله من الخذلان ومن تعدي حدوده ومن القول في الدين بغير نص من الله تعالى أو رسوله وحسبنا الله ونعم الوكيل وإذا أبطلوا حكم الشبه من أجل شبه آخر أقوى منه فقد صاروا إلى قولنا في إبطال حكم التشابه في إيجاب حكم له في الدين لم يأت به نص ثم تناقضوا في إثباته مرة وإبطاله أخرى بلا برهان وشنع بعضهم بأن قال إن إبطال القياس مذهب النظام ومحمد بن عبد الله الإسكافي وجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر وعيسى المراد وأبي عفار وبعض الخوارج وإن من هؤلاء من يقول إن بنات البنين حلال وكذلك الجدات وكذلك دماغ الخنزير قال أبو محمد ولسنا ننكر أن تقول اليهود لا إله إلا الله ونقولها أيضا نحن ولكن إذا ذكروا هؤلاء فلا تنسوا القائلين بقولهم القياس أبا الهذيل العلاف وأبا بكر بن كيسان الأصم وجهم بن صفوان وبشر

بن المعتمر ومعمرا وبشرا المريسي والأزارقة وأحمد بن حائط ومن هؤلاء من يقول بقياس الأطفال على الكبار وأنهم نسخت أرواحهم في الأطفال وبالقياس على قوم نوح فأباحوا قتل الأطفال وقاسوا فناء الجنة والنار على فناء الدنيا وغير ذلك من شنيع الأقوال فهذا كل ما موهوا به في نص القياس قد تقصيناه والحمد لله ولم ندع منه بقية وبينا بعون الله أنه لا حجة لهم بوجه من الوجوه ولا متعلق في شيء منه البتة وأنه كله عائد عليهم ومبطل لقولهم في إثبات القياس وقد كان هذا يكفي من تكلف إبطال القياس لأن كل قول لا يقوم بصحته برهان فهو دعوى ساقطة ولكنا لا نقطع بذلك حتى نورد بحول الله البراهين القاطعة على إبطال القياس والقول به فصل في إبطال القياس وهذا حين نأخذ في إبطال القياس بالبراهين الضرورية إن شاء الله تعالى

فصل بحث في الرد على القائلين بالقياس

قال أبو محمد ويقال للقائلين بالقياس أليس قد بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى الإنس والجن فأول ما دعاهم إليه فقول لا إله إلا الله ورفض كل معبود دون الله تعالى ومن وثن وغيره وأنه رسول الله فقط لم يكن في الدين شريعة غير هذا أصلا لا إيجاب حكم ولا تحريم شيء فمن قولهم وقول كل مسلم وكافر نعم هذا أمر لا شك فيه عند أحد فإذ هذا لا خلاف فيه ولا شك فيه ولا ينكره أحد فقد كان الدين والإسلام لا تحريم فيه ولا إيجاب ثم أنزل الله تعالى الشرائع فما أمر به فهو واجب وما نهى عنه فهو حرام ومالم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح مطلق حلال كما كان هذا أمر معروف ضرورة بفطرة العقول من كل أحد ففي ماذا يحتاج إلى القياس أو إلى الرأي أليس من أقر بما ذكرنا ثم أوجب ما لا نص بإيجابه أو حرم ما لا نص بالنهي عنه قد شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى وقال ما لا يحل القول به وهذا برهان لائح واضح وكاف لا معترض فيه ثم يقال لهم أيضا وبالله تعالى التوفيق فماذا يحتاج إلى القياس أفيما نص عليه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أم فيما لم ينص عليه فإن قالوا فيما نص عليه فارقوا الإجماع وقاربوا الخروج عن الإسلام لأنه لم يقل بهذا أحد

وهو مع ذلك قول لا يمكن أحد أن يقوله لأنه لا قياس إلا على أصل يرد ذلك الفرع إليه ولا أصل إلا نص أو إجماع فصح على قولهم أن القياس إنما هو مردود إلى النص وإن قالوا فيما لم ينص عليه فقلنا وبالله تعالى التوفيق قال الله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وقال تعالى {وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} وقال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع اللهم هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن مرة الهمداني قال قال عبد الله بن مسعود من أراد العلم فليثر القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين هكذا رويناه عن مسروق والزهري أنه ليس شيء اختلف فيه إلا وهو في القرآن فصح بنص القرآن أنه لا شيء من الدين وجميع أحكامه إلا وقد نص عليه فلا حاجة بأحد إلى القياس فإن قالوا إنما نقيس النوازل من الفروع على الأصول قال أبو محمد وهذا لأنه ليس في الدين إلا واجب أو حرام أو مباح ولا سبيل إلى قسم رابع البتة فأي هذه أصل وأي هذه فرع فبطل قولهم وصح أن أحكام الدين كلها أصول لا فرع فيها وكلها منصوص عليه فلما اختلف الناس قط إلا في الأصول كالوضوء والصلاة والزكاة والحج والحرام من البيوع والحلال منها وعقود النكاح والطلاق وما أشبه ذلك فإن قالوا لسنا ننكر أن الله تعالى لم يفرط في الكتاب من شيء ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم بين ولكن النص والبيان ينقسم قسمين أحدهما نص على الشيء باسمه والثاني نص عليها بالدلالة وهذا هو الذي نسميه قياسا وهو التنبيه على علة الحكم فحيثما وجدت تلك العلة حكم بها

قالوا وهذا هو الاختصار وجوامع الكلم التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا هو الباطل لأن الذي تذكرون دعوى بلا دليل وتلك الدلالة تخلو من أن تكون موضوعة في اللغة التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن لذلك المعنى بعينه فهذا غير قولكم وهذا هو القسم الأول من النص على الشيء باسمه فلا تموهوا فتجعلوا النص قسمين أو تكون تلك الدلالة غير موضوعة في اللغة التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن لذلك المعنى فإن كانت كذلك فهذا هو التلبيس والتخليط الذي تنزه الله تعالى ونزه رسوله صلى الله عليه وسلم عنه ولا يحل لأحد أن ينسب هذا إلى الله تعالى ولا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا برهان ضروري ولا محيد عنه بين لا إشكال فيه على من له أقل فهم وليس هذا طريق اختصار ولا تنبيه ولا بيان ولكنه خبط وإشكال وإفساد وتدليس ولا تنبيه ولا بيان فيمن يريد أن يعلمنا حكم الصداق فلا يذكر صداقا ويدلنا على ذلك بما نقطع فيه اليد أو يريد الأكل فيذكر الوطء أو يريد الجوز فيذكر الملح أو يريد المخطىء فيذكر المتعمد وهذا تكليف ما لا يطاق وإلزام لعلم الغيب والكهانة وإيجاب للحكم بالظن الكاذب تعالى الله عن ذلك وتنزه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وإنما الاختصار وجوامع الكلم والتنبيه أن يأتي إلى المعنى الذي يعبر عنه بألفاظ كثيرة فيبينه بألفاظ مختصرة جامعة يسيرة لا يشذ عنها شيء من المراد بها البتة ولا تقتضي من غير المراد بها شيئا أصلا فهذا هو حقيقة الاختصار والبيان والتنبيه وذلك مثل قول الله تعالى {لشهر لحرام بلشهر لحرام ولحرمات قصاص فمن عتدى عليكم فعتدوا عليه بمثل ما اعتدى

عليكم وتقوا لله وعلموا أن لله مع لمتقين} فدخل تحت هذا اللفظ مالو تقصى لملئت منه أسفار عظيمة من ذكر قطع الأعضاء عضوا عضوا وكسرها عضوا عضوا والجراحات جرحا جرحا والضرب هيئة هيئة وذكر أحد الأموال وسائر ما يقتضيه هذا المعنى من تولي المجني عليه للاقتصاص ونفاذ أمره في ذلك ومثل قوله صلى الله عليه وسلم جرح العجماء جبار وسائر كلامه صلى الله عليه وسلم وأما من إسقاط معاني أرادها فلم يذكرها بالاسم الموضوع لها في اللغة التي بها خوطبنا وطمع أن يدل عليها باسم غير موضوع لها في اللغة فهذا فعل الشيطان المريد إفساد الدين والتخليط على المسلمين لا فعل رب العالمين وخاتم النبيين وبالله تعالى نستعين فإن قالوا لسنا نقول إنه تنزل نازلة لا توجد في القرآن والسنة لكنا نقول إنه يوجد حكم بعض النوازل نصا وبعضها بالدليل قيل لهم وبالله تعالى التوفيق إن هذا حق ولكن إذا كان هذا الدليل الذي تذكرون لا يحتمل إلا وجها واحدا فهذا قولنا لا قولكم وأما إن كان ذلك الدليل يحتمل وجهين فصاعدا فهذا ينقسم على قسمين إما أن يكون هنالك نص آخر بين مراد الله تعالى من ذينك الوجهين فصاعدا بيانا جليا أو إجماع كذلك فهذا هو قولنا والنص بعينه لم نزل عنه وإما ألا يكون هنالك نص آخر ولا إجماع يبين بأحدهما مراد الله عز وجل من ذلك فهذا إشكال وتلبيس تعالى الله عن ذلك ولا يحل لأحد أن ينسب هذا إلى شيء من دين الله تعالى الذي قد بينه غاية البيان رسوله صلى الله عليه وسلم فإن قالوا إن التشابه بين الأدلة هو أحد الأدلة على مراد الله تعالى قيل لهم هذه دعوى تحتاج إلى دليل يصححها وما كان هكذا فهو

باطل بإجماع ولا سبيل إلى وجود نص ولا إجماع يصحح هذه الدعوى ولا فرق بينها وبين من جعل قول إنسان من العلماء بعينه دليلا على مراد الله تعالى في تلك المسألة وكل هذا باطل وافتراء على الله تعالى وأيضا فإنهم في التشابه الموجب للحكم مختلفون فبعضهم يجعل صفة ما علة لذلك الحكم وبعضهم يمنع من ذلك ويأتي بعلة أخرى وهذا كله تحكم بلا دليل وقد صحح بعضهم العلة بطردها في معلولاتها وهذا تخليط تام لأن الطرد إنما يصحح بعد صحة العلة لأن الطرد إنما هو فرع يوجبه صحة العلة وإلا فهو باطل ومن المحال ألا يصح الأصل إلا بصحة الفروع وأيضا فإنهم إذا اختلفوا في طرد تلك العلة فليس من طردها ليصححها بأولى ممن لم يطردها ليبطلها وطرد غيرها وهذا كله تحكم في الدين لا يجوز وذلك نحو طرد الشافعي علة الأكل في الربا ومنع أبي حنيفة ومالك من ذلك وطرد أبي حنيفة علة الوزن والكيل ومنع مالك والشافعي من ذلك وطرد مالك علة الادخار والأكل ومنع أبي حنيفة والشافعي من ذلك فإن قالوا فأرونا جمع النوازل منصوصا عليها قلنا لو عجزنا عن ذلك لما كان عجزنا حجة على الله تعالى ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم إذ لم ندع لكم الواحد فالواحد منه الإحاطة بجميع الفتن لكن حسبنا أننا نقطع بأن الله تعالى بين لنا كل ما يقع من أحكام الدين إلى يوم القيامة فكيف ونحن نأتيكم بنص واحد فيه كل نازلة وقعت أو تقع إلى يوم القيامة وهو الخبر الصحيح الذي ذكرناه قبل بإسناده وهو قوله صلى الله عليه وسلم دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه فصح نصا أن ما لم يقل فيه

النبي صلى الله عليه وسلم فليس واجبا لأنه لم يأمر به وليس حراما لأنه لم ينه عنه فبقي ضرورة أنه مباح فمن ادعى أنه حرام مكلف أن يأتي فيه بنهي من النبي صلى الله عليه وسلم فإن جاء سمعنا وأطعنا وإلا فقوله باطل ومن ادعى فيه إيجابا كلف أن يأتي فيه بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم فإن جاء به سمعنا وأطعنا وإن لم يأت به فقوله باطل وصح بهذا النص أن كل ما أمر به صلى الله عليه وسلم فهو فرض علينا إلا ما لم نستطع من ذلك وأن كل ما نهانا عنه فحرام حاشا ما بينه صلى الله عليه وسلم أنه مكروه أو ندب فقط فلم يبق في الدين حكم إلا وهو ههنا منصوص جملة ثم نعكس عليهم هذا السؤال وهذا القول فنقول لهم أنتم تقولون لا نازلة إلا ولها نظير في القرآن أو السنة فنحن نعكس السؤال عن تلك النوازل التي تريدون سؤالنا عنها من دينار وقع في محبرة وسائر تلك الحماقات فأرونا نظائرها في القرآن والسنة وأنتم تقرون أنه لا نصوص فيها فخبرونا كيف تصنعون فيها أتحكمون فيها بقولكم فهذا دينكم لا دين الله ففي هذا ما فيه فظهر فساد كل سؤال لهم والحمد لله رب العالمين كثيرا وقال من سلف من أصحابنا رحمهم الله يقال لمن قال بالقياس قد أجمعتم أنتم وجميع المسلمين بلا خلاف من أحد منهم على أن الأحكام كلها في الديانة جائز أن تؤخذ نصا واتفقوا كلهم بلا خلاف من واحد منهم لا من القائلين بالقياس ولا من غيرهم على أن أحكام الديانة كلها لا يجوز أن تؤخذ قياسا ولا بد عندهم من نص يقاس عليه فيقال لأصحاب القياس عندكم حقا فمن ههنا ابدؤوا به فقيسوا ما اختلفنا فيه من المسائل التي جوزتم القياس فيها ومنعنا نحن منها على ما اتفقنا عليه من المسائل التي أقررتم أنها لا يجوز أن تؤخذ قياسا فإن لم تفعلوا فقد تركتم القياس

وإن فعلتم تركتم القياس ولسنا نقول إن هذا العمل صحيح عندنا ولكن صحيح على أصولكم ولا أبطل من قول نقض بعضه بعضا ويقال لهم وجدنا مسائل كثيرة قد أجمعتم وأنتم وجميع الأمة على ترك القياس فيها كقاتل تاب قبل أن يقدر عليه وندم فلا يسقط عنه القصاص عند أحد ولم تقيسوا ذلك على محارب تاب قبل أن يقدر عليه فالحد في الحرابة عنه ساقط وكذلك اتفقوا على ألا يقاس الغاصب على السارق وكلاهما أخذ مالا محرما عمدا أو كترك قياس تعويض الإطعام من الصيام في قتل الخطأ على تعويضه من الصيام في الظهار ومثل هذا كثير جدا بل هو أكثر مما قاسوا فيه فلو كان القياس حقا ما جاز الإجماع على تركه كما لا يجوز الإجماع على ترك الحق الذي هو القرآن أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم مما صح عنه فإنه لم يجمع قط على ترك شيء منه إلا لنص آخر ناسخ له فقط وهذا يوجب بطلان القياس ضرورة ويقال لهم أخبرونا عن القياس أيخلو عندكم أن يحكم للشيء الذي لا نص فيه ولا إجماع بمثل الحكم الذي فيه نص أو إجماع إما لعلة فيهما معا هي في المحكوم فيه علامة الحكم وإما لنوع من الشبه بينهما وإما مطارفة لا لعلة ولا لشبه ولا سبيل إلى قسم رابع أصلا فإن قالوا مطارفة لا لعلة ولا لشبه كفونا مؤنتهم وصار قائل هذا ضحكة ومهزأة ولم يكن أيضا أولى بما يحكم به من غيره يحكم في ذلك الأمر بحكم آخر وهذا ما لا يقوله أحد منهم فإن قالوا بل لنوع من الشبه قيل لهم وما دليلكم على أن ذلك النوع من الشبه يجب به ذلك الحكم ولا سبيل إلى وجود ذلك الدليل وتعارضون أيضا بشبه آخر يوجب حكما آخر وهذا أبدا فإن قالوا بل لعلة جامعة بين الحكمين سألناهم ما الدليل على أن

الذي تجعلونه علة الحكم هي علة الحقيقة فإن ادعوا نصا فالحكم حينئذ للنص ونحن لا ننكر هذا إذا وجدناه فإن قالوا غير النص قلنا هذا الباطل والدعوى التي لا برهان على صحتها وما كان هكذا فهو ساقط بنص القرآن وبحكم الإجماع والعقول وإن قالوا طرد حكم العلة دليل على صحتها قيل لهم طردكم أنتم أو طرد أهل الإسلام فإن قالوا طرد أهل الإسلام قيل هذا إجماع لا خلاف فيه ولسنا نخالفكم في صحة الإجماع إذا وجد يقينا وإن قالوا بل طردنا نحن قيل لهم ما طردكم أنتم حجة على أحد فهاتوا برهانكم على صحة دعواكم إن كنتم صادقين وهذا ما لا مخلص منه أصلا والحمد الله رب العالمين قال أبو محمد وقال جاءت نصوص بإبطال القياس فمن ذلك قول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تقدموا بين يدي لله ورسوله وتقوا لله إن لله سميع عليم} وقال تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقال تعالى {وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} وقال تعالى {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا} وهذه نصوص مبطلة للقياس وللقول في الدين بغير نص لأن القياس على ما بينا قفو لما لا علم لهم به وتقدم بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم واستدراك على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يذكراه فإن قال أهل القياس فلعل إنكاركم للقياس قول بغير علم وقفو لما لا علم لكم به وتقدم بين يدي الله ورسوله قيل لهم وبالله تعالى التوفيق نحن نريكم إنكارنا للقياس أنه قول بعلم وبنص وبيقين وذلك أن الله عز وجل قال {ولله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم لسمع ولأبصار ولأفئدة لعلكم تشكرون} فصح يقينا لا شك فيه أن الناس خرجوا إلى الدنيا لا يعلمون شيئا أصلا بنص كلام الله عز وجل وقال تعالى {كمآ أرسلنا

فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم لكتاب ولحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} فصح يقينا أن الله أرسل محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم إلينا ليعلمنا ما لم نعلم فصح ضرورة أن ما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم من أمور الدين فهو الحق وما لم يعلمنا منها فهو الباطل وحرام القول به وقال تعالى يعني به إبليس اللعين {إنما يأمركم بلسوء ولفحشآء وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} وقال تعالى {قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} فصح بنص القرآن أننا خرجنا إلى الدنيا لا نعلم شيئا ثم حرم علينا القول على الله تعالى بما لا نعلم وأخبرنا تعالى أن إبليس يأمرنا بأن نقول على الله ما لا نعلم فقد صح بهذه النصوص ضرورة أن القول بقياس وبغير القياس كمن أثبت العنقاء والغول والكيميا وكقول الروافض في الإمام وكقول من قال بالإلهام وكل هذا فالقول به على الله تعالى في الدين حرام مقرون بالشرك أمر من أمر إبليس إلا ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الحق الذي نقوله على الله تعالى ولا يحل لنا أن نقول عليه غيره فإذ لم يأمرنا عليه السلام بالقياس فهو حرام من أمر الشيطان بلا شك وقد بينا فيما خلا كل ما شغبوا مما أرادوا التمويه به فيه بالحديث فحرم القول بالقياس البتة وبهذا بطل كل قول بلا برهان على صحته حتى لو لم يقيم برهان بإبطاله فلو لم يكن لنا برهان على إبطال القياس لكان عدم البرهان على إثباته برهانا في إبطاله لأن الفرض علينا ألا نوجب في الدين شيئا إلا ببرهان وإذ ذلك كذلك فالفرض علينا أن نبطل كل قول قيل في الدين حتى يقوم برهان بصحته وهذا برهان ضروري لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق وقد اعترض بعضهم في قول الله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم}

بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخميس قبل موته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا من بعدي وبما روي عن عائشة رضي الله عنها قولها لم يكن الوحي قط أكثر منه قبيل موت النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه أشياء زائدة على ما كان حين قوله تعالى في حجة الوداع {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} واعترض آخرون من أهل الجهل على الحديث المذكور بالآية المذكورة وصوبوا فعل عمر وقوله في ذلك اليوم قال أبو محمد وهذان الاعتراضان من هاتين الطائفتين لا يشبهان اعتراض المسلمين وإنما يشبهان اعتراض أهل الكفر والإلحاد وبعيد عندنا أن يعترض بها مسلم صحيح الباطن لأن الطائفة الأولى مكذبة لله عز وجل في قوله إنه أكمل ديننا مدعية أنه كانت هنالك أشياء لم تكمل والطائفة الثانية مجهلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدعية عليه الكذب في أمر الكتاب الذي أراد أن يكتبه أو التخطيط في كلامه وأن قول عمر أصوب من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلا هذين القولين كفر مجرد وكل هذه النصوص حق لا تعارض بين شيء منها بوجه من الوجوه لأن الآية المذكورة نزلت يوم عرفة في حجة الوداع قبل موته صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وحتى لو نزلت بعد ذلك شرائع لما كان نزولها معارضا للآية المذكورة لأن الدين في كل وقت تام كامل ولله تعالى أن يمحو من الدين ما يشاء وأن يزيد فيه وأن يثبت وليس ذلك لغيره بل قد صح أمر النبي صلى الله عليه وسلم قبيل موته بساعة بإخراج الكفار من جزيرة العرب وألا يبقى فيها دينان ولمن يكن هذا الشرع ورد قبل ذلك ولو ورد لما أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما غرضنا في هذه الآية أن الله تعالى تولى إكمال الدين وما أكمله الله تعالى فليس لأحد أن يزيد فيه

رأيا ولا قياسا لم يزدهما الله تعالى في الدين وهذا بين وبالله تعالى التوفيق وأما أمر الكتاب الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتبه يوم الخميس قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام فإنما كان في النص على أبي بكر رضي الله عنه ولقد وهل عمر وكل من ساعده على ذلك وكان ذلك القول منهم خطأ عظيما ولكنهم الخير أرادوا فهم معذورون مأجورون وإن كانوا قد عوقبوا على ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بالخروج عنه وإنكاره عليهم التنازع بحضرته ولقد ولد الامتناع من ذلك الكتاب من فرقة الأنصار يوم السقيفة ما كاد يكون فيه بوار الإسلام لولا أن الله تداركنا بمنه وولد من اختلاف الشيعة وخروج طوائف منهم عن الإسلام أمرا يشجي نفوس أهل الإسلام فلو كتب ذلك الكتاب لانقطع الاختلاف في الإمامة ولما ضل أحد فيها لكن يقضي الله أمرا كان مفعولا وقد أبى ربك إلا ما ترى وهذه زلة عالم نعني قول عمر رضي الله عنه يومئذ قد حذرنا من مثلها وعلى كل حال فنحن نثبت ونقطع ونوقن ونشهد بشهادة الله تعالى ونبرأ من كل من لم يشهد بأن الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يمله في ذلك اليوم في الكتاب الذي أراد أن يكتبه لو كان شرعا زائدا من تحريم شيء لم يتقدم تحريمه أو تحليل شيء تقدم تحريمه أو إيجاب شيء لم يتقدم إيجابه إو إسقاط إيجاب شيء تقدم إيجابه لما ترك صلى الله عليه وسلم بيانه ولا كتابه لقول عمر ولا لقول أحد من الناس فصح ضرورة أنه فيما قد علم بوحي الله تعالى إليه أنه سيتم من ولاية أبي بكر وذلك بين قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة الذي قد ذكرنا قبل ويأبى الله والمؤمنون وروي أيضا والنبيون إلا أبا بكر فوضح البرهان بصحة قولنا يقينا والحمد لله كثيرا

وأما تتابع الوحي فإنما كان بلا شك تأكيدا في التزام ما نزل من القرآن قبل ذلك ومثل ما روي من {إذا جآء نصر لله ولفتح * ورأيت لناس يدخلون في دين لله أفواجا} ونزول {وتقوا يوما ترجعون فيه إلى لله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} وآية الكلالة التي قد تقدم حكمها فصح أنه لا تعارض بين شيء من هذه النصوص والحمد لله رب العالمين فإن قالوا فأرونا كل نازلة تنزل على ما تقولون في نص القرآن والسنة قلنا لهم نعم وبالله تعالى التوفيق وهذا واجب علينا وأول ذلك أن نقرر ما الديانة وهي أن نقول إن أحكام الشريعة كلها أولها عن آخرها تنقسم ثلاثة أقسام لا رابع لها وهي فرض لا بد من اعتقاده والعمل به مع ذلك وحرام لا بد من اجتنابه قولا وعقدا وعملا وحلال مباح فعله ومباح تركه وأما المكروه والمندب إليه فداخلان تحت المباح على ما بينا قبل لأن المكروه لا يأثم فاعله ولو أثم لكان حراما ولكن يؤجر فاعله والمندوب إليه لا يأثم تاركه ولو أثم لكان فرضا ولكن يؤجر فاعله فهذه أقسام الشريعة بإجماع من كل مسلم وبضرورة وجود العقل في القسمة الصحيحة إلى ورود السمع بها فإذ لا شك في هذا فقد قال الله عز وجل {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وقال تعالى {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين} فصح بهاتين الآيتين أن كل شيء في الأرض وكمل عمل فمباح حلال إلا ما فصل الله تعالى لنا تحريمه اسمه نصا عليه في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه عز وجل والمبين لما أنزل عليه وفي إجماع الأمة كلها المنصوص على اتباعه في القرآن وهو راجع إلى النص على ما بينا قبل فإن وجدنا شيئا حرمه النص بالنهي عنه أو الإجماع باسمه حرمناه وإن لم نجد شيئا منصوصا على النهي عنه باسمه

ولا مجمعا عليه فهو حلال بنص الآية الأولى وقد أكد الله تعالى هذا في غير ما موضع من كتابه فقال عز وجل {يأيها لذين آمنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل لله لكم ولا تعتدوا إن لله لا يحب لمعتدين} فبين الله تعالى أن كل شيء حلال لنا إلا ما نص على تحريمه ونهانا عن اعتداء ما أمرنا تعالى به فمن حرم شيئا لم ينص الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على تحريمه والنهي عنه ولا أجمع على تحريمه فقد اعتدى وعصى الله تعالى ثم زادنا تعالى بيانا فقال {قل هلم شهدآءكم لذين يشهدون أن لله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهوآء لذين كذبوا بآياتنا ولذين لا يؤمنون بلآخرة وهم بربهم يعدلون} فصح بنص هذه الآية صحة لا مرية فيها أن كل ما لم يأت النهي فيه باسمه من عند الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حلال لا يحل لأحد أن يشهد بتحريمه وقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} فبين الله تعالى أن ما أمرنا به في القرآن أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهو واجب طاعته وضد الطاعة المعصية فمن لم يطع فقد عصى ومن لم يفعل ما أمر به فلم يطع ونهانا عن أن نسأل عن شيء جملة البتة ولم يدعنا في لبس أن يقول قائل إن هذه الآية نزلت في السؤال عن مثل ما سأل عنه عبد الله بن حذافة من أبى فأكذب الله ظنونهم لكن قال الله تعالى {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} فصح أن ذلك في الشرائع التي يكفر في جحدها ويضل من تركها فصح أن ما لم يأت به نص أو إجماع فليس واجبا علينا

فأي شيء بقي بعد هذا وهل في العالم نازلة تخرج من أن يقول قائل هذا واجب فنقول له إن أتيت على إيجابه بنص من القرآن أو بكلام صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع فسمعا وطاعة وهو واجب ومن أبى عن إيجابه حينئذ فهو كافر وإن لم يأت على إيجابه بنص ولا إجماع فإنه كاذب وذلك القول ليس بواجب أو يقول قال هذا حرام فنقول له إن أتيت على النهي عنه بنص أو إجماع فهو حرام وسمعا وطاعة ومن أراد استباحته حينئذ فهو آثم كاذب عاص وإن تأت على النهي عنه بنص ولا إجماع فأنت كاذب وذلك الشيء ليس حراما فهل في العالم حكم يخرج عن هذا فصح أن النص مستوعب لكل حكم يقع أو وقع إلى يوم القيامة ولا سبيل إلى نازلة تخرج عن هذه الأحكام الثلاثة وبالله تعالى التوفيق ثم قد جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما جاءت به هذه الآيات كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمذاني ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا إسماعيل هو ابن أبي أويس ثنا مالك بن أنس عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم قال أبو محمد فهذا حديث جامع لكل ما ذكرنا بين فيه صلى الله عليه وسلم أنه إذا نهى عن شيء فواجب أن يجتنب وأنه إذا أمر بأمر فواجب أن يؤتى منه حيث بلغت الاستطاعة وأن ما لم ينه عنه ولا أمر به فواجب ألا يبحث عنه في حياته صلى الله عليه وسلم وإذ هذه صفته ففرض على كل مسلم

ألا يحرمه ولا يوجبه وإذا لم يكن حراما ولا واجبا فهو مباح ضرورة إذ لا قسم إلا هذه الأقسام الثلاثة فإذا بطل منها اثنان وجب الثالث ولا بد ضرورة وهذه قضية النص وقضية السمع وقضية العقل التي لا يفهم العقل غيرها إلا الضلال والكهانة والسخافة التي يدعيها أصحاب القياس أنهم يفهمون من الوطء الأكل ومن الثمر الجلوز ومن قطع السرقة مقدار الصداق وحسبنا الله ونعم الوكيل ثم نعكس عليهم سؤالهم فنقول لهم إذا جوزتم وجود نوازل لا حكم لها في قرآن ولا سنة فقولوا لنا ماذا تصنعون فيها فهذا لازم لكم وليس يلزمنا لأن هذا عندنا باطل معدوم لا سبيل إلى وجوده أبدا فأخبرونا إذا وجدتم تلك النوازل أتتركون الحكم فيها فليس هذا قولكم أم تحكمون فيها ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن حكمتم فيها فأخبرونا عن حكمكم فيها أبحكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم حكمتم فيها فإن قلتم نعم قلنا قد تناقضتم لأنكم قلتم ليس فيها نص بحكم الله تعالى ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم وقد كذب آخر قولكم أوله وإن قلتم بغير حكم الله تعالى أو بغير حكم رسوله صلى الله عليه وسلم نحن برآء إلى الله تعالى من كل حكم في الدين لم يحكم به الله عز وجل وفي هذا كفاية لمن عقل فوضح لنا وبطل ما سواه والحمد لله رب العالمين وبهذا جاءت الأحاديث كلها مؤكدة متناصرة كما ثنا حمام بن أحمد ثنا عبد الله بن إبراهيم ثنا أبو زيد المروزي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن زيد المقرىء ثنا سعيد ثنا عقل عن ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته فنص صلى الله عليه وسلم كما

تسمع أن كل ما لم يأت به تحريم من الله تعالى فهو غير محرم وهكذا أخبر صلى الله عليه وسلم في الواجب أيضا كم ثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد الفقيه الأشقر ثنا أحمد بن علي القلانسي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني زهير بن حرب ثنا يزيد بن هارون ثنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه قال أبو محمد فنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ما لم يوجبه فهو غير واجب وما أوجبه بأمره فواجب ما أستطيع منه وأن ما لم يحرمه فهو حلال وأن ما نهى عنه فهو حرام فأين للقياس مدخل والنصوص قد استوعبت كل ما اختلف الناس فيه وكل نازلة تنزل إلى يوم القيامة باسمها وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى {أم لهم شركاء شرعوا لهم من لدين ما لم يأذن به لله ولولا كلمة لفصل لقضي بينهم وإن لظالمين لهم عذاب أليم} قال أبو محمد فصح بالنص أن كل ما لم ينص عليه فهو شيء لم يأذن به الله تعالى وهذه صفة القياس وهذا حرام وقال تعالى {وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بلكتاب لتحسبوه من لكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند لله ويقولون على لله لكذب وهم يعلمون} قال أبو محمد فكل ما ليس في القرآن والسنة منصوصا باسمه واجبا

مأمورا به أو منهيا عنه فمن أوجبه أو جرمه أو خالف لما جاء به النص فهو من عند غير الله تعالى والقياس غير منصوص على الأمر به فيهما فهو من عند غير الله تعالى وما كان من عند غير الله تعالى فهو باطل وقال تعالى {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} وقد علمنا ضرورة أن الله تعالى إذا حرم بالنص شيئا فحرم إنسان شيئا غير ذلك قياسا على ما حرم الله تعالى أو أحل بعض ما حرم الله قياسا أو أوجب غير ما أوجب الله تعالى قياسا أو أسقط بعض ما أوجب الله تعالى قياسا فقد تعدى حدود الله تعالى فهو ظالم بشهادة الله تعالى عليه بذلك وقد قال تعالى {فبدل لذين ظلموا قولا غير لذي قيل لهم فأنزلنا على لذين ظلموا رجزا من لسمآء بما كانوا يفسقون} قال أبو محمد وهذه كالتي قبلها سواء بسواء وقال تعالى {أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم لله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من لله وما لله بغافل عما تعملون} قال أبو محمد ومن استدرك برأيه وقياسه على ربه تعالى شيئا من الحرام والواجب لم يأت بتحريمها ولا إيجابها نص فقد دخل تحت هذه العظيمة المذكورة في هذه الآية ونحمد الله تعالى على توفيقه لا إله إلا هو وقال تعالى يصف كلامه {ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا عليك لكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} وقال تعالى {فإذا قرأناه فتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} وقال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} قال أبو محمد فنص الله تعالى على أنه لم يكل بيان الشريعة إلى أحد من الناس ولا إلى رأي ولا إلى قياس لكن إلى نص القرآن وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقط وما عداهما فضلال وباطل ومحال وقال تعالى {ومن لإبل ثنين ومن لبقر ثنين قل ءآلذكرين حرم أم لأنثيين أما شتملت عليه أرحام لأنثيين أم كنتم شهدآء إذ وصاكم لله بهذا فمن أظلم ممن فترى على لله كذبا ليضل لناس بغير علم إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} قال أبو محمد فصح أن كل ما لم يأتنا به وصية من عند الله عز وجل فهو افتراء على الله كذب وناسبه إلى الله تعالى ظالم ولم تأتنا وصية قط من

قبله تعالى بالحكم بالقياس فهو افتراء وباطل وكذب بل جاءتنا وصاياه عز وجل بألا نتعدى كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وألا نحرم ولا نوجب إلا ما أوجبا وحرما ونهيا فقط فبطل كل ما عدا ذلك والقياس مما عدا ذلك فهو باطل وقال تعالى {أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك لكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} فأوجب تعالى أن يكتفى بتلاوة الكتاب وهذا هو الأخذ بظاهره وإبطال كل تأويل لم يأت به نص أو إجماع وألا نطلب غير ما يقتضيه لفظ القرآن فقط وقال تعالى {وما ختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى لله ذلكم لله ربي عليه توكلت وإليه أنيب} وقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فلم يبح الله تعالى عند التنازع والاختلاف أن يتحاكم أو يرد إلا إلى القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم فقط لا إلى أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى رأي ولا قياس فبطل كل هذا بطلانا متيقنا والحمد لله رب العالمين على توفيقه هذا مع شدة شرط الله تعالى بقوله {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فلقد يجب على كل مسلم قامت عليه الحجة أن يهاب لحقوق هذه الصفة به وفرض عليه ألا يقتدي بمن سلف ممن تأول فخطأ فليس من قامت عليه الحجة كمن لا ندري أقامت عليه الحجة أم لم تقم إلا أننا نحسن الظن بهم كما نحسنه بسائر المؤمنين والله أعلم بحقيقة أمر كل أحد وقال تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون} فحرم تعالى الحكم في الشيء من الدين بتحريم أو تحليل وسمى من فعل ذلك كاذبا وفعله كذبا إلا أن يحرمه الله أو يحلله الله في النص أو الإجماع وقال تعالى {قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما

وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون} فسمى تعالى من حرم بغير إذن من الله تعالى في تحريم ذلك الشيء أو حلل بغير إذن من الله في تحليله مفتريا وهذه صفة القائسين المحرمين المحللين الموجبين بالقياس بغير إذن من الله تعالى وقال تعالى {فلا تضربوا لله لأمثال إن لله يعلم وأنتم لا تعلمون} فنص تعالى على ألا تضرب له الأمثال وهذا نص جلي على إبطال القياس وتحريمه لأن القياس ضرب أمثال للقرآن وتمثيل ما لا نص فيه بما فيه النص ومن مثل ما لم ينص الله تعالى على تحريمه أو إيجابه بما حرمه الله تعالى وأوجبه فقد ضرب له الأمثال وواقع المعصية نعوذ بالله من ذلك ونص تعالى على أنه يعلم ونحن لا نعلم فلو علم تعالى أن الذي لم ينص عليه مثل الذي نص عليه لأعلمنا بذلك وما أغفله وما ضيعه قال تعالى {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا} وقال تعالى {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم} فصح أن العربية بها أرسل الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فبهذا بين لنا وقال تعالى {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فكل ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله تعالى بينه وقد علمنا يقينا وقوع كل اسم في اللغة على مسماه فيها وأن البر لا يسمى تبنا وأن الملح لا يسمى زبيبا وأن التمر لا يسمى أرزا وأن الشعير لا يسمى بلوطا ولا الواطىء آكلا ولا الآكل واطئا ولا القاتل مظاهرا ولا المظاهر قاتلا ولا المعرض قاذفا فإذ قد أحكم اللسان كل اسم على مسماه لا على غيره ولم يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالعربية التي ندريها فقد علمنا يقينا أنه صلى الله عليه وسلم إذا نص في القرآن أو كلامه على اسم ما بحكم ما فواجب ألا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم فقط ولا نتعدى به الموضع الذي

وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وألا يخرج عن ذلك الحكم شيء مما يقتضيه الاسم ويقع عليه فالزيادة على ذلك في الدين وهو القياس والنقص منه نقص من الدين وهو التخصيص وكل ذلك حرام بالنصوص التي ذكرنا فسبحان من خص أصحاب القياس بكلا الأمرين فمرة يزيدون إلى النص ما ليس فيه ويقولون هذا قياس ومرة يخرجون من النص بعض ما يقتضيه ويقولون هذا خصوص ومرة يتركونه كله ويقولون ليس عليه العمل والعبرة معترضة عليه كما فعل الحنفيون في حديث المصراة والإقراع بين الأعبد وكما فعل المالكيون في حديث تمام الصوم لمن أكل ناسيا وحديث الحج على المريض البائس والميت وغير ذلك وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال الله تعالى {إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى} قال أبو محمد والقياس اسم في الدين لم يأذن به الله تعالى ولا أنزل به سلطانا وهو ظن منهم بلا شك لتجاذبهم علل القياسات بينهم كتعليلهم الربا بالأكل وقال آخرون منهم بالكيل والوزن وقال آخرون بالادخار وهذه كلها ظنون فاسدة وتخاليط وأسماء لم يأذن تعالى بها ولا أنزل بها سلطانا وقال تعالى {فخلف من بعدهم خلف ورثوا لكتاب يأخذون عرض هذا لأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق لكتاب أن لا يقولوا على لله إلا لحق ودرسوا ما فيه ولدار لآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} وقال تعالى {ويحق لله لحق بكلماته ولو كره لمجرمون} فنص تعالى على ألا يقال عليه إلا الحق وأخبر تعالى أنه يحق الحق بكلماته فما لم يأتنا كلام الله تعالى بأنه حق من الدين فهو باطل لا حق وقال تعالى حكاية عن رسله صلى الله عليهم وسلم {قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن لله يمن على من يشآء من عباده وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان

إلا بإذن لله وعلى لله فليتوكل لمؤمنون} قال أبو محمد فنص الله تعالى عن الأنبياء الصادقين أنه ليس لهم أن يأتوا بسلطان إلا بإذن الله تعالى والسلطان الحجة بلا شك فكل حجة لم يأذن الله تعالى بها في كلامه فهو باطل ولم يأذن قط تعالى في القياس فهو باطل وقال تعالى {ما جعل لله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم للائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم ذلكم قولكم بأفواهكم ولله يقول لحق وهو يهدي لسبيل * دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} وقال تعالى {لذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا للائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من لقول وزورا وإن لله لعفو غفور} فأنكر تعالى غاية الإنكار أن يجعل أحد أمه غير التي ولدته ولا أن يجعل ابنه إلا ولده وهو تعالى قد جعل أمهاتنا من لم تلدنا كنساء النبي صلى الله عليه وسلم واللواتي أرضعتنا وجعل أبناءنا من لم تلده كنحن لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وكمن أرضعه نساءنا بألباننا فصح بالنص أن الشيء إذا حكم الله تعالى به فقد لزم دون تعليل وأن من أراد أن يحكم بمثل ذلك بما لا نص فيه فقد قال منكرا من القول وزورا وأنه ليس لأحد أن يقول بغير ما لم يقل الله تعالى به وفي هذا كفاية لمن جعلنا نحن وهم نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهاتنا في التحريم كما جاء النص فقط ثم لم نقس على ذلك رؤيتهن كما نرى أمهاتنا بل حرم ذلك علينا ولا قسنا إخوتهم وبنيهم على أخوال الولادة وإخوة الولادة بل حل لهم نكاح نساء المسلمين وحل لرجال المسلمين نكاح إخواتهن وبناتهن فبطل حكم القياس يقينا وصح لزوم النص فقط وألا يتعدى أصلا وفي آية واحدة مما ذكرنا كفاية لمن اتقى الله عز وجل ونصح نفسه فكيف وقد تظاهرت الآيات بإبطال ما يدعونه من القياس في دين الله تعالى وكذلك أيضا جاءت الأحاديث الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

بإبطال القياس كما حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا ابن نمير ثنا روح بن عبادة ثنا شعبة مسلم وحدثني زهير بن حرب ثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال أخبرني أبو بكر بن حفص عن سالم بن عمر قال إن عمر رأى على رجل من آل عطارد قباء من ديباج أو حرير فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو اشتريته فقال إنما يلبس هذا من لا خلاق له فأهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء فأرسل بها إلي فقلت أرسلت بها إلي وقد سمعتك قلت فيها ما قلت قال إنما بعثت إليك لتستمتع بها وقال ابن نمير في حديثه إنما بعثتها إليك لتنتفع بها ولم أبعث بها إليك لتلبسها والسند المذكور إلى مسلم قال حدثنا شيبان بن فروخ ثنا جرير بن حازم ثنا نافع عن ابن عمر قال رأى عمر عطاردا اليمني يقيم بالسوق حلة سيراء فقال عمر يا رسول الله إني رأيت عطاردا يقيم في السوق حلة سيراء فلو اشتريتها فلبستها لوفود العرب إذ قد مرا عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة فلما كان بعد ذلك أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة وإلى ابن زيد بحلة وأعطى علي بن أبي طالب حلة وقال اشققها خمرا بين نسائك فذكر أمر عمر قال وأما أسامة فراح في حلته فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرا عرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكر ما صنع فقال يا رسول الله ما تنظر إلي فأنت بعثت بها إلي

فقال إني لم أبعثها إليك لتلبسها ولكن بعثت بها لتشققها خمرا بين نسائك فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر تسويته بين الملك والبيع والانتفاع وبين اللباس المنهي وأنكر على أسامة تسويته بين الملك واللباس أيضا وكل واحد منهما قياس فأحدهما حرم قياسا والآخر أحلى قياسا فأنكر صلى الله عليه وسلم القياسين معا وهذا هو إبطال القياس نفسه ولا بد في هذين الحديثين من أحد مذهبين إما أن يقول قائل إن النبي صلى الله عليه وسلم إذ نهى عن لباس الحرير ثم وهبهما حلل الحرير أن يكون لبس عليهما وهذا كفر من قائله أو أنه صلى الله عليه وسلم بين عليهم المحرم من الحرير وهو اللباس المنصوص عليه فقط وبقي ما لم يذكر على أصل الإباحة فأخطآ رضي الله عنهما إذا قاسا وهذا هو الحق الذي لا يحل لأحد أن يعتقد غيره وبالله تعالى التوفيق حدثنا أحمد بن قاسم ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم ثنا جدي قاسم بن أصبغ نا بكر بن حماد نا حفص بن غياث عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء من غير نسيان لها رحمة لكم فلا تبحثوا عنها كتب إلي النمري يوسف بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن محمد علي

الباجي نا الحسين بن إسماعيل نا عبد الملك بن يحيى نا محمد بن إسماعيل ثنا سنيد بن داود نا محمد بن فضيل عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها حدثنا أحمد بن قاسم قال نا أبي القاسم بن محمد بن قاسم قال نا جدي قاسم بن أصبغ نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا نعيم بن حماد نا عبد الله بن المبارك ثنا عيسى بن يونس عن جرير هو ابن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال قال أبو محمد حريز بن عثمان ثقة وقد روينا عنه أنه تبرأ مما أنسب إليه من الانحراف عن علي رضي الله عنه ونعيم بن حماد قد روى عن البخاري في الصحيح وفي الأحاديث التي ذكرنا في هذا الفصل وفيما قبل هذا من أمره صلى الله عليه وسلم بأن يتركوا ما تركهم وأن ينتهوا عما نهاهم وأن يفعلوا ما أمرهم به ما استطاعوا كفاية في إبطال القياس لمن نصح نفسه وقد قال بعض أصحاب القياس إنما أنكر في هذه الأحاديث من يقيس برأيه وأما من يقيس على تشابه المنصوص فلم يذم قال أبو محمد فقلنا لهم من أين فرقتم هذا الفرق وهل رددتموها على الدعوة المفتراة الكاذبة شيئا وقولكم هذا من أشد المجاهرة بالباطل وقد وجدنا للصحابة فتاوى كثيرة بالرأي يتبرؤون فيها من خطأ إن

كان إلى الله تعالى ولا يوجدون شيئا منها دينا ولا يقولون إنه الحق بل يذمون القول بالرأي في خلال ذلك خوف أن يظن ظان أنه منهم على سبيل الإيجاب والقطع بأنه حق فمن تعلق بالرأي هكذا فله متعلق وأما القياس الذي ذكر هذا القائل على التعديل واستخراج علة الشبه فما نطق بذلك قط أحد من الصحابة ولا قال به فالذي فر إليه أشد مما فر عنه وبالله تعالى التوفيق وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم وعمن بعدهم إبطال القياس نصا كالذي ذكرنا عن أبي هريرة من قوله لابن عباس إذ أتاك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال وهذا نص من أبي هريرة على إبطال القياس حدثنا عبد الله بن يوسف نامي نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أحمد بن عبد الله بن يونس ثنا زهير ثنا منصور عن هلال بن يساف عن ربيع بن عميلة عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الكلام إلى الله عز وجل أربع فذكر الحديث وفي آخره لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك تقول أثم هو فيقول لا إنما هن أربع فلا تزيدوا علي قال أبو محمد فهذا سمرة بن جندب لم يستجز القياس وأخبر أنه زيادة

في السنة ولم يستجز أن يقول ومثل هذا يلزم في خيرة وسعد وفرج فتقول أثم سعد أثم فرج أثم خيرة فيقول لا هذا وقد نص على السبب المانع من التسمية بالأسماء المذكورة التي يسمون مثلها التي يكذبون في استخراجها علة يقيسون عليها فقد كان ينبغي لو اتقوا الله عز وجل أن يقولوا إن التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يقاس عليها ما يشبهها لكن لم يفعلوا ذلك ولا فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خص هذه الأسماء ولا سمرة بعده وهذا إبطال صحيح للقياس فإن قالوا لعل هذا الكلام إنما هن أربع فلا تزيدون علي هو من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم قيل لهم فذلك أشد عليهم وأبطل لقولكم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القياس والتعليل وأمر بالاقتصار على ما نص عليه فقط حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي نا محمد بن معاوية المرواني نا أحمد بن شعيب النسائي نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر وأبو داود الطيالسي وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأبو الوليد الطيالسي ومحمد بن أبي عدي قالوا ثنا شعبة قال سمعت سليمان بن عبد الرحمن قال سمعت عبيد بن فيروز قال قلت للبراء بن عازب حدثني ما كره أن نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأضاحي فقال هكذا بيده ويده أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع لا تجزىء في الأضاحي وذكر الحديث قال فإني أكره أن يكون نقص في القرن والأذن قال فما كرهت منه فدعه ولا تحرمه على أحد وروينا نحو ذلك عن عتبة بن عبد السلمي ألا

يتعدى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أحمد بن عمر العذري ثنا عبد الله بن حسين بن عقال الفريسي نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا أحمد بن الهيثم نا محمد بن شريك عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو وذكر الحديث وقال محمد بن أحمد بن الجهم ثنا أحمد بن الهيثم ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد ابن زيد نا المعلى بن زياد عن الحسن قال بينا عمر بن الخطاب يمشي في بعض طرق المدينة إذ وطىء رجل من القوم عقبه فقطع نعله فأهوى له ضربة فقال يا أمير المؤمنين لطمتني وظلمتني لا والله ما هذا أردت فألقى إليه الدرة فقال دونك فاقتص فقال بعضهم اغفرها لأمير المؤمنين فقال لا والله ما أريد مغفرتها لقد كتبت وحفظت ولكن إن شئت دللتك على خير من ذلك {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} قال فإني قد تصدقت فجاء عمر رقيق فأعطاه خادما وذكر الحديث قال أبو محمد فهذا عمر لم يستجز قياس المغفرة على الصدقة والعلة عند القائسين واحدة ولا أرى أن يفارق ظاهر النص حدثنا يوسف بن عبد الله النمري نا عبد الوارث بن جبرون نا قاسم بن أصبغ ثنا أبو بكر بن أبي خيثمة نا أبي هو زهير بن حرب نا جرير عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد أن عمر بن الخطاب نهى عن المكايلة قال مجاهد يعني المقايسة حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا إسماعيل بن إسحاق البصري نا عيسى

بن حبيب نا عبد الرحمن بن عبد الله بن يزيد المقرىء نا جدي محمد بن عبد الله بن يزيد نا سفيان بن عيينة عن خلف بن حوشب عن سلمة بن كهيل قال قال عمر بن الخطاب وقد وضحت الأمور وسنت السنن ولم يترك لأحد متكلم إلا أن يضل عبد عن عبد حدثنا ابن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة أن رجلا وامرأته أتيا ابن مسعود في تحريم فقال إن الله تعالى بين فمن أتى الأمر من قبل وجهه فقد بين له ومن خالف فوالله ما نطيق خلافه وربما قال خلافكم قال أبو محمد فهذا ابن مسعود يجعل كل ما ليس في النص خلافا لله تعالى ويخبر أن البيان قد تم وهذا إبطال القياس أخبرنا المهلب التميمي نا بن مناس نا محمد بن مسرور القيرواني أنا يونس بن عبد الأعلى نا عبد الله بن وهب قال سمعت سفيان بن عيينة يحدث عن المجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال ليس عام إلا والذي بعده شر منه لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم وكتب إلي النمري أحمد بن فتح الرسان نا أحمد بن الحسن بن عتبة الرازي نا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز العمري نا الزبير بن بكار حدثني سعيد بن داود بن أبي زبر عن مالك بن أنس عن داود بن الحصين عن

طاوس عن عبد الله بن عمر قال العلم ثلاثة أشياء كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدري حدثنا أحمد بن عمر حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي حدثنا أحمد بن عبدان بن محمد الحافظ النيسابوري بالأهواز نا محمد بن سهل بن عبد الله المقرىء نزيل فسا ثنا محمد بن إسماعيل البخاري مؤلف الصحيح قال قال لي صدقة عن الفضل بن موسى عن ابن عقبة عن الضحاك عن جابر بن زيد قال لقيني ابن عمر قال يا جابر إنك من فقهاء البصرة وستستفتى فلا تفتين إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية قال أبو محمد وهذا نص المنع من القياس والرأي والتقليد حدثنا عبد الرحمن بن سلمة الكتاني نا أحمد بن خليل نا خالد بن سعيد نا طاهر بن عبد العزيز نا أبو القاسم مسعدة العطار بمكة وكان طاهر وأحمد بن خالد يحسنان الثناء عليه قال أنا الخزامي يعني إبراهيم بن المنذر وحدثنا طاهر بن عصام كان طاهرا وكان ثقة عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر أنه قال العلم ثلاثة كتاب الله الناطق وسنة ماضية ولا أدري حدثنا محمد بن سعيد نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن سليمان الشيباني هو أبو إسحاق سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر الأخضر قلت فالأبيض قال لا أدري قال أبو محمد فلو جاز القياس عند ابن أبي أوفى لقال ما الفرق بين الأخضر

والأبيض كما يقول هؤلاء الفرق بين الزيت والسمن وبين الفأر الميت والسنور الميت وبين الأرز والبر وسائر ما قاسوا فيه لكنه وقف عند النص وهذا الذي لا يجوز غيره حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفريري نا البخاري نا أبو اليمان الحكم بن نافع أنا شعيب هو ابن حمرة عن الزهري قال كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله تعالى ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولئك جهالكم وذكر باقي الكلام والخبر حدثنا عبد الله بن ربيع بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة أنا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن زيد بن عميرة عن معاذ بن جبل قال تكون فتن يكثر فيها الملل ويفتح فيها القرآن حتى يقرؤه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمؤمن والمنافق فيقرؤه الرجل فلا يتبع فيقول والله لأقرأنه علانية فيقرؤه علانية فلا يتبع فيتخذ مسجدا ويبتدع كلاما ليس من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإياكم وإياه فإنها بدعة ضلالة قالها ثلاث مرات فهؤلاء عمر وابن عمر وابن مسعود وأبو هريرة ومعاذ بن جبل وسمرة بن جندب وابن عباس والبراء بن عازب وعبد الله بن أبي أوفى ومعاوية كلهم يبطل القياس وما ليس موجودا في القرآن ولا في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه صفة الرأي والقياس والتعليل وقد قدمنا أنه لا يصح خلاف هذا عن أحد من الصحابة بوجه من الوجوه وبالله تعالى التوفيق

وأما التابعون ومن بعدهم فحدثنا يونس بن عبد الله القاضي نا يحيى بن مالك بن عائذ نا هشام بن محمد بن قرة المعروف بابن أبي حنيفة نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي نا ابن غليب حدثني عمران بن أبي عمران ثنا يحيى بن سليمان الطائفي حدثني داود بن أبي هند قال سمعت محمد ين سيرين يقول القياس شؤم وأول من قاس إبليس فهلك وإنما عبدت الشمس والقمر بالقياس حدثنا المهلب نا ابن مناس نا محمد بن مسرور القيرواني نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب قال أخبرني مسلمة بن علي أن شريحا الكندي هو القاضي قال إن السنة سبقت قياسكم كتب إلي النمري قال قال أبو ذر الهروي نا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني بالري نا عبد الرحمن بن أبي حاتم نا محمد بن إسماعيل الأحمسي نا وهب بن إسماعيل عن داود الأودي قال قال لي الشعبي احفظ عني ثلاثا لهما شأن إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك أرأيت فإن الله تعالى قال في كتابه {أرأيت من تخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا} حتى فرغ من الآية والثانية إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشيء فربما حرمت حلالا أو حللت حراما والثالثة إذا سئلت عما لا تعلم فقل لا أعلم وأنا شريكك كتب إلي يوسف بن عبد الله نا خلف بن قاسم نا ابن شعبان نا محمد بن محمد نا أبو همام نا الأشجعي عن جابر عن الشعبي عن مسروق قال لا أقيس شيئا بشيء قلت لم قال أخاف أن تزل رجلي كتب إلي النمري نا عبد الرحمن بن يحيى بن محمد العطار نا علي بن محمد بن مسرور حدثنا أحمد نا سحنون نا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى

بن أبي عيسى عن الشعبي أنه سمعه يقول إياكم والمقايسة فوالذي نفسي بيده لئن أخذتم بالمقايسة لتحلن الحرام ولتحرمن الحلال ولكن ما بلغكم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحفظوه حدثنا يونس بن عبد الله القاضي نا يحيى بن مالك بن عائذ نا أبو عبد الله ابن أبي حنيفة نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا يوسف بن يزيد القراطيسي نا سعيد بن منصور نا جرير بن عبد الحميد عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي قال السنة لم توضع بالمقاييس وحدثنا أيضا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا محمد بن أحمد بن يحيى نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس العبقسي نا محمد بن علي بن زيد الصائغ ثنا سعيد بن منصور نا جرير هو عبد الحميد عن المغيرة عن الشعبي قال السنة لم توضع بالمقاييس حدثنا يونس بن عبد الله القاضي نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم بن العنان ثقة نا أحمد بن خالد نا أحمد بن عبد السلام الخشني محمد بن بشار نا يحيى بن سعيد القطان نا صالح بن مسلم قال قال لي عامر الشعبي يوما وهو آخذ بيدي إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس لقد بغض إلي هذا المسجد فلهو أبغض إلي من كناسة داري هؤلاء الصفافقة كتب إلي النمري نا محمد بن خليفة شيخ فاضل جدا واسع الرواية ثنا محمد بن الحسين الآجري ثنا أحمد بن سهل الأشناني نا الحسين بن علي بن الأسود نا يحيى بن آدم نا المبارك عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قال كتاب الله تعالى وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي النمري أخبرنا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ ثنا

ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع ثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران في قول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قال إلى الله إلى كتاب الله تعالى وإلى الرسول ما دام حيا فإذا قبض قال سنته حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث نا محمد بن الحسن الزبيدي نا أحمد هو ابن سعيد بن حزم الصدفي نا أحمد هو ابن خالد نا مروان هو ابن عبد الملك النجار نا العباس بن الفرج الرياشي عن الأصمعي أنه قيل له إن الخليل بن أحمد يبطل القياس فقال الأصمعي أخذ هذا عن إياس بن معاوية حدثني أبو العباس العذري نا الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فراس أنا عمر بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي نا علي بن عبد العزيز نا أبو الوليد القرضي نا محمد بن عبد الله بن بكار القرشي نا سليمان بن جعفر نا محمد بن يحيى الربعي عن ابن شبرمة أن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن قال لأبي حنيفة اتق الله ولا تقس فإنا نقف غدا نحن ومن خالفنا بين يدي الله تعالى فنقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى وتقول أنت وأصحابك سمعنا ورأينا فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ ثنا ابن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن هارون بن إبراهيم البربري قال سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قال قال أبي الله لا يدع شيئا أن يبينه أن يكون نسبه فما قال الله عز وجل فهو كما قال الله وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يقل الله ورسوله فبعفو الله ورحمته فلا تبحثوا عنه

حدثنا أحمد بن عمر بن أنس نا علي بن الحسن بن فهر ثنا محمد بن علي نا محمد بن عبد الله الحفاظ إجازة نا أبو العباس محمد بن يعقوب نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنا وهب سمعت مالك بن أنس يقول ألزم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمران تركتهما فيكم لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حدثنا أحمد بن عمر نا علي بن الحسن بن فهر أنا الحسن بن علي بن شعبان وأبو حفص عمر بن محمد بن عراك نا أبو بكر أحمد بن مروان المالكي نا علي بن عبد العزيز نا الزبير بن بكار قال سمعت سفيان بن عيينة يقول سألت مالك بن أنس عن رجل أحرم من المدينة أو من وراء الميقات فقال مالك هذا رجل مخالف لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم أخشى عليه الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة أما سمعت قوله تعالى {لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} ثم ذكر حديث المواقيت حدثنا عبد الرحمن بن سلمة نا أحمد بن خليل نا خالد بن سعد نا أحمد بن خالد نا يحيى بن عمر نا الحارث بن مسكين أنا ابن وهب قال قال لي مالك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المرسلين وسيد المرسلين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء قال أبو محمد فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيب إلا بالوحي وإلا لم يجب فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب في الدين برأي أو قياس أو استحسان أو احتياط أو تقليد إلا بالوحي وحده وبالله تعالى التوفيق حدثنا أحمد بن عمر بن أنس نا أحمد بن عيسى غندر نا خلف القاسم نا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمر نا يزيد بن عبد ربه قال سمعت وكيع بن

الجراح يقول ليحيى بن صالح الوحاظي يا أبا زكريا احذر الرأي فإني سمعت أبا حنيفة يقول البول في المسجد أحسن من بعض قياسهم حدثنا القاضي حمام بن أحمد نا عبد الله بن علي الباجي اللخمي حدثنا أحمد بن خالد حدثنا عبيد بن محمد الكشوري ثنا محمد بن يوسف الحذافي ثنا عبد الرزاق قال قال لي حماد بن أبي حنيفة قال أخبرني أبي من لم يدع القياس في مجلس القضاء لم يفقه قال أبو محمد فهذا أبو حنيفة يقول إنه لا يفقه من لم يترك القياس في مواضع الحاجة إلى تصريف الفقه وهو مجلس القضاء فتبا لكل شيء لا يفقه المرء إلا بتركه وقد ذكرنا أيضا قول مالك آنفا في إبطال القياس فإن وجد لهذين الرجلين بعد هذا القول منهما قياس فهو اختلاف من قولهما وواجب عرض القولين على القرآن والسنة فلأيهما شهد النص أخذ به والنص شاهد لقول من أبطل القياس على ما قدمنا لا سيما وهذان الرجلان لم يعرفا قط القياس الذي ينصره أصحاب القياس ومن استخراج العلل ولكن قياسهما كان بمعنى الرأي الذي لم يقطعا على صحته وكذا صدر الطحاوي في اختلاف العلماء بأن أبا حنيفة قال علمنا هذا رأي فمن أتانا بخير منه أخذناه أو نحو هذا القول والمتحققون بالقياس لا يقرون بهذا ولا يرضوه ولا يقولون به وهكذا جميع أهل عصرها وبالله تعالى التوفيق

ولا معنى لفشو القول بالقياس وغلبته على أكثر الناس فهذا برهان بطلانه وفساده وقد أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلبة الباطل وظهوره وخفاء الحق ودثوره كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد الفقيه الأشقر ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن عياد وابن أبي عمر جميعا عن مروان الفزاري عن يزيد يعني بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء وقال مسلم ثنا محمد بن رافع والفضل بن سهيل الأعرج قال ثنا شبابة بن سوار ثنا عاصم هو ابن محمد العمري عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأزر بين المسجدين تأرز الحية إلى حجرها حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا ابن أبي دليم ووهب بن مسرة حدثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا حفص عن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء قال نزاع القبائل قال أبو محمد وأما الإجماع فقد بيناه على ترك القياس من وجوه كثيرة وهي إجماع الأمة كلها على وجوب الأخذ بالقرآن وبما صح عن رسول الله صلى

الله عليه وسلم وبما أجمعت الأمة كلها على وجوبه أو تحريمه من الشرائع وأجمعت على أنه ليس لأحد أن يحدث شريعة من غير نص أو إجماع وأجمعت على تصديق قول الله تعالى {وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} وعلى قوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وهذا إجماع على ترك القياس وأن لا حجة لأحد إليه حتى نقص من نقص بالغفلة المركبة في البشرية في التفصيل والخطأ لم يعصم منه أحد بعد النبيين صلى الله عليهم وسلم فإنما يوجد القياس ممن وجد منه على سبيل الخطأ والغفلة عن الواجب عليه هي زلات علماء كمن قال بالتقليد وما أشبه ذلك وأيضا فقد قلنا وبينا أنه لم يصح قط عن أحد من الصحابة القول بالقياس يعني باسمه وباليقين فإنه يتكلم قط أحد منهم بلا شك ولا من التابعين بلا شك باستخراج علة يكون القياس عليها ولا بأن القياس لا يصح إلا على جامعة بين الحكمين فهذا أمر مجمع عليه ولا شك فيه البتة إلا عند من أراد أن يطمس عين الشمس وهذا أمر إنما ظهر في القرن الرابع فقط مع ظهور التقليد وإنما ظهر القياس في التابعين على سبيل الرأي والاحتياط والظن لا على إيجاب حكم به ولا أنه حق مقطوع به ولا كانوا يبيحون كتابه عنهم وأيضا فقد وجدنا مسائل كثيرة جدا اتفقوا هم فيها ونحن وجميع المسلمين على خلاف جميع وجوه القياس وعلى ترك القياس كله فيها ومسائل كثيرة جاء النص بخلاف القياس كله فيها ولم نجد قط مسألة جاء النص بالأمر بالقياس فيها ولا مسألة اتفق الناس على الحكم فيها قياسا فلو كان القياس حقا لما جاز الإجماع على تركه في شيء من المسائل ولا جاء النص بخلافه البتة فالإجماع لا يجوز على ترك الحق ولا يأتي النص بخلاف الحق وهذا إجماع صحيح على ترك القياس وسنبين طرفا من المسائل التي ذكرنا

ولعل قياس الورع يعارض هذا القول بأن يقول قد جاء الإجماع على ترك بعض النصوص فليعلم الناس أن من قال ذلك كاذب آفك وما جاء قط نص صحيح بخلاف نص صحيح السند متصل وهو الحق عندنا لا ما عداه وما جاء قط نص صحيح بخلاف الإجماع فإن قال سوفسطائي فقد جاء نص بخلاف نص قلنا نعم ينسخ له وهو نص على كل حال ولم نذكر لكم قياسا خلاف قياسا وإنما قلنا بأنه قد وجد إجماع على ترك جميع وجوه القياس وورود نص مخالف لجميع وجوه القياس وهكذا هي جميع الشرائع ككون الظهر أربعا والصبح ركعتين والمغرب ثلاثا وكصوم رمضان دون شعبان وكالحدث من أسفل فيغسل له الأنواع وكأنواع الزكاة وسائر الشرائع كلها وليس أحد من القائلين بالقياس إلا وقد تركه في أكثر مسائله وسنبين من هذا إن شاء الله تعالى في آخر هذا الباب طرفا يدل على المراد وأما من براهين العقول فإنه يقال لهم أخبرونا أو شيء هو القياس الذي تحكمون به في دين الله تعالى فإن قالوا لا ندري أو تلجلجوا فلم يأتوا فيه بحد حاصر أقروا بأنهم قائلون بما لا يدرون ومن قال بما لا يدري فهو قائل بالباطل وعاص لله عز وجل إذ يقول {قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} مع الرضا لنفسه بهذه الصفة الخسيسة التي لا تكون إلا في النوكي وإن قالوا حكم جامع بين شيئين بعلة يستخرجه أو قالوا بكثرة التشابه كانوا قائلين بما لا دليل على صحته وبما لم يقل به قط صاحب ولا تابع وإن قالوا بما يقع في النفس كانوا شارعين بالظن وفي هذا ما فيه وقد أقروا كلهم بلا خلاف منهم أنه جائز أن توجد الشريعة كلها أولها عن آخرها نصا وأقروا كلهم بلا خلاف من أحد منهم أنه لا يجوز أن توجد الشريعة كلها قياسا البتة ومن البراهين الضرورية عند كل ذي

حس وعقل أن ما لزم الكل لزم البعض فالشرائع كلها لا يمكن البتة ولا يجوز أن توجد قياسا من أحد فبعضها لا يجوز أن يوجد قياسا وليس هذا قياسا ولكنه برهان ضروري كقول القائل إن كان الناس كلهم أحياء ناطقين فكل واحد منهم حي ناطق ولا يموه مموه فيقول بعض الناس أعور وليس كلهم أعور فليس هذا مما ألزمناهم في صفة لكن كل الناس ممكن أن يوجدوا عورا وليس ذلك بممتنع في البقية وأما أخذ الشرائع كلها قياسا فممتنع في البتة إذ لا بد عندهم من نص يقاس عليه ولا هذا أيضا من قول القائل لا يجوز أن يكذب الناس كلهم وجائز أن يكذب بعضهم بل كل أحد على حدته فالكذب عليه ممكن وليس كل شريعة على حدتها جائز أن توجد قياسا وهذا بيان يوضح كل ما أرادوا أن يموهوا به في هذا المكان وبرهان آخر وهو أنه يقال لأصحاب القياس إذا قلتم لما حرم الله تعالى القطع في أقل من ثلاثة دراهم أو عشرة دراهم حرم أن يكون الصداق أقل من ثلاثة دراهم ولما وجبت الكفارة على الوطء عمدا في نهار رمضان وجبت على الأكل عمدا في نهار رمضان ولما حرم حلق الشعر في الرأس بغير ضرورة في الإحرام حرم حلق العانة في الإحرام كما حرم مد بر بمدي بر نقدا حرم مد شعير بمد سلت نقدا وقال آخرون منكم لا ولكن حرم رطل حديد برطل حديد نقدا وقال آخرون لا ولكن حرم أصل كرنب بأصل كرنب نقدا ولما أبيح اتخاذ كلب الصيد والغنم بعد تحريمه أبيح ثمنه بعد تحريمه ولما أبيح الثلث في الوصية للموصي أبيح بيع الثمر قبل صلاحه إذا كان أقل من ثلث كرام الدار وسائر ما أوجبتموه قياسا وحرمتموه قياسا وأبحتموه من هذا الموجب لهذا كله ومن هو المحرم

لهذا كله إذ لا بد لكل فعل من فاعل ولكل تحريم من محرم ولكل إيجاب من موجب ولكل إباحة من مبيح فإن قالوا الله تعالى ورسوله أباحا ذلك وحرماه وأوجباه كذبوا على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وجاهروا بالفرية عليهما وهم لا يقدمون على أن ينسبوا ما حكموا فيه بقياسهم إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مع أنه إن أقدم منهم قليل الدين على أكذبه سائرهم لأنه إنما سألناهم عن مسائل يخالف فيها بعضهم بعضا ووقع حينئذ بأسهم بينهم وكفونا مؤنتهم فلم يبق بالضرورة إلا أن يحيلوا في التحريم والإيجاب والإباحة على أنفسهم أو على أحد دون الله تعالى ودون رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا كما تراه بلا مؤنة ولا تكلف تأويل إقرار بإحداث دين وشريعة لم يأت بها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أذن بها الله تعالى فإن سألونا عن مثل هذا فيما أوجبناه أو حرمناه أو أبحناه بخبر الواحد العدل المسند فلسنا نقنع بأن نقول لهم إن هذا السؤال لازم لكم كلزومه لنا لأننا لا نتكثر بهم ولا نبالي وافقونا في ذلك أو خالفونا لكن نقول وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى حرم وأوجب وأباح كل ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك في ذلك كما نقول فيما أمر الله تعالى به من قبول شهادة العدول في الأحكام وبالله تعالى التوفيق ويقال لهم أيضا أخبرونا أكل قياس قاسه قائس من أصحاب القياس حق وصواب أم من القياس خطأ وصواب ولا بد من أحد الوجهين فإن قالوا كل قياس في الأرض فهو صواب تركوا مذهبهم وأوجبوا المحال وكون الشيء حراما حلالا فرضا مباحا على إنسان واحد في وقت واحد وإن قالوا من القياس خطأ ومنه صواب قلنا لهم بأي شيء

فصل بحث آخر في الرد على احتجاج أهل القياس

تعرفون الحق من الباطل في القياس فإن تلجلجوا وقالوا لا نأتي بذلك إلا في كل مسألة قلنا هذا لو إذ عما لزمكم مما لا سبيل لكم إلى وجوده كمن قاس أن يقبل امرأتان حيث تجوز عنده شهادة النساء مفردات على قبول رجلين حيث يقبل الرجال وكمن قاس وجود أربع في ذلك على تعويش امرأتين بدل رجل حيث يقبل النساء مع الرجل وقلما تخلو لهم مسألة من مثل هذا فإذا بطل وجود برهان يصحح الصحيح من القياس ويبطل الباطل منه فقد صح أن ما لا سبيل إلى الفرق بين باطله وبين ما يدعي قوم أنه منه حق فهو باطل كله فإن قالوا لنا فكل الأخبار عندكم حق أو فيها باطل وحق قلنا بل كل ما اتصل برواية الثقات إلى النبي صلى الله عليه وسلم حق لا يحل تركه إلا بيقين نسخ أو بيقين تخصيص ولا نسخ في القياس أصلا فصل في وضوح الطريقة على فساد القياس قال أبو محمد ونحن نرتب إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا به طريقة لا يتعدى بها على أحد من أهل الحق إفساد كل قياس يعارض به أحد من أصحاب القياس أو يحتج منهم وذلك أنه إذا احتج محتج ممن يقول بالقياس بأن هذه المسألة تشبه مسألة كذا فواجب أن نحكم لها بمثل حكمها فليطلب من يعارضه من أصحابنا صفة في المسألة التي شبهها خصمه بالمسألة الأخرى مما يشبه فيه مسألة ثالثة ثم يلزمه أن يحكم لها أيضا بمثل ذلك الحكم وهذا أمر موجود في جميع مسائلهم أولها عن آخرها وهذا وجه يفسد مسائلهم في القياس وسنذكر من هذا طرفا كافيا في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى ونذكر ههنا مسألة واحدة تدل على المراد إن شاء الله تعالى وبالله تعالى التوفيق

قالوا لا يكون صداق إلا ما تقطع فيه اليد لأنه عضو يستباح كعضو يستباح فيقال لهم وهلا قسمتموه على استباحة الظهر في جرعة خمر لا تساوي فلسا فهو أيضا عضو يستباح فما الذي جعل قياس الفرج على اليد أولى من قياسه على الظهر وهو إلى الظهر أقرب منه إلى اليد وليس يقطع الفرج كما لا يقطع الظهر وأما تعليلهم في الربا فكل طائفة منهم قد كفتنا الأخرى إذ كل واحد منهم يبطل علة صاحبه التي قاس عليها وهكذا في كل ما قاسوا فيه وبالله تعالى التوفيق وقال بعضهم إنما نقيس في النصين المتعارضين فننظر أشبههما بما اتفق عليه في النصوص فنأخذ به قال أبو محمد وهذا أمر قد تقدم إفسادنا له في باب الكلام في الأخبار وأحكمناه وبالله تعالى التوفيق ولكننا نذكر ههنا من بعض قولهم ما لا غنى بهذا المكان عنه وهو أنا نقول هذا عمل فاسد ولا مدخل للقياس ههنا لأن كل حديثين تعارضا أو آيتين تعارضتا أو كل حديث عارض آية فليس أحد هذين النصين أولى بالطاعة من الآخر ولا الذي يردون إليه حكم هذين النصين أولى بالطاعة له من كل واحد من هذين وكل من عند الله تعالى ولا يقوي النص إجماع الناس عليه ولا يضعفه اختلاف الناس فيه فقد أجمع على بعض الأخبار واختلف في آيات كثيرة والنص إذا صح فالأخذ به واجب ولا يضره من خالفه فسقط ما أرادوا في ذلك من رد النصين المتعارضين إلى نص ثالث ووجب استعمال كل ذلك ما دام يمكن فإن لم يمكن أخذ بالزائد لأنه شرح متيقن رافع لما قبله ولم نتيقن أنه رفعه غيره مع أنهم لم يفعلوا ما ذكروا بل جاء لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وجاء لعن السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الجمل فتقطع يده

فلم يردوهما إلى الآية المتفق على ورودها من الله تعالى وهي { ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} بل غلبوا لا قطع إلا في ربع دينار وهو نص مختلف في الأخذ به على الآية وعلى الحديث الآخر ثم تناقضوا في حديث لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان فتركوه وأخذوا بظاهر الآية وهذا خلاف ما فعلوا في آية القطع وكلا الحديثين صحيح وكلاهما مختلف فيه مع صحته فإن عللوا أحدهما بأنه اختلف فيه الرواة فالآخر كذلك ولا فرق وأما حديث الحنفيين فيما تقطع فيه اليد فساقط جدا وقد قال بعضهم إذا سألناهم عن معارضة قياسهم بقياس آخر وتعليلهم بتعليل آخر فما الذي جعل أحد القياسين أولى من الآخر أو أحد التعليلين أولى من الآخر ولا سبيل إلى وجود قياس لهم أو تعليل لهم تتعذر معارضتهما بقياس آخر أو تعليل آخر كما وصفنا فقال هذا القائل العمل حينئذ في هذا كالعمل في الحديثين المتعارضين قال أبو محمد فقلنا هذا باطل لأن النصين أو الحديثين المتعارضين لا بد من جمعهما واستعمالهما معا لأن كليهما حق وواجب الطاعة إذا صحا من طريق السند ولا يمكن هذا في القياسين المتعارضين ولا في التعليلين المتعارضين بوجه من الوجوه فإن تعذر هذا في الحديثين أو الآيتين أو الآية والحديث فالواجب الأخذ بالناسخ أو بالزائد إن لم يأت تاريخ يبين الناسخ منهما لأن الوارد بالزيادة شريعة من الله تعالى لا يحل تركها وليس يمكن هذا في القياسين المتعارضين ولا في التعليلين المتعارضين بوجه من الوجوه لأنه ليس فيهما نسخ أصلا ولا يوجد في القياسين زيادة من أحدهما على الآخر في أكثر الأمر لأن التعارض فيهما إنما هو يتعلق أحد القياسين

بصفة ويتعلق آخر إلا بأخرى فبطل تمويه هذا القائل وبقي الإلزام يحسبه لا مخلص منه البتة وبالله تعالى التوفيق وقد زاد بعض مقدميهم ممن لم يتق الله عز وجل ولا أبالي الفضيحة في كلامه فقال إن القياس أقوى من خبر الواحد ورأيت هذا لأبي الفرج المالكي والمعروف بالأبهري واحتجا في ذلك بأن الخبر الواحد يدخله السهو وتعمد الكذب وأما القياس فلا يدخله إلا خوف الخطأ في التشبيه فقط قالا فما يدخله عيب واحد أولى مما يدخله عيبان قال أبو محمد وما يعلم في البدع أشنع من هذا القول ثم هو مع شناعته بارد سخيف متناقض ويقال لهذا الجاهل المقدم أخبرنا عنك أتقيس على خبر الواحد أم لا فإن قال لا كذب وأفصح وأريناهم خزيهم في قياسهم صداق النكاح على القطع في عشرة دراهم وهو خبر واهي ساقط والآخرون منهم قاسوا على خبر في ذلك وإن كان صحيح السند فهو خبر واحد وأريناهم قولهم في تقويم الملتفات بالقيمة لا بالمثل على الخبر في عتق الشقص ومدة الخيار في البيع على حديث المصراة والاستطهار في المستحاضة على حديث المصراة وهذا أكثر قياساتهم وإن قال أقيس على خبر الواحد فضح نفسه وأبان عن جهله وقلة ورعه في إقراره بأنه يقيس على ما هو أضعف من القياس وفي هذا غاية الجنون والتناقض وهم يقولون إن الأصل أقوى من الفرع والمقيس عندهم فرع والمقيس عليه أصل هذا ما لا يختلفون فيه فإذا كان خبر الواحد هو المقيس عليه عندهم فهو الأصل والقياس هو الفرع فعلى قول هذين المذكورين إذا كان القياس أقوى من خبر الواحد فالفرع أقوى من الأصل وقد قالوا إن الأصل أقوى من الفرع وهذا تناقض فاحش وبناء وهدم

ونعوذ بالله من الخذلان وأيضا فإنهم يتركون في أكثر أقوالهم ظاهر القرآن بخبر الواحد ثم يتركون خبر الواحد للقياس فقد حصل من كلامهم وعملهم أنهم غلبوا القياس على الحديث وغلبوا الحديث على القرآن فقد صار القياس على هذا أقوى من القرآن ولا قياس البتة إلا على قرآن أو حديث وهذا كله تخليط وسخنة عين وغباوة جهل وإقدام واستحلال لما لا يحل ولا يخفى على ذي بصر وبالله تعالى التوفيق وأيضا فهم كثيرا ما يقولون فيما يرد عليهم من أقوال موقوفة على بعض الصحابة مما يوافق ما قلدوا فيه مالكا وأبا حنيفة مثل هذا لا يقال بالقياس فيغلبونه على ما يوجبه القياس عندهم كقولهم فيمن باع شيئا إلى أجل ثم ابتاعه بأقل إلى أقل من ذلك الأجل وفي البناء في الصلاة على الرعاف والحدث وفي مواضع كثيرة جمة وهذا ترك منهم للقياس وتغليب للظن أنه خبر واحد على القياس لأنهم لا يقطعون على أن هذه الأقوال توقيف وإنما يظنون ذلك ظنا فقد صار الظن أنه خبر واحد عندهم أقوى من القياس الذي هو عندهم أقوى من يقين أنه خبر واحد فقد صار الظن أقوى من اليقين وفي هذا عجب عجيب ونعوذ بالله من الخذلان وأما الحقيقة فإن الظن باطل بنص حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أكذب الحديث وبنص قول الله تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا} فالظن بنص القرآن ليس حقا فإذ ليس حقا فهو باطل فإذا كان الظن الذي هو الباطل أقوى من القياس فالقياس بحكمهم أبطل من كل باطل وبالله تعالى التوفيق وجملة القول أن قولهم إن خبر الواحد يدخله السهو والغلط والكذب

إنما هو من اعتراضات من لا يقول بخبر الواحد من المعتزلة والخوارج وقد مضى الكلام في إيجاب خبر الواحد العدل وقد وجب قبوله بالبرهان فاعترض المعترض بأنه قد يدخله السهو وتعمد الكذب اعتراض بالظن وبعض الظن إثم والظن أكذب الحديث وقولهم إن القياس يدخله خوف خطأ التشبيه إقرار منهم بأنهم لا يثقون بجملته وهذا هو الحكم بالظن وهو محرم بنص القرآن ويسألون عن إنسان مشهور بالباطل معروف بادعائه قد كثر ذلك منه وفشا فتقدم إلى قاضي يخاصم عنده فإن الأمة كلها مجمعة عن ألا يقاس أمره الآن على ما عهد منه فإذا خرم أن يقاس حكم المرء اليوم على حكمه بنفس أمس فهو أبعد من أن تقاس على غيره وهذا هدم من القياس للقياس وتفاسد منه بعضه لبعض وما كان هكذا فهو فاسد كله وبالله تعالى التوفيق وقال قائل منهم هل يجوز أن يتعبدنا الله تعالى بالقياس قال أبو محمد فالجواب إن كان جائزا قبل نزول قول الله تعالى {قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} وقوله تعالى {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وكان يكون ذلك لو كان حمل إصر كما حمله على الذين من قبلنا وتحميلا لما لا طاقة لنا به وكما قال تعالى {في لدنيا ولآخرة ويسألونك عن ليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ولله يعلم لمفسد من لمصلح ولو شآء لله لأعنتكم إن لله عزيز حكيم} وأما بعد نزول الآيتين اللتين ذكرنا وبعد أن أمننا الله تعالى من أن يكلفنا الحكم بالتكهن وبالظنون وبعد أن نهانا عن أن نقول عليه تعالى ما لم نعلم فلا يجوز البتة أن يتعبدنا بالقياس لأن وعد الله تعالى حق لا يخلف البتة وقوله الحق وبالله تعالى التوفيق

فصل في ذكر طرف يسير في تناقض أصحاب القياس

فصل في ذكر طرق يسير من تناقض أصحاب القياس في القياس يدل على فساد مذهبهم في ذلك إن شاء الله تعالى قال أبو محمد علي بن أحمد رضي الله عنه أكثرهم لم يقس الماء الوارد على النجاسة على الماء الذي ترد عليه النجاسة وفرقوا بينهما بغير دليل وبعضهم لم يقس وجوب إراقة ما ولغ فيه الكلب على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب فيما ولغ فيه ولم يقيسوا الماء في ذلك على غير الماء وأكثرهم فرق بين الماء الذي تقع فيه النجاسة وبين المائعات التي تقع فيها النجاسات فيجدوا مقدارا إذا بلغه الماء لم ينجس ولم يجدوا في سائر المائعات شيئا البتة وإن كثرا وبعضهم قاس سائر المائعات في ذلك على الماء في حد المقدار وهو أبو ثور وبعضهم فرق بين حكم الماء في البئر وبين الماء في غير البئر ولم يقس أحدهما على الآخر اتباعا زعم لقول بعض العلماء في ذلك وهو قد عصى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة من الفقهاء في المصراة والمسح على العمامة وفي أزيد من ألف قضية نعم وحكم القرآن وفرق أيضا بين أحكام الجيف الواقعة في التيار وبين أحكامها وأحكام سائر النجاسات ولم يقس بعضها على بعض وبعضهم قاس الخنزير على الكلب في حكم الغسل مما ولغ فيه كلاهما في الواحد أو السبع وبعضهم لم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم قاس الماء بحكم الوالغ فيه مما يحرم أكله أو يحل أو يكره وبعضهم لم يقس ذلك وبعضهم قاسم ما لا دم له من الميتات على ماله دم فرأى كل ذلك ينجس ما مات فيه وبعضهم لم ير ذلك وبعضهم قاس العقارب والخنافس والدود المتولد في القول على الذباب

ولم يقسها على الوزغ وشحمة الأرض والعظماء وصغار الفيران وبعضهم قاس عذر ما يؤكل لحمه من الدواب وأبوالها على لحومها ولم يقسها على دمائها ولم يقسها على لحومها وبعضهم قاس ذنب الكلب ورجله على لسانه وبعضهم لم يقس ذلك وأكثرهم قاس إباحة المسح على الجبائر على المسح على الخفين ولم يقيسوا إباحة مسح العمامة على الرأس وعلى المسح على الخفين وبعضهم قاس ذلك وكلهم فيما نعلم لم يقس نزع الخفين بعد المسح على حلق الشعر وقطع الأظفار بعد المسح والغسل وبعضهم لم يقس إباحة الصلاة الفريضة بتيمم النافلة على إباحة الصلاة النافلة بتيمم الفريضة وبعضهم قاس ذلك وتناقض الأولون فقاسوا جواز صلاة المتوضئين خلف المتيمم على جواز صلاة المتيممين خلف المتوضىء على أن الخلاف في تسوية كلا الأمرين مشهور ومن طرائف قياس بعضهم إيجابه أن تستطهر الحائض بثلاث قياسا على انتظار ثمود صيحة العذاب ثلاثا على المصراة أفلا يراجع بصيرته من يقيس هذا القياس السخيف فيمنع به خمس عشرة صلاة فريضة ويوجب به إفطار ثلاثة أيام من رمضان من أن يقيس مسح العمامة على مسح الخفين وبعضهم قاس بول ما يأكل لحمه بعضه على بعض وبعضهم قاس البول المذكور على ما يتولد منه فإن تولد من ماء نجس فهو نجس وإن تولد من ماء طاهر فهو طاهر وكذلك فعل بنحوه ولم يقس اللحم المتولد فيه على ما تولد منه بل رأى ذلك حلالا أكله وإن تولد من ميتة ولحم خنزير وعذرة وبعضهم لم يقس نبيذ التين على نبيذ التمر في جواز الوضوء به عند عدم الماء في السفر وبعضهم قاس الحظر عليه في الإباحة وهو الحسن بن حي

وقد روى أيضا قياس نبيذ التين على نبيذ التمر عن أبي حنيفة ومنع أكثرهم من الكلام في الأذان قياسا على الصلاة ولم يقيسوه عليها إذ أجازوه بلا وضوء وأجاز بعضهم تنكيس الوضوء ولم يجز تنكيس الأذان ولا تنكيس الطواف ولم يقس أحدهما على الآخرين وقاس ذلك كله بعضهم في المنع في الكل أو في الإباحة في الكل وفرق بعضهم بين صلاة الفريضة والنافلة فأجاز أن يؤم النافلة من يجوز أن يؤم في الفريضة ثم لم يجز أن تؤم المرأة النساء في شيء منهما وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض وبعضهم لم يقس جواز صلاة النفل خلف من يصلي الفرض على جواز صلاة من يصلي الفرض خلف المتنفل وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض وكلهم فيما أعلم لم يقس المنع من إتمام المسافر خلف المقيم على المنع من قصر المقيم على المسافر وأطرف من هذا أن بعضهم لم يقس إتمام أهل مكة بمنى على إتمام أهل منى بمكة وهذا عجيب ما شئت ولم يقيسوا جواز الحج على العبد إذا حضره على جواز الجمعة عنه إذا حضرها وبعضهم لم يقس جواز صلاة الفرض خلف الفاسق من الأمراء على جواز صلاة الجمعة خلفه وبعضهم قاس كل ذلك وجعله سواء وبعضهم لم يقس حكم ابتداء التكبير للقائم من الركعتين على حكم ابتداء التكبير في الركوع والسجود والرفع من السجود وبعضهم ساوى بين ذلك كله وقاس بعضه على بعض وبعضهم لم يقس إيجاب البناء على المحدث على إيجاب البناء على الراعف وبعضهم ساوى بينهما

وبعضهم لم يقس وجوب البناء قبل تمام السجدتين على وجوب البناء بعد تمام السجدتين وبعضهم قاس كلا الأمرين على السواء وبعضهم لم يقس وقوع الجبهة والرجلين على نجاسة الصلاة على وقوع اليدين والركبتين على نجاسة في الصلاة وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض وهؤلاء الذين قاسوا بعض ذلك على بعض تناقضوا فلم يقيسوا جواز وقوع الرجلين والركبتين على غير الأرض أو ما تنبت على جواز وقوع الجبهة واليدين على ذلك وفرقوا بين الأمرين وبعضهم لم يقس الثبات على يقين الحدث لمن شك في الوضوء على الثبات على يقين الوضوء لمن شك في الحدث وبعضهم ساوى بين الأمرين وبعضهم لم يقس كثير السهو على قليله فرأى من قليله السجود فقط ومن كثيره الإعادة ومنهم من رأى من السلام ساهيا السجود فقط ورأى من الكلام ساهيا الإعادة ورأى بعضهم على من تكلم في صلاته ساهيا أنها قد بطلت فإن أحدث بغلبة لم تبطل صلاته فإن أكل ساهيا وهو صائم لم يبطل صيامه وقلب غيره منهم الأمر فرأى إن تكلم ساهيا في صلاته لم تبطل فإن أحدث بغلبة بطلت وإن أكل ناسيا وهو صائم بطل صومه وفرقوا بين من نسي صلاة يوم وليل وبين من نسي أكثر ولم يقيسوا أحدهما على الآخر وبعضهم قاس كل ذلك على السواء وقاس بعضهم الجمع بين الذهب والفضة في الزكاة على الجمع بين المعز والضأن في الزكاة ولم يقسه على التفريق بين التمر والزبيب في الزكاة وبعضهم قاسه على التفريق المذكور لا على الجمع وأعجب من ذلك أن من ذكرنا رأى إخراج ذهب عن فضة وفضة عن ذهب ولم ير إخراج عنز عن ضانية ولا ضانية عن عنز ولا برا عن شعير ولا شعيرا عن بر ولم يقس بعض

ذلك على بعض أو بعضهم أجاز كل ذلك بالقيمة قياسا وفرق بعضهم بين غلة ما ابتيع للتجارة وبين الربح المتولد في ذلك فرأى في الغلة الاستئناف ورأى في الربح ضمه إلى أصل الحول في رأس المال ولم يقس أحدهما على الآخر وقاس غيره منهم بعض ذلك ببعض في الاستئناف أو في الضم وأوجبوا ديون الناس من رأس المال ولم يوجبوا ديون الله تعالى إلا من الثلث ولم يقيسوا أحدهما على الآخر وساوى بعضهم بين الأمرين ولم يقس بعضهم الحلي وإن كان لكراء أو لباس على العوامل المعلوفة من الإبل والبقر والغنم فبعضهم أوجب الزكاة في الحلي وأسقطها عن العوامل وبعضهم أوجب الزكاة في العوامل وأسقطها عن الحلي وبعضهم قاس أحدهما على الآخر في إسقاط الزكاة عن كل ذلك والعجب أن الذي أسقط الزكاة عن الحلي الكراء لم يقس عليه الحلي المبتاع للتجارة ورأى فيه الزكاة وبعضهم فرق بين عبيد العبيد فلم يرهم كسادتهم ولا كسادات ساداتهم في وجوب زكاة الفطر المأخوذة ورأى على عبيد أهل الذمة أن يؤخذ منهم ما يؤخذ من ساداتهم إذا اتجروا إلى غير أفقهم وبعضهم رأى الزكاة في زيت الفجلة ولم يرها في الترمس ولم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم الزكاة في جب الآس ولم يرها في البلوط ولم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم لم يقس الدين على الرهن في الكفن فرأى الكفن فيه أولى من الدين ولم يره أولى من الرهن إذا كان رهنا وبعضهم ساوى بين الأمرين وبعضهم لم يقس المدبر على المحتكر وبعضهم قاسه عليه وبعضهم لم يقس الخليطين في الثمار والزرع والعين على الخليطين في المواشي

وبعضهم ساوى بين كل ذلك قياسا وفرق بعضهم بين من أعطى آخر مالا ليأكل ربحه والأصل لصاحب المال وأعطاه غنما ليأكل نسلها ورسلها والأصل لصاحب المال فرأى في الغنم الزكاة ولم ير في ربحه زكاة وهو مال تجارة لا على التاجر ولا على الذي له أصل ولم يقس أحدهما بالآخر وقاس غيره أحدهما على الآخر ولم يقس بعضهم فائدة العين على فائدة الماشية فرأى في فائدة الماشية الزكاة إذا كان عنده نصاب منها ولم ير في فائدة العين الزكاة وإن كان عنده نصاب منه وقاس غيره منهم بعض على بعض في إيجاب الزكاة في الكل وفي إسقاطها عن الكل ولم يقس بعضهم فائدة الكسب على فائدة الولادة في إيجاب الزكاة في كل ذلك وقاس كل ذلك بعضهم فرأى في الكل الزكاة ولم يقس بعضهم فائدة المعدل على سائر الفوائد وقاسه بعضهم عليها وقال بعضهم لا يجزىء في زكاة الغنم إلا الجذع من الضأن فصاعدا والثني فصاعدا من الماعز قياسا على ما يجيز منها الأضحية وأجازوا في البقر والإبل الجذع ودون الجذع ولم يقيسوا ذلك على ما يجوز منهما في الأضحية ولا قاسوا حكم الغنم في ذلك على الإبل والبقر ولا حكم الإبل والبقر على حكم الغنم وقال بعضهم من بادل ذهبا بفضة زكى الآخر بحول الأول ولم يقس ذلك على ما بادل بقرا بإبل وقاسه على ما بادل غنما بماعز وقال بعضهم تؤخذ الزكاة من الزيتون قياسا على التمر والعنب ولم يقسه عليها في الخرص في الزكاة وقال بعضهم يخرج الأرز والذرة في زكاة الفطر قياسا على الشعير والبر

ولم يجز أن يخرج فيها الزيتون قياسا على التمر والزبيب ولم يجز أن يخرج فيها الدقيق قياسا على البر وقد قاسه على البر في تحريم بيع بعضه ببعض متفاضلا وأجاز بيعه بالبر متماثلا وأسقط بعضهم زكاة التجارة على الماشية المشتراة للتجارة لزكاة الأصل ولم يقس على ذلك سقوط زكاة التجارة عن الدقيق المشترى للتجارة من أجل زكاة الفطر فيهم وأوجب بعضهم الزكاة في العسل وفي الحبوب وفي الثمار إذا كانت في أرض غير خراجية وأسقط الزكاة عن كل ذلك في الأرض الخراجية ولم يسقط الزكاة عن الماشية وإن رعت في أرض خراجية فلم يقس رعي النحل على رعي الماشية ولا رعي الماشية على رعي النحل وسقط بعضهم الزكاة في العين والماشية عن الصغير والمجنون قياسا على سقوط الصلاة عنهما ولم يسقط الزكاة عن ثمارهما وزرعهما قياسا على سقوط الصلاة عنهما وقال آخرون منهم في هذا إن حق الزكاة ثابت مع الزرع والثمر قال أبو محمد وهذا كذب لأن قائل هذا لا يرى فيما دون خمسة أوسق صدقة فلم ير الزكاة ثابتة مع هذه الثمرة ولم يقيسوا وجوب الزكاة في ذلك عليهما على وجوب زكاة الفطر عليهما وقياس زكاة على زكاة أولى من قياس زكاة على صلاة ولا قاسوا وجوب الزكاة وهي حق المال على وجوب سائر الحقوق في الأموال على الصغار والمجانين من النفقات والأروش وقياس مال على مال أولى من قياس زكاة على صلاة ولم يقس سقوط الصلاة عن الفقراء على سقوط الزكاة عنهم وفرق بعضهم بين حكم من رأى هلال شوال وحده وبين حكم من رأى هلال رمضان وحده ولم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم قاس كل

واحد منهما على الآخر ولم يقس بعضهم حكم الحائض تطهر والكافر يسلم والمسافر يقدم في نهار رمضان على حكم من بلغه بعد الفجر إن هلال رمضان رئي البارحة فأوجبوا على هذا ألا يأكل باقي النهار ولم يوجبوا ذلك على الآخرين ثم قاسوا بعضهم على بعض في وجوب القضاء عليهم حاشا الكافر يسلم فلم يقيسوه عليهم في وجوب القضاء وقاسه بعضهم عليهم فأوجبوا عليه القضاء وأطرف من هذا قياس بعضهم من غلبته ذبابة فدخلت حلقه على الأكل عمدا في إيجاب القضاء فقط عليه ولم يقس على ذلك من أخرج بلسانه من بين أسنانه الجريدة ولعلها من مقدار الذبابة فيبلغها عمدا في نهار رمضان فقالوا صومه تام ولا قضاء عليه وقاس بعضهم المجنون على الحائض في إيجاب قضاء رمضان عليهما ولم يقيسوه عليها في وجوب الحدود عليها وقاس بعضهم من لمس عمدا فأمنى على المجامع عمدا في القضاء والكفارة ولم يقس من استعط عمدا فوجد طعم ذلك في حلقه على الأكل عمدا لم يوجب فيه كفارة وقاس بعضهم المغمى عليه في رمضان على المريض في إيجاب القضاء عليه ولم يقسه عليه في إيجاب قضاء ما ترك من الصلوات عليه وقاسه بعضهم في إيجاب الصلوات وأوجب بعضهم على من أكره امرأته على الجماع في نهار رمضان أن يكفر عنها فيصوم عنها ولم يقس على ذلك إيجاب الصوم على من مات وعليه صوم وقاس بعضهم الأكل عمدا في نهار رمضان على الواطىء عمدا في نهار رمضان وأوجب عليهما الكفارة ولم يقيسوه على المتقيىء عمدا في نهار

رمضان في إسقاط الكفارة عنه وقياس الأكل على القيء أولى من قياسه على الوطء وقاسه بعضهم على المتقيء فيما ذكرنا وفرقوا بين الواطىء والآكل بأن قالوا الوطء يوجب أحكام لا يوجبها الأكل فالوطء يوجب الغسل والحد والصداق ولا يوجب شيئا من ذلك الأكل ولا الشرب والأكل يوجب الغرامة ولا يوجبها الوطء والأكل من مال الصديق مباح ولا يجوز وطء ملكه فقاسوا ترك الكفارة في الأكل على هذه الفروق وقال بعضهم إنما القياس على التشابه لا على عدم التشابه قال أبو محمد وكل هذا تحكم كما ترى ولا دليل ولم يقس بعضهم من أفطر عمدا في قضاء رمضان وهو فرض في وجوب الكفارة عليه على إفطاره عمدا في رمضان وكلاهما فرض وقد أوجب ذلك عليهما بعض السلف وأوجب الكفارة على المظاهر من زوجته وعلى المرأة الموطوءة في رمضان طائعة وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم أمرها فلم يوجب عليها شيئا ولم يقيسوا المرأة المظاهرة من زوجها في إيجاب الكفارة عليها على المظاهر ولا على المرأة الموطوءة وقد أوجب الكفارة على المرأة المظاهرة من زوجها جمهور من السلف ومن بعدهم وقاسوا الأكل عمدا في رمضان في إيجاب الكفارة عليه على الواطىء في رمضان عمدا ولم يقيسوا على ذلك مفسد صلاته عمدا والصلاة أعظم حرمة من الصوم ومن طرائف بعضهم إيجابه قياس من أفطر ناسيا في رمضان على من أفطر

عمدا في إيجاب القضاء عليهما ولم يقسه عليه في إيجاب الكفارة عليهما نعم ولم يقس الأكل ناسيا على المتقيىء ناسيا أو مغلوبا فأسقط على هذا ولم يسقطه عن الآخر وفرق بعضهم بين أحكام النيات ولم يقس بعضها على بعض فأجاز بعضهم الطهارات بلا نية ولم يجز الصلاة إلا بالنية وبعضهم لم يجز الطهارات إلا بنية وأجاز الصوم في الواجبات بلا نية محدثة لكل يوم منه وبعضهم أوجب النية في كل ذلك ولم يوجبها في أعمال الحج وأما تناقضهم في أعمال الحج فأكثر من أن يجمع في سفر وذلك فيما أوجبوا فيه الفدية وما أسقطوها فيه ولم يقيسوا بعض ذلك على بعض وأيضا فإن بعضهم قال من طرح القراد عن نفسه لم يطعم فإن طرحه عن بعيره أطعم ولم يقس أحدهما على الآخر ولم يقس بعضهم إباحة قتل الفأرة وإن لم تؤذه على نهيه عن قتل الغراب والحدأة إن لم تؤذياه ورأى بعضهم الجزاء على قاتل السنور ولم يره على قاتل الفهد ولم يقس أحدهما على الآخر ورأى قتل الفهد قياسا على قتل السبع ولم ير قتل الصقر البري قياسا على الغراب والحدأة بل رأى في الصقر البري الجزاء ولم يقس بعضهم استظلال المحرم في المحمل على استظلاله في الخباء في الأرض ورأى على المستظل في المحمل الفدية وكذلك في السفينة ولم يقس على ذلك من مشى في ظل المحمل فلم ير عليه الفدية ولم يقس بعضهم على دهن باطن يديه وباطن قدميه بسمن أو زيت فلم ير عليه فدية على من دهن بذلك ظاهرهما فرأى عليه الفدية ولم يقس بعضهم تحريمه ما ذبح المحرم من الصيد على ما ذبحه السارق أو

الغاصب فأباحه وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض فأباح الكل ولم يقس بعضم من دل من الحرمين حلالا على صيد أو أعطاه سيفا يقتله به فلم يوجب عليه الفدية على محرم آكل من صيد صيد من أجله فأوجب عليه الجزاء وقاس بعضهم عليه فأوجب الجزاء في كل ذلك ولم يقس بعضهم حكمه بأن جناية العبد في رقبته على قوله أن أقتله الصيد ليس في رقبته وقاس بعضهم بيض الصيد على جنين المرأة ولم يقسه بعضهم عليه ولم يقس بعضهم تحريمه على المحرم ذبح صيد صاده حلال على إباحته ذبح الصيد في الحرام إذا دخل من الحل وقاس بعضهم قاتل الأسد على قاتل الذئب فلم ير فيه جزاء ولم يقس قاتل النسر والعقاب على قاتل الحدأة والغراب فرأى أن في النسر والعقاب الجزاء ولم يقس بعضهم قاتل الأسد والخنزير على قاتل الذئب فرأى في الأسد والخنزير الجزاء وقاس بعضهم إن أصاب القارن صيدا فجزاء واحد ولم يقسه على القارن يفسد حجه فرأى عليه هديين وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض فأوجب في كل ذلك هديين وبعض أوجب في كل ذلك هديا واحدا وأظرف من هذا أن بعضهم قال على العبد الفار إذا دخل مكة أن يحرم وليس ذلك على الأعجمي المسلم ولا على الجارية المصونة للبيع وله مثل ذلك في الفرق بين الشريعة والدنية في النكاح بغير الولي وهذا أشنع مما أنكروه من ترك القياس لأن هذا فرق بين الناس فأين هذا مما استعملوه من التسوية بين الزاني والقتل في جلد مائة وتغريب عام وبين الصداق والقطع

في السرقة وبين المستحاضة والمصراة وهل في التخليط أكثر من هذا وفرقوا أو أكثرهم بين صوم المرء عن غيره وحجه عنه فلم يروا ذلك ولم يقيسوه على الصدقة عنه واحتجوا في ذلك ب {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} وهذا إن منعت من الصيام منعت من الصدقة ولا فرق ثم لم يقيسوا وصيته بالحج على وصيته بالصوم ولم يقس بعضهم من وقف بعرفة قبل غروب الشمس ثم دفع منها ولم يعد إليها تلك الليلة فقالوا بطل حجه على من يقف بمزدلفة حتى طلعت الشمس من يوم النحر ولم يقس بعضهم من لم يدفع عن عرفة مع الإمام في إباحة الجمع له بمزدلفة على من لم يدرك الصلاة بعرفة مع الإمام في إباحتهم له الجمع بين الصلاتين بعرفة وقاس بعضهم قصر أهل منى بعرفة وأهل عرفة بمنى على قصر أهل مكة بمنى وعرفة ولم يقيسوا على ذلك في سائر البلاد وقاس بعضهم كل ذلك في سائر البلاد وقاس بعضهم الهدي على الأضحية فيما يجزي منها ولم يقسه عليها في الذبح والنحر قبل الإمام فأي ذلك يجزىء قبل الإمام في الهدي ولا يجزئه في الأضحية وقاس غيره منهم بعض ذلك على بعض في الإباحة ولم يقس بعضهم الأعمى في وجوب الحج عليه على المقعد في سقوط الحج عنه وقاسه بعضهم عليه وقال بعضهم سكان ذي الحليفة وهم على نحو مائتي ميل وخمسين ميلا من مكة على سكان يلملم وهو على نحو ثلاثين ميلا من مكة إنها لا هدي عليهما إن تمتعا ولم يقسم على ما بينهم وبين مكة كالذي بينهم وبينها ولم يقس أهل يلملم على أهل ذي الحليفة في قصر الصلاة والإفطار في الصوم

وساوى غيرهم منهم بين كل ذلك في إيجاب الهدي عليهم كلهم التمتع ولم يسو بينهم في قصر الصلاة ولم يقس بعضهم لابس المخيط في الإحرام يوما من غير ضرورة على لابسه أقل من يوم لغير ضرورة ولم يقس بعضهم قوله في تحريم قتل المحرم للسبع الذي لا يؤذيه وإيجاب الجزاء في ذلك على قوله في إباحة قتله للذئب ومن لم يؤذه ولم يجعل في ذلك جزاء وهم مع ذلك قليلا منهم يقيسون قاتل الصيد خطأ على قاتله عمدا وعلى قاتل حيوان وغيره خطأ فأوجبوا الجزاء في ذلك ولم يقيسوا إلا قليلا منهم قاتل النفس عمدا على قاتلها خطأ فلم يروا في قاتلها عمدا كفارة وقاس بعضهم سقوط الجزاء على قاتل السبع العادي عليه على سقوط الضمان عنه في البعير العادي فيقتله ولم يقس بعضهم ذلك فرأى الضمان على قاتل البعير العادي عليه ولم ير الجزاء على قاتل السبع العادي عليه وقد قاسوا بعض ذلك على بعض في إيجاب الجزاء في قتل الخطأ ولم يقس بعضهم الحلال بقتل الصيد في الحرام في حكم الجزاء على المحرم بقتل الصيد في الحل فرأى الصيام على المحرم ولم يجزه للحلال إلا بالمثل والإطعام فقط وساوى الأمرين ولم يقيسوا قاتل الصيد في حرم المدينة في إيجاب الجزاء عليه على قاتله في حرم مكة وقد أوجب ذلك بعض السلف والخلف ولم يقس بعضهم من اشترى أحد أربعة أثواب بغير عينه على أن يأخذ أيها شاء بدينار بالخيار ثلاثا فلم يجز هذا العقد على إجازته إذا اشترى أحد ثلاثة أثواب بغير عينه على أن يأخذ أيها شاء بدينار بالخيار ثلاثا وسوى بعضهم

بين كل ذلك من المنع أو الجواز ولم يقس بعضهم قوله في تحريم بيع لبن النساء محلوبا في قدح على إباحته بيع سائر الألبان محلوبة في قدح ولم يقس بعضهم تحريم البيع قبل تمام القبض قبل التفرق في الذهب بعينه بالذهب بغير عينه وفي الفضة بالفضة كذلك على إباحة تمام البيع قبل تمام القبض قبل التفرق في البر بالبر كذلك والشعير بالشعير كذلك والتمر بالتمر كذلك والملح بالملح كذلك فأبطل البيع في الذهب بالذهب والفضة بالفضة على كل حال وأجازه في هذه الأربعة إذا قبض الذي بغير عينه ولم يقبض الذي بعينه وقاس بعضهم كل ذلك في المنع من جوازه ولم يقس بعضهم قوله في المنع من جواز بيع شحم البطن باللحم متفاضلا على إباحته جواز بيع شحم الظهر باللحم متفاضلا وسوى بعضهم بين كل ذلك ولم يقس بعضهم قوله إن الألية يجوز أن تباع باللحم متفاضلا على منعه من بيع سائر الأعضاء باللحم متفاضلا وسوى بعضهم بين كل ذلك وقاس بعضهم جواز بيع الرطب بالتمر على جواز بيع التمر الحديث بالتمر القديم وقاس بعضهم جواز بيع الدقيق بالبر متماثلا على المنع من انتباذ الرطب والتمر وقال هما صنفان وقاس بعضهم منعه من بيع الدقيق بالبر البتة على النهي عن بيع الرطب بالتمر وقال هما صنف واحد مجهول تماثله ولم يقس بعضهم رجوع من أعتق مملوكا اشتراه ثم اطلع على عيب بأرش العيب على منعه من ابتاع طعاما فأكله ثم اطلع على عيب كان به من الرجوع بأرش العيب ولم يقس بعضهم من باع مال غيره بغير إذن على من اشترى له شيئا بغير إذنه وساوى بعضهم بين كلا الأمرين

ولم يقس بعضهم بيع من طرأ عليه الخرس على بيع من ولد أخرس فأجازه ههنا وأبطله هنالك ولم يقس بعضهم بيع السكران على طلاقة فأجاز طلاقه وأبطل بيعه وقاسه بعضهم فأبطل كل ذلك وقد أجاز كل ذلك بعضهم ولم يقس بعضهم جواز السلم في الشحم على جوازه في اللحم وقاس ذلك بعضهم فأجاز كل ذلك ولم يقس بعضهم جواز السلم في السمك المالح على قوله في المنع من السلم في السمك الطري وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض في المنع من الكل أو جواز الكل ولم يقس بعضهم على جواز سلم الذهب والفضة في سائر الموزونات جواز سلم الموزونات بعضها على بعض وقاس ذلك بعضهم فأجازه فيما عدا ما يؤكل ولم يقس بعضهم جواز السلم في قوله بتأخير النقد لرأس المال اليوم واليومين بشرط وبغير شرط على منعه من ذلك في الأيام الكثيرة بشرط وبغير شرط وقاس غيره بعض ذلك على بعض في المنع من الكل ولم يقس بعضهم جواز السلم في القمح والفاكهة والكناش واللبن على أن يأخذ منه كل يوم مقدارا معلوما واشترطا تأخير نقد الثمن إلى الأجل البعيد على سائر قوله في المنع من تأخير النقد في السلم ومن منعه الدين بالدين ولم يقس بعضهم قوله في إباحة دقيق البر بالبر متماثلا والمنع منه متفاضلا على قوله إن من سلم في قمح موصوف فحل الأجل فجائز عنده أن

يأخذ مكان القمح شعيرا أو سلتا مثل كيل قمحه ولا يأخذ دقيق قمح ولا علسا مثل مكيلة قمحه وكل ذلك عنده صنف واحد ولم يقس بيع البر بالشعير والتمر والملح جزافا على بيع الذهب والفضة جزافا وأطرف من ذلك أنه لم يقس جواز بيع المصوغ من الذهب والفضة جزافا على قوله في المنع من بيع المصوغ من الذهب والفضة جزافا على قوله في المنع من بيع المسكوك منهما جزافا ولم يقس بعضهم من سلم في طعام إلى أجل مسمى فأتاه به الذي هو عليه قبل الأجل فقال لا يجيز على قبوله قبل أجله على قوله فيمن أقرض آخر طعاما إلى أجل فأتاه به قبل الأجل قال يجيز على قبضه وقاس غيره منهم أحدهما على الآخر أن يجيز على القبض قبل الأجل ولم يقس بعضهم تعين الدنانير والدراهم في المغصوب والبيوع على تعين سائر العروض وقاس غيره منهم بعض ذلك على بعض في تعيين كل ذلك ولم يقس بعضهم قوله فيمن ابتاع طعاما فعاب عليه فأباح الإقامة فيه من جميعه ولم يبح من بعضه على قوله فيه إذا لم يعب عليه فأجاز الإقالة من كله ومن بعضه ولم يقس بعضهم قوله في بطلان الصرف التفرق قبل تمام القبض من قوله في جواز الإقالة مع التفرق قبل القبض التفرق اليسير ولا قاس إباحة ذلك في الإقالة بالتفرق اليسير على التفرق الكثير ولم يقس بعضهم منعه من التفاضل في الدقيق بالبر على إباحة التفاضل في السويق بالبر وكلاهما بر مطحون لم يسق الدقيق السويق ولا السويق الدقيق وأطرف من هذا أنه لم يقس جواز بيع البلح الصغار بالتمر عنده متفاضلا على المنع البلح الكبار بالتمر

ولم يقس بعضهم ما يبس من الزفيرف وعيون البقر والخوخ والكمثرى في حكم جواز بعضه ببعض من جنس واحد متفاضلا على منعه من بيع الزبيب والبر والتين والبلوط بعضه ببعض من جنس واحد متفاضلا ثم قاس الأصناف الأول على الأصناف الأخر في المنع من بيع كل ذلك قبل أن يقبض وقاس غيره منهم كل ذلك بعضه ببعض حتى السقمونيا والهليلج وقاس بعضهم المأكول على المأكول في الربا ولم يقس المعادن بالمعادن في الربا فأباحوا رطل حديد برطلي حديد والحديد بالنحاس والذهب والفضة والرصاص والقصدير والزئبق معدنيات كلها ولم يقس بعضهم قوله إن القطنية كلها جنس واحد في الزكاة على أنها أصناف متفرقة في البيوع ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع الزبد باللبن أو الجبن باللبن أو السمن باللبن جملة ولا الزيت بالزيتون جملة على قوله في جواز بيع البر بالدقيق من البر متماثلا ولا على قوله في جواز بيع السويق في البر بالبر متفاضلا ولم يقس بعضهم قوله إن سمن البقر وسمن الغنم صنف وقولهم إن لحم الخروف من الضأن ولحم الحمار الوحشي صنف واحد وكذلك لحم الأرنب على قوله إن زيت الزيتون وزيت الجلجلان وزيت الفجل أصناف متفرقة يجوز بعضها ببعض متفاضلا يدا بيد ولا يجوز ذلك في نبيذ التمر بنبيذ الزبيب ولا يجوز ذلك في لحم الجمل بلحم الأرنب ولا في لحم حمار الوحش بلحم الخروف ولا فرق بين تعليله بأن كل ذلك ذو أربع وبين تعليل غيره أن كل ذلك من الطير ومن غيره لحم ومن تعليل غيره بالتأنس في الطير وذي الأربع والتوحش أيضا فيهما لأن الله تعالى جزى الصيد بالأنعام ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع العنب بالعصير البتة على قوله في

إجازة بيع العنب بخل العنب متفاضلا وقد يخرج الخل من العنب دون توسط كونه عصيرا ولم يقس بعضهم قوله لا يباع اللبن بالسمن أصلا لأنهما صنف واحد مجهول نماثله ولا الشاة اللبون باللبن أصلا على إجازته مع الشاة اللبون بالسمن ولا اللبن بالقمح إلى أجل على إجازته الشاة اللبون بالقمح إلى أجل ولم يقيسوا قولهم في المنع من بيع القمح بالقمح بالتحري دون كيل ولا وزن على جواز ذلك عندهم في اللحم باللحم من صنفه نعم ولم يجيزوا الذهب بالفضة بالتحري وأجازوه في القمح بالتمر بالتحري ولم يقس بعضهم جواز القمح بالقمح عنده وزنا على منعه من سحالة الذهب بالذهب كيلا وأطرف من هذا أن بعضهم لم يقس منعه من اللحم المشوي باللحم النيء جملة على قول في إباحة اللحم المطبوخ باللحم النيء متماثلا ومتفاضلا وكلاهما يدخله ملح وصنعة وأغرب حكم من ذكرنا بأن اللحم والشحم صنف واحد وأن لحم النعامة والكركي ولحم الزرزور صنف واحد وأن لحم النعامة المطبوخ ولحمها النيء صنفان يجوز فيهما التفاضل ولم يقس بعضهم جواز دجاجة بدجاجتين على قوله في لحم دجاجة بلحم دجاجتين ولم يقس بعضهم منعه من ابتياع شاة واستثناء جلدها في الحضر على قوله في إباحة ذلك في السفر

وأغرب من هذا أن بعضهم لم يقس قوله في إباحة ابتياع شاة واستثناء أرطال خفيفة منها أو استثناء رأسها على قوله في التحريم أن يستثني يدها أو رجلها أو فخذها ولم يقس بعضهم منه من ابتياع لحم هذه الشاة الحية على إباحته ابتياعها واستثناء البائع جلده والعجب أن هذا الذي منع هو الذي أباح بعينه ليس هو شيئا آخر لأنه في كلتا المسألتين إنما اشترى مسلوخها فقط ولا مزيد ولم يقس بعضهم قوله في جواز بيع صغار الحيتان جزافا على منعه من بيع كباره جزافا وقد يكون تكلف عد الكبار لكثرتها أصعب من عد الصغار لقلتها ولم يقس بعضهم قوله في المنع من ابتياع رطل لحم من هذه الشاة وإن شرع في ذبحها على قوله في إباحه ابتياع رطل من لبنها إذا شرع في حلبه ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع لبن هذه الشاة شهرا على إباحة بيع لبنها كيلا وعلى إباحة بيع لبن هذه الغنم شهرا ولم يقس بعضهم قوله في منع اقتسام الزرع والقمح بالتحري على قوله في إجازة قسمة اللحم بالتحري ولم يقس بعضهم بيع بطن بعد بطن جملة شجر تحمل بطنين في السنة على قوله في إجازة بيع المقاثي بطنا بعد بطن والفصيل كذلك وقاس بعضهم جواز السلم في المعدود والمزروع وغير ذلك على جواز السلم في المكيل والموزون ولم يقيسوا جواز السلم حالا على جوازه إلى أجل وقاس بعضهم كل ذلك بالجواز

ولم يقس بعضهم جواز إنكاح اليتيمة بنت عشر سنين للفاقة على منعه في إباحة الفروج للضرورة وقاس بعضهم فاعل فعل قوم لوط على الزاني ولم يقس واطىء البهيمة على الزاني وكلاهما واطىء في مكان محرم ولم يقيسوا الغاصب على السارق ولا على المحارب وكلاهما أخذ مالا بغير حق والغاصب بالمحارب مستويان في الإخافة وأخذ المال ولا سيما بعضهم يقول بقياس الشارب على القاذف فقد بان تناقضهم فإن قالوا إن الصحابة قاسوا الشارب على القاذف فقد تقدم تكذيب هذه الدعوى لا سيما وقد كفانا بعضهم المؤنة في هذا فنسوا أنفسهم وقالوا الحدود لا تؤخذ قياسا وقد علمنا أن كل ما جاز للصحابة فهو جائز لمن بعدهم وما حدث دين جديد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وأين الائتساء بالصحابة رضوان الله عليهم حتى يتركوا النصوص لقول بعضهم إذا وافق تقليدهم فيلزمهم أن يوجبوا حدا على شارب الدم وأكل الميتة ولحم الخنزير وقد قاس بعض الفقهاء هؤلاء على شارب الخمر فرأى على كل واحد منهما ثمانين جلدة وهو الأوزاعي مع أن قياس شرب الدم على شرب الخمر لو جاز القياس أولى من قياس شرب الخمر على قذف محصنة ووجدنا بعضهم قد قاس من سرق أو شرب أو زنى ثم تاب واعترض على المحارب في سقوط الحد عنه حدثنا يحيى بن عبد الرحمن حدثنا أحمد بن دحيم حدثنا إبراهيم بن حماد حدثنا إسماعيل بن إسحاق ثنا نصر بن علي ثنا محمد بن بكر هو البرساني عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه قال إذا سرق اللص ثم جاء تائبا

فلا قطع عليه وبعضهم لم يقس هؤلاء على المحارب وقاسهم على القاتل والقاتل أبعد شبها من الحدود الواجبة من المحارب وقد قاس بعضهم القاتل إذا عفي عنه على الزاني غير المحصن ولم يقس المرتد إذا راجع الإسلام ولا المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه أو إذا عفا الإمام عن قتله أو اقتصر على ما دون ذلك وكل هذا تناقض وقد ساوى الله تعالى بين الخمر والميسر والأنصاب والأزلام فهلا قاسوا وأوجبوا على لاعب القمار والميسر وعلى المستقسم بالأزلام حدا كحد الخمر ثانيا وبعضهم لم يقس قوله في جواز بيع جزء مشاع على قوله في المنع من جواز رهنه وهبته والصداق به وأكثرهم قاس البيع حين النداء للجمعة على النكاح حينئذ والإجازة في جواز ذلك أو في إبطال كل ذلك وقد قاس بعضهم دخول حمل الجارية من غير سيدها وابن الشاة وحمل الشجر في الرهن على كون الحوامل لكل ذلك في الرهن ولم يقس سقوط ما قابل الحوامل إذا تلفت من الشيء المرتهن فيه على قوله إنه لا يسقط من الحق شيء يتلف الولد والحمل واللبن وبعضهم لم يقس قوله في بيع القاضي دنانير الغرم في ديونه التي هي دراهم أو دراهمه في ديونه التي هي دنانير على قوله في المنع من بيع ما هذا ما عدا ذلك في ديونه وبعضهم لم يقس قوله في المنع من بيع مال الحي على قوله في إباحة بيع مال الميت في ديونهما وبعضهم لم يقس قوله في جواز النكاح بشهادة حرين فاسقين على قوله في

إبطال النكاح بشهادة عبدين عدلين وأكثرهم لم يقس الكافر الوثني يسلم فيعرض على امرأته الإسلام فتأبى فيفسخ النكاح عنده على قوله في امرأة الكافر تسلم فيستأني عنده بفسخ نكاحه ما لم تنقض عدتها ولم يسلم هو وبعضهم ساوى بين الأمرين وبعضهم لم يقس قوله في كل كافر تزوج كافرة على خمر بعينها أو خنزير بعينه ثم أسلما فلا شيء لها غير ذلك على قوله إن أصدقها خمرا بغير عينها أو خنزيرا بغير عينه ثم أسلما فقال لها في الخمر قيمتها ولها في الخنزير مهر مثلها وبعضهم لم يقس الحر يتزوج المرأة على خدمته لها شهرا فقال لها مهر مثلها على العبد يتزوجها على ذلك وقال ليس لها إلا خدمته لها ولم يقس بعضهم إيجابه الطلاق على الذمي على قوله في إسقاط العدة عن الذمية يطلقها الذمي ولم يقس بعضهم قوله إن أجل العبد في العنة ستة أشهر وأجله في الإيلاء شهران وأجل الأمة في المفقود سنتان وطلاق العبد تطليقتان وعدة الأمة حيضتان على قوله إن للعبد أن يتزوج أربعا وعلى قوله إن صيامه في الظهار شهران وفي الوطء في نهار رمضان كذلك وفي قتل الخطأ كذلك وشهادة العبد والأمة أربع شهادات في اللعان كالحر والحرة وعدة المستحاضة الأمة سنة كالحرة وقاس كل ذلك بعضهم فجعل حكم العبد كل ذلك على نصف حكم الحر وقال آخرون منهم أجل العبد في الإيلاء أربعة أشهر ولا يتزوج إلا امرأتين فأبو حنيفة يقول عدة الأمة حيضتان ومن الوفاة نصف عدة الحرة وبالشهور في الطلاق نصف عدة الحرة وتحرم الأمة على زوجها الحر أو العبد بتطليقتين إلا بعد زوج ولا يتزوج العبد إلا امرأتين فقط وأجل العبد يولي من زوجته الأمة نصف أجل الحر في إيلائه وأجل

الحر في إيلائه من الأمة نصف أجل إيلائه من الحرة قال أبو حنيفة صيام العبد في ظهاره من زوجته الحرة والأمة كصيام الحر في ظهاره من الزوجة الحرة والأمة ولا تحرم الحرة على زوجها العبد إلا بثلاث طلقات وأجل العبد على زوجته الحرة أو الأمة كأجل الحر في ذلك وأجل العبد يولي من الزوجة الحرة كأجل الحر وقال مالك عدة الأمة حيضتان ومن الوفاة نصف عدة الحرة وتحرم الزوجة الحرة والأمة على العبد بتطليقتين وأجل العبد يولي من زوجته الحرة والأمة نصف أجل الحر في إيلائه وأجل العبد يعن عن زوجته الحرة والأمة نصف أجل الحر وقال مالك يتزوج العبد أربعا من الحرائر والإماء وصيام العبد في ظهاره من زوجته الحرة والأمة كصيام الحر وعدة الأمة في الطلاق بالشهور ثلاثة أشهر كالحرة وقال الشافعي عدة الأمة حيضتان وفي الوفاة وبالشهور في الطلاق نصف عدة الحرة وتحرم الحرة والأمة على العبد بتطليقتين ولا يتزوج العبد إلا اثنتين وأجل العبد يعن أيولي من الحرة أو الأمة كأجل الحر في كل ذلك وصيامه في الظهار كصيام الحر فاعجبوا لتناقض قياساتهم وهكذا في سائر الأحكام ولا فرق فاتفقوا في صوم الظهار على ألا يقيسوه على سائر أحكام العبد ولا إجماع في ذلك لأن قتادة وغيره يقول هو على نصف صيام الحر ولم يتفقوا على نصف حكم العبد من حكم الحر إلا في عدة الوفاة وعدة الحيض وطلاق العبد والأمة ولا إجماع في ذلك لأن ابن سيرين يرى عدة الأمة كعدة الحرة في الوفاة وفي الإقراء وصح عن ابن عباس أنه أمر عبده بمراجعة

زوجته وهي أمة بعد طلقتين ولم يقس بعضهم قوله من نظر إلى فرج امرأة طلقها طلاقا رجعيا في العدة بشهوة فهي رجعة على قوله فإن نظر إلى شيء من بدنها غير الفرج بشهوة فليست رجعة ولا على قوله إنه إن لمسها في بدنها بشهوة فهي رجعة ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته لست لي بامرأة ونوى الطلاق ولم يره طلاقا على قوله لها قومي ونوى الطلاق فهو طلاق ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته اختاري فقالت أنا أختار نفسي قال فهي بذلك طالق على قوله لها طلقي نفسك فقالت أنا أطلق نفسي أو قالت قد اخترت نفسي فلم ير ذلك كله طلاقا ولا على قوله لو قال لها لا ملك لي عليك قال هو طلاق ولا قاس بعضهم قوله لمن قال لامرأته أنت طالق مثل الجبل فجعلها واحدة رجعية على قوله إن قال لها أنت طالق مثل عظيم الجبل فجعلها واحدة بائنة ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته اختاري اختاري اختاري فقالت قد اخترت نفسي بالأولى أو قالت بالوسطى أو قالت بالآخرة فهي طلقة واحدة على قوله فيمن قال لامرأته اختاري اختاري اختاري فقالت قد اخترت نفسي بالواحدة أو قالت واحدة قال فهي طالق ثلاثا وقاس بعضهم قوله في التخيير على قوله في التمليك ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته المدخول بها أنت علي حرام مثل الخنزير والميتة والدم فقال هي ثلاث ولا بد على قوله ذلك في غير المدخول بها وقال بعد ذلك لم أنو إلا واحدة فإنه يحلف وتكون واحدة ويراجعها إن أحبا ولم يقس ذلك كله على قوله قال لمدخول بها أو لغير مدخول بها أنت بتة أو أنت البتة فقال هي ثلاث على حال فيهما معا ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته المدخول بها وغير المدخول بها

قد خليت سبيلك إنه ينوي ويحلف على ما نوى على قوله لمن قال لامرأته حبلك على غاربك إنها في المدخول بها ثلاث ولا بد وفي غير المدخول بها ينوي وتكون واحدة ولا قاس أكثرهم في قوله في التحريم في الزوجة على قوله في التحريم في الأمة وقد سوى بعضهم بين كل ذلك ولا قاس بعضهم قوله فيمن شك أطلق زوجته أم لم يطلق وهي تقول له لم تطلق أنه تطلق عليه ولا بد على قوله فيمن قال لامرأته إن كتمتني أمرا كذا فأنت طالق أو قال لها إن أبغضتني فأنت طالق فأخبرته بخبر لا يدري أكتمه ما خاف عليه أم لا وقالت له لست أبغضك وهو لا يدري أصدقت أم كذبت أنه طلاق عليه ولا قاس بعضهم قوله في إباحة جميع كفارات الإيمان قبل الحنث على قوله إن كفارة يمين الإيلاء لا تكون إلا بعد الحنث ولا قاس بعضهم جواز تسري العبد عبده على منعه من التفكير بالعتق فيما لا يجزي فيه إلا العتق لواجد الرقبة وهو واجد رقابا يطؤهن ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته كل امرأة أتزوجها عليك فهي كظهر أمي قال ليتزوج عليها واحدة أو اثنتين معا أو ثلاثا معا وليس عليه في كل ذلك إلا كفارة واحدة على قوله لها ومتى تزوجت عليك فالتي أتزوج عليك كظهر أمي فرأى عليه لكل امرأة يتزوجها كفارة ولم يقس بعضهم سقوط اللعان على الأعمى والمحدودة لسقوط شهادتها على قوله إن اللعان لا يسقط عن الفاسق المعلن لسقوط شهادته ولم يقس بعضهم قوله من أعسر النفقة أجل شهرين أو نحوهما وإلا فرق بينهما على قوله فإن أعسر بالصداق أجل عامين أو نحوهما ثم فرق بينهما ولم يقس بعضهم عدة المستحاضة من الطلاق سنة ميزت الدم أم لم تميز

كانت لها أيام معهودة أو لم تكن على قوله عدتها من الوفاة أربعة أشهر وعشر ولم يقس بعضهم قوله من قتل أمة أو عبدا قيمة كل واحد منهما مائة ألف درهم لم يغرم في العبد إلا عشرة آلاف درهم غير عشرة دراهم وفي الأمة خمسة آلاف درهم غير خمسة دراهم فإن كانت القيمة أقل من عشرة آلاف في العبد وخمسة آلاف في الأمة غرم القيمة كلها على قوله إن غصب عبدا أو أمة فماتا عنده غرم قيمتهما ولو بلغت ألف درهم ولم يقس هذا الهذيان على سائر أقواله إن أحكام العبد على نصف أحكام الحر في النكاح والطلاق وغير ذلك ولم يقس قوله إنه يقص بين الحر والعبد والكافر والمؤمن في النفس على قوله إن ما دون النفس يقص فيه بين المؤمن والكافر ولا يقص فيه بين العبد والحر ولم يقس بعضهم قوله يقتل عشرة بواحد على قوله لا تقطع يدان بيد ولا عينان بعين ولم يقس بعضهم قوله لا يستقاد من أحد بحجارة ولا بطعنة رمح على قوله يقتل الزاني المحصن بالحجارة والمحارب بالطعن بالرمح ولم يقس بعضهم إباحته قتل المرأة في الزنى وفي القود على قوله في منع قتلها إذا ارتدت قال أبو محمد فيما ذكرنا كفاية على أننا لم نكتب من تناقضهم في القياس وتركهم في القياس وتركهم له إلا جزءا يسيرا جدا من أجزاء عظيمة جدا ولو تقصينا ذلك لقام منه ديوان أعظم من جميع ديواننا هذا كله وكل ما ذكرنا فإنهم إن احتجوا فيه بإجماع على تركه لم ينفكوا من أحد وجهين إما أن يدعوه بغير علم فيكذبوا وإما أن يصدقوا في ذلك فإن

كانوا قد صدقوا أقروا أن الإجماع جاء بترك القياس ولو كان حقا ما جاء الإجماع بتركه وإن ادعوا أنهم تركوا القياس حيث تركوه لنص وارد في ذلك فاعلموا أن كل قياس خالفناهم فيه فإن النص قد ورد بخلاف ذلك القياس لا بد من ذلك وإن قالوا بتركنا القياس حيث تركناه لدليل غير النص قلنا لهم هذا ما لا نعرفه ولا قدرته وأي دليل يكون أقوى من النص هذا عدم لا سبيل إلى وجوده أبدا وبالجملة فكل واحد منهم إنما استعمل القياس في يسير من مسائله جدا وتركه في أكثرها فإن كان القياس حقا فقد اخطؤوا بتركه وهم يعلمونه وإن كان باطلا فقد اخطؤوا باستعماله فهم في خطأ متيقن إلا في القليل من أقوالهم وقال بعضهم لا نقيس على شاذ قال أبو محمد وهذا تحكم فاسد لأنه ليس شيء في الشريعة شاذا تعالى الله أن يلزمنا الشواذ بل كل ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حق والحق لا يكون شاذا وإنما الشاذ الباطل وقال بعضهم لا نقيس على فرع قال أبو محمد وهذا كالأول ولا فرع في الشريعة وكل ما جاء نصا أو إجماعا فهو أصل فأين ههنا فرع لو أنصف القوم أنفسهم وقال بعضهم الحدود والكفارات لا تؤخذ قياسا قال أبو محمد وما الفرق بينهم وبين من قال بل العبادات وأحكام الفروج لا تؤخذ قياسا وكل من فرق بين شيء من أحكام الله تعالى فهو مخطىء بل الدين كله لا يحل أن يحكم في شيء منه بقياس على أنهم قد تناقضوا وقاسوا في البابين وأوجبوا حد اللوطي قياسا وأوجبوا كفارات كثيرة قياسا والقوم متناقضون تناقضا يشبه اللعب والهزل أعوذ بالله مما امتحنوا به فإن قال قائل وأنتم قد تركتم حديثا كثيرا

قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق كذبتم وأفكتم ولا يوجد ذلك من أحد منا أبدا إلا أربعة أوجه لا خامس لها إما لقيام البرهان على نسخه أو تخصيصه بنص آخر وهذا لا يحل لأحد وإما أنه لم يبلغ إلى الذي لم يقل به منا وهذا عذر ظاهر و {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وإما أن بعضنا يرى ترك كل ما رواه المدلس إلا ما قال فيه حدثنا أو أنبأنا وهذا خطأ وبعضنا يرى قبول جميع روايته إذا لم يدلس المنكرات إلى الثقات إلا ما صح فيه تدليسه وبهذا نقول وعلى كل ما ذكرنا البرهان والبرهان لا يتعارض والحق لا يعارضه حق آخر وإما أن بعضنا يرى ترك الحديثين المتعارضين لأنه لم يصح عنده الناسخ وإذ لم يصح عنده الناسخ منهما فهو منهي أن يقفو ما لا علم له به وهذا خطأ وبعضنا يرى ههنا الأخذ بالزائد وبه نقول فليس منا أحد ولله الحمد ترك حديثا صحيحا بلغه بوجه من الوجوه لقول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لرأي ولا لقياس ونعوذ بالله من ذلك وأما هم فإنهم يتركون نصوص القرآن لآرائهم وأهوائهم وتقليدهم ويتركون الصحيح من الحديث عندهم كذلك ويتركون القياس وهم يعرفونه ويعلمونه وهو ظاهر إليهم كذلك فالقوم لم يتمسكوا إلا باتباع الهوى والتقليد فقط ونعوذ بالله من الخذلان وقد انتهينا من إيضاح البراهين على إبطال الحكم بالقياس في دين الله تعالى إلى حيث أعاننا الله تعالى عليه راجين الأجر الجزيل على ذلك ولاح لكل من ينصف نفسه أن القياس ضلال ومعصية وبدعة لا يحل لأحد الحكم

الباب التاسع والثلاثون في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين

به في شيء من الدين كله فليتق كل امرىء ربه ولا يحمله اللجاج على الإعراض عن الحق ولا يقتحم به حب استدامة رياسة قليلة على تحمل ندامة طويلة فعن قريب يقف في مواقف الحكم بين يدي عالم الخفيات فليفكر من حكم في دين الله تعالى بغير ما عهد به إليه في كلامه وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا ماذا تكون حجته إذا سئل عن ذلك وليوقن أن من سئل يوم القيامة بماذا حكمت فقال بكلامك يا رب وكلام رسوله إلي فقد برىء من التبعة من هذا الوجه جملة ومن زاد على ذلك أو تعداه فلينظر في المخلص وليعد المسألة في حكمه بتقليد الآباء ورأيه وقياسه جوابا و {فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمري إلى لله إن لله بصير بلعباد} وحسبي الله ونعم الوكيل الباب التاسع والثلاثون في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين قال أبو محمد علي بن أحمد رضي الله عنه ذهب القائلون بالقياس من المتحذلقين المتأخرين إلى القول بالعلل واختلف المبطلون للقياس فقالت طائفة منهم إذا نص الله تعالى على أنه جعل شيئا ما سببا لحكم ما فحيث ما وجد ذلك السبب وجد ذلك الحكم وقالوا مثال ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نهى عن الذبح بالسن وأما السن فإنه عظم قالوا فكل عظم لا يجوز الذبح به أصلا قالوا ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في السمن تقع فيه الفأرة فإن كان مائعا فلا تقربوه قالوا فالميعان سبب ألا يقرب فحيث ما وجد مائع حلت فيه نجاسة فالواجب ألا يقرب قال أبو محمد وهذا ليس يقول به أبو سليمان رحمه الله ولا أحد من

أصحابنا وإنما هو قول لقوم لا يعتد بهم في جملتنا كالقاساني وضربائه وقال هؤلاء وأما ما لا نص فيه فلا يجوز أن يقال فيه إن هذا لسبب كذا وقال أبو سليمان وجميع أصحابه رضي الله عنهم لا يفعل الله شيئا من الأحكام وغيرها لعلة أصلا بوجه من الوجوه فإذا نص الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم على أن أمر كذا لسبب كذا أو من أجل كذا ولأن كان كذا أو لكذا فإن ذلك كله ندري أنه جعله الله أسبابا لتلك الأشياء في تلك المواضع التي جاء النص بها فيها ولا توجب تلك الأسباب شيئا من تلك الأحكام في غير تلك المواضع البتة قال أبو محمد وهذا هو ديننا الذي ندين به وندعو عباد الله تعالى إليه ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى فأما الحديث الذي ذكروا في السن أنه عظم فكل عظم ما عدا السن فالتذكية به جائزة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عاجزا عما قدر عليه هؤلاء المتخرضون ولو كانت الذكاة بالعظام حراما لما اقتصر صلى الله عليه وسلم على ذكر السن وحده ولما رضي بهذا العي من ذكر شيء وهو يريد غيره ولقال ما أنهر الدم وفرى الأوداج فكلوا ما لم يكن عظما أو ظفرا وصح ضرورة أنه لو كانت العظمة مانعة من الذبح لما هي فيه لما كان لذكر السن معنى ولكان تلبيسا لا بيانا فوضح يقينا أن العظمة ليست مانعة من الذبح بالجرم الذي هي فيه إلا أن يكون في سن فقط وكذلك القول في الحديث الآخر ولا فرق والقائلون بخلاف قولنا قد تناقضوا في الحديث المذكور نفسه ولم يعنونا في طلب تناقضهم إلى مكان بعيد لكن أتوا إلى قوله صلى الله عليه وسلم

في ذلك الحديث نفسه وأما الظفر فإنه مدى الحبشة فكان يلزمهم إذا جعلوا قوله صلى الله عليه وسلم فإنه عظم سببا مانعا من الذبح بكل عظم أن يجعلوا قوله صلى الله عليه وسلم وأما الظفر فإنه مدى الحبشة مانعا من التذكية بكل مدية ك أنت لحبشي وهذا ما لا يقولونه بل اقتصروا على المنع من الذبح بالظفر فقط فلو فعلوا كذلك في السن فمنعوا من الذبح به ولم يتعدوه إلى سائر العظام لكان اهدى لهم ولكن هكذا يتناقض أهل الخطأ وأما أصحاب مالك وأبي حنيفة وهم المغلبون للقياس على نصوص القرآن والحديث في كثير من أقوالهم فإنهم تركوا القياس ههنا جملة فأجازوا الذبح بكل عظيم لم يقنعوا بهذا إلا حتى تجاوزوا ذلك إلى تخصيص النص بلا دليل فأجازوا الذبح بكل سن نزعت واقتصروا على المنع من الذبح بالسن التي لم تنزع وأجازوا الذكاة بكل ظفر قلع وهذا خطأ منهم والناقص من الدين كالزائد فيه ولا فرق {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} فلو كان التعليل صوابا لكان ما له نص الله تعالى عليه ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن جعله سببا للحكم أولى عند كل من له مسكة عقل ودين من علة يتكهنون في استخراجها بلا دليل فهم قد قلبوا ذلك كما ترى قال أبو محمد وأما الصواب الذي لا يجوز غيره فهو أن السن والظفر لا يحل الذبح بهما ولا النحر منزوعين كانا أو غير منزوعين فأما ما عداهما من عظم ومن مدي الحبشة أو غير ذلك مما يفري فحلال الذبح به والنحر والتذكية فإن قالوا إن الإجماع منعنا أن يطرد التعليل في مدي الحبشة في الحديث المذكور قيل لهم وبالله تعالى التوفيق قد ثبت الإجماع على صحة قولنا وعلى إبطال التعليل وإلا نتعدى السبب المنصوص عليه إلى ما لم ينص

عليه ولو كان التعليل حقا ما جاز وجود الإجماع بخلافه قال أبو محمد وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن الصباح ثنا أبو علي الحنفي ثنا قرة بن خالد قال انتظرنا الحسن فجاء فقال دعانا جيراننا هؤلاء ثم قال قال أنس بن مالك نظرنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى إذا كان شطر الليل يبلغه جاء فصلى لنا ثم خطبنا فقال ألا إن الناس قد صلوا رقدوا وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة قال أبو محمد فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسباب التي يختار لها تأخير العتمة انتظار الصلاة فيكون المنتظر لها في صلاة ما انتظرها ولم يكن هذا علة عند القائلين بالعلل في اختيار تأخير العصر والمغرب فإذا كان ما نص النبي صلى الله عليه وسلم عندهم ليس علة يبنى عليها فالتي ولدوها بآراهم الكاذبة أولى من ألا يبنى عليها وقد تعدى بعضهم ممن لم يتق الله عز وجل إلى أطم من هذا فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالأمر ويقول بالقول مما لا يجوز لكن لعلة شيء آخر أراده قال وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم ذكر أن يحرق بيوت المتخلفين عن الصلوات في الجماعات فقالوا هذا لا يجوز وإنما قاله صلى الله عليه وسلم تغليظا لا أنه أراد ذلك وقالوا إن أمره صلى الله عليه وسلم بغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا ليس على إيجاب ذلك وإنما فعله ليزدجر الناس عن اتخاذها لأنها كانت تؤذي المهاجرين قالوا ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للذي دخل المسجد بهيئة بذة ورسول

الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال قم فاركع ركعتين قالوا والركوع حينئذ لا يجوز وإنما أمره بذلك ليفطن له الناس فيتصدقوا عليه وقالوا من ذلك أيضا أمره صلى الله عليه وسلم بفسح الحج إنما أمر به وهو لا يجوز ليريهم جواز العمرة في أشهر الحج ولهم من هذا التخليط المهلك كثير قال أبو محمد وقائل هذا لولا أنه يعذر بشدة ظلمة الجهل وضعف العقل لما كان أحد أحق بالتفكير منه وبضرب العنق وباستيفاء المال لأنهم ينسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأمر بالباطل وبما لا يجوز ويصفونه بالكذب وليت شعري أعجز النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يأمر بقتل الكلاب كما فعل إذ أمره الله تعالى حتى يحلق هذا التحليق السخيف الذي يشبه عقول المعللين بغسل الإناء من ولوغها سبعا أما من كان لهم عقل يعلمون به أنه أن من عصى أمره بألا تتخذ الكلاب وأن من اتخذ كلبا لم يبح له اتخاذه نقص من عمله كل يوم قيراطان فهو لأمره بغسل الإناء سبعا أعصى وأترك تعالى الله عن هذا وتنزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن هذا الوصف الساقط والصحابة رضي الله عنهم أطوع وأجل لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم من أن تكون هذه صفتهم أو تراه صلى الله عليه وسلم عجز عن أن يأمر أصحابه بالصدقة كما صرح لهم بذلك غير مرة حتى يأمر بركوع لا يجوز أترى الصحابة لم يعقلوا أن العمرة في أشهر الحج جائزة وقد اعتمد بهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك في أشهر الحج عمرتين متصلتين بعد ثالثة لم تتم عمرة الحديبية وعمرة القضاء بعدها وعمرته من الجعرانة بعد فتح مكة كلهن في أشهر الحج قبل حجة الوداع أما اكتفوا بهذا وبأمره

صلى الله عليه وسلم لهم في حجة الوداع فمن شاء منكم أن يهل بعمرة فليفعل فأهل بالعمرة نساؤه وكثير من أصحابه أما يكفي هذا من البيان بأن العمرة في أشهر الحج جائزة حتى يحتاج إلى أمرهم بما لا يحل بزعم من لا زعم له من فسخ الحج أما لمن نسب هذا إلى الصحابة رضي الله عنهم عقل أو حس يردعه عن هذا السخف والجنون إن من ظن هذا بهم لفي الغاية القصوى من الاستخفاف بأقدارهم أو في غاية الشبه بالأنعام بل هو أضل سبيلا وتراه صلى الله عليه وسلم لو لم يكن يريد إحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة حقا أما كان يكتفي بأن يأمر بهجرهم كما فعل بالمتخلفين عن تبوك أو بطردهم كما طرد الحكم وهيثا المخنث أو بأدبهم كما أدب في الخمر قبل استقرار الحد فيها بالأربعين حتى يتعد إلى الكذب والأخبار بما لا يحل اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول الفاحش المهلك حدثنا حمام بن أحمد ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر قال قلت لعبيد الله بن عمر أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاد بالقسامة قال لا قلت فأبو بكر قال لا قلت فعمر قال لا قلت فيم تجترئون على ذلك فسكت قال فقلت ذلك لمالك فقال لا تضع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحيل ثم ذكر باقي الكلام قال أبو محمد وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه وهذا مذهب الأئمة

وكل من في قلبه إسلام ثم يقع لهم الخطأ والوهلات التي لم يعصم منها بشر فأتى هؤلاء الأوباش المقلدون فقلدوهم في خطئهم الذي لم ينتبهوا له وعصوهم في الحقيقة التي ذكرنا من أن لا يحمل أمر النبي صلى الله عليه وسلم على الحيل قال أبو محمد فإن ذكروا في ذلك مواصلة النبي صلى الله عليه وسلم بهم وقد نهاهم عن الوصال فليعلموا أن ذلك كان منه عليه السلام صياما مقبولا لأن الوصال له مباح بالنص من قوله صلى الله عليه وسلم لست كأحد منكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني وكان منهم عقوبة لهم لا صياما وهكذا في نص الحديث أنه كان كالتنكيل بهم وجائز للإمام أن يمنع المرء الطعام اليوم والليلة ومقدارا يدري أنه لا يبلغ به الموت على سبيل النكال كما فعل صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق ونحن إن شاء الله تعالى موردون مشاغب أصحاب العلل على حسب ما التزمنا لجميع خصومنا ومبينون بحول الله واهب القوة لا إله إلا هو وعونه لنا إن شاء الله تعالى تمويههم بها وحل شغبهم الفاسد ثم موردون البراهين الضرورية الصادقة عن إبطال العلل جملة إن شاء الله تعالى وبه نعتصم احتج القائلون بالعلل بآيات ظاهرها كون بعض الأحكام من أجل بعض الأحوال فمن ذلك قول الله عز وجل وقد ذكر قتل أحد ابني آدم عليه السلام لأخيه {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في لأرض فكأنما قتل لناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جآءتهم رسلنا بلبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في لأرض لمسرفون} قال أبو محمد فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق هذا أعظم حجة عليكم لأن الله تعالى لم يلزم هذا الإصر غير بني إسرائيل فقط ولو أن ذلك علة

مطردة كما يدعوا للزم جميع الناس فإن قالوا هو لازم لجميع الناس سألناهم ما تقولون في جميع الكبائر أهي فساد في الأرض أم ليست فسادا في الأرض إلا ما سمي فسادا في الأرض وليس هذا واقعا إلا على المحاربة فقط ولا بد من أحد الجوابين فإن قالوا الكبائر كلها فساد في الأرض أريناهم شارب الخمر والسارق والمرابي وآكل أموال اليتامى والزاني غير المحصن وآكل لحم الخنزير والدم والميتة والغاصب والقاذف مفسدين في الأرض ولا يحل قتلهم بل من قتلهم قتل بهم قودا فقد نقضوا قولهم إن حكم الآية المذكورة جار علينا لأن في نص تلك الآية إباحة قتل كل مفسد في الأرض فإن قالوا ليس شيء من الكبائر فسادا في الأرض حاشا المحاربة أريناهم الزاني المحصن يقتل وليس مفسدا في الأرض فانتفضت العلة التي ادعوها علة لأن في الآية المذكورة ألا تقتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض الزاني المحصن لم يقتل نفسا ولا أفسد في الأرض وهو يقتل ولا بد ولا يكون قاتله كأنه قتل الناس جميعا فإن قالوا إن زنى المحصن وحده ووطء امرأة الأب وردة المرتد وشرب المحدود ثلاث مرات في الخمر مرة رابعة فساد في الأرض وما عدا هذا فليس فسادا في الأرض كابروا وتحكموا بلا دليل وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الزاني وهو شيخ أو بامرأة جاره أو بامرأة المجاهد في سبيل الله أعظم جرما من سائر الزناة وسواء كانوا محصنين أو غير محصنين إلا أن غير المحصن على كل حال لا يقتل وإن كان أعظم جرما من المحصن في بعض الأحوال التي ذكرنا والمحصن على كل حال يقتل وإن كان غير المحصن أعظم جرما منه في بعض الأحوال التي ذكرنا وأيضا فإن هذا القول الذي قالوه ناقض لأصولهم في العلل وموجب

ألا يكون الشيء علة إلا حيث نص الله عز وجل على أنه علة لأنهم يقولون إن الكبيرة لا تكون فسادا إلا حيث نص على أنها فساد وحيث أمر الله تعالى بقتل فاعلها وبطل إجراؤهم العلة حيث وجدت وهذا قولنا نفسه حاشا التسمية بعلة أو سبب فإنا لا نطلقه لأن النص لم يأت به وإذ ليس بيننا إلا التسمية فقط فقد ارتفع الخلاف إذ إنما تضايق في تصحيح المعنى المسمى أو إبطاله ولا معنى للاسم ولا للمضايقة فيه إذا حققنا المعنى وإنما نمنع منه خوف التشكيك به والتلبيس وتسمية الباطل باسم الحق فهذا توقف على فساد عمله ونبين له قبح مغبته وبالله تعالى التوفيق واحتج بعضهم بقول الله عز وجل حكاية عن المنافقين أنهم قالوا {فرح لمخلفون بمقعدهم خلاف رسول لله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل لله وقالوا لا تنفروا في لحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} قال أبو محمد وهذه الآية كافية في إبطال العلل لأن الله تعالى أخبر أن جهنم ذات حر وأن الدنيا ذات حر ثم فرق تعالى بين حكميها وأمرهم بالصبر على حر الدنيا وأنكر عليهم الفرار عنه وأمرهم الفرار عن حر جهنم وألا يصبروا عليها أصلا نعوذ بالله منها واحتجوا أيضا بقوله تعالى {وإذ تقول للذي أنعم لله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك وتق لله وتخفي في نفسك ما لله مبديه وتخشى لناس ولله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على لمؤمنين حرج في أزواج أدعيآئهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر لله مفعولا} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه نص على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ تزوج امرأة زيد وهو قد كان استلحقه ونحن مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم في تحليل ما أحل وتحريم ما حرم فنكاحه صلى الله عليه وسلم إياها موجب علينا تحليل أزواج المستلحقين في الجاهلية غير استلحاق الولادة لكن الاستلحاق المنسوخ فقط وهذا الذي قلنا هو نص الآية ولو كان

علة كما ادعوا للزم كل أحد أن ينكح امرأة دعيه ولا بد فلما لم يكن ذلك بلا خلاف سقط ظنهم أن إنكاحه عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم زينب أم المؤمنين علة لما راموا تعليله بذلك وصح قولنا أنه نص على إيجاب تحليل ما أحل الله تعالى لرسوله عليه السلام فقط وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقوله تعالى {مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب} قال أبو محمد وهذا أيضا لا حجة لهم فيه والقول في هذه الآية كالقول في الآية التي ذكرنا آنفا ولا فرق لأننا قد وجدنا أموالا كثيرة لم تقسم هذه القسمة بل قسمت على رتبة أخرى فلو كان عليه قسمة هذا الذي أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هي ألا يكون دولة بين الأغنياء لكان ذلك أيضا علة في قسمة سائر الأموال من الغنائم وغيرها كذلك فبطل ما توهموا وصح أن الله تعالى أراد فيما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل القرى مما لو يوجف عليه بخيل ولا ركاب خاصة ألا يكون دولة بين الأغنياء منهم فلا يتعدى بهذا الحكم هذا الموضع وإلا حيث نص الله تعالى عليه أيضا في قسمة خمس الغنائم ولا مزيد وهذا قولنا لا قولهم في إجراء العلل وبالله تعالى نتأيد واحتجوا بقوله تعالى {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على لله حجة بعد لرسل وكان لله عزيزا حكيما} وقال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه لم يكن لأحد على الله تعالى قط حجة لا قبل الرسل ولا بعدهم بل لله الحجة البالغة {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وقد أخبر تعالى أنه لم ينذر آباء هم وإن لم ينذروا فلا حجة لهم على الله عز وجل ولكن الله تعالى أراد الإحسان إلى من آمن من المنذرين بالرسل وأراد الإعذار إلى من لم يؤمن منهم فهذا غرض الله عز وجل فيهم ومراده وليس هذا علة

وسنبين بعد انقضاء ذكر حجاجهم إن شاء الله تعالى فرق ما بين العلة والسبب والغرض ببيان جلي لا يحيل على من له أدنى فهم وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقوله تعالى {وعلى لذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن لبقر ولغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهما أو لحوايآ أو ما ختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه بل هي حجة عليهم لأنه تعالى نص على أنه جزى أولئك ببغيهم بأنواع العذاب المعجل في الدنيا من السخف والصيحة وعذاب الظلة والرجم وغير ذلك فلو كان البغي علة في إيجاب الجزاء بذلك لكان ذلك واجبا أن يجزى به البغاة منا ومن غيرنا فلما رأينا كفار زماننا بغاة كأولئك وفينا نحن أيضا أهل بغي كبغي أولئك نفسه ففينا تطفيف الميزان وفينا فعل قوم لوط وفينا الكفر الصريح كما كان في أولئك في المؤمنين منا وفي الكافرين من الحربيين والكتابيين ولم نجاز ولا جوزوا بشيء بما جوزي به أولئك علمنا أن البغي ليس علة للجزاء بما جوزي به أولئك لأن العلة مطردة في معلوماتها أبدا لا تجوز أصلا وصح أن البغي من أولئك كان سببا لجزائهم بما جوزوا به وليس سببا في غيرهم لأن يجازوا بمثل ذلك فصح قولنا إن الأسباب لا يتعدى بها المواضع التي نص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عليها ولا يوجب في كل مكان الحكم الذي وجب من أجلها في بعض الأمكنة وسقط قولهم سقوطا لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين وهذا قد ظهر كما ترى في الأسباب الصحيحة فما الظن بالأسباب الكاذبة التي يدعونها في الأحكام ويضعونها وضعا مختلفا متخاذلا بلا برهان إلا المجاهرة بالقربة وما لا يصح بوجه من الوجوه وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقول الله تعالى {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين

فاعتبروا يأولي الأبصار} الآيات إلى قوله {ههههه إلى قوله {ذلك بأنهم شآقوا لله ورسوله ومن يشآق لله فإن لله شديد لعقاب} قال أبو محمد وهذه حجة عليهم لا لهم لأن المحاربين فيما بيننا وأهل الإلحاد منا فهم مشاقون لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب منا كذلك وهم يخربون بيوتهم بأيديهم وبأيدي المؤمنين ولا يهدمون بل يبنونها فصح يقينا أن المشاقة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ليست علة لخراب البيت وأصلا ولا سببا في خراب بيوت المشاقين ما عدا أولئك الذين نص الله تعالى على أنه عاقبهم بإخرابهم بيوتهم من أجل مشاقهم وهذا هو نفس قولنا إن الشيء إذا نص الله تعالى عليه بلفظ يدل على أنه سبب لحكم ما في مكان ما فلا يكون سببا البتة في غير ذلك الموضع لمثل ذلك الحكم أصلا وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقوله تعالى {إنما يريد لشيطان أن يوقع بينكم لعداوة ولبغضآء في لخمر ولميسر ويصدكم عن ذكر لله وعن لصلاة فهل أنتم منتهون} قالوا فكانت هذه علل في وجوب تحريمها أو الانتهاء عنها قال أبو محمد وهذه حجة عليهم لا لهم من وجوه أحدها أن كسب المال والجاه في الدنيا أصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وأوقع العداوة والبغضاء فيما بيننا من الخمر والميسر وليس ذلك محرما إذا بغى على وجهه وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم بنص قولنا إذ قال صلى الله عليه وسلم والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوا فيها فتهلككم كما أهلكت من كان من قبلكم أو كما قال صلى الله عليه وسلم مما هذا حقيقة معناه فلا يظن جاهل أننا نقول شيئا

من عند أنفسنا أو برأينا أو بغير ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا فالميسر ما عهد منه قبل أن يحرم إيقاع عداوة بذاته ولا فقد عقل ولا كان إلا وافقا للناس ونافعا لهم وكذلك قليل الخمر ليس فيه مما ذكر في الآية ولا في كل من يشربها تفسد أخلاقهم بل نجد كثيرا من الناس يبكون إذا سكروا ويكثرون ذكر الآخرة والموت والإشفاق من جهنم وتعظيم الله تعالى والدعاء في التوبة والمغفرة ونجدهم يكرمون حينئذ ويحلمون ويزول عنهم كثير من سفههم وتؤمن غوائلهم فصح بكل ما ذكرنا أن الله تعالى لم يجعل إرادة الشيطان لما ذكر تعالى في الآية سببا إلى تحريمها قط لكن شاء تعالى أن يحرمها إذ حرمها وقد كانت حلالا مدة ستة عشرة عاما في الإسلام وقد كان كل ذلك موجودا من الشيطان فينا وفي كثير الخمر وهي حلال يشربها الصالحون بعلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكر ذلك فلو كان ما وصفها الله تعالى به من الصد عن الصلاة وعن ذكر الله تعالى وإيقاع الشيطان العداوة والبغضاء بها علة للتحريم لما وجدت قط إلا محرمة لأنها لم تكن قط إلا مسكرة ولم يكن الشيطان قط إلا مريدا لإلقاء العداوة والبغضاء بيننا فيها وكانت حلالا وهي بهذه الصفة فبطل أن يكون إسكارها علة لتحريمها أو سبب لا في الوقت الذي نص الله عز وجل على تحريمها فيه ولا قبله البتة لأن قوله عز وجل {إنما يريد لشيطان أن يوقع بينكم لعداوة ولبغضآء في لخمر ولميسر ويصدكم عن ذكر لله وعن لصلاة فهل أنتم منتهون} إنما هو إخبار عن سوء معتقد الشيطان فينا ولم يقل قط تعالى إن إرادة الشيطان لذلك هو علة تحريمها ولا أنه سبب تحريمها ولا يحل لأحد أن يخبر عن الله تعالى بما لم يخبر

به عز وجل عن نفسه ولا أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا هو قولنا إن المراعى هو النص لا ما عداه أصلا وبالله تعالى التوفيق وقد قال بعض أصحابنا إن إرادة الشيطان إيقاع العداوة والبغضاء بيننا في الخمر إنما كان بعد تحريمها لأن شاربها بعد التحريم صاد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة مبغض من الصالحين ومعاد لهم قال أبو محمد وهذا أيضا قد اقتضاه الذي ذكرناه وزاد عليه وبالله تعالى نتأيد وقد أدى تعليلهم هذا الفاسد المفترى جماعة من الجهال إلى الضلال المبين فإذا رأوا سكرانا معربدا متلوثا في أقذاره وأهذاره جعلوا يقولون في مثل هؤلاء حرمت الخمر نعوذ بالله من هذا القول ومما سببه من التعليل الملعون واحتجوا بقوله تعالى {فبظلم من لذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل لله كثيرا} قال أبو محمد وهذه حجة عليهم لا لهم لأننا نحن نظلم من بكرة إلى المساء ولم يحرم علينا طيبات أحلت لنا فصح أن الظلم ليس علة في تحريم الطيبات ولا سببا له إلا حيث جعله الله تعالى بالنص سببا له فقط لا فيما عدا ذلك المكان البتة واحتجوا بقوله تعالى {وما جعلنآ أصحاب لنار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن لذين أوتوا لكتاب ويزداد لذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب لذين أوتوا لكتاب ولمؤمنون وليقول لذين في قلوبهم مرض ولكافرون ماذآ أراد لله بهذا مثلا كذلك يضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر} قال أبو محمد وهذا عليهم لأن الحكم المذكور لم يوجب استيقان جميع أهل الكتاب بل فيهم غير مستيقن وفيهم من تمادى على شكه وإفكه وشركه ولو كان علة لاستيقانهم لما وجد فيهم أحد غير مستيقن فبطل ظنهم والحمد لله رب العالمين واحتجوا بقوله تعالى لموسى عليه السلام {إني أنا ربك فخلع نعليك إنك بلواد لمقدس طوى} قال أبو محمد وهذا حجة عليهم لأن الكون بالواد المقدس طوى لو كان علة لخلع النعال أو سببا له لوجب علينا خلع نعالنا بالوادي المقدس وبالحرم وبطوى فلما لم يلزم ذلك بلا خوف صح قولنا إن الشيء إذا جعله الله سببا لحكم ما في مكان ما فلا يكون سببا إلا فيه وحده لا في غيره فهذا كل ما راموا تبديله من وجهه من آيات القرآن وقد أريناهم بعون الله تعالى أنه كله حجة عليهم مبطل لقولهم بالتعليل الموجب عندهم للقياس والحمد لله رب العالمين

واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه عن إدخار لحوم الأضاحي أكثر من ثلاث إنما فعلت ذلك من أجل الدابة قال أبو محمد أحق الناس أن يستحي من الله تعالى عند ذكر هذا الحديث فأصحاب القياس القائلون بالعلل لأنهم يبطلون هذا السبب الذي يعدونه علة في المكان الذي ورد فيه ولا يقيسون عليه شيئا أصلا نعم ولا يأخذون بذلك الحكم بعينه بل يعصونه ويجيزونه ادخار لحوم الأضاحي ما شاء المرء من الدهور وإن دفت الدواف أفلا يستحي من يبطل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه إذا دفت دافة أن يدخر لحوم الأضاحي أكثر من ثلاث ويستجيز خلافه في ذلك من أن يحتج بذلك القول المطرح عنده في إثبات العلل الكاذبة لو أن الجوز باللوز إلى أجل لا يحل إن هذا لخلق فاسد منتج من رذائل جمة منها الجهل وقلة الحياء وقلة الورع وشدة العصبية وقلة المبالاة بالصدق وشدة الجور وقلة النصيحة وضعف

والعقل ونعوذ بالله من كل ذلك وأما نحن فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل السبب في النهي عن إدخار لحوم الأضاحي أكثر من ثلاث ليال أن دافة دفت بحضرة الأضحى فإذا كان ذلك أبد الأبد حرم إدخار لحومها أكثر من ثلاث ليال فإن لم تدف دافة بحضرة الأضحى فليدخل الناس لحومها ما شاؤوا وانقيادا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يأت ما ينسخه وهذا الذي قلنا به هو قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الأذان من أجل البصر قال أبو محمد وهذا موافق لقولنا لا لقولهم لأننا لم ننكر وجود النص حاكما بأحكام ما لأسباب منصوصة لكنا أنكرنا تعدي تلك الحدود إلى غيرها ووضع تلك الأحكام في غير ما نصت فيه واخترع أسباب لم يأذن بها الله تعالى وأيضا فهذا الحديث حجة عليهم لأنهم أول عاص له أكثر أهل القياس مخالفون لما في هذا الحديث من أن من اطلع على آخر ففقأ المطلع عليه عين المطلع فلا شيء عليه وقالوا إن قول المظاهر لامرأته أنت علي كظهر أمي لما كان منكرا من القول وزورا كان ذلك علة لوجوب الكفارة قال أبو محمد وقد أبطلوا تعليلهم هذا فكفوا مؤنة أنفسهم فأقروا أن قول المرأة لزوجها أنت علي كظهر أمي منكر من القول وزورا ولم يوجب ذلك عليها الكفارة وقال تعالى {ما جعل لله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم للائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم ذلكم قولكم بأفواهكم ولله يقول لحق وهو يهدي لسبيل} فسوى الله تعالى بين قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي وبين ادعائه ولد غيره ولم يجعل في أحد الوجهين كفارة وجعل في الآخرة

الكفارة فصح أن المساواة في الشبه لا توجب المساواة في الحكم وبطل قولهم في التعليل إذا وجب في أحد المنكرين كفارة ولم يجب في الآخر وقد قال غيره من الفقهاء إيجاب الكفارة على المرأة المظاهرة من زوجها ككفارة المظاهر ولا فرق فهذا كل ما موهوا به من الحديث لاح أنه حجة عليهم وبالله تعالى التوفيق وجملة القول إن كل شيء نص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو حق وكل ما أوردوه بآرائهم مما ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل وإفك وهم كمن قال لما حرم الله تعالى وفرض ما شاء حرمت أنا أيضا وفرضت ما شئت لأنه تعالى حرم وفرض ولا فرق وقد صح على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق عمر بن عنبسة في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها إن تلك ساعة تطلع ومعها قرن الشيطان ويسجد لها الكفار حينئذ وعن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس وإن تلك الساعة تسجر فيها النار لو كان هذا على بادىء الرأي وظاهر الاحتياط لكانت الصلاة حينئذ أحرى وأولى معارضة الكفار فإذا سجدوا للشمس صلينا نحن لله تعالى وإذا سجرت النار صلينا ونعوذ بالله منها هذه صفة عللهم المفتراة الكاذبة وهذا ما جاء به النص فصح أنه لا يحل لأحد تعليل في الدين ولا القول بأن هذا سبب هذا الحكم إلا أن يأتي به نص فقط

فصل واحتج بعضهم في إيجاب القول بالعمل إلخ

فصل في الاشتقاق قال أبو محمد واحتج بعضهم في إيجاب القول بالعلل وأن الأحكام إنما وقعت العلل بأن الأسماء مشتقة في اللغة وهذا لو صح لما كان لهم فيه حجة إذ لا سبب في الاشتقاق يتوصل به إلى إثبات العلل في الأحكام فكيف وهو باطل الاشتقاق الصحيح إنما هو اختراع اسم لشيء ما مأخوذ من صفة فيه كتسمية الأبيض من البياض والمصلي من الصلاة والفاسق من الفسق وما أشبه ذلك وليس في ذلك من هذا ما يوجب أن يسمى أبيض ما لا بياض فيه ولا مصليا من لا يصلي ولا فاسقا من لا فسق فيه فأي شيء في هذا مما يتوصل به إلى إيجاب القياس والقول بأن البر إنما حرم أن يباع البر متفاضلا لأنه مأكول أو لأنه مكيل أو لأنه مدخر وهل يتشكل هذا الحمق في عقل ذي عقل وبالله تعالى التوفيق وأما ما عدا هذا من الاشتقاق ففاسد البتة وهو كل اسم علم وكل اسم جنس أو نوع أو صفة فإن الاشتقاق في كل ذلك مبطل ببرهان ضروري وهو أننا نقول لمن قال إنما سميت الخيل خيلا لأجل الخيلاء التي فيها وإنما سمي البازي بازيا لارتفاعه والقارورة قارورة لاستقرار الشيء فيها والخابية خابية لأنها تخبىء ما فيها إنه يلزمك في هذا وجهان ضروريان لا انفكاك لك منهما البتة أحدهما أن تسمي رأسك خابية لأن دماغك مخبوء فيها وأن تسمي الأرض خابية لأنها تخبىء كل ما فيها وأن تسمي أنفك بازيا لارتفاعه وأن تسمي السماء والسحاب بازيا لارتفاعهما وكذلك القصر والجبل وأن تسمي بطنك قارورة لأن مصيرك مستقر به وأن تسمي البئر قارورة لأن الماء

مستقر فيها وأن تسمي المستكبرين من الناس خيلا للخيلاء التي فيهم ومن فعل هذا لحق بالمجانين المتخذين لإضحاك سخفاء الملوك في مجالس الطرب وصار ملهى وملعبا وضحكة يتطايب بخبره وكان للحرمة ومداواة الدماغ أولى منه بغير ذلك فإن أبى ترك اشتقاقه الفاسد والوجه الثاني أن يقال إن اشتققت الخيل من الخيل أو القارورة من الاستقرار والخابية من الخبء فمن أي شيء اشتققت الخيلاء والاستقرار والخبء وهذا يقتقضي الدور الذي لا ينفك منه وهو أن يكون كل واحد منهما اشتق من صاحبه وهذا جنون أو وجود أشياء لا أوائل لها ولا نهاية وهذا مخرج إلى الكفر والقول بأزلية العالم ومع أنه كفر فهو محال ممتنع وأيضا فإذا بطل الاشتقاق في بعض الأسماء كلف من قال به في بعضها أن يأتي ببرهان وإلا فهو مبطل وأيضا فليس قول من قال إن الخيل مشتقة من الخيلاء أولى بالقبول من قول من قال إن الخيلاء مشتقة من الخيل وكلا القولين دعوى فاسدة زائفة لا دليل على صحتها في البرهان الضروري قد قام على بطلانها لأنه لم توجد قط الخيلاء إلا والخيل موجودة ولا وجدت الخيل إلا والخيلاء موجودة ولم يوجد قط أحدهما قبل الآخر فبطل قولهم وبالله تعالى نتأيد ولو كان ما قالوا لكانت الأسد أولى أن تسمى خيلا لأنهم أكثر خيلاء من الخيل ولكانت النسور أولى أن تسمى بزاة من الصقور لأنها أشد ارتفاعا منها وإلا فما الذي جعل القوارير أولى بهذا الاسم من الرمان والعتائد والإدراج والقلال

وقالوا لما وجدنا العصير حلو لا يسمى خمرا وهو حلال ثم حدثت فيه الشدة فسمي خمرا فحرم ثم ارتفعت الشدة فلم يسم خمرا لكن سمي خلا علمنا أن العلة المحرمة والتي حرم من أجلها والتي من أجلها سمي خمرا هي الشدة قال أبو محمد هذا كلام فاسد في غاية الفساد فأول ذلك أن يقال لهم في أي عقل وجدتم أن كون الشدة فيه أوجبت أن يسمى بالخاء والميم والراء ولكن لا بد لكل عين فيها صفات مخالفة لصفات عين أخرى أن يوقع على كل واحد منها اسم غير اسم العين الأخرى ليقع التفاهم فيها بين المخاطبين فعلق على ما فيه الشدة اسم ما وعلى ما لا شدة فيه اسم آخر لا لشيء إلا ليفهم الناس مراد من كلمهم وخاطبهم وكذلك موجود في العالم وإلا ما ضاقت اللغة عن تسميته أو عجز أهلها عن ذلك أو لم يرد الله تعالى أن يكون له في هذه اللغة اسم وأيضا فإن اللغة العربية أول من نطق بها إسماعيل والخمر أقدم من كون إسماعيل في الأرض لأنهما من الأشياء التي علم آدم أسماءها قال تعالى {وعلم آدم لأسمآء كلها ثم عرضهم على لملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين} فعم تعالى ولم يخص فقد كانت الخمر على حالها من الإسكار والشدة وهي حلال وهي لا تسمى خمرا فقد كذب هذا القائل وأثم وأيضا فإن الخمر تسمى في كل لغة بغير اسم الخمر عندنا فما وجدنا ألسنتهم تلتوي لذلك ولا أحكامهم تنطوي ولا الخمر حلت لهم لأجل أن اسمها عندهم في اللغة العربية ولم نجد قط تلك العين المسماة خمرا إلا

وهي مسكرة في كل وقت وفي كل أمة وفي كل مكان حاشا خمر الجنة فقط فبطل قولهم في العلل وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن العرب تسمي الخمر بخمسة وستين اسما ما وجدناها تضطر إلى ترك شيء منها ولا اضطرت إلى وضعه وقد بينا الكلام في كيفية أصل اللغات في باب مفرد من كتابنا هذا ولله الحمد وكذلك قالوا إن كون البر مطعوما محرما متفاضلا هو علة تسمية ذلك ربا والقول عليهم في ذلك كالقول في الخمر ولا فرق وبالله تعالى لا إله إلا هو التوفيق وقالوا العلة في وجوب كون الرقبة في الظهار مؤمنة هي وجوب كونها سليمة الأعضاء كرقبة القتل قال أبو محمد وهذا تحكم فاسد واحتجاج للخطأ بالخطأ وللدعوى بالدعوى ومثلهم في هذا القول كإنسان قال لي على زيد درهم فقيل له هل لك بينة فقال نعم فقيل وما هي قال إن لي على عمر درهما فقيل له وما بينتك على أن لك على عمر درهما قال بينتي على ذلك أن لي على زيد درهما فهو يريد أن يجعل دعواه صحة لدعوى أخرى وكلتاهما ساقطة إذ لا دليل عليهما وليس هذا الفعل من أفعال أهل العقول ودعواهم أن الرقبة في كلا الموضعين لا تجزىء إلا أن تكون سليمة دعوى زائفة لا تصح فكيف أن يقاس عليها ألا تكون إلا مؤمنة وقال بعضهم العلة في ذلك أنها كفارة عن ذنب قال أبو محمد وليس على قاتل الخطأ ذنب أصلا فبطل تعليلهم الفاسد

فصل في إبطال القول بالعلل في شيء في شيء من الشرائع

وأيضا فهذه دعوى كالأولى لا دليل عليها وما الفرق بينهم وبين من قال إنما وجبت في القتل أن تكون الرقبة مؤمنة لأنها كفارة عن قتل فما عدا القتل فلا تجب فيه مؤمنة وهذا لا انفكاك منه فكل هذه دعوى لا دليل عليها ولا ينفكون ممن بطل ما أثبتوه ويثبت ما أبطلوا واعلم أنه لا يمكن أحدا منهم أن يدعي علة في شيء من الأحكام إلا أمكن لخصمه أن يأتي بعلة أخرى يدعي أن ذلك الحكم إنما وجب لها وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى نعتصم فصل في إبطال القول بالعلل قال أبو محمد هذا كل ما شغبوا به قد بينا عواره ولاح اضمحلاله والحمد لله رب العالمين ونحن الآن بعون الله تعالى وقوته لا إله إلا هو شارعون في إبطال القول بالعلل في شيء من الشرائع وبالله تعالى التوفيق فيقال لمن قال إن أحكام الشريعة إنما هي العلل أخبرونا عن هذه العلل التي تذكرون أهي من فعل الله تعالى وحكمه أم من فعل غيره وحكم غيره أم لا من فعله تعالى ولا من فعل غيره ولا سبيل إلى قسم رابع أصلا فإن قالوا من فعل غير الله من غير حكمه جعلوا ههنا خالقا غيره وفاعلا للحكم غيره وجعلوا فعل ذلك الفاعل موجبا على الله تعالى أن يفعل ما فعل وأن يحكم بما حكم به وهذا شرك مجرد وكفر صريح وهم لا يقولون ذلك فإن قالوا ليست من فعله ولا من فعل غيره أوجبوا أن في العالم أشياء لا فاعل لها أو أنهم في هذا الحاكمون على الله تعالى بها وهم الذين يحللون

ويحرمون ويقضون على الباري عز وجل وهذا كفر مجرد ومذهب أهل الدهر وهم لا يقولون ذلك فإن قالوا بل هي من فعل الله عز وجل وحكمه قلنا لهم أخبرونا عنكم أفعلها الله تعالى لعلة أو فعلها لغير علة فإن قالوا فعلها تعالى لغير علة تركوا أصلهم وأقروا أنه تعالى يفعل الأشياء لا لعلة وقيل لهم أيضا ما الذي أوجب أن تكون الأحكام الثواني لعلل وتكون الأفعال الأول التي هي علل هذه الأحكام لا لعلل وهذا تحكم بلا دليل ودعوى ساقطة لا برهان عليها وإن قالوا بل فعلها تعالى لعلل أخر سئلوا في هذه العلل أيضا كما سئلوا في التي قبلها وهكذا أبدا فلا بد لهم ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يقفوا في أفعال ما فيقولون إنه فعلها لغير علة فيكونون بذلك تاركين لقولهم الفاسد إنه تعالى لا يفعل شيئا إلا لعلة أو يقولون بمفعولات لا نهاية لها وأشياء موجودة لا أوائل لها وهذا كفر وخروج عن الشريعة بإجماع الأمة وقبح الله قولا يضطر قائله إلى مثل هذه المواقف فبطل قولهم في العلل وصح قولنا إن الله تعالى يفعل ما يشاء إلا لعلة أصلا بوجه من الوجوه بهذا البرهان الضروري الذي لا انفكاك عنه وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ويكفي من هذا كله أن جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم وجميع التابعين أولهم عن آخرهم وجميع تابعي التابعين أولهم عن آخرهم ليس منهم أحد قال إن الله تعالى حكم في شيء من الشريعة لعلة وإنما ابتدع هذا القول متأخرو القائلين بالقياس وأيضا فدعواهم إن هذا الحكم حكم به الله تعالى لعلة كذا فرية ودعوى لا دليل عليها ولو كان هذا الكذب عن أحد من الناس لسقط قائله فكيف على الله عز وجل

ولسنا ننكر وجود أسباب لبعض أحكام الشريعة بل نثبتها ونقول بها لكنا نقول إنها لا تكون أسبابا إلا حيث جعلها الله تعالى أسبابا ولا يحل أن يتعدى بها المواضع التي نص فيها على أنها أسباب لما جعلت أسبابا له وقد بينا كثيرا من ذلك في أول هذا الباب قال أبو محمد ومن عجائب هؤلاء القوم أنهم لو قيل لهم تعمدوا الباطل ما قدروا على أكثر مما فعلوا ومن ذلك أنهم أتوا إلى حكم لم ينص الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على أن له سببا وهو تحريم البر بالبر متفاضلا فجعلوا له سببا وعلة وحرموا من أجله الحديد بالحديد متفاضلا وبيع الأرز بالأرز متفاضلا وبيع السقيمونيا بالسقمونيا متفاضلا ثم أتوا إلى حكم جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبا وأخبر أنه حكم بذلك من أجله فعصوه وأطرحوه وهو قوله صلى الله عليه وسلم إنه نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث لأجل الدافة فقالوا ليست الدافة سببا ولا يجب من أجلها ترك ادخار لحوم الأضاحي وهكذا يكون عكس الحقائق وبالله تعالى نعوذ من الخذلان قال أبو محمد فإن قال قائل أنتم تنكرون القول بالعلل وتقولون بالأسباب فما الفرق بين الأمرين فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن الفرق بين العلة وبين السبب وبين العلامة وبين الغرض فروق ظاهرة لائحة واضحة وكلها صحيح في بابه وكلها لا يوجب تعليلا في الشريعة ولا حكما بالقياس أصلا فنقول وبالله تعالى التوفيق إن العلة هي اسم لكل صفة توجب أمرا ما إيجابا ضروريا والعلة لا تفارق المعلول البتة ككون النار علة الإحراق والثلج علة التبريد الذي لا يوجد أحدهما دون الثاني أصلا وليس أحدهما قبل الثاني أصلا ولا بعده

وأما السبب فهو كل أمر فعل المختار فعلا من أجله لو شاء لم يفعله كغضب أدى إلى انتصار فالغضب سبب الانتصار ولو شاء المنتصر ألا ينتصر لم ينتصر وليس السبب موجبا للشيء المسبب منه ضرورة وهو قيل الفعل المتسبب منه ولا بد وأما الغرض فهو الأمر الذي يجري إليه مفاعل ويقصده ويفعله وهو بعد الفعل ضرورة فالغرض من الانتصار إطفاء الغضب وإزالته وإزالة الشيء هي شيء غير وجوده وإزالة الغضب غير الغضب والغضب هو السبب في الانتصار وإزالة الغضب هو الغرض في الانتصار فصح أن كل معنى مما ذكرنا غير المعنى الآخر فالانتصار بين الغضب وبين إزالته وهو مسبب للغضب وإذهاب الغضب هو الغرض منه وأما العلامة فهي صفة يتفق عليها الإنسانان فإذا رآها أحدهما علم الأمر الذي اتفقا عليه ومثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود إذنك على أن يرفع الحجاب وأن تستمع سوادي حتى أنهاك فكان رفع الحجاب واستماع حركة الني صلى الله عليه وسلم علامة الإذن لابن مسعود وكقوله صلى الله عليه وسلم إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار فكانت أصوات الأشعريين بالقرآن علامة لموضع نزولهم ومن هذا أخذت الأعلام الموضوعة في الفلوات لهداية الطريق والأعلام في الجيوش لمعرفة موضع الرئيس

وقال أبو محمد وهذا معنى رابع وقد سمي أيضا العلل معاني وهذا من عظيم شغبهم وفاسد متعلقهم وإنما المعنى تفسير اللفظ مثل أن يقول قائل معنى الحرام فتقول له هو كل ما لا يحل فعله أو يقول معنى الفرض فنقول هو كل ما لا يحل تركه أو يقول ما الميزان فنقول له آلة يعرف بها تباين مقادير الأجرام فهذا وما أشبه هو المعاني وهذا أيضا شيء خامس وكل هذا لا يثبت علة الشرائع ولا يوجب قياسا لأن العلامة إذا كانت موضوعة لأن يعرف بها شيء ما فلا سبيل إلى أن يعرف بها شيء آخر بوجه من الوجوه لأنه لو كان ذلك لما كانت علامة لما جعلت له علامة ولوقع الإشكال قال أبو محمد فلما كانت هذه المعاني المسماة الخمسة التي ذكرنا مختلفة متغايرة كل واحد منها غير الآخر وكانت كلها مختلفة الحدود والمراتب وجب أن يطلق على كل واحد منها اسم غير الاسم الذي لغيره منها ليقع الفهم واضحا ولئلا تختلط فيسمى بعضها باسم آخر منها فيوجب ذلك وضع معنى في غير موضعه فتبطل الحقائق والأصل في كل بلاء وزعماء تخليط وفساد اختلاط أسماء ووقوع اسم واحد على معاني كثيرة فيخبر المخبر بذلك الاسم وهو يريد أحد المعاني التي تحته فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبر فيقع البلاء والإشكال وهذا في الشريعة أضر شيء وأشده هلاكا لمن اعتقد الباطل إلا من وفقه الله تعالى وإذ قد بينا هذه الأسماء الأربعة وهي العلة والغرض والسبب والعلامة وبينا أن معانيها مختلفة وأن مسمياتها شتى وحسمنا داء من أراد إيقاع اسم العلة في الشريعة على معنى السبب فيخرج بذلك إلا ما لا يحل اعتقاده

من أن الشرائع شرعها الله تعالى لعلل أوجبت عليها أن يشرعها أو إلى الفرية على الله تعالى في الإدعاء أنه شرع عللا لم ينص عليها هو تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أذنا بها ولا بد لأهل العلل من أحد هذين السبيلين وكلاهما مهلك ولسنا ننكر أن يكون الله تعالى جعل بعض الأشياء سببا لبعض ما شرع من الشرائع بل نقر بذلك ونثبته حيث جاء به في النص كقوله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وكما جعل تعالى كفر الكافر وموته كافرا سببا إلى خلوده في نار جهنم والموت على الإيمان سببا لدخول الجنة وكما جعل السرقة بصفة ما سببا للقطع والقذف بصفة ما سببا للجلد والوطء بصفة ما للجلد والرجم وكما نقر بهذه الأسباب المنصوص عليها فكذلك ننكر أن يدعي أحد سببا حيث لم ينص عليه ولسنا نقول إن الشرائع كلها لأسباب بل نقول ليس منها شيء لسبب إلا ما نص منها أنه لسبب وما عدا ذلك فإنما هو شيء أراده الله تعالى الذي يفعل ما شاء ولا نحرم ولا نحلل ولا نزيد ولا ننقص ولا نقول إلا ما قال ربنا عز وجل ونبينا صلى الله عليه وسلم ولا نتعد ما قالا ولا نترك شيئا منه وهذا هو الدين المحض الذي لا يحل لأحد خلافه ولا اعتقاده سواء وبالله تعالى التوفيق وقد قال الله تعالى واصفا لنفسه {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} فأخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه وأن أفعاله لا يجزىء فيها لم وإذا لم يحل لنا أن نسأله عن شيء من أحكامه تعالى وأفعاله لم كان هذا فقد بطلت الأسباب جملة وسقطت العلل البتة إلا ما نص الله تعالى عليه أنه فعل أمرا كذا لأجل كذا وهذا أيضا مما يسأل عنه فلا يحل لأحد أن يقول لم

كان هذا السبب لهذا الحكم ولم يكن لغيره ولا أن يقول لم جعل هذا الشيء سببا دون أن يكون غيره سببا أيضا لأن من فعل هذا السؤال فقد عصى الله عز وجل وألحد في الدين وخالف قوله تعالى {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} فمن سأل عما يفعل فهو فاسق وجب أن تكون العلة كلها منفية عن الله تعالى ضرورة وفي قوله تعالى {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} بيان جلي أنه لا يجوز لأحد منا أن يقول قولا لا يسأل عنه ولزمنا فرضا سؤال كل قائل من أين قلت كذا فإن بين لنا أن قوله ذلك حكاية صحيحة من ربه تعالى وعن نبيه صلى الله عليه وسلم لزمنا طاعته وحرم عليه التمادي في سؤاله وإن لم يأت به مصححا عن ربه تعالى ولا عن نبيه صلى الله عليه وسلم ضرب برأيه عرض الحائط ورد عليه أمره متروكا غير مقبول معه ولا مرضي عنه فهذا حكم السبب وفعله والعلامة والغرض والمعنى قد بينا كل ذلك غاية البيان ولم نقل إلا ما قاله الله ربنا عز وجل وليست العبارة بالألفاظ المخالفة خلافا إذا حقق المعنى فلم يبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى العرب فقط بل إلى أهل كل لغة من الإنس والجن فلا بد ضرورة لكل أحد من عبارة يفهم بها كلام ربه تعالى ومعنى مراده في الدين اللازم له وإنما أوردنا هذا لئلا يتعلق جاهل فيقول إن كلامك هذا ليس منصوصا في القرآن فأرينا أن حقيقة مفهومه كلها ومعناه الذي لا يتحمل كلامنا معنى غيره منصوص في القرآن نصا جليا ظاهرا وبالله تعالى التوفيق فاعلم الآن أن العلل كلها منفية عن أفعال الله تعالى وعن جميع أحكامه البتة لأنه لا تكون العلة إلا في مضطر واعلم أن الأسباب كلها منفية عن أفعال الله تعالى كلها وعن أحكامه حاشا ما نص تعالى عليه أو رسوله صلى الله عليه وسلم وأما الغرض في أفعاله تعالى وشرائعه فليس هو شيئا غير ما ظهر منها فقط

والغرض في بعضها أيضا أن يعتبر بها المعتبرون وفي بعضها أن يدخل الجنة من شاء إدخاله فيها وأن يدخل النار من شاء إدخاله فيها وكل ما ذكرنا من غرضه تعالى في الاعتبار ومن إدخاله الجنة من شاء ومن إدخاله النار من شاء وتسبيبه ما شاء لما شاء فكل ذلك أفعال من أفعاله وأحكام من أحكامه لا سبب لها أصلا ولا غرض له فيها البتة غير ظهورها وتكوينها فقط {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} ولولا أنه تعالى نص على أنه أراد منا الاعتبار وأراد إدخال الجنة من شاء ما قلنا به ولكنا صدقنا ما قال ربنا تعالى وقلنا ما علمنا ولم نقل ما لم نعلم فهذه حقيقة الإيمان الذي تعضده البراهين الحسية والعقلية ودليل ذلك أن السبب والغرض لا يخلوان من أنهما مخلوقان لله تعالى أو أنهما غير مخلوقين أصلا أو أنهما مخلوقان لغيره فمن جعلهما غير مخلوقين أصلا كفر لأنه يجعل في العالم شيئا لم يزل ومن قال إنهما مخلوقان لغير كفر لأنه يجعل خالقا غير الله تعالى فثبت أنهما مخلوقان له تعالى وقد قام البرهان على أن كل ما دون الله تعالى فهو خلق الله فإذا قد ثبت أن الغرض والسبب مخلوقان لله تعالى فلا يخلو من أن يكون خلقهما لسبب أيضا ولغرض أو لا لسبب ولا لغرض فإن كان فعلها لسبب آخر وغرض آخر لزم أيضا فيهما مثل ذلك حتى تنتهي بقائل هذا إلى إثبات معدودات ومخلوقات لا نهاية لها وهذا كفر من قائله وإن كان تعالى فعلهما لا لسبب ولا لغرض فهذا هو قولنا إنه تعالى يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه لا لسبب ولا لغرض حاشا ما نص تعالى عليه فقط أنه فعله للغرض أراده أو لسبب وأما ما لم ينص ذلك فيه فإنا نقطع على أنه تعالى فعله كما شاء لا لغرض ولا لسبب ولولا النصوص الواردة بذلك في بعض المواضع ما حل لمسلم أن يقول إن الله تعالى فعل كذا لسبب كذا ولا إن

له عز وجل في فعل كذا إرادة كذا {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} قال أبو محمد ويقال لمن قال بالعلل وجعلها صفات في أشياء توجد فتشتبه بها فيوجب ذلك أن يحكم لها بحكم واحد إنك لا تعدم معارضا بصفات أخر توجب غير الأحكام التي أوجبتم فإن أنتم أبطلتم حكم التشابه الذي يعارضكم به خصومكم فقد أقررتم أن الأتباع لا معنى له ولا يوجب حكما وليس قول خصومكم فيما أتى به من ذلك بأولى بالسقوط من قولكم ومثال ذلك أن تقولوا لما أشبه النبيذ الخمر في أنه شديد ملذ مسكر وجب له التحريم من أجل ذلك فيعارضكم خصومكم فيقولون لما أشبه النبيذ المسكر العصير في أنه لا يفكر مستحله وجب له التخليل من أجل ذلك فإن أبطلتم التشبيه الذي أتى به خصومنا فقد أقررتم أن التشبيه لا يوجب حكما وهذا عائدا على تشبهكم الذي شبهتم ولا فرق وقال بعضهم علة تحريم البر بالبر متفاضلا أنه مطعوم وقال بعضهم العلة في ذلك أنه مكيل وقال بعضهم العلة في ذلك أنه مدخر قال أبو محمد وكل واحد من هذه الطوائف مبطلة لما عدت به الأخرى فكلهم قد اتفق على إبطال التعليل بلا خلاف بينهم فليس ما أثبتت هذه الطائفة من التعليل بأثبت مما أثبتت الأخرى ولا بعض هذه العلل أولى بالسقوط من سائرها بل كلها دعوى زائفة ساقطة لا برهان عليها وهكذا جميع عللهم وليت شعري كيف يسهل على من يخاف سؤال الله تعالى يوم القيامة أن يأتي بعلة لم يجدها قط لا لله تعالى ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم فيثبتها في الدين فإنما ينسبها إلى الله تعالى فيكذب عليه أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيقوله ما لم يقل أو لا ينسب ذلك إلى الله تعالى ولا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم

فيحصل في أن يحدث دينا من عنده نفسه ولا بد من إحداهما وهما خطتا خسف نعوذ بالله منهما وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ومنهم طوائف يمنعون من تخصيص العلل ثم يجعلون علة الربا في التمر بالرطب مخصوصة يحدث العرايا فيقرون أن النص أبطل علتهم ولو كانت حقا ما أبطلها لأن الحق لا يبطل الحق وكذلك لا يمكن أن يبطل حديث صحيح حديثا صحيحا إلا على سبيل النسخ فقط وأما على معنى ألا يقبل فلا سبيل إلى ذلك البتة والحق لا يكذب بعضه بعضا أبدا قال أبو محمد وقد سألهم من سلف من أصحابنا فقالوا لو كانت العلة التي تدعون في الشرائع موجبة لما ادعيتم من تحليل أو تحريم لكانت غير مختلفة أبدا كما أن العلل العقلية لا تختلف أبدا مثال ذلك أن الشدة والإسكار لو كانا علة لتحريم لكانت الخمر حراما مذ خلقها الله تعالى فالخمر لم تزل مذ خلقها الله تعالى شديدة مسكرة وقد كانت حلال في الإسلام سنين وهي على الصفة هي الآن لم تبدل ولا حدثت لها حال لم تكن قبل ذلك فبطل بهذا أن تكون الشدة علة التحريم كما أن الباري تعالى جعل النارية علة الإحراق وتصعيد الرطوبات فلا تزال كذلك أبدا حاشا ما خص عز وجل منها من نار إبراهيم الخليل عليه السلام ولم تزل كذلك مذ خلقها تعالى حتى في جهنم أعاذنا الله تعالى منها قال الله تعالى {إن لذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا لعذاب إن لله كان عزيزا حكيما} قال أبو محمد فتفسخوا تحت هذا السؤال وتضوروا منه لأنه صحيح لا مخرج منه البتة فقال بعضهم إنما تكون العلة علة إذا جعلها الله تعالى علة

قال أبو محمد وهذا ترك منهم لقولهم في العلل جملة وترك منهم للقياس ورجوع إلى النص وإذ قد راجعوا إلى هذا فلم يبق بيننا وبينهم إلا تسميتهم الحكم علة فقط فلو قالوا لا يجب الحكم إلا إذا نصه الله عز وجل لوافقونا البتة ولكنهم تعلقوا باسم العلة لأنه مشترك ليرجعوا من قريب إلى تخليطهم وليتعدوا النص إلى ما لا نص فيه وهذا ما لا يسوغونه وبالله تعالى التوفيق وقال بعضهم هذا خبر الواحد هو حجة في إيجاب العمل وليس حجة في إيجاب العلم فلا تنكروا علينا كون الشيء علة في مكان وغير علة في مكان آخر فيقال له وبالله تعالى التوفيق هذا تمويه منكم لا تتخلصون به مما ألزمناكم إياه لأننا لم ننكر نحن عليكم أن يكون الشيء حجة في مكانه وبابه وغير حجة فيما ليس بمكانه ولا ببابه وإنما أنكرنا عليكم أن يكون ما ادعيتموه علة حجة موجبة للحكم في بعض مكانها وبابها بغير نص وغير حجة في سائر بابها وبعض أماكنها من غير نص أيضا فهذا الذي أنكرنا عليكم لا ما سواه وأما خبر الواحد المسند من طريق العدول فهو حجة في إيجاب العمل أبدا إذا كان عن النبي صلى الله عليه وسلم عند جميعنا ثم اختلفنا فقالت طائفة منهم ومنه ما لا يضطر إلى العلم فهو غير موجب للعلم أبدا وما كان منه يضطر إلى العلم بأسباب معروفة فيه فهو موجب للعلم أبدا وقالت طائفة هو موجب للعلم أبدا إذا كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبطل تشبيههم للعلة بالخبر قال أبو محمد واحتج عليهم من سلف من أصحابنا فقالوا ما تقولون في إنسان قال في حياته أو عند موته أعتقوا عبدي ميمونا لأنه أسود وله عبيد سود كثير أتعتقونهم لعلة السواد الجامعة لهم والتي جعلها علة في عتق ميمون قياسا على ميمون أم لا تعتقون منهم أحدا حاشا ميمون وحده

فإن قلتم نعتقهم نقضتم فتاويكم وخالفتم الإجماع وإن قلتم لا نعتقهم تركتم القول بإجراء العلل وبالقياس وعدتم إلى قولنا قال أبو محمد وهذا إلزام صحيح ونحن نزيده بيانا فنقول وبالله تعالى التوفيق إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأمراء سراياه إذا نزلتم بأهل حصن أو مدينة أرادوا أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تفعلوا فإنكم لا تدرون أتوافقون حكم الله تعالى فيهم أم لا ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا فيهم ما شئتم فإذا سألوكم أن تعطوهم ذمة الله عز وجل وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا تعطوهم ذمة الله ولا ذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن أعطوهم ذمتكم فإن تخفروا ذمتكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله أو كلاما هذا معناه فهذا نص جلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الإقدام على نسبة شيء إلى الله تعالى بغير يقين لا يحل وأن نسبة ذلك إلى الإنسان أهون وإن كان كل ذلك باطلا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان كذبا علي ليس ككذب على أحد فلو جاز أن يقال بالقياس وبالفعل لكان الإقدام به على كلام الناس وأحكامهم أولى من الإقدام به على الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فلما اتفقوا على أن من قال اعتقوا عبدي سالما لأنه أسود وله عبيد سود أنه لا يعتق غير سالم وحده الذي نص عليه اتقاء أن يعتقه وخوفا من تبديل أمر الموصي وكلامه فإن الأولى بهم أن يتقوا الله عز وجل في قوله صلى الله عليه وسلم في النهي عن الذبح بالسن فإنه عظم وفي أمره صلى الله عليه وسلم بهرق السمن إذا مات فيه

الفأر فلا يتعدوا ذلك إلى كل عظم وكل زيت وكل دهن وكل كلب وكل سنور وفي أمره صلى الله عليه وسلم البائل في الماء الراكد الذي لا يجزي ألا يتوضأ منه ولا يغتسل فلا يتعدوه إلى المحدث في الماء ولا إلى ما لم يبل فيه أصلا فإن الأوجب عليهم ألا ينسبوا إلى الله تعالى ولا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم تعليلا لم ينصا عليه وأحكاما لم يأذنا بها ولا ذكراها أصلا ولا في كلامهما ما يوجبهما البتة ولكنهم اتقوا أن ينسبوا إلى الناس ما لا يقولون ولم يتقوا أن ينسبوا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يقولا وحسبك بهذا عظيمة نعوذ بالله منها وقد شغب بعضهم في هذا السؤال بأن قال كنا نعتق سائر عبيده السودان لو أن الموصي يقول لنا بعقب قوله اعتقوا عبدي سالما لأنه أسود واعتبروا فكنا حينئذ نعتق كل عبد له أسود قال أبو محمد وهذا جواب فاسد من وجهين أحدهما أنه حتى لو قال ذلك ما جاز أن يعتق كل عبد له أسود لأنه ليس قوله اعتبروا أولى بأن يكون معناه قيسوا منه بأن يكون معناه واعتبروا بحالي التي أنا فيها فبادروا إلى طاعة ربكم ولا تخالفوا وصيتي وأيضا فيلزم من أجاب بهذا الجواب الفاسد ألا يقيس على شيء من الأحكام إلا حتى يكون إلى جنب كل حديث فيه حكم أو كل آية فيها حكم واعتبروا واعتبروا وهذا غير موجود في شيء من الأحكام ولا في الحديث ولا في صلة شيء من الآيات فبطل القياس جملة بنص قوله هذا المجيب والله تعالى الحمد قال أبو محمد والسؤال باق بحسبه عليهم ونزيدهم فيه فنقول حتى لو قال فاعتبروا ثم لما كان نهارا آخر قال اذبحوا كبشي الفلاني لأنه أعرج وله كباش عرج أيذبحون كل كبش له أعرج من أجل قوله بالأمس في أمر

عتق عبد واعتبروا أم لا يقدمون على ذلك إلا حتى يكون عند وصيته به واعتبروا فإن قالوا نكتفي بقوله واعتبروا مرة واحدة خرقوا الإجماع وهذا أمر لا يقولونه ولو قالوه لكانوا حاكمين بلا دليل ومدعين بلا برهان وإن لم يقولوا بذلك فقد تركوا القياس جملة ولزمهم طلب هذه اللفظة إلى جنب كل آية وحديث وهذا لا يجدونه أبدا قال أبو محمد وقد قال بعضهم في جواب هذا السؤال إذ تتبعنا عليهم إدخالهم في أحكام الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يأت به نص لكن تعليلا منهم وقياسا ثم يتحرون تجنب مثل هذا في أقوال أبي حنيفة ومالك والشافعي فلا يتعدون نصوص أقوالهم فقالوا خطاب الآدميين وقد يكون فاسدا ولا حكمة فيه وخطاب الله تعالى حكمة قال أبو محمد وهذا تمويه لا ينفك به من السؤال المذكور ويقال له أي فساد في خطاب امرىء موص في ماله بما أباحه له الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة ولم يتعد إلى مكروه فلو جاز ألا يحمل كلامه على موجبه ومفهومه خوف فساده لما جاز تنفيذ تلك الوصية جملة خوف فسادها فلما اتفقوا معنا على تجويز تلك الوصية وحملها على ظاهرها صح أنها حق وبطل تمويه من رام الفرق بين ما سألناهم عنه من حملهم كلام الناس على ظاهره ومفهومه وحملهم كلام ربهم تعالى على الكهانات بالدعاوى والظنون وما ليس فيه ولا مفهوما منه وقلنا لهم فيم غلبتم ما لم يؤمن فساده وما لا حكمة فيه من أقوال أبي حنيفة المتخاذلة وأقوال مالك المتناقضة وأقوال الشافعي المتعارضة على المضمون فيه الحكمة من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حتى صرتم لا تأخذون من النصوص إلا ما وافق كلام أحد المذكورين ولا تزالون تتحيلون في إبطال حكم ما خالف قولهم من القرآن السنة بأنواع الحيل الباردة الغثة والسؤال يعد لهم لازم لا انفكاك

فصل في بيان ما في القرآن من النهي عن القول بالعلل

عنه أصلا وبالله تعالى التوفيق ومما احتج به عليهم أصحابنا في إبطال العلل والقياس نهي الله تعالى الناس عن سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم الاقتصار على ما يفهمون مما يأمرهم به فقط فلو كان المراد من النص غير ما سمع منه لكان السؤال لهم لازما ليتبينوا ويتعلموا فلما منعوا من السؤال أيقنا أنهم إنما لزمهم ما أعلموا به فقط فأجاب بعض أصحاب القياس فقال إنما نهوا عن سؤال من سأل عن أبيه قال أبو محمد وهذا الكذب بعينه لأن نص الآية يكذب هذا القائل في قوله تعالى بعقب النهي عن السؤال {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} وبين ذلك طلحة رضي الله عنه في قوله كنا نهينا أن نسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يأتي بالرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونسمع وقال النواس بن سمعان أقمت بالمدينة سنة لا أهاجر يريد لا أبايع على الهجرة لأننا كنا إذا هاجر أحدنا لم يجز له أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أو كلاما هذا معناه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وقد قال صلى الله عليه وسلم اتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ولكن إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم فبطل اعتراض هذا المعترض فصل فيما ورد في القرآن من النهي عن القول بالعلل قال أبو محمد ونحن موردون إن شاء الله تعالى ما في القرآن من النهي عن القول بالعلل في أحكام الله عز وجل وشرائعه فكتاب الله تعالى

هو الحق الذي يقذف بالحق عن الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ومن أبى ذلك ختمنا له الآية وهو قوله تعالى {بل نقذف بلحق على لباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم لويل مما تصفون} قال أبو محمد قال الله تعالى {وما جعلنآ أصحاب لنار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن لذين أوتوا لكتاب ويزداد لذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب لذين أوتوا لكتاب ولمؤمنون وليقول لذين في قلوبهم مرض ولكافرون ماذآ أراد لله بهذا مثلا كذلك يضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر} فأخبر تعالى أن البحث عن علة مراده تعالى ضلالا لأنه لا بد من هذا أو من أن تكون الآية نهيا عن البحث عن المعنى المراد وهذا خطأ لا يقوله مسلم بل البحث عن المعنى الذي أراده الله تعالى فرض على كل طالب علم وعلى كل مسلم فيما يخصه فصح القول الثاني ضرورة ولا بد وقال الله تعالى {خالدين فيها ما دامت لسماوات ولأرض إلا ما شآء ربك إن ربك فعال لما يريد} وقال تعالى {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ودعوا شهدآءكم من دون لله إن كنتم صادقين} قال أبو محمد وهذه كافية في النهي عن التعليل جملة فالمعلل بعد هذا عاص لله عز وجل وبالله نعوذ من الخذلان وقال تعالى {ويا آدم سكن أنت وزوجك لجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه لشجرة فتكونا من لظالمين * فوسوس لهما لشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه لشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من لخالدين * وقاسمهمآ إني لكما لمن لناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا لشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق لجنة وناداهما ربهمآ ألم أنهكما عن تلكما لشجرة وأقل لكمآ إن لشيطآن لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من لخاسرين} قال أبو محمد وقال الله تعالى حاكيا عن إبليس إذ عصى وأبى عن السجود أنه قال {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} فصح أن خطأ آدم عليه السلام إنما كان من وجهين أحدهما تركه حمل نهي ربه تعالى عن الوجوب والثاني قبوله قول إبليس أن نهي الله عن الشجرة إنما هو لعلة كذا فصح يقينا بهذا النص البين أن تعليل أوامر الله تعالى معصية

وأن أول ما عصى الله تعالى به في عالمنا هذا القياس وهو قياس إبليس على أن السجود لآدم ساقط عنه لأنه خير منه إذ إبليس من نار وآدم من طين ثم بالتعليل للأوامر كما ذكرنا وصح أن أول من قاس في الدين وعلل في الشرائع فإبليس فصح أن القياس وتعليل الأحكام دين إبليس وأنه مخالف لدين الله تعالى نعم ولرضاه ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القياس في الدين ومن إثبات علة لشيء من الشريعة وبالله تعالى التوفيق وقال الله عز وجل حاكيا عن قوم من أهل الاستخفاف أنهم قالوا إذا أمروا بالصدقة {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم لله قال لذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشآء لله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين} قال أبو محمد فهذا إنكار منه تعالى للتعليل لأنهم قالوا لو أراد الله تعالى إطعام هؤلاء لأطعمهم دون أن يكلفنا نحن إطعامهم وهذا نص لا خفاء به على أنه لا يجوز تعليل شيء من أوامره وإنما يلزم فيها الانقياد فقط وقبولها على ظاهرها وقال تعالى {فبظلم من لذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل لله كثيرا} فهم ظلموا فحرمت عليهم ونحن نظلم فلم تحرم علينا الطيبات التي أحلت لنا وقال صلى الله عليه وسلم إننا سنركب سنن أهل الكتاب لو دخلوا جحر ضب لدخلناه فصح أننا ظلمنا كظلمهم ولم يحرم علينا ما حرم عليهم فبطل التعليل جملة إذ لو كان ظلمهم علة التحريم لوجب أن يكون ظلمنا علة فينا لمثل ذلك فلما لم يكن هذا كذلك علمنا أن الله تعالى جعل ظلمهم سببا لأن حرم عليهم ما حرم ولم يجعل ظلمنا سببا لأن يحرم علينا مثل ذلك فصح أنه يفعل ما يشاء في مكان ما من أجل شيء ما ولا يفعل ذلك في مكان آخر من أجل مثل ذلك الشيء بعينه وهذا بطلان ما ادعاه خصومنا من العلل القياس نصا

فصل في ذكر طرف يسير من تناقضهم في التعليل

وقال تعالى لموسى عليه السلام {إني أنا ربك فخلع نعليك إنك بلواد لمقدس طوى} فكان كون موسى عليه السلام بالوادي المقدس سببا لخلع نعليه ونحن نكون بذلك الوادي وبكل مكان مقدس كمكة والمدينة وبيت المقدس ولا يلزمنا خلع نعالنا ولو كان دخول الوادي المقدس علة للخلع للزمنا ذلك وقال تعالى {إن لله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما لذين آمنوا فيعلمون أنه لحق من ربهم وأما لذين كفروا فيقولون ماذآ أراد لله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا لفاسقين} قال أبو محمد هذه آية كافية إنه لا يحل التعليل في شيء من الدين ولا أن يقول قائل لم حرم هذا وأحل هذا فقد صح قولنا إن قول القائل حرم البر بالبر لأنه مكيل أو أنه مدخل أو أنه مأكول بدعة نعوذ بالله منها فصل في تناقض قولهم في التعليل والقياس قال أبو محمد ونحن نورد إن شاء الله تعالى طرفا يسيرا من تناقضهم في التعليل لندل بذلك عن إفساد مذهبهم وإلا فتناقضهم لو تتبع لدخل في أزيد من ألف ورقة ولعل الله تعالى يعيننا على تقصي ذلك في كتاب الإعراب إن شاء الله تعالى فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها فكان يلزمهم أن يجعلوا ما حرم أكله محرما بيعه لكنهم لم يفعلوا ذلك بل كثير منهم يبيحون بيع الزبول ولا خلاف أن أكل الحيوان حيا كما هو محرم ولا خلاف في جواز بيع أكثره وكذلك فعلوا في قوله صلى الله عليه وسلم في الاستحاضة فإنه عرق فكان يلزمهم أن يجعلوا كل عرق يسيل من الجسد في مثل حكم المستحاضة كما جعلوا

الميعان في الزيت علة لتحريمه إن مات فيه فأر قياسا على السمن لكنهم تناقضوا في ذلك وهذا إجماع منهم على ترك الحكم بالعلل والقياس وهكذا يكون الباطل مرة مصحوبا ومرة متروكا وصح قولنا إن ما كان سببا في مكان نص عليه لحكم ما فلا يكون سببا في مكان آخر لم ينص عليه لمثل ذلك الحكم فقالوا معنى التعليل هو إجراء صفة الأصل في فروعه قال أبو محمد وهذا قول فاسد لأن جميع أحكام الشريعة كلها أصول فإن كانوا عنوا بذلك أن الصلاة جملة أصل جامع ثم النوازل فيها فروع إنما هي أجزاء من الصلاة ولا تسمى أجزاء الشيء فروعا له لأن الفرع غير الأصل والأجزاء ليست غير الكل فبطل ما موهوا به من تقسيمهم الشريعة على فروع وأصول وصح أن جميع أحكام الشريعة كلها سواء وأصول ولا يوجد شيء منها إلا عن قرآن أو عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن إجماع ونص تعالى عن ألا يقرب المشركون المسجد الحرام فقال بعضهم إن علة ذلك تطهير المسجد الحرام منهم فأجروا ذلك في كل مسجد فكان يلزمهم وإذا لزم الحج إلى مكة أن يلزم إلى المدينة لأن مسجد المدينة والمدينة عند القائلين بما ذكرنا أفضل من مسجد مكة ومن مكة وهذا إن طردوا فيه أصولهم كفروا فإذا ادعوا الإجماع المانع لهم من ذلك قيل لهم لا عليكم قيسوا إيجاب جزاء الصيد بالمدينة وحرمه فقد قال بذلك بعض التابعين من الأئمة وقيسوا الجزاء فيما حرم قطعة من شجر الحرم على الجزاء فيما حرم صيده من صيد الحرم فإن لم يفعلوا فقد تناقضوا وتركوا إجراء العمل وتركوا القياس وتركوا أن يتعدوا النص ولو فعلوا هذا في كل مسائلهم لاهتدوا ولنجوا من ضلال القياس وفتنته

وقالوا إن علة الحدود الزجر والردع قال أبو محمد كذبوا في ذلك إذا كان ذلك لما جاز العفو في قتل النفس ولم يجز العفو في الزنى بالأمة وفي السرقة ولو كان ذلك لما كانت السرقة أولى بوجوب حد محدود فيها من الغضب ولا كانت الخمر أولى بذلك من لحم الخنزير ومن الربا ولا كان الزنى أولى بذلك من القذف بالكفر أو بترك الصلاة ولا كان الزنى بذلك أولى من ترك الصلاة فظهر كذب دعواهم في ذلك والحمد لله رب العالمين وقالوا إن علة القصر في الصلاة في السفر إنما هي المشقة فلذلك حدت بيوم ويومين وثلاثة أيام على اختلافهم في ذلك قال أبو محمد وهذا أمر كان ينبغي لأهل التقوى ألا يمروه على خواطرهم فكيف أن يحلوا به ويحرموا ويتركوا له قول ربهم تعالى فأول ذلك الكذب البحث أن أصل القصر المشقة ولو كان ذلك لكان المريض المدنف المثبت العلة كالمبطون والذي به ناقض الحمى والموم والسل ممن تثقل عليه الكلمة يسمعها ويصعب عليه رد الجواب بكلمة فما فوقها أولى بالقصر العظيم مشقة الصلاة عليه وتكلف القراءة فيها والإيماءة والتشهد صرف ذهنه إليها من المراكب في عمارية ومعه مائة عبد يتمشى في أيام الربيع على ضياعه من روضة إلى نهر ومن نهر إلى صيد ومن صيد إلى نزهة ومن كل منظر بديع إلى منظر حسن ينزل إذا شاء ويرجل إذا شاء إلا أنه من ذلك قاصد مسافة أكثر من ثلاثة أيام من وطنه وهذا ما لا يحيل على صبي له أدنى فهم فكيف على من يتعاطى التحريم والتحليل ويستدرك على

ربه تعالى أشياء لم يذكرها ربه تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم إن هذا لهو الضلال المبين هذا والمريض والمسافر قد سوى الله عز وجل بينهما في الفطر في رمضان وفي إباحة متيمم فهلا ساوى القياسيون المعللون بينهما في قصر الصلاة للذي المريض أحوج عليه من المسافر لأنه أكثر مشقة منه وأحوج إلى الراحة فأين قياسهم وعللهم ثم هلك لو صح ما قالوه إن العلة في قصر الصلاة مشقة السفر وأعوذ بالله من ذلك فأي تمام للمشقة في ثمانية وأربعين ميلا في سهل وأمن وظلال أشجار وفي أيام الربيع في آذار وفي نيسان ولفارس مريح قوي على سبعة وأربعين ميلا في أوعار وشعار وفي حمارة القيظ في تموز وفي خوف شديد لراجل مكدود كبير السن ضعيف الجسم فأباحوا للفارس الذي ذكرنا أن يفطر في رمضان ويقصر الصلاة ومنعوا الرجل المكدود في الوعر والحر من ذلك وقالوا لا بد له من الصيام والإتمام أفترى الميل الواحد هو الذي حصلت فيه المشقة أو ترى نصف اليوم الذي به تمت الثلاثة هو الذي حصلت المشقة دون اليومين ونصف يوم هذا لا يحتمل مثله إلا من الله تعالى الذي لا يسأل عما يفعل وأما نحن فنسأل أو من رسوله صلى الله عليه وسلم المبين مراد ربه تعالى ثم لم يكفهم إلا أن ادعوا على العقل هذا البهتان لأنهم عند أنفسهم أهل الحكمة في الشريعة بما توجبه عقولهم وقد موه بعضهم بأنه إنما تعلق في ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة يوما وليلة إلا مع ذي محرم قال أبو محمد إن احتجاجهم بهذا الحديث في إيجاب الفطر والقصر والقريب من تحديدهم المذكور فليت شعري أي شيء في منع المرأة من السفر

يوما وليلة مما يوجب القصر في يوم وليلة ومشي يوم وليلة يختلف ففي أيام كانون الأول لا يكمل الراحل ثلاثين ميلا إلى الليل وفي أيام صدر حزيران في طيب الهواء وطول الأيام والشمس في آخر الجوزاء وأول السرطان يكمل أربعين ميلا والركبان كذلك والسير يختلف فمن أين لهم أن يجدوا اليوم والليلة بأربعة برد وقد علمنا أن بين مشي شيخ ضعيف وحمار أعرج وبين مشي العساكر وبين مشي الرفاق وبين مشي المسافر الراكب دابة مطيقة وبين مشي البريد في اختلاف الأزمان أشد الاختلاف وأعظم التباين فكيف يستجيز ذو لب أن يجد ما يقصر فيه ويفطر بثلاثة أيام اتو اليوم التام ولا خلاف أن ما تمشيه العساكر في أربعة أيام الشتاء يمشيه البريد في يوم واحد في آخر الربيع وأول الصيف وهذا معروف بالمشاهدة وأيضا فإن ذلك الحديث قد جاء بألفاظ شتى ففي بعضها أكثر من ثلاثة أيام وفي بعضها ثلاثة أيام وفي بعضها ليلتين وفي بعضها يوم وليلة وفي بعضها يوم وفي بعضها بريد وفي بعضها لا تسافر على الإطلاق دون تحديد شيء أصلا فبطل احتجاجهم به فإن تعلقوا بابن عمر وابن عباس فقد خالفهم ابن مسعود وعائشة ودحية بن خليفة وشرحبيل بن السمط وغيرهم من الصحابة نعم وابن عمر نفسه فقد صح عنه القصر في الأميال اليسيرة جدا وفي الميل وفي سفر ساعة وعللوا الشفعة في الأرضين والحكم على الشريك يعتق شقصه في العبد والأمة يعتق الباقي بأن ذلك الضرر بالشريك

وتناقضوا في ذلك في قولهم لا شفعة في الجوهر ولا في العبيد ولا في الحيوان ولا في الثياب ولا في السيوف وقد علم كل ذي عقل أن الضرر في ذلك بالشركة وانتقال الملك بالصدقة أو البيع أعظم من الضرر في الأرضين فهلا قاسوا ههنا كما قاس المالكيون الشفعة في التين والرطب على الشفعة في الأرضين خوف الضرر الداخل على الشريك وهلا قاسوا هبة الشريك على بيعه فيقولوا شريكه أولى بالهبة لئلا يدخل عليه ضرر فإن قالوا لم يرد أن يهبه قيل لهم وكذلك لم يرد أن يبيع منه فإن رجعوا إلى النص فقد امتدوا ولزمهم ألا يقيسوا أصلا ولا يتعدوا حدود الله في النصوص ولا يقيسوا الشفعة في التين والثمار دون سائر العروض على وجوبها في الأرضين والأشجار عندهم وهلا قاسوا من حبس شقصا له في أرض مشارعه على من أعتق شقصا له في عبد لاجتماعهما في الضرر ولكن هكذا يفضح الباطل أهله وكذلك يكون تناقض أهله وهل قاسوا المعسر بعتق شقصه على الموسر بعتق شقصه لأن الضرر في ذلك واحد وهم يقيسون عليه كل من أتلف شيئا فيوجبون عليه فيما عدا المكيلات والموزونات القيمة لا المثل قالوا نفعل ذلك قياسا على تقويم الشقص على المعتق فهلا قوموا على المعسر إذا أعتق كما يقومون عليه فيما أتلف ويتبعه به دينا قال أبو محمد وفيما ذكرنا كفاية وقلما تخلو لهم مسألة من مثل ما أوردنا وبالله تعالى التوفيق وقال بعض حذاقهم قد تكون علة الخصم علة لخصمه عليه في إبطال قوله مثال ذلك أن يقول الحنفي والمالكي لما كان الوقوف بعرفة لا يصح

فصل في قولهم الحكيم لا يفعل إلا لعلة صحيحة والسفية يفعل لا لعلة

إلا بمعنى آخر يقترن إليه وهو الإحرام وجب ألا يصح الاعتكاف إلا بمعنى آخر يقترن إليه وهو الصيام فيقول الشافعي لما كان الوقوف بعرفة لا يقتضي الصيام وجب أن يكون الاعتكاف لا يفتقر إلى الصيام وعلتهم كلهم فيما ذكروا أن الوقوف بعرفة والاعتكاف لبث وإقامة في موضع مخصوص قال أبو محمد ومثل هذا لا يعجز أن يأتي به من استجاز الهذيان في حال صحته من البرسام ولو تتبعنا ترجيحاتهم العلل لأوردنا من ذلك مضاحك تغني عن كل ملهى وحسبنا الله ونعم الوكيل ومن تأمل كتب متأخريهم ومناظراتهم وتكلفهم إخراج العلل لكل حكم مختلف فيه أو مجتمع عليه في الشريعة كان فيه نص يعرفونه أو لم يعرفوا فيه نصا رأى كلاما لا يأتي بمثله سالم لدماغ أصلا إلا أن يكون سالكا سبيل المجون والسخافة ونعوذ بالله من الخذلان فصل الحكيم إلا لعلة قال أبو محمد وقالوا الحكيم بيننا لا يفعل إلا لعلة صحيحة والسفيه هو الذي يفعل لا لعلة فقاسوا ربهم تعالى على أنفسهم وقالوا إن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لمصالح عباده وراموا بذلك إثبات العلل في الديات قال أبو محمد وتكاد هذه القضية الفاسدة التي جعلوها عمدة لمذهبهم وعقدة تنحل عنها فتاويهم تكون أصلا لكل كفر في الأرض وأما على التحقيق فهي أصل لقول الدهرية الذين جعلوا برهانهم في إبطال الخالق لما رأوا الأمور لا تجري على المعهود فيما يحسن في عقولهم وأنه لا بد من علة للمفعولات وإذ لا بد من علة فلا بد لتلك العلة من علة وهكذا أبدا حتى يوجبوا كون أشياء لا أوائل لها وهي أيضا أصل لقول من قال إن الفاعل للعالم إنما هو النفس وأما

الله تعالى فيحل عن أن يحدث هذه الأقذار في العالم وهذا الظلم الظاهر من استطالة بعض الحيوان على بعض وهي أيضا أصل لقول من قال إن للعالم لم يزل وخالقه تعالى لم يزل لأنهم جعلوا علة الخلق وجوده تعالى ووجوده لم يزل فخلقه لم يزل وهي أيضا أصل لقول من قال بأن العالم له خالقان من المانية والديصانية لأنهم قالوا تعالى الله عن أن يفعل شيئا من غير الحكمة ولغير مصالح عباده فصح بذلك عندهم أن خالق السفه والشر ومضار العباد خالق آخر تعالى عن ذلك علوا كبيرا وهي أيضا أصل لقول من قال بالتناسخ لأنهم قالوا محال أن يعذب الحكيم من لم يذنب وأن يفعل شيئا إلا لعلة ومحال أن يعذب أقواما ليعظ آخرين أو ليجازي بذلك آخرين أو ليجازيهم بذلك وهو قادر على المجازاة بلا أذى ذلك هذا عبث فيما بيننا فلما رأيناه تعالى يعذب الأطفال بالجدري والقروح والجوع ويسلط بعض الحيوان على بعض علمنا أن ذلك لذنوب تقدمت لأنفس ذلك الحيوان وأولئك الصبيان وأنهم قد كانوا بالغين عصاه قبل أن تنسخ أرواحهم في أجسام الصبيان والحيوان وهي أيضا أصل لقول من أبطل النبوات كالبراهمة ومن اتبعها فإنهم قالوا ليس من الحكمة أن يبعث الله تعالى نبيا إلى من يدري أنه لا يؤمن به قال أبو محمد ثم حسدتهم المعتزلة على هذه القضية فأخرجوا على حكم الله تعالى وعن خلقه وقدرته وجميع أفعال العباد فضلوا ضلالا بعيدا وأثبتوا خالقين كثيرا غير الله تعالى وسلم الله تعالى من هذه البلية أهل الإثبات فنفس عليهم إبليس اللعين عدو الله السلامة فبغي لهم الغوائل ونصب لهم الحبائل ووسوس

لهم القول بالعلل في الأحكام فوقعوا في القضية الملعونة التي ذكرنا وأصحب الله تعالى عصمته منها أصحاب الظاهر فثبتوا على الجادة المثلى وتبرؤوا إلى الله تعالى من أن يتعقبوا عليه أحكامه أو أن يسألوه لم فعل كذا أو أن يتعدوا حدوده أو أن يحرموا غير ما حرم ربهم أو أن يوجبوا غير ما أوجب تعالى أو أن يحلوا غير ما أحل عز وجل ولم يتجاوز ما أخبرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم فاهتدوا بنور الله التام الذي هو العقل الذي به تعرف الأمور على ما هي عليه ويمتاز الحق من الباطل ثم بنص القرآن وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للدين إذ لا سبيل إلى السلامة في الآخرة إلا بهذين السبيلين والحمد لله رب العالمين وهو المسؤول أصحاب الهداية حتى نلقاه على أفضل أحوالنا آمين قال أبو محمد وكل هذه المقالات الفاسدة التي ذكرنا قد بينا بطلانها بالبراهين الضرورية في كتابنا المرسوم بكتاب الفصل في الملل والنحل والحمد لله رب العالمين ونقول في ذلك ههنا قولا كافيا يليق بغرض كتابنا هذا إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق إن أول ضلال هذه المسألة قياسهم الله تعالى على أنفسهم في قولهم إن الحكم بيننا لا يفعل شيئا إلا لعلة فوجب أن يكون الحكيم عز وجل كذلك قال أبو محمد وهم متفقون على أن القياس هو تشبيه الشيء بالشيء فوجب أنهم مشبهون الله تعالى بأنفسهم وقد أكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله {فاطر لسماوات ولأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن لأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو لسميع لبصير} ولو أن معارضا عارضهم فقال لما كنا نحن لا نفعل إلا لعلة وجب أن يكون تعالى بخلافنا فوجب ألا يفعل شيئا لعلة لكان أصوب حكما

وأشد اتباعا لقوله {فاطر لسماوات ولأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن لأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو لسميع لبصير} وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإنهم بهذه القضية الفاضحة قد أدخلوا ربهم تحت الحدود والقوانين وتحت رتب متى خالفها لزمه السفه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذا كفر مجرد دون تأويل ولزمهم إن طردوا هذا الأصل الفاسد أو يقولوا لما وجدنا الفعل منا لا يكون إلا جسما مركبا ذا ضمير وفكرة وجب أن يكون الفعال الأول جسما مركبا ذا ضمير وفكرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا قال أبو محمد فهذا يلزمهم كما ذكرنا ثم نبين بالبرهان الضروري بطلان قضيتهم من غير طريق إلزامهم طردها فنقول بالله تعالى التوفيق إن الحكيم منا إنما صار حكيما لأنه انقاد لأوامر ربه تعالى ولتركه نواهيه فهذا هو السبب الموجب على الحكيم منا ألا يفعل شيئا إلا لمنفعة ينتفع بها في معاده أو لمضرة يستدفعها في معاده وأما الباري تعالى فلم يزل وحده ولا شيء معه ولا مرتب قبله فلم يكن على الله تعالى رتبة توجب أن يقع الفعل منه على صفة ما دون غيرها بل فعل ما فعل كما شاء ولم يفعل ما لم يفعل كما لم يشأ فبطل تشبيههم أفعال الحكيم منا بأفعال الباري تعالى وأيضا فإنا لم نسم الله تعالى حكيما من طريق الاستدلال أصلا ولا لأن العقل أوجب أن يسمى تعالى حكيما وإنما سميناه حكيما لأنه سمى بذلك نفسه فقط وهو اسم علم له تعالى لا مشتق ويلزم من سمى ربه تعالى حتما من طريق الاستدلال أن يسميه عاقلا من طريق الاستدلال وقد بينا فساد هذه الطريقة وبطلانها وضلالها في كتاب الفصل فبطلت قضيتهم الفاسدة جملة وصح أنها دعوة فاسدة منتقضة وأما قولهم إنه تعالى يفعل الأشياء لمصالح عباده فإن الله تعالى أكذبهم

بقوله {وإما تعرضن عنهم بتغآء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} فليت شعري أي مصلحة للظالمين في إنزال ما لا يزيدهم إلا خسارا بل ما عليهم في ذلك إلا أعظم الضرر وأشد المفسدة ولقد كان أصلح لهم لو ينزل وما أراد الله تعالى بهم مصلحة قط ولكنهم من الذين قال تعالى فيهم {وترى لشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات ليمين وإذا غربت تقرضهم ذات لشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات لله من يهد لله فهو لمهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} قال أبو محمد ويقال لهم المصلحة جميع عباده فعل تعالى ما فعل أم لمصلحة بعضهم فإن قالوا لمنفعة جميعهم كابروا وأكذبهم العيان لأن الله تعالى لم يبعث قط موسى عليه السلام لمنفعة فرعون ولا لمصلحته ولا بعث محمدا صلى الله عليه وسلم لمنفعة أبي جهل ولا لمصلحته بل لمضرتهما ولفساد آخرتهما ودنياهما وهكذا القول في كل كافر لو لم يبعث الله من كذبوه من الأنبياء لكان أصلح لدنياهم وآخرتهم وأيضا فلا شيء في العالم فيه مصلحة لإنسان إلا وفيه مضرة لآخر فليت شعري ما الذي جعل الصلاح على زيد بفساد عمرو حكمه وكل من فعل هذا بيننا فهو سفيه بل هو أسفه السفهاء والله تعالى يفعل كل ذلك وهو أحكم الحكماء فيلزمهم على قياسهم الفاسد وأصلهم الفاضح أن يسفهوا ربهم تعالى لأنه عز وجل يفعل ما هو سفه بيننا لو فعلناه نحن وقد وجدنا من أعرى بين الحيوانات بيننا حتى تتقابل كالديكة والكباش والقبج وقتلها لغير أكل أنه غاية السفه والباري تعالى يفعل كل ذلك ويقتل الحيوانات لغير أكل ويسلط بعضها دون مثوبة للقاتل

منهما ولا المقتول وهو أحكم الحاكمين وهذا خلاف الرتبة بيننا فبطل قوله إن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لمصالح عباده وصح بالضرورة أنه يفعل ما يشاء لصلاح ما شاء ولفساد ما شاء ولنفع من شاء ولضر من شاء ليس ههنا شيء يوجب إصلاح من صلح ولا إفساد من أفسد ولا هدي من هدى ولا إضلال من أضل ولا إحسان إلى من أحسن إليه ولا الإساءة إلى من أساء إليه لكن فعل ما شاء {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وهم دائبا يسألون ربهم لم فعلت كذا كأنهم لم يقرؤوا هذه الآية نعوذ بالله من الخذلان ونجده عز وجل قد حبب بين زوجين حتى أطاعاه وحبب بين آخرين حتى عصياه واشتغلا بما هما فيه عن الصلاة في أوقاتها وجذم صالحا وطالحا وسلم صالحا وطالحا وابتلى قوما فصبروا وابتلى قوما فكفروا وعافى قوما فصبروا وشكروا وعافى آخرين فبطروا وكفروا وعمر صالحا وصالحا أقصى العمر واخترم صالحا وطالحا في حداثة السن وجعل عيسى عليه السلام نبيا حين سقوطه من بطن أمه وآتى يحيى الحكم صبيا وبسط لفرعون أنواع الغرور حتى قال أنا ربكم الأعلى وخلق قوما ألباء فهماء كفارا كالفيومي اليهودي وأبي ريطة اليعقوبي وقوما ألباء فهماء مسلمين وقوما بلداء كفارا وقوما بلداء مسلمين فبأي شيء استحق عنده هؤلاء أن يرزقهم الفهم وهؤلاء أن يمنعهم إياه فإن قالوا لو رزق بلداء الكفار الفهم لكانوا ضررا على المسلمين أريناهم من ذكرنا ممن كان ضررا عليهم فصح تناقضهم وأكذبهم الباري عز وجل بقوله إنما نملى لهم ليزدادوا إثما وبقوله تعالى أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات فأخبر تعالى أنه إنما أملى لهم لضررهم لا لنفهم ولا لمصلحتهم وكذلك يكذبهم أيضا إنما يريد الله أن يعذبهم

في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون وكذلك قال تعالى أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم فأبان الله تعالى كذبهم في قولهم إن الله تعالى إنما يفعل الشرائع لمصالح عباده وأيضا فقد كان أصلح لهم أن يدخلهم الجنة دون تكليف عمل ولا مشقة واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننساأها نأت بخير منها أو مثلها قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن الناسخة إنما صارت خيرا لنا معشر المؤمنين بها خاصة إذ جعلها الله تعالى خيرا لنا لا قبل ذلك ولم يكن قط هنا سبب يوجب أن تكون خيرا لنا إلا أنه تعالى شاء ذلك بلا سبب ولا علة أصلا ويقال لهم وبالله تعالى التوفيق متى كانت الناسخة خيرا لنا إذ نسخ بها ما تقدم أو قد كنت خيرا لنا قبل أن يسنخ ما تقدم قإن قالوا كانت خيرا قبل أن يخاطبنا بها فقضوا أصلهم وأثبتوا أنه تعالى قد منعنا ما هو خير لنا مدة طويلة وإن قالوا بل صارنت خيرا لنا إذا نسخت هبا ما تقدم وإذ خاطبنا وأبطل بها الرتبة الأولى قيل لهم وما الذي أوجب أن تصير حينئذ خيرا لنا وما الذي أوجب أن تنتقل الرتبة الأولى عن كونها خيرا لنا أعلة متقدمة حكمت على البارى تعالى بذلك أم أنه شاء ذلك فقط فإن قالوا بل علة أوجبت ذلك على البارى عز وجل كفروا بإجماع الأمة وجعلوا الله تعالى مدبرا مصرفا تعالى الله عن ذلك

فإن قالوا بل إنه شاء ذلك فقط رجعوا إلى أنه تعالى شاء ما فعل بلا علة أصلا ولم يشأ ما لم يفعل وأنه تعالى يريد ضلال من ضل ولم يرد به الهدى ولا المصلحة أصلا وبالله تعالى التوفيق وقد بين تعالى ذلك بقوله وفي آذانهم وقرا وبقوله تعالى ختم الله على قلوبهم فليت شعرى أي صلاح إرادة الله تعالى لمن ختم على قلبه وجعل في أذنيه وقرا عن قبول الحق نعوذ بالله من أن يريد منا ما أراد بهؤلاء ونقول لمن قال إنه تعالى أراد صلاحهم أن يدعو ربه أن يريد به من الصلاح ما أراد بهم ونجده تعالى خلق الكلب مضروبا به المثل في الرذالة والخنزير رجسا وخلق الخيل في نواصيها الخير فأي علة وأي سبب أوجب على هذه الحيوانات أن يرتبها هكذا وما الذي أوجب أن يخترع بعضها نجسا وبعضها مباركا وبأي شيء استحقت ذلك قبل أن يكون منها فعل أو قبل أن توجد وأي علة أوجبت أن يخلق ما خلق من الأشياء على عدد ما دون ان يخلق أكثر من ذلك العدد أو أقل وأن يخلق الخلد أعمى والسرطان صارفا بصره أمام ووراء أي ذلك شاء والأفعى أضر من الخلد ولها بصر حاد فإن قالوا خلقها لتعتبر بها وعذب الأطفال بالأمراض ليعوضهم أو ليأخر آباءهم فهذا كله فاسد لأنه قد كان يعتبر ببعض ما خلق كالاعتبار بكله ولو زاد في الخلق لكان الاعتبار أكثر فلزم التقصير على قولهم تعالى الله على ذلك ولا فساد فيما بيننا أعظم من فعل من عذب آخر ليعطيه

على ذلك مالا أو من فعل من عذب إنسانا لا ذنب له يعظ به آخر أو ليثبت على ذلك آخر وكل هذا يفعله البارى تعالى وهو أحكم الحاكمين فبطل قولهم إن الحكيم لا يفعل شيئا إلا لعلة قياسا على ما بيننا وأي فرق بين ذبح صغار الحيوان لمنافعنا وبين ذبح صغارنا لمنافعنا فيذبح ولد عمرو لمصلحة زيد إلا أن الله تعالى شاء فأباحه ولم يشأ هذا فحرمه ولو أحل هذا وحرم ذلك لكان عدلا وحكمة وإذا لم يفعله تعالى فهو سفه ولا علة لكل ذلك أصلا وقد أباح تعالى سبى نساء المشركين وأطفالهم واسترقاقهم قهرا وتملكنا رقابهم وأخذنا أموالهم غصبا لذنوب وقعت من آبائهم والدليل على أن ذلك لذنوب آبائهم أن آبائهم لو أسلموا لحرم علينا سبى أولادهم وتملكهم فما الذي جعل الأبناء مؤاخذين بذنوب غيرهم أو ما الذي جعل مصلحة أولى من مصلحة ابائهم وكل لا ذنب له لو فعل ذلك فاعل بيننا بغير نص من الله تعالى أما كان يكون أظلم الظالمين وأسفه السفهاء

الباب الموفي أربعين وهو في بيان الاجتهاد وحكم المجتهد

الباب الأربعون وهو باب الكلام في الاجتهاد ما هو وبيانه ومن هو معذور باجتهاده ومن ليس معذورا به ومن يقطع على أنه خطأ عند الله تعالى فيما أراد إليه اجتهاده ومن لا يقع على أنه مخطىء عند الله عز وجل وإن خالفناه قال أبو محمد علي بن أحمد رحمه الله لفظة الاجتهاد مما يجب معرفة تفسيرها لأن أكثر المتكلمين في الاجتهاد وحكمه لا يعلمون معنا فنقول وبالله تعالى التوفيق إن حقيقة بناء لفظة الاجتهاد أنه افتعال من الجهد وحقيقة معناها أنه استنفاد الجهد في طلب الشيء المرغوب إدراكه حيث يرجى وجوده فيه أو حيث يوقن بوجوده فيه هذا مالا خلاف بين أهل اللغة فيه والجهد بضم الجيم الطاقة والقوة تقول هذا جهدي أي طاقتي وقوتي والجهد بفتح الجيم سوء الحال وضيقتها تقول القوم في جهد أي في سوء حال فإذ ذلك كذلك فالاجتهاد في الشريعة هو استنفاد الطاقة في طلب حكم النازلة حيث يوجد ذلك الحكم ما لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالديانة فيه قال أبو محمد وإنما قلنا في تفسير الاجتهاد العام حيث يرجى وجوده فعلقنا الطلب بمواضع الرجاء وقلنا في تفسير الاجتهاد في الشريعة حيث يوجد ذلك الحكم فلم نعلقه بالرجاء لأن احكام الشريعة كلها متيقن أن الله تعالى قد بينها بلا خلاف ومن قال إن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يبن لنا الشريعة التي أراها الله تعالى منا وألزمنا إياها فلا خلاف في أنه كافر فأحكام الشريعة كلها مضمونة الوجود لعامة العلماء وإن تعذر وجود بعضها على بعض الناس فمحال ممتنع أن يتعذر وجوده على كلهم لأن الله تعالى لا يكلفنا ما ليس في وسعنا ما نعذر وجوده على الكل فلم يكلفنا الله تعالى إياه

قط قال الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقال تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وبالضرورة ندرى أي تكليف أصابه مالا سبيل إلى وجوده حرج فصح قولنا وبالله تعالى التوفيق ثم اتفق العلماء على أن القرآن وما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قاله أو فعلعه أو أقره وقد علمه مواضع لوجود أحكام النوازل واختلفوا في نقل السنن على ما ذكرناه قبل وبينا البرهان هنالك بحول الله تعالى وقوته على وجوب قبول الخبر المسند بنقل العدول ثم اختلفوا فقالت طائفة لا موضع البتة لطلب حكم النوازل من الشريعة ولا وجود إلا هذه المعادن التي ذكرنا أما نص على اسم تلك النازلة وأما دليل منها على حكم تلك النازلة لا يحتمل إلا وجها واحدا وهذا قول جميع أهل الإسلام قطعا وإن اختلفوا في الطرق التي توصل إلى معرقة السنن وهو قول جميع اصحابنا الظاهريين وبه نأخذ وقد بينا أقسام الدليل المذكور فيما سلف من ديواننا هذا وحضرناها هنالك والحمد لله رب العالمين وقال آخرون بل ههنا مواضع أخر يطلب فيها حكم النازلة وهي الخبر المرسل وقال الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة إذا اشتهر وقال آخرون وإن لم يشتهر وقول الإمام الوالي منهم ودليل الخطاب والقياس والرأى المجرد والاستحسان وقول أكثر العلماء وعمل أهل المدينة والأخذ بقول عالم وإن كان له مخالف مثله وقد شرحنا معانى هذه الأسماء وأبطلنا الحكم بكلها أو بشيء منها بالبراهين الضرورية فيما سلف من كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين فأما تعلق قوم فيما اعتقدوه من أحكام بعض النوازل بقول صاحب له مخالفون أو بقول تابع أو بقول فقيه من الفقهاء المتقديم وإن خالفه غيره من أهل العلم فهذا هو التقليد الذي قد تكلمنا في إبطاله فيما سلف

من كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد وليس للمتكلمين في الديانة اليوم قول يكون عندهم اجتهادا غير ما ذكرنا وقد كانت أقوال في ذلك لقوم من أهل الكلام قد درست مثل قول بعضهم إن ما وقع في النفس من أول الفكر فهو الواجب ان يقال به وقال بعضهم الواجب أن يقال بالأثقل لأنه خلاف الهوى وقال بعضهم بل الأخف منها لقول الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر قال أبو محمد وهذه أقوال فاسده لأنها كلها دعاوى يعارض بعضها بعضا وكل ما ألزمنا الله تعالى فهو يسر وإن نقل علينا وكل شريعة تتكلف فهى خلاف الهوى لأن تركها كان موافقها للهوى لأنه قد يقع في أوائل الفكر الوسواس وقال تعالى ذاما لقوم شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ومن قطع بشيء مما يقع في نفسه من الدين فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وقال تعالى قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فنص تعالى على أن من لا برهان له فليس بصادق وقال تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم فهذا يدفع قول من قال بالأخف وقال تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وهذا يدفع قول من قال بالأثقل وصح أنه لا لازم إلا ما ألزمنا الله تعالى وسواء وقع في النقس أو لم يقع وسواء كان أخف أو أثقل قال أبو محمد وإذ قد انحصرت وجوه الاجتهاد إلى ما قد وضحنا براهينه من القرآن أو الخبر المسند بنقل الثقات إلى النبي صلى الله عليه وسلم أما

نصا على الإسم وإما ليلا من النص لا يحتمل إلا معنى واحدا وسقط كل ما عداها من الوجوه التي قد حصرت فالواجب أن ننظر في أقسام المجتهدين فنظرنا في ذلك فوجدنا أقسام المجتهدين بقسمة العقل الضرورية لا تخرج عن ثلاثة أقسام عندنا وأما عند الله تعالى فقسمان لا ثالث لهما فالقسمان اللذان عند الله تعالى إما مصيب أو مخطىء لا بد أن يكون كل مجتهد عند الله تعالى واقعا في التعيين إما مصيب وإما مخطىء فقد أوضحنا فيما سلف من كتابنا هذا البراهين الضرورية على أن الحق لا يكون في قولين مختلفين في حكم واحد في إنسان واحد في وجه واحد وأما الثلاثة أقسام التي عندنا فمصيب تقطع على صوابه عند الله عز وجل أو مخطىء نقع على خطئه عند الله عز وجل أو متوقف فيها لا ندري أمصيب عند الله تعالى أو مخطىء وإن أيقنا أنه في أحد الحيزين عند الله عز وجل بلا شك لأن الله تعالى لا يشك بل عنده علم حقيقة كل شيء ولكنا نقول مصيب عندنا أو مخطىء عندنا والله أعلم أو نتوقف فلا نقول إنه مخطىء ولا مصيب وإنما هذا فيما لم يقم على حكمه عندنا دليل أصلا وما كان من هذه الصفة فلا تحل الفتيا فيه لمن لم يلح له وجهه إذ لا شك في أن عند غيرنا بيان ما جهلناه كما أن عندنا بيان كثيرا مما جهله غيرنا ولم يعر بشر من نقص أو نسيان أو غفله فإذا قال البرهان عند المرء على صحة قوله ما قياما صحيحا فحقه التدين به والعمل به والدعاء إليه والقطع أنه الحق عند الله عز وجل لما ذكرنا قبل وليس من هذا الحكم بالشهادة من العدلين وقد يكونان في باطن أمرهما عند الله تعالى كاذبين أو مغفلين وإذ لم يكلفنا الله تعالى معرفة باطن ما شهدا به ولكن كلفنا الحكم بشهادتهما

وقد عملنا أنه لا يمكن أن يخفى الحق في الدين على جميع المسلمين بل بل لا بد أن تقع طائفة من العلماء على صحة حكمه بيقين لما قدمنا في كتابنا في هذا من أن الدين مضمون بيانه ورفع الإشكال عنه بقول الله تعال تبيانا لكل شيء وبقوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم ولكن قد قال الله تعالى وليس عليكم جناح فيما اخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم فصح بالنص أن الخطأ مرفوع عنا فمن حكم بقول ولم يعرف أنه خطأ وهو عند الله تعالى خطأ فقد أخطأ ولم يتعمد الحكم بما يدري أنه خطأ فهذا لا جناح عليه في ذلك عند الله تعالى وهذه الآية عموم دخل فيه المفتون والحكام والعاملون والمعتقدون فارتفع الجناح عن هؤلاء بنص القرآن فيما قالوه أو عملوا به مما هم مخطئون فيه وصح أن الجناح إنما هو على من تعمد بقلبه الفتيا أو التدين أو الحكم أو العمل بمن يدرى أنه ليس حقا أو بما لم يقدم إليه دليل أصلا وصح بهذه الآية أن من قام عنده برهان على بطلان قول فتمادى عليه فهو في جناح لأنه قد تعمد بقلبه ذلك وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإذا اجتهد فأصاب فله أجران وقد ذكرناه بإسناده فيما سلف من كتابنا هذا فأغنى عن إعادته فنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الحاكم إذا أخطأ في اجتهاده فله أجر فيما أداه اجتهاده إلى أنه حق عنده وأسقط عنه بذلك الإثم وإن كان مخطئا في الحقيقة عند الله تعالى قال أبو محمد واعتقاد الشيء والعمل به والفتيا به حكم به فدخل هؤلاء تحت لفظ الحديث المذكور وعمومه فصح ما ذكرناه وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ثم ينقسم المخطىء المجتهد قسمين لا ثالث لهما إما مخطىء

معذور كما قلنا وإما مخطىء غير معذور على ما شهد به قول الله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم أن المخطىء المعذور هو الذي يتعمد الخطأ وهو الذي يقدر أنه على حق اجتهاده وأن المخطىء وغير المعذور هو من تعمد بقلبه ما صح عنده أنه خطأ أو قطع بغير اجتهاده

فإن قال قائل فإنكم على هذا يلزمكم أن كل من قال من الصحابة أو من التابعين وفقهاء الأمة وخيارها بقول يخالف قولكم في كل مسألة فإنه داخل فيما ذكرتم من التكفير أو التفسيق أو الكذب وفي هذا ما فيه قلنا هذه دعوى منكم كاذبة بل هو اللازم لكم ولكل من قال إن الحق في واحد من الأقوال لأنكم في قوله لكم تزعمون في نصركم إياها أنها موافقة لما جاءه من عند الله تعالى إما لقرآن أو لسنة مسندة أو

مرسلة وهما عندكم سواء في أمر الله تعالى بقبوله أو لقياس بل هو عندكم مما أمر الله تعالى به فيلزمكم أن كل من خالفكم فيها من صاحب أو تابع أو فقيه مخالف لما جاء من عند الله تعالى والمخالف لما جاء من عند الله تعالى عندكم إما كافر وإما فاسق فإن قال لا يكون كافرا ولا فاسقا ولا عاصيا إلا أن يعاند الحق الذي جاء من عند الله تعالى وهو يدري أنه حق قلنا هذا نفس قولنا ولله الحمد فإن كل من خالف قرآنا أو سنة صحيحة أو إجماعا متيقنا وهو لا يلوح له أنه مخالف لشيء من ذلك فليس كافرا ولا عاصيا ولا فاسقا بل هو مأجور أجرا واحدا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن اجتهد فأخطأ ولا خطأ في شيء من الشريعة إلا في خلاف قرآن أو سنة صحيحة فهذا برهاننا من السنة وأما من القرآن فقوله تعالى للمسلمين {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} ومن الإجماع أنه لا خلاف بين أحد من الأمة أن من قرأ فبدل من القرآن بلفظ آخر أو أسقط كلاما أو زاد ساهيا مخطئا فإنه لا يكفر ولا يبتدع ولا يفسق ولا يعصي وإنما الشأن فيمن قامت عليه الحجة فعند وخالف الآية بعد أن وقف عليها مقلدا أو متبعا لهواه أو خالف السنة بعد أن عرفها كذلك فهؤلاء هم الذين يقع عليهم التكفير والتفسيق على حسب خلافهم لذلك إن استحلوا خلاف ذلك كفروا وإن خالفوه معاندين غير مستحلين فسقوا وهكذا القول في الشريعة كلها ووطء الفرج الحرام وأكل الحرام واستباحة العرض الحرام والبشرة الحرام ونحو ذلك كل هذا من فعله مخطئا غير عالم أنه خالف ما جاء من عند الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فلا يكفر ولا يفسق ولا يعصي ومن فعله عامدا غير معتقد لإباحة ما حرم الله تعالى من ذلك فهو فاسق ومن فعله عامدا مستحلا

خلاف الله تعالى فهو كافر وقد نزه الله تعالى كل صاحب وكل فاضل عن هاتين المنزلتين وأوقع فيهما كل فاسق متبع هواه قاصدا إلى نصر الباطل والثبات عليه وهو يدري أنه باطل وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد فإذا قد صح كل ما قلناه فلنبين بحول الله تعالى وقوته وجوه الاجتهاد التي قدمنا وحكم من أخذ بوجه منها وفي أي خبر يقع عندنا من القطع بصوابه أو القطع بخطئه أو التوقف في أمره وبالله تعالى نعتصم فأول ذلك من تعلق بآية منسوخة فهذا لا يخلو من أحد وجهين إما أن تكون تلك الآية قد جاء نص منقول نقل تواتر بأنها منسوخة أو قال دليل متيقن النص أو الحال بأنها منسوخة فإن كان نسخها ثبت أحد هذه الوجوه فحكمها الثبات على ما بلغه من المنسوخ عند الله عز وجل بلا شك ما لم يثبت البرهان عنده بنسخها معذور مأجور مرتين فإذ قام عليه البرهان المذكور بأنها منسوخة فتمادى على ذلك من الأخذ بالمنسوخ معتقدا لصوابه في ذلك فهو كافر مشرك حلال الدم كمن تمادى على القول بأن المتوفى عنها وصية إلى الحول أو على القول بالصلاة إلى بيت المقدس وما أشبه ذلك وأما إن قام الدليل عنده على أنها منسوخة من النص المتيقن كما ذكرنا إلا أنها مما اختلف الناس في نسخها فتمادى على القول بالمنسوخ وهو يعلم خلاف ذلك فهو فاسق عاص لله تعالى لتعمد قلبه القول بمخالفة الحق الصحيح فهو عامد كبيرة وبالله تعالى التوفيق

فإن كانت تلك الآية مما قام الدليل على نسخها من نقل الآحاد وهو ممن يصحح مثل ذلك النقل فتمادى على القول بها فهو فاسق بتعمده مخالفة ما هو الحق عنده وإن كنا لا نقطع على أنه مخطىء وليس هذا فيما لم يأت من جهة الثقات مسندا فقط لكن من جهة من اختلف في توثيقه ولا بد ولا مزيد وهذا كمن رد شهادة العدلين من الحكام فيما يقبلان فيه بغير شيء يوجب رد شهادتهما فهذا فاسق لرده ما هو الحق عنده ولعله في باطن الأرض مصيب في ردها إذ لعلهما كاذبان أو مغفلان أو غاب عنهما سر تلك الشهادة فهذا أفضل وفصل ثان وهو أن يتعلق بآية مخصوصة مثل قوله {لئن أشركت ليحبطن عملك} فهذه خاصة فيمن مات كافرا ببرهان نص آخر فهذه أيضا ما لم يقم عنده برهان بأنها مخصوصة فحكمه الثبات على المخصوص الذي بلغه وهو مأجور مرتين حتى إذا قام عليه الدليل البرهاني بأنها مخصوصة فكما قلنا في الفصل الذي قبل هذا وفصل ثالث وهو أن يتعلق بآية قد خص منها بعضها كقوله تعالى {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} وكقوله تعالى {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} إلى قوله {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} وكقوله تعالى {ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} فهذا أيضا حكمه الثبات على ما بلغه وهو مأجور مرتين فإن قام عليه البرهان فتمادى فإن كان صحيحا عنده

فهو كافر كمن أحل الخمر بعموم هذه الآية أو أحل العبيد بملك اليمين وفصل رابع وهو أن يتعلق بآية مزيد عليها نص آخر كمن تعلق بقوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم} الآية إلى قوله {وأحل لكم ما وراء ذلكم} وقد زيد في هذه الآية تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها ومثل هذا كثير فهذا أيضا حكمه الثبات على ما بلغه وهو مأجور مرتين ما لم يقل عليه دليل بالزيادة فإن كان الدليل صحيحا عنده فخالفه معتقدا خلاف النص فهو كافر وفصل خامس وهو أن يتعلق بآية فيصرفها عن وجهها كمن ادعى في قول الله عز وجل {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} وقوله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} أنهما مخالفان لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم باليمين مع الشاهد وموجبان ألا يحكم بأقل من الشاهدين أو شاهد وامرأتين قال أبو محمد وهذا تمويه تعمدوه أو جاز عليهم بغفلة أو صرف للآيتين عن وجههما وتمويه بوضعهما في غير موضعهما لأنه ليس في الآيتين المذكورتين أمر بالحكم بالشاهدين أو الشاهد والمرأتين أصلا ولا دليل على ذلك بوجه من الوجوه وإنما فيهما الأمر باستشهاد الشاهدين أو الشاهد والمرأتين المداينة والطلاق والرحمة فقط مع ما فيهما من قوله تعالى {وأشهدوا إذا تبايعتم} دون ذكر عدد إشهاد واحد يقع عليه اسم إشهاد وقوعا صحيحا في اللغة بلا شك فهو جائز بنص القرآن وكمن تعلق في إيجاب الزكاة بقوله تعالى {وآتوا حقه يوم حصاده} وهذا خطأ لأن إيتاء حق الزكاة فيما أنبتت الأرض لا يمكن يوم الحصاد وهي أيضا مكية والزكاة مدنية فصح أن من احتج بهذه الآية في أحكام الزكاة

فصارف للآية عن وجهها فمن جهل هذه النكتة واحتج بهاتين الآيتين فيما ذكرنا فهو مخطىء لأنه لم يأمره الله تعالى قط بما ذهب إليه لكنه بجهله مأجور مرة معذور فإن وقف على ما ذكرنا فتمادى على قوله فهو فاسق أو كافر على ما قسمنا قبل مخطىء عند الله تعالى بيقين لما ذكرنا قبل قال أبو محمد وهذه الفصول كلها داخلة على من تعلق بالأحاديث كما ذكرنا قبل سواء بسواء كمن تعلق بحديث منسوخ أو مخصوص أو مخصوص منه أو مزيد عليه فهذا كما قلنا في الآيات سواء بسواء إلا أنه لا يكفر إلا برد حديث ثبت عنده وإن كان مختلفا في الأخذ به فكما قلنا في الآيات إن خالف في ذلك ما هو الحق عنده معتقدا لذلك فهو كافر مخطىء عند الله تعالى وإن خالف ذلك بلسانه دون قلبه فهو فاسق ومما ذكرنا أيضا قول من احتج في إباحة الصلاة في المقبرة بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة السوداء وهو لا يبيح الصلاة على القبر وأما لو اتخذ بهذا لكان هذا منه قياسا لا صرفا للخبر عن وجهه وكمن احتج بقوله صلى الله عليه وسلم إذا مات الميت انقطع عمله إلا من ثلاث في رد الحج عن الميت وترك للصيام عنه وترك كشف رأسه إن مات محرما ومنها أن يدعي المرء في عموم آية نسخا أو تخصيصا أو تخصيصا منها أو ندبا فإن حق له دعواه في ذلك بنص صحيح فقوله حق مقطوع على صحته عند الله عز وجل ومن قال إن هذه الآية أو الخبر قد نسخها الله عز وجل أو خصهما أو خصص منهما أو يلزمنا ما فيهما أو أراد بهما غير ما يفهم منهما ولم يأت على دعواه بنص صحيح فقد قال الله ما لم يعلم قال أبو محمد وليس هؤلاء كمن تقدم ذكرنا لهم لأن من تعلق بنص لم يبلغه ناسخه ولا ما خصه ولا ما زيد به عليه فقد أحسن ولزم ما بلغه

وليس عليه غير ذلك حتى يبلغه خلافه من نص آخر ومن ذكرنا في هذا الفصل فلم يتعلق بشيء أصلا بل تحكم في الدين كما اشتهى وهذا عظيم جدا فمن قال بهذا ممن نشاهده ساهيا غير عارف بما اقتحم فيه من الدعوى فهو معذور بجهله ما لم ينبه على خطئه فإن نبه عليه فثبت على خلاف ما بلغه عامدا فهذا غير معذور لأنه خالف الحق بعد بلوغه إليه وأما من روي عنه شيء من ذلك من الصحابة أو التابعين أو ممن سلف ممن يمكن أن يظن به أنه سمع في ذلك نصا شبه له فيه فهؤلاء معذورون لأننا لا نظن بهم إلا أحسن الظن وقد حضنا الله تعالى على أن نقول {ولذين جآءوا من بعدهم يقولون ربنا غفر لنا ولإخواننا لذين سبقونا بلإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنآ إنك رءوف رحيم} قال أبو محمد ولا يقين عندنا أنهم تحكموا في الدين بلا شبهة دخلت عليهم ولا شك أنهم لم يتبين لهم الحق في ذلك وأما من نشاهده أو لم نشاهده ممن صح عندنا بيقين حاله ومقدار عمله فنحن على يقين أنه ليس عنده في ذلك أكثر من الدعوى والقول على الله تعالى بما لا يعلم فهؤلاء فساق راكبون أعظم الكبائر ونعوذ بالله من الخذلان

ومنها أن يتعلق بدليل الخطاب أو بالقياس فهذا أيضا معذور مأجور مخطىء عند الله تعالى بيقين إلا أنه لا يفسق ما لم تقم عليه الحجة في بطلان هذين العلمين فإن قام بذلك عنده البرهان من النصوص الثابتة المتظاهرة فتمادى على القول بالقياس أو بدليل الخطاب فهو فاسق لأنه ثابت على ما لم يأذن به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم كما قدمنا ومنها أن يتعلق بالرأي والاستحسان وهذا أضعف من كل ما تقدم إذ الشبهة المتعلق بها في هذين الوجهين في غاية الوهاء لأنه دليل على صحتهما بل البرهان قائم على بطلانهما إلا أنهم قد تعلقوا في ذلك بأثرين واهيين ساقطين مصروفين أيضا عن وجههما أحدهما الحديث المنسوب إلى معاذ إلا أن من شبه عليه فظن أنه مصيب في ذلك فهو معذور مأجور فإن قامت عليه الحجة بطلان الرأي والاستحسان فثبت على القول بهما فهو فاسق لحكمه في الدين بما لم يأذن به الله تعالى

ومنها أن يتعلق بقول صاحب قد خالفه غيره من الصحابة أو بقول عالم ممن دونه ممن قد خالفه غيره من العلماء فهذا هو التقليد بعينه وليس من فعل هذا مجتهدا أصلا وهو حرام لا يحل فمن قد رأته معذور في ذلك ولم يبلغه المنع منه ولا بلغه أن ههنا عالما آخر مخالفا لهذا الذي تعلق به فهو معذور لأنه يظن أن هذا هو الحق وأما إذا بلغه أن عالما آخر مخالفا للذي تعلق هو به فهو فاسق لأنه ليس بيده شبهة أصلا يتعلق بها في اتباع رجل بعينه دون غيره بل هو ضلال مبين ونعوذ بالله من الخذلان وأما الوجوه التي لا تقع فيها على تفسيق المخالف لنا ولا على أنه مخطىء عند الله تعالى بل نقول نحن على الحق عند أنفسنا ومخالفنا عندنا مخطىء مأجور والله أعلم فأدق ذلك وأغمضه أن ترد آيتان عامتان أو حديثان صحيحان عامان أو آية عامة وحديث صحيح وفي كل واحدة من الآيتين أو في كل واحد من الحديثين أو في كل واحد من الآية والحديث تخصيص لبعض ما في عموم النص الآخر منهما وذلك مثل قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} مع قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن مع قوله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الإمام وإذا قرأ القرآن فأنصتوا ومثل قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم فإن خصومنا يقولون {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} وقد خص منه الأختين بملك اليمين قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} وقلنا نحن إن قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} خص منه الأختين بملك

اليمين قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} وقال خصومنا لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن خص منه المأموم قوله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن فأنصتوا وقلنا نحن قوله صلى الله عليه وسلم وإذا قرأ القرآن فأنصتوا خص أم القرآن منه قوله لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن وقال خصومنا قول الله تعالى خص النساء منه قوله صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة إلا مع زوج أو ذي محرم وقلنا نحن إن قوله صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة إلا مع زوج أو ذي محرم خص سفر الحج قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} قال أبو محمد فهذا وإن رجعنا استعمالنا للحديثين بدليل لازم صحيح فإن متعلق خصومنا هنا قوي ووجه خطأ من أخطأ ههنا خفي جدا دقيق البتة لا يؤمن في مثله الغلط على أهل العلم الواسع والفهم البارع والإنصاف الشائع وليس كسائر ما قدمنا مما تقود إليه العصبية ولا يخفى وجه الخطأ فيه على من أنصف أو تورع هذا ما لم يوجد فيه نص يشهد لأحد الاستعمالين فإن وجد نص صحيح بذلك عاد الأمر إلى ما قد ذكرناه في الفصول المتقدمة ولا بد من وجوده لأن الله تعالى قد ضمن لنا بيان الدين بقوله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فلا يجوز البتة أن يبقى في الدين شيء مشكل بل هو كله مقطوع على أنه بين بيانا جليا والحمد لله رب العالمين الوجه الثاني أن يرد حديثان صحيحان متعارضان أو آيتان متعارضتان أو آية معارضة لحديث صحيح تعرضا مقاوما في أحد النصين منع وفي

الثاني إيجاب في ذلك الشيء بعينه لا زيادة في أحد النصين على الآخر ولا بيان في أيهما الناسخ من المنسوخ كالنص الوارد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب قائما والنص الوارد أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما فإن من ترك الخبرين معا ورجع إلى الأصل الذي كان يجب لو لم يرد ذلك الخبران أو رجع أحد الخبرين على المعارض له بكثرة رواته أو بأنه رواه من هو أعدل ممن روى الآخر وأحفظ وما أشبه هذا من وجوه الترجيحات التي قد أوردناها في باب الكلام في الأخبار من ديوننا هذا وبيان وجوه الصواب منها من الخطأ فإن هذا أيضا مكان يخفى بيان الخطأ فيه جدا وأما نحن فنقول بالأخذ الزائد شرعا إلا أننا نقول وبالله تعالى التوفيق إن من مال إلى أحد هذه الوجوه في مكان ثم تركه في مثل ذلك المكان وأخذ بالوجه الأخر مقلدا أو مستحسنا فما دام لم يوقف على تناقضه وتفاسد حكمه فمعذور مأجور حتى إذا وقف على ذلك فتمادى فهو فاسق عاص لله عز وجل لاتباعه الهوى قال الله تعالى {يداوود إنا جعلناك خليفة في لأرض فحكم بين لناس بلحق ولا تتبع لهوى فيضلك عن سبيل لله إن لذين يضلون عن سبيل لله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم لحساب} وكل من قال في الدين بقول لم يأت عليه ببرهان لكن بما وقع في نفسه الميل فإنه بيقين متبع لهواه والوجه الثالث أن يتعلق بحديث ضعيف لم يتبين له ضعفه أو بحديث مرسل أو ادعى تجريحا في راوي حديث صحيح إما بتدليس أو نحوه أو ادعى أن الناقل أخطأ فيه فمن اعتقد صحة ما ذكر من ذلك معذور مأجور حتى إذا ترك في مكان آخر مثل ذلك الحديث أو رد مرسلا آخر لإرساله فقط وأخذ بحديث آخر فيه من التعليل كالذي فيما قد رده في مكان آخر ووقف على ذلك فإن تمادى فهو فاسق وإن لم تقطع على أنه مخطىء عند الله عز وجل لكن لإقدامه على الحكم في الدين بما قد شهد لسانه ببطلانه في موضع آخر فهو متبع هواه فهو ضال بالنص كمن حكم شهادة فاسقين يعلم فسقهما فيما لا يدري هو صحة شهادتهما به أو رد شهادة عدلين يعلم عدالتهما بغير جرح

ثبت عنده بل علم منه ببطلان ما شهدا به فهذا فاسق بإجماع الأمة كلها وإن كان في الممكن أن يكون قد صادف الحق عند الله تعالى ولكن لما أقدم على خلاف ما أمر به بغير يقين كان عاصيا لله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان فإن قال قائل فكيف تقولون فيمن بلغه نص قرآن أو سنة صحيحة بخبر ليس من باب الأمر أنه قد جاء ذلك الخبر في نص آخر باستثناء منه أو زيادة عليه ولم يبلغه النص الثاني فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن هذا بخلاف الأمر لأن الأوامر قد ترد ناسخا بعضها بعضا فيلزمه ما بلغه حتى يبلغه ما نسخه وليس الخبر كذلك بل يلزمنا تصديق ما بلغنا في ذلك لأن الله تعالى لا يقول إلا الحق وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم وعليه أن يعتقد مع ذلك أن ما كان في ذلك الخبر من تخصيص لم يبلغه أو زيادة لم تبلغه في حق ولا نقطع بتكذيب ما ليس في ذلك الخبر أصلا وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال لا تصدقوا أهل الكتاب إذا حدثوكم ولا تكذبوهم تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل أو كلاما هذا معناه فهذا حكم الأخبار الواردة في الوعظ وغيره وبالله تعالى التوفيق وما كان من الأخبار لا يحتمل خلاف نصه صدق كما هو ولزم تكذيب كل ظن خالف نص ذلك الخبر وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل لا إله إلا هو عليه توكلت قال أبو محمد علي بن أحمد رضي الله عنه قد انتهينا من الكلام في الأصول إلى ما أعاننا الله تعالى عليه ويسرنا له على حسب ما شرطنا في أول كلامنا في ديواننا هذا من التقصي والاستيعاب نسأل الله عز وجل أن يجعله لوجهه ودعاء إليه ونصرا له وأن يدخلنا بما من به علينا من ذلك في جملة من أثنى عليهم بقوله تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك

هم المفلحون} وبقوله تعالى {لذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا لله ولولا دفع لله لناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها سم لله كثيرا ولينصرن لله من ينصره إن لله لقوي عزيز} قال أبو محمد فلنختم كلامنا بما ابتدأنا به فنقول والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وسلم تسليما ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

§1/1