الإحكام شرح أصول الأحكام لابن قاسم

عبد الرحمن بن قاسم

جمع الفقير إلى الله تعالى عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي النجدي رحمه الله تعالى (1312 - 1392 هـ)

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي شرح صدر من اجتباه لمعرفة الأحكام. وأبدع الإحكام أحمده سبحانه على ما أولاه من جزيل الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. الأحد الصمد الملك العلام ذو الجلال والإكرام أبان الحجة وأوضح المحجة ورفع أعلام السنة بالكتاب والسنة ووفيا بالأحكام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام- ومن سار على منهاجهم واستقام وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد فإن أجل ما اشتغل به المشتغلون وأعلى ما شمر إليه العاملون وأشرف ما تنافس فيه المتنافسون هو معرفة الكتاب والسنة فهما النعمة المسداة والرحمة المهداة نصبهما الله لنا أعلى علم للهداية وأوضح محجة للعناية وهما ينبوع الرسالة وأساس الملة والديانة وأعظم العلوم منزلة وأرفعها قدرًا وأقربها فهمًا وأغزرها علمًا وأسهلها عبارة، وأوضحها دليلاً، ومع ذلك سلك الكثير سواهما سبيلاً، وقطعوا أعمارهم فيما لا يتخذ معتمدًا

ولا تأصيلاً، ومن له رغبة فيهما وفي الشرب من معينهما قد تكاثفت عليه العوائق وتداعت عليه الطرائق وتكالف تناول تلك الحقائق فساهمت في تسهيل ما استصعب. وجمعت مختصرًا لطيفًا انتقيته من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الأحكام الفقهية سهل المنال واضح المنوال وهذا شرح له موجز مقتبس من كلام الأئمة الأعلام. يوضح معانيه. ويؤيد مبانيه. أردفته بآيات وأخبار. وبإجماع الأئمة الأخيار أو قول جمهور السلف الأطهار وبترجيح شيخ الإسلام وغيره من فحول أماثل الأحبار. يغنيك في وقت قليل عن مطالعة عدة من الأسفار وعلى الله اعتمادي وإليه تفويضي واستنادي لا إله غيره ولا رب سواه. (بسم الله الرحمن الرحيم) ابتدأ بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز فقد بدأ تعالى بها في محكم كتابه وتأسيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في مكاتباته ومراسلاته. وعملاً بحديث (كل أمر ذي بال) أي حال وشأن يهتم به شرعًا (لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع)، وفي رواية (أجذم)، وفي رواية (أبتر) والمعنى أنه ناقص البركة. قال الحافظ، وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالتسمية، وكذا معظم الرسائل. والاسم مشتق من السمو، وهو العلو، فكأنه علا على معناه وظهر عليه، فصار معناه تحته.

والله أعرف المعارف الجامع لمعاني الأسماء الحسني والصفات العليا، وهو مشتق أي دال على صفة له تعالى. وهي الإلهية وأصله الإله حذفت همزته وأدغمت اللام في اللام فقيل الله. ومعناه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. والرحمن رحمة عامة لجميع المخلوقات. والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين. اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة. (الحمد لله) الحمد ثناء والألف واللام لاستغراق جميع المحامد قال شيخ الإسلام: الحمد ذكر محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، وثنى بالحمدلة بعد البسملة اقتاداء بالقرآن العظيم وبالنبي الكريم وعملاً بحديث (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم) فتستحب البداءة بالحمد لله من كل مصنف ودارس ومدرس، وخطيب وخاطب ومزوج ومتزوج. وبين يدي سائر الأمور المهمة. (الذي أرسل رسوله) محمدًا - صلى الله عليه وسلم - (بالهدى) أي بالقرآن العظيم الذي أنزله عليه هدى للمتقين. وبما جاء به من الأخبار الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع (ودين الحق) وهو الإسلام والأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة. وقد امتن تعالى عليه وعلى أمته بما أنزل عليه من الكتاب والحكمة في غير موضع من كتابه منها قوله {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}.

وأخبر أن الفرح به خير مما يجمعون، وقال - صلى الله عليه وسلم - "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي"، فهما أصل الأصول وعمدة الملة والطريقة الحقة بل لا طريق إلى الله والجنة إلا بالكتاب والسنة فمن أخذ بهما فاز كل الفوز. وظفر كل الظفر. أرسله الله تعالى بهما "رحمة للعالمين" كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة فهو رحمة له في الدنيا والآخرة، ومن ردها وجحدها فهو رحمة له في الدنيا بتأخير العذاب عنه ورفع الخسف والمسخ والاستئصال. قال عليه الصلاة والسلام "إنما أنا رحمة مهداة" هدى به تعالى من الضلالة وبصر به من الغواية. فتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا ووضع به الآصار والأغلال. (وأشهد) أي أقطع وأجزم (أن لا إله إلا الله) أي لا معبود حق إلا الله (وحده) حال من الاسم الشريف تأكيد لإثبات (لا شريك له) تأكيد للنفي. قال الحافظ: تأكيد بعد تأكيد. اهتمام بمقام التوحيد {إله الأولين والآخرين} أي مألوههم ومعبودهم المستحق أن يطاع ويتقى. قال تعالى {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}. (وأشهد أن محمدًا) هو أشرف أسمائه - صلى الله عليه وسلم - اسم مفعول من حمد فهو محمد إذا كان كثير الخصال التي يحمد عليها

فهو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره من البشر (عبده) أشرف اسم له وصفة أيضًا فإنه: لا أشرف ولا أتم للمؤمن من وصفه بالعبودية لله تعالى. وهو أحب الأسماء إلى الله تعالى وأشرفها لديه. ولذا وصفه به في أشرف المقامات (أنزل على عبده الكتاب) (أسرى بعبده) وإضافته إليه إضافة تشريف. ومعناه المملوك العابد والعبودية الخاصة وصفه (ورسوله) أي مرسله وسفيره بأداء شريعته (الصادق) فيما يبلغه عن الله قال تعالى {والذي جاء بالصدق} وقال: {مصدق لما معكم}. (الأمين) على وحيه وكان يسمى قبل بعثته الأمين وأيده الله بالآيات والدلالات الواضحات القاطعات بصدقه وأمانته ومن كان كذلك فالنعمة به على العباد أكبر وأعظم وأتم وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم} أي على هدايتكم {بالمؤمنين رؤوف رحيم} {فإن تولوا} أي أعرضوا عما جئتهم به من الشريعة العظيمة الكاملة الشاملة {فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم}. (صلى الله عليه) الصلاة من الله عليه هو الثناء والعناية به وإظهار شرفه وفضله (وعلى آله) أهل بيته وقيل أتباعه وآل الشخص هم من يأوون له ويؤولون إليه ويرجعون إليه ونفسه أولى فطلبت تبعًا له (وأصحابه) جمع صاحب وهم من اجتمع

بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا ومات على ذلك (والتابعين) لهم بإحسان إلى يوم الدين. (وسلم) من السلام بمعنى التحية أو الأمان ضد الخوف أو السلامة من النقائص أو طلب السلامة له من الله أو اسم الله عليه إذا كان اسم الله يذكر على الأعمال توقعًا لاجتماع معاني الخيرات فيه (تسليمًا) مصدر مؤكد (كثيرًا) دائمًا أبدًا والصلاة والسلام عليه – - صلى الله عليه وسلم - مستحبة كل وقت وتتأكد عند ذكر اسمه – - صلى الله عليه وسلم - مستحبة كل وقت وتتأكد عند ذكر اسمه – - صلى الله عليه وسلم - وآله وأصحابه والتابعون تبع له. ووجه الثناء على الآل والأصحاب والأتباع هو وجه الثناء على النبي – - صلى الله عليه وسلم - بعد الثناء على الله –عز وجل- لأنهم الواسطة في إبلاغ الشرائع إلى العباد فاستحقوا سؤال الثناء عليهم من الله –عز وجل- ولإتيانه بذكرهم في الصلاة فلا يتم الامتثال إلا بذكرهم (إلى يوم الدين) أي مستمرة إلى يوم القيامة. (أما بعد) أي: بعد ما ذكر من حمد الله والشهادتين والصلاة على رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وآله وأتباعه. وهذه الكلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى غيره. ويستحب الإتيان بها في الخطب والمكاتبات اقتداء به – - صلى الله عليه وسلم - وهي مبنية على الضم لقطعها عن الإضافة مع نية المضاف إليه. (فهذا) إشارة إلى ما تصور في الذهن وأقيم مقام المكتوب الموجود، وقد يترك موضعها مبيضًا إلى فراغ الكتاب (مختصر)

أي موجز وهو ما قل لفظه وكثر معناه (يشتمل) أي يحتوي (على أصول الأحكام) مع صغر حجمه لأصالة مبانيه وكثرة معانيه. وأصول جمع أصل وهو ما يبنى عليه غيره. والأحكام جمع حكم. وهو خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين والمراد هنا الأحكام الشرعية الفرعية. من عبادات ومعاملات وغيرها. وتنقسم الأحكام إلى خمسة أقسام. واجب. وحرام. ومستحب. ومباح. ومكروه (من الكتاب) يعني القرآن العزيز المنزل تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. (والسنة) المطهرة المتلقاة من أقوال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته. فهما اللذان أمرنا باتباعهما والأخذ بهما. فيهما الهدى والنور. والشفاء لما في الصدور. وفي الاعتناء بهما الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة. من اتبعهما لا يضل، ولا يشقى. ومن أعرض عنهما فإن له معيشة ضنكًا ويحشر يوم القيامة أعمى كما عمي عنهما. وأرباب النهاية في علو الهمة لا يرضون بدون بعثها في علم الكتاب والسنة. فهما حجة الرب على العباد وعصمة العباد في المعاش والمعاد. والآيات الواردة في الأحكام نحو من خمسمائة آية. والأحاديث التي تدور عليها الشريعة نحو خمسمائة حديث. هذه أصولها. وأما تقاسيمها وتفاصيلها، فنحو من أربعة آلاف حديث ما بين صحيح وحسن محتج به وغالبها في هذا المختصر. وما فيه من ضعيف فلملاءمته لأصول الشرع.

(هذبته) استخلصته من آيات وأحاديث كثيرة (تقريبًا) أدناء وتسهيلاً (لطالبي) أي آخذي (مناهج) أي: مسالك وطرق (الملة) يعني الشريعة واسم لما شرعه الله تعالى على لسان رسوله ليتوصل به إلى جواره. ولا تستعمل إلا في جملة الشريعة دون آحادها (ولوهن) أي: ضعف (القوى) في طلب العلم (وتفرقها) تبددها وتشتتها. (وضعف الهمم) أي الإرادات جمع همة لسبق القضاء من الله –عز وجل- بأنه "لا يأتي عليكم زمان إلا وما بعده شر منه حتى تلقوا ربكم" ومع ضعف الهمم وكثرة (تشعبها) أي كونها ذات شعب قد أخذ علم الخط والحساب والإملاء والإنشاء شعبة، وعلم العربية وقواعدها شعبة، وعلم التاريخ والتقويم والرياضات شعبة. وكتب الفقه مع تعدد أجناسها واختلاف أنواعها وكثرة الأقوال فيها شعبة، وعلم الإسناد وأحوال الرواة شعبة، والفكر في كلام المصنفين وشيوخهم على اختلافهم، وما أرادوا به شعبة، إلى غير ذلك ومكابدة المعيشة إن لم تكن الأغلب أو الالتفات إلى لين اللباس ورقيق العيش. أو المبارات في جمع المال والمباهات وغير ذلك فإذا وصلوا إلى النصوص النبوية إن كان لهم همم تسافر إليها وصلوها بقلوب وأذهان قد كلت وأوهاها وأوهن قواها مواصلة السير في سواها. فلذلك (بالغت) أي اجتهدت نهاية وسعي (في

اختصاره) لئلا تنفر النفوس عنه وتضعف عن حفظه قال علي –رضي الله عنه: خير الكلام ما قل ودل. ولم يطل فيمل، أي يمل منه ويضجر من طوله والقصد (ليسهل حفظه) عن ظهر قلب فيعم الانتفاع باستظهار نصوص هي أصول الأحكام الفقهية على ترتيب الفقهاء. ولم أذكر من الآية والحديث سوى الشاهد المعمول به. وما أوردته من الأحاديث: فإن كان قد رواه البخاري ومسلم أو أحدهما لم أذكر غيرهما من الرواة لاتفاق أهل العلم على صحة ما أخرجاه أو أخرجه أحدهما. أما ما لم يروه واحد منهما ورواه أهل السنن الأربعة أبو داود والترمذي والنسائي. وابن ماجه. وغيرهم كأحمد. ومالك. والشافعي وكابن خزيمة وابن حبان. والحاكم. والبيهقي. وغيرهم. وصححه أحمد. أو البخاري. أو الترمذي. أو شيخ الإسلام. أو ابن القيم. أو الحافظ ابن حجر. أو أمثالهم فاذكر بعض من رواه كالخمسة أحمد وأهل السنن. أوهم أو بلفظ الأربعة. أو الثلاثة وهم ما عدا ابن ماجه، أو اقتصر على أحد مخرجيه تسهيلا. وقد اقتصر على بعض من صححه. أو تحسين الترمذي، وما رواه أهل السنن وغيرهم. أو بعضهم وصححه أحد الحفاظ. كابن خزيمة. وابن حبان. والحاكم. وأمثالهم. وسكت عنه أبو داود. والمنذري أو صححه. فاقتصر على بعض رواته دون من

صححه وتكلم فيه لاستناده إلى غيره من النصوص. أو الأصول الشرعية لاتفاق أهل العلم أو جمهورهم على جواز الاحتجاج والعمل بما صححه بعض الحفاظ. وما لم يصححه أحد منهم أذكره وضعفه وإن كان أنه لا يلزم منه أن يدل على الحكم بانفراده لكن أثبته لانضمام غيره إليه وملائمته لأصول الشرع ونقل أهل العلم له وعملهم به أو جمهورهم وهم لا يجمعون إلا على ما له أصل في الكتاب والسنة. وما ذكرته عن الصحابة –رضي الله عنهم- فهو إما إجماع أو قول الجمهور مع أنه لم يزل أهل العلم يحتجون بفتاويهم وأقوالهم في كل عصر ومصر لا ينكره منكر. وحكى بعض المالكية الإجماع على جواز الاحتجاج بأقوالهم. وسنوضح إن شاء الله كل مسألة بدليلها وتعليها وإجماع العلماء عليها. أو جمهورهم. وكل مسألة لا بد فيها من حكم ثابت في نفس الأمر أو تفصيل وإن كان لا يمكن أن يعمل في كل مسألة بقول يجمع عليه لكن القول الصحيح عليه دلائل شرعية تبين الحق وتوضحه ومن له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح في الشرع. وإذا تبين رجحان قول وصحة مأخذه خرج على قواعد الأئمة الأربعة وصار مذهبًا لهم. (والله أسأل أن ينفع به) أي: ينفع بكتاب أصول الأحكام

فإنه سبحانه لا يضيع لديه عمل عامل (وأن يجعله خالصًا) ومن شائبة الرياء (لوجهه) جل وعلا وتقدس (وهو) تعالى (حسبنا) أي كافينا ومغنينا. عمن سواه (ونعم الوكيل) الموكل إليه أمورنا جل جلاله وتقدست أسماؤه.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة كتاب مصدر كتب يكتب كتبًا خط على القرطاس ما يريد إبلاغه لغيره أو حفظه من النسيان ومدار المادة على الجمع. والطهارة مصدر طهر يطهر. والاسم الطهر. ومعناها النظافة من الأقذار. وحقيقتها استعمال المطهرين على الصفة المشروعة بدأ بها لأنها مفتاح الصلاة وشرطها الذي لا تصح إلا به. باب المياه الباب لغة المدخل إلى الشيء. واصطلاحًا اسم لجملة من العلم تحته فصول ومسائل غالبًا. والمياه جمع ماء. اسم جنس ساغ جمعه باعتبار ما تنوع إليه. والألف واللام فيه لبيان حقيقة الجنس لا للجنس الشامل قال الله تعالى: {وينزل عليكم من السماء} أي السحاب {ماء} وهو المطر وكل ما علاك فهو سماء {ليطهركم به} من الأحداث والنجاسات وذلك أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب رمل تسوخ فيه الأقدام. وكان المشركون سبقوهم إلى ماء بدر. فأصبح المسلمون على غير ماء. وبعضهم محدث.

وبعضهم جنب. وأصابهم العطش. فأنزل الله مطرًا سال منه الوادي فشربوا واغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب وملؤا الأسقية ولبد الأرض. وكان دليلاً على نصره تعالى لهم ويأتي قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورًا} وهو الطاهر في ذاته المطهر لغيره فدلت الآية على أن الماء آلة يحصل به التطهير. وقال تعالى: {فلم تجدوا ماء} وهذا عام من جوامع الكلم فسواء كان الماء نازلاً من السماء كماء المطر وذوب الثلج والبرد أو ماء الأنهار والعيون والآبار والبحار. ولو تصاعد ثم قطر ما لم تتغير أحد أوصافه الثلاثة بنجاسة أو يخرج عن اسم الماء كماء ورد. (وعن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر الدوسي –رضي الله عنه- لازم النبي – - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن أحد أكثر حديثًا منه توفي سنة تسع وخمسين، وله ثمان وسبعون (قال: قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في البحر) أي في حكم ماء البحر والبحر الماء الكثير أو المالح (هو الطهور ماؤه) بفتح الطاء وشدها صيغة مبالغة أي ماء البحر هو معظم الماء الذي يتطهر به لا يخرج عن الطهورية إلا ما سيأتي من تخصيصه بما إذا تغيرت أحد أوصافه وبه قال جميع العلماء. إلا ما روي عن ابن عمر وابن سرين وابن عبد البر ولا حجة في قول عارض المرفوع والإجماع وتعريفه بالألف واللام لا ينفي طهورية غيره لوقوعه جواب سؤال عن ماء البحر مخصص بالمنطوقات الصحيحة.

(الحل) مصدر حل الشيء ضد حرم ولفظ الدارقطني الحلال (ميتته) أي ما مات فيه حتف أنفه من حيواناته وفيه مشروعية الزيادة في الجواب على سؤال السائل إذا علم أن به حاجة إليه (رواه الخمسة) الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ورواه غيرهم (وصححه البخاري) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة الجعفي الشهير الحافظ الكبير إمام هذا الشأن صاحب الصحيح وغيره ولد سنة أربع وتسعين ومائة وتوفي سنة ست وخمسين ومائتين والصحيح ما نقله عدل تام الضبط عن مثله من غير شذوذ ولا علة وصححه أيضًا الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وابن عبد البر وغيرهم وتلقته الأئمة بالقبول وتداوله فقهاء الأمصار. (وعن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخزرجي الأنصاري (الخدري) بضم الخاء نسبة إلى بني خدرة حي من الأنصار كان من علماء الصحابة روى كثيرًا وشهد البيعة ومات سنة أربع وسبعين، وله ست وثمانون (قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - الماء طهور لا ينجسه شيء) أي لا ينجس بوقوع شيء فيه سواء كان قليلاً أو كثيرًا ما لم يتغير بنجاسة. وقال الشيخ هو عام في القليل والكثير وفي جميع النجاسات. والحديث له سبب وهو أنه قيل لرسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن

فقال: «الماء طهور لا ينجسه شيء» (رواه الثلاثة) أبو داود والترمذي والنسائي، ورواه غيرهم من غير وجه عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - (وصححه أحمد) بن حنبل الشيباني ناصر السنة المجمع على إمامته صاحب المسند والتفسير وغيرهما قال شيخ الإسلام كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين توفي سنة إحدى وأربعين ومائتين وصححه أيضًا ابن معين وابن حزم والحاكم وشيخ الإسلام وغيرهم والترمذي من حديث ابن عباس. (زاد ابن ماجه) أبو عبد الله محمد بن يزيد الربعي مولاهم القزويني الحافظ صاحب السنن المتوفى سنة ثلاث وسبعين ومائتين (من حديث أبي أمامة) صدي بن عجلان الباهلي أحد المكثرين من الروايات مات بحمص سنة إحدى وثمانين (إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه) ريح الشيء هو ما يدرك بحاسة الشم. وطعمه حلاوته أو مرارته وما بين ذلك. ولونه ما فصل بينه وبين غيره. وصفته أو هيئته كالبياض والسواد. وغلب أي قهر أحد هذه الثلاثة صفة الماء التي خلق عليها كما فسره رواية البيهقي الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو طعمه. أو لونه. بنجاسة تحدث فيه وسنده ضعيف أي سند ما روي به الزيادة؛ لأن فيه رشدين بن سعد قال الشافعي روي من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله، ولكن هذه الزيادة قد أجمع العلماء على القول بحكمها وقال أحمد ليس فيه حديث ولكن الله حرم الميتة فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه فذلك طعم الميتة أو

ريحها فلا يحل له وحقيقة الحديث الضعيف هو ما اختل فيه أحد شروط الصحيح أو الحسن. (والأصل في ذلك الإجماع) حكاه جماعة منهم ابن المنذر وابن رشد وشيخ الإسلام وقال ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوص عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم مسألة واحدة أجمع عليها أنه لا نص فيها. والإجماع لغة العزم والاتفاق. واصطلاحًا اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على أمر. قال وهو أحد الأصول الثلاثة. وينبغي للمجتهد أن ينظر إليه أول شيء في كل مسألة فإن وجده لم يحتج إلى النظر في سواه لكونه دليلاً قاطعًا ثابتًا في نفس الأمر لا يقبل نسخًا ولا تأويلاً. وكثير من الفرائض التي لا يسع جهلها إذا قلت أجمع الناس لا تجد أحدًا يقول هذا ليس بإجماع. (وعن ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب أسلم صغيرًا بمكة وشهد الخندق كان من أوعية العلم وروى عنه خلائق توفي بمكة سنة ثلاث وسبعين (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الماء قلتين) تثنية قلة وهي اسم لكل ما ارتفع وعلا والمراد هنا الجرة الكبيرة من قلال هجر تسع قربتين أو أكثر وهما خمسمائة رطل عراقي تقريبًا (لم يحمل الخبث) بفتح المعجمة والموحدة أي يدفع النجاسة عن نفسه كما يقال فلان لا يحمل الضيم إذا كان يأباه ويدفعه عن نفسه وأصله أنه سئل - صلى الله عليه وسلم - عن

الماء يكون بالفلاة وما ينوبه من السباع فقال ذلك (رواه الخمسة) والشافعي وغيرهم وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم وتكلم فيه ابن عبد البر وغيره. قال شيخ الإسلام وأكثر أهل العلم بالحديث على أنه حديث حسن يحتج به وأجابوا عن كلام من طعن فيه. ومنطوقه موافق لغيره. وأما مفهومه فلا يلزم منه أن يكون كلما لم يبلغ القلتين ينجس. ولم يذكر هذا التقدير ابتداء وإنما ذكره في جواب من سأله عن مياه الفلاة. والتخصيص إذا كان له سبب لم يبق حجة بالاتفاق والمسئول عنه كثير، ومن شأنه أنه لا يحمل الخبث. فدل على أن مناط التنجيس هو كون الخبث محمولاً فحيث كان الخبث محمولاً موجودًا في الماء كان نجسًا وحيث كان مستهلكًا غير محمول في الماء كان الماء باقيًا على طهارته فصار حديث القلتين موافقًا لقوله – - صلى الله عليه وسلم - "الماء طهور لا ينجسه شيء" لم يرد أن كلمها لم يبلغ القتلين فإنه يحمل الخبث فإن هذا مخالفة للحس. إذ قد يحمل وقد لا يحمل. ونكتة الجواب أن كونه يحمل أو لا يحمل أمر حسي يعرف بالحس. فإنه إذا كان الخبث موجودًا فيه كان محمولاً. وإن كان مستهلكًا لم يكن محمولاً. قال والذي دلت عليه السنة وعليه الصحابة وجمهور السلف أن الماء لا ينجس إلا بالتغير وإن كان يسيرًا. وقال إذا

تغير فإنما حرم لظهور جرم النجاسة فيه بخلاف ما إذا استهلكت. وقال ابن القيم الذي تقتضيه الأصول أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينجس فإنه باق على أصل خلقته وهو طيب فيدخل في قوله: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}. وهذا هو القياس في المائعات جميعها إذا وقع فيها نجاسة فاستحالت بحيث لم يظهر لها لون. ولا طعم ولا ريح. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: إذا كان دون القلتين فكثير من أهل العلم أو أكثرهم على أنه طهور داخل في قوله، فلم تجدوا ماء. اهـ والعدول عنه مع وجود غيره أولى احتياطًا. وخروجًا من الخلاف. وكلاهما مطلوبان. (وعن أبي هريرة قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم) أي الراكد الذي لا يجري (وهو جنب) قال شيخ الإسلام. لما يفضي إلى إفساده. وإلى الوسواس اهـ. وطهارته بحالها لما تقدم إلا أنه مكروه وأبلغ من ذلك البول فيه. وقد ثبت النهي عنه لما فيه من إفساد مياه الناس ومواردهم. والجنب من جامع أو أنزل (رواه مسلم) بن الحجاج القشيري النيسابوري الحافظ في صحيحه الذي هو ثاني الصحيحين المجمع على صحتهما وقد فاق صحيح البخاري بحسن ترتيبه وسياقه المتوفي سنة إحدى وستين ومائتين. (وله) أي لمسلم في صحيحه (عن ابن عباس) عبد الله

باب الآنية

بن عباس حبر الأمة ولد قبل الهجرة بثلاث سنين دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفقه في الدين توفي بالطائف سنة ثمان وستين (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة) أم المؤمنين بنت الحارث الهلالية كان اسمها برة فسماها النبي – - صلى الله عليه وسلم - ميمونة تزوجها سنة سبع وتوفيت سنة إحدى وستين، وفي السنن قالت إني كنت جنبًا فقال إن الماء لا يجنب صححه الترمذي. وحكى الوزير والنووي وغيرهما الإجماع على جواز وضوء الرجل بفضل المرأة وإن خلت بالماء إلا في إحدى الروايتين عن أحمد، وما رواه أهل السنن من النهي عن ذلك لا يقاوم الرخصة في ذلك، وحمل النهي عن وضوء الرجل بفضل المرأة على التنزيه أولى جمعًا بين الأدلة، وأما وضوء المرأة بفضل الرجل فجائز بلا نزاع. باب الآنية أي هذا باب يذكر فيه أحاديث في أحكام الآنية. وجلد الميتة والآنية هي الأوعية جمع إناء. لما ذكر الماء وكان سيالاً محتاجًا إلى ظرف ناسب ذكر ظرفه. (عن حذيفة) بن اليمان بن حسل العبسي صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين مات سنة خمس وثلاثين (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها) جمع صحفة وهي دون القصعة

(فإنها) أي آنية الذهب والفضة وصحافها (لهم في الدنيا) أي للمشركين في الحياة الدنيا يتمتعون بها فيها. وهذا إخبار عما هم عليه لا بحلها لهم. ولمسلم من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة. (ولكم في الآخرة) معشر المسلمين تتنعمون بها فيها (متفق عليه) أي اتفق على تخريجه البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة بالإجماع، وما كان فيهما أو في أحدهما جاز الاحتجاج به من دون بحث لأنهما اشترطا الصحة وتلقتها الأمة بالقبول. قال الشيخ وما فيهما متن يعلم أنه غلط. وهذا الحديث رواه غيرهما أيضًا لكن ما فيهما أو في أحدهما غني عن التقوية بالإضافة إلى ما سواهما. (ولهما) أي للبخاري ومسلم في صحيحيهما (عن أم سلمة) أم المؤمنين زوج النبي – - صلى الله عليه وسلم - واسمها هند بنت أبي أمية كانت تحت أبي سلمة وتوفي عنها فتزوجها النبي – - صلى الله عليه وسلم - سنة أربع وتوفيت سنة تسع وخمسين ولها أربع وثمانون (قالت قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - الذي يشرب في إناء الفضة) ولمسلم والذهب (إنما يجرجر) بكسر الجيم الثانية والجرجرة صوت وقوع الماء في الجوف جعل الشرب والجرع جرجرة (في بطنه نار جهنم) بنصب نار أي كأنما يجرع نار جهنم. وجهنم علم على طبقة من طبقات النار أعاذنا الله منها من الجهومة، وهي الغلظ لغلظ أمرها

في العذاب أو لبعد قعرها. والتوعد بالنار يدل على آكدية التحريم. وإذا كانت الأواني التي تستعمل للأكل والشرب مطلوب لها الأناقة ومع ذلك جاء فيها هذا الوعيد فالتي يتطهر بها أولى وحكى النووي وغيره الإجماع على تحريم الأكل والشرب فيها وجميع أنواع الاستيلاء. وقال الشيخ ما حرم استعماله حرم اتخاذه كآلة اللهو فكذا تحصيلها بنحو شراء أو اتهاب ولو لم يقصد الاستعمال. وحكى اتفاقهم على أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام على الذكر والأنثى وكذا الآلات كلها واستعمالها وحكاه القرطبي: قول الجمهور: وعلله بعضهم لما فيه من السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء. وقال ابن القيم الصواب أن العلة ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة والحالة المنافية للعبودية منافاة للعبودية منافاة ظاهرة. ولهذا علل عليه الصلاة والسلام بأنها للكفار في الدنيا إذ ليس لهم نصيب في العبودية التي ينالونها بها في الآخرة. فلا يصلح استعمالها لعبيد الله وإنما يستعملها من خرج عن عبوديته ورضي بالدنيا وعاجلها من الآخرة. وقال الشيخ لأنه تشبه بزي المشركين وتنعم بتنعم المشركين والمسرفين اهـ. وما سوى ذلك من أواني الخشب والحديد يباح اتخاذه واستعماله ولو ثمينًا كالجوهر والزمرد. قال في المبدع وغيره في قول عامة أهل العلم.

(وعن أنس) بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي خادم رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - خدمه عشر سنين ومات سنة ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة (إن قدح النبي – - صلى الله عليه وسلم - انكسر) أي: انشق وفي لفظ "وكان انصبدع" والقدح إناء يروي الرجلين. واسم يجمع الصغار والكبار. (فاتخذ مكان الشعب) أي: الصدع الذي كان فيه (سلسلة من فضة) بكسر السين القطعة وبالفتح إيصال الشيء بالشيء ينقب من جانبي الشق ويسلسل بخيوط من فضة (رواه البخاري) في صحيحه المشتهر أي: اشتهار الذي هو خير كتاب صنف وأصحه بلا مرية. وذكر أنه رأى القدح بالبصرة وشرب فيه. ولأحمد عن عاصم رأيت عند أنس قدح النبي – - صلى الله عليه وسلم - فيه ضبة فضة، ولا خلاف في جواز الأكل والشرب في المضبب لحاجة. وكذا سائر الاستعمالات. وصوب الشيخ أنه يباح إذا كان التضبيب أقل مما هو فيه، ولم يستعمل. وقال إذا ضبب الإناء تضبيبًا جائزًا استعماله مع وجود غيره بلا خلاف. (وعن عمران بن حصين) بن عبيد بن خلف الخزاعي الكعبي أسلم عام خيبر وكان من فضلاء الصحابة مات بالبصرة سنة اثنتين وخمسين (أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه توضؤا من مزادة) امرأة (مشركة) أي من راويتها ولا تكون الراوية إلا من جلدين (متفق عليه) وفيه دلالة ظاهرة على طهارة آنية

المشركين وحديث أبي ثعلبة فاغسلوها. محمول على كراهة الأكل فيها للاستقذار لا للنجاسة. فقد قال تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم}. ودعا النبي – - صلى الله عليه وسلم - يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة رواه أحمد. وغير ذلك من الأدلة على طهارة آنيتهم ولو حرمت رطوباتهم لا استفاض نقله. وفيه دلالة على طهارة جلد الميتة الطاهر في الحياة بالدباغ. (وعن ابن عباس قال: قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا دبغ الإهاب) على وزن كتاب اسم للجلد قبل الدبغ وذلك أن جلد الميتة ينجس بموتها فإذا دبغ بقرظ أو غيره مما ينزع فضوله من لحم ودم ونحوهما مما يعفنه (فقد طهر) بضم الهاء وفتحها، (رواه مسلم). (وعن ميمونة مرفوعًا) يعني إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه (قال يطهره) أي يطهر الإهاب (الماء والقرظ) أي ورق شجر السلم وكذا بكل شيء ينشف فضلاته ويطيبه ويمنع ورود الفساد عليه (رواه أبو داود) سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني الحافظ المشهور المتوفى سنة خمس وسبعين ومائتين في سننه التي أحسن وضعها وعرضها على أحمد فاستجادها. ورواه النسائي وغيره. ودباغ الأديم طهوره متواتر عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - من طرق عن جماعة من الصحابة دال على طهارة جلد الميتة بالدباغ. وهو

مذهب جماهير العلماء. وحديث ابن عكيم ضعيف وليس فيه ذكر الدباغ. قال الشيخ وأما بعد الدبغ فلم ينه عنه قط. وما رواه أهل السنن. أيما إهاب دبغ فقد طهر. ضعفه أحمد وغيره. وقال الشيخ الذي عليه الجمهور أن جلود السباع لا تطهر بالدبغ لما روي من وجوه متعددة أنه نهى عن جلود السباع وقال في هذا القول جمع بين الأحاديث. (وعن أبي واقد الليثي) واسمه الحارث بن عوف الكناني أحد الطلقاء توفي سنة ثمان وستين (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال ما قطع من البهيمة) أي بهيمة الأنعام ونحوها سميت بهيمة لما في صوتها من الإبهام (وهي حية) أي حال حياتها كألية شاة (فهو ميتة) قال شيخ الإسلام، وهذا متفق عليه بين العلماء (حسنه الترمذي) محمد بن عيسى بن سورة الإمام الحافظ المتوفي سنة سبع وستين ومائتين. وقال العمل عليه عند أهل العلم. ورواه أحمد وأبو داود وغيرهما وابن ماجه من حديث ابن عمر وله شواهد. واستثني مسك وفأرته بالسنة والإجماع. وقال الشيخ المسك وفأرته بمنزلة البيض والولد والصوف واللبن ليس مما يبان من البهيمة وهي حية اهـ. واستثنى أيضًا الطريدة بين قوم لا يقدرون على ذكاتها فيأخذونها قطعًا. قال الحسن وغيره لا بأس به كان الناس يفعلونه في مغازيهم.

باب الاستنجاء

باب الاستنجاء وآداب التخلي. الاستنجاء والاستطابة والاستجمار. إزالة النجو وهو الخارج من السبيل الذي تطلب إزالته. وعبر بعضهم بقضاء الحاجة وغيره. والباب شامل لذلك كله. وما يلتحق به. ومن كمال شريعته – - صلى الله عليه وسلم - أن علم أمته كل شيء حتى آداب قضاء الحاجة. (عن أنس قال كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء) وفي الأدب المفرد كان إذا أراد أن يدخل الخلاء بالخاء المعجمة ممدود أي: إذا أراد أن يدخل الخلاء بالخاء المعجمة ممدود أي إذا أراد دخول المكان المعد لقضاء الحاجة. وفي غير الأمكنة المعدة له في أول الشروع عند تشمير الثياب (قال اللهم) أصلها يا الله أدخلوا الميم المشددة عوضًا عن جمع الأسماء وعن حرف النداء (إني أعوذ بك) أي ألوذ والتجئ وأستجير بك (من الخبث) بضم الباب وتسكن جمع خبيث (والخبائث) جمع خبيثة. فكأنه استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم أو من الشر وأهله (متفق عليه) فدل على مشروعيته هذا الدعاء توقيًا لشرهم. (ولسعيد بن منصور) بن شعبة الخراساني الحافظ صاحب السنن المشهورة مات سنة سبع وعشرين ومائتين (كان يقول) أي إذا أراد دخول الخلاء (بسم الله) اللهم إلى آخره. ورواه المعمري بلفظ الأمر. وإسناده على شرط مسلم. وعن علي مرفوعًا ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف

أن يقول بسم الله. رواه الترمذي وقال ليس إسناده بالقوي. (وعن عائشة) بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين زوج النبي – - صلى الله عليه وسلم - تزوجها بنت ست، سنة عشر من النبوة ودخل بها في السنة الأولى من الهجرة وهي بنت تسع ولم يتزوج بكرًا غيرها. وكانت فقيهة كثيرة الحديث. وروى عنها جماعة توفيت بالمدينة سنة ثمان وخمسين قالت كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (إذا خرج) أي من الخلاء (قال غفرانك) أي أسألك غفرانك. من الغفر وهو المحو مع الستر، استغفر من تقصيره في شكر الله على إخراج ذلك الخارج منه بعد أن أنعم عليه فأطعمه ثم هضمه ثم سهل خروجه عليه (رواه الخمسة) وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم. (زاد ابن ماجه) على ما روت عائشة بعد غفرانك (عن أنس الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) من احتباسه. ورواه النسائي وابن السني عن أبي ذر وحسنه الحافظ. ولا تشترط الصحة للحديث في مثل هذا ولا خلاف في مشروعية هذه الأدعية. وفي الحمد هنا إشعار بأن هذه نعمة جليلة فإن انحباس ذلك الخارج من أسباب الهلاك فخروجه من النعم التي لا تتم الصحة بدونها. (وعن المغيرة بن شعبة) بن أبي عامر الثقفي أحد دهاة العرب أسلم عام الفتح وتوفي بالكوفة عاملاً عليها سنة خمسين

(قال انطلق رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -) يعني لما أراد قضاء الحاجة (حتى توارى عني) أي استتر عني (فقضى حاجته) كنى به عن نفس الحدث كراهية لذكره باسمه الصريح (متفق عليه) وللترمذي وصححه كان إذا ذهب أبعد. ولأبي داود حتى لا يراه أحد. ففيها دلالة على مشروعية التواري عن الأعين عند قضاء الحاجة. ويشهد لذلك أدلة ستر العورة. (وعن جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي الأنصاري أحد المكثرين مات بالمدينة سنة أربع وسبعين وله أربع وتسعون (مرفوعًا) إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - أي أنه قال (إذا تغوط الرجلان) أي جاءا الغائط وهو المنخفض من الأرض كنى به عن حاجة الإنسان كراهية لذكره بصريح اسمه (فليتوار) أي يستتر (كل واحد منهما عن صاحبه ولا يتحدثا) حال تغوطهما. (فإن الله يمقت على ذلك) والمقت أشد البغض (صححه ابن السكن) الحافظ أبو سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن البغدادي المتوفى سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وصححه ابن القطان وغيرهما. وضعفه بعض الحفاظ لأنه من رواية عكرمة ابن عمار. وقد احتج به مسلم واستشهد بحديثه البخاري. ولأحمد وأبي داود وغيرهما نحوه من حديث أبي سعيد ولمسلم عن ابن عمر أن رجلاً مر ورسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يبول فسلم عليه، فلم يرد عليه.

والحديث دال على أن تكلم الاثنين حال التغوط ينظر كل منهما إلى عورة صاحبه ويتحدثان كأنهما في مجلس مسامرة من الفعل الشنيع الموجب لمقت الله –عز وجل- والتعليل بمقت الله يدل على تأكد حرمة الفعل المعلل ووجوب اجتنابه. وأما تكلم الواحد للضرورة كإنقاذ أعمى أو إرشاد ضال. أو طلب حاجة. للاستنجاء مثلاً فلا بأس بذلك. ويأتي أنه – - صلى الله عليه وسلم - كلم ابن مسعود عندما أتاه بالروثة والحجرين وبال قائمًا فتنحي عنه فقال أدنه فدنا حتى قام عند عقبه. (وعن أنس قال كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء وضع خاتمه رواه الأربعة) أبو داود والترمذي والنسائي، وابن ماجه (وصححه الترمذي) ورد تصحيحه النووي. وقال المنذري الصواب تصحيحه فإن رواته ثقات أثبات. وأخرجه ابن حبان والحاكم وغيرهما وأورد له البيهقي شاهدًا والجوزجاني وفيهما مقال. والخاتم حلي يجعل للإصبع وقد يركب فيه فص من ياقوت وغيره وكان نقش خاتم رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "محمد رسول الله" متفق عليه. فيضع – - صلى الله عليه وسلم - خاتمه إعظامًا لاسم الله من أن يدخل به الخلاء. ودل الحديث على صيانة ما فيه ذكر الله عن المحلات المستخبثة فلا يدخل بها الخلاء. وليس خاصًا بالخاتم. وإن خاف ضياعه لم يكره. أو غفل عن تنحية ما فيه ذكر الله غيبه في

عمامة ونحوها. وأما المصحف فيحرم دخول الخلاء به من غير حاجة قطعًا. (وعن أبي هريرة أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال من أتى الغائط فليستتر) وذلك أن الشيطان يحضر تلك الأماكن وقت قضاء الحاجة ويرصدها بالأذى والفساد لخلوها عن الذكر الذي يطرده ولأنه تكشف فيه العورات (رواه الخمسة) وحسنه الحافظ وصححه ابن حبان وغيره. وفي إسناده مقال. وفيه "فإن لم يجد" أي ما يستره "إلا كثيبًا من رمل" يعني فليجمعه فليستتر به حال قضاء الحاجة. ويستتر ولو بإرخاء ذيله "فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم. من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج" ومحله إن لم يكن ثم من ينظره ممن يحرم عليه نظره. وإلا وجب الاستتار للأخبار. (وعنه) أي عن أبي هريرة –رضي الله عنه- (قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - استنزهوا) من التنزه وهو البعد. أي أبعدوا واستتروا وتطهروا (من البول) وعن عبادة: «فإذا مسكم منه شيء فاغسلوه» رواه البزار بسند حسن (فإن عامة عذاب القبر منه) أي من البول بسبب ملابسته له وعدم التنزه منه. لأنه يفسد الصلاة وهي عماد الدين. (رواه الدارقطني) الحافظ أبو الحسن علي بن عمر ابن أحمد بن مهدي البغدادي صاحب السنن وغيرها توفي سنة

خمس وثمانين وثلاثمائة. ولأحمد وغيره "أكثر عذاب القبر من البول". قال الحافظ وهو صحيح الإسناد وله شواهد (وأصله في الصحيحين) في القبرين يعذبان أحدهما "لا يستنزه" أي لا يستبرئ من البول ولا يتحفظ منه. ولابن عساكر "لا يستبرئ من البول" والاستبراء طلب البراءة باستفراغ ما في المخرج من الخبث ولا يستبعد منه وينبغي له أن يختار المكان الرخو ليأمن من رشاشة. وعند أبي نعيم "لا يتوقي" والكل مفيد نجاسة بول الإنسان ووجوب اجتنابه والتحرز منه وتحريم ملابسته وهو إجماع. (وعن أبي قتادة) الحارث بن ربعي الأنصاري فارس رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - شهد أحدًا وما بعدها وتوفي سنة أربع وخمسين (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) مسكت بالشيء أخذت به وأمسكته بيدي إمساكًا قبضته بها وفي رواية "فلا يأخذن أحدكم ذكره بيمينه"، وفي رواية "لا يمسن" تشريفًا وصيانة لها عن الأقذار (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه متفق عليه). وفيه النهي عن مس الذكر باليمين حالة البول والتمسح بها من الغائط. وكذا من البول كما يأتي، وهذا مجمع عليه، فلا يجوز استعمال اليمين في الأمرين والجمهور على أنه نهي تنزيه، ولا صارف له عن الحرمة. وهذا حيث استنجى بألة كالماء والاستجمار أما لو باشر النجاسة بيده، فحكى النووي الإجماع

على تحريمه. ويذكر فيه خلاف عند المالكية وغيرهم. (ولهما عن أبي أيوب) خالد بن زيد الأنصاري من أكابر الصحابة شهد بدرًا نزل عليه النبي – - صلى الله عليه وسلم - حال قدومه مات غازيًا سنة خمسين بالروم (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال إذا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها) أي: لا تستقبلوا الكعبة بفروجكم عند خروج غائط وبول ولا تستدبروها. وهو ضد الاستقبال (ولكن شرقوا أو غربوا) أي وجهوا إلى المشرق أو المغرب. وهذا خطاب منه – - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ومن جرى مجراهم. وأما من كانت قبلته إلى المشرق أو المغرب، فإنه يتحول إلى الجنوب أو الشمال، وعن أبي هريرة مرفوعًا "إذا جلس أحدكم على حاجة فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها" رواه مسلم. وله عن سلمان نهانا ونحوه عن معقل وغيره. قال الحافظ جاء النهي عن استقبال القبلة واستدبارها في غير ما حديث صحيح مشهور تغني شهرته عن ذكره لكونه نهيًا مجردًا. وقال شيخ الإسلام الأحاديث وردت على المنع من استقبالها واستدبارها ببول أو غائط لتضمنه أمرين: أحدهما خروج الخارج المستقذر. والثاني كشف العورة قال ابن القيم ولا فرق بين الفضاء والبنيان لبضعة عشر دليلاً، وهو أصح المذاهب في هذه المسألة وليس مع من فرق ما يقاومها ألبتة اهـ.

وينبغي لمن نسي أو غلط أن ينحرف ويستغفر الله تعالى قال أبو أيوب فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله –عز وجل. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتقوا اللاعنين) أي اتقوا الأمرين الجالبين للعن الباعثين الناس عليه، فإنه سبب للعن من فعله فنسب إليهما بصيغة المبالغة أحدهما (الذي يتخلى في طريق الناس) أي سبيلهم الذي يسلكونه. والأمر الثاني قوله (أو في ظلهم) الذي يستظلون به ويعتادون الجلوس فيه أو يتخذونه مقيلاً ومناخًا (رواه مسلم). وإضافة السبيل والظل إليهم دليل على إرادة الطريق المسلوك والظل المنتفع به. وإلا فقد قضاها – - صلى الله عليه وسلم - تحت حائش نخل وغيره. وروى البيهقي أنه قال (من سل سخيمته على طريق عامر من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) وذلك لما فيه من أذية المسلمين بتنجيس من يمر به ونتنه واستقذاره. (زاد أبو داود عن معاذ) بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي الأنصاري كان إليه المنتهى في العلم توفي سنة ثماني عشرة وله ثمان وثلاثون. ولفظه "اتقوا الملاعن الثلاث" (و) ذكر (الموارد) أي المجاري والطرق إلى الماء واحدها مورد. فإنه إذا بال أو تغوط فيها نجسهم كما إذا فعل ذلك في طريقهم.

(و) زاد (أحمد) عن ابن عباس (أو نقع ماء) والمراد به الماء المجتمع. وفي الصحيحين النهي عن البول في الماء الراكد ويقال المراد مكان الماء الذي يستقي منه وينتفع به. (وأخرج الطبراني) سليمان بن أحمد الإمام الحجة صاحب المسند الكبير وغيره المتوفي بالرملة سنة اثنتين وتسعين ومائتين (من حديث ابن عمر النهي عن التخلي "تحت الأشجار المثمرة وفيها ضعف) الأول مرسل لم يسمع أبو سعيد من معاذ. والثاني فيه ابن لهيعة. والراوي عن ابن عباس مبهم. والثالث فيه فرات بن السائب متروك. لكن قال النووي وغيره اتقاؤها متفق عليه بين أهل العلم، وذلك لما فيه من أذية المسلمين وإلقاؤها كذلك. (وعن ابن مسعود) عبد الله بن مسعود الهذلي أحد السابقين والفقهاء الربانيين توفي سنة اثنتين وثلاثين وله ستون (قال أتى النبي – - صلى الله عليه وسلم - الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين ولم أجد ثالثًا فأتيته بروثة) الروث للفرس والبغل والحمار (فأخذهما وألقى الروثة وقال أنه ركس) بكسر الراء وسكون الكاف. أي نجس (رواه البخاري) زاد أحمد ائتني بغيرها. وفيه مشروعية الاستجمار بالأحجار. قال شيخ الإسلام وغيره قد تواترت به السنة. ودل هذا الحديث وغيره على جواز الاجتزاء به. وأجمع

المسلمون عليه. ولم يخص الحجر إلا لأنه كان الموجود غالبًا لا لأن الاستجمار بغيره لا يجوز. ونهيه عن الرجيع والعظم يدل على أنه لو تعينت الحجارة لنهي عما سواها. قال شيخ الإسلام والصواب قول الجمهور في جواز الاستجمار بغير الأحجار. وقال أمر – - صلى الله عليه وسلم - بالاستجمار بثلاثة أحجار. فمن لم يجد فثلاث حثيات من تراب. قال أبو حامد وغيره هو قول العلماء كافة. وقال ابن القيم. فلو ذهب معه بخرقة وتنظف بها أكثر من الأحجار أو قطن أو صوف أو خز ونحو ذلك جاز. وليس للشارع غرض في غير التنظيف والإزالة. فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز وأولى. قال شيخنا وغيره. كل جامد طاهر ليس بعظم ولا روث ولا محترم فيه خشونة تنق المخرج حكمه حكم الحجر. (ولمسلم عن سلمان) الفارسي ويقال له سلمان الخير. مولى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أصله من فارس سافر لطلب الدين وتنقل حتى انتهى إلى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فآمن به. وقال (سلمان منا أهل البيت) قيل إنه عاش مائتين وقيل ثلاث مائة وخمسين ومات سنة خمسين (قال نهانا رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة بغائط أو بول) وتقدم في المتفق النهي عن استدبارها وتحريمه مجمع عليه. (أو أن نستنجي باليمين) أي أن نغسل بها أثر الخارج صيانة لها عن الأقذار. فيصب باليمين ويسنجي بالشمال.

وتقدم ولا يتمسح من الخلاء بيمينه. وذلك لغير ضرورة كقطع شماله. وحاجة كجرحها (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) أي نزيل النجو وهو الغائط بها. ولأحمد عن جابر إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثًا. فدل على أنه لا بد في طهارة المحل من ثلاثة. أو ما يقوم مقامها. قال شيخ الإسلام عليه تكميل المأمور به وإن أنقى بدونه. وعلامة الإنقاء أن لا يبقى في المحل شيء لا يزيله إلا الماء (أو أن نستنجي برجيع أو عظم) والرجيع العذرة والروث سمي رجيعًا لأنه رجع عن حالته الأولى بعد أن كان طعامًا أو علفًا. ولأحمد عنه نهانا أن نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا عظم. ولمسلم والترمذي (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن) وقال العمل عليه عند أهل العلم. (وعن أبي هريرة "نهى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أن يستنجى بعظم أو روث، وقال أنهما لا يطهران" صححه الدارقطني) وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب إسناده جيد. وقال شيخ الإسلام. الاستنجاء بالرجيع لا يجوز بحال إما لنجاسته. وإما لكونه علفًا لدواب إخواننا من الجن. وقد تنازع العلماء فيما إذا استجمر بأقل من ثلاثة أحجار أو استجمر بمنهي عنه كالروث والرمة واليمين هل يجزئه؟ والصحيح أنه إذا استجمر بأقل من ثلاثة أحجار فعليه تكميل المأمور به، وأما إذا

استجمر بالعظم واليمين فإنه قد يجزئه فإنه قد حصل المقصود بذلك. وإن كان عاصيًا. والإعادة لا فائدة فيها. ولكن يؤمر بتنظيف العظم مما لوثه به اهـ والجمهور أنهما لا يطهران ولعله لم يثبت عنده الخبر. (وعنه مرفوعًا من استجمر فليوتر) أي يقطع على وتر (متفق عليه) زاد أحمد "من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج" أي أن القطع على وتر سنة فيما زاد على ثلاث جمعًا بين النصوص ولا تحديد في الماء بل يستنجي به حتى يرى أنه أنقى المحل. (واتفقا) أي البخاري ومسلم (على) إخراج أحاديث (استنجائه) – - صلى الله عليه وسلم - (بالماء من حديث أنس) ولفظه "كان يدخل الخلاء. فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء" (و) كذلك على إخراج (غيره) كحديث عائشة وميمونة ويأتي. ولأبي داود والنسائي من حديث أبي هريرة وجرير والترمذي وصححه عن عائشة أنها قالت مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحيهم. وأن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فعله وتقدم حكاية الإجماع على جواز الاجتزاء بالاستجمار. ولا يكره الاقتصار عليه لكن الماء أفضل من الحجر إجماعًا لأن الماء يزيل عين النجاسة. والجمهور على أن الجمع بينهما أفضل. وروى أحمد والبزار بسند ضعيف أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - سأل أهل قباء لما نزلت (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) فقالوا إنا

باب السواك

نتبع الحجارة الماء. وأصله في سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة وصححه ابن خزيمة أنهم كانوا يستنجون بالماء ولكن ليس فيه أنهم كانوا يجمعون بينهما. باب السواك وسنن الفطرة. السواك يذكر ويؤنث وجمعه سوك ويهمز من التساوك وهو التمايل أو التسوك وهو التردد. لأن السواك يتردد في الفم أو من ساك الشيء إذا دلكه. وفي الاصطلاح استعمال عود أو نحوه في الأسنان ليذهب نحو صفرة ورائحة. وأول من استاك الخليل عليه الصلاة والسلام. (عن عائشة) –رضي الله عنها- (أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال السواك مطهرة) بفتح الميم وكسرها أي منظف (للفم) والمطهرة كل آلة يتطهر بها شبه السواك بها لأنه ينظف الأسنان وسائر الفم والطهارة النظافة (مرضاة للرب) أي يرضي الرب تبارك وتعالى وفي فضله أكثر من مائة حديث واتفقوا على أنه سنة مؤكدة لحث الشارع عليه وترغيبه فيه. وقال داود بوجوبه. وقال النووي سنة وليس بواجب في حال من الأحوال بإجماع من يعتد به في الإجماع. (وعن أبي هريرة) –رضي الله عنه- (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء) أي لولا خشيته - صلى الله عليه وسلم - المشقة أي الثقل على أمته لأمرهم باستعمال

السواك عند كل وضوء أمر إيجاب فإنه – - صلى الله عليه وسلم - ترك الأمر به لأجل المشقة لا أمر الندب فإنه قد ثبت بلا مرية وأجمع عليه (رواهما أحمد) وغيره بأسانيد صحيحة (والبخاري تعليقًا) والمعلق هو ما يسقط من أول إسناده راو فأكثر. والحديث دليل على تعيين وقته عند كل وضوء وهو حال المضمضة فهو من المطهرات. وعند عدم السواك يجزئ بأي شيء يزيل التغير حكاه الموفق والنووي وغيرهما. وروى البيهقي، والحافظ في المختارة "يجزئ من السواك الأصابع" ولأحمد عن علي في صفة الوضوء "فادخل بعض أصابعه في فيه" فيصيب من السنة بقدر ما يحصل من الإنقاء. (وفي الصحيحين) عن أبي هريرة –رضي الله عنه- بلفظ (عند كل صلاة) وفي معناه عدة أحاديث عن جماعة من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - ولأبي نعيم بسند جيد (لأن أصلي ركعتين بسواك أحب إلي من أن أصلي سبعين ركعة بلا سواك) ولأنا مأمورون في كل حالة من أحوال التقرب إلى الله أن نكون في حال كمال ونظافة إظهارًا لشرف العبادة. (وفيهما) أي وفي الصحيحين أيضًا (عن حذيفة "كان - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك) والشوص الدلك من شاصه يشوصه وماصه يموصه إذا دلكه. وفي حديث أبي موسى الأشعري "وطرف السواك على لسانه وهو يقول أع أع والسواك

في فيه كأنه يتهوع" أي من أجل المبالغة. ولأحمد عن عائشة كان لا يرقد ليلاً ولا نهارًا فيستيقظ إلا تسوك. ولمسلم وغيره نحوه من وجوه تدل على تأكد استحبابه عند القيام من النوم لأنه مقتض لتغير الفم لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة والسواك ينظفه. (ولمسلم عن عائشة كان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك) فيه بيان فضيلة السواك في جميع الأوقات وشدة الاهتمام به وتكراره ويتأكد عند قراءة القرآن لحديث علي "أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك" رواه ابن ماجه. ويتأكد عند تغير رائحة الفم مطلقًا فإنه مشروع لتطييب الفم وإزالة رائحته. حكاه الوزير وغيره اتفاقًا وله فوائد جمة. (وعن عامر بن ربيعة) بن كعب بن مالك أحد السابقين مات سنة سبع وثلاثين (قال رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ما لا أحصي يتسوك وهو صائم رواه الخمسة) وحسنه الترمذي والحافظ وعلقه البخاري وله شواهد. وعن عائشة، قالت قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (من خير خصال الصائم السواك) رواه ابن ماجه وفيه ضعف. فدل هذان الحديثان وغيرهما على استحباب السواك للصائم من غير تقييد بوقت وأنه من خير خصال الصائم من غير فرق بين ما قبل الزوال وما بعده. وما روي عن علي

استاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي ضعيف. ولا يعارض به ما تواتر من الأحاديث المطلقة. قال الشيخ والزركشي وغيرهما. وهو قول أكثر العلماء. وأكثر الأحاديث الواردة فيه تدل على استحبابه للصائم بعد الزوال كما يستحب قبله والإطلاق في سائرها يدل عليه. ولم يثبت في كراهته شيء قال شيخنا وعدم كراهته أصح القولين. وخلوف فم الصائم ليس في محل السواك إنما هو من المعدة ومرضاة الرب أطيب من ريح المسك. قال الشيخ والقياس يقول بموجبه. والسواك نوع من التطهير المشروع لأجل الرب سبحانه لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه تعظيم لا شك فيه ولأجله شرع السواك. قال الحافظ والحق أنه يستحب السواك للصائم أول النهار وآخره وهو مذهب جمهور الأئمة. (وعن أبي هريرة) –رضي الله عنه- (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس من الفطرة) أي هذه الخمس إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها وحثهم عليها واستحبها لهم ليكونوا على أكمل الصفات واشرفها صورة وقال البيضاوي هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع (الاستحداد)، وفي رواية لمسلم "حلق العانة" سمي استحدادًا لاستعمال الحديدة فيه وهي الموسى. والعانة الشعر فوق ذكر الرجل وحول فرج المرأة وهو سنة بالاتفاق ويكون بالحلق والقص والنتف والنورة.

(والختان) وهو قطع جميع الجلدة التي تغطي الحشفة حتى ينكشف جميع الحشفة. والجمهور أنه زمن صغر أفضل لأنه أسرع برءًا ولينشأ على أكمل الأحوال. والختان في المرأة قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج. ولقوله "اخفضي ولا تنهكي فإنه أبهى للوجه وأحضى عند الزوج". والمقصود من ختان الرجل تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة. ومن المرأة تعديل شهوتها وهو مكرمة لها. وأما وجوبه فقال شيخ الإسلام عليه أن يختتن إذا لم يخف ضرر الختان فإن ذلك مشروع مؤكد للمسلمين باتفاق الأئمة وهو واجب عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه وقال ابن المنذر ليس في وجوب الختان خبر يرجع إليه والمتيقن السنة (وقص الشارب) وهو ما سال على الفم من الشعر جمعه شوارب. وللترمذي وصححه من لم يأخذ شاربه فليس منا. وقصه سنة بالإجماع (ونتف الإبط) بكسر الهمزة وسكون الباء باطن المنكب جمعه آباط. ونتف الشعر ينتفه نتفًا نزعه أي فيسن نتف شعر إبطه إجماعًا ويحصل أيضًا بالحلق والنورة (وتقليم الأظفار متفق عليه) تقليم تفعيل من القلم وهو القطع والأظفار جمع ظفر وتقليمها سنة مجمع عليه. ولمسلم عشر من الفطرة. وذكر إعفاء اللحية. والسواك واستنشاق الماء. وغسل البراجم. وهي عقد الأصابع وانتقاص الماء يعني الاستنجاء. قال شيخنا فيه مشروعية هذه المذكورات

إلا الختان ففيه قول أنه للوجوب وذكرت مع السواك بجامع أن كلاً منها فيه نقاء ونظافة وتحسين كالسواك وبعضها فيه كمال للطهارة. (ولهما عن ابن عمر مرفوعًا: «احفوا الشوارب») أي بالغوا في قصها واستقصوا في أخذها؛ وحفها أولى من قصها عند الجمهور وما ورد بلفظ القص لا ينافي الإحفاء؛ لأن الإحفاء معين للمراد (وأعفوا اللحى) بكسر اللام وضمها واحدتها لحية بكسر اللام اسم للشعر النابت على الخدين والذقن، وفي الصحيحين أيضًا: «خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب»، وفي رواية: «أوفوا اللحى» أي اتركوها وافية. قال شيخ الإسلام وغيره يحرم حلقها للأحاديث الصحيحة ولم يبحه أحد. وحكى ابن حزم الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض. (وعنه نهى) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (عن القزع) وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه مأخوذ من قزع السحاب وهو تقطعه. والقزعة الخصلة من الشعر تترك على رأس الصبي. وهذا الحديث متفق عليه وزاد أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد صحيح. قال: «احلقوه كله» أي كل رأس الصبي: «أو دعوه كله» قال ابن القيم. والزع أربعة أنواع أن يحلق من رأسه مواضع من ههنا ومن ههنا، وأ، يحلق وسطه ويترك جوانبه. وأن يحلق جوانبه ويترك وسطه، وأن يحلق مقدمه ويترك مؤخره فهذا كله من القزع.

(وعن أبي هريرة مرفوعًا "أن اليهود والنصارى لا يصبغون) يعني الشيب (فخالفوهم) وهذا أيضًا متفق عليه والعلة في شرعية الصباغ وتغيير الشيب هي مخالفة أهل الكتاب فيتأكد استحبابه لذلك. وقد كان – - صلى الله عليه وسلم - يبالغ في مخالفة أهل الكتاب ويأمر بها ومن فوائده تنظيف الشعر وهذه السنة قد اشتغل السلف بها وبه قال جماعة من العلماء وفي صحيح مسلم اختضب أبو بكر بالحناء والكتم (¬1)، واختضب عمر بالحناء بحتًا، ولهما عن أنس بالحناء والكتم. وعن ابن عمر وأبي رمثة أنه اختضب – - صلى الله عليه وسلم - وللترمذي وصححه عن أبي ذر أن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم. (ولمسلم عن جابر في شعر أبي قحافة) والد أبي بكر الصديق وكان جيء به إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - وكأن رأسه ثغامة (قال غيروه بشيء وجنبوه السواد) ولأحمد عن أنس لحيته ورأسه كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - غيروهما وجنبوهما السواد. فدلت هذه الأحاديث على مشروعية تغيير الشيب وعلى تحريم الخضاب بالسواد. وعن ابن عباس قال قال رسول ¬

_ (¬1) قال ابن القيم الكتم نبت ينبت بالسهول ورقه قريب من ورق الزيتون يعلو فوق القامة وله ثمر قدر حب الفلفل داخله نوى إذا رضخ أسود وقد ظن بعض الناس أن الكتم الوسمة وهي ورق النيل وهذا وهم فإن الوسمة غير الكتم، والحناء والكتم يجعلان الشعر بين الأحمر والأسود بخلاف الوسمة.

باب فروض الوضوء وصفته

الله - صلى الله عليه وسلم - يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يرحون رائحة الجنة رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم والحافظ. وللطبراني عنه "من مثل بالشعر ليس له عند الله خلاق" قال الزمخشري صيره مثلة بأن نتفه أو حلقه من الخدود أو غيره بسواد قال النووي والصحيح بل الصواب أنه حرام وذكر ابن القيم أن الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من تغيير بغير الشيب نتفه وتغييره بالسواد والذي أذن فيه هو صبغه وتغييره السواد كالحنا والصفرة وهو الذي عمله الصحابة ومن رخص فيه ففي ثبوته عنهم نظر. ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته أحق بالاتباع. ولو خالفها من خالفها. باب فروض الوضوء وصفته الفروض جمع فرض والفرض في الأصل الحز والقطع أو التقدير. لأن الفروض مقدرات. وفي الشرع ما أثيب فاعله وعوقب تاركه. والوضوء بالضم فعل المتوضئ. وهو إمرار الماء على الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة من الوضاءة وهي النظافة سمي بذلك لأنه ينظف المتوضيء ويحسنه وصفة الوضوء كيفيته مصدر وصفه يصفه وصفًا وصفة: نعته بما فيه لما ذكر الماء الذي تحصل به الطهارة وأردفه بالاستنجاء أتبعه بالوضوء لأن مشروعية الاستنجاء قبله لا نزاع فيها وإنما قدم السواك على

الوضوء. للإتيان به في أوله عند المضمضة ثم أعقب ذلك بسائر مقاصد الطهارة. والوضوء من أعظم شرائط الصلاة والدليل على وجوبه وشرطيته الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فالآية المذكورة. وأما السنة فمنها ما في الصحيحين "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ولمسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور". وغيرهما وأما الإجماع، فقال ابن رشد لم ينقل في ذلك خلاف. واتفق المسلمون على شرطيته. وورد في فضله أحاديث كثيرة منها قوله "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" وقوله: "من توضأ كما أمره الله خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". (قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} قال ابن مسعود إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فاصغ سمعك لجوابها فهو إما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه {إذا قمتم إلى الصلاة} يعني وأنتم على غير طهر {فاغسلوا وجوهكم} بالماء والغسل في الأصل من غسل الشيء سال وغسله يغسله غسلاً طهره بالماء وأزال الوسخ ونحوه عنه بإجراء الماء عليه وقدم الوجوه جمع وجه وهو في الأصل من المواجهة فشرع غسله الذي نظافته ووضاءته عنوان على نظافة القلب. وشرع بعده غسل اليدين لأنهما أحق الأعضاء بالنظافة والنزاهة بعده فقال: {وأيديكم إلى المرافق} جمع مرفق موصل الذراع في العضد. والأيدي جمع يد وإلى تستعمل بمعنى مع كقوله {ولا تأكلوا

أموالهم إلى أموالكم} أي مع أموالكم. وفعله عليه الصلاة والسلام يبينه. وعن جابر: "أدار الماء على مرفقيه" رواه الدارقطني. ولمسلم "غسل يده حتى أشرع في العضد". وذكروا أن المغيا لا يدخل في الغاية إلا في ثلاث. غسل اليدين إلى المرفقين. والرجلين إلى الكعبين. والتكبير المقيد {وامسحوا برؤوسكم} الباء للإلصاق أي إلصاق الفعل بالمفعول فكأنه قال الصقوا المسح برؤوسكم يعني بالماء فشرع الله سبحانه مسح جميع الرأس وأقامه مقام الغسل تخفيفًا. {وأرجلكم إلى الكعبين} أي مع الكعبين فإلى بمعنى مع كما تقدم. والأحاديث في صفة الوضوء. ولمسلم حتى أشرع في الساق. والكعبان هما العظمان الناتئان من جانبي القدم. وهما مجمع مفصل الساق والقدم. قال النووي. وهذا بإجماع الناس خلافًا للشيعة. وأرجل بالنصب أعاد الأمر إلى الغسل. وعلى القراءة بالخفض لا يخالف ما تواتر عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - من غسل الرجلين. قال شيخ الإسلام فإن المسح جنس تحته نوعان. الإسالة وغير الإسالة كما تقول العرب تمسحت للصلاة. فما كان بالإسالة فهو غسل. وعن عمرو "ثم غسل رجليه" كما أمره الله وتواتر عنه – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ويل للأعقاب من النار قال الشيخ والله أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين. وهذا هو الغسل وذكر المسح على الرجلين تنبيهًا على قلة الصب على الرجل فإن السرف يعتاد فيها كثيرًا اهـ.

وهذه الأعضاء هي آلات الأفعال التي يباشر بها العبد ما يريد فعله. وبها يعصى الله ويتقى. وهي أسرع ما يتحرك من البدن للمخالفة. ورتب غسلها على ترتيب سرعة حركتها في المخالفة. أو لشرفها. وتنبيهًا بغسل ظاهرها على تطهير باطنها. وأخبر – - صلى الله عليه وسلم - أنه كلما غسل عضوًا منها حط عنه كل خطيئة أصابها بذلك العضو. وفي آخر الآية {ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}. وهل هذه الآية مؤسسة للحكم أو مقررة للحكم الثابت. روى ابن ماجه من طريق رشدين أن جبرائيل علم النبي – - صلى الله عليه وسلم - الوضوء عند نزوله عليه بالوحي. وقال ابن المنذر معلوم عند جميع أهل السير أنه لم يصل قط إلا بوضوء. ولأحمد قال "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي". وقال شيخ الإسلام الوضوء من خصائص هذه الأمة. كما جاءت به الأحاديث الصحيحة "أنهم يبعثون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء" وأنه يعرفهم بهذه السيماء. فدل على أنه لا يشاركهم فيها غيرهم. وما رواه ابن ماجه لا يحتج به وليس له عند أهل الكتاب خبر عن أحد من الأنبياء أنه يتوضأ وضوء المسلمين. (وعن عمر بن الخطاب) بن نفيل بن عبد العزى العدوي أمير المؤمنين الخليفة الثاني أفضل الصحابة بعد الصديق –رضي الله عنهما- ولي بعده عشر سنين ونصفًا وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر، أستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث

وعشرين (قال سمعت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يقول "إنما الأعمال بالنيات) أي إنما المنوي بحسب ما نواه العامل ونوى الشيء ينويه نواء ونية قصده وعزم عليه. والألف واللام للاستغراق وأكده بقوله (وإنما لكل امرئ ما نوى متفق عليه) وعن علي لا عمل لمن لا نية له. فالنية سر العبودية وروحها. قال الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}، ومعلوم أن إخلاص النية للمعبود أصل النية. والعمل الذي لم ينو ليس بعبادة. ولا مأمورًا به فلا يكون فاعله متقربًا إلى الله. وهذا لا يقبل نزاعًا وكيف يؤدي وظائف العبودية من لم يخطر بباله التمييز بين العبادات والعادات. ولا بين مراتب تلك الوظائف هذا أمر ممتنع عادة وعقلاً وشرعًا كما قاله الشيخ وغيره فلا يصح الوضوء ولو مستحبًا إلا بالنية. وكذا سائر العبادات. وفي حديث عثمان. أن الوضوء طاعة من الطاعات وعمل من الأعمال أي فلا بد فيه من النية. (وعن أبي هريرة قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" رواه أحمد وغيره) فرواه أبو داود وابن ماجه والترمذي عن سعيد بن زيد (بسند ضعيف) وله شواهد لا تخلو من مقال. قال الحافظ مجموعها يحدث منها قوة تدل على أن له أصلاً وقال ابن أبي شيبة ثبت لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله. وقال بعض أهل العلم. لا وضوء حقيقة في نفسه، فهو نص فيها أنها

ركن أو شرط. ولو صلحت للاحتجاج لم يصح وضوء تاركها عمدًا. بخلاف الساهي فإن وضوءه صحيح وعن أحمد سنة وفاقًا، وقال أرجو أن يجزئه الوضوء لأنه ليس في التسمية حديث أحكم به. قال ابن سيد الناس. روي في بعض الروايات لا وضوء كاملاً. وإن صح فيحمل على تأكد الاستحباب ونفي الكمال بدونها. قال شيخ الإسلام ولا تشترط في الأصح. والمراد من ذكره هنا أن التسمية مشروعة في الوضوء ولا نزاع في ذلك. (وعنه أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال إذا استيقظ أحدكم من نومه) أي انتبه منه (فلا يغمس يده في الإناء) أخرج البرك والحياض. قال شيخ الإسلام أي الإناء الذي للماء المعتاد لإدخال اليد وهو الصغير (حتى يغسلها ثلاثًا) فدل الحديث على المنع من إدخال اليد إلى إناء الوضوء عند الاستيقاظ حتى يغسلها ثلاثًا ويتأكد من نوم الليل لقوله (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده متفق عليه). وقال النووي وغيره ليس مخصوصًا بالقيام من النوم. بل المعتبر الشك في نجاسة اليد فمتى شك في نجاستها كره له غمسها في الإناء قبل غسلها سواء كان قام من نوم ليل أو نهار أو شك. (ولهما عن عثمان) بن عفان الأموي القرشي ثالث الخلفاء الراشدين هاجر إلى الحبشة مرتين وتزوج ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخلف سنة أربع وعشرين واستشهد سنة خمس وثلاثين وله اثنتان وثمانون (أنه دعا بوضوء) أي بماء يتوضأ به

(فغسل كفيه ثلاث مرات) وهو سنة باتفاق أهل العلم (ثم تمضمض) أي حرك الماء في فمه ثم إن شاء مجه (واستنشق) أي أوصل الماء إلى أنفه ثم جذبه بريح الأنف إلى داخله ليزول ما فيه (واستنثر) أي طرح الماء من أنفه بنفسه بعد الاستنشاق مع وضع إصبع يساره على أنفه. يمضمض ثلاثًا ويستنشق ويستنثر ثلاثًا. يجمع بينهما بثلاث غرفات كما في حديث علي، "تمضمض واستنشق واستنثر ثلاثًا بثلاث غرفات" متفق عليه. ولهما من حديث عبد الله بن زيد "توضأ فمضمض واستنشق ثلاثًا بكف واحد" يأخذ غرفة فيجعل بعضها في فمه وبعضها في أنفه ثم ثانية وثالثة هكذا كل ذلك من كف واحد. وفيها دليل على وجوب المضمضة والاستنشاق والبداءة بهما، وكل من وصف وضوءه – - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل أنه ترك المضمضة والاستنشاق وهما في حكم الظاهر. وفي الصحيحين "من توضأ فليستنشق" وقال "استنشقوا مرتين بالغتين أو ثلاثًا" وللترمذي وصححه "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" قال أحمد وأنا أذهب إليه لأمر النبي – - صلى الله عليه وسلم - وعنه سنة وفاقًا لمالك والشافعي. وحكى ابن المنذر أنه لا خلاف في أن تاركهما لا يعيد. (ثم غسل وجهه ثلاث مرات) ولا نزاع في أن الثلاث سنة وإن المرة واجبة (ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات) وفيه بيان لما أجمل في الآية من قوله {وأيديكم إلى المرافق} (ثم اليسرى مثل ذلك) أي ثم غسل يده اليسرى

مثل غسل اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات. وللطبراني عنه "غسل يديه إلى المرفقين حتى مسح أطراف العضدين". وللبزار من حديث وائل "حتى جاوز المرافق" ولمسلم والطبراني، وغيرهما نحوه. وخبر حتى أشرع في العضدين وحتى أشرع في الساقين إنما يدل ونحوه على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء. وفي الحديث مشروعية تقديم اليمين على الشمال. ولهما عن عائشة مرفوعًا "كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله" وللخمسة عن أبي هريرة "إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم" وأجمعوا على سنيته فمن تركه تم وضوءه وفاته الفضل. قال الموفق وغيره لا نعلم في عدم وجوبه خلافًا (ثم مسح برأسه) وهذا موافق للآية للإتيان بالباء للإلصاق قال شيخ الإسلام اتفق الأئمة على أن السنة مسح جميع الرأس كله كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة. والذين نقلوا وضوءه – - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل أحد منهم أنه اقتصر على مسح بعضه. وقياس مسح الرأس على مسح الوجه واليدين في التيمم في وجوب الاستيعاب والفعل. والباء والأمر في الموضعين سواء. ومسحه مرة يكفي بالاتفاق. ولا يستحب ثلاثًا. وقال ابن القيم الصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه بل كان إذا كرر غسل الأعضاء أفرد مسح الرأس هكذا جاء عنه صريحًا. ولم يصح عنه خلافه ألبتة. وقال أبو داود أحاديث عثمان الصحاح تدل على أن مسح الرأس مرة وقال غير واحد

أجمع الناس قبل الشافعي على عدم التكرار. وحكي عنه مرة واختاره البغوي والبيهقي وغيرهما (ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ثم اليسرى مثل ذلك) أي إلى الكعبين ثلاث مرات. (ثم قال) يعني عثمان –رضي الله عنه- (رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا) أي توضأ وضوءًا مثل وضوئي هذا ثم قال. "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه" وروى صفة وضوئه – - صلى الله عليه وسلم - على نحو من هذه الصفة جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. وغسل هذه الأعضاء فرض بإجماع المسلمين. وحكى النووي وغيره الإجماع على أن الواجب غسل الأعضاء مرة مرة. وعلى أن الثنتين والثلاث سنة. وفي الصحيح وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه "توضأ مرة مرة، وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وعن عبد الله بن زيد مرتين مرتين وعن غير واحد نحوه وبعض الأعضاء ثلاثًا وبعضها بخلاف ذلك. (وعن عبد الله بن زيد) بن عاصم الأنصاري المازني النجاري قاتل مسيلمة هو ووحشي استشهد سنة ثلاث وستين، في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (ومسح - صلى الله عليه وسلم - رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة)، وفسر الإقبال باليدين والإدبار بهما وكونه مرة واحدة بقوله (بدأ بمقدم رأسه) أي: وضع كفيه وأصابعه عند جبهته وأمرهما على رأسه (حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما

إلى المكان الذي بدأ منه متفق عليه). فإن الفاء في "أقبل" والواو في "أدبر" لا يقتضيان الترتيب، فالتقدير أدبر وأقبل كما في صحيح البخاري "فأدبر به، وأقبل" لأن ذهابه إلى جهة القفاء إدبار ورجوعه إلى جهة الوجه إقبال. وقد يحمل الاختلاف في الروايات على تعدد الحالات. ولأبي داود عن المقدام "وضع كفيه على مقدم رأسه فأمرهما حتى بلغ القفا، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه". وله من حديث علي في صفة الوضوء "ومسح برأسه واحدة"، وقال الترمذي وقد روي من غير وجه عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح برأسه مرة واحدة. والعمل عليه عند أكثر أهل العلم. (ولمسلم عنه) أي عن عبد الله بن زيد في صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم - قال (ومسح رأسه بماء غير فضل يديه) فأخذ ماء جديد للرأس لا بد منه. وهو مقتضى الأحاديث بل دل على أن كل عضو يجدد له ماء. ولا يغسل بفضل العضو قبله. ولقوله في حديث عبد الله بن زيد "ثم أدخل يده أي في الإناء فاستخرجها". (ولأبي داود عن عبد الله بن عمرو) بن العاص بن وائل السهمي القرشي أسلم قبل أبيه وكان أبوه أكبر منه بثلاث عشرة سنة توفي سنة ثلاث وأربعين. في صفة وضوء النبي – - صلى الله عليه وسلم - وهو كالأحاديث السابقة في وصفه قال (ثم مسح برأسه وأدخل

إصبعيه السباحتين) أي مسبحة اليد اليمنى واليسرى وسميت سباحة لأنه يشار بها عند التسبيح (في أذنيه) يعني: في صماخي أذنيه (ومسح بإبهاميه) تثنية إبهام. أي مسح بإبهامي يديه (ظاهر اذنيه) اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى، "وبالسباحتين باطنهما". وللترمذي وصححه عن ابن عباس ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما. فدل الحديثان على شرعية مسح الظاهر بالإبهامين والباطن بالسباحتين قال ابن القيم ولم يثبت أنه أخذ لهما ماء جديدًا. وقال الحافظ المحفوظ أنه مسح رأسه بماء غير فضل يديه والأذنان من الرأس في غير ما حديث. واختار شيخ الإسلام وغيره أنهما يمسحان بمائه وهو مذهب الجمهور. (وعن جابر في صفة الحج) أي حج النبي – - صلى الله عليه وسلم - وهو حديث طويل جليل من حين خروجه من المدينة إلى أن قضى حجه – - صلى الله عليه وسلم -. ويأتي إن شاء الله تعالى ومنه قال (ابدءوا بما بدأ الله به" رواه النسائي) هكذا (بلفظ الأمر وهو عند مسلم بلفظ الخبر) أي: بلفظ نبدأ أو أبدأ وذلك لما دنا من الصفا. فأفاد الحديث أن الذي بدأ الله به ذكرًا نبتدئ به فعلاً فإن كلامه تعالى وتقدس كلام حكيم لا يبدأ ذكرًا إلا بما يستحق البداءة به فعلاً فإنه مقتضى البلاغة وهو وإن كان في الصفا والمروة فهو دليل على البداءة في الوضوء بما بدأ الله به. والعرب

تبدأ بالأهم فالأهم، فإن آية الوضوء داخلة تحت الأمر بقوله (ابدؤا بما بدأ الله به). وترتيبه الأعضاء الأربعة وإدخاله الممسوح بين المغسولات، وهي جنس واحد دال على الترتيب. والآية سيقت لبيان الواجب. والنبي – - صلى الله عليه وسلم - رتب الوضوء كذلك. وقال "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" فيجب غسل الوجه ثم ما بعده على الترتيب. قال شيخ الإسلام ولم يتوضأ – - صلى الله عليه وسلم - قط إلا مرتبًا. ولا مرة واحدة في عمره. كما لم يصل إلا مرتبًا. وهو قول جماهير العلماء. وما روي عن الحنفية مستدلين بحديث ابن عباس أنه "مسح رأسه بفضل وضوئه" لا يعرف له طريق صحيح يتم الاستدلال به. (وله) أي لمسلم (من حديث عمر في رجل) توضأ و (ترك موضع ظفر على قدمه) فابصره النبي – - صلى الله عليه وسلم - فـ (قال إرجع فأحسن وضوءك) ولأحمد وأبي داود عن أنس نحوه. وعن بعض أزواج النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه "رأى رجلاً يصلي، وفي بعض قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة". فهذا الخبر يدل على الوجوب. والنبي – - صلى الله عليه وسلم - لم يتوضأ إلا متواليًا ومن معنى الآية أن يتوضأ متواليًا وهو مذهب مالك. ورواية عن أحمد لكن في سند الحديث مقال. وما رواه مسلم لا يدل على وجوب الإعادة لأنه لم يأمر فيه بسوى الإحسان. فلا

يدل على وجوب الموالاة وهو مذهب أبي حنيفة. قال شيخ الإسلام وهو أشبه بأصول الشريعة. ونصوص أحمد. وقال لو فرق لعذر لم يضره وقال النووي وغيره التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر بإجماع المسلمين. ودل الحديث على أن من ترك جزءًا يسيرًا مما يجب تطهيره لا تصح طهارته، وهذا متفق عليه. وكذا التيمم عند الجمهور وإن تركه جاهلاً. (وعن عثمان أنه – - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل لحيته في الوضوء) رواه الخمسة ولأبي داود عن أنس نحوه. وتخليل اللحية تفريقها وإسالة الماء بينها وأصله من إدخال الشيء في خلال الشيء فيأخذ كفًا من ماء يضعه من تحتها بأصابعه مشتبكة أو من جانبيها ويعركها. قال ابن القيم، وكان – - صلى الله عليه وسلم - يخلل لحيته ولم يكن يواظب على ذلك. (وعن لقيط) بن عامر بن صبرة صحابي مشهور وهو أبو رزين العقيلي (مرفوعًا) إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال (أسبغ الوضوء) والإسباغ الإتمام والإنقاء واستكمال الأعضاء أي عمم الأعضاء واستوعبها ولا تترك شيئًا من فرائض الوضوء وسننه. ولأحمد وغيره إسباغ الوضوء شطر الإيمان (وخلل بين الأصابع) رواه الخمسة و (صححهما الترمذي) ولهما شواهد منها ما في السنن من حديث ابن عباس "إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك" حسنه البخاري. ولا خلاف في سنيته، وهو في الرجلين آكد لأنها ألصق من

اليدين. وفي السنن أنه – - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ دلك أصابع رجليه. قال ابن القيم وكان – - صلى الله عليه وسلم - يخلل الأصابع. ولم يكن يواظب على ذلك إنما يفعله أحيانًا. ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه. (وعن عمر عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء) أي: يبلغه ويكمله فيوصله مواضعه على الوجه المسنون (ثم يقول) يعني بعد إتمام الوضوء وقيل يستحب متوجهًا إلى القبلة. ولأحمد وأبي داود "ثم يرفع نظره إلى السماء" فيقول (أشهد أن لا إله إلا الله) أي أقطع وأجزم أن لا معبود بحق إلا الله (وحده لا شريك له) تأكيدان للإثبات والنفي (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) أي وأقطع أن محمدًا عبد ورسوله. قدم عبده لأنه أحب الأسماء وأشرفها لديه تعالى. قال وسميتك عبدي المتوكل – - صلى الله عليه وسلم - (إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" رواه أحمد ومسلم) وأبو داود. والنسائي. وابن ماجه. وزاد الترمذي "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" جمع بينهما إلمامًا بقوله (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) ولما كانت التوبة طهارة الباطن من أدران الذنوب والوضوء طهارة الظاهر عن الأحداث المانعة عن التقرب إلى الله تعالى ناسب الجمع بينهما غاية المناسبة. وهذه الزيادة رواها البزار والطبراني وغيرهما.

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين أي باب أدلة مشروعية المسح على الخفين وغيرهما من الحوائل. والمسح لغة إمرار اليد على الشيء. وشرعًا إصابة البلة لخف مخصوص في زمن مخصوص والخفين تثنية خف واحد الخفاف التي تلبس على الرجل سمي به لخفته وهو شرعًا الساتر للكعبين من جلود ونحوها أعقب الوضوء به لأنه بدل عن غسل ما تحته. وهو رخصة .. وهي ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح. وهو أحاديث المسح. قال أحمد ليس في قلبي من المسح شيء. فيه أربعون حديثًا عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - وقال الحسن حدثني سبعون من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخفين. وقال ابن المبارك ليس في المسح على الخفين بين الصحابة اختلاف. وصرح جمع من الحفاظ بأنه ثبت بالتواتر. واتفق عليه أهل السنة والجماعة. قال شيخ الإسلام السنة مبينة لآية المائدة. وحمل قراءة الخفض عليه. (عن جرير بن عبد الله) البجلي الصحابي الجليل. روي أنه –عليه الصلاة والسلام- قال من أهل البيت توفي سنة إحدى وخمسين (قال رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ومسح على خفيه) قال إبراهيم فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة (متفق عليه) زاد أبو داود. ما أسلمت إلا بعد المائدة. وهذا الحديث نص واضح في جواز

المسح على الخفين قال بعض أهل العلم المراد به الخف الكامل يعني غير ممزق. وقال شيخ الإسلام. أجاز المسح على الخفين مطلقًا. والتحديد لا بد له من دليل. فدخل المفتوق. والمخرق وغيرهما بل علق المسح بمسمى الخف من غير تحديد. فمن فرق بين خف وخف فقد فرق فرقًا لا أصل له. (ولهما عن المغيرة بن شعبة "توضأ) أي أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء (فأهويت) أي مددت يدي أو قصدت الهوي من قيام (لأنزع خفيه) لعله ظن أنه لم يحصل شرط المسح (فقال دعهما) أي الخفين (فإني أدخلتهما طاهرتين) حال من الخفين. أي أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان. وهذا يدل على اشتراط الطهارة في اللبس لتعليله عدم النزع بإدخالهما طاهرتين. وهو مقتض أن إدخالهما غير طاهرتين يقتضي النزع. وهو مذهب الجمهور. ويأتي حديث صفوان "إذا نحن أدخلناهما على طهر". قال النووي إن لبس محدثًا لم يجزئه المسح إجماعًا. بل إن لبس على طهارة. فإذا أحدث حدثًا أصغر جاز له بعد ذلك المسح عليهما. قال المغيرة (فمسح عليهما) يعني على الخفين. وذكر البزار. أنه روي عن المغيرة من ستين طريقًا. وفيه الدلالة الواضحة على جواز المسح على الخفين إذا توضأ وضوءًا كاملاً ثم أدخلهما. قال الشيخ فله المسح عليهما بلا نزاع.

(وعنه) أنه – - صلى الله عليه وسلم - (توضأ ومسح على الجوربين) وأحدهما جورب والجمع جوارب أعجمي معرب يلبس في الرجل على هيئة الخف من غير جلد (والنعلين) أي الملبوسين فوق الجوربين. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. و (صححه الترمذي) وتكلم فيه بعضهم وله شواهد. وقال ابن المنذر يروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة. ولأنهما في معنى الخف لأنه ساتر لمحل الفرض. وإذا كانا منعلين فلا نزاع في جوازه. أما النعلان والخفان المقطوعان وكلما يلبس تحت الكعب من مداس وجمجم وغيرهما فلا يجوز المسح عليهما. قال شيخ الإسلام باتفاق المسلمين. (وعن عمرو بن أمية) بن خويلد الضمري صحابي مشهور له أحاديث وشجاعة مات قبل الستين قال (رأيته) يعني رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (يمسح على عمامته وخفيه) رواه البخاري) والعمامة ما يلف على الرأس جمعها عمائم سواء كانت محنكة أو ذات ذوآبة ولمسلم عن المغيرة "ومسح بناصيته وعلى العمامة والخفين". وللترمذي وصححه عنه ومسح على الخفين والعمامة. والمسح على العمامة أخرجه غير واحد من طرق قوية متصلة الأسانيد. وقال عمر من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله. وهو قول أبي بكر وغيره من الصحابة. ولم يعرف لهم

مخالف ولفظ مسلم "بناصيته وعلى العمامة" لا يوجب الجمع بينهما. لأنه لو وجب لما اكتفى بالعمامة عن الباقي. (ولأحمد عن بلال) بن رباح الحبشي المؤذن اشتراه أبو بكر لما عذبه المشركون وأعتقه فلزم النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأذن له وشهد المشاهد كلها مات بالشام سنة العشرين (رأيته) يعني رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (يمسح على الموقين) تثنية موق فارسي معرب من موزة وهو الجرموق. وهما ضرب من الخفاف قاله ابن سيدة وغيره. وأخرج المسح عليهما أبو داود وغيره وجواز المسح عليهما مذهب جمهور العلماء. وقال أبو حامد قول كافة العلماء ومن تدبر ألفاظ الشريعة وأعطى القياس حقه علم أن الرخصة في هذا الباب واسعة. وإن ذلك من محاسن الشريعة. ومن الحنيفية السمحة (والخمار) وفي رواية عنه "امسحوا على الخفين والخمار" متفق عليه. والخمار جمعه خمر. وكل ما ستر شيئًا فهو خماره. والخمار العمامة لأنها تخمر الرأس أي تغطيه. والخمار النصيف. وفي رواية لسعيد بن منصور عنه "على النصيف" والنصيف هو الخمار. وما تغطي به المرأة رأسها ولمشقة نزعه كالعمامة فقد يعطي حكمها. وذكر ابن المنذر أن أم سلمة كانت تمسح على خمارها. قال شيخ الإسلام في خمر النساء من الرخصة التي تشبه أصول الشريعة. وتوافق الآثار الثابتة عن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فإن خافت من البرد ونحوه مسحت على خمارها فإن أم سلمة كانت تمسح على خمارها. وينبغي أن

تمسح مع هذا بعض شعرها. وأما إذا لم يكن بها حاجة إلى ذلك ففيه نزاع بين العلماء. (ولأبي داود عن جابر مرفوعًا) في قصة صاحب الشجة (قال ويعصب) من عصب الشيء لواه وشده (على جرحه خرقة) أي يشد على الشق على بعض جسده خرقة. وهي القطعة من الثوب (ثم يمسح عليها) أي على العصابة. ولابن ماجه عن علي قال انكسرت إحدى زندي فسألت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فأمرني أن أمسح على الجبائر". ومسح ابن عمر على العصابة وأجمع الأئمة عليه إلا في أحد قولي الشافعي. وقال البيهقي هو قول الفقهاء من التابعين ومن بعدهم. قال شيخ الإسلام مسح الجبيرة يقوم مقام غسل العضو لأن مسحه على حائل فأجزأ من غير تيمم كمسح الخف بل أولى. والحاصل أنه إن قدر على غسل الجرح من غير ضرر وجب. وإن خاف ضررًا مسح على الجرح مباشرة. فإن خاف ضررًا من وصول البلل إليه من المسح، فإنه يجعل عليه جبيرة. ثم يمسح على الجبيرة مسحة واحدة. (وعن علي) بن أبي طالب –رضي الله عنه- هو ابن عم رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وزوج ابنته فاطمة –رضي الله عنها- وأول من أسلم من الصبيان والخليفة الرابع ومناقبه مشهورة استشهد سنة أربعين (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر

ويوم وليلة للمقيم) يعني في المسح على الخفين (رواه مسلم) وأصحاب السنن وغيرهم وللترمذي وغيره ونحوه وصححه وابتداء المدة من الحدث بعد اللبس على الصحيح لأنه الموجب للوضوء. وعن صفوان بن عسال قال "أمرنا رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناها على طهر ثلاثًا إذا سافرنا. ويومًا وليلة إذا أقمنا. ولا نخلعهما من غائط ولا بول. ولا نخلعهما إلا من جنابة" رواه أحمد وغيره وصححه الترمذي وغيره. وقال البخاري هو أحسن حديث في هذا الباب. وقال الترمذي هو قول العلماء من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - والتابعين، ومن بعدهم من الفقهاء. وقال أحمد هو من أجود حديث في المسح لأنه في غزوة تبوك آخر غزوة غزاها النبي – - صلى الله عليه وسلم -. وله عن عوف بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام للمسافر ولياليهن وللمقيم يومًا وليلة" وقال الطحاوي ليس لأحد أن يترك الآثار المتواترة في التوقيت إلى مثل حديث ابن عمارة. وفي حديث صفوان زيادة اختصاص الوضوء دون الغسل، وهو إجماع. وفيه دلالة على الندبية وليس بواجب إجماعًا وقال ابن المنذر وغيره المسح أفضل لهذا الخبر وغيره. ولأجل من طعن في المسح من أهل البدع والخوارج والروافض. وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه وقال شيخ الإسلام وغيره الأفضل في حق كل أحد ما هو الموافق لحال قدمه. فالأفضل للابس الخف أن يمسح

عليه ولا ينزع خفيه اقتداء بالنبي – - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. والأفضل لمن قدماه مكشوفتان غسلهما ولا يتحرى لبس الخف ليمسح وهذا أعدل الأقوال. (وعنه لو كان الدين بالرأي (¬1) أي لو كان بمجرد استحسان العقل من غير نظر إلى الاتباع والاقتداء (لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه) أي لكان ما تحته أحق بالمسح من الذي هو أعلاه لأنه الذي يباشر المشي ويقع على ما ينبغي إزالته ولكن الأصل في العبادات التشريع (وقد رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه رواه أبو داود) ورواه أحمد وغيره. وقال الحافظ إسناده صحيح. وعن المغيرة مرفوعًا "رأيته يمسح على ظهور الخفين" صححه الترمذي وغيره. وقال البخاري هو أصح من حديث رجاء بن حيوة أنه مسح أعلى الخف وأسفله فإنه ليس بصحيح. وكذا قال أبو زرعة. وكان أحمد يضعفه. وقال ابن القيم لم يصح عنه – - صلى الله عليه وسلم - مسح أسفلهما وإنما جاء في حديث منقطع. والأحاديث الصحيحة على خلافه. وقال الوزير أجمعوا على أن المسح يختص بما حاذى ظاهر الخف. ويسن أن يمسح بأصابع يديه على ظهور قدميه اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى ويفرج أصابعه. وكيف ما مسح أجزأ ¬

_ (¬1) يعني العقل، ولا يلزم منه إبطال العقل من كل وجه، فإن العقل الصحيح لا يعارض النقل الصريح، ولكن قد ينسب ما هو في باطن الأمر بخلاف ذلك، وقد يكون هذا هو العقل، ولكن خفف عن الأمة مسح الأسفل وجعل بدله الأعلى للنظافة فالله أعلم.

باب نواقض الوضوء

إذ لم يرد في كيفية المسح ولا الكمية حديث يعتمد عليه. فحيث فعل ما يسمى مسحًا على الخف لغة أجزأ. وأجمعوا على أن المسح عليه مرة واحدة مجزئ وأنه لا يسن تكراره. باب نواقض الوضوء النواقض جمع ناقض. والنقض في الأصل حل المبرم، فالنقض في الأجسام إبطال تركيبها، وفي المعاني إخراجها عن إفادة ما هو المطلوب منها. كنقض الوضوء بما عينه الشارع مبطلاً. ونواقض الوضوء هي العلل المؤثرة في إخراج الوضوء عما هو المطلوب منه. (قال تعالى: أو جاء أحد منكم من الغائط) عبر به عن حاجة الإنسان. ولا نزاع في أنه يجب منه الوضوء. قال ابن القيم وألحقت الأمة أنواع الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها على الغائط. (وعن صفوان بن عسال) المرادي صحابي مشهور سكن الكوفة روى عنه أكثر من ثلاثين نفسًا وتوفي سنة ثمانين (في) توقيت (المسح) على الخفين وتقدم قال (ولكن) أي لا ننزع خفافنا (من غائط وبول ونوم) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والشافعي وغيرهم و (صححه الترمذي) وابن خزيمة فالغائط.

ناقض للوضوء بالكتاب والسنة والإجماع. وأما البول فناقض أيضًا. وتقدم عن جرير أنه – - صلى الله عليه وسلم - بال فتوضأ فهو ناقض بالسنة المستفيضة والإجماع وللقياس على الغائط، وأما النوم الناقض على ما صرح به أهل التحقيق، فهو المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك. ويأتي تمام الكلام فيه. (وعن علي في المذي) ولفظه قال كنت رجلاً مذاء فأمرت المقداد أن يسأل رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فـ (قال "فيه الوضوء" متفق عليه)، وهو دليل على أن المذي ينقض الوضوء. وهو إجماع. وفي رواية "يغسل ذكره ويتوضأ" والحكمة فيه إذا غسله تقلص فبطل خروج المذي وخروج المني والودي ينقض من باب أولى. ويأتي أمره عليه الصلاة والسلام فاطمة بنت أبي حبيش بالوضوء عند كل صلاة وكانت تستحاض فلا تطهر. وكذا أم حبيبة وهو دليل إلى أن دم الاستحاضة حدث من جملة الأحداث ناقض للوضوء. وهو قول عامة أهل العلم. (وعن أبي هريرة قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث) أي من السبيلين وتفسير أبي هريرة بقوله فساء أو ضراط تنبيه بالأخف على الأغلظ. والنقض بالريح معلوم بالسنة المستفيضة والإجماع. والمراد نفي قبول وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة (حتى يتوضأ) وهو معنى الصحة لترتيب الآثار عليه (متفق عليه) وفيهما "فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا".

(وعن علي مرفوعًا "العين) يعني جنس العين (وكاء السه) أي الدبر. والوكاء ما يربط به الخريطة ونحوها. كنى بالعين عن اليقظة لأن النائم لا عين له تبصر. أي اليقظة وكاء الدبر حافظة ما فيه عن الخروج لأنه ما دام مستيقظًا يحس بما يخرج منه فيمسك ما في بطنه ما لم تنم عيناه ومتى نام زالت قوته الماسكة (فمن نام فليتوضأ" رواه الثلاثة) وفيه ضعف. وحسنه المنذري وغيره. ولأبي داود من حديث معاوية "فإذا نامت العينان استطلق الوكاء" أي انحل وفيه ضعف أيضًا. وفيهما مع ما تقدم دليل على النقض بالنوم لكونه مظنة للحدث والمظنة أقيمت مقام الحقيقة كما أعطيت الوسائل والذرائع حكم الغايات. (وعن أنس قال كان أصحاب رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم) من باب ضرب أي تميل من النوم (ثم يصلون ولا يتوضؤن" رواه أبو داود) وصححه الدارقطني (ولمسلم "ينامون) وللترمذي "يوقظون للصلاة" وفيه. وحتى إني لأسمع لأحدهم غطيطًا. فيقومون فيصلون ولا يتوضؤن" وللبخاري عن ابن عباس "حتى رقد الناس واستيقظوا". ولهما "نام القوم ثم استيقظوا" ويقيد نومهم بعدم الاستغراق لجلالة قدرهم. والجزم بأنهم لا يجهلون ما ينقض الوضوء. وقال شيخ الإسلام إن ظن بقاء ظهره. وقال النوم اليسير

من المتمكن بمقعدته لا ينقض الوضوء عند جماهير العلماء الأئمة الأربعة وغيرهم لأن النوم ليس بحدث ولكنه مظنة للحدث. وقال ابن رشد ومن ذهب مذهب الجمع حمل الأحاديث الموجبه للوضوء من النوم على الكثير. والمسقطة للوضوء على القليل وهو مذهب الجمهور وهو أولى وقال الوزير اجمعوا على أن نوم المضطجع والمستند والمتكيء ينقض الوضوء. وقال الزركشي لا بد في النوم الناقض من الغلبة على العقل. والأمر بالوضوء للنائم تنبيه على ما هو أوكد منه كالجنون. والإغماء. والسكر. والنقض بها إجماع أهل العلم. (وعن أبي الدرداء) عويمر بن عامر الخزرجي الأنصاري مشهور بكنيته أحد الحكماء والعلماء مات سنة اثنتين وثلاثين (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قاء فتوضأ" رواه الترمذي) وأحمد وأبو داود وغيرهم قال ابن مندة بإسناد صحيح وفي سنده اختلاف قال البيهقي وغيره لا تقوم به حجة. وقد استدل به من قال إن القيء من نواقض الوضوء. وعن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ رواه ابن ماجه. وضعفه أحمد وغيره وصوب الحفاظ إرساله. وذهبت الحنفية إلى النقض بالقيء. وذهب مالك والشافعي والجمهور من السلف إلى أن القيء لا ينقض. قال البغوي وهو قول أكثر الصحابة والتابعين وهو أحد القولين لأحمد لعدم ثبوت الدليل في النقض به. والأصل عدم النقض

فلا يخرج عنه إلا بدليل قوي. قال شيخ الإسلام الظاهر أنه لا يجب الوضوء من خروج النجاسات من غير السبيلين. فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح. بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب لعموم البلوى بذلك. لكن استحباب الوضوء من القيء ونحوه متوجه ظاهر وأما الرعاف والدم الخارج فالمشهور عن أحمد ومذهب أبي حنيفة أنه ينقض إذا كان كثيرًا. قال الخطابي وهو قول أكثر الفقهاء. وأما اليسير فلا ينقض عند جماهير العلماء. لما روي عن ابن عمر أنه عصر بثرة فخرج دم فصلى ولم يتوضأ. وابن أبي أوفى عصر دملاً. وابن عباس قال اغسل أثر المحاجم عنك وحسبك. قال الموفق وغيره. ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة فكان إجماعًا. (وعن أنس أنه – - صلى الله عليه وسلم - "احتجم وصلى ولم يتوضأ" رواه الدارقطني ولينه) ففيه ابن مقاتل ضعيف وهو مقرر للأصل وهو عدم النقض ولمفهوم قوله "لا وضوء إلا من صوت أو ريح" صححه الترمذي. قال شيخ الإسلام وغيره لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء من الدم الخارج. ومذهب مالك والشافعي وغيرهما أنه لا ينقض ولو كثر لكن يستحب الوضوء منه. وعن جابر في اللذين يحرسان في غزوة ذات الرقاع فرمي أحدهما بسهم فنزعه ثم بآخر ثم بالثالث وركع وسجد ودمه يجري رواه أبو داود وقال الحسن ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم.

(وعن بسرة بنت صفوان) بن نوفل القرشية الأسدية كانت من المبايعات (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال من مس ذكره) أي لمسه بيده من غير حائل (فليتوضأ رواه الخمسة وصححه الترمذي) وابن معين وغيرهما وقال البخاري هو أصح شيء في هذا الباب. وعن أم حبيبة معناه صححه أحمد واحتج بقوله "إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس بينهما سترة فليتوضأ" ولأن مس الذكر مذكر بالوطء. وهو في مظنة الانتشار غالبًا، فأقيمت هذه المظنة مقام الحقيقة كما أقيم النوم مقام الحدث وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين. والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد. (وعن طلق بن علي) اليمامي الحنفي السحيمي مشهور له صحبة ووفادة ورواية (قال رجل مسست ذكري أو قال الرجل يمس ذكره في الصلاة أعليه وضوء فقال النبي – - صلى الله عليه وسلم - لا) أي لا وضوء عليه (إنما هو) يعني الذكر (بضعة) بفتح الموحدة أي قطعة لحم، فلا يبطل الوضوء بمسه كما لا يبطل بمس سائر الأعضاء (منك) كاليد والرجل ونحوهما وقد علم أنه لا وضوء من مس البضعة منه (رواه الخمسة وصححه ابن حبان). بكسر الحاء الحافظ أبو حاتم محمد ابن حبان بن أحمد البستي صاحب المسند الصحيح وغيره توفي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وقد ناهز الثمانين. وقال الحافظ بن المديني. وعمرو بن الفلاس هو أصح وأحسن من حديث بسرة. وقال

الطحاوي إسناده مستقيم غير مضطرب بخلاف حديث بسرة. وصححه أيضًا ابن خزيمة وغيره. وقال الترمذي هو أحسن شيء روي في هذا الباب وهو دليل على ما هو الأصل من عدم نقض الوضوء من مس الذكر. وهو قول غير واحد من الصحابة والتابعين ومذهب أبي حنيفة. والرواية الثانية عن أحمد. وأما مالك –رحمه الله- فقال يندب الوضوء منه. وقال شيخ الإسلام الأظهر أنه لا يجب الوضوء من مس الذكر فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح. بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب. لكن الاستحباب متوجه ظاهر. وقال ابن القيم دليل الأمر دال على الاستحباب. ودليل الرخصة دال على عدم الوجوب فإن مس الذكر مذكر بالوطء وهو في مظنة الانتشار غالبًا. والانتشار الصادر عن المس في مظنة خروج المذي ولا يشعر به. فأقيمت هذه المظنة مقام الحقيقة لخفائها وكثرة وجودها. كما أقيم النوم مقام الحدث ومسه يوجب انتشار حرارة الشهوة والوضوء يطفئها. (وعن عائشة أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قبل بعض نسائه) قال عروة من هي إلا أنت فضحكت (ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ رواه الخمسة) وضعفه البخاري وغيره. وصححه ابن عبد البر وجماعة. وله طرق يشد بعضها بعضًا. وللنسائي عنها حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله. وفي الصحيحين "إذا سجد غمزني

فقبضت رجلي" ولمسلم "وضعت يدي على باطن قدميه وهما منصوبتان" وغير ذلك مما يدل على أن اللمس غير موجب للنقض ويؤيده بقاء الأصل وقال الشيخ لا خلاف أنه لم ينقل عنه – - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ من المس ولا أمر بذلك مع أن الناس لا يزال أحدهم يلمس امرأته بشهوة وبغير شهوة. ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر بالوضوء من ذلك والقرآن لا يدل على ذلك. بل المراد بالملامسة الجماع وهو مقتضي أسلوب الآية وبه فسرها النبي – - صلى الله عليه وسلم - وحبر الأمة. وقال الأظهر أنه لا يجب الوضوء من مس النساء فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح. بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب. لكن الاستحباب متوجه ظاهر. فيستحب أن يتوضأ من مس النساء بشهوة. وعلله غير واحد بأنه مظنة لخروج المني والمذي فأقيم مقامه كالنوم. قال شيخنا ومنهم من توسط وقال إن كان بشهوة وإلا فلا. وبه تجتمع الأدلة. تتمة: أورد بعض المصنفين هنا حديث من غسل ميتًا فليغتسل. ومن حمله فليتوضأ. وقال أحمد وغيره لا يصح في هذا الباب شيء. فأما الوضوء من أجل حمله فلا قائل به وأما الوضوء من تغسيل الميت فقال أبو هريرة وابن عمر وابن عباس أقل ما فيه الوضوء. قال الموفق ولم يعلم لهم مخالف من

الصحابة فكان إجماعًا. ولأن الغاسل لا يسلم غالبًا من مس عورته وقال شيخ الإسلام استحبابه متوجه ظاهر وكلام أحمد يدل على أنه مستحب غير واجب وعند أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم لا ينقض الوضوء لأنه لم يرد بالنقض به نص صحيح. ولا هو في معنى المنصوص عليه. (وعن جابر بن سمرة) بن جنادة السوائي صحابي ابن صحابي نزل الكوفة وتوفي بها سنة أربع وسبعين (أن رجلاً سأل النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنتوضأ من لحوم الإبل قال نعم توضؤا من لحوم الإبل رواه مسلم) أي من أكل لحومها وهو المادة الحمراء الرخوة التي تؤكل وخص لما فيه من القوة دون بقية الأجزاء قال الشيخ سواء كان نيئًا أو مطبوخًا لأن الأمر بالوضوء يقتضي ذلك. وفي السنن من حديث البراء توضؤا من لحوم الإبل. قال ابن خزيمة لم أر خلافًا بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه وقال أحمد فيه حديثان صحيحان حديث جابر وحديث البراء ولهما شواهد من وجوه ولأن فيها من القوة الشيطانية ما أشار إليه النبي – - صلى الله عليه وسلم - من قوله "إنها جن خلقت من جن" فأكل لحمها يورث قوة شيطانية تزول بما أمر الله به من الوضوء من لحمها. وقال النووي وغيره ذهب الأكثر إلى أنه لا ينقض. وذهب أحمد ابن المنذر وابن خزيمة والبيهقي وأصحاب

الحديث إلى النقض به مطلقًا. وهذا المذهب أقوى دليلاً وإن كان الجمهور على خلافه. فلعلهم لم يسمعوا هذه النصوص أو لم يعرفوا العلة اهـ وكان أحمد يعجب ممن يدع حديث لحوم الإبل مع صحته التي لا شك فيها. والتحقيق أن يخرج على مذاهبهم. فإن المذهب لا يكون خلاف ما فيه نص صريح صحيح أو إجماع كما صرحوا به. (وله عن أبي هريرة مرفوعًا "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا") من نحو ريح وقراقر مترددة من شأنها أن تخرج (فأشكل عليه) أي التبس وأبهم عليه (أخرج منه شيء) أي أحدث (أم لا) أي أو لم يخرج منه شيء (فلا يخرجن من المسجد) إذا كان فيه لإعادة الوضوء (حتى يسمع صوتًا) للخارج يعني الحدث (أو يجد ريحًا) له. قال النووي وغيره أي حتى يعلم وجود أحدهما. ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين. ولهما عن عبد الله بن زيد نحوه. وهذا الحديث أصل من أصول الدين. وقاعدة من قواعده. وهي أن الأشياء يحكم ببقائه على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك. ولا يضر الشك الطارئ عليها. ومن ذلك أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث حكم ببقائه على الطهارة. ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة أو خارجها وهو مذهب جماهير السلف والخلف. وإن تيقن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين. قال الشيخ وإن

باب الغسل:

شك هل عليه غسل أو وضوء لم يجب. لكن يستحب له التطهر احتياطًا. وإذا فعل ذلك وكان واجبًا عليه في نفس الأمر أجزأ عنه. (وفي كتاب عمرو بن حزم) بن زيد الخزرجي النجاري استعمله النبي – - صلى الله عليه وسلم - على نجران وهو ابن سبع عشرة يفقههم في الدين. ويأخذ صدقاتهم. وكتب له كتابًا في الفرائض والسنن والصدقات وغيرها توفي سنة إحدى وخمسين (أن لا يمس القرآن إلا طاهر) ورواه النسائي وابن حبان وغيرهما. وكتاب عمرو هذا تلقاه الناس بالقبول وقال ابن عبد البر أنه أشبه التواتر لتلقي الناس له بالقبول. وشهد له بالصحة غير واحد. وأعله قوم. وقال أحمد لا شك أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - كتبه. وفي مجمع الزوائد عن ابن عمر مرفوعًا. لا يمس القرآن إلا طاهر ووثقه. وقال ابن القيم إذا تأملت قوله تعالى: {إنه لقرآن كريم} الآيات وجدتها دالة بأحسن الدلالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر. قال شيخ الإسلام مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يمس القرآن إلا طاهر. وقال الوزير أجمعوا أنه لا يجوز للمحدث مس المصحف فيحرم مسه. أو بعضه بيد أو غيرها من أعضائه بلا حائل للعموم. باب الغسل: أي باب ما يوجب الغسل وما يسن له وصفته وما يمنع منه وغير ذلك. والغسل بضم الغين الاغتسال وهو

واستعمال الماء في جميع بدنه. وبالفتح الماء أو الفعل. وبالكسر ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره (قال تعالى: {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} أصل الجنابة البعد. وسمي جنبًا لأنه يجتنب البيت الحرام في تلك الحال. ومواضع الصلاة أو لمجانبته الناس وبعده منهم حتى يغتسل. والآية دالة على وجوب التطهر من الجنابة وهو الغسل منها وذكر السهيلي وغيره. أن الغسل من الجنابة كان معمولاً به في الجاهلية من بقايا دين إبراهيم كما بقي فيهم الحج والنكاح. ولذلك عرفوه مع قوله {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} ولم يحتاجوا إلى تفسيره وكذا قال الشيخ وغيره كان مشروعًا قبل. (وقال تعالى: {ولا جنبًا إلا عابري سبيل}) فجنبًا نصب على الحال يعني ولا تقربوا الصلاة حال كونكم جنبًا {حتى تغتسلوا} أي تتطهروا بالماء. وكذلك المساجد إلا عابري سبيل أي مجتازين فيه للخروج منه. مثل نومه في المسجد فيجنب أو يصير جنبًا والماء في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء أو لم يقدر على استعماله. وكذلك إن كان طريقه عليه فيمر به ولا يجلس والسنة واضحة في ذلك. واحتج الأئمة رحمهم الله بهذه الآية على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد. ويجوز له المرور إجماعًا. وكذا الحائض والنفساء مع أمن التلويث. ومنع الشيخ وغيره من

اتخاذه طريقًا. وذهب أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث فيه لفعل الصحابة رضي الله عنهم قال الشيخ وحينئذ يجوز أن ينام في المسجد حيث ينام غيره. وإن كان النوم الكثير ينقض الوضوء فذلك الوضوء الذي يرفع الحدث الأصغر ووضوء الجنب لتخفيف الجنابة. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس) أي الرجل (بين شعبها) أي شعب المرأة (الأربع) قيل رجلاها وفخذاها وقيل ساقاها وفخذاها والمراد جلس منها مجلس الرجل من امرأته (ثم جهدها) كدها بحركته وبلغ جهده في العمل. وهو كناية عن معالجة الإيلاج وتمكن صورة العمل. ولمسلم عن عائشة "ثم مس الختان الختان" وفي لفظ "جاوز" ولأبي داود "ألزق الختان بالختان" ولابن أبي شيبة "وتوارت الحشفة في الفرج" (فقد وجب الغسل" متفق عليه زاد مسلم) وغيره (وإن لم ينزل) وحكى الوزير والنووي وغير واحد الإجماع عليه. وكلام العرب يقتضي أن الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع. وإن لم يكن فيه إنزال فاتفق الكتاب والسنة والإجماع على إيجاب الغسل من الإيلاج أنزل أو لم ينزل. فهو أحد موجبات الغسل ويترتب عليه جميع أحكامه. (وعن علي مرفوعًا قال: "وفي المني الغسل رواه الخمسة

وصححه الترمذي) وقال قد روي عن علي عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه. وهو قول عامة أهل العلم. وحكاه الطبري إجماع المسلمين. ولأحمد وأبي داود "إذا فضخت المني فاغتسل" وهذا الحديث يقيد مطلق حديث علي فإنه لا بد من كون خروجه في اليقظة دفقًا. وسمي منيًا لأنه يمني أن يصب ويراق ويدفق. وهو من الرجل ماء غليظ أبيض يخرج عند اشتداد الشهوة يتلذذ بخروجه ويعقب البدن بعد خروجه فتور. قال النووي خواصه المعتمدة الخروج بشهوة مع الفتور عقبة. والرائحة التي تشبه الطلع أو العجين. والخروج بتزريق ودفق في دفعات. وكل واحدة من هذه الثلاث كافية في كونه منيًا. وهو من المرأة ماء رقيق أصفر. وفي صحيح مسلم "ماء الرجل غليظ أبيض. وماء المرأة رقيق أصفر". (وعن أم سلمة) زوج النبي – - صلى الله عليه وسلم - (أن أم سليم) بنت ملحان بن خالد الأنصارية امرأة أبي طلحة أم أنس بن مالك –رضي الله عنها- المشهورة بكنيتها (قالت يا رسول الله هل على المرأة الغسل إذا احتملت) من الحلم بضم المهملة وسكون اللام، ما تراه في النوم. ثم غلب على ما تراه من الجماع. يقال احتلم جامع في نومه (قال نعم) أي يجب عليها الغسل (إذا رأت الماء) أي المني بعد استيقاظها (متفق عليه) ولأحمد وغيره "ليس عليها غسل حتى تنزل. كما أن الرجل ليس عليه غسل حتى ينزل" وفي رواية "إن النساء شقائق الرجال".

وعن أنس قال. قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل. قال "تغتسل" متفق عليه. زاد مسلم فقالت أم سلمة وهل يكون هذا قال "نعم فمن أين يكون الشبه" أي فإن الولد تارة يشبه أباه وأعمامه وتارة يشبه أمه وأخواله. فأي المائتين غلب كان الشبه له وحديث "إذا علا ماء الرجل اذكر". وهذه الأحاديث دالة على وجوب الغسل على المرأة إذا أنزلت. وكذا الرجل إذا أنزل. وحكاه ابن بطال. وابن المنذر. والموفق وغيرهم إجماع المسلمين. وإن لم يجد الرجل والمرأة بللاً فلا غسل على واحد منهما إجماعًا. ولو وجد لذة الإنزال وإن لم يتحققه منيًا. وكان سبق نومه انتشار. أو ملاعبة. أو نظر، أو فكر، ونحوه أو كان به أبردة لم يجب الغسل اتفاقًا، ويطهر ما أصاب من ثوبه أو بدنه. (وعن قيس بن عاصم) بن سنان بن منقر التميمي قال الأحنف تعلمت الحلم منه (أنه أسلم) وذلك حين قدم على النبي – - صلى الله عليه وسلم - في وفد تميم. وقال النبي – - صلى الله عليه وسلم - هذا سيد أهل الوبر (فأمره النبي – - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر. رواه أحمد والثلاثة) وابن حبان وغيرهم وصححه ابن السكن. ولأحمد وغيره أن ثمامة بن أثال أسلم فقال النبي – - صلى الله عليه وسلم - "مروه أن يغتسل". وأصله في الصحيحين. لكن بدون الأمر. فأما وجوبه على الجنب فللأدلة القاضية بوجوبه. وعن أحمد يجب مطلقًا. فقد جاء أمر

بعض من أسلم بالاغتسال وبدنه نشأ على رجس الشرك فعليه أن يزيل آثاره. وذهب الجمهور إلى الاستحباب لأنه – - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر كل من أسلم بالغسل ... ولو كان واجبًا لما خص بالأمر به بعضًا دون بعض. وقد أسلم الجم الغفير ولو أمرهم لنقل نقلاً متواترًا وقال شيخ الإسلام إذا وجد منه سبب يوجب الغسل فاغتسل في حال كفره ثم أسلم لم يلزمه إعادة الغسل إن اعتقد وجوبه بناء على أنه يثاب على طاعته في الكفر إذا أسلم. (وعن عائشة) رضي الله عنها (قالت كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من أربع) حالات فسرها بقوله (من الجنابة) وتقدم الأمر به منها (ويوم الجمعة) وهو سنة مؤكدة ويأتي في باب الجمعة (ومن الحجامة) وقال علي سنة وذلك لما يخلف البدن ما خرج من قوته. وتقدم أنه احتجم وصلى ولم يتوضأ. فلعله – - صلى الله عليه وسلم - يفعله تارة ويتركه أخرى (ومن غسل الميت) المسلم فينبغي له الغسل وتقدم تأكد الوضوء (رواه أو داود) ورواه أحمد وغيره وصححه ابن خزيمة. وفي إسناده مصعب بن شيبة فيه مقال. وذكر ابن القيم وغيره أن له طرقًا تدل على أنه محفوظ. والغسل من الجنابة واجب بالكتاب والسنة والإجماع. وغسل يوم الجمعة لا نزاع في سنيته بل قيل بوجوبه. وأما الغسل من الحجامة، ومن غسل الميت، فقد دل هذا الحديث

وغيره على استحبابه. وقال ابن القيم يستحب ولا يجب عند الأكثرين. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا "من غسل ميتًا فليغتسل) رواه الخمسة وغيرهم و (حسنه الترمذي) وصححه ابن حبان. وصحح بعضهم وقفه. وقال أحمد وغيره لا يصح في هذا الباب شيء. وخرج بعضهم له طرقًا كثيرة. وفيه والذي قبله دلالة على استحباب الغسل لمن غسل ميتًا. وهو قول الجمهور لخبر منا من يغتسل ومنا من لا يغتسل. وغسلت أسماء أبا بكر رضي الله عنهما ثم سألت المهاجرين هل عليها من غسل فقالوا لا. وقيل لا يستحب. قال ابن عقيل هو ظاهر كلام أحمد. ومذهب أبي حنيفة. والاستحباب جمع بين الأدلة. (وعن عائشة أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - أغمي عليه) أي غشي عليه فالإغماء غشية ثقيلة على القلب يزول معها الإحساس (ثم أفاق) أي رجع عليه حاله (فاغتسل" متفق عليه) وفيه أنه فعله ثلاثًا. فدل على استحبابه ولا يجب. حكاه ابن المنذر وغيره إجماعًا. وتأتي بقية الاغتسال في مواضعها إن شاء الله تعالى. (وعن علي) رضي الله عنه (قال كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - لا يحجبه من القرآن شيء) وفي لفظ "لا يحجزه من القرآن شيء"

أي لا يمنعه من تلاوة القرآن شيء من سائر الأحداث (ليس الجنابة) أي ليس شيء من الأحداث مانعًا من القرآن إلا الجنابة (رواه الخمسة) والحاكم والبراز وغيرهم (وصححه الترمذي) ولفظه "يقرئنا القرآن ما لم يكن جنبًا" وصححه أيضًا ابن حبان وابن السكن. وقال ابن خزيمة هذا ثلث رأس مالي. وفيه عبد الله بن سلمة تكلم بعضهم فيه. وعنه قال: "رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثم قرأ شيئًا من القرآن. وقال هكذا لمن ليس يجنب فأما الجنب فلا ولا آية" قال الهيثمي ورجاله موثقون. ولأبي داود وغيره بسند ضعيف "لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن" ومذهب الجمهور أحمد وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم تحريم قراءة الجنب القرآن. وصح عن عمر أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب. ولم ير به ابن عباس بأسًا. واستأنس من لم ير تحريمه بحديث عائشة يذكر الله على كل أحيانه ويخصص بحديث علي وغيره. وقال شيخ الإسلام يباح للحائض إذا خافت نسيانه بل يجب. (وعن عائشة) رضي الله عنها (قالت قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إني لا أحل المسجد) أي دخوله والبقاء فيه (لحائض ولا جنب" رواه أبو داود) وصححه ابن خزيمة، وعن أم سلمة نحوه رواه ابن ماجه وكلاهما من حديث أفلت بن خليفة. وقال أحمد لا بأس به والحديثان يدلان على عدم حل اللبث في المسجد للجنب والحائض. وهو قول أهل العلم وتقدم.

(وعنها قالت كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - " إذا اغتسل من الجنابة) ولأحمد إذا أراد أن يغتسل من الجنابة (يبدأ فيغسل يديه) وفي حديث ميمونة مرتين أو ثلاثًا (ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه) ولأحمد وغيره فيوضع له الإناء فيه الماء "فيفرغ على يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثم يأخذ بيمينه فيصب على شماله فيغسل فرجه" وفي رواية " حتى ينقيه ثم يغسل يده غسلاً حسنًا" وفي حديث ميمونة "ثم أدخل يده في الإناء فأفاض على فرجه ثم دلك يده بالحائط أو الأرض". فابتداؤه غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء سنة إجماعًا. ويتأكد إذا كان مستيقظًا من النوم كما ورد صريحًا وكان الغسل من الإناء (ثم يتوضأ" ولأحمد "ثم تمضمض واستنشق ثلاثًا وغسل وجهه ثلاثًا وذراعيه ثلاثًا". وفي حديث ميمونة "ثم توضأ وضوءه للصلاة" وذكرت المضمضة والاستنشاق في الوضوء والمضمضة والاستنشاق في الغسل سنة وكذا الوضوء فيه سنة وليس بواجب ولا شرط حكاه ابن جرير وغيره إجماعًا لأن الله أمر بالغسل ولم يذكر الوضوء. وللأحاديث الدالة عليه كقوله "فأفرغ عليك" وقوله "فأمسه بشرتك". (ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات) والحفنة ملء الكف وفي رواية "ثم يخلل شعره بيده حتى إذا ظن أنه قد روى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات" ولأحمد "ثم يخلل أصول الشعر حتى إذا ظن

أنه قد استبرأ". ولا نزاع في مشروعية تخليل الشعر. ولهما من وجه آخر. "فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه" وفي حديث ميمونة "ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفيه". ولمسلم "ملء كفه وظاهره أنه لم يمسح رأسه كما يفعل في الوضوء. (ثم أفاض الماء على سائر جسده) أي بقية بدنه. ولأحمد "ثم يغسل سائر جسده" وفي حديث ميمونة "ثم غسل" بدل أفاض. والإفاضة الإسالة بلا دلك. وحقيقة الغسل إفاضة الماء على الأعضاء وفي لفظ "أفرغ" والمراد أسال الماء على سائر جسده. فلا يجب الدلك إلا لما ينبو عنه الماء. وما لا ينبو عنه فمندوب بلا نزاع. لما في قوله (فاطهروا) وغيره من المبالغة. وأما إفاضة الماء على جميع البدن فواجب بإجماع المسلمين سواء كان الشعر خفيفًا أو كثيفًا. ولا يشرع التثليث في غسل البدن. قال شيخ الإسلام وكل من نقل غسل النبي – - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر أنه غسل بدنه كله ثلاثًا. ولا يصح قياسه على الوضوء. والسنة قد فرقت بينهما (ثم غسل رجليه" متفق عليه) ولأحمد "فإذا خرج غسل قدميه" وفي حديث ميمونة "ثم تنحى فغسل قدميه". وفي رواية للبخاري "ثم توضأ وضوءه للصلاة" غير رجليه. قال الحافظ فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين وقال بعضهم يغسلها مرتين لقولهم توضأ وضوءًا كاملاً ثم غسلهما بعد فراغه.

واستحبه مالك إذا كان المكان غير نظيف. قالت ميمونة فأتيته بخرقة فلم يردها وجعل ينفض الماء بيديه. والأشهر أنه يستحب ترك التنشيف. وصفة هذا الغسل في الصحيحين والسنن وغيرها من حديث عائشة وميمونة وابن عباس وغيرهم من طرق بألفاظ متقاربة. وهو الغسل الكامل. ولا يستحب الوضوء بعده فللخمسة. وصححه الترمذي "كان لا يتوضأ بعد الغسل". (وعن أم سلمة قالت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي) بفتح الضاد وسكون الفاء قال النووي وغيره هذا المعروف في رواية الحديث والمستفيض عند المحدثين ويجوز ضمهما وضفر الشعر فتله وإدخال بعضه في بعض (أفأنقضه لغسل الجنابة وفي رواية والحيضة) أي في إحدى رواياته له أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة (فقال لا) أي لا يجب عليك نقضه لهما (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) يقال حثيت وحثوت والحثية الحفنة من ماء وغيره. قال ابن العربي والنووي وغيرهما: قال الجمهور لا تنقضه إلا أن يكون ملبدًا لا يصل الماء إلى أصوله إلا بنقضه فيجب. وعن أحمد تنقضه في الحيضة والثانية كالجماعة أنه لا يجب نقضه. وبلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن فقالت أو ما يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن رواه

مسلم. ولأبي داود عنها مرفوعًا: "لا عليها أن لا تنقضه" وإسناده حسن. (ثم تفيضين عليك الماء) أي تسيلين الماء على سائر جسدك كما تقدم نحوه (فتطهرين) فيه دلالة على أنه إذا جلل بدنه بالماء أو انغمس فيه من غير دلك أجزأه (رواه مسلم) وأصحاب السنن وغيرهم، وفي لفظ واغمزي قرونك. قال الشيخ فيه دليل على وجوب بل داخل الشعر المسترسل اهـ وهذه صفة الغسل المجزئ أن يعمم بدنه بالغسل. قال ابن عبد البر وغير واحد يجزئ بالإجماع. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن تحت كل شعرة جنابة) فلو بقيت شعرة واحدة لم يصل إليها الماء بقيت الجنابة (فاغسلوا الشعر) لأنه إذا كان تحت كل شعرة جنابة فبالأولى أنها فيه. ففرع غسل الشعر على الحكم بأن تحت كل شعرة جنابة. ("وانقوا البشر" رواه أبو داود وضعفه) ورواه أحمد وغيره وضعفه أيضًا وأنقوا البشر أي نظفوا ظاهر البدن ولو كانت البشرة تحت الشعر كثيفًا كان أو خفيفًا وسواء كان على بعض أعضائه أو شعره حناء أو شمع أو عجين أو طين ونحو ذلك فمنع وصول الماء إلى البشرة أو إلا نفس الشعر لم يصح غسله. فعن علي مرفوعًا "من ترك موشع شعرة من جنابة فعل الله به كذا وكذا" صححه الحافظ وهو دليل على وجوب

إيصال الماء إلى جميع البشرة وأنه لا يعفى عن شيء منه. وحكى الإجماع فيه غير واحد. (وعن أنس كان النبي – - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد) يعني من الماء (ويغتسل بالصاع) وهو أربعة أمداد ولذا قال (إلى خمسة أمداد" متفق عليه) والمد رطل وثلث عراقي. وفي الصحيحين عن عائشة "كنت أغتسل أنا ورسول الله – - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد يقال له الفرق" وقال شيخ الإسلام مقدار طهور النبي – - صلى الله عليه وسلم - في الغسل ما بين ثمانية أرطال عراقية إلى خمسة وثلث. والوضوء ربع ذلك. وقال الجمهور على أن الصاع والمد في الطعام والماء واحد. وهو أظهر وإن زاد جاز ما لم يبلغ إلى حد الإسراف. (وعن يعلي بن أمية) بن عبيدة التميمي الحنظلي المتوفى سنة سبع وأربعين رضي الله عنه (مرفوعًا "إذا اغتسل أحدكم فليستتر" رواه أبو داود) ورواه النسائي وغيره ورجاله موثقون. وللبزار نحوه من حديث ابن عباس. وقال الحسن والحسين إن للماء سكانًا والجمهور على أنه أفضل. وحكى القاضي عياض جواز الاغتسال عريانًا عن أكثر العلماء لقصة اغتسال موسى وأيوب. ويحرم بين الناس عريانا عن أكثر العلماء لقصة اغتسال موسى وأيوب. ويحرم بين الناس عريانًا جزم به الشيخ وغيره. وتدل عليه أخبار وجوب ستر العورة. (وعن عائشة إذا كان) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - "جنبًا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ" رواه مسلم)، وللترمذي وصححه من

حديث عمار "أرخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة" وفي الصحيحين عن عائشة "إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة" ولهما من حديث عمر أيرقد أحدنا وهو جنب قال "نعم إذا توضأ". فالوضوء عند إرادة الأكل والشرب والنوم سنة بل يستحب الدوام على الطهارة وتتأكد السنية عند النوم للأمر به وخشية أن تقبض روحه وهو نائم فلا تشهد الملائكة جنازته والأرواح تسجد تحت العرش إذا نام على طهارة فالكبرى أولى. قال ابن القيم وهي والله أعلم العلة التي أمر الجنب لأجلها أن يتوضأ إذا أراد النوم انتهى. ولأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه جنب. (وله عن أبي سعيد مرفوعًا "إذا أتى أحدكم أهله) كنى به عن الجماع وقال (ثم أراد أن يعود) أي إلى إتيان أهله (فليتوضأ بينهما وضوءًا) ولابن خزيمة والبيهقي "وضوءه للصلاة" وفيه دلالة على شرعية الوضوء لمن أراد معاودة أهله. وزاد الحاكم "فإنه أنشط للعود" أي معاودة الوطء. والغسل أفضل لأنه أزكى وأطهر. ولأبي داود وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - "طاف على نسائه في ليلة فاغتسل عند كل امرأة منهن غسلاً. وقال هذا أطهر وأطيب" واستحباب مبادرة الجنب بالغسل أول الليل مجمع عليه. وجواز النوم والأكل والشرب للجنب وكذا العودة إلى الجماع قبل الغسل مجمع عليه أيضًا لما ثبت عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه

باب التيمم

ربما اغتسل في أول الليل وربما اغتسل في آخره. ولمسلم وغيره يجنب ويتوضأ ثم ينام. باب التيمم في اللغة القصد. ثم كثر استعماله حتى صار علمًا على مسح الوجه واليدين بالتراب. وهو من خصائص هذه الأمة لم يجعله الله طهورًا لغيرها توسعة لها. وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع وبدل من الطهارة بالماء إجماعًا (قال تعالى: "فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا) أي أقصدوا ترابًا طاهرًا هذا مذهب الشافعي وأحمد لقوله "وجعلت تربتها لنا طهورًا" وقال ابن كثير وغير واحد الصعيد هو كلما صعد على وجه الأرض فيدخل فيه التراب والرمل وغير ذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك. والقول الثاني لأحمد. وقال الزجاج وغيره لا أعلم خلافًا بين أهل العلم في أن الصعيد وجه الأرض ترابًا كان أو غيره وذهب أهل التحقيق إلى أن المتعين التراب مع وجوده. وإلا فالرمال ونحوها. والطيب الطاهر بالإجماع. {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} أي من الصعيد الطيب وفيه وجوب مسح الوجه واليدين في التيمم وهو إجماع. وأن التيمم لا يكون إلا في الوجه واليدين سواء كان عن حدث أصغر أو أكبر. وسواء تيمم عن الأعضاء كلها أو بعضها. {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ}، فلهذا سهل عليكم إذا عدمتم الماء أو لو تقدروا على استعماله {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ} من

الأحداث والنجاسات {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} بتكفير الخطايا {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} نعمه فيما شرع لكم من التوسعة والرحمة والتسهيل. وجمعت الشريعة بين الماء والتراب في التطهير فما أحسنه من جمع وألطفه وألصقه بالعقول السليمة والفطر المستقيمة كما قال ابن القيم وقد عقد سبحانه الإخاء بينهما قدرًا وشرعًا. خلق منهما آدم وذريته وجعل منهما حياة كل حيوان وأخرج منهما الأقوات وكانا أعم الأشياء وجودًا وأسهلها تناولاً، وكان تعفير الوجه بالتراب من أحب الأشياء إلى الله تعالى. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى} الآية. قال إذا كان بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح فيخاف أن يموت إن اغتسل تيمم رواه البزار وصححه ابن خزيمة. والمراد مرض يضره معه استعمال الماء. أو كان على موضع الطهارة جراحة يخاف من استعمال الماء فيها التلف فإنه يصلي بالتيمم. أو يخاف زيادة الوجع فإنه يمسح عليه إن أمكن. أو يعصب على الجرح ويمسح على العصابة. فإن خشي ضررًا تيمم للجرح. والمرض على ثلاثة أضرب أحدها يسير لا يخاف من استعمال الماء معه تلفًا ولا مرضَا ولا بطء برء ولا زيادة ألم كصداع ووجع ضرس وحمى لا يضر معها وشبه ذلك فهذا لا يجوز له التيمم بلا نزاع. الثاني مرض يخاف معه من

استعمال الماء تلف النفس أو عضو أو حدوث مرض يخاف منه تلف النفس أو عضو أو فوات منفعة عضو فهذا يجوز له التيمم إجماعًا. والثالث أن يخاف بطء البرء أو زيادة المرض أو حصول شيء أو بقاء أثر شين على عضو ظاهر جاز في قول جماهير العلماء سلفًا وخلفًا لظاهر الآية وعموم البلوى. واستنبط أكثر العلماء من الآية أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد طلب الماء فمتى طلبه فلم يجده جاز له التيمم وإلا فلا. قال ابن القيم وألحقت الأمة واجد ثمن الماء بواجده. ومن خاف على نفسه أو بهائمه من العطش إذا توضأ بالعادم. (وعن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أعطيت خمسًا) أي خصه الله بخصائص خمس (لم يعطهن أحد) من الأنبياء (قبلي) ومعلوم أنه لا يعطاهن أحد بعده إذا الخاصة هي ما توجد في الشيء دون غيره (نصرت بالرعب) يعني الخوف (مسيرة شهر) أي بينه وبين العدو مسافة شهر. وللطبراني "نصرت بالرعب على عدوي مسيرة شهرين" وإنما جعل مسافة شهر أو شهرين لأنه لم يكن بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين عدوه أكثر من هذه المسافة حتى أنه ليخافه ملك بني الأصفر. (وجعلت لي الأرض مسجدًا) موضع سجود ولا يختص به موضع دون موضع سوى ما ورد فيه النهي كالمقبرة والحش. وهذه الخصلة لم تكن لغيره - صلى الله عليه وسلم - كما في رواية "وكان من قبلي إنما

كانوا يصلون في كنائسهم" وفي أخرى "ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه" (وطهورًا) بفتح الطاء أي مطهرًا وهذا الشاهد من الحديث جعلنا الله لنا طهورًا كما جعلها مسجدًا (فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) أي بالتيمم على أي حال إذا لم يجد الماء (متفق عليه) قال الشيخ وكل من امتنع عن الصلاة بالتيمم فإنه من جنس اليهود والنصارى. فإن التيمم لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة. وفي لفظ "فعنده مسجده وطهوره" وللترمذي وغيره وصححه "والصعيد الطيب طهور المسلم" وفيه دلالة على أن التيمم يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في الطهورية. قال الشيخ وهو الصحيح وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار. ومن قال إن التراب لا يطهر من الحدث فقد خالف الكتاب والسنة. وقال أحمد القياس أن تجعل التراب كالماء وفيه دلالة أيضًا على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض. ولأحمد وغيره من حديث أبي أمامة "وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدًا وطهورًا"، وكان - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجتازون الرمال، ولم ينقل أنهم حملوا التراب ولا أمروا بحمله ولا فعله أحد من أصحابه مع القطع بأن الرمال في تلك المفاوز أكثر من التراب. وإنما كانوا إذا أدركتهم الصلاة تيمموا بالأرض التي صلوا عليها ترابًا أو غيره. وتمام الحديث قال "وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي"

وكان غنائم من قبله – - صلى الله عليه وسلم - تأكلها النار. "وأعطيت الشفاعة" ولا ينكرها إلا كافر "وكان النبي – - صلى الله عليه وسلم - يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وثبت غير هذه الخمس وعد النيسابوري وغيره أن الذي اختص به - صلى الله عليه وسلم - من بين سائر الأنبياء أكثر من ستين خصلة وعدها بعض المتأخرين إلى ثلاثمائة. والتحقيق أنها لا تحصر فمفهوم العدد في هذا الحديث غير مراد. (وعن أبي ذر) -رضي الله عنه- (مرفوعًا "الصعيد الطيب طهور المسلم) وللبزار وصححه ابن القطان "وضوء المسلم" (وإن لم يجد الماء عشر سنين) المراد بالعشر التقريب لا التحديد فمعناه أن يفعل مرة بعد أخرى وإن بلغ عدم الماء ما بلغ (فإذا وجد الماء فـ) ليتق الله و (ليمسه بشرته" رواه الخمسة وصححه الترمذي) وصححه أيضًا ابن حبان والدارقطني وسببه أن أبا ذر اجتوى المدينة فأمر له رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بإبل فكان فيها. فأتى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فقال هلك أبو ذر. قال "ما حالك قلت كنت أتعرض للجنابة وليس قربي ماء. قال الصعيد طهور" الحديث. وفيه دليل على وجوب إمساسه الماء بشرته عند إرادة الصلاة وذلك مع القدرة وسماه طهورًا ووضوءًا وهو حجة لمن قال حكمه حكم الماء يرفع الجنابة والحدث ويصلي به ما شاء. وإذا وجد الماء وجب عليه أن يمسه بشرته للمستقبل من الصلاة

لأن الله تعالى جعله قائمًا مقام الماء فلا يخرج عنه إلا بدليل. وأجمعوا على أنه يجوز للجنب كما يجوز للمحدث لا فرق وإذا وجده الجنب وجب عليه الاغتسال لما استفاض من الأمر به. ولم يصح عنه – - صلى الله عليه وسلم - التيمم لكل صلاة ولا أمر به بل أطلق التيمم وجعله قائمًا مقام الماء فاقتضى أن يكون حكمه حكمه إلا فيما اقتضاه الدليل. قال الشيخ يقوم مقام الماء مطلقًا ويبقى بعد الوقت كما تبقى طهارة الماء بعده. وهذا القول هو الصحيح وعليه يدل الكتاب والسنة. وقال في موضع آخر التيمم لوقت كل صلاة إلى أن يدخل وقت الأخرى أعدل الأقوال. واستحسنه شيخنا وقال العمل عليه عند أهل العلم وهو أحوط وخروجًا من الخلاف ولا مشقة فيه. (وعن جابر) رضي الله عنه (في الرجل الذي شج فاغتسل فمات) قال جابر خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات. فلما قدمنا على رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك (فقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -) "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال (إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها) أي على الجبيرة (ويغسل سائر جسده" رواه أبو داود) وفيه الزبير بن خريق تكلم فيه بعضهم

وله طرق وشواهد يصلح معها للاحتجاج به. فدل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر وهو مذهب الجماهير من أهل العلم. وتقدم خبر ابن عباس وقول شيخ الإسلام وغيره أنه إن خاف ضررًا مسح على الجرح مباشرة. فإن خاف ضررًا جعل جبيرة ثم مسح عليها. وإن لم يمكنه تيمم للجرح. قال شيخ الإسلام ومسح الجرح أولى من مسح الجبيرة وهو خير من التيمم. وقال فيما إذا كان الجرح بين أعضاء الوضوء لا يلزمه مراعاة الترتيب. وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره. والفصل بالتيمم بين أعضاء الوضوء بدعة وهذا الخبر والله أعلم من باب المقدم والمؤخر. (وعن عمرو بن العاص وكان تيمم في ليلة باردة وصلى بأصحابه) وذلك في غزوة ذات السلاسل قال فأشفقت أن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكر ذلك لرسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب فأخبرته بالذي منعني وقلت ذكرت قول الله -عز وجل- {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} علم منها أنه نهى عن إهلاك نفسه قال فتيممت ثم صليت. جعل خشية مشقة الاستعمال كعدم عين الماء قال: (فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئًا). فدل على جواز التيمم عند شدة البرد ونحوه. وقال ابن القيم وألحقت الأمة من خشي المرض من شدة برد الماء بالمريض

في العدول عنه إلى البدل (رواه الخمسة) وغيرهم والبخاري تعليقًا ولم يعد مطلقًا. قال شيخ الإسلام وهذا هو الصحيح لأنه فعل ما قدر عليه فلا إعادة عليه. وهذا مذهب جماهير العلماء. مالك. وأحمد. وأبي حنيفة. وابن المنذر. وغيرهم. لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فإن أمكنه تسخينه والاغتسال في الوقت لزمه ذلك. فإن خاف الضرر باستعمال البعض غسل ما لا يتضرر به وتيمم للباقي ويكون قد فعل ما أمر به من غير تفريض ولا عدوان. (وعن عمار بن ياسر) بن عامر بن مالك العنسي حليف بني مخزوم أسلم قديمًا وعذب بمكة على الإسلام وهاجر الهجرتين وشهد المشاهد وقتل بصفين وهو ابن ثلاث وسبعين (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بعثه في حاجة قال فاجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك فقال "إنما كان يكفيه أن تقول) أي تفعل ولأبي داود وغيره أن تصنع (بيديك هكذا) ثم بينه بفعله (ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة) قال أحمد من قال ضربتين إنما هو شيء زاده (ثم مسح الشمال على اليمين وظهر كفيه ووجهه" متفق عليه)، وللبخاري "وضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه". وللترمذي وصححه "أمره بالتيمم للوجه والكفين" وصح أنه تيمم بالجدار وهو جائز عند السلف والخلف.

وأصح حديث في صفة التيمم حديث عمار هذا. وحديث أبي جهيم وهو في الصحيح بلفظ "فمسح بوجهه وكفيه" وما سواهما ضعيف أو موقوف. وهذان الحديثان مفسران لمجمل الآية وهو مذهب فقهاء الحديث وجماهير العلماء. وفي حديث عمار التصريح بكفاية التيمم للجنب الفاقد للماء. ويقاس عليه الحائض والنفساء وهو قول عامة أهل العلم. إلا ما روي عن ابن عمر وابن مسعود. (وعن أبي سعيد الخدري في الرجلين الذين تيمما وصليا) وذلك أنهما خرجا في سفر وليس معهما ماء فحضرت الصلاة فتيمما صعيدًا طيبًا فصليا (ثم وجدا الماء في الوقت) أي وقت الصلاة التي صلياها بالتيمم. (فأعاد أحدهما) الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له (فقال للذي لم يعد أصبت السنة) أي الطريقة الشرعية (وأجزأتك صلاتك) لأنها وقعت في وقتها والماء مفقود فالواجب إذًا التراب (وقال للآخر) الذي توضأ وأعاد الصلاة في الوقت (لك الأجر مرتين) أجر الصلاة بالتراب وأجر الصلاة بالماء (رواه أبو داود) ورواه ابن السكن والنسائي مسندًا ومرسلاً وله شاهد من حديث ابن عباس رواه إسحاق في مسنده أنه – - صلى الله عليه وسلم - "بال ثم تيمم فقيل له إن الماء قريب منك قال فلعي لا أبلغه" واستدل بهما من لا يرى الانتظار واستأنس من قال فلعلي لا أبلغه" واستدل بهما من لا يرى الانتظار واستأنس من قال بالانتظار بقول علي في الجنب يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت والمراد وقت الاختيار

باب إزالة النجاسة

وحكي اتفاقًا وعللوه بأن الطهارة بالماء فريضة. والصلاة في أول الوقت فضيلة وانتظار الفريضة أولى. وفي الحديث دلالة على عدم الإعادة لأشرفية إصابة السنة وعدم الأمر له بالإعادة ولصدورها منه صحيحة، وفي الصحيحين في قصة القلادة "فبعث رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - رجالاً في طلبها فوجدوها فأدركتهم الصلاة، وليس معهم ماء فصلوا بغير وضوء" ولم يأمرهم بالإعادة. قال شيخ الإسلام، وهو مذهب جمهور السلف وعامة الفقهاء. وهو الصحيح من أقوالهم لأنه لا إعادة على أحد فعل ما أمر به بحسب استطاعته لحديث ابن عمر مرفوعًا (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين) رواه أبو داود والنسائي. وإنما يعيد من ترك واجبًا يقدر عليه كنسيانه أو نومه. باب إزالة النجاسة أي هذا باب بيان إزالة النجاسة وأحكامها وتطهير محالها وما يعفي عنه منها وما يتعلق بذلك. والمراد الحكمية وهي الطارئة على عين طاهرة فيمكن تطهيرها. وأما النجاسة العينية فلا تطهر بحال. والإزالة التنحية والنجاسة اسم مصدر وجمعها أنجاس والنجس هو المستقذر المستخبث. وشرعًا قذر مخصوص يمنع جنسه الصلاة كالبول والدم. واتفقوا على أن إزالتها مأمور بها شرعًا. (قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء} يعني المطر

{طَهُورًا} أي آلة يتطهر به من الأحداث والنجاسات. والطهور هو الطاهر في ذاته المطهر لغيره وهذه الآية كقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} ولا نزاع في أن الماء مطهر. وإنما النزاع في غيره. قال ابن القيم والنجاسة تزول بالماء حسًا وشرعًا، وذلك معلوم بالضرورة من الدين بالنص والإجماع. (وعن أنس قال جاء إعرابي) يقال هو ذو الخويصرة نسبة إلى الأعراب وهم سكان البادية (فبال في طائفة المسجد) أي في ناحيته والطائفة القطعة من الشيء (فزجره الناس) أي نهروه وفي لفظ فقام إليه الناس ليقعوا به (فنهاهم النبي – - صلى الله عليه وسلم -) بقوله "دعوه" وفي لفظ "لا تزرموه" (فلما قضى بوله "أمر النبي – - صلى الله عليه وسلم - بذنوب) بفتح الذال وهي الدلو الملآى (من ماء) تأكيد (فأهريق عليه) أصله فأريق عليه ثم أبدلت الهاء من الهمزة ثم زيدت همزة أخرى فصار فاهريق عليه أي صب عليه الماء (متفق عليه) وللبخاري نحوه من حديث أبي هريرة وقال صبوا عليه سجلاً أو قال ذنوبًا من ماء. وفيه دليل ظاهر على نجاسة بول الآدمي وهو إجماع. وإذا كان على الأرض طهر بالماء كسائر النجاسات سواء صب على أرض رخوة أو صلبة وفيه احترام المساجد. وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن". وفيه الأمر بالرفق. ودفع أشد

المضرتين بأخفهما. لأنه لو قطع عليه بوله لأضر به مع ما يحصل بتنجيس بدنه وثيابه ومواضع من المسجد. وفي الصحيح "أن الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك" وذلك أنها تطهر بالاستحالة حيث لم يبق فيها أثر النجاسة فلو كانت النجاسة باقية لوجب غسلها. والأمر بالصب على بول الأعرابي يحصل به تعجيل تطهير الأرض. فإذا لم يصب الماء عليها فإن النجاسة تبقى إلى أن تستحيل كما قاله شيخ الإسلام وغيره وقال إذا أصابت الأرض نجاسة فذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة فمذهب الأكثر طهارة الأرض. وجواز الصلاة عليها هذا مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد. والقول القديم للشافعي وهذا القول أظهر من قول من لا يطهرها بذلك. (وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب) أي شرب مما فيه بطرف لسانه أو أدخل لسانه فيه فحركه وهذا شامل لجميع الكلاب لا فرق بين كلب صيد أو غيره. ولهما "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم" أي فطهوره (أن يغسله) يعني الإناء (سبع مرات) قال الشيخ وذلك أن يلغ شيئًا فشيئًا فلا بد أن يبقى في الماء شيء من ريقه فيكون الخبث محمولاً والماء يسيرًا فيراق لأجل كون الخبث محمولاً ويغسل الإناء الذي لاقاه ذلك الخبث سبعًا "أولاهن

بالتراب رواه مسلم) وفي رواية "إحداهن" والأولى أولى لكثرة رواتها وحفظهم وليأتي بعده فينظفه. والحكمة في ذلك أن ريق الكلب فيه لزوجة فأمر بالتراب لأن فيه طهورية وإزالة للزوجة. ويجزئ عن التراب أشنان وصابون ونحوهما. قال الشيخ والصابون ونحوه أبلغ من وجوه. وفيه دلالة ظاهرة على وجوب الغسلات السبع من ولوغ الكلب أو شربه. وهذا مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين إلا الحنفية فحملوا السبع على الندب. وظاهره العموم إلا الأرض وما اتصل بهنا فتكاثر بالماء. وأما غير الكلب فلا يجب العدد لأنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء لا من قوله ولا من فعله وإنما تكاثر بالماء حتى تذهب عين النجاسة ولونها إن أمكن اتفاقًا للأخبار. وقال النووي وغيره إن كانت كالبول وجب غسلها ولا تجب الزيادة لكن يستحب ثانية وثالثة. وإن كانت كالدم فلا بد من إزالة عينها. ويستحب بعد زوالها ثانية وثالثة ولا يضر لونها. (وعن أسماء بنت أبي بكر) الصديق رضي الله عنهما أم عبد الله بن الزبير أسلمت بمكة قديمًا وماتت بها بعد قتل ابنها بشهر ولها مائة سنة (أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال في دم الحيض يصيب الثوب) وفي رواية قالت جاءت امرأة إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - فقالت إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع فقال (تحته)

أي تقشره وتحكه وتنحته والمراد بذلك إزالة عينه (ثم تقرصه) بضم الراء أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها (بالماء) ليتحلل بذلك ويخرج ما تشربه الثوب منه (ثم تنضحه) قال الخطابي أي تغسله. وفي رواية "تغسله" وفي حديث معاذة قالت عائشة تغسله (ثم تصلي فيه" متفق عليه) ولأحمد وغيره قالت خولة فإن لم يذهب الدم قال "يكفيك الماء ولا يضرك أثره". ويحكم بطهارته اتفاقًا. والحاصل أن الماء أصل في التطهير لوصفه بذلك في الكتاب والسنة وأما تعيينه وعدم الاجتزاء بغيره فيحتاج إلى دليل ولم يرد دليل يقضي بحصر التطهير بالماء ومجرد الأمر به لا يستلزم الأمر به مطلقًا. وفيه دليل على أنه لا يحتاج في غسل نجاسة غير الكلب إلى عدد معين. قال شيخنا وهو أصح وهذا الحديث أصح حديث في الباب وإن من النجاسات ما يحتاج إلى ماء كثير ومنها ما لا يحتاج إلا إلى قليل فيكون بحسبها. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا "إذا وطئ أحدكم الأذى) أي المستقذر طاهرًا كان أو نجسًا وفي رواية "فإن رأي خبثًا (بخفيه فطهورهما التراب" رواه الأربعة) وفي سنده مقال. وعن أبي سعيد نحوه رواه أبو داود وغيره بسند جيد. وفي السنن أيضًا عن أم سلمة في الذيل قال "يطهره ما بعده" ولهما شواهد يقوي بعضها بعضًا فتصلح للاحتجاج بها، على أن النعل والذيل يطهر بدلكه رطبًا كان الأذى الذي بهما أو

يابسًا. ويلحق بهما ما يقوم مقامهما لقيام العلة وعدم الفارق. وقال شيخ الإسلام، السنة قد جاءت بالأمر بالماء في قوله "اغسليه بالماء"، وقوله "صبوا على بوله" فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة ولم يأمر أمرًا عامًا بأن تزال النجاسة بالماء. وقد أذن بإزالتها بغير الماء في مواضع منها الاستجمار. ومنها قوله في النعل "ثم ليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور". ومنها قوله في الذيل "يطهره ما بعده" وهذا القول هو الصواب. قال وثبت الاستجمار بالأحجار في المقعدة والإحليل وهما أصل النجاسات فطهارة نحو ذلك بالمسح موافق للنص والقياس. وقال الصحيح أن النجاسة تزال بغير الماء لكن لا يجوز استعمال الأطعمة ولا الأشربة في إزالتها بغير حاجة لما في ذلك من فساد الأموال. (وعن أنس قال سئل رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر تتخذ خلا قال "لا" الخمر كل مسكر مخامر للعقل من عصير العنب أو غيره. سميت خمرًا: لأنها تخامر العقل؛ أو لأنها تترك فتخمر. وهي رجس كما في الآية. وحكى أبو حامد وغيره الإجماع على نجاستها. وقال ابن رشد الاختلاف شاذ وتخليلها معالجتها بطرح شيء فيها كالملح. وثبت عن طائفة من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف في الصحابة رضي الله عنهم لكون تخليلها وسيلة إلى فعل المحرم وأخبر أنها داء إبعادًا عن اصطناعها الداعي إلى شربها (رواه

مسلم) وغيره وقال عمر لا تأكلوا خل خمر إلا خمرًا بدأ الله بفسادها وذلك لأن اقتناء الخمر محرم. فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرمًا فلا يكون سببًا للحل. فإذا انقلبت بنفسها جاز وطهرت. قال الشيخ بإجماع المسلمين لأنه لا يريد تخليلها. وإذا جعلها الله خلاً كان معاقبة له بنقيض قصده فلا يكون في طهارتها ولا في حلها مفسدة. فما استحال إلى الطهارة طهر عند جماهير العلماء قال شيخ الإسلام والرواية صريحة في التطهير وهو الصحيح في الدليل ولا يدخل في نصوص التحريم لا لفظًا ولا معنى. ولا ينبغي أن يعبر بأن النجاسة طهرت بالاستحالة فإن نفس النجاسة لم تطهر لكن استحالت وهذا الطاهر ليس هو ذاك. فمتى سقط ذلك الاسم سقط ذلك الحكم. وإن كان مستحيلاً منه كما أن الماء ليس هو الزرع. والاستحالة استفعال من حال الشيء عما كان عليه زال وذلك مثل تغير العين النجسة ونحو ذلك. وقال قول من قال الاستحالة لا تطهر فتوى عريضة مخالفة لإجماع المسلمين. (وعن ميمونة) أم المؤمنين بنت الحارث الهلالية كان اسمها برة فسماها رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ميمونة تزوجها سنة سبع في عمرة القضية وكانت وفاتها سنة إحدى وستين (أن فأرة وقعت في سمن) هو ما يكون من الحيوان من سلإ زبدٍ وغيره وليس الخبر مختصًا بالسمن دون سائر الأدهان والمائعات من زيت أو

دهن أو لبن أو ماء ورد أو عسل أو مرق أو طيب أو غير ذلك. قال ابن القيم هذا مما يقطع بأن الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى لا يفرقون بين السمن والزيت والشيرج كما لا يفرقون بين الهرة والفأرة في ذلك (فقال – - صلى الله عليه وسلم - القوها) أي ألقوا الفأرة (وما حولها) أي ما حول تلك الفأرة من السمن (وكلوه) أي وكلوا ما بقي من السمن وذلك ما لم يتغير (رواه البخاري) وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. وقيل لابن عباس أن أثرها في السمن كله فقال إنما كان وهي حية. قال شيخ الإسلام إذا وقعت في سمن ونحوه ولم يتغير بها ألقيت وما قرب منها ويؤكل ويباع في أظهر قولي العلماء. وقال إذا كان الصحيح في الماء أنه لا ينجس إلا بالتغير فكذلك الصواب في المائعات ومن تدبر الأصول المجمع عليها والمعاني الشرعية المعتبرة تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال والأقيسة. وقال ولم يبلغني إلى ساعتي هذه لمن ينجس المائعات الكثيرة بوقوع النجاسة فيها إذا لم تتغير حجة يعتمد عليها المفتي فيما بينه وبين الله. وما رواه أبو داود وغيره إن كان مائعًا فلا تقربوه فهو من رواية معمر وهو كثير الغلط باتفاق أهل العلم. وقوله فلا تقربوه متروك عند السلف والخلف من الصحابة والتابعين. وقال

البخاري وغيره خطأ. ومن عمل به من العلماء فلظنهم صحته وهو باطل. ولو علم أحمد العلة القادحة فيه لم يقل به. وقال ابن القيم غلط معمر من عدة وجوه ويكفي أن الزهري قد روى عنه الناس خلاف ما روى عنه معمر. وسئل عن هذه المسألة فأفتى بأنها تلقى وما حولها ويؤكل الباقي. واستدل بالحديث فهذه فتياه وهذا استدلاله وهذه رواية الأمة عنه فقد اتفق على ذلك النص والقياس ولا يصلح للناس سواه. وما سواه من الأقوال فمتناقض لا يمكن صاحبه طرده. وقال ما لم تغيره النجاسة لا ينجس وهو الذي تدل عليه الأصول والنصوص والمعقول. (وله عن أبي هريرة مرفوعًا "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم) وفي لفظ "في طعام أحدكم" (فليغمسه) كله (ثم لينزعه) بكسر الزاي وفيه أن يمهل في نزعه بعد غمسه (فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) لفظ أبي داود ولفظ البخاري "ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء". وفي لفظ "سما" زاد أبو داود "وأنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء". ولأحمد وابن ماجه أنه "يقدم السم ويؤخر الشفاء". وفيه دلالة ظاهرة على أنه إذا مات في ماء أو مائع أنه لا ينجسه قال ابن القيم وهذا قول جمهور العلماء ولا يعرف في السلف مخالف في ذلك لأنه – - صلى الله عليه وسلم - أمر بغمسه ومعلوم أنه يموت

بذلك ولا سيما إذا كان الطعام حارًا وعدي هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنحلة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك إذ الحكم يدور مع علته ونتفي بانتفاء سببه. فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته وكان ذلك مفقودًا فيما لا دم له سائل أنفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته وهذا بالاتفاق. (وللخمسة) من حديث علي عند أحمد والترمذي (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال" ينضح بول الغلام) أي يكاثر بوله بالماء مكاثرة لا تبلغ جريان الماء وهو نجس وإنما خفف الشارع في تطهيره لكثرة حمله وانتشار بوله فتعظم المشقة بغسله. وقيئه كبوله وأولى بالتخفيف. والغلام يطلق على الصبي من حين يولد على اختلاف حالاته إلى بلوغه وفي لفظ بول الغلام الرضيع (ويغسل بول الجارية) وهي: فتية النساء سميت بذلك لكثرة جريها وأكثر استعماله للصغيرة في مقابلة الغلام قال قتادة وهذا ما لم يطعما فإذا طعما غسلا (حسنه الترمذي) وصححه الحاكم وغيره ولابن ماجه من حديث أم كرز نحوه. ولأبي داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث أبي السمح "يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام" ولأحمد وغيره من حديث أبي أمامة نحوه. وفي الصحيحين من حديث أم قيس أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "فأجلسه في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله". ونضح بول الغلام ما لم يأكل الطعام وغسل بول

الجارية متواتر لا شيء يدفعه. ولابن حبان عن ابن شهاب "مضت السنة أن يرش من بول من لم يأكل الطعام من الصبيان". والمراد ما لم يحصل لهم الاغتذاء بغير اللبن على الاستقلال. وقال شيخنا وغيره ليس المراد امتصاصه ما يوضع في فمه وابتلاعه بل إذا كان يريد الطعام ويتناوله ويشرئب أو يصيح أو يشير إليه فهذا هو الذي يطلق عليه أنه يأكل الطعام. (وعن عائشة) –رضي الله عنها- قالت ("كنت أفرك المني من ثوب رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -) فركًا والفرك الدلك (فيصلي فيه" رواه مسلم)، وفي لفظ "كنت أحكه يابسًا بظفري من ثوبه". وصح عن ابن عباس أنه قال "إنه بمنزلة البصاق والمخاط" وفي الصحيحين "كنت أغسله" وفي لفظ "يغسل المني ثم يخرج إليه الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه". ودلت السنة على غسل رطبه وفرك يابسه فدل على طهارته. قال شيخ الإسلام وأما كون عائشة تغسله تارة وتفركه أخرى فلا يقتضي تنجيسه فإن الثوب يغسل من المخاط والبصاق والوسخ وهذا قول غير واحد من الصحابة. وقال مني الآدمي طاهر سواء كان مستجمرًا أو مستنجيًا ومن قال أن مني المستجمر نجس لملاقاته رأس الذكر فقوله ضعيف. فإن مالصحابة كان عامتهم يستجمرون ولم يكن

يستنجي بالماء منهم إلا القليل ومع هذا فلم يكن – - صلى الله عليه وسلم - يأمر أحدًا منهم بغسل مني ولا فركه اهـ وأما المذي والودي فتقدم أنهما نجسان إجماعًا. ويعفى عن يسير المذي جذم به الموفق وغيره وصححه الشيخ وغيره خصوصًا في حق الشباب لكثرة خروجه فيشق التحرز منه فعفي عن يسيره كالدم ونحوه. قال وهو أولى بالتخفيف من بول الغلام ومن أسفل الحذاء. وفي حديث علي في المذي وتأخذ كفًا من ماء فتنضح به ثوبك واختار هو وغير واحد من أهل العلم العفو عن يسير النجاسات مطلقًا في الأطعمة وغيرها. (وعن أبي قتادة أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال في الهرة) الهر القط والحديث له سبب وهو أن أبا قتادة سكب له وضوءه فجاءت هرة تشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت فقيل له في ذلك فقال. قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (إنها ليست بنجس) أي فلا ينجس ما لامسته وطهارة بعض الحيوان أمر غير حل أكله بالزكاة والمراد طهارة البدن وما أصاب. قال (إنما هي من الطوافين عليكم) جمع طواف والطواف الخادم الذي يخدمك برفق وعناية شبهها به لمشقة التحفظ منها وفيه إشارة إلى أنه لما جعلها بمنزلة الخادم خفف على عبادة بأن جعلها غير نجس دفعًا للحرج. قال الشيخ فسبب الطهارة الطواف لدفع الحرج (رواه الخمسة وصححه البخاري) والترمذي وغيرهما. والحديث دليل على طهارتها وإن باشرت نجسًا. وقال

الشيخ إن طال الفصل جعلا لريقها مطهرًا لفمها لأجل الحاجة. قال وهو أقوى الأقوال وكذا حكم نحوها من طير وبهيمة اهـ فأما بهيمة الأنعام فحديث العرنيين متفق عليه وقد أمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها. وقال الشيخ هو طاهر لبضعة عشر دليلاً من النص والإجماع القديم والاعتبار. وأما سباع البهائم والطير والحمار الأهلي والبغل منه فمذهب مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وقول الجمهور والخلف على أنه طاهر. قال الشيخ وهو الأصح والأقوى دليلاً لأنه عليه الصلاة والسلام يركبها ويركبان في زمنه وفي عصر الصحابة فلو كان نجسًا لبين النبي – - صلى الله عليه وسلم - ذلك وعليه فسؤرها وفضلاتها طاهرة وأكثر العلماء يجوزون الوضوء به كمالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وتعليله عليه الصلاة والسلام طهارة سؤر الهرة. وريق الكلب على الصيد يقضي أن الحاجة مقتضية للطهارة فإن الحاجة داعية إلى ذلك ولحديث "لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب طهور" وحديث أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال "نعم" وبما أفضلت السباع كلها قواها البيهقي ولها طرق. وأما حديث "إنها رجس" فقال ابن القيم دليل النجاسة لا يقاوم دليل الطهارة ولم يقم على تنجيس سؤرها دليل. وهذا الخبر لا دليل فيه. لأنه إنما نهاهم عن لحومها ولكن من أين يلزم

باب الحيض

أن تكون نجسة في حياتها حتى يكون سؤرها نجسًا. وأما ولوغ الكلب في الإناء فتقدم حكمه. باب الحيض والاستحاضة والنفاس وما يتعلق بذلك. والحيض مصدر حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحيضًا فهي حائض وحائضة إذا جرى دمها من حاض الوادي إذا سال وأخر هذا الباب وأفرد لاختصاصه بالأنثى ولما يختص به من الأحكام. وفي الصحيحين مرفوعًا "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم" خلقه الله لحكمة غذاء الولد وتربيته. قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} أي الحيض ما يفعل النساء فيه {قُلْ هُوَ أَذًى} أي قذر والأذى ما يكره من كل شيء فمتى رأت دمًا اسود أو أحمر أو صفرة أو كدرة يصلح أن يكون حيضًا ولو قبل تسع سنين أو بعد ستين فحيض. قال شيخ الإسلام فلا حد لأقل سن ولا أكثره. ولا تسمى آيسة حتى ينقطع لكبر أو تغير لقوله {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ} وعليه العمل ولا يسع الناس غيره قال الدارمي المرجع فيه إلى الوجود فأي قدر وجد في أي حال وسن كان وجب جعله حيضًا وما سوى هذا القول خطأ. وقال مالك والشافعي والشيخ وغيرهم ليس له حد. وإنما الرجوع فيه إلى العادات في البلدان. قال النووي وفي الدم الذي تراه الحامل قولان أصحهما أنه حيض وصوبه في

الإنصاف وغيره وهو مذهب مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد واختاره الشيخ وغيره. وقال الحافظ هو دم بصفات دم الحيض وفي زمان إمكانه فله حكم دم الحيض فمن ادعى خلافه فعليه البيان ولأنه دم لا يمنعه الرضاع فلا يمنعه الحمل. {فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} أي اجتنبوا مجامعتهن في الفرج قال ابن عباس نكاح فروجهن. وقال الشيخ المراد اعتزال ما يراد منهن في الغالب وهو الوطء في الفرج لأنه قال {هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ} فذكر الحكم بعد الوصف بالفاء فدل على أن الوصف هو العلة لا سيما وهو مناسب للحكم. فأمر بالاعتزال في الدم للضرر والنجس وهو مخصوص بالفرج فيختص الحكم بمحل سببه. ولهذا لما نزلت هذه الآية قال النبي – - صلى الله عليه وسلم - "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" رواه مسلم والخمسة. {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} أي لا تجامعوهن بالوطء في الفرج توكيدًا لقوله {فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} حَتَّىَ يَطْهُرْنَ} من الحيض وهو تفسير لقوله {فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} نهى سبحانه عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجودًا وهو حرام إجماعًا {فَإِذَا تَطَهَّرْ} يعني اغتسلن بالماء من حيضهن أو تيممن مع العذر {فَأْتُوهُنَّ} أي جامعوهن {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} أي من حيث أمركم الله أن تعتزلوهن وهو الفرج. قال ابن كثير وغيره اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع

دمها لا يحل وطؤها حتى تغتسل بالماء أو تتيمم إن تعذر ذلك عليها بشرطه إلا أبا حنيفة فيقول تحل بمجرد الانقطاع والكتاب والسنة حجة عليه. قال الشيخ وقول الجمهور هو الصواب وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن والآثار فيتوقف الوطء على الاغتسال لأن حدثها لا يزول إلا به. وحكى إسحاق إجماع التابعين عليه. والله تعالى ذكر غايتين حتى يطهرن غاية للتحريم الحاصل بالحيض وهو تحريم لا يزول بالاغتسال ولا غيره وإنما يزول بانقطاع الدم ثم بقي بالوطء جائزًا بشرط الاغتسال ولهذا قال {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} من الذنوب {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} من الأحداث والنجاسات. (وعن عائشة أن أم حبيبة) بنت جحش أخت زينب وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف (شكت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الدم) أي كثرة جريانه. ولأبي داود استحيضت سبع سنين فاستفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) يعني قبل استمرار جريان الدم (ثم اغتسلي) أي غسل الخروج من الحيض فكانت تغتسل لكل صلاة من غير أمر منه - صلى الله عليه وسلم - لها لذلك (رواه مسلم) وفي رواية البخاري "وتوضئي لكل صلاة" وهي لأبي داود وغيره من وجه آخر. وعن أم سلمة أنها استفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأة تهراق

الدم فقال "لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيض وقدرهن من الشهر فتدع الصلاة ثم لتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل رواه أحمد وأبو داود والنسائي. (ولهما عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش) القرشية الأسدية زوج عبد الله بن جحش (كانت تستحاض) والاستحاضة جريان الدم في غير أوانه على سبيل النزف من عرق يقال له العاذل فجاءت إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - تستفتيه فقالت إني امرأة استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة (فقال – - صلى الله عليه وسلم - إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة) ولأبي داود "فإذا كان ذلك فامسكي عن الصلاة"، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" ويحرمان عليها بإجماع المسلمين. وفيهما عن عائشة "فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" وهو إجماع (فإذا ذهب قدرها) أي قدر الحيضة. قال الشيخ فالأصل في ذلك عدم التقدير من الشارع فإنه لم يقدر ذلك بقدر بل وكله إلى ما تعرفه من عادتها ومذهب مالك ولو دفعة فقط وقال الشيخ ولو ساعة، ولا حد لأكثره ما لم تصر مستحضاة وهو مذهب جمهور السلف. قال والمرجع في ذلك إلى العادة، ولم يثبت عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه في ذلك شيء، وما أطلقه الشارع عمل بمقتضى مسماه ووجوده ولم يجز تقديره وتحديده. قال ابن رشد: وإنما أجمعوا على أن الدم إذا تمادى أكثر من

مدة أكثر الحيض أنه استحاضة لهذا الخبر اهـ ولهذا قال النبي – - صلى الله عليه وسلم - "فإذا ذهب قدرها (فاغسلي عنك الدم وصلي)، وفي رواية "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي". فدلت هذه الأحاديث على أن المستحاضة المعتادة وهي التي تعرف شهرها ووقت حيضها وطهرها منه تجلس عادتها ثم تغتسل بعدها وتصلي ويباح وطؤها اتفاقًا؛ لأن حمنة وأم حبيبة وغيرهما استحضن وزوج كل واحدة منهن يغشاها. وليست المستحاضة كالحائض من كل وجه فتقاس عليها بل فرق الشارع بينهما لأن دم الحيض أعظم وأدوم وأضر من دم الاستحاضة، ودم الاستحاضة دم عرق وهو في الفرج بمنزلة الرعاف في الأنف وخروجه مضر وانقطاعه دليل الصحة ودم الحيض بعكس ذلك ولا يستوي الدمان حقيقة ولا حكمًا ولا سببًا. قال النووي وغيره يجوز في الزمن المحكوم بأنه طهر ولا كراهة في ذلك ولا يثبت لها شيء من أحكام الحيض بلا خلاف. ونقل ابن جرير الإجماع على أنها تقرأ القرآن وأن عليها جميع الفرائض التي على الطاهر. وحكى غيره أيضًا نحو ذلك لأنها كالطاهر في الصلاة والصوم وغيرهما فكذلك في الجماع. وقال ابن عباس يأتيها زوجها، الصلاة أعظم. وللبخاري "ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت" ولأبي داود وغيره "ثم صلي وإن قطر الدم على الحصير".

وعند الجمهور ليس لها الوضوء قبل دخول الوقت لأن طهارتها ضرورية فليس لها تقديمها قبل وقت الحاجة. وتغسل فرجها قبل الوضوء وتحشوه بقطنة أو خرقة دفعًا للنجاسة وتقليلًًا لها فإن لم يندفع شدت مع ذلك على فرجها وتلجمت واستثفرت كما هو معروف عند أهل العلم لقوله عليه الصلاة والسلام "انعت لك الكرسف فتحشين به المكان قالت، إنه أكثر من ذلك قال تلجمي" وكذا به من سلس البول أو ريح أو جرح لا يرقى دمه أو رعاف دائم. (ولأبي داود) والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم وابن حزم واستنكره أبو حاتم. وقال ابن الصلاح يحتج به (فقال لها) يعني قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة (إن دم الحيض دم أسود يعرف) بضم الياء وكسر الراء أي له عرف ورائحة وقيل بفتح الراء أي تعرفه النساء "فإذا كان ذلك فامسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي". ففيه رد المستحاضة إلى صفة الدم بأنه إذا كان بتلك الصفة فهو حيض، ولا مانع من اجتماع المعرفين في حقها وحق غيرها. وإذا اتفقت العادة والتمييز جلستهما بلا نزاع. وإن كانت المعتادة مميزة جلست عادتها. قال الزركشي وهو اختيار الجمهور. وقال الشيخ هو أظهر الروايتين عن أحمد وهو ظاهر الحديث اهـ ولظاهر حديث أم حبيبة والتي استفتت لها أم سلمة ولم يستفصل عن كونها مميزة ولأن العادة أقوى لكونها لا تبطل

دلالتها بخلاف اللون إذا استمر بها الدم. فإن لم يكن لها عادة أو كانت ونسيتها عملت بالتمييز الصالح للحيض. قال في الإنصاف بلا نزاع. قال شيخ الإسلام رحمه الله، الدم باعتبار حكمه لا يخرج عن خمسة أقسام مقطوع بأنه حيض كالدم المعتاد الذي لا استحاضة معه. ودم مقطوع بأنه استحاضة كدم صفرة ودم يحتمل الأمرين لكن الأظهر أنه حيض وهو دم المعتادة والمميزة ونحوهما من المستحاضات الذي يحكم بأنه حيض ودم يحتمل الأمرين والأظهر أنه دم فساد وهو الدم الذي يحكم بأنه استحاضة من دماء هؤلاء ودم مشكوك فيه لا يترجح فيه أحد الأمرين ويقول به طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما فيوجبون على أصحابها أن تصوم وتصلي ثم تقضي الصوم. والصواب أن هذا القول باطل لوجوه منها أن الله بين لنا ما نتقيه فكيف يقال: إن الشريعة فيها شك ولا يقولون نحن شككنا فإن الشاك لا علم عنده فلا يجزم. وهؤلاء يجزمون بوجوب الصيام وإعادته لشكهم. والثاني أن الشريعة ليس فيها إيجاب الصلاة مرتين ولا الصيام مرتين إلا بتفريط والصواب ما عليه جمهور المسلمين أن من فعل العبادة كما أمر بحسب وسعه فلا إعادة عليه. (وعن حمنة) بنت جحش أخت أم حبيبة وزينب أم

المؤمنين وهي امرأة أبي طلحة (قالت كنت استحاض حيضة كبيرة شديدة) ولأبي داود إنما أثج ثجا "قالت فأتيت النبي – - صلى الله عليه وسلم - استفتيه فقال – - صلى الله عليه وسلم - فقال – - صلى الله عليه وسلم - (إنما هي ركضة من الشيطان) أي أن الشيطان قد وجد سبيلاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها وصلاتها حتى أنساها عادتها وصارت في التقدير كأنها ركضة منه والركضة ضرب الرجل في الأرض حال العدو ولا ينافي أنه عرق كما تقدم يقال له العاذل فيحمل على أن الشيطان ركضه حتى انفجر. (فتحيضي) أي اقعدي عن الصلاة ايام حيضك (ستة أيام أو سبعة) أيام وكلمة "أو" ليست شكًا من الراوي ولا للتخيير بلا للإعلام بأن للنساء أحد العددين فترجع إلى الأقرب منهما (ثم اغتسلي) كما تغتسل الحائض إذا انقطع دمها (فإذا استنقأت) أي بالغت في التنقية (فصلي أربعة وعشرين) إن كانت أيام الحيض ستة (أو ثلاثة وعشرين) إن كانت أيام الحيض سبعة (وصومي وصلي) ما شئت من فريضة وتطوع (فإن ذلك يجزئك) أي الصوم والصلاة يجزئ من غير إعادة ولو مع سيلان الدم (وكذلك فافعلي) فيما يستقبل من الشهور ولأبي داود "فافعلي كل شهر " (كما تحيض النساء) ولأبي داود " وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن" (رواه الخمسة وصححه الترمذي) وأحمد والبخاري وغيرهم. والحاصر أن المعتادة ترد إلى عادتها. والمميزة تعمل بالتمييز. والفاقدة لهما تحيض ستًا أو سبعًا. ومن محاسن مذهب

أحمد جمعه بين السنن الثلاث. قال شيخ الإسلام للعلماء نزاع في الاستحاضة فإن أمرها مشكل لاشتباه دم الحيض بدم الاستحاضة فلا بد من فاصل والعلامات التي قيل بها ست. أما العادة فإن العادة أقوى العلامات لأن الأصل مقام الحيض دون غيره. وأما التمييز لأن الدم الأسود والثخين أولى أن يكون حيضًا من الأحمر. وأما اعتبار غالب النساء لأن الأصل الحاق الفرد بالأعم الأغلب. فهذه العلامات الثلاث تدل عليها السنة والاعتبار. ومن الفقهاء من يجلسها ليلة وهو أقل الحيض ومنهم من يجلسها الأكثر لأن الأصل دم الصحة. ومنهم من يلحقها بعادة نسائها وأصوب الأقوال اعتبار العلامة التي جاءت بها السنة وإلغاء ما سوى ذلك اهـ. وفي حديثها "وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعًا ثم تؤخري المغرب وتعجلي العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين مع الصبح وتصلين. قال وهو أعجب الأمرين إلي" وهذا للندب لقوله "وإن قويت" فإنه يشعر أنه ليس بواجب عليها، وإنما الواجب الوضوء لكل صلاة بعد الاغتسال عن الحيض وهو إجماع. (وعن أم عطية) نسيبة بنت الحارث الأنصارية من المبايعات وغزت معه سبع غزوات (قالت كنا) يعني زمن النبي – - صلى الله عليه وسلم - (لا نعد الصفرة) وهو الماء الذي تراه المرأة كالصديد

(والكدرة) أي ما هو بلون الماء الكدر (بعد الطهر) أي بعد رؤية القصة البيضاء والجفوف (شيئًا) أي لا نعده حيضًا (رواه أبو داود) ورواه البخاري بدون لفظ الطهر وله حكم الرفع عند أهل الحديث وغيرهم لكونه تقريرًا منه – - صلى الله عليه وسلم - فما ليس بدم غليظ أسود يعرف فلا يعد بعد الطهر حيضًا. ولأحمد وأبي داود وغيرهما في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر قال " إنما هو عرق أو عروق" قال البغوي وهو قول أكثر الفقهاء. ومفهومه أن الصفرة والكدرة قبل الطهر حيض وهو إجماع لقوله (حتى يطهرن) وهو يتناولها ولأن النساء يبعثن إلى عائشة بالدرج فيها الصفرة والكدرة فتقول لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء يعني الطهر فعلامة انقطاعه والحصول في الطهر أن ينقطع خروج الدم والصفرة والكدرة سواء خرجت رطوبة بيضاء. أو لم يخرج شيء أصلاً. ولا حد لأقل الطهر فمتى طهرت اغتسلت وصلت قال الشيخ ولو ساعة. (وعن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يواكلوها) وكانوا لا يساكنونها في بيت واحد ولا يجتمعون بها (فقال النبي – - صلى الله عليه وسلم - اصنعوا كل شيء) من أنواع الاستمتاع (إلا النكاح) أي الوطء في الفرج. وفي رواية "إلا الوطء" يعني في الفرج حال جريان الدم (رواه مسلم) ورواه الخمسة وغيرهم. وهذا الحديث مبين للمراد من الآية أن المأمور به من الاعتزال والمنهي عنه من القربان هو النكاح وأما المواكلة والمجالسة

والمضاجعة ونحو ذلك فجائز. وعن عائشة: "كان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض". وعن معاذ سئل ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال ما فوق الإزار، رواه أبو داود بسند ضعيف. فأباح الاستمتاع بما فوق الإزار ولا نزاع فيه. ومطلقًا سوى الجماع كما هو نص حديث أنس وحديث عائشة: "كنت أبيت أنا ورسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في الشعار الواحد وأنا حائض" والشعار هو ما يلي الجسد من الثياب وهو مذهب الجمهور إذا كان يملك نفسه عن الوطء في الفرج وإلا فلا اتفاقًا لقوله "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه". ويعضده الأمر بالاتزار. وقال ابن القيم حديث أنس ظاهر في أن التحريم إنما وقع على موضع الحيض خاصة وهو النكاح وأباح كلما دونه وأحاديث الاتزار لا تناقضه لأن ذلك أبلغ في اجتناب الأذى. وقرر الشيخ قاعدة وهي إنما كان مظنة الفساد خفي علق الحكم به ودار التحريم عليه. وعن ابن عباس في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال يتصدق بدينار أو نصف دينار رواه الخمسة وصححه الحاكم. وقال الشيخ وابن القيم هو موجب القياس على الوطء في الصيام والإحرام فالصحيح وجوبه ولو لم تأت به الشريعة فكيف وقد جاءت به مرفوعًا وموقوفًا وهو إحدى الروايتين عن أحمد وقال الحافظ الخبر مضطرب وقال أحمد لو صح لكنا نرى عليه

الكفارة فعنه لا كفارة وفاقًا، بل من تعمد ذلك أثم وليس عليه إلا الاستغفار. قال الترمذي وهو قول علماء الأمصار وقال ابن كثير وغيره قال أكثر العلماء لا شيء عليه ويستغفر الله والذمة بريئة إلا أن تقوم الحجة بشغلها فالله أعلم. (وعن أم سلمة: كانت النفساء) بضم النون ونفست بضمها لا غير إذا ولدت والمصدر النفاس (تقعد) أي تكف نفسها عما تفعله الطاهرة (على عهد رسول – - صلى الله عليه وسلم - بعد نفاسها) أي ولادتها سميت به لأنه يصحبها خروج النفس وهو الدم ثم سمى الدم نفاسًا لأنه خارج بسبب الولادة (أربعين يومًا رواه الخمسة إلا النسائي) وأما ابن ماجه فمن حديث أنس وأثنى عليه البخاري وله شاهد عند الحاكم وصححه من حديث عثمان بن أبي العاص ومعناه أكثر ما تجلس إذ محال اتفاق عادة نساء عصر في نفاس أو حيض. وقيل أكثره أربعون. وقال الترمذي أجمع أهل العلم عن أن النفساء تدع الصلاة أربعين يومًا إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فتغتسل وتصلي وقال أبو عبيد وعلى هذا جماعة الناس. وقال إسحاق هو السنة المجمع عليها. قال ابن رشد وغيره لا خلاف أن الدم الذي يهراق بعد الولادة نفاس وابتداؤه خروج بعض الولد حكاه أحمد وغيره عن عمر وغيره ولم يعرف لهم مخالف. وقال الشيخ لأحد لأكثره ولو زاد على السبعين وانقطع لكن إن اتصل فهو دم

فساد وحينئذ فالأربعون منتهي الغالب ولا حد لأقله اتفاقًا فيرجع فيه إلى الوجود وقد وجد قليلاً وكثيرًا. ويثبت حكم النفاس بشيء فيه خلق الإنسان والنقاء زمنه طهر فمتى طهرت تطهرت وصلت. وأحكامه أحكام الحيض إجماعًا فيما يحل من الاستمتاع ونحوه وفيما يحرم كالوطء في الفرج والصوم والصلاة وفيما يجب كالغسل ويسقط كوجوب الصلاة فلا تقضي. ولأبي داود وغيره فلم يأمرها بقضاء صلاة النفاس.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة في الأصل الدعاء وفي الشرع أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين وأفضل الأعمال بعدهما لجمعها لمتفرق العبودية وتضمنها لأقسامها. وهي دين الأمة ضرورة. وفرض عين بالكتاب والسنة والإجماع فرضها الله -عز وجل- على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج في السماء دون غيرها. فدل على تأكد فرضيتها. وأحاديث كل صلاة من الصلوات الخمس وأحاديث الركعات وما تشتمل عليه كل ركعة والركوع والسجود والاعتدال منهما وترتيب ذلك مستفيض متواتر تواترًا معنويًا وفي فضلها وتحتمها آيات وأحاديث كثيرة وثبت أنهن كفارات لما بينهن. (قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا} يعني الكفار {إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} يوحدوه بالعبادة ويفردوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} قال ابن عباس ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بإخلاص العبادة لله

موحدين {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} {حُنَفَاء} مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام مقبلين على الله معرضين عن كل ما سواه. {وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ} وما أمروا إلا ليؤدوا الصلاة المكتوبة بأركانها وواجباتها في أوقاتها {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} عند محلها {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} أي الذي أمروا به هو الملة والشريعة المستقيمة وقرن الله الصلاة بالإيمان في قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}، وقال {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} وغير ذلك من الآيات وقرنها بالتوحيد يفيد عظم شأنها. (وفي الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بني الإسلام) وهو الاستسلام لله واسم للدين والشريعة (على خمس) أي قواعد أو دعائم وفي رواية "على خمسة" أي أركان مثل الإسلام ببناء أقيم على خمسة أعمدة لا يستقيم إلا بها. قطبها (شهادة أن لا إله إلا الله) أي جزم أن لا معبود بحق إلا الله (وأن محمدًا رسول الله) ولا بد مع التكلم بهما من العلم بمعناهما والعمل بمقتضاهما باطنًا وظاهرًا. قال تعالى: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون} (وإقام الصلاة) أي المداومة عليها (وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام). فدل هذا الحديث على أن الإسلام لا يستقيم إلا بهذه

الخمسة الأركان لا يثبت بدونها فما انتقص من هذه الدعائم الخمس زال الإسلام بفقده. وثنى بالصلاة بعد الشهادتين وقدمها على بقية الأركان لعظم شأنها ولا يقدم إلا الأهم. وعن معاذ مرفوعًا "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة". (ولهما من حديث معاذ أخبرهم) يعني أهل اليمن حين بعثه إليهم معلمًا (إن الله افترض) وفرض فرضًا وافتراضًا أوجب "عليهم" يعني بعد التوحيد (خمس صلوات في كل يوم وليلة) تكرر بتكرر الأيام والسنين. فرض عين على كل مسلم مكلف بإجماع المسلمين. وعن ابن عمر مرفوعًا: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ويقيموا الصلاة. ويؤتون الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله –عز وجل" متفق عليه. فدلت هذه الأحاديث على آكدية فرضيتها. وللبخاري عن أنس "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته". وأجمعوا على أنه إذا أسلم لم يجب عليه قضاء ما تركه حال كفره لقوله –عليه الصلاة والسلام- "الإسلام يجب ما قبله". (وللخمسة) وغيرهم عن عمرو بن شعيب وسبرة وعلي

وعائشة وغيرهم من طرق بألفاظ متقاربة (وصححه الترمذي) والحاكم والنووي وغيرهم أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال (مروا أبناءكم) وفي لفظ "صبيانكم" أي يلزم كل ولي أن يأمر الصبي (بالصلاة لسبع) سنين إذا فهم الخطاب. قال شيخ الإسلام ويجب على كل مطاع أن يأمر من يطيعه بالصلاة حتى الصغار لقوله "مروهم بالصلاة" ومن عنده صغير مملوك أو يتيم أو ولد فلم يأمره فإنه يعاقب الكبير إذا لم يأمر الصغير ويعزر تعزيرًا بليغًا لأنه عصى الله ورسوله. (واضربوهم عليها لعشر) سنين ضربًا غير مبرح وجوبًا لتمرينه عليها حتى يألفها (وفرقوا بينهم في المضاجع) أي المراقد لأن بلوغ العشر مظنة الشهوة ونومهما في فراش واحد ذريعة إلى نسج الشيطان بينهما المواصلة المحرمة لا سيما مع الطول والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لا يشعر. وفي لفظ "أولادكم" وللترمذي "علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين" قال النووي وغيره والصبي يتناول الصبية بلا خلاف. وكذا لفظ الأولاد يشمل الذكر والأنثى. (وعن جابر قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) أي الذي يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة فإن تركها لم يكن بينه وبين الكفر حائل (رواه مسلم) وأهل السنن وصححه الترمذي وغيره وللطبراني عن ثوبان مرفوعًا "بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة" وقال إسناده صحيح على شرط

مسلم وأتى به معرفًا بالألف واللام والمراد به الكفر الأكبر المخرج من الملة. (وعن بريدة مرفوعًا العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة) أي الميثاق المؤكد بالإيمان الذي بيننا معشر المسلمين في إجراء أحكام الإسلام هو الصلاة وقال في أمراء الجور "لا تقاتلوهم ما صلوا" (فمن تركها فقد كفر) فلا يسمى تاركها مسلمًا ولا مؤمنًا وإن كان معه شعبة من شعب الإسلام والإيمان ولا تنفع صلاة من صلى بلا وضوء عمدًا (رواه الخمسة وصححه الترمذي والعراقي وغيرهم. قال ابن القيم والأدلة تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة فهي مفتاح ديوانه ورأس مال ربحه وقال ابن رجب وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها فقد خرج من الإسلام. وقال عبد الله بن شقيق كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون من الأعمال شيئًا تركه كفر إلا الصلاة. وحكى إسحاق إجماع أهل العلم عليه، فترك الصلاة كسلاً من غير جحود لها كفر مستقل في قول جمهور السلف وهو الذي تدل عليه السنة. بل نقل ابن راهويه وغيره الإجماع عليه. وقال ابن القيم قد شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة وأما من جحد وجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين وإن فعلها لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع الأمة ويكون مرتدًا بلا

باب الأذان

خلاف. وإن ادعى الجهل عرف. قال الشيخ نص جمهور العلماء على أنه إذا ضاق الوقت ولم يصل قتل ولو قال أنا أقضيها. وقال ابن رجب ظاهر كلام أحمد وغيره أن من تركها كفر بخروج الوقت عليه ولم يعتبروا أن يستتاب. ولا أن يدعي إليها للأخبار. وحكي الإجماع عليه كالمرتد، وكترك الصلاة ترك ركن أو شرط مجمع عليه اختاره الشيخ وقال إذا ترك الصلاة عمدًا لا يشرع له قضاؤها ولا تصح منه بل يكثر من التطوع وليس في الأدلة ما يخالف هذا بل يوافقه. باب الأذان أي والإقامة وما يتعلق بهما من الأحكام لما ذكر الصلاة أعقبها بالأذان مقدمًا له على الوقت لأنه إعلام به. والأذان في الأصل الإعلام {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أعلمهم به من الأذن وهو الاستماع لأنه يلقي في آذان الناس ما يعلمهم به. وشرعًا إعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة. والإقامة إعلام بالقيام إلى الصلاة وهما مشروعان بالكتاب والسنة والإجماع. وقال الشيخ وغيره هما فرض كفاية إجماعًا. ليس لأهل قرية ولا مدينة أن يدعوهما، ومن أطلق السنية قال يعاقب التارك فالنزاع لفظي. وفرض الكفاية هو ما يلزم جميع المسلمين إقامته وإذا قام به من يكفي سقطت الفرضية عن الجميع. قال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} أيها المسلمون

بالآذان والإقامة كما أمرتم {اتَّخَذُوهَا} يعني اليهود والمنافقون {هُزُوًا} سخرية وهزأ واستهزأ سخر {وَلَعِبًا} ضحكة وباطلاً وذلك أنه إذا نادى منادي رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وقام المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود قد قاموا لا قاموا وصلوا ويضحكون على طريق الاستهزاء فأنزل الله هذه الآية. ويقال إن المنافقين كانوا إذا سمعوا النداء حسدوا المسلمين عليه، فقالوا لقد بدعت شيئًا لم يسمع بمثله من أين لك صياح كصياح العير، فأنزل الله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ} وأنزل {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} ذلك الفعل منهم {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُون} يعني أن هزوهم ولعبهم لمن أشغال السفهاء والجهال الذين لا عقل لهم. ويأتي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} ومن المعلوم بالضرورة أن المراد بالنداء هو الأذان المشروع للصلوات الخمس. (وعن أنس أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -) كان إذا غزا بنا قومًا لم يكن يغير بنا حتى يصبح و (ينظر) يعني قبل أن يغير على العدو (فإن سمع أذانًا) يعني لصلاة الصبح ويعم سائر الأوقات (كف عنهم) وقال البخاري: باب ما يحقن بالأذان من الدماء ففيه حقن الدماء عند وجود الأذان (وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم) قال فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلاً فلما أصبح ولم يسمع أذانًا ركب يعني فأغار عليهم (رواه البخاري).

فالأذان شعار دار الإسلام الذي يستحل دماء أهل الدار وأموالهم بتركه فيقاتل أهل بلد تركوهما وحكي إجماعًا حتى يفعلوهما لما يلزم من الإجماع على تركهما من استخفافهم بالدين بخفض أعلامه الظاهرة. وهكذا حكم شعائر الإسلام الظاهرة. وإن كانوا مستقيمين على دين الإسلام فإن موجب القتال أعم من أن يكون لأجل الردة. (وعن مالك بن الحويرث) هو ابن سليمان الليثي وفد إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - وسكن البصرة وتوفي سنة أربع وتسعين قال أتيت النبي – - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قومي هم بنو ليث بن بكر بن عبد مناف قال فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رحيمًا رقيقًا فلما رأى شوقنا إلى أهلينا (قال – - صلى الله عليه وسلم -) ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم و (إذا حضرت الصلاة) أي دخل وقتها (فليؤذن لكم أحدكم متفق عليه) والأمر يقتضي الوجوب والمراد في الفرائض المتعينة وهي الصلوات الخمس كما هو معلوم من الدين بالضرورة لا النوافل فلا أذان لها ولا إقامة. وفي رواية "إذا سافرتما فأذنا وأقيما". وعن أبي الدرداء مرفوعًا: "ما من ثلاثة لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان" رواه أحمد وغيره. ويؤيده أنه – - صلى الله عليه وسلم - لم يتركهما حضرًا ولا سفرًا وليس شرطًا فتصح بدونهما لكن يكره واتفقوا على سنيته وفيه أنه لا يجزئ إلا بعد دخول الوقت وهو إجماع إلا الفجر بعد نصف

الليل لما في الصحيحين إن بلالاً يؤذن بليل. وظاهر الخبر يجزئ من مميز لصحة صلاته كالبالغ. قال الشيخ والأشبه إن الأذان الذي يسقط به الفرض ويعتمد لا يباشره صبي قولاً واحدًا. وقال المؤذن الراتب لا يكون إلا عدلاً. ولأبي داود "وليؤذن لكم خياركم". وترتيب الفاسق مؤذنًا لا ينبغي قولاً واحدًا. وقال يعمل بقول المؤذن في الوقت مع إمكان العلم بالوقت. وهذا مذهب أحمد والشافعي وسائر العلماء المعتبرين كما شهدت به النصوص خلافًا لقول بعض أصحابنا ولم يزل الناس يعملون بالآذان من غير نكير فكان إجماعًا. وقال ابن القيم أجمع المسلمون على قبول أذان المؤذن الواحد وهو شهادة منه بدخول الوقت. (وعن جابر أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أتى المزدلفة) في حجة الوادع منصرفة من عرفة (فصلى بها المغرب والعشاء) جمعًا (بآذان واحد وإقامتين رواه مسلم) زاد أبو داود من حديث ابن عمر بعد قوله: "بإقامة واحدة لكل صلاة"، وللترمذي في قصة الخندق أنهم شغلوه عن أربع صلوات "فأذن وأقام لكل صلاة" فدل على مشروعية الأذان والإقامة في نحو تلك المواطن. (وله عن أبي قتادة) في الحديث الطويل (في نومهم عن الصلاة) أي صلاة الفجر وكان عند قفولهم من غزوة خيبر

(ثم أذن بلال) أي: بأمره – - صلى الله عليه وسلم - كما في سنن أبي داود "ثم أمر بلالاً أن ينادي بالصلاة فنادى بها" (فصلى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - كما كان يصلي كل يوم) ففيه دلالة على شرعية التأذين للصلاة الفائتة بنوم. ويلحق بها المنسية. وله من حديث أبي هريرة "أنه أمر بلالاً بالإقامة" قال ابن رشد وغيره والأمر بالأذان منقول بالتواتر والعلم به حاصل ضرورة. ولا يرده إلا كافر يستتاب. فإن تاب وإلا قتل. (وعن معاوية) بن أبي سفيان الأموي أمير المؤمنين صحب النبي – - صلى الله عليه وسلم - وكتب له وولاه عمر الشام ثم استقل واجتمع عليه الناس عشرين سنة ومات سنة ستين (أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال "إن المؤذنين) أي المنادين للصلوات الخمس (أطول الناس أعناقًا) أي رقابًا لأن الناس في كرب الموقف متطلعون أن يؤذن لهم في دخول الجنة. وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة "يعرفون بطول أعناقهم" وقيل رؤساء سادة (يوم القيامة) وظاهره الطول الحقيقة (رواه مسلم) وغيره وهذا ما لم يكن القصد الدنيا ونحوها فليس من أعمال الآخرة. وعن ابن عمر مرفوعًا "ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة يغبطهم الأولون والآخرون رجل نادى بالصلوات الخمس في كل يوم وليلة" رواه الترمذي وغيره ولأبي داود "عجب ربك من راعي غنم يؤذن للصلاة" الحديث وفي الصحيح "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا

عليه لاستهموا" ولأحمد بسند صحيح "يغفر له منتهى صوته ويستغفر له كل رطب ويابس" وفي فضله أحاديث كثيرة. وقال بعض أهل العلم الأذان أفضل من الإمامة قال الشيخ هذا أصح الروايتين. وإمامته – - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه متعينة ففي حقهم أفضل لخصوص أحوالهم. (وعن عثمان بن أبي العاص أنه – - صلى الله عليه وسلم - قال له) وذكر أنه آخر ما عهد إليه (اتخذ مؤذنًا) ففيه الأمر بالأذان (لا يأخذ على أذانه) أي ندائه للصلاة (أجرًا) أي عوضًا يسمى له، لا رزق من بيت المال لعدم متطوع (رواه الخمسة) وغيرهم (وحسنه الترمذي) وقال العمل عليه عند أهل العلم. وقال ابن عمر لرجل إني لأبغضك في الله لأنك تأخذ على أذانك أجرًا ولا يعرف له مخالف من الصحابة. وقال مالك يؤجر نفسه في سوق الإبل أحسن من أن يعمل لله بالإجارة وكذا الإقامة لأنهما قربة لفاعلهما. وكذا يحرم دفعها وهو مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد. وقيل يجوز مع الفقر اختاره شيخ الإسلام. قال وكذا كل قربة. (وعن عبد الله بن زيد) بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي شهد العقبة والمشاهد ومات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين (قال طاف بي) جواب لما اهتم به أي مر بي (وأنا نائم) حال من المفعول قال الجوهري طيف الخيال مجيئه في النوم أي تخيل لي

(رجل) فاعل طاف أي تشبه له في المنام يحمل ناقوسًا خشبة أو حديدة طويلة يضربها النصارى إعلامًا للدخول في صلاتهم فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس قال، وما تصنع به قلت ندعو به إلى الصلاة قال أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك قلت بلى (قال تقول الله أكبر) فذكر الحديث وله طرق وألفاظ. وسببه والله أعلم أنه لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يجمعهم لها. فقالوا لو اتخذ ناقوسًا. فقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "ذلك للنصارى"، فقالوا لو اتخذنا بوقًا قال "ذلك لليهود" فقالوا لو رفعنا نارًا قال "ذلك للمجوس" فافترقوا فرأى عبد الله تلك الرؤيا قال الحاكم هذه أمثل الروايات في قصة عبد الله ويقال أصح منه حديث ابن عمر كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادي بها أحد فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم اتخذوا قرنًا مثل قرن اليهود قال فقال عمر ألا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة. فقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "يا بلال قم فناد بالصلاة" وقيل غير ذلك. (فذكر الأذان) يعني ذكر عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- كلمات الأذان (بتربيع التكبير) أي تقول الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر الله أكبر وتثني ما سواه وهو الشهادتان والحيعلة والتكبير ويفرد كلمة التوحيد. والمراد بالتثنية في الجملة وإلا فقد انعقد الإجماع على إفراد التهليلة (والإقامة فرادى) لا تكرير في

شيء من ألفاظها (إلا قد قامت الصلاة) فتكرر قال فلما أصبحت أتيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، يعني أخبره بتلك الرؤيا التي رأها. ولأبي داود وهو مهتم لهم رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فأري الأذان فدل على مشروعيته لاهتمامه – - صلى الله عليه وسلم - في أمر يجمعهم لها. (فقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إنها لرؤيا حق) أي صادقة مطابقة للوحي. والحكمة التنويه بقدره والرفع لذكره قال فقم (فألقه على بلال) أي ما رأيت "فليؤذن به" (فإنه أندى) أي أرفع وأحسن وللترمذي وأمد (صوتًا منك) يعني فيكون أبلغ في الإعلام المقصود منه. وقال لأبي سعيد الخدري "إذا كنت في غنمك فارفع صوتك بالنداء". ولأبي داود أنه قال لأبي محذورة "ثم ارجع فمد صوتك" ولحديث يغفر له "مدى صوته" قال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به. قال فسمع ذلك عمر وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل الذي رأى فقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "فلله الحمد" رواه أحمد وأبو داود و (صححه البخاري) والترمذي وابن خزيمة وغيرهم ولأحمد كان بلال يؤذن بذلك فرفع صوته في الفجر الصلاة خير من النوم قال ابن المسيب فأدخلت في التأذين لصلاة الفجر. (ولأحمد عن أبي محذورة) أوس بن المغيرة الجمحي مؤذن.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة أمره به منصرفة من حنين توفي سنة تسع وخمسين (نحوه) أي نحو حديث عبد الله بن زيد بتربيع التكبير كما هو مذهب الجمهور أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم بغير ترجيع. ولمسلم عنه بترجيع الشهادتين يخفض صوته بهما ثم يعيدهما رافعًا بهما صوته. وهو مذهب طائفة من أهل العلم. والأذان بغير ترجيع هو المشهور من حديث عبد الله بن زيد. وكان بلال يؤذن كذلك إلى أن مات. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقره عليه بعد ما رجع من فتح مكة وعليه عمل أهل المدينة وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم. وقال أحمد هو آخر الأمرين والترجيع مذهب أهل مكة. قال شيخ الإسلام كل منهما أذان صحيح عند جميع سلف الأمة وعامة خلفها وكل واحد منهما أذان صحيح عند جمع سلف الأمة وعامة خلفها وكل واحد منهما سنة. ومن تمام السنة أن يفعل هذا تارة وهذا تارة لأن هجر ما وردت به السنة وملازمة غيره قد يفضي إلى أن تجعل السنة بدعة. (وفيه) أي في حديث أبي محذورة فإن كان صلاة الصبح قلت (الصلاة خير من النوم) الصلاة خير من النوم، ورواه أهل السنة وغيرهم من غير وجه وصححه ابن خزيمة ويستحب أن يستقبل القبلة فيهما كغيرهما إجماعًا سوى الحيعلتين ويقولهما ولو أذن قبل الفجر لخبر بلال. وقال أنس إنه من السنة وأخرج الترمذي من حديث بلال لا تثويب في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر وهو الذي اختاره أهل العلم وعمل المسلمين

عليه قال بلال ونهاني أن أثوب في العشاء وكذا يكره النداء بعد الأذان في الأسواق وغيرها مثل أن يقول الصلاة والإقامة. قال الشيخ إذا كانوا يسمعون النداء وإلا فلا ينبغي أن يكره. فإن تأخر الإمام أو أماثل الجيران فلا بأس أن يمضي إليه من يقول قد حضرت الصلاة. وما سوى التأذين قبل الفجر من التسبيح ونحوه يرفعون أصواتهم به بدعة. (وعن أنس قال أمر) بضم الهمزة يعني أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يأمر في الأصل إلا رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - و (بلال) نائب فاعل وللنسائي "أمر النبي – - صلى الله عليه وسلم - بلالاً" وسبب ذلك قول أنس. ذكروا النار والناقوس فذكروا اليهود والنصارى وتقدمت الرواية الثانية عن أنس ورؤيا عبد الله بن زيد فبدأ الأذان كان: عن مشورة أوقعها النبي – - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه فافترقوا فرأى عبد الله بن زيد فقص، فقال عمر ألا تبعثون مناديًا فأمر بلال (أن يشفع الأذان) أي أن يأتي بكلماته مثنى مثنى أو أربعًا أربعًا كالتكبير في أوله والكل يصدق عليه أنه شفع كما فسره حديث عبد الله بن زيد وأبي محذورة. وهذا بالنظر إلى الأكثر وإلا فكلمة التوحيد في آخره مفردة (ويوتر الإقامة) أي يفرد ألفاظها (متفق عليه). وظاهره أنه يفرد التكبير في أولها ولكن الجمهور على أن التكبير في أولها مكرر مرتين. وهو بالنظر إلى تكريره في الأذان

أربعًا كأنه غير مكرر فيها وكذلك يكرر في آخرها. وفي رواية للبخاري وغيره "إلا الإقامة" يعني فيشفعها بقوله. قد قامت الصلاة. قد قامت الصلاة لا يوترها. وعن ابن عمر نحوه قال البغوي وهذا قول أكثر العلماء. وشفع الأذان وإيتار الإقامة مستفيض. والحكمة في تكرير الأذان لأنه لإعلام الغائبين فاحتيج إلى تكريره كما شرع فيه رفع الصوت والمحل بخلاف الإقامة فإنها لإعلام الحاضرين فتفرد لأنه لا حاجة إلى تكرار ألفاظها. ولأبي داود "إن بلالاً يؤذن على بيت امرأة من بني النجار من أطول بيت حول المسجد إلى أن بنى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - مسجده. فكان يؤذن على ظهر المسجد" وقد رفع له شيء فوق ظهره. وبنى سلمة المنائر بأمر معاوية. وتقدم شرعية رفع الصوت وكان مؤذنوا رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يؤذنون قيامًا. وقال القاضي عياض وغيره مذهب كافة العلماء أنه لا يجوز من قاعد. وميل الشيخ إلى عدم إجزاء أذان القاعد. وقال في الإنصاف لا يصح إلا مرتبًا متواليًا بلا نزاع. (وعن أبي جحيفة) وهب بن عبد الله السوائي العامري توفي رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ولم يبلغ الحلم ولكنه سمع منه. جعله على بيت المال وتوفي بالكوفة سنة أربع وسبعين (قال رأيت بلالاً يؤذن) ولعله رآه كذلك على الاستمرار لاستمرار عمل.

الناس عليه (واتتبع فاه ههنا وههنا) أي أنظر إلى فيه يمنة ويسرة كما فسره بقوله (يقول يمينًا وشمالاً حي على الصلاة) أي هلم إليها (حي على الفلاح) الفوز والخلود في النعيم المقيم. وحي اسم فعل بمعنى أسرع. والمراد هلموا وعجلوا إلى طلب ذلك (متفق عليه). ففيه مشروعية الالتفات في الحيعلتين. وإنما اختصتا بذلك لأن غيرهما ذكر. وهما خطاب للآدمي كالسلام في الصلاة يلتفت فيه دون ما عداه. وفائدة التفاته أنه أرفع لصوته. ويعرفه من يراه على بعد قال الشيخ لم يستثن العلماء إلا الحيعلة. وأما الإقامة فالسنة أن يقولها مستقبل القبلة (زاد أبو داود ولم يستدر) يعني بجملة بدنه. وعن أحمد وغيره لا يدور إلا إذا كان على منارة قصدًا لإسماع أهل الجهتين وفاقًا لكبر البلد (وفي رواية واصبعاه) قال النووي وغيره المسبحتان (في أذنيه) لأنه أرفع لصوته ولا يتعين وضع المسبحتين ولكنهما أولى من الإبهامين وغيرهما (صححه الترمذي) وقال العمل عليه عند أهل العلم يستحبون أن يدخل أصبعيه في أذنيه في الأذان. (وله عن جابر وضعفه أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال إذا أذنت فترسل) أي: رتل ألفاظ وتمهل ولا تسرع في سردها بل أقطع الكلمات بعضها من بعض لأن المراد منه الإعلام للبعيد وهو مع الترسل أكثر إبلاغًا (وإذا أقمت فاحدر) أي أسرع لأنه إبلاغ للحاضرين فكان الإسراع بها أنسب (واجعل بين

أذانك وإقامتك بقدر ما يفرغ الأكل من أكله) أي تمهل وقتًا بقدر فراغ الآكل من أكله والمتوضيء من وضوئه ليتمكن من الصلاة. وتمامه "والشارب من شربه والمعتصر إذا دخل لقضاء الحاجة". وله شاهد من حديث أبي هريرة ومن حديث سلمان رواهما أبو الشيخ ومن حديث أبي بن كعب رواه عبد الله ابن الإمام أحمد وكلها ضعيفة. لكن المقصود من الأذان نداء الغائب فلا بد من وقت يتسع للذاهب للصلاة وحضورها وإلا لضاعت فائدة الأذان. قال ابن بطال لا حد لذلك غير تمكن حضور المصلين وبالجملة قد أمر المؤذن أن يفصل بين الأذان والإقامة ليدرك المصلون الجماعة. ومن أذن فهو يقيم ويجوز غيره. قال الوزير اتفقوا في الرجل يؤذن ويقيم غيره أن ذلك جائز. وقال في الجامع ينبغي للمؤذن أن لا يقيم حتى يحضر الإمام ويأذن له في الإقامة لأن وقتها منوط بنظر الإمام. (وفي الصحيحين) وغيرهما من غير وجه بألفاظ متقاربة فمن حديث أبي سعيد (إذا سمعتم النداء) يعني الأذان للصلوات الخمس (فقولوا مثل ما يقول المؤذن) أي قولاً بمثل ما يقول المؤذن حين تسمعونه على أي حال من طهارة أو غيرها إلا حال الجماع والتخلي. وفي صحيح مسلم من حديث عمر "إذا قال المؤذن الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر" إلى آخر الأذان كلمة كلمة وأجمعوا على سنيته وأوجبه أبو حنيفة وأهل الظاهر. ويدل على الندبية إجابته عليه الصلاة والسلام- المؤذن بـ

"على الفطرة، وخرجت من النار" ويقطع القراءة والذكر ويجيبه لأنه يفوت، وهذه الأذكار لا تفوت فيقدم الإجابة وإن لم يجبه حتى فرغ استحب له التدارك ما لم يطل الفصل. ويجيب ثانيًا وثالثًا اختاره الشيخ ما لم يكن غير مدعو به فلا تتأكد إجابته. وللبخاري من حديث معاوية ومسلم من حديث عمر نحو حديث أبي سعيد. (سوى الحيعلتين) يعني حي على الصلاة حي على الفلاح (فيقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله) يعني عند كل واحدة منهما والحكمة في إبدال الحوقلة من الحيعلة أن الحيعلة دعاء إلى الصلاة معناها هلموا، وإنما يحصل الأجر فيهما بالإسماع، فأمر السامع بالحوقلة؛ لأن الأجر يحصل لقائلها سواء أعلنها أو أخفاها، ولمناسبتها لقول المؤذن وتكون جوابًا له بأن تبرأ من الحول والقوة على إتيان الصلاة والفلاح إلا بحول الله وقوته. وعن ابن مسعود: ولا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعة الله إلا بمعونته وفي حديث عمر "من قال مثل ما يقول صدقً من قلبه دخل الجنة". ولأبي داود عن أبي أمامة أن بلالاً أخذ في الإقامة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سائر ألفاظ الإقامة نحو حديث عمر في الأذان فلما أن قال قد قامت الصلاة قال "أقامها الله وأدامها" وسنده ضعيف ورجح بعضهم أن المجيب يقول في الإقامة كما يقول

في الأذان فإنه يستدل به على الإجابة فيها. وكذا الصلاة خير من النوم لإطلاق الأذان عليها وهو مذهب الجمهور وما سواه لا تقوم له حجة. (ولمسلم) من حديث عبد الله بن عمرو "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" يعني كلمة كلمة كما تقدم (ثم صلوا علي) أي قولوا اللهم صل على محمد ومعناها الطلب من الله أن يثني عليه ويعلي ذكره والصلاة بمعنى التعظيم والتكريم لا تقال لغيره - صلى الله عليه وسلم - (فإنه من صلى علي صلاة واحدة) يعني قال اللهم صل على محمد ونحوه مما ثبت عنه (صلى الله عليه) أي أثنى الله عليه (بها عشرًا) الحسنة بعشر أمثالها وجاء "صلت عليه الملائكة بها عشرًا" فله مثل أجر المصلي الذي حصل له ليس المرد أنه يحصل للمصلي أكثر من النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثم سلوا الله لي الوسيلة) فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه"، وفي لفظ "حلت له الشفاعة" فدل على مشروعية الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - بعد إجابة المؤذن. وسؤال الوسيلة له - صلى الله عليه وسلم -. (وللبخاري عن جابر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قال حين يسمع النداء) أي الأذان بالصلاة بعدما يجيبه ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - (اللهم رب هذه الدعوة التامة) بفتح الدال أي دعوة الأذان الكاملة الشاملة التي لا يدخلها تغيير ولا تبديل (والصلاة القائمة) أي الدائمة التي لا يغيرها ملة ولا تنسخها

شريعة (آت) أي اعط نبينا (محمدًا) - صلى الله عليه وسلم - (الوسيلة) وهي منزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وداره وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش. وقد فسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم. (والفضيلة) الرتبة الزائدة على سائر الخلق (وابعثه) أي يوم القيامة فأقمه (مقامًا محمودًا) أي الشفاعة العظمى في موقف القيامة الذي يحمده فيه الأولون والآخرون (الذي وعدته) في كتابك الكريم في قولك جل ذكرك (عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا) وعسى من الله واجب إنك لا تخلف الميعاد (حلت له شفاعتي يوم القيامة) أي استحقها ووقعت ووجبت له. وله في القيامة ثلاث شفاعات يختص بها. وشفاعات له ولسائر النبيين والصالحين. نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يشفعه فينا - صلى الله عليه وسلم -. (وعن أنس مرفوعًا لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة) رواه الخمسة وغيرهم و (حسنه الترمذي) وصححه ابن القيم وغيره أي فادعوا "قالوا فما نقول قال سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة" وورد اثنتان لا تردان الدعاء عند النداء وعند البأس" رواه أبو داود. وله عن ابن عمر مرفوعًا "قل كما يقول المؤذن فإذا فرغت فسل تعطه". ودل الحديث على أن هذا من جملة الأوقات التي ترجى فيها الإجابة. ولا يقال لا يجاب في غيرها بل ينبغي توخي الدعاء فيها وإكثاره رجاء الإجابة ويستحب أن يقول رضيت بالله ربًا

باب شروط الصلاة

وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ – - صلى الله عليه وسلم - نبيًا. وعند أذان المغرب اللهم إن هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي. ورأى أبو هريرة –رضي الله عنه- رجلاً خرج بعد الأذان من المسجد فقال: "إن هذا قد عصى أبا القاسم – - صلى الله عليه وسلم - " قال ابن عبد البر أجمعوا على القول بهذا الحديث لمن لم يصل وكان على طهارة. قال الشيخ إن كان التأذين للفجر قبل الوقت لم يكره الخروج وأما خروجه لعذر فلا يحرم. باب شروط الصلاة الشروط جمع شرط. والشرط لغة العلامة (فقد جاء اشراطها) علاماتها. والشرط ما لا يوجد المشروط مع عدمه. ولا يلزم أن يوجد عند وجوده وشروط الصلاة هي ما يجب لها قبلها ويجب استمرارها فيها. وهي تسعة الإسلام. والعقل والتمييز. وهذه شروط في كل عبادة إلا التمييز في الحج. والرابع رفع الحدث. وهو الوضوء المعروف وتقدم. وتأتي الخمسة الباقية وهي الوقت. وستر العورة. وإزالة النجاسة. واستقبال القبلة. والنية. وبدأ بالوقت لأنه آكد شروط الصلاة. (قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} مفروضًا مقدرًا محدودًا كلما مضى وقت جاء وقت والمراد الوقت الذي عينه الله لأداء هذه العبادة فلا

تجزئ قبله بإجماع المسلمين ولا يجوز إخراجها عنه إجماعًا على أي حال كان من خوف أو أمن إلا في حالة جمع الصلاتين في وقت إحداهما. قال عمر: الصلاة لها وقت شرطه الله لها لا تصح إلا به وهو سبب وجوبها لأنها تضاف إليه وتتكرر بتكرره والعلم بدخوله أو غلبة الظن على دخوله شرط في صحة الصلاة وإن صلى مع الشك أعاد إجماعًا. (وقال: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي ميلها إلى جهة المغرب. وأصل الدلوك الميل فالشمس تميل إذا زالت وغربت {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي ظهور ظلمته وهو وقت صلاة العشاء (وقرآن الفجر) يعني صلاة الفجر تسمية لها ببعض أفرادها معظم أركانها القراءة من إطلاق الجزء الأعظم على الكل. فمن قوله تعالى {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أخذ الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وقوله {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} صلاة الفجر. وقد ثبتت السنة بذلك. بل تواترت أقواله – - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام مما تلقوه خلفًا عن سلف وجيلاً بعد جيل وقرنًا بعد قرن عن سيد المرسلين – - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء. وفي الصحيحين "تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر".

(وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال: وقت الظهر) أي أول دخول وقت الظهر المحدد للفعل من الزمان (إذا زالت الشمس) أي مالت عن كبد السماء إلى جهة المغرب بإجماع المسلمين لقوله {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقال النبي – - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر حين زالت الشمس "هذا حين دلكت الشمس" رواه ابن جرير وغيره. والظهر لغة الوقت. وشرعًا صلاة هذا الوقت (وكان ظل الرجل كطوله) أي ويستمر وقت صلاة الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله إجماعًا. ويعرف زوال الشمس بزيادة الظل بعد تناهي قصره. وتحول الشمس عن خط المسامتة وبحدوث الظل بعد عدمه. وأجمعوا على أنها لا تصح قبل الزوال. وعن جابر أن جبرائيل "صلاها بالنبي – - صلى الله عليه وسلم - حين زالت الشمس في اليوم الأول. وفي اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله. وقال الوقت ما بين هذين الوقتين" فتضبط ما زالت عليه الشمس من الظل ثم تنظر الزيادة عليه فإذا بلغت قدر الشاخص فقد انتهى وقت الظهر (ما لم تحضر العصر) أي يدخل وقتها وحضور وقتها بمصير ظل كل شيء مثله كما هو مفهوم هذا الخبر فمتى خرج وقت الظهر دخل وقت العصر. وإذا دخل وقت العصر لم يبق شيء من وقت الظهر (ووقت العصر) والعصر الزمان أو الغداة أو العشي ومنه سميت صلاة العصر. أي ويستمر وقت

صلاة العصر المختار من مصير الفيء مثله بعد فيء الزوال من غير فضل بينهما (ما لم تصفر الشمس) ويأتي والشمس بيضاء نقية. وقال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن من صلاها والشمس بيضاء نقية فقد صلاها في وقتها. وأصرح حديث في تحديد وقتها حديث جبرائيل أنه صلاها بالنبي – - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الأول وظل الرجل مثله. وفي اليوم الثاني وظل الرجل مثليه. وقال النبي – - صلى الله عليه وسلم - "الصلاة ما بين هذين الوقتين"، وهذا مذهب جماهير العلماء ومن صلاها في ذلك الوقت فقد صلاها في وقتها. ثم يدخل وقت الضرورة قال الشيخ وهو الصحيح الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة المدنية. وقال نقول بما دل عليه الكتاب والسنة والآثار من أن الوقت للصلوات الخمس وقت اختيار وهو خمسة. ووقت ضرورة وهو ثلاثة (ووقت صلاة المغرب) إذا وجبت أي غربت وفي لفظ "إذا غربت" وهو سقوط قرص الشمس جميعه بحيث لا يرى منه شيء وهو إجماع ولا يجوز قبل الغروب إجماعًا. ويمتد من سقوط قرص الشمس (ما لم يغب الشفق) الأحمر عند جماهير أهل العلم وفي رواية "ما لم يسقط ثور الشفق" أي ثورانه وانتشاره. وفي حديث جبريل "فأقام المغرب حين وجبت الشمس.

فلما كان في اليوم الثاني أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق الأحمر". ثم قال "الوقت ما بين هذين الوقتين" وفي لفظ "إذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق" وهو أصح الأقوال لهذا الخبر. وخبر أبي موسى وبريدة وغيرهم ولعموم قوله – - صلى الله عليه وسلم - "وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي بعدها" وإنما خص منه الفجر بالإجماع فما عداه داخل في عمومه. فالمغرب لها وقتان. وقت اختيار. وهو إلى ظهور الأنجم. ووقت كراهة وهو ما بعده إلى مغيب الحمرة. فالشفق بياض تخالطه حمرة ثم تذهب ويبقى بياض خالص بينهما زمن قليل. فيستدل بغيبوبة البياض على مغيب الحمرة. قال شيخ الإسلام وما بين العشائين ثمن الليل وما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس سبعه ووقت الفجر يتابع الليل فيكون في الشتاء أطول. والعشاء بالعكس (ووقت صلاة العشاء) من غيبوبة الشفق الأحمر إجماعًا. والأحاديث متظاهرة بذلك وقال ابن عمر الشفق الحمرة. فإذا غاب الشفق فقد وجبت الصلاة. وسميت بالعشاء لأنها تفعل فيه. وتسمى بالعتمة. ولا يكره ما لم يكثر حتى يغلب على الاسم ويستمر وقت العشاء (إلى نصف الليل الأوسط) عند جماهير أهل العلم للأخبار المستفيضة في ذلك. ويمتد إلى طلوع الفجر عند الأكثر كما هو معروف عن ابن عباس وغيره لحديث أبي قتادة رواه مسلم.

(ووقت صلاة الصبح) أوله (من طلوع الفجر) وهو ضوء النهار أو حمرة الشمس في سواد الليل وهو في آخر الليل كالشفق في أوله سمي به لانفجار الصبح، وقال عليه الصلاة والسلام: "الفجر فجران: فجر يحرم الطعام وتحل فيه الصلاة، وفجر تحرم فيه الصلاة" أي صلاة الصبح "ويحل فيه الطعام" صححه ابن خزيمة والحاكم. وله في صفة الفجر الذي يحرم الطعام أنه يذهب مستطيلاً في الأفق ومد يديه عن يمينه وعن يساره وفي الآخر "أنه كذنب السرحان" ويمتد وقت الفجر المختار إلى أن يسفر جدًا. والضرورة يمتد (ما لم تطلع الشمس" رواه مسلم) ولحديث جبريل "صلى الفجر حين برق الفجر. وفي اليوم الثاني حين أسفر جدًا". وقال البخاري هو أصح شيء في المواقيت. وقال الوزير وغيره أجمعوا على أن أول وقت صلاة الفجر طلوع الفجر الثاني وآخر وقتها المختار إلى أن يسفر ووقت الضرورة إلى أن تطلع الشمس اهـ. وجاء نحوه من طرق مستفيضة عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - وقال شيخ الإسلام استعمل فقهاء الحديث في هذا الباب جميع النصوص الواردة في أوقات الجواز والاختيار فوقت الفجر ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. ووقت الظهر من الزوال إلى مصير ظل كل شيء مثله سوى في الزوال. ووقت العصر إلى اصفرار الشمس. ووقت المغرب إلى مغيب الشفق. ووقت العشاء إلى منتصف الليل. وهذا بعينه

قول رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم. وليس حديث في المواقيت أصح منه. وكذا صح معناه من غير وجه من فعله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ولا يأثم بتعجيل صلاة يستحب تأخيرها ولا تأخير ما يستحب تعجيلها إذا أخرها عازمًا على فعلها ما لم يضق الوقت عن فعل جميع العبادة لصلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الوقت وفي آخره. وقوله "الوقت ما بين هذين الوقتين" ولأن وقت الوجوب موسع فهو كالتكفير موسع في الأعيان، وقال في قوله – - صلى الله عليه وسلم - "أفضل الأعمال عند الله الصلاة في وقتها". الوقت يعم أول الوقت وآخره. والله يقبلها في جميع الوقت. لكن أوله أفضل من آخره لفعله – - صلى الله عليه وسلم - وحثه على المسارعة إلا حيث استثناه الشارع كالظهر في شدة الحر. وكالعشاء إذا لم يشق على المأمومين. وهي أحب الأعمال إلى الله إذا أقيمت في وقتها المستحب قال والمواقيت التي علمها جبرائيل النبي وعلمها لأمته وذكرها العلماء هي الأيام المعتادة فأما اليوم الذي قال فيه – - صلى الله عليه وسلم - "يوم كسنة قال اقدروا له" فله حكم آخر تكون فيه الصلاة بقدر الأيام المعتادة لا ينظر فيه لحركة الشمس كما في قوله "ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًا" أي على مقدار البكرة والعشي في الدنيا اهـ. وعلى قياسه فاقدروا الوقت، كبلغار يقدر له. وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان يصلي الظهر بالهاجرة) أي

استمر فعله لها بالهاجرة ولهما "يصلي الظهر بالهجير حين تدحض الشمس" أي تميل والهاجرة شدة الحر نصف النهار من الهجر وهو الترك لترك الناس التصرف من شدة الحر. والهجير والهاجرة نصف النهار من زوال الشمس. فيسن تعجيلها في غير شدة الحر بلا نزاع. وقال الترمذي هو الذي اختاره أهل العلم من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. (و) يصلي (العصر والشمس نقية) أي لم يدخلها شيء من الصفرة وعن بريدة "والشمس بيضاء نقية" وعن أبي موسى "والشمس مرتفعة" رواهما مسلم. ولهما من حديث أبي برزة "يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية" أي بيضاء قوية الأثر وفي لفظ "والشمس مرتفعة" وأصرح حديث فيه وظل الرجل كطوله ويسن تعجيلها بلا نزاع وقال الله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} وثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة أنها العصر فنص عليها تأكيدًا في الحض على المحافظة عليها بخصوصها. وثبت عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله". قال الشيخ وتفويتها أعظم من تفويت غيرها فإنها الوسطى. وعرضت على من قبلنا فضيعوها. ومن حافظ عليها فله الأجر مرتين. وتأخيرها مكروه لما فيه من التشبه باليهود قال وهذا قول سائر الأمة وهذه العلة منصوصة (والمغرب إذا وجبت الشمس) وعن سلمة: "إذا غربت الشمس

وتوارت بالحجاب" صححه الترمذي وقال العمل عليه عند أهل العلم. وعن رافع "كنا نصليها مع النبي – - صلى الله عليه وسلم - فينصرف أحدنا وأنه ليبصر مواقع نبله" متفق عليه. فيسن تعجيلها قال شيخ الإسلام وغيره باتفاق المسلمين (والعشاء أحيانًا وأحيانًا) أي يقدمها أحيانًا وأحيانًا يؤخرها (إذا رأهم اجتمعوا) لها في أول وقتها (عجل) رفقًا بهم (إذا رآهم أبطئوا) عن أوله (أخر) مراعاة لما هو الأرفق بهم. وفيه مشروعية ملاحظة أحوال المؤتمين والمبادرة بالصلاة مع اجتماع المصلين لأن انتظارهم بعد الاجتماع ربما كان سببًا لتأذي بعضهم وملله. وتأخير صلاة العشاة أفضل لقوله – - صلى الله عليه وسلم - "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل" صححه الترمذي وقال هذا الذي اختاره أكثر أهل العلم. وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - "أخرها إلى نصف الليل وقال إنكم في صلاة ما انتظرتموها" وعن أبي برزة "وكان يستحب أن يؤخر من العشاء وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها" قال الشيخ لو قيل بتحديدها إلى نصف الليل الذي ينتهي إلى طلوع الفجر وثلثه بالذي ينتهي إلى طلوع الشمس لكان متوجهًا. (والصبح كان يصليها بغلس) وهو اختلاط ضياء الفجر بظلمة الليل (متفق عليه) ولمسلم من حديث أبي موسى "فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا" ولهما من حديث أبي برزة "وكان ينفتل من صلاة الغداة حين

يعرف الرجل جليسه. وكان يقرأ بالستين إلى المائة" فدل على أنه يدخل فيها والرجل لا يعرف جليسه. ولهما في صلاة النساء معه كن يشهدن صلاة الفجر متلفعات بمروطهن لا يعرفهن أحد من الغلس". وأما حديث "أسفروا بالفجر" فالمراد صلوا صلاة الفجر مسفرين اسفارًا يتيقن معه طلوع الفجر لمواظبته – - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه على التغليس. ومحال أن يتركوا الأفضل. وقال ابن القيم حديث "اسفروا" بعد ثبوته إنما المراد به دوامًا لا ابتداء فيدخل فيها مغلسًا ويخرج منها مسفرًا كما كان يفعله فقوله موافق لفعله – - صلى الله عليه وسلم -. (ولهما عن أبي هريرة مرفوعًا) يعني إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - (إذا اشتد الحر) أي تقوى وهج النار (فأبردوا بالصلاة) أي أخروها إلى أن يبرد الوقت ليحصل الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها (فإن شدة الحر من فيح جهنم) أي شدة غليانها وحرها وسعة انتشارها وتنفسها أجارنا الله منها بمنه وكرمه أي: وعند شدة الحر يذهب الخشوع. قال شيخ الإسلام أهل الحديث يستحبون تأخير الظهر مطلقًا سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين وبذلك جاءت الأحاديث الصحيحة التي لا دافع لها. وكل الفقهاء يوافقهم أو الأغلب قال النووي ولا يجاوز بالإبراد نصف الوقت.

(وعنه) أي عن أبي هريرة –رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من أدرك من) صلاة (الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس) أي وأضاف إليها ركعة أخرى بعد طلوعها (فقد أدرك الصبح) يعني صلاة الصبح أداء ووقعت موقعها وأجزأت لوقوع ركعة في الوقت ولو كان التأخير لغير عذر لكنه آثم. (ومن أدرك ركعة من العصر) ففعلها (قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) وإن لم يوقع الثلاث إلا بعد الغروب إجماعًا (متفق عليه) وليس المراد من أتى بركعة فقط فللبيهقي "وركع بعد طلوع الشمس". وفي رواية "من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فليصل إليها أخرى". فكذا العصر. ولا تكره في حقه. وإن كان وقت كراهة. ومفهومه أن من أدرك دون ركعة لا يكون مدركًا للصلاة. وفي رواية سجدة بدل ركعة. قال الراوي وغيره إنما هي الركعة فمن أدرك دونها لا يكون مدركًا للصلاة. وهو الذي استقر عليه الاتفاق. قال شيخنا هذا دليل على أن الصلاة لا تدرك أداء إلا بإدراك ركعة كاملة وهو أصح القولين. وقال شيخ الإسلام وتعليق الإدراك بسجدة مجردة لم يقل به أحد من العلماء. وقال من دخل عليه الوقت ثم طرأ عليه مانع من جنون ونحوه لا قضاء عليه وهو قول مالك ورواية عن أبي حنيفة وهو

الأظهر في الدليل. لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد ولا أمر هنا يلزمه بالقضاء لأنه أخر تأخيرًا جائزًا فهو غير مفرط وليس عنه عليه الصلاة والسلام حديث واحد بقضاء الصلاة بعد وقتها وليس كالنائم والناسي فإن وقتهما إذا ذكرا. (وعن أنس أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال من نسي صلاة) ولمسلم إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها (فليصلها إذا ذكرها) فإن في التأخير آفات وفي لفظ فإن الله يقول: (أقم الصلاة لذكرى) وفي قراءة للذكرى أي أقم الصلاة لذكرها لأنه إذا ذكرها فقد ذكر الله. وعن أبي قتادة في نومهم عن الصلاة قال "إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها" صححه الترمذي. فالنائم أو الناسي غير مكلف حال نومه أو نسيانه إجماعًا {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله تعالى (قد فعلت) رواه مسلم. ثم صرح بأن القضاء كفارة لهما فقال (لا كفارة لها إلا ذلك) أي فعلها إذا ذكرها (متفق عليه) وفي رواية "فهو وقتها" وفيه أحاديث كثيرة مستفيضة والأمر يقتضي الوجوب وأجمع أهل العلم على وجوب فعل الصلاة إذا فاتت بنوم أو نسيان من حين يذكر. وقال ابن القيم ثبت بالنص والإجماع أن المعذور بالنوم والنسيان وغلبة العقل يصلي إذا زال عذره. ولا يجوز تأخيرها إلى وقت آخر بالاتفاق بل هو من الكبائر العظام اهـ.

وتجب المبادرة على الفور عند جمهور العلماء وكون النبي – - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في المكان الذي ناموا فيه لا يدل إلا على التأخير اليسير الذي لا يصير صاحبه مهملاً معرضًا بل له أن يفعل ما فيه تكميل الصلاة من اختيار بقعة واجتماع مصلين ونحو ذلك. ودليل الخطاب منه أن العامد لا يقضي لأنه لا يسقط الإثم وتقدم. وفيه دلالة على عدم وجوب قضاء تلك الصلاة. ورواية فليقض مثلها خطأ من راويها حكاه الحافظ وغيره. (ولهما عن جابر في قصة الخندق) وذلك أنه جاء عمر بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش وقال يا رسول الله ما كدت أصلي حتى كادت الشمس تغرب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما صليتها فتوضأ وتوضأنا" وفيه تصريح بصلاته جماعة (فصلى العصر بعدما غربت الشمس) ولمسلم "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" (ثم صلى بعدها المغرب) وهي الحاضرة فدل على وجوب فعل الفائتة على الفور وتقديمها على الحاضرة ما لم يضق وقتها ولترتيبه الأربع الصلوات. وروي وجوب الترتيب ولو كثرت الفوائت عن أحمد وأبي حنيفة وغيرهما. وعن أحمد لا يجب الترتيب، وفاقًا للأئمة الثلاثة. قال في المبهج مستحب وقال ابن رجب إيجاب قضاء سنين ببقاء صلاة في الذمة لا يكاد يقوم عليه دليل قوي وقال النووي المعتمد في المسألة أنها ديون عليه فلا يجب ترتيبها إلا

فصل في ستر العورة

بدليل ظاهر وليس للموجبين دليل اهـ. ويسقط الترتيب بنسيانه اتفاقًا وبخشية خروج وقت اختيار الحاضرة. قال القاضي رواية واحدة. فصل في ستر العورة أي في أحكام ستر العورة. وأحكام اللباس وستر العورة أحد شروط الصلاة والفصل لغة الحاجز بين الشيئين واصطلاحًا هو الحاجز بين مسائل العلوم وأنواعها. قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} خاطبهم تعالى بعد ما ذكر أنه امتن عليهم بلباس يواري سوءاتهم فقال {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أي لباس زينتكم والزينة اللباس وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع وفيه دليل على أن ستر العورة واجب في الصلاة والطواف وفي كل حال {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي عند كل صلاة وطواف. وحكى ابن حزم وغيره الاتفاق على أن المراد ستر العورة. وقال غير واحد بل أمر بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة فإنه علق الأمر باسم الزينة لا ستر العورة إيذانًا بأن العبد ينبغي له أن يلبس أحسن ثيابه وأجملها في الصلاة للوقوف بين يدي الرب تبارك وتعالى وأداء حقه. ويسن لبس الثياب البيض كما سيأتي. والنظافة في الثوب والبدن باتفاق أهل العلم. وحكى غير واحد أنه لا خلاف في وجوب ستر العورة في الصلاة وبحضرة الناس وفي الخلوة على الصحيح إلا لغرض صحيح.

وقال الوزير اجمعوا على أن ستر العورة واجب وأنه شرط في صحة الصلاة إلا مالكًا فقال واجب وقال بعض أصحابه هو شرط. وقال ابن عبد البر وغيره اجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عريانًا. (وقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "الفخذ عورة" رواه الخمسة إلا النسائي) ورواه غيرهم فرواه البخاري تعليقًا وأحمد عن ابن عباس وجرهد الأسلمي ولفظه "غط فخذك فإن الفخذ عورة" حسنه الترمذي وهو في الموطأ وسنن أبي داود عن علي "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" في أحاديث أخر من وجوه وإن كانت لا تخلو من مقال فكثرتها تثبت أن له أصلاً. وعورة الرجل من السرة إلى الركبة عند جماهير أهل العلم وليستا من العورة. قال الوزير اتفقوا على أن السرة ليست عورة. وقال مالك والشافعي وأحمد ليست الركبة من العورة. وأما الفخذ فتظاهرت الأحاديث: أنه عورة. (ولهم) أي الخمسة إلا النسائي (عن عائشة أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال لا يقبل الله صلاة حائض) المراد المكلفة ولو بالاحتلام وإنما عبر بالحيض لأنه الأغلب (إلا بخمار) هو ما تغطي به رأسها وعنقها ويقال له النصيف والحديث صححه

ابن خزيمة وغيره وقال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم أن المرأة إذا أدركت فصلت وشيء من عورتها مكشوف لا تجوز صلاتها. وله من حديث ابن مسعود وصححه "المرأة عورة". وللطبراني من حديث أبي قتادة، "لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى تواري زينتها ولا من جارية بلغت المحيض حتى تختمر". ولأبي داود من حديث أم سلمة أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار. قال "إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهور قدميها". وله من حديث ابن عمر "يرخين شبرًا" صححه الترمذي. فلا بد في صلاتها من تغطية رأسها ورقبتها ومن تغطية بقية بدنها حتى ظهور قدميها. لا وجهها في الصلاة بحيث لا يراها أجنبي فليس الوجه عورة في الصلاة. قال الموفق والقاضي إجماعًا وقال جمع وكفيها وهو مذهب مالك والشافعي. وقال الشيخ وقدميها وما عدا ذلك عورة بالإجماع. قال شيخ الإسلام والتحقيق أن الوجه ليس بعورة في الصلاة. وهو عورة في باب النظر إذا لم يجز النظر إليه. (وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن كان الثوب واسعًا) ضد الضيق (فالتحف به) أي ارتد به ولمسلم "فخالف بين طرفيه" وذلك بأن يجعل منه شيئًا على عاتقه والالتحاف بالثوب التغطي به والمراد لا يشد الثوب في وسطه فيصلي مكشوف المنكبين بل

يتزر به ويرفع طرفيه فيلتحف بهما فيكون بمنزلة الإزار والرداء وهذا إذا كان الثوب واسعًا (وإن كان ضيقًا) ضد المتسع الكافي للارتداء (فاتزر به. متفق عليه) وذلك جائز من غير كراهة. وبه يجمع بين الأحاديث ففي الصحيحين "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" وللبخاري "من صلى في ثوب واحد، فليخالف بين طرفيه" ولهما " صلى في ثوب واحد متوشحًا به". ولما سئل عن الصلاة في الثوب الواحد قال: "أو لكلكم ثوبان" قال النووي وغيره لا خلاف في جواز الصلاة في الثوب الواحد واجمعوا على أن الصلاة في الثوبين أفضل. وقال عمر إذا وسع الله عليكم فأوسعوا. (ولهما) من غير وجه (نهى عن اشتمال الصماء) فمن حديث أبي سعيد "نهى عن اشتمال الصماء" بالمد ضرب من الاشتمال سميت بذلك لأنه لا منفذ لها وفسره من حديث أبي هريرة "أن يشتمل الصماء بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه منه شيء" وللبخاري وغيره من حديث أبي هريرة "نهى عن لبستين اشتمال الصماء والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب. والأخرى احتباؤه بثوبه وهو جالس ليس على فرجه منه شيء" والنهي عنهما لكونهما مظنة الانكشاف. وللبخاري "نهى أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء".

والاحتباء أن يقعد على إليتيه وينصب ساقيه ويلف عليه ثوبًا. ولأبي داود عن أبي هريرة "نهى عن السدل في الصلاة" وهو طرح ثوبه على كتفيه ولا يرد طرفه على الآخر. قال الشيخ هذا التفسير هو الصحيح فإن رد أحد طرفيه على الكتف الأخرى أو ضم طرفيه لم يكره. وإن طرح القباء على الكتفين من غير أن يدخل يديه في الكمين فلا بأس بذلك باتفاق الفقهاء وليس من السدل المكروه وفيه "وأن يغطي فاه" قال ابن حبان لأنه من زي المجوس. وفي الصحيحين "ولا أكف شعرًا ولا ثوبًا" واتفقوا على كراهته في الصلاة والحكمة أنه يسجد معه. (وللخمسة) من حديث أبي موسى وغيره (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم) ورواه غيرهم من طرق عن غير واحد و (صححه الترمذي) وإن كانت طرقه لا تخلوا من مقال فبكثرتها يعضد بعضها بعضًا. وتثبت أن للحديث أصلاً ويشهد له ما في الصحيحين وغيرهما من حديث عمر وأنس "لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". ومن حديث عقبة "أهدي إلى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فروج حرير فلبسه ثم صلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعًا شديدًا كالكاره له ثم قال لا ينبغي هذا للمتقين". وللبخاري من حديث حذيفة "نهانا عن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه". وتواترت الأحاديث والآثار بتحريمه على الذكور. وحكى

الإجماع على ذلك غير واحد من أئمة المسلمين. وقال ابن القيم والنهي عن لبسه والجلوس عليه متناول لافتراشه كما هو متناول للإلتحاف به وذلك لبسه لغة وشرعًا قال الشيخ والجمهور على أن الإفتراش كاللباس وقد ثبت النص بتحريم افتراش الحرير وغلط من رخص في إلباسه الدابة أو تحليتها بذهب أو فضة. قال وما حرم لبسه لم تحل صناعته ولا بيعه لمن يلبسه من أهل التحريم ولا يخيط لمن يحرم عليه لبسه لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان. (ولمسلم عن عمر "نهى – - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة) ففيه إباحة مقدار إصبعين أو ثلاثة أو أربعة كالطراز والسجاف ويحرم الزائد عند جماهير العلماء، و"رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكمة كانت بهما" متفق عليه. ويجوز لبسه عند التحام القتال قال شيخ الإسلام باتفاق المسلمين، وفي السنن "نهى عن لبس الذهب إلا مقطعًا" أي إلا قطعًا يسيرة منه. وكره الكثير منه الذي هو عادة أهل السرف. وحكى شيخ الإسلام فيه أربعة أقوال ثم قال والرابع وهو الأظهر أنه يباح يسير الذهب في اللباس والسلاح فيباح طراز الذهب إذا كان أربع أصابع فما دونها. ولما ذكر علم الحرير قال وفي العلم الذهب نزاع بين العلماء والأظهر جوازه واستدل بهذا الخبر وقال ولبس الفضة إذا لم يكن فيه لفظ عام بالتحريم لم

يكن لأحد أن يحرم منه إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه فإذا جاءت السنة بإباحة خاتم الفضة كان ذلك دليلاً على إباحة ذلك وما هو في معناه وما هو أولى منه بالإباحة والتحريم يفتقر إلى دليل. (وعن جابر نهى) يعني رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (عن الصورة في البيت) أي أن تجعل في البيت لامتناع دخول الملائكة (وأن تصنع) أي تعمل وصانعها هو المصور العامل لها على أي شكل (صححه الترمذي) وفي الصحيحين "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة". وللبخاري "لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه" وللترمذي وصححه "أتاني جبرائيل فقال إني أتيتك الليلة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان فيه تمثال رجل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل". فدلت هذه الأحاديث وغيرها على تحريم التصوير على هيئة الحيوان وهو إجماع. وكذا تحريم استعماله على الذكر والأنثى وتوعد فاعله بالعذاب في جهنم. ففي الصحيحين عن ابن عباس مرفوعًا "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم" والصورة التمثال والشكل وصوره تصويرًا جعل له صورة وشكلاً ونقشه ورسمه، فالنهي عام سواء كان على ثوب أو ورق أو غير ذلك، جزم به غير واحد من أهل العلم بالحديث وهو قول أكثر أهل العلم وهو ظاهر النصوص الصحيحة الصريحة.

ويؤيد التعميم وقوع الاسم عليه لا محالة. وحديث النمرقة وقوله "ولا صورة إلا لطخها" وقوله "إلا نقضه" وغير ذلك من الأحاديث وتحداهم بقوله – - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا حبة أو ليخلقوا ذرة" وحديث "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم". ويحرم التصليب وجعله في ثوب ونحوه لقول عائشة "لم يكن يترك شيئًا فيه تصليب إلا قضبه" رواه أبو داود وغيره قال الشيخ ولا تجوز الصلاة في ثوب فيه تصاوير لأنه يشبه حامل الصنم ولا يسجد على الصورة لأنه يشبه عباد الصور. (وعن ابن عمر قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - من جر ثوبه) أي على الأرض (خيلاء) بالمد عجبًا وبطرًا وكبرًا مأخوذ من التخيل وهو التشبه بالشيء فالمختال يتخيل في صورة من هو أعظم منه تكبرًا والمخيلة والكبر والبطر والزهو والخيلاء بمعنى (لم ينظر الله إليه يوم القيامة" متفق عليه) ولمسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" وذكر منهم "المسبل" أي المرسل ثوبه ونحوه أسفل من الكعبين. وهذا من أعظم الوعيد وأبلغ الزجر فهو من أكبر الكبائر. وجر الثوب يستلزم الخيلاء والخيلاء تستلزم جر الثوب ولو لم يقصده. ولا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول لا أجره خيلاء

لأن النهي قد تناوله لفظًا إذ حكمه أن يقول لا أمتثل والحال دال على التكبر. ولأبي داود "والإسبال في الإزار والقميص والعمامة" وله من حديث أبي هريرة "بينما رجل يصلي مسبلاً إزاره قال له رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "اذهب فتوضأ مرتين" فقال له رجل أمرته أن يتوضأ. فسكت. ثم قال "إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل" ووجه أنه معصية وكل من واقع المعصية فإنه يؤمر بالوضوء والصلاة. وذكر الشيخ الإسلام وابن القيم أن كل ما زاد في اللباس في الطول والعرض حرام. وقال في الإنصاف هذا هو الصواب الذي لا يعدل عنه. وقد يجوز من غير خيلاء ولا استمرار كما في الصحيح عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للصديق "إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء" ويجوز في الحرب لإرهاب العدو لأنه –عليه الصلاة والسلام- رأى بعض أصحابه يمشي بين الصفين مسبلاً يختال في مشيته فقال "إنها للبسة يبغضها الله إلا في هذا الموطن" ويجوز لحاجة كستر ساق قبيح ونحوه. (وللخمسة) من حديث ابن عباس (إلا النسائي "البسوا من ثيابكم البياض) البياض لون الأبيض وقماش تعمل منه ملابس بيض. (فإنها من خير لباسكم) وعن أبي الدرداء يرفعه "أحسن ما زرتم الله به في مساجدكم البياض" ولفظ الحاكم "خير ثيابكم البياض فألبسوها أحياءكم" ولأحمد والنسائي والترمذي وصححه وغيرهم من حديث سمرة "البسوا ثياب

البياض فإنها أطيب وأطهر". والحديث ظاهر الدلالة على مشروعية لبس البياض ولا يجب لما ثبت عنه – - صلى الله عليه وسلم - من لبس غيره من غير وجه فثبت أنه لبس الحبرة برديمان سميت حبرة لتحسينها بالتخطيط. ولبس مرطًا مرجلاً من شعر أسود. ولبس الخميصة. وصبغ ثيابه بالزعفران. ولبس حلة حمراء. وكره الأحمر القاني. قال ابن القيم وفي لباس الأحمر من الثياب والجوخ نظر. وأما كراهته فشديدة جدًا. والبرد الأحمر ليس هو أحمر مصمتًا كما ظنه بعض الناس فإنه لو كان كذلك لم يكن بردًا وإنما فيه خطوط حمر فيسمى أحمر باعتبار ما فيه من ذلك. والذي يقوم عليه الدليل تحريم لباس الأحمر أو كراهيته كراهة شديدة. فأما غير الحمرة من الألوان فلا يكره. وعن عمران بن حصين مرفوعًا "إن الله يحب إذا أنعم على عبده نعمة أن ترى أثر نعمته على عبده" رواه البيهقي، وقال كان هديه – - صلى الله عليه وسلم - في اللباس ما يسره الله ببلده، فكان يلبس القميص والعمامة والإزار. والرداء. والجبة. والفروج ويلبس من القطن والصوف وغير ذلك. ويلبس ما يجلب من اليمن وغيرها. فسنته تقضي أن يلبس الرجل ما يسره الله ببلده. ونهي – - صلى الله عليه وسلم - عن لباس الشهرة. ففي الحديث "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة" رواه أبو داود وغيره. ونهى عن

الشهرتين وهما الفاخر من اللباس المرتفع في الغاية أو الرذل في الغاية. قال الشيخ يحرم لبس الشهرة وهو ما قصد به الارتفاع أو إظهار التواضع لكراهة السلف لذلك. وروى أبو عوانة والعكبري وغيرهما بأسانيد صحيحة "تمعددوا واخشوشنوا وانتعلوا وامشوا حفاة" لتعتاد الأرجل الحر والبرد فتصلب وتقوى. وهو مشهور عن عمر. وعنه "ائتزروا وارتدوا والقوا الخفاف والسراويلات" استغناء عنها بالأزر وهو زي العرب "وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل وإياكم والتنعم وزي الأعاجم وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل وإياكم والتنعم وزي الأعاجم وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب وتمعددوا واخشوشنوا واخلولقوا واقطعوا الركب وانزوا وارموا الأغراض". وفي لفظ "وعليكم بالمعدية وذروا التنعم" وهو مشتهر بألفاظ. ولأحمد عن معاذ مرفوعًا "إياكم والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين". ومما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في اللباس وغيره التشبه بالنساء. ففي الصحيح "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهات من النساء بالرجال. والمتشبهين من الرجال بالنساء" وهو عام ولما أتي - صلى الله عليه وسلم - بثياب فيها خميصة سوداء ألبسها أم خالد ولا خلاف في إلباسه النساء.

فصل في اجتناب النجاسة

فصل في اجتناب النجاسة أي في أحكام اجتناب النجاسة وما تصح الصلاة فيه واجتناب النجاسة شرط من شروط الصلاة المجمع عليها سواء في ذلك. بدن المصلي. وثوبه. وبقعته. والآيات والأحاديث تدل على وجوب التطهر من النجاسات ولا نزاع في ذلك. قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} قال ابن سرين اغسلها بالماء. وقال ابن زيد أمره الله أن يطهر الثياب من النجاسات التي لا تجوز الصلاة معها وذلك أن المشركين كانوا لا يطهرون ثيابهم. والأمر بالشيء نهي عن ضده. والنهي في العبادة يقتضي الفساد. وقال بعضهم طهر أعمالك عن الشرك. واختار الأول ابن جرير والآية تشمل ذلك كله. واحتج بالآية على أن اجتناب النجاسة شرط جمع منهم ابن عقيل. والشيخ تقي الدين وغيرهم. قال الوزير وغيره واجمعوا على أن طهارة البدن والثوب وبقعة المصلي شرط في صحة الصلاة. (وعن أبي سعيد أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - صلى) يعني بالناس في نعليه (فخلع نعليه) وهو في الصلاة فخلع الناس نعالهم. فلما انصرف قال لهم لم خلعتم نعالكم قالوا رأيناك خلعت فخلعنا (فقال أتاني جبريل فأخبرني أن بهما خبثًا) وفي لفظ "أذى" وفي لفظ "قذرًا" والمراد النجاسة (رواه أبو داود) ورواه أحمد وابن حبان والحاكم وابن خزيمة فدل على وجوب اجتناب النجاسة في الصلاة وتقدم حكاية الإجماع أنها شرط وهو قول الجمهور.

ولأحمد عن جابر أنه سئل - صلى الله عليه وسلم - أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي. قال "نعم إلا أن ترى فيه شيئًا فتغسله" وللخمسة إلا الترمذي عن معاوية قلت لأم حبيبة هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الثوب الذي يجامع فيه قالت "نعم إذا لم يكن فيه أذى" وحديث تعذيب من لم يتنزه من البول وحديث غسل المذي. وغسل الحيض. وحديث "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر" وغير ذلك مما يدل على وجوب اجتناب النجاسة. وفي الحديث دليل على أنه إذا أزالها سريعًا صحت صلاته وقيل إن علم بعد صلاته أنها كانت عليه أعاد لأنه ترك شرطًا. وعن أحمد وغيره واحد لا يعيد. وهو مذهب مالك. وقول ابن عمر وابن المنذر واختاره المجد والموفق والشيخ وغيرهم وأفتى به البغوي وتبعوه. وقال النووي هو أقوى في الدليل وهو المختار. وقاله طائفة من العلماء لأن من كان مقصوده اجتناب المحظور إذا فعله مخطئًا أو ناسيًا لا تبطل صلاته ولا إثم عليه. قال في الإنصاف وغيره وهو الصحيح عند أكثر المتأخرين قال تعالى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ} والفرق بين طهارة الحدث والخبث أن طهارة الحدث من باب الأفعال المأمور بها فلا تسقط بالنسيان والجهل. ويشترط فيها النية وطهارة الخبث من باب التروك والمقصود منها اجتناب الخبث فلا يشترط فيها فعل العبد ولا قصده. ودل الحديث على سنية الصلاة في النعلين. ولأبي داود "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم".

(وعن أبي قتادة أنه – - صلى الله عليه وسلم - "كان يصلي وهو حامل أمامة" بنت زينب بنت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "كان يصلي وهو حامل أمامة" بنت زينب بنت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - تزوجها علي بعد فاطمة (متفق عليه) وإنما جاز للعفو عما في بطنها كالنجاسة في جوف المصلي فيعفى عن حمل الحيوان الطاهر في الحياة غير مأكول وأما المأكول فمن باب أولى لطهارة ما في جوفه. ولأحمد من حديث أبي هريرة في قصة الحسن والحسين نحوه. (وعن أبي مرثد الغنوي) كناز بن الحصين وهو مرثد بن أبي مرثد من بني غنم بن غني أسلم هو وأبوه وشهد بدرًا وقتل يوم غزوة الرجيع شهيدًا في حياته – - صلى الله عليه وسلم - (قال سمعت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يقول "لا تصلوا إلى القبور) مدفن الموتى. أي لا تكون قبلتكم في الصلاة. والنهي يقتضي التحريم. والمقدار في ذلك ما يعد استقبالاً لها عرفًا. ولمسلم عن جندب: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" وفي الصحيحين "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوا بيوتكم قبورًا" وقال ابن حزم وغيره أحاديث النهي عن الصلاة في المقبرة متواترة لا يسع أحدًا تركها. وقال غير واحد هو أصل شرك العالم. وقال شيخ الإسلام بعد أن ذكر أحاديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد فهذا كله يبين لك أن السبب ليس هو مظنة النجاسة وإنما هو مظنة اتخاذها أوثانًا كما قال الشافعي وغيره أكره أن يعظم مخلوق

حتى يجعل قبره مسجدًا مخافة الفتنة على من بعده من الناس. وذكره معناه الأثرم وغيره عن سائر العلماء. وكلما دخل في اسم المقبرة أو حدثت المقبرة بعده حوله أو في قبلته فصلاته فيها كصلاته إليها. ولو وضع القبر والمسجد معًا لم يجز ولم تصح الصلاة فيه (ولا تجلسوا عليها) أي على القبور (رواه مسلم) وفي وطئها أحاديث أخر كقوله لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر" رواه مسلم" وللطبراني عن ابن مسعود "لأن أطأ على جمرة أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم" وله من حديث ابن لهيعة في رجل جالس على قبر لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك ويأتي نحو ذلك. (وعن أبي سعيد مرفوعًا "الأرض كلها مسجد" وتقدم "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره" وغير ذلك من النصوص وخص منه ما يأتي فمنه قوله (إلا المقبرة) وهو كلما قبر فيه لأنه جمع قبر وكلما دخل في اسم المقبرة مما حول القبر لا يصلي فيه لما يفضي إليه ذلك من الشرك وقال الشيخ بل عموم كلامهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد. والنهي عن الصلاة إليها متفق عليه من غير وجه. ومما خص قوله (والحمام) وهو المغتسل المعروف (رواه

الخمسة إلا النسائي) وقال الترمذي فيه اضطراب وصححه الحاكم وغيره. وورد النهي عن الحمام معللاً بأنه محل الشياطين. وروى عنه – - صلى الله عليه وسلم - "الحمام بيت الشيطان" وعن ابن عباس لا يصلي إلى حش. ولا في حمام ولا في مقبرة. قال ابن حزم لا نعلم لابن عباس مخالفًا من الصحابة. ولا فرق بين مكان نزع الثياب وموقد النار وكل ما يغلق عليه باب الحمام. والظاهر التحريم وهو قول طائفة. والجمهور على الكراهة ما لم يكن فيه نجاسة. (وعن أبي هريرة مرفوعًا) يعني إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لا تصلوا في أعطان الإبل صححه الترمذي) ورواه أحمد وغيره وصححه وله طرق وشواهد. والأعطان واحدها عطن ما تقيم فيه وتأوي إليه قاله أحمد وغيره. وقيل ما تقف فيه لترد الماء ومباركها عنده. قال أهل اللغة لا تكون إلا عند الماء أما في البرية وعند الحي فالمأوى. قال الشيخ وغيره والأول أجود. ومعاطن الإبل في الأصل وطنها غلب على مبركها حول الماء والأولى الإطلاق كما هو ظاهر الحديث. ولا فرق بين أن تكون طاهرة أو نجسة. ولا أن تكون فيها إبل حال الصلاة أولا لعموم هذا الحديث. وحديث "لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها خلقت من الشياطين" وقال "جن خلقت من جن". فعلل الأماكن بالأرواح الخبيثة وهو مذهب أحمد

وفقهاء الحديث. قال والفقهاء الذين لم ينهوا عنها إما أنهم لم يسمعوا النصوص أو لم يعرفوا العلة والسنة في ذلك قوية نصًا وقياسًا. وقال ابن عبد البر النهي عن الصلاة في معاطن الإبل جاء معناه من وجوه كثيرة بأسانيد حسان وأكثرها متواتر. وقال الشيخ أيضًا نهى عن الصلاة في معاطن الإبل لأنها مأوى الشياطين. كما نهى عن الصلاة في الحمام لأنه مأوى للشياطين. فإنه مأوى الأرواح الخبيثة ومأوى الأرواح الخبيثة. ومأوى الأرواح الخبيثة أحق بأن تجتنب الصلاة فيه، وفي موضع الأجسام الخبيثة. بل الأرواح الخبيثة تحب الأجسام الخبيثة. (وله بسند ضعيف عن ابن عمر نهى) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن يصلي في سبع) أي مواطن وفي لفظ "مواطن" يعني مواضع والموطن ما أقيم فيه (المزبلة) وهي الموضع الذي يلقى فيه الزبل ومثله سائر النجاسات (والمجزرة) وهي المكان الذي تنحر فيه الإبل وتذبح فيه البقر والغنم لأنه محل النجاسة فتحرم الصلاة فيها اتفاقًا. ومع الحائل فيه خلاف والأكثر على الكراهة. ويقال المجزرة مأوى الشياطين. وكذا المزبلة ولا خلاف في طهارة الدارسة العافية من آثار أهلها مزبلة كانت أو مجزرة أو كنيسة. (والمقبرة) بفتح الباء وتثلث فتحرم الصلاة فيها وإليها لأنها أصل شرك العالم وتقدم (وقارعة الطريق) ما تقرعه

الأقدام بالمرور عليها وهو ما كثر سلوك السالكين فيها لما في ذلك من شغل الخاطر المؤدي إلى ذهاب الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها. عند الجمهور تصح مع الكراهة (وفي الحمام وفي أعطان الإبل) وتقدما (وفوق ظهر بيت الله) الحرام إذا لم يكن بين يديه شاخص منها لأنه مصل على البيت لا إلى البيت. وقال الموفق والصحيح جواز الصلاة فيها وهو قول أكثر أهل العلم لعموم جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا. ولابن المنذر وغيره بسند صحيح جعلت لي كل أرض طيبة أي طاهرة مسجدًا واستثنى منه المقبرة. والحمام ومعاطن الإبل. بأحاديث صحيحة ففيما عداها يبقى على العموم. وحديث ابن عمر يرويه العمري وقد تكلم فيه فلا يترك به الحديث الصحيح اهـ. والجمهور على صحة الفريضة فيه وفوقه إذا استقبل شاخصًا. فأما النافلة فتصح إجماعًا لصلاته عليه الصلاة والسلام فيه متفق عليه. والحجر منه ستة أذرع وشيء فمن استقبل ما زاد لم تصح صلاته ألبتة وقال غير واحد من كان فرضه المعاينة لم تصح لأن الحجر في المشاهدة ليس من الكعبة فعمل به في الطواف دون الصلاة احتياطًا. ولو غيرت مواضع النهي بما يزيل اسمها كجعل الحمام دارًا. ونبش المقبرة. ونحو ذلك صحت.

وتحرم في الحش. وهو ما أعد لقضاء الحاجة لمنع الشرع من الكلام وذكر الله فيه فالصلاة أولى قال. ابن عباس لا يصلين إلى حش ولا يعلم له مخالف. قال الشيخ وكره عامة السلف الصلاة في مسجد في قبلته حش. قال ولا فرق عند عامة أصحابنا وغيرهم بين أن يكون الحش في ظاهر جدار المسجد أو باطنه وهو المنصوص عن أحمد والمأثور عن السلف. وذكر مواضع الأجسام الخبيثة ثم قال ولهذا كانت الحشوش محتضرة تحضرها الشياطين والصلاة فيها أولى بالنهي عن الصلاة في الحمام ومعاطن الإبل والصلاة على الأرض النجسة. ولم يرد في الحشوش نص خاص لأن الأمر فيها كان أظهر عند المسلمين من أن يحتاج إلى بيان. ولهذا لم يكن أحد من المسلمين يقعد في الحشوش ولا يصلي عليها. وإذا سمعوا نهيه عن الصلاة في الحمام وأعطان الإبل علموا أن الصلاة في الحشوش أولى وأحرى. وتكره في الكنيسة المصورة والبيعة وقال هما كالمسجد على القبر وكل مكان فيه تصاوير لخبر عائشة وتكره في أرض الخسف وأرض بابل وتكره في الرحى وعلله بما يلهي المصلي من الصوت ويشغله. وقال النووي الصلاة في مأوى الشيطان مكروهة بالاتفاق. وذكر مثل مواضع الخمر والحانة ومواضع المكوس ونحوها من المعاصي الفاحشة لقوله: "إن هذا موضع حضرنا فيه الشيطان" وتكره إلى نار لأنه من فعل المجوس

فصل في استقبال القبلة

ويحرم أن يصلي في الأرض المغصوبة لما فيها من استعمال مال الغير بغير إذنه كما لو ستر عورته بمغصوب وذكر بعضهم غير ذلك. فصل في استقبال القبلة أي في بيان أحكام استقبال القبلة. واستقبالها شرط من شروط الصلاة لا تصح بدونه مع القدرة إجماعًا وقال شيخنا شرعية استقبال القبلة من العلم العام عند كل أحد وأنه من شرائط صحة الصلاة. (قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي حول وجهك نحو المسجد الحرام وتلقاءه والشطر الناحية والمراد به الكعبة والحرام المحرم واستقباله لا يجب في غير الصلاة فتعين أن يكون فيها وقد كان – - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يوجه إلى قبلة أبيه إبراهيم فأنزل عليه القرآن وذلك بعد ما صلى ستة عشر شهرًا إلى بيت المقدس {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْْ} أي في بر أو بحر أو شرق أو مغرب {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} أي قبل البيت {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون}. (وعن ابن عمر في صلاة أهل قباء) قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال "إن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآنًا و (قد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها) أنتم

وتحولوا إلى جهة الكعبة (وكانت وجوههم إلى الشام) وهذا تفسير من الراوي فإنه لما أنزل على رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - القرآن في تحويل القبلة. وكان أول صلاة صلاها قبل البيت صلاة العصر في أصح الروايات. وصلى معه – - صلى الله عليه وسلم - قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد قباء وهم راكعون قبل بيت المقدس فقال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قبل مكة (فاستداروا) كما هم (إلى الكعبة) أي البيت الحرام (متفق عليه) ولهما "أنه صلى ركعتين قبل الكعبة وقال هذه القبلة" أي أن أمر القبلة قد استقر على هذا البيت فلا نسخ بعد اليوم فكونوا إليه أبدًا فهو قبلتكم. وقال للمسيء "ثم استقبل القبلة فكبر" وقال "قبلتكم أحياء وأمواتًا" رواه أبو داود وغير ذلك مما تواتر نقله قولاً وفعلاً خلفًا عن سلف. وقال ابن رشد ما نقل بالتواتر كاستقبال القبلة وأنها الكعبة لا يرده إلا كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل فلا تصح بدونه إلا لعاجز كالمربوط. والمصلوب. وعند اشتداد الحرب في حال الطعن والكر والفر. وكهرب من سيل. أو نار ونحو ذلك فتصح في ذلك إلى غير القبلة إجماعًا لأنه شرط عجز عنه فسقط كغيره من الشروط لقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وفيه دلالة على أنه إذا صلى باجتهاد فبان أنه أخطأ فلا إعادة عليه وهو إجماع. وفيه أنه يستدير إلى الجهة التي ظهرت له ويبني على ما

مضى من الصلاة قال الموفق لا نعلم فيه خلافًا. (وعن أبي هريرة مرفوعًا "ما بين المشرق والمغرب قبلة) بالنسبة إلى المدينة وما وافق قبلتها (صححه الترمذي) ورواه ابن ماجه والحاكم وغيرهم. ويعضده حديث أبي أيوب ولكن شرقوا أو غربوا. وقال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي جهته وناحيته فلسائر البلدان من السعة مثل ما للمدينة وعكسها بين الجنوب والشمال. قال ابن عبد البر وهذا صحيح لا مدفع له ولا خلاف فيه بين أهل العلم. وقال أحمد هذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت فإنه إذا زال عنه شيئًا وإن قل فقد ترك القبلة. وبين القاضي وغيره أنما وقع عليه اسم مشرق ومغرب فالقبلة ما بينهما وينبغي أن يتحرى أوسط ذلك لا يتيامن ولا يتياسر. وتعرف دلائل القبلة في الحضر بمحاريب المسلمين إجماعًا لاتفاقهم عليها. وفي السفر بالقطب والشمس والقمر وغير ذلك. وإن اجتهد فأخطأ صحت لما تقدم ولحديث "فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى غير القبلة فنزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} ضعفه الترمذي. وللطبراني "صلى في غيم إلى غير القبلة. وقال قد رفعت صلاتكم بحقها إلى الله" وتقدم أن من اتقى الله ما استطاع لا إعادة عليه ولا إثم. قال ابن القيم ولم يعرف في الشريعة موضع واحد أوجب الله على العبد فيه أن يوقع الصلاة ثم يعيدها مرة أخرى إلا لتفريط في فعلها

أولاً. كتارك الطمأنينة. والمصلي بلا وضوء. ونحوه وأما أن يأمره بصلاة فيصليها ثم يأمره بإعادتها بعينها فهذا لم يقع قط وأصول الشريعة ترده. (وعن ابن عمر كان – - صلى الله عليه وسلم - يسبح) أي يتنفل (على راحلته) أي بعيره الذي كان يركبه (قبل أي جهة) أي ناحية (توجه) إليها وأصل الجهة الوجهة، والوجهة اسم للمتوجه إليه وفي لفظ "حيث كان وجهه" ولهما من حديث عامر بن ربيعة" يصلي علي راحلته حيث توجهت "وللشافعي من حديث جابر "رأيته يصلي وهو علي راحلته النوافل" قال ابن القيم وسائر من وصف صلاته – - صلى الله عليه وسلم - على راحلته أطلقوا أنه كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها. فالمتنقل السائر في سفر يجوز له التطوع على راحلته حيثما توجهت به إجماعًا حكاه النووي والحافظ وغيرهما لهذا الخبر ولقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} قال ابن عمر: نزلت في التطوع خاصة ولمسلم وغيره كان يصلي على راحلته وهو مقبل من مكة إلى المدينة فنزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}، ولأن إباحته كذلك تخفيف لئلا يؤدي إلى تقليله أو قطعه. والجمهور على أنه يجوز التنفل عليها في طويل السفر وقصيره وأجيز في الحضر للإطلاق في الأحاديث (ويوتر عليها)

فدل على أنه ليس بواجب (غير أنه) – - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي عليها) أي لا يصلي على راحلته (المكتوبة) أي الفريضة (متفق عليه) وفي لفظ " ولم يكن يصنع ذلك في المكتوبة" أي الصلاة على الراحلة ويأتي ذكر صحة الفريضة على الراحلة إذا كان مستقبل القبلة في هودج ونحوه للعذر. ولو كانت سائرة كالسفينة فإنها تصح فيها إجماعًا. (وللبخاري "يومئ برأسه) ولأحمد عن جابر "ولكن يخفض السجود عن الركوع يومئ إيماء" (وللترمذي) "فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق" (والسجود أخفض من الركوع) وصححه وفي هذا الباب عن جماعة من الصحابة والحديث يدل على أن سجود من صلى على الراحلة يكون أخفض من ركوعه إن قدر وجوبًا اتفاقًا وإن عجز سقط بلا نزاع ولا يلزمه وضع الجبهة على السرج ولا بذل غاية الوسع في الإنحناء بل يخفض بمقدار يفترق به السجود عن الركوع. وقال بعض أهل العلم ويركع ويسجد إن أمكنه بلا مشقة كراكب محفة واسعة وراحلة واقفة وإلا يمكنه فيومئ إلى جهة سيره وسجوده أخفض من ركوعه. وكذا المسافر الماشي قياسًا على الراكب. قال الشيخ وهو الأظهر لأن الركوع والسجود وما بينهما يتكرر في كل ركعة ففي الوقوف له وفعله بالأرض قطع لمسيره فأشبه الوقوف في حالة القيام.

فصل في النية

فصل في النية النية شرط من شروط الصلاة إجماعًا. ولا تسقط بحال إجماعًا لأن محلها القلب فلا يتأتى العجز عنها. قال عبد القادر النية قبل الصلاة شرط وفيها ركن وعن أحمد رواية أنها فرض. (قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فنفى أن يكون أمرنا بشيء إلا بعبادته مفردين له نياتنا بدينه الذي أمرنا به والإخلاص عمل القلب وهو محض النية فأمر تعالى بإخلاصها له فدلت الآية على وجوب الإتيان بالنية في العبادة وصدورها خالصة لوجهه والرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض صلاة وصوم. وقد يصدر في نحو صدقة وحج وهذا لا يشك مسلم أنه حابط وإن شارك العلم الرياء فإن كان من أصله فالنصوص طافحة ببطلانه وإن كان العلم لله ثم طرأ عليه الرياء ودفعه لم يضر بلا خلاف. وإن استرسل معه فخلاف رجح أحمد وغيره أنه لا يبطل بذلك ذكره ابن رجب. وقال الشيخ المرائي بالفرائض كل يعلم قبحه. وأما بالنوافل فلا يظن الظان أنه يكتفي فيه بحبوط عمله لا له ولا عليه بل هو مستحق للذم والعقاب ولا يترك عبادة خوف رياء. (وتقدم حديث "إنما الأعمال بالنيات) وأن العمل الذي لم ينو ليس بعبادة ولا مأمورًا به فلا يكون فاعله متقربًا إلى الله

وهذا أمر مجمع عليه. فإن النية روح العمل ولبه وقوامه وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها. والنية لغة القصد وهو عزم القلب على الشيء وشرعًا العزم على فعل العبادة تقربًا إلى الله تعالى والتلفظ بها بدعة لم يفعله رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه. قال الشيخ وتلميذه لم ينقل عنه – - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه أنه تلفظ قبل التكبير بلفظ النية لا سرًا ولا جهرًا فإن النية تتبع العلم ومن علم ما يريد فعله قصده ضرورة. قال أحمد إذا خرج من بيته يريد الصلاة فهو نية أتراه كبر وهو لا ينوي الصلاة فمن خرج للصلاة فقد نواها وإن كان مستحضرًا لها إلى حين الصلاة أجزأ قال الشيخ باتفاق العلماء وذهب الأئمة إلى الاكتفاء بوجودها قبل التكبير واختار النووي وغيره الاكتفاء بالاستحضار العرفي بحيث لا يعد غافلاً عن الصلاة اقتداء بالأولين في تساهلهم. ويجب أن ينوي عين صلاة معينة فرضًا كالظهر أو نفلاً كالوتر لتميز عن غيرها. فلو كان عليه صلاة رباعية وصلى أربع ركعات لم ينو بها ما عليه لم تجزئه إجماعًا وإلا أجزأته نية صلاة مطلقة إجماعًا كصلاة الليل لعدم التعيين فيها. وإن قطع النية في أثناء صلاة بطلت لأنها شرط في جميعها أشبه ما لو سلم لا إن نوى الخروج منها بناء على ظن التمام ككلام من ظن التمام لخبر ذي اليدين وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف وعامة أهل الحديث. ولا أثر للشك في النية.

قال الشيخ يحرم خروجه للشك في النية للعلم أنه ما دخل إلا بالنية ولا أثر للشك بعد الفراغ إجماعًا. ولا يشترط في الأداء ولا في القضاء نيتهما. قال الشيخ قد اتفق العلماء فيما أعلم على أنه لو اعتقد بقاء وقت الصلاة فنواها أداء ثم تبين أنه صلى بعد خروج الوقت صحت صلاته. ولو اعتقد خروجه فنواها قضاء ثم تبين له بقاء الوقت أجزأته صلاته اهـ. فإن علم بقاء الوقت أو خروجه ونوى خلافه لم يصح لأنه متلاعب. (وعن ابن عباس قال قام النبي – - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل) يعني منفردًا في بيت ميمونة (فقمت عن يساره فأدارني عن يمينه متفق عليه) ولمسلم معناه من حديث أنس ومن حديث جابر في الفرض ونحوه من حديث عائشة وغير ذلك. فدلت هذه الأحاديث على جواز الاقتداء بمن لم ينو إمامته. قال النووي وهو صحيح على المشهور من مذاهب أهل العلم فإنها تحصل الجماعة للمأموم وإن لم ينو الإمام الإمامة لأن الغرض حصول الجماعة وقد حصلت بواسطة الاقتداء لأن صلاته حينئذ وقعت جماعة كما صلى الناس بصلاة النبي – - صلى الله عليه وسلم - وهو في حجرته وهو مذهب الأئمة الثلاثة. والرواية الثانية عن أحمد اختارها الموفق والشيخ وغيرهما لأنه ثبت في النفل والأصل المساواة والحاجة داعية إلى ذلك فصح كحالة الاستخلاف. وقال الشافعي لأنه ثبت في النقل بحديث ابن عباس والأصل المساواة بل قد دل على ذلك قصة جابر وجبار وهي في

الفرض. قال شيخنا فالدليل واضح وأما المأموم فيجب أن ينوي أنه مقتد اتفاقًا. وقال في الإنصاف يشترط نية حاله بلا نزاع ولأن الجماعة يتعلق بها أحكام وإنما تتميز بالنية ولا يتصور أن المأموم لا ينوي أنه مؤتم. فإن من وجد إمامًا يصلي أو شخصًا يصلي فإن نوى أنه يقتدي به فهو مأموم وقد حصلت له نية الاقتداء وإن نوى أن يصلي لنفسه ولم ينو أنه مقتد بذلك الإمام فهو منفرد. أما إذا أحرم بالصلاة منفردًا ثم في أثناء الصلاة نوى أن يقتدي بشخص آخر فروى مسلم من حديث المغيرة بن شعبة في صلاة عبد الرحمن بن عوف وأنه صلى معه النبي – - صلى الله عليه وسلم - ركعة فلما سلم قام النبي – - صلى الله عليه وسلم - وقام معه المغيرة فركعا الركعة التي سبقا بها والصديق تأخر واقتدى بالنبي – - صلى الله عليه وسلم - قال في الإنصاف وإن سبق اثنان فائتم أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما جاز. وهو المذهب سواء نوياه حال دخولهما أولا. (ولهما عن جابر في صلاة معاذ) وذلك أنه مد في القراءة (فتأخر رجل فصلى وحده) والقصة مشهورة. ومن حديث أنس فدخل حرام وهو يريد أن يسقي نخلة فدخل المسجد مع القوم فلما رأى معاذًا طول تجوز في صلاته ولحق بنخله يسقيه. فدل على أنها تصح صلاة من فارق إمامه لعذر. ولا نزاع في ذلك ومحل إباحة المفارقة للعذر إن استفاد بمفارقته تعجيل لحوقه لحاجته قبل فراغ إمامه.

فإن كان إمامه يعجل ولا يتميز إنفراده عنه بنوع تعجيل لم يجز الإنفراد فيه ذكره ابن عقيل وغيره. وقال في الفروع لم أجد خلافه. وإذا زال عذر مأموم بعد المفارقة لم يلزمه الدخول معه وله ذلك وعدم الرجوع أولى لأنه قد فارق إمامه بوجه شرعي فينبغي أن يبقى على مفارقته. وإن فارقه في ثانية جمعة لعذر أتمها جمعة. (و) لهما أيضًا (عن سهل في صلاة أبي بكر) وذلك أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال أتصلي بالناس فأقيم قال نعم قال فصلى أبو بكر (فجاء رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف) ثم اتسأخر أبو بكر في الصف (وتقدم) النبي – - صلى الله عليه وسلم - (فصلى) الحديث ويأتي قصة صلاته – - صلى الله عليه وسلم - لما مرض. وفيهما دلالة على جواز إمامة إمام الحي الراتب بمن أحرم بهم نائبه لغيبة ونحوها وبنائه على صلاة نائبه وجواز عودة النائب مأمومًا. وصحة صلاة المأمومين خلفهما. وجواز الاستخلاف لعذر. ويأتي أن عمر وعليًا استخلفا. وقال النووي وغيره جاء الاستخلاف عنهما وغيرهما من الصحابة ولم يحك ابن المنذر منعه عن أحد وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة فيتمونها جماعة. ويجوز فرادى احتج أحمد بأن معاوية لما طعن صلوا وحدانًا.

باب آداب المشي إلى الصلاة

باب آداب المشي إلى الصلاة التي ينبغي أن يتأدب بها عند التوجه إليها والخروج لها. والآداب جمع أدب الظرف وحسن التناول وما يحترز به من جميع أنواع الخطأ ومشى مر وسار على الرجل سريعًا وغير سريع. (عن أبي هريرة عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال إذا أتيتم الصلاة) أي توجهتهم إليها (وفي لفظ إذا سمعتم الإقامة) يعني للصلاة (فامشوا) إليها (وعليكم السكينة) أي التأتي في الحركات واجتناب العبث (والوقار) يعني في الهيئة كغض الطرف وخفض الصوت وعدم الالتفات. والسكينة هي التي تورث الخضوع والخشوع وغض الطرف وجمعية القلب على الله بحيث يؤدي عبوديته بقلبه وبدنه (متفق عليه). وقوله تعالى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي اقصدوا واهتموا ليس المراد السعي السريع. وقال الشيخ إن خشي فوات الجمعة أو الجماعة بالكلية فلا ينبغي أن يكره له الإسراع لأن ذلك لا ينجبر إذا فاته والحكمة في شرع هذا الأدب بينه – - صلى الله عليه وسلم - بقوله "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فإنه في صلاة" رواه مسلم أي فإنه في حكم المصلي فينبغي اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده. واجتناب ما ينبغي اجتنابه. فلا يتكلم بمستهجن. ولا يتعاطى ما يكره.

ويستحب كونه متطهرًا لقوله - صلى الله عليه وسلم - «إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج عامدا ُ إلي المسجد فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في صلاة» رواه أبو داود وغيره 0ويسن أن يقارب خطاه لتكثر حسناته ففي الصحيحين "إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج عامداً إلي المسجد لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه. والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه يقولون "اللهم اغفر له اللهم ارحمه اللهم تب عليه ما لم يؤذ أو يحدث فيه". وفي ذلك أحاديث كثيرة ولأبي داود وغيره فإذا أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له فإن جاء وقد صلوا بعضًا فصلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، وإن أتى المسجد وقد صلوا كان كذلك وفي رواية "أعطاه الله أجر من صلاها وحضرها" وهذا قول الجمهور. (ولمسلم عن ابن عباس سمعته) يعني الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يقول حين خرج إلى الصلاة اللهم اجعل في قلبي نورًا) أي عظيمًا كما يفيده التنكير (وفي لساني) أي نطقي (نورًا واجعل في بصري نورًا) ليتجلى بأنوار المعارف (وأمامي نورًا وخلفي نورًا ومن فوقي نورًا ومن تحتي نورًا) لأكون محفوظًا بالنور من جميع الجهات (واعطني نورًا وزدني نورًا) لينكشف به الحق.

ويستحب أن يقول إذا خرج من بيته ولو لغير الصلاة "بسم الله آمنت بالله. اعتصمت بالله. توكلت على الله. لا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي" صححه الترمذي وأن يقول "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك يعني الإثابة وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياء. ولا سمعة. خرجت اتقاء سخطك. وابتغاء مرضاتك. أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" رواه أحمد وغيره وفيه "أقبل الله عليه بوجهه. واستغفر له سبعون ألف ملك" يعني إذا قال ذلك. رواه عطية عن أبي سعيد مرفوعًا. (وعن فاطمة) الزهراء بنت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - زوجة علي ولدت له الحسن والحسين وبقيت بعد رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ستة أشهر (قالت كان – - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد) أي إذا أراد دخول المسجد (قال "بسم الله والسلام على رسول الله) ولابن ماجه وغيره عن أنس مرفوعًا "بسم الله اللهم صلى على محمد" والنووي من حديث ابن عمر وفيهما مقال (اللهم اغفر لي ذنوبي) أي معاصي وإثمي واحدها ذنب والغفر الستر مع المحو والتجاوز عن السيئات (وافتح لي أبواب رحمتك) لما كانت متوجهًا للعبادة ناسب سؤال الرحمة. (وإذا خرج قال) يعني "بسم الله. والسلام على رسول الله

اللهم اغفر لي ذنوبي (وافتح لي أبواب فضلك) لما كان متوجهًا للأمور المباحات غالبًا ناسب أن يطلب فضل الله (رواه أحمد) ورواه ابن ماجه وغيره وفيه مقال. ويشهد له ما رواه مسلم وغيره إذا دخل أحدكم المسجد فليقل "اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل. اللهم إني أسألك من فضلك" وسؤال الفضل عند الخروج موافق لقوله {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} وينبغي لداخل المسجد والخارج منه أن يجمع بين التسمية والصلاة والسلام على رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وسؤال المغفرة والدعاء بالفتح لأبواب الرحمة وأبواب الفضل وفاقًا. وينبغي أيضًا أن يقول في بعض الأحيان "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم. اللهم صلى على محمد اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال. وافتح لي أبواب فضلك. وإذا قال ذلك قال الشيطان حفظ مني سائر اليوم". ولا يهجر ما جاء به الشرع من أي نوع من الأدعية. ويسن عند الدخول أن يقدم رجله اليمنى لما تقدم أنه – - صلى الله عليه وسلم - يحب التيامن في شأنه كله ويأمر به. وكذا يسن تقديم اليسرى عند الخروج. وقاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمن في كل ما كان من باب التكريم والتزيين وما كان بضدها استحب فيه التياسر. (وعن أبي قتادة مرفوعًا إذا دخل أحدكم المسجد) خرج

فصل في الصفوف

مصلى الجنائز فليس بمسجد والعيد لما يأتي (فلا يجلس) نهى الداخل إلى المسجد عن الجلوس فيه (حتى يصلي ركعتين) يعني تحية المسجد أو ما يقوم مقامهما من صلاة فرض ونفل (متفق عليه) وجاء بلفظ الأمر من غير وجه. وحكى النووي الإجماع على سنيتها في جميع الأوقات قال الشيخ والصحيح قول من استحب ذلك وظاهر الخبر الوجوب بشرط الطهارة وعدم الإطالة للجلوس. وإن لم يطل فينبغي التدارك لقوله - صلى الله عليه وسلم - "قم فاركعهما" وفي المرقاة ما يفعله بعض العوام من الجلوس أولاً ثم القيام باطل لا أصل له. وأما المسجد الحرام فالداخل يبدأ بالطواف ثم يصلي ركعتي الطواف. وإن أراد الجلوس قبل الطواف فكغيره من سائر المساجد. فصل في الصفوف أي في مشروعية تسوية الصفوف في صلاة الجماعة وفضيلة ميامنها وإكمال الأول فالأول. (عن أنس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سووا صفوفكم) وفي لفظ "أقيموا صفوفكم" أي اعدلوها وسووها. ولهما أيضًا "رصوا صفوفكم" أي لاصقوها حتى لا يكون بينكم فرج. ويأتي قوله"رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق".وفي

لفظ "حاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفًا وصله الله. ومن قطعه قطعه الله" رواه أبو داود وغيره. فالتسوية مسنونة إجماعًا وكذا محاذات المناكب والأكعب. وقال (فإن تسوية الصف من تمام الصلاة متفق عليه) وللبخاري "فإن إقامة الصف من حسن الصلاة" وفي رواية "فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة" ولهما "لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" أي يمسخها ويحولها عن صورتها والأمر بتعديل الصفوف متواتر لا نزاع فيه والجمهور أنه مسنون وظاهر كلام الشيخ وجوبه وقال: من ذكر الإجماع على استحبابه فمراده ثبوت استحبابه لا نفي وجوبه. (ولهما عنه "كان – - صلى الله عليه وسلم - يقبل علينا بوجهه) قبل أن يكبر (فيقول تراصوا) أي تلاصقوا بغير خلل (واعتدلوا) أي على سمت واحد فلا يتقدم أحد على أحد ولا يتأخر. ولأبي داود "اعتدلوا وسووا صفوفكم" وعن أنس "كان إذا قام إلى الصلاة قال هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله استووا وتعادلوا" ولأحمد "سووا صفوفكم وحاذوا بمناكبكم ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم" وسره أن مخالفة الصفوف مخالفة في الظواهر واختلاف الظواهر سبب اختلاف البواطن. ولمسلم عن أبي سعيد "كان يمسح مناكبنا" وللبخاري "فكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب

صاحبه" فثبت من غير وجه التفاته عن يمينه وعن شماله استووا تراصوا وكذا خلفاؤه يتعاهدون ذلك. (وعن عاشة مرفوعًا "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف" رواه أبو داود) وفيه وفي غيره من الأحاديث كحديث ابن عباس وحديث البراء: استحباب الكون في يمين الصف. ويمينه يصدق على الملاصق للإمام وعلى من وراءه من يمين كل صف, والبعد من اليمين ليس بأفضل من قرب اليسار. وقال الشيخ وقوف المأموم بحيث يسمع قراءة الإمام وإن كان في الصف الثاني أو الثالث أفضل من الوقوف في طرف الصف الأول مع البعد عن سماع قراءة الإمام لأن الأول صفة في نفس العبادة فهي أفضل من مكانها. (وعن أبي هريرة مرفوعًا) إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لو يعلم الناس ما في النداء) يعني من الأجر وفيه دلالة على فضيلة الآذان وبيان ما فيه (والصف الأول) ومن الأجر يعني لتسارعوا إلى الصف الأول حتى أخذوا المواضع منه (ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا) أي يضربوا القرعة عليه (لاستهموا) أي لاقترعوا (متفق عليه) ولأحمد وأبي داود من حديث البراء "إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول" وله من حديث أنس "أتموا الصف الأول ثم الذي يليه" ولمسلم "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها. وخير

باب صفة الصلاة

صفوف النساء آخرها. وشرها أولها" وله من حديث أبي سعيد أنه – - صلى الله عليه وسلم - "رأى في أصحابه تأخرًا فقال له تقدموا وأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله" فالتقدم مشروع. وتستحب المحافظة على إدراك تكبيرة الإحرام بأن يتقدم إلى المسجد قبل وقت الإقامة وقد جاء في فضل الصف الأول فالأول وإدراك تكبيرة الإحرام أحاديث كثيرة وأما النساء فالأفضل بعدهن عن الرجال لما تقدم ولأمن الفتنة وأما إذا أمتهن امرأة فصفوفهن كصفوف الرجال أفضلها أولها. باب صفة الصلاة أي كيفيتها وهي الهيئة الحاصلة للصلاة وبيان ما يكره فيها وأركانها وواجباتها وسننها وما يتعلق بذلك وهذا شروع في المقصود بعد الفراغ من مقدماته. (قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} لما ذكر تعالى أنه اصطفى رسلاً من البشر إلى الخلق أمرهم بإقامة ما جاءت به الرسل من العبادات الشرعية وهو الصلاة قيل كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود. وأجمع المسلمون أنها لا تصح بدون ركوع وسجود. {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} وحدوه بالعبادة {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} صلة الرحم ومكارم الأخلاق {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} تسعدون

وتفوزون بالجنة والآيات في الأمر بها كثيرة. وبينت السنة ما جاء مجملاً في القرآن العزيز أتم بيان. وصح عنه – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "صلوا كما رأيتموني أصلي" فقوله وفعله بيان للواجب وبيان الواجب واجب كما تقرر في الأصول. (وعن أبي هريرة أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال) أي للمسيء في صلاته وهو خلاد بن رافع (إذا قمت إلى الصلاة) أي إذا أردت القيام إلى الصلاة وأنت على غير طهر (فأسبغ الوضوء" أي أتمه كما تقدم "ثم استقبل القبلة" وتقدم أن وجوب استقبالها إجماع في الجملة (فكبر) أي تكبيرة الإحرام وفي حديث رفاعة عند أحمد وغيره (ثم يقول الله أكبر)، ومن حديث أبي حميد عند ابن ماجه وغيره وصححه ابن خزيمة وغيره "إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائمًا ورفع يديه ثم قال الله أكبر" ونحوه لأحمد وغيره من النصوص الصحيحة الصريحة في تعيين التكبير للدخول في الصلاة. ونقل الخلف عن السلف. فتكبيرة الإحرام ركن لا تنعقد إلا به مع القيام في الفرض للقادر. ولأحمد وغيره "تحريمها التكبير" وحديث يقتتح الصلاة بالتكبير". وعلى هذا عوام أهل العلم لنقلهم ذلك عنه – - صلى الله عليه وسلم - نقلاً متواترًا. وتكبيره تعالى جامع لإثبات كل كمال له وتنزيهه عن كل نقص وعيب. وحكمته ليستحضر عظمة من يقف بين يديه وأنه أكبر من كل شيء وأعظم وأجل فيخشع ويذل له تبارك وتعالى متخليًا عن الشواغل متهيئًا للدخول عليه دخول العبد

على الملك بالتعظيم والإجلال لما في هذا اللفظ من التعظيم والتخصيص وغيره لا يقوم مقامه كما قال ابن القيم وغيره. بل لا يؤدي معناه فلا تنعقد الصلاة إلا به ويستحيي أن يشتغل بغيره من استحضر كبرياءه وعظمته ولهذا أجمع العلماء على أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وحضر قلبه. (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) وللنسائي وأبي داود من حديث رفاعة" فإن كان معك قرآن فاقرأ" وله في رواية "بأم القرآن وبما شاء الله" فدلت مع غيرها على وجوب القراءة في الصلاة بالفاتحة أو ما تيسر. قال الشيخ ويلزمه قراءة قدرها من أي سورة شاء. فإن لم يعرف إلا آية كررها بقدرها. فإن عجز لزمه قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. لحديث إن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وهلله وكبره فإن لم يعرف شيئًا وقف بقدر الفاتحة اتفاقًا. ويحرم أن يترجم عنه بلغة أخرى لقوله قرآنًا عربيًا وقوله بلسان عربي ولأنه معجزة باللفظ والمعنى. وقال لا يقرأ القرآن بغير العربية سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور وهو الصواب الذي لا ريب فيه. ولا يدعى الله ويذكر بغير العربية. واللسان العربي شعار الإسلام وأهله. واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون. (ثم اركع حتى تطمئن راكعًا) ولأحمد وغيره "وإذا ركعت

فاجعل راحتيك على ركبتيك وأمدد ظهرك ومكن ركوعك" وفي رواية "ثم تكبر وتركع حتى تطمئن مفاصلك وتسترخي" ففيه إيجاب الركوع والاطمئنان فيه. وهما ركنان. وأجمعوا على مشروعية الانحناء حتى تبلغ كفاه ركبتيه. وقال الشيخ الركوع في لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين انحنائه. وأما مجرد الخفض فلا يسمى ركوعًا. ومن سماه ركوعًا فقد غلط على اللغة والشرع. قال وهذا مما لا سبيل إليه ولا دليل عليه. وإن حصل الشك لم يكن ممتثلاً بالاتفاق وعن عقبة بن عمرو "أنه ركع فجافى يديه ووضع يديه على ركبتيه وقال هكذا رأيت رسول الله يصلي" رواه أحمد وأبو داود. (ثم ارفع) أي من الركوع (حتى تعتدل قائمًا) ولابن ماجه بسند جيد "حتى تطمئن قائمًا" ولأحمد "فأقم صلبك حتى ترجع العظام" أي التي انخفضت حال الركوع تعود "إلى ما كانت عليه" حال القيام للقراءة. وذلك بكمال الاعتدال ونحوه أيضًا على شرط الشيخين فالاعتدال والطمأنينة ركنان في كل ركعة إجماعًا. وفي السنن وصححه الترمذي "لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم صلبه في الركوع والسجود" أي عند رفعه منهما وقال لمن تركها "صل فإنك لم تصل". فنفى أجزاء الصلاة بدون الطمأنينة ونفى مسماها الشرعي بدونها وأمر بالإتيان بها وهذا شرع محكم صحيح

صريح لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا قال الشيخ وهو صريح في أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع وينصب من السجود. وفي الصحيح أن حذيفة رأى رجلاً لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فقال "لو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا – - صلى الله عليه وسلم - " وفي لفظ "على غير سنة محمد – - صلى الله عليه وسلم - " وكان – - صلى الله عليه وسلم - يطيل الرفع بقدر الركوع وفي صحيح مسلم "حتى نقول قد أوهم" (ثم اسجد) أي على سبعة أعضاء (حتى تطمئن ساجدًا) وللنسائي "ثم يكبر ويسجد حتى يمكن وجهه وجبهته حتى تطمئن مفاصله وتسترخي" ولأبي داود من حديث رفاعة تكبيرات النقل وذهب أحمد وأهل الحديث وغيرهم إلى وجوبها واستقر عمل الأمة عليه. وثبت عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه واتفقت الأمة على ذلك (ثم ارفع) من السجود (حتى تطمئن جالسًا) وهو ركن بلا نزاع. وفي الصحيحين عن عائشة "إذا رفع من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاعدًا". ولحديث أبي حميد وغيره. وفي رواية "فإذا رفعت رأسك فاجلس على فخذك اليسرى". (ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا) كالأولى فهذه الأركان مجمع عليها (ثم افعل ذلك) أي جميع ما ذكرت من الأفعال والأقوال (في صلاتك) أي ركعات صلاتك (كلها) إلا تكبيرة الإحرام فإنها مخصوصة بالركعة الأولى لما علم شرعًا من

عدم تكرارها (متفق عليه) وهو في السنن وغيرها بألفاظ متقاربة. واعلم أن هذا الحديث حديث جليل تلقته الأئمة بالقبول واستدلوا به على وجوب ما ذكر فيه وأنها لا تسقط بحال لأنها لو سقط على أحد لسقطت عن هذا الأعرابي الجاهل. ولا ريب أن هناك أركانًا أخر يأتي الكلام فيها. (وعن أبي حميد) عبد الرحمن بن سعد الأنصاري الخزرجي (الساعدي) نسبة إلى ساعدة وهو أبو الخزرج المدني غلب عليه كنيته توفي في آخر ولاية معاوية (قال) وهو في عشرة من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنا أعلمكم بصلاة رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قالوا فاعرض فقال: (رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر) يعني للإحرام (جعل يديه) أي كفيه (حذو) أي مقابل (منكبيه) من حذوته احذوه وحاذيته محاذاة وازنته ولفظ أهل السنن وغيرهم وصححه الترمذي "إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائمًا ورفع يديه حتى يحاذي منكبيه ثم يكبر". قال ابن عمر رفعهما زينة الصلاة. وقال الشافعي وغيره تعظيم واستسلام وخضوع لله تعالى واتباع لسنة نبيه – - صلى الله عليه وسلم - وقيل رفعهما إشارة إلى رفع الحجاب بين العبد وبين ربه. وقيل ليستقبل بجميع بدنه. ورفعهما معًا في فرض أو نقل ندب بلا نزاع رواه عنه – - صلى الله عليه وسلم - خمسون صحابيًا منهم العشرة حتى قيل بوجوبه.

(وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه) كما في حديث المسيء (ثم هصر ظهره) أي ثناه في استواء من غير تقويس وفي رواية "حنى" وهو بمعناه. وفي رواية "غير مقنع رأسه ولا مصوبه" وفي رواية "ثم فرج بين أصابعه". ولابن ماجه عن وابصة "وكان إذا ركع سوى ظهره حتى لو صب عليه الماء لاستقر" أي سكن على ظهره في قعر عظم الصلب. وسوى الشيء تسوية جعله سويًا. (قإذا رفع رأسه) أي من الركوع (استوى) زاد أبو داود فقال "سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد. ورفع يديه" وفي رواية "حتى يحاذي بهما منكبيه" معتدلاً " (حتى يعود) أي يرجع (كل فقار) أي من عظام الظهر (مكانه) والمراد منه كمال الاعتدال ففي رواية "ثم مكث قائمًا حتى يقع كل عضو موضعه" وهو معنى ما تقدم من قوله "حتى ترجع العظام". ولمسلم عن عائشة "وإذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا" وتقدم أن هذا الاعتدال ركن. (فإذا سجد وضع يديه) أي على الأرض (غير مفترش) أي لهما وعند ابن حبان "غير مفترش ذراعيه" (ولا قابضهما) أي وغير قابض يديه بأن يضمهما إليه. ولفظ الترمذي وغيره "كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه ووضع يديه حذو منكبيه وفرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه" وله أن يعتمد بمرفقيه على فخذيه إن طال السجود لقوله "استعينوا بالركب" رواه أبو داود (واستقبل بأطراف أصابع

رجليه القبلة) قال الشيخ وإذا رفع قدميه في السجود فإنه مع رفعهما بالتلاعب أشبه منه بالتعظيم والإجلال ولو لم يضعهما لم يصح السجود. (وإذا جلس في الركعتين) جلوس التشهد الأول (جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى) ولفظ السنن وغيرهما "ثم ثنى رجله وقعد عليها واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضع" وفي الصحيحين عن عائشة "وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى" وعن عبد الله بن زيد قال "كنا نعلم إذا جلسنا في الصلاة أن يفرش الرجل منا قدمه اليسرى وينصب قدمه اليمنى. وإن كانت إبهام أحدنا لتنثني فيدخل يده حتى يعدلها" ولم يحفظ عنه – - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع جلسة غيرها. (وإذا جلس في الركعة الأخيرة) من ثلاثية أو رباعية للتشهد الأخير جلس متوركًا بلا نزاع فـ (قدم رجله اليسرى) ففرشها وفي لفظ "أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض" (ونصب الأخرى) يعني اليمنى ولأبي داود "وأخرج قدميه من ناحية واحدة" (وقعد على مقعدته) أي جلس على عجيزته وكيفما جلس في التشهدين وبين السجدتين جاز إجماعًا وهاتان الهيئتان قارقتان بين ما يسن تخفيفه فيكون الجالس فيه متهيئًا للقيام أو مستقرًا وكل منهما مذكرة للمصلي حاله فيهما (رواه البخاري) وأهل السنن وغيرهم قولاً وفعلاً وفيها قالوا صدقت.

(وعن ابن عمر أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو) أي مقابل (منكبيه) وفي رواية "حتى يكونا حذو منكبيه" (إذا افتتح الصلاة) وتقدم أنه متواتر عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - (وإذا كبر للركوع) رفعهما كذلك (وإذا رفع رأسه) أي اراد أن يرفعه (من الركوع) رفعهما كذلك وكان لا يفعل ذلك في السجود (متفق عليه) ولمسلم عن مالك بن الحويرث نحو حديث ابن عمر لكن قال "حتى يحاذي بهما فروع أذنيه". ويمكن الجمع بأن يحاذي بظهر كفيه المنكبين وبأطراف أنامله الأذنين كما في حديث وائل وهذا مذهب الجمهور. أو هذا مرة وذاك أخرى وفي حديث أبي حميد عند أبي داود نحو حديث ابن عمر ونقل البخاري عن الحسن أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. قال علي بن المديني حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع والرفع منه لهذا الخبر. (وفي رواية "وإذا قام من الركعتين) رفعهما كذلك" وفي حديث أبي حميد "ثم إذا قام من الركعتين رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه" كما صح عند افتتاح الصلاة رواه مسلم وصححه الترمذي من حديث علي وصححه البخاري في جزء رفع اليدين وقال ما زاده ابن عمر وعلي وأبو حميد في عشرة من الصحابة صحيح. وقال ابن بطال هذه زيادة يجب قبولها. وقال الشيخ مندوب إليه عند محققي العلماء العاملين بالسنة. وقد ثبت في الصحاح والسنن ولا معارض لها ولا مقاوم اهـ.

وينبغي أن يبتدئ رفع يديه مع ابتداء التكبير وينهيه معه لأن الرفع للتكبير فكان معه وهذا مذهب الجمهور. ولأحمد وأبي داود من حديث وائل "كان يرفع يديه مع التكبير". وفي الصحيح عن ابن عمر "حين يكبر" ولا استصحاب في انتهائه وصححه النووي وغيره وإن فرغ قبله حطهما ولم يستدم الرفع وإن كان ثبت تقديم التكبير على الرفع فقد قال الحافظ وغيره لم أر قائلاً به. (ولمسلم عن وائل) يعني ابن حجر أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (وضع يده اليمنى على اليسرى) ولفظ أحمد وأبي داود بسند صحيح "وضع كفه اليمنى على كفه اليسرى والرسغ على الساعد" ونحوه عن ابن مسعود. وفي الصحيح من حديث سهل "كانوا يؤمرون" ووضع اليدين إحداهما على الأخرى متواتر عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم وهو أقرب للخشوع وأمنع من العبث. قال الوزير أجمعوا على أنه يسن وضع اليمين على الشمال في الصلاة إلا في إحدى الروايتين عن مالك فقال يباح والأخرى مسنون. وقال ابن عبد البر لم يأت عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - فيه خلاف ولم يحك عن مالك ولا غيره. ولأبي داود وغيره عن ابن مسعود أنه "وضع اليسرى على اليمنى فرآه النبي – - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده اليمنى على اليسرى" ولا خلاف في ذلك (زاد ابن خزيمة) وغيره (على صدره) وصححه ولأحمد عن هلب رأيته يضع هذه على صدره

قال النووي رواتهما كلهم ثقات. وصح عن علي من فعله فوق السرة. وعنه مرفوعًا تحت السرة وسنده ضعيف. وقال ابن القيم لما ساق حاله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته ثم كان يمسك شماله بيمينه فيضعهما عليها فوق المفصل ثم يضعهما على صدره. وقال في موضع لم يصح موضع وضعهما. وعن أحمد وغيره هو مخير والأمر فيه واسع. (وعن عمر رضي الله عنه أنه كان) يجهر بهؤلاء الكلمات يعني بعد تكبيرة الإحرام يعلمهن الناس في مسجد رسول الله بحضرة الأكابر من الصحابة –رضي الله عنهم. وقال الحافظ وابن القيم هو بهذا الوجه في حكم الرفع (يقول سبحانك اللهم) أي أنزهك التنزيه اللائق بجلالك وأصل التسبيح التنزيه والتقديس ثم استعمل في مواضع تقرب منه اتساعًا. (وبحمدك) أي وبكل ما يليق تسبيحك به وبحمدك سبحتك وبنعمك التي توجب علي حمدًا سبحتك لا بحولي ولا بقوتي. فيشاهد بقلبه ربًا منزهًا عن كل عيب محمودًا بكل حمد. وحمده يتضمن وصفه بكل كمال (وتبارك) أي كمل وتقدس (اسمك) من باب مجد والمجد كثرة صفات الجلال ولا يقال تبارك إلا له سبحانه وتعالى (وتعالى جدك) أي تعاظم شأنك وارتفع قدرك جاء على بناء السعة فدل على كمال العلو ونهايته والجد العظمة.

(ولا إله غيرك) أي لا معبود بحق سواك بل أنت المستحق للعبادة وحدك لا شريك لك بما اتصفت به الصفات التي تستلزم أن تكون المحبوب غاية المحبة المخضوع له غاية الخضوع (رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي سعيد مرفوعًا وقال العمل عليه عند أكثر أهل العلم. ولأبي داود والحاكم نحوه عن عائشة قال أحمد وأنا أذهب إليه ولولا أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - كان يقوله في الفريضة ما فعل ذلك عمر وأقره المسلمون. وروي عن أبي بكر وابن مسعود. قال المجد وغيره واختيار هؤلاء. وجهر عمر به يدل على أنه الأفضل وأنه الذي كان النبي – - صلى الله عليه وسلم - يداوم عليه غالبًا. وقال الضحاك والربيع في قوله تعالى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُوم} أي إلى الصلاة تقول سبحانك اللهم إلخ. ولاشتماله على أفضل الكلام بعد كتاب الله. ولأنه خاص في الثناء على الله وغيره من الاستفتاحات وإن كانت أصح منه فإنما هي متضمنة للدعاء والثناء على الله أفضل من جنس الدعاء عند الافتتاح وعامتها في قيام الليل. وقال أحمد إنما هي في التطوع ولأنه إنشاء للثناء على الرب متضمن للأخبار عن صفات كماله ونعوت جلاله وغير ذلك مما يرجح الأخذ به. ويجوز الاستفتاح بكل ما ورد. قال الشيخ الاستفتاحات الثابتة كلها سائغة باتفاق المسلمين ولم يكن – - صلى الله عليه وسلم - يداوم على استفتاح واحد قطعًا. والأفضل أن يأتي بالعبادات

المتنوعة على وجوه متنوعة كل نوع منها على حدته ولا يستحب الجمع. (وقال ابن المنذر) محمد بن إبراهيم النيسابوري الإمام المشهور صاحب التصانيف المتوفى سنة ثلاثمائة وتسع عشرة (جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) وكذا قال أبو حيان عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة وجبير ابن مطعم (أنه كان يقول) - صلى الله عليه وسلم - يعني في صلاته (قبل القراءة) وكذا خارج الصلاة (أعوذ بالله) أي ألجأ إلي الله واعتصم به (من الشيطان الرجيم) المطرود المبعد عن رحمة الله لا يضرني في ديني ولا في دنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به 0أويحثني علي فعل ما نهيت عنه فإنه لا يكفه إلا الله 0 والشيطان اسم لكل متمرد عات من الجن والإنس من شطن أي بعد لبعده عن الخير أو من شاط إذا هلك. والرجيم بمعني المرجوم أي المطرود المبعد أو بمعني راجم أي يرجم غيره بالإغواء. والتعوذ بهذا اللفظ مجمع عليه. لقوله تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} أي إذا أردت قراءة القرآن {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} فإنك إذا استعذت بالله منه فقد أويت إلى ركنه الشديد واعتصمت بحوله وقوته من عدوك الذي يريد أن يقطعك عن ربك ويباعدك منه. وكيف ما تعوذ به من الوارد فحسن. ومنه ما رواه الترمذي وغيره من حديث أبي سعيد "كان إذا قام إلى الصلاة

استفتح ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. من همزه ونفخه ونفثه" ونفثه الشعر. ونفخه الكبر. وهمزه الموتة خنق يشبه الجنون. وحكى ابن جرير وغيره الإجماع على استحباب التعوذ قبل القراءة وأوجبه عطاء والثوري للآية والأخبار ولدرء الشيطان. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وعامة السلف أنه سنة واختار الشيخ التعوذ عند أول قراءة. (وعن أنس أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين) أي القراءة في الصلاة بهذا اللفظ (متفق عليه) ولمسلم "صليت خلف النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" (زاد أحمد "لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم) وإسناده على شرط الصحيح وفيه دليل على أنهم كانوا لا يسمعون من خلفهم لفظ البسملة عند قراءة الفاتحة في الصلاة جهرًا فلا يسن الجهر بها فيها. قال الترمذي وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم. وقال الشيخ المداومة على الجهر بها بدعة مخالفة للسنة الصحيحة الصريحة عن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - والسلف. والأحاديث الصريحة في الجهر بها كلها موضوعة. وذكر الطحاوي أن ترك الجهر بالبسملة في الصلاة تواتر عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه وذكر الشيخ أنه يستحب الجهر بها للتأليف. وأنه يستحب الجهر بها

وبالتعوذ والفاتحة في الجنازة ونحوها تعليمًا للسنة اهـ. وأما التعوذ والاستفتاح فيسر بهما إجماعًا وليست البسملة من الفاتحة ذكره القاضي إجماعًا سابقًا. وقال الشيخ البسملة آية من كتاب الله في أول كل سورة سوى براءة وليست من السور على المنصوص. وهو أوسط الأقوال وأعدلها وبه تجتمع الأدلة. وتستحب البسملة في ابتداء جميع الأفعال المهمة وهي تطرد الشيطان. ومستحبة تبعًا لا استتقلالاً. وتكتب أوائل الكتب كما كتبها سليمان ونبينا عليهما الصلاة والسلام. وذكر بعض أهل العلم أربعة أقسام: قسم تجب فيه وهو الوضوء والغسل والتيمم. وعند الصيد. والتزكية. وقسم تسن فيه: قراءة القرآن. والأكل والشرب والجماع وعند دخول الخلاء ونحو ذلك. وقسم لا تسن فيه كالصلاة والأذان والحج والأذكار والدعوات. وقسم تكره فيه وهو المحرم. والمكروه. لأن المقصود بها البركة. والزيادة. وهذان لا تطلب فيهما. وقيل تحرم عند أكل الحرام. وفي البزازية اختلف في كفره. (وعن عبادة) بن الصامت بن قيس الخزرجي الأنصاري السلمي أحد النقباء شهد العقية والمشاهد واستقضاه عمر على

الشام ومات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال لا صلاة) أي مجزئة (لمن لم يقرأ بأم القرآن، متفق عليه) ولابن حبان "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" ففيه دلالة على نفي إجزاء الصلاة الشرعية إذا لم يقرأ فيها المصلي بفاتحة الكتاب لأن الصلاة فرضت مركبة من أقوال وأفعال لا تصح بدونها. والمركب ينتفي بانتفاء جميع أجزائه وبانتفاء البعض. وتقدم أمره – - صلى الله عليه وسلم - المسيء بقراءة الفاتحة. وسمي كل ركعة صلاة. وفي بعض ألفاظه قال الراوي فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال "لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك" ولغير ذلك من الأخبار وجمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم أنها ركن في كل ركعة. ولمسلم من حديث أبي هريرة "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج" وسمعت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يقول "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين} قال الله حمدني عبدي فإذا قال {الرَّحْمنِ الرَّحِيم} قال أثنى علي عبدي وإذا قال {مَلِكِ يَوْمِ الدِّين} قال مجدني عبدي، وإذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين}، قال هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين}، قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". وهي أفضل سورة في القرآن لما في الصحيح "أعظم سورة

في القرآن وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيه" وهي أم القرآن لأن فيها تقرير الإلهيات والمعاد والنبوات، قال الحسن أودع فيها معاني القرآن كما أودع فيه معاني الكتب السابقة. وقال ابن كثير وغيره. قد اشتملت على حمد الله. وتمجيده والثناء عليه، وعلى المعاد والنبوات وإثبات القدر، والإرشاد إلى سؤال الله، والتضرع إليه، وتوحيده بالألوهية، وتنزيهه عن أن يكون له شريك، أو مماثل، وإلى سؤاله الهداية إلى الصراط المستقيم، والتثبيت عليه، والترغيب في الأعمال الصالحة، والتحذير من مسالك أهل الغضب والضلال. وجمعت معانيها في إياك نعبد وإياك نستعين. ففيها سر الخلق وأمر الدنيا والآخرة ويستحب أن يقرأها مرتلة لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} محسنة لقوله عليه الصلاة والسلام "زينوا القرآن بأصواتكم" قال شيخ الإسلام هو التحسين والترنم بخشوع وحضور قلب وتفكر وتفهم ينفذ اللفظ إلى الأسماع. والمعاني إلى القلوب لا صرف الهمة إلى ما حجب به أكثر الناس بالوسوسة في خروج الحروف وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وشغله بالفصل والوصل والإضجاع والإرجاع والتطريب وغير ذلك مما هو مفض إلى تغيير كتاب الله والتلاعب به حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه.

ويستحب أن يقف عند كل آية، وإن كانت متعلقة بما بعدها. قالت أم سلمة "كان يقطع قراءته آية آية" وقال الشيخ وقوف القاري على رؤوس الآي سنة وإن كانت الآية الثانية متعلقة بالأولى تعلق الصفة بالموصوف، وتصح الصلاة بقراءة وافقت مصحف عثمان. وصح سندها اتفاقًا، وبما خالفه. وصح سنده لصلاة الصحابة بعضهم خلف بعض. قال شيخ في أصح القولين وقال الذي عليه السلف أن كل قراءة وافقت العربية أو أحد المصاحف العثمانية وصح إسنادها فهي قراءة وافقت العربية أو أحد المصاحف العثمانية وصح إسنادها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها وهي من الأحرف السبعة. (ولهما) أي البخاري ومسلم (عن أبي هريرة مرفوعًا إذا أمن الإمام فأمنوا) يعني إذا شرع في التأمين فأمنوا أنتم حتى يقع تأمينكم وتأمينه معًا. أو إذا أراد التأمين لكي يتوافق تأمينكم وتأمينه ويكون بعد سكتة لطيفة ليعلم أنها ليست من الفاتحة. ولهما أيضًا "إذا قال (ولا الضالين) فقولوا آمين" ففيها مشروعية تأمين الإمام والمأموم معًا جهرًا. ولأحمد وغيره من حديث وائل "كان يقول آمين يمد بها صوته" صححه الحافظ. ولأبي داود قال "آمين يرفع بها صوته ويأمر بذلك" وللحاكم والبيهقي وصححاه من حديث أبي هريرة "حتى يسمع أهل الصف الأول فيرتج المسجد". وفي رواية "إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين وإن الإمام يقول آمين (فإنه من وافق تأمينه

تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفي لفظ: «إذا قال أحدكم آمين، وقالت الملائكة: أمين فوافق أحدكم الآخر غفر له ما تقدم من ذنبه»، وجمهور أهل العلم علي المقارنة وسنية التأمين. وحكي وجوبه علي المأمومين. وآمين بفتح الهمزة مع المد ويجوز القصر والإمالة وهي اسم فعل معناه اللهم استجب لنا ما سألناك من الهداية إلي الصراط المستقيم إلخ. وليست من الفاتحة إجماعاً. وإنما هي طابع الدعاء وينبغي أن يؤمن المأموم وإن لم يسمع قراءة الإمام ولا تأمينه لبعد ونحوه لكونه معلوماً. (وعن أبي قتادة أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر والعصر في الركعتين الأوليين) تثنية أولى (بفاتحة الكتاب) أي في كل ركعة منهما (وسورتين) أي في كل ركعة سورة وفي رواية سورة سورة. وسميت سورة لارتفاعها وشرفها كسور بلد. أو لكونها قطعة من القرآن. أو لتمامها وكمالها، وفيه دلالة على مشروعية قراءة سورة في كل ركعة بعد الفاتحة من الأوليين. ولا نزاع في ذلك، وعن أبي برزة وخباب وغيرهما نحو ذلك. بل نقل نقلاً متواترًا وأمر به معاذًا وغيره. وليست قراءة السورة بعد الفاتحة واجبة فلو اقتصر على الفاتحة أجزأته اتفاقًا. و (ويسمعنا الآية أحيانًا) أي تكرر منه ذلك وللنسائي من حديث البراء نسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات. ولابن خزيمة عن أنس (سبح). و (هل أتى)

وكأنه من هنا علموا مقدار قراءته وفيه دلالة على جواز الجهر في السرية أحيانًا وأنه لا سجود على من فعل ذلك (ويطول الركعة الأولى) أي السورة فيها أطول من الثانية. أو بترتيل القراءة فيها، ويقال بسبب دعاء الاستفتاح والتعوذ وجمع البيهقي وغيره بين هذا وهذا. وحزر بعض الصحابة بثلاثين ثلاثين في الظهر وأنه إنما يطيل الأولى إن كان منتظرًا لآحد وفي رواية عبد الرزاق قال ظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى. ولمسلم عن أبي سعيد "كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي – - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى مما يطيلها (ويقرأ في الأخريين) تثنية أخرى (بفاتحة الكتاب) من غير زيادة عليها (متفق عليه). وفي لفظ "كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب ويسمعنا الآية أحيانًا ويطول، وفي الركعة الأولى ما لا يطيل في الثانية. وهكذا في العصر. وهكذا في الصبح" فدل على أنه هو السنة في جميع الصلوات. وفيه دليل على مشروعية قراءة الفاتحة في الأربع الركعات في كل واحدة كما تقدم. ولهما عن جابر قال عمر لسعد لقد شكوك في كل شيء قال أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال صدقت ذلك الظن بك. وهذا الخبر يحتمل

ما هو أعم من القراءة كالأذكار والركوع والسجود. قال شيخ الإسلام ويستحب إطالة الركعة الأولى من كل صلاة على الثانية. ويستحب أن يمد في الأوليين ويحذف في الأخريين لهذا الخبر. وعامة فقهاء الحديث على هذا اهـ. وما روى مسلم عن أبي سعيد "كنا نحزر قيام رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر (ألم تنزيل) السجدة. وفي الأخريين قدر النصف من ذلك. وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر. والأخريين على النصف من ذلك": فحزر وتقدير، وظاهر حديث أبي قتادة أنه لا يزيد في الأخريين من الظهر على أم الكتاب وهو متفق على صحته وخبر مجزوم به فيتعين الأخذ به. ويحتمل أنه – - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك لما أخرجه مالك "أن أبا بكر رضي الله عنه قرأ في ثالثة المغرب {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} الآية" قال الموفق وغيره أكثر أهل العلم يرون أنه لا تسن الزيادة على فاتحة الكتاب في غير الأوليين من كل صلاة. قال ابن سيرين لا أعلم أنهم يختلفون في أنه يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة. وفي الأخريين بفاتحة الكتاب وهو قول مالك وأحمد وأصحاب الرأي واحد قولي الشافعي. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب فإن زاد على الفاتحة لم يكره. (وعن سليمان بن يسار) مولى ميمونة أم المؤمنين أخي عطاء وأحد الفقهاء السبعة المتوفى سنة مائة من الهجرة (قال

كان فلان) يريد عمرو بن سلمة وكان أميرًا على المدينة (يطيل الأوليين من الظهر ويخفف العصر) ولعله في الغالب وإلا فقد تكون العصر طول الظهر إذا قرأ في الظهر بالليل والغاشية ونحوها. أو تقارب وتقدم الكلام فيهما (ويقرأ في المغرب بقصار المفصل) اسم مفعول من فصلت الشيء جعلته فصولاً متمايزة ومنه سمي حزب المفصل لفصل بعضه من بعض. أو لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة. أو لأحكامه. وهو الحزب السابع من القرآن لما روى أبو داود عن أوس سألت أصحاب رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - كيف تحزبون القرآن قالوا ثلاثًا. وخمسًا. وسبعًا. وتسعًا. وإحدى عشرة. وثلاث عشرة وحزب المفصل واحد والأكثر على أن قصار المفصل من الضحى إلى آخره (وفي العشاء بوسطه) أي وسط المفصل من عم إلى الضحى (وفي الصبح بطواله) من ق إلى عم عند الأكثر. (فقال أبو هريرة ما صليت وراء إمام قط) ظرف مبني على الضم أي ما صليت وراء إمام فيما مضى من عمري (أشبه صلاة) في معظم الصلاة أو أكثر الأحوال لا دائمًا ولا في جميع أجزائها (برسول الله) أي بصلاة رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (من هذا) أي ما أشبه صلاته بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم و (صححه الحافظ) اشتهر بهذا اللقب واسمه أحمد بن علي الكناني الشافعي المعروف بابن حجر العسقلاني المتوفى سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة. وقال الشيخ

محمد بن عبد الوهاب في مجموع الحديث رواته ثقات. وقال غير واحد من أهل العلم. السنة أن يقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصل. ويكون الصبح أطول. وفي العشاء والعصر بأوسطه. وفي المغرب بقصاره. والحكمة في تطويل الصبح لأن الناشئة أشد مواطأة للقلب واللسان ويشهد هذه الصلاة ملائكة الليل وملائكة النهار. ولأنها هي والظهر وقت غفلة بالنوم في آخر الليل والقائلة. فتطويلهما ليدرك المتأخرون لغفلة أو نوم ونحوهما. وتخفيف العصر لكونها وقت العمل. والمغرب لحاجة الناس إلى عشاء صائمهم وضيفهم ووقتها ضيق. والعشاء لغلبة النوم إلا أن وقتها متسع فأشبهت العصر. وهديه – - صلى الله عليه وسلم - أن لا يقتصر على قصاره في المغرب والمداومة على ذلك خلاف السنة. ولعل مرادهم في الغالب. وقد أنكر زيد بن ثابت على مروان مواظبته على قصار المفصل ولو كان الأمر كذلك لما سكت مروان. وقال ابن عبد البر وغيره ثبت أنه قرأ في المغرب بالمص وبالصافات والدخان وسبح والتين والمرسلات وكان يقرأ فيها بقصار المفصل. وتقدم أنه كان يطول في الظهر والفجر ويأتي أنه كان يقرأ فيها بـ (ألم) السجدة و (هل أتى على الإنسان). وفي صحيح مسلم أنه كان يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك. وفي الصبح أطول من ذلك. وقصة معاذ

يكفيك أن تقرأ بـ (الشمس وضحاها) و (الليل إذا يغشى) و (سبح اسم ربك الأعلى) وإن قرأ على خلاف ذلك في بعض الأوقات فحسن لما ثبت عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - من قوله وفعله. (وعن حذيفة قال كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه) أي حال ركوعه في فرض ونفل (سبحان ربي العظيم) الذي لا أعظم منه تبارك وتعالى (و) يقول (في سجوده سبحان ربي الأعلى) ووصفه تعالى بأفعل التفضيل في هذه الحال في غاية المناسبة ولهذا "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" لأنه أذل ما يكون لربه وأخضع له (رواه مسلم) ورواه الخمسة وصححه الترمذي وغيره. وهذا الحديث مفسر لحديث عقبة أنه لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم) قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "اجعلوها في ركوعكم" ولما نزلت (سبح اسم ربك الأعلى) قال "اجعلوها في سجودكم" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وغيرهم والحديثان يدلان على مشروعية هذا التسبيح في الركوع والسجود. ومذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد وجمهور العلماء أنه سنة وقال أبو حامد هو قول العلماء عامة لحديث المسيء. فلو كان واجبًا لأمره به. وعن أحمد وجمهور أهل الحديث أنه واجب مرة للأمر به. ولمسلم عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "ألا وإني نهيت

أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا" لأن القراءة أشرف الذكر فناسب أشرف الذكر في أشرف الأحوال وهو حالة القيام. قال "فأما الركوع فعظموا فيه الرب. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أنه يستجاب لكم" فهذه أحاديث صحيحة: صريحة في الأمر به وظاهرها الوجوب وهذا مذهب أحمد وقيل أدنى الكمال ثلاث قال ابن القيم. وحديث تسبيحه في الركوع والسجود ثلاثًا لا يثبت. والأحاديث الصحيحة بخلافه اهـ. وقال أنس كان عمر بن عبد العزيز أشبه الناس بصلاة رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وكان مقدار تسبيحه عشرًا وعن عائشة قالت "كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي" ولا ينافي التعظيم في الركوع لأنه زيادة على التعظيم ولأن المطلوب أن يكون التعظيم معظمه والدعاء معظم السجود. وإن دعا في ركوعه وسجوده بغير ذلك مما ورد فحسن ومنه "اللهم إني لك سجدت" إلخ و "اللهم إني لك ركعت". (وله عن ابن عباس كان – - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع قال اللهم ربنا لك الحمد) وهو في الصحيحين وغيرهما من غير وجه ومجمع على أنه مشروع في حق كل مصل بعد قول إمام ومنفرد سمع الله لمن حمده. لما في الصحيحين وغيرهما أنه كان – - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك وقال "صلوا كما رأيتموني أصلي" وقال لبريدة "إذا رفعت رأسك من الركوع فقل سمع الله لمن حمده ربنا ولك

الحمد أي أجاب تعالى وسمع سمع قبول وإجابة لمن حمده. فاستجب ربنا ولك الحمد علي ذلك والواو عاطفة علي مقدر بعد قول ربنا وهو استجب أو حمدناك فجمع بين الدعاء والاعتراف. والحديث أيضاً لمسلم. عن أبي سعيد بلفظ ربنا بك الحمد. وفي الصحيح عن أنس وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد جمعاً بين اللهم والواو. ولهما من حديث أبي هريرة فقولوا ربنا لك الحمد. ويجمع بينهما الإمام والمنفرد، والمأموم ربنا ولك الحمد فقط. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وجمهور أهل العلم 0 ثم أخبر عن هذا الحمد بقوله (ملء السموات وملء الأرض) أي حمداً ملء العالم العلوي والسفلي وما بينهما (وملء ما شئت) أي وملء غير السموات والأرض مما شئت مما لا علم للعباد به (من شئ بعد) بالضم للقطع عن الإضافةٍ ونية المضاف إليه و (أهل) بالنصب على الاختصاص أو النداء أو بالرفع أي أنت أهل (الثناء) يعني الوصف بالجميل والمدح (والمجد) العظمة ونهاية الشرف (أحق) بالرفع خبر مبتدأ محذوف (ما قال العبد) ما مصدرية فما قال في موضع المصدر تقديره هذا أي قول ربنا ولك الحمد أحق قول العبد (وكلنا لك عبد) مملوك خاضع متذلل. (لا مانع لما أعطيت) أي لا حائل بيننا وبين محض

فضلك (ولا معطي لما منعت) أي لما حرمتنا إياه والمنع ضد الإعطاء (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي لا ينفع ذا الحظ منك حظه وغناه. وإنما ينفعه العمل الصالح. وعن رفاعة كنا نصلي وراء النبي – - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه. فلما انصرف قال من المتكلم قال رجل أنا قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول رواه البخاري" ولمسلم أيضًا أنه – - صلى الله عليه وسلم - كان يقول "اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينق الثوب الأبيض من الدنس" وكان عليه الصلاة والسلام يقول "لربي الحمد لربي الحمد" يكررها. (وعن وائل بن حجر قال رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه) وعن أنس قال رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "انحط بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه" رواه الدارقطني والبيهقي والحاكم وفيه مشروعية وضع الركبتين قبل اليدين. قال ابن القيم وهذا هو الصحيح ولم يرو من فعله – - صلى الله عليه وسلم - ما يخالف ذلك. ولحديث أبي هريرة "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع ركبتيه قبل يديه" رواه الأثرم وابن أبي شيبة ولفظه "إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك بروك الفحل". ورواية "يديه قبل ركبتيه" لعله منقلب على بعض الرواة وأصله. ليضع ركبتيه قبل يديه يدل عليه أول الحديث وآخره من

رواية ابن أبي شيبة وغيره. وروي عن بعض الصحابة ما يوافق ذلك. ولم ينقل عنهم خلافه وهو قول جمهور السلف وحكاه أبو الطيب عن عامة الفقهاء والخطابي عن أكثرهم وابن المنذر عن عمر وغيره وسفيان والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي. (وإذا نهض) يعني من السجود للإتيان بالركعة الثانية (رفع يديه قبل ركبتيه" رواه الأربعة) ورواه ابن خزيمة وابن السكن في صحيحهما وغيرهم. ولأبي داود "نهي أن يعتمد على يديه إذا نهض في الصلاة" وقال علي "من السنة أن لا يعتمد بيديه على الأرض إلا أن يكون شيخًا كبيرًا لا يستطيع" وفيها مشروعية رفع اليدين عند النهوض قبل رفع الركبتين. وجاء عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه ينهض في الصلاة على صدور قدميه. قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم. وروى ابن أبي شيبة وغيره من غير وجه أن أصحاب رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ينهضون في الصلاة على صدور أقدامهم. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي وغيرهم عن غير واحد من أكابر الصحابة. وما روي أنه – - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه جلس واعتمد على الأرض ففي حالة الكبر. ولا خلاف في جوازه لكبر أو مرض أو ضعف ونحوه وبه تجتمع الأدلة وأما جلسة الاستراحة فلم يذكرها كل واصف لصلاته – - صلى الله عليه وسلم -. ومجرد فعلها لا يدل على أنها من سنن الصلاة. قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم ويحمل.

أيضًا أنه في آخر عمره عند كبره جمعًا بين الأخرا، وهو اختيار شيخ الإسلام وغيره. (وعن ابن عباس أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) سمى كل واحد عظمًا وإن اشتمل على عظام باعتبار الجملة وفي لفظ "أمر النبي – - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد على سبعة أعضاء" والعضو كل عظم وافر من الجسد وفسرها بقوله (الجبهة) ما بين الحاجبين إلى الناصية (وأشار بيده إلى أنفه) وللنسائي قال ابن طاوس ووضع يده على جبهته وأمرها على أنفه وقال هذا واحد. قال القرطبي هذا يدل على أن الجبهة الأصل في السجود والأنف تبع لها. ولمسلم "الجبهة والأنف". وحكى ابن المنذر إجماع الصحابة أنه لا يجزئ السجود على الأنف وحده وذهب أحمد وجمهور الفقهاء إلى أنه يجب أن يجمع بينهما. واحتج أبو حنيفة بأن الإشارة تدل على أنه المراد ولا شك أن الجبهة والأنف حقيقة في المجموع. وقوله عليه الصلاة والسلام "الجبهة والأنف" جعلا لهما كالعضو الواحد. ولو كان كل واحد منهما عضوًا مستقلاً للزم أن تكون الأعضاء ثمانية. ولأحمد من حديث وائل "رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يسجد على الأرض واضعًا جبهته وأنفه". (واليدين) والمراد بهما الكفان ولمسلم من حديث البراء "إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك" وللترمذي "أمر

بوضع اليدين ونصب المرفقين" وقال وهو الذي أجمع عليه أهل العلم واختاروه (والركبتين) موصل ما بين أسافل أطراف الفخذ وأعالي الساق (وأطراف القدمين) أي أن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما وعقباه مرتفعتان فيستقبل بظهور قدميه القبلة (متفق عليه) وتقدم في حديث أبي حميد "واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة". فيشرع أن يسجد على رجليه ثم ركبتيه يضعهما على الأرض قبل يديه لما تقدم من قوله "ثم يديه" وكان – - صلى الله عليه وسلم - يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه باسطًا كفيه وأصابعه لا يفرج بينهما ولا يقبضهما. ثم يضع الجبهة مع الأنف. قال الترمذي وهو الذي اختاره أهل العلم أن تكون يداه قريبًا من أذنيه قال الموفق والجميع حسن. والخبر يدل على وجوب السجود على الأعضاء السبعة وهو إجماع إلا ما تقدم عن أبي حنيفة في الأنف أو الجبهة. والسجود على هذه الأعضاء السبعة هو غاية خشوع الظاهر. وأجمع العبودية لسائر الأعضاء وفرض أمر الله به ورسوله وبلغه رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - الأمة بقوله وفعله. ومن كمال هذا السجود مباشرة المصلي بأديم وجهه فيعفره بالتراب استكانة وتواضعًا. والاعتماد على الأرض بحيث ينالها ثقل رأسه. ومن كماله ارتفاع أسافله على أعاليه تذللاً بين يدي ربه وانكسارًا له. وتقدم قوله "فيمكن وجهه وجبهته حتى تطمئن مفاصله

ويسترخي" ولذلك إذا رأى الشيطان ابن آدم ساجدًا "اعتزل ناحية يبكي ويقول يا ويله أمر بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار" وفي الأثر ما من حالة يكون عليها العبد أحب إلى الله من أن يراه ساجدًا يعفر وجهه بالتراب. وثبت من طرق "ما سجد العبد من سجدة إلا كتب له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة" وشرع تكرير السجود في كل ركعة لأنه أبلغ ما يكون في التواضع وأفضل أركان الصلاة الفعلية وسرها الذي شرعت لأجله وخاتمتها وغايتها وثمرتها وما قبله مقدمات له فكان تكرره أكثر من تكرر سائر الأركان والأحاديث في فضله والحث عليه وعظيم أجره كثيرة معلومة. (وفي السنن) أي سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم وحسنه النووي وصححه الحاكم (عنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين) أي حال اعتداله من السجدة الأولى. وتقدم أنه ركن يجلس فيه على رجله اليسرى وينصب اليمنى لحديث أبي حميد وعائشة وغيرهما فيقول (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني). قال ابن القيم لما فصل بركن بين السجدتين شرع فيه من الدعاء ما يليق به ويناسبه وهو سؤال المغفرة والرحمة والهداية والعافية والرزق. وفي السنن وغيرها بسند جيد من حديث

حذيفة. كان يقول بين السجدتين "رب اغفر لي رب اغفر لي". وله أن يدعو بغير ذلك واختار الشيخ الدعاء بما ورد وقال الكمال فيه كالكمال في تسبيح الركوع والسجود وكان عليه الصلاة والسلام يطيل فيه بقدر السجود. (وعن ابن عمر أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قعد للتشهد) أي جلس للتشهد جلس فيه كجلوسه بين السجدتين يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى. وإن كان في التشهد الأخير قعد على مقعدته كما تقدم والجلوس للتشهد الذي يعقبه السلام ركن من أركان الصلاة لا تتم إلا به. قال الوزير اتفقوا على أن الجلسة في آخر الصلاة فرض من فروض الصلاة. (وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى واليسرى على اليسرى) وللخمسة من حديث وائل "وضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى". والأحاديث بوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى واليسرى على اليسرى مستفيضة وهو مجمع عليه (وعقد ثلاثة وخمسين) في أعداد كانت معروفة عند العرب بأن تكون الثلاثة مضمومة إلى أدنى الكف لا مقبوضة والإبهام مفتوحة تحت المسبحة معطوفة على طرف الراحة. وللخمسة من حديث وائل "ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة". وفي لفظ "وحلق إبهامه مع الوسطى". ولمسلم من حديث ابن الزبير "ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى" وورد غير ذلك.

وقال ابن القيم الروايات المذكورة كلها واحدة فإن من قال قبض أصابعه الثلاث أراد به أن الوسطى كانت مضمومة ولم تكن منشورة كالسبابة. ومن قال قبض اثنتين أراد أن الوسطى لم تكن مقبوضة مع البنصر بل الخنصر والبنصر متساويتان في القبض وقد صرح بذلك من قال وعقد ثلاثة وخمسين. فإن الوسطى في هذا العقد تكونمضمومة ولا تكون مقبوضة مع البنصر (واشار بأصبعه السبابة) لا بغيرها ولو عدمت (رواه مسلم) وأحمد والنسائي وغيرهم. وسميت سبابة لتحريكها وقت السب. وسباحة لأنه يشير بها للتوحيد، والحكمة في الإشارة بها ليجمع في توحيده بين القول والفعل والاعتقاد، وفي حديث وائل "ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها" قال ابن القيم كان لا ينصبها نصبًا ولا ينيمها بل يحنيها شيئًا ويحركها. وينبغي أن ينظر إليها لخبر ابن الزبير وأحاديث الإشارة بها في التشهد بلغت حد التواتر. وكذا ينبغي الإشارة بها إذا دعا في صلاة وغيرها للخبر. (وعن ابن مسعود أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال إذا قعد أحدكم في الصلاة) يعني في التشهد (فليقل) أي سرًا إجماعًا لقول ابن مسعود من السنة إخفاء التشهد رواه الترمذي وغيره وقال العمل عليه عند أهل العلم. وفي لفظ علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن، وكذا في حديث ابن عباس وفي لفظ علمه التشهد وأمره أن يعلمه

الناس وفي لفظ كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد السلام على الله من عبادة، فقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام. ولكن قولوا (التحيات) أي جميع التعظيمات (لله) ملكًا واستحقاقًا وكان ملوك الأرض يحيون بتحيات متنوعة فقيل للمسلمين في هذه الجلسة التي تمثل في الخدمة بين يدي الله عز وجل جاثيًا على الركب كهيئة الملقي نفسه بين يدي سيده راغبًا وراهبًا معتذرًا إليه قولوا "التحيات لله" فهو سبحانه أولى بالتعظيمات من كل من سواه، فإن التحيات تتضمن العظمة والحياة والبقاء والدوام وغير ذلك مما لا يستحقه إلا الحي الباقي الذي لا يموت ولا يزول ملكه تبارك وتعالى (والصلوات) أي الخمس أو العبادات كلها التي يراد بها تعظيم الله كلها لله وحده وهو مستحقها ولا تليق بأحد سواه. (والطيبات) أي الأعمال الصالحة لله أو الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات والأسماء ونحو ذلك مما هو ثناء على الله وكل عمل تعمله فهو كله لا حق فيه لغير الله (السلام) اسم من أسماء الله لسلامته تعالى من كل نقص وعيب. وإذا كان اسم الله يذكر على الأعمال توقعًا لاجتماع معاني الخيرات فيه وكان المقام مقام طلب السلامة أتى في لفظها بصيغة اسم السلام الذي تطلب منه السلامة. والسلام في الأصل مصدر بمعنى السلامة واسم من التسليم أو

سلام الله (عليك أيها النبي) دعاء له – - صلى الله عليه وسلم - بالسلامة وتضمن معنيين ذكر الله وطلب السلام والنبيء بالهمز من النبأ لأنه مخبر عن الله وبلا همز إما تسهيلاً أو من النبوة وهي الرفعة أو الطريق لأنه الطريق إلى الله، وهو من ظهرت المعجزة على يده وقارن ظهورها دعوى النبوة ولم يؤت نبي قبله – - صلى الله عليه وسلم - ولا رسول معجزة إلا وله مثلها وزيادة. بل دلائل نبوته – - صلى الله عليه وسلم - لا تحصر (ورحمة الله وبركاته) جمع بركة وهي النماء والزيادة وخصوه أولاً بالسلام عليه لعظم حقه عليهم وقدموه على التسليم على أنفسهم لذلك ثم أتبعوه بالسلام عليهم في قولهم: (السلام علينا) أي الحاضرين من الإمام والمأموم والملائكة لأن الاهتمام بهم أهم. ثم أردفوه بتعميم السلام في قولهم: (وعلى عباد الله الصالحين) جمع صالح وهو القائم بما عليه من حقوق الله وحقوق عباده وفي رواية "فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض" قال الترمذي من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة فليكن عبدًا صالحًا وإلا حرم هذا الفضل العظيم. (أشهد أن لا إله إلا الله) أي أجزم واقطع أن لا معبود بحق إلا الله وحده فالشهادة خبر قاطع والقطع من فعل القلب واللسان مخبر بذلك. وإن كان ابتداء هذه الكلمة العظيمة نفيًا فالمراد به الإثبات ونهاية التحقيق إثبات الألوهية الحقة لله تعالى

وحده ونفيها عن كل ما سواه فهي كلمة التوحيد والعروة الوثقى وكلمة التقوى والصراط المستقيم ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ولا يصح لعبد دين إلا بها. والمراد معرفة معناها والعمل بمقتضاها لا مجرد قولها باللسان. (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) بصدق ويقين وذلك يقتضي متابعته – - صلى الله عليه وسلم - وأتى بهاتين الصفتين رفعًا للإفراط والتفريط ولفظهما ثبت في جميع الأصول الستة وغيرها وإضافتهما إلى الله إضافة تشريف وتكريم (متفق عليه) وقال البزار والذهبي وغيرهما أصح حديث في التشهد حديث ابن مسعود روي من نيف وعشرين طريقًا. قال الحافظ والبغوي لا خلاف في ذلك. وقال مسلم اتفق الناس عليه. وقال الترمذي والعمل عليه عند أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء وأهل الحديث التشهد به أفضل لمرجحات كثيرة منها الاتفاق على صحته وتواتره وهو أصح التشهدات واشهرها ولأمره – - صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود أن يعلمه الناس وكونه محفوظ الألفاظ لم يختلف في حرف منه. وكون غالبها يوافق ألفاظه فاقتضى أنه هو الذي يأمر به النبي – - صلى الله عليه وسلم - غالبًا. واتفق العلماء على جواز التشهدات الثابتة كلها. وقال شيخ الإسلام كلها سائغة باتفاق المسلمين. وظاهر الأمر به يقتضي وجوبه. وقال عمر لا تجزئ صلاة

إلا بتشهد وصرح بفرضيته راويه. وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما ولا نزاع في مشروعيته لنقل الخلف عن السلف عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - نقلاً متواترًا. والأولى تخفيف التشهد الأول وعدم الزيادة عليه لحديث: "كان يجلس في الأوليين كأنه على الرضف" رواه أبو داود وغيره. ولحديث: "نهض حين فرغ من تشهده" قال الطحاوي: من زاد عليه فقد خالف الإجماع وقال أحمد من زاد عليه فقد أساء. وهو واجب عنده وعند الشافعية يسجد لتركه. (ولهما عن كعب بن عجرة) بن عدي البلوي ثم القضاعي حليف الأنصار نزل الكوفة وتوفي بالمدينة سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين وله خمس وسبعون (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -) خرج عليهم فقالوا قد عرفنا كيف نسلم عليك. فكيف نصلي عليك، ولمسلم عن أبي مسعود " أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك" ولأحمد وابن خزيمة "إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا فـ (قال قولوا اللهم صل على محمد) والصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملإ الأعلى كما حكاه البخاري عن أبي العالية وأمرنا الله أن نصلي عليه – - صلى الله عليه وسلم - ليجتمع له ثناء أهل السماء والأرض. (وعلى آل محمد) تقدم أنهم أهل بيته أو أتباعه. وفي لفظ: "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته" وقيل هم القرابة من غير تخصيص وإليه ذهب جماعة من أهل العلم. ولا شك

أنهم أحق من غيرهم، وتجوز الصلاة على غير النبي – - صلى الله عليه وسلم - منفردًا إذا لم يكثر ولم يتخذ شعارًا (كما صليت على آل إبراهيم) إسماعيل وإسحاق وأولادهما، وروي "على إبراهيم وآل إبراهيم". واستشكل التشبيه هنا بعض أهل العلم وذكروا فيه أقوالاً ولعل المراد بالتشبيه في الصلاة لا في القدر. وقال ابن القيم شرعت الصلاة على آل محمد – - صلى الله عليه وسلم - مع الصلاة عليه تكميلاً لقرة عينه بإكرام آله والصلاة عليهم, وأن يصلي عليه وعلى آله كما صلي على أبيه إبراهيم وآله والأنبياء كلهم بعد إبراهيم من آله. ولذلك كان المطلوب لرسول الله – - صلى الله عليه وسلم - صلاة مثل الصلاة على إبراهيم وعلى جميع الأنبياء من بعده وآله المؤمنين فلهذا كانت هذه الصلاة أكمل ما صلي عليه بها وأفضل، فحصل له أعظم مما حصل لإبراهيم وغيره، وإذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به وله نصيب وافر من المشبه ظهر به فضله على كل الأنبياء بما هو اللائق به, وإبراهيم هو الخليل عليه السلام ابن آزر ولد قبل المسيح بألفي عام ومعناه أب رحيم. (إنك حميد) أي محمود على كل حال مستحق لجميع المحامد (مجيد) أي ماجد والماجد هو المتصف بالمجد وهو كمال الشرف والكرم والصفات المحمودة. قال ابن عبد البر وغيره الصلاة على رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - رويت من طرق متواترة بألفاظ متقاربة اهـ. وأوجبه طائفة من أهل العلم من الصحابة

والتابعين والفقهاء وهو مذهب الشافعي في التشهد الذي يعقبه السلام للآية والأخبار، وعند أحمد وجماعة أنه ركن. وعن فضالة سمع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في صلاته ولم يحمد الله ولم يصل على النبي – - صلى الله عليه وسلم - فقال عجل هذا ثم دعاه فقال: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصلي على النبي – - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو بما شاء" صححه الترمذي فالدعاء بعده مشروع إجماعًا (وبارك على محمد) البركة الثبوت والدوام أي أثبت له وأدم ما أعطيته من الشرف والكرامة (وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم) وروي إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين (إنك حميد مجيد) محمود على كل حال متصف بالمجد وهو كمال الشرف. (وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا تشهد أحدكم) ولمسلم "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير" (فليستعذ بالله من أربع) وأجمعوا على سنيته وقيل بوجوبه والتعوذ بالإلتجاء والاعتصام، وفي الصحيحين عن عائشة كان يدعو في صلاته (يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) لفظة أعجمية وقيل عربية سميت بها لبعد قعرها من الجهومة وهي الغلظ وقدمه لأنه أشد وأبقى وتواترت الأحاديث بالإستعاذة منها، والعذاب في الأصل الضرب والنكال والعقوبة ثم استعمل في كل عقوبة مؤلمة.

(وأعوذ بك من عذاب القبر) وتواترت أيضًا بالاستعاذة من عذاب القبر، والإيمان به وبنعيمه من أصول أهل السنة والجماعة. قال الشيخ ويقع على الأبدان والأرواح إجماعًا وقد ينفرد أحدهما (ومن فتنة المحيا والممات) الحياة والموت ففي الحياة ما يعرض للإنسان من الابتلاء والافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات ونحو ذلك، والممات عند الموت أضيف إليه لقربه منه أو فتنة القبر وما بعده وقد تواترت الأحاديث بالاستعاذة منه. وفي حديث الكسوف "إنكم تفتنون في قبوركم" ومنه سؤال الملكين ولا يكون تكرارًا لعذاب القبر لأن عذاب القبر متفرع على ذلك. (ومن فتنة المسيح الدجال) بالحاء المهملة على المعروف وقيل بالخاء قال أبو الهيثم وغيره المسيح بالمهملة ضد المسيخ بالمعجمة عيسى مسحه الله إذ خلقه خلقًا حسنًا ومسخ الدجال إذ خلقه خلقًا ملعونًا اهـ. سمي بذلك لمسحه الارض ذهابه فيها أو لأنه ممسوح العين اليمنى أعورها. قال عليه الصلاة والسلام (إنه أعور) وسمي دجالاً لخدعه أو لكذبه أو لتمويهه على الناس وتلبيسه من الدجل وهو التغطية (متفق عليه). وهذه الأربع هي مجامع الشر كله فإن الشر إما عذاب الآخرة وإما سببه. والعذاب نوعان عذاب في البرزخ وعذاب في الآخرة وأسبابه الفتنة وهي نوعان. كبرى وصغرى. فالكبرى فتنة الدجال وفتنة الممات. والصغرى فتنة الحياة التي

يمكن تداركها بالتوبة بخلاف فتنة الممات وفتنة الدجال فإن المفتون فيهما لا يتداركهما فأمرنا الله بالتعوذ منها. وفي حديث عائشة " اللهم إني أعوذ بك من المغرب والمأثم" وتقدم أمره – - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء بما أحب وبما شاء. وقال الشيخ الدعاء في آخرها قبل الخروج مشروع مسنون بالسنة المستفيضة وإجماع المسلمين اهـ. وقد كان غالب دعائه - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد قبل السلام. وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها، وهو اللائق بحالة المصلي فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة فلا ينبغي للعبد أن يترك سؤال مولاه في حال مناجاته والقرب منه والإقبال عليه. وآكده عند خروجه من هذه العبادة على هذه الهيئة إذ كان منطرحًا فيها بين يدي ربه، وقد شرع له أمام استعطافه كلمات التحيات مقدمة بين يدي سؤاله فكأنه توسل إلى الله بعبوديته وبالثناء عليه والشهادة بالوحدانية ولرسوله – - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة ثم الصلاة على رسوله، ثم قيل له تخير من الدعاء أحبه إليك فهذا الحق الذي عليك وهذا الحق الذي لك. وفي الصحيحين عن أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- أنه قال لرسول الله – - صلى الله عليه وسلم - علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال قل: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" وقال علي كان آخر ما يقول بين التشهد والسلام "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به

مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت" ومنه قوله: "اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره" وغيره ذلك مما ورد. (وعن ابن مسعود أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن يساره) يقول ملتفتًا عن يمينه: (السلام عليكم ورحمة الله) ويقول ملتفتًا عن يساره (السلام عليكم ورحمة الله) حتى يرى بياض خده (رواه الخمسة) وغيرهم (وصححه الترمذي) وقال العمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وأصله في مسلم وله من حديث عامر بن سعد عن أبيه قال: كنت أرى النبي – - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده" قال أحمد ثبت عندنا من غير وجه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده قال العقيلي والأسانيد صحاح ثابتة في حديث ابن مسعود ولا يصح في تسليمه واحدة شيء. وقال البزار روي عن ابن مسعود من غير وجه. وفي الباب أحاديث كثيرة وأجمع العلماء على مشروعيتهما وهو فعله الراتب – - صلى الله عليه وسلم - وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وقال ابن القيم ثبتت بها السنة الصحيحة المحكمة عن خمسة عشر صحابيًا ما بين صحيح وحسن عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - وقال البغوي التسليمة الثانية زيادة من ثقات يجب قبولها والواحدة غير ثابتة عند أهل النقل فيسلم وهو جالس ندبًا إجماعًا يبتدئ السلام

متوجهًا إلى القبلة وينهيه مع تمام التفاته وهو سنة فيهما. (ولهم) أي للخمسة (إلا النسائي عن علي مرفوعًا تحريمها) أي تحريم الصلاة (التكبير) لا تحريم لها غيره وتقدم (وتحليلها التسليم) أي تحليل ما كان حرامًا فيها حاصل بالتسليم جعل تحليلاً لها يخرج به المصلي كما يخرج بتحليل الحج منه، وليس لها تحليل سواه ولا يخرج من الصلاة بدونه. وهو منها وأحد أركانها. قال النووي وغيره جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنه واجب. وقالوا أيضًا إن السلام للتحليل من الصلاة ركن من أركانها وفرض من فروضها لا تصح إلا به هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير السلف والخلف والأحاديث الصحيحة المشهورة مصرحة بذلك. قال في محاسن الشريعة فيه معنى لطيف كأن المصلي مشغول عن الناس ثم أقبل عليهم كغائب حضر. اهـ. والحكمة أنه ما دام في صلاته فهو في حمى مولاه فإذا انصرف ابتدرته الآفات فإذا انصرف مصحوبًا بالسلام الذي جعل تحليلاً لها لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقت الأخرى وجعل هذا التحليل دعاء الإمام لمن وراءه بالسلامة التي هي أصل كل خير وأساسه. وشرع لمن وراءه أن يتحلل بمثل ما تحلل به وذلك دعاء له وللمصلين معه. ثم شرع لكل مصلي

فصل في الذكر بعدها

وإن كان منفردًا لتوقف الخروج إلا به ولقوله: "إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه عن يمينه وعن شماله السلام عليكم ورحمة الله فإذا قلت ذلك فقد قضيت صلاتك". فينوي به الخروج من الصلاة والسلام على الحفظة وعلى الحاضرين. وينبغي له حذف السلام وأن يقف على آخر كل تسلميه لحديث أبي هريرة صححه الترمذي وعليه أهل العلم وقال النخعي التكبير جزم والسلام جزم فيسكن الهاء من لفظ الجلالة. فصل في الذكر بعدها أي في الدعاء والذكر المشروع بعد الصلاة وقد أجمع العلماء على استحبابه بعدها. (عن ثوبان) مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابي مشهور اشتراه ثم أعتقه فخدمه إلى أن مات. يقال أنه من حكمي بن سعد بن حمير مات بالرملة سنة أربع وخمسين (قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته) أي سلم منها (استغفر ثلاثًا) بلفظ استغفر الله. وقيل للأوزاعي كيف الاستغفار قال تقول استغفر الله، استغفر الله وهو إشارة إلى أن العبد لا يقوم بحق عبادة مولاه لما يعرض له من الوساوس والخواطر فشرع له الاستغفار ثلاثًا يبدأ به قبل كل شيء بعد السلام حال

قعوده تداركًا لذلك. وشرع له أن يضيف ربه بالسلام ويعظمه ويمجده. (وقال) يعني رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - عقب الاستغفار ثلاثًا (اللهم أنت السلام ومنك السلام) الأول من أسماء الله تعالى والثاني نطلب السلامة من شرور الدنيا والآخرة (تباركت) بلغت في البركة نهايتها (يا ذا الجلال والإكرام العظمة والكبرياء والغنى المطلق والفضل التام (رواه مسلم والخمسة وغيرهم وهذا من عظائم صفاته تعالى، ولذا قال – - صلى الله عليه وسلم - "ألظوا" أي إلزموا وثابروا "بياذا الجلال والإكرام" ومر – - صلى الله عليه وسلم - برجل يصلي وهو يقول يا ذا الجلال والإكرام فقال قد استجيب لك. (وعن عبد الله بن الزبير أنه كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة –حين يسلم- لا إله إلا الله وحده لا شريك له) في ألوهيته ولا ند له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله (له الملك) ظاهرًا وباطنًا (وله الحمد) في الأولى والآخرة (وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن) على ذاته وصفاته وأفعاله (لا إله إلا الله مخلصين له الدين) أي مخلصين العبادة لله وحده لا شريك له والدين اسم لجميع ما يتعبد به (ولو كره الكافرون) جميعهم إخلاصنا الدين لله. (قال) يعني عبد الله الزبير (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يهل بهن) أي يرفع بهن صوته وفي لفظ كان يقول بصوته الأعلى (دبر كل صلاة رواه مسلم) ودبر كل شيء آخره وعقبه. ويوضحه قوله حين يسلم فينبغي أن يلي السلام بعد الاستغفار. وفيه دلالة على مشروعيته والجهر به ففي الصحيح أن رفع الناس أصواتهم بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -. ولهما عن المغيرة بن شعبة أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت. ولا معطي لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وقال لمعاذ "لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول اللهم أعني على ذكرك وشركك وحسن عبادتك" رواه أبو داود وغيره بسند جيد وهذه الكلمات عامة لخير الدنيا والآخرة. (وله عن أبي هريرة قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - من سبح الله) أي قال سبحان الله (دبر كل صلاة) أي عقب كل فريضة (ثلاثًا وثلاثين وحمد الله) أي قال الحمد لله (ثلاثًا وثلاثين) مرة (وكبر الله) أي قال والله أكبر (ثلاثًا وثلاثين) مرة فتلك تسع وتسعون" ولهما عنه "تسبحون وتحمدون وتكبرون ثلاثًا وثلاثين فتلك تسع وتسعون" (وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد

البحر) وهو ما يعلوا عليه عند اضطرابه. وسببه أن فقراء المهاجرين قالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلي والنعيم المقيم. فقال وما ذاك قالوا يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق. ويعتقدون ولا نعتق فقال ألا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم قالوا بلى قال تسبحون" الحديث. وورد بألفاظ. قال الشيخ وغيره لعله من تصرف الرواة وهذا أجمعها. ويستحب أن يعقده. والاستغفار بالأنامل لحديث بسرة وغيره. (وعن أبي ذر مرفوعًا من قال بعد صلاة الصبح) وفي لفظ "في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم" (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت) زاد الطبراني "وهو حي لا يموت بيده الخير" (وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتب له كذا وكذا) أي كتب له عشر حسنات. ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه وحرز من الشيطان ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله رواه الخمسة وصححه الترمذي. (زاد أحمد عن معاذ والمغرب) أي قال ذلك بعد صلاة

المغرب والصبح وللترمذي والنسائي من حديث عمارة بن شبيب نحوه، وقال على أثر المغرب؛ ولأحمد وغيره نحوه من حديث أم سلمة ولا خلاف في استحبابه وأخرجه الرافعي بلفظ "إذا صليتم صلاة الفرض فقولوا عقب كل صلاة عشر مرات" الحديث. والمراد بعد قول ما تقدم في حديث ابن الزبير وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم من حديث الحارث اللهم أجرني من النار سبع مرات ويسبح بعد ذلك. ولأحمد وغيره عن أبي أمامة وغيره يقرأ سرًا بعد كل صلاة آية الكرسي وصححه في المختارة. وقال ابن القيم له طرق تدل على أن له أصلاً ويقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين لحديث عقبة رواه أهل السنن. وعن سعد بن أبي وقاص أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم الغلمان الكتابة ويقول إن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ بهن دبر الصلاة. "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمل، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر" رواه البخاري وللترمذي وصححه من حديث علي كان إذا سلم من الصلاة قال اللهم اغفر لي ما قدمت وتقدم. ولمسلم من حديث البراء كان يقول بعد الصلاة رب قني عذابك يوم تبعث عبادك، ووردت أذكار غير ما تقدم. ويستحب للعبد إذا فرغ من صلاته واستغفر الله وذكره وهلله وسبحه وحمده وكبره بالأذكار المشروعة عقب الصلاة مما

فصل فيما يكره فيها

تقدم وغيره أن يصلي على النبي – - صلى الله عليه وسلم - ويدعو بما شاء فإن الدعاء عقب هذه العبادة مستجاب، وللترمذي وصححه من حديث فضالة "إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي – - صلى الله عليه وسلم - ثم ليدع بما شاء" وقالت عائشة الذكر بعدها مثل مسح المرآة بعد صقالها فقمن أن يستجاب للداعي حينئذ. وأما دعاء الإمام مستقبل القبلة مستدبر المأمومين، فقال الشيخ وغيره بدعة، وقال لم ينقل أنه يدعو هو والمأمومون جميعًا بعد الخروج من الصلاة ولا استحب ذلك أحد من الأئمة. فصل فيما يكره فيها أي فيما يكره في الصلاة ويستحب ويباح وما يتعلق بذلك. قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون} لما أخبر تعالى أنه قد أفلح المؤمنون أثنى عليهم بهذه الصفات الجليلة التي أهمها كونهم في صلاتهم خاشعين خاضعين متذللين متضرعين. والخشوع الإخبات والتطامن والذل وهو قريب من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن، والخشوع في القلب والبصر والصوت، وأصل ذلك وأساسه حضور القلب بين يدي الرب. والثواب مشروط بحضوره وحضوره فراغه عن غير ما هو ملابس له، وهو هنا العلم بالفعل والقول الصادرين عن المصلى، وقال ابن القيم: الخشوع قيام العبد بين يدي الرب

بالخضوع والذل والجمعية عليه. وفي الأثر إذا صلى تخشع وتضرع وتمسكن وإلا فهي خداج، وفيه أول ما يرفع من هذه الأمة الخشوع، ومن فاته الخشوع لم يكن من أهل الفلاح. (وعن عائشة قالت سألت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس) أي اختطاف بسرعة على غفلة (يختلسه الشيطان من صلاة العبد رواه البخاري) سماه اختلاسًا تصويرًا لقبح تلك الغفلة بالمختلس لأن المصلي يقبل على ربه ويترصد الشيطان فوات ذلك عليه فإذا التفت اغتنم الفرصة فسلبه تلك الحال وللترمذي وغيره وصححه عن أنس مرفوعًا "إياك والالتفات في الصلاة فإنه هلكة". ولأحمد وغيره من حديث أبي ذر "لا يزال الله مقبلاً على العبد ما لم يلتفت" أي ما لم يزل مقبلاً على صلاته بقلبه ووجهه فجمع أنواع الخضوع والخشوع لأن الخضوع في الأعضاء والخشوع في القلب فإذا صرف وجهه انصرف عنه والحكمة في التحذير منه لما فيه من نقص الخشوع والإعراض عن الله. ودلت هذه الأحاديث على كراهة الالتفات في الصلاة لغير حاجة وهو إجماع. وقال ابن عبد البر جمهور الفقهاء على أن الالتفات لا يفسد الصلاة إذا كان يسيرًا ولا يكره لحاجة لفعله عليه الصلاة والسلام لما بعث طليعة إلى الشعب ولم يكن من

فعله الراتب وقال ابن شهاب، فلما نزلت {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون} جعل نظره إلى الأرض، وإن استدار بجملته أو استدبر القبلة في غير شدة خوف بطلت لتركه الاستقبال بلا عذر قال في الإنصاف بلا نزاع. (ولمسلم عن جابر قال: قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - لينتهين) أي ليتركن (أقوام) جمع قوم الجماعة من الرجال (يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة) أي إلى ما فوقهم مطلقًا (أولا ترجع إليهم) أي أو لتسلبن بسرعة وله عن أبي هريرة نحوه وللبخاري من حديث أنس "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهين أو لتخطفن أبصارهم" وفي هذه الأحاديث الوعيد الشديد في ذلك والنهي الأكيد المفيد تحريمه، وقال ابن حزم تبطل به الصلاة، واتفقوا على كراهته. ويكره تغميض عينيه لأنه فعل اليهود ومظنة النعاس لا إن احتاج إليه. قال ابن القيم ولم يكن من هديه – - صلى الله عليه وسلم - تغميض عينيه والصواب أن يقال إن كان تفتيحها لا يخل بالخشوع فهو أفضل وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه فهناك لا يكره التغميض قطعًا. والقول باستحبابه في هذه الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة.

(وفي السنن نهى عن الإقعاء) وهو أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه. وعند العرب الإقعاء جلوس الرجل على إليتيه ناصبًا قدميه مثل إقعاء الكلب. ولفظ ابن ماجه وغيره من حديث أنس "إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقع كما يقعي الكلب" وعن علي مرفوعًا "لا تقع بين السجدتين " وللبيهقي وغيره "نهى عن الإقعاء في الصلاة" ولأحمد "واقعاء كاقعاء الكلب" فيكره اتفاقًا لهذه الأخبار وغيرها ولأنه يتضمن ترك الاقتراش المسنون بالقول والفعل، ولا تبطل به الصلاة. وأما ما رواه مسلم وغيره عن ابن عباس الاقعاء على القدمين هو السنة فقال البيهقي وغيره هو أن يضع أطراف أصابع رجليه على الأرض ويضع إليتيه على عقبيه ويضع ركبتيه على الأرض يعني بين السجدتين وهذا غير ما تقدم مما نهي عنه. وقال الموفق وغيره لا أعلم أحدًا قال باستحبابه على تلك الصفة وتقدم النهي عن افتراشه ذراعيه ساجدًا. وفي الصحيحين عن أنس "اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" وذلك بأن يمدهما على الأرض ملصقًا لهما بها، ويكره أن يعتمد على يده أو غيرها وهو جالس لما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث ابن عمر "نهى أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده" وكذا يكره أن يستند إلى جدار ونحوه من غير حاجة اتفاقًا.

(وفي الصحيحين) من حديث أبي هريرة (نهي) يعني رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (أن يصلي الرجل مختصرًا) أي أن يضع الرجل يده في الصلاة على خاصرته والخاصرة ما بين الحرقفة والقصيري أو ما فوق الطفطفة والشراسيف جمعها خواصر. والخصر الوسط وهو المستدق فوق الوركين والجمع خصور، والخصر والخاصرة مترادفان. قال هشام يضع يده على خصره وهو يصلي وعلل أنه فعل الكفار أو المتكبرين. وصح أنه راحة أهل النار فلا يليق في الصلاة ولأنه فعل اليهود، وقيل أنه فعل الشيطان، فنهي عنه كراهة للتشبه باليهود أو الشيطان، ومذهب أهل الظاهر أنه محرم والجمهور أنه مكروه. (ولأحمد النهي عن التشبيك) يعني تشبيك الأصابع وهو إدخال بعضها في بعض في الصلاة ولفظه عن أبي سعيد أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان" لما فيه من العبث أو لما فيه من التشبه بالشيطان "وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه" قال في مجمع الزوائد إسناده حسن، وعن كعب بن عجرة مرفوعًا "إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامدًا إلى الصلاة فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهما. واتفق الفقهاء على كراهته فيها، وما في قصة ذي اليدين وشبك بين أصابعه، وحديث أبي موسى "المؤمن للمؤمن

كالبنيان وشبك بين أصابعه" فقيل في السهو لاشتباه الحال عليه. وفي حديث أبي موسي لقصد التشبيه وما تقدم محمول علي التشبيك للعبث وهو منهي عنه في الصلاة. وللترمذي وغيره "أنه رأى رجلاً يعبث في صلاته بلحيته فقال لو خشع قلب هذا لخشعت "ولابن ماجه" رأى رجلاً قد شبك أصابعه في الصلاة ففرج بين أصابعه " لما في ذلك من إذهاب الخشوع. (ولابن ماجه والقعقعة) أي فرقعة الأصابع في الصلاة وغمز مفاصلها حتى تصوت. ولفظه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تقعقع أصابعك في الصلاة " وهو فعل معروف في أصابع اليدين وقد يفعل في أصابع الرجلين لأنه من العبث المنهي عنه وهو مكروه اتفاقا ً وقيل حكمه النهي عنه أنه يجلب النوم. وكذا يكره فتح فمه ووضعه فيه شيئاًِ وتمطيه ونحو ذلك مما يذهب الخشوع." وإذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع "وإن غلبه غطى فمه لقوله "وليمسك بيده على فيه " رواه مسلم. (وعن أبي ذر مرفوعاً إذا قام أحدكم في الصلاة) أي دخل فيها (فلا يمسح الحصى) وفي لفظ التراب أي من محل السجود أو من جبهته "فإن الرحمة تواجهه" رواه الخمسة وحسنه الترمذي وفي الصحيحين من حديث معيقيب قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد " إن كنت فاعلاً فواحدة"

ولأحمد عن أبي ذر سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كل شيء حتى سألته عن مسح الحصى فقال " واحدة أودع أو أترك المسح " ولابن ماجه " من الجفا أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من صلاته" وللبزار نحوه. وهذه الأحاديث دلت على كراهة مسح الحصى في الصلاة وهو مذهب جمهور العلماء وحكاه النووي اتفاقاً. وروى عن مالك وغيره جوازه ورخص فيه ابن عمر وغيره مرة واحدة وفي الحديثين الإذن فيها عند الحاجة لئلا يصيبه ما يؤذيه أو يشغل باله من تراب أو حصى أو قذى أو غير ذلك. أو الحكمة أن لا يفوته حظه من الرحمة فلا يغير ما يسجد عليه. ولا علي ما يعلق بجبهته ولأنه ينافي الخشوع والتواضع ويشغل المصلي. والأولى أن يسوي موضع سجوده قبل الدخول في الصلاة والتقييد بالحصى أو التراب للغالب ولا يدل علي نفيه عما عداه. (وعن عائشة في قصة خميصة) وهي كساء مربع (لها أعلام) خطوط واحدها علم أهداها له أبو جهم ولفظه عنها أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - "صلى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف (قال اذهبوا بها) ولفظه بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بانبجانية أبي جهم" وهي كساء غليظ لا علم فيه (فإنها) أي الخميصة ذات الأعلام (ألهتني) آنفًا (عن صلاتي" متفق عليه) وفي رواية "كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة فأخاف أن يفتنني" قال ابن بطال إنما طلب منه ثوبًا

غيرها ليعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافًا به. وعن أنس قال كان قرام وهو ستر من صوف ذو ألوان لعائشة سترت به جانب بيتها فقال لها النبي – - صلى الله عليه وسلم - "أميطي عنا قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي" رواه البخاري ففيهما دلالة على كراهة ما يشغل عن الصلاة من النقوش ونحوها مما يذهل القلب ويذهب الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها وهذا إجماع وفيه مبادرته - صلى الله عليه وسلم - إلى صيانة الصلاة عما يلهي المصلي وإزالة ما يشغله عن الإقبال عليها. وقال الطيبي فيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرًا في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية فضلاً عما دونهما. وفيه كراهة الصلاة على المفارش والسجاجيد المنقوشة وكراهة تزويق المساجد ونقشها واستقبال كل ما يشغل المصلي. وقال أحمد كانوا يكرهون أن يجعلوا في القبلة شيئًا حتى المصحف اهـ. واتفق أهل العلم على كراهة استقبال ما يلهي المصلي من صورة أو نار أو وجه آدمي ونحو ذلك. قال شيخ الإسلام المذهب الذي نص عليه الأصحاب وغيرهم كراهة دخول الكنيسة المصورة، فالصلاة فيها وفي كل مكان فيه تصاوير أشد كراهة وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه ولا شك. وتقدم ذكر عدم الجواز ولأن محل الصور مظنة الشرك فإن غالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور، وكذا استقبال نار من

سراج أو قنديل أو شمعة أو نار حطب لأنه يذهب الخشوع ولما فيه من التشبه بالمجوس في عبادتهم النيران. والصلاة إليها تشبه الصلاة لها. وحكى القاضي وغيره اتفاقهم على كراهة الصلاة إلى وجه آدمي. وعزر عمر من صلى إلى وجه أدمي. وفي الصحيحين عن عائشة كان "يصلي حذاء وسط السرير وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة. وتكون لي الحاجة فأكره أن أقوم فاستقبله فانسل انسلالاً" ولأبي داود "نهى عن الصلاة إلى المتحدث" فكل ما يشغله عن حضوره فمكروه لخبر عائشة وغيره. (ولمسلم عنها مرفوعًا) يعني إلى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لا صلاة بحضرة طعام) أي تتوق نفسه إليه وكذا إذا كان تائقًا إلى شراب أو جماع فيبدأ بما تاق إليه ولو فاتته الجماعة لا الوقت. وفي الصحيحين من حديث أنس "إذا قدم العشاء فابدءوا به قبل أن تصلوا المغرب" وورد بإطلاق لفظ الصلاة والحديث دال على الوجوب والجمهور حملوه على الندب واتفقوا على كراهة ابتدائها وهو تائق إلى طعام ونحوه. (ولا وهو يدافعه الأخبثان) أي ولا صلاة والمصلي يدافعه البول أو الغائط. ويلحق بهما مدافعة الريح لأن ذلك مما يقلقه ويشغله عن حضور قلبه في الصلاة وكذا حر وبرد شديد وجوع وعطش مفرط بغير خلاف ونحو ذلك ما يزعجه ويشغل باله. قال شيخ

الإسلام وإذا كان على وضوء وهو حاقن يحدث ثم يتيمم إذ الصلاة بالتيمم وهو غير حاقن أفضل من صلاته بالوضوء وهو حاقن، وقال صلاته بالاحتقان مكروهة، وفي صحتها روايتان. وصلاة المتيمم صحيحة لا كراهة فيها بالاتفاق. اهـ فيبدأ بالخلاء ونحوه ليزيل ما يدافعه ولو فاتته الجماعة. وللحاكم والبيهقي وغيرهما لا يصلي أحدكم وهو حاقن حتى يتخفف، وألحق بذلك ما في معناه مما يمنع الخشوع الذي هو لب الصلاة، وفي الصحيح عن أبي الدرداء من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ وإن ضاق الوقت عن فعل جميع الصلاة في الوقت وجبت في جميع الأحوال وحرم اشتغاله بغيرها لتعين الوقت لها. (وعن أبي هريرة أن رسول – - صلى الله عليه وسلم - "أمر بقتل الأسودين في الصلاة الحية والعقرب) والحية تكون للذكر والأنثى. والعقرب واحدة العقارب وتسميتها بالأسودين من باب التغليب كالقمرين والعمرين ولا يسمى بالأسود في الأصل إلا الحية (رواه الخمسة وصححه الترمذي) وابن حبان والحكم وله شواهد. فدل على جواز قتل الحية والعقرب في الصلاة من غير كراهة وهو مذهب جمهور العلماء. وقال الخطابي رخص أهل العلم في قتل الأسودين في الصلاة إلا النخعي والسنة أولى ما اتبع.

وقال أحمد يجوز أن يذهب إلى النعل فيأخذه ويقتل به الحية والعقرب ثم يعود إلى مكانه. وفي الصحيحين "كان يصلي وهو حامل أمامة فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها" وصلى على المنبر وتكرر صعوده ونزوله. وأمر برد المار وفتح الباب لعائشة فكذا سائر ما يحتاج إليه المصلي من الأفعال. وله دفع عدو من سيل وسبع وسقوط جدار ونحوه وكل صائل عليه من حيوان وغيره فإن طال الفعل من غير ضرورة كحالة خوف وهرب من عدو وحكة لا يصبر عنها بطلت إجماعًا ولو سهوًا. إذا كان من غير جنس الصلاة لأنه يقطع الموالاة ويمنع متابعة الأركان ويذهب الخشوع فيها ويغلب على الظن أنه ليس فيها. وكل ذلك مناف لها أشبه ما لو قطعها. (وعن حذيفة قال صليت مع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة) فافتتح البقرة وآل عمران (فإذا مر) أي في قراءته (بآية تسبيح) أي فيها تسبيح لله تعالى (سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ رواه مسلم) ولأبي داود عن عوف نحوه ولفظ حديث عائشة عند أحمد "فلا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا الله –عز وجل- واستعاذ ولا آية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل ورغب إليه" وله من حديث أبي ليلى "فمر بذكر الجنة والنار فقال أعوذ بالله من النار. ويل لأهل النار" وأما المأموم فمأمور بالإنصات والاستماع.

قال النووي وغيره فتستحب هذه الأمور لكل قارئ في صلاة وغيرها وهو مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف. قال أحمد إذا قرأ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} في الصلاة وغيرها قال سبحانك فبلى في فرض ونفل ورواه أبو داود مرفوعًا إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال شيخ الإسلام ويقول في الصلاة كل ذكر ودعاء وجد سببه في الصلاة. قال ويحمد الله إذا عطس في نفسه. وله الفتح على إمامه للأمر به ورد السلام إشارة لأنه – - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله. (وعن سهل) بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري من مشاهير الصحابة مات بالمدينة سنة إحدى وتسعين وله مائة سنة –رضي الله عنه- (مرفوعًا إذا نابكم شيء) أي نزل بكم أمر من الأمور (في صلاتكم) كأن يريد أحدكم تنبيه الإمام على أمر سها عنه أو تنبيه المار أو من يريد منه أمرًا وهو لا يدري أنه يصلي فينبهه على أنه يصلي قال: (فلتسبح الرجال) وفي رواية من نابه شيء من صلاته فليسبح أي يقول الرجل سبحان الله وهو في البخاري بهذا اللفظ (ولتصفق النساء) يعني بظهر كفها على بطن الأخرى، وفي لفظ "وإنما التصفيق للنساء" فهو إذن وإباحة لهن في التصفيق في الصلاة عند نائبة تنوب (متفق عليه) ولهما عن أبي هريرة "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" زاد مسلم "في الصلاة" وهو المراد من السياق وذهب إلى هذا جمهور العلماء. وما روي عن مالك أن المشروع

في حق الجميع التسبيح. وعن أبي حنيفة من فساد صلاتها إذا صفقت لا يلتفت إليه مع ثبات النص عن الشارع - صلى الله عليه وسلم - وثبت عنهم وجوب الأخذ بالنص وأنه مذهبهم وقال النووي وغير واحد هو السنة. وقال الحق انقسام التنبيه في الصلاة إلى ما هو واجب ومندوب ومباح بحسب ما يقتضيه الحال. (ولهما عن أنس مرفوعاً) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (إذا كان أحدكم في الصلاة) وفي لفظ " إذا قام أحدكم في صلاته " فريضة كانت الصلاة أو نافلة (فإنه يناجي ربه) وفي رواية للبخاري " فإن ربه بينه وبين القبلة " وهذا قرب خاص من عبده حال مناجاته كقوله " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" وهو سبحانه علي في دنوه. قريب في علوه. واسع عليم بكل شيء. وبكل شيء محيط "ما السموات السبع والارضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم". (فلا يبصقن بين يديه) البصاق من الفم ويقال بالسين والزاي وكلها من باب نصر وأفصحهن بالصاد. وفي لفظ "قبل قبلته" وفي لفظ "قبل وجهه" قال الحافظ وغيره هذا التعليل يدل على أن البصاق في القبلة حرام سواء كان في المسجد أولا ولا سيما المصلي (ولا عن يمينه) وفي الصحيح "فإن عن يمينة ملكًا" ولابن أبي شيبة "فإن عن يمينه كاتب الحسنات" وظاهر حديث أبي هريرة وأبي سعيد كراهة ذلك داخل الصلاة

وخارجها وهو مقيد بالصلاة في هذا الحديث الصحيح وغيره. وقال مالك وغيره لا بأس به خارج الصلاة وكذا قيده جمهور الفقهاء بالصلاة. وأرشد – - صلى الله عليه وسلم - إلى أي جهة يبصق فقال: (ولكن عن شماله تحت قدمه) وفي لفظ "عن يساره أو تحت قدمه ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ورد بعضه على بعض فقال أو يفعل هكذا" وبصقه في ثوبه ونحوه لا نزاع فيه. ولو كان في المسجد وأولى من كونه عن يساره لئلا يؤذي به. ولهما من حديث أبي هريرة "أو تحت قدمه اليسرى" وفي رواية "فيدفنها" وخص المسجد بما يأتي. (ولهما عنه) رضي الله عنه (مرفوعًا) أي إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) وهو ظاهر في عدم جواز البصاق في المسجد عن اليسار وغيرها قال النووي إذا بصق في المسجد فقد ارتكب الحرام وعليه أن يدفنه. ومن رآه يبصق فيه لزمه الإنكار عليه ويدفنه إن قدر ولما رأى عليه الصلاة والسلام بصاقًا في جدار المسجد وهو يخطب نزل فحكه ودعا بزعفران ولطخه به. وتظاهرت الأخبار بتنظيف المساجد وإزالة القذى عنها. (وفي السنن أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال إذا صلى أحدكم) يعني إمامًا كان أو منفردًا حضرًا أو سفرًا فرضًا كانت الصلاة أو نفلاً ولو لم يخش مارًا (فليصل إلى سترة) ولمسلم عن عائشة

سئل عنها فقال "كمؤخرة الرحل" ولهما من حديث ابن عمر "يأمر بالحربة فتوضع بين يديه" ولمسلم من حديث طلحة قال: "إذا وضع أحدكم مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبال من يمر وراء ذلك" وللحاكم من حديث سبرة "استتروا في صلاتكم ولو بسهم" (وليدن منها) فرواه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سعيد وأبو داود والنسائي من حديث سهل ولفظه "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان صلاته". وثبت أنه كان إذا صلى إلى جدار جعل بينه وبينه كممر شاة. وهذا الحديث وغيره دليل على سنية اتخاذ السترة والدنو منها. وحكاه أبو حامد إجماعًا، وقال الموفق وغيره لا نعلم فيه خلافًا، وقال البغوي استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر من إمكان السجود وكذلك بين الصفوف والحكمة منع من يجتاز بقربه وأنه لا يقطع الشيطان عليه صلاته. وكف البصر عما وراءها. وشغل القلب عما هو مطلوب من الحضور والخضوع والمراقبة. وليس اتخاذ السترة بواجب لحديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام "صلى في قضاء ليس بين يديه شيء" رواه أحمد وأبو داود وله شواهد. (ولأبي داود عن أبي هريرة مرفوعًا) يعني إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا) من أي شيء كان جدارًا أو حربة أو غير ذلك يستره من المار بين

يديه (فإن لم يجد فلينصب عصا) أي يرفعها وفيه عدم الفرق بين الدقيقة والغليظة كما في قوله ولو بسهم. ويستحب انحرافه عن الشيء الشاخص لفعله – - صلى الله عليه وسلم - رواه أحمد وغيره وسدًا لذريعة التشبه بالسجود لغير الله. (فإن لم يكن) معه عصا ولفظ أحمد وابن ماجه "فإن لم يجد عصا (فليخط خطًا) قال أحمد وغيره كالهلال وكيفما خط أجزأه (ثم لا يضره من مر بين يديه) أي لا ينقص من صلاته لفظ أحمد ولفظ أبي داود "ثم لا يضره من مر أمامه" (صححه أحمد) وابن المديني وابن حبان وقال الحافظ لم يصب من زعم أنه مضطرب بل هو حسن. وأشار الشافعي إلى ضعفه. وقال البيهقي لا بأس به في مثل هذا. وقال النووي وإن لم يثبت ففيه تحصيل حريم للمصلي. وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال. وهذا منها. وقوله ثم لا يضره من مر بين يديه يدل على أنه يضره إذا لم يفعل إما بنقصان صلاته أو بطلانها وهذا إذا كان إمامًا أو منفردًا. أما المأموم فسترة الإمام سترة له لأنه – - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إلى سترة دون أصحابه واتفقوا على أنهم مصلون إلى سترة فلا يضرهم مرور شيء بين أيديهم. وفي الصحيحين عن ابن عباس "أقبلت على حمار أتان ورسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس فمررت بين يدي بعض الصف فلم ينكر ذلك على أحد" قال

ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء أن المأمون لا يضره من مر بين يديه. (وعن أبي ذر قال: قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يقطع صلاة المرء المسلم) أي يبطلها أو ينقص ثوابها (إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل" الخشبة التي يستند إليها الراكب والمراد رحل البعير والرحل أصغر من القتب وفي لفظ آخرة وهو أفصح. والمراد المثل وإلا فيجزئ السهم كما مر وفاعل يقطع (المرأة والحمار والكلب الأسود) أي يقطع الصلاة مرور أحدها بين يدي المصلي إن لم يكن سترة أو مرورها بينه وبين سترته "قلت ما بال الأسود فقال الأسود شيطان" أي في الكلاب فإن الشيطان كل شيء ما رده (رواه مسلم) والخمسة وغيرهم وفي لفظ "ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل". واختلف أهل العلم في العمل بهذا الحديث لقوله "لا يقطع الصلاة شيء" ونحوه فذهب مالك والشافعي وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف أنه لا يبطل الصلاة مرور شيء. ولم يأمر أحدًا بإعادة صلاته من أجل ذلك وتأولوا أن المراد نقص الصلاة بشغل القلب بهذه الأشياء. قالوا وصح عن عمر لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي وأوردوا أحاديث وكلها ضعيفة. قال ابن القيم وقد صح عنه – - صلى الله عليه وسلم - أنه يقطع الصلاة. المرأة

والحمار والكلب الأسود. ثبت ذلك عنه من رواية أبي ذر وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن مغفل ومعارض هذه الأحاديث قسمان صحيح غير صريح وصريح غير صحيح فلا يترك لمعارض هذا شأنه وقال الشيخ مذهب أحمد وجماعة من الصحابة يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأولد البهيم. قال: والصواب أن مرور المرأة والكلب الأسود والحمار بين يدي المصلي دون سترة يقطع الصلاة واختاره الموفق وغيره. (ولهما عن أبي سعيد مرفوعًا "إذا صلى أحدكم إلى شيء بستره من الناس) جدارًا كان أو بعيرًا أو حربة أو عصا أو خطًا أو غير ذلك مما تقدم ونحوه (فأراد أحد أن يجتاز) أي يمضي (بين يديه فليدفعه) ولمسلم "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدعن أحدًا يمر بين يديه وليدرأ ما استطاع" (فإن أبي) أي عن الاندفاع (فليقاتله) ولهما فليدفع في نحره. قال القرطبي يدفعه بالإشارة ولطيف المنع فإن لم يمتنع عن الاندفاع قاتله أي دفعه دفعًا أشد من الأول. وأجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح لمخالفة ذلك قاعدة الصلاة من الإقبال عليها والاشتغال بها والخشوع فيها. وحكى القاضي عياض وغيره الإجماع على أنه لا يجوز له المشي من مكانه كثيرًا ليدفعه ولا العمل الكثير في مدافعته لأن ذلك أشد في الصلاة من المرور. وعن أحمد وغيره للمصلي أن يجتهد

في رده ما لم يخرج بذلك إلى إفساد صلاته بكثرة العمل فإن أصر فله قتاله ولو مشى يسيرًا لقوله فإن أبى فليقاتله (فإنما هو شيطان). ولمسلم عن ابن عمر "فلا يدع أحدًا يمر بين يديه فإن أبي فليقاتله فإن معه القرين وهو الشيطان أزه على المرور" وهو في نفسه شيطان فإن شيطان كل جنس متمرده. ولا تفسد صلاته لكن لا يقاتله بسيف ولا بما يهلكه بل بالدفع باليد واللكز فإن مات بذلك فدمه هدر. قال الشيخ وغيره لأن الشارع أباح قتاله وقال القاضي عياض فإن دفعه بما يجوز فهلك فلا قود عليه اتفاقًا. والأمر بدفعه وإن كان ظاهره الوجوب فقال النووي لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بوجوب هذا الدفع بل صرحوا بأنه مندوب وفيه أن اتخاذ السترة مندوب. وفيه جواز إطلاق لفظ الشيطان على الإنسان الذي يريد إفساد صلاة المصلي وفتنته في دينه. ويحرم مروره بين يدي المصلي وسترته وبقربه إن لم يكن سترة. وأما البعيد فلا يتعلق به حكم وقال الموفق لا أعلم أحدًا حد البعيد في ذلك ولا القريب. والصحيح تحديد ذلك بما إذا مشى إليه المصلي ودفع المار بين يديه للأمر به فتقيد بدلالة الإجماع بما يقرب منه. وفي الصحيحين عن أبي جهيم مرفوعًا "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه".

باب سجود السهو

ولمسلم "لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي" وفيه غلظ تحريمه. قال ابن القيم لوعد من الكبائر لكان له وجه وتكره صلاته في الموضع الذي يحتاج فيه إلى المرور. وتنقص صلاة من لم يرد مارًا بين يديه وهو قادر على رده إلا بمكة وإن غلبه لم يرده اتفاقًا. باب سجود السهو سها عن الشيء سهوًا ذهل وغفل قلبه عنه إلى غيره. وفي النهاية السهو في الشيء تركه من غير علم وعن الشيء تركه مع العلم به. وفي المشارق السهو في الصلاة النسيان فيها وجاء لفظ السهو والنسيان في الشرع بمعنى. وقال غير واحد النسيان والسهو والغفلة ألفاظ مترادفة معناها ذهول القلب عن المعلوم الحاصل في الحافظة. وقال ابن القيم كان سهوه – - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة من إتمام نعمة الله على أمته وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو. وفي الموطأ أو انسى لأبين. والنسيان في القرآن نسيان ترك ونسيان سهو. وقد وضع الله سبحانه وتعالى الآصار والأغلال عن هذه الأمة ببركة نبيها محمد – - صلى الله عليه وسلم - وكانت بنوا إسرائيل إذا نسوا شيئًا مما أمروا به عجلت لهم العقوبة. فمن لطفه تعالى بهذه الأمة ورأفته بهم وإحسانه إليهم أمرهم أن يسألوه ترك مؤاخذتهم فقالوا ما (قال تعالى) عنهم {رَبَّنَا لاَ

تُؤَاخِذْنَا} أي لا تعاقبنا {إِن نَّسِينَا} أي تركنا فرضًا على وجه النسيان وجعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو أو فعلاً حرامًا كذلك {أَوْ أَخْطَأْنَا} أي الصواب في العلم جهلاً منا بوجهه الشرعي وثبت أن الله استجاب هذا الدعاء ورفع المؤاخذة بالنسيان. فقال الله تعالى نعم" رواه مسلم من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عباس "قال الله قد فعلت، {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}، قال الله قد فعلت، {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قيل هو من حديث النفس والوسوسة "قال الله قد فعلت". ولابن ماجه وابن حبان من حديث ابن عباس "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فرفع الله المؤاخذة عن هذه الأمة ببركة نبيها – - صلى الله عليه وسلم -. ولابن أبي حاتم عن أم الدرداء "إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث عن الخطأ والنسيان والاستكراه" قال الحسن أما تقرأ بذلك قرآنًا {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فأما حديث النفس فمعفو عنه ولا سجود من أجله لأن الشرع لم يرد به ولا يمكن التحرز منه. وأما الزيادة والنقص والشك في بعض الصور نسيانًا فجاءت السنة بمشروعية سجود السهو له جبرانًا كقوله: إذا نسي أحدكم" "إذا سها أحدكم فليسجد سجدتين" وأجمع المسلمون على ذلك في الجملة ولا تبطل بشيء منه ولا بأكل

وشرب سهوًا وهو من خصائص هذه الأمة فضلاً من الله ونعمة. (وعن أبي هريرة قال صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي ركعتين ثم سلم) والعشي ما بين زوال الشمس وغروبها وللبخاري "الظهر أو العصر" وفي لفظ "صلى بنا" فهو ظاهر أن أبا هريرة حضرها (ثم قام إلى خشبة المسجد) وللبخاري في مقدم المسجد (فوضع يده عليها) وفي رواية "فقام إلى خشبة معروضة في المسجد (فوضع يده عليها) وفي رواية "فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها" كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه. (وخرج سرعان الناس) بفتح السين والراء ويروى بإسكانها وبضم السين والمراد أول الناس خروجًا من المسجد وفي رواية خرجت السرعان من أبواب المسجد (فقالوا أقصرت الصلاة وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه) أي بأنه سلم على الركعتين وفي رواية "فهاباه أن يكلماه". ومعناه أنه غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن الاعتراض عليه - صلى الله عليه وسلم - (وفي القوم رجل يقال له ذو اليدين) وفي حديث عمران رجل يقال له الخرباق وهو عمير بن عمرو السلمي وكان في يده طول فالخرباق لقب لذي اليدين لقب به عمير لطول كان في يديه. (فقال يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة) أي شرع الله قصر الرباعية إلى اثنتين. (فقال

لم أنس) أي في ظنه - صلى الله عليه وسلم - (ولم تقصر) وفي رواية لمسلم "كل ذلك لم يكن. فقال بلى قد نسيت" وذلك رحمة من الله لهذه الأمة وبيان ولا يستمر بل يتضح له الحال (فقال أكما يقول ذو اليدين فقالوا نعم) ولأبي داود "أصدق ذو اليدين فأوموا أي نعم. وفي رواية له فقال الناس نعم (فصلى ركعتين ثم سلم) وفي رواية "فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم" قال الموفق وغيره إذا كان السلام سهوًا ولم يطل الفصل أتى بما ترك ولم تبطل صلاته إجماعًا. قال العراقي وغيره من غير فرق بين من سلم من ركعتين أو أكثر أو أقل. ولو سلم التسليمتين وتكلم. وإن كلام الناسي لا يبطل الصلاة. وكذا من ظن التمام وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف. ومذهب الشافعي وأحمد وجميع أئمة الحديث وهو مدلول هذا الحديث المتفق على صحته. وأما من تكلم عامدًا لا يريد إصلاح شيء من أمرها فقال ابن المنذر وغيره أجمع أهل العلم على أن صلاته فاسدة لتظاهر الأدلة على ذلك. والعلم من يعلم أنه في صلاة وأن كلامه محرم فيها. قال الشيخ ولا بد في كلامه من لفظ دال على المعنى دلالة وضعية تعرف بالعقل. والقهقهة كالكلام تبطل بالإجماع (ثم كبر ثم سجد) أي للسهو (مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر ثم وضع رأسه وكبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر ثم سلم متفق عليه) قال الشيخ وهو قول عامة

أهل العلم. ودل على أفضلية سجود السهو عن النقص بعد السلام واختاره. ودل على أن سجود السهو لا يتعدد بتعدد أسباب السهو لأنه - صلى الله عليه وسلم - سها فسلم وتكلم بعد سلامه وسجد لها سجودًا واحدًا، ويأتي قوله: "إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين" وهو يتناول السهو في موضعين فأكثر. وحديث "لكل سهو سجدتان" وإن كان فيه مقال فالسهو اسم جنس ومعناه لكل صلاة فيها سهو سجدتان وإن حصل للمصلي سهوان كأن زاد في صلاته من جنسها وسلم عن نقص أو حصل له شك فيغلب سجودًا أفضليته قبل السلام. وما يقال في سجود السهو وفي الرفع كسجود صلب الصلاة لإطلاقه في الأخبار فلو كان غير معروف لبين. ولا يتشهد فيه ولو كان بعد السلام اختاره الشيخ وغيره. وعليه العمل كسجود قبل السلام ذكره في الحلاف إجماعًا لأنه لم يذكر في الأحاديث الصحيحة بل الأحاديث الصحيحة تدل على أنه لا يتشهد. وفي رواية أبي داود قلت فيه تشهد قال لم أسمع فيه تشهدًا. وللبخاري قلت لمحمد في سجدتي السهو تشهد قال ليس في حديث أبي هريرة، وقال قتادة: لا يتشهد، وحديث عمر أن الذي فيه ذكر التشهد طرف من حديث أبي هريرة وضعفه ابن عبد البر وغيره. وقالوا المحفوظ ليس فيه تشهد. (ولهما عن ابن مسعود قال صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال إبراهيم زاد أو نقص ويأتي في متن الحديث ثبوته في الزيادة

(فلما سلم قيل له يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء قال وما ذاك) وفي لفظ قال لا وما ذاك استفهام منه - صلى الله عليه وسلم - (قالوا صليت كذا) وكذا وفي رواية فقيل له أزيد في الصلاة فقال "وما ذاك فقالوا صليت خمسًا (فثنى رجليه) أي صرفهما عن حالتهما التي كانتا عليها. (واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم) لأن الزيادة سهو وهي نقص في المعنى فشرع لها السجود لينجبر النقص. فإن كان في ركعة زائدة جلس في الحال بغير تكبير وبنى على فعله قبل تلك الزيادة لئلا يغير هيئة الصلاة ولم تبطل صلاته قال الشيخ بالسنة وإجماع المسلمين ويسجد له وجوبًا (ثم أقبل علينا بوجهه) الشريف - صلى الله عليه وسلم - (فقال إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به) وفيه أن الأصل في الأحكام بقاؤها على ما قررت عليه. (ولكن إنما أنا بشر) مثلكم في البشرية وبين وجه المثلية بقوله: (أنسى كما تنسون) ولا يقر عليه - صلى الله عليه وسلم - بل يقع له - صلى الله عليه وسلم - تبيان ذلك أما متصلاً بالفعل أو بعده وفائدته في مثل ذلك بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره زاد النسائي واذكر كما تذكرون (فإذا نسيت فذكروني) وفيه الأمر بالتنبيه وظاهره الوجوب. ويتأكد في حق المأمومين لارتباط صلاتهم بصلاته بحيث

تبطل ببطلانها. ويلزم من نبه الرجوع إلى ثقتين ما لم يجزم بصواب نفسه. ويجوز إلى قول واحد إن ظن صدقه. وظاهره أنهم تابعوه - صلى الله عليه وسلم - على الزيادة، فدل على أن متابعة المؤتم للإمام فيما ظنه واجبًا لا تفسد صلاته فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بالإعادة. وهذا في حق الصحابة -رضي الله عنهم- في مثل هذه الصورة لتجويزهم التغيير في عصر النبوة. أما بعده فينتظرونه قعودًا حتى يتشهد ويسلمون معه أو يفارقونه للعذر ويسلمون لأنفسهم. قال شيخ الإسلام وغيره وانتظار المأموم حتى يسلم معه أحسن (فإذا شك أحدكم في صلاته) هل زاد أو نقص والشك في اللغة التردد بين وجود الشيء وعدمه (فليتحر الصواب) وفي لفظ لمسلم "وليتحر أقرب ذلك إلى الصواب" وفي لفظ "فليتحر أو في الذي يرى أنه الصواب" رواه أبو داود. والتحري هو البناء على غالب الظن. قال الشيخ وغيره وعلى هذا غالب أصول الشرع وهي الرواية المشهورة عن أحمد. وروي عن علي وغيره وهو مذهب أصحاب الرأي. وقال أبو الفرج التحري سائغ في الأقوال والأفعال. وقال النووي من شك ولم يترجح له أحد الطرفين بنى على الأقل بالإجماع. بخلاف من غلب على ظنه أنه صلى أربعًا مثلاً (فليتم عليه) بضم الياء وكسر التاء (ثم ليسجد سجدتين) وفي رواية للبخاري "فليتم ثم يسلم ثم يسجد سجدتين) وفي رواية للبخاري "فليتم ثم يسلم ثم يسجد سجدتين" ولمسلم "سجد

بعد السلام والكلام" ولأحمد وأبي داود من حديث عبد الرحمن بن جعفر مرفوعًا "من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم" وصححه ابن خزيمة. فدلت هذه الروايات على أفضلية سجود السهو بعد السلام لأنه تحرى وأتم صلاته. وإنما السجدتان إرغام للشيطان فتكون بعده. وكما أن السجود مشروع في الفريضة فكذا في النافلة وهو مذهب جماهير العلماء قديمًا وحديثًا لأنه لا فارق بينهما في الحكم. ولأن الجبران وإرغام الشيطان يحتاج إليه في النفل كما يحتاج إليه في الفرض. وترجم له البخاري. وإن نسي سجود السهو سجد إن قرب الزمن وإن طال عرفًا لم يسجد وصحت صلاته لأنه جابر فلم تبطل بفواته حكاه الوزير اتفاقًا. (وعن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثًا أم أربعًا فليطرح الشك) أي يرم به ويبعده. ولأحمد "فليلق الشك (وليبن) أي وليأت بركعة فيتم ما بقي من صلاته (على ما استيقن) منها ولمسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر زاد أو نقص فإن كان شك في الواحدة أو اثنتين فليجعلها واحدة وإن لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثًا فيجعلها اثنتين فإن لم يدر ثلاثًا صلى أم أربعًا فليجعلها ثلاثًا حتى يكون الشك في الزيادة".

فدل على أن الشاك في صلاته يجب عليه البناء على اليقين وهو مذهب جماهير العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وقيل يعيد والأحاديث ظاهرة بخلافه ولا منافات بين ما ورد الأمر بالبناء على الأقل والبناء على اليقين وتحري الصواب فإن التحري هو طلب ما هو الأحرى إلى الصواب. وأمر به - صلى الله عليه وسلم - وبالبناء على اليقين. والبناء على الأقل عند عروض الشك، فإن أمكن الخروج بالتحري عن الشك وهو لا يكون إلا بالاستيقان بأنه قد فعل من صلاته كذا فلا شك أنه مقدم على البناء على الأقل لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد شرط في جواز البناء على الأقل عدم الدراية، والمتحري الصواب قد حصلت له الدراية، ومن بلغ به تحريه إلى اليقين فقد بنى على ما استيقن. وحكى النووي عن الجمهور أن التحري هو البناء على اليقين وفرق أحمد بينهما. (ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسًا) في رباعية (شفعن) أي السجدتان (صلاته) صيرتهما شفعًا لأن السجدتين قامتا مقام ركعة وكان المطلوب من الرباعية الشفع (وإن كان صلى تمامًا) لأربع (كانتا ترغيمًا للشيطان) إلصاقًا لأنفه بالرغام بما جعله الله للمصلي من الجبر للنقص الذي سعى اللعين في إدخاله عليه في صلاته ليلبسها عليه. والرغام بزنة غراب التراب (رواه مسلم). وفي حديث عبد الرحمن بن عوف ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل أن يسلم" صححه الترمذي. ولأبي داود

وابن ماجه نحوه من حديث أبي هريرة قال أحمد أنا أقول كل سهو جاء فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يسجد فيه بعد السلام فإنه يسجد فيه بعد السلام، وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام. وقال شيخ الإسلام أظهر الأقوال وهو رواية عن أحمد الفرق بين الزيادة والنقصان وبين الشك مع التحري والشك مع البناء على اليقين. فإذا كان السجود لنقص كان قبل السلام لأنه جابر للصلاة لتتم الصلاة به، وإن كان لزيادة كان بعد السلام لأنه إرغام للشيطان لئلا يجمع بين زيادتين في الصلاة، وكذا إذا شك وتحرى فإنه أتم صلاته وإنما السجدتان إرغام للشيطان فتكون بعده. وكذلك إذا سلم وقد بقي عليه بعض صلاته ثم أكملها وقد أتمها والسلام فيها زيادة والسجود في ذلك بعد السلام ترغيم للشيطان. وإذا شك ولم يبن له الأرجح فيعمل هنا على اليقين. فإما أن يكون صلى خمسًا أو أربعًا. فإن كان صلى خمسًا فالسجدتان يشفعان له صلاته كأنه صلى ستًا لا خمسًا. وهذا إنما يكون قبل السلام. فهذا القول الذي نصرناه يستعمل في جميع الأحاديث الواردة في ذلك. وقال وما شرع من السجود قبل السلام يجب فعله قبله. وما شرع بعده لا يفعل إلا بعده وجوبًا وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره وعليه يدل كلامهم وقال القاضي وغيره لا خلاف بين أهل العلم في جواز الأمرين السجود قبل السلام أو بعده وقال البيهقي كذا ذكره بعض الشافعية والمالكية إجماعًا.

وإنما الخلاف في الأولى والأفضل. فلو سجد للكل جاز قبله أو بعده. (وعن ابن بحينه) عبد الله بن مالك الأسدي ويقال الأزدي اشتهر بأمه بحينة بنت الحارث صحابي مات سنة ست وخمسين (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين) أي قام في الركعة الثالثة (ولم يجلس) عقب الركعتين الأوليين (فقام الناس معه) وفي رواية "فسبحوا به فمضى" (حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس وسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم متفق عليه) ورواه الخمسة وغيرهم بألفاظ متقاربة. وفيه دليل على أن من ترك الجلوس للتشهد الأول سهوًا يجبره بسجود السهو ولا نزاع في ذلك. وفي رواية لمسلم "يكبر لكل سجدة وهو جالس وسجد الناس معه مكان ما نسي من الجلوس". وللترمذي وصححه أن المغيرة "صلى بهم ركعتين ولم يجلس. فسبح به من خلفه فأشار إليهم أن قوموا فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين وسلم ثم قال هكذا صنع بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولأبي داود وابن ماجه من حديث المغيرة "إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يستتم قائمًا فليجلس فإن استتم قائمًا فلا يجلس

باب صلاة التطوع

وليسجد سجدتين، وله طرق وآثار تشهد له. وللبيهقي من حديث أنس تحرك للقيام في الركعتين الأخيرتين من العصر فسبحوا به فقعد ثم سجد للسهو قال الحافظ رجاله ثقات. والحاصل إن هذه الأحاديث دلت على وجوب متابعة الإمام إذا قام من الثنتين ولم يجلس للتشهد. وإن علم قبل أن يستتم قائمًا لزمه الرجوع. قال في الإنصاف لا أعلم فيه خلافًا لأنه أخل بواجب وذكره قبل الشروع في ركن فلزمه الإتيان به. وإن شرع في القراءة حرم رجوعه اتفاقًا لظاهر النهي. فإن في حديث المغيرة وغيره حجة على أن من استتم قائمًا لا يجلس لتلبسه بفرض فلا يقطعه وعليه السجود للسهو. وقال ابن القيم في قوله فأشار إليهم أن قوموا قاعدة أن من ترك شيئًا من أجزاء الصلاة التي ليست بأركان سهوًا سجد له قبل السلام. وأخذ من بعض طرقه أنه إذا ترك ذلك وشرع في ركن لم يرجع إلى المتروك لأنه لما قام سبحوا به فأشار إليهم أن قوموا. باب صلاة التطوع أي باب أحكام صلاة العبد التطوع وفضلها وأحكام أوقات النهي وغير ذلك. والتطوع لغة فعل الطاعة وتطوع بالشيء تبرع به. وشرعًا وعرفًا طاعة غير واجبة. وقال الأزهري التطوع ما تبرع به من ذات نفسه مما لم يلزمه فرضه وفي

القاموس صلاة التطوع النافلة. والنفل والنافلة الزيادة ويرادفه السنة والمندوب والمستحب والمرغب فيه. وقال بعضهم التطوع ما لم يثبت فيه نص بخصوصه والسنة: ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - والمستحب ما لم يواظب عليه ولكنه فعله. وأفضل ما يتطوع به الجهاد في سبيل الله. وفي فضله والحث عليه آيات وأحاديث كثيرة معلومة. وتعلم العلم وتعليمه. وقال شيخ الإسلام تعلم العلم وتعليمه يدخل بعضه في الجهاد وأنه نوع من أنواعه من جهة أنه من فروض الكفايات. وقال أحمد ومالك وأبو حنيفة أفضل ما تطوع به العلم وتعليمه والعلم لا يعدله شيء وهو الميراث النبوي. والناس إليه أحوج منهم إلى الطعام والشراب. قال النووي اتفق جماعات السلف على أن الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصلاة والصوم والحج ونحو ذلك من أعمال البدن. ثم بعد العلم نوافل الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيره ذلك مما ندب إليه الشارع. وكذا كل ما يتعدى نفعه وفي فضل كل نوع من أنواع التطوعات آيات وأحاديث كثيرة وتختلف الأفضلية باختلاف الوقت وحال العامل. (قال تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا}) فعل غير المفترض عليه من صلاة وزكاة وصوم وحج وطواف وغير ذلك من سائر الطاعات. قال الحسن وغيره أراد سائر الأعمال يعني من تطوع

خيرًا في العبادات {فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ} يثيب على القليل بالكثير {عَلِيم} بقدر الجزاء فلا يبخس أحدًا ثوابه يعطي العبد فوق ما يستحقه يشكر اليسير ويعطي الكثير. وقال تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} وغير ذلك من الآيات الدالة على عظيم ثوابه تعالى لمن تقرب إليه بالنوافل. وفي الحديث القدسي "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به. وبصره الذي يبصر به. ويده التي يبطش بها. ورجله التي يمشي عليها. ولئن سألني لأعطينه. ولئن استعاذني لأعيذنه" (وعن أبي هريرة في حديث المحاسبة) قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة فإن أتمها" ولفظ الترمذي "أول ما يحاسب به من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر" فإن انتقص فريضة شيء (قال الله عز وجل انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع أكملت منه الفريضة) "ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك" (رواه الخمسة) بألفاظ متقاربة وصححه الحاكم وابن القطان. وله شواهد منها عن تميم الداري مرفوعًا "أول ما يحاسب

به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها قال الله لملائكته انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون به فريضته. ثم الزكاة كذلك. ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك "رواه أبو داود وغيره. وللحاكم من حديث ابن عمر "أول ما افترض الله على أمتي الصلوات الخمس. وأول ما يرفع من أعمالهم الصلوات الخمس. وأول ما يسألون عنه الصلوات الخمس. فمن كان ضيع شيئًا منها يقول الله تبارك وتعالى انظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صلاة تتمون بها ما نقص من الفريضة. وانظروا في صيام عبدي" وذكر الزكاة. قال: "فيؤخذ ذلك على فرائض الله وذلك برحمة الله وعدله فإن وجد له فضل وضع في ميزانه وقيل له أدخل الجنة مسرورًا. وإن لم يوجد له شيء من ذلك أمرت الزبانية فأخذت بيديه ورجليه ثم قذف في النار" وفيها دليل على أن ما نقص من فرض الصلاة أكمل من التطوع. وكذا ما نقص من الخشوع. وقال شيخ الإسلام التطوع تكمل به صلاة الفرض يوم القيام إن لم يكن أتمها. وفيه حديث مرفوع وكذلك الزكاة وبقية الأعمال. وقيل هو الحكمة في مشروعيته لأنه من جنس الفريضة. فأمكن الجبران به عند التعذر. (وعن ربيعة) بن كعب بن مالك الأسلمي من أهل الصفة كان خادمًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ملازمًا له حضرًا وسفرًا يكني أبا

فراس مات سنة ثلاث وستين (قال قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سل) وكان يبيت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ويأتيه بوضوئه وحاجته فقال له يومًا سل (فقلت أسألك مرافقتك في الجنة) سمت همته –رضي الله عنه- إلى أشرف المطالب وأعلى المراتب وعزفت نفسه عن الدنيا وشهواتها فسأل مرافقة خير الخلق النبي الكريم في خير دار جنات النعيم (قال أو غير ذلك) أي أوتسأل غير هذه الرتبة الرفيعة (قلت هو ذاك) الذي أرغب فيه قال (فأعني على نفسك بكثرة السجود رواه مسلم). فدل الحديث على أن التطوع بالصلاة من أفضل الأعمال، وأعظم القرب التي بها ارتفاع الدرجات عند الله إلى حد لا يناله إلا المقربون. وإن كان الحديث ينصرف إلى الفرائض لكن الإتيان بالفرائض لا بد منه لكل مسلم وإنما أرشده - صلى الله عليه وسلم - إلى شيء يختص به ينال به ما طلبه. وعبر عن الصلاة بالسجود تسمية لها ببعض أفرادها والسجود بعضها. قال تعالى: "وكن من الساجدين) أي المصلين ولمسلم وغيره عن ثوبان سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول "عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة. وحط بها عنك خطيئة" وذلك أنه سأله عن عمل يدخله الله به الجنة وورد في فضل التطوع بالصلاة أحاديث كثيرة. وآكد التطوع بالصلاة صلاة الكسوف لأنه عليه الصلاة والسلام فعلها وأمر بها. وأجمع عليها. ثم صلاة الاستسقاء لأنه

يشرع لها الجماعة مطلقًا أشبهت الفرائض، ثم التراويح لأنها تسن لها الجماعة. والتطوع لما تسن له الجماعة أفضل. ثم صلاة الوتر عند بعض أهل العلم والأشبه أنها آكد من التراويح فقد قيل بوجوبها، وقال الشيخ ما تنازع الناس في وجوبه فهو آكد ثم السنن الرواتب وقدمت لاتصالها بالفرائض ولتأكدها. ويكره تركها وتسقط عدالة من دوام عليه ويأثم. (وعن ابن عمر قال حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها. وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين بعد الصبح متفق عليه) وفيه "كانت ساعة لا يدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها أحد. حدثتني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر" وفي رواية "وتبين الفجر صلى ركعتين" فلو صلاهما قبل طلوع الفجر لم يجزئه، وفي لفظ "قبل الغداة" يعني صلاة الفجر، وفي رواية في بيته سوى الظهر، وفي رواية وركعتين بعد الجمعة في بيته. ولمسلم عن عائشة "كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين. وبعد العشاء ركعتين وقبل الفجر اثنتين" صححه الترمذي. وحكى الوزير وغيره اتفاق الأئمة على أن النوافل الراتبة عشر، ويسن الفصل بين الفرض والسنة بكلام أو قيام لما رواه مسلم من حديث معاوية "أمرنا أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج" وجاء عن عمر أنه جبذ رجلاً قام إثر فراغه فقال عليه الصلاة والسلام يا عمر

أصاب الله بك. وذلك لئلا يتخذ ذريعة إلى تغيير الفرض وأن يزاد فيه ما ليس منه. (ولهما عن عائشة أربعًا قبل الظهر) قال الطبري الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها. (ولمسلم عن أم حبيبة مرفوعًا) يعني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من صلى ثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته) وفي نسخ في يوم وليلة كأن المراد كل يوم وليلة تطوعًا وفي رواية "سوى المكتوبة (بني له بهن بيت في الجنة) وللترمذي وصححه "أربعًا قبل الظهر وركعتين بعدها. وركعتين بعد المغرب. وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر". ولفظ النسائي "ركعتين قبل العصر". ولم يذكر العشاء، وما رواه الترمذي هو ما اتفق عليه ابن عمر وعائشة. واستحب الجمهور المواظبة على الأربع قبل الظهر. ورجح ابن القيم أنها ورد مستقل سببه انتصاف النهار لقوله عليه الصلاة والسلام "إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح" رواه أحمد وقال كان - صلى الله عليه وسلم - يحافظ في اليوم والليلة على أربعين ركعة. سبع عشرة الفرائض، واثنتي عشرة التي روت أم حبيبة، وإحدى عشرة صلاة الليل فكانت أربعين ركعة. (وللخمسة عنها قال "من حافظ على أربع) أي ركعات

(قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار) صححه الترمذي وغيره، وفي رواية "لم تمسه النار) والحديث يدل على تأكد استحبابها. وكفى بهذا الترغيب باعثاً على المحافظة عليها. (وعن ابن عمر مرفوعاً رحم الله امرءاً صلى أربعاً قبل العصر) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما و (حسنه الترمذي) وصححه ابن خزيمة وابن حبان وأنكره شيخ الإسلام وفي السنن عن علي " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر أربع ركعات " وللطبري من حديث عبد الله بن عمرو"من صلى أربع ركعات قبل العصر لم تمسه النار " وفيه أحاديث آخر ضعيفة لكن تدل بمجموعها على استحباب صلاة أربع قبل العصر. (وعن عبد الله بن مغفل) بن غنم أحد العشرة الذين بعثهم عمر إلى البصرة يفقهون الناس توفى بها سنة ستين (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلوا قبل المغرب) صلوا قبل المغرب (ثم قال في الثالثة لمن شاء) أي أن يصلي قبل المغرب (كراهية أن يتخذها الناس سنة) أي طريقة مألوفة لا يتخلون عنها (رواه البخاري) ولابن حبان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " صلى قبل المغرب ركعتين " ولمسلم "كنا نصلي ركعتين بعد غروب الشمس. وكان - صلى الله عليه وسلم - يرانا فلم يأمرنا ولم ينهنا". لكن ما ليس براتب لا يلحق بالراتب ولا تستحب المواظبة عليه ليضاهي السنن الراتبة. وللشيخ قاعدة معروفة وهي أن ما

ليس من السنن الراتبة لا يداوم عليه حتى يلحق بالرواتب. ولأبي داود عن عائشة "ما صلى العشاء قط فدخل علي إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات"وفي الصحيح عن ابن عباس وذكر مبيته عند خالته ميمونة قال" فصلى أربع ركعات" وتقدم في رواية النسائي "قبل العصر ركعتين". وقال الشيخ: وأما قبل العصر وقبل المغرب والعشاء فلم يكن يصلي, لكن ثبت عنه في الصحيح أنه قال " بين كل أذانين صلاة ثم قال في الثالثة لمن شاء" فمن شاء أن يصلي تطوعاً فهو حسن لكن لا يتخذ ذلك سنة. ولا يكره أن يصلي فيها بخلاف ما فعله - صلى الله عليه وسلم - ورغب فيه فإن ذلك أوكد من هذا. (وعن عائشة قالت "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل) الرواتب وغيرها (أشد تعاهداً) أي محافظة (منه على ركعتي الفجر متفق عليه) وفي رواية "معاهدة" ولمسلم "ما رأيته إلى شيء من الخير أشد منه إلى الركعتين قبل الفجر" ولابن خزيمة ولا إلى غنيمة. (ولمسلم ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) أي أجرهما خير من الأرض وما عليها. وهذا تمثيل وإلا فذرة من ذرات الآخرة خير من الدنيا وما فيها والحديثان يدلان على أفضليتهما واستحباب تعاهدهما وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يدعهما حضراً ولا سفراً وحض عليهما حتى قال " ولو طردتكم

الخيل "رواه أبو داود. وحكى عن الحسن وجوبهما وقال بعضهم أفضل من الوتر. وقال الشيخ يسن ترك غيرهما في السفر ولم ينقل أنه صلى راتبة غيرهما فيه ويتطوع بغير الرواتب أفضل ونقله بعضهم إجماعاً. (ولهما عنها كان يخفف الركعتين قبل الصبح حتى إني لأقول اقرأ فيهما بأم الكتاب أم لا) وذلك لإسراعه بقراءتها واجمعوا على سنية تخفيفهما إلا ما روي عن بعض الحنفية وقال القرطبي معنى الحديث أنه كان يطيل في النوافل فلما خفف في قراءة ركعتي الفجر صار كأنه لم يقرأ بالنسبة على غيرهما من الصلوات لا النقر المنهي عنه. (ولمسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قرأ في ركعتي الفجر) وللخمسة إلا النسائي من حديث ابن عمر رمقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً "فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر " (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) وله شواهد. ولابن ماجه وكان يقول "نعم السورتان يقرأ بهما" ذلك لما جمعتاه من توحيد العلم والعمل. وتوحيد المعرفة والإرادة وإيجاب عبادته وحده. والتبري من عبادة ما سواه. وبيان ما يجب لله من صفات الكمال. وتنزيهه عن النقائص والأمثال. ولهذا كان يقرأ بهما في ركعتي الفجر وفي الوتر اللتين هما فاتحة العمل وخاتمته ليكون مبتدأ النهار توحيد. وخاتمة الليل

توحيد. وله من حديث ابن عباس "كان يقرأ في الأولى (قولوا آمنا بالله) الآية التي في سورة البقرة وفي الثانية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية التي في سورة آل عمران". وما جاء في الصحيحين من حديث عائشة "أنه إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن" فقال أحمد عائشة ترويه وابن عمر ينكره وكذا ابن مسعود وغيره وقال بعض أهل العلم إنما اضطجاعه بعد الوتر. وقبل ركعتي الفجر. كما هو مصرح به في حديث ابن عباس. وأما حديث عائشة فرواية مالك بعد الوتر وغيره بعد ركعتي الفجر. ولا يبعد أن يكون هذا تارة وهذا تارة فيباح ولم ير مالك وغيره بأساً لمن فعلها راحة وكرهوها لمن فعلها استناناً. وأما حديث أمره بالاضطجاع بعدها. فقال شيخ الإسلام باطل. (وللترمذي عنه مرفوعاً: من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس) وصححه الحاكم وهذا مذهب الجمهور وعنه أنه عليه الصلاة والسلام نام عن ركعتي الفجر فقضاهما بعد ما طلعت الشمس والحديث لا يدل على المنع من فعلهما بعد صلاة الفجر. وعن قيس بن عاصم أنه صلاها بعدها وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - وأختاره الشيخ وغيره (وقضاء ركعتي الظهر متفق عليه) من حديث أم سلمه وفيه أنه قضاها بعد

فصل في الوتر

العصر وللترمذي من حديث عائشة أنه قضى الأربع اللواتي قبل الظهر بعده. (و) قضاء (ركعتي الفجر رواه مسلم) وأحمد والنسائي وغيرهم من حديث أبي قتادة في قصة نومهم عن صلاة الفجر وتقدم وفيه "فصلى ركعتين ثم صلى الغداة"وقد دلت هذه الأحاديث وغيرها على مشروعية قضاء النوافل الراتبة. قال الشيخ وصح أنه قال"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" وهذا يعم السنن الراتبة وغيرها. فصل في الوتر أي في أحكام الوتر وصفته. والوتر الفرد. والمراد هنا الوتر المعروف الذي هو ختم صلاة آخر الليل وهو آكد التطوعات لم يتركه النبي - صلى الله عليه وسلم - حضراً ولا سفراً حتى قال بعض أهل العلم بوجوبه. وتظاهرت الأحاديث في فضله والحث عليه (وعن خارجة) بن حذافة العدوي قيل كان يعدل بألف فارس وقضى بمصر واستشهد سنة أربعين قتله الخارجي ظناً منه أنه عمرو بن العاص (¬1) (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله أمدكم) وفي لفظ "زادكم (بصلاة هي خير لكم من حمر النعم) أي الإبل الحمر. ¬

_ (¬1) وقال أردت عمرًا وأراد الله خارجًا فكانت مثلاً.

خصها لأنها كانت أنفس أموال العرب إذ ذاك وكان يضرب بها المثل. والمراد خير من الدنيا وما عليها وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا للتقريب إلى الأفهام وإلا فذرة من ذرات الآخرة خير من الدنيا بأسرها ومثلها معها ويأتي ذكر فضل قيام الليل والوتر آكده (قلنا وما هي قال الوتر) ضد الشفع وهو أسم للركعة المنفصلة عما قبلها. وللخمس والسبع والتسع والإحدى ٍعشرة. كما أن المغرب وتر النهار اسم للثلاث المتصلة. فإن فصلت الثلاث فأكثر بسلامين كان الوتر اسماً للركعة المفصولة وحدها ثم عين وقته فقال (ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر) فجمعيه وقت للوتر. وفيه أحاديث كثيرة مستفيضة تدل على أن جميع الليل وقت للوتر إلا ما قبل صلاة العشاء إجماعاً. وفي لفظ "فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر" (رواه الخمسة إلا النسائي) وصححه الحاكم وغيره وضعفه البخاري لاشتراطه اللقي. ولأحمد من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده نحوه وله شواهد كثيرة تثبت أن له أصلاً. (ولهم) أي للخمسة وصححه الحاكم أيضاً وغيره (عن علي مرفوعاً "أوتروا يا أهل القرآن) فيه تأكد الوتر في حق أهل القرآن أي حفظته العاملين به وهم أهل الله وخاصته وأولياءه المختصون به اختصاص أهل الإنسان به (فإن الله

وتر) واحد في ذاته وصفاته وأفعاله لا مثل له ولا شريك له ولا معين له جل وعلا وتقدس (يحب الوتر) فيثيب عليه قال القاضي عياض كلما ناسب الشيء أدنى مناسبة كان أحب إليه. (ولأبي داود عن بريدة مرفوعاً "من لم يوتر فليس منا) تبرأ منه - صلى الله عليه وسلم - وهذا وعيد شديد. ومذهب أهل السنة إجراء أحاديث الوعيد على ظاهرها مع اعتقاد ما دلت عليه. وقال أحمد من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة. وللبيهقي "فأوتروا يا أهل القرآن " قال الحافظ سنده لين لأن فيه العتكي ضعفه بعضهم. ولأحمد عن أبي هريرة نحوه بسند ضعيف. قال شيخ الإسلام وغيره الوتر سنة مؤكدة باتفاق المسلمين ولا ينبغي لأحد تركه. ومن أصر على تركه ردت شهادته. وليس بواجب عند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم مع إجماعهم أنه ليس بفرض لحديث الأعرابي. وحديث عباده وغيرهما وعن علي قال: الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة ولكن سنة سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال أوجبه أبو حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد. واختار الشيخ وجوبه على من يتهجد بالليل. وقال هو أفضل من جميع تطوعات النهار. بل أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل وأوكد ذلك الوتر. وركعتا الفجر. (وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوتر حق) أي

لا ينبغي لأحد تركه. ولأبي داود "حق على كل مسلم " زاد ابن المنذر "وليس بواجب" (فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل) أي بخمس ركعات لا يفصل بينهن بتسليم وفي لفظ "بسبع" (ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل) وهن أدنى الكمال (ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل رواه الخمسة إلا الترمذي). وله شواهد كثيرة تدل دلالة ظاهرة على الوتر بخمس وثلاث وأن أقل الوتر ركعة وأنها صلاة صحيحة لا يكره الوتر بها. وهو مفهوم لفظ الوتر. وثبت عن عشرة من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعائشة وهو مذهب جمهور أهل العلم مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. (وعن عائشة: كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالليل) وفي لفظ "صلاة العشاء إلى الفجر (إحدى عشرة ركعة ويوتر بواحدة"متفق عليه) وفي لفظ "يصلي عشر ركعات من الليل ويوتر بسجدة" أي ركعة "ويركع ركعتي الفجر فتلك ثلاث عشرة ركعة وفي رواية "ثلاث عشرة ركعة. ثم يصلي إذا سمع النداء ركعتين خفيفتين" ويأتي قولها ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة. والجمع بينها أنها أضافت إلى الإحدى عشرة ما كان يفتح به صلاته من الركعتين الخفيفتين. وفسرت بركعتين بعد الوتر

تجري مجرى السنة وتكميل الوتر. وإن شاء افتتح صلاته بافتتاح المكتوبة وإن شاء بغيره مما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - روايات مختلفة محمولة على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز والخبر يحتمل أن العشر متصلات وأنهن مفصولات. وفي لفظ "إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة" وهو أفضل لأمره - صلى الله عليه وسلم - واستمرار فعله ولأنه أكثر عملاً. (ولمسلم يصلي تسع ركعات لا يجلس إلا في الثامنة) فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم" (ثم) يقوم فـ (يصلي التاسعة) ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليماً يسمعناه" وفيه فلما أسن وأخذه اللحم "أوتر بسبع" ولأحمد "لم يجلس إلا في السادسة ولم يسلم إلا في السابعة" وللنسائي "ولا يقعد إلا في آخرهن" (وله: عن أم سلمة كان يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام) وله: عن ابن عباس "ثم صلى سبعاً أو خمساً أوتر بهن لم يجلس إلا في آخرهن" وفي أحاديث أخر تدل على الوتر بسبع وخمس قال أحمد ولكن أكثر الحديث وأقواه ركعة مفصولة. (وعن عائشة كان لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) ثم فصلتها بقولها (يصلي أربعاً)

يحتمل أنهن متصلات (فلا تسأل عن حسنهن وطولهن) لشهرته فلا يسأل عنهن أو لأنها لا تقدر أن تصف ذلك. قال شيخ الإسلام وكانت صلاته - صلى الله عليه وسلم - معتدلة قريبة من السواء. والأفضل في حق كل أحد الأنفع له (ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً) قالت فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر قال يا عائشة "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" (متفق عليه) وجاء من غير وجه أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث. (وللبخاري عن ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم بين الركعتين والركعة حتى أنه كان يأمر ببعض حاجته) ولأحمد من حديث عائشة لا يفصل بينهن وضعفه. وسئل أحمد تسلم في الركعتين من الوتر قال نعم قلت لأي شيء قال لأن الأحاديث فيه أقوى وأكثر عنه - صلى الله عليه وسلم -. وقال وإن لم يسلم رجوت أن لا يضره إلا أن التسليم أثبت وأقوى. قال شيخ الإسلام يخير بين فصله ووصله وصحح أن كليهما جائز وقال الوتر ركعة وإن كان قبلها شفع هذا أصح من قول من يقول لا وتر إلا كالمغرب مع أن تجويز كليهما أصح لكن الفصل أفضل من الوصل. وقال إن كان المأموم يرى أحدهما فوافقهم تأليفاً لقلوبهم كان قد أحسن. اهـ. وقال غير واحد من أهل العلم جاءت الأحاديث بمثنى ثم يوتر بواحدة وبإحدى عشرة وما بين ذلك فليس الوتر مختصاً بركعة ولا بإحدى عشرة بل يجوز ذلك وما بينه ويجوز وصله وفصله ويجوز كالمغرب

وكل ذلك جاءت به السنة. (وعن عائشة قالت من كل الليل قد أوتر) - صلى الله عليه وسلم - "من أوله وأوسطه وآخره (وانتهى وتره إلى السحر متفق عليه) ولأحمد من حديث ابن مسعود "كان يوتر من أول الليل وأوسطه وآخره" ولابن ماجه نحوه عن علي وقال "وانتهى وتره إلى السحر" وجاء نحوه من غير وجه قال عتبة بن عمرو ليكون ذلك سعة للمسلمين أي ذلك أخذوا به كان صواباً. (ولمسلم عن جابر مرفوعاً أيكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله) لئلا يفوته فعله (ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخره فإن صلاة آخر الليل مشهودة) تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار وهو وقت التنزل الإلهي ومواطأة القلب اللسان (وذلك أفضل) آي الوتر آخر الليل لمن وثق بقيامه. وفي الصحيحين وغيرهما أحاديث من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن آخر صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل كانت وتراً وفيهما وغيرهما أيضاً أحاديث كثيرة بالأمر بجعل صلاة آخر الليل وتراً. وقال غير واحد من أهل العلم هو قول كافة أهل العلم. (وعن ابن عباس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الوتر) أي في صلاة الوتر في الركعة الأولى بعد الفاتحة بـ (سبح اسم ربك الأعلى) لما تضمنته من أمور الدنيا والآخرة (و) في الثانية (قل يا أيها الكافرون) وهي تعدل ربع القرآن (و) في

الثالثة (فل هو الله أحد) وهي تعدل ثلث القرآن (رواه الخمسة) ولهم الخمسة) ولهم إلا الترمذي من حديث أبي نحوه ولأحمد وغيره من حديث ابن ابزى نحوه أيضًا. وقال إسحاق هو أصح شيء في القراءة في الوتر. وهذه الأحاديث وغيرها تدل على مشروعية قراءة هذه السور في الوتر ولا ينبغي المداومة على ذلك فإنه قد يفضي إلى اعتقاد أنه واجب. (وكان عمر يقول في قنوت الوتر اللهم إنا نستعينك) أي نستعين بك نطلب منك المعونة وحدك (ونستهديك) أي نسألك الهداية فيمن هديت (ونستغفرك) أي نطلب منك المغفرة (ونتوب إليك) أي نفعل التوبة. والتوبة الرجوع عن الذنب وفي الشرع الندم على ما فات والعزيمة أن لا يعود والإقلاع عن الذنب وإن كان حقًا لآدمي فلا بد من رده أو تحلله (ونؤمن بك ونتوكل عليك) أي نعتمد عليك في أمورنا والإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان. (ونثني عليك الخير كله) أي نمدحك ونصفك بالخير كله (ونشكرك) ببذل مجهودنا في خدمتك (ولا نكفرك) ما أنعمت به علينا وأصل الكفر الجحود لأن الكافر جاحد. ولعل المراد هنا كفر النعمة لاقترانه بشكرها (اللهم إياك نعبد) لا نعبد سواك وتقديم المعمول يفيد الحصر. والعبادة التذلل والخضوع (ولك نصلي ونسجد) لا لغيرك وهذا من عطف الخاص على العام فإن السجود بعض أفراد الصلاة (وإليك

نسعى ونحفد) بكسر الفاء نسارع إلى طاعتك ونبادر وأصل الحفد مداركة الخطو والإسراع في العمل والخدمة. (نرجوا رحمتك) نؤمل رحمتك وسعة عطائك (ونخشى عذابك) أي نخاف ونحاذر من عقوبتك وأليم عذابك (إن عذابك الجد) بالكسر أي العظيم الحق لا اللعب (بالكفار ملحق) بكسر الحاء أي من نزل به عذابك ألحقه بالكفار أو بمعنى لاحق أي يلحق بالكفار ويصابون به رواه الشافعي وغيره و (صححه البيهقي) الحافظ أحمد بن الحسين بن علي المتوفى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. ورواه الطبراني عن الغافقي أن عليًا علمه هاتين السورتين. وقال ابن سيرين هاتان السورتان كتبهما أبي في مصحفه وقال أحمد يستحب بالسورتين وقال شيخ الإسلام لم ينقل مسلم دعاء في قنوت غير هذه الأدعية المأثورة في الوتر قنوت الحسن وسورتي أبي. وقال غير واحد من الحنفية وغيرهم لا يوقت في دعاء القنوت غير اللهم إنا نستعينك لأن الصحابة اتفقوا عليه والأولى بعده قنوت الحسن، وقال الإمام أحمد يدعو بدعاء عمر اللهم إنا نستعينك وبدعاء الحسن اللهم اهدني إلخ. (وعن الحسن) بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته ولد سنة ثلاث من الهجرة وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث منها هذا الحديث وقال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إن ابني هذا سيد وتوفي سنة تسع وأربعين (قال علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات

أقولهن في قنوت الوتر) أي دعائه قال العراقي وغيره جاء قنوت الوتر من طرق تدل على مشروعيته. منها ما هو حسن. ومنها ما هو صحيح. ولابن حبان إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود. وجاءت السنة بالقنوت بعد الركوع وقبله وأكثر الصحابة والتابعين وفقهاء الحديث كأحمد وغيره يختارون القنوت بعد الركوع. قال الشيخ لأنه أكثر وأقيس. وقال الخطيب التي فيها القنوت قبله كلها معلولة. واستحب الجمهور رفع اليدين حال الدعاء. وفي الحديث "إن الله يستحي أن يبسط العبد يديه يسأله فيهما خيرًا فيردهما خائبتين" والأحاديث فيه كثيرة. وبين الحسن –رضي الله عنه- الكلمات المقولة له بقوله (اللهم اهدني فيمن هديت) وأصل الهداية الدلالة وهي من الله: التوفيق والإرشاد إلى ما يوصل إلى المطلوب. (وعافني فيمن عافيت) أي عافني من الإسقام والبلايا مع من عافيته أو في جملة من عافيته من الأسقام (وتولني فيمن توليت) أي تول أمري ولا تكلني إلى نفسي وتفضل علي في جملة من تفضلت عليهم (وبارك لي فيما أعطيت) البركة النماء والزيادة أي وضع لي البركة فيما وهبت لي من العمر والمال والعلوم والأعمال. (وقني شر ما قضيت) لي من قضاء وقدرته لي من قدر فسلم لي ما أنعمت به علي (إنك

تقضي) فتحكم بما أردت (ولا يقضي عليك) سبحانك وبحمدك لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد (إنه لا يذل) بكسر الذال أي لا يصير ذليلاً حقيقة (من واليت) أو لا يحصل له ذلة. والموالاة ضد المعادات (تباركت ربنا وتعاليت) أي تعاظمت والأول دال على كمال بركته وعظمته والثاني على كمال علوه ونهايته (رواه الخمسة) وحسنه الترمذي وقال النووي وغيره صحيح أو حسن زاد أبو داود والبيهقي بعد قوله بعد قوله إنه لا يذل من واليت "ولا يعز من عاديت" أي لا تقوم عزة لمن عاديته وأبعدته. قال الشيخ بالفتح إذا قوي وصلب. وبالكسر إذا امتنع، وبالضم إذا غلب. وزاد النسائي في آخره "وصلى الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - " لكن قال الحافظ لا تثبت. (ولهم عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر وتره "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك) أي استجير برضاك من سخطك والرضى والسخط صفتان للباري تبارك وتعالى على ما يليق بجلاله وعظمته لا يشبهان رضى المخلوق وسخطه (وبعفوك من عقوبتك) أي واستجير بعفوك ودفعك السوء والبلاء من عقوبتك أن تصيبني (وبك منك) أي واستجير بك من عذابك. قال الخطابي وغيره في هذا معنى لطيف وذلك أنه سأل الله أن يجيره برضاه من سخطه. وبمعافاته من عقوبته والرضى

والسخط ضدان متقابلان. وكذا المعافاة والمؤاخذة فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله تعالى أظهر العجز والانقطاع وفزع منه إليه واستعاذ به منه لا غير (لا نحصي) أي لا نطيق ولا نبلغ ولا ننهي (ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). فهو سبحانه يثني بنفسه على نفسه والخلق لا يحصون ثناءًا عليه بل هو كما أثنى على نفسه قال ذلك اعترافًا بالعجز عن الثناء وردًا إلى المحيط علمه بكل شيء جملة وتفصيلاً وكما أنه سبحانه لا نهاية لسلطانه وعظمته فلا نهاية للثناء عليه إذ كل شيء أثنى به عليه وإن بولغ فيه فقدر الله أعظم وسلطانه أعز وصفاته أكبر وفضله وإحسانه أوسع. قال الترمذي لا نعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت شيئًا أحسن من هذا وله أن يزيد ما شاء مما يجوز به الدعاء. ومن لا يحسن القنوت يقول. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. أو يسأل المغفرة ونحو ذلك. قال شيخ الإسلام يخير في دعاء القنوت بين فعله وتركه. وقال إذا صلى قيام رمضان فإن قنت جميع الشهر أو نصفه الأخير أو لم يقنت بحال فقد أحسن. وله رحمه الله نبذة في دعاء القنوت مشهورة واقتصر بعض أهل العلم على قول اللهم أهدنا بضمير الجمع. قال الشيخ وظاهره أنه يستحب له إن لم يتعين واختاره أحمد وغيره. وأما إذا تعين فقال الشيخ إن كان المأموم مؤمنًا على دعاء

الإمام فيدعو بصيغة الجمع كما في دعاء الفاتحة في قوله (إهدنا الصراط المستقيم) فإن المأموم إنما أمن لاعتقاد أن الإمام يدعو لهما جميعًا فإن لم يفعل فقد خان الإمام المأموم، ولهذا جاء دعاء القنوت بصيغة الجمع اللهم إنا نستعينك إلخ. ففي مثل هذا يأتي بصيغة الجمع ويتبع السنة. اهـ. وينبغي أن يختمه بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تقدم ولما روي الترمذي عن عمر الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك وروى عن علي نحوه مرفوعًا وفيه ضعيف وشرعت الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أول الدعاء وأوسطه وآخره. وقال بعضهم ينبغي أن يمسح وجهه بيديه إذا فرغ منه. قال شيخ الإسلام وفيه أحاديث لا تقوم بها حجة. (وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قنت شهرًا يدعو على أحياء من أحياء العرب) أي قبائل من قبائلهم وسماهم في لفظ آخر رعل وذكوان وعصية. ودعا لقوم بالنجاة وقال "اللهم اشدد وطأتك على مضر" وعن ابن عمر يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وكلهم أسلموا رضي الله عنهم- (ثم تركه متفق عليه) وعنه "كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم" صححه ابن خزيمة وغيره. (و) ثبت في الصحيح وغيره (عن ابن عمر) أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا رفع رأسه من الركوع (في الركعة الأخيرة من (الفجر) اللهم العن فلانًا وفلانًا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" قال ابن القيم ولم

يكن يخص القنوت في النوازل بالفجر بل كان أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من الطول ولاتصالها بصلاة الليل وقربها من السحر وساعة الإجابة. قال شيخ الإسلام ولا يقنت في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة فيقنت كل مصل في جميع الصلوات لكنه في الفجر والمغرب آكد بما يناسب تلك النازلة كما أنه إذا دعا في الاستسقاء دعا بما يناسب تلك النازلة كما أنه إذا دعا في الاستسقاء دعا بما يناسب المقصود. فكذا إذا دعا في الاستنصار دعا بما يناسب المقصود. كما جاءت به السنة ولا يدعو بما خطر له. وقال: أما القنوت في صلاة الفجر فقد ثبت في الصحيح أنه كان يقنت في النوازل قنت مرة شهرًا يدعو على قوم من الكفار قتلوا طائفة من أصحابه ثم ترك. وقنت مرة يدعو لأقوام من أصحابه كانوا مأسورين عند قوم يمنعونهم من الهجرة إليه. وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده كانوا يقنتون نحو هذا القنوت فما كان داوم عليه وما كان بدعة بالكلية. وللعلماء فيه ثلاثة أقوال أصحها أنه يسن عند الحاجة كما قنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه وهو الذي عليه أهل الحديث وكيف يكون يقنت دائمًا في الفجر أو غيرها ويدعو بدعاء راتب ولم ينقل عنه لا في خبر صحيح ولا ضعيف بل أصحابه الذين هم أعلم الناس بسنته وأرغب الناس في إتباعها كابن عمر وغيره أنكروا ذلك حتى قال ابن عمر ما رأينا ولا سمعنا، وكذلك غيره من الصحابة عدوا ذلك من الأحداث المبتدعة.

ومن تدبر السنة علم علمًا قطعيًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقنت دائمًا في شيء من الصلوات وقال. وإذا فعل الإمام ما يسوغ فيه الاجتهاد تبعه المأموم فيه وإن كان هو لا يراه مثل القنوت في الفجر ووصل الوتر. اهـ. ولأبي داود والنسائي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بعد وتره "سبحان الملك القدوس" ثلاثًا ويمد بها صوته. وقال ابن القيم وغيره ويقول رب الملائكة والروح. ويقول " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك" الحديث. (وعن أبي سعيد مرفوعًا من نام عن وتره أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر) لف ونشر مرتب قال حيث أصبح إذا كان نائمًا "أو ذكر" إذا كان ناسيًا (رواه الخمسة إلا النسائي) والحديث يدل على مشروعية قضاء الوتر إذا فات. وهو مذهب جماعة من الصحابة والأئمة الأربعة وغيرهم حكاه العراقي، وغيره وجزم به الشيخ وغيره وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} وظاهر الخبر أي وقت. وثبت من حديث عائشة أنه عليه الصلاة والسلام إذا فاته حزبه من الليل قضاه من النهار اثنتي عشرة ركعة. وتقدم حديث "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها، قال الشيخ وهذا يعم الفرض وقيام الليل والوتر وقال الصحيح إنه يقضي شفعه معه للخبر.

فصل في قيام الليل

فصل في قيام الليل أي في فضل قيام الليل وأفضله التراويح وهي قيام رمضان وبيان صفة ذلك وإن كان قيام الليل يشمل الوتر لكن فصل منه تنشيطًا للطالب وتقريبًا لحافظته. وقيام الليل سنة مؤكدة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة وقد أفردوه بمصنفات (قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} ترتفع وتنبو لما ذكر الله تعالى ما من الله به على الإنسان وعذاب من كفر بلقائه تعالى قال: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}. فقاموا الله يتهجدون وتركوا الاضطجاع على الفرش الوطيئة {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي خوفًا من وبال عقابه وطمعًا في جزيل ثوابه {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} فجمعوا بين فعل القربات اللازمة والمتعدية، فلا تعلم نفس (إلى قوله: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} أي فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد. لما أخفوا أعمالهم كذلك أخفى الله لهم من الثواب جزاءً وفاقًا فإن الجزاء من جنس العمل. وعن معاذ قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار فقال "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه. تعبد الله لا تشرك به شيئًا. وتقيم الصلاة.

وتؤتي الزكاة. وتصوم رمضان. وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. ثم قال. ألا أدلك على أبواب الخير. الصوم جنة. والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. وصلاة الرجل في جوف الليل. ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} صححه الترمذي وغيره. وللحاكم عنه - صلى الله عليه وسلم - "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم. وهو قربة إلى ربكم. ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم" وقال تعالى في حق المتقين الذين هم في جنات وعيون {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون} ينامون قليلاً منه ويصلون أكثره. وعن ابن مسعود مرفوعًا "عجب ربنا من رجلين. رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبه وأهله رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي" رواه أبو داود. (وعن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الصلاة بعد المكتوبة) وفي لفظ "بعد الفريضة" فإنها أفضل الصلاة (صلاة الليل رواه مسلم) وله عنه قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة قال "الصلاة في جوف الليل" وللترمذي وصححه من حديث عمرو بن عبسة "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر. فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" ولأبي داود عنه قال أي

الليل أسمع قال "جوف الليل الآخر فصل ما شئت فإن الصلاة فيه مشهودة مكتوبة" والمراد الثلث الآخر أو ما قبل السدس. (ولهما عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا "أفضل الصلاة صلاة داود" وفي لفظ "أحب الصلاة إلى الله –عز وجل- صلاة داود" نبي الله عليه السلام" ابن ايشي بن عوبد من ذرية إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام (كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه) فكان يجم نفسه بنوم أول الليل. ثم يقوم في الوقت الذي ينادي الله فيه. هل من سائل فأعطيه سؤله. كما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التنزل الإلهي "حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول. من يدعوني فاستجيب له من يسألني فأعطيه. من يستغفرني فأغفر له". ثم يستدرك عليه السلام بالنوم ما يستريح به من نصب القيام في بقية الليل. وهو النوم عند السحر. فيستقبل صلاة الصبح وأول النهار بنشاط. وفي الحديث دلالة ظاهرة على فضيلة قيام ثلث الليل بعد نوم نصفه وذلك حين يسمع الصارخ. وقد جرت العادة أن الديك يصيح عند نصف الليل غالبًا. وأحاديث النزول تدل على فضيلة الثلث الآخر وأنه وقت الإجابة والمغفرة، وتقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - ينام قبل الفجر إذا فرغ من وتره أو يتحدث مع عائشة. (وعن أبي هريرة قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب في قيام

رمضان) ويحض عليه ويدل على فضله (من غير أن يأمر فيه بعزيمة) أي توكيد وإنما هو حث وترغيب فيه وفيه التصريح بعدم وجوب القيام (فيقول من قام رمضان) أي ليله مصليًا ويحصل بما يصدق عليه القيام. وحكى الكرماني الاتفاق على أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح وهو قول الجمهور. وهي سنة مؤكدة بإجماع المسلمين. حكاه الشيخ وغيره من أعلام الدين الظاهرة (إيمانًا) بأنها حق معتقدًا فضيلتها (واحتسابًا) مريدًا وجه الله وحده لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص (غفر له ما تقدم من ذنبه متفق عليه) زاد أحمد والنسائي "وما تأخر" قال الحافظ وقد ورد في غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر عدة أحاديث. ولأحمد بسند ضعيف عن عبد الرحمن بن عوف موفوعًا "إن الله –عز وجل- فرض صيام رمضان وسننت قيامه. فمن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". والحديث دليل على فضيلة قيام رمضان وتأكد استحبابه. وتأكد استحباب صلاة التراويح، والتراويح جمع ترويحه في الأصل اسم للجلسة مطلقًا ثم سميت بها الجلسة بعد أربع ركعات أو ركعتين في ليالي رمضان لاستراحة الناس بها. وصلاة التراويح مشتقة من ذلك. (ولهما عن عائشة أنه صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس

ثم صلى الثانية فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم) كما فعل قبل (وقال إني خشيت أن تفرض عليكم) يعني التراويح (فتعجزوا عنها) وفي لفظ "وذلك في رمضان" وفي حديث زيد "حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به". والحديث دال على سنية صلاة التراويح جماعة في المسجد، ولم يترك ذلك - صلى الله عليه وسلم - إلا خشية الافتراض. وفي رواية لمسلم "خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته. فأصبح الناس فتحدثوا. فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا. فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بصلاته. فلما كانت الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الصلاة أقبل على الناس فتشهد ثم قال أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكن خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها" فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك. وللخمسة وصححه الترمذي من حديث أبي ذر قال "لم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل. ثم لم يقم بنا في الثالثة وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل فقلنا لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه فقال أنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلاث من الشهر فصلى بنا في الثالثة ودعًا أهله ونساءه فقام بنا

حتى تخوفنا الفلاح يعني السحور" قال شيخ الإسلام وغيره. وكان أصحابه - صلى الله عليه وسلم - يفعلونها في المسجد أوزاعًا في جماعات متفرقة في عهده على علم منه بذلك وإقراره لهم. (وجمع عمر الناس على أبي بن كعب رواه البخاري) عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال. خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر. إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب وتقدم قوله عليه الصلاة والسلام "من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة". فدلت هذه الأخبار وغيرها على أن فعل التراويح جماعة أفضل من الإنفراد. وكذا إجماع الصحابة وأهل الأمصار على ذلك وهو قول جمهور العلماء. وتجوز فرادى، واختلف أيهما أفضل للقارئ قال البغوي وغيره الخلاف فيمن يحفظ القرآن ولا يخاف الكسل عنها لو انفرد. ولا تختل الجماعة بتخلفه فإن فقد أحد هذه الأمور فالجماعة أفضل بلا خلاف. وهذا بخلاف ما لا تسن له الجماعة الراتبة كقيامة الليل والسنن الرواتب وصلاة الضحى وتحية المسجد ونحو ذلك. فقد قال شيخ الإسلام يجوز جماعة أحيانًا. وأما اتخاذه سنة راتبة فغير مشروع بل بدعة مكروهة. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تطوع بذلك

في جماعة قليلة أحيانًا. وإنما كان يقوم الليل وحده ولم يكن هو ولا أصحابه ولا التابعون يعتادون الاجتماع لذلك. اهـ. ووقت التراويح بعد صلاة العشاء كما تقدم إلى طلوع الفجر الثاني. وإذا أخروا التراويح أو بعضها أو مدوا القيام إلى آخر الليل فهو أفضل لما تقدم وقال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} وأولى ذلك العشر الأخير منه وكان الصحابة والتابعون يمدون الصلاة في العشر الأواخر إلى قرب طلوع الفجر كما جاء ذلك عنهم من غير وجه. ولأبي داود عن عمر لأن يؤخر القيام إلى آخر الليل سنة المسلمين. وتقدم "أن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل" ولا نزاع في ذلك ومن كان له تهجد بعد إمامه أوتر بعد تهجده للأمر بجعل الوتر آخر صلاة الليل. فإن أحب أن ينصرف من التراويح ويوتر آخر الليل. فعل وإن شفع الوتر مع إمامه جاز، وإن كان المتهجد إمامًا استخلف من يصلي بهم تلك الركعة، فإذا سلم قام وشفعها بركعة لينال فضيلة الجماعة وفضيلة جعل وتره آخر صلاته بالليل. وقد تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - "كان لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة" وفي رواية ثلاث عشرة ركعة وفسرت بركعتين خفيفتين وتقدم أنه يوتر بتسع. وسبع وخمس وروى مالك والبيهقي وغيرهما أن الناس كانوا يقومون في زمن عمر في

رمضان بثلاث وعشرين ركعة. واختار الإمام أحمد وجمهور العلماء عشرين ركعة. لأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد العامل فيها زاد له الأجر بلا نزاع. وهو سنة الخلفاء الراشدين. وقال القاضي لا خلاف أنه ليس في ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه. وقال شيخ الإسلام له أن يصليها عشرين كما هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي، وله أن يصليها ستًا وثلاثين كما هو مذهب مالك، وله أن يصلي إحدى عشرة، وثلاث عشرة وكله حسن. فيكون تكثير الركعات أو تقليلها بحسب طول القيام وقصره. وقال الأفضل يختلف باختلاف المصلين فإن كان فيهم احتمال لطول القيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي لنفسه في رمضان وغيره فهو الأفضل. وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل. وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين. فإنه وسط بين العشر والأربعين. وإن قام بأربعين وغيرها جاز، ولا يكره شيء من ذلك. ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ وقد ينشط العبد فيكون الأفضل في حقه تطويل العبادة، وقد لا ينشط فيكون الأفضل في حقه تخفيفها. وقال قراءة القرآن في التراويح سنة باتفاق أئمة المسلمين. بل من جل مقصود التراويح قراءة القرآن فيها ليسمعوا

كلام الله اهـ. وينبغي أن يحسن صوته بالقرآن لقوله "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" والتغني التحسين والترنم بخشوع وحضور قلب وتدبر وتفهم لكونه أنفع للقلب وأدعى لحصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن وهو مطلوب بلا نزاع من غير مراعاة قوانين النغم بل بما تقتضيه الطبيعة من غير تكلف ولا تمرين وإن أعان طبيعته بتحسين فحسن ويتحرى أن يختم القرآن آخر التراويح قبل ركوعه ويدعو. نص عليه أحمد وغيره. ولشيخ الإسلام في ذلك دعاء جامع شامل وقال روي أن عند كل ختمة دعوة مستجابة. (وعن ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "صلاة الليل مثنى مثنى) أي اثنتين اثنتين. ولمسلم "تسلم من كل ركعتين" وللخمسة "والنهار" وقال الدارقطني وهم. وقال النسائي والحاكم خطأ لأنه من رواية علي الأزدي وهو ضعيف. وثبت في أن صلاة النهار ركعتان أحاديث أخر. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري ما أدركت فقهاء أرضنا إلا يسلمون من كل اثنتين من النهار. والحديث دليل على مشروعية نافلة الليل مثنى مثنى وكذا النهار وإليه ذهب جماهير العلماء ولا يدل على الحصر ولا يعارض به ما ثبت بأكثر من ركعتين لوقوعه جواب سؤال لا مفهوم له اتفاقًا. وقد جاءت السنة الصحيحة الصريحة بالأربع والست. والسبع والثمان، والتسع. وغير ذلك، فلا منافاة

ولا يقتضي الكراهة بأكثر من ركعتين، ولا تناقض سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الذي قال صلاة الليل مثنى مثنى، هو الذي صلى أربعًا فأربعًا، وأوتر بالتسع والسبع، والخمس بل سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصدق بعضها بعضًا. قال شيخ الإسلام وغيره وكل ما جاءت به السنة فلا كراهة لشيء منه بل هو جائز اهـ. والحديث حمله الجمهور على أنه لبيان الأفضلية لما صح من فعله عليه الصلاة والسلام وقوله. ويحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخف إذ السلام من الركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوق أو لما فيه من الراحة غالبًا (فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى متفق عليه) وفي لفظ "فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة". وفيه دليل على مشروعية جعل آخر صلاته بالليل وترًا كما تقدم، وأنه لا يشرع الوتر بعد خروج الوقت ولمسلم عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر فأوتروا قبل طلوع الفجر" وله من حديث أبي سعيد "أوتروا قبل أن تصبحوا" ولابن حبان "من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له" وتقدم أنه إذا فاته قضاه من النهار. وفي هذه الأحاديث وغيرها دلالة واضحة على الاعتناء بشأنه وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو قال يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل. وفيه استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير من غير

تفريط. وكان عليه الصلاة والسلام عمله ديمة. وقالت عائشة "كان إذا عمل عملاً أثبته" قال أحمد ينبغي أن يكون له ركعات معلومة من الليل والنهار فإذا نشط طولها وإلا خففها لحديث أحب العمل إلى الله أدومه. (ولهما عن زيد بن ثابت) بن الضحاك النجاري الخزرجي من علماء الصحابة والمفتين فيهم وأفرضهم توفي سنة اثنتين وأربعين (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) أي الواجبة بأصل الشرع وهي الصلوات الخمس. ويأتي وجوب الجماعة لهن في المساجد ولابن ماجه من حديث عبد الله بن سعد سألته أيمًا أفضل الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد فقال "ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة". وله عن عمر قال عليه الصلاة والسلام "أما صلاة الرجل في بيته فنور، فنوروا بيوتكم" ولمسلم من حديث جابر "إذا قضي أحدكم الصلاة في مسجده فليجعله لبيته نصيبًا من صلاته فإن الله –عز وجل- جاعل في بيته من صلاته خيرًا" وثبت من غير وجه أن الصلاة السنن الراتبة في البيت أفضل. وفي الصحيحين "صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا" ولمسلم "لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة".

وهذا كله مع شرف مسجده - صلى الله عليه وسلم - والصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام لأن فعلها في البيت فضيلة تتعلق بها فإنه سبب لتمام الخشوع والإخلاص وأبعد من الرياء والإعجاب وشبههما، ويستثنى من ذلك ما تشرع فيه الجماعة. قال الشيخ ولا ينبغي الجهر نهارًا وليلاً يراعي المصلحة. فإن كان الجهر أنشط في القراءة أو بحضرته من يستمع لقراءته أو ينتفع بها فالجهر أفضل. وإن كان بقرب من يتهجد أو يتضرر برفع صوته أو خاف رياء فالإسرار أفضل والنبي - صلى الله عليه وسلم - ربما أسر وربما جهر، وقال "أيها الناس كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة". (وعن عمران بن حصين) بن عبيد بن خلف الخزاعي صحابي ابن صحابي أسلم عام خيبر أول من قدم البصرة وتوفي بها سنة اثنتين وخمسين (مرفوعًا) أي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل قاعدًا في صلاته فقال (من صلى قائمًا فهو أفضل) ولا ريب أنه أراد النفل فإنه لا نزاع أنه لا تجزئ الفريضة من قاعد لغير عذر (ومن صلى قاعدًا) يعني في النافلة لغير عذر (فله نصف أجر صلاة قائم رواه البخاري) وهو إجماع. وأما من صلى قاعدًا لعذر في فرض أو نفل فقال ابن بطال وغيره لا خلاف بين العلماء. أنه لا يقال لمن لا يقدر على الشيء لك نصف أجر القادر عليه بل الآثار الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن

من منعه الله وحبسه عن عمله بمرض أو غيره يكتب له أجر عمله وهو صحيح. وقال شيخ الإسلام إذا كان من عادته أنه يصلي قائمًا وإنما قعد لعجزه فإن الله يعطيه أجر القائم لقوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم". فلو عجز عن الصلاة كلها لمرض كان الله يكتب له أجرها كله لأجل نيته وفعله بما قدر عليه فكيف إذا عجز عن أفعالها وقال المعذور قسمان. معذور من عادته ومعذور عكسه، فالأول لا ينقص أجره عن حال صحته وهو مراد الشارع في قوله "يكتب له ما كان يعمله صحيحًا" وعكسه هو الذي أراده الشارع بالتفضيل. وفي هذا الحديث من رواية مسلم وغيره "ومن صلى نائمًا فله نصف أجر صلاة قاعد" وقال الخطابي وغيره لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في صلاة التطوع نائمًا كما رخصوا فيها قاعدًا. ولا أعلم أني سمعت نائمًا إلا في هذا الحديث وإنما دخل الوهم على ناقلها وتعقبه العراقي. وقال الشيخ لا يجوز التطوع مضطجعًا لغير عذر ولعذر تصح. ويسجد إن قدر وإلا أومى. اهـ. وأجمعوا على جواز التنفل في قعود. ويسن تربعه بمحل قيام وثني رجليه بركوع وسجود لحديث عائشة "كان يصلي متربعًا" صححه ابن حبان والحاكم. واتفقوا على أنه يجوز له القيام إذا ابتدأ الصلاة قاعدًا وأنه إن شرع في صلاة تطوع قائمًا لم يلزمه إتمامها قائمًا.

فصل في صلاة الضحى وغيرها

وإذا أتمها قاعدًا فله نصف أجر صلاة ما قعد فيه للخبر ولما فيه الصحيحين عنها "كان يقرأ قاعدًا حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحو من ثلاثين آية أو أربعين آية ثم ركع" ولمسلم "يصلي ليلاً طويلاً قاعدًا، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد". قال أحمد والعمل على تلك الأحاديث يعني في ركوعه عن قيام أو قعود فهي صحيحة معمول بها عند أهل العلم. قال الشيخ وتحريه مع قعوده أن يقوم ليركع ويسجد وهو قائم دليل على أنه أفضل إذ هو أكمل وأعظم خشوعًا لما فيه من هبوط رأسه وأعضائه الساجدة لله من قيام. فصل في صلاة الضحى وغيرها أي في حكم صلاة الضحى وغيرها كالاستخارة والحاجة والتوبة وركعتي الوضوء وغير ذلك. (عن أبي هريرة قال أوصاني خليلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث) خصال هي من أفضل التطوع والخلة أعلى مراتب المحبة وقد خصه - صلى الله عليه وسلم - بهذه الثلاث (بصيام ثلاثة أيام من كل شهر) والأفضل البيض كما سيأتي (وركعتي الضحى) أي حضه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المداومة على ركعتين من الضحى لأنه كان يشتغل في الليل بتذكر الحديث واختار الشيخ المداومة على هاتين الركعتين لمن لم يقم من الليل لتأكدها في حقه بالأمر الشرعي

(وأن أوتر قبل أن أنام) وتقدم استحبابه لمن يثق بقيام آخر الليل (متفق عليه). وعن أنس مرفوعًا: «من قعد في مصلاه حين ينصرف من الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرًا غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» رواه أبو داود. ولابن ماجه من حديث أبي هريرة: «من حافظ على شفعة الضحى يعني ركعتي الضحى غفرت ذنوبه، وإن كانت ممثل زبد البحر»، ولمسلم عن أبي ذر: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة. وكل تهليلة صدقة. وكل تكبيرة صدقة. وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة. ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى»، ولأحمد عن بريدة نحوه. قال شيخ الإسلام أقلها ركعتان باتفاق العلماء بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ولمسلم عن عائشة: «كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى أربعًا») أي أربع ركعات (ويزيد ما شاء الله)، وعن نعيم بن حماد مرفوعًا: «إن الله قال ابن آدم اركع لي أربع ركعات أول النهار أكفِك آخره» رواه الترمذي وغيره. قال الحاكم: صحبت جماعة من أئمة الحديث يختارون هذه الصلاة. (ولهما عن أم هانئ) بنت أبي طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل اسمها فاختة، وقيل: هند عاشت بعد أخيها علي رضي الله عنها

(أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح صلى ثماني ركعات سبحة الضحى) أي نافلة الضحى والسبحة الدعاء وصلاة التطوع لأنها يسبح بها ولابن حبان عن عائشة دخل بيتي "فصلى الضحى ثماني ركعات" ولمسلم عنها "ما رأيته يصلي قط سبحة الضحى وأني لأسبحها" ولأحمد والترمذي وغيرهما من حديث أبي سعيد "كان يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها ويدعها حتى نقول لا يصليها". وقولها كان يصلي أربعًا لا يدل على المداومة وهي في النفي إنما نفت الرؤية وأخبرت أنها تفعلها استنادًا على ما بلغها من الحث عليها وفعله لها. وهذه الأحاديث وغيرها تدل على عظم فضل صلاة الضحى وكبر موقعها وتأكد مشروعيتها. وحكى النووي وغيره سنيتها عن جمهور السلف وكافة متأخري الفقهاء وهي لا شك دون السنن الراتبة المؤكدة فلا تلحق بها. وتقدم أن لشيخ الإسلام قاعدة: أن ما ليس من السنن الرواتب لا يداوم عليه حتى يلحق بالرواتب وهي دونها فلا تشبه بها, وأكثر ما ثبت من فعله عليه الصلاة والسلام ثمان ركعات. وعن أنس مرفوعًا "من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة بني له قصر في الجنة" رواه الترمذي بسند ضعيف وله شواهد وقيل لأحد لأكثرها وأن الأفضل أربع أو ثمان. (ولمسلم عن زيد بن أرقم) بن قيس بن النعمان

الخزرجي الأنصاري –رضي الله عنه- توفي بالكوفة سنة ست وستين (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "صلاة الأوابين" أي الرجاعين إلى الله بترك الذنوب وفعل الخيرات يعني الصلاة التي تميزوا بها وسموا بسببها أوابين (حين ترمض الفصال) بفتح الميم تحترق من الرمضاء وهو شدة حر الأرض من وقع الشمس على الرمل وغيره فتبرك من شدة الحر أو تبول في أخفافها وذلك يكون عند ارتفاع الشمس وتأثيرها الحر. والفصال جمع فصيل وهو ولد الناقة سمي بذلك لفصله عن أمه وفي لفظ أنه خرج على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال "صلاة الأوابين إذا أرمضت الفصال من الضحى" وفي لفظ "لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل" ولابن مردويه وهم يصلون بعد ما ارتفعت الشمس فأول وقتها من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى قبيل الزوال وأفضله إذا تعالى النهار واشتد الحر لهذا الخبر الدال على فضيلة هذا الوقت ووصفه المصلين فيه بهذا الوصف الجميل. (وعن جابر: كان - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة) أي دعاء الاستخارة (في الأمور كلها) وهو دليل على العموم وأن المرء لا يحتقر أمرًا لصغره وعدم الاهتمام به فيترك الاستخارة فيه فيكون الإقدام عليه أو تركه ضررًا عظيمًا. ويروى من سعادة ابن آدم استخارة الله. والمراد قبل العزم على مندوب أو مباح لا واجب أو محرم (كما تعلمنا السورة من القرآن) أي يعتني

بشأن تعليمنا اهتمامًا بأمر الاستخارة وترغيبًا فيها لعظم نفعها وعمومه كما يعتني بالسورة فدل على تأكد استحبابها. قال العراقي لم أجد من قال بوجوبها. (يقول إذا هم أحدكم بالأمر) أي إذا أراد أمرًا بدون عزيمة كما في رواية ابن مسعود (فليركع ركعتين) لا تجزئ فيه ركعة واحدة وفي حديث أبي أيوب "ثم صلى ما كتب له" فدل على جواز الزيادة على الركعتين (من غير الفريضة) وظاهره أنه لا تحصل السنة بوقوع الدعاء بعد الفريضة وكذا الراتبة ولعله إنما أمره بذلك بعد حصول الهم بالأمر فإذا صلى راتبة أو فريضة قبله حصل الاستنان. قال شيخ الإسلام يجوز الدعاء في صلاة الاستخارة وغيرها قبل السلام وبعده. والدعاء قبل السلام أفضل لأنه قبل السلام لم ينصرف وهو أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثم ليقل اللهم إني أستخيرك الحديث) أي اقرأ الحديث، ولفظه "اللهم إني أستخيرك بعلمك" أي أطلب منك الخير أو الخيرة بأنك أعلم. وفي الترمذي مرفوعًا "اللهم خر لي واختر لي" وسنده ضعيف "وأستقدرك بقدرتك" أي أطلب منك أن تجعلني قادرًا عليه "وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب". إظهار للعجز والانقطاع وفزع منه تعالى إليه.

اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ويسمي حاجته خير لي في ديني ودنياي ومعاشي" أي عيشتي "وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري، وآجله فأقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فأصرفه عني وأصرفني عنه وأقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به" (رواه البخاري) والخمسة وغيرهم وقد روي عن غير واحد من الصحابة. والحديث دليل على مشروعية صلاة الاستخارة والدعاء في آخرها أو بعدها. قال غير واحد صلاة الاستخارة سنة بلا نزاع وهل يستحب تكرار الصلاة والدعاء؟ روي فيه حديث مرفوع ولا يثبت لكن قد يستدل بتكرار النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء ثلاثًا. قال النووي وغيره وينبغي أن يفعل ما ينشرح له صدره ويستشير وإذا ظهرت المصلحة فعله. (وحديث صلاة الحاجة) عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "من كانت له حاجة إلى الله تعالى أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ ويحسن الوضوء ثم ليصل ركعتين ثم ليثن على الله ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ليقل لا إله إلا الله العلي العظيم. سبحان الله رب العرش العظيم. الحمد لله رب العالمين. أسألك موجبات رحمتك" أي خصالاً تتسبب لرحمتك وتقتضيها بوعدك "وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبًا إلا غفرته ولا همًا إلا

فرجته ولا حاجة هي لك رضى مرضية لك إلا قضيتها يا أرحم الراحمين" ثم يسأل الله من أمر الدنيا والآخرة ما شاء فإنه قادر سبحانه وتعالى (رواه) ابن ماجه و (الترمذي وقال غريب) وفي إسناده مقال لأن فائد بن عبد الرحمن يضعف في الحديث ويشهد له حديث عثمان ابن حنيف صححه الترمذي. (وعن أبي بكر الصديق) رضي الله عنه واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي التيمي خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفضل الصحابة على الإطلاق وأحبهم إليه توفي سنة ثلاث عشرة وله ثلاث وستون (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "ما من رجل يذنب ذنبًا فيتوضأ ويحسن الوضوء) وفي لفظ فيتطهر فهذه طهارة الظاهر قدمها على طهارة الباطن (فيصلي ركعتين فيستغفر الله إلا غفر له" رواه الخمسة وحسنه الترمذي وابن كثير وغيرهما وفيه ثم قرأ {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} الآية وله شاهد عند مسلم وفي الصحيحين "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيها نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه". وفي الحديث دليل على مشروعية الصلاة إذا أذنب يتطهر ويصلي ثم يستغفر. وفيه استيفاء وجوه الطاعة في التوبة لأنه ندم فتطهر ثم صلى ثم استغفر وإذا أتى بذلك على أكمل الوجوه غفر الله له بوعده الصادق.

وحديث الصلاة عقب الوضوء متفق عليه) من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال عند صلاة الصبح "يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة؟ قال ما عملت عملاً أرجى عندي إلا أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي" وثبت "ما من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة". وفيهما الحث على الصلاة عقب الوضوء. قال شيخ الإسلام يستحب أن يصلي ركعتين عقب الوضوء ولو كان وقت نهي وهو مذهب الشافعي. تتمة: قال شيخ الإسلام وأما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل، وكان في السلف من يصليها لكن الاجتماع فيها لإحيائها بدعة. وقال أما إنشاء صلاة بعدد مقدر وقراءة مقدرة في وقت معين تصلي جماعة راتبة كصلاة الرغائب. والألفية ونصف شعبان، وسبع وعشرين من رجب وأمثال ذلك فهذا غير مشروع باتفاق علماء الإسلام. ولا ينشئ مثل هذا إلا جاهل مبتدع، وفتح مثل هذا الباب يوجب تغيير شرائع الإسلام. وقال أيضًا لا أصل لها بل هي محدثة لا جماعة ولا فرادى.

فصل في سجود التلاوة والشكر

والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء. وقال النووي صلاة الرغائب والألفية بدعتان مذمومتان ومنكرتان قبيحتان فلا تغتروا بذكرهما ولا بالحديث المذكور فيهما فإن ذلك باطل. والرغائب أول جمعة من رجب قال شيخ الإسلام: وصلاة التسبيح نص أحمد وأئمة أصحابه على كراهيتها ولم يستحبها إمام وأما أبو حنيفة ومالك والشافعي فلم يسمعوا بها بالكلية ولم ينقل أحد من الأئمة أنه يجوز أن يجعل الشيء واجبًا أو مستحبًا بحديث ضعيف. ومن قال هذا فقد خالف الإجماع. وقال العمل بالخبر الضعيف لا يجوز بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثواب أو تخاف ذلك العقاب، ومثله الترغيب والترهيب بالإسرائيليات والمنامات ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي لا استحباب ولا غيره. لكن يجوز ذلك في الترغيب والترهيب فيما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع فإنه ينفع ولا يضر واعتقاد موجبه يتوقف على الدليل الشرعي. فصل في سجود التلاوة والشكر أي في أحكام سجود التلاوة وأحكام سجود الشكر، وذلك أن الله تعالى شرعهما عبودية عند تلاوة تلك الآيات واستماعها وقربة إليه وشكرًا له عند تجدد نعمة واندفاع نقمة وخضوعًا له وتذللاً بين يديه في مقابلة فرحة النعمة وانبساط النفس لها. وتقدم حديث: "إنك لن تسجد لله سجدة إلا

رفعك الله بها درجة. وحط بها عنك خطيئة". وحديث "إذا سجد ابن آدم اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويلاه أمر بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار". وفي فضل السجود أحاديث كثيرة لما فيه من التذلل والخضوع لله. قال ابن القيم: ومواضع السجدات أخبار وأوامر خبر من الله عن سجود مخلوقاته له عمومًا أو خصوصًا فسن للتالي والسامع أن يتشبه بهم عند تلاوة آية السجدة أو سماعها وآيات الأوامر بطريق الأولى. (عن ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة) يعني من القرآن (فيقرأ السجدة) وفي لفظ "فيها السجدة (فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا مكانًا لموضع جبهته) يعني من شدة الزحام (متفق عليه) قال أبن عمر حتى يسجد على ظهر أخيه. والحديث دليل على مشروعية سجود التلاوة وهو عند الجمهور سنة وعند أبي حنيفة واجب. وهو رواية عن أحمد واختاره الشيخ وغيره. قال وهو مذهب طائفة من العلماء. وقال ابن بطال وأجمعوا على أن القارئ إذا سجد لزم المستمع أن يسجد اهـ. ولا يسن لسامع الذي لم يقصد الاستماع قال عثمان إنما السجدة على من استمع ونحوه عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس ولا يعرف لهم مخالف وهو مذهب الجمهور. ولأبي داود

"كبر وسجد وسجدنا معه" وفيه ضعف. وللحاكم نحوه من طريق آخر على شرط الشيخين "ويرفع يديه" ندبًا لا في صلاة وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لقول ابن عمر ولا يفعل ذلك في السجود وهو المذهب صرح به ابن القيم وغيره. وقال في الفروع كسجود نافلة فيما يعتبر له اتفاقًا واحتج الأصحاب بأنه صلاة فيدخل في العموم. وخالف شيخنا قال: ولا يشرع فيه تحريم ولا تحليل. هذا هو السنة المعروفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها عامة السلف. وقال أحمد أما التسليم فلا أدري ما هو. قال ابن القيم وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي غيره. ولا نقل فيه تشهد ولا سلام البتة ولا جلوس. وعلى هذا فليس بصلاة فلا يشترط له شروط الصلاة بل يجوز وإن كان على غير طهارة وكان ابن عمر يسجد على غير طهارة وهو مفهوم الخبر واختاره البخاري. لكن السجود بشروط الصلاة أفضل. ولا ينبغي أن يخل بذلك إلا لعذر فالسجود بشروط الصلاة أفضل. ولا ينبغي أن يخل بذلك إلا لعذر فالسجود بلا طهارة خير من الإخلال به. لكن قد يقال إنه لا يجب في هذه الحال كما لا يجب على السامع ولا على من لم يسجد قارؤه. وإن كان ذلك السجود جائزًا عند جمهور العلماء. وقال غير واحد ليس في أحاديث السجود ما يدل على اعتبار أن يكون الساجد متوضئًا. وليس بصلاة من كل وجه قال ابن جرير ليس بركعة ولا ركعتين فيجوز بلا وضوء وللجنب والحائض وإلى غير القبلة كسائر الذكر.

ولم يأت بإيجابه لغير الصلاة قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس وقال ابن القيم القول الثاني لا يشترط وهو قول كثير من السلف حكاه ابن بطال. وقالوا ليس في اشتراط الطهارة له كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس. اهـ. وكان يسجد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من حضره. ولم ينقل أنه أمر أحدًا منهم بالوضوء. وليس فيها أيضًا ما يدل على طهارة المصلي. قال في الفروع وأما ستر العورة والاستقبال مع الإمكان فمعتبر اتفاقًا وسجود عن قيام أفضل كصلاة النفل لما فيه من كمال الخضوع. قال الشيخ بل سجود التلاوة قائمًا أفضل منه قاعدًا كما ذكره من ذكره من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما. وكما نقل عن عائشة. وكذا سجود الشكر كما رواه أبو داود في سننه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من سجوده للشكر قائمًا وهذا ظاهر في الاعتبار قال تعالى: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} {وَخَرَّ رَاكِعًا} {فَلَمَّا خَرَّ} وهو عن قيام. (وللبخاري عن عمر أن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء) أي السجود فهو موكول إلى مشيئتنا. وله عنه أنه قرأ على المنبر سورة النحل حتى جاء السجدة فنزل وسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال أيها الناس إنا لم نؤمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب أي السنة ومن لم يسجد فلا إثم عليه.

وخبر عمر في هذا الموطن العظيم والجمع العميم دليل ظاهر في إجماعهم على أنه ليس بواجب. ولأن الأصل عدم الوجوب حتى يثبت دليل صحيح صريح في الأمر به. وفي الصحيحين عن زيد بن ثابت قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم فلم يسجد فيها. ويأتي أنه سجد فيها ففعله تارة وتركه تارة يدل على السنة. قال الحافظ وأولى الاحتمالات أنه لبيان الجواز. (وله عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد بالنجم) ولهما عن ابن مسعود قرأ "والنجم فسجد من كان معه" والسجود فيها مذهب الجمهور. (ولمسلم عن أبي هريرة: سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في (إذا السماء انشقت) و (اقرأ باسم ربك) ورواه الخمسة وغيرهم وهو مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين وإنما خالف بعض المالكية. وذكر قولاً للشافعي في القديم، ولهما عن أبي هريرة "أنه سجد خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في إذا السماء انشقت" وقال الطحاوي تواترت الآثار عنه - صلى الله عليه وسلم - بالسجود في المفصل وقال ابن عبد البر وأي عمل يدعى مع مخالفة النبي –صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين بعده. وذكر الحافظ أن في رواية أبي الأشعث عن معمر التصريح بأن سجود النبي - صلى الله عليه وسلم - في (إذا السماء انشقت) كان داخل الصلاة. وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء ولم يفرقوا بين صلاة الفريضة والنافلة.

وقال أجمعوا على أنه يسجد في عشرة مواضع وهي متوالية إلا ثانية الحج. وص وأما سجود المفصل فتقدم أنه ثابت في الصحيح وهو مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين. وخالف بعضهم في سجدة آخر الحج وص. وعن عمرو بن العاص قال "أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل. وفي الحج سجدتان" رواه أبو داود والحاكم وحسنه النووي والمنذري وتكلم فيه الحافظ وغيره. ولأبي داود وغيره من حديث عقبة بن عامر قلت يا رسول الله أفي سورة الحج سجدتان قال "نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأها" ولفظ حديث خالد "فضلت بسجدتين". (وعن ابن عباس: ليست ص من عزائم السجود) أي لم يرد فيها تحريض ولا حديث فليست مما سنه منها (وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها رواه البخاري) وسئل ابن عباس من أين أخذت السجود في ص قال من قوله تعالى: إلى قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} إلى قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فدل على أنه أخذه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمعه واستنبطه من الآية. وللنسائي مرفوعًا "سجد في ص، وقال سجدها داود توبة ونسجدها شكرًا ولأبي داود وغيره من حديث أبي سعيد "نزل عن المنبر وسجد سجد الناس معه" ولما بلغها يومًا آخر نشزوا للسجود فقال: "إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم نشزتم للسجود فسجد وسجدوا.

وجاء عن جماعة من الصحابة أنهم سجدوا فيها. فينبغي سجودها خارج الصلاة كما هو قول الجمهور. لا في الصلاة خروجًا من الخلاف. كما أنه لا ينبغي السجود في الصلاة السرية خشية الإبهام والتخليط على المأموم. (وعن عائشة: كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجود القرآن) بالليل (سجد وجهي لله الذي خلقه) زاد البيهقي: وصوره (وشق) أي فتح (سمعه وبصره) حتى جعله يسمع ويبصر "بحوله وقوته" رواه الخمسة وغيرهم إلا ابن ماجه و (صححه الترمذي) وابن السكن وزاد الحاكم "فتبارك الله أحسن الخالقين" ولمسلم نحوه من حديث علي وتقدم في الصلاة. وللترمذي وغيره عن ابن عباس "اللهم حط عني بها وزرًا وأكتب لي بها عندك أجرًا وأجعلها لي عندك ذخرًا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام" وفيهما مشروعية الذكر في سجود التلاوة بما اشتملا عليه ويقول قبلهما سبحان ربي الأعلى كما يقول في سجود صلب الصلاة. (وعن أبي بكرة) نفيع بن مسروح ويقال ابن الحارث بن عمرو الثقفي تدلى في بكرة مع غلمان من أهل الطائف توفي سنة إحدى وخمسين رضي الله عنه (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه أمر يسره) ظاهره خاصًا كان أو عامًا

(خر ساجدًا لله" رواه الخمسة إلا النسائي وحسنه الترمذي) وقال غريب ولفظ أحمد: أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه بشير يبشره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حجر عائشة "فقام فخر ساجدًا فأطال السجود ثم رفع رأسه فتوجه عند صدفته فدخل فاستقبل القبلة". وله من حديث عبد الرحمن بن عوف نحوه وفيه: "إن جبريل أتاني فبشرني فقال إن الله –عز وجل- يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت شكرًا" ولأبي داود عن سعد بن أبي وقاص قال خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة نريد المدينة فلما كنا قريبًا من عزوراء "نزل ثم رفع يديه ساعة ثم خر ساجدًا فعله ثلاثًا. وقال "إني سألت ربي وشفعت لأمتي فأعطاني الثلث الآخر فخررت ساجدًا" وذكر الثالثة كذلك. (وعن البراء بن عازب) بن حارث الأنصاري الأوسي مات بالكوفة سنة اثنتين وسبعين (في كتاب علي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلام همدان) وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى اليمن معلمًا لهم ولما أسلموا وانقادوا كتب علي –رضي الله عنه- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخبر إسلامهم (قال) البراء -رضي الله عنه- (لما قرأه) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (خر ساجدًا شكرًا لله) على ذلك رواه البيهقي وغيره و (صححه المنذري) الحافظ الحجة زكي

الدين عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المشهور بالمنذري المتوفي سنة ست وخمسين وستمائة. وفي الصحيحين قصة سجود كعب بن مالك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بشر بتوبة الله عليه. وروى سعيد بن منصور وغيره سجود أبي بكر لما جاءه خبر قتل مسيلمة وسجد علي لما وجد ذا الثدية في الخوارج. وذلك يدل على أن مشروعية سجود الشكر كانت متقررة عندهم وهو مذهب جمهور العلماء. وروي عن مالك كراهته وأبي حنيفة والثانية عنه إباحته وهذا عنهما رحمهما الله غريب لاستفاضته عنه - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه من طرق كثيرة تقوم بها الحجة. وقال ابن القيم لو لم تأت النصوص بالسجود عند تجدد النعم لكان هو محض القياس ومقتضى عبودية الرغبة. كما أن السجود عند الآيات مقتضي عبودية الرهبة. اهـ. فلا مرية في مشروعية سجود الشكر في غير الصلاة عند تجدد النعم سواء كانت خاصة أو عامة دينية أو دنيوية. كتجدد ولد أو مال أو جاه أو نصرة على عدو أو غير ذلك من سائر النعم أو اندفاع النقم. شكرًا لله عليها وخضوعًا له وتذللاً بين يديه في مقابلة فرحة النعمة وانبساط النفس لها. لا دوام النعمة لأنه لا ينقطع. فلو شرع له السجود لاستغرق عمره وشكرها بالطاعات. قال شيخ الإسلام ولو أراد الدعاء فعفر وجهه لله بالتراب

فصل في أوقات النهي

وسجد له ليدعوه فيه فهذا سجود لأجل الدعاء ولا شيء يمنعه. وابن عباس سجد لما جاء نعي بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال عليه الصلاة والسلام "إذا رأيتم آية فاسجدوا" قال وهذا يدل على أن السجود يشرع عند الآيات فالمكروه هو السجود بلا سبب. فصل في أوقات النهي أي في ذكر أحكام أوقات النهي وما يباح من الصلاة فيها. (عن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا صلاة) أي لا تصلوا النافلة (بعد الصبح) أي صلاته أو طلوعه وفي لفظ "لا صلاة بعد صلاة الفجر". ومن حديث عمر وأبي هريرة "بعد الفجر" وفي لفظ عن عمر "بعد صلاة الصبح" (حتى تطلع الشمس) أي ترتفع وتشرق ليس المراد مجرد ظهور القرص. ولأحمد وغيره عن ابن عمر "إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر" احتج به أحمد وقال الترمذي: هو ما أجمع عليه أهل العلم كرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر وفي الصحيحين "إذا طلع الفجر لم يصل إلا ركعتين خفيفتين" قال شيخ الإسلام: وليس بعد طلوع الفجر والفريضة

سنة إلا ركعتان اهـ؛ وادعى النووي الإجماع على ذلك وذهب مالك والشافعي وهو رواية عن أحمد أن النهي متعلق بفعل الصلاة وأن الوتر يقضى قبل صلاة الفجر لقوله: "لا صلاة بعد صلاة الفجر" وقد يقال المراد بصلاة الصبح فيما قبل وقتها فهو بمعنى طلوع الفجر فتتفق الأدلة. وأما قضاء ركعتي الفجر بعدها فجائز لحديث قيس واختار أحمد: أن يقضيها من الضحى. (ولا صلاة بعد العصر) وفي لفظ: بعد صلاة العصر (حتى تغيب الشمس متفق عليه) والأحاديث في النهي عن الصلاة في هذين الوقتين مستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجمعوا على أنه لا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس. والاعتبار بالفراغ منها لا بالشروع فيها فمن لم يصل العصر أبيح له التنفل. وإن صلى غيره قال في المبدع بغير خلاف نعلمه. وكذا لو أحرم بها ثم قلبها نفلاً أو قطعها لعذر لم يمنع من التطوع حتى يصليها. ومن صلاها فليس له التنقل ولو صلى وحده. وتقضي سنة الظهر بعدها لما في الصحيحين "أنه قضى سنة الظهر بعد العصر" وأما التطوع بعدها بركعتين ففي صحيح مسلم وغيره كان عمر يضرب عليهما بمحضر من الصحابة فكان إجماعًا. (ولمسلم عن عقبة بن عامر) بن عمرو بن قيس الجهني ولي إمارة مصر وتوفي بها سنة ثمان وخمسين (قال ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي فيهن) أي نافلة (وأن

نقبر) بضم وتكسر أي ندفن (فيهن موتانا) قال البغوي والنووي والشيخ وغيرهم معناه تعمد تأخير الدفن إلى هذه الأوقات وضعفوا قول من قال إنه الصلاة لأن الصلاة على الجنازة لا تكره في هذه الأوقات إجماعًا وبين الثلاث الساعات. فقال: (حين تطلع الشمس بازغة) أي ظاهرة (حتى ترتفع) أي قيد رمح في رأي العين (وحين يقوم قائم الظهيرة) وهو البعير يكون باركًا فيقوم من شدة الحر. والظهيرة شدة الحر وقيل حين لا يبقى للقائم ظل أو قيام الشمس وقت الزوال لتخيل المتأمل إنها وقفت وهي سائرة (وحين تضيف) أي تميل (الشمس للغروب حتى تغرب) وفي الصحيح من حديث ابن عمر إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب. ولمسلم عن عمرو بن عبسة قلت: يا نبي الله أخبرني عن الصلاة. قال: "صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإنها حينئذ تسجر جهنم. فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب

الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان. وحينئذ يسجد لها الكفار. وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على تحريم الصلاة في هذه الأوقات. والحاصل أن هذه الأوقات المنهي عن الصلاة فيها ترجع إلى ثلاثة فأما ما بعد الصبح إلى طلوع الشمس وما بعد العصر إلى غروبها فمتواتر. وأما وقت قيام الشمس ففيه أربعة أحاديث. حديثة عقبة وعمرو وأبي هريرة عند ابن ماجه والصنابحي في الموطأ. وعد بعضهم أيضًا وقتين عند طلوع الشمس حتى ترتفع وعند غروبها حتى تتم لهذه الأخبار وغيرها فتكون خمسة. ولعل الاختلاف في الألفاظ وقع من الرواة. ولا نزاع بين أهل العلم في أنه لا يجوز أن يبتدئ في هذه الأوقات تطوعًا لا سبب له للآثار المستفيضة في النهي عن ذلك. وثبت من حديث عائشة وابن عمر "لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فتصلوا عند ذلك" أي لا يقصد أحدكم الصلاة عند ذلك لأن الكفار يسجدون لها في هذين الوقتين فنهينا عن ذلك سدًا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى مشابهتهم في القصد. وأما ذوات الأسباب فتفعل فيها للأدلة الدالة على ذلك وهي تخص عموم النهي واستثني يوم الجمعة بسند ضعيف عن أبي قتادة "كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة وقال إن

جهنم تسجر إلا يوم الجمعة" وقال أبو داود مرسل ومن حديث أبي هريرة عند الشافعي إلا يوم الجمعة وهو ضعيف أيضًا ولكن يؤيده فعل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة. وحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على التبكير إليها والترغيب في الصلاة إلى خروج الإمام وعده ابن القيم وغيره من خصائصها. (وعن جبير بن مطعم) بن عدي بن نوفل القرشي أسلم بعد الفتح يقال توفي سنة أربع أو سبع وخمسين (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يا بني عبد مناف) بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشيين وكانوا ولاة الحرم الشريف (لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار رواه الخمسة) وغيرهم وهذا إذن منه - صلى الله عليه وسلم - في فعل الطواف وركعتيه في جميع أوقات النهي. وقال ابن عمر افعل كما رأيت أصحابي يفعلون فكان يصلي إثر الطواف بعد الصبح. وقبل طلوع الشمس. وبعد العصر قبل غروب الشمس. وهذا مذهب الشافعي وأحمد. وعن ابن عباس مرفوعًا " يا بني عبد المطلب" وهو ابن هاشم القرشي. "أو يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا يطوف بهذا البيت ويصلي" الحديث رواه الدارقطني وهو معلول وفي حديث أبي ذر عند الشافعي إلا بمكة وفيه عبد الله بن مؤمل وهذا الحديث مما أنكر عليه ولو صحا لكان دليلاً على جواز النافلة عند البيت مطلقًا

فيخص من النهي ركعتا الطواف كما يخص غيرها مما له سبب للإجماع على تحريم إنشاء تطوع في أوقات النهي ولم يخصوا مكة ولا غيرها وبه تتفق الأدلة. (ولهم) وغيرهم (إلا ابن ماجه عن يزيد بن الأسود) العامري السواءي ويقال الخزاعي حليف قريش –رضي الله عنه- (في الذين لم يصليا الفجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ولفظه قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر فلما قضى صلاته إذا هو برجلين لم يصليا معه فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا" (قال: لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما) أي في منازلكما. (ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم) ولابن حبان "ثم أدركتما الصلاة فصليا" ولفظ أبي داود "إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه" ويأتي حديث أبي ذر "صل الصلاة لوقتها فإن أقيمت وأنت في المسجد فصل ولا تقل إني صليت فلا أصلي (فإنها لكما نافلة) وفي التصريح بأن الثانية في الصلاة المعادة نافلة سواء كانت الأولى جامعة أو فرادى لعدم الإستفصال (صححهما الترمذي). ولهذا شواهد كلها تدل على مشروعية الدخول مع الجماعة بنية التطوع لمن كان قد صلى تلك الصلاة وإن كان وقت نهي للتصريح بأن ذلك كان في صلاة الصبح ولو وجدهم يصلون

وهذا مذهب أحمد والشافعي واختاره ابن القيم وغيره. قيل لأحمد فيمن صلى جماعة ثم دخل المسجد وهم يصلون أيصلي معهم قال: نعم ولئلا يتخذ قعوده ذريعة إلى إساءة الظن به وأنه ليس من المصلين. وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - "من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته" وتقدم أيضًا قصة نومهم عن صلاة الفجر وأن قضاء الصلاة في أوقات النهي أمر مجمع عليه. وتقدم أيضًا قوله: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" وأنه حكى النووي إجماع المسلمين على سنيتها في جميع الأوقات وصحح الشيخ وغيره قول من استحب ذلك. وإن الحديث عام لم يخص فلا يجوز تخصيصه بعموم مخصوص. ويأتي قوله - صلى الله عليه وسلم - للداخل يوم الجمعة حال الخطبة بعد أن قعد "قم فصل ركعتين" ولو كانت تترك في وقت لكان هذا الوقت أولى لأنه يمنع حال الخطبة من الصلاة لا التحية. وكل هذا مبالغة في تعميم التحية. فكل ما له سبب من جميع ما تقدم وما يأتي يجوز فعله في أوقات النهي. قال الشيخ وغيره هذا مذهب أهل الحديث وأهل التحقيق من أتباع الأئمة حملوا أحاديث النهي على مالا سبب له. وأما ذوات الأسباب فتفعل في أوقات النهي للأدلة الدالة على ذلك وهي تخص عموم النهي كما خص منه صلاة الجنائز

باب صلاة الجماعة

باتفاق المسلمين. وقضاء الفوائت. والداخل حال الخطبة. ومن منع ذلك قيل له: جوزت الصلاة وقت الخطبة وهو وقت نهي باتفاق العلماء. وكذا إعادة الجماعة وقضاء الفوائت ومنعت ما سواهما مما له سبب فلم تعمل بأحاديث النهي على ظاهرها بل خالفت ظاهرها في بعض دون بعض. وقال: ويستحب أن يصلي ركعتين عقب الوضوء ولو كانت وقت نهي للخبر المتقدم ولئلا يبقى الوضوء خاليًا عن مقصوده. وتصلي صلاة الاستخارة في وقت النهي في أمر يفوت بالتأخير إلى وقت الإباحة وغير ذلك مما هو أعم من أحاديث النهي. وحيث ثبت قضاؤه الركعتين وإقراره الذي صلى بعد الفجر ركعتي الفجر وغير ذلك مما مر وغيره مع أنه لا يفوت بالتأخير فما له سبب يفوت بالتأخير أولى. باب صلاة الجماعة أي باب بيان أحكام الجماعة في الصلاة ومن الأولى بالإمامة وموقف الإمام والمأموم وما يبيح ترك الجماعة من الأعذار وما يتعلق بذلك، وفصلت أحكام الجماعة لأنها صفة زائدة على ماهية الصلاة وسميت جماعة لاجتماع المصلين في الفعل مكانًا وزمانًا فإذا أخلوا بهما أو بأحدهما لغير عذر كان ذلك منهيًا عنه باتفاق الأئمة. واتفق المسلمون على أن الصلوات الخمس في المساجد

جماعة من أوكد العبادات وأجل الطاعات وأعظم القربات بل وأعظم شعائر الإسلام شرعها الله –عز وجل- لهذه الأمة ببركة نبيها محمد – - صلى الله عليه وسلم - لأجل التواصل والتوادد وعدم التقاطع وعموم البركة ومضاعفة الثواب وزيادة العمل عند مشاهدة أولي الجد وغير ذلك من الحكم، وشرع أيضًا اجتماعات معلومة منها الجمعة والعيدان والوقوف بعرفة. وبرهان وجوب الجماعة للصلوات الخمس الكتاب والسنة والآثار والاعتبار وعمل المسلمين قرنًا بعد قرن وموجب عمارة المساجد وفرض النداء لها وغير ذلك. (قال تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ} أي فصليت بهم إمامًا في صلاة الخوف {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} الآية وذكر حالة الاجتماع والائتمام بإمام واحد ويأتي. قال ابن كثير وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك. قال الشيخ فإن الجماعة يعني في صلاة الخوف يترك لها أكثر واجبات الصلاة فلولا وجوبها لم يؤمر بترك الواجبات لها. اهـ. فأمر تعالى بالجماعة أولاً ثم أمر بها ثانيًا ولم يرخص لهم حال الخوف فلو كانت سنة لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف ولو كانت فرض كفاية لسقطت بفعل الطائفة الأولى فدلت هذه الآية وكذا الأحاديث الآتية في صلاة الخوف وغيرها على وجوبها

على الأعيان وقال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِين} والسياق يدل على اختصاص الركوع بذلك وخص الركوع لأنه تدرك به الصلاة فليس إلا فعلها مع المصلين. وإطلاق البعض على الكل كثير فالمراد وصلوا مع المصلين والأمر المقيد بصفة أو حال لا يكون المأمور ممتثلاً إلا بالإتيان به على تلك الصفة والحال. وقال تعالى: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وقال: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُون} ونحو صلاة الخوف الجمع بين الصلاتين في المطر لأجل تحصيل الجماعة مع أن إحدى الصلاتين قد وقعت خارج الوقت والوقت شرط فلو لم تكن الجماعة واجبة لما ترك لها الوقت. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال والذي نفسي بيده) فيه إثبات صفة اليد له تعالى على ما يليق بجلاله تعالى وعظمته من غير تمثيل (لقد هممت) هو جواب القسم والإقسام منه – - صلى الله عليه وسلم - لبيان عظم شأن ما يذكره زجرًا عن ترك الجماعة أي عزمت (أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف) أي آتي (إلى رجال لا يشهدون الصلاة) أي لا يحضرون الجماعة (فأحرق عليهم بيوتهم بالنار متفق عليه). وفي لفظ "ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" وأحرق

بالتشديد يقال حرقه إذا بالغ في تحريقه. وإنما منعه – - صلى الله عليه وسلم - من تحريق المتخلفين ما في البيوت من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم الجماعة. ولابن ماجه "لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم" وأول الحديث "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر" لأنهما وقت السكون والراحة ولذة النوم وليس لهم داع. "ولو يعلمون ما فيهما" يعني من مزيد الفضل "لأتوهما" أي لأتوا المحل الذي يصليان فيه جماعة "ولو حبوا" على المرافق والركب إذا منعهم مانع من المشي وهو شاهد لأثر ابن مسعود الآتي ولفضيلة الجماعة قال الحافظ وهذا الحديث ظاهر في كونها فرض عين لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول – - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، وكون الشيء واجبًا لا ينافي كونه فضيلة. (ولمسلم قال أتى النبي – - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى) هو ابن أم مكتوم (فقال: ليس لي قائد يقودني إلى المسجد) ولأحمد وأبي داود وغيرهما عنه أنه قال: "أنا ضرير شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي" والرخصة التسهيل في الأمر والتيسير (فرخص له) أي في عدم إتيان المسجد (فلما ولى دعاه فقال هل تسمع النداء بالصلاة قال نعم قال فأجب) ولفظ أحمد وأبي داود قال: "أتسمع النداء" قال: نعم قال: "ما أجد لك رخصة".

قال شيخ الإسلام وهذا نص في إيجاب الجماعة اهـ. ويأتي قوله: "فليؤمكما أكبركما" ولمسلم "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم" وهو أمر ظاهر الوجوب. وقوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" وقواه عبد الحق. وفي السنن: "من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له" قال الشيخ هذا يقتضي أن النداء والصلاة في الجماعة من الواجبات. (وله عن ابن مسعود: لقد رأيتنا) يعني أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين هم أعمق الناس علمًا وأغزرهم فهمًا شاهدوا التنزيل وعلموا التأويل اختارهم الله لصحبة نبيه ولحفظ دينه. وأول الأثر قال من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليصل هذه الصلوات الخمس حيث ينادي بهن فإن الله شرع لنبيه سنن الهدى. وإن هذه الصلوات الخمس في المساجد التي ينادي بهن من سنن الهدى. وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم. ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. ولقد رأيتنا (وما يتخلف عنها) يعني الصلوات الخمس (إلا منافق معلوم النفاق) قال تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} (ولقد كان الرجل يؤتى به) يعني إلى الجماعة (يهادي بين الرجلين) أي يمسكه رجلان من جانبيه بعضديه يعتمد عليهما (حتى يقام في الصف) لتأكد حضورها.

وهذا دليل ظاهر على استقرار وجوبه عند أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - ومعلوم أن كل أمر لا يتخلف عنه إلا منافق لا يكون إلا واجبًا على الأعيان. قال شيخ الإسلام وهو المشهور عن أحمد وغيره من أئمة السلف وفقهاء الحديث وغيرهم. ولأحمد وغيره مرفوعًا "الجفا كل الجفا والكفر والنفاق من سمع منادي الله ينادي إلى الصلاة فلا يجيبه" وثبت حديث "يد الله على الجماعة فمن شذ شذ في النار". وسئل حبر الأمة عبد الله بن عباس عن رجل يقوم الليل ويصوم النهار ولا يحضر الجماعة فقال: هو في النار. ومن قال من الأئمة إنها سنة. فمؤكدة لتصريحه بتأثيم تاركها وسقوط عدالته وتعزيره وأنه لا رخصة في تركها إلا لعذر للأخبار فوافقونا معنى بل صرح بعضهم بأنها سنة مؤكدة وأنهم أرادوا بالتأكيد الوجوب أخذًا بالأخبار الواردة بالوعيد الشديد على تركها. وقال النووي وطوائف من اتباع الأئمة: الجماعة مأمور بها للأحاديث الصحيحة المشهورة وإجماع المسلمين. وذكر الوجه الثالث أنها فرض عين وأنه قول للشافعي واثنين من أكابر أصحابهم المتمكنين في الفقه أبي بكر بن خزيمة وابن المنذر وغيرهما. وأن من خالف ذلك فليس له دليل مقاوم أدلة وجوبها. وقال الشافعي وأما الجماعة فلا أرخص في تركها إلا من عذر، ذكره المزني.

وقال الشيخ اتبع الإمام أحمد ما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة من وجوبها مع عدم العذر وسقوطها بالعذر. وقال الشيخ من أصر على ترك الجماعة فهو آثم مخالف الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة. وقال هو وابن القيم من تأمل الكتاب والسنة وما كان عليه السلف حق التأمل علم أن فعلها في المسجد فرض عين إلا لعذر وأنه كترك الجماعة لغير عذر وبه تتفق الأحاديث والآثار. وما ورد من الأدلة على وجوب الجماعة مما تقدم وغيره صريح في إتيان المساجد لها وأنه من أكبر شعائر الدين. (وعن ابن عمر مرفوعًا "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ) أي الفرد (بسبع وعشرين درجة متفق عليه) ولأحمد "خمس وعشرين درجة كلها مثل صلاته" ولهما من حديث أبي هريرة "صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة" وفي لفظ "بخمس وعشرين جزءًا" وهو مروي عن جماعة من الصحابة. وفي بعض الروايات "ضعفًا" وفي بعضها "صلاة". والمراد أنه يحصل له من صلاة الجماعة مثل أجر صلاة المنفرد سبعًا وعشرين مرة. وللخمسة من حديث أبي "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده. وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل. وما كان أكثر فهو أحب إلى الله" وقال القرافي لا نزاع أن الصلاة مع الصلحاء والعلماء والكثير

من أهل الخير أفضل من غيرهم لشمول الدعاء وسرعة الإجابة وكثرة الرحمة وقبول الشفاعة، اهـ. وقيل مفهوم العدد غير مراد فلا منافاة، وقيل باعتبار قرب المسجد وبعده وقيل غير ذلك. وفي فضل صلاة الجماعة أحاديث وآثار كثيرة واستدل القائلون بأن صلاة الجماعة غير واجبة بهذا الحديث. وأن صيغة أفضل تدل على الاشتراك في أصل الفضل وإن المشترك ههنا لا بد أن يكون هو الإجزاء والصحة وكون الشيء واجبًا لا ينافي كونه فضيلة. فكذا كونه فضيلة لا ينافي كونه واجبًا. وأنكر شيخ الإسلام وغيره حمله على غير المعذور. وقال التفضيل لصلاة الجماعة على صلاة الفرد إنما دل على فضل هذه الصلاة وحده ولعله من لم تكن عادته الصلاة في جماعة فقد قال قاعدة الشريعة أن من كان عازمًا على الفعل عزمًا جازمًا وفعل ما يقدر عليه منه كان بمنزلة الفاعل. وقال إنما يكتب له إذا كان من عادته أن يعمل ونيته أن يعمل وفي الصحيح "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا". والجمهور أنه تصح صلاة المنفرد بلا عذر مع الإثم. قال الموفق وغيره لا نعلم من أوجب الإعادة على من صلى وحده إلا

ما روي عن بعض الصحابة أن من صلى وحده من غير عذر فلا صلاة له. وقال الشيخ الوقت لا يمكن تلافيه فإذا فات لم يمكن فعل الصلاة فيه. ونظيره من فوت الجماعة الواجبة التي يجب عليه شهودها وليس هناك جماعة أخرى فإنه يصلي منفردًا. وتصح صلاته هنا مع الإثم لعدم إمكان صلاته جماعة. (ولهما عنه مرفوعًا إذا استأذنكم نساؤكم) بالليل (إلى المسجد) ولم يذكر أكثر الرواة بالليل وخص لما فيه من الستر بالظلمة (فأذنوا لهن) "ولا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد" لأنهم من أهل الفرض أشبهن الرجال فيدخلن في عموم ما تقدم من فضل الجماعة. ولأحمد وأبي داود "وبيوتهن خير لهن" أي صلاتهن في بيوتهن خير لهن من صلاتهن في المساجد لو علمن ذلك. ولا نزاع في ذلك ولأحمد من حديث أم سلمة: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن»، وله من حديث أبي هريرة "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات" أي غير متطيبات. ولمسلم عنه "أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة". قال القاضي عياض وشرط العلماء في خروجهن أن يكون بليل غير متزينات ولا متطيبات ولا مزاحمات للرجال ولا شابة مخشية الفتنة. وقالت عائشة لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأي من النساء ما رأينا لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها وذلك لما رأت من حسن الملابس والطيب والزينة والتبرج وإنما

كان النساء يخرجن في المروط والأكسية والشملات الغلاظ فإذا كان الحال كذلك لم يجز منعهن عن المساجد. ويدخل في ذلك مجالس الذكر للتفقه ونيل البركة. وإن منعها لم يحرم. وذكره البيهقي قول عامة الفقهاء ولأن ملازمة المسكن حق واجب للزوج فلا تتركه لفضيلة. وقال الوزير الذي أرى حضورهن الجماعات وأنهن يكن في أواخر الصفوف من الرجال على ما جاءت به الأحاديث ومضى عليه زمان المصطفى – - صلى الله عليه وسلم - والصدر الأول وغير مكروه بل مسنون. وقال اتفقوا على أنه يكره للشواب منهن حضور جماعات الرجال اهـ. وتسن لهن الجماعة منفردات عن الرجال وهو مذهب أحمد والشافعي لفعل عائشة وأم سلمة رواهما البيهقي وغيره ولأمر النبي – - صلى الله عليه وسلم - لأم ورقة "أن تجعل لها مؤذنًا وأمرها أن تؤم أهل دارها" رواه الخمسة. ولأنهن من أهل الفرض فيدخلن في عموم الخبر المتقدم. قال ابن القيم لو لم يكن في المسألة إلا عموم قوله "تفضل صلاة الجماعة" الحديث لكفى وهو قول ابن عمر وابن عباس ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة. (وعن أبي موسى) الأشعري واسمه عبد الله بن قيس مشهور باسمه وكنيته استعمله النبي – - صلى الله عليه وسلم - على بعض اليمن توفي بالكوفة وقيل بمكة سنة خمسين (مرفوعًا "الإثنان فما فوقهما جماعة" رواه ابن ماجه وفيه ضعف) وللبيهقي من حديث أنس

نحوه وفيه ضعف أيضًا ولأن الجماعة مأخوذة من الاجتماع والإثنان أقل ما يتحقق به الجمع. والحديثان وإن كان فيهما ضعف ففي الصحيحين "وليؤمكما أكبركما" وفيهما عن ابن عباس فقمت عن يساره "فأقامني عن يمينه" وقال عليه الصلاة والسلام "من يتصدق على هذا" فقام رجل فصلى معه فقال: "هذان جماعة" رواه أحمد وغيره. وقال الوزير أجمعوا على أن أقل الجمع الذي تنعقد به صلاة الجماعة في الفرض غير الجمعة إثنان إمام ومأموم قائم عن يمنه وحكاه النووي إجماع المسلمين. (وعن أبي مسعود) البدري وهو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري مشهور بكنيته توفي سنة أربعين رضي الله عنه (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال لا يؤمن الرجل الرجل) في بيته ولا (في سلطانه) محل ولايته ومظهر سلطانه أو فيما يملكه وليس له ذلك (إلا بإذنه رواه مسلم) قال النووي معناه أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره، وعن ابن مسعود من السنة أن يتقدم صاحب البيت. فإمام المسجد الراتب أولى ولقوله "من زار قومًا فلا يؤمهم" ولعمومات كثيرة. وقال الخطابي معناه أن صاحب المنزل أولى بالإمامة في بيته إذا كان من القراءة أو العلم بمحل يمكنه أن يقيم الصلاة ولو كان في الحاضرين من هو أقرأ أو أفقه منه قال في المبدع بغير خلاف نعلمه. وأتى ابن عمر أرضًا له فيها مولى له

فصلى معهم وقال صاحب المسجد: أحق رواه البيهقي بسند جيد. وإن كان إمام المسجد عن ولاية سلطان أو عامله فهو داخل في حكم السلطان أو كان إمام المسجد باتفاق من أهل المسجد فهو أحق لأنها ولاية خاصة ولأن التقدم عليه يسيء الظن به وينفر عنه وتبطل فائدة اختصاصه بالتقدم فيحرم تقديم غيرهما عليهما بدون إذن. ولهما تقديم غيرهما ولا يكره بل يستحب إن كان أفضل منهما وتصح بلا نزاع ويقدم عليهما ذو السلطان لأن له الولاية العامة. ثم نوابه كالقاضي وكل سلطان أولى من جميع نوابه. وإن تأخر إمام عن وقته المعتاد وظن حضوره أرسل إليه إن أمكن فإن ضاق الوقت صلوا لفعل الصديق وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما حين غاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "أحسنتم" متفق عليهما. وكذا إن ظن حضوره والمعروف عنه أنه لا يكره صلوا لأنهم معذورون وقد أسقط حقه بالتأخير ولأن تأخره عن وقته المعتاد يغلب على الظن وجود عذر له. وإن بعد محله أو لم يظن حضوره صلوا لإسقاط حقه. (وله عن أبي ذر مرفوعًا صل الصلاة لوقتها) وذلك أنه قال له: "كيف أنت إذا كان عليك أمراء يميتون الصلاة أو يؤخرون الصلاة عن وقتها قلت فما تأمرني قال صل الصلاة لوقتها" (فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة) وفي رواية "ولا تقل إني صليت فلا أصلي" وفي رواية "فإن أقيمت الصلاة

وأنت في المسجد فصل" ففيه مشروعية الدخول في الصلاة معهم. وتقدم حديث يزيد "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة". ولأحمد من حديث محجن قال أتيت النبي – - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فحضرت الصلاة "فصلى يعني ولم أصل فقال لي ألا صليت فقلت يا رسول الله إني قد صليت في الرحل ثم أتيتك قال فإذا جئت فصل معهم واجعلها نافلة" وللدارقطني "إذا دخلت مسجدًا فصل مع الناس وإن كنت قد صليت فحضور الجماعة سبب للإعادة، فيسن أن يعيدها سواء كانت وقت نهي أولا لظاهر الأحاديث ولئلا يكون قعوده والناس يصلون ذريعة إلى إساءة الظن به وأنه ليس من المصلين. وأما قصد الإعادة فمنهي عنه إذ لو كان مشروعًا لأمكن أن تصلي الصلاة الواحدة مرات. قال الشيخ ولا ريب في كراهته ولأنه غير مشروع تتبع المساجد للإعادة ولا يعيد من بالمسجد وغيره بلا سبب. وليس للإمام إعادة الصلاة مرتين ويجعل الثانية عن فائتة أو غيرها والأئمة متفقون على أنه بدعة إلا لعذر مثل صلاة خوف ونحوه. ولأحمد وأبو داود وغيرهما من حديث ابن عمر "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين" فلا يجوز للرجل أن يصلي صلاة مكتوبة عليه ثم يقوم بعد الفراغ منها. فيعيدها. من غير سبب على جهة الفرض. وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها نافلة

اقتداء بالنبي – - صلى الله عليه وسلم - في أمره بذلك فليس من إعادة الصلاة في يوم مرتين لأن الأولى فريضة والثانية نافلة فلا إعادة حينئذ. ولأحمد وغيره أنه – - صلى الله عليه وسلم - قال: "من يتصدق على هذا فيصلي معه" فقام رجل من القوم. ولابن أبي شيبة أنه أبو بكر فصلى معه. (وله عن أبي هريرة مرفوعًا "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة") وفي لفظ "إذا أخذ المؤذن في الإقامة فلا صلاة إلا المكتوبة" فلا يجوز أن يشرع في نفل مطلقًا ولا راتبة من سنة فجر أو غيرها في المسجد أو غيره إذا أقيمت الصلاة ولو ببيته لعموم الخبر. قال الشيخ وقد اتفق العلماء على أنه لا يشتغل عنها بتحية المسجد ولكن تنازعوا في سنة الفجر والصواب أنه إذا سمع الإقامة فلا يصلي السنة لا في بيته ولا في غير بيته. وفي الصحيحين أنه رأى رجلاً وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين فلما انصرف لاث به الناس فقال – - صلى الله عليه وسلم - "الصبح أربعًا الصبح أربعًا" وفيهما أنه قال: "يوشك أحدكم أن يصلي الصبح أربعًا" ولمسلم "بأي الصلاتين اعتددت بصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا" وكان عمر يضرب على الصلاة بعد الإقامة وصح عن ابنه أنه كان يحصب من يشتغل في المسجد بعد الشروع في الإقامة. وقال ابن حزم من كان حاضرًا لإقامة الصلاة فترك الدخول مع الإمام أو اشتغل بقراءة قرآن أو بذكر الله أو بابتداء

تطوع فلا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أنه عاص لله تعالى متلاعب بالصلاة. قال النووي والحكمة أن يتفرغ للفريضة من أولها فيشرع فيها عقب شروع الإمام والمحافظة على مكملات الفريضة أولى من التشاغل بالنافلة. ونهى النبي – - صلى الله عليه وسلم - عن الاختلاف على الأئمة فلا تنعقد نافلة بعد إقامة الفريضة التي يريد أن يفعلها مع ذلك الإمام الذي أقيمت له. وإن لم يرد أن يفعلها معه انعقدت كما لو أقيمت بمسجد لا يريد الصلاة فيه. وأما قضاء الفائتة فتجب مع سعة الوقت. وإن أقيمت وهو في نافلة أتمها خفيفة إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها لأن الفرض أهم. (وعنه) أي: أبي هريرة قال: (قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -: من "أدرك ركعة من الصلاة") يعني مع الجماعة (فقد أدرك الصلاة" متفق عليه) ولأبي داود "إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها ركوعًا ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة" واختار شيخ الإسلام وغيره أنها لا تدرك الجماعة إلا بركعة وقال إذا أدرك مع الإمام ركعة فقد أدرك الجماعة وإن أدرك أقل من ركعة فله بنيتة أجر الجماعة ولا يعتدله به وإنما يفعله متابعة لإمامه. وإن قصد الجماعة ووجدهم قد صلوا كان له أجر من صلى في الجماعة كما وردت به السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي السنن

فيمن تطهر في بيته ثم ذهب إلى المسجد يدرك الجماعة فوجدها قد فاتت أنه يكتب له أجر صلاة الجماعة. وكما في الصحيح فيمن حبسهم العذر عن الجهاد وغير ذلك فالمعذور يكتب له مثل ثواب الصحيح إذا كانت نيته أن يفعل وقد عمل ما يقدر عليه. ويستحب أن يصلي في جماعة أخرى إذا فاتته فإن لم يجد استحب لبعضهم أن يصلي معه لقوله عليه الصلاة والسلام "من يتصدق على هذا" بل يجب على من فاتته الجماعة ولم يجد من يصلي معه قصد مسجد آخر إن أمكن لأجل الجماعة. (ولهما عنه فما أدركتم) أي إذا فعلتم ما أمرتكم به من ترك الإسراع ونحوه وقد تقدم (فصلوا) فدل على أن فضيلة الجماعة يدركها ولو دخل مع الإمام في أي جزء من أجزاء الصلاة ولو أقل من ركعة وهو قول الجمهور وفيه صحة الدخول معه على أي حالة أدركه عليها (وما فاتكم فأتموا) أي أكملوا وهذه رواية الجمهور. وفي رواية "فاقضوا". والقضاء في الأصل بمعنى الأداء. وقال الحافظ أكثر الروايات ورد بلفظ "فأتموا"، وأقلها بلفظ "فاقضوا"، والقضاء. يطلق على الأداء كقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ}. ومخرج الحديث واحد فيحمل اقضوا على معنى الأداء والفراغ ولا يغاير فأتموا فلا حجة لمن تمسك برواية فاقضوا على أن ما

أدرك مع الإمام هو آخر صلاته حتى يستحب له الجهر في الركعتين الأخريين وقراءة السورة بل هو أولها. وإن كان آخر صلاة إمامه لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدمه. وفي الصحيحين عن المغيرة في صلاة عبد الرحمن بن عوف بالناس فلما سلم "قام رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يتم صلاته فلما قضاها أقبل عليهم وقال أحسنتم" وللبيهقي عن علي ما أدركت مع الإمام هو أول صلاتك وهذا مذهب الشافعي ورواية عن مالك وأحمد. قال الشافعي هو أولها حكمًا ومشاهدة وهو مقتضى الأمر بمتابعة الإمام والائتمام. وقال ابن عمر يكبر فإذا سلم الإمام قام إلى ما بقي من صلاته وهو قول طائفة من الصحابة فيستفتح ويستعيذ فيما يدرك. وأجمعوا على تكبيرة الإحرام في الركعة الأولى وعلى التشهد الأخير في آخر صلاته ولا يحتسب له بتشهد الإمام الأخير لا من أول صلاته ولا من آخرها إلا أنه يأتي فيه بالتشهد الأول فقط. ولو أدرك ركعة من المغرب تشهد عقب الركعة الأولى من القضاء. ولا يسردها إجماعًا لئلا يغير هيئة الصلاة. وهذا أوضح دليل على أن ما أدرك المؤتم مع الإمام أول صلاته. وأنه يقضي ما فاته على الهيئة المشروعة. (وللبخاري عن أبي بكرة أنه ركع دون الصف) ولفظه أنه انتهى إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع. فركع قبل أن يصل إلى

الصف فذكر ذلك للنبي – - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية أنه دخل المسجد. وللطبراني فانطلق يسعى وللطحاوي وقد حفزه النفس. وللطبراني فلما انصرف قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "أيكم دخل الصف وهو راكع" فذكر ذلك لرسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (فقال النبي – - صلى الله عليه وسلم - زادك الله حرصًا) أي على الخير (ولا تعد) بضم العين أي إلى ما صنعت من السعي الشديد. ثم الركوع دون الصف. ثم من المشي إلى الصف كما ورد صريحًا في طرقه. ولم يأمره بإعادة الركعة فدل على أن المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع قبل رفع رأسه منه دخل معه في الركعة واجتزأ بها ولا يضره سبق الإمام له بالقراءة لعدم وجوب القراءة عليه حينئذ حكاه شيخ الإسلام وجماعة من الحنفية وغيرهم إجماعًا. وعليه عمل الأمة من الصحابة والتابعين لا يعرف عن السلف خلاف في ذلك ولأنه لم يفته من الأركان غير القيام. وهو يأتي به مع التكبيرة ثم يدرك مع الإمام بقية الركعة. وأيضًا فلابن خزيمة من حديث أبي هريرة "من أدرك ركعة من الصلاة قبل أن يقيم الإمام صلبه فقد أدركها" وعمومات أحاديث أخر احتج بها الفقهاء وفهموا منها صحة ركعة المأموم إذا ركع مع إمامه قبل أن يرفع صلبه وكان أمرًا مشهورًا عند الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين لم يأمر أحدًا منهم بإعادة صلاة من أدرك إمامه.

مع أن هذه المسألة من أشهر مسائل الدين ووقوعها يتكرر بين أظهر المسلمين وفهمه أبو بكرة وسائر الصحابة والتابعين فإنه لو لم يكن متقررًا عندهم أن مدرك الركوع مع الإمام مدرك للركعة لم يوجد هذا الإسراع منهم إذ لو قد علموا أن الركعة تفوت بفوات قراءة الفاتحة لم يسرعوا هذا الإسراع الذي نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه وهذا أمر معلوم مدرك الحس. ويجزئ من ذلك إذا اجتمع مع الإمام في الركوع بحيث ينتهي إلى قدر الإجزاء قبل أن يزول الإمام عنه وحكى ابن العربي وغيره الإجماع عليه وقال الزين العراقي: مذاهب الأئمة الأربعة –وعليه الناس قديمًا وحديثًا- إدراك الركعة بإدراك الركوع بأن يلتقي هو وإمامه في حد أقل الركوع حتى لو كان في الهوى والإمام في الارتفاع وقد بلغ هويه حد أقل الركوع قبل أن يرفع الإمام عنه، وإن لم يلتقيا فيه فلا اهـ. ويأتي بالتكبيرة كلها قائمًا ولو لم يطمئن ثم يطمئن ويتابع إمامه وتجزئه التحريمة عن تكبيرة الركوع. روي عن زيد وابن عمر ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة. ولأنه اجتمع عبادتان من جنس واحد في محل واحد فأجزأ الركن عن الواجب كنظائره. والأفضل بتكبيرتين خروجًا من خلاف من أوجبه. ولو ترك تكبيرة الإحرام وكبر للركوع وهو ذاكر للإحرام متعمد لما أجزأته صلاته لتركه تكبيرة الإحرام حكاه ابن رشد إجماعًا

وإن لم ينو شيئًا انعقدت فرضًا صححه النووي وغيره. ودل على استحباب موافقة الداخل للإمام على أي حال وجده عليها. وفي سنن سعيد بن منصور "من وجدني قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا فليكن معي على الحال التي أنا عليها" وعن أبي هريرة وغيره" إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئًا" ويكبر لوجوبه لكل انتقال يعتد به المصلي. (وعن جابر أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال من كان له إمام) يأتم به في الصلاة (فقراءته له قراءة رواه أحمد) قال في شرح المقنع بإسناد صحيح متصل رجاله كلهم ثقات. قال الحافظ هو مشهور من حديث جابر وله طرق ورواه سعيد بن منصور والدارقطني مرسلاً. قال الشيخ وهذا المرسل قد عضده ظاهر القرآن والسنة وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين. ومرسله من أكابرهم ومثله يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، اهـ. ورواه الحافظ أحمد بن منيع وعبد بن حميد وأبو حنيفة وغيره من طرق مرفوعة صحيحة. رفعه سفيان وشريك وجرير وأبو الزهير وغيرهم ورواه مالك عن جابر موقوفًا وثبت عن عشرة من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - النهي عن القراءة خلف الإمام. وحكي إجماعًا ولعله سكوتي فإنه لما ثبت عن عشرة منهم الخلفاء ولم يثبت رد أحد عليهم عند توفر الصحابة كان إجماعًا.

وقال الشعبي أدركت سبعين بدريًا كلهم يمنعون المأموم عن القراءة خلف الإمام. وروي عن ثمانين كلهم يشددون في النهي عن القراءة خلف الإمام. وقال ابن مسعود لا أعلم في السنة القراءة خلف الإمام. وقال بلال لا تسبقني بآمين. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -: "ما لي أنازع القرآن" قال: فانتهى الناس أن يقرؤا فيما يجهر فيه النبي – - صلى الله عليه وسلم - وهو من مقابلة الخاص بالعام وقد توافرت فيه آثار الصحابة والتابعين. وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} وهذا أيضًا نص في وجوب الاستماع والإنصات علل به حصول الرحمة وقال غير واحد من الصحابة والتابعين. إنها نزلت في القراءة خلف الإمام. وقال أحمد أجمع أهل العلم على أن هذه الآية في الصلاة. وفي الصحيح: "وإذا قرأ فأنصتوا" وغير ذلك من عمومات الكتاب والسنة الدالة على وجوب الإنصات والاستماع والإنصات هو السكوت والاستماع هو الإصغاء. قال شيخ الإسلام وهو إجماع الأمة فيما زاد على الفاتحة وقول جماهير السلف فيها وغيرها. وقال القراءة مع جهر الإمام منكر مخالف للكتاب والسنة وما عليه الصحابة. وعلى النهي عنه جمهور السلف والخلف وفي بطلان الصلاة به نزاع اهـ. ولم يجئ دليل بسكوت الإمام سكوتًا

يسع قراءة المأموم الفاتحة فأين الإنصات المأمور به وما تقدم من حديث "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" خص منه المدرك في الركوع إجماعًا فيجوز تخصيصه بالمأموم لأن القراءة ثبتت منه شرعًا فإن قراءة الإمام له قراءة. وقال أحمد وسفيان وغيرهما لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إذا كان وحده. وقال غير واحد إذا كان ضامنًا للصلاة إمامًا أو منفردًا يؤيده ما رواه مسلم وغيره "بفاتحة الكتاب فصاعدًا" ولأبي داود وغيره من حديث أبي سعيد "وما تيسر" ومن حديث أبي هريرة "وما زاد" وجاء "وبما شئت" أفيدل على وجوب قراءة ما زاد عليها. وقد أجمع أهل العلم على عدم وجوب ما زاد على الفاتحة فكذلك لا يدل على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم. ولو سلم فالمأموم يقرأ حكمًا ويقال أيضًا قوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" ونحوه المراد به الإمام والمنفرد والمأموم أيضًا إذا أمكنه جمعًا بين الأخبار. والجمع مطلوب إذا أمكن عند العلماء وهذا أحوط لئلا يترك العمل بحديث رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بغير سبب يوجب ترك العمل به إما نسخ أو غيره من الأسباب. مع أن قوله "إلا بفاتحة الكتاب" فيه ثلاث علل. فيه مكحول وهو يدلس. وقد اضطرب في إسناده وتفرد به محمود ابن الربيع وخالفهما من هو أثبت منهما. وما روي من طريق نافع

ابن محمود فقال الحافظ وغيره لا يحتج به. وإذًا فكالمردود. وقال ابن عبد البر وغيره ليس في هذا الباب ما لا مطعن فيه. ويدل على ضعفها أدلة أخر منها أن حديث المنازعة رواه أبو هريرة من غير استثناء وليس فيه أثر من الاستثناء مع أن كل واحد من الحديثين ورد في صلاة الصبح. وقد قال مالي أنازع القرآن فمجموع الأمرين يدل على اتحاد الواقعة. ومنها أن جمعًا من الصحابة اتفقوا على ترك القراءة خلف الإمام في الجهرية كما تقدم فلو كان ما روي عن عبادة في الاستثناء صحيحًا لا اشتهر بينهم لأن الواقعة كانت في جماعة من الصحابة في صلاة الصبح. ولكان مذهب عامتهم القراءة بها خلف الإمام في الجهرية كالسرية. ومنها أن هذه الزيادة لم يخرجها الشيخان مع أن البخاري كان حريصًا على إثبات القراءة خلف الإمام. وأما من زعم أنه صححه في جزء القراءة فليس بصحيح كما لا يخفى على من طالعه فيجب أن يرجح النص الصحيح من الأخبار. وقال الشيخ وإذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة فقد أمر أن يقرأ على قوم لا يستمعون لقراءته وهو سفه تنزه عنه الشريعة كمن يتكلم والإمام يخطب. قال ابن كثير ولمنزلة مشروعية التأمين على قراءة الإمام فينزل بمنزلة قراءتها فإن قوله (قد أجيبت دعوتكما) على أن هارون أمن على دعاء موسى فنزل

منزلة من دعا فدل على أن من أمن على دعاء فكأنما قاله. ومما يبين حكمة سقوط القراءة عن المأموم أن الإنصات من تمام الائتمام فمن نازع إمامه لم يكن مؤتمًا. وقد ثبت النهي عن منازعة الإمام فلو قرأ عصى النهي وكان له قراءتان في صلاة واحدة وهذا غير مشروع. وإذا أخذت الأدلة من مواضع تفوت الحصر وهي مع ذلك مختلفة المساق لا ترجع إلى باب واحد إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه. وتكاثرت على الناظر عضد بعضها بعضًا فصارت بمجموعها مفيدة للقطع. (وعن أبي هريرة: كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر للصلاة) أي تكبيرة الإحرام (سكت هنيهة) أي سكتة لطيفة (قبل القراءة) والمراد عن الجهر لا عن مطلق القول قال: (فسألته) عن سكوته ما يقول فيه (فقال أقول "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" الحديث متفق عليه) ولمسلم أرأيت سكوتك وتقدم أن حديث عمر أولى الاستفتاحات وقال شيخ الإسلام الأفضل أن يستفتح حال سكوته وهو أفضل من قراءته في ظاهر مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما لأن القراءة يعتاض عنها بخلاف الاستفتاح. وقال وما ذكره ابن الجوزي أن قراءة المأموم وقت مخافتة الإمام أفضل من استفتاحه غلط. بل قول أحمد وأكثر أصحابه

الاستفتاح أولى. لأن الاستماع بدل من قراءته. ولأبي داود وغيره عن الحسن عن سمرة أنه حفظ عنه سكتتين سكتة إذا كبر يعني في الركعة الأولى. وهذه يشهد لها النصوص الصحيحة الدالة على سكوته – - صلى الله عليه وسلم - بعد التحريم للاستفتاح. وسكتة بعد الفراغ من قراءة الفاتحة وهو مذهب الشافعي وأحمد. قال ابن القيم وغيره قيل إنها لأجل قراءة المأموم فعلى هذا ينبغي تطويلها بقدر قراءة المأموم الفاتحة. وقال مالك وأصحاب الرأي مكروهة وقال المجد والشيخ وغيرهما: هما سكتتان على سبيل الاستحباب إحداها تختص بأول ركعة للاستفتاح والثانية سكتة يسيرة بعد القراءة كلها ليرتد إليه نفسه لا لقراءة الفاتحة خلفه ولم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يسكت سكتة تتسع لقراءة الفاتحة ولا عن الصحابة أنهم كانوا في السكتة الثانية يقرؤونها. ولو كان يسكت سكوتًا يسع قراءة الفاتحة لنقل كما نقل غيره مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله. ولو كان مشروعًا لكانوا أحق الناس بعلمه. فعلم أنه بدعة والسكتتان اللتان جاءت بهما السنة الأولى بعد التكبير للاستفتاح ثبت سكوته في ذلك في الصحيح وغيره. وفي السنن "أنه كان له سكتتان سكتة في أول القراءة وسكتة بعد القراءة وهي لطيفة للفصل لا تتسع لقراءة الفاتحة. ولم يقل أحد أنه كان له ثلاث سكتات فمن نقلها فقد قال قولاً

لم ينقله أحد من المسلمين. والسكتة التي عند قوله ولا الضالين من جنس السكتات التي عند رؤوس الآي. ومثل هذا لا يسمى سكوتًا. وإن كان لا يسمع لبعد أو صمم أو كان يسمع همهمة الإمام ولا يفقه ما يقول فالأظهر أنه يقرأ لأن الأفضل أن يكون إما مستمعًا وإما قارئًا وهذا ليس بمستمع ولا يحصل له مقصود السماع فقراءته أفضل من سكوته وقال: المصلي إما أن يكون مستمعًا وإما قارئًا وجميع الأذكار التي يشرع للإمام أن يقولها سرًا يشرع للمأموم أن يقولها سرًا. ومعلوم أن القرآ، أفضل من الذكر والدعاء وجاء الأمر بذلك في الكتاب والسنة. والأمر متناول الإمام والمأموم والمنفرد. والسكوت بلا ذكر ولا دعاء ولا قراءة ليس عبادة. وقال النووي وغيره لا يسكت في صلاته إلا في حال استماعه لقراءة إمامه فلو سكت في قيامه أو ركوعه أو سجوده أو قعوده يسيرًا لم تبطل فإن سكت طويلاً لعذر بأن نسي شيئًا فسكت ليتذكره لم تبطل وهو قول الجمهور وإن سكت طويلاً لغير عذر ففي بطلانها خلاف. (ولهما عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إنما جعل الإمام ليؤتم به) قد نقل الاتفاق على إفادة إنما للحصر وقصر المأموم على الاتصاف بكونه مؤتمًا بالإمام لا يتجاوزه إلى مخالفته وأكده بقوله: (فلا تختلفوا عليه) فيجب الاقتداء به والاتباع له ومن شأن

التابع أن لا يتقدم على المتبوع ومقتضى ذلك أنه لا يخالفه في شيء من الأحوال التي فصلها ولا في غيرها مما ينقاس عليها بل يراقب أحواله ويأتي على أثره بنحو فعله. (فإذا كبر) أي للإحرام أو النقل (فكبروا) ولأحمد وأبي داود، ولا تكبروا حتى يكبر، زاده تأكيدًا لما أفاده مفهوم الشرط من أن المأموم لا يشرع في التكبير إلا بعد فراغ الإمام منه. وكذلك الركوع والرفع منه والسجود (وإذا ركع فاركعوا) ولا تركعوا حتى يركع أي حتى يأخذ في الركوع. (وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد)، وتقدم وللبخاري عن أنس "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تركعوا حتى يركع ولا ترفعوا حتى يرفع" (وإذا سجد) أي أخذ في السجود (فاسجدوا) "ولا تسجدوا حتى يسجد" وفي الصحيحين عنه "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يحول الله صورته حمار". قال شيخ الإسلام وهذا لأن المؤتم متبع لإمامه مقتد به والتابع المقتدي لا يتقدم على متبوعه وقدوته فإذا تقدم عليه. كان كالحمار الذي لا يفقه ما يراد بعلمه ومن فعل ذلك استحق العقوبة والتعزير وللبزار عنه الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان" ولمسلم عن أنس "لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف"، ولما رأى عمر رجلاً

يسابق الإمام ضربه وقال لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت. ولمسلم عن البراء "وإذا قال سمع الله لمن حمده لم يحن أحد منا ظهره حتى يقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجدًا ثم نقع سجودًا بعده". فيستحب أن يشرع المأموم في أفعال الصلاة بعد فراغ الإمام مما كان فيه في قول أكثر أهل العلم للأخبار ونقل الخلف عن السلف. وإن كبر معه للإحرام لم تنعقد، وهو مذهب جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم لأن شرطه أن يأتي بها بعد إمامه وهو عنوان الاقتداء به. وإن قارنه في غيرها لم تبطل باتفاق العلماء لكن يكره وتفوته فضيلة الجماعة. وأما مسابقة الإمام فقال شيخ الإسلام حرام باتفاق الأئمة لا يجوز لأحد أن يركع قبل إمامه ولا يرفع قبله ولا يسجد قبله. وقد استفاضت الأحاديث عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن ذلك. وقال النووي الجمهور أنها تصح مع الإثم ومن ركع أو سجد قبل إمامه فعليه أن يرجع ليأتي به بعده فإن لم يفعل عمدًا بطلت صلاته لتركه الواجب عمدًا. وسهوًا تصح. قال شيخ الإسلام لكن يتخلف عنه بقدر ما سبق به الإمام كما أمر بذلك أصحاب رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وإن ركع ورفع قبل إمامه بطلت الركعة فقط إن لم يأت بها مع الإمام كما لو لم يدركه، وتصح صلاته للجهل أو النسيان. قال في الإنصاف بلا

نزاع لخبر "عفي عن أمتي الخطأ والنسيان" وكذا إن ركع ورفع قبل ركوعه ثم سجد قبل رفعه وأولى. ويصلي تلك الركعة قضاء. وأما إن ترك متابعته عمدًا فلا نزاع في بطلان صلاته حكاه صاحب المنتهى وغيره لما تقدم من النهي والتخلف عنه كالسبق فيما تقدم. قال الموفق وغيره فإن سبق الإمام المأموم بركن كامل مثل أن يركع ويرفع قبل ركوع المأموم لعذر من نعاس أو غفلة أو زحام أو عجلة إمام فإنه يفعل ما سبق به ويدرك إمامه ولا شيء عليه. لا نعلم فيه خلافًا والمراد أنه يفعل ما سبق به إذا أمن فوات الركعة الثانية، وإلا تبعه ولغت. والتي تليها عوض عنها ويقضي بدلها. (وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا) وجوبًا في الفرض مع القدرة إجماعًا (وإذا صلى قاعدًا) لعذر (فصلوا قعودًا أجمعون) بالرفع تأكيدًا لضمير الجمع. وفي رواية للبخاري بالنصب على الحال قال ابن عبد البر روي هذا من طرق متواترة عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - من حديث أنس وجابر وأبي هريرة وعائشة وغيرهم. وحكاه ابن حزم قول جمهور السلف وحكي إجماع الصحابة فيه وثبت عن أربعة بعد النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال ابن المنذر ولا يحفظ عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. والحكمة في ذلك سد الذريعة عن مشابهة الكفار حيث

يقومون على ملوكهم وهم قعود. ولأبي داود من حديث جابر "ولا تفعلوا كما تفعل أهل فارس بعظمائها" وفي الصحيحين وغيرهما أنه "صلى جالسًا والناس خلفه قيام" وذلك يوم السبت أو الأحد وتوفي يوم الاثنين. قال الخطابي وقد صلى قاعدًا والناس خلفه قيام. وادعى النسخ وحكى هو والنووي وابن دقيق وغيرهم صحتها خلفه قيامًا قول أكثر العلماء وذكره في الفروع اتفاقًا ولأنه الأصل ولم يأمر – - صلى الله عليه وسلم - من صلى خلفه قائمًا بالإعادة. وجمع الإمام أحمد بين الأخبار فذهب إلى أن الإمام الراتب إذا ابتدأ الصلاة قائمًا لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قيامًا سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدًا أم لا كما في الأحاديث التي في مرض موته فإنه لم يأمرهم بالقعود لأنه ابتدأ صلاته قائمًا. وهذا لا نزاع فيه لأن القيام هو الأصل. فإذا بدأ به لزمه في جميعها إذا قدر عليه وهو بخلاف صلاته في مرضه الأول فإنه ابتدأ صلاته قاعدًا فأمرهم بالقعود فيجوز وأنكر دعوى النسخ وهو جمع حسن. وقال الشافعي: يستحب للإمام إذا لم يستطع القيام استخلاف من يصلي بالجماعة قائمًا كما استخلف النبي – - صلى الله عليه وسلم - ولأن فيه خروجًا من خلاف من منع الاقتداء بالقاعد المرجو زوال علته. ولأن القائم أكمل وأقرب إلى كمال هيئات الصلاة. والنبي – - صلى الله عليه وسلم - فعل الأمرين وكان الاستخلاف أكثر فدل

على فضيلته وأم قاعدًا في بعض الصلوات لبيان الجواز ولا تصح خلف عاجز عن الركوع وسجود وقعود إلا بمثله. (ولهما عنه مرفوعًا أيكم أم الناس) وفي لفظ "إذا أم أحدكم الناس" وفي لفظ "إذا صلى أحدكم بالناس (فليخفف" ولهما من حديث أبي مسعود: أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز (فإن فيهم الصغير والضعيف والكبير وذا الحاجة) وفي رواية "منهم". وفي رواية "خلفه" وهؤلاء يريدون التخفيف فيلاحظهم الإمام. وفي الصحيح أنه قال: "أفتان يا معاذ، إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها. وسبح اسم ربك، والليل إذ يغشى. فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة". والحديث مروي بألفاظ كثيرة. ولأبي داود وغيره عن عثمان بن أبي العاص أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنت إمام قومك وأقدر القوم بأضعفهم" قال عليه الصلاة والسلام: "وإذا صلى وحده فليطول ما شاء" وفي لفظ "فليصل كيف شاء" مخففًا ومطولاً ولهما عن أنس "كان يكملها" وفي رواية "ما صليت خلف إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - " وقال ابن عمر "كان يأمر بالتخفيف ويؤمنا بالصافات" فالذي فعل هو الذي أمر به. وتقدم صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم -. فالتخفيف المأمور به أمر نسبي يرجع إلى ما فعله - صلى الله عليه وسلم -،

وواظب عليه لا إلى شهوة المأمومين، فإنه لم يكن يأمر أمته بأمر ثم يخالفه. قال الحافظ، ومن سلك طريقة النبي – - صلى الله عليه وسلم - في الإيجاز والإتمام لا يشتكى منه تطويل. وقال اليعمري الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة فينبغي للأئمة التخفيف مطلقًا كما شرع القصر. ومراده ما لم يؤثروا التطويل وعددهم ينحصر. وقال ابن عبد البر التخفيف للأئمة أمر مجمع عليه مندوب إليه عند العلماء لا خلاف في استحبابه على ما شرطنا من الإتمام. وقال شيخ الإسلام ليس له أن يزيد على القدر المشروع. وينبغي أن يفعل غالبًا ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله غالبًا. ويزيد وينقص للمصلحة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد وينقص أحيانًا للمصلحة. ويلزم الإمام مراعاة المأموم إن تضرر بالصلاة أول الوقت أو آخره ونحوه. وقال النووي قال العلماء واختلاف قدر القراءة في الأحاديث كان بحسب الأحوال. وكان - صلى الله عليه وسلم - يعلم من حال المأمومين في وقت أنهم يؤثرون التطويل فيطول. وفي وقت لا يؤثرونه لعذر ونحوه فيخفف. وفي وقت يريد إطالتها فيسمع بكاء الصبي فيخفف. كما ثبت في الصحيح وغيره اهـ. ويسن تطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية لخبر أبي قتادة وتقدم. وليلحقه القاصد إليها ما لم يشق على مأموم.

فصل الإمامة

تتمة: الجن مكلفون في الجملة إجماعًا لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} فلذلك يدخل كافرهم النار إجماعًا ويدخل مؤمنهم الجنة لعموم الأخبار. قال الشيخ ونراهم في الآخرة ولا يرونا وتنعقد بهم الجماعة وهم موجودون في زمن النبوة وقبلها وليس منهم رسول. وقال ليس الجن كالإنس في الحد والحقيقة فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساويًا لما على الإنس في الحد والحقيقة لكنهم شاركوهم في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم بلا نزاع أعلمه بين العلماء. فصل الإمامة أي في أحكام الإمامة وفضلها مشهور. تولاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه وهم لا يختارون إلا الأفضل وتقدم هل الأذان أفضل أو لا ورجح بعض أهل العلم أنها أفضل. وله أجر بذلك لما في الحديث "ثلاثة على كثبات المسك يوم القيامة رجل أم قومًا وهم له راضون" الحديث. وحديث "له من الأجر مثل من صلى خلفه" ويجوز طلبها لقوله يا رسول الله "اجعلني إمام قومي" وليس من طلب الرياسة المكروهة فإن ذلك مما يتعلق برياسة الدنيا التي لا يعان من طلبها ولا يستحق أن يعطاها. ويشهد له عموم قوله {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}. (عن أبي مسعود) عقبة بن عمرو (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قال: يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله) أي أحسنهم قراءة على ما تقتضيه طبيعته من غير تكلف. أو أكثرهم حفظًا للقرآن. وفي الصحيح عن عمرو بن سلمة "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنًا" قال فقدموني وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين وكلهم من الصحابة. قال ابن حزم ولا نعلم لهم مخالفًا وهو قول الجمهور. وأم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنًا وأبو عمرو مولى عائشة. ولأبي داود من حديث ابن عباس "ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم أقرؤكم" (فإن كانوا في القراءة سواء) أي استووا في القدر المعتبر منها إما في حسنها أو في كثرتها وقلتها. وفي لفظ وإن كانت القراءة واحدة (فأعلمهم بالسنة) أي أفقههم في دين الله وتقديم الأقرأ على الأفقه مذهب أبي حنيفة وأحمد. وقال الحافظ لا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفًا بما تتعين معرفته من أحوال الصلاة. أما إذا كان جاهلاً فلا يقدم اتفاقًا اهـ. وكذلك لا يقدم أمي من عجز عن فرض القراءة إلا بمثله. لأنه بصدد تحمل القراءة عن المأموم. ولأن القراءة شرط فلم يصح اقتداء القادر عليها بالعاجز عنها كالطهارة. وتكره إمامة اللحان. والفأفاء. والتمتام. ومن لا يفصح ببعض الحروف. فإن اجتمع فقيهان قارئان وأحدهما أفقه أو أقرأ قدم الأقرأ من الفقيهين أو الأفقه منهما. ولو كان

أحد الفقيهين أفقه أو أعلم بأحكام الصلاة قدم. وذهب مالك والشافعي إلى أنه لو تعارض فضل القراءة وفضل الفقه قدم الأفقه لأن احتياج المصلي إلى الفقه أكثر من احتياجه إلى القراءة لأن ما يجب في الصلاة محصور وما يقع فيها من الحوادث غير محصور ولتقديم أبي بكر على من هو أقرأ منه كزيد وأبي. وقال الزركشي وغيره لا خلاف بين العلماء أنه يقدم بعد الأقرأ الأفقه ولو قدم الأفقه على الأقرأ جاز قال الموفق لا أعلم فيه خلافًا إذ الأمر فيه أمر إرشاد. وقال شيخ الإسلام إذا كان رجلان من أهل الديانة فأيهما كان أعلم بالكتاب والسنة وجب تقديمه على الآخر وكان ائتمامه به متعينًا. (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة) أي سبقًا إلى دار الإسلام مسلمًا. والهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام وهي باقية إلى قيام الساعة وقوله "لا هجرة بعد الفتح" يعني من مكة بعد فتحها إذ ذاك حيث صارت دار إسلام. وإلا فالحكم يدور مع علته. قال شيخ الإسلام فقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفضيلة بالعلم بالكتاب والسنة فإن استووا في العلم قدم بالسبق إلى العمل الصالح وقدم بالسابق باختياره وهو المهاجر على من سبق بخلق الله وهو الكبير السن. وقال في حديث "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" فمن سبق إلى هجر السيئات بالتوبة منها فهو أقدم هجرة فيقدم في الإمامة.

(فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا) لأن كبر السن في الإسلام فضيلة يرجع إليها. وفي الصحيحين من حديث مالك بن الحويرث "وليؤمكم أكبركم" وفي لفظ "أكبركما" ولمسلم وكانوا متقاربين في القراءة. ولأبي داود وكنا متقاربين في العلم. ولأنه أقرب إلى الخشوع وإجابة الدعاء. وفي رواية "سلمًا" أي إسلامًا فيكون من تقدم إسلامًا أولى ممن تأخر وهذا مع الاتفاق في الصفات المتقدمة. وقال بعض أهل العلم ثم يقدم الأشرف نسبًا وهو القرشي وتقدم بنو هاشم على سائر قريش لقربهم من رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وقال شيخ الإسلام لا يقدم في الإمامة بالنسب، وهو قول أبي حنيفة ومالك ورواية عن أحمد لقوله {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ويجب تقديم من قدمه الله ورسوله، ولو كان بخلاف شرط الواقف. واختار هو وجمع تقديم الأتقى على الأشرف ويقدم الأورع والأعمر للمسجد لأن مقصود الصلاة هو الخضوع ورجاء إجابة الدعاء. والأتقى والأورع أقرب إلى ذلك. فإن استووا وتشاحوا أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة قدم فهو الأحق. (ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه رواه مسلم) وفي لفظ "في أهله ولا سلطانه إلا بإذنه" إذا كان أهلاً للإمامة وإن كان في الحاضرين من هو أقرأ أو أفقه منه وإن كان ذو سلطان قدم لعموم ولايته وتقدم، والحر أولى من العبد. والمقيم أولى

من المسافر. والبصير أولى من الأعمى. والمختون أولى من الأقلف والمتوضئ أولى من المتيمم. وقيل تكره إمامة غير الأولى بدون إذنه لحديث "إذا أم القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال" ذكره أحمد بعد قوله في رسالته. ومن الحق الواجب على المسلمين أن يقدموا خيارهم وأهل الدين والأفضل منهم أهل العلم بالله الذين يخافون الله ويراقبونه. (وللبخاري عن أبي هريرة مرفوعًا يصلون لكم) أي أئمتكم يصلون الصلاة لكم ولهم وإن كانوا أئمة جور قال شيخ الإسلام صلاة الفاسق صحيحة بلا نزاع (فإن أصابوا فلكم) أي ثواب صلاتكم ولهم ثواب صلاتهم (وإن أخطؤا) أي: ارتكبوا الخطيئة (فلكم) ثواب صلاتكم (وعليهم) خطؤهم. قال ابن المنذر هذا الحديث يرد على من زعم أن خطأ الإمام يؤثر في صلاة المأموم إذا أصاب. وقال المهلب فيه جواز الصلاة خلف البر والفاجر إذا خيف منه. وقيل لعثمان وهو محصور إنك إمام عامة ونزل بك ما ترى ويصلي بنا إمام فتنة ونتحرج. فقال إن الصلاة هي أحسن ما يعمل الناس. مراده الصلاة الصحيحة، فإذا أحسنوا فأحسن معهم أي لا يضرك كونه مفتونًا بل إذا أحسن فوافقه على إحسانه وإن أساؤوا فاجتنب

إساءتهم وقال الحسن صل وعليه بدعته. وفي صحيح مسلم وغيره "كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة قال: فما تأمرني قال: صل الصلاة لوقتها. فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة" وتقدم فقد أذن بالصلاة خلفهم وجعلها نافلة لأنهم أخروها عن وقتها وظاهره أنهم لو صلوها في وقتها لكان مأمورًا بالصلاة معهم فريضة. قال شيخ الإسلام وكذا عموم أحاديث الجماعة من غير فرق. والأصل أن من صحت صلاته صحت إمامته. وعن مكحول عن أبي هريرة مرفوعًا "الصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برًا كان أو فاجرًا" رواه أبو داود وغيره. وعن عبد الكريم البكاء قال: أدركت عشرة من أصحاب رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - كلهم يصلون خلف أئمة الجور. رواه البخاري في تأريخه. وإن كان عبد الكريم لا يحتج بروايته فقد ثبت إجماع أهل العصر الأول من بقية الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعًا فعليًا. ولا يبعد أن يكون قوليًا على الصلاة خلف الجائرين. فثبت عن ابن عمر وأبي سعيد وغيرهما أنهم صلوا خلف المختار. والحجاج، ومروان وغيرهم، وأجمعوا هم وتابعوهم عليه لأن أئمة تلك الأعصار في كل بلد: هم الأمراء وحالهم لا تخفى. قال النووي وغيره هو مذهب جمهور أهل العلم. وقال

الشيخ تصلى خلفهم جماعة فإن الصلاة في جماعة خير من صلاة الرجل وحده وإن كان الإمام فاسقًا. هذا مذهب جماهير العلماء أحمد والشافعي وغيرهما. بل الجماعة واجبة على الأعيان في ظاهر مذهب أحمد. ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة. والصحيح أنه يصلي ولا يعيد فإن الصحابة كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون. والمبتدع صلاته في نفسه صحيحة. فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته وإنما كره من كره الصلاة خلفه لأن الأمر والنهي واجب. ومن ذلك أن من أظهر بدعة أو فجورًا لا يرتب إمامًا للمسلمين فإنه يستحق التعزير حتى يتوب. وقال التحقيق أن الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور لا ينهى عنها لبطلان صلاتهم في نفسها لكن لأنهم إذا أظهروا المنكر استحقوا أن يهجروا وأن لا يقدموا في الصلاة على المسلمين اهـ، وما روي عن جابر "ولا يؤمن فاجر مسلمًا" فواه ولا يوجب بطلان الصلاة وأما كون الصلاة خلفه مكروهة فلا نزاع في ذلك. وقال الشيخ الصلاة خلفه منهي عنها بإجماع المسلمين وقال الماوردي يحرم على الإمام نصب الفاسق إمامًا للصلوات لأنه مأمور بمراعاة المصالح وليس منها أن يوقع الناس في صلاة مكروهة، فلو صلى خلف من يعلم أنه فاسق أو مبتدع

ففي صحة صلاته قولان مشهوران في مذهب أحمد ومالك. ومذهب الشافعي وأبي حنيفة الصحة. وقال الحارثي يجب أن يولى في الوظائف وإمامة المساجد الأحق شرعًا. وليس للناس أن يولى عليهم الفساق وقال الشيخ في موضع لا تصح خلف أهل الأهواء والبدع مع القدرة. وأما الجمعة والعيد فتصح للضرورة عند عامة السلف والخلف وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم. ولهذا قالوا في العقائد تصح الجمعة والعيد خلف كل إمام برًا كان أو فاجرًا. وأما الكافر أصليًا كان أو مرتدًا وسواء كان كفره ببدعة أو غيرها ولو أسره فلا تصح خلفه. كما أنها لا تصح صلاته لنفسه ولكن لا يحكم بكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر مخالفها. والأفعال والأقوال في ذلك سواء. فقد يكون لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها. وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها وتصح خلف من لا يعرفه بكفر لأن الأصل في المسلمين السلامة. وقال ويجوز للرجل أن يصلي الصلوات الخمس والجمعة وغير ذلك خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقًا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم. وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ولا أن يمتحنه فيقول ماذا تعتقده بل يصلي خلف مستور الحال.

وتصح خلف المخالف في الفروع كما يرى صحة النكاح بغير ولي أو شهادة لفعل الصحابة ومن بعدهم. قال المجد من قال لا تصح خلفه فقد خرق إجماع من تقدم من الصحابة فمن بعدهم. وقال شيخ الإسلام تجوز صلاة أهل المذاهب بعضهم خلف بعض كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم يصلي بعضهم خلف بعض مع تنازعهم فيمن تقيأ أو مس ذكره ونحوه أو لم يتشهد أو لم يسلم ونحوه. والمأموم يعتقد وجوب ذلك. ولم يقل أحد من السلف أنه لا يصلي بعضهم خلف بعض ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. وكل ما لا يقطع فيه بخطأ المخالف. وأما ما يقطع فيه بخطأ المخالف فتحرم. وهو الذي تدل عليه السنة والآثار وقياس الأصول. وقال اتفق المسلمون على أن من ترك الأركان المتفق عليها لم يصل خلفه. وقال الآجري وغيره إجماعًا لأمره عليه الصلاة والسلام تارك الطمأنينة بالإعادة قاله البغوي وغيره. وفي الحديث دليل على أنه إذا صلى بقومه محدثًا أنها تصلح صلاة المأموم وذلك ما لم يعلم حدث إمامه وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور السلف والخلف. ويعيد الإمام وحده وصح من حديث أبي بكرة "أنه دخل في صلاة الفجر فأومأ بيده أن مكانكم ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم وقال إنما أنا بشر

وإني كنت جنبًا" وصح عن عمر أنه صلى بالناس الصبح ثم خرج إلى الجرن فاهراق الماء فوجد في ثوبه احتلامًا فأعاد ولم يعد الناس. ونحوه عن عثمان وعلي وابن عمر وهذا في محل الشهرة فلم ينكر فكان إجماعًا. قال الشيخ وبذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين فإنهم صلوا بالناس ثم رأوا الجنابة بعد الصلاة فأعادوا ولم يأمروا الناس بالإعادة. وقال: الناس في انعقاد صلاة المأموم بصلاة الإمام على ثلاثة أقوال أحدها أنه لا ارتباط بينهما. والثاني أنها منعقدة بها مطلقًا. والثالث أنها منعقدة بها لكن إنما يسري النقص إلى صلاة المأموم مع عدم العذر. فأما مع العذر فلا يسري النقص. فإذا كان الإمام يعتقد طهارته فهو معذور في الإمامة والمؤتم معذور في الائتمام وهذا قول مالك وأحمد وغيرهما وعليه يتنزل ما يؤثر عن الصحابة في هذه المسألة وهو أوسط الأقوال. ويدل على صحته ما في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال: "يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم" فهذا نص في أن درك خطئه عليه لا على المأموم اهـ. وإن علم حدثه لم تصح لأنه أخل بشرط الصلاة مع القدرة فأشبه المتلاعب. ولكونه لا صلاة له في نفسه فيعيد من خلفه. وقال غير واحد أجمعت الأمة على تحريم الصلاة خلف محدث علم حدثه. وإن علم الإمام أو المأموم في الصلاة فقال

أحمد يعجبني أن يبتدؤا الصلاة. وعنه يبني المأموم وهو مذهب مالك والشافعي. وقالت الحنفية واختلفت الصحابة في ذلك فيصار للقياس وهو ظاهر. وعن أحمد يستخلف الإمام عند عروض عذر يقتضي ذلك وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي والدليل على ثبوت الاستخلاف شرعًا إجماع الصحابة وقصة عمر مشهورة. وعلي رعف فأخذ بيد رجل فقدمه وانصرف رواه سعيد. (ولهما عن جابر كان معاذ يصلي مع النبي – - صلى الله عليه وسلم - العشاء) يعني الآخر (ثم يصلي بقومه) ولفظه "ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم (تلك الصلاة) زاد الشافعي والدارقطني هي له تطوع ولهم مكتوبة وصححها الحافظ وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وصلاة معاذ بهم مستفيضة وقال الحافظ يصلي معه ثلاثون عقبيًا وأربعون بدريًا. وكذا قال ابن حزم ولا نحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك بل قال معهم بالجواز عمر وابنه وأبو الدرداء وغيرهم. ويشهد له صلاته – - صلى الله عليه وسلم - بالطائفة الثانية في صلاة الخوف ولأنهما صلاتان اتفقتا في الأفعال المعهودة وتصحان جماعة وفرادى فصح بناء إحداهما على الأخرى واختاره الموفق وشيخنا والشيخ وغيره وقال والذين منعوا ذلك ليس لهم حجة مستقيمة فإنهم احتجوا بلفظ لا يدل على محل النزاع كقوله "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" وبأن "الإمام ضامن" وليس في هذين ما يدفع

تلك الحجج. والاختلاف المراد به الاختلاف في الأفعال كما جاء مفسرًا. وكذا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر وغيرها واختاره وهي فرع على ائتمام المفترض بالمتنفل بل هنا أولى لصحة الظهر خلف من يصلي الجمعة. وأما النفل خلف الفرض فيصح إجماعًا لقوله "من يتصدق على هذا" وقوله "فصليا معهم فإنها لكما نافلة" ولأن في نية الإمام ما في نية المأموم وهو نية التقرب وزيادة. وهي الوجوب فلا منع بوجه من الوجوه. (وفي السنن) من غير وجه منها عن عبد الله بن عمرو ابن العاص (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة. رجل أم قومًا وهم له كارهون" الحديث) قال الشيخ أتى بواجب ومحرم فقاوم صلاته فلم تقبل إذ الصلاة المقبولة ما يثاب عليها. وتمام الحديث "ورجل أتى الصلاة دبارًا والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته ورجل اعتبد محرره. رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما وفي إسناده الزيلعي. وعن أبي أمامة بلفظ "لا تجاوز صلاتهم آذانهم" وذكر "الآبق حتى يرجع. وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط. وإمام قوم وهم له كارهون" (حسنه الترمذي) وفي إسناده. أبو غالب الراسبي. وللترمذي عن أنس بلفظ "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبدل الآبق برجل سمع حي على الفلاح فلم يجب"

ولابن ماجه من حديث ابن عباس "لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرًا. رجل أم قومًا وهم له كارهون" وحسنه العراقي ولها شواهد تنتهض للاستدلال على تحريم أو كراهة إمامة من يكرهون بحق. قال الخطابي والبغوي وغيرهما إذا كرهوه لمعنى مذموم كوال ظالم. أو من تغلب على إمامة الصلاة ولا يستحقها. ولا يتصون من النجاسات. أو يمحق هيئات الصلاة. أو يتعاطى معيشة مذمومة. أو يعاشر أهل الفسوق ونحوهم. فإن لم يكن شيء من ذلك فلا كراهة. والعتب على من كرهه. وقال الشيخ إذا كانوا يكرهونه لأمر في دينه مثل كذبه أو ظلمه أو جهله أو بدعته ونحو ذلك. ويحبون آخر أصلح منه في دينه مثل أن يكون أصدق أو أعلم أو أدين فإنه يجب أن يولى عليهم هذا الذي يحبونه. وليس لذلك الرجل الذي يكرهونه أن يؤمهم كما في الحديث عنه – - صلى الله عليه وسلم - إنه قال: "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم أذانهم. رجل أم قومًا وهم له كارهون. ورجل لا يأتي الصلاة إلا دبارًا. ورجل اعتبد محرره". وقال أيضًا إذا كان بينهم معاداة مثل جنس معاداة أهل الأهواء والمذاهب لم ينبغ أن يؤمهم لأن المقصود بالصلاة جماعة إنما يتم بالائتلاف. وقال عليه الصلاة والسلام "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" وقال القاضي المستحب أن لا يؤمهم صيانة

فصل في الموقف

لنفسه ولا يكره الائتمام به. إن لم يشوش عليه باله لأن الكراهة في حق الإمام. فصل في الموقف أي موقف الإمام والمأمومين في الفرض والنفل في صلاة الجماعة. (عن جابر قال قام رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يصلي) ولأحمد "يصلي المغرب" (فقمت عن يساره فـ) أخذ رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بيدي فأدراني حتى (أقامني عن يمينه) ولهما عن ابن عباس صليت خلف رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقمت عن يساره "فأخذ برأسي من ورائي فأقامني عن يمينه" ولمسلم عن أنس أنه أقامه عن يمينه. فدلت هذه الأحاديث على أن موقف الواحد عن يمين الإمام وهو إجماع. وذهب الأكثر إلى أن ذلك واجب، ومذهب أحمد عدم الصحة مع خلو يمينه وعنه تصح عن يساره مع خلو يمينه وهو مذهب الأئمة الثلاثة واختاره الموفق وغيره. وقال في شرح المقنع وهي القياس كما لو كان عن يمينه. وقال الوزير اجمعوا على أن المصلي إذا وقف عن يسار الإمام وليس عن يمينه أحد أن صلاته صحيحة. إلا أحمد فقال تبطل ولا خلاف في الندبية. وأكثر ما تدل الأحاديث على أن اليمين هو الموقف الشرعي

وأما إذا كانوا ثلاثة فأكثر فيقومان خلفه لقول جابر (ثم جاء جابر) بن صخر الأنصاري السلمي شهد العقبة وما بعدها (فقام عن يساره) يعني يسار رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (فأخذ بأيدينا) جميعًا فدفعنا، يعني من ورائه (فأقامنا خلفه رواه مسلم) وعن سمرة بن جندب قال "أمرنا رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا كنا ثلاثة أن يتقدم أحدنا" رواه الترمذي. ووقوف المأمومين اثنين فأكثر خلف الإمام نقله الخلف عن السلف. واستمر أمر المسلمين عليه لا ينازع في ذلك أحد إلا ما استثني لحاجة كضيق مكان ونحوه لصلاة ابن مسعود بين علقمة والأسود. قال ابن سيرين وغيره كان المكان ضيقًا وكان بمكة وتقدمه – - صلى الله عليه وسلم - متواتر لا عدول عنه بفعل لعذر ومهجور بالإجماع. فإن شق تأخيرهما أو تعذر تقدم الإمام فصلى بينهما ثم إن بطلت صلاة أحدهما تقدم الآخر إلى يمين الإمام وإن كانا خلف الصف تقدم إلى الصف إن أمكنه. ولا يصح تقدم المأموم عند جمهور العلماء وعند مالك يكره وتصح وذكره شيخ الإسلام وجهًا للأصحاب. قال في الفروع والمراد وأمكن الاقتداء وهو متجه وقيل تصح جمعة ونحوها بعذر اختاره شيخنا. وقال من تأخر بلا عذر فلما أذن جاء فصلى قدامه عزر. وقال إذا لم يمكنه أن يصلي مع الجماعة إلا قدام الإمام فإنه يصلي هنا لأجل الحاجة وهو قول طوائف من أهل العلم.

ومن الأصول الكلية أن المعجوز عنه في الشرع ساقط الوجود والمضطر إليه بلا معصية غير محظور فلم يوجب الله ما يعجز عنه العبد ولم يحرم ما اضطر إليه وقال تصح قدامه مع العذر وهو أعدل الأقوال وأرجحها لأن ترك التقدم غايته أن يكون واجبًا والواجب يسقط مع العذر اهـ، ولا يضر تقدم أصابع المأموم بطول قدمه ولا تقدم رأسه في السجود لطوله. والحكم على كل من تقدم بكل القدمين أو تأخر بهما أو انفصل بقدرهما ببطلان صلاته لا دليل عليه. ولا نزاع أن تسوية الصف سنة. والتراص والزاق الكعاب سنة مؤكدة وشريعة مستقرة وإن وقفوا حول الكعبة المشرفة مستديرين صحت كما فعله ابن الزبير وأجمعوا عليه. ولا يضر تقدم المأموم حيث كان في الجهة المقابلة للإمام لأنه في غير جهته ولا يتحقق تقدمه عليه. وتصح داخلها إذا جعل وجهه إلى وجه إمامه أو ظهره إلى ظهره اتفاقًا. ويغتفر التقدم في شدة الخوف إذا أمكنت المتابعة. (ولهما عن أنس فقمت ويتيم خلفه) أي خلف رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - واليتيم هو ضميرة جد حسين بن عبد الله بن ضميرة. فدل على أن مقام الاثنين خلف الإمام كما تقدم. وأن الصغير يعتد بوقوفه ويسد الجناح وأن موقفه في الصف دون المرأة وهو الرواية الثانية عن أحمد ومذهب الأئمة الثلاثة واختاره ابن عقيل واستظهره في الفروع وعليه العمل قال شيخنا وهو قول

قوي (وأم سليم) وهي أم أنس واسمها مليكة (خلفنا) وفي لفظ والعجوز من ورائنا. فتصح صلاتها خلف الصف قال شيخ الإسلام باتفاق أهل العلم إذا لم يكن في الجماعة إمرأة غيرها كما جاءت به السنة ولأنها لا موقف لها مع الرجال. وإن أمت نساء وقفت في صفهن ندبًا قال في الإنصاف وغيره هذا مما لا نزاع فيه. ويصح تقديمها وإن وقفت عن يمين الإمام صحت صلاتها، وإن وقفت بصف رجال لم تبطل صلاة من يليها أو خلفها ولا صلاتها. وحكي اتفاقًا لكنه غير مشروع. وقال الشيخ إذا وقفت في الصف ففي بطلان صلاتها قولان أحدهما لا تبطل وهو مذهب مالك والشافعي وقول ابن حامد والقاضي وغيرهما. وعند الحنفية تفسد صلاة الرجل دونها قال الحافظ وهو عجيب. (وعن وابصة) بن معبد بن مالك من بني أسد بن خزيمة الأنصاري مات بالرقة وله أحاديث منها (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة) رواه الخمسة إلا النسائي و (حسنه الترمذي) وصححه ابن حبان وفي رواية لأحمد قال سئل عن رجل يصلي خلف الصفوف وحده فقال "يعيد الصلاة" وعن علي بن شيبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رأى رجلاً يصلي خلف الصف فوقف حتى انصرف الرجل فقال استقبل صلاتك فلا صلاة لمنفرد خلف

الصف" رواه أحمد وابن ماجه. وقال ابن سيد الناس رواته ثقات ولابن حبان عن طلق بن علي مرفوعًا "لا صلاة لمنفرد خلف الصف". قال شيخ الإسلام قد صحح الحديثين حديث وابصة وعلي غير واحد من أئمة الحديث وأسانيدهما مما تقوم بها الحجة وليس فيهما ما يخالف الأصول بل ما فيهما هو مقتضى النصوص المشهورة والأصول المقررة فإن صلاة الجماعة سميت جماعة لاجتماع المصلين في الفعل مكانًا وزمانًا فإذا أخلوا لغير عذر كان منهيًا عنه باتفاق الأئمة. فلو كان هذا خلف هذا كان من أعظم الأمور المنكرة. وأمروا بتقويم الصفوف مبالغة في تحقيق اجتماعهم على أحسن وجه بحسب الإمكان. وقياس الأصول يقتضي وجوب الاصطفاف. وأن صلاة المنفرد لا تصح كما جاء به هذان الحديثان. ومن خالف ذلك من العلماء فلا ريب أنه لم تبلغه هذه السنة من وجه يثق به. ووقوفه وحده خلف الصف مكروه وترك للسنة باتفاقهم إلا أن لا يجد موقفًا إلا خلفه ففيه نزاع. والأظهر صحة صلاته في هذا الموضع لأن جميع واجبات الصلاة تسقط بالعجز. وأما التفريق بين العالم والجاهل كقول في مذهب أحمد فلا يسوغ فإن المصلي المنفرد لم يكن عالمًا بالنهي وقد أمره بالإعادة كما أمر المسيء اهـ. وأما أبو بكرة فإنما ركع دون الصف ثم مشي

إلى الصف ولا يعد حكم الشروع في الركوع خلف الصف حكم الصلاة كلها خلفه. قال شيخ الإسلام لأنه أدرك من الاصطفاف المأمور به ما يكون به مدركًا للركعة فهو بمنزلة أن يقف وحده ثم يجيء آخر فيصافه في القيام فإن هذا جائز باتفاق الأئمة حتى لو قدر أن أبا بكرة دخل في الصف بعد اعتدال الإمام كما يجوز ذلك في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره. لكان سائغًا. وإذا لم يجد فرجة يدخلها ولا يمكنه أن يقف عن يمين الإمام فله أن ينبه من يقوم معه صفًا ليتمكن من الاقتداء. وكره تنبيهه بجذبه لأنه تصرف فيه بغير إذنه. قال الشيخ ويصلي خلف الصف فذًا ولا يجذب غيره. وتصح في هذه الحالة فذًا لأن غاية المصافة أن تكون واجبة فتسقط بالعذر. وقال الأفضل أن يقف وحده ولا يجذب لما في الجذب من التصرف في المجذوب وإن كان المجذوب يطيعه قائمًا أفضل له. وللمجذوب الاصطفاف معه مع بقاء فرجة أو وقوف المتأخر وحده ونحوه. والجمهور على وجوب إتباع من نبهه وهو أفضل من بقائه في مقامه. ولو حضر اثنان فالأفضل اصطفافهما لأن سد الفرجة مستحب والاصطفاف واجب رجحه الشيخ وغيره. (وعن أبي مسعود مرفوعًا ليلني) بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبلها وروي بإثباتها (منكم) وعن أنس وكان يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه" رواه أحمد

وغيره أي ليقرب مني (أولو الأحلام) واحدها حلم بضم الحاء: السكون الوقار والإناءة والتثبت في الأمور وضبط النفس عن هيجان الغضب ويراد بهم ذو الألباب والعقول وقيل البالغون وقيل أهل العلم والفضل (والنهى) (بضم النون) العقول أي ليدن مني البالغون العقلاء لشرفهم ومزية تفطنهم. وقال ابن سيد الناس الأحلام والنهى بمعنى واحد (متفق عليه) ولمسلم عن ابن مسعود "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى. ثم الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم". فدلت هذه الأحاديث على مشروعية تقدم أهل العلم والفضل ولتأتي التبليغ منهم والاستخلاف عند الحاجة ولأبي داود وغيره قال أبو مالك الأشعري ألا أحدثكم بصلاة رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "أقام الصف، فصف الرجال وصف الغلمان خلفهم" ولأحمد نحوه وزاد "والنساء خلف الغلمان وقال أحمد يكره أن يقوم الصبي مع الناس في المسجد خلف الإمام. وكان عمر إذا رأى صبيًا في الصف أخرجه. ولأحمد من حديث أبي أن عمر قال له كونوا في الصف الذي يليني. وقال بعض الأصحاب الأفضل تأخير مفضول، وكذا تأخير صبي. واختاره الشيخ وقطع به ابن رجب. وقال في الفروع وظاهر كلامهم في الإيثار بمكانه وفيمن سبق إلى مكان ليس له ذلك أي تأخير صبيان لبالغين لاتحاد جنسهم وهو مذهب الشافعية وغيرهم وقاله الحافظ وغيره وصوبه في الإنصاف.

فصل في الاقتداء

وقطع به المجد وعليه عمل الناس. وقوله ليلني لا يتم الاستدلال به على إخراجهم من صفوف الرجال إنما فيه تقديم البالغين أو نوع منهم. وإذا كانوا أقرأ ففيهم أهلية لذلك. فإن الصبي إذا عقل القربة كالبالغ في الجملة وقدم الصحابة عمرًا في الإمامة وهو ابن ست أو سبع سنين فالمصافة أولى فإنه قد يكون صبي أقرأ من مكلف وقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وأحاديث "من سبق إلى مكان فهو أحق به" و "لا يقيم أحدكم أخاه من مجلسه" ونحو ذلك مطلقة وحديث أبي مالك ليس فيه نهي وقد يحمل فعل عمر وقول أحمد على نقرة الإمام للخبر ما لم يكن الصبي أقرأ. ولو كان تأخيرهم أمرًا مشهورًا لاستمر العمل عليه كتأخير النساء. ولنقل نقلاً لا يحتمل الاختلاف كما نقلت الأمور المشهورة. وقال الحافظ على قول ابن عباس وأنا فيهم أن الصبيان مع الرجال وأنهم يصفون معهم ولا يتأخرون عنهم. فصل في الاقتداء أي في أحكام اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وخارجه وانصرافهما. (وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في حجرته)

أي حجرة بيته وعند أبي نعيم "كان يصلي في حجرة من حجر أزواجه (وجدار الحجرة قصيرة) تمكن رؤيتهم منه (فرأى الناس شخصه) – - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي في حجرته (فقام أناس) ممن رأوه (يصلون بصلاته" رواه البخاري) ولأحمد عنها قالت كانت لنا حصيرة نبسطها بالنهار ونحتجر بها بالليل "فصلى فيها رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فسمع المسلمون قراءته فصلوا بصلاته" وفي لفظ أمرني أن أنصب له حصيرًا على باب حجرتي" ففعلت. فدل على أن الحائل بين الإمام والمأمومين غير مانع من صحة الصلاة مهما علم حال الإمام قال النووي يشترط لصحة الاقتداء علم المأموم بانتقالات الإمام. سواء صليا في المسجد أو في غيره أو أحدهما فيه والآخر في غيره بالإجماع. ويحصل العلم بذلك بسماع الإمام أو من خلفه أو مشاهدة فعله أو فعل من خلفه ونقلوا الإجماع في جواز اعتماد واحد من هذه الأمور، اهـ. ولا يشترط الاتصال في المسجد حكاه أبو البركات إجماعًا. لأنه إنما بنى للجماعة فكل من حصل فيه حصل في محل الجماعة بخلاف خارج المسجد فإنه ليس معدًا للاجتماع فيه فلذلك اشترط الاتصال فيه فإذا اتصلت صحت إجماعًا. وحكى الإجماع على أنه لا يضر بعد المؤتم في المسجد ولا الحائل ولو كان فوق القامة مهما علم حال الإمام واعتبره بعضهم ببعد غير معتاد بحيث يمنع إمكان الاقتداء فيرجع فيه إلى العرف.

ولو كانوا في صحراء ليس فيها قارعة طريق وبعدوا عن الإمام أو تباعدت الصفوف جاز ذلك مع سماع التكبير ووجود المشاهدة إن اعتبرت. وإن كان أحدهما خارج المسجد إن رأى الإمام أو المأمومين ولو لم تتصل الصفوف لانتفاء المفسد ووجود المقتضى للصحة وهو الرؤية وإمكان الاقتداء وفي الإنصاف المرجع في اتصال الصفوف إلى العرف على الصحيح من المذهب وصححه في المغني فلا يتقدر بشيء وهو مذهب مالك والشافعي لأنه لا حد في ذلك ولا إجماع ولأنه لا يمنع الاقتداء فإن المؤثر في ذلك ما يمنع الرؤية أو سماع الصوت. واشترط النووي أن لا تطول المسافة بين الإمام والمأمومين إذا صلوا في غير المسجد وهو قول جمهور العلماء وإذا كان بينهم وبين الصفوف حائط بحيث لا يرون الصفوف ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة. فقال الشيخ لا تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء. وإذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي فيه الناس لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء. (وعن حذيفة أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال إذا أم الرجل قومًا فلا يقومن في مقام أرفع من مقامهم) قال عمار لحذيفة لذلك اتبعتك. وهو أن عمارًا صلى بالمدائن فقام على دكان والناس أسفل منه فأخذ حذيفة بيده فاتبعه عمار حتى أنزله فلما فرغ قال ألم تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "إذا أم الرجل" الحديث. وفي لفظ "ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك قال بلى" (رواه أبو

داود) وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ورواه الشافعي والبيهقي ومن لا يحصى من كبار المحدثين ومصنفيهم بإسناد صحيح. وللدارقطني معناه بإسناد حسن. فدل الحديث على كراهة علو الإمام عن المأموم ذراعًا فأكثر وهو مذهب جمهور أهل العلم أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم. وحكى اتفاقًا إلا لحاجة ويشترك الإمام والمأموم في النهي قال ابن فرحون لأن الإمامة تقتضي الترفع فإذا انضاف إلى ذلك علوه عليهم في المكان دل على قصده الكبر وإن كان العلو يسيرًا لحاجة لم يكره. لما في الصحيحين من حديث سهل أنه – - صلى الله عليه وسلم - "صلى على المنبر ثم نزل القهقري فسجد وسجدنا معه ثم عاد حتى فرغ ثم قال إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي". ولا يضر ارتفاع المؤتم. وحكي إجماعًا ما لم يكن ارتفاعًا مفرطًا بحيث لا يمكن المؤتم العلم بأفعال الإمام لأن أبا هريرة صلى على سطح المسجد بصلاة الإمام رواه أحمد والشافعي والبيهقي والبخاري تعليقًا. وعن أنس نحوه رواه سعيد ويروى عن ابن عباس وابن عمر ولأن المتابعة حاصلة أشبهت العلو اليسير والأصل الجواز حتى يقوم دليل على المنع، أما إذا لم يمكن العلم بأفعال الإمام فممنوع للإجماع من غير فرق بين المسجد وغيره. (وعن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى صلاته أقبل

علينا بوجهه، متفق عليه) ولمسلم عن عائشة كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" أي لا يلبث جالسًا عن هيئته قبل السلام بل يتحول ويقبل على أصحابه وروى عبد الرزاق عن أنس: كان ساعة يسلم يقوم. وثبت أنه إذا انصرف انحرف واستفاضت الأحاديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعقب سلامه بالانصراف والإقبال على المأمومين. ولا فرق بين الانفتال والانصراف وحكى النووي وغيره أن عادته - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف استقبل المأمومين جمعيهم. وقاله القاضي والحافظ وغيرهما وهو مفهوم ما ورد عنه من الذكر بعد الصلاة والتذكير وغيره وقال ابن القيم: كان يسرع الإنفتال إلى المأمومين، اهـ. ويكره إطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة. وقال إبراهيم احصبوه ولأن في تحوله إعلامًا بأنه صلى فلا ينتظر. وربما إذا بقي على حاله يسهو فيظن أنه لم يسلم أو يظن غيره أنه في الصلاة فكره سدًا للذريعة. وينحرف عن يمينه وهو أفضل لعموم الأحاديث المصرحة بفضل اليمين ولا كراهة في انحرافه على اليسار لثبوته عنه – - صلى الله عليه وسلم - ويستحب أن لا ينصرف المأموم قبل إمامه لما في صحيح مسلم وغيره "لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف" إلا أن يخالف الإمام السنة في إطالة الجلوس فلا بأس.

قال خارجة بن زيد السنة أن يقوم الإمام ساعة يسلم فلا يبقى مستقبلاً القبلة. وذكر غير واحد أن استدبار الإمام المأمومين إنما هو لحق الإمامة فإذا انقضت الصلاة زال السبب فاستقبالهم حينئذ يرفع الخيلاء والترفع على المأموم فإن صلى معه نساء مكث قليلاً لينصرفن لئلا يدركهن الرجال لما في الصحيح وغيره عن أم سلمة "كان إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه وهو يمكث في مكانه يسيرًا قبل أن يقوم". (ولمسلم عن معاوية: نهى – - صلى الله عليه وسلم - أن توصل صلاة بصلاة) أي: يجمع بينهما فلا تفصل (حتى نتكلم) والأفضل بما شرع من الأذكار بعد الصلاة (أو يخرج) من مكاننا الذي صلينا فيه. ولأبي داود وغيره من حديث المغيرة "لا يصل الإمام في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول" فيكره بلا حاجة ليميز فرض الصلاة عن نفلها. والمأموم كالإمام اتفاقًا وقيل إن كانت البقعة فاضلة لم يكره لفعل سلمة عند الأسطوانة وقال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرى الصلاة عندها. ولحاجة كتدريس ونحوه وحكي اتفاقًا. وينبغي أن يفصل بالكلام إن لم يتحول. وكره أحمد لغير الإمام اتخاذ مكان لا يصلي إلا فيه والمصافحة بعد السلام من الصلاة لا أصل لها لا بنص ولا بعمل من الشارع وأصحابه. ولو كانت مشروعة لتوفرت الهمم والدواعي على نقلها. أما إذا كانت أحيانًا لكونه لقيه عقب الصلاة لا لأجل الصلاة فحسن.

فصل في الأعذار

فصل في الأعذار أي في بيان الأعذار المبيحة لترك الجمعة والجماعة. (قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} أي يسرها أي لا يكلف الله أحدًا فوق طاقته والوسع اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه فدلت هذه الآية وما في معناها على أن من لم يمكن في وسعه المجيء إلى الجماعة لمرض أو مطر أو خوف ونحو ذلك لا يكلف فوق طاقته فلا يلزمه حضور الجماعة وهذا مما لا نزاع فيه. (وعن عائشة قالت مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مرضه الذي مات فيه صلوات الله وسلامه عليه (فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس) فخرج أبو بكر يصلي "فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خفة فخرج يهادى بين رجلين" (رواه مسلم) فمن بلغ إلى تلك الحالة لا يستحب له الخروج للجماعة إلا إذا وجد من يتوكأ عليه. وقوله "لأتوهما ولو حبوا" على المبالغة فيعذر بترك جمعة وجماعة: مريض قال في الإنصاف بلا نزاع. وقال ابن المنذر لا أعلم خلافًا بين أهل العلم أن للمريض أن يتخلف عن الجماعات من أجل المرض. وقال النووي ضبطوا المرض الذي يشق معه القصد كمشقة المشي في المطر. وتقدم قوله: "من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر. قالوا يا رسول الله وما العذر قال "خوف أو مرض" رواه

أبو داود بسند صحيح. وكذا خائف حدوث مرض أو زيادته أو تباطؤه لأنه مرض. (وللبخاري عن ابن عمر مرفوعًا "إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء) ولا يعجل حتى يفرغ منه" وفي لفظ "إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصلاة" وتقدم حديث عائشة "لا صلاة بحضرة طعام. ولا وهو يدافعه الأخبثان" وحديث أنس "إذا قدم العشاء فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم" ولا نزاع في ذلك ليقبل على صلاته وقلبه فارغ وينبغي أن لا يعمد إلى هذه الأمور ونحوها. وإنما يجوز إذا وقعت اتفاقًا وينبغي اجتنابه إذا كان يقع كثيرًا (ولهما عنه كان ينادي منادي رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في الليلة الباردة أو ذات المطر صلوا في رحالكم) ولمسلم عن جابر خرجنا مع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في سفر فمطرنا فقال "ليصل من شاء منكم في رحله" ولهما عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير "لا تقل حي على الصلاة ولكن قل صلوا في رحالكم فكأن الناس استنكروا ذلك فقال فعله من هو خير مني يعني رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وإني كرهت أن أخرجكم في الطين والدحض". والثلج والجليد والبرد كذلك. وذكر النووي وغيره أن البرد الشديد عذر في الليل والنهار وشدة الحر عذر في الظهر وذكر أبو المعالي وغيره أن كل ما

أذهب الخشوع كالحر المزعج عذر والزلزلة عذر لأنها نوع خوف. قال ابن عقيل ومن له عروس تجلى عليه. ويعذر بترك الجمعة والجماعة خائف من ضياع ماله أو فواته أو ضرر فيه لأن المشقة اللاحقة بذلك أعظم من بل الثياب بالمطر الذي هو عذر باتفاق أهل بالعلم. قال المجد والأفضل فعل ذلك ترك الجمعة والجماعة إلا ما يرجو وجوده. ويعذر من يخاف بحضوره موت قريبه وليس له من يمرضه غيره فيتشوش خشوعه. قال الموفق لا نعلم فيه خلافًا لأن ابن عمر ترك الجمعة لذلك رواه البخاري. وكذا إن خاف على نفسه من ضرر كسبع أو من سلطان يأخذه أو من ملازمة غريم ولا شيء معه أو فوات رفقته أو غلبة نعاس أو خاف على أهله أو ماله أو نحو ذلك مما يشوش عليه حضوره. وإن طرأ بعض الأعذار في الصلاة أتمها خفيفة إن أمكن وإلا قطعها لأن من شروط صحة الصلاة أن يعي أفعالها ويعقلها. وهذه الأشياء تمنع ذلك فإذا زالت فعلها على كمال خشوعها وفعلها مع كمال خشوعها بعد فوات الجماعة أولى من فعلها مع الجماعة بدون كمال خشوعها لأن لب الصلاة وروحها الخشوع. وحضور القلب. وقال زكريا الأنصاري ومن الأعذار كل مشوش للخشوع مع سعة الوقت. وأكل منتن ومن ببدنه أو ثوبه ريح خبيث وأن عذر كذي بخر أو أصنان مستحكم ما لم يسهل عليه إزالته ومن كان أكله لعذر ما لم يأكله بقصد إسقاط الجمعة والجماعة وإلا

باب صلاة أهل الأعذار

لزمه إزالته مهما أمكن ولا تسقط عنه. والمراد سقوط الإثم على قول: الفرض وفي الصحيحين "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ولا يصل معنا" ولهما عن عمر فلا يأت المسجد والمراد لا تحيلاً فلا تسقط ويحرم. باب صلاة أهل الأعذار وهم المريض والمسافر والخائف ونحوهم. والأعذار جمع عذر والعذر الحجة التي يعتذر بها وما يرفع اللوم عما حقه أن يلام عليه سموا بذلك لما قام بهم من الأعذار الآتية ونحوها. (قال تعالى: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} أي لا تكلف إلا ما أطاقت من العمل قال أهل التفسير فمن لم يستطع القيام فليصل قاعدًا وقد وضع الله الحرج عن هذه الأمة وجعل دينها يسرًا وأرشد عباده المؤمنين أن يقولوا {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِه} ِ وقال: "قد فعلت" وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (وقال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين} يعني الموت الموقن به الذي لا يشك فيه أحد والمعنى واعبد ربك في جميع أوقاتك ومدة حياتك حتى يأتيك الموت وأنت في عبادة ربك وهذه الآية كقوله تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} قال ابن كثير يستدل بالآية على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتًا فيصلي بحسب حاله.

(وعن عمران بن حصين قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - صل قائمًا) وذلك أن عمران كانت به بواسير فسأل النبي – - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يصلي قائمًا إن استطاع. والقيام واجب في الفرض إجماعًا مع القدرة. ولو كان قيامه كصفة راكع لحدب أو كبر أو مرض ونحوه أو معتمدًا في قيامه على شيء من نحو عصا، أو مستندًا إلى حائط ونحوه. (فإن لم تستطع) أي الصلاة قائمًا (فقاعدًا) قال النووي وغيره أجمعت الأمة على أن من عجز عن القيام في الفريضة صلى قاعدًا ولا إعادة عليه ولا ينقص ثوابه للخبر، اهـ. وكذا لو شق عليه القيام أو كان في سفينة، أو بيت قصير سقفه وتعذر الخروج أو خاف عدوًا إن انتصب قائمًا صلى جالسًا. وقال إمام الحرمين الذي أراه في ضبط العجز أن يلحقه بالقيام مشقة تذهب خشوعه لأن الخشوع مقصود الصلاة. وكذا رقيب غزاة أو كمينهم خاف إن قام رؤية العدو. ويصلي متربعًا اتفاقًا وكيف قعد جاز فإن الشارع لم يخص جلسة دون جلسة. وذكر ابن أبي نسيبة عن جماعة من التابعين أنهم كانوا إذا صلوا جلوسًا يجثون (فإن لم تستطع) أي قاعدًا (فعلى جنب رواه البخاري) والخمسة وغيرهم وذكره غير واحد مذهب الجمهور. زاد النسائي فإن لم تستطع فمستلقيًا {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا

إِلاَّ وُسْعَهَا} وقال الشيخ ووجهه إلى القبلة للخبر إن استطاع أو كان عنده من يوجهه وإن لم يكن عنده من يوجهه إلى القبلة صلى على أي جهة توجهه اهـ. وإذا لم يقدر على جنبه وصلى على ظهره فصلاته صحيحة بلا نزاع. وروى الدارقطني من حديث علي بسند ضعيف فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقيًا رجلاً مما يلي القبلة ولو صلى على ظهره ورجلاه إلى غير القبلة فإنه يصير مستدبرًا للقبلة فلا تنعقد صلاته مع القدرة ويومئ العاجز برأسه راكعًا وساجدًا مهما أمكنه. قال الشيخ فيمن لا يستطيع التحرك. وإذا سجد لا يستطيع الرفع يومئ برأسه إيماء بحسب حاله وروي عن جابر صل على الأرض إن استطعت وإلا فأوم إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك ولا ينقص أجر من نوى الخير وفعل ما يقدر عليه لخبر أبي كبشة وغيره. ولو عجز عن الإيماء برأسه سقطت عنه الصلاة ولا يلزمه الإيماء بطرفه وهذا مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد وهو ظاهر حديث عمران وغيره. وينتقل إلى القيام من قدر عليه وإلى الجلوس من عجز عن القيام إجماعًا. وإن قدر على قيام وقعود وعجز عن ركوع وسجود أومأ بركوع قائمًا وبسجود قاعدًا عند جمهور أهل العلم. ولمريض الصلاة مستلقيًا مع القدرة على القيام لمداواة وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد لأنه – - صلى الله عليه وسلم - صلى جالسًا حين جحش شقه وأم سلمة تركت السجود لرمد بها.

(وعن يعلى بن مرة) بن وهب بن جابر بن عتاب بن مالك الثقفي من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم (أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى مضيق) ضد متسع من واد وغيره (والسماء) يعني المطر (من فوقهم والبلة) يعني النداوة (من أسفل منهم فحضرت الصلاة فأمر المؤذن فأذن وأقام ثم تقدم النبي – - صلى الله عليه وسلم - فصلى بهم) يعني إيماء (يجعل السجود أخفض من الركوع رواه) أحمد و (الترمذي) وقال العمل عليه عند أهل العلم. وثبت عن أنس من فعله ولم ينقل عن غيره خلاف في أن الفرض يصح على الراحلة واقفة كانت أو سائرة خشية التأذي بوحل أو مطر أو ثلج أو برد. فإن قدر على نزول بلا ضرر لزمه وكذا إن خاف انقطاعًا عن رفقته بنزوله أو على نفس من عدو ونحوه أو عجز عن ركوب إن نزل قال في الاختيارات تصح صلاة الفرض على الراحلة خشية الانقطاع عن الرفقة أو حصول ضرر بالمشي أو تبرز الخفرة وعليه الاستقبال وما يقدر عليه من شروط وأركان وواجبات وما لا يقدر عليه لا يكلف به. ومن كان بسفينة ونحوها وقدر على القيام لزمه بلا نزاع. وسئل النبي – - صلى الله عليه وسلم - كيف أصلي في السفينة قال "صل فيها قائمًا إلا أن تخاف الغرق" رواه الدارقطني ويؤيده الأحاديث المستفيضة في وجوب القيام مع القدرة. وصلى جابر وأبو سعيد وأبو هريرة في سفينة قيامًا في جماعة. وإن عجز عن القيام فيها والخروج

فصل في القصر

منها صلى جالسًا مستقبلاً اتفاقًا. ويدور إلى القبلة عند الجمهور كلما انحرفت السفينة بخلاف النفل فلا يلزمه أن يدور وتقدم. فصل في القصر أي في قصر المسافر الصلاة الرباعية إلى ركعتين وهو مشروع بالكتاب والسنة جائز بالإجماع. (قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} أي سافرتم فوق الأرض من موضع إلى آخر {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} حرج وإثم حال ضربكم في الأرض {أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ} من أربع ركعات إلى ركعتين وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء دون المغرب والفجر كما فهمه الجمهور من هذه الآية واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر. وقصر الشيء إذا نقصه أو نقص منه وقال شيخ الإسلام والأصح أن الآية أفادت قصر العدد وقصر العمل جميعًا. ولهذا علق ذلك بالسفر والخوف فإذا اجتمع الضرب في الأرض والخوف أبيح القصر الجامح لهذا ولهذا. وإذا انفرد السفر فإنما يبيح قصر العدد، وإذا انفرد الخوف فإنما يبيح قصر العمل. وقوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} خرج مخرج الغالب وإنما علق على الخوف لأن غالب أسفار النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تخل منه قال الشيخ وإذا كان القصر أفضل عند جماهير أهل العلم لم يجز أن يحتج بنفي الجناح على أنه مباح لا أفضلية فيه. وفي صحيح مسلم قال يعلى لعمر ما لنا نقصر وقد أمنا. فقال سألت

رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فقال "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" وقال ابن عمر: "هي رخصة من الله فإن شئتم فردوها"، فقول عمر: "فرضت الصلاة ركعتين تمام غير قصر" ونحوه أوله بعض أهل العلم أنه لمن أراد القصر، لا أنه أصل لمخالفة نص القرآن وإجماع المسلمين في أنها مقصورة وأن المسافر إذا اقتدى بمقيم لزمه الإتمام. (وعن ابن عمر قال صحبت النبي – - صلى الله عليه وسلم -) يعني في جميع أسفاره (وكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك) أي: لا يزيدون في السفر على ركعتين (متفق عليه) والسفر قطع المسافة سمي سفرًا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال أي يكشفها وقيل غير ذلك. ولفظ مسلم "صحبت النبي – - صلى الله عليه وسلم - فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل. وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل، وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل، وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل. وظاهره أن عثمان لم يتم في السفر، ولمسلم عنه: ومع عثمان صدرًا من خلافته ثم أتم، وفي رواية: ثمان سنين أو ست سنين؛ وأكثر العلماء: أن عثمان لم يزد على ركعتين حتى قبضه الله في غير منى. وفي الصحيحين أن عبد الرحمن بن يزيد قال –صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع ثم قال صليت مع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بمنى

ركعتين. وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر بمنى ركعتين. فليت حظي من أربع ركعتان متقبلتان فدل على سنية القصر في السفر. وقال الخطابي مذاهب أكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار على أن القصر هو الواجب في السفر. وقال الشيخ وغيره هو جائز بإجماع أهل العلم منقول عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - بالتواتر واختاره فقهاء الحديث وغيرهم كأحمد وغيره إتباعًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإنه لم يصل في السفر قط إلا مقصورة حتى إن من العلماء من يوجبه. ومن صلى أربعًا لم يبطلوا صلاته لأن الصحابة أقروا من فعل ذلك منهم بل منهم من يكره ذلك ومنهم من لا يكرهه وإن رأى تركه أفضل. ولهذا كان المسلمون مجمعين على جواز القصر في السفر مختلفين في جواز الإتمام لأن النبي – - صلى الله عليه وسلم - داوم عليه قال ولم ينقل أحد أنه صلى أربعًا قط وحديث عائشة في مخالفة ذلك لا تقوم به حجة وقال في موضع باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وجميع أصحابه واختار أنه سنة وأن الإتمام مكروه. وذكر أن القصر أفضل عند عامة أهل العلم ليس فيه إلا خلاف شاذ. وأن أكثرهم يكرهون التربيع للمسافر. ونقل عن أحمد أنه توقف في الإجزاء. (ولمسلم عن أنس كان – - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال) واحدها ميل قال الحافظ منتهى مد البصر لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه. وقيل ينظر إلى الشخص لا

يدري أرجل أم امرأة. وقال النووي ستة آلاف ذراع (أو فراسخ) وأحدها فرسخ والفرسخ فارسي معرب وهو ثلاثة أميال، وأربعة الفراسخ بريد والبريد نصف يوم بسير الإبل والأقدام، وهو ربع مسافة يومين (صلى ركعتين) شعبة الشاك هل قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ وقال ابن القيم ثبت أنه – - صلى الله عليه وسلم - سمى مسيرة البريد سفرًا في قوله لا يحل "لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر بريدًا إلا مع ذي محرم" وذكر قصر أهل مكة معه – - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومزدلفة. وقد اختلف أهل العلم في مقدار المسافة التي تقصر فيها الصلاة على نحو من عشرين قولاً أقل ما قيل فيها ميل كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر وهو مذهب ابن حزم واحتج له بإطلاق السفر في الكتاب والسنة وفيما دونه بخروج النبي – - صلى الله عليه وسلم - إلى البقيع والفضاء والناس معه فلم يقصر ولم يفطر. وأخذ بحديث الباب الظاهرة. قال الحافظ وهو أصح حديث ورد في ذلك وأصرحه. وقال البغوي عامة الفقهاء يقولون مسيرة يوم تام. وكان ابن عمر يقصر في مسيرة يوم. وقاله الأوزاعي وابن المنذر وآخرون لإطلاق الكتاب والسنة وحديث أنس. وذهب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم إلى أنه لا يجوز إلا في مسيرة مرحلتين. وقال أبو حنيفة لا يقصر في أقل من ثلاث مراحل وأورد البخاري ما يدل على أن اختياره يوم وليلة وسمي النبي

- صلى الله عليه وسلم - السفر يومًا وليلة فقال في المرأة "لا تسافر يومًا وليلة إلا ومعها ذو محرم". قال شيخ الإسلام قال أبو محمد لا أعلم لما ذهب إليه الأئمة وجهًا وهو كما قال فإن التحديد بذلك ليس بثابت بنص ولا إجماع ولا قياس ولا حجة لتحديده. بل الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر واستظهر جواز القصر لمن سافر يومًا وقلا المسافر يريد أن يذهب إلى مقصوده ويعود إلى وطنه. وأقل ذلك مرحلة يذهب في نصفها ويرجع في نصفها وهذا هو البريد. وقد حدوا بهذه المسافة الشهادة على الشهادة وغير ذلك. وقال الفرق بين السفر الطويل والقصير لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بل الأحكام التي علق الله بالسفر علقها مطلقًا وذكر الآيات في ذلك والآثار. ثم قال فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر طويل وسفر قصير. فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه فرقًا لا أصل له من كتاب الله ولا سنة رسوله. فالمرجع فيه إلى العرف فما كان سفرًا في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم. وذكر مثل سفر أهل مكة إلى عرفة وقال أي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك من بلادهم فإن هذه المسافة بريد. وهذا سفر ثبت فيه جواز القصر والجمع. وقال إن حد فتحديده ببريد أجود إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه. والمعلوم أن الإجماع لم ينعقد على خلافه وهو اختيار

طائفة من علماء أصحاب أحمد كان بعضهم يقصر الصلاة في مسير بريد وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه لمن تبين السنة وتدبرها قال والمحددون لهم طريقان بعضهم يقول لم أجد أحدًا قال بأقل من ذلك وقد علم من قال ذلك. وبعضهم يقول هذا قول ابن عمر وابن عباس ولا مخالفه لهما وهذا باطل. فقد ثبت عنهما وغيرهما ما يخالف ذلك. وتحديد السفر بالمسافة لا أصل له في شرع ولا لغة ولا عرف ولا عقل ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقًا بشيء لا يعرفونه. والاعتبار بما هو سفر فمن سافر ما يسمى سفرًا قصر وإلا فلا. وأدنى ما يسمى سفرًا في كلام الشارع البريد وكان يأتي قباء راكبًا وماشيًا" ويأتي إليه أصحابه ولم يقصر هو ولا هم يأتون إلى الجمعة من نحو ميل وفرسخ. والنداء يسمع من نحو فرسخ. واختار جواز القصر للحشاش والحطاب ونحوهما فيما يطلق عليه اسم السفر. وقال بعض أهل العلم ولو قطع المسافة في ساعة. وقال شيخ الإسلام السفر ليس محدودًا بمسافة بل يختلف فيكون مسافرًا في مسافة بريد وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافرًا. فلو ركب رجل فرسًا سابقًا إلى عرفة ثم رجع من يومه إلى مكة لم يكن مسافرًا يدل على ذلك أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - لما قال يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، فلو قطع البريد ثلاثة أيام كان مسافرًا ثلاثة أيام فيمسح مسح مسافر. ولو قطع البريد في نصف يوم لم يكن مسافرًا. والنبي – - صلى الله عليه وسلم - إنما اعتبر ثلاثة أيام سواء

أكان حثيثًا أو بطيئًا. وذكر أن ابن عباس نهى من ذهب ورجع من يومه إلى أهله أن يقصر. وقال أيضًا الذين جعلوا المسافة الواحدة حدًا يشترك فيه جميع الناس مخالفون كلام رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فالرجل يخرج من القرية إلى صحراء الحطب يأتي به فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرًا وإن كانت المسافة أقل من ميل بخلاف من يذهب ويرجع من يومه فإنه لا يكون في ذلك مسافرًا. فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد بخلاف الثاني فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفرًا والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرًا فالسفر يكون بالعمل الذي يسمي سفرًا لأجله والعمل لا يكون إلا في زمان فإذا طال العمل وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر سمي مسافرًا وإن لم تكن المسافة بعيدة. وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد لم يسم سفرًا وإن بعدت المسافة. فالأصل هو العمل الذي يسمى سفرًا. ولا يكون العمل إلا في زمان فيعتبر العمل الذي هو سفر. ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن. وهذا مما يعرفه الناس بعاداتهم. فما سموه سفرًا فهو سفر وإلا فلا، اهـ. وخص بعضهم السفر المباح وهو إجماع في سفر الطاعة. وأما المحرم فمذهب مالك والشافعي وأحمد لا يقصر. وعنه يقصر في سائر جنس الأسفار وهو مذهب أبي حنيفة وطوائف

من السلف والخلف. قال الموفق وغيره الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه وقال الشيخ الحجة مع من جعل القصر مشروعًا في جنس السفر ولم يخص سفرًا من سفر وهذا القول هو الصحيح. فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر ولم ينقل عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه خص سفرًا من سفر. ولو كان مما يختص بنوع لكان بيانه من الواجبات ولو بين لنقلته الأمة وما علمت عن الصحابة في ذلك شيئًا ولم يذكر تقييده في شيء من الكتاب والسنة بنوع دون نوع فكيف يجوز أن يكون معلقًا بأحد نوعي السفر ولا يبين الله ولا رسوله ذلك بل يكون بيان الله ورسوله متناولاً سفر الطاعة وسفر المعصية ونصره ابن عقيل وهو قول بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد وعليه العمل. وقال النووي من سافر لأي قصد من المقاصد دينًا أو دنيًا ترخص بلا خلاف ولغير قصد إلا الترخص ترخص وفاقًا لأبي حنيفة وأحمد واحد القولين للشافعي. وقطع به أهل التحقيق في الفرجة ونحوها. والملاح ونحوه يترخص اتفاقًا اختاره الشيخ وقال سواء كان معه أهله أو لا، لأنه أشق. (ولهما عنه: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة) يحتمل أنه عام الفتح أو في حجة الوداع (فكان يصلي) أي الرباعية (ركعتين ركعتين) أي كل رباعية ركعتين من حين خروجه بما يقع عليه اسم المفارقة بنوع من

البعد عرفًا لأن الله إنما أباح القصر لمن ضرب في الأرض وقبل المفارقة لا يكون ضاربًا فيها ولا مسافرًا وكذلك يجوز له القصر إن فارق خيام قومه اتفاقًا. ولهما عنه "صليت مع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعًا وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين" وثبت عنه – - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما كان يقصر إذا ارتحل. ولم يثبت عنه القصر قبل البروز ولو كان في مصر كبير. قال شيخ الإسلام فإن السائر في المصر الكبير لو سار يومين أو ثلاثة لم يكن مسافرًا. والمسافر عن قرية صغيرة إذا سافر مثل ذلك كان مسافرًا. وأن المسافر لا بد أن يسفر أي يخرج إلى الصحراء، وإن لفظ السفر يدل على ذلك، يقال سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي ينكشف فيها من بين المساكن لم يكن مسافرًا، اهـ. وينتهي سفره ببلوغه مبدأ سفره. قال البخاري وخرج علي فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هذه الكوفة قال لا حتى ندخلها قال أنس (حتى رجعنا إلى المدينة) ولأبي داود من حديث أبي هريرة: أنه "صلى مع النبي – - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة في المسير والمقام بمكة إلى أن رجعوا ركعتين ركعتين. قال يحيى بن أبي إسحاق لأن أقمتم بها شيئًا قال أقمنا بها عشرًا، ولمسلم خرجنا من المدينة إلى الحج ثم ذكر مثله. وقال أحمد إنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -.

بمكة ومنى وإلا فلا وجه له غير هذا واحتج بحديث جابر أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - "قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن ثم خرج إلى منى وخرج من مكة متوجهًا إلى المدينة بعد أيام التشريق ومعنى ذلك كله متفق عليه من غير وجه. وللبخاري عن ابن عباس قال "أقام النبي – - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يومًا يقصر" ويأتي حديث عمران بن حصين "ثماني عشرة" ولأبي داود عن جابر "أقام بتبوك عشرين يومًا يقصر". وهذه الأحاديث دلت على جواز القصر في هذه المدة ولا تدل على نفي ما زاد على تلك المدة فابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، وأنس بنيسابور سنة أو سنتين يقصر. وعن جماعة من الصحابة أنهم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة، ولا يسمى المسافر بالبقاء مع التردد كل يوم في الإقامة أو الرحيل مقيمًا وإن طالت المدة. وقال عليه الصلاة والسلام "إنا قوم سفر" فمن صدق عليه هذا الاسم قصر لأن المعتبر هو السفر. قال شيخ الإسلام وغيره للمسافر القصر والفطر ما لم يجمع إقامة ويستوطن. قال وتقسيم الإقامة إلى مستوطن وغير مستوطن لا دليل عليه من جهة الشرع بل هو مخالف للشرع فإن هذه حال النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة في غزوة الفتح. وفي حجة الوداع، وحاله بتبوك والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام معدودة يقيمها

ليس هو أمرًا معلومًا لا بشرع ولا عرف وذكر إقامة النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وقصرهم في تلك المدة وأنهم مجمعون على إقامة أكثر من أربعة أيام. وقال ابن المنذر أجمعوا على أن المسافر يقصر ما لم يجمع على إقامة ولو أتى عليه سنون ومن حبس ظلمًا أو بمرض أو مطر ونحوه ولم ينو إقامة قصر أبدًا وإجماعًا. (وعن عمران بن حصين مرفوعًا) قال غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين (يقول يا أهل البلد صلوا أربعًا) وفي لفظ "أتموا" (فإنا قوم سفر) بفتح السين وسكون الفاء أي مسافرون وكان أهل مكة يصلون مع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح (رواه أبو داود) وغيره. ولمسلم كان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا وقال ابن عباس تلك السنة رواه أبو داود. وحكى أحمد وابن المنذر عن ابن عباس وابن عمر أن المسافر إذا ائتم بمقيم صلى بصلاته ولا يعرف لهم مخالف. ولقوله عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" ولأنها صلاة مردودة من أربع فلان يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة وسواء اقتدى به في جميع الصلاة أو بعضها اعتقده مسافرًا أو لا. ويسن للمسافر إذا أم مقيمين أن يقول أتموا لفعله عليه الصلاة والسلام وخليفتيه من بعده بمكة لئلا يلتبس على الجاهل عدد الركعات. والقصر لا يحتاج إلى نية وهو مذهب مالك وأبي حنيفة

وعليه عامة العلماء قال شيخ الإسلام لم ينقل أحد عن أحمد أنه قال لا يقصر إلا بنية وإنما هو قول الخرقي ومن اتبعه. ونصوص أحمد وأجوبته كلها مطلقة كما قاله جماهير العلماء وهو اختيار أبي بكر موافقة لقدماء الأصحاب. وما علمت أحدًا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان اشترط نية لا في قصر ولا في جمع. ولم ينقل قط أحد عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر أصحابه لا بنية قصر ولا بنية جمع ولا كان – - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يأمرون بذلك من يصلي خلفهم. وقال وإذا كان فرضه ركعتين فإذا أتى بهما أجزأه ذلك سواء نوى القصر أو لم ينوه. وهذا قول الجماهير كمالك وأبي حنيفة وعامة السلف، اهـ. وإن أحرم في الحضر ثم سافر أتم حكاه ابن حامد وغيره إجماعًا. وقال النووي وغيره اجتماع الحضر والسفر في العبادة يوجب تغليب حكم الحضر، اهـ. وإن أحرم سفرًا ثم أقام كراكب سفينة أحرم بالصلاة مقصورة فيها ثم وصل إلى وطنه في أثناء الصلاة أتم. وإن ذكر صلاة حضر في سفر أتمها إجماعًا حكاه أحمد وغيره وكذا إن ذكر صلاة سفر في حضر أتم لأن القصر من رخص السفر فبطل بزواله.

فصل في الجمع

فصل في الجمع أي في أحكام الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في وقت أحدهما. قال الشيخ وهو رخصة عارضة للحاجة إليه فإن النبي – - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله إلا مرات قليلة فلذلك فقهاء الحديث كأحمد وغيره يستحبون تركه إلا عند الحاجة إليه اقتداء بالنبي – - صلى الله عليه وسلم - إذا جد به السير. وفي الصحيح وغيره عن ابن مسعود قال "ما رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين" وأوسع المذاهب في الجمع مذهب أحمد فإنه نص على أنه يجوز دفعًا للحرج ويجوز للشغل. وذكر ابن القيم أحاديث. وقال كل هذه سنن في غاية الصحة والصراحة ولا معارض لها. وأوقات المعذورين ثلاثة وقتان مشتركان ووقت مختص والوقتان المشتركان لأرباب الأعذار أربعة لأرباب الرفاهية. ولهذا جاءت الأوقات في كتاب الله نوعين خمسة وثلاثة في نحو عشر آيات وجاءت السنة بتفصيل ذلك وبيانه فتوافقت دلالة الكتاب والسنة والاعتبار الصحيح الذي هو مقتضى حكمة الشريعة وما اشتملت عليه من المصالح. (وعن أنس) رضي الله عنه قال: (كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل) في سفره (قبل أن تزيغ الشمس) أي قبل الزوال (أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما) يعني في وقت العصر. ولمسلم "إذا عجل به السير يؤخر الظهر

إلى وقت العصر فيجمع بينهما" وفي لفظ "كان إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل وقت العصر ثم يجمع بينهما" وعن معاذ "كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعًا. فدلت هذه الأحاديث على جواز تأخير الظهر إلى وقت العصر لمن جد به السير وهو قول عامة أهل العلم إلا أبا حنيفة فلم ير سوى جمعي عرفة ومزدلفة وهو محجوج بهذه السنن الصحيحة الصريحة في جواز هذا الجمع وبالقياس على الجمع بمزدلفة، وكذا حكى عن الحسن والنخعي ولا التفات لقول مخالف للنصوص (فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر) أي وحده ولا يضم إليه العصر (ثم ركب متفق عليه) قال شيخ الإسلام لأن المسافر إذا ارتحل بعد زيغ الشمس ينزل وقت العصر. فهذا مما لا يحتاج إلى الجمع بل يصلي العصر في وقتها ولأحمد من حديث ابن عباس ومعاذ أنه يصلي الظهر والعصر وتكلم فيهما غير واحد. وقال الشيخ وقد يتصل سيره إلى الغروب فهذا يحتاج إلى الجمع بمنزلة جمع عرفة وبه تتفق الأحاديث. (ولهما عن ابن عمر كان) رسول الله (- صلى الله عليه وسلم - إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء) يعني تأخيرًا. ولفظ الترمذي وصححه "أنه استغيث على بعض أهله فجد به السير فأخر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما. ثم أخبر أن

رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك" وعن ابن عباس "وإذا حانت له المغرب في منزله نزل فجمع بينهما" رواه أحمد وغيره. وله من حديث معاذ "وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء. وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب" فيستحب عند الحاجة كما كان يصلي - صلى الله عليه وسلم - في سفره إذا جد به السير وهذا مذهب جمهور العلماء. قال البيهقي والنووي وغيرهما الجمع بين الصلاتين في وقت الأولى أو الثانية بعذر السفر هو قول جمهور العلماء من السلف والخلف وهو من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين مع الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جمع الناس بعرفة ومزدلفة, وهو موجود في كل الأسفار. وقال شيخ الإسلام والجمع جائز في الوقت المشترك فتارة يجمع في أول الوقت كما جمع بعرفة وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة. وفي بعض أسفاره. وتارةً يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين. وقد يقعان معًا في آخر وقت الأولى وقد يقعان معًا في أول وقت الثانية وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا، وكل هذا جائز لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك. والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة، اهـ. فلا يستحب إلا عند الحاجة إليه للاختلاف فيه غير جمعي عرفة ومزدلفة فسن بشرطه إجماعًا قال شيخ الإسلام الجمع

بعرفة ومزدلفة متفق عليه وهو منقول بالتواتر فلم يتنازعوا فيه وفعل كل صلاة في وقتها أفضل إذ لم يكن حاجة عند الأئمة كلهم. والنبي – - صلى الله عليه وسلم - – لم يجمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة ولم يجمع بمنى ولا في ذهابه وإيابه. ولكن جمع في غزوة تبوك إذا جد به السير. والذي جمع هناك يشرع أن يفعل نظيره اهـ. وما ورد في حديث معاذ وابن عباس من تقديم العصر ففيه مقال. وقال شيخ الإسلام هذا إذا كان لا ينزل إلا وقت الغروب كما كان بعرفة لا يفيض حتى تغرب الشمس أما إذا كان ينزل وقت العصر فإنه يصليها في وقتها وقال وإذا كان نازلاً في وقتهما جميعًا نزولاً مستمرًا فما علمت روي ما يستدل به عليه إلا حديث معاذ وغزوة تبوك وحجه – - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل إنه جمع فيه إلا بعرفة ومزدلفة. وحديث معاذ ليس في المشهور. وقال ابن القيم لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يجمع راتبًا في سفره كما يفعله كثيرًا من الناس. ولا الجمع حال نزوله أيضًا وإنما كان يجمع إذا جد به السير. وإذا سار عقيب الصلاة كما في أحاديث تبوك. وأما جمعه وهو نازل غير مسافر فلم ينقل ذلك عنه إلا بعرفة ومزدلفة لأجل اتصال الوقوف كما قال الشافعي وشيخنا. (ولمسلم عن ابن عباس جمع النبي – - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء) بالمدينة (من غير خوف ولا مطر وفي لفظ "من غير خوف ولا سفر" وقيل لابن عباس ما أراد بذلك. قال أراد أن لا يحرج أمته. أي لئلا يشق عليهم

فقصد إلى التخفيف عنهم. ولهما عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى بالمدينة سبعًا وثمانيًا جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء" وفي لفظ "صلى لنا الظهر والعصر جميعًا من غير خوف ولا سفر" ودل الحديث بفحواه على الجمع للمرض والمطر والخوف. وإنما خولف ظاهر منطوقه في الجمع لغير عذر للإجماع وإخبار المواقيت فتبقى فحواه على مقتضاه قال ابن المنذر يجوز من غير خوف ولا مطر. قال الخطابي وهو قول جماعة من أصحاب الحديث لظاهر الحديث. ومنعه الجمهور لغير حاجة وفي الترمذي "الجمع من غير عذر من الكبائر" قال والعمل عليه عند أهل العلم. قال النووي وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع للحاجة لم لا يتخذه عادة. وقال شيخ الإسلام في الجمع لمطر أو غيره: وبهذا الحديث استدل أحمد على الجمع لهذه الأمور بطريق الأولى فإن هذا الكلام يدل على أن الجمع لهذه الأمور أولى وهذا من باب التنبيه بالفعل فإنه إذا جمع ليرفع الحرج الحاصل بدون الخوف والمطر والسفر، فالحرج الحاصل بهذه أولى أن يرفع والجمع لها أولى من الجمع لغيرها وما يبين أن ابن عباس لم يرد الجمع للمطر وإن كان أولى بالجواز ما رواه مسلم عنه قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء" قال ابن شقيق فحاق في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته

فصدق مقالته. ولمسلم عنه لما قال له رجل الصلاة قال أتعلمنا بالصلاة "وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - " وقد استدل على فعله وهو يخطب بالبصرة بما رواه لما رأى أنه إن قطعه ونزل فاتت مصلحته وكانت عنده من الحاجات التي يجوز فيها الجمع وكان يرى أن الأمر في حال الجمع أوسع منه في غيره وبذلك يرتفع الحرج عن الأمة. وقال شيخ الإسلام: وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن الأمة. فإذا احتاجوا إلى الجمع جمعوا والأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة. وقال أيوب ولعله في ليلة مطيرة. وكان أهل المدينة يجمعون في الليلة المطيرة. وروي ذلك مرفوعًا وهو قول جمهور أهل العلم وذكر الشيخ أثارًا عن الصحابة. ثم قال فهذه الآثار تدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم المعمول به بالمدينة زمن الصحابة والتابعين. مع أنه لم ينقل أن أحدًا منهم أنكر ذلك فعلم أنه منقول عنهم بالتواتر جواز ذلك. وقول ابن عباس جمع النبي – - صلى الله عليه وسلم - ليس نفيًا منه للجمع لتلك الأسباب بل إثبات منه لأنه جمع بدونها وإن كان قد جمع بها أيضًا ولو لم ينقل أنه جمع بها فجمعه بما هو دونها دليل على الجمع بها بطريق الأولى.

وقال يجوز الجمع للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة في الليلة الظلماء ونحو ذلك وإن لم يكن المطر نازلاً في أصح قولي العلماء. وذلك أولى من أن يصلوا في بيوتهم. بل ترك الجمع مع الصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنة إذ السنة أن تصلي الصلوات الخمس في المسجد جماعة وذلك أولى من الصلاة في البيوت مفرقة باتفاق الأئمة الذين يجوزون الجمع كمالك والشافعي وأحمد. والحديث يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى. وقال النووي وغيره يجوز الجمع من أجل المرض وفاقًا لمالك وقواه. وقال يستدل له بحديث ابن عباس "من غير خوف ولا مطر"؛ لأنه إما أن يكون بالمطر وإما بغيره مما في معناه أو دونه ولأن حاجة المريض آكد من الممطور. وقال الشيخ يجوز للمرض كما جاءت بذلك السنة في جمع المستحاضة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالجمع في حديثين. وقال: ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقت إلا بحرج كالمستحاضة وأمثال ذلك من الصور. وفي الاختيارات يجوز للمرضع الجمع إذا كان يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة والجمهور على خلاف ذلك. قال ويجوز الجمع للطباخ والخباز ونحوهما ممن يخشى فساد ماله أو مال غيره بترك الجمع وللصلاة في الحمام مع جوازها فيه خوف فوات الوقت ولخوف تحرج في تركه وذكر ما في الصحيحين من حديث ابن

عباس أنه سئل لم فعل ذلك قال أرد أن لا يحرج أحدًا من أمته. فلم يعلله بمرض ولا غيره وجاء عن عمر أن من الكبائر الجمع بين الصلاتين إلا من عذر. قال فدل على جواز إباحة الجمع للعذر ولم يخص عمر عذرًا دون عذر. وإذا استوى التأخير والتقديم في الأرفق بهم فالتأخير أفضل في الجملة. وقال الشيخ في جمع المطر السنة أن يجمع للمطر في وقت المغرب حتى اختلف مذهب أحمد هل يجوز أن يجمع للمطر في وقت الثانية وقيل إن ظاهر كلامه أنه لا يجمع وفيه وجه ثالث أن الأفضل التأخير وهو غلط مخالف للسنة والإجماع القديم. وصاحب هذا القول ظن أن التأخير أفضل مطلقًا وهذا غلط فليس جمع التأخير أولى من التقديم بل ذلك بحسب الحاجة والمصلحة فقد يكون هذا أفضل. وهذا مذهب جمهور العلماء وهو ظاهر مذهب أحمد المنصوص عنه وغيره. ويأتي الكلام في جمعي عرفة ومزدلفة إن شاء الله. ويشترط الترتيب وقيل والموالاة. ورجح الموقف وغيره أنه راجع إلى العرف. وذكر الشيخ أن كلام أحمد يدل على أن الجمع عنده هو الجمع في الوقت وإن لم يصل إحداهما بالأخرى كالجمع في وقت الثانية على المشهور في مذهبه ومذهب غيره. وإنه إذا صلى المغرب في أول وقتها والعشاء في آخر وقت المغرب حيث يجوز له

فصل في صلاة الخوف

الجمع جاز ذلك. وأنه نص على نظير هذا فقال إذا صلى إحدى صلاتي الجمع في بيته والأخرى في المسجد فلا بأس وهذا نص منه على أن الجمع هو الجمع في الوقت لا تشترط فيه المواصلة. قال والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال لا في وقت الأولى ولا وقت الثانية فإنه ليس لذلك حد في الشرع. وفي الصحيحين في قصة جمع مزدلفة بعد أن صلى المغرب "أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء" واشترطوا وجود العذر عند افتتاحهما وسلام الأولى. فلو انقطع السفر ونحوه في الأولى بطل. فصل في صلاة الخوف أي في بيان صفة صلاة الخوف وهي مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسائر الأمة إلا أبا يوسف فقال إنما صلوها معه – - صلى الله عليه وسلم - – لفضله. قال الطحاوي وهذا القول ليس عندنا بشيء والكتاب والسنة وإجماع الصحابة حجة عليه وقال عليه الصلاة والسلام "صلوا كما رأيتموني أصلي". (قال تعالى: {وَإِذَا كُنتَ} أي يا محمد {فِيهِمْ} أي مع المؤمنين الخائفين والمراد بيان الحكم لا لوجوده أي بين لهم بفعلك لكونه أوضح من القول {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ} أي إذا أردت أن تقيم بهم الصلاة قال ابن عباس لما رأى المشركون

رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر وهو يؤمهم وذلك في غزوة ذات الرقاع ندم العدو على تركهم الإقدام على قتالهم فقال بعضهم دعوهم فإن لهم بعد صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأولادهم وأموالهم يريدون صلاة العصر فإن رأيتموهم قاموا إليها فشدوا عليهم فاقتلوهم، فنزل جبرائيل بهذه الآيات بين الصلاتين فعلمه كيفية أداء صلاة الخوف وأطلعه الله على قصدهم ومكرهم. قال تعالى: {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} أي تقف معك بعد أن جعلتهم طائفتين ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو وليحرسوكم منهم {وَلْيَأْخُذُواْ} أي الطائفة القائمة معك وهم المصلون {أَسْلِحَتَهُمْ} أي لا يضعوها ولا يلقوها وإنما عبر عن ذلك بالأخذ للإيذان بالاعتناء باستصحابها كأنهم يأخذونها ابتداء {فَإِذَا سَجَدُواْ} أي القائمون معك وأتموا الصلاة {فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ} أي فلينصرفوا إلى مقابلة العدو للحراسة. {وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ} بعد وهي الطائفة الواقفة تجاه العدو للحراسة {فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} الركعة الباقية ويتموا لأنفسهم كما في حديث سهل {وَلْيَأْخُذُواْ} أي هذه الطائفة القائمة معك وقيل وليأخذ الطائفة الباقية {حِذْرَهُمْ} وهو التحفظ والتيقظ والاحتياط لئلا يهجم عليهم العدو {وَلْيَأْخُذُواْ َأَسْلِحَتَهُمْ} ليدفعوا عن أنفسهم والجمهور لا

يجب ولا يشترط اتفاقًا ويكره ما ينقل كجوشن ويضر غيره كرمح ما لم يكن على جانب. {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} فينالون منكم غرة وينتهزون فرصة {فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً} فيشدون عليكم شدة واحدة والمراد بالأمتعة ما يتمتع به في الحرب مطلقًا {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ} رخصة لهم في وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلهم من المطر أو يضعفهم من مرض. ومن ذلك قال بعض أهل العلم بوجوب حمل الأسلحة وجمهور الفقهاء على الندب {وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر ثم قال {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} سكنت قلوبكم من الخوف وأمنتم {فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} بتعديل أركانها ومراعاة شرائعها {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} فلا بد من إقامتها في حالة الخوف والأمن على الوجه المشروع فيهما. وقال: {فَإنْ خِفْتُمْ} أي اشتد الخوف وتواصل الطعن والضرب والكر والفر ولم يمكن تفريق القوم وصلاتهم على ما تقدم {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} أي فصلوا رجالاً أو ركبانًا والرجال جمع راجل والراجل الكائن على رجليه واقفًا كان أو ماشيًا والركبان جمع راكب وأكثر ما يقال لراكب الإبل بدون إضافة

والأمر للوجوب. قال الزركشي لا تسقط الصلاة حال المسايفة والتحام الحرب بلا نزاع ولا يجوز تأخيرها إن لم تكن الأولى من المجموعتين. (وعن سهل) بن أبي حثمة بن ساعدة الأوسي الأنصاري ولد سنة ثلاث من الهجرة روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الصحابة وتوفي بالمدينة في خلافة معاوية (أن طائفة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - صفت معه) يوم ذات الرقاع في صلاة الخوف بأرض غطفان. قال ابن القيم هي قبل الخندق (وطائفة وجاه) بكسر الواو أي: تجاه العدو وهذا فيما كان العدو في غير جهة القبلة. (فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائمًا وأتموا لأنفسهم وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى) التي كانت قبل وجاه العدو (فصفت معه) - صلى الله عليه وسلم - (فصلى بهم الركعة التي بقيت) من صلاته - صلى الله عليه وسلم - (ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم" متفق عليه) واختار الشافعي وأحمد وغيرهما حديث سهل لكونه أشبه بكتاب الله وأحوط للصلاة من حيث أنه لا يكثر فيها العمل وأحوط لأمر الحرب وأنكى للعدو. وقال مالك ذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف. وهذه القصة واضحة وقد ذهب إليها جماعة من الصحابة ومن بعدهم. وظاهر القرآن مطابق لما دل عليه هذا الحديث

الجليل لقوله تعالى {وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} وهذه الكيفية أقرب إلى موافقة المعتاد من الصلوات في تقليل الأفعال المنافية للصلاة ولمتابعة الإمام. (ولهما عن ابن عمر نحوه) ولفظه قال غزوت مع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد فوازينا العدو فصاففناهم "فقام رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فصلى بنا فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو وركع بمن معه ركعة وسجد سجدتين ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل فجاؤوا فركع بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين". ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى ويحتمل أنهم أتموا في حالة واحدة. والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد فلو كانوا ثلاثة جاز للإمام أن يصلي بواحد والثالث يحرس ثم يصلي مع الإمام. (ولهما عن جابر صلى بكل طائفة ركعتين) ولفظه أقبلنا مع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بذات الرقاع قال فنودي بالصلاة "فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخر فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين فكانت لرسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أربع وللقوم ركعتان". (ولمسلم عنه صففنا صفين خلفه) أي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعدو بيننا وبين القبلة "فكبر وكبرنا جميعًا ثم ركع وركعنا جميعًا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا (ثم

انحدر بالسجود والصف الذي يليه الحديث) أي وانحدر الصف الذي يليه "وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى السجود قام الصف الذي يليه وانحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع وركعنا جميعًا. وذكر نحو ما تقدم ثم سلم النبي – - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعًا" وفي لفظ غزونا قومًا من جهينة وذكر نحوه. (ولأحمد) وأبي داود والنسائي وغيرهم (عن أبي بكرة صلى) يعني رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف (بكل طائفة صلاة ولفظه "صلى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلم ثم تأخروا وجاء الآخرون فكانوا في مقامهم فصلى بهم ركعتين ثم سلم ثم تأخروا وجاء الآخرون فكانوا في مقامهم فصلى بهم ركعتين ثم سلم" وروي أنه " صلى بكل طائفة ركعة بلا قضاء" ومنعه الأكثر. وقال بعض أهل العلم في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ} هو قصر الكيفية لا الكمية وصوبه ابن كثير واستأنسوا بقول عمر وغيره فرضت الصلاة ركعتين، قالوا ولهذا قال بعدها {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ} الآية وقال البغوي وأكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم لا ينقص الخوف من العدو شيئًا. وقيل المراد ركعة مع الإمام وليس فيها نفي الثانية. وقال أحمد صحت صلاة الخوف عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - من خمسة أوجه أو ستة أوجه كلها جائزة. ومن ذهب إليها كلها فحسن.

قال شيخ الإسلام وغيره وهذا قول عامة السلف إتباعًا ولما جاء به الشارع – - صلى الله عليه وسلم - وأحمد رحمه الله على قاعدته يجوز جميع ما ورد وقال فقهاء الحديث كأحمد وغيره متبعون لعامة الثابت عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - وهذه الأحاديث أصولها وربما اختلف بعض ألفاظها فذكرها بعضهم أكثر. قال ابن القيم والصحيح هذه الأوجه فصح أنه – - صلى الله عليه وسلم - صلاها في أربع. ذات الرقاع وبطن نخل. وعسفان. وذي قرد المعروف بغزوة الغابة. وقال أحمد أصولها ست صفات: وأبلغها بعضهم أكثر هؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجهًا فصارت سبعة عشر لكن يمكن أن تتداخل أفعال النبي – - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو من اختلاف الرواة، قال الحافظ: وهذا هو المعتمد. ومنع ابن الماجشون صلاة الخوف في الحضر. ورد قوله بأن اعتبار السفر وصف طردي ليس بشرط ولا سبب وإلا لزم أن لا يصلي إلا عند الخوف من العدو الكافر. وأما كونه – - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها يوم الخندق فذلك قبل نزول آية صلاة الخوف. واتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على جوازها سواء كان القتال سفرًا أو حضرًا لأن المبيح الخوف لا السفر. ولا تأثير له في قصر الصلاة. وإنما تأثيره في الصفة. وقال الزركشي ومن شروط صلاة الخوف أن يكون العدو يحل قتاله ويخاف هجومه لأنها رخصة فلا تستباح بالقتال المحرم. ودلت هذه النصوص على عظم شأن صلاة الجماعة.

(وعن ابن عمر قال إذا كان خوف أشد من ذلك) أي مما تقدم (صلوا رجالاً قيامًا على أقدامهم وركبانًا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها متفق عليه) زاد البخاري قال نافع لا أرى ابن عمر قال ذلك إلا عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - وتقدمت الآية في ذلك. ولأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في غير شدة الخوف وأمرهم بالمشي إلى وجاه العدو وهم في الصلاة ثم يعودون لقضاء ما بقي من صلاتهم فمع شدة الخوف أولى. ولا يلزم الإحرام على القبلة ولو أمكن. وقال أحمد وغيره تجوز صلاة شدة الخوف رجالاً وركبانًا جماعة كما تجوز فرادى وهو مذهب الشافعي. ولم يجوزه مالك وأبو حنيفة: ولا تسقط بحال إجماعًا ويكرون ويفرون ولا يؤخرون الصلاة وهو قول أكثر أهل العلم لما تقدم ويومؤن بقدر طاقتهم لأنهم لو تمموا الركوع والسجود كانوا هدفًا لأسلحة العدو ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم. وكذا حالة هرب من عدو أو سيل أو سبع أو نار أو غريم ظالم، أو خوف على نفسه أو أهله أو ماله إن صلى صلاة أمن أو ذب عنه أو عن غيره وكل ذلك مبيح للصلاة على هذه الصفة وحكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه في صلاة المطلوب وإن كان طالبًا نزل فصلى إلا أن ينقطع فيخاف أو يخاف فوت عدو يطلبه لفعل عبد الله بن أنيس لما بعثه النبي – - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن سفيان الهذلي ليقتله صلى بالإيماء نحوه رواه أبو داود وغيره.

باب صلاة الجمعة

ولأن فوت عدوه ضرر عليه فأبيحت له صلاة الخوف كحال لقائه. وكذا من خاف كمينًا أو مكيدة أو مكروهًا صلى صلاة الخوف. وكذا أسير خاف على نفسه فيصلي كيف أمكنه قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا ومستلقيًا إلى القبلة وغيرها بالإيماء حضرًا وسفرًا. أو خاف فوت الوقوف بعرفة صلى صلاة خائف اختاره الشيخ وغيره. وقال ابن القيم فيكون في طريقه مصليًا كما يصلي الهارب من سيل أو سبع أو عدو اتفاقًا أو الطالب لعدو يخشى فواته على أصح القولين وهو أقيس الأقوال وأقربها إلى قواعد الشرع ومقاصده. فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان. وأن لا يفوت منها شيء اهـ فكيفما أمكن في صلاة الخوف أولى من تأخير الصلاة عن وقتها لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقوله – - صلى الله عليه وسلم - "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". باب صلاة الجمعة اتبعت السفر لمناسبة تنصيف كل صلاة منهما وسميت بذلك لجمعها الخلق الكثير أو من اجتماع الناس لها. أو لأن آدم جمع خلقه فيها أو لما جمع فيها من الخير. واسمه القديم يوم العروبة لأن العرب كانت تعظمه. وقيل أو من سماه يوم

الجمعة. كعب بن لؤي قال الشيخ فعلت بمكة على صفة الجواز وفرضت بالمدينة وهي واجبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. وحكى ابن المنذر وابن العربي الإجماع على أنها فرض عين. وقال العراقي: مذاهب الأئمة متفقة على أنها فرض عين لكن بشروط. يشترطها أهل كل مذهب. اهـ وصلاة الجمعة من أوكد فروض الإسلام ومن أعظم مجامع المسلمين. وهي أعظم من كل مجمع يجتمعون فيه سوى مجمع عرفة وأفرضه. وخص بأكثر من أربعين خاصية لا توجد في غيره. (قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي} أي بالأذان الثاني وهو الذي كان على عهد النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأما الأول الآن فهو إنما زاده عثمان رضي الله عنه فالمراد الثاني الذي يجب به السعي {لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} أي في يوم الجمع {فَاسْعَوْا} أي اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي صلاة الجمعة ليس المراد ههنا المشي السريع ولا عدو البدن. وإنما هو الاهتمام بها والعمل والفعل. وكان عمر وابن مسعود يقرآن (فامضوا إلى ذكر الله) وتقدم قوله عليه الصلاة والسلام "إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار". فبينت السنة المراد بالسعي أنه المضي إليها لإدراكها وذلك لمن يدركها به وإلا فما الضروري التقدم لإدراكها {وَذَرُوا الْبَيْعَ} وكذا الشراء وهو إنما يحرم عند النداء الثاني الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حين نزول الآية. فتعلقت

الأحكام به {ذَلِكُمْ} الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع والشراء {خَيْرٌ لَّكُمْ} من المبايعة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} مصالح أنفسكم فدلت الآية على فضلها وفرضيتها. (وعن أبي هريرة أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال "هذا يومهم الذي فرض عليهم) يعني، فرض على أهل الكتاب والمراد باليوم "يوم الجمعة" فرض تعظيمه عليهم (فاختلفوا فيه) هل يلزمهم تعينه أم يسوغ لهم إبداله بيوم آخر فاجتهدوا فأخطؤوا (فهدانا الله له) والناس لنا فيه تبع وأول السياق "نحن الآخرون الأولون السابقون يوم القيامة، بيد) أي غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا" يعني التوراة والإنجيل "وأوتيناه" يعني القرآن "من بعدهم (متفق عليه). وفي لفظ "ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة. هدانا الله له وضل الناس عنه" ولمسلم أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة" ولفظ البخاري "فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له" قال ابن بطال ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله عليهم وهو مؤمن. وإنما يدل والله أعلم أنه فرض عليهم يوم من الأسبوع ليقيموا فيه شريعتهم فاختلفوا في أي الأيام ولم يهتدوا ليوم الجمعة؛ فهدى الله هذا النبي الكريم وأمته لها بالنص والاجتهاد.

قال الحافظ وغيره. وفي الحديث دليل على فرضية الجمعة كما قال النووي لقوله "فرض عليهم فهدانا الله له" فإن التقدير فرض عليهم وعلينا فضلوا وهدينا أي لخير يوم طلعت عليه الشمس. وفي صحيح الحاكم "سيد الأيام يوم الجمعة" ولابن ماجه "يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر" وخصت به هذه الأمة وشرفه الله وخصه بعبادات يختص بها عن غيره. وقيل الحكمة في اختيار الجمعة وقوع خلق آدم فيه والإنسان إنما خلق للعبادة فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه ولأن الله أكمل فيه الموجودات. وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة فيه فهو اليوم الذي يستحب أن يتفرغ فيه للعبادة ويتخلى فيه عن أشغال الدنيا فهو مع غيره في الأيام كرمضان في الشهور وله على سائر الأيام مزية كما لرمضان. وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان. ولهذا من صحت له جمعته وسلمت له صح له وسلم له سائر أسبوعه. فهو ميزان الأسبوع وهو عيد الأسبوع ويوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالمبدأ والمعاد. (ولمسلم عنه) أي عن أبي هريرة وكذا عن ابن عمر (سمعته) يعني رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (يقول على أعواد منبره) أي الذي عمل له من عود سنة سبع عمله له غلام امرأة من الأنصار وكان على ثلاث درج ولم يزل حتى زاده مروان في زمن

معاوية ست درجات من أسفله ولم يزل حتى احترق المسجد سنة أربع وخمسين وستمائة (لينتهين أقوام عن ودعهم) أي تركهم (الجمعات) جمع جمعة (أو ليختمن الله على قلوبهم) الختم هو الطبع والتغطية عليها عقوبة على تركهم لها. فإن من استولت عليه الغفلة وعرض عليه الخير فاعرض عنه يعاقب بأن لا يحصل له (ثم ليكونن من الغافلين) بعد ختمه على قلوبهم فيغفلون عن اكتساب ما ينفعهم وللخمسة عن أبي الجعد أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال "من ترك ثلاث جمع تهاونًا طبع الله على قلبه" ولابن ماجه نحوه عن أبي هريرة وفي هذه الأحاديث وغيرها أعظم الزجر عن ترك الجمعة والتساهل فيها. وإن تركها من أعظم أسباب الخذلان وعزم على تحريق المتخلف عنها. وتقدم ذكر ما ورد في وجوب صلاة الجماعة من الكتاب والسنة وقول علماء الأمة ما يدل على وجوب صلاة الجمعة بطريق الأولى. وهي أفضل من الظهر بلا نزاع وآكد منه لأنه ورد في فضلها وفي التهديد على تركها ما لم يرد في الظهر ولأن لها شروطًا وخصائص ليست له، وصلاة الجمعة مستقلة وليست بدلاً عن الظهر وإذا فات وقتها فاتت بالكلية بخلاف غيرها. قال عمر صلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد – - صلى الله عليه وسلم -. وهي فرض الوقت فلو صلى الظهر أهل بلد مع بقية الوقت

لم تصح لأنهم صلوا ما لم يخاطبوا به. وتركوا ما خوطبوا به كما لو صلوا العصر مكان الظهر. وتلزمهم الجمعة ولا يعارض فرض الظهر ليلة الإسرى تأخير فرض الجمعة بعده فإنها إذا فاتت وجب الظهر إجماعًا فهو بدل عنها إذا فاتت. (وعن طارق بن شهاب) بن عبد شمس البجلي الأحمسي رأي النبي – - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه وتوفي سنة ثلاث وثمانين (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال الجمعة حق واجب على كل مسلم) خرج الكافر فإن الإسلام شرط في صحة العبادة. وللنسائي عن حفصة قال "رواح الجمعة واجب على كل محتلم" وذكره ابن المنذر إجماعًا والنصوص في ذلك شهيرة (إلا أربعة) بالنصب وما بعده بدل منه. وإن رفع فخبره محذوف. أو على تأويل لا يترك الجمعة مسلم في جماعة إلا أربعة أو إلا بمعنى لكن وأربعة مبتدأ. وبين الأربعة بقوله (عبد مملوك) فلا تجب عليه أشبه المحبوس بالدين قال ابن المنذر وهو قول أكثر العلماء اهـ. وهذا القول إحدى الروايات عن أحمد وعنه تجب على العبد وعليه أكثر أهل العلم واختاره المجد وغيره. وقال هو كالإجماع وعبد وما عطف عليه يحتمل أن يكون منصوبًا على البدل سقطت منه الألف على طريقة المتقدمين في عدم رسم الألف اكتفاء في مثله بالشكل وله شواهد. ويحتمل أن يكون مرفوعًا على القطع أي هم عبد لما تقرر إن البدل إذا فصل به مذكور وكان وافيًا يجوز

فيه البدل وإلا تعين القطع إن لم ينو معطوف محذوف كما هو معروف. (وامرأة) فلا تجب الجمعة عليها إجماعًا حكاه ابن المنذر وغيره. وأجمعوا على أنهم إذا حضرن فصلين الجمعة إن ذلك يجزئ عنهن وغير العجائز لا يستحب لهن حضورها بلا نزاع. وتقدم ذكر ما يباح له منهن حضور الجماعة (أو صبي) فلا تجب عليه إجماعًا لنقص بدنه ورفع التكليف عنه. وكذا لا تجب على مجنون ولا كافر بمعنى أنهما لا يقضيانها. وتقدم أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة. (أو مريض) وتقدم أم المرض المسقط لحضورها هو الذي يلحق صاحبه مشقة ظاهرة غير محتملة (رواه أبو داود) قال في المبدع إسناده ثقات وقال الحافظ صححه غير واحد وقال هو مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح. وقال العراقي حجة عند الجمهور، وإذ قد ثبتت صحبته فالحديث صحيح وادعى بعض الحنفية الإجماع على أن مرسل الصحابي حجة. وسمي مرسلاً لصغر طارق ويؤيده ما رواه جابر وتميم الداري وابن عمر وأبو هريرة وغيرهم. وفي حديث أبي هريرة "وأهل البادية " وللطبراني من حديث ابن عمر "ليس على مسافر جمعة" وفيها دليل على أن صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم سوى من استثنى إذا كان مستوطنًا ببناء يشمله اسم.

واحد ولو تفرق كالمدينة النبوية فلا تجب على كل مسافر لأن النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يسافرون إلى الحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة في السفر مع اجتماع الخلق الكثير. ومن وجبت عليه انعقدت به قاله الشيخ وغيره ويجوز أن يؤم فيها عند جماهير العلماء أبي حنيفة ومالك والشافعي وهو إحدى الروايتين عن أحمد لصحتها منه وتجزئة بلا نزاع. ومن سقطت عنه لعذر كمرض وحضرها أجزأته وجاز أن يؤم فيها إجماعًا لأن سقوطها عنه لمشقة السعي وقد زالت. قال ابن القيم في المسافر الاختيار أن لا يسافر إذا طلع الفجر وهو حاضر حتى تصلى الجمعة ما لم يخف فوت رفقته اهـ، وإن كان من العدد المعتبر لها وقد كان يعلم أنها لا تكمل إلا به فيحرم وإلا فيكره ولا يحرم لقوله عليه الصلاة والسلام "ما منعك أن تغدو مع أصحابك " قال أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم فقال لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم. وقال عمر لا تحبس الجمعة عن سفر وكما لو سافر من الليل هذا إذا لم يكن أذن لها فإن كان أذن لها فيحرم كما لو زالت الشمس حتى يصلي لتركه لها بعد الوجوب وهذا مذهب جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وقال الطوفي لا نزاع في تحريم السفر حينئذ لتعلق حق الله بالإقامة اهـ. كما لو تركها لتجارة فإن خافت فوت رفقته سقوط وجوبها.

فصل في شروطها

فصل في شروطها أي في شروط صحة الجمعة وهي الوقت والجماعة والاستيطان والخطبتان. لا إذن الإمام لأن عليًا صلى بالناس وعثمان محصور فلم ينكره أحد وصوبه عثمان وأبطأ الوليد بن عقبة فصلى ابن مسعود وصلى أبو موسى الأشعري حين أخرها سعيد بن العاص. وقال أحمد وقعت الفتنة في الشام تسع سنين وكانوا يجمعون ولم تنكر هذه الجمع فكان إجماعًا. (عن سهل) يعني ابن سعد رضي الله عنه (قال ما كنا نقيل) من القيلولة وهي الاستراحة وسط النهار (ولا نتغذى) قال ابن قتيبة لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال أي لا نفعل ذلك (إلا بعد الجمعة متفق عليه) وفي رواية "في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وفيه دليل على أنهم كانوا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر. وللبخاري عن أنس قال: "كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة ثم نرجع إلى القائلة فنقبل" وأصرح منه ما في مسلم عن جابر "كنا نصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنربحها حين تزول الشمس". فدلت هذه الأحاديث لما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل وجماعة من السلف من جواز صلاة الجمعة قبل الزوال لقول عبد الله بن سيدان شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت

خطبته وصلاته قبل نصف النهار. ثم شهدتها مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول قد زال النهار. فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا أنكره احتج به أحمد فصار إجماعًا سكوتيًا. وعن ابن مسعود كان يصلي الجمعة ضحى ويقول: إنما عجلت بكم خشية الحر عليكم. رواه أحمد وعن معاوية نحوه رواه سعيد. وفعلها ابن الزبير في وقت العيد وصوبه ابن عباس وأبو هريرة ولأنها صلاة عيد فجازت قبل الزوال. (وللبخاري عن أنس قال كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "يصلي الجمعة حين تميل الشمس) ولهما عن سلمة بن الأكوع قال "كنا نجمع مع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء" وفي لفظ "وليس للحيطان ظل يستظل به" فدلت هذه الأحاديث على شدة التبكير. والجمهور أنها لا تجوز إلا بعد الزوال. وقال الزركشي والتقديم ثبت رخصة بالسنة والآثار. وأما وقت الوجوب فبزوال الشمس إجماعًا. وعن أحمد وقتها كالظهر وفاقًا. ولا ينافي ما تقدم لأن سائر المسلمين لا يمنعون ذلك بعد الزوال. وآخر وقتها آخر وقت صلاة الظهر لا نزاع إلحاقًا لها بها لوقوعها موضعها وفعلها بعد الزوال أفضل لهذه الأخبار وخروجًا من الخلاف ولأنه الوقت الذي كان يصلي

فيه رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في أكثر أوقاته فالأولى فعلها بعد الزوال صيفًا وشتاءً حين تميل الشمس. وإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوا ظهرًا بلا خلاف لفوات الشرط ولأنها لا تقضي. (وعن أبي سعيد قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم" رواه مسلم) وهذا عام وقال شيخ الإسلام تنعقد الجمعة بثلاثة واحد يخطب وإثنان يستمعان وهو إحدى الروايات عن أحمد وقول طائفة من العلماء اهـ. وذهب طائفة من أهل العلم على اشتراط أربعين من أهل وجوبها وهذا المذهب عند أصحاب أحمد والشافعي واستدلوا بقصة مصعب بن عمير لما بعثه النبي – - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل المدينة فلما كان يوم الجمعة جمع بهم وكانوا أربعين وقالوا لم ينقل إنها صليت بدون ذلك. وقد ثبت أنه – - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم حين انفضوا ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً وهو أيضًا لا يقتضي أنها لا تصح بدون ذلك. وحكى النووي وغيره إجماع الأمة على اشتراط العدد وأنها لا تصح من منفرد وأن الجماعة شرط لصحتها. والله أعلم أنه لا مستند لاشتراط عدد أوضح وأصح من حديث أبي سعيد ويشهد له عموم الآية وما سواه من الأقوال يحتاج إلى برهان. قال شيخنا ولا برهان يخرجه من هذا العموم فدل على أنها تنعقد بالجمع وأقله ثلاثة وأما ما روي من قول جابر مضت السنة أن في كل أربعين فما فوق جمعة فلم يصح ولا يقاوم حديث أبي سعيد ولا حديث جابر.

وقال حافظ عصره الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو حديث ساقط لا يحتج به لأنه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن وهو ضعيف. قال البيهقي هذا حديث لا يحتج به ثم لو صح فليس فيه حجة، ويقال اشتراط الأربعين العقلاء الحاضرين الذكور الأحرار تحكم بالرأي بلا دليل وإسقاط للجمعة عمن دون الأربعين. وقد ثبت وجوب الجمعة بعموم الآية والأحاديث والإجماع على كل أحد فمن أراد إخراج أحد عن وجوبها فعليه الدليل واتفق المسلمون على اشتراط الجماعة لها واختلفوا في العدد المشترط لها وذكر الأقوال ثم قال: ونص أحمد على أنها تنعقد بثلاثة اثنان يستمعان وواحد يخطب اختاره شيخ الإسلام. قال الشيخ سليمان وهذا القول أقوى وهو كما قال شرعًا ولغة وعرفًًا لقوله (فاسعوا) وهذا صيغة جمع وأقل الجمع ثلاثة وفي الحديث "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم". فأمرهم بالإمامة وهو عام في إمامة الصلوات كلها الجمعة والجماعة. ولأن الأصل وجوب الجمعة على الجماعة المقيمين فالثلاثة جماعة تجب عليهم الجمعة ولا دليل على إسقاطها عنهم. وإسقاطها عنهم تحكم بالرأي الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس صحيح اهـ ويقال ولو كانت الأربعون شرطًا لما جز أن يسكت عنه الشارع – - صلى الله عليه وسلم - ولا يبينه. وقد أبلغ الحافظ وغيره أقوالهم إلى خمسة عشر.

ولا مستند لاشتراط عدد معين أربعين أو خمسين أو ثلاثين أو تسعة أو سبعة أو خمسة كما أنه لا مستند لصحتها من الواحد وقد صحت الجماعة في سائر الصلوات باثنين وقال به طائفة. واشترط في المأمومين المستمعين للخطبة ومن أسقطها عن هذا العدد فما فوق فعليه البرهان. وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالإجماع والجمعة صلاة فلا تخص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل. وقال عبد الحق وغيره لم يثبت في عدد الجمعة شيء. وعن ابن عباس (أول جمعة جمعت) أي صليت جماعة زاد أبو داود في الإسلام (بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يعني بالمدينة وهو رواية ووقع في رواية بمكة وقال الحافظ خطأ بلا مرية وإنما أول جمعة وقعت بعد الجمعة بالمدينة جمعة (في مسجد عبد القيس) قبيلة من أسد بن ربيعة وفي رواية من قرى عبد القيس (بجواثي) بضم الجيم ولفظ أبي داود بجواثي قريبة من قرى (البحرين) وهو المعروف الآن بالأحساء فليس من شروطها المصر (رواه البخاري). وبيوتهم من جريد النخل ونحوه. وكتب عليه الصلاة والسلام إلى قرى عرينة أن يصلوا الجمعة. وأسعد بن زرارة أول من جمع في قرية يقال لها هزم النبيت في حرة بني بياضة على ميل من المدينة, وأقر عمر أهل المنازل التي بين مكة والمدينة على التجميع ومعلوم أنها لم تكن بمدر وهي إما من جريد أو سعف أو قصب. والحديث وما في معناه يدل على وجوب الجمعة على

أهل القرى كالمدن من أي أجزاء البناء وهو قول جماهير العلماء إلا ما روي عن الحنفية. قال شيخ الإسلام كل قوم كانوا مستوطنين ببناء متقارب لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفًا تقام فيه الجمعة إذا كان مبنيًا بما جرت به عادتهم من مدر أو خشب أو قصب أو جريد أو سعف أو غير ذلك فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك إنما الأصل أن يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والحلل الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر وينتقلون في البقاع وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا وهذا مذهب جمهور العلماء والإمام أحمد علل سقوطها عن البادية لأنهم ينتقلون، اهـ. ولو كان البناء الذي تقام فيه الجمعة متفرقًا فإن المدينة كانت محلات وهي بريد في بريد ولم يجمع فيها في غير المسجد الذي أسسه رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال الشيخ وتجب الجمعة على من حول المصر عند أكثر العلماء وهو يقدر بسماع النداء بفرسخ. (وعن ابن عمر أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائمًا) واستفاض عنه – - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه وقال تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} وقال جابر "من أنبأك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب" رواه مسلم ولا نزاع في سنيته. وقال ابن المنذر وعليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار. وحكى ابن عبد البر إجماع العلماء على أن الخطبة لا تكون إلا قائمًا لمن أطاقه. ودخل كعب بن

عجرة وعبد الرحمن بن الجهم يخطب قاعدًا فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدًا وقرأ الآية. ومذهب الشافعي أن القيام شرط مع القدرة. وعند مالك واجب. فدل على تأكد سنيته. ويعتمد على عصا لفعله عليه الصلاة والسلام رواه أبو داود. وقال ابن القيم لم يحفظ أنه توكأ على سيف وإنما المحفوظ الاتكاء على العصى والقوس اهـ. وفي الحرب يعتمد على قوس. وفي الجمعة على عصا اتفاقًا، ويده الثانية على حرف المنبر إن كان، والغرض أن يكون أثبت لجأشه ولئلا يعبث بهما (ثم يقعد) يعني بين الخطبتين فيسن أن يجلس بينهما جلسة خفيفة وعليه السلف والخلف وخروجًا من خلاف من أوجبه. قال الترمذي وهو الذي رآه أهل العلم أن يفصل بين الخطبتين بجلوس. قال جماعة بقدر سورة الإخلاص (ثم يقوم) أي فيخطب الخطبة الثانية قائمًا (كما تفعلون اليوم) فثبت من فعله – - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة عليه (متفق عليه) ورواه الجماعة من وجوه كثيرة عن ابن عمر وغيره. وفيه دليل على مشروعية خطبتين قبل صلاة الجمعة والسنة مستفيضة في ذلك ولا نزاع فيه. وأمر تعالى بالسعي إلى ذلك في قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} والذكر هو الخطبة عند كثير من أهل التفسير وسميت ذكرًا لاشتمالها عليه فتجب إذ لا يجب السعي لغير واجب. وواظب عليه – - صلى الله عليه وسلم - وفعله مبين للآية وقد

قال "صلوا كما رأيتموني أصلي" واستمر عمل المسلمين عليه خلفًا عن سلف. وهما شرط عند جمهور أهل العلم مالك والشافعي وأحمد. قال الموفق وغيره شرط لا تصح بدونهما ولا نعلم مخالفًا إلا الحسن. وقال في الفروع ومن شرطهما تقديمهما اتفاقًا وهما بدل ركعتين لا من الظهر لأن الجمعة ليست بدلاً عن الظهر بل مستقلة وإنما الظهر بدل عنها إذا فاتت. وعن عمر وعائشة قصرت الصلاة من أجل الخطبة. (ولمسلم عن جابر كانت خطبته يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه) بما هو أهله وعن أبي هريرة مرفوعًا "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم" رواه أبو داود وللترمذي أنه – - صلى الله عليه وسلم - قال "كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء" وللبيهقي " وجعلت أمتك لا يجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي". ولأبي داود عن ابن مسعود كان إذا تشهد قال "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. ونتوب إليه. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا. ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) وقال أحمد لم يزل الناس يخطبون بالثناء على الله والصلاة على رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - لأن كل

عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى افتقرت إلى ذكر رسوله – - صلى الله عليه وسلم - كالأذان وذكره مع ذكر ربه هو الشهادة له بالرسالة. قال ابن القيم وهو الواجب في الخطبة قطعًا. وأوجب شيخ الإسلام وغيره حمد الله والثناء عليه والشهادتين والموعظة في الخطبة. وقال ابن القيم في خصائص الجمعة الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده بالشهادة له بالوحدانية ولرسوله بالرسالة وتذكير العباد بأيامه وتحذيرهم من بأسه ونقمته ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جناته ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها. (وله عنه) أي ولمسلم عن جابر (كان) رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (يقرأ آية) وفي لفظ "يقرأ القرآن" وله عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت "ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد} إلا من لسان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس" ويحتمل أنها أخذتها آية آية أو آيات لأن قراءتها بتمامها مع غيرها من الحمد والثناء والتشهد والوعظ وغير ذلك يعارض حثه على قصر الخطبة. ولأبي داود "ويقرأ آيات من القرآن" ولهما {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} وروي غير ذلك. وفيه وغيره دليل على مشروعية قراءة آية أو آيات أو سورة في الخطبة كل جمعة وأجمعوا على ذلك وظاهر كلام أحمد وغيره لا يشترط ويحتمل أن لا يجب سوى حمد الله والموعظة لأنه يسمى

خطبة وما عداه ليس على اشتراطه دليل (ويذكر الناس) آلاء الله ونعمه ويوصيهم بتقوى الله وطاعته قال شيخ الإسلام وغيره لا يكفي في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت لأنه لا بد من اسم الخطبة عرفًا بما يحرك القلوب ويبعث بها إلى الخير. قال الزركشي وغيره أركان الخطبة حمد الله والثناء عليه والشهادتان والصلاة على النبي – - صلى الله عليه وسلم - والقراءة والموعظة. (وفي رواية عنه قال كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (إذا خطب احمرت عيناه) أي اشتد احمرارها اهتمامًا بشأن الموعظة. (وعلا صوته) أي ارتفع جداً فينبغي رفع الصوت قدر الإمكان ولذلك استحب المنبر لأنه أبلغ في الإسماع (واشتد غضبه) لإنذاره الأمور العظام وتحذيره الخطوب الجسام واحمرت وجنتاه (حتى كأنه منذر جيش) أي معلم ومخوف ومحذر بما قد دهم من العدو (يقول) أي منذر الجيش (صبحكم) يعني الجيش (ومساكم) أي أتاكم العدو وقت الصباح أو وقت المساء ويأتي بجوامع الكلم من الترغيب والترهيب ويجزل كلامه. ويفخم أمر الخطبة لأنه أوقع في النفوس وأبلغ في الوعظ. وينبغي أن يكون متعظاً بما يعظ به ليحصل الانتفاع. (ويقول أما بعد) والرواية الثانية "يحمد الله ويثني عليهم يقول على أثر ذلك"أي قوله أما بعد وقد علا صوته.

والإتيان بأما بعد رواها نحو من ثلاثين صحابيًّا. وكان يلازمها في جميع خطبة بعد حمد الله والثناء والتشهد (فإن خير الحديث) أي ما يتحدث به (كتاب الله) فيه الهدى والنور (وخير الهدى) بفتح الهاء أي أحسن الطريق (هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -) أي طريقه وعلى رواية الضم معناه الدلالة والإرشاد وهو الذي يضاف إلى الرسل وإلى القرآن. (وشر الأمور) واحدها أمر أي وشر الشؤون أو الأشياء (محدثاتها) والمحدثات ما لم يكن ثابتاً بشرع من الله ولا من رسوله وذلك هو البدعة (وكل بدعة ضلالة) والبدعة لغة ما عمل على غير مثال سابق والمراد هنا ما عمل من دون أن يسبق له شرعية من كتاب ولا سنة وهذا كقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" فكل بدعة ليست مما أمر الله به ورسوله صغيرة كانت أو كبيرة فهي ضلالة باتفاق أهل العلم بالشرع المطهر وفي رواية "من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له"، وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - خطب متنوعة يعلم الناس قواعد الإسلام وشرائعة ويأمرهم وينهاهم ويحثهم على الطاعة وينهاهم عن المعاصي. وذكر ابن القيم وغيره أن خطبه - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت تقريرًا لأصول الإيمان من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وذكر الجنة والنار وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته. وما أعد لأعدائه وأهل معصيته ودعوة إلى الله وتذكيرًا بآلائه التي تحببه

إلى خلقه وأيامه التي تخوفهم من بأسه وأمرًا بذكره وشكره الذي يحببهم إليه فيملأ القلوب من خطبه إيمانًا وتوحيدًا ومعرفة بالله وآياته وآلائه ومحبة لشكره وذكره فينصرف السامعون وقد أحبوا الله فأحبهم. ولمسلم وغيره "إذا دعا رفع السبابة وأشار بها". (وله عن عمار مرفوعًا أن طول صلاة الرجل) يعني بالنسبة إلى خطبته ليس المراد التطويل المنهي عنه (وقصر) بكسر القاف وفتح الصاد أي تقصير (قطبته مثنة) بفتح الميم وكسر الهمزة أي علامة ودلالة يستدل به على ما خول (من فقهه فأطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة" حتى لا يملوها ويكون قصرها معتدلاً فلا يبالغ بحيث يمحقها. ولمسلم عن جابر وكانت صلاته - صلى الله عليه وسلم - قصدًا وخطبته قصدًا". وكون قصر الخطبة علامة على فقهه. لأن الفقيه هو المطلع على حقائق المعاني وجوامع الألفاظ فيتمكن من التعبير بالعبارة الجزلة المفيدة. وقال عليه الصلاة والسلام "إن من البيان لسحرًا"شبه الكلام العامل في القلوب الجاذب للعقول بالسحر لأجل ما اشتمل عليه من الجزالة وتناسق الدلالة وإفادة المعاني الكثيرة ووقوعه من الترغيب والترهيب بالمقام الأوفى ولا يقدر عليه إلا فقيه. وله عن عثمان أنه خطب وأوجز فقيل له لو تنفست فقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "قصر خطبة الرجل مئنة من فقهه.

فأطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة" ولا نزاع في مشروعية إقصار الخطبة. ولأبي داود "كان لا يطيل الخطبة إنما هي كلمات يسيرات" وينبغي أن تكون الثانية أقصر من الأولى كالإقامة مع الآذان والقراءة في الركعة الثانية أقصر من الأولى. ويدعو للمسلمين لفعله – - صلى الله عليه وسلم - وقال النووي الدعاء لأئمة المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق ونحو ذلك مستحب بالاتفاق. وذكر البغوي وغيره استحباب ختم الخطبة بقوله استغفر الله لي ولكم. وقال ابن القيم كان - صلى الله عليه وسلم - يختم خطبته بالاستغفار اهـ ويباح أن يخطب من صحيفة. ومن سنن الخطبة أن يسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم بوجهه رواه الضياء وغيره. وأصل التسليم مستفيض في الجملة. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وغيرهم أنهم كانوا إذا صعد أحدهم المنبر وأقبل على المأمومين بوجهه سلم عليهم وأن يخطب على منبر لفعله عليه الصلاة والسلام المستفيض عنه أو على موضع عال ولا نزاع في ذلك. وأن يجلس إلى فراغ الأذان وهو إجماع لقول ابن عمر كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن. ثم يقوم فيخطب. وقد تقرر استقباله الناس وقت الخطبة. واستدارة أصحابه إليه بوجوههم من غير وجه. قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم من الصحابة وغيرهم ويستحبونه اهـ. ولأنه الذي يقتضيه الأدب وهو أبلغ في الوعظ.

فصل في صفتها

قال النووي وهو مجمع عليه. قال إمام الحرمين سبب استقبالهم له واستقباله إياهم واستدباره القبلة أن يخاطبهم فلو استدبرهم كان قبيحًا. وإن استقبلوه استدبروا القبلة فاستدبار واحد واستقبال الجميع أولى من عكسه. فصل في صفتها أي في كيفية صلاة الجمعة وتحريم تعدادها لغير حاجة وذكر مسنوناتها. (عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة الصبح ألم تنزيل) في الركعة الأولى بعد الفاتحة (وهل أتى على الإنسان) في الركعة الثانية بعد الفاتحة ولهما من حديث أبي هريرة مثله ففيهما مشروعية قراءتهما في صلاة الفجر قال شيخ الإسلام إنما كان عليه الصلاة والسلام يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة لأنهما تضمنتا ما كان وما يكون في يومها فإنهما اشتملتا على خلق آدم وذكر الموت وحشر العباد وذلك يكون يوم الجمعة فكان في قراءتهما هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون، قال ولا ينبغي المداومة عليهما بحيث يظن الجهال إنهما واجبتان وإن تاركهما مسيء بل ينبغي تركهما أحيانًا لعدم وجوبهما. قال أحمد لا أحب أن يداوم عليهما لئلا يظن أنها مفضلة بسجدة وقد جاءت السجدة تبعًا ليست مقصودة حتى يقصد

المصلي قراءتها. قال الشيخ ويحرم تحري قراءة سجدة غيرها ولا يستحب أن يقرأ بسورة فيها سجدة أخرى باتفاق الأئمة. ثم ذكر رضي الله عنه ما كان يقرأ في صلاتها فقال (وفي صلاة الجمعة) يعني في الركعة الأولى (سورة الجمعة) بعد الفاتحة (والمنافقين) يعني في الركعة الثانية بعد الفاتحة لما علم من غير هذا الحديث (رواه مسلم) ورواه الخمسة إلا النسائي. ولهم إلا الترمذي من حديث النعمان "يقرأ في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالغاشية" ولهم إلا ابن ماجه: بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك حديث الغاشية) وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين وعن أبي جعفر رضي الله عنه قال كان النبي – - صلى الله عليه وسلم - "يقرأ بالجمعة والمنافقين فأما سورة الجمعة فيبشر بها المؤمنين ويحرضهم. وأما سورة المنافقين فيؤيس بها المنافقون ويوبخهم". وقال شيخ الإسلام أما القراءة فيها بسورة الجمعة فلما تضمنته من الأمر بهذه الصلاة وإيجاب السعي إليها وترك العمل العائق عنها بإكثار ذكره ليحصل لهم الفلاح في الدارين. وأما القراءة بسورة المنافقين فلما فيها من التحذير للأمة من النفاق المردي والتحذير لهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن صلاة الجمعة وعن ذكره وأنهم إن فعلوا ذلك خسروا ولا بد وحضًا لهم على الإنفاق الذي هو من أكبر سعادتهم وتحذيرًا لهم

من هجوم الموت وهم على حالة يطلبون الرجعة ولا يجابون إليها ويتمون الإقالة وأما سبح والغاشية فيأتي في العيدين. ففي هذه الأحاديث وغيرها سنة قراءة هذه السور جهرًا وهذا أمر مجمع عليه والجهر فيها وفي العيدين أبلغ في تحصيل المقصود وأنفع للجمع بل فيه من قراءة كلام الله عليهم وتبليغه في المجامع العظام ما هو من أعظم مقاصد الرسالة وفيها أن الجمعة ركعتان وهو إجماع معلوم بالضرورة كما علم عدد ركعات الصلوات الخمس لا ينكره إلا مكابر. وقال عمر صلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر. (وعن أبي هريرة مرفوعًا من أدرك ركعة من الجمعة) يعني مع الإمام (فقد أدرك الصلاة رواه الأثرم) الحافظ أبو بكر أحمد ابن محمد بن هانئ الطائي الإسكافي المتوفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين في كتاب السنن له وروى الحاكم نحوه من ثلاثة طرق قال فيها على شرط الشيخين وأصله في الصحيحين من غير وجه. وللبيهقي نحوه من حديث ابن مسعود وابن عمر ولفظ النسائي وابن ماجه "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف إليها أخرى. وقد تمت صلاته". قال الحافظ إسناده صحيح. وقال شيخ الإسلام مضت السنة أن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة أي لا تفته تلك الصلاة ومن لم تفته

الجمعة صلاها ركعتين لقوله "فليصل إليها أخرى" ولا بد من إدراك المسبوق منها مع الإمام ركعة بسجدتيها فإذا أدرك ذلك أتمها جمعة إجماعًا. وإن لم يدرك إلا أقل من ذلك بأن رفع الإمام رأسه من الثانية ثم دخل معه أتمها ظهرًا قيل إن كان نوى الظهر ودخل وقته ولو لم يدرك إلا التشهد دخل معه وتشهد حكاه أبو بكر عن الصحابة إجماعًا وقال ابن مسعود كذلك فعل أصحاب رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وإلا أتمها نفلاً. ومن فاتتهم صلوا ظهرًا ولم ينقل تجميع مع أنه لم يخل عصر من نفر تفوتهم الجمعة وقال ابن المنذر لا تجميع إجماعًا. وتحرم إقامة الجمعة في أكثر من موضع بالبلد لغير حاجة لأنه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يقيموها في أكثر من موضع واحد وقال "صلوا كما رأيتموني أصلي" وقال "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وفي تعطيل من حول المدينة مساجدهم واجتماعهم في مسج واحد أبين وأوضح دلالة بأن الجمعة ليست كسائر الصلوات وأنها لا تصلي إلا في مكان واحد ولا نزاع في ذلك إلا ما روي عن عطاء ويحرم إذن إمام فيها إذًا. قال شيخ الإسلام وصرح العلماء ببطلان صلاة من صلى جمعة ثانية بغير إذن الإمام وبغير حاجة داعية وأوجبوا عليه الإعادة. وقواعد الشرع تدل عليه. وأما مع الحاجة فيجوز بحسبها. وقال إقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في أكثر من موضع

يجوز للحاجة عند أكثر العلماء لصلاة علي بضعفة الناس في المسجد. ولما بنيت بغداد ولها جانبان أقاموا فيها جمعة في الجانب الشرقي وجمعة في الجانب الغربي وجوز ذلك علماء العصر. وذكر الحجة لذلك ولأن في الإلزام باتحاد الموضع حرجًا بينًا لاستدعائه تطويل المسافة على أكثر الحاضرين ولا دليل على عدم جواز التعدد مع الحاجة، وقضية الضرورة عدم اشتراطه كضيق المسجد عن أهله وعداوة بينهم يخشى لاجتماعهم في محل واحد وإثارتها فيجوز التعدد بحسب الحاجة. وقد كانت تفعل في الأمصار العظيمة في مواضع من غير نكير فكان إجماعًا وكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يفلعها في أكثر من موضع هو ولا أصحابه فلعدم الحاجة إليه. (وعن زيد بن أرقم) ابن زيد الخزرجي استصغر يوم أحد وتوفي سنة ست وستين (قال صلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - العبد أي في يوم الجمعة (ثم رخص في الجمعة) أي في صلاتها (وقال من شاء أن يصلي) أي الجمعة (فليصل) هذا بيان لقوله "رخص" وأعلام بأنه كان الترخيص بهذا اللفظ (رواه الخمسة إلا الترمذي) وصححه ابن خزيمة وابن المديني والحاكم وفيه مقال. ولأبي داود عن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فيمن شاء أجزأه عن الجمعة وإنا مجمعون". وللبخاري عن عثمان أنه قال في خطبته "يا أيها الناس قد اجتمع عيدان في يومكم فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا

الجمعة فليصل ومن أراد أن ينصرف فلينصرف" وفعله ابن الزبير. وسئل عنه ابن عباس فقال أصاب السنة. فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على أن صلاة الجمعة بعد صلاة العيد يجوز تركها لمن صلى العيد وهو مذهب جماعة من أهل العلم وذلك في غير حق الإمام. ومن لم يصل العيد ومن لم تنعقد إلا به ولأن يوم الجمعة عيد ويوم الفطر والأضحى عيد ومن شأن الشارع إذا اجتمع عبادتان من جنس أدخل إحداهما بالأخرى ولأن في إيجابهما على الناس تضييقًا وتكديرًا لمقصود عيدهم وما سن لهم فيه من السرور والانبساط فحينئذ تسقط الجمعة سقوط حضور لا وجوب. قال شيخ الإسلام إذا اجتمع الجمعة والعيد في يوم واحد فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال ثالثها وهو الصحيح أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها. ومن لم يشهد العيد وهذا هو المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف. وقال وهو المنقول الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه وأصحابه وهو قول من بلغه من الأئمة كأحمد وغيره والذين خالفوه لم يبلغهم ما في ذلك من السنن والآثار اهـ. ومن سقط عنه الحضور وجب عليه أن يصلي ظهرًا. (وعن ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد الجمعة ركعتين متفق عليه) وفي رواية في بيته. ولمسلم "إذا صلى

أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات" وروي عن ابن عمر لفعله - صلى الله عليه وسلم - وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم والجمع بين الأخبار أنه إن صلى في بيته صلى ركعتين وإن صلى في المسجد صلى أربعًا واختار ذلك الموفق والشيخ وغيرهما. وقال الشيخ وغيره أدنى الكمال ست لما روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله. والسنة أن يفصل بين الفرض والنفل بكلام أو قيام. ويكفي الانتقال من موضعه في الجمعة وغيرها كما تقدم ولا يفعل ما يفعله كثير من الناس، يصل السلام بركعتي السنة وهذا ركوب لنهيه - صلى الله عليه وسلم - وذريعة إلى تغيير الفرض. وأن يزاد فيه ما ليس منه ولا راتبة للجمعة قبلها فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج من بيته ويصعد المنبر ثم يأخذ بلال في الأذان فإذا أكمله أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة من غير فصل. وأما الأذان الأول فإنما زاده عثمان رضي الله عنه فاستقر الأمر عليه. وقوله عليه الصلاة والسلام "بين كل أذانين صلاة لمن شاء" لا تتخذ راتبة وليس هو الأذان المعهود على عهده - صلى الله عليه وسلم - ولما لم يذكر لها راتبة إلا بعدها علم أنه لا راتبة لها قبلها وهذا مما انعقد سبب فعله في عهده - صلى الله عليه وسلم -. فإذا لم يفعله ولم يشرعه علم أن تركه هو السنة قال شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما لا سنة للجمعة قبلها وهو أصح قولي العلماء وعليه تدل السنة قال الشيخ وهو مذهب الشافعي وأكثر أصحابه وعليه جماهير الأئمة لأنها وإن كانت ظهرًا مقصورة فتفارقها في بعض الأحكام. وكما أن ترك

المسافر السنة أفضل لكون ظهره مقصورة. وقال أبو شامة وما وقع من بعض الصحابة أنهم كانوا يصلون قبل الجمعة فمن باب التطوع. ولأنهم كانوا يبكرون ويصلون حتى يخرج الإمام اهـ. والأولى لمن جاء إلى الجمعة أن يشتغل بالصلاة حتى يخرج الإمام لما في الصحيح ثم يصلي ما كتب له. قال الشيخ وألفاظه - صلى الله عليه وسلم - فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت وهو المأثور عن الصحابة كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر. فمنهم من يصلي عشر ركعات ومنهم من يصلي اثنتي عشرة ركعة. ومنهم من يصلي ثماني ركعات ومنهم من يصلي أقل من ذلك ولهذا كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة موقتة بوقت مقدرة بعدد. قال والصلاة قبل الجمعة حسنة وليست بسنة راتبة إن فعل أو ترك لم ينكر عليه وهذا أعدل الأقوال. وحينئذ فقد يكون الترك أفضل إذا اعتقد الجهال أنها سنة راتبة. واختار أنه لا تكره الصلاة في وقت الزوال لأن من أتى الجمعة يستحب له أن يصلي إلى أن يخرج الإمام. (وعن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يغتسل رجل يوم الجمعة) إلى قوله "إلا غفر له" ولأحمد "على كل مسلم الغسل يوم الجمعة". ولابي داود عن ابن عباس كان الناس يلبسون الصوف ويعملون والمسجد ضيق. فخرج عليهم - صلى الله عليه وسلم - في يوم حار وقد عرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم روائح

وآذي بعضهم بعضًا "فأمرهم بالغسل والمس من الطيب" وللبخاري عن عائشة: كانوا ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في العباء فيخرج منهم الريح فقال "لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا". فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على سنية الغسل للجمعة وهو كالإجماع عن الصحابة وفي الصحيحين "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" ووجوبه أقوى من وجوب الوتر وأوجبه الشيخ على من له عرق أو ريح. وقال ابن عبد البر أجمع علماء المسلمين قديمًا وحديثًا على أن غسل الجمعة ليس بفرض لقوله – - صلى الله عليه وسلم - "ومن اغتسل فالغسل أفضل" وليس شرطًا إجماعًا. ومن قال بوجوبه فتصح بدونه وقوله - صلى الله عليه وسلم - "واجب " محمول على تأكيد الاستحباب كما يقال حقك علي واجب جمعًا بين الأدلة ويرشحه قرنه بالسواك والطيب وهما غير واجبين إجماعًا. وغسل الجمعة آكد الأغسال المستحبة مطلقًا. وأحاديثه مستفيضة ولأنها يجتمع لها الناس ويزدحمون فيعرقون فيؤذي بعضهم بعضًا فسن الغسل لزوال الرائحة الكريهة. والغسل عن جماع أفضل لقوله "غسل واغتسل" وفي رواية "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة" قال أحمد غير واحد من التابعين يستحبون أن يغسل الرجل أهله يوم الجمعة. وإذا نواهما أجزأ ولو أحدث بعده أو لم يتصل به المضي غليها. ولو اغتسل بعد الفجر ثم أجنب لم يبطل غسل الجمعة. قال

الماوردي وهو قول العلماء كافة بل هو أبلغ لأن المقصود منه التنظيف وإزالة الروائح الكريهة التي يتأذى بها الحاضرون من الملائكة والناس. (ويتطهر ما استطاع من طهر) وفي لفظ "من طهره" والمراد المبالغة في التنظيف (ويدهن) ولفظه عن سلمان "ويدهن من دهنه" والمراد به إزالة شعث الشعر به. وفيه إشارة إلى التنزين يوم الجمعة (ويمس من طيب امرأته) وعن سلمان "من طيب بيته" فإن لم يتخذ لنفسه طيبًا فليستعمل من طيب امرأته ولفظ مسلم "ولو من طيب المرأة" ولهما "وأن يستن وأن يمس طيبًا إن وجده" ولفظ أحمد من حديث أبي أيوب "ومس من طيب إن كان عنده. ولبس من أحسن ثيابه". وفيها وغيرها تأكد سنية التطيب والتنظيف يوم الجمعة. وكل حال تغير فيه رائحة البدن إتفاقًا. ويقطع روائح كريهة بسواك وتقليم وغيره ويغسل الثوب إذا توسخ لقوله "أما يجد أحدكم ماء يغسل به ثوبه" رواه أبو داود. وله عن ابن سلام أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول على المنبر "ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته" ولابن ماجه "أحسن ما زرتم الله في مساجدكم البياض". ولا نزاع في استحباب ذلك وفي الصحيحين قال عمر يا رسول الله ابتع هذه فتجمل بها للجمعة والوفد. قال ابن بطال

وغيره كان معهودًا عندهم أن يلبس المرء أحسن ثيابه وتقدم الحث على أخذ الزينة عند الصلوات ففي الجمعة أولى (ثم يخرج) أي إلى المسجد وله من حديث سلمان "ثم يروح إلى المسجد ولأحمد "ثم يمشي وعليه السكينة حتى يأتي المسجد" وله من حديث أوس "من غسل واغتسل وبكر وابتكر. ومشي ولم يركب. ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة عمل صيامها وقيامها" وله شواهد. ولهما من حديث أبي هريرة قال "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح" زاد في الموطأ "في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة. ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة. ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن. ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة. ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر". فدلت: على فضيلة التبكير إليها والدنو من الإمام وقرب أهل الجنة يوم المزيد بحسب قربهم من الإمام يوم الجمعة. وذكر الساعات للحث على التبكير والترغيب في فضيلة السبق وتحصيل فضيلة الصف الأول، وفي الصحيحين وغيرهما من غير وجه فضل التهجير والرواح إلى الجمعة والمراد به التبكير يدل عليه مجموع الروايات واعتناء السلف الصالح قال عبد الله

سارعوا إلى الجمعة فإن الله يبرز إلى أهل الجنة في كل يوم جمعة في كثيب كافور فيكونون منه في القرب على قدر تسارعهم. قال الشيخ وما ذكر عن أهل المدينة أنهم لا يبكرون فليس بحجة. فقد يكون الرجل يشتغل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار اهـ. فإذا أتى المسجد (فلا يفرق بين اثنين) إلا بإذنهما ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر رجلاً يتخطى رقاب الناس فقال له "اجلس فقد آذيت" رواه أحمد قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم كرهوا أن يتخطى الرجل رقاب الناس يوم الجمعة وشددوا في ذلك. واختار النووي والشيخ وغيرهما تحريمه لأنه من الظلم والتعدي لحدود الله. وظاهر عبارات أهل العلم حرمته ولو في غير الصلاة كما صرح به الشيخ وغيره. والتفريق متناول القعود بينهما وإخراج أحدهما والقعود مكانه. وقد يطلق على مجرد التخطي وفيه زيادة رفع رجليه على رؤوسهما إلا لحاجة كإمام ومن لم يجد طريقًا فلا يكره بلا نزاع لأنه عليه الصلاة والسلام تخلص حتى وقف في الصف. أما كونه يقيم غيره ويجلس مكانه فيحرم اتفاقًا لما في الصحيحين عن ابن عمر مرفوعًا "نهى أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه" ولمسلم "لا يقيمن أحدكم أخاه ثم يخالف

إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول تفسحوا" ولهما "من سبق إلى مكان فهو أحق به " وللترمذي وصححه "الرجل أحق بمجلسه وإن خرج لحاجة ثم عاد فهو أحق بمجلسه" فمن سبق إلى موضع مباح سواء كان مسجدًا أو غيره في جمعه أو غيرها لصلاة أو غيرها من الطاعات فهو أحق به ويحرم على غيره إقامته منه والقعود فيه. ومن قام منه لقضاء حاجة ثم رجع إليه فهو أحق به ما لم تطل مفارقته له بحيث يعد راغبًا عنه وإن قعد فيه غيره فله أن يقيمه. وعلى القاعد أن يفارقه. ولا يكره إيثار غيره بمكانه الفاضل. قال ابن القيم: قولهم لا يجوز الإيثار بالقرب لا يصح وقد طلب أبو بكر من المغيرة أن يبشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوفد ثقيف ففيه جواز طلب الإيثار بالقرب وجواز الإيثار. وقد آثرت عائشة عمر بدفنه في بيتها بجوار النبي - صلى الله عليه وسلم - وسألها عمر ولم تكره له السؤال. ولا لها البذل فإذا بذل مكانه أو سأل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول لم يكره له السؤال ولا لذلك البذل. ولأن تقدم وتقديم الفاضل مشروع. وأما تحجير المسجد بالفرش قبل الحاجة إليه فمنعه الشيخ وغيره وقال وما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش أو غيرها إلى المسجد يوم الجمعة قبل صلاتهم فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين بل محرم.

وهل تصح صلاته على ذلك المفروش. فيه قولان للعلماء لأنه غصب بقعة من المسجد بفرش ذلك المفروش فيها ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد. والمأمور به أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد. فإذا قدم المفروش ونحوه وتأخر هو فقد خالف الشريعة من وجهين من جهة تأخره وهو مأمور بالتقدم ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد. ومنعه السابقين له وأن يتموا الصف الأول فالأول. ثم إنه إذا حضر يتخطى رقاب الناس أهـ. (ثم يصلي) إذا دخل المسجد (ما كتب له) أي قدر له ولفظ أبي هريرة "ما قدر له" من غير توقيت كما تقدم. وفيه دليل على أنه لا راتبة لها قبلها وإنما يصلي الداخل إلى المسجد ما شاء ويشتغل بالذكر والقراءة والصلاة على النبي – - صلى الله عليه وسلم - إلى خروج الإمام للخطبة لما في ذلك من تحصيل الأجر (ثم ينصت إذا تكلم) أي خطب الإمام (إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى رواه البخاري). وله عن سلمان نحوه وفي "ثم ينصت للإمام إذا تكلم" ولمسلم عن أبي هريرة نحوه وفيه "ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ثم يصلي معه إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام" ولأحمد عن أبي أيوب نحوها أيضًا وفيه أنصت إذا خرج إمامه. ولابن ماجه من حديث أبي ذر "من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله وتطهر فأحسن

طهوره. ولبس من أحسن ثيابه ومس ما كتب الله له من طيب أهله ثم أتى الجمعة ولم يلغ ولم يفرق بين اثنين غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى" وللطبراني نحوه من حديث ابن عمر والبزار عن ابن عباس وأبو داود عن عبد الله بن عمرو في أحاديث من طرق كثيرة. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة انصت والإمام يخطب فقد لغوت" أي قلت اللغو. ولأحمد من حديث علي "من قال صه فقد لغى ومن لغى فلا جمعة له" وله شواهد كثيرة تدل على تحريم الكلام حال الخطبة وقال الطحاوي تواترت به الروايات وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ} قال بعض المفسرين إنها نزلت في الخطبة وسميت قرآنًا لاشتمالها عليه والأكثر على أنها القراءة في الصلاة ولا مانع من العموم والاستماع هو شغل القلب بالاستماع والإصغاء والإنصات هو السكوت. ولأحمد عن ابن عباس هو كالحمار يحمل أسفارًا. ويجوز للإمام ومن يكلمه لأنه - صلى الله عليه وسلم - كلم سليكًا وكلمه هو متفق عليه. ويجب لتحذير ضرير وغافل عن هلكة كما يجوز قطع الصلاة لذلك وله الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعها من الخطيب لتأكدها ويدعو ويؤمن على الدعاء ويحمد إذا عطس ويرده قال أحمد فعله غير واحد قال الشيخ اتفق المسلمون أن الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - والدعاء كله سرًا أفضل، بل الجهر ورفع

الصوت بالصلاة بدعة. ورفع الصوت بذلك أو بالترضي قدام الخطيب في الجمعة مكروه أو محرم بالاتفاق اهـ. ويكره العبث حال الخطبة باتفاق أهل العلم لقوله عليه الصلاة والسلام "من مس الحصى فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له" وصححه الترمذي ولأن العبث يمنع الخشوع ولا فرق بين العبث بيد أو رجل أو لحية أو ثوب أو غير ذلك. (وعن أوس) بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال الحافظ وهو غير أوس بن أبي أوس على الصحيح (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أكثروا علي من الصلاة) أي أكثروا من قول اللهم صلى على محمد ونحو ذلك مما ورد في الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - وخص (يوم الجمعة) لأنه أفضل الأيام ولفظه "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي" (رواه الخمسة) فرواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد صحيحة. وجاء نحوه من حديث أبي الدرداء وأبي أمامة وغيرهما. وكذا يسن أن يكثر من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلتها لحديث "أكثروا علي من الصلاة في ليلة الجمعة ويوم الجمعة فمن صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا " رواه البيهقي بإسناد جيد. وقال "أولى الناس بي أكثرهم علي صلاة" رواه الترمذي. والأحاديث المذكورة وغيرها تدل على مشروعية

الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة وليلتها وأنها تعرض عليه وأنه - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره حياة برزخية أعلى من حياة الشهداء وقال "ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء". (وعن أبي سعيد مرفوعًا من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور) ضد الظلام أي أشرق له (ما بين الجمعتين) أي بينها وبين التي تليها (رواه النسائي) ورواه البيهقي والحاكم بإسناد حسن ولابن مردويه عن ابن عمر مرفوعًا "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين" قال المنذري لا بأس به فدلت هذه الأحاديث على فضل قراءتها يوم الجمعة وهو مذهب جمهور أهل العلم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وغيرهم وذكر الشيخ أنها مطلقة يوم الجمعة. ونقل عن الشافعي أنها نهارًا أكد وأولاه بعد الصبح مسارعة للخير ورجحه الموفق وغيره والحكمة في تخصيصها أن فيها ذكر أحوال يوم القيامة ويوم الجمعة شبيه به لما فيه من اجتماع الناس ولأن الساعة تقوم يوم الجمعة. (وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن في الجمعة ساعة) أي يستجاب الدعاء فيها هي فيها كليلة القدر في رمضان (لا يوافقها عبد مسلم) وروي يصلي (يسأل الله

شيئًا) نكرة تعم وفي لفظ "خيرًا" (إلا أعطاه إياه) وأشار بيده يقللها (متفق عليه). واختلف في تعيينها وعن أبي موسى مرفوعًا "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة" رواه مسلم وعن عمرو بن عوف مرفوعًا "هي حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها" حسنه الترمذي وله عن جابر مرفوعًا "والتمسوها آخر ساعة بعد العصر" ولأحمد نحوه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وهو قول عبد الله بن سلام وقال أبو سلمة لم يختلف ناس من الصحابة تذاكروها أنها آخر ساعة. وقال أحمد أكثر الأحاديث في الساعة التي ترجى فيها إجابة الدعاء أنها بعد صلاة العصر ورجحه هو وإسحاق وابن القيم وأكثر أهل العلم وكان يعظمها جميع أهل الملل وعند أهل الكتاب هي ساعة الإجابة وينبغي أن يكون متطهرًا مكثرًا من الدعاء منتظرًا صلاة المغرب فإنه في صلاة للخبر. والقول بأنها ساعة الصلاة لأن ساعة الصلاة ساعة إجابة لأن اجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرعهم وابتهالهم إلى الله تعالى له تأثير في الإجابة فساعة اجتماعهم ساعة ترجى فيها الإجابة. وفي حديث أبي هريرة وهو قائم يصلي فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حض أمته على الدعاء والابتهال إلى الله في هاتين الساعتين. فقوله هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة لا ينافي قوله التمسوها آخر ساعة بعد العصر فكلاهما ساعة إجابة

وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر كما هو قول أكثر السلف وعليه أكثر الأحاديث وأبلغها الحافظ وغيره إلى أربعين قولاً وبقية الأقوال غير هذين القولين لا دليل عليها يعتد به بل قال أحمد إنها تنحصر في هذين الوقتين. (ولهما عن جابر مرفوعًا "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام) ولمسلم "والإمام يخطب" (فليصل ركعتين) ولهما عنه قال دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال "صليت قال لا قال قمت فصل ركعتين" وللخمسة عن أبي سعيد نحوه صححه الترمذي وللستة عن أبي قتادة نحوه أيضًا في أحاديث مستفيضة أو متواترة. وكلها صريحة في الدلالة على استحباب صلاة ركعتين لداخل المسجد والإمام يخطب وكراهة الجلوس قبل أن يصليهما. ولا خلاف يعتد به وهذه نصوص لا يتطرق إليها تأويل ولا تبلغ عالمًا فيخالفها. ولمسلم "وليتجوز فيهما" وهو مذهب جماهير العلماء. وإن غلب على ظنه أنه إن صلى تحية المسجد فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام لم يصل بل يقف حتى تقام الصلاة ولا يجلس فيدخل تحت النهي.

باب صلاة العيدين

باب صلاة العيدين أي: صفتها وأحكامها وما يتعلق بذلك وهي أحد الاجتماعات التي تكرر كاليومي للصلوات الخمس. والإسبوعي للجمعة. وهذا الحولي للعيدين. والعمري يوم عرفة والسر والله أعلم معرفة الأحوال الدينية وتذاكرهم فيها ومعرفة المفاسد فيتجنبوها والتعاون على البر والتقوى فإن الدين ما قام إلا بالجهاد ولغير ذلك من الأسرار العجيبة التي من جملتها إقامة هذه العبادة. فإنه لو ترك ونفسه لم تحصل هذه العبادة ولهذا ترى من يتهاون بالجماعة لا يصلي بحال. وصلاة العيدين مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين وفرض كفاية عند الجمهور. ومذهب أبي حنيفة فرض عين اختاره شيخ الإسلام للآية وأمره - صلى الله عليه وسلم - بها حتى النساء قال المجد وليست واجبة بدون استيطان وعدد إجماعًا. وفي الفروع يشترط لوجوبها شروط الجمعة اتفاقًا قال ابن نصر الله المراد شروط وجوبها لا صحتها ومرادهم ما يسقط به فرض الكفاية لأنها تصح من المنفرد. والعيد ما يعود ويتكرر ويعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان ثم صار علمًا على اليوم المخصوص لعوده في السنة مرتين. وقد كان المشركون اتخذوا أعيادًا زمانية ومكانية فأبطلها الشرع وعوض عنها عيد الفطر وعيد الأضحى والكعبة والمشاعر وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما

فقال: "قد أبدلكما الله بهما خيرًا منهما يوم النحر ويوم الفطر" قال السيوطي وهي من خصائص هذه الأمة. ومناسبة اتباع العيدين الجمعة ظاهرة وهي أنها يؤديان بجمع عظيم ويجهر فيهما بالقراءة ويشترط لكل منهما ما يشترط للآخر في الجملة وقدمت الجمعة للفرضية وكثرة وقوعها. (قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر} أي أخلص لربك صلاتك ونحرك شكرًا لما امتن به عليك من الكوثر. وقال عكرمة وعطاء وقتادة وغيرهم يعني صلاة العيد ونحر النسك، قال المجد وغيره هو المشهور عن المفسرين، وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي العيد ثم ينحر نسكه ويقول "من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك". (وعن أبي سعيد: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج في الفطر والأضحى إلى المصلى متفق عليه) وعبر بالمصلى ليعم من يتأتى منه الصلاة ومن لا يتأتى وأول صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة ولم يزل يواظب عليها حتى فارق الدنيا. وأجمع المسلمون عليها خلفًا عن سلف وإذا تركها أهل بلد قاتلهم الإمام كالأذان فإنهما من أعلام الدين الظاهرة وفي تركها تهاون بالدين. وفيه مشروعية الخروج لها والبروز في صحراء قريبة من البنيان قربًا معروفًا أوقع لهيبة الإسلام وأظهر لشعائر الدين. ولا مشقة في ذلك لعدم تكرره. قال النووي والعمل عليه في

معظم الأمصار. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعلها في المصلى المشهور الذي على باب المدينة الشرقي. ولأن المقصود في العيد إظهار الزينة. وتكره في الجامع بلا عذر من مطر أو غيره لقصة علي حيث استخلف أبا مسعود البدري ليصلي بضعفة الناس في المسجد. وقول أبي هريرة أصابنا مطر في يوم عيد "فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد" رواه أبو داود. ولا تكره في المسجد بمكة المشرفة لفضيلة البقعة وشرفها. ولمعاينة الكعبة المشرفة، وكذا بيت المقدس لشرفه ولسعتهما وما سواهما فلا ينبغي لمخالفة فعله - صلى الله عليه وسلم -. (ولهما عن أم عطية قالت أمرنا) مبني للمجهول للعلم بالآمر به وللبخاري "أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - (أن نخرج) أي إلى المصلى (العواتق) البنات الأبكار والبالغات والمقاربات للبلوغ، وكذا الصبيان لخبر ابن عباس إظهارًا لشعائر الإسلام (والحيض) هو أعم من الأول من وجه وفي لفظ "كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى تخرج البكر من خدرها. وحتى تخرج الحيض (في العيدين يشهدن الخير) هو الدخول في فضيلة الصلاة لغير الحيض (و) يشهدن جميعهن (دعوة المسلمين وتعتزل الحيض المصلى) وللبخاري "فيكن خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته" فيكن بحيث يسمعن. وفيه قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب "قال لتلبسها أختها من جلبابها".

والحديث استدل به بعض أهل العلم على وجوب إخراجهن ويشهد له ما رواه ابن ماجه وغيره عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج نساءه وبناته في العيدين" وهو ظاهر في استمراره وعام لمن كانت ذات هيئة وغيرها. وصريح في الشواب وفي العجائز بالأولى. قال الشيخ ولا بأس بحضور النساء غير متطيبات ولا لابسات ثياب زينة أو شهرة لقوله عليه الصلاة والسلام "وليخرجن تفلات ويعتزلن الرجال" ودلت هذه الأحاديث على تأكد سنية صلاة العيدين على الأعيان وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء من السلف والخلف. (وعن جندب) ابن كعب بن عبد الله الأزدي جندب الخير قتل بصفين قال (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد) بكسر القاف أي قدر (رمحين) في رأي العين (و) يصلي بنا (الأضحى) والشمس (على قيد رمح رواه ابن البناء) الحافظ الحسن بن أحمد بن عبد الله في سننه ولد سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وتوفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة له نحو من خمسمائة مصنف رحمه الله أورده في كتاب الأضاحي من طريق وكيع عن المعلى بن هلال عن الأسود بن قيس عن جندب وأورده الحافظ في التلخيص ولم يتكلم في المعلى ولعله لكثرة شواهده وكونه من طريق الإمام وكيع بن الجراح الشهير.

وتقدم النهي عن الصلاة بعد طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح. ولأبي داود بسند صحيح عن عبد الله بن بسر قال ذلك حين التسبيح أي حين يصلي صلاة الضحى فأول وقتها أول وقت صلاة الضحى. وتقدم أن أوله من ارتفاع الشمس قيد رمح بدليل الإجماع على فعلها ذلك الوقت. ولأنه قبل ارتفاعها وقت نهي وجاء من غير وجه أنه - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده لم يصلوهما إلا بعد ارتفاع الشمس واستمر عمل المسلمين عليه لا نزاع بينهم في ذلك. فهذا الحديث وإن لم يكن مشهورًا فقد تأيد بأصول أخر. وقال ابن بطال وغيره أجمع الفقهاء على أن العيد لا تصلى قبل طلوع الشمس ولا عند طلوعها وإنما تجوز عند جواز النافلة. ودل الحديث على سنية تقديم صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر. وقال الموفق وغيره لا نعلم في ذلك خلافًا والحكمة في ذلك استحباب الإمساك في صلاة الأضحى لمن يضحي حتى يفرغ من الصلاة فإنه ربما كان ترك التعجيل لصلاة الأضحى مما يتأذى به منتظر الصلاة لذلك وأيضًا فإنه يعود إلى الاشتغال بذبح الأضحية فينبغي التعجيل ليتسع وقت الأضحية بخلاف عيد الفطر فإنه لا إمساك ولا ذبح، وتخرج صدقة الفطر قبلها فاستحب التأخير ليتسع الوقت للإخراج. وروى الشافعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى عمرو بن حزم "أن عجل الأضحى وأخر الفطر وذكر الناس".

(وعن أبي عمير) بن أنس بن مالك الأنصاري يقال اسمه عبد الله وهو من صغار التابعين روى عن جماعة من الصحابة وعمر بعد أبيه (عن عمومة له) من الصحابة من الأنصار (أن ركبًا جاؤوا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أبو عمير غم علينا هلال شوال فأصبحنا صيامً فجاء ركب في آخر النهار (فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس) وفي رواية للطحاوي أنهم شهدوا بعد الزوال. (فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفطروا) وفي رواية "فأمر الناس أن يفطروا" من يومهم الذي جاء الركب فيه وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم" رواه الخمسة إلا الترمذي) وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن راهويه وابن حزم والخطابي والنووي والحافظ وغيرهم فدل على أن وقت صلاة العيد ينتهي إلى الزوال إذ لو كانت تؤدى بعد الزوال لما أخرها إلى الغد. ولأن العيد شرع له الاجتماع العام وله وظائف دينية ودنيوية وآخر النهار مظنة الضيق عن ذلك غالبًا وقال تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} ودل أيضًا على أنها تصلى في اليوم الثاني حيث انكشف العيد بعد خروج وقت الصلاة أداء والجمهور قضاء. وذهب مالك إلى أنها لا تقضى مطلقًا وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق بالاتباع قال الخطابي حديث أبي عمير صحيح فالمصير إليه واجب وكالفرائض وفيه أن

مصلى العيد كان معروفًا عندهم وأنه غير مصلى الجمعة كما تقدم. (وعن أنس) رضي الله عنه (قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو) أي يذهب غدوة فيخرج وقت الغداة (يوم الفطر) إلى المصلى (حتى يأكل تمرات رواه البخاري) وفي رواية "ويأكلهن وترًا" ولأحمد "ويأكلهن أفرادًا"، ولابن حبان والحاكم "حتى يأكل تمرات ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أقل من ذلك أو أكثر وترًا". فدل الحديث على أنه يسن أن يأكل قبل الخروج لصلاة الفطر باتفاق أهل العلم امتثالاً لأمره تعالى بالإفطار بعد امتثال أمره بالصيام ولئلا يظن لزوم الصوم حتى يصلي العيد فكأنه أراد سد هذه الذريعة عكس صلاة الأضحى فإن السنة أن لا يطعم من يضحي يوم النحر حتى يصلي وفاقًا لحديث بريدة "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم وصححه ابن حبان وغيره. والحكمة في تأخيره ليأكل من أضحيته التي شرعها الله له ويشكره عليها. وتسن الصدقة فيهما ليغني الفقراء عن السؤال. ويسن تبكير مأموم لصلاة العيد ليحصل له الدنو من الإمام وفضل انتظار الصلاة كالجمعة وسائر الصلوات. ويسن أن

يكون سعيه إليها ماشيًا لقول علي: "من السنة أن يخرج إلي العيد ماشيًا" رواه الترمذي وقال العمل عليه عند أكثر أهل العلم ولتكتب له خطاه. ويكبر جهرًا. ويسن تأخر إمام إلى وقت الصلاة لما في الصحيح من حديث أبي سعيد "كان يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة" وقال مالك مضت السنة عندنا في وقت الأضحى والفطر أن يخرج الإمام من منزله قدر ما يبلغ مصلاه وقد حلت الصلاة. (وعن جابر قال كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - حلة" واحدة الحلل وهي برود اليمن. قال ابن الأثير ولا تسمى حلة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد (يلبسها) أي تلك الحلة من برود اليمن في (العيدين) عيد الفطر وعيد الأضحى (و) يلبسها في (الجمعة) متجملاً بها في تلك المجامع العظام (رواه ابن خزيمة) الحافظ الكبير شيخ الإسلام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة. قال الذهبي انتهت إليه الإمامة والحفظ في عصره بخراسان. ولهما عن ابن عمر قال وجد عمر حلة من استبرق تباع فقال يا رسول الله ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفد. وللبخاري والجمعة. قال الحافظ وكلاهما صحيح. وللطبراني أن عطاردًا جاء بثوب من ديباج كساه إياه كسرى فقال عمر لو

اشتريتها لك يا رسول الله فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على مشروعية التجمل للعيد وكذا الجمعة لفعله - صلى الله عليه وسلم - وتقريره لعمر على أصل التجمل للعيد والجمعة. قال ابن بطال وكان معهودًا عندهم أن يلبس المرء أحسن ثيابه لهما وروى ابن عبد البر عن جابر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتم ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة. وعن ابن عمر أنه كان يلبس في العيدين أحسن ثيابه رواه البيهقي وغيره ولا نزاع في استحباب خروجه في العيدين على أحسن هيئة متنظفًا متطيبًا قاطعًا للرائحة الكريهة من بدنه وثوبه لابسًا أجمل ثيابه لأنه يوم الجمال ويوم الزينة. وكالجمعة وأولى، بل العيد أولى من وجوه عديدة. والإمام أولى بذلك لأنه منظور إليه من بين سائر الناس. واستثنى بعضهم المعتكف أنه يخرج في ثياب اعتكافه لما روي "ما على أحدكم أن يكون له ثوبان سوى ثوبي مهنته لجمعته وعيده. إلا المعتكف فإنه يخرج في ثياب اعتكافه" وهو عند أبي داود بسند ضعيف دون الاستثناء وعن أحمد وغيره. ثياب جيدة كغيره. وقال شيخ الإسلام يسن التزين للإمام الأعظم وإن خرج من المعتكف. ويسن الغسل لأنه يوم يجتمع الناس فيه فسن الغسل فيه اتفاقًا كيوم الجمعة، وفيه حديثان ضعيفان وآثار عن الصحابة

فصل في صفتها

جيدة فثبت عن ابن عمر أنه كان يغتسل للعيد قبل خروجه وعلي وسلمة وغيرهم. وحكى النووي الاتفاق على سنيته للرجال والنساء والصبيان لأنه يراد لقطع الرائحة الكريهة وللزينة كلهم من أهلها بخلاف الاستسقاء والكسوف لعدم نقله فتركه فيهما هو السنة. (وللبخاري عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج إلى العيد خالف الطريق) وللترمذي وغيره "إذا خرج من طريق رجع في غيره" ولمسلم نحوه من حديث أبي هريرة. ولأبي داود عن ابن عمر وهو مستفيض وبه قال أكثر أهل العلم ولعل الحكمة في ذلك شهادة الطرق أو سرورها بمروره أو نيل بركته أو ليظهر شعائر الإسلام في سائر الفجاج والطرق. أو الصدقة على فقرائها. قال ابن القيم والأصح أنه لذلك كله ولغيره من الحكم التي لا يخلو فعله عنها. فصل في صفتها أي كيفية صلاة العيدين ومشروعية الخطبة والتكبير وتقديم الصلاة على الخطبة وبيان مطلق التكبير من المقيد وغير ذلك (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة متفق عليه) ولهما عن جابر: "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر فصلى قبل الخطبة" ولهما عن ابن عباس: "شهدت العيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر

وعمر وعثمان فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة" وفي لفظ اشهد وعن أبي سعيد "فصلى ثم انصرف فقام فوعظ الناس". والأحاديث في تقديم الصلاة على الخطبة متواترة معلومة بالضرورة. قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. وقال القاضي هذا هو المتفق عليه بين علماء الأمصار وأئمة الفتوى لا خلاف بين أئمتهم فيه وهو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين من بعده وقال الموفق لا نعلم فيه خلافًا بين المسلمين إلا عند بني أمية ولا يعتد به اهـ. فلا يعتد بها إن قدمت وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم لأنه مسبوق بالإجماع الذي قبله ومخالف للسنة الصحيحة الصريحة. وقد أنكر عليهم فعله وعد بدعة. وأول من ابتدعه مروان والحكمة أن خطبة العيد ليست بشرط بخلاف خطبة الجمعة وصلاة العيد فرض وخطبتها سنة والفرض أهم. (ولهما عن ابن عباس: "صلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما) وأجمع المسلمون على أن صلاة العيدين ركعتان كغيرها أركانًا وشروطًا وواجبات وسننًا ونقله الخلف عن السلف وعلم بالضرورة من الدين واستفاض في الصحيحين وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة. وقال عمر "صلاة الفطر والأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد

خاب من افترى" ولا ينكره إلا مكابر. وللترمذي وصححه عن ابن عمر –رضي الله عنهما أنه خرج يوم عيد فلم يصل قبلها ولا بعدها. وذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله وللبخاري عن ابن عباس أنه كره الصلاة قبل العيد. ولأحمد وابن ماجه عن أبي سعيد أنه - صلى الله عليه وسلم - "كان لا يصلى قبل العيد شيئًا" وروي عن علي "من السنة أنه لا يصلي قبلها ولا بعدها" وعن ابن مسعود ليس من السنة الصلاة قبل خروج الإمام يوم العيد قال الموفق وهو إجماع ونوزع في ذلك. ولأحمد عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا " لا صلاة يوم العيد قبلها ولا بعدها" وهذا مع ما تقدم ظاهر الدلالة على النفي. وقال الزهري لم أسمع أحدًا من علمائنا يذكر أن أحدًا من سلف هذه الأمة كان يصلي تلك الصلاة ولا بعدها. (ولهما عنه) رضي الله عنه (لم يكن يؤذن) بالبناء للمجهول (يوم الفطر ولا ويوم الأضحى) يعني لصلاة العيد. ولمسلم عن جابر ابن سمرة قال "صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العيد غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة ولا نداء ولا شيء" وله عن عطاء قال أخبرني جابر أن لا أذان لصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعدما يخرج ولا نداء ولا شيء إلا نداء يومئذ ولا إقامة. قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم أنه لا يؤذن

لصلاة العيدين ولا لشيء من النوافل. قال العراقي والعمل عليه عند العلماء كافة. وقال الموفق لا نعلم في هذا خلافًًا ممن يعتد بخلافه إلا أنه روي عن ابن الزبير وقيل زياد. ولابن أبي شيبة أول من أحدثه معاوية. وللخمسة عن عمرو بن شعيب وعمرو بن عوف وغيرهما (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة) فسرها بقوله (سبعًا في الأولى) أي الركعة الأولى (وخمسًا في) الركعة الأخرى ورواه البزار والدارقطني وغيرهما و (صححه أحمد) وقال أنا أذهب إلى هذا. وفي رواية قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما". وللترمذي عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده عمرو بن عوف في الأولى سبعًا وفي الثانية خمسًا وقال هو أحسن شيء في هذا الباب. وقال البخاري ليس في الباب شيء أصح من هذا وبه أقول. وقال شيخ الإسلام في الحديثين صح هذا وهذا ولم يصح عنه غير ذلك، ولهما شواهد كثيرة وعن جابر عند البيهقي "مضت السنة أن يكبر للصلاة في العيدين سبعًا وخمسًا" وقال ابن عبد البر روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من طرق كثيرة حسان أنه كبر سبعًا الأولى وخمسًا الثانية. ولم يرو عنه من وجه قوي خلاف. وعن ابن عباس وأبي

هريرة نحو ذلك وعن عروة أن أبيًا وزيدًا أمراه أن يكبر سبعًا وخمسًا وقال مالك وهو الأمر عندنا وجاءت في الأحاديث المرفوعة وهو مذهب الشافعي وأحمد والفقهاء السبعة. وقال العراقي هو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة وهو سنة قال الموفق لا أعلم فيه نزاعًا ويرفع يديه مع كل تكبيرة لقول وائل بن حجر "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه مع التكبير" قال أحمد فأرى أن يدخل فيه هذا كله وهو مذهب جمهور العلماء أبي حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي وداود وابن المنذر وغيرهم وقياسًا على الصلاة قال الشافعي وغيرهم. وقال عقبة بن عامر سألت ابن مسعود عما يقول بعد تكبيرات العيد قال يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو ويكبر. قال شيخ الإسلام روى نحو هذا العلماء عن ابن مسعود وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وإن قال سبحان الله والحمد لله والله أكبر اللهم صل على محمد كما جاء عن بعض السلف كان حسنًا، وكذا إن قال الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلا وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا أو نحو ذلك، وليس في ذلك شيء مؤقت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه وقال ابن القيم كان يسكن بين كل تكبيرتين سكتة يسيرة ولم يحفظ عنه ذكر معين بين التكبيرات اهـ. ويضع يمينه

على شماله بين كل تكبيرتين. وإن أدرك الإمام راكعًًا أحرم ثم ركع ولا يشتغل بقضاء التكبير إجماعًا كما أنه لا يشتغل بقراءة الفاتحة في الفريضة فهنا أولى وإن أدركه قائمًا بعد فراغه من التكبير لم يقضه اتفاقًا. وكذا إن أدركه في أثناءه سقط ما فاته اتفاقًا لفوات محل ما فات منه لا إن فاتته الصلاة فقال الجمهور يقضيها أو فاته بعضها فيقضيها على صفتها قال الزركشي بلا نزاع. (وعن النعمان بن بشير) ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي ولد في الثانية من الهجرة واستعمل بالكوفة ثم بحمص وقتل سنة خمس وستين رضي الله عنه قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين) وفي الجمعة (بسبح اسم ربك الأعلى) يعني في الركعة الأولى (و) في الثانية (هل أتاك حديث الغاشية) قال وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين (رواه مسلم) والخمسة إلا ابن ماجه. وعن سمرة: كان يقرأ في العيدين بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك حديث الغاشية) رواه أحمد وابن أبي شيبة وغيرهما ولابن ماجه من حديث ابن عباس نحوه وروي عن عمر وأنس وغيرهما وفيه دليل على مشروعية قراءتهما في العيدين وكذا في الجمعة وهما أكبر المجامع التي تجمع الجمع الكثير من المسلمين.

قال شيخ الإسلام وقراءتهما في تلك المجامع لما فيهما من التذكير بأحوال الآخرة والوعد والوعيد والحث على الصدقة والصلاة وغير ذلك مما يناسب قراءتهما في تلك الصلاة الجامعة وربما اجتمع العيد والجمعة فقرأ بهما فيهما رواه أبو داود وغيره وهو المشهور من مذهب أحمد اهـ. وعنه الأولى بـ (ق) و (اقتربت) لما في صحيح مسلم والسنن وغيرهما أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بـ (ق) و (اقتربت) لما اشتملتا عليه من الأخبار بابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والقيامة والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب والإخبار عن القرون الماضية وإهلاك المكذبين وتشبيه بروز الناس بالعيد ببروزهم بالبعث وخروجهم من الأجداث كأنهم جراد منتشر وغير ذلك من الحكم. وعنه لا توقيت وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وقال شيخ الإسلام مهما قرأ به جاز كما تجوز القراءة في نحوها من الصلوات لكن إن قرأ بـ (ق) و (اقتربت) ونحو ذلك مما جاء في الأثر كان حسنًا وكانت قراءته - صلى الله عليه وسلم - في المجامع الكبار بالسور المشتملة على التوحيد والأمر والنهي والمبدأ والمعاد وقصص الأنبياء مع أممهم وما عامل الله به من كذبهم وكفر بهم وما حل بهم من الهلاك والشقاء ومن آمن بهم وصدقهم وما لهم من النجاة والعافية. ويقرأ فيهما جهرًا إجماعًا نقله الخلف عن السلف. واستمر عمل المسلمين عليه ويؤيده قولهم كان يقرأ في الأولى بكذا وفي

الثانية بكذا واستفاض من غير وجه. وقال ابن عمر كان يجهر بالقراءة في العيدين والاستسقاء رواه الدارقطني وغيره. (ولهما عن أبي سعيد أول شيء يبدأ به صلىلله عليه وسلم الصلاة) يعني إذا أتى مصلى العيد (ثم) إذا فرغ من الصلاة (ينصرف) عن جهة القبلة (فيقوم مقابل الناس) ولابن حبان "فينصرف إلى الناس قائمًا في مصلاه" (والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم) ففيه استحباب الوعظ والتوصية والأمر بنحو ما كان يأمر به صلىلله عليه وسلم في خطبة العيد. ولمسلم من حديث جابر "فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئًا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على الطاعة ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن" وفي لفظ فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن. فينبغي للخطيب أن يحثهم في خطبة الفطر على الصدقة ويبين لهم ما يخرجون وفي الأضحى يرغبهم في الأضحية ويبين لهم أحكامها. وقال غير واحد وينبغي تعليمهم أيضًا في خطبة الجمعة التي قبل العيد ليعلموا ما ينبغي لهم عمله قبل الصلاة. ولابن ماجه "خطب قائمًا ثم قعد قعدة ثم قام فخطب" وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: "السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوس رواه الشافعي، وفي الصحيحين وغيرهما من غير وجه إثبات أنه

خطب الناس بعد صلاة العيد. وقال الزركشي وغيره السنة أن يخطب خطبتين يجلس بينهما كخطبتي الجمعة قال النووي والمعتمد فيه القياس على الجمعة. قال شيخ الإسلام وغيره يفتتحهما بالحمد لأنه لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه افتتح خطبة بغيره وقال "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم" وقال ابن القيم وكان يفتتح خطبة كلها بالحمد لله ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيد بالتكبير وإنما روى ابن ماجه في سننه عن سعد أنه كان يكثر التكبير أضعاف الخطبة. فينبغي أن يكثر التكبير في خطبتي العيدين وصوبه شيخ الإسلام والخطبتان والتكبير فيهما سنة ولا يجب حضورهما ولا استماعهما قال غير واحد اتفق الموجبون لصلاة العيد وغيره على عدم وجوب خطبتي العيد ولا نعلم قائلاً بوجوبهما لما روى عطاء عن عبد الله بن السائب قال شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العيد فلما قضى الصلاة قال: "إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب"، رواه ابن ماجه وغيره. (وقال ابن عباس: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم} هو تكبيرات ليلة الفطر) وجاء عن عروة وأبي سلمة وابن المسيب وغيرهم أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر ويجهرون بالتكبير

ولشبه ليلة النحر بها. وأخذ كثير من أهل العلم مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية. قال الشيخ والتكبير فيها أوكد من أجل أن الله أمر به فقال تعالى {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ} عدة رمضان {وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم} عند إكمالها. وأوجبه داود لظاهرها وهو مستحب عند السلف والخلف والأئمة إلا أبا حنيفة (وقال) يعني ابن عباس {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}: أيام العشر) عشر ذي الحجة وهو قول أكثر المفسرين قيل لها معلومات للحرص على العلم بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها. (وقال) رضي الله عنه {وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}: أيام التشريق) رواه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم ووصله عبد بن حميد وغيره وهو إجماع وحكى القولين عنه جمهور المفسرين. ومن الذكر فيها التكبير وهو قول جماهير أهل العلم من المفسرين وغيرهم وثبت عن عمر وابنه وغيرهما التكبير فيها يتأولون هذه الآية. قال الشيخ وهو في النحر أوكد منه في الفطر واختاره ونصره بأدلة منها انه يشرع في أدبار الصلوات وأنه متفق عليه. وأنه يجتمع فيه المكان والزمان وأن عيد النحر أفضل من عيد الفطر وأنه لا يكبر فيه إدبار الصلوات وغير ذلك. وما جاء من أن الله أمر به في عيد الفطر لا يقتضي أوكديته على عيد النحر قال

البخاري وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون. ويكبر أهل الأسواق حتى يرتج منى تكبيراُ. ولأحمد عن ابن عمر مرفوعاً "ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيها من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد " فيسن التكبير المطلق في ليلتي العيدين في البيوت والأسواق والمساجد وغيرها. ويجهر به في الخروج إلى المصلى إلى فراغ الإمام من خطبته. قال شيخ الإٍسلام مشروع في عيد الأضحى بالاتفاق وكذلك هو مشروع في عيد الفطر عند مالك والشافعي وأحمد وذكره الطحاوي مذهبًا لأبي حنيفة وحكاه في البدر إجماعًا قال أحمد وكان ابن عمر يكبر في العيدين جميعًا ويتأكد في ليلتي العيدين وفي الخروج إليهما لاتفاق الآثار عليه. قال الشيخ ويشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد وهذا باتفاق الأئمة الأربعة. وقال النووي وغيره يسن إظهاره في حق من كان من أهل الصلاة ممن مميز وبالغ وحر وعبد مسافر أو مقيم من أهل القرى والأمصار إجماعًا. ويسن جهر به لغير أنثى لعموم (ولتكبروا الله) وقوله في الحيض (وليكبرن مع الناس).

(وعن جابر كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر في صلاة الفجر) أي بعد ما يسلم من صلاة الفجر (يوم عرفة) وفي رواية كان إذا صلى الصبح من غداة عرفة أقبل على أصحابه فيقول مكانكم ويقول "الله أكبر" إلخ يقول ذلك دبر كل صلاة مكتوبة من فجر يوم عرفة (إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق حين يسلم من المكتوبات) قال شيخ الإسلام أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة لما في السنن "يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام. وهي أيام أكل وشرب وذكر لله" ولما رواه الدارقطني عن جابر ولأنه إجماع من أكابر الصحابة. وقيل لأحمد بأي شيء تذهب في ذلك قال بإجماع عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود. وقال الزركشي وغيره يسن عقب كل فريضة في جماعة في الأضحى بالإجماع الثابت بنقل الخلف عن السلف. قال النووي وعليه العمل في الأمصار وعن أحمد يكبر ولو منفردًا للعموم وهو مذهب الجمهور. (وعنه: يقول الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد رواهما الدارقطني) وهما من حديث جابر بن زيد وهو ضعيف عند بعضهم وروى عنه شعبة والثوري ووثقاه وهما هما. وقال أحمد ولم يتكلم في جابر في حديثه إنما تكلم فيه لرأيه على أنه ليس في المسألة حديث مرفوع أقوى

إسنادًا منه ليترك من أجله قال ابن القيم وإن كان إسناده لا يصح فالعمل عليه اهـ. ورواه ابن أبي شيبة بسند جيد عن ابن مسعود أنه كان يقوله ثم عمم عن الصحابة. وروى الحاكم نحوه عن علي وعمار مرفوعًا وقال جمع وعليه عمل الناس في الأمصار واستمر عليه العمل في عامة الأمصار والأعصار قال الشيخ وهو المنقول عن أكثر الصحابة والحكم فيه حكم فضل وندب. وإن نسيه قضاه ما لم يطل الفصل وقيل لا يسن عقب صلاة عيد أو نافلة واختار الموفق وغيره يكبر عقب صلاة العيد لأنها صلاة مفروضة في جماعة وخص بالتكبير ويجزئ مرة واحدة وإن كرره ثلاثًا فحسن قال الشيخ وإن قال الله أكبر ثلاثًا جاز ولا بأس بتهنئة الناس بعضهم بعضًا كأن يقول لغيره بعد الفراغ من خطبة العيد تقبل الله منا ومنكم كالجواب قال الشيخ قد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره والتعريف بدعة لم يره أبو حنيفة ومالك وغيرهما بغير عرفة ولا نزاع فيه بين العلماء وأنه منكر وفاعله ضال.

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف أي صفتها وأحكامها وما يتبع ذلك ويقال كسفت بفتح الكاف وضمها ومثله خسفت وهما بمعنى ويقال انكسفا وانخسفا وخسفا وكسفا وكلاهما جاءت به الأخبار قال ثعلب وغيره أجود الكلام خسف القمر وكسفت الشمس والكسوف لغة التغير إلى سواد وكسوف الشمس والقمر ذهاب ضوء الشمس كله أو القمر كله أو بعض ضوء الشمس أو القمر. والكسوف آية من آيات الله يخوف به عباده ليفزعوا إلى التوبة والاستغفار. وقد يكون سبباً لأمر مخوف كما قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} وصلاة الكسوف سنة مؤكدة باتفاق المسلمين تواترت بها السنن الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرواها عنه بضعة وعشرون نفساً من الصحابة رضي الله عنهم. (قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ}) الدالة على عظيم قدرته وحكمه الدالة على وحدانيته وتفرده بالربوبية الدال على تفرده بالآلهية {اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} أي أنه خلق الليل بظلامه والنهار بضيائه فهمما متعاقبان لا يفتران {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي ومن آياته أنه خلق الشمس بنورها وإشراقها والقمر وضياءه وقدرهما في فلكيهما. ولما كان الشمس والقمر أحسن المخلوقات في العالم العلوي والسفلي قال {لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَر} فهما مخلوقان مسخران لا يستحقان أن يسجد لهما لأن السجود نهاية التعظيم {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} فهو سبحانه المستحق

للعبادة والتعظيم {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} تفردونه بالعبادة لا تشركون به شيئًا. وحيث كان شرك المشركين منه ما هو بالشمس والقمر وهو جعل حق رب العالمين لبعض الخلق استنبط بعض أهل العلم صلاة الكسوف من هذه الآية فذكرت هنا فإن كونها تكسف هو من أدلة أن يعبد وحده. وقال زكريا الأنصاري احتج بقوله تعالى {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} أي عند كسوفهما لأنه أرجح من احتمال أن المراد النهي عن عبادتهما لأنهم كانوا يعبدون غيرهما فلا معنى لتخصيصهما بالنهي والمراد على تقدير تمام هذا الاحتجاج بالسجود في الصلاة اهـ ولعل الاستنباط بأن الله هو أمر بالسجود بعد ذكر أنها من آياته فدل على أنه يسجد عند آياته والمراد استنبط من عمومها ذلك وإرادة النهي عن عبادتهما لا يقدح في أنهم كانوا يعبدون غيرهما لجواز تخصيصهما بحكمة تقتضيه. (وعن المغيرة مرفوعًا "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله) أي علامتان من العلامات الدالة على وحدانيته وقدرته وعلى تخويف عباده من سطوته (لا ينكسفان لموت أحد أو لحياته) فليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع على أنفسهما والسبب أن إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات سنة عشر قبل الفطام. وكان ولد من مارية القبطية سنة ثمان فقال الناس انكسفت الشمس لموت إبراهيم وكانوا يزعمون أنهما لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء فبين لهم

النبي - صلى الله عليه وسلم - بطلان زعمهم وفساد اعتقادهم. وفي رواية أنه قال هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته ولكن الله يخوف بها عباده (فإذا رأيتموها) وفي لفظ "فإذا رأيتم ذلك" أي كسوف الشمس أو القمر ذكره زيادة في الإفادة وبيانًا أن حكمهما واحد ثم أرشدهم إلى ما يشرع عند رؤية ذلك بقوله (فصلوا وادعوا) وفي رواية، فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة" وفي رواية "فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا" وهذا مما يرشح ما تقدم من استنباط السجود من الآية وفيه الاستعداد بالمراقبة لله والالتجاء إليه عند اختلاف الأحوال وحدوث ما يخاف بسببه (حتى ينكشف) وفي رواية "حتى ينجلي" ومن حديث عائشة حتى يكشف ما بكم" ونحوه من حديث جابر وغيره أي حتى يرتفع ما حل بكم من كسوف الشمس أو القمر (متفق عليه) والأمر بالصلاة عند الكسوف وفعله مستفيض من وجوه عن أبي سعيد وابن مسعود وجابر وعائشة وغيرهم بألفاظ متقاربة ولا نزاع في مشروعيتها. والجمهور على أنها سنة مؤكدة ونقل عن أبي حنيفة وجوبها وأمر - صلى الله عليه وسلم - بالمسارعة إليها ولما كسفت الشمس خرج مسرعًا فزعًا يجر رداءه فصلى بالناس وأخبر أن كسوفها سبب لنزول عذاب بالناس وأمر بما يزيل الخوف فأمر بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق وغير ذلك من الأعمال الصالحة حتى يكشف

ما بالناس وجعل انكشافه غاية قال الشيخ الكسوف يطول زمانه تارة ويقصر أخرى بحسب ما يكسف منها فقد تكسف كلها وقد يكسف نصفها أو ثلثها فإذا عظم الكسوف طول الصلاة حتى يقرأ بالبقرة ونحوها في أول ركعة وبعد الركوع الثاني يقرأ بدون ذلك وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإن تجلى الكسوف وهو في الصلاة أتمها خفيفة لأن المقصود التجلي وقد حصل. ولا يقطعها لقوله {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} قال الشيخ ويشرع تخفيفها لزوال السبب وكذا إذا علم أنه لا يطول وإن خف قبل الصلاة شرع وأوجز وعليه جماهير أهل العلم لأنها شرعت لعلة وقد زالت وإن فرغ منها قبل التجلي قال الشيخ وغيره يذكر الله ويدعو إلىلتجلي. ولا تعاد باتفاق أهل العلم لأنه سبب واحد فلا يتعدد مسببه وقبل الدخول تفوت به فلا تقضى إذا فات محلها اتفاقًا لأن المقصود منها زوال العارض فوقتها يتقيد بحصول السبب من ابتدئه إلى التجلي اتفاقًا في أي وقت كان عند جمهور أهل العلم. ويقدم كسوف على جمعة ومكتوبة أمن فواتها وإلا فلا إذ السنة لا تعارض فرضًا وإن غابت الشمس كاسفة لم يصل. أو طلعت والقمر خاسف لم يصل لأنه قد ذهب وقت الانتفاع بهما وزال التخويف ويعمل بالأصل في بقائه فلا يصلي إذا شك في وجوده مع غيب ونحوه لأن الأصل عدمه. ويصلي إذا علم الكسوف ثم حصل غيم فشك في التجلي

لأن الأصل بقاؤه ودعوى بعضهم غيبوبة القمر خاسفًا ليلاً أو الكسوف يوم عرفة ونحو ذلك لم يقع لأنه لا ينخسف إلا في ليالي الإبدار إذا تقابل جرم الشمس والقمر فحالت بينهما الأرض ولا تنكسف الشمس إلا ليالي الإستسرار إذا حال القمر بيننا وبينها. قال شيخ الإسلام وقد أجرى الله العادة أن القمر لا ينخسف إلا وقت الإبدار وهي الليالي البيض وأن الشمس لا تكسف إلا وقت الاستسرار. ومن قال إنها تنخسف في غير وقت الاستسرار فقد غلط ويستحيل كسوفها يوم عرفة ولم تجر به عادة كما لم تجر بالاستهلال ونحوه في غير وقته. وللشمس والقمر ليال معتادة من عرفها عرف الكسوف والخسوف كما أن من علم ما مضى من الشهر يعلم أن الشهر يطلع في الليلة الفلانية أو التي قبلها والعلم بالعادة فيه يعرفه من يعرف حساب جريانهما وليس من باب علم الغيب وإذا تواطأ خبرهم بوقت الصلاة لا يكادون يخطئون ومع ذلك لا يترتب على خبرهم حكم شرعي فإنها لا تصلى إلا إذا شاهدنا ذلك. (ولهما عن عائشة: خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث مناديًا ينادي الصلاة جامعة) الأول مفعول لفعل محذوف أي احضروا والثاني على الحال ويجوز رفعهما. وعن ابن عمر نحوه وهو دليل على مشروعية الإعلام بهذا اللفظ للاجتماع لها. ولم يرد إلا في هذه الصلاة واتفقوا على

أنه لا يؤذن لها ولا يقام ولا يشترط لها إذن الإمام (فصلى أربع ركعات) أي ركوعات (في ركعتين) كما سيأتي موضحًا (وأربع سجدات) ولفظ ابن عمر: "لما كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نودي أن الصلاة جامعة فركع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين في سجدة ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلي عن الشمس". وثبت في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها وغيرها من غير وجه عن جابر وابن عباس وعمرو بن العاص وأبي موسى وغيرهم صلاته - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بأربع ركوعات وأربع سجدات وقال أحمد والشافعي والبخاري وابن عبد البر والشيخ وغيرهم هذا أصح ما في الباب وهو مذهب جمهور العلماء. وهي الصفة التي وردت بها الأحاديث الصحيحة قال الشيخ قد ورد في صلاة الكسوف أنواع ولكن الذي استفاض عند أهل العلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه البخاري ومسلم من غير وجه وهو الذي استحبه أكثر أهل العلم كمالك والشافعي وأحمد أنه صلى بهم ركعتين في كل ركعة ركوعان وقال البخاري وغيره من أهل العلم بالحديث لا مساغ لحمل هذه الأحاديث يعني في كل ركعة ثلاث ركوعات أو أربع أو خمس على بيان الجواز إلا إذا تعددت الواقعة وهي لم تتعدد لأن مرجعها كلها إلى صلاته - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس يوم مات ابنه إبراهيم

وحينئذ يجب ترجيح أخبار الركوعين فقط لأنها أصح وأشهر. وما رواه مسلم من حديث جابر ست ركوعات قال الشافعي منقطع ومن حديث ابن عباس ثمان وهو من رواية حبيب عن طاوس. قال ابن حبان ليس بصحيح وحبيب معروف بالتدليس وقال شيخ الإسلام ما زاد عن ركوعين في ركعة غلط وإنما صلى - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة. (وفيه) أي في حديث عائشة (جهر فيها بالقراءة) وللترمذي وصححه عنها أيضًا أنه صلى صلاة الكسوف فجهر بالقراءة فيها. قال شيخ الإسلام ثبت في الصحيح الجهر بالقراءة فيها لكن روي فيها المخافتة والجهر أصح والكسوف الذي صلى بالمسلمين فيه إنما وقع أول النهار بلا نزاع. والمثبت مقدم على النافي ودل الحديث وغيره على تأكد سنية صلاتها جماعة وهو أفضل اتفاقًا وقيل بوجوبها في الجامع أفضل اتفاقًا. وفي الصحيحين عن عائشة "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد فقام وكبر وصف الناس وراءه" ولأحمد "فافزعوا إلى الصلاة" وروي عن أبي حنيفة يصلي لخسوف القمر فرادى والأحاديث ثبتت بالتسوية ولا تشترط لها الجماعة فلو لم يجدوا إمامًا يصلي بهم صلوها فرادى وهو مذهب الجمهور. ولا يسن الغسل لها لمبادرته - صلى الله عليه وسلم - إلى فعلها من حيث العلم بالكسوف واستمر العمل عليه. وقال ابن القيم وغيره الصحيح أنه لا

يسن لها الغسل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يغتسلوا لها. (ولهما عن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال انخسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى فقام قيامًا طويلاً نحوًا من قراءة سورة البقرة) ومهما قرأ به من السور جاز لعدم تعيين القراءة (ثم ركع ركوعًا طويلاً) من غير تقدير قال الموفق وغيره نحو مائة آية وهو مذهب الشافعي وأحمد وقال آخرون بقدر معظم القراءات والأولى أن يكون نسبيًا كالفريضة. (ثم رفع فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول) وفي حديث عائشة "ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى بل كمعظمهما. قال الموفق آل عمران أو قدرها وهو في رواية أبي داود ومذهب الجمهور مالك والشافعي ورواية عن أحمد لا تصح إلا بقراءة الفاتحة في القيام الثاني (ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول) نسبته إلى القراءة كنسبة ركوع الأولى من قراءة الأولى. وقال الموفق نحوًا من سبعين آية وقال النووي وغيره اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيهما أكثر من القيام الأول وركوعه فيها (ثم رفع رأسه) أي من الركوع الثاني وفي حديث عائشة ثم كبر فركع ركوعًا هو أدنى من الركوع الأول ثم قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. ولا يطيل اعتداله حكاه القاضي وغيره إجماع العلماء لعدم

ذكره في الروايات الصحيحة ولا يقرأ بل يقول ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا إلخ (ثم يسجد) أي سجدتين طويلتين بالنسبة إلى القيام وثبت إطالتهما في الصحيحين وغيرهما من فعله - صلى الله عليه وسلم - وقالت عائشة "ما ركعت ركوعًا قط ولا سجدت سجودًا قط كان أطول منه" وهو ثابت من رواية جماعة. ولا يزيد على سجدتين إجماعًا لأنه لم يرد في شيء من الأخبار ولا يطيل الجلوس بين السجدتين إجماعًا لعدم وروده. (وذكر الركعة الثانية كالأولى لكن دونها في كل ما يفعل) يعني في الأولى ولفظه ثم "قام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول" يعني "ثم رفع" فلم يطل "ثم سجد" يعني "سجدتين طويلتين دون السجود الأول" ولفظ حديث عائشة، "ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات" وهذا مجمع عليه. وقال القاضي وغيره القراءة في كل قيام أقصر مما قبله وكذا التسبيح. وقال ابن بطال لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعها تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعها وحكاه النووي وغيره اتفاق أهل العلم. ولمسلم من حديث جابر وسجوده نحو من ركوعه (قال ثم انصرف) يعني بعد كمال ركعتين بأربع ركوعات وأربع سجدات والتشهد والتسليم.

(وقد انجلت الشمس) ولفظ عائشة "وانجلت الشمس قبل أن ينصرف ثم قام (فخطب الناس) فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال إن الشمس والقمر آيتان" إلخ وفي رواية للبخاري "وشهد أنه عبده ورسوله" وفيه أنه ذكر أحوال الجنة والنار وغير ذلك. ولمسلم من حديث فاطمة عن أسماء قالت "فخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد ما من شيء لم أكن رأيته إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار" إلخ. فدلت هذه الروايات على استحباب الخطبة بعد صلاة الكسوف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك الشافعي وأكثر أئمة الحديث وجمهور السلف فيحثهم على التوبة والصدقة والعتق ويحذرهم من الغفلة والاغترار ويأمرهم بالإكثار من الدعاء والاستغفار كما ثبت ذلك من غير وجه عنه - صلى الله عليه وسلم - إعذارًا وإنذارًا. قال شيخ الإسلام يصلي لكل آية كما دل على ذلك السنن والآثار وقالها المحققون من أصحاب أحمد وغيرهم. ولولا أن ذلك يكون لشر وعذاب لم يصح التخويف لذلك وهذه صلاة رهبة وخوف كما أن صلاة الاستسقاء صلاة رغبة ورجاء وقد أمر الله عباده أن يدعوه خوفًا وطمعًا. وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئًا فافزعوا إلى الصلاة" وقال ابن أبي موسى يصلي لكل آية وهو ظاهر كلام أحمد وينبغي أن يعظهم عند نزول البلاء ويأمرهم بالتوبة والصدقة

باب صلاة الاستسقاء

وإن صلى أحدهم في بيته ركعتين توبة إلى الله تعالى فحسن لأن صلاة التوبة مشروعة ومذهب مالك والشافعي وأحمد لا يصلي لغير الزلزلة إن دامت لعدم نقله عنه - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه فكما أن فعله صل الله عليه وسلم هو وأصحابه من بعده سنة فكذلك ما تركه مع وجوده في زمنه فتركه هو السنة. وقد وجد في زمنه انشقاق القمر وهبوب الرياح الصواعق وغير ذلك كما هو مستفيض وأما الزلزلة فلفعل ابن عباس رواه سعيد والبيهقي وابن جرير وروى الشافعي عن علي نحوه وقال هو ثابت عن ابن عباس وقال ابن القيم التحقيق إنما يكون بما هو سبب للشر المخوف كالزلزلة. والريح العاصف وإلا فما وجوده متكرر لا يحصل به تخويف. باب صلاة الاستسقاء أي صفتها وأحكامها والاستسقاء استفعال من السقي بضم السين وهو الدعاء بطلب السقي على صفة مخصوصة. وأجمع المسلمون على مشروعيته عند المحل وكان في الأمم الماضية النفوس مجبولة على الطلب ممن يغيثها ونزول الغيث لا تلتفت القلوب في سؤاله إلا من خالقها الذي بيده خزائن السموات والأرض. ويأتي قول الأعرابي الجاهلي للنبي - صلى الله عليه وسلم - استسق لنا ربك. والاستسقاء على ثلاثة أضرب أحدها صلاتهم جماعة أو

فرادى على ما يأتي تفصيله وهو أكملها. وصلاته - صلى الله عليه وسلم - مستفيضة في الصحاح وغيرها. واتفق فقهاء الأمصار عليه والثاني استسقاء الإمام يوم الجمعة في خطبتها كما فعل النبي – - صلى الله عليه وسلم - واستفاض عنه من غير وجه وهذا الضرب مستحب اتفاقًا واستمر عمل المسلمين عليه والثالث دعاؤهم عقب صلواتهم وفي خلواتهم ولا نزاع في جواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة. (قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى} بن عمران كليم الرحمن ولد قبل عيسى بألف وخمسمائة وإحدى وسبعين سنة وعاش مائة وعشرين {لِقَوْمِهِ} بني إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام وذلك حين عطشوا في التيه فسألوا موسى أن يستسقي لهم ففعل فأمره الله أن يضرب الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا حتى شربوا ورووا. ولأحمد وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة: خرج سليمان عليه السلام يستسقي فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تقول اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك. فقال "ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم" فدل على أن الاستسقاء شرع لمن قبلنا والخروج له كذلك. وشرعهم شرع لنا ما لم يأت شرعنا بخلافه. (وعن عائشة قالت وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس يومًا

يخرجون فيه رواه أبو داود) بسند جيد والمراد يتهيئوا للخروج على الصفة المسنونة وينبغي أن يعظ الناس بما يلين قلوبهم ويسوقها إلى التوبة وإصلاح السيرة والسريرة ويأمرهم بالتوبة من المعاصي. ويدخل فيها المحرمات لحق الله وحق الآدميين وهي واجبة مطلقًا إلا أنها مع حصول الشدة وطلب تفريجها من الله تتأكد وتطلب المسارعة فيها. ويأمرهم برد المظالم ونحوها إلى أهلها وبترك التشاحن وبالصدقة المفضية إلى رحمتهم بنزول الغيث ويخرج أهل الدين والصلاح والشيوخ لأنه أسرع للإجابة ويخرج الصبيان والمميزون لأنهم لا ذنوب لهم فترجى إجابتهم. قال في الفصول نحن لخروج الصبيان أشد استحبابًا وإن خرجت الأطفال والعجائز جاز واستحب خروجهن أبو حنيفة لا ذوات الهيئات اتفاقًا خوف الفتنة والتفات القلوب عن الخضوع لله والتضرع بين يديه. ويجوز التوسل بدعاء الصالحين كما كان الصحابة يتوسلون بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وتوسل عمر بالعباس وقال اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا وقام العباس فدعا الله. وتوسل معاوية بيزيد وذلك لأن دعوة الصالحين مستجابة. وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين بمكان لم يمنعوا إلا بيوم لئلا يتفق نزول غيث فيفتتن بهم ضعفاء العوام

(وعن ابن عباس قال خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي من المدينة إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء. قال ابن عباس في رمضان سنة ست من الهجرة فيسن أن يجتمعوا خارج البلد في صحراء قريبة عرفا ليبرزوا لربهم ويتضرعوا بين يديه ولم يكن يصليها - صلى الله عليه وسلم - إلا في الصحراء (متواضعًا) لأن التواضع من أسباب الإجابة والتواضع: التذلل والخشوع ضد الكبر (متبذلاً) أي لابسًا ثياب البذلة. والمراد ترك الزينة وحسن الهيئة تواضعًا وإظهارًا للحاجة. (متخشعًا) أي خاضعًا بقلبه وعينه ومشيه وجلوسه وغير ذلك. والخشوع سكون القلب على المقصود ومن غير التفات إلى غيره وسكون الجوارح في غير المفعول وقريب منه الخضوع إلا أن الخشوع أكثر استعمالاً في الصوت والبدن والخضوع في الأعناق (متضرعًا) أي مستكينًا بلسانه مبتهلاً إليه مع حضور القلب وامتلائه بالهيبة والخوف من الله متصاغرًا ومتعرضًا في جلب الحاجة ولا يتطيب اتفاقًا لأنه يوم استكانة وخضوع (فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه رواه الخمسة وصححه الترمذي) وأبو عوانه وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي وغيرهم. ولمسلم من حديث عبد الله بن زيد "خرج يستسقي بالناس فصلى ركعتين ثم استسقى وعن أبي هريرة قال خرج

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يومًا يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله عز وجل" رواه ابن ماجه وأحمد. وله من حديث عبد الله بن زيد "بدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم استقبل القبلة فدعا" وله عن أنس نحوه ولأبي داود عن عائشة بدأ بالصلاة قبل الخطبة. وقد دلت هذه الأحاديث وغيرها على تأكد سنية صلاة الاستسقاء وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف ولم يخالف إلا أبو حنيفة مستدلاً بأحاديث ليس فيها ذكر الصلاة وإنما هي نوع آخر كما تقدم وخالفه جمهور أصحابه. وقال زكريا وغيره ورده أئمتنا بورودها في الأخبار الصحيحة ولا ريب أنها ثبتت في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها من غير وجه ولا معارض لها ولا مخصص. وأجمع المثبتون للصلاة أنها ركعتان كصلاة العيد صرح به الحافظ وغيره، وقال ظاهره أنه صلاها في وقت صلاة العيد لحديث عائشة وجابر "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس" رواه أبو داود وغيره. ولأنها في معناها إلا أنه لا وقت لصلاتها لكنها لا تفعل وقت النهي بلا خلاف. ونقل الموفق الإجماع عليه ولا تقيد بزوال الشمس فيجوز فعلها بعده كسائر النوافل. فيصليها ركعتين كصلاة العيد بلا أذان ولا إقامة إجماعًا.

قال ابن القيم ولا نداء ألبتة. قال الشيخ والقياس على الكسوف فاسد الاعتبار اهـ. يكبر في الأولى سبعًا وفي الثانية خمسًا يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سبح وبالغاشية في الثانية ويرفع يديه مع كل تكبيرة كما تقدم في صلاة العيد لشبهها بها وهو مذهب جمهور أهل العلم. وروى الشافعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون الاستسقاء يكبرون فيها سبعًا وخمسًا. وعن ابن عباس نحوه رواه الدارقطني وفيه أنه قرأ بسبح والغاشية. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد جهر فيهما بالقراءة وذكر الإجماع على استحبابه النووي وابن بطال وقال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم ولم يصرح في حديث عبد الله بن زيد بالخطبة. وجاء في سنن أبي داود وغيره من حديث ابن عباس وعائشة تقديم الخطبة، وقال القرطبي وغيره: يعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة بمشابهتها للعيد. وما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة. قال الحافظ ويمكن الجمع بين الروايات في ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالدعاء ثم صلى ركعتين ثم خطب فاقتصر بعض الرواة على شيء وعبر بعضهم بالدعاء عن الخطبة فلذلك وقع الاختلاف والمرجح عند الشافعية والمالكية والحنبلية الشروع بالصلاة. قال النووي وبه قال الجماهير وكان مالك يقول بعد الخطبة ثم رجع إلى قول الجماهير وذلك أن الأفضل تقديم الصلاة كصلاة العيد وخطبتها.

وقال البغوي السنة في الاستسقاء أن يخرج إلى المصلى فيبدأ بالصلاة فيصلي ركعتين مثل صلاة العيد ثم يخطب روي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعلي وهو قول الشافعي وأحمد وهو المرجح عند المالكية. وقال ابن عبد البر وغيره هو مذهب العلماء كافة وليس بإجماع فقد ذهب قوم إلى جواز البداءة بالخطبة. وجاء في الأحاديث ما يقتضي جواز التقديم. إلا أن تقديم الصلاة على الخطبة أكثر أحواله - صلى الله عليه وسلم - وعمل أكثر المسلمين عليه. وقوله في حديث ابن عباس لم يخطب خطبكم هذه أي كما يفعل في الجمعة ولكن خطبة واحدة ولم ينف مطلق الخطبة كما تدل عليه الرواية الثانية أنه - صلى الله عليه وسلم - رقي المنبر ومذهب مالك وغيره يخطب خطبتين واختاره بعض الأصحاب. وقال الزيلعي وغيره لم يرو أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب خطبتين. (وعن أبي هريرة ثم خطبنا - صلى الله عليه وسلم - ودعا الله عز وجل) ولأحمد من حديث عبد الله بن زيد قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "حين استسقى لنا أطال الدعاء وأكثر المسألة. وعن عائشة أمر بمنبر فوضع له في المصلى ثم قال "الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. لا إله إلا الله يفعل ما يريد. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت. أنت الغني ونحن الفقراء. أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته قوة وبلاغًا إلى حين" رواه أبو داود.

وذلك أنهم شكوا إليه قحوط المطر فقال "إنكم شكوتم جدب دياركم فقد أمركم أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم" يشير إلى قوله تعالى {ادعوني أستجب لكم} وقوله: {استغفروا ربكم إنه كان غفارًا يرسل السماء عليكم مدرارًا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا} وغير ذلك من الآيات التي فيها الأمر به فيكثر فيها الاستغفار؛ لأنه سبب لنزول الغيث، وخرج عمر يستقي فلم يزد على الاستغفار؛ فقالوا ما رأيناك استسقيت قال لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء الذي يستنزل به المطر ثم قرأ هذه الآية. وعن علي نحوه. والثناء على الله عز وجل والاستغفار والدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر أسباب استجابة الدعاء لقوله عليه الصلاة والسلام "إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ليدع بما شاء) وقال "ثم ليسأل حاجته" قال أبو هريرة رضي الله عنه (وحول) - صلى الله عليه وسلم - (وجهه نحو القبلة رافعًا يديه) وفي الصحيح من حديث عبد الله بن زيد "فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو" ولأبي داود عن عائشة ثم "رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدأ بياض إبطيه". وفي الصحيحين من حديث أنس "كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه" أي مبالغًا في الرفع "إلا في الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه" وقد صار أكفهما نحو

السماء من شدة الرفع وهو إنما كان متوجهًا ببطونهما مع القصد ويدعو قائمًا ويرفعون أيديهم ويؤمنون جلوسًا. ويكثر من الدعاء ويلح فيه فإن الله يحب الملحين في الدعاء. ومنه ما يأتي قال (ثم قلب رداءه) وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد "وحول رداءه" وروي ليتحول القحط. ولمسلم "حول رداءه حين استقبل القبلة" زاد البخاري "جعل اليمين على الشمال" ولأبي داود من حديث عائشة "وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه". وفسره أبو هريرة رضي الله عنه بقوله (فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن رواه أحمد) ورواه ابن ماجه وغيرهما وقال في الخلافيات رواته ثقات وله شواهد كثيرة. ولأحمد من حديث عبد الله بن زيد "ثم تحول إلى القبلة وحول رداءه فقلبه ظهرًا لبطن وحول الناس معه" ولأبي داود "فحول رداءه وجعل عاطفه الأيمن على عاتقه الأيسر وجعل عاطفه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا الله عز وجل". وفي هذه الأحاديث استحباب تحويل الرداء حال استقبال القبلة بعد الفراغ من الخطبة وإرادة الدعاء وهو مذهب الجمهور حكاه الحافظ وغيره. ويدعو الإمام والمأموم سرًا مستقبلي القبلة باتفاق أهل العلم لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبلغ في الخشوع وأسرع في الإجابة. ومنه اللهم إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك وقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا إنك لا

تخلف الميعاد. لأن فيه استنجازًا لما وعد من فضله. وقال بعض أهل العلم وإذا فرغ من الدعاء استقبلهم ثم حثهم على الصدقة والخير ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ثم يقول أستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله وسألوه المزيد من فضله. (وعن أنس أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب فقال يا رسول الله هلكت الأموال) يعم المواشي وغيرها. وللبخاري هلكت الماشية وهلكت العيال وهلك الناس وانقطعت السبل عبارة عن عدم السفر لضعف الإبل بسبب عدم المراعي والأقوات أو لأنه لما نفد ما عند الناس من الطعام لم يجدوا ما يحملونه إلى الأسواق (فادع الله يغثنا) بضم الياء وفتحها. (فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه) وللبخاري ورفع الناس أيديهم وفي لفظ "فرفع يديه يدعو ورفع الناس أيديهم يدعون" زاد مسلم "حذاء وجهه" ولابن خزيمة "حتى رأيت بياض إبطيه" وللبخاري في الأدب فنظر إلى السماء (ثم قال اللهم أغثنا) زاد البخاري "واسقنا" (اللهم أغثنا) قال انس ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت

السماء انتشرت ثم أمطرت قال فلا والله ما رأينا الشمس سبتًا". ولابن ماجه وأبي عوانة ورجاله ثقات عن ابن عباس قال جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله "لقد جئتك من قوم ما يتزود لهم راع ولا يخطر لهم فحل "فصعد المنبر فحمد الله ثم قال اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا مريعًا طبقًا غدقًا عاجلاً غير رائث" وبعضه في أحاديث مستفيضة. وعن ابن عمر بلفظ "اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا غدقا مجللا سحا عاما طبقا دائما نافعا غير ضار اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين" رواه الشافعي وغيره. ولأبي عوانة عن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا في الاستسقاء "اللهم جللنا سحابا كثيفا قصيفا دلوقا ضحوكا تمطرنا منه رذاذا قطقطًا سجلاً يا ذا الجلال والإكرام" ولأبي داود كان إذا استسقى قال "اللهم اسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق" رواه الشافعي مرسلاً وبعضه في الصحيح "اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك اللهم أنبت لنا الزرع وأرد لنا الضرع واسقنا من بركات السماء وأنزل علينا من بركاتك اللهم ارفع عنا الجوع والجهد والعرى واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك" وتقدم حديث أبي هريرة. ويدعو بما أحب مما ورد وغيره مما يليق بالحال وهذه الأدعية

ونحوها تقال في سائر الأنواع وعدها ابن القيم ستة الأول الصلاة والخطبة، والثاني يوم الجمعة على المنبر وتقدما، والثالث استسقاؤه على منبر المدينة مجردا في غير الجمعة، والرابع وهو جالس في المسجد، والخامس عند أحجار الزيت، والسادس في بعض غزواته لما سبق إلى الماء وأغيث فيها. وهذه الأربعة يشملها الضرب الثالث المتقدم في الترجمة. قال أنس (ثم دخل رجل) من ذلك الباب (في الجمعة المقبلة) ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب فاستقبله قائمًا (فقال يا رسول الله) هلكت الأموال وانقطعت السبل فـ (ادع الله يمسكها عنا) قال (فرفع) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يديه ثم قال اللهم حوالينا) أي اجعله في الأودية والمراعي التي تحيط بنا ولا يضرها وحوالي جمع حوال ولمسلم حولنا (ولا علينا) أي لا على الأبنية والطرق وهو بيان للمراد الذي قبله. (اللهم على الظراب) أي الروابي الصغار (والآكام) على وزن آصال قال مالك الجبال الصغار (وبطون الأودية) الأمكنة المنخفضة لينتفع به (ومنابت الشجر) أي أصولها قال فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس (متفق عليه) وفيه علم من أعلام النبوة وللشافعي من حديث المطلب أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند المطر "اللهم سقيا اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق اللهم على الظراب ومنابت الشجر اللهم حوالينا ولا علينا".

فدل على مشروعية هذا الدعاء ونحوه عند زيادة الأمطار وخوف الضرر منها. وفيه تعليمنا الأدب حيث لم يدع برفعه مطلقًا لأنه قد يحتاج باستمراره بالنسبة لبعض الأدوية والمزارع فطلب منع ضرره وكشفه عن البيوت والمرافق والطرق بحيث لا يتضرر سالك وابن سبيل وسأل بقاء نفعه لمن ينتفع به وينبغي لمن وصلت إليه نعمة أن لا يتسخط لعارض قارنها بل يسأل الله رفعه وبقاءها وإن الدعاء برفع المضر لا ينافي التوكل. وينبغي أن يقول "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" إلى آخر الآية (ولهما عن عائشة كان يقول) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا رأى المطر اللهم صيبًا نافعًا والصيب من صاب المطر إذا وقع. وقيد بالكثير ونافعا صفة مقيدة احترازا عن الصيب الضار. (و) لهما (من حديث زيد بن خالد) الجهني (مطرنا بفضل الله ورحمته) وذلك أنه صلى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال "هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ومن قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب). وذلك أن العرب كانت تزعم أن مع سقوط نجم وطلوع نظيره يكون مطر فينسبونه إليها. وإضافة المطر إلى النوء دون الله كفر إجماعا، ومحرم نسبته إلى النجم وإن قصد نسبة الفعل

إلى الله. ويباح مطرنا في نوء كذا كما لو قال مطرنا في شهر كذا ودل الحديثان على استحباب هذا الدعاء عند نزول المطر. ويستحب أن يقف في أول المطر وخرج رحله وثيابه ليصيبها لفعله - صلى الله عليه وسلم - وقوله "إنه حديث عهد بربه" ويتوضأ أو يغتسل منه لما روي أنه قال "اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا فنتطهر به". وإذا رأى سحابا أو هبت ريح سأل الله من خيره وتعوذ من شره. وإذا سمع صوت الرعد قال سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته. وإذا سمع الصواعق قال. "اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك". وقال الماوردي كان السلف يقولون عند الرعد والبرق لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبوح قدوس. وإذا انقض كوكب قال. ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. آخر المجلد الأول من شرح أصول الأحكام ويليه المجلد الثاني: أوله كتاب الجنائز.

جمع الفقير إلى الله تعالى عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي النجدي رحمه الله تعالى (1312 - 1392 هـ) المُجَلّد الثَّاني

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الجنائز

كتابُ الجَنَائِز أي صفة عيادة المريض وتلقينه وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه وغير ذلك وأحكام ذلك. والجنائز بفتح الجيم جمع جنازة بكسرها اسم للميت أو للنعش عليه ميت وإلا فسرير. وأتبع الصلاة لأن الصلاة على الميت من أهم ما يفعل بالميت كما يأتي وإلا فحقه أن يذكر بين الوصايا والفرائض وأفرد وأخر لمغايرتها لمطلق الصلاة نظرا لتلك المغايرة فإنها ليست صلاة من كل وجه ولتعلقها بآخر ما يعرض للحي وهو الموت. وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - في الجنائز أكمل الهدي مخالفا لهدي سائر الأمم. مشتملا على إقامة العبودية لله تعالى على أكمل الأحوال وعلى الإحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده من عيادة وتلقين وتطهير وتجهيز إلى الله تعالى إلى أحسن أحواله وأفضلها. فيقفون صفوفا على جنازته يحمدون الله ويثنون عليه ويصلون على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويسألون للميت المغفرة والرحمة والتجاوز. ثم على قبره يسألون له التثبيت. ثم الزيارة إلى قبره

والدعاء له كمايتعاهد الحي صاحبه في الدنيا ثم بالإحسان إلى أهله وأقاربه وغير ذلك. قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ} وهو مفارقة الروح الجسد وليس بإفناء وإعدام {وَالْحَيَاةَ} أوجد الخلائق من العدم وقدم الموت لأنه إلى القهر أقرب. أو لأنه أقدم ولما مجد تعالى نفسه وأخبر أنه بيده الملك وأنه المتصرف في جميع خلقه وعلى كل شيء قدير وأنه الذي خلق الموت والحياة أوضح لنا الحكمة في ذلك فقال {لِيَبْلُوَكُمْ} يختبركم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي خيرا وأزكى وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعته. قال الفضيل: أيكم أحسن عملا أخلصه وأصوبه أو قال: العمل لا يكون خالصا حتى يكون لله. ولا يكون صوابا إلا إذا كان على السنة. ولا يقبل يكون خالصًا صوابًا ولا بن أبي حاتم من حديث قتادة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت وجعل الآخرة دارة جزاء ثم دار بقاء وهو العزيز في انتقامه ممن عصاه الغفور لمن تاب إليه". وقال: {لَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي كونوا على الإسلام فإذا ورد عليكم الموت صادفكم على ذلك وأول الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} بأداء ما يلزمكم على

قدر طاقتكم كقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فمن اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته. فإذا جاء الأجل إذا أنتم مسلمون مؤمنون مخلصون مفوضون أموركم إلى الله محسنون الظن به. وعن عبد الله بن عمرو مرفوعا "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه" رواه أحمد وغيره. ويأتي قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح "لايموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله" وقال تعالى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وفي هذه الآيات وغيرها الحض على التأهب للموت قبل نزوله. وفي الحديث "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني". (وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت) أي قاطع اللذات ومفرق الجماعات بعد رغد عيشهم. وميتم البنين والبنات بعد عزهم بوالديهم (رواه الخمسة) بأسانيد صحيحة وصححه ابن حبان والحاكم وابن السكن وابن طاهر وغيرهم وله شواهد. وهو دليل على أنه لا ينبغى للإنسان أن يغفل عن ذكر أعظم المواعظ وهو الموت فكفى به واعظا.

وفيه (فإنكم لا تذكرونه في كثير إلا قلله) ففي كثرة ذكره قصر الأمل وانتظار الأجل "ولا ذكر في قليل إلا كثره) لاستقلال ذاكره ما بقي من عمره لأن قليل الدنيا إذا علم انقطاعه بالموت استكثره ما عنده. وللديلمي "أكثروا ذكر الموت فما من عبد أكثر ذكره إلا أحيا الله قلبه وهون عليه الموت" ولابن حبان وغيره "أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكره عبد قط في ضيق إلا وسعه ولا في سعة إلا ضيقها". فإنه لا بد للإنسان في هذه الدار من ضيق وسعة. ونعمة ونقمة. فيحتاج إلى ذكر الموت لينخفض عنه بعض ما هو فيه من صعوبة الشدة وغفلة النعمة. وروي من حديث أنس "أكثروا ذكر الموت فإن ذلك تمحيص للذنوب وتزهيد في الدنيا" ولابن أبي الدنيا "فإنه يمحق الذنوب ويزهد في الدنيا فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم" وللترمذي وغيره عن ابن مسعود "وليذكر الموت والبلى" ولابن ماجه وغيره بسند جيد سئل أي الناس أكيس وأحزم؟ قال: أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة". ودلت هذه الأحاديث ونحوها على تأكد سنية الإكثار من ذكر الموت لأنه أدعى إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي وإلى الاستعداد له بالمبادرة إلى التوبة من المعاصي والخروج من المظالم لئلا يفجأه الموت بغتة.

(وعن أنس مرفوعا "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به) من بلاء ومحنة أو خشية من عدو أو مرض أو فاقة أو نحوها من مشاق الدنيا لما في ذلك من الجزع وعدم الصبر على القضاء وعدم الرضا. والخبر خرج مخرج العالب لأن المرء لايتمنى الموت إلا من ضر. فيكره تمنيه ولو لغير ضر أصابه. ولهما "لا يتمنين أحدكم الموت إما محسنا فلعله أن يزداد وإما مسيئا فلعله أن يستعتب" ولمسلم "لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع به قبل أن يأتيه. إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا". ولأحمد وغيره: "إن من السعادة أن يطول عمر العبد حتى يرزقه الله الإنابة". وعن بعض السلف: إن كان من أهل الجنة فالبقاء خير له. وإن كان من أهل النار فما يعجله إليها. ولما في التمنى المطلق من الاعتراض ومراغمة القدر. والمرض ونحوه كفارة له. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "لا يصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة" وقال "ما من شئ يصيب المؤمن إلا يكفر الله به عنه سيئاته ". وهو موعظة في المستقبل إلا لضرر في دينه من خوف وقوع في فتنة ونحوها فلا يكره فإن الخبر يرشد إلى أنه لا بأس به بل يستحب. وفي الحديث "وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" صححه الترمذي وغيره ولقوله تعالى {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وقوله {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} ويستحب تمني

الشهادة لا سيما عند حضور أسبابها لما في الصحيح وغيره "من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء". (فإن كان لا بد) أي لا محالة (متمنيا) وفي لفظ "فاعلا" (فليقل) بدلا عن لفظ التمنى (اللهم أحينى إذا كانت الحياة خيرا لي) أي من الموت. وهو أن تكون الطاعة غالبة على المعصية (وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) أي من الحياة بأن يكون الأمر عكس ما تقدم (متفق عليه) والأولى أن لا يفعل. وعن عمار مرفوعًا "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينى إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي" رواه أحمد وغيره. وهذا الحديث ونحوه يدل على وجوب الصبر وحكاه الشيخ وغيره إجماعا: فإن الثواب في المصائب معلق على الصبر عليها. وأما الرضى: فمنزلة فوق الصبر. فإنه يوجب رضى الله عز وجل. والصبر حبس النفس عن الجزع وحبس اللسان عن التشكي. والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوها والشكوى إلى الله لا تنافي الصبر. بل مطلوبة شرعا مندوب إليها اتفاقا. ومن شكا إلى الناس وهو في شكواه راض بقضاء الله لم يكن ذلك جزعا لقوله (مسني الضر) وقوله عليه السلام "أجدني مغموما" و"أنا وارأساه"، "كما يوعك رجلان منكم" ونحو

ذلك مما يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان من المصائب وإذا كانت مما يمكن كتمانه فكتمانها من أعمال الله الخفية. وذكر الشيخ أن عمل القلب من التوكل وغيره واجب باتفاق الأئمة. وفي الصحيحين "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" فيحسن العبد ظنه بربه عند إحساسه بلقاء الله بأن يغفر له ويرحمه لئلا يكره الله لقاءه ويتدبر ما ورد في الآيات والأحاديث من كرم الله وعفوه ورحمته وما وعد به أهل توحيده وطاعته. وفي الصحيح "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله" وفيهما "أنا عند ظن عبدي بي" ولأحمد "فليظن بي خيرا". ويسن لمن عند المريض ونحوه تحسين ظنه وتطميعه في رحمة ربه ويذكر له الآيات والأحاديث في الرجاء وينشطه لذلك وقيل بوجوبه إذا رأى منه إمارات اليأس والقنوط لئلا يموت على ذلك فيهلك فهو من النصيحة الواجبة. ويغلب الرجاء لقوله {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} قال إبراهيم: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته ليحسن ظنه بربه بخلاف الصحة يغلب الخوف ليحمله على العمل. ونص أحمد: يكون خوفه ورجاؤه واحدا فأيهما غلب على صاحبه هلك قال الشيخ هذا العدل لأن من غلب عليه حال

الخوف أوقعه في نوع من اليأس. ومن غلب عليه الرجاء أوقعه في نوع من الأمن من مكر الله والرجاء بحسب رحمة الله يجب ترجيحه. وأما الخوف فيكون بالنظر إلى تفريط العبد. وينبغي للمريض أن يشتغل بنفسه وما يعود عليه ثوابه. (ولهما عن ابن مسعود قال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) فدل الحديث على تحريم التداوي بمحرم مأكولا كان أو غيره. وهو مذهب جماهير العلماء ولأبي داود عن أبي الدرداء مرفوعا "إن الله أنزل الداء والدواء. وجعل لكل داء دواء. فتداووا ولا تداووا بحرام" ولأحمد وغيره "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدواء الخبيث" وفي صحيح مسلم في الخمر "إنه ليس بدواء ولكنه داء". ويحرم التداوي بسم ونحوه لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ويدخل فيما تقدم ترياق فيه لحوم حيات أو ضفدع. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الضفدع لذلك. وقال شيخ الإسلام وغيره في التلطخ بالخمر ونحوه ثم يغسله بعد ذلك. الصحيح أنه يجوز للحاجة كما يجوز استنجاء الرجل بيده وإزالة النجاسة بيده. وكلبس الحرير للتداوي به لا ما أبيح للضرورة كالمطاعم الخبيثة فلا يجوز التداوي بها وذكر الدليل والتعليل في غير موضع. ويحرم بصوت ملهاة وغيره كسماع الغناء، ويجوز ببول

مأكول اللحم لقصة العرنيين وتحرم التميمة وهي: عوذ أو خرز أو خيوط ونحوها يتعلقها، لقوله عليه الصلاة والسلام "من تعلق تميمة فلا أتم الله له) وفي رواية "من تعلق تميمة فقد أشرك" ولا بأس بكتب قرآن وذكر في إناء ثم يسقى منه مريض وحامل لعسر ولادة. ويباح التداوي بمباح إجماعا. ولا يجب عند جمهور العلماء. ولو ظن نفعه واختار القاضي وغيره فعله وفاقا لأكثر الشافعية. وعند الحنفية أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب. ومذهب مالك أن التداوي وتركه سواء. والمشهور في مذهب أحمد وغيره أن تركه أفضل لأنه أقرب إلىلتوكل لحديث السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يسترقون. ولا يكتوون. ولا يتطيرون. وعلى ربهم يتوكلون. وصفهم بتمام التوكل فلا يسألون غيرهم. أن يرقيهم لرضاهم عنه. وثقتهم به. وصدق الالتجاء إليه. وإنزال حوائجهم به تعالى. واعتماد قلوبهم عليه. مع أن مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه غير قادح في التوكل فلا يكون تركه مشروعا لحديث "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" كما أنه لا يقدح فيه دفع ألم الجوع والعطش. (وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "حق المسلم على المسلم خمس) والمراد الحق الذي لا ينبغي تركه ويكون فعله

إما واجبا وإما مندوبا مؤكدا شبيها بالواجب الذي لا ينبغي تركه وفي لفظ "خمس" تجب للمسلم على أخيه (وذكر) من الخمس (عيادة المريض متفق عليه) وهي سنة إجماعا حكاه النووي وغيره. وقال شيخ الإسلام الذي يقتضيه النص وجوب عيادة المريض. كرد السلام وأوجبها البخاري وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهما. والسنة تدل على أنها واجبة أو سنة مؤكدة شبيهة بالواجب. ففي الصحيح "عودوا المريض" ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب. قال الحافظ يعني على الأعيان وعامة في كل مرض ولعل المراد مرة ويسن أكثر لقصة سعد فيقال هو واجب على الكفاية. أو في حق بعض دون بعض. ولابن ماجه بالمعروف أي يأتي به على الوجه المعتاد عرفًا. ويعاد من كل مرض. وكان عليه الصلاة والسلام "يعود من الرمد وغيره" قال ابن القيم في عيادته - صلى الله عليه وسلم - زيد بن أرقم من وجع كان بعينه فيه رد على من زعم أنه لا يعاد من الرمد وعللوه بأنه يرى في بيته ما لا يراه وهذا باطل من وجوه اهـ، ويغيب بها عند الأكثر والأوجه أنها تختلف باختلاف حال الناس والعمل بالقرائن وظاهر الحال ونحو قريب ومن يشق عليه عدم رؤيته كل يوم يسن لهم المواصلة ما لم يفهموا كراهيته. ومن أول المرض لخبر "إذا مرض فعده" قال ابن القيم

وغيره لم يخص - صلى الله عليه وسلم - يوما من الأيام ولا وقتا من الأوقات بعيادة بل في سائر الأوقات. ولا يطيل الجلوس في الجملة. ويعمل بالقرائن، وظاهر الحال، وورد في فضلها آثار كثيرة منها ما رواه مسلم وغيره "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في مخرفة الجنة" أي في اجتناء ثمارها حتى يرجع وورد عن أكثر من عشرة من الصحابة مرفوعا "من عاد مريضا خاض في الرحمة حتى يجلس فإذا جلس غمرته الرحمة فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح" وهو عند الخمسة وغيرهم. ونص أحمد وغيره لا يعاد المبتدع والداعية فقط. وفي النوادر تحرم عيادة المبتدع ومن جهر بالمعصية. ومن فعل بحيث يعلم جيرانه ولو في داره فمعلن. والمستتر من لا يعلم به غالبا إما لبعد أو نحوه غير من حضره واعتبر الشيخ المصلحة في ذلك. وقال في عيادة النصراني: لا بأس بها فإنه قد يكون في ذلك مصلحة لتأليفه على الإسلام وعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - يهوديا فأسلم. وعاد عمه وهو مشرك. ويسن السؤال عن حاله ويقول: كيف تجدك؟ ويسأل عما يشتهيه ويخبره المريض بما يجده بلا شكوى. ويأخذ الزائر بيده ويقول: لا باس طهور إن شاء الله. وينفس له في أجله لما رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما "إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في أجله. فإن ذلك لا يرد شيئا". وإنما هو تطييب لنفسه.

وإدخال السرور عليه. وتخفيف لما يجده من الكرب وقيل لهارون وهو عليل: هون عليك وطيب نفسك فإن الصحة لا تمنع من الفناء والعلة لا تمنع من البقاء فقال والله لقد طيبت نفسي. وروحت قلبي. ويسن أن يدعو له لما ورد كما في صحيح مسلم أنه دعا لسعد "اللهم اشف سعدا" ثلاثًا وكان أحيانا "يضع يده على جبهة المريض ثم يمسح صدره وبطنه ويقول: "اللهم اشفه ويمسح بيده اليمنى على المريض ويقول أذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما" متفق عليه ولأحمد أنه قال "ما من مسلم يعود مريضا لم يحضره أجله فيقول سبع مرات: أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عوفي". وعاد جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال "باسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك" رواه مسلم وكان يرقي عليه السلام من به قرحة أو جروح أو شكوى فيضع سبابته بالأرض ثم يرفعها فيقول "بسم الله بتربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا" متفق عليه ولهما أنه كان ينفث على نفسه. وقال لعثمان بن أبي العاص "ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثا. وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر".

ويسن أن يذكره التوبة لأنه أحوج إليها من غيره لنزول مقدمات الموت به. ويذكره الخروج من المظالم لأنه شرط لصحة التوبة. ويذكره الوصية ويرغبه فيها. ولو كان مرضه غير مخوف لأن ذلك مطلوب حتى من الصحيح. وذهب بعضهم إلى وجوبها. والجمهور على استحبابها في المتبرع به. وأما بأداء الديون ورد الأمانات ونحو ذلك مما يتوقف على الإيصاء به فواجب عليه. وينبغي له أن يحرص على تحسين خلقه. وأن يجتنب المخاصمة والمنازعة في أمور الدنيا. وأن يستحضر في ذهنه أن هذا آخر أوقاته في دار العمل فيختمها بخير. ويستحل أهله وجيرانه ومن بينه وبينه معاملة. ويوصي أهله بالصبر عليه والدعاء له. (ولمسلم) والخمسة وغيرهم عنه مرفوعا "لقنوا موتاكم" أي ذكروهم عند الاحتضار (لا إله إلا الله) ولابن عدي "أكثروا من لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها. ولقنوها موتاكم" أي لتكون آخر كلامهم وروي من حديث عطاء عن أبيه عن جده "من لقن عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة" ولأحمد وغيره عن معاذ مرفوعا "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" ولمسلم "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة" وله "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" ولابن أبي حاتم من حديث

حذيفة "فإنها تهدم ما قبلها من الخطايا". وسماهم موتى باعتبار ما يؤولون إليه. والمراد من قرب منه الموت. ولا يقال له قل بل يتشهد عنده ليقولها فيموت عليها فتنفعه بحصول ما وعده الله عليها. ولأن تلك حالة يتعرض فيها الشيطان لإفساد اعتقاد الإنسان فيحتاج إلى مذكر له. ومنبه على التوحيد. والتلقين سنة مؤكدة مأثورة عمل بها المسلمون وأجمعوا عليها وعلى القيام بحقوق الميت واستفاض من غير وجه. في الصحيحين وغيرهما أن قول لا إله إلا الله من موجبات دخول الجنة من غير تقييد بحال الموت فبالأولى إذا كان في وقت لا تعقبه معصية. وإن لم يجب أعاد تلقينه برفق إجماعا ليكون آخر كلامه الشهادة. وفي قصة أبي طالب فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه. ويسر التلقين برفق لأنه مشغول بما هو فيه فربما حصل له التأذي به إذا كان بعنف. ويسن تعاهد أرفق أهله وأتقاهم وأعرفهم بمدارات المريض ببل حلقه بماء. أو شراب. فيجرع الماء والشراب إن ظهرت أمارة تدل على احتياجه له. كأن يهش إذا فعل به ذلك لأن العطش يغلب عند شدة النزع. وقبض الروح. ويندي شفتيه بقطنة لأن ذلك يطفئ ما نزل به من الشدة. ويسهل عليه النطق بالشهادة. وأجمع أهل العلم على

وجوب الحضور عنده لتذكيره وتأنيسه. وتغميضه والقيام بحقوقه كما هو ظاهر الحديث. ويستحب لأهل المريض ومن يخدمه الرفق به واحتمال الصبر على ما يشق من أمره. وكذا من قرب موته بسبب حد أو قصاص أو نحوهما لقوله عليه الصلاة والسلام لولى التي زنت "أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها" (ولأبي داود عن معقل) بن يسار بن عبد الله المزني حفر نهر معقل بالبصرة بأمر عمر فسمي به ومات في آخر خلافة معاوية رضى الله عنهما (مرفوعا) يعنى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (اقرءوا على موتاكم يس) بسكون النون على الحكاية ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان وصححه وأعله الدارقطني وابن القطان. وقال أحمد حدثنا صفوان قال كانت المشيخة يقولون إذا قرئت يس عند الموت خفف عنه بها. وفي الفردوس عن أبي الدرداء وأبي ذر مرفوعا "ما من ميت يموت فتقرأ عنده يس إلا هون الله عليه". وذكر ابن القيم رواية: "عند موتاكم" أي من حضره الموت منكم لأن الميت لا يقرأ عليه. وقال ابن حبان المراد من حضرته المنية لا أن الميت يقرأ عليه. وقال شيخ الإسلام القراءة على الميت بعد موته بدعة. بخلاف القراءة على المحتضر فإنها تستحب بيس وقيل الحكمة في قراءتها: اشتمالها على أحوال القيامة وأهوالها، وتغير الدنيا وزوالها ونعيم الجنة وعذاب جنهم

فيتذكر بقراءتها تلك الأحوال الموجبة للثبات. (وأوصى البراء) بن معرور الأنصاري الخزرجي السلمي أول من بايع واستقبل القبلة حيا وعند وفاته ما تقبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهر فأوصى عند وفاته (أن يوجه إلى القبلة إذا احتضر فقال - صلى الله عليه وسلم - أصاب السنة) وفي رواية أصاب الفطرة ثم صلى عليه وقال "اللهم اغفر له وأدخله الجنة" (صححه الحاكم) محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن حمدويه الضبي النيسابوري الشافعي الحافظ سمع من نحو ألفي شيخ مات سنة خمس وأربعمائة ورواه البيهقي وغيره. وقال الحاكم لا أعلم في توجيه المحتضر غيره. وأمر حذيفة أصحابه عند موته أن يوجهوه إلى القبلة وروي عن فاطمة وغيرها ويأتي ما رواه أبو داود وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال عن البيت الحرام "قبلتكم أحياء وأمواتا" ولا نزاع في توجيه المحتضر إلى القبلة بل العمل عليه خلفا عن سلف. وعلى جنبه الأيمن أفضل إن كان المكان واسعا وهو مذهب الجمهور. وفي الصحيحين وغيرهما: "إذا أخذت مضجعك فتوضأ ثم اضطجع على شقك الأيمن" وفيه "فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة" وغيره مما فيه إشارة إلى أن يكون المحتضر على تلك الهيئة وإن ضاق المكان فعلى ظهره مستلقيا ورجلاه إلى القبلة كوضعه على مغتسله. وعند أكثر

أصحاب الأئمة وغيرهم. وهو رواية عن أحمد أنه يوجه مستلقيا على قفاه. سواء كان المكان واسعا أو ضيقا لأنه أيسر لخروج الروح. وندي شفتيه وتغميضه وشد لحييه وأمنع من تقويس أعضائه. وقال جماعة ويرفع رأسه قليلا ليصير وجهه إلى القبلة. (وعن أم سلمة قالت دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة" بن عبد الأسد الأسدي هاجر إلى الله ورسوله وتوفي سنة أربع فدخل عليه (وقد شق بصره) بفتح الشين يقال شق الميت بصره إذا حضره الموت وصار ينظر إلى شئ لا يرتد عنه طرفه (فأغمضه) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رواه مسلم) والحديث دليل على استحباب تغميض بصره إذا مات وهذا بإجماع المسلمين وذكر أبو داود أن أبا ميسرة غمض جعفرا المعلم في حالة الموت فرآه في منامه يقول. أعظم ما كان علي تغميضك لي قبل الموت. وفيه أن الأرواح أجسام هوائية لطيفة وليست بعرض. ولأحمد عن شداد مرفوعا "إذا حضرتم الميت فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح" ولأنه إذا لم تغمض العينان بقيت مفتوحة فيقبح منظره ويساء به الظن. وفي حديث أم سلمة: قال صلى الله عليه وسلم "اللهم اغفر لأبي سلمة. وارفع درجته في المهديين. واخلفه في عقبه في الغابرين. واغفر لنا وله يا رب العالمين. وأفسح له في قبره ونور له فيه" فينبغى أن يقال نحو ذلك وفيه:

"لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون" وفي حديث شداد "وقولوا خيرا فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت" ويقول حال تغميضه "بسم الله وعلى وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لما رواه البيهقي وغيره عن بكر بن عبد الله المزني ولفظه "وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ويسن إذا مات شد لحييه بعصابة ونحوها تجمع لحييه ويربطها فوق رأسه لئلا يبقى فمه مفتوحا. ويتشوه خلقه وتدخله الهوام. وقال عمر لما حضرته الوفاة لابنه عبد الله: إذا رأيت روحي بلغت لهاتي. فضع كفك اليمنى على جبهتى واليسرى تحت ذقنى وينبغى تليين مفاصله عقب موته ليسهل تغسيله فإن شق تركه. (ولهما عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفي سجي) أي غطي جميع بدنه صلوات الله وسلامه عليه (ببرد حبرة) وزن عنبة ويجوز إضافة البرد إلى الحبرة ووصفه بها والحبرة ما كان لها أعلام. والتسجية مستحبة إجماعا بعد نزع الثياب التي توفي فيها لئلا يتغير بدنه بسببها. والحكمة صيانته من الانكشاف وستر عورته المتغيرة عن الأعين. قال الجوهري: سجيت الميت إذا مددت عليه ثوبا. وكانت وفاته - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين بعد أن زاغت الشمس لثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة عشر. ودفن صلوات الله

وسلامه عليه ليلة الأربعاء وله ثلاث وستون سنة. منه أربعون قبل النبوة وسيرته - صلى الله عليه وسلم - وشرفه ملء النفوس والمكاتب. وتولى غسله ودفنه علي والعباس وأسامة. وقيل: والفضل وشقران. ويسن وضع حديدة أو نحوها على بطنه فوق ثوبه المسجى به. قال أنس: ضعوا على بطنه شيئا من حديد لئلا ينتفخ بطنه ويقبح منظره. وقدر بعضهم ما يوضع عليه بقدر عشرين درهما. ويوضع على سرير غسله ليرتفع عن الهوام ونداوة الأرض منحدرا نحو رجليه لينصب عنه ما يخرج منه. (وعن الحصين) بن وحوح الأنصاري قال البخاري: له صحبة قال ابن السكن: قتل بالعذيب (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لاينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني) زيد فيه الألف والنون تأكيدا وفي لفظ "أظهر" وفي لفظ "ظهري" (أهله) وذلك أن طلحة بن البراء الأنصاري مرض فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده فقال "إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا" الحديث (رواه أبو داود) ولأحمد وغيره عن علي نحوه. ويشهد له أحاديث الحث على الإسراع بالجنازة وأجمع العلماء على سنية الإسراع في تجهيزه إن مات غير فجأة وسماه جيفة لما يؤول إليه حاله. والجيفة جثة الميت إذا أنتن فالإسراع

في تجهيزه أحفظ له وأصون من التغير وإن كان صالحا فخير يقدم إليه كما سيأتي. وقال أحمد: كرامة الميت تعجيله ولا بأس أن ينتظر به من يحضره من ولي أوغيره إن كان قريبا ولم يخش عليه أو يشق على الحاضرين. ولا بأس بتقبيله والنظر إليه بعد تكفينه. قالت عائشة: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل عثمان بن مظعون. وقبل جابر أباه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولتقبيل أبي بكر له - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر فكان إجماعا. ويباح إعلام الناس بموت قريبهم للمبادرة لتهيئته وشهود جنازته والصلاة عليه وغير ذلك بخلاف نعي الجاهلية من النداء بموت الشخص وذكر مآثره ومفاخره. قال ابن العربي وغيره: يؤخذ من مجموع الأحاديث في النعي ثلاث حالات إعلام الأقارب والأصحاب وأهل الصلاح فسنة. ودعوة الحفل للمفاخرة فتكره. والإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فتحرم اهـ. ونعى النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي في اليوم الذي مات فيه ونعى الأمراء والنعي ليس ممنوعا كله وإنما نهى عما كان أهل الجاهلية يصنعونه يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق. وإن مات فجأة بسبب صعقة أو هدم أو حرق أو خوف من حرب أو سبع أو ترد من جبل أو في بئر ونحو ذلك أو كان مبطونا أو مطعونا ونحو ذلك انتظر يه حتى يتيقن موته بعلامات

تدل عليه كانخساف صدغيه. وغيبوبة سواد عينيه. وميل أنفه. وانفصال كفيه. واسترخاء رجليه. وامتداد جلدة وجهه. وغير ذلك مما يدل على موته. ووجه جواز تأخيره لاحتمال أن يكون عرض له سكتة ونحوها وقد يفيق بعد يوم أو يومين. أو ثلاثة. وقد يعرف موت غير الفجأة بهذه العلامات وغيرها. وموت الفجأة أشق وفي الأثر "وأعوذ بك من موت الفجأة" ولأحمد قال: أكره موت الفوات ولعله لما فيه من خوف حرمان الوصية وترك الاستعداد للمعاد بالتوبة والأعمال الصالحة. وعن عائشة وابن مسعود: موت الفجأة راحة للمؤمن. وأسف على الفاجر. وذكر المدائني أن الخليل في جماعة من الأنبياء ماتوا فجأة. قال: وهو موت الصالحين وهو تخفيف على المؤمنين وقد يقال: إنه لطف ورفق بأهل الاستعداد للموت. (وعن أبي هريرة مرفوعا نفس المؤمن) أي روحه الذي إذا فارق البدن ليس بعده حياة (معلقة بدينه) أي مطالبة بما عليه ومحبوسة عن مقامها الكريم أو عن دخولها الجنة في زمرة الصالحين ولأحمد عن سمرة أنه قال - صلى الله عليه وسلم - "إن صاحبكم محتبس على باب الجنة في دين عليه" (حتى يقضى عنه) دينه أي يقضيه وارث ونحوه ففيه الحث على قضاء دينه في الحياة وقضاء الولي والورثة وغيرهم. عنه بعد الوفاة رواه أحمد والشافعي وغيرهما و (حسنة الترمذي) ولحديث "قضى بالدين قبل

الوصية" ولما فيه من إبراء ذمته ويجب إن أمكن قبل الصلاة عليه لعدم صلاته عليه الصلاة والسلام على من عليه دين وقوله "صلوا على صاحبكم". فإن تعذر قضاؤه في الحال استحب لوارثه أو غيره أن يتكفل عنه لقصة أبي قتادة لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أعليه دين" قالوا نعم قال: "صلوا على صاحبكم" فقال أبو قتادة صل عليه يا رسول الله وعلي دينه. ولما قال له: قضيتها، قال نعم، قال: "الآن برد عليه جلده" وسواء كان الدين عليه من نذر أو زكاة أو حج أو كفارة أو غير ذلك أو لآدمي كرد أمانة وغصب وعارية وغير ذلك أوصى به أو لم يوصِ به ويقدم على الوصية. وإنما قدمها في القرآن لمشقة إخراجها على الوارث. فقدمت حثًّا على الإخراج ولذلك جيء بكلمة أو التي تقتضي التسوية. فاستويا في الاهتمام وعدم التضييع وإن كان الدين مقدمًا عليها وهو مقيد بمن له مال يقضى منه دينه أو وجد من يتبرع عنه بالقضاء أو من لا مال له ومات عازمًا على القضاء فقد ورد أحاديث تدل على أن الله يقضي عنه. بل محبته لقضائه موجبة لقضاء الله عنه. ويقضى عنه. من بيت مال المسلمين وهو أحد المصارف الثمانية. ولما في الصحيح "ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني" وفي لفظ "فإليَّ وعليَّ" وثبت أنه كان يصلي بعد أن وسع الله على من مات مديونا ويقضي عنه.

فصل في غسل الميت

فصل في غسل الميت أي في أحكام غسل الميت وما يتعلق به. وهو فرض كفاية إجماعا على من علم به وأمكنه حكاه النووي وغيره وهو حق لله تعالى. فلو أوصى به لم يسقط وإن لم يعلم به إلا واحد تعين عليه. وخالف بعض المالكية. ورد ابن العربي وغيره على من لم يقل به وقال. قد توارد به القول والعمل ويأتي الأمر به. (عن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليله) أي ليل غسل الميت (أقربكم إن كان يعلم) فدل الحديث على أن الأحق بغسل الميت من الناس الأقرب إلى الميت بشرط أن يكون عالما بما يحتاج إليه من العلم فيه "فإن لم يكن يعلم فمن ترون عنده حظا من ورع وأمانة" (رواه أحمد) والطبراني (وفيه ضعف) فإن في إسناده الجعفي وفيه مقال. والجمهور على تقديم الاقرب فالأقرب. والأقرب الأب لاختصاصه بالحنو والشفقة. ثم الجد وإن علا لمشاركته الأب في المعنى. ثم الابن فابنه وإن نزل. ثم الأخ لأبوين. ثم لأب. وهكذا على ترتيب الميراث. ثم ذووا أرحامه. ثم الأجانب ويقدم الأصدقاء منهم ثم غيرهم الأدين. ويقدم الجار على الأجنبي اتفاقا لا على صديق. وإن كان الميت أوصى لمن يغسله قدم فأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين. وأوصى غيره بذلك. ولأن أبا بكر

الصديق أوصى أن تغسله امرأته أسماء أخرجه مالك. وأوصى جابر وعبد الرحمن بن الأسود امرأتيهما أن تغسلاهما رواه سعيد. وروى ابن المنذر أن عليا غسل فاطمة ولم ينكر. وغسل أبو موسى زوجته وغيرهم. ولا خلاف في جوازه إلا ما روي عن أبي حنيفة في المنع من تغسيل الزوج امرأته والمعتمد القياس على غسلها له وهو إجماع. ويشهد لذلك قول عائشة لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نساؤه رواه أحمد. وله عنها أنه قال "ما يضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك" فدلت هذه الآثار على جواز تغسيل أحدهما لصاحبه وإن لم يوص به قال النووي وغيره: إنما المنع رواية عن أحمد فإن ثبتت فمحجوج بالإجماع اهـ. وأكثر الأصحاب لم يذكرها عنه منهم القاضي والشريف وأبو الخطاب والشيرازي وغيرهم. وأما إذا أوصى به لعدل زوجا كان أو غيره تعين. لأن حق للميت فقدم فيه وصية على غيره كباقي حقوقه. ولم يزل المسلمون يقدمونه من غير نكير فكان إجماعا. والأولى بغسل أنثى وصيتها العدل ثم القربى فالقربى من نسائها. ويجوز للرجل والمرأة غسل من له دون سبع سنين. قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه أن المرأة تغسل الصبي الصغير فتغسله مجردا من غيرسترة وتمس عورته لأنه لا عورة له. قيل إن إبراهيم بن

النبي - صلى الله عليه وسلم - غسله النساء كما يأتي. وذكرابن كثير وغيره أن عليًّا هو الذي غسله ورواه أحمد وغيره. وقال بعضهم إن مات رجل بين نسوة ليس فيهن زوجة له ولا أمة مباحة يمم اتفاقًا. وكذا إن ماتت امرأة بين رجال ليس فيهم زوج ولا سيد لها يممت. ولا تشترط مباشرة الغاسل. فلو ترك تحت ميزاب ونحوه وحضر من يصلح لغسله ونوى وسمى وعمه الماء كفى. أو يغسل في ثوب واسع ويلف الغاسل على يده خرقة. ويحرم أن يغسل مسلم كافرا أو يدفنه إجماعا للآية وإنما يوارى لعدم من يواريه لإلقائهم في القليب وقوله لعلي لما أخبر بموت أبي طالب "أذهب فواره" ويشترط لغسل الميت إسلام غاسل. فلا يصح من كافر إجماعا ويشترط عقل اتفاقا. لا بلوغ ويشترط طهورية ماء. ولا يكره من حائض وجنب عند الجمهور. وكره مالك تغسيل الجنب. (وله) أي لأحمد وأبي داود وغيرهما (عنها) أي عائشة رضى الله عنها (قالت: لما أرادوا غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا والله ما ندري نجرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نجرد موتانا) وذلك أنهم اختلفوا كما في سنن أبي داود وغيرها فألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم من أحد إلا وذقنه في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: اغسلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثيابه فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون

أيديهم. وفي لفظ يفاض عليه الماء والسدر ويدلك الرجال بالقميص. ولابن ماجه وغيره عن بريدة ناداهم مناد من الداخل لا تنزعوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه. ولابن حبان من حديث عائشة وكان الذي أجلسه في حجره علي بن أبي طالب. وللحاكم أيضا من حديث عبد الله بن الحارث قال: غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - علي. وعلى يد علي خرقة فأدخل يده تحت القميص فغسله والقميص عليه. ولابن أبي شيبة والبيهقي والشافعي وغيرهم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا بسدر. وغسل وعليه قميص وولي سفلته علي والفضل محتضنه والعباس يصب الماء. قال الحافظ: مرسل جيد والرواية الأولى أن عليا أسنده إلى صدره فالله أعلم. والحديث يدل على تجريد الميت وأنه كان معلوما عندهم بأمره - صلى الله عليه وسلم - وإقراره. وحكي أنه إجماع منهم فيستحب للغاسل إذا أخذ في غسل الميت ستر عورته وجوبا وستره عن العيون وتجريده ندبا لأنه أمكن في تغسيله وأبلغ في تطهيره وأشبه بغسل الحي وأصون له من التنجيس إذ يحتمل خروجها منه وتلويثه ويدل على رفع رأسه بحيث يكون كالمحتضن في صدر غيره. وينبغي عصر بطنه برفق ليخرج ما هو مستعد للخروج ويكون هناك بخور لئلا يتأذي برائحة الخارج ويلف الغاسل على يده خرقة خشنة أو يدخل يده في كيس لئلا يمس عورته الممنوع من مسها فينجيه. وذكر المروذي عن ابن سيرين أن

عليا لف على يده خرقة حين غسل فرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستحب أن لا يمس سائره إلا بخرقة لفعل علي. (وعن أم عطيه) الأنصارية رضى الله عنها (قالت: دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل ابنته) ولمسلم أنها زينب زوج أبي العاص وكانت وفاتها سنة ثمان. وفي رواية أنها أم كلثوم زوج عثمان بن عفان وكان وفاتها سنة تسع (فقال اغتسلنها ثلاثا) وهو سنة إجماعا وتغسل الحائض والجنب غسلا واحدا في قول أهل العلم إلا ما روي عن الحسن أنها تغسل غسلين وتداخل الأغسال وغيرها معلوم (أو خمسا) للتخيير وإن لم ينق الغسل الوسخ بثلاث زيد حتى ينقي. وذكره في الفروع اتفاقا. (أو أكثر من ذلك) بكسر الكاف خطاب للمؤنث وفي لفظ "اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا) زاد البخاري وغيره "أو أكثر من ذلك" ـ وإن خرج منه شئ بعد سبع حشي المحل بقطن. وغسل المتنجس إجماعا ووضئ كالجنب إذا أحدث بعد الغسل. وإن خرج شئ بعد تكفينه لم يعد الغسل للمشقة. (إن رأيتن ذلك) والمراد اغسلنها وترا وليكن ثلاثا فإن احتجتن إلى زيادة عليها للإنقاء فليكن خمسا. فإن احتجتن إلى زيادة الإنقاء فليكن سبعا. ورجع الشارع النظر إلى الغاسل ويكون ذلك بحسب الحاجة لا التشهي لقوله "إن رأيتن" اي احتجتن. والحاصل أن الثلاث مأمور بها ندبا. فإن حصل

الإنقاء بها لم تشرع الرابعة ولاخامسة. وإلا زيد حتى يحصل الإنقاء. ويندب كونها وترا. واتفق أهل العلم على استحبابه وكرهوا الاقتصار على المرة الواحدة للأمر بالثلاث. ولأنه لا يحصل بها كمال النظافة وتجزئ كالحي وحكي إجماعا (بماء وسدر) عين السدر لأن فيه مادة حادة تشبه الصابون. وتقدم جعلهم له في غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويأتي الأمر به في غسل الذي وقصته دابته. ويغسل برغوته رأسه ولحيته لأنها لا تعلق بالشعر. بخلاف التفل قال القرطبي يجعل السدر في ماء ثم يخضخض إلى أن تخرج رغوته ثم يدلك به جسد الميت. (واجعلن في الغسلة الآخرة كافورا متفق عليه) ورواه الخمسة وغيرهم وجعل الكافور في الماء هو قول الجمهور وقالت الحنفية: يجعل في الحنوط والحديث حجة عليهم. واختار جمهور الأصحاب جعله مع السدر. قال الخلال والعمل عليه. والحكمة في الكافور كونه يصلب الجسد ويطيبه ويبرده ويطرد عنه الهوام برائحته. ويمنع ما يتحلل من الفضلات. ويمنع أيضا إسراع الفساد. ويطيب رائحة المحل. وذلك وقت تحضر فيه الملائكة وهو أقوى الأراييح الطيبة في ذلك وكونه في الآخرة لئلا يذهب به الماء. وإن عدم قام غيره مقامة مما فيه هذه الخواص أو بعضها. وإن احتيج إلى الماء الحار والأشنان لإزالة وسخ ونحوه. جاز للحاجة إليه. وإلا كره لعدم ورود السنة به.

(وفي رواية ابدأن بميامنها) أي ما يلي الجانب الأيمن وهو مذهب جمهور أهل العلم وخالفت الحنفية في البداءة بالميامن والحديث نص في ذلك فيسن البداءة بالشق الأيمن المقبل من عنقه. وصدره. وفخذه وساقه. ثم يغسل شقه الأيسر كذلك مرة في دفعتين وقيل: مرة في أربع، يده اليمنى وصفحة عنقه وشق صدره. وفخذه وساقه ثم الأيسر كذلك. ثم يرفعه من جانبه الأيمن. فيغسل الظهر وما هناك من وركه وفخذه وساقه. ثم الأيسر كذلك قال أبو البركات: والأول أقرب إلى قوله ابدأن بميامنها. وأشبه بغسل الجنابة وكيف ما فعل أجزأ. (ومواضع الوضوء منها) ولا تنافي بين الأمرين لإمكان البداءة بمواضع الوضوء وبالميامن معا فيوضيه ندبا كوضوئه للصلاة ويدخل إصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه فيمسح أسنانه وفي منخريه فينظفهما ولا يدخلهما الماء خوف تحريك النجاسة بدخول الماء جوفه وينجيه كما يستنجي الحي اتفاقا بعد لف خرقة على يده كما تقدم. وينوي غسله ويسمي كغسل الجنابة. (وفيه فضفرنا شعرها ثلاثة قرون) أي ثلاث ضفائر قرنيها وناصيتها وأصل الضفر الفتل قالت: مشطناها ثلاثة قرون. وروي سعيد بن منصور عنها قال لنا: "اغسلنها وترا واجعلن شعرها ضفائر". ولابن حبان "واجعلن لها ثلاثة قرون" (وألقيناه) أي شعرها ثلاثة القرون (خلفها) أي خلف ظهرها وهذا مذهب الجمهور. قال ابن المنذر ليس في

أحاديث الغسل للميت أعلى من حديث أم عطية وعليه عول الأئمة. وذهبت الحنفية إلى إرساله مفرقا. وهذه الأحاديث تدل على استحباب جعله ثلاث ضفائر من خلفها. ولا يسرح شعره لما فيه من تقطيع الشعر من غير حاجة إليه. ومرت عائشة بقوم يسرحون شعر ميتهم فنهتهم عن ذلك ويحرم حلق رأس الميت لأنه إما لزينة أو نسك. وشعر عانة لما فيه من مس عورته. كما يحرم ختن الميت الأقلف. ولا يقص شاربه. ولا تقلم أظفاره. لأن أجزاء الميت محترمة فلا تنتهك بذلك. ولم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة في هذا شئ فيكره فعله اتفاقا. (ولهما عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في محرم مات) قال ابن عباس رضي الله عنهما. بينما رجل واقف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته يعنى صرعته فدقت عنقه فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال (اغسلواه بماء وسدر) فدل على تأكد استحباب جعل سدر في ماء الغسل وتقدم (وكفنوه في ثوبيه) لكونه مات فيهما وهو متلبس بتلك العبادة الفاضلة. (ولا تحنطوه) من الحنوط وهو الطيب الذي يوضع للميت ذكرا كان أو أنثى. وللنسائي "ولا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة محرما" وفي رواية "ولا تمسوه طيبا فإنه يبعث يوم

القيامة ملبيا" (ولا تخمروا رأسه) أي لا تغطوه. وفي رواية ولا تغطوا وجهه والأشهر في أكثر الروايات ذكر الرأس فقط. فقال أحمد: يغطى وجهه وسائر بدنه وتجوز الزيادة على ثوبيه إذا كفن كبقية كفن حلال. وفيه دليل على بقاء حكم الإحرام وعلله بقوله فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" وفي رواية "محرما" وهذا مذهب الشافعي وأحمد وجمهور السلف والخلف. وقال الداودي عن مالك لم يبلغه هذا الحديث. وجامع الكلام فيه أنه يجب تجنيبه ما يجب اجتنابه حال إحرامه وهو مذهب الجمهور. ولا تمنع معتدة من طيب لسقوط الأحداد بموتها. (ولهما عن جابر في قتلى أحد) سنة ثلاث من الهجرة (وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم" قال إمام الحرمين: معتمدنا الأحاديث الصحيحة أنه لم يصل عليهم ولم يغسلوا قال الشافعي جاءت من وجوه متواترة ولعل الحكمة في ترك الغسل والصلاة أن يلقوا الله بكلومهم لما جاء أن ريح دمهم ريح المسك. واستغنوا بإكرام الله لهم عن الصلاة مع التخفيف على من بقي من المسلمين لما يكون فيمن قاتل في الزحف من الجراحات وخوف عود العدو ورجاء طلبهم وهمهم بأهلهم وهم أهلهم بهم. ولأحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قتلى أحد "لاتغسلوهم فإن

كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة ". فالصحيح أن لا يغسلوا لئلا يزول أثر العبادة المطلوب بقاؤها كما دلت عليه الأخبار. وقطع الموفق وغيره بالتحريم وهو مذهب جمهور أهل العلم ولا يوضأ حيث لا يغسل. ولو وجب قبل لأنه أثر العبادة والشهادة. وقال ابن القيم: حديث جابر في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح والذي يظهر من أمر شهداء أحد أنه لم يصل عليهم عند الدفن. وذكر ما ورد في الصلاة ثم قال والصواب أنه مخير في الصلاة عليهم وتركها لمجيء الآثار بكل واحد من الأمرين. وأصح الأقوال أنهم لا يغسلون ويخير في الصلاة عليهم. وبهذا تتفق جميع الأحاديث وقال في موضع آخر: السنة في الشهيد أن لا يغسل ولا يصلى عليه، اهـ. ـ. فإن كان جنبا قبل أن يقتل فقيل يغسل. ومذهب مالك وغيره لا يغسل. ولأبي داود، إن صاحبكم يعني حنظلة لتغسله الملائكة فسألوا أهله فقالت خرج وهو جنب حين سمع الهائعة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فلذلك غسلته الملائكة" وأسلم أصيرم بني عبد الأشهل يوم أحد ثم قتل ولم يأمر - صلى الله عليه وسلم - بغسله. ولو كان شهيد المعركة أنثى أو غير مكلف فكالذكر المكلف فيما تقدم عند الجمهور وصاحبي أبي حنيفة لأنهم مسلمون أشبهوا المكلف. وشذ أبو حنيفة في غير المكلف واحتج بأنه لا ذنب له وهو باطل من وجوه.

وإن سقط عن دابته أو شاهق بغير فعل العدو أو وجد ميتا ولا أثر به أو مات حتف أنفه أو برفسة. وقيل أو عاد سهمه عليه غسل وصلي عليه لأنه لم يمت بفعل العدو ولا مباشرته ولا تسببه وهو مذهب جمهور أهل العلم أبي حنيفة وأحمد وغيرهما. ومذهب الشافعي ونصره القاضي لا يغسل إن عاد عليه سهمه ولا يصلى عليه لأن عامر بن الأكوع بارز رجلا يوم خيبر فعاد عليه سهمه فقتله فلم يفرد عن الشهداء بحكم. وإن حمل فأكل أو شرب أو نام أو بال أو تكلم وطال بقاؤه عرفا بعد حمله غسل وصلي عليه. لأن سعد بن معاذ أصابه سهم يوم الخندق فحمل إلى المسجد ثم مات بعد ذلك "فغسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى عليه" وإن كانت هذه الأمور قبل حمله من المعركة ثم مات فيها فكشهيد المعركة إلا أن يطول مكثه فيها. والمقتول بمثقل يغسل ويصلى عليه إجماعا. وقيس عليه المقتول ظلما كمن قتله نحو لص أو الكفار صبرا في غير الحرب أو في البلد بحديد أو غيره وهو مذهب جماهير أهل العلم مالك والشافعي وأحمد وغيرهم لقصة عمر وعلي وابن الزبير وغيرهم وكل شهيد غسل صلي عليه وجوبا. ويدفن شهيد المعركة وجوبا بدمه إلا أن تخالطه نجاسة فيغسل الدم والنجاسة لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح. ويدفن في ثيابه التي قتل فيها. قال النووي وغيره: هو قول

العلماء كافة بعد نزع السلاح والجلود عنه لما روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم" وله شواهد في الصحيح وغيره تقضي بمشروعية دفن الشهيد بما قتل فيه من الثياب ونزع الحديد والجلود عنه وكل ما هو آلة حرب. وعن علي ينزع من الشهيد الفرو والخف والقلنسوة والعمامة والمنطقة والسراويل إلا أن يكون أصابها دم. وإن سلبها كفن بغيرها وجوبا كغيره. والشهداء ثلاثة. شهيد في الدنيا والآخرة. وهو من قاتل في سبيل الله حتى قتل. لترتب أحكام الشهداء عليه من ترك تغسيل، ونحوه لإرادته وجه الله والدار الآخرة. وشهيد في الآخرة فقط من أصابه جرح في سبيل الله ثم مات منه بعد مدة. وشهيد في الدنيا فقط من قاتل في سبيل الله وسريرته باطلة فتجري عليه أحكام الشهيد من ترك غسل وغيره. ولأبي داود والترمذي وصححه عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قتل دون دينه فهو شهيد. ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد" قال شيخ الإسلام وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الغريق شهيد. والمبطون شهيد. والحريق شهيد. والنفساء شهيدة. وصاحب الهدم شهيد" وجاء ذكر غير هؤلاء.

وذكر أن من غلب على ظنه عدم السلامة ليس له ركوب البحر للتجارة فإن فعل فغرق فيه لا يقال له إنه شهيد. وذكر بعض أهل العلم غير ذلك. منهم متمني الشهادة. والمتجرد لله في جهاد نفسه. ومن مات وهو يطلب العلم إلى أربعين وإلى خمسين والمراد أنهم شهداء في ثواب الآخرة لا في أحكام الغسل والصلاة. وقال غير واحد: ويغسل الباغي ويصلى عليه. ويقتل قاطع الطريق ويغسل ويصلى عليه بلا نزاع ثم يصلب. والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه وإن لم يستهل عند أحمد والشافعي لما يأتي من قوله عليه الصلاة والسلام "والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة"رواه أحمد وأبو داود وغيرهما ولأنه نسمة نفخ فيها الروح وقد كتب عليه الشقاوة أو السعادة ولأنه يبعث فيسمى. وفي الصحيحين أنه ينفخ فيه يعني بعد الأربعة الأشهر وأما دونها فلا يصلى عليه قال العبدري: بلا خلاف. وإن كان له أربعة أشهر ولم يتحرك لم يصل عليه عند جمهور العلماء. قال بعضهم لأنه لا يبعث قبلها واختار الأكثر يبعث. قال الشيخ وهو قول كثير من الفقهاء وتستحب تسميته وأما الطفل فللترمذي وصححه "والطفل يصلى عليه" ولابن ماجه "صلوا على أطفالكم فإنهم من أفراطكم".

وحكى غير واحد إجماع المسلمين على وجوب الصلاة على الطفل لهذه الأخبار ولعموم النصوص الواردة بالصلاة على المسلمين وهو داخل في عمومهم. والتغسيل والصلاة على الميت متلازمان في الجملة. قال ابن كثير غسل علي إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر ابن عبد البر وغيره أن مرضعة إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - هي التي غسلته. وقال صلي عليه وكبر أربعا" وأنه قول جمهور أهل العلم وهو الصحيح. وأما من تعذر غسله فييمم أو بعضه فيغسل ما أمكن وييمم للباقي كالحي. فائدة يجب على الغاسل ستر ما رآه من الميت إن لم يكن حسنا لما رواه أحمد وغيره عن عائشة مرفوعا "من غسل ميتا وأدى فيه الأمانة ولم ينشر عيبه، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" ولقوله "من سترة مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة" وقال جمع إلا على مشهور ببدعة أو فجور ليرتدع نظيره. ونرجو للمحسن ونخاف على المسيء ولا نشهد لأحد بجنة أو نار إلا من شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الشيخ أو اتفقت الأمة على الثناء عليه أو الإساءة. وظاهر كلامه ولو لم تكن أفعال الميت موافقة لقولهم وإلا لم تكن علامة مستقلة. وفي الصحيحين أنه مر بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فصل في كفنه

"وجبت" ثم بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال "وجبت" فقال عمر ما وجبت قال: "هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة. وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار. أنتم شهداء الله في الأرض". والحديث على عمومه. فلما ألهم الناس الثناء عليه كان دليلا. سواء كانت أفعاله تقتضيه أولا. وهذا إلهام يستدل به على تعيينها ولأحمد "ما من مسلم يموت فيشهد له ثلاث أبيات من جيرانه الأدنين بخير إلا قال الله قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا وغفرت له ما لم يعلموا" وللحاكم نحوه قال الشيخ وتواطؤ الرؤيا كتواطئ الشهادات. ويحرم سوء الظن بمسلم ظاهره العدالة. بخلاف من ظاهره الفسق فلا حرج بسوء الظن به. ويستحب ظن الخير بالمسلم للأخبار. فصل في كفنه أي: كفن الميت ومؤونة تجهيزه وما يتعلق بذلك. أجمع العلماء على أنه فرض كفاية على من علم به وأمكنه. وقال غير واحد: وحنوطه وطيبه وهو مذهب مالك وأحمد وقول للشافعي. (عن خباب) بن الأرت بن جندلة بن سعد بن زيد مناة أسلم قديما وشهد المشاهد وتوفي بالكوفة سنة سبع وثلاثين (أن مصعبا) يعني ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف أحد

السابقين هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة (قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة) هي شملة لها خطوط بيض وسود أو بردة من صوف (فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي بها رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الإذخر) وفيه قال: فكنا، إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا بها رجليه بدا رأسه (متفق عليه). وظاهره أنه لم يكن له مال غيرها. وفي رواية البخاري أن عبد الرحمن بن عوف قال: قتل مصعب بن عمير وكان خيرا مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة. وقتل حمزة أو رجل آخر فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة. ولأحمد عن خباب أن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء إذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه الإذخر فدلت هذه الأحاديث على أنه إذا ضاق الكفن عن ستر جميع البدن ولم يوجد غيره جعل مما يلي الرأس لشرفه وجعل النقص مما يلي الرجلين. قال النووي فإن ضاق عن ذلك سترت العورة، فإن فضل شيء جعل فوقها، وإن ضاق عن العورة سترت السوأتان لأنهما أهم، وهما الأصل في العورة وهذا قول جمهور أهل العلم. وفيه أن الواجب ثوب يستر جميعه مع القدرة وفيه. وفي قصة المحرم الذي وقصته دابته فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كفنوه في ثوبيه" دليل على أنه يجب تكفين الميت في ماله مقدما

على دين وغيره وكذا مؤونة تجهيزه اتفاقا. غير حنوط وطيب فمستحب. وقال ابن المنذر وغيره قال بذلك جميع أهل العلم ولأن المفلس يقدم بالكسوة على الدين فكذا الميت يقدم عليه بل أولى. ولأن سترته واجبة في الحياة فكذا بعد الموت. واتفق الجمهور على وجوب ثوب لا يصف البشرة يستر جميع بدن الميت ذكرا كان أو أنثى ما لم يكن محرما. ويكون من ملبوس مثله في الجمع والأعياد ما لم يوص بدونه فيجوز إجماعا. ونقل أبو البركات الإجماع على جواز الوصية بالثوب الواحد والجديد أفضل من العتيق كما فعل به - صلى الله عليه وسلم - وللأمر بتحسينه رواه مسلم وغيره ما لم يوص بغيره فيمتثل لقول الصديق كفنوني في ثوبي هذين لأن الحي أحوج إلى الجديد من الميت، وإنما هما للمهلة والتراب رواه البخاري. فإن لم يكن للميت مال فكفنه ومؤونة تجهيزه على من تلزمه نفقته لأن ذلك يلزمه حال الحياة فبعد الموت أولى إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته وفاقا لأحد القولين عند أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك ولو كان غنيا لأن الكسوة وجبت عليه بالزوجية والتمكن من الاستمتاع وقد انقطع ذلك بالموت فأشبهت الأجنبية. وعن أحمد يلزمه كفنها وفاقا لمالك وأحد القولين لأصحاب أبي حنيفة والشافعي ورجحوه لأن من لزمته كسوتها في الحياة لزمه كفنها بعد الوفاة كالأمة مع السيد.

وإن عدم مال الميت ومن تلزمه نفقته فكفنه ومؤونة تجهيزه في بيت المال إن كان مسلما اتفاقا لأنه للمصالح وهذا من أهمها فإن لم يكن بيت مال فعل المسلمين العالمين بحاله كنفقة الحي وكسوته. قال الشيخ تقي الدين: من ظن أن غيره لا يقوم به تعين عليه. وقال النووي وغيره لو مات إنسان ولم يوجد ما يكفن به إلا ثوب مع مالك له غير محتاج إليه لزمه بذله بقيمته كالطعام للمضطر. (ولهما عن عائشة كفن رسول - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض) ولابن ماجه "أحسن ما زرتم الله به في قبوركم ومساجدكم البياض) وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - "البسوا من ثيابكم البياض وكفنوا فيها موتاكم" (سحولية) نسبة إلى سحول قرية باليمن وهو الأبيض النقي. جمع سحل ولا يكون إلا من قطن ولم يكن الله ليختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلا الأفضل. واستمر عمل الصحابة ومن بعدهم عليه. قال الترمذي: وهو الذي استحبه أهل العلم. وقال: النووي وهو مجمع عليه. (ليس فيها قميص ولا عمامة) أي لم يكن في كفنه - صلى الله عليه وسلم - قميص ولا عمامة وإنما كفن في ثلاثة أثواب غيرهما أدرج في الثلاثة الأثواب إدراجًا ولا يكره إن جعل فيها قميص لقصة أبي ولا عمامة لفعل ابن عمر. قال الحاكم وغيره تواترت الأخبار عن علي وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن مغفل وعائشة في تكفينه - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة.

وقال أحمد: أصح الأحاديث في كفن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث عائشة لأنها أعلم من غيرها. وقال الترمذي: قد روي في كفن النبي - صلى الله عليه وسلم - روايات مختلفة وحديث عائشة أصح الروايات التي رويت في كفنه - صلى الله عليه وسلم - والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم فدل الحديث على سنية تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض من قطن تبخر بعد رشها بماء ورد أو غيره لتعلق رائحة البخور إن لم يكن محرما ويكون البخور بالعود أو نحوه لفعل ابن عمر وابن عباس وأسماء وغيرهم ولأن هذا عادة الحي. وروي مرفوعا ثلاثا ثم تبسط الثلاثة الأثواب بعد التبخير بعضها فوق بعض ليوضع الميت عليها مرة واحدة وأوسعها وأحسنها أعلاها لأن عادة الحي جعل الظاهر أفخر ثيابه. ويجعل الحنوط وهو أخلاط من طيب يعد للميت خاصة فيذر فيما بين اللفائف وهو مشروع بدليل الخطاب من قوله - صلى الله عليه وسلم - في المحرم "ولا تحنطوه" ولا يجعل فوق العليا لكراهة عمر وابنه وأبي هريرة وغيرهم له وذكره في الفروع اتفاقا. ولا يجعل على الثوب الذي على النعش لكراهة السلف له. ثم يوضع الميت على اللفائف مستلقيا لأنه أمكن لإدراجه فيها. ويجب ستره حال حمله بثوب. ويوضع برفق متوجها ندبا. ويجعل من الحنوط في قطن بين إليتيه ويشد فوقها خرقة كالسراويل بلا أكمام تجمع إليتيه ومثانته ليرد ما يخرج ويخفي ما يظهر من الروائح ويجعل الباقي من الحنوط على منافذ وجهه

منعا للهوام وعلى مواضع سجوده تشريفا لها وعلى مغابنه لأن ابن عمر كان يتتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك قال الزركشي ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن طيب الميت كله فحسن لأن أنسا طلي بالمسك وكذا ابن عمر وغيرهما. وكره أن يجعل في داخل عينيه اتفاقا لأنه يفسدهما وأن يطيب بورس وزعفران ويرد طرف اللفافة العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن ويرد طرفها الآخر فوقه ثم الثانية والثالثة كذلك ويجعل أكثر الفاضل على رأسه لشرفه ثم يعقدها لئلا ينتشر الكفن وتحل في القبر لقول ابن مسعود "إذا أدخلتم الميت القبر فحلوا العقد". (وللبخاري عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - ألبس عبد الله بن أبي) ابن سلول رأس المنافقين (قميصه لما مات) وذلك أنه لما توفي عدو الله أتى ابنه عبد الله رضي الله عنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال "أعطني قميصك أكفنه فيه فأعطاه إياه" متفق عليه من حديث ابن عمر وحديث جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - "أتى عبد الله بن أبي بعد ما دفن فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه" ولعل المراد بالإعطاء أنه أنعم عليه بذلك وقيل تكرمة لابنه. وقيل إنما كساه قميصه لأنه كان كسا العباس لما أسر ببدر فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يكافئه. وفيه دليل على مشروعية التكفين في القميص وأن قميص الميت كقميص الحي. وأجمعوا على أنه إن كفن في قميص ومئزر

ولفافة جاز من غير كراهة ولو لم تتعذر اللفائف. وعن عمرو بن العاص أن الميت يؤزر ويقمص ويلف بالثلاثة. قال في الفروع لا يكره في خمسة اتفاقا. ولا يكره تعميمه. ولا يكره تكفينه في ثوبين لما تقدم. ولا ريب أن الواجب ثوب يستر جميعه. وجاءت الأخبار بالأمر بتحسين الكفن صنفا ونظافة ونقاء وجمالا وحسن وضعه عليه وتوسيطه لا السرف والمغالاة ولا الوضع في غير جهة لائقة به. (وعن أم عطية في غسل ابنته) فعند أحمد وابن ماجه أنها أم كلثوم وعند مسلم أنها زينب زوج أبي العاص وكانت وفاتها سنة ثمان (قالت كفناها في خمسة أثواب صححه الحافظ) من رواية الخوارزمي من طريق إبراهيم بن حبيب بن الشهيد عن هشام بن حسان عن حفصة عن أم عطية. ولفظ أحمد وأبي داود من حديث ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان "أول ما أعطانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحقاء يعني الإزار ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر. قالت: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الباب معه كفنها يناولنا ثوبا ثوبا، وفي إسناده مقال. وقال ابن المنذر أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب والجمهور أنها تؤزر بالمئزر ثم تلبس

فصل في الصلاة عليه

القميص ثم تخمر ثم تلف باللفافتين. وقال المجد: يشد فخذاها بمئزر تحت درع ويلف فوق الدرع الخمار باللفافتين جمعا بين الأخبار. ويسن أن تكفن صغيرة في قميص ولفافتين وصبي في ثوب واحد اتفاقا لأنه دون الرجل. ويجوز تكفين المرأة في ثوب الرجل حكاه ابن بطال اتفاقا لإعطائهن حقوه يشعرن ابنته. ويكره برقيق يحكي الهيئة وبصوف وشعر لأنه خلاف فعل السلف ويحرم بجلود لنزعه له عليه الصلاة والسلام ويجوز في حرير لضرورة اتفاقا. فصل في الصلاة عليه أي على الميت وهي مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. وفرض كفاية إجماعا على غير شهيد معركة وقيل ومقتول ظلما. قال الفاكهي: والصلاة على الميت من خصائص هذه الأمة. قال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على عبد الله بن أبي رأس المنافقين. فأنزل الله هذه الآية أن يتبرأ منهم وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات وهو عام في كل من عرف نفاقه ولأحمد: فما صلى بعده على منافق. ومفهوم الآية مشروعية الصلاة على المسلمين كما ثبتت به السنة وأجمع عليه المسلمون إجماعا ضروريا لا ينكره إلا كافر معاند.

وقال الشيخ لما نهى الله نبيه عن الصلاة على المنافقين كان دليل الخطاب أن المؤمن يصلى عليه قبل الدفن ويقام على قبره بعده. ودلت الآية أيضا على أن الصلاة على المسلمين من أكبر القربات وأفضل الطاعات ورتب الشارع عليها الجزاء الجزيل كما في الصحاح وغيرها. ودلت الآية على أن الصلاة عليه كان: عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسلمين وأمرا متقررا عند المسلمين واستمروا عليه. وفرض كفاية. قال الشيخ: وفروض الكفايات إذا قام بها رجل سقط الإثم عن الباقين ثم إذا فعل الكل ذلك كان كله فرضا وذكره ابن عقيل محل وفاق. وتسقط بثلاثة اتفاقا فجاء أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على عمير بن أبي طلحة في منزلهم وأبو طلحة وراءه وأم سليم وراء أبي طلحة. (وعن مالك) بن هبيرة بن خالد السكوني ويقال: الكندي مات في زمن مروان قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من ميت يموت) وفي لفظ "ما من مؤمن يموت "فيصلي عليه ثلاثة صفوف إلا غفر له) وفي رواية كان مالك بن هبيرة إذا صلى على جنازة فتقال الناس عليها جرأهم ثلاثة أجزاء أي فرقهم جعل القوم الذين يمكن أن يكونوا صفا واحدا ثلاثة صفوف ثم قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجبت" ولأبي داود "وجبت له الجنة" (رواه الخمسة)

وغيرهم (إلا النسائي) وصححه الحاكم وغيره وله شواهد كثيرة. وفي صحيح مسلم من حديث عائشة "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه". وله من حديث ابن عباس "ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعوا فيه" قال النووي والقاضي الأحاديث كلها معمول بها وتحصل الشفاعة بأقل الأمرين من ثلاثة صفوف وأربعين وفيها استحباب تكثير جماعة الجنازة. وروى ابن بطة عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد جنازة وهو سابع سبعة "فأمرهم أن يصفوا ثلاثة صفوف خلفه فصف ثلاثة واثنين وواحدا خلف الصف فصلى على الميت ثم انصرف" وصرح القسطلاني وغيره أن الثلاثة في الفضيلة سواء وأنه إنما لم يجعل الأول أفضل محافظة على المقصود من الثلاثة الصفوف. ويأتي في صلاته على النجاشي أنه "صف بهم" وفي لفظ "فصففنا خلفه فصلى عليه ونحن صفوف" ودلت هذه الأحاديث وغيرها على سنية صلاة الجنائز جماعة صفوفا وهو إجماع المسلمين لفعله - صلى الله عليه وسلم - وفعل أصحابه واستمرار عمل المسلمين عليه. وتجوز فرادى. (ولهم أن أنسا صلى على جنازة رجل فقام عند رأسه)

وهو مذهب الشافعي وقال ابن المنذر وغيره هو قول جماهير العلماء ولم يذكر عن أحمد غيرها. وعنه عند صدره وهو مذهب أبي حنيفة أو يكون بالقرب منهما فإن رأس الرجل قريب من صدره فالواقف عند أحدهما واقف عند الآخر (و) لما رفعت (أتى بـ) جنازة (امرأة) فصلى عليها (فقام وسطها) بفتح السين (وقال هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وفيه فلما فرغ قال احفظوا (حسنهما الترمذي) فحديث مالك تقدم رواته. وهذا الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم بألفاظ منها ما رواه أبو غالب الحناط قال. شهدت أنسا صلى على جنازة قال وفينا العلاء بن زياد فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل والمرأة قال يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يقوم من الرجل حيث قمت ومن المرأة حيث قمت قال نعم" وفي لفظ لأبي داود قال العلاء هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يصلي على لجنازة كصلاتك يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة قال نعم". وفي الصحيحين من حديث سَمُرة أنه - صلى الله عليه وسلم - "صلى على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها" قال غير واحد هذا مذهب جمهور العلماء الشافعي وأحمد وغيرهما. وفي الحديثين دلالة واضحة على مشروعية ذلك وماعداه لا مستند له من المرفوع ولا يدل على الوجوب فإنما الواجب هو استقبال جزء من الميت رجلا كان أو امرأة. والنزاع فما هو الأولى والأحسن ولا أولى ولا أحسن

من الكيفية التي فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحكمة والله أعلم أن القلب في الصدر ووسط المرأة محل حملها والصبي والصبية كذلك. والسنة وضع رأسه مما يلي يمين الإمام كما هو المعمول به ويسوي بين رؤوس كل نوع ويجعل وسط أنثى حذاء صدر أو رأس رجل ليقف الإمام موقف من الكل. وجمعهم بصلاة أفضل وهو مذهب مالك وأحمد. (وللبخاري عن الحسن) البصري هو ابن أبي الحسين الأنصاري واسمه يسار بن بلال الأنصاري مولاهم ثقة ففيه إمام جليل من خيار التابعين مات سنة عشر ومائة وقد قارب التسعين قال (أدركت الناس) وهم إذ ذاك متوافرون في القرن المفضل المثنى عليهم (وأحقهم بالصلاة على جنائزهم من رضوه) إماما (لفرائضهم) وتقدم ذكر من يقدم في الإمامة. وقال أبو هريرة شهدت حسينا حين مات الحسن وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص أمير المدينة وهو يقول: لولا السنة ما قدمتك. ومقتضاه أنه سنة وخلفه يومئذ ثمانون صحابيا. قال الموفق ولم ينكر فكان إجماعا وهو مذهب جماهير أهل العلم أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم لأنه - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعده كانوا يصلون على الموتى. ولم ينقل عنهم استئذان العصبة ولا غيرهم. قال ابن رشد أكثر أهل العلم على أن الوالي أحق بالصلاة على الميت، اهـ.

وتقديمهم ليس على سبيل الوجوب فإن الصحابة رضي الله عنهم ما زالوا يوصون بالصلاة فأبو بكر أوصى أن يصلي عليه عمر. وعمر صهيبا. وأم سلمة سعيد بن زيد. وأبو بكرة أبا برزة وغيرهم وهذه قضايا اشتهرت من غير إنكار ولا مخالف فكانت إجماعا. ثم الأولى بعدهم الأولى بغسل على ما تقدم. (وجعل ابن عمر الرجال في صلاة الجنازة مما يلي الإمام) لشرفهم وكالفريضة (والنساء مما يلي القبلة رواه البيهقي) ولفظه صلى على تسع جنائز رجال ونساء فجعل الرجال مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة. ولأبي داود والنسائي وغيرهما بسند صحيح عن عمار قال: شهدت جنازة أم كلثوم وابنها "فوضع الغلام مما يلي القبلة والمرأة وراءه فصلى عليهما. وفي القوم ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة وأبو هريرة فقالوا: هذه السنة" وفي رواية للبيهقي ونحو من ثمانين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر ابن المنذر خلافا في ذلك. (وفي الصحيحين) وغيرهما من غير وجه عن ابن عباس وأبي هريرة وجابر وغيرهم (أنه - صلى الله عليه وسلم - يكبر في صلاة الجنازة أربعا) فمن حديث أبي هريرة وجابر في قصة صلاته على النجاشي. ومن حديث ابن عباس في الصلاة على القبر وستأتي. وجمع عمر الناس على أربع تكبيرات. وقال لا يجوز النقص عن الأربع. وقال النخعي اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت أبي مسعود فأجمعوا على أربع.

وقال ابن عبد البر وغيره أنه قد أجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحيحة. وما سوى ذلك عندهم شذوذ. وقال النووي قد كان لبعض الصحابة وغيرهم خلاف في أن التكبير المشروع خمس أم أربع أم غير لك ثم انقرض ذلك الخلاف وأجمعت الأمة الآن على أنه أربع تكبيرات بلا زيادة ولا نقص. والأولى أن لا يزيد على أربع لأن المداومة تدل على الفضيلة. وقال ابن القيم وكان - صلى الله عليه وسلم - يكبر أربع تكبيرات وصح أنه كبر خمسًا وكان الصحابة بعده يكبرون أربعًا وخمسًا وستًا وسبعًا وحكى الوزير عن الأئمة الأربعة أنه لا يتابع على ما زاد على الأربع. وقال الموفق: لا خلاف أنه لا يتابع على الزيادة عليها، ولا تستحب إجماعا فيباح الزيادة على الأربع إلى السبع وليس إخلالا بصورة الصلاة فلا تبطل. (وفي البخاري صلى ابن عباس) رضي الله عنهما (على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال لتعلموا أنها سنة) أي طريقة متبعة ورواه ابن خزيمة وغيره والنسائي من رواية طلحة قال فأخذت بيده فسألته عن ذلك فقال نعم يا بن أخي إنه حق وسنة وهو عند ابن ماجه وغيره مرفوعًا وسنده ضعيف. وقال الحاكم أجمعوا على أن قول الصحابي من السنة حديث مسند وللنسائي وغيره عن أبي أمامة قال: "السنة في الصلاة على

الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة". وقال مجاهد سألت ثمانية عشر رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القراءة على الجنازة فكلهم قالوا يقرأ. ولها شواهد فدلت على وجوب قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى وهي تكبيرة الإحرام وبعد التعوذ والبسملة وهو مذهب جمهور العلماء الشافعي وأحمد وغيرهما من السلف والخلف إلا التعوذ فقيل لا يتعوذ. وقد ورد الأمر به. وأما البسملة فأجمعوا على الإتيان بها وأما الاستفتاح فالأكثر أنه لا يستفتح لأن مبناها علىلتخفيف كما أنه لا يقرأ السورة بعد الفاتحة. وقال الشيخ لا تجب قراءة الفاتحة بل هي سنة وهو مذهب مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد. (وللحاكم) عن ابن عباس أنه صلى على جنازة فكبر ثم قرأ الفاتحة (ثم صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -) يعني بعد التكبيرة الثانية ثم دعا بعد الثالثة. وللشافعي وابن الجارود وغيرهم بسند رجاله رجال الصحيحين عن أبي أمامة "السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب سرًا في نفسه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - " وذكر أبو أمامة عن جماعة من الصحابة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة على الجنازة. فدلت على مشروعية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الجنازة كالصلاة عليه في التشهد الأخير. ولنقل الخلف

عن السلف ولا يتعين لفظ صلاة مخصوصة لأن المقصود مطلق الصلاة. والجمهور على قول اللهم صل على محمد كالتشهد الأخير. (وعن أبي هريرة مرفوعا إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء رواه أبو داود) وصححه ابن حبان وفي حديث أبي أمامة ويخلص الدعاء للميت وحسنه الحافظ وذلك لأن المصلين عليه شفعاء والشافع يبالغ في طلب الشفاعة يريد قبول شفاعته فيه فيدعو بعد الثالثة بأحسن ما يحضره من الدعاء المأثور إجماعا لأنه هو المقصود بالصلاة عليه فلا يجوز الإخلال به. ونقل فيه ما لم ينقل في القراءة والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولأحمد عن أبي الزبير سألت جابرًا ما يدعى للميت فقال ما أتاح أي ما قدر لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا أبو بكر. ولا عمر. فدل على أنه لا يتعين دعاء مخصوص والأمر المطلق بإخلاص الدعاء للميت يقضي بأن يخلص للمسيء كالمحسن فإن ملابس المعاصي أحوج إلى دعاء إخوانه المسلمين ولذلك قدموه بين أيديهم ليشفعوا له. (ولمسلم) والخمسة وغيرهم (عنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى على جنازة يقول) يعنى بعد التكبيرة الثالثة (اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا وشاهدنا) أي حاضرنا (وغائبنا وصغيرنا) لعله لرفع الدرجات (وكبيرنا وذكرنا وأنثانا) المقصود الشمول والاستيعاب كأنه قيل اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات

(اللهم من أحييته منا) معشر المسلمين (فأحيه على الإسلام) الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد لأمره. (ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان) وهو اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالأركان ولما كان الإسلام هو العبادات كلها والإيمان شرط فيها ووجودها في حال الحياة ممكن بخلاف حالة الموت فإن وجودها متعذر. فلهذا اكتفى بالموت على الإيمان خاصة وطلب الحياة على الإسلام الذي الإيمان جزء منه. (اللهم لا تحرمنا أجره) أي لا تمنعنا من أجره وحرمه الشيء منعه إياه (ولا تضلنا بعده) أي لا تصيرنا إلى الضلال ضد الهدى والرشاد. قال ابن القيم روي من طرق تدل على أن له أصلا وله شواهد. ولأبي داود عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا في الصلاة على الجنازة "اللهم أنت ربها وأنت خلقتها. وأنت هديتها للأسلام وأنت قبضت روحها. وأنت أعلم بسرها وعلانيتها. جئنا شفعاء له فاغفر له ذنبه". ولابن ماجه من حديث واثلة قال صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة رجل من المسلمين فسمعته يقول "اللهم إن فلان ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك قِه عذاب القبر وعذاب النار وأنت أهل الوفاء والحمد اللهم فاغفر له وارحمه فإنك أنت الغفور الرحيم" صححه ابن القيم.

(وله عن عوف) ابن مالك الأشجعي شهد الفتح ومعه راية أشجع وسكن دمشق ومات سنة ثلاث وسبعين (أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول) يعنى على جنازة صلى عليها (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه) الضمير عائد إلى الميت فلا يحول الضمير (وأكرم نُزُله) بضم الزاي وقد تسكن ما يهيء للضيف أول ما يقدم (ووسع مَدْخَلَهُ) بفتح الميم مكان الدخول وبضمها الإدخال والفتح أولى. (واغسله بالماء والثلج والبرد) بفتح الراء المطر المنعقد وليس المراد بالغسل وإنما هو استعارة بديعة للطهارة العظيمة من الذنوب (ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقَ الثوب الأبيض من الدنس) يغنى الوسخ (وأبدله دارًا خيرًا من داره. وزوجًا خيرا من زوجه) ولا يقول أبدلها لعود الضمير على الميت وإن لم يكن زوج والمراد بالإبدال الفعلي أو التقديري أي خير من زوج لو تزوج إذ منهم من ليس له دار بالدار الدنيا. (وأدخله الجنة. وأعذه من عذاب القبر. وعذاب النار) قال عوف فتمنيت أن لو كنت أنا الميت لدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك الميت" وهذا من أجمع الأدعية ورواه النسائي والترمذي وغيرهما وصححه وإن شاء قال وأفسح له في قبره ونور له فيه. (وعن المغيرة مرفوعًا والسقط) أي الولد لغير تمام (يصلى عليه) إذا بلغ أربعة أشهر عند أحمد والشافعي وعند

الجمهور إذا تحرك وتقدم (ويدعى لوالديه) كما سيأتي (بالمغفرة والرحمة رواه أحمد) ورواه أبو داود وابن حبان والحاكم وصححه وقال على شرط البخاري. ورواه النسائي (وصححه الترمذي لكن بلفظ "الطفل) يصلى عليه" واحتج به أحمد. وفي سنن ابن ماجه مرفوعا "صلوا على أطفالكم" وتقدم ذكر الإجماع عليه وأورد الأصحاب وغيرهم بدل الاستغفار دعاء يقوله المصلي لهذا الخبر وغيره بعد ما تقدم من قوله وتوفه على الإيمان. اللهم اجعله أي الطفل ذخرا لوالديه وفرطا أي سابقا أمام والديه سواء مات في حياتهما أو بعدهما. قال القاضي وهو في هذا الدعاء الشافعي شفع لوالديه وللمؤمنين المصلين عليه وأجرا وشفيعا مجابا. اللهم ثقل به موازينهما وأعظم به أجورهما وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفالة إبراهيم إشارة إلى ما رواه ابن أبي الدنيا وغيره عن خالد بن معدان "إن في الجنة لشجرة يقال لها طوبى كلها ضروع من مات من الصبيان الذين يرضعون رضع من طوبى وحاضنهم إبراهيم خليل الرحمن" وقه برحمتك عذاب الجحيم. فما ذكروه من الدعاء لائق بالمحل مناسب لحاله. فإن الدعاء لوالديه أولى من الدعاء له لأنه شافع غير مشفوع فيه. وإذا لم يعرف إسلام والديه دعا لمواليه إن كان له موالٍ يعلم

إسلامهم فيقول ذخرا لمواليه. قال شيخ الإسلام ومن كان من أمة أصلها كفار لم يجز أن يستغفر لأبويه إلا أن يكونا قد أسلما للآية، اهـ. وأما ولد الزنا فيدعى لأمه فقط وكذا المنفي بلعان. واستحب الجمهور أن يقف بعد التكبيرة الرابعة قليلا لحديث زيد بن أرقم "كان يكبر أربعًا ثم يقف ما شاء الله" ومن حديث ابن أبي أوفى يدعو قال أحمد لا أعلم شيئا يخالفه وقال المجد لا خلاف في جوازه فيقول. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وكان أنس لا يدعو بدعاء إلا ختمه بهذا الدعاء. واختار بعض أهل العلم أن يقول. اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله. (ولابن ماجه عن ابن أبي أوفى) عبد الله بن علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي صحابي شهد الحديبية وتوفى سنة سبع وثمانين بالكوفة رضي الله عنه (مرفوعا كان يكبر أربعًا) وهو إجماع وفيه أنه يدعو بعد الرابعة وتقدم (ثم يسلم) ورواه البيهقي وغيره وقال الحاكم هذا حديث صحيح. وقد استفاض السلام عنه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الجنازة وهو واجب فيها إجماعا. وزاد أحمد وغيره من رواية شريك عن يمينه وشماله لكن. قال ابن القيم رحمه الله المعروف عن ابن أبي أوفى تسليمه واحدة ذكره عنه أحمد وغيره. ويجوز أن يسلم تسليمة ثانية عن

يساره كتسليم الصلاة وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي. وله أن يتابع الإمام فيه كالقنوت وظاهركلام ابن الجوزي يسر بالثانية وفاقًا. وعن أحمد يسلم واحدة عن يمينه وفاقًا لمالك. ويجوز تلقاء وجهه يجهر بها الإمام كالمكتوبة لهذا الخبر ولما روى الجوزجاني عن عطاء بن السائب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم على الجنازة تسليمة واحدة. وقيل لأحمد أتعرف عن أحد من الصحابة أنه كان يسلم على الجنازة تسليمتين قال لا ولكن عن ستة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسلمون تسليمة واحدة خفيفة وذكره البيهقي عن عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأنه أشبه بالحال ومبناها على التخفيف وأكثر ما روي في التسليم وقول أكثر العلماء من الصحابة والتابعين بل قال ابن المبارك من سلم على الجنازة تسليمتين فهو جاهل. قال الموفق واختار القاضي أن المستحب تسليمتان وواحدة تجزئ واختياره مخالف لإمامه وأصحابه وإجماع الصحابة والتابعين. ويسن وقوف المصلي بعده عليها مكانه حتى ترفع قال مجاهد رأيت ابن عمر لا يبرح من مصلاة حتى يراها على أيدي الرجال. وقال الأوزاعي لا تنفض الصفوف حتى ترفع الجنازة وهو قول عاملة العلماء. وسن رفع يديه مع كل تكبيرة قال الشافعي وغيره ترفع للأثر والقياس على السنة في الصلاة. ورواه عن ابن عمر وأنس وسعيد عن ابن عباس والأثرم عن

عمر وزيد بن ثابت. ورواه البيهقي مرفوعا بسند ضعيف وفيه ويضع اليمنى على اليسرى. واشترط الجمهور فيها النية وحكي اتفاقا. ولا يشترط معرفة عين الميت. والشرط الثاني إسلام الميت لأن الصلاة شفاعة له ودعاء والكافر ليس أهلاً لذلك. وقال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} قال شيخ الإسلام من كان مظهرًا للإسلام فإنه يجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة من تغسيله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ونحو ذلك. لكن من علم منه النفاق والزندقة فإنه لا يجوز لمن علم ذلك منه الصلاة عليه وإن كان مظهرا للإسلام وذكر الآية. وقوله {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية ثم قال وأما من كان مظهرًا للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر فلا بد أن يصلي عليهم بعض المسلمين. ومن امتنع زجرًا لأمثاله كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حسنًا وإن صلى يرجو رحمة الله ولم يكن في امتناعه مصلحة راجحة كان حسنا وإن امتنع في الظاهر ودعا في الباطن كان أولى. وكل من لم يعلم منه النفاق وهو مسلم يجوز الاستغفار له والصلاة عليه ويؤمر به كما قال تعالى {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وإن اختلط المسلمون بالمشركين ولم يتميزوا غسل الجميع وصلي عليهم سواء كان عدد المسلمين أقل

أو أكثر وهذا مذهب جماهير العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، اهـ. والشرط الثالث طهارته من الحدث والنجس مع القدرة اتفاقا لأن العجز عن الطهارة لا يسقط فرض الصلاة كالحي وكباقي الشروط وإن خاف فوت الجنازة. وقال أبو حنيفة يجوز إن خاف فوتها إن اشتغل بالوضوء وحكاه ابن المنذر عن جماعة من التابعين واختاره الشيخ. وإن عجز عن طهارة الميت يمم ويصلي عليه. والرابع والخامس الاستقبال والسترة كمكتوبة والسادس حضور الميت بين يديه قبل الدفن. وصرح به جماعة في المسبوق اتفاقا ولأنه لا صلاة بدون الميت سوى ما يأتي في الصلاة على الغائب. فلا تصح على جنازة محمولة. ولا من وراء جدار. ولا من وراء خشب كتابوت اتفاقا. بخلاف السترة من غير ذلك. ويشترط تكفينه فلا تصح قبل أن تغسل أو ييمم لعدم ويكفن ويسن دنوه منها وقال المجد وغيره قربه من الإمام مقصود لأنه يسن الدنو منها ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته وهو مذهب الشافعي وأحمد وإحدى الروايتين عن مالك وقول جمهور العلماء وإن خشي رفعها تابع التكبير وإن سلم مع الإمام ولم يقضه صحت لقول عائشة لا قضاء عليك والأولى قضاؤها اتفاقا ويدخل المسبوق بين التكبيرتين كالحاضر إجماعًا.

(وعن أبي هريرة أن امرأة سوداء) سماها البيهقي أم محجن وفي رواية أو شابًّا (كانت تقم المسجد) أي تخرج القمامة منه (ففقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها فقالوا ماتت) قال أفلا آذنتموني قال أبو هريرة فكأنهم صغروا أمرها (فقال دلوني على قبرها فدلوه فصلى عليها متفق عليه) وعن ابن عباس قال "انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر أربعا" متفق عليه. وللدارقطنى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى على ميت بعد ثلاث" وفي رواية "صلى على قبر بعد شهر" وللترمذي عن سعيد بن المسيب أن أم سعد ماتت والنبي - صلى الله عليه وسلم - غائب فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر ولها شواهد كثيرة تدل على سنية الصلاة على الجنازة المدفونة. وقال أحمد من يشك في الصلاة على القبر. والصلاة على القبر مشهورة متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال غير واحد لا نزاع فيها. فأما من لم يصل عليه ففرض الصلاة عليه الثابت بالأدلة والإجماع باق ومن صلي عليه فقد قال بمشروعية الصلاة عليه الجمهور. قال أحمد يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ستة أوجه أو ثمانية أوجه أنه صلى على ميت بعد ما دفن. واختاره الشيخ وجمهور السلف. ومن اعتذر عن هذه السنة المشهورة فلعله لم يظهر له السبب في الإعادة. وقال ابن حامد يصلى عليه لأنه دعاء.

وقال المجد يصلي تبعًا وإلا فلا إجماعا. وقال تستحب إعادتها تبعًا مع الغير ولا تستحب ابتداء. وقال الشيخ لا تعاد الصلاة عليها إلا لسبب مثل أن يعيد غيره فيعيد معه. أو يكون أحق بالإمامة من الطائفة الثانية فيصلي بهم. وقال ابن المبارك إذا دفن الميت ولم يصلي عليه صلي على القبر. وذكر ابن القيم أن الأحاديث إنما تدل على هذا. وحدد بعض أهل العلم الصلاة عليه بعد الدفن إلى شهر قال أحمد إذ هو أكثر ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -. وحده الشافعي بما إذا لم يبل الميت ومنع منه مالك وأبو حنيفة إلا للولي إذا كان غائبا وقال ابن القيم: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على القبر بعد ليلة ومرة بعد ثلاث ومرة بعد شهر ولم يوقت في ذلك وقتا. وقال ابن عقيل يجوز مطلقًا لقيام الدليل على الجواز. وما وقع من الشهر فاتفاق ويؤيده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين" رواه البخاري وغيره وفي السنن وغيرها أنه - صلى الله عليه وسلم - "صلى على قبر بعد شهرين" والحق أنه لم يرد توقيت ولأن المراد من الصلاة عليه الدعاء له وهو جائز في كل وقت. قال ابن القيم والعظام تبقى مدة طويلة ولا تأثير لتمزق اللحوم. (ولهما عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه) سنة تسع في رجب (وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات) ولهما عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال "توفي

اليوم رجل صالح من الحبشة فهلموا فصلوا عليه فصففنا خلفه فصلى عليه ونحن صفوف". وفي رواية "صلى على أصحمة النجاشي فكبر عليه أربعاً". وللترمذي وغيره وصححه عن عمران بن حصين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "إن أخاكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه" قال فقمنا فصففنا عليه كما يصف على الميت وصلينا عليه كما يصلى على الميت. والنجاشي هو ملك الحبشة وكان اسمه أصحمة. ومعناه بالعربية عطية. ويسمى كل ملك للحبشة نجاشي. كما يسمى كل خليفة للمسلمين أمير المؤمنين. وملك الروم والفرس قيصر وكسرى. فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على مشروعية الصلاة على الغائب عن البلد بالنية. قال الحافظ وهو قول الشافعي وأحمد وجمهور السلف. وقال ابن حزم لم يأت عن أحد من الصحابة منعه وقال الشافعي الصلاة على الميت دعاء له فكيف لا يدعى له غائب وقيل إن لم يكن صلي عليه وإلا فلا اختاره الشيخ. وقال ولا يصلى كل يوم على كل غائب لأنه لم ينقل. وقال ابن القيم مات خلق عظيم وهم غيب فلم يصل عليهم. وإنما صلي على النجاشي وفعله سنة وتركه سنة وصوب أنه إن مات ببلد لم يصلي عليه كما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على

النجاشي وإلا فلا، اهـ. ولا يصلى على غائب في أحد جانبي البلد ولو كان كبيرا ولو لمشقة مطر أو مرض. ويصلى على غريق وأسير ونحوهما. وإن وجد بعض ميت لم يصلَ عليه غسل وكفن وصلي عليه وجوبا لأن أبا أيوب صلى على رجل إنسان رواه أحمد. وصلى عمر على عظام بالشام. وأبو عبيدة على رؤوس رواهما عبد الله بن أحمد. وقال الشافعي ألقى طائر يدًا بمكة من وقعة الجمل عرفت بالخاتم وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب فصلى عليها أهل مكة وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير أهل العلم ولأنه بعض من ميت فثبت له حكم الجملة. فإن كان بعضا من ميت صلي عليه ندبا. وقيل يصلى عليه مطلقا. وأما تغسيله وتكفينه ودفنه فيجب اتفاقا. ثم إن وجد الباقي بعد غسل البعض وتكفينه ودفنه غسل وكفن وصلي عليه ودفن بجنب القبر أو في جانبه. ولا يصلى على مأكول ببطن آكل لفقد الشرط من غسل وتكفين. ولا يصلى على مستحيل بإحراق ونحوه لأنه لم يبق منه ما يصلى عليه. ولا يصلى على بعض حي مدة حياته لأن الصلاة دعاء له وشفاعة وهذا عضو لا حكم له في الثواب. وفي الحديث دليل على أفضلية الصلاة عليه خارج المسجد.

(وعن جابر) بن سمرة رضي الله عنه. (أن رجلا قتلا نفسه بمشاقص) جمع مشقص كمنبر نصل عريض أو سهم فيه ذلك. أو نصل طويل أو سهم فيه ذلك يرمي به الوحش (فلم يصلِ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه مسلم) والخمسة وغيرهم وللنسائي "أما أنا فلا أصلي عليه" ومراده - صلى الله عليه وسلم - من تركه الصلاة عليه عقوبة له وردعا لغيره عن مثل فعله وهو استعجال إزهاق النفس. وفي الصحيح في الرجل الجري الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو في النار وكان في غزوة خيبر وجرح فاستعجل الموت فوضع نصاب سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه. وقال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي لا يصلى عليه مطلقا. الجمهور أنه لا يصلي عليه الإمام الأعظم. (وعن زيد بن خالد في الذي غلَ في سبيل الله) أي كتم شيئا مما غنمه وذلك أن رجلا من المسلمين توفي بخيبر وأنه ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال صلوا على صاحبكم) فتغيرت وجوه القوم لذلك فلما رأى الذي بهم قال "إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزا من خرز اليهود ما يساوي درهمين (رواه الخمسة إلا الترمذي) واحتج به أحمد ورجال إسناده رجال الصحيح. وفيه تحريم الغلول وإن كان حقيرا وفي الوعيد عليه أحاديث شهيرة وإنما ترك - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عليه زجرا له ولأمثاله عن

الغلول. كما امتنع عن الصلاة على قاتل نفسه. وعلى المديون وأمرهم بالصلاة عليه أولاً حتى كفله أبو قتادة رضي الله عنه فدل الحديثان على سنية ترك الإمام الأعظم وإمام كل قرية وهو واليها في القضاء الصلاة على قاتل نفسه عمدا. والغال من الغنيمة. قال أحمد ما نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقاتل نفسه. ولو صلى عليهما الإمام فلا بأس كبقية الناس اختاره ابن عقيل وغيره وذكره في الفروع اتفاقا. وقال الشيخ: وإن تركهما أئمة الدين زجرًا فهو أولى. وإن صلى يرجو رحمة الله ولم يكن في الامتناع مصلحة راجحة فيحسن. وإن امتنع في الظاهر ودعا في الباطن فحسن. وأما من سواهما من سائر العصاة كالسارق والشارب والمقتول قصاصا أو حدًّا ونحو ذلك فيصلى عليهم. كما أن على سائر المسلمين أن يصلوا على موتى المسلمين كما دل عليه الحديثان وغيرهما. وقال النووي وغيره مذاهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم. ومحدود. ومرجوم. وقاتل نفسه .. وولد الزنا. ونحوهم لقوله "صلوا على من قال لا إله إلا الله" المراد عاملا بمقتضاها. فلو قالها وأشرك لم تنفعه ولم يجز الصلاة عليه. (وعن عائشة قالت صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء في المسجد" رواه مسلم) وفي رواية سهيل وأخيه يعني سهلا

وفي رواية: أمرت أن تمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه فأنكر الناس ذلك عليها فقالت ما أسرع ما نسي الناس، والله ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد" قال الحافظ لما أنكرت ذلك سلموا لها. فدل على أنها حفظت ما نسوه. وفي رواية أرسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر نحوه وبنو بيضاء ثلاثة سهل وسهيل وصفوان وأمهم البيضاء وصف لها واسمها دعد وأبوهم وهب بن ربيعة القرشي الفهري. فدل هذا الحديث على جواز الصلاة عليه في المسجد وهو مذهب الشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم. وصلى عمر على أبي بكر في المسجد. وصهيب على عمر في المسجد رواهما ابن أبي شيبة وغيره قال الخطابي وغيره ثبت ذلك ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا ذلك وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك. وكرهه أبو حنيفة ومالك. وقال ابن القيم وغيره لم يكن من هدية - صلى الله عليه وسلم - الراتب الصلاة على الجنائز في المسجد وإنما كان يصلي خارجه وربما صلى عليها فيه ولكن لم يكن من سنته وعادته وكلاهما جائز والأفضل خارجه لأنه الغالب وتقدم في قصة صلاته على النجاشي أنه خرج بهم إلى المصلى وكان هو المعهود في عصره - صلى الله عليه وسلم -. وحديث عائشة ظاهر الدلالة في الجواز إن أمن تلويثه وإلا حرم لتنجيسه.

(ولهما عن أبي هريرة مرفوعًا من شهد الجنازة حتى يصلى عليها) وللبخاري من "شيع" وفي لفظ "من تبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معها حتى يصلى عليها" وفي لفظ لمسلم "من خرج مع جنازة من بيتها حتى يصلى عليها (فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان) وللبخاري "فإنه يرجع بقيراطين" ولمسلم "ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من الأجر كل قيراط مثل أحد ومن صلى عليها ثم رجع كان له قيراط". فدل على أنه لا يستحق الأجر المذكور إلا من صلى عليها وتبعها حتى تدفن، قال ابن القيم كان مجموع الأجر الحاصل على تجهيز الميت من حين الفراق إلى وضعه في لحده وقضاء حق أهله دينار مثلاً فللمصلي عليه قيراط من هذا الدينار والذي يتعارفه الناس من القيراط أنه نصف السدس فإن صلى عليه وتبعه كان له قيراطان منه هما سدسه وعلى هذا فيكون نسبة القيراط إلى الأجر الكامل بحسب عظم ذلك الأجر الكامل في نفسه وكلما كان أعظم كان القيراط منه بحسبه، اهـ. ولا سيما بحسب الإخلاص والمشقة. ولما كان المتعارف به حقيرًا نبه الشارع على عظم القيراط الحاصل لمن فعل ذلك لما (قيل) له (وما القيراطان) أي الحاصلان لمن شهد الجنازة حتى يصلى عليها وتبعها حتى تدفن (قال مثل الجبلين العظيمين) ولمسلم "كل قيراط مثل أحد"

فصل في دفنه

وللنسائي "كل واحد منهما أعظم من أحد" ولمسلم "أصغرهما مثل أحد". وعند ابن عدي. من رواية واثلة "كتب له قيراطان من الأجر أخفهما في ميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد". فبين أن زنة الثواب المترتب على ذلك العمل مثل الجبلين العظيمين. وكثيرًا من يمثل الشارع أمور الآخرة بأمور الدنيا للتقريب إلى الأفهام وإلا فذرة من ذرات الآخرة خير من الدنيا بأسرها وأمثالها معها. وخص الصلاة عليه والدفن بالذكر لكونهما المقصود بخلاف باقي أحوال الميت فإنها وسائل. وسأل ابن عمر عائشة هل قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت صدق أبو هريرة. فقال ابن عمر لقد فرطنا في قراريط كثيرة وكان يصلي عليها ثم ينصرف فلما بلغه جد في اتباعها حتى تدفن. وفيه الترغيب في حضور الميت والصلاة عليه ودفنه. وفيه أيضا الدلالة على عظم فضل الله وتكريمه للميت وإكرامه بجزيل الثواب لمن أحسن إليه بعد موته. فصل في دفنه أي في صفة حمل الميت ودفنه والقيام عليه وأحكام القبور ووصول الثواب إلى الميت وغير ذلك ودفن الميت المسلم مشروع بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين. وفرض كفاية إجماعا. وكذا حملة ومؤونتهما والمراد على علمه كباقي مؤن

التجهيز. وفعلها بر وطاعة وإكرام للميت. ويكره أخذ الأجرة على ذلك ويسقط بفعل كافر وغيره كتكفينه لعدم اعتبار النية اتفاقا. قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} وعاء ومعنى الكفت الضم والجمع {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم وتكفتهم أمواتا في بطنها أي تحوزهم إذ يدفنون فيها. (وقال: ثم أماته فأقبره) أي جعل له قبرًا يوارى فيه. ولم يجعله ملقى للسباع والطيور. أو أقبره أي ستره الله بحيث يقبر وجعله ذا قبر يدفن وهذه مكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات. (وقال: وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) أي لا تقف عليه ولا تول دفنه. وقال أكثر المفسرين لا تقم على قبره بالدعاء والاستغفار بعد الفراغ من دفنه وذلك أنه كان عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسلمين وتقدم أصل القصة. قال شيخ الإسلام لما نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن القيام على قبور المنافقين كان دليل الخطاب أن المؤمنين يقام على قبورهم بعد الدفن واستحبه هو وغيره من أهل العلم وفعله علي وغيره ويأتي. (وقال ابن مسعود: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها) فيضع قائمة السرير اليسرى في المقدمة على كتفه

الأيمن ثم ينتقل إلى المؤخرة ثم يضع قائمته اليمنى المقدمة على كتفه اليسرى ثم ينتقل إلى المؤخرة فتكون البداءة من الجانبين بالرأس والخاتمة من الجانبين بالرجلين وهو مذهب أبي جنيفة والشافعي وأحمد وأصحاب مالك. وقال مالك وهو وما بين العمودين سواء لما فيها من الموافقة لكيفية غسله. قال ابن مسعود رضي الله عنه (فإنه من السنة) وقول الصاحبي من السنة له حكم الرفع (رواه ابن ماجه) وابن أبي شيبة وغيرهما ورواته ثقات. وكره الآجري وغيره الازدحام عليها لمخالفة الإسراع المأمور به. ويباح أن يحمل كل واحدة على عاتقه بين العمودين وهو الأفضل عند الشافعية لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين. وروي عن سعد وابن عمر وأبي هريرة أنهم فعلوا ذلك. وعثمان حمل سريرًا بين العمودين فلم يفارقه حتى وضع. ويبدأ من عند رأسه ثم من عند رجليه لكن المؤخر إن توسط بين العمودين لم ير ما بين قدميه فلا يهتدي إلى المشي فيحمله حينئذ ثلاثة. ويستحب أن يكون على نعش بعد أن يغسل ويكفن مستلقيا على ظهره إن أمكن وتغطية نعشها بمكبة كالقبة لأنه أستر لها. ويروى أن فاطمة صنع لها ذلك بأمرها. قال ابن عبد البر هي أول من غطي نعشها في الإسلام. ثم زينب بنت جحش ويجعل فوق المكبة ثوب وكذا إن كان بالميت حدب.

وكره تغطيته بغير أبيض ولا بأس بحمله على دابة لغرض صحيح كبعد قبره وسمن مفرط. ويجزئ الحمل على سرير أو لوح أو محمل وأي شيء حمل عليه ولا يحرم حمله على هيئة مزرية كفي قفة وغرارة وزنبيل ومكتل وعلى هيئة يخاف معها سقوطه بل يكره. وفي الفروع يتوجه احتمال يحرم وفاقا للشافعي. ولا بأس بحمله على الأيدي والرقاب كطفل. (وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أسرعوا بالجنازة) أي بحملها إلى قبرها والإسراع ضرب من العدو وهو عدو فسيح سريع دون العنق وفوق السعي والجمهور أن المراد بالإسراع ما فوق سجيه المشي المعتاد. قال الموفق وغيره هذا الأمر للاستحباب بلا خلاف بين العلماء وشذ ابن حزم فقال بوجوبه والمراد شدة المشي. ولأبي داود وغيره بأسانيد صحيحة عن أبي بكرة "لقد رأيتنا ونحن نرمل رملاً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وللبخاري في تاريخه عن محمود "أسرع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ". وذكر غير واحد من أهل العلم: لا يفرط في الإسراع فتمخض مخضا ويؤذي متبعها. ولأحمد عن أبي موسى أنه عليه الصلاة والسلام "مر بجنازة تمخض مخضا فقال عليكم بالقصد في جنائزكم" فيستحب الإسراع بها بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسد بالميت أو مشقة على الحامل

والمتبع. وتراعى المصلحة والحاجة اتفاقا. فإن خيف عليه من الإسراع مشي به الهوينا. ولا ينبغي الإبطاء في شيء من حالاتها من غسل ووقوف عند القبر. وقال ابن القيم وأما دبيب الناس اليوم خطوة خطوة فبدعة مكروهة مخالفة للسنة ومتضمنة للتشبه بأهل الكتاب. وأخبر عليه والسلام بالعلة في الإسراع فقال (فَإِنْ تَكُ) أي الجنازة والمراد به الميت (صالحة) ولفظ الترمذي خيرًا أي ذات خير (ف) ـهو (خير تقدمونها إليه) أي فأسرعوا به حتى يصل إلى تلك الحالة الطيبة. (وإن تك سوى ذلك) ولفظ الترمذي وغيره وإن تك شرا (فشر تضعونه عن رقابكم متفق عليه) وفي لفظ وإن كان غير ذلك وللطبراني من حديث ابن عمر يقول إذا مات أحدكم فلا تحبسوه. وأسرعوا به إلى قبره قال الحافظ إسناده حسن. وتقدم حديث "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله" وفيها المبادرة بتجهيز الميت ودفنه. وفيه دلالة على أن حمل الجنازة يختص بالرجال للإتيان فيه بضمير الذكور. (وعن المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الراكب يمشي خلف الجنازة) قال الخطابي لا أعلمهم يختلفون أن يكون خلفها ولأن سيره أمامها يؤذي متبعها وقال النخعي كانوا يكرهونه وكره جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ركوب تابع

الجنازة لغير حاجة لما وراه الترميذي وغيره أنه عليه الصلاة والسلام "رأي رجلا راكبا مع جنازة فقال ألا تستحيون ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب". ولأبي داود عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أتي بدابة وهو مع جنازة فأبى أن يركبها فلما انصرف أُتي بدابة فركب فقيل له فقال "إن الملائكة تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون فلما ذهبوا ركبت" وأما لحاجة فلا يكره وكذلك لا يكره رجوعه راكبا ولو لغير حاجة لما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "تبع جنازة ابن الدحداح ماشيا ورجع على فرس" رواه مسلم (والماشي كيف شاء منها رواه الخمسة وصححه الترمذي) قال الموفق وغيره حيث مشى فحسن يمينها أو شمالها أو خلفها أو أمامها. ويؤيده سنية الإسراع وأنهم لا يلزمون مكانا واحدا يمشون فيه لئلا يشق عليهم أو على بعضهم. وقال البيهقي وغيره الآثار في المشي أمامها أكثر وأصح وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء. قال ابن المنذر ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة ورواه الخمسة وغيرهم. وقال الترمذي روي عن بعض الصحابة أنهم يتقدمون الجنازة فيجلسون قبل أن تنتهي إليهم. ولا يكره أن يكونوا خلفها. وقال الأوزاعي: إنه الأفضل لأنها متبوعة والقرب من الجنازة أفضل فإن بعد أو تقدم إلى القبر

فلا بأس لكن بحيث أن ينسب إليها. وتقدم حديث "من تبعها وكان معها حتى يفرغ من دفنها فله قيراط". وفي الصحيحين من حديث البراء أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع الجنازة وهو من حقوق الإسلام لقوله للمسلم على المسلم ست وعدَّ منها اتباع جنازته وفي لفظ يشهدها أي يحضرها ليصلي عليه ويدفنه. واتباعها سنة باتفاق المسلمين. وفي الرعاية فرض كفاية للأمر به وهو حق للميت وأهله. قال الشيخ لو قدر أنه لو انفرد الميت لم يستحق هذا الحق لمزاحم أو لعدم استحقاقه بتعه لأجل أهله إحسانا إليهم لتألف أو مكافأة أو غير ذلك وذكر فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الله بن أُبي وذكر الآجري أنه من القضاء لحق أخيه المسلم. واتباعها على ثلاثة أضرب أحدها أن يصلي عليها، ثم ينصرف. والثاني أن يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن. والثالث أن يقف بعد الفن على القبر ويسأل له التثبيت ويدعو له بالمغفرة والرحمة. (وعن أم عطية نهينا) أي معشر النساء (عن اتباع الجنائز متفق عليه) أي أن نصل إلى القبور وظاهرة التحريم ولأبي يعلى من حديث أنس قال "أتحملنه قلن لا. قال أتدفنه قلن لا. قال فارجعن مأزروات غير مأجورات" ونقل النووي أنه لا خلاف في ذلك ولم يكن يخرجن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا

على عهد خلفائه. وقولها ولم يعزم علينا ظن منها رضي الله عنها أنه ليس نهي تحريم والحجة في قوله - صلى الله عليه وسلم - لا في ظن غيره. ويكره أن يتبعها مع منكر إن عجز عن إزالته. وقيل يتبعها وينكره بحسبه وإن قدر وجب الإنكار وتأكد الاتباع لحصول المقصودين. ويكره رفع الصوت معها ولو بقراءة أو تهليل حكاه الشيخ وغيره اتفاق المسلمين لأنه بدعة ولنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تتبع الجنازة بصوت أو نار رواه أبو داود. قال ابن المنذر يكرهه كل من نحفظ عنه. وكان من فعل أهل الكتاب وقد شرط عليهم أن لا يفعلوا ذلك. ونهينا عن التشبه بهم فيما ليس هو من سلفنا الأول فكيف. وقد نهينا عنه وحرمه جماعة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهم وكذا قوله (استغفروا له) ونحوه بدعة. قال ابن عمر وسعيد بن جبير لا غفر الله لك بعد وأجمعوا على النهي على اتباعها بنار إلا لحاجة. وروى ابن ماجه عن أبي بردة قال. أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال لا تتبعوني بجمر فقالوا له أو سمعت فيه شيئا قال نعم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وللترمذي عن أبي هريرة مرفوعا "لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار ولا يمشي بين يديها بصوت ولا نار" وله شواهد وذلك لأنه من شعار الجاهلية والنصارى ولما فيه من التفاؤل ومن ثم قالوا يحرم.

(ولهما عن أبي سعيد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا) ولمسلم "إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا" وروي غير ذلك وكلها ترجع لتعظيم أمر الله وتعظيم أمر القائمين به، وللترمذي "فقوموا حتى تخلفكم أو توضع" وفي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قام لجنازة يهودي وجاء عن علي أنه - صلى الله عليه وسلم - "قام ثم قعد". قال النووي المختار في القيام للجنازة أنه مستحب واختاره الشيخ وغيره وقال أحمد إن قام لم أعبه وإن قعد فلا بأس. وقال قوم بالتخيير وبه تتفق الأدلة (فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع) ولأحمد في الأرض وقال البخاري باب من شهد الجنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال وللنسائي من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ما راينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "شهد جنازة قط فجلس حتى توضع" وللبيهقي عن أبي هريرة وابن عمران القائم مثل الحامل في الأجر. قال النووي وغيره مذهب جمهور أهل العلم استحبابه وقد صحت الأحاديث باستحباب القيام إلى أن توضع، ولم يثبت في القعود شيء إلا حديث علي ويحتمل أنه لبيان الجواز أو نسخ قيام القاعد دون استمرار قيام مشيعها كما هو المعروف من مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة وإن سبق إلى القبر وشق جلس لما في انتظاره قائما حتى تصل إليه وتوضع من المشقة ولأبي داود وغيره عن البراء خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فانتهينا إلى

القبر ولم يلحد بعد فجلس مستقبلا القبلة وجلسنا معه وتقدم أن بعض الصحابة يتقدمون الجنازة فيجلسون قبل أن تنتهي إليهم. واستحب الجمهور أن يسجى قبر المرأة لأنها عورة فلا يؤمن أن يبدو منها شيء فيراه الحاضرون ويكره لرجل بلا عذر كمطر ونحوه ولأنه ليس بعورة وكشفه أبعد عن التشبه بالنساء وقال علي رضي الله عنه وقد مر بقوم يدفنون ميتًّا وبسطوا على قبره الثوب فجذبه وقال إنما يصنع هذا بالنساء رواه سعيد وغيره. (ولمسلم عن سعد) يعني ابن أبي وقاص رضي الله عنه (قال الحدوا) بوصل الهمزة وفتح الحاء (لي لحدا) وأصل اللحد الميل وسمي لحدا لأنه شق يعمل في جانب القبر فيميل عن وسطه وهو هنا الشق تحت الجانب القبلي من القبر يسع الميت، ولولا مزيد فضله ما عانوه وهو الذي اختاره الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا يختار له إلا الأفضل. فإنه كان في المدينة رجلان أحدها يلحد والثاني يشق فأرسلوا إليهما وقالوا من جاء عمل عمله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء الذي يلحد فأمروه أن يلحد للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وللخمسة "اللحد لنا والشق لغيرنا"، وللترمذي وصححه "فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، واتفق الأئمة وغيرهم على أن اللحد أفضل من الشق.

واتفقوا على أن السنة اللحد وأن الشق ليس بسنة. وأجمعوا على أن الدفن في اللحد والشق جائزان. والشق أن يحفر في وسط القبر كالنهر ويبني جانباه فإن كان ثم عذر بأن كانت الأرض رخوة لا يثبت فيها اللحد ولا يمكن رفع انهيارها بنصب لبن ولا حجارة ونحوها شق فيها للحاجة، وإلا كره كإدخاله خشبا وما مسته النار لكراهة السلف لذلك. وكذا دفن في تابوت ولو امرأة إجماعا ويسن أن يوسع ويعمق لقوله في قتلى أحد: "احفروا وأوسعوا وعمقوا" صححه الترمذي قال سعد رضي الله عنه (وانصبوا عليَّ اللبن) بفتح فكسر (نصبا كما فعل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وله شواهد. واتفق الصحابة على ذلك ونقلوا عددا اللبن تسعا. فيسن نصب اللبن عليه نصبا اتفاقا. ويجوز ببلاط وغيره. ويتعاهد خلاله بالمدر ونحوه. ثم يطين فوق ذلك لئلا ينتخل عليه التراب منها لقوله "سدوا خلال اللبن" ثم قال "وليس هذا بشيء ولكن يطيب نفس الحي" رواه أحمد وغيره. ومن مات بسفينة ولم يمكن دفنه في البرية –ولو حبس يوما أو يومين ما لم يخافوا عليه الفساد- ألقي في البحر بعد غسله وتكفينه والصلاة عليه وتثقيله بشيء ليستقرَ في قرار البحر. وإن مات في بئر أُخرج وجوبا ليغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن وإلا طمت إن لم يحتج إليها. والسنة أن يسل في القبر وكذا في البحر من قبل رجلي القبر لأنه عليه الصلاة والسلام

سل من قبل رأسه رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح. وأدخل عبد الله بن زيد بن الحارث من قبل رجلي القبر وقال هذا من السنة رواه أحمد وغيره. وله عن أنس أنه كان في جنازة فأمر بالميت فسل من عند رجلي القبر وهو المعروف عن الصحابة والتابعين. قال الشافعي لا يختلفون أنه يسل سلا وإن لم يكن أسهل أدخل من حيث سهل. وقال أبو حنيفة يدخل معترضا وقال مالك هما سواء. (وعن ابن عمر كان - صلى الله عليه وسلم - إذا وضع الميت في القبر قال بسم الله) أي وضعناك (وعلى ملة رسول الله) - صلى الله عليه وسلم - أي دينه وشريعته. وفي رواية "وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي سلمناك: وفي رواية "إذا وضعتم موتاكم في القبور فقولوا بسم الله وعلى ملة رسول الله" - صلى الله عليه وسلم - رواه الخمسة و"حسنه الترمذي". فيستحب هذا الذكر عند وضع الميت في قبره. وإن قرأ: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} أو أتى بذكر أو دعاء لائق بالمحل فلا بأس لفعله - صلى الله عليه وسلم - وفعل أصحابه. ويقدم بدفن رجل من يقدم بغسله لأنه عليه الصلاة والسلام تولى دفنه العباس وعلي وأسامة وهم الذين تولوا غسله. ولأنه أقرب إلى ستر أحواله. ويدفن امرأة محارمها الرجال الأقرب فالأقرب ممن يحل له النظر إليها. قال الزركشي لا نزاع في ذلك والترتيب مستحب.

ثم أجانب لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا طلحة فنزل قبل امرأة وهو أجنبي. (وعن عبيد بن عمير) بن قتادة بن سعد الليثي وعبيد تابعي مشهور وأبوه عمير له صحبة سكن مكة ولم يرو عنه غير ابنه (قال - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة) بعد أن ذكر الكبائر ثم قال "واستحلال البيت الحرام (قبلتكم أحياء وأمواتا، رواه أبو داود) والنسائي. فأما التوجه إليها في الحياة في الصلاة فبالكتاب والسنة والإجماع. وأما إذا وضع في اللحد فبلا نزاع. وقد دل الحديث وغيره على سنية وضع الميت في لحده متوجها إلى القبلة ويكون على شقه الأيمن. والنبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه صُنِعَ بهم كذلك بلا نزاع وهو طريق المسلمين. بنقل الخلف عن السلف لا يمتري فيه مسلم. ولأنه يشبه النائم وسنته أن ينام على شقه الأيمن مستقبل القبلة. وينبغي أن يدنى من الحائط لئلا ينكب على وجهه فيسند وجهه ورجلاه إلى جدار القبر أو يسند أمامه بتراب ومن ورائه لئلا ينقلب ويجعل تحت رأسه لبنة فإن لم توجد فحجر. وتكره المخدة والمضربة اتفاقا. وكذا قطيفة ونحوها وتحل العقد لما تقدم وللاستغناء عنها لأنها إنما تعقد لخوف الانتشار عند حمله ونحوه. (وعن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - حثى عليه) أي على قبر الميت

والحثو الأخذ بالكفين معا أو أحدهما (من قبل رأسه ثلاثا رواه ابن ماجه) بسند جيد ونحوه للدارقطني والبيهقي عن عامر بن ربيعة. ولأن مواراته فرض كفاية وبالحثو يكون فيمن شارك فيها. ولأن في ذلك أقوى عبرة واستذكار فاستحب ذلك. ولأحمد بسند ضعيف أنه عليه الصلاة والسلام لما وضع ابنته في القبر قال {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ}. وفَيهِا نعيدكم. ومنها نخرجكم تارة أخرى) واستحب بعض أهل العلم أن يقال بذلك عند حثي التراب استئناسا بهذا الخبر. وروي عن علي أنه كان إذا حثى على ميت قال اللهم إيمانا بك وتصديقا برسولك وإيقانا ببعثك "هذا ما وعد الله ورسوله وصدق الله رسوله" ثم يهال التراب على القبر. (وعن عثمان) بن عفان رضي الله عنه (قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه) أي على قبر الميت (وقال استغفروا لأخيكم سلوا له التثبيت) أي عند سؤال الملكين له (فإنه الآن) أي هذا الوقت (يسأل) من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ أو يقال له ما كنت تبعد. فيقول: أعبد الله فيقال له ما هذا الرجل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله. أو يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أو يقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته أو

يقول غير ذلك مما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (رواه أبو داود) وصححه البزار والحاكم وتقدم قوله تعالى: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} وقال تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} وقال: {اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال ابن المنذر وغيره جمهور أهل العلم قالوا بمشروعية الوقوف على قبره والاستغفار له. وقال الترمذي الوقوف على القبر والسؤال للميت مدد للميت بعد الصلاة عليه. لأن الصلاة بجماعة المسلمين كالعسكر له قد اجتمعوا بباب الملك يشفعون له والوقوف على القبر وسؤال التثبيت مدد للعسكر وهو ثمرة دعاء العسكر في الصلاة عليه وتلك ساعة شغل الميت لأنه استقبله هول المطلع وسؤال الفتانين كما هو مستفيض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومجمع عليه. وقد أجلسته لتسأله فيستحب الوقوف عليه والدعاء له بالتثبيت فهو في قبره كالغريق ينتظر دعوة تلحقه من قريب أو صديق. (وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رُفِعَ قبره) أي رفعه الصحابة رضي الله عنهم (عن الأرض قدر شبر رواه الشافعي) محمد بن إدريس القرشي الشافعي الإمام الشهير المتوفى سنة أربع ومائتين. ورواه ابن حبان في صحيحه وأبو بكر الساجي وغيرهم. ولأبي داود وغيره بإسناد صحيح عن القاسم. قلت لعائشة اشكفي لي عن قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه رضي الله

عنهما فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. فدلت هذه الأخبار مع ما يأتي من النهي عن رفع القبور والزيادة على ترابها أن يرفع القبر عن الأرض قدر شبر واستحبه أهل العلم ليعرف فيزار ويحترم. وما يأتي من الأمر بتسويتها محمول على ما كانوا يفعلونه من تعلية القبور بالبناء. قال ابن القيم وهذه الآثار لا تضاد بينها. والأمر بتسوية القبور إنما هو تسويتها بالأرض وأن لا ترفع مشرفة عالية. وهذا لا يناقض تسنيمها يسيرا في الأرض ولا يزاد على الشبر. فإن الزيادة على المشروع محرم. وينبغي أن يسنم لما روى البخاري عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنما. وعن الحسن مثله وهو مذهب الجماهير أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم إلا ما ذهب إليه بعض الشافعية من التسطيح وينبغي وضع حصباء عليه لفعل الصحابة بقبره - صلى الله عليه وسلم -. وللبزار أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر به أن يجعل على قبر عثمان بن مظعون. وللشافعي أنه وضع على قبر ابنه. ولابن ماجه أنه فعل بقبر سعد ولأنه أثبت له وأبعد لدروسه وأمنع لترابه من أن تذهب به الرياح واستمر عمل المسلمين عليه. وينبغي رشه بماء لما روى الشافعي وغيره أنه عليه الصلاة والسلام رش على قبر ابنه إبراهيم ماء ولا بأس بتعليمه بحجر

ونحوه لما رواه أبو داود وغيره أنه وضع حجرا عند رأس عثمان وقال: "أعلم به قبر أخي أدفن إليه من مات من أهلي" وليعرفه به إذا زاره. (وعنه) أي عن جابر رضي الله عنه قال (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر) أي يبيض بالجص أو بالجير وهو من البدع المحدثة ومن الوسائل المفضية إلى الشرك. وكذا تخليقه يعني طليه بالطيب وتزويقه. وتبخيره ووضع الستائر عليه. وأما تقبيله والتمسح به وكتابة الرقاع عليه ودسها في الأنقاب والاستشفاء به والطواف به والتبرك به والعكوف عنده وسؤاله النفع والضر فمن البدع المحدثة. ومن الشرك بالله. بل عبادة القبور أول شرك حدث على وجه الأرض. (و) نهى (أن يقعد عليه) وللترمذي وصححه "نهى أن تجصص وأن يكتب عليها وأن توطأ لما فيه من الاستخفاف. ولمسلم عن أبي هريرة مرفوعا "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر" وله عن أبي مرثد "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" قال الخطابي وغيره ثبت أنه نهى أن توطأ القبور وكذا يكره الاتكاء عليها عند الجمهور لما روى أحمد أنه عليه الصلاة والسلام رأى عمرو بن حزم متكئا على قبر فقال: "لا تؤذه" وأفظع منه التخلي عليها وبينها. ولا نزاع في تحريمه إذ هو بيت المسلم فلا يترك عليه شيء من النجاسات بالاتفاق. وكلما

كان الميت أفضل كان حقه أوكد. ويكره المشي في المقبرة بالنعل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألق سبتيتيك" لئلا يطأ بها فوق رءوسهم إلا خوف نجاسة أو شوك ونحوهما مما يتأذى به. وذكر ابن القيم أن إكرامها عن وطئها بالنعال واحترامها من محاسن الشريعة. وقال من تدبر نهيه عن الجلوس على القبر والاتكاء عليه والوطء عليه علم أن النهي إنما كان احتراما لسكانها أن يوطأ بالنعال فوق رءوسهم. وأخبر أن الجلوس على الجمر حتى تخرق الثياب خير من الجلوس على القبر. ومعلوم أن هذا أحق من المشي بين القبور بالنعال. والقبور هي دار الموتى ومنازلهم ومحل تزاورهم وعليها تنزل الرحمة من ربهم. فهي منازل المرحومين ومهبط الرحمة ويلقى بعضهم بعضا على أفنية قبورهم يتجالسون ويتزاورون كما تظافرت به الآثار، اهـ. قال مالك بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت. قال الشيخ: ولهذا روي أنها على أفنية القبور وأنها في الجنة والجميع حق اهـ. ولا يجاورون بما يؤذي الأموات من الأقوال والأفعال الخبيثة فإن لها من الحرمة ما جاءت به السنة. (وأن يبنى عليه رواه مسلم) وأبو داود والترمذي وغيرهم وصححه وللنسائي "نهى أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه" وظاهره تحريم الكتابة عليه. ولمسلم

عن علي مرفوعا "لا تدعن صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته" والمشرف ما رفع كثيرا عن المأذون فيه. وأمر فضالة بقبر فسوي وقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها رواه مسلم. والنهي عن البناء على القبور مستفيض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجهه وأمر عليه الصلاة والسلام بهدمه. وقال الشافعي رأيت العلماء بمكة يأمرون بهدم ما يبنى عليها. والبناء عليها من وسائل وذرائع وعلامات الكفر وشعائره والمنع من ذلك كله قطع لتلك الذرائع المفضية إلى الشرك. والله جل ذكره بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بهدم الأوثان. ولو كانت على قبر رجل صالح. لأن اللات رجل صالح فلما مات عكفوا على قبره وبنوا عليه بنية وعظموها. قال تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} يعني التي كنتم تعبدونها هل نفعت أو ضرت؟ فلما أسلم أهل الطائف أمر - صلى الله عليه وسلم - بهدمها فهدمت. وفيه وفي غيره أوضح دليل على أنه لا يجوز إبقاء شيء من هذه القبب التي بنيت على القبور واتخذت أوثانا ولا لحظة واحدة. وإذا كانت تعبد فهي أوثان كاللات والعزى ومناة بلا نزاع وقال عليه الصلاة والسلام "لا تجعل قبري وثنا يعبد" وقال "لا تجعلوا قبري عيدا" بل تعظيم القبور بالبناء ونحوه هو أصل شرك العالم الذي أرسلت الرسل وأنزلت الكتب بالنهي عنه والوعيد على فاعله بالخلود في النار.

ويحرم إسراجها واتخاذ المساجد عليها. قال شيخ الإسلام: يتعين إزالتها لا أعلم فيه خلافا بين العلماء سواء كانت قبور أنبياء أو غيرها لما في السنن وغيرها "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" وفي الصحيحين "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ولهما أيضا "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" والنهي عنه مستفيض عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن القيم: لو وضع المسجد والقبر معا لم يجز. ولم يصح الوقف ولا الصلاة "وعن هشام" بن عامر الأنصاري استشهد في غزوة كابل بعد أن أبلى فيها "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في قتلى أحد احفروا وأوسعوا" وتقدم الندب في توسيعه "وأحسنوا" وفيه الأمر بتحسين القبر "وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد" وذلك أنه شكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثرة الجراحات "رواه الأربعة وصححه الترمذي" وفي لفظ قالوا: الحفر علينا لكل إنسان شديد فقال "ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد" وفي الصحيح عن جابر "كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد ثم يقول أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فيقدمه في اللحد" فيجوز دفن اثنين وثلاثة للضرورة عند الجمهور أبي حنيفة والشافعي وأحمد. وروى عبد الرزاق عن واثلة أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه. وكان يجعل

بينهما حائلا من تراب ليصير كل واحد كأنه في قبر منفرد ولا سيما إن كانا أجنبيين. وإذا دفن اثنين فأكثر في قبر واحد فإن شاء سوى بين رءوسهم وإن شاء حفر قبرا طويلا وجعل رأس كل واحد عند رجلي الآخر أو وسطه كالدرج ويجعل رأس المفضول عند رجلي الفاضل. ويكره دفن اثنين فأكثر معا من غير ضرورة وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد اختارها الشيخ وغيره. وكذا دفن واحد بعد واحد قبل بلاء السابق لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدفن كل ميت في قبر. وعلى هذا استمر فعل الصحابة ومن بعدهم من السلف والخلف. وإذا وجد عظام ميت دفنها في محلها. ولا يدفن آخر عليه بل يحرم نبش قبر ميت باق لذلك. ومتى ظن أنه بلي جاز ومتى كان رميما جازت الزراعة والحرث وغير ذلك ما لم يخالف شرط واقف إجماعا وإلا فلا. وفي المدخل اتفق العلماء على أن الموضع الذي دفن فيه المسلم وقف عليه ما دام منه شيء ما موجودا فيه حتى يفنى فإذا فني حينئذ يدفن غيره فيه فإن بقي شيء ما من عظامه فالحرمة باقية كجميعه والعظام تبقى مدة طويلة ولا تأثير لتمزق اللحوم. ولا يجوز أن يحفر عليه ولا يدفن معه غيره ولا يكشف عنه اتفاقا قال تعالى {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}

فالستر في الحياة ستر العورات. وفي الممات ستر جيف الأجساد وتغير أحوالها. فالبنيان في القبور ونحو ذلك سبب لخرق هذا الإجماع وانتهاك حرمة موتى المسلمين في حفرهم قبورهم والكشف عنهم، اهـ. ومن نبش القبور التي لم تبل أربابها وأدخل أجانب عليهم فهو من المنكر الظاهر وليس من الضرورة المبيحة لجمع ميتين فأكثر في قبر. وكره الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها وقيامها. وتقدم الحديث في ذلك ويجوز ليلا ذكره النووي وغيره قول جماهير العلماء لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليهم إلا أنه كفن في ثوب غير طائل ولم يعلموه به. ودفنوا أبا بكر ليلا. وفاطمة. وكان ذلك كالإجماع على الجواز. وذكر الوزير اتفاقهم على كراهته ليلا. ونهارا أولى إجماعا لحضور كثرة المصلين وتحسين الكفن وغير ذلك وللأحاديث الصحيحة. والخروج من الخلاف. وقال ابن القيم الذي ينبغي أن يقال إنه متى كان الدفن ليلا لا يفوت به شيء من حقوق الميت والصلاة عليه فلا بأس به. وعليه تدل أحاديث الجواز وإن كان يفوت بذلك حقوقه والصلاة عليه وتمام القيام عليه نهي عن ذلك. وعليه يدل الزجر. اهـ. ودفن في صحراء أفضل من الدفن بعمران. لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدفن أصحابه بالبقيع واستمر عمل المسلمين على ذلك في سائر

الأمصار سوى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه قبر ببيته. وقالت عائشة خشي أن يتخذ قبره مسجدا رواه البخاري وغيره. ولما روي "تدفن الأنبياء حيث يموتون" وقال أبو بكر سمعته يقول "ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه". ورأى أصحابه تخصيصه بذلك. واختار صاحباه الدفن عنده تشرفا به - صلى الله عليه وسلم -. وجاءت أخبار تدل على دفنهم كما وقع ويستحب قريبا من الشهداء والصالحين لينتفع بمجاورتهم ولأنه أقرب إلى الرحمة. قال الشيخ إنه يخفف العذاب عن الميت بمجاورة الرجل الصالح كما جاءت بذلك الآثار المعروفة ولتناله بركتهم. ويستحب جمع الأقارب في بقعة لتسهل زيارتهم ولأنه أبعد لاندراس قبورهم. وتقدم قوله في قبر عثمان "لأدفن إليه من مات من أهلي". وكذا في البقاع الشريفة فقد سأل موسى ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة متفق عليه. وسأل عمر الشهادة في سبيل الله والموت في بلد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولا بأس بتحويل الميت ونقله إلى مكان آخر لغرض صحيح كبقعة شريفة ومجاورة صالح مع أمن التغير لفعل الصحابة وغيرهم إلا القتلى في سبيل الله فلا يحولون لحديث ادفنوا القتلى في مصارعهم. وتدفن ذمية حامل من مسلم وحدها إن أمكن. قال الشيخ لا تدفن في مقابر المسلمين ولا في مقابر النصارى. لأنه اجتمع مسلم وكافر فلا يدفن الكافر مع المسلم. ولا المسلم مع الكافر. بل تدفن منفردة لأنها إذا

دفنت في مقبرة المسلمين تأذوا بعذابها. وإذا دفنت في مقبرة النصارى تأذى الولد بعذابهم. وتأذيه بعذابها ضرورة وهو أخف من عذاب المجموع. فإن لم يمكن دفنها وحدها فمعنا على جنبها الأيسر وظهرها إلى القبلة ليكون الجنين على جنبه الأيمن مستقبلا القبلة وهو مسلم بإسلام أبيه. وإن كانت أمه كافرة باتفاق المسلمين، وقال: لابد أن تكون مقابر المشركين متميزة عن مقابر المسلمين تميزًا ظاهرًا بحيث لا يختلطون بهم ولا يشبه المسلمين بقبور الكفار وهو أكبر من التميز بينهم حال الحياة فإن في مقابر المسلمين الرحمة وفي مقابر الكافرين العذاب. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أمي لو تكلمت تصدقت) وذلك أنها افتلتت نفسها فلم توص بشيء من أعمال البر (فهل لها أجر إن تصدقت لها؟ قال: نعم متفق عليه) وللبخاري عن ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: (نعم) قال فإن لي مخرفا أي حديقة من نخل وعنب أو غيرهما فإن أشهدك أني قد تصدقت بها عنها. ولأحمد عن سعد بن عبادة أن أمه ماتت فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال"نعم قلت فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء" قال الحسن: فتلك سقاية آل سعد بالمدينة وله من

حديث عمرو بن العاص إن أباه نذر أن ينحر مائة بدنة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "لو أقر أبوك بالتوحيد فصمت عنه أو تصدقت عنه نفعه ذلك" قال أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير للنصوص الواردة فيه. وقال ابن القيم: من صلى أو صام أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء جاز ويصل ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة. وقال شيخ الإسلام اتفق أئمة الإسلام على انتفاع أهل الميت بالدعاء له وما يعمل عنه من البر وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام. وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع فمن خالف ذلك كان من أهل البدع. وذكر استغفار الملائكة والرسل والمسلمين للمؤمنين. وما تواتر من الصلاة على الميت والدعاء له. وما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن توفيت أمه وقال أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال "نعم" وغير ذلك وذكر اتفاقهم على وصول الصدقة ونحوها وتنازعهم في العبادات البدنية كالصلاة والصوم والحج والقراءة. وذكر ما في الصحيحين من حديث عائشة "من مات وعليه صيام صام عنه وليه". وعن ابن عباس وفيه "فصومي عن أمك" وحديث عمر وإذا صاموا عن المسلم نفعه وما ورد في الحج وغير ذلك. ثم قال. فهذا الذي ثبت بالكتاب والسنة والإجماع علم مفصل مبين. ثم قال ولم يخالف هذه الأحاديث الصحيحة

الصريحة من بلغته وإنما خالفها من لم تبلغه ولا ينافي قوله {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ولا قوله "إذا مات ابن آدم انقطع عمله" إلخ لأن ذلك ليس من عمله والله تعالى يثيب هذا الساعي وهذا العامل على سعيه وعمله يرحم هذا الميت بسعي هذا الحي وعمله بسعي غيره وليس من عمله. ثم ذكر أن أفضل العبادات ما وافق هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه وقول ابن مسعود من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأن الذي كان معروفا بين المسلمين في القرون المفضلة أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة فرضها ونفلها ويدعون للؤمنينن والمؤمنات كما أمر الله بذلك لأحيائهم وأمواتهم في قيام الليل وغيره. وفي صلاتهم على الجنائز وعند زيارة القبور وغير ذلك من مواطن الإجابة. ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعا وصاموا تطوعا وحجوا أو قرءوا القرآن يهدون ذلك لموتاهم المسلمين. بل كان من عادتهم الدعاء كما تقدم فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف إنه أفضل وأكمل. ولم ير هو وغيره من أهل التحقيق الإهداء للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال: فإن له كأجر العامل فلم يحتج إلى أن يهدى إليه ثواب صلاة أو صدقة أو قراءة من أحد. ورآه هو وبعض الفقهاء بدعة. ولم يكن الصحابة يفعلونه وفي الاختيارات لا يستحب اهداء القرب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو بدعة

هذا هو الصوات المقطوع به، اهـ. ومن البدع المحدثة القراءة علىلقبر والآثار في النهي عن العكوف على القبر واعتياده متظاهرة. وكان أحمد وغيره من السلف ينكر القراءة على القبر وكرهها أبو حنيفة ومالك بل عامة السلف أنكروها وشددوا فيها. قال شيخ الإسلام نقل الجماعة كراهتها وهو قول جمهور السلف وعليه قدماء الأصحاب. وعن أحمد بدعة وهو مذهب الشافعي لأنه ليس من فعله - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعل أصحابه فعلم أنه محدث. وسأله عبد الله يحمل مصحفا إلى القبر فيقرأ عليه قال: بدعة. قال الشيخ ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين أن القراءة عند القبر أفضل. ولا رخص في اتخاذها عنده أحد منهم كاعتياد القراءة عنده في وقت معلوم. أو الذكر أو الصيام. وقال: واتخاذ المصاحف عندها ولو للقراءة فيها بدعة. ولو نفع الميت لفعله السلف ولا أجر للميت بالقراءة عنده. ومن قال إنه ينتفع بسماعها دون ما إذا بعد القارئ فقوله باطل مخالف للإجماع. ولا ريب أن القراءة على القبر عكوف كما يعتاد عباد القبور العكوف عندها بأنواع القرب. وهذا العكوف يضاهي العكوف في المساجد بالطاعات. (وعن عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله هو أول من ولد بالحبشة من المسلمين وتوفي سنة سبع

وثمانين وله تسعون (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اصنعوا لآل جعفر) أي أهله الذين كانوا في نفقته أو الذي يأوون معه في بيته ويتولون أمره. والأول هو المعروف في اللغة أي اعملوا لهم "طعاما" ليشبعهم يومهم وليلتهم. (فقد أتاهم) أي دهمهم من المصيبة بموت جعفر رضي الله عنه (ما يشغلهم) عن أنفسهم بفتح الياء والغين. قال الزبير فعمدت سلمى مولاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى شعير فطحنته وأدمته بزيت جعل عليه وبعث به إليهم (رواه الخمسة إلا النسائي وحسنه الترمذي) وصححه ابن السكن فدل على مشروعية القيام بمؤنة أهل الميت مما يحتاجون إليه من الطعام لاشتغالهم عن أنفسهم وهو مذهب الشافعي وأحمد. ويروى عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال. فما زالت تلك السنة فينا حتى تركها من تركها يعني من أمره عليه الصلاة والسلام بصنع الطعام لآل جعفر. وكان قتل رضي الله عنه في جمادى سنة ثمان من الهجرة في غزوة مؤتة موضع معروف بالشام عند الكرك اقتحم عن فرسه فعقرها. وكان أول من عقر في الإسلام ثم قاتل حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه. ووجد فيما أقبل من جسده بضعا وتسعين ما بين طعنة ورمية. وسمي ذا الجناحين لأنه قاتل حتى قطعت يداه. قالت عائشة لما جاءت وفاته رئي في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحزن. وهو أحد السابقين الأولين شقيق علي

ولد قبله بعشر سنين. قال أبو هريرة إنه أفضل الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الصحيح أنه قال له أشبهت خلقي وخلقي. ويستحب لجيران أهل الميت والأقرباء الأباعد تهيئة طعام يشبعهم. ويقصد بالطعام أهل الميت لا من يجتمع إليهم. قال شيخ الإسلام لكن إنما يطيب إذا كان بطيب نفس المهدي وكان على سبيل المعاوضة مثل أن يكون مكافأة عن معروف مثله. فإن علم الرجل أنه ليس بمباح لم يأكل منه وإن اشتبه أمره فلا بأس بتناول اليسير منه إذا كان فيه مصلحة راجحة مثل تأليف القلوب ونحو ذلك، اهـ. ويكره لأهل الميت فعل الطعام للناس لما روى أحمد عن جرير قال. كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة وإسناده ثقات. قال أحمد هو من فعل أهل الجاهلية ولأنه معونة على مكروه. وهو اجتماع الناس عند أهل الميت. بل هو بدعة وخلاف السنة لأنهم مأمورون أن يصنعوا لأهل الميت طعاما فخالفوا الأمر وكلفوهم صنع الطعام لغيرهم. وقد علل - صلى الله عليه وسلم - بما هم فيه من الشغل بمصابهم. قال الموفق وغيره إلا من حاجة كأن يجيء من يحضر ميتهم من أهل القرى البعيدة ويبيت عندهم فلا يمكن إلا أن يطعموه، اهـ. وأما جمع أهل المصيبة الناس على طعامهم ليقرءوا ويهدوا له. فقال شيخ الإسلام ليس معروفا عند السلف. وقد كرهه

طوائف من العلماء من غير وجه وقرب دفنه منهي عنه وعده السلف من النياحة. وذكر خبر جرير وهذا في المحتسب فكيف بمن يقرأ بالكراء. قال وأكثر من يقرأ ويهدي للميت بدعة لم يفعلها السلف ولا استحبها الأئمة والفقهاء تنازعوا في جواز الاكتراء على تعليمه فأما اكتراء من يقرأ ويهدي فما علمت أحدا ذكره ولا ثواب له فلا شيء للميت. قاله العلماء ولا تنفذ وصية بذلك. وقال الطرطوشي: فأما المآثم فممنوعة بإجماع العلماء. والمأتم هو الاجتماع على المصيبة وهو بدعة منكرة لم ينقل فيه شيء. وكذلك ما بعده من الاجتماع في اليوم الثاني والثالث والرابع والسابع والشهر والسنة فهو طامة. وإن كان من التركة وفي الورثة محجور عليه أو من لم يأذن حرم فعله وحرم الأكل منه. ويحرم الذبح عند القبور والأكل منه. قال شيخ الإسلام: يحرم الذبح والتضحية عند القبر ولو نذره. ولو شرطه واقف فشرطه باطل لحديث أنس "لا عقر في الإسلام" رواه أحمد بسند صحيح وكان من فعل أهل الجاهلية إذا مات فيهم الميت عقروا عند قبره شاة أو بعيرا ويقولون إنه كان يعقر للأضياف أيام حياته فيكافئونه بمثل صنيعه بعد وفاته أو ليكون مطعما في حياته وبعد وفاته. وفي معنى الذبح عند القبر الصدقة عنده. وقال الشيخ

فصل في زيارة القبور

إخراج الصدقة مع الجنازة بدعة مكروهة. وهو يشبه الذبح عند القبر ولا يشرع شيء من العبادات عند القبور الصدقة وغيرها. وأنكر أن يوضع الطعام أو الشراب عند القبر ليأخذه الناس. فصل في زيارة القبور أي في بيان أحكام زيارة القبور وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع وأما الزيارة البدعية فمحرمة بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة ويأتي الفرق بينهما. قال تعالى: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فزيارة الميت المشروعة بالدعاء والاستغفار هي من هذا القيام المشروع وفيها دليل على أن زيارة قبور المسلمين أمر متقرر عند المسلمين وأن الدعاء لهم والاستغفار من أكبر القربات وأفضل الطاعات ورتب الشارع عليها الجزاء الجزيل. (وعن بريدة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور) وذلك أنهم كانوا حدثاء عهد بعبادة القبور والتعلق بها فلما استقر عندهم التوحيد وصاروا هم يعيبون زيارتها أذن لهم فيها ولعل ما روي عن ابن سيرين والنخعي والشعبي من كراهة زيارة القبور: عدم اطلاعهم على نسخ النهي والأمر بالزيارة وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فزوروها رواه مسلم) وغيره من أهل السنن والمساند.

ولهم عن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - "زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله. فقال استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي. واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي. فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" وتقدم الأمر بالإكثار من ذكر الموت وحكى النووي والحازمي وغيرهما إجماع أهل العلم على أن زيارة القبور سنة وهو ما استقر عليه الأمر بعد. وذهب ابن حزم إلى وجوب الزيارة ولو مرة لورود الأمر به وهو مستفيض من طرق كثيرة وتباح زيارة قبر الكافر للاعتبار لفعله - صلى الله عليه وسلم -. (زاد ابن ماجه عن ابن مسعود فإنها تذكرة الآخرة) وصححه الترمذي من حديث بريدة (وتزهد في الدنيا) وسنده صححي وله نحوه عن عائشة. ولأحمد نحوه من حديث أبي سعيد وعلي وكلها دالة على تأكد سنية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها. وفي حديث ابن مسعود. فإنها عبرة وذكر للآخرة وتزهيد في الدنيا. ومن لم يتعظ بالموتى فلا تنفعه موعظة. والحاصل أن المقصود من زيارة القبور الاعتبار والنفع المزور والزائر بالدعاء فلا ينبغي أن يغفل الزائر عن الدعاء لنفسه وللميت ولا عن الاعتبار بحاله كيف تقطعت أوصاله وتفرقت أجزاؤه وكيف يبعث من قبره وأنه عما قريب يلحق به. وقال القرطبي ينبغي أن يتأدب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها ويتعظ بأهلها وأحوالهم ويعتبر بهم وما صاروا إليه. (وعن بريدة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم) أي يعلم

أصحابه رضي الله عنهم (إذا خرجوا إلى المقابر) أن يقولوا (السلام على أهل الديار من المسلمين والمؤمنين) وله من حديث أبي هريرة أنه أتى المقبرة فقال "السلام علكيم دار قوم مؤمنين" ونحوه لأحمد وغيره من حديث عائشة وغيرها بلفظ "السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين" والمراد قبور المسلمين بقوله الزائر لهم أو المار بهم. (وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) والاستثناء للتبرك في قول أكثر أهل العلم وصححه النووي وامتثالا لقوله (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله). وذكر البغوي وغيره أنه راجع للحوق لا الموت أو إلى البقاع والموت واقع لا محالة (نسأل الله لنا ولكن العافية) من كل مكروه (رواه مسلم) وله نحوه من حديث عائشة وفيه ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين. (زاد أحمد عن عائشة اللهم لا تحرمنا أجرهم) أي لا تمنعنا من أجرهم (ولا تفتنا بعدهم) أي لا تضلنا بعدهم وفتنة أضله (واغفر لنا ولهم) وللترمذي من حديث ابن عباس قال "مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر" وكان بعض السلف إذا وقف على المقابر يقول آنس الله وحشتكم ورحم غربتكم وتجاوز عن سيئاتكم وقبل حسناتكم.

والأدعية الواردة في الدعاء للميت المسلم عند زيارته مستفيضة وكان ابن عمر يقول إذا دخل المسجد. السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا أبا بكر. السلام عليكم يا أبت. قال الشيخ وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه. ويسلمون عليه مستقبلي الحجرة مستدبري القبلة عند الأئمة وغيرهم. واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها ولا يدعو مستقبلها فإن هذا منهي عنه باتفاق الأئمة. ويستقبل الزائر وجه والده وغيره قريبا منه كزيارته في حياته ويقول: السلام عليك ورحمة الله وبركاته اللهم اغفر له وارحمه والمزور يسمع كلام الزائر لمفهومها ولما في الصحيحين وغيرهما قال: "إنه ليسمع خفق نعالهم" وقال في قتلى بدر "ما أنت بأسمع لما أقول منهم" وقال إنهم يسمعون الآن وغير ذلك من الأدلة الدالة على أن الميت يسمع في الجملة. وقال الشيخ وابن كثير وغيرهما سماع الموتى هو الصحيح من كلام أهل العلم ولم يكن ليأمر بالسلام علىمن لا يسمع ولا يجب أن يكون السمع له دائما. بل قد يسمع بحال دون حال كما يعرض للحي. وهذا السمع سمع إدراك لا يترتب عليه جزاء ولا هو السمع المنفي في القرآن وإن سمع فلا يمكنه إجابة الداعي ولا ينتفع بالأمر والنهي. وقال ابن القيم الأحاديث والآثار تدل على أن الزائر متى

جاء علم به المزور وسمع سلامه وأنس به ورد عليه وذلك عام في حق الشهداء وغيرهم ولا توقيت في ذلك. وقال الشيخ استفاضت الآثار بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا وإن ذلك يعرض عليه. وجاءت الآثار بأنه يرى ويدري بما فعل عنده ويسر بما كان حسنا ويتألم بما كان قبيحا. وجاءت بتلاقيهم وتسائلهم وعرض أعمال الأحياء على الأموات فيجتمعون إذا شاء الله كما يجتمعون في الدنيا مع تفاوت منازلهم. وسواء كانت المدافن متباعدة في الدنيا أو متقاربة لكن الأعلى ينزل إلى الأسفل والأسفل لا يصعد إلى الأعلى. وللروح اتصال بالبدن متى شاء الله وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك وظهور الشعاع في الأرض وانتباه النائم كما تظاهرت به الآثار. (وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تشد الرحال) جمع رحل وشدها كناية عن السفر ولمسلم "إنما يسافر" وكنى بشد الرحال لأنه لازمه وخرج ذكرها مخرج الغالب وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والحمير وغيرها والمشي إلى موضع فاضل والمراد النهي عن السفر. قال الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي كأنه قال لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلى موضع يتعبد فيه وسدا لذريعة الشرك بالقبور. (إلا إلى ثلاثة مساجد) أي إلا هذه البقاع لاختصاصها

بما اختصت به. قال القاضي عياض والجويني وغيرهما يحرم شد الرحل لغيرها كقبور الصالحين والمواضع الفاضلة للتعبد. وأما لزيارة صديق أو قريب أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي. وكان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم يزورونها ويتبركون بها. فسد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذرائع المفضية إلى الشرك ولئلا يلحق غير الشعائر بالشعائر ولئلا يصير ذريعة إلى عبادة قبره ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها وبدأ بـ (المسجد الحرام) أي المحرم ككتاب بمعنى مكتوب والمراد جميع الحرم أو المسجد ورجح عطاء وغيره الحرم كله لأنه كله مسجد (ومسجدي هذا) وفي لفظ "ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - " ولعله من تصرف الرواة (والمسجد الأقصى) أي بيت المقدس سمي الأقصى لبعده في المسافة عن مكة. وخص الثلاثة لأن الأول إليه الحج والقبلة. والثاني أسس على التقوى. والثالث قبلة بعض الأمم الخالية. ولأنها مساجد الأنبياء فمسجده - صلى الله عليه وسلم - بناه حين قدم المدينة مهاجرا بعد مسجد قباء طوله مما يلي القبلة نحو مائة ذراع والجانبين مثل ذلك أو دونه قليلا وفي الصحيحين عن أبي ذر قلت أي مسجد وضع أولا؟ قال المسجد الحرام قلت ثم أي؟ قال المسجد الأقصى. قلت كم بينهما؟ قال أربعون سنة.

قال الشيخ فالمسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم لكن سليمان بناه بناء عظيما. فكل من المساجد الثلاثة بناه نبي كريم ليصلي فيه هو والناس. ولما كانت الأنبياء تقصد الصلاة في هذ المساجد شرع السفر إليها والعبادة فيها اقتداء بالأنبياء وتاسيا بهم وجاء في فضلها أحاديث كثيرة وفي الصحيحين عن أبي هريرة "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". ولأحمد وغيره عن جابر "وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" وللبيهقي وغيره عنه بسند حسن "صلاة في المسجد الحرام مائة ألف صلاة. وصلاة في مسجدي الف صلاة. وفي بيت المقدس خمسمائة صلاة" وحديث الباب (متفق عليه) من غير وجه وهو في السنن والمساند وغيرها بألفاظ متقاربة. وقال شيخ الإسلام هكذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وهو مروي من طرق أخر. واتفق الأئمة على صحته وأجمعوا على العمل به في الجملة فلا تشد الرحال إلا إلى المسجد الحرام ومسجد المدينة مسجده - صلى الله عليه وسلم - والمسجد الأقصى والنية في السفر إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم - وزيارة قبره مختلفة فمن قصد السفر إلى مسجده للصلاة فيه فهذا مشروع بالنص والإجماع. وكذا من قصد السفر إلى مسجده وقبره معا فهذا قصد مستحب مشروع بالإجماع.

وإن لم يقصد إلا القبر ولم يقصد المسجد فهذا مورد النزاع فمالك والأكثرون يحرمون هذا السفر. وكثير من الذين يحرمونه لا يجوزون قصر الصلاة فيه وآخرون يجعلونه جائزا. وإن كان السفر غير جائز ولا مستحب ولا واجب بالنذر ولم يعرف أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال تستحب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لا تستحب ولا علق بهذا الاسم حكما شرعيا. وقد كره كثير من العلماء التكلم به وذلك اسم لامسمى له ولفظ لا حقيقة له وإنما تكلم به من تكلم من بعض المتأخرين ومع ذلك لم يريدوا ما هو المعروف من زيارة القبور فإنه معلوم أن الذاهب إلى هناك إنما يصل إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم -. والمسجد نفسه يشرع إتيانه سواء كان القبر هناك أو لم يكن وذكر ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن اتخاذ قبره عيدا وسؤاله ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وأنه يدل على منع شد الرحل إلى قبره - صلى الله عليه وسلم - وغيره من القبور والمشاهد. بل قبر غيره أولى بالمنع لأن قبره أفضل قبر على وجه الأرض. وقد نهى عن اتخاذه عيدا فغيره أولى بالنهي كائنا من كان. وشد الرحل إليها من اتخاذها أعيادا ومن أعظم أسباب الإشراك بها كما هو الواقع. واتفق الأئمة على المنع من ذلك أنه من وسائل الشرك وذرائعه. قال الشيخ والذي عليه أئمة المسلمين وجمهور العلماء على أن السفر للمشاهد التي على القبور

غير مشروع بل هو معصية من أشنع المعاص وقال ولم ينقل جوازه عن أحد من المتقدمين وذكر أنه بدعة واختار القاضي والجويني وغيرهما تحريم بالسفر لزيارة القبور مطلقا. وغلط أهل التحقيق من استثنى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه الاستثناء في قوله "لا تشد الرحال" ونحوه عند أهل الاصول معيار العموم. وفي حديث النهي عن اتخاذ قبره عيدا قال: "فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم" وقال ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء". قال الشيخ وأما وقد منع الناس من الوصول إليه بثلاثة الجدران فلا تحصل المزية فسواء سلم عليه عند قبره أو في مسجده إذا دخله أو في أقصى المشرق أو المغرب فالكل يبلغه كما وردت به الأحاديث. وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه يسمع الصلاة من القريب وأنه يبلغ ذلك من البعيد. قال ولا يسافر للوقوف عند قبر أحد لا من الأنبياء ولا من المشائخ ولا غيرهم باتفاق المسلمين. بل أظهر قولي العلماء أنه لا يسافر أحد لزيارة قبر من القبور ولكن تزار القبور بالزيارة الشرعية فيزورها من كان قريبا ومن اجتاز بها كما أن مسجد قباء يزار من المدينة وليس لأحد أن يسافر إليه ولا إلى غيره من المساجد ونحو ذلك غير المساجد الثلاثة المستثناة في الحديث. وذلك أن الدين مبني على أصلين. أن لا يبعد إلا الله

وحده. ولا يعبد إلا بما شرع. لا بالبدع وذكر أن الزيارة على قسمين شرعية وبدعية، فالشرعية المقصود بها السلام على الميت والدعاء له. كما يقصد بالصلاة على جنازته من غير شد رحل. والبدعية أن يكون المقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت وهذا شرك أكبر أو يقصد الدعاء عند قبره أو الدعاء به. وهذه بدعة منكرة ووسيلة إلى الشرك وليس من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها. وقال في موضع آخر: على وجهين وجه نهي عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - واتفق العلماء على أنه غير مشروع وهو أن يتخذها مساجد ويتخذها وثنا ويتخذها عيدا فلا يجوز أن تقصد للصلاة الشرعية ولا أن تعبد كما تعبد الأوثان ولا أن تتخذ عيدا يجتمع إليها في وقت معين كما يجتمع المسلمون في عرفة ومنى. وذكر أن أحاديث النهي كثيرة مشهورة. (وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زائرات القبور رواه الخمسة وصححه الترمذي) ولأبي داود وغيره عن أبي هريرة نحوه قاله شيخ الإسلام وغيره. وقال: وقد تعددت طرقهما وليس فيهما متهم ولا خالفهما أحد من الثقات. وقد روي هذا عن صاحب وهذا عن صاحب آخر وذلك يبين أن الحديث في الاصل معروف وتقدم في الصحيحين أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز.

وفي السنن وصححه أبو حاتم من حديث ابن عمر قال فلما فرغنا يعني من دفن الميت انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانصرفنا معه فلما توسطنا الطريق إذا نحن بامرأة مقبلة فلما دنت إذا هي فاطمة فقال ما أخرجك؟ قالت أتيت أهل هذا البيت فعزيناهم بميتهم فقال لعلك بلغت معهم الكدى قالت معاذ الله أن أكون بلغت معهم الكدى وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر فقال لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك. وقد فسر الكدى بالقبور وبالأرض الصلبة لأن مقابرهم كانت في مواضع صلبة. فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على تحريم زيارة النساء القبور. ولأبي يعلى من حديث أنس قال: "أتحملنه؟ قلن لا قال أتدفنه؟ قلن لا قال فارجعن مأزورات غير مأجورات" ونقل النووي أنه لا خلاف في ذلك والأحاديث صريحة في ذلك ورجحه الشيخ وغيره وقال وعلى هذا العمل في أظهر قولي أهل العلم. واحتج أهل القول الآخر بالإذن وليس بجيد فإن اللفظ لفظ مذكر وهو مختص بالذكور أو متناول لغيرهم فإن كان مختصا فلا ذكر للنساء وإن كان متناولا كان لفظ الحديث في النهي مختصا. ولم يعلم أنه متقدم على الرخصة فكان مقدما على العام عند عامة أهل العلم كما لو علم أنه بعدها.

والنبي - صلى الله عليه وسلم - علل بالإذن للرجال بأن ذلك يذكر بالموت ويرقق القلب ويدمع العين ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة لما فيها من الضعف وكثرة الجزع وقلة الصبر. وأيضا فإن ذلك سبب لتأذي الميت ببكائها والرجال بصوتها وصورتها كما في الخبر "فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت". وإذا كان مظنة فمن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية أو غير منتشرة علق الحكم بمظنتها فيحرم هذا الباب سدًا للذريعة وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت وذلك ممكن في بيتها. ولهذا قال الفقهاء إذا علمت من نفسها أنها إذا زارت المقبرة بدا منها ما لا يجوز من قول أو عمل لم تجز لها الزيارة بلا نزاع. وقال إذا كانت زيارة النساء مظنة ومنشأ للأمور المحرمة فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع أما لومرت في طريقها على مقبرة وسلمت فلا بأس لأنها لا تسمى زائرة.

فصل في التعزية

فصل في التعزية أي في بيان التعزية وأحكامها ووجوب الصبر على المصيبة وتحريم الندب والنياحة وما يتعلق بذلك قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} على الرزايا والبلايا وقال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ذكره في أكثر من تسعين موضعا من كتابه ووصفهم في هذه الآية بقوله {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} فجيعة في نفس أو مال {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ} عبيد له وملك له يفعل فينا ما يشاء {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يوم القيامة فيجازي كلا بعمله. قال ابن كثير وغيره تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم وعلموا أنهم ملك لله عبيد له يتصرف فيهم بما يشاء وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة فأحدث لهم اعترافهم بأنهم عبيده وراجعون إليه في الدار الآخرة. ثم أخبرهم بما وعدهم على صنيعهم بقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} في الدنيا والآخر. وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في العاجلة والآجلة فإنه إذا تحقق بمعرفتها تسلى عن مصيبته. وإذا علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه هانت عليه المصيبة والصبر المطلوب المبشر عليه بالصلاة والرحمة هو ما وقع عند الصدمة الأولى لما في الصحيحين وغيرهما أنه قال "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" وفي رواية "عند أول صدمة" يعني

إذا وقع الثبات عند أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع وذلك هوالصبر الكامل المرتب عليه الأجر الجزيل الذي وعد الله به. والصبر واجب إجماعا حكاه شيخ الإسلام وغيره. وذكر في الرضى قولين ثم قال وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها اهـ. ـ. والصبر المنع والحبس منع النفس عن الجزع وحبس اللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود والجيوب ونحو ذلك وهو خلق فاضل يمتنع به من فعل ما لا يحسن فعله وقوة به صلاح العبد ووعد الله عليه جزيل الثواب. وأما الرضا بالقضاء فمنزلة فوق الصر يوجب الله به رضاه ولا يجب بمرض وفقر ونحوهما ويحرم الرضى بفعل المعصية منه أو من غيره إجماعا حكاه ابن عقيل وغيره لوجوب إزالتها. وأما الرضى بالكفر فكفر إجماعًا. (وعن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ما من عبد تصيبه مصيبة) بلية أو محكروه في نفس أو ولد أو مال أو غيرها (فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون) ملك له وراجعون إليه في الآخرة (اللهم آجرني) بالمدو القصر وكسر الجيم (في مصيبتي) ولابي داود وغيره اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأجرني فيها ومعنى آجره الله أعطاه أجره وجزاه صبره وهم في مصيبته (وأخلف) بقطع الهمزة وكسر اللام (لي خيرا

منها) أي مما أصبتني به. يقال لمن ذهب منه مال أو ولد أو قريب أو شيء يتوقع حصول مثله. أخلف الله عليك أي: رد الله عليك مثله. وما لا يتوقع مثله خلف الله عليك أي كان الله لك خليفة منه عليك (إلا آجره الله في مصيبته) أثابه عليها والأجر والثواب والمكافأة قال النووي وغيره هو بقصر الهمزة ومدها والقصر أفصح فيها وأشهر (وأخلف له) أي عوضه عنها (خيرا منها) في العاجل والآجل (رواه مسلم). قالت أم سلمة فلما توفي أبو سلمة قلت من خير من أبي سلمة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت ثم عزم الله لي فقلت اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها قالت: فتزوجت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فدل الحديث وغيره على مشروعية الاسترجاع عند المصيبة وهو سنة إجماعا. ولأحمد وغيره عن الحسن مرفوعا "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث عند ذلك استرجاعا إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب". (وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يقول الله تعالى ما لعبدي المؤمن جزاء) مكافأة وأجرا وثوابا (إذا قبضت صفيه) أي حبيبه وصديقه. وصفيه: الرجل الذي يصافيه الود ويخلص له (من أهل الدنيا ثم احتسبه) طلبا لوجه الله وثوابه واعتد صبره حال مباشرة المصيبة لله فليس له عنده جزاء (إلا

الجنة رواه البخاري) وغيره وفي معناه أحاديث كثيرة. ولهما عن أنس وغيره من غير وجه "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد" وفي "اثنان فتمسه النار إلا تحله القسم" وفيها "وكانوا حجابا له من النار". وفيهما "ما من مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة" قال ابن المنير ويدخل الكبير في ذلك بطريق الفحوى. وللترمذي وغيره وحسنه "إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي فيقولون نعم. فيقول قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم. فيقول فماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد، وفي الصحيح عن صهيب مرفوعا "عجبا للمؤمن إن أمر المؤمن له خير ولي ذلك لأحد إلا المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" ولهما عن أبي سعيد مرفوعا "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه". وللترمذي وغيره "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم" الحديث والأحاديث في الصبر عليها أكثر من أن تذكر. وثبت أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. يبتلى المرء على حسب دينه ولا يزال به حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة. وأيضا من نظر في كون المصيبة لم

تكن في دينه هانت عليه مصيبته. (وعن عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة" أي يسليه فيها ويحثه على الصبر بوعد الأجر والدعاء للميت والمصاب وأصلها التصبير لمن أصيب بمن يعز عليه وعزاه تعزية سلاه وصبره وأمره بالصبر وقال له أحسن الله عزاك أي رزقك الصبر الحسن وإن قال أحسن الله عزاك وأعظم أجرك وغفر لميتك ونحوه فحسن. قاله شيخ الإسلام وغيره ولا يتعين شيء في ذلك ولأحمد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل رحمه الله وآجرك وإن شاء أخذ بيد من عزاه. وذكر - صلى الله عليه وسلم - ما أعد الله للمعزي من الجزاء فقال: (إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة رواه ابن ماجه) وله عن ابن مسعود مرفوعا "من عزى مصابا بأن عمد إلى قلبه فداواه فله مثل أجره لأن كلا منهما رفع الجزع" ورواه الترمذي وغيره عن معاذ أنه مات ابن له فكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فأعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر ورزقنا وإياك الشكر فإن أنفسنا وأهلينا وأولادنا من مواهب الله عز وجل وعطاياه وعواريه المستودعة متعك الله به في غبطة وسرور وقبضه منك في أجر كبير الصلاة والرحمة والهدى فالصبر لا تحبط به جزعك فتندم واعلم ان الجزع لا يرد شيئًا ولا يدفع قدرًا وما هو نازل فكائن لا محالة". وله "من عزى ثكلى كسي بدرا في الجنة" والثكلى المرأة تفقد

ولدها أو من يعز عليها وللطبراني "من عزى مصابًا كساه الله حلتين من حلل الجنة لا تقوم بهما الدنيا" والأحاديث في التعزية مستفيضة وهي سنة متبعة وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أرسلت إليه إحدى بناته تخبره أن صبيا لها في الموت قال "أخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب". وتسن لصغير لعموم الأخبار وصديق للميت وجار ونحوهما. وسواء قبل الدفن أو بعده من حين الموت. والأولى بعده لاشتغال أهل الميت بتجهيزه إلا أن يرى منهم جزعا. ولا بأس بالجلوس بقرب دار الميت ليتبع جنازته أو يخرج وليه فيعزيه. قال في الإنصاف وغيره فعله السلف وظاهر الأخبار تستحب مطلقا. وقال بعضهم ما لم ينس المصيبة ويرد معزى بقوله استجاب الله دعاك ورحمنا وإياك. ونحوه لا تعيين في ذلك. وإن جائته التعزية في كتاب ردها على الرسول لفظا. (وعن أسامة بن زيد) بن حارثة بن شراحيل بن عبد العزى الكعبي الحب بن الحب. زارت أم زيد أهلها فأغار عليهم خيل لبني القين فاحتملوه فباعوه بعكاظ. فاشتراه حكيم لخديجة فوهبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتى أبوه فخيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختار زيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ابني. وطابت نفس أبيه به وأنزل الله (ادعوهم لآبائهم) استشهد زيد بمؤتة. وأسامة سنة أربع وخمسين.

قال رضي الله عنه (في قصة وفاة ابن بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -) ولابن أبي شيبة أنه ابن لزينب فأرسلت إليه تخبره أن صبيا لها في الموت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع إليها فأخبرها أن الله ما أخذ وله ما أعطى" نحو ما تقدم فعاد الرسول فقال إنها أقسمت لتأتينها فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل قال أسامة فانطلقت معهم (فرفع إليه الصبي) قيل هو علي بن أبي العاص بن الربيع ولكن ذكر أنه أردفه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة. ولأحمد أنه صبية ورجحه الحافظ ويؤيده ما في سنن أبي داود أن ابنتي قد حضرت. (ونفسه تقعقع) كأنها في شنة أي لها صوت وحشرجة كصوت ما ألقي في قربة بالية. والقعقعة حكاية صوت الشن اليابس (ففضات عيناه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (فقال سعد ما هذا يا رسول الله؟ أي قاله سعد بن عبادة سيد الخزرج المتوفى سنة خمس (قال رحمة جعلها الله في قلوب عباده) أي هذه الدمعة أثر رحمة (وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) جمع رحيم من صيغ المبالغة. أي إنما تختص رحمة الله بمن اتصف بالرحمة (متفق عليه). ولهما عن ابن عمر قال اشتكى سعد بن عبادة فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود فلما دخل عليه وجده في غشية. فقال: "قد

قبض فقالوا لا يا رسول الله فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فلما رأى القوم بكاءه بكوا قال: ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم. وقال: "العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا" ولما قتل زيد وجعفر وابن رواحة جلس - صلى الله عليه وسلم - يعرف في وجهه الحزن وحزن لما قتل القراء. وقال تعالى عن يعقوب {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} والبث شدة الحزن، ولأحمد عن ابن عباس لما ماتت زينب بكت النساء فجعل عمر يضربهن فقال "مهلا يا عمر ثم قال إياكن ونعيق الشيطان. ثم قال إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان". وله عن عائشة أنه لما حضر موت سعد بن معاذ ومعه أبو بكر وعمر قالت إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر. فالبكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب وجائز مجرد الحزن والهم. ولا باس بيسير الندب إذا لم يخرج مخرج النوح ولا قصد نظمه كفعل أبي بكر وفاطمة رضي الله عنهما. ولا ينافي الصبر بل ولا الرضى وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرضى الخلق عن الله في قضائه وأعظمهم له حمدا. وكذلك أصحابه من بعده. وما ورد من قوله "لا تبكين على هالك بعد اليوم" رواه

أحمد وقوله "إذا وجب فلا تبكين باكية" رواه أبو داود فمحمول على بكاء معه ندب أو نياحة أو أنه كثرة البكاء والدوام عليه أيامًا كثيرة. قال الشيخ ولا بد من حمل الحديث على البكاء الذي معه ندب ونياحة ونحو ذلك وما هيج المصيبة من وعظ وإنشاد شعر فمن النياحة. وأما البكاء فيستحب رحمة للميت وهو أكمل من الفرح لقوله "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده" وقوله "مهما كان من العين والقلب فمن الله وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان" والاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم. فمن أصيب بمصيبة عظيمة لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من اللطم والشق. ولا يفرط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب، اهـ. ـ. ويكره تغير حال المصاب من خلع رداء ونحوه وغلق حانوت وترك عمل ونحو ذلك ما فيه إظهار الجزع وهجر للزينة وحسن الثياب ثلاثة أيام وجعل علامة يعرف بها فإن السلف لم يكونوا يفعلون شيئا من ذلك، قال الشيخ وغيره وكل ذلك مناف للصبر والآثار صريحة في النهي عن ذلك. وصرح غير واحد من الأصحاب وغيرهم بكراهة لبس خلاف زيه المعتاد. (ولهما عن ابن مسعود مرفوعًا: ليس منا) هذا من أبلغ الوعيد ومذهب أهل السنة والجماعة إمرار أحاديث الوعيد كما

جاءت واعتقاد معانيها حقيقة من غير تعرض لها بتأويل فإنه أبلغ في الزجر وأنكى في الردع عن الوقوع في مثل ذلك (من ضرب الخدود) وفي لفظ لطم الخدود وخص الخد لكونه الغالب في ذلك. وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك. (وشق الجيوب) أي خرقها مزقها وجيب القميص طوقه وما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس وكل ذلك من علامات السخط (ودعا بدعوى الجاهلية) من النياحة ونحوها وكذا الندبة كقولهم واجبلاه، واناصراه. وكذا الدعاء بالويل والثبور، والجاهلية ما كان في الفترة قبل الإسلام. ولمسلم "بدعوى أهل الجاهلية". ولهما عن أبي بردة قال وجع أبو موسى فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فأقبلت تصيح برنة فلم يستطع أن يرد عليها فلما أفاق قال: أنا بريء مما بريء منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنه بريء من الصالقة" وهي التي ترفع صوتها عند المصيبة؛ "والحالقة" هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، "والشاقة" وهي التي تشق ثيابها عند المصيبة، ولمسلم "لعن النائحة والمستمعة" وفي الصحيحين "أخذ علينا أن لا ننوح". وأجمع أهل العلم على تحريم النياحة إلا ما روي عن بعض المالكية لحديث أم عطية والحديث حجة عليهم. يقال ناحت المرأة علىلميت إذا ندبته بكت عليه وعددت محاسنه. ويقال

بكاء وصراخ، وقال القاضي النوح والنياحة اجتماع النساء للبكاء على الميت متقابلات ثم استعمل في صفة بكائهن بصوت ورنة وندبة والمراد التي تنوح على الميت وعلىما فاتها من متاع الدنيا فإنه ممنوع منه، وكذا المستمعة التي تقصد بسماعها. وقال عليه الصلاة والسلام "الناحئة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب". (وعن ابن عمر مرفوعا) أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (الميت يعذب في قبره بما نيح عليه متفق عليه) وتظاهرت الأخبار بتعذيب الميت بالنياحة عليه والبكاء عليه فيتألم من ذلك ولا يقال إنه يعاقب بذنب الحي. قال شيخ الإسلام والصواب أنه يتأذى بالبكاء عليه كما نطقت به الأحاديث الصحيحة من أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. وفي لفظ "من نيح عليه يعذب بما نيح عليه" وأنكرت ذلك طوائف من السلف والخلف واعتقدوا أنه من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره، وتنوعت طرقهم في ذلك بما لا يرد بمثله تلك الأحاديث الصحيحة. والشارع قال "يعذب" ولم يقل يعاقب ولاعذاب أعم من العقاب فإن العذاب هو الألم وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عاقاب له على ذلك السبب، وذكر الشارع أن "السفر قطعة من العذاب" والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها مثل الأصوات الهائلة والأرواح الخبيثة

والصور القبيحة فهو يتعذب بذلك ولم يكن عملا له عوقب عليه. فكذا الإنسان في قبره يعذب بكلام بعض الناس ويتألم برؤية بعضهم وبسماع كلامه. فيتألم إذا عملت عنده المعاصي كما جاءت به الآثار كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم، ثم النياحة تسبب العذاب، وقد يندفع حكم السبب بما يمانعه، اهـ. وينبغي أن يوصي بترك النياحة إذا كان من عادة أهله لأنه متى غلب على ظنه فعلهم لها ولم يوص بتركها مع القدرة فقد رضي بها. (وللبخاري عن عائشة مرفوعا: لا تسبوا الأموات) وظاهره النهي عن سبهم على العموم وهو مخصوص بما في حديث أنس وغيره بالثناء بالخير الشر وقال "أنتم شهداء الله في أرضه" وكجرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتًا للإجماع ومساويء الكفار والفساق للتحذير منهم وما ذكره الله عن الأمم الماضية تحذيرًا للأمة من تلك الأفعال. وأما المسلم فيحرم إلا لضرورة (فإنهم قد أفضوا) أي وصلوا (إلى ما قدموا) من خير وشر، ولأحمد وغيره عن ابن عباس (فتؤذوا الأحياء) أي يتسبب عن سبهم أذية الأحياء من قراباتهم.

كتاب الزكاة

كِتابُ الزكَاة لغة: النماء، والزيادة والطهارة. يقال زكا الزرع إذا نما وزاد. ولا ينمو إلا إذا خلص من الدغل. وتطلق على الصدقة المفروضة والمندوبة. وشرعًا: حق واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص. وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين. والصلاة. وفرضت بالمدينة في السنة الثانية من الهجرة. قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} أي أدوا زكاة أموالكم المفروضة. وقرنها تعالى بالصلاة في كتابه العزيز في اثنين وثمانين موضعًا على كمال الاتصال. لعظم شأنها. وكمال الاتصال بينهما. وفي الحديث "من لم يزك فلا صلاة له". (وقال) تعالى {خُذْ} أي يا محمد {مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} أي الزكاة الواجبة فيها. فكان - صلى الله عليه وسلم - والأئمة بعده يأخذونها من الأغنياء ويدفعونها إلى الفقراء {تُطَهِّرُهُمْ} به من ذنوبهم {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ترفعهم بها وتمني أموالهم.

{وَصِلْ عَلَيْهِمْ} أي ادع لهم واستغفر لهم. فإن الصلاة في الاصل الدعاء. ولأبي داود أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "وليدعوا لكم" ويستحب قول الساعي للمتصدق. آجرك الله فيما أعطيت. بارك لك فيما أبقيت {إِنَّ صَلَاتَكَ} دعاءك {سَكَنٌ لَهُمْ} رحمة لهم وطمأنينة وتثبيت لقلوبهم {وَاللهُ سَمِيعٌ} لدعائك {عليم} بمن يستحق ذلك ومن هوأهل له ثم ذكر تعالى أنه من فضله ورحمته يقبل الصدقات أي ينميها ويربيها. كما يربي أحدنا فلوه أو فصيله. وجاء ذكرها في القرآن مجملا. وبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السنة مفصلاً. يعلمهم به كما يعلمهم السورة من القرآن. (وعن معاذ) ابن جبل رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه) سنة عشر (إلى اليمن) داعيا معلما وجابيا (قال) له (أخبرهم) وفي لفظ "أعلمهم" (أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم) وهذا لفظ البخاري وفي رواية له "زكاة في أموالهم" والمراد فيما تجب فيه على ما يأتي تفصيله. وفي خبر جرير "وتؤدى الزكاة المفروضة"وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - "بني الإسلام على خمس" وفيه "وإتياء الزكاة" ويأتي قوله "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" وغير ذلك من النصوص المستفيضة في فرضيتها. وأنها أحد أركان الإسلام الذي لا يصح بدونها. وأجمع المسلمون على فرضيتها وركنيتها.

(وتؤخذ) أي الزكاة (من أغنيائهم) أي أغنياء المسلمين. وأما الكافر الأصلي والمرتد فلا تجب عليه وجوب أداء بلا نزاع. وليس من أهلها. وأما وجوب الخطاب فلا خلاف فيه. ويدل لذلك حديث معاذ قال له "فادعهم إلى شهادة أن لا إله الله. وأن محمدا رسول الله. فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم". فلم يأمره بالزكاة ابتداء. وفيه أن الذي يتولى قبضها الإمام أو نائبه. وعمومه يدل على وجوبها في مال الصغير الغني ولعموم ما يأتي. وتجب في دين ونحوه إذا قبضه. قال الشيخ لسنة من الماضي. وهو قول الجمهور. واختاره هو وغيره. وقال الصداق ونحوه أقرب الأقوال قول من لا يوجب فيه شيئا بحال حتى يحول عليه الحول. أو يوجب فيه زكاة واحدة عند القبض. وقال والدين يسقط زكاة الأموال الباطنة عند الجمهور. قال عثمان من كان عليه دين فليؤده ولم يخالفه منهم أحد؛ لأنها مواساة (فترد) أي الزكاة (على فقرائهم) أي فقراء المسلمين بالإجماع (متفق عليه) ويجزئ إلى شخص واحد للأخبار وهو مذهب الجمهور وخص الفقرء لأنهم أكثر من تدفع إليهم. ولأن حقهم آكد من بقية الأصناف الثمانية المنصوصة في الكتاب العزيز. وأجمعوا على أن الزكاة تجب في

باب زكاة بهيمة الأنعام

الإبل والبقر والغنم والذهب والفضة والبر والشعير والتمر والزبيب إذا بلغ من كل صنف منها ما تجب فيه الزكاة. باب زكاة بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم سميت بهيمة لما في صوتها من الإبهام. بدئ بها اقتداء بالشارع - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. لأن أكثر العرب إذ ذاك أهل نعم وأجمع المسلمون على وجوب الزكاة فيها. وفي الصحيحين من حديث أبي ذر "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت أسمته تنطحه بقرونها وتطؤه بأخفافها". (عن أنس أن أبا بكر) الصديق رضي الله عنهما (كتب له) هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين عاملا عليها. ولأبي داود وعليها ختمه - صلى الله عليه وسلم - (بسم الله الرحمن الرحيم) (هذه فريضة الصدقة) أي هذه نسخة فريضة الصدقة. حذف المضاف للعلم به. وفيه جواز إطلاق الصدقة على الزكاة (التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) على المسلمين أي قدر أنواعها وأجناسها، والقدر المخرج منها. وإلا فالإيجاب ثابت بالقرآن (والتي أمر الله بها) رسوله. وفي لفظ "التي أمر الله بها ورسوله" فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سأل فوق ذلك فلا يعط.

(في أربع وعشرين من الإبل) بخات أو عراب ذكور أو إناث إجماعا (فما دونها) أي دون الأربع والعشرين من الإبل فزكاتها من الغنم (في كل خمس) ذود من الإبل (شاة) من الغنم بصفة الإبل إجماعا. ففي خمس إلى تسع كرام سمان شاة كريمة سمينة. وفي معيبة شاة صحيحة تنقص قيمتها بقدر نقص الإبل وفي العشر إلى أربع عشرة شاتان وفي خمس عشرة إلى تسع عشرة ثلاث شياه. وفي العشرين إلى أربع وعشرين أربع شياه بصفتها. (فإذا بلغت) الإبل (خمسا وعشرين) إلى أن تنتهي (إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض) بفتح الميم. أي بنت ناقة مخاض إجماعًا. وهي ما تم لها سنة. سميت بنت مخاض لأن أمها قد حملت غالبًا والماخض الحامل. وليس شرطا (فأن لم تكن) أي توجد عنده بنت مخاض (فإبن لبون) ذكر ويجزئ عنها إجماعًا. وهو ما استكمل السنة الثانية. ودخل في الثالثة إلى تمامها. سمي بذلك لأن أمه ذات لبن غالبًا. وجاز العدول إلى ابن اللبون عند عدم ابنة المخاض. قال بعضهم ولا يجزئ عنه بغير ولاهما ولا البقرةولا نصفا شاتين عن شاة. وقيل يجزئ إذا كان أكثر قيمة من الواجب. وهو مذهب أبي حنيفة، لحديث أبي بن كعب: مررت برجل فلم أجد عليه إلا بنت مخاض فقال لا لبن فيها ولا ظهر. ولكن هذه ناقة سمينة فخذها. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ذاك الذي عليك

وإن تطوعت بخير قبلناه منك وآجرك الله فيه" رواه أبو داود بسند صحيح. وقال النووي وغيره لو بذل الحامل ونحوها قبلت منه عند أهل العلم كافة إلى داود. وقال في الخمس واجبها الشاة. فإن أخرج بعيرًا أجزأ. وهو قول جمهور العلماء وحكى الموفق وغيره الإجماع على جواز إخراج سن أعلى من الفرض الواجب (فإذا بلغت) الإبل (ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون) إجماعًا. وهي ما تم لها سنتان (فإذا بلغت الإبل ستًا وأربعين إلى ستين ففيها حقة) طروقة الجمل إجماعًا. وهي ما تم لها ثلاث سنين. سميت بذلك لأنها استحقت أن يطرقها الفحل. وأن يحمل عليها وتركب. (فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة) أجماعًا. وهي ما تم لها أربع سنين ودخلت في الخامسة. سميت بذلك لأنها تجذع إذا سقط سنها. وهي آخر أسنان الزكاة. وأعلى سن يجب فيها. وغاية كماله. والأسنان المذكورة باتفاق أهل اللغة والأئمة (فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون) إجماعًا (فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان) إجماعًا حكاه ابن المنذر والوزير والشيخ وغيرهم ممن يحكي إجماع أهل العلم. (فإذا زادت) أي الإبل (على عشرين ومائة) أي

واحدة فصاعدًا (ففي كل أربعين) منها (بنت لبون وفي كل خمسين حقة) وهذا قول الزهري وأبي ثور وأبي عبيد وأحمد والشافعي وسائر أئمة الحجاز. وصححه الوزير وغيره. وفي المبدع وغيره هو المختار للعمة. وقال الشيخ وهو أولى عند العلماء لهذا الخبر وخبر عمر ولفظه "فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين ابنة لبون" رواه أبو داود وحسنه الترمذي. وقال العمل على هذا الحديث عند عامة العلماء. وبهذه الفرائض اشتهرت كتب الصدقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه. وفي مائة واحدى وعشرين ثلاث بنات لبون. وليس فيما لا يبلغ الشعرة منها شيء حتى تبلغ العشرة. وفي مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون. وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون. وهكذا. ولأبي داود عن عمر معناه مرسلا. وهو مقتضى حديث أنس. وقال مالك إذا زادت واحدة على عشرين ومائة فالساعي بالخيار بين أن يأخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون عند الكوفيين يستقبل الفريضة، وحجة الجمهور هذه الأحاديث. وما خالفها لا تقوم به حجة. قال الشيخ أحمد وأهل الحديث متبعون في الزكاة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه. آخذون بأوسط الأقوال أو بأحسنها. فأخذوا في أوقاص الإبل بكتاب الصديق. ومتابعته المتضمن. إن في الإبل الكثيرة في كل أربعين بنت لبون. وفي كل خمسين

حقة. لأنه آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. بخلاف الكتاب الذي فيه استئناف الفريضة. بعد مائة وعشرين. فإنه متقدم على هذا. لأن استعمال عمرو بن حزم على نجران قبل موته - صلى الله عليه وسلم - بمدة. وأما كتاب الصديق فإنه كتبه ولم يخرجه إلى العمال حتى أخرجه أبو بكر رضي الله عنه. فإذا تباينت أسنان الإبل في فرائض الصدقات فقد قال - صلى الله عليه وسلم - (ومن بلغت عنده) من الإبل (صدقة الجذعة) وتقدم أنها تجب في إحدى وستين إلى خمس وسبعين (وليست) الجذعة (عنده) في ملكه أو عنده وكانت معيبة (وعنده حقة فإنها تقبل منه) الحقة عوضًا عن الجذعة (ويجعل معها) أي مع الحقة توفية لها (شاتين إن استيسرنا له) أي تسهلتا له (أو عشرين درهمًا) إذا لم تتيسر له الشاتان. ويجب على المصدق قبوله جبرا لتفاوت ما بين الحقة والجذعة. وليس له تكليفه غير ما وجد اتفاقا ويجزئ شاة وعشرة دراهم. (ومن بلغت عنده صدقة الحقة) وهي تجب في ست وأربعين إلى ستين (وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه) وإن كانت زائدة على ما يلزمه فلا يزلمه تحصيل ما ليس عنده (ويعطيه المصدق) أصله المتصدق. أي يعطيه العامل على أخذ الزكاة (شاتين أو عشرين درهما) مقابل ما زاد عنده.

ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما. قال الخطابي وغيره يشبه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل الشاتين أو عشرين درهما تقديرا في جبران الزيادة والنقصان. ولم يكل الأمر في ذلك إلى اجتهاد الساعي ولا غيره. لأن الساعي إنما يأخذ منهم الزكاة عنده المياه غالبا. وليس هناك حاكم ولا مقوم يفصل بينهما إذا اختلفا. فضبطت بقيمة شرعية قطعا للنزاع. ولا دخل لجبران في غير إبل لأن النص إنما ورد فيها فيقتصر عليه. (ومن لم يكن عنده إلا أربع من الإبل فليس فيها شيء) أي ليس فيها زكاة واجبة إجماعا. وفي الصحيحين "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" (إلا أن يشاء ربها) أي إلا أن يتطوع (رواه البخاري) ورواه مالك وغيره من حفاظ الإسلام واعتمدوه. وعدوه من قواعد الإسلام. وقالوا إنه أصل عظيم يعتمده. وقال أحمد لا أعلم في الصدقة أحسن منه. وفيه دليل على أنه ليس في الأوقاص شيء. وأخرج الدارقطني عن عبيد بن صخر قال "عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عماله أهل اليمن أنه ليس في الأوقاص شيء" وفي السنن نحوه من حديث ابن عباس. والوقص ما بين الفريضتين كما بين خمس وعشر يستعمل فيما لا زكاة فيه كأربع.

فصل في زكاة البقر

(ولأبي داود والنسائي، وأحمد وغيرهم) (من حديث بهز) بن حكيم عن أبيه عن جده سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (في كل سائمة إبل) والسائمة الراعية. قال الجوهري وغيره سامت الماشية رعت واسمتها أخرجتها للمرعي. وتكلم بعضهم في بهز. وقال ابن معين سنده صحيح وحكى الحاكم الاتفاق على تصحيح حديث بهز عن أبيه عن جده ونص عليه أحمد وغيره. ويأتي خبر أنس في سائمة الغنم والإبل في معناها. قال شيخ الإسلام إذا كانت راعية أكثر الحول في أظهر قولي العلماء. فلا تجب في معلوفة أكثر الحول. ولا إذا اشترى لها ما تأكل. أو جمع لها من المباح ما تأكله. وعن علي: "ليس في العوامل صدقة" رواه أبو داود. وجاء عن جماعة من الصحابة. ولا مخالف لهم منهم. هو قول أهل الحديث وفقهاء الأمصار. فإن المراد بها إذا الانتفاع بظهرها لا الدر والنسل. أشبهت البغال والحمير. وإنما تجب الزكاة فيها إذا كانت للدر والنسل والنماء. لأنها تكثر منافعها ويطيب نماؤها فتجب فيها المواساة. فصل في زكاة البقر أي فيما يجب في سائمة البقر. والأصل في السنة والإجماع. وتقدم ذكر الوعيد في تركها. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة "أنه إذا لم يؤد حق الله فيها بطح لها في صعيد

قرقر فوطئته بأظلافها ونطحته بقرونها إذا مر عليه آخرها كر عليه أولها، حتى يرى مصدره إما من الجنة وإما من النار" وذكر الإبل والبقر والغنم. (وعن معاذ) رضي الله عنه (قال بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن) أي داعيا، معلما، جابيا للزكاة (وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر) من بقرت الشيء إذا شققته لأنها تبقر الأرض بالحراثة. والبقر اسم جنس يشمل العراب والجواميس والذكور والإناث وكذا البقرة تقع على الذكر والأنثى. دخلت عليها الهاء على أنها واحدة البقرات. (تبيعا) وهو ماله سنة. ودخل في الثانية. وهو جذع البقر. سمي تبيعا لأنه يتبع أمه في المسرح. وقد حاذى قرنه أذنه غالبا (أو تبيعة) أي المخرج والساعي مخير بينهما (ومن كل أربعين) بقرة (مسنة) أي صارت ثنية لها سنتان فأكثر (رواه الخمسة) وحسنه الترمذي. وصححه النسائي وابن حبان والحاكم. وقال ابن عبد البر هو حديث متصل ثابت. ولا خلاف بين العلماء أن السنة في الزكاة البقر على ما في حديث معاذ. وأنه النصاب المجمع عليه. وقال الشيخ قد ثبت عن معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن "أمره أن يأخذ صدقة البقر من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة" وكذلك في

كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كتبه لعمرو بن حزم ورواه مالك في موطئه عن معاذ. ومن حديث علي مرفوعا. ومن حديث ابن مسعود. وحكى أبو عبيد وابن المنذر والوزير والموفق وغيرهم الإجماع عليه. قال الشيخ والجواميس بمنزلة البقر حكى ابن المنذر فيه الإجماع. وروي من حديث علي مرفوعا ومن حديث ابن مسعود. زاد أحمد من حديث معاذ. "ومن الستين تبيعين. ومن السبعين مسنة. وتبيعًا. ومن التسعين ثلاثة أتباع. ومن المائة مسنة وتبيعين. ومن العشر ومائة مسنتين وتبيعا. ومن العشر ومائتين مسنتين وأربعة أتباع. وهو معنى ما تقدم. وإذا بلغت ما يتفق فيه الفرضان خير اتفاقا". قال "وأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك سنا إلا أن يبلغ مسنة. أو جذعا. وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها. وللبيهقي وغيره "أمرني أن لا آخذ من البقر شيئًا حتى تبلغ ثلاثين" وأتي بما دون ذلك فأبى. وهو قول جمهور العلماء إلا ما حكي عن ابن المسيب والزهري، والنصوص دالة على خلافه. (زاد أبو داود عن علي: "وليس في العوامل صدقة" أي ليس في التي يسقى عليها ويحرص وتستعمل في الأثقال زكاة. صححه الدارقطني ولابن ماجه عن ابن مسعود

فصل في زكاة الغنم

نحوه ولهما شواهد لا تخلو من مقال. وظهرها سواء كانت سائمة أو معلوفة. وشرط السوم فيها مقيس على ما ثبت في الإبل والغنم. من حديث أنس عند البخاري. وحديث بهز. ولأن النماء معتبر في الزكاة. ولا نماء في غير السائمة. فصل في زكاة الغنم أي فيما يجب في سائمة الغنم. وقد استفاضت السنة من غير وجه. وتقدم ذكر الوعيد على تاركها. ومنه "والغنم كذلك" أي "إذا لم يؤد حق الله فيها بطح لها بصعيد قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها ليس فيها عقصاء ولا جماء حتى يرى مصدره إما من الجنة وإما من النار" متفق عليه. (وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه (في كتاب الصدقات) الذي كتبه له أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما وجهه إلى البحرين عاملا عليها "هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين" وذكر الإبل "قال وفي صدقة" أي زكاة (الغنم) ضأنا كانت أو معزا ذكورا أو إناثا. سميت غنما لأنها ليس لها آلة الدفاع فكانت غنيمة لكل طالب. (في سائمتها) أي الراعية الحول أو أكثره عند جماهير أهل العلم. وحكي أنه إجماع الصحابة. قال البغوي فيه دليل

على أن الزكاة إنما تجب في الغنم. إذا كانت سائمة فأما المعلوفة فلا زكاة فيها. ولذلك لا تجب الزكاة في عوامل البقر والإبل عند عامة أهل العلم. وإن كنت سائمة (إذا كانت أربعني) شاة: شاة إجماعا. جذع ضأن أو ثني معز عند الجمهور. لحديث سويد بن غفلة قال أتانا مصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أمرنا أن نأخذ الجذعة من الضأن والثنية من المعز" (إلى عشرين ومائة) شاة فليس فيها إلا (شاة فإذا زادت على عشرين ومائة) شاة ففيها شاتان إجماعا. قال الوزير وغيره أجمعوا على أن أول النصاب في الغنم أربعون ففيها شاة. وأنه لا شيء في زيادتها إلى مائة وعشرين. فإذا زادت واحدة وجب فيها شاتان (إلى مائتين فـ) لميس (فيها) إلا (شاتان) إجماعا. حكاه غير واحد. (فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه) إجماعا. حكاه الوزير وغيره على أنها إذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه إجماعا (فإذا زادت على ثلاثمائة) أي مائة أخرى (فـ) صارت أربعمائة استقرت الفريضة (في كل مائة شاة) ففي أربعمائة أربع شياه قال البغوي هو قول عامة أهل العلم. وفي خمسمائة خمس شياه وهكذا. وعند بعض الكوفيين إذا زادت على ثلاثمائة واحدة ففيها

أربع شياه وللخمسة إلا النسائي "فإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة" (فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة على أربعين شاة شاة واحدة فليس فيها صدقة) أي واجبة إجماعا (إلا أن يشاء ربها) أي إلا أن يتطوع ربها بإخراجها نفلا (ولا يجمع) بالبناء للمفعول (بين متفرق) خشية الصدقة (ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) أي: خشية وجوبها أو كثرتها أو سقوطها أو قلتها. فهو خطاب للمالك من جهة. وللساعي من جهة. فأمر كل واحد أن لا يحدث شيئا من الجمع والتفريق خشية الصدقة. فرب المال يخشى أن تكثر الصدقة فيجمع أو يفرق لتقل. والساعي يخشى أن تقل الصدقة فيجمع أو يفرق لتكثر. كما لو كان لثلاثة مائة وعشرون شاه. وجمعوها. أو كان لهم تسعون ففرقوها. أو لكل واحد أربعون. ففرقها الساعي. ومقتضاه أن للخلطة تأثيرا في تخفيف المؤونة فجاز أن تؤثر في الزكاة كالسوم. ولا تعتبر النية في الخلطة إجماعا. فتؤثر ولو وقعت اتفاقا أو بفعل راع. (وما كان من خليطين) أي شريكين من أهل وجوب الزكاة (فإنهما يتراجعان بينهما) أي يرجع أحدهما على الآخر (بالسوية) أي العدالة بمقتضى الحصة لأن الخلطة تصير المالين كالمال الواحد في المؤن. فوجب أن تكون زكاته كزكاة المال الواحد. لأنه لو لم يكن كذلك لما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جمع المتفرق

وعكسه خشية الصدقة. ولا فرق بينهما أن يكون المال مشتركا بينهما شركة أعيان أوخلطة أوصاف وجوار وهي المقصودة هنا. وكل واحدة منهما تؤثر في الزكاة إيجابا أو إسقاطا. وتغليظا وتخفيفا. وحكى أبو حامد وغيره الإجماع على أنه لا فرق بين الخلطتين في الإيجاب أو الإسقاط. والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي هذا مذهب الجمهور. ولابد أن يكونوا من أهل الزكاة. وأن يكون. نصابا. وأن تكون في ماشية. وأن تكون الخلطة جميع الحول أو أكثره. وأن يشتركوا في محلب ومسرح ومرعى. واشتراط الفحل إن اتحد النوع. وأما خلطة الأعيان فيزكي الشركاة ما لهم زكاة خلطة ولو لم يشتركوا في شيء من ذلك. وللساعي أخذ الزكاة من أي مالي الخليطين شاء اتفاقا وإن أخذ فوق الواجب بتأويل. أو أخذ القيمة أجزأت. ورجع على شريكه بذلك. واستظهر الشيخ وغيره أنه يرجع عليه بما أخذ منه ظلما. لأجل ماله "ولا يخرج) بالبناء للمفعول (هرمة) بفتح فكسر أي كبيرة سقطت أسنانها. (ولا ذات عوار) بفتح أي عيب اصلا. وتضم. وبالفتح تشمل ذات العيب ويدخل في ذلك المرض (ولا تيس) فحل الغنم (إلا أن يشاء المصدق) بتشديد الصاد

المالك. واختاره أبو عبيد وضبط بتخفيفها. وهو الساعي تفويضا إلى اجتهاده (رواه البخاري) وأهل السنن وغيرهم. (ولأبي داود) وغيره (من حديث عبد الله) بن معاوية رضي الله عنه (الغاضري) من غاضرة قيس صاحبي شامي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تعطى الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرطاء اللئيمة (ولكن من أوسط أموالكم) قال شيخ الإسلام وغيره وعليه جماعة فقهاء الأمصار. لأن المأخوذ في الصدقات العدل. كما قال عمر عدل من عدل المال وخياره. وقال تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَيِبثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ولا تؤخذ كرائم المال (فَإِنَّ اللهَ) تعالى (لَمْ يَسْأَلْكُمْ خياره) فلا تؤخذ الحامل ولا الربا ولا طروقة الفحل ولا الأكولة ولا الكريمة إلا أن يشاء ربها" وفي الصحيحين "إياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم (ولم يأمركم بشراره) وقال {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فلا تجعلوا له ما تكرهون. وتؤخذ مريضة من مراض إجماعا. وكذا معيبة من معيبات. لأن الزكاة مواساة ودلت الأحاديث: أنها تخرج من أوساط المال. لا من خياره ولا من شراره. ولا نزاع في ذلك.

باب زكاة الخارج من الأرض

باب زكاة الخارج من الأرض من الحبوب والثمار والعسل والمعادن والركاز وغير ذلك. والأصل في زكاة الحبوب والثمار الكتاب والسنة والإجماع. وكذا الكاز والمعادن وأما لعسل فتواردت به الآثار. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ} من خيار {مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} من الثمار كتمر وزيبب والحبوب كبر وشعير التي أنبتناها لكم. ويدخل فيه الركاز والمعادن وغيرها. قال البغوي وغيره هذا أمر بإخراج العشور من الثمار والحبوب واتفق أهل اعلم على إيجاب العشر في النخيل والكروم. وفيما يقتات من الحبوب. إن كان بسانية أو نضح ففيه نصف العشر. ورجح الشيخ أن المعتبر لوجوب زكاة الخارج من الأرض هو الادخار لا غير. لوجود المعنى المناسب لإيجاب الزكاة فيه. بخلاف الكيل فإنه تقدير محض فالوزن في معناه {وَلَا تَيَمَّمُوا} تقصدوا {الْخَبِيثَ} الرذل والدنيء. وما لا خير فيه {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} أي الخيبث {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم. والمراد إذا كان المال كله جيدا. وإلا فمن جنسه إجماعا. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} وإن أمركم بالصدقات فهو (غني) عنها وما ذاك إلا أن يساوي الغني الفقير (حميد):

محمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره. وقال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال ابن عباس وغيره حقه الزكاة المفروضة. (وعن أبي سعيد) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليس فيما دون) أي أقل من (خمسة أوسق صدقة متفق عيه) والأوساق جمع وسق. ووسقت الشيء، ضممت بعضه إلى بعض. والوسق ستون صاعا إجماعا. وجاء مرفوعا. وهو المعتمد في تقديره. والصاع أربعة أمداد فالخمسة الأوساق ثلاثمائة صاع بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهي ألف وستمائة رطل عراقي تقريبا. وتعتبر بالبر الرزين. ولمسلم: "ليس فيما دون خمسة أوساق من ثمر" بالمثلثة "ولا حب صدقة" ولأبي داود "زكاة". قال ابن عبد البر الخطابي والنووي وغيرهم هذا الحديث أصل في مقادير ما يحتمل حال الأموال من المواساة وإيجاب الصدقة فيها. وإسقاطها عن القليل الذي لا يتحملها. لئلا يجحف بأرباب الأموال. ولا يبخس الفقراء حقوقهم. وإذا بلغه النصاب وجب الحق ولا يجب فيما دونه. وهو مذهب جماهير العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وتضم أنواع ثمرة الجنس من العام الواحد وزرعه بعضها إلى بعض في تكميل النصاب. وقال الشيخ يضم القمح والشعير والسلت في الزكاة وتضم القطاني بعضها إلى بعض في تكميل النصاب. قال ابن القيم والسلت نوع غير البر أدق منه حبًا.

(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما سقت السماء) يعني بمطر أو ثلج أو برد أو طل العشر (و) فيما سقت (العيون) الأنهار الجارية التي يسقى منها بإساحة الماء من غير اغتراف له. وفي لفظ "ما سقت الأنهار" (أو كان عثريا العشر) إجماعا حكاه جماعة. قال الشيخ وغيره العثري ما تسقيه السماء. وقيل ما يجمع له ماء المطر فيصير سواق يتصل الماء بها اهـ. ـ. قيل سمي عثريا لأنه يجعل في مجرى الماء عاثورا. فإذا صدمه الماء تراد فدخل تلك المجاري فتستقيه وقال الجمهور المراد منه ههنا ما يشرب بعروقه من غير سقي. سمي عثريا لأنه عثر على الماء. حيث كان قريبا من وجه الأض. فهو البعل. وفي الموطأ وغيره "فيما سقت العيون والبعل". قال الشيخ أيضا وغيره: البعل هو ما شرب بعروقه يمتد بها في الأرض الندية. ولا يحتاج إلى سقي من الكرم والنخل. وهو ظاهر لعطفه على ما سقت السماء. والعطف يقتضي المغايرة (وفيما سقي بالنضج) أي السانية من إبل أو بقر وغيرها من الحيوانات. جمع ناضح. سمي بذلك لأنه ينضح الماء أي يصبه. أو بالدوالي يستقى بها الماء من بئر ونهر للزرع والنخيل والأشجار وغيرها (نصف العشر. رواه البخاري) وغيره. ولمسلم من حديث جابر "وفيما سقي بالسانية نصف

العشر" وللشافعي وغيره "وما سقي بالدوالي نصف العشر" والمراد ما كان بتعب وعناء قال النووي وجماعة هو قول أهل العلم. ويجب ثلاثة أرباع العشر فيما يشرب نصفين بمؤنة وبلا مؤنة. قال في المبدع وغيره بلا خلاف. وإن كان أحدهما أكثر فالحكم له اتفاقا ومع الجهل العشر ليخرج من عهدة الواجب بيقين. ويجتمع العشر والخراج في أرض خراجية. لأن العشر حق الزرع. والخراج حق الأرض. وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث وغيرهم. (وعن عتاب) بالتشديد ابن أسيد بفتح الهمزة الأموي رضي الله عنه قال (أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص) أي يحزر (العنب) وهو على عروشه (كما يخرص النخل) أي كما يقدر ما على النخل من الرطب حين يبدو صلاحه وقبل أن يؤكل منه. وفي رواية "كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم" وظاهره أنه خرص النخل كان معروفا عندهم. ففي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - "خرص حديقة امرأة عشرة أسوق". وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر يخرص عليه النخل حين يبدو صلاحه وقبل أن يؤكل منه فيقول في ذه كذا وكذا ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص. أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكي يحصي

الزكاة قبل أن تؤكل أو تفرق" رواه أحمد وأبو داود. وصح عن عمر أنه أمر بذلك. وله شواهد تدل على مشروعية بعث الإمام خارصًا إذا بدا صلاح الثمر. وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير أهل العلم. ويقاس عليه غيره مما يمكن ضبطه بالخرص من الحبوب وغيرها. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر "فخرصها عليهم" وحديث عائشة وحديث جابر عند أبي داود وغيرهما ما يدل على مشروعية الخرص مما يمكن ضبطه به كالزرع. وقال بعضهم لا تخرص الحبوب. وعمل المسلمين على خلافه. لإمكانه فيه كالثمر. وفائدة الخرص أمن الخيانة من رب المال. ولذلك يجب عليه البينة في دعوى النقص بعد الخرص ومطالبة القابض بقدر ما خرص. ويكون الخارص عالما بالخرص عدلا. قال ابن القيم والصحيح في الخارص الاكتفاء بالواحد كالمؤذن والمخبر بالقبلة. ولاجتزائه بعبد الله بن رواحة (وتؤخذ زكاته) يعني العنب (زبيبا كما تؤخذ زكاة التمر يابسا إجماعا (رواه الخمسة) وفيه مقال. والعمل عليه عند الأئمة الأربعة وغيرهم. ولا يسمى زبيبا وتمرا إلا اليابس. وقيس عليهما ما سواهما من الثمار وكذا الحبوب يجب إخراجها مصفاة إجماعا.

قال الشيخ وغيره ويعتبر عندهم اليبس والتصفية في الحبوب والجفاف في الثمار. ومالا يزبب من العنب ولا يتمر من الرطب تخرج زكاته من ثمنه أو غيره وفي الإنصاف إن احتيج لقطعة قبل كماله أخرج منه رطبا وعنبا وتجب فيه إجماعا. وإن قطعه قبل. سقطت. وفرارا تجب، اهـ. ولا يستقر وجوب الزكاة إلا بجعله في البيدر. فإن تلف بغير تعد سقطت. ويحرم شراء زكاته أو صدقته بعد دفعها. لحديث عمر "لا تشتره ولا تعد في صدقتك. فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه" متفق عليه لا بإرث ونحوه. لحديث بريدة "وجب أجرك وردها عليك الميراث" رواه مسلم. (ولهم) أي للخمسة إلا ابن ماجه "عن سهل" بن أبي حثمة "مرفوعا" إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "إذا خرصتم" أي حزرتم الثمار على أهلها. وحزر الخارص باطراد العادة كالمكيال (فخذوا) أي الزكة من المخروص إن سلم من الآفة. جواب للشرط تقديره إذا خرصتم فبينوا مقدار الزكاة. ثم خذوا ثلثي ذلك المقدار. (ودعوا) أي اتركوا (الثلث) لأهل المال (فإن لم تدعوا الثلث) لهم مما تخرصونه (فدعوا الربع) توسعة لأجل ما يخرج من الثمرة لضيف ونحوه. واختاره الشيخ وغيره. وقال هذا الحديث جار على قواعد الشريعة ومحاسنها. موافق لقوله

"ليس في الخضروات صدقة" لأنها قد جرت العادة أنه لا بد لرب المال بعد كمال الصلاح أن يأكل هو وعياله ويطعم الناس. ما لا يدخر. فكان ما جرى العرف بإطعامه وأكله بمنزلة الخضراوات التي لا تدخر. وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "خففوا على الناس فإن في المال الوطية والأكلة والعربة" رواه سعيد. وأمر عمر عماله أن يتركوا لهم ما يأكلونه. وقال ابن عقيل والآمدي وغيرهما يترك قدر أكلهم وهديتهم بالمعروف بلا تحديد للأخبار الخاصة. وللحاجة للأكل والإطعام وغير ذلك. وهو قول أكثر أهل العلم. قال الشيخ وتسقط فيما خرج منه مؤنة للزرع والثمرة لأن الشارع أسقط في الخرص زكاة الثلث والربع من أجل ما يخرج من الثمرة بالإقراء ونحوه. وهو تبرع فما يخرج عنه لمصلحته التي لا يحصل إلا بها أولى بإسقاط الزكاة عنه. قال في الخلاف وأسقط أحمد عن أرباب الزرع الزكاة في مقدار ما يأكلون. كما أسقط في الثمار. وإن ترك الساعي شيئا من الواجب وجب إخراجها. لأنها لا تسقط بتركه. ولا يزكي ما نقص عما قال الخارص لأنه لا زكاة عليه فيما ليس في ملكه. (وعن معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليس في الخضراوات) الفواكه والبقول (صدقة) لكونها لا تدخر (رواه الترمذي) وغيره وللدارقطني عن علي. وعائشة معناه. وللأثرم

وعن موسى بن طلحة. وروي بألفاظ متعددة عن عدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الترمذي لا يصح فيه شيء. والعمل عليه عند أهل العلم أنه ليس في الخضروات صدقة. وقال البيهقي إلا أنها من طرق مختلفة يؤكد بعضها بعضا. ومعها أقوال الصحابة. وقال الخطابي يستدل بحديث "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" إنها لا تجب في شيء من الخضراوات. وهو دليل في أنها إنما تجب فيما يوسق ويدخر من الحبوب والثمار دون ما لا يكال ولا يدخر من الفواكه والخضراوات ونحوها. وعليه عامة أهل العلم اهـ. وتركه - صلى الله عليه وسلم - أخذ الزكاة منها وخلفائه من بعده والناس يزرعونها بجوارهم ولا يؤدون زكاتها هو السنة المتبعة. (وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده (مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (في العسل) هو مجاج النحل ويسمى الشهد (من كل عشر قرب) بالكسر وهي ما تخرز من جانب للماء ونحوه (قربة رواه أبو داود) وابن ماجه وأبو عبيد والأثرم وغيرهم (وفيهما ضعف) الأول ضعفه الترمذي وغيره واعتضد بغيره. والثاني له شاهد عند الترمذي من حديث ابن عمر في عشرة ازقاق زق. وفيه ضعف. وعن أبي سيارة المتعي قلت يا رسول الله إن لي نحلا قال "فأد العشور" قلت احم لي جبلها "فحمى لي جبلها" رواه أحمد

وابن ماجه وفيه ضعف أيضا. وعن ابن أبي ذئاب نحوه قال ابن المنذر ليس في الباب شيء ثابت. وذهب إليه الشافعي ومالك. وقال أحمد اذهب إلى أن في العسر زكاة العشر. قد أخذها منهم عمر. يشير إلى قوله: إن أديتم صدقتها من كل عشر أفراق فرقا حميتها لكم. وقاله ابن عباس وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق. وأحد قولي الشافعي. وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم. فإذا حصل له من ملكه أو موات ثلاثون صاعا مائة وستون رطلا ففيه عشرة. قال شيخ الإسلام أوجبها أحمد في العسل لما فيه من الآثار التي جمعها. وإن كان غيره لم يبلغه إلا من طريق ضعيف. وتسوية بين جنس ما أنزل الله من السماء وما أخرجه من الأرض. ولكونه يبقى ويدخر. فاشبه التمر. ولا زكاة فيما ينزل من السماء على الشجر كالمن والزنجبيل. ولا تجب الزكاة في المعشرات بعد الاول لأن الله علق وجوب الزكاة بحصاده. والحصاد لا يتكرر. وهذا قول العلماء كافة. إلا ما روي عن الحسن. وقال الماوردي خالف الإجماع. (وله عن بلال بن الحارث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ من المعادن القبلية) المعادن جمع معدن. والمعدن المكان الذي عدن فيه شيء من جواهر الأرض. سمي معدنا لعدون ما أنبته الله

فيه. والقبلية بفتحتين اسم موضع من ناحية الفرع. القرية المشهورة بين مكة والمدينة من جهة البحر. أقطعه إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعمل فيها. ويخرج منها الذهب والفضة لنفسه. فأخذ منها (الصدقة) قال ربيعة عن غير واحد فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم. ورواه مالك وغيره. وهو داخل في قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} فإن كان ذهبا أو فضة ففيه ربع عشرة إن بلغ نصابا في الحال إجماعا. وقال الشيخ هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وأما أبو حنيفة فيجعل فيه الخمس. وإن كان غير الذهب والفضة فربع عشر قيمته إن بلغت نصابا في الحال. وفاقا بعد السبك والتصفية. وقال ابن الجوزي أحصيت المعادن فوجودوها سبعمائة معدن. قال أحمد وكلما وقع عليه اسم معدن ففيه الزكاة حيث كان في ملكه أو البراري. لا البحار اتفاقا. إذا كان المخرج له من أهل وجوب الزكاة. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث وفيه (وفي الركاز الخمس متفق عليه) والركاز هو ما وجد من دفن الجاهلية. قاله الموفق وغيره وقال مالك الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا والذي سمعت أهل العلم يقولون إنما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية. ما لم يطالب

باب زكاة النقدين

بمال. ولم يكلف فيه بنفقة. ولا كبير عمل ولا مؤنة. سمي ركازا لأنه ركز في الأرض أي أقر فيها أو من الركوز وهو التغيب. والحق الشيخ وغيره بالمدفون حكما الموجود ظاهرا بخراب جاهلي. أوطريق غير مسلوك ونحوه. عليه أو على بعضه علامة كفر لا إسلام ففيه الخمس في قليله وكثيره في الحال إجماعا إلا ما روي عن الحسن. ولأنه مال مظهور عليه من مال الكفار. فوجب فيه الخمس كالغنيمة وسوءا كان واجده ذميا أو صغيرا أو مجنونا. وإن كان عليه علامة المسلمين فلقطة أو لم تكن عليه علامة تغليبا لحكم دار الإسلام وإن وجده في فلاة أو في ملك أحياه فله. وإن وجده في أرض الحرب فركاز. وبجماعة لهم منعة فغنيمة. باب زكاة النقدين الذهب والفضة. حكم المصوغ منهما. والتحلي بهما. وما يتعلق بذلك. سميا بالنقدين للأخذ بهما ولإعطاء أو لجودتهما وهما الأثمان فلا تتدخل فيهما الفلوس. والأصل في زكاة النقدين الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ} يجمعون (الذهب والفضة) وأصل الكنز جعل المال بعضه على بعض. ومال

مكنوز مجموع. وقال أهل التفسير كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته فهو كنز. فإذا أديت زكاته فليس بكنز. وإن كان مدفونا "وَلَا يُنْفِقُونَهَا" أي لا يؤدون زكاة الأموال المكنوزة. وهي أعيان الذهب والفضة {فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} ويقال لهم {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا} بـ {مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}. وفي الصحيحين "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها" يعني زكاتها "إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار" الحديث وغيره. واتفق أئمة الفتوى بأن المراد بالكنز المذكور في الكتاب والسنة كل ما وجبت فيه الزكاة فلم تؤد. (وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليس فيما دون) أي أقل من (خمس أواق) جمع أوقية (من الورق) أي الفضة الخالصة مضروبة كانت أوغير مضروبة (صدقة) أي زكاة (متفق عليه) ولمسلم وغيره عن جابر نحوه. قال ابن عبد البر وغيره فيه إيجابها في هذا المقدار. ونفيها عما دونه. وقال الشيخ وغيره هو نص على العفو فيما دونها. وإيجاب لها في الخمس. وعليه أكثر العلماء. وذكره مذهب الأئمة الثلاثة

وأبي يوسف ومحمد وغيرهم وفي الصحيح وغيره "وفي ارقة ربع العشر" "فإن لم يكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء المصدق" ولأحمد وغيره عن علي نحوه وفي رواية "وليس فيما دون المائتين زكاة" وحكاه الموفق عن علي وابن عمر. وقال ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة فكان إجماعًا. والزيادة فيهما بحسابه عند جماهير العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. والأوقية أربعون درهمًا اتفاقًا. (وعن علي مرفوعا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا كانت لك مائتا درهم) والدرهم نصف مثقال وخمسة والعشرة سبعة مثاقيل قال أحمد قد اصطلح الناس على دراهمنا ودنانيرنا لا اختلاف فيها. ورتب الشارع الأحكام عليها. وقال الشيخ ما سماه الناس درهمًا وتعاملوا به تكون أحكامه أحكام الدرهم من وجوب الزكاة فيما يبلغ مائتين منه. وكذلك ما سمي دينارا. (وحال عليها الحول) ولابن ماجه والدارقطني والبيهقي وغيرهم عن عائشة نحوه وقال ابن القيم إسناد صحيح. وللدارقطني عن ابن عمر وأنس من طرق. فالحول فيها شرط إجماعًا (ففيها) أي المائتين (خمسة دراهم) إجماعًا لم اتقدم في الصحيح وغيره "في الرقعة ربع العشر) مضروبة أو غير مضروبة إجماعًا (وليس عليك شيء) يعني في الذهب (حتى يكون لك) منه (عشرون دينارا) وهو مثقال

مضروبًا كان أو غير مضروب وزنه اثنتان وسبعون حبة من حب الشعير الممتلئ. (وحال عليها الحول) فيعتبر فيه الحول كالفضة اتفاقا (ففيها) أي العشرين دينارا (نصف دينار) إجماعا (رواه أبو داود) وحسنه الحافظ وغيره. قال الشيخ ابن المنذر وغيرهما تجب الزكاة في عشرين دينارا كما تجب في مائتي درهم. وإنه دل القرآن والحديث على إيجاب الزكاة في الذهب كما وجبت في الفضة. وإن مالكًا حكى إجماع أهل المدينة. وما حكى خلافًا إلا عن الحسن. وقال النووي وغيره المعول فيه على الإجماع. وليس في الأحاديث الصحيحة تحديد كالفضة. ولكن أجمع من يعتد به في الإجماع على ذلك. وعن عمرو بن شعيب مرفوعا "ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب. ولا في أقل من مائتي درهم صدقة" رواه أبو عبيد وغيره. قال غير واحد لم تتغير المثاقيل في جاهلية ولا إسلام. وإنه مما اجتمع المسلمون عليه. والمثقال في الأصل مقدار من الوزن. أي شيء كان ثم غلب إطلاقه على الدينار قال شيخ الإسلام. وأما ما دون العشرين فإن لم تكن قيمته مائتين درهم فلا زكاة فيه بالإجماع. وإن كان أقل من عشرين وقيمته مائتي درهم ففيه الزكاة عند بعض العلماء من السلف اهـ. فإن كان أقل

فصل في الحلي

وعنده ذهب أو عرض تجارة أكمل به بلا نزاع. وكذا إن كان عنده أقل من مائتي درهم. يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب بالأجزاء. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم لأنه متيقن. وتضم قيمة العروض إلى كل منهما إجماعا. ولا يزكي مغشوش منهما إلا إذا بلغ خالصة نصابا. ويخرج من كل نوع بحصته من جنسه. قال الشيخ إذا كان آخذ الزكاة يريد أن يشتري بها كسوة فاشترى رب المال له بها كسوة وأعطاه فقد أحسن إليه. وقال أحمد وغيره ولا يجوز للمسلمين أن يضربوا إلا جيدا. ولا يضرب إلا في دار الإسلام بإذن السلطان قال الشيخ ينبغي له أن يضربها قيمة العدل في معاملاتهم من غير ظلم وفي السنن "نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة" وتجوز المعاملة بغير الجيد لعموم البلوى. فصل في الحلي أي فيما يباح استعماله من الحلي للذكور والإناث وما يحرم وحكم زكاته. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزع) أي جذب (خاتم الذهب) من يده اليمنى وألقاه (وقال والله لا ألبسه أبدا) ولمسلم أنه رأى رجلا في يده خاتم ذهب

فنزعه وطرحه وقال "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده" قال شيخ الإسلام اتخاذه حرام باتفاق الأئمة الأربعة. فإنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن ذلك. (واتخذ) - صلى الله عليه وسلم - (خاتمًا من ورق) نقش فيه محمد رسول الله. وكتب كثير من السلف ذكر الله على خواتيمهم. وتقدم أنه "إذا دخل الخلاء وضع خاتمه" وكان - صلى الله عليه وسلم - يجعل فص خاتمه مما يلي بطن كفه "متفق عليه" وورد مما يلي ظهر كفه. وصح تختمه في يساره. وفي يمينه أصح. وأفضل. ولأنه زينة. ويجعل فصه منه ومن غيره. واتفقوا على إباحته بجميع الأحجار ولا يجوز نقش صورة حيوان بلا نزاع. للنصوص الثابتة في ذلك. ويحرم لبسه. وأجمعوا على أن السنة للرجل جعله في خنصره. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -. ونهى عن الوسطى والتي تليها. ولا زكاة فيه عند الجمهور ما لم يتخذ منها أكثر من العادة أو سرفا أو مباهاة. (وعن أنس) رضي الله عنه قال (كان قبيعة سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فضة رواه أبو داود) والترمذي وغيرهما. والقبيعة هي الثومة التي فوق المقبض. واتفق الأئمة على جوازها. وكذا حلية الجوشن والخوذة والخف والران وحمائل السيف وشعيرة السكين ونحو ذلك. وقال الشيخ وغيره وتركاش النشاب والكلاليب وغشاء القوس والنشاب ورأس

الرمح والقواقل وحلية المهماز الذي يحتاج إليه لركوب الخيل. وقال لا حد للمباح من ذلك. وقال في الكلاليب ونحوها إذا كانت بزنة الخواتيم كالمثقال ونحوه فهو أولى بالإباحة من الخاتم. فإن الخاتم يتخذ للزينة وهذا للحاجة. وقال الحياصة إذا كان فيها فضة يسيرة فإنها تباح على أصح القولين. وقد اتخذ الصحابة المناطق محلاة بالفضة. وهي كالخواتيم. ولا تباح حلية المراكب ولباس الخيل كاللجم. وتحلية الدواة والمقلمة والكمران والمشط والمكحلة والميل والمرآة والقنديل ونحو ذلك عن جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وفيه الزكاة عند الجمهور. (زاد الترمذي عن مزيدة) بن مالك العبدي العصري القيسي قال البخاري له صحبة قال (دخل) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يوم الفتح) أي فتح مكة سنة ثمان في رمضان (وعلى سيفه ذهب وفضة) وكان لعمر سيف فيه سبائك من ذهب وعثمان ابن حنيف كان في سيفه مسمار من ذهب ذكرها أحمد. وقيدهما باليسير مع أنه ذكر أن قبيعة سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان وزنها ثمانية مثاقيل. وظهر الخبر والآثار إباحة تحلية السيف الشاملة للقبيعة وغيرها بالذهب كالفضة. واختاره الشيخ وغيره. (ولأبي داود عن معاوية) رضي الله عنه (نهى) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الذهب إلا مقطعًا) أراد الشيء

اليسير منه في السلاح والحلي وكذا قال الشيخ الأظهر إباحة اليسير منه في السلاح والحلي. وقال يسير الذهب التابع لغير كالطراز ونحوه جائز في الأصح من مذهب أحمد وغيره. (وفي السنن عن عرفجة) بن أسعد بن كرز التميمي السعدي أحد فرسان الجاهلية. وكان قطع أنفه يوم الكلام ماء بين الكوفة والبصرة وقع فيه حرب في الجاهلية بين ملوك كندة وتميم. ثم أسلم (قال اتخذت أنفا) مصنوعا على صفة الأنف (من فضة) ليمنع به تشوه منظره بذهاب أنفه (فانتن علي) أي فسد وتغير ريحه علي فشق علي بقاؤه منتنا (فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتخذت أنفا من ذهب). فدل على جواز اتخاذ أنف من ذهب وربط أسنان ونحو ذلك. وروى الأثرم وغيره عن موسى بن طلحة وأبي حمزة الضبغي وأبي رافع وثابت البناني وإسماعيل بن زيد بن ثابت والمغيرة بن عبد الله أنهم شدوا أسنانهم بالذهب. وهو ضرورة فأبيح كالأنف إجماعا بل أولى. وذكر أهل الخبرة أن الذهب لا ينتن ولا يصديه الندى ولا يبليه الثرى ولا تنقصه الأرض وأما الفضة فإنها تبلى وتصدى ويعلوها السواد وتنتن قال غير واحد ويتوجه جوازه في الأنملة كالسن. (وتقدم حديث) أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (حرم الذهب على ذكور أمتي) فيحرم مفردا كخاتم إجماعا.

وأبيح اليسير منه غير المفرد لما تقدم. وأنف ونحوه للضرورة (وأحل لإناثهم) رواه أحمد وغيره من طرق عن جماعة من الصحابة. وصححه الترمذي والنسائي وابن خزيمة. وأجمعوا على إباحته لهن فقالوا يباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلبسه كالخواتيم والأسورة والخلاخل والأطواق في المخانق والمقالد والتاج وما أشبه ذلك. وحكوه اتفاقا لأن الشارع أباح التحلي لهن مطلقا. فلا يجوز تحديده بالرأي. وما لم تجر العادة بلبسه كالثياب المنسوجة بالذهب والنعال لا يباح لهن لانتفاء التجمل. فلو اتخذته حرم وفيه الزكاة. (وعن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه (مرفوعا) قال (ليس في الحلي زكاة رواه الدارقطني وضعفه) لأنه من رواية أبي حمزة ميمون وهو ضعيف. والمراد بالحلي المباح لذكر أو أنثى إذا كان معدا للاستعمال أوالعارية. وهذا مذهب مالك وأحمد وإحدى الروايتين عن الشافعي والحديث وإن كان فيه مقال فيعضده الاستعمال في عصر النبوة وبعده بدون زكاة. وكونه لم يرصد للنماء. والزكاء إنما شرعت في الأموال النامية. والحلي بضم الحاء وتكسر جمع حلي بفتح فسكون ما يتزين به من مصاغ الذهب والفضة. وسائر المعدنيات والجواهر. والمراد هنا الحلي من الذهب والفضة.

(قال أحمد خمسة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) أنس وجابر وابن عمر وعائشة وأسماء غيرهم (كلهم يقولون ليس فيه) يعني الحلي المباح (زكاة) رواه البيهقي ومالك والدارقطني وغيرهم. وقال الأثرم وغيره عن جماعة من التابعين. ولأنه عدل به عن النماء إلى فعل المباح أشبه ثياب البذلة وعبيد الخدمة ودور السكنى. ونقل الشيخ وغيره عن غير واحد أن زكاته عاريته. وقال ينبغي إذا لم تخرج زكاته أن يعيره. قال ابن القيم وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وهو الراجح. وأنه لا يخلو الحلي من زكاة أو عارية. وقيل تجب للعمومات وحديث المسكتين وعائشة. وفيهما كلام. وأجيب بالتخصيص. أو النسخ لتظاهر الآثار عن الصحابة والإجماع على الإباحة. وإن اتخذ فرارا من الزكاة أو أعد للكراء أو النفقة أو كان محرما ففيه الزكاة إن بلغ نصابا. لأنها إنما سقطت مما أعد للاستعمال بصرفه عن جهة النماء. فيبقى ما عداه على مقتضى الأصل اتفاقا. قال الشيخ وغيره وما يحرم اتخاذه فيه الزكاة. ولم يحك جمهور العلماء فيه خلافا. وكذا إن أعد للكراء أو للتجارة في قيمته كالعروض. ولا زكاة في جوهر ولؤلؤ ونحوها وإن كثر أو كان في حلي إلا أن يكون للتجارة فيقوم جميعه تبعا للنقد.

باب زكاة العروض

باب زكاة العروض جمع عرض بإسكان الراء. وهو ما أعد لبيع أو شراء من جميع صنوف الأموال. سمي عرضا لأنه يعرض ليباع ويشترى. أو لأنه يعرض ثم يزول. والأصل في وجوب الزكاة فيه عموم الكتاب. والسنة والإجماع. بشرط ان يكون ملكها بفعله. وبنية التجارة. وبلغت قيمتها نصابا. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} يعني بالتجارة قاله مجاهد وغيره. قال شيخنا هذه الآية أوضح آي القرآن دلالة على وجوب الزكاة في مال التجارة. وقال البيضاوي وغيره {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أي الزكاة المفروضة. فتجب في عروض التجارة. أنه يوصف بأنه مكتسب. وهو مذهب جمهور أهل العلم. وقال ابن المنذر والوزير وغيرهما أجمع أهل العلم أن في العروض التي يرد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول. سواء في ذلك الخيل والرقيق وغيرهما. وقال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ} أي المتقين {الحق} أي نصيب {معلوم} مقدر بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهوربع العشر. ومال التجارة أعم الأموال فكانت أولى بالدخول في الآية من سائر الأموال. (وعن سمرة) بن جندب رضي الله عنه قال (كان

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نخرج الصدقة) يعني الزكاة ربع العشر (مما نعده للبيع) والشراء أي نهيئه للتجارة وخص البيع لأنه الأغلب (رواه أبو داود وفيه ضعف) فإنه من طريق سمرة وروي من طريق. وله شواهد وعن أبي ذر "وفي البز صدقة" وقال عمر لحماس أد زكاة مالك فقال مالي الاجعاب وأدم. فقال قومها وأد زكاتها. واشتهرت القصة من غير نكير فكان إجماعا. واحتج أحمد وغيره بها. وقال المجد وغيره هو إجماع. وقال شيخ الإسلام الأئمة الأربعة وسائر الأمم إلا من شذ متفقون على وجوبها في عرض التجارة. سواء كان التاجر مقيما أو مسافر وسواء كان متربصا. وهو الذي يشتري التجارة وقت رخصها ويدخرها إلى وقت ارتفاع السعر. كالتجار الذين في الحوانيت. وسواء كانت التجارة بزا من لبيس أو سلاح. أو طعاما من قوت أو فاكهة. أو أدم أو غير ذلك. أو كانت آنية كالفخار ونحوه. أو حيوانا من رقيق أو خيل أو بغال. أو حمير أو غنم معلوفة أو غير ذلك. فالتجارات هي أغلب أموال أهل الأمصار الباطنة كما أن الحيوانات الماشية هي أغلب الأموال الظاهرة. وتجب في جميع أجناس الأجر المقبوضة اهـ. أي بشرطها. وتقوم عند تمام الحول بالأحظ للفقراء. قال الشيخ يجوز أن يخرج عنها جميعها دراهم بالقيمة. ويجوز منها. لأنه قد واسى الفقراء فأعطاهم.

من جنس ماله. ولا زكاة في آلة الصباغ وأمتعة التجار وقوارير العطار إلا أن يريد بيعها. ولا قيم ما أعد للكراء من عقار وحيوان. (وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وأما خالد) بن الوليد رضي الله عنه. وكان الساعي طالبه بالزكاة عن أعيان أو أثمان ما عنده للتجارة (فـ) أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه (قد احتبس) أي حجر ووقف (أدراعه) جمع درع الحديد (وأعتده) بضم التاء ما أعده الرجل من السلاح والدواب وآلة الحرب (في سبيل الله) أي جعلها حبسا في سبيل الله تبرعا وتقربا إلى الله (متفق عليه) أي فلا زكاة عليه فيها لتحبيسها وتوفيقها لله تعالى. قال النووي وغيره فيه وجوب زكاة التجارة وإلا لما اعتذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه. وهو قول جمهور السلف والخلف. وقال الخطابي هو كالإجماع من أهل العلم. (ولهما عنه مرفوعا ليس على المسلم في عبده) أي مملوكة (و) لا في (فرسه) أي الذي لم يعد للتجارة (صدقة) أي زكاة واجبة قال ابن رشد لا خلاف في عدم وجوب الزكاة في العبد المتصرف والفرس المعد للركوب ويقاس عليه سائر أموال القنية. ولا خلاف في أنها لا تؤخذ منها. وأما إذا كانت للتجارة فثابتة بالإجماع. وقال النووي وغيره هذا الحديث أصل في أن أموال القنية

باب زكاة الفطر

لا زكاة فيها. وهو قول العلماء من السلف والخلف إلا أبا حنيفة في الخيل والحديث حجة عليه وقال الوزير وغيره أجمعوا على أنه ليس في دور السكنى وثياب البذلة واثاث المنزل ودواب الخدمة وعبيد الخدمة وسلاح الاستعمال زكاة اهـ. فالعبيد ورباط الخيل وآلات السلاح والحرب وسائر أموال القنية كل ما كان منها ما عساه أن يكون ولم يكن للتجارة لم يكن فيه زكاة. فإن سائر أمول القنية مشغولة بالحاجة الأصلية. وليست بنامية أيضا. وكل منها مانع من وجوب الزكاة ولو لم ينص على كل فرد منه فإن الشارع إنما اعتنى ببيان ما تجب فيه الزكاة لأنه خارج عن الاصل فيحتاج إلى بيان. لا ببيان ما لا تجب فيه اكتفاء بأصل عدم الوجوب. باب زكاة الفطر أضيفت إليه إضافة الشيء إلى سببه. وهو اسم مصدر من أفطر الصائم إفطارا. ويراد بها الصدقة عن البدن. تزكية للنفس وتطهيرا لها. وتنمية لعملها. وجبرا لنقص الصوم والأصل في وجوبها عموم الكتاب. والسنة والإجماع ومناسبتها هنا لأنها من الوظائف المالية. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ} فاز وظفر كل الفوز والظفر {مَنْ تَزَكَّى} أي زكى نفسه بالصدقة نماها وطهرها. قال

طائفة من السلف أدى زكاة الفطر ولابن خزيمة وغيره مرفوعا "نزلت في زكاة الفطر" وكان عمر بن عبد العزيز يأمر بها ويتلو هذه الآية. وقال مالك هي داخلة في عموم "وَآَتُوا الزَّكَاةَ" وبين - صلى الله عليه وسلم - تفاصيل ذلك. ومن جملتها زكاة الفطر. وكان أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال فرض) أي أوجب وألزم (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر) من رمضان نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على فرضيتها. فتجب بغروب شمس ليلة الفطر. لأنه وقت الفطر. أضيفت إليه والإضافة تقتضي الاختصاص والسببية. ووجوبها به مذهب مالك والشافعي وأحمد. فمن أسلم بعده أو تزوج أو ملك عبدا أو ولد له بعده لم تلزمه اتفاقا. وكذا لو أيسر. واختار الشيخ وجماعة تلزم لحصول اليسار وقت الوجوب. وبعده. إن فعل فقد أحسن. وفي رواية "أمر بزكاة الفطر (صاعا من تمر) بالمثناة الفوقية وصاعا تمييز. أو مفعول ثان (أو صاعا من شعير) إجماعا. وكان أكثر أقوات أهل المدينة إذا ذاك (على العبد) الصغير والكبير والحاضر والغائب والآبق والمرهون والمغصوب. وكل من أضيف إلى ملكه. ولو مكاتبا. وثبت من حديث أبي هريرة وغيره "ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر".

(والحر والذكر والأنثى) إجماعا (والصغير والكبير) سواء كان من أهل القرى أو البوادي بإجماع من يعتد به. ويخرج ولي اليتيم عنه من ماله. قال الموفق وغيره لا نعلم أحدا خالف فيه إلا محمد بن الحسن والخبر حجة عليه. ونقل ابن المنذر الإجماع على أنها لا تجب على الجنين واستحبه أحمد. وهي فرض على من ذكر إذا كان (من المسلمين) إجماعًا (متفق عليه) دون الكافرين لأنها طهارة. والكافر لا يطهره إلا الإسلام. فلا تجب عليه عن نفسه باتفاق أهل العلم. ولا عن مستولدته المسلمة حكاه ابن المنذر إجماعا. ولا المسلم عن عبده الكافر عند الجمهور. (زاد الدارقطني ممن تمونون) يعني ممن تلزمه مؤنة نفسه أو غيره ولا تجب على من لا يمون نفسه لأن الله خاطب بالوجوب غيره. ومن وجبت عليه فطرة نفسه وغيره يبدأ بنفسه وثبت قوله "ابدأ بنفسك" في غير ما حديث. والمراد من ماله. ويخرج عمن يمونه من زوجة غير ناشز وولد صغير إجماعا. وكبير في عياله عند الجمهور. ووالديه والأقرب فالأقرب في الميراث وفي صحيح مسلم "فإن فضل شيء فلذي قرابتك". إذا فضل له يوم العيد وليلته صاع عن قوته وقت عياله وحوائجه الأصلية اتفاقا. فلا يعتبر ملك نصاب. قال الشيخ وهو قول الجمهور ولا تجب على من لم يفضل له قدرها اتفاقا

لقوله {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} واعتباره كونه واجدا لقوت يوم وليله أمر لا بد منه لأن المقصود من شرع الفطرة إغناء الفقراء في ذلك اليوم. ولو لم يعتبر لكان ممن أمرنا بإنائه في ذلك اليوم. لا بإخراجه وإغناء غيره. ولا قائل بوجوبها علىمن لم يملك قوته. وقوله "فرض رسول الله صدقة الفطر على الغني والفقير" لا يدخل فيه من لم يقدر إلا على قوت نفسه أو عياله. لأن القوت ضروري وحفظ النفس مقدم على غيره ولا واجب مع ضرورة. ولا يمنعها الدين إلا بطلبه لوجوب أدائه إذا. ولقوله "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" فيبدأ به، وهو قول الجمهور. لأنه لا فضل عنده. (وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (قال كنا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -) وهذا من قبيل المرفوع (نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام) أي حنطة. فإنه اسم خاص له وحكي اتفاقا. بدليل ذكر الشعير والبر على تلك الأقوات. وهو الطعام في عرف أهل الحجاز. وقال الخطابي يستعمل فيه عند الإطلاق وللدراقطني من حديث أبي هريرة "أو صاعا من قمح" وله أيضًا "أدوا صاعا من بر". وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. يرون أنه لا يجزئ أقل من صاع من بر أو غيره. ولهما من حديث أبي سعيد: كنا نخرج صاعًا من طعام. حتى قدم معاوية المدينة

فقال إني لأرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر فأخذ الناس بذلك. ولأبي داود وجعل نصف صاع حنطة مكان صاع. قال الشيخ وهو قياس المذهب في الكفارة. وهو مذهب أبي حنيفة ولأبي داود عنه لا أخرج أبدا إلا صاعا. وقال تلك قيمة معاوية لا أقبلها. ولا أعمل بها حكاه ابن خزيمة. وقال جمهور أهل العلم خالف معاوية أبا سعيد وغيره ممن هو أطول صحبة منه. وأعلم بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال النووي ظاهر الحديث والقياس على اشتراط الصاع من الحنطة كغيرة. فوجب اعتباره (أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر) وقيل هو أفضل. ومذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور البر أفضل ثم التمر (أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب متفق عليه) والزبيب أفضل من الشعير. ثم الأقط عند الجمهور. وإن عجم الخمسة أجزأ كل حب وثمر يقتات. وقال الشيخ وغيره قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد وغيرهم يجزئ كل حب وثمر يقتات ولو لم تعدم الخمسة واختاره واحتج بقوله {مِنْ أَوْسَطِ مِا تُطْعِمُونَ أهليكُمْ} وبقوله (صاع من طعام) والطعام قد يكون برا أو شعيرا. وقال أيضا هو قول أكثر العلماء. وهو أصح الأقوال. فإن الأصل في الصدقات أنها تجب على وجه المساواة للفقراء. وذكر الآية والحديث. ثم قال ولأن هذا كان قوت أهل

المدينة. ولو كان غير قوتهم بل يقتاتون غيره لم يكلفهم أن يخرجوا ما لا يقتاتونه اهـ. ـ. وكذا قال غير واحد من أئمة الإسلام. أي أهل بلد ومحلة قوتهم غير ذلك فإنما عليهم صاع من قوتهم كائنا ما كان. وأنه قول جمهور العلماء. وقال ابن القيم وهو الصواب الذي لا يقال بغيره. إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد ومواساتهم من جنس ما يقتات أهل بلدهم. لقوله "أغنوهم في هذا اليوم". (ولهما عن ابن عمر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بزكاة الفطر أن تؤدى" أي تخرج وتعطى للمساكين بعد الصبح "قبل خروج الناس إلى الصلاة) أي صلاة العيد اتفاقا. قال عكرمة في قوله {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} هو الرجل يقدم زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته. وقال جماعة من أهل العلم الأفضل إذا خرج إلى المصلى. (زاد البخاري وكانوا) أي قال ابن عمر كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يعطون) المساكين زكاة الفطر (قبل الفطر بيوم أو يومين) وعلى هذا اتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم. وفي قوله: كانوا إشارة إلى جماعة الصحابة فيكون إجماعا. ولا يجوز أكثر منها وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما. والنص واضح فيما ذهب إليه مالك وأحمد وقيل يجوز بثلاث ونحوها إلى من تجمع عنده ليفرقها يوم العيد قبل الصلاة.

ويؤكد الأمر بإخراجها قبل الصلاة ما رواه الدارقطني وغيره من حديث ابن عمر "أغنوهم عن الطواف" أي في الأسواق لطلب المعاش "في هذا اليوم" يعني يوم العيد. وإغناؤهم يحصل بصرفها إليهم في أول اليوم. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة) أي تطهيرًا (لـ) نفس (الصائم) رمضان (من اللغو) ما لا ينعقد عليه القلب من القول (والرفث) وو هنا الفحش من الكلام (وطعمة للمساكين) بضم الطاء هو الطعام الذي يؤكل. وفيه أنها تصرف للمساكين دون غيرهم لهذا الخبر. ولقوله "أغنوهم عن الطواف". قال الشيخ ولا يجوز دفعها إلا لمن يستحق الكفارة وهم الآخذون لحاجة أنفسهم. ويجوز دفعها إلى واحد كما عليه المسلمون قديما وحديثا. وقال إذا كان الفقراء مجتمعين في موضع وأكلهم جميعا في سماط واحد وهم مشتركون فيما يأكلونه في الصوم ويوم العيد لم يكن لأحدهم أن يعطي فطرته لواحد من هؤلاء. (فمن أداها) اي أعطاها لهم (قبل الصلاة) أي صلاة العيد (فهي زكاة مقبولة) أي صدقة الفطر وأمر القبول فيها موقوف على مشيئة الله (ومن أداها بعد الصلاة) أي

باب إخراج الزكاة

صلاة العيد (فهي صدقة من الصدقات) التي يتصدق بها في سائر الأوقات (رواه أبو داود) وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه. فدل على فواتها وأنها قد خرجت عن ماهيتها. وكان كأن لم يخرجها. وقال ابن القيم مقتضاه أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد. وأنها تفوت بالفراغ من الصلاة. وصوبه وقال قواه شيخنا ونصره. وقال الشيخ وغيره إن أخرها بعد صلاة العيد فهي قضاء. ولا تسقط بخروج الوقت. وقال الوزير اتفقوا على أنها لا تسقط بخروج الوقت وقال الوزير اتفقوا على أنها لا تسقط عمن وجبت عليه بتأخيرها وهي دين عليه. حتى يؤديها. وأن تأخيرها عن يوم العيد حرام ويقضيها آثما إجماعا إذا أخرها عمدًا. باب إخراج الزكاة أي زكاة المال المستقرة بشروطها وما يتعلق بالإخراج من حكم النقل والتعجيل وغير ذلك. قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ} لما ذكر تعالى ما أنعم به على عباده من الثمار. وأنه أباح لهم الأكل منها. أمرهم بأداء حقها وهو الزكاة المفروضة {يَوْمَ حَصَادِهِ} أي يوم الجذاذ والقطع. وبعد التصفية. ولا تجب إلا بعد حصوله في يد مالكه. وتقدم

تقدير الشارع لها. والأمر بالإيتاء يوم الحصاد يقتضي الفورية. وكذا قوله {وَآَتُوا الزَّكَاةَ} ولأن المؤخر يستحق العقاب. ولو جاز التأخير لكان إما إلى غير غاية وهو مناف للوجوب. أو إلى غاية ولا دليل عليه. ولأنها عبادة تتكرر فلم يجز تأخيرها. ولأنه إن طالبه الساعي بها اقتضت الفورية إجماعا فكذا بطلب الله تعالى. وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وبعض الحنفية وجمهور العلماء. ولأن حاجة الفقير ناجزة وربما أدى التأخير إلى الفوات ولأن النفوس طبعت على الشح فربما أدى التأخير إلى البخل بالواجب والتعجيل أخلص للذمة وابعد من المطل المذموم وأرضى للرب وأمحى للذنب. (عن ابن عمر مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) بدأ بها لأنها أصل الدين الذي لا يصح شيء منه إلا بها. وهي تقتضي شهادة أن محمدا رسول الله. وجاءت في هذا الحديث وغيره مقرونة بها {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} المفروضة "فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فجعل غاية المقاتلة وجود ما ذكر. وثبت أيضا أنه قال "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به" فإذا قالها وجب الكف عنه حتى يختبر. فإن التزم أحكام الإسلام قبل منه وإلا قوتل.

(وقال أبو بكر) الصديق رضي الله عنه لما منع طائفة من العرب الزكاة. وتأولوا قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} أنه خاص به - صلى الله عليه وسلم - حتى قال له عمر كيف تقاتلهم وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" قال أبو بكر: إن الزكاة من حقها "والله لو منعوني عناقا) هو على المبالغة والتحدي. وحلف عليه لتأكده. قال أبو الخطاب وغيره يؤخذ منه أخذ العناق إذا كانت الغنم كلها سخالا. وروي عقالا (كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على ذلك) أي على المنع. قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق. وأجمع الصحابة عليه (متفق عليهما) وفيه قال لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال. فمن نصب نفسه للحرب دونها قوتل. وحاصله أنهم متى منعوا شيئا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن قل فقد منعوا شيئا واجبا. إذ لا فرق بين منع الواجب وجحده. وبين القليل والكثير. لكن من منع الزكاة جاحدا وجوبها كفر. إذا كان عارفا الحكم إجماعا، لتكذيبه الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين. وأخذت منه وقتل. وإن كان بخلا أخذت منه فقط. وعزر إن علم التحريم. وقوتل إن احتيج إلى قتاله. ولم يكفر به اتفاقا.

قال الشيخ من تركها أخذت منه قهرا فإن غيب ماله قتل في أحد قولي العلماء وفي الآخر لا يزال يضرب حتى يظهر ماله فتؤخذ منه الزكاة. (ولهما عن ابن مسعود قال - صلى الله عليه وسلم - في الأمراء) يعني أمراء الجور. وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها" قالوا فما تأمرنا. يعني إذا كان ذلك. قال (تؤدون الحق الذي عليكم) من زكاة وخمس ونحو ذلك. ولأبي داود "خلو بينهم وبين ما يبتغون. فإن عدلوا فلأنفسهم" وللطبراني "ادفعوا لهم الخمس ما صلوا" وللبيهقي وأبي سعيد وغيرهما عن جماعة من الصحابة الأمر بدفعها إليهم "وتسألون الله الحق الذي لكم) وكان بعضهم يقول: اللهم إني أحتسب عندك ما أخذ مني. وينبغي للإمام بعث السعادة قرب زمن وجوبها لقبضها منهم. فإن من الناس من لا يصلي ولا يزكي وإهمالهم إضاعة للزكاة. ويجب دفعها إليه إذا طلبها اتفاقا. بذلا للطاعة. وله طلبها من الأموال الظاهرة والباطنة إن وضعها في مواضعها اتفاقا. ومذهب أحمد وجمهور العلماء جواز دفعها إليه عدلاً أو غير عدل. ويجزئ قيل لابن عمر يشربون بها الخمور قال ادفعها إليه. وللمالك أن يفرق زكاة ماله الباطن بنفسه قال النووي بلا خلاف. (وفيهما كان) - صلى الله عليه وسلم - (إذا أتاه قوم بصدقاتهم) أو مع

رسلهم (قال اللهم صل عليهم) وفي رواية "اللهم صل على آل أبي فلان" وفي رواية "اللهم صل على آل أبي أوفى" متفق عليها وورد أنه دعا لهم بالبركة. رواه النسائي. وله "اللهم بارك فيه وفي أهله" (وصل عليهم) أدع لهم. واستحب أهل العلم أنه يقول آجرك الله فيما أعطيت. وبارك لك فيما أبقيت. وجعله لك طهورا. وإلا دعا له بالغيبة. وللرسول الحاضر كرد السلام. ويقول عند دفعها اللهم اجعلها مغنما. ولا تجعلها مغرما. للخبر: ويحمد الله على توفيقه لأدائها. ولا يصح إخراجها إلا بنية من مكلف. لحديث "إنما الأعمال بالنيات" وحكاه الوزير وغيره إجماعا. والجمهور أنها شرط. واعتبره الأكثر عند الدفع. وجوز حال عزلها تيسيرا. وينوي عن صبي ومجنون وليهما وإن أخذت منه قهرا أجزأت ظاهرا فلا يطالب بها ثانيا بلا نزاع. وأما باطنا فلا تجزئ لعدم النية اختاره الشيخ وغيره. وإن تعذر إخراج المالك وأخرجت قهرا أجزأت مطلقا. لأن للسلطان أخذها من الممتنع بالاتفاق. ولو لم تجز لما جاز له أخذها. قال الشيخ وما يأخذه الولاة يسقط عن صاحبه إذا صرفه في مصارفه باتفاق العلماء وبغير اسم الزكاة لا يعتد به منها. (وللخمسة) أحمد وأبي داود والنسائي عن عمرو (مرفوعا تؤخذ صدقات المسلمين) أي زكاة أموالهم من ماشية وغيرها (على مياههم) وفي رواية لأحمد وأبي داود "لا

جلب ولا جنب. ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم" ولهم أيضا من حديث عمران بن حصين ونحوه. وحصصه الترمذي. ومن حديث أنس وغيره. وفيها دليل على أن المصدق هو الذي يأتي للصدقات. ويأخذها على مياه أهلها وفي دورهم. وعمل المسلمين عليه. لأن ذلك أسهل لهم. والأفضل أن يفرقها في فقرائهم. لما تقدم من قوله "تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" وغيره. فيفرقها في مكان رب المال وما قاربه. ويبدأ بأقاربه الذين لا تلزمه مؤنتهم. وإن لم يكن فيه فقراء ففي اقرب مكان إليه. حكاه الوزير وغيره اتفاقا. ويجوز نقلها وتجزئ عند جمهور العلماء. حكاه الموفق وغيره. لأنه دفع الحق إلى المستحق فبرأ كالدين. ولعموم الخبر. فإن الضمير فيه عائد إلى فقراء المسلمين. وللآية. ولم يفرق بين فقراء وفقراء. ولقوله لقبيصة "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" بل قد علم بالضرورة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستدعي الصدقات من الأعراب وغيرهم إلى المدينة. ويصرفها في فقراء المهاجرين والأنصار. قال شيخ الإسلام يجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية. وإذا نقلها إلى المستحقين بالمصر الجامع. مثل أن يعطي من بالقاهرة من العشور التي بأرض مصر فالصحيح

جواز ذلك. فإن سكان المصر إنما يعانون من مزارعهم. بخلاف النقل من إقليم إلى إقليم مع حاجة أهل المنقول عنهم. وإنما قال السلف جيران المال أحق بزكاته. وكرهوا نقل الزكاة إلى بلد السلطان ليكتفي أهل كل ناحية بما عندهم من الزكة. ولهذا في كتاب معاذ "من انتقل من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف جيرانه" والمخلاف عندهم يقال له المعاملة. وهو ما يكون فيه الوالي والقاضي وهو الذي يستخلف فيه ولي الأمر جابيا يأخذ الزكاة من أغنيائهم فيردها في فقرائهم. ولم يقيد ذلك بمسيرة يومين. وتحديد المنع من نقل الزكاة ليس عليه دليل شرعي. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (في زكاة العباس) وذلك لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر على الصدقة فقيل منع ابن جميل وخالد والعباس قال - صلى الله عليه وسلم - "وأما العباس فـ "هي" أي زكاته (علي ومثلها) معها (متفق عليه) وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - استسلف منه صدقة عامين رواه البيهقي وغيره عن علي مرفوعا قال: "كنا احتجنا فاستسلفنا العباس صدقة عامين" وللطبراني والبزار من حديث ابن مسعود نحوه. ولأبي داود من حديث رافع قال لعمر "إنا كنا تعجلنا زكاة العباس عام الأول" وبمجموعها استدل على أنه تعجلها منه. وللخمسة أن العباس سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك.

باب أهل الزكاة

وفيها جواز تعجيل الزكاة قبل وجوبها. ولو لعامين. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير أهل العلم لأنه حق مال أجل للرفق فجاز تعجيله قبل أجله كالدين. والمراد بعد كمال النصاب. قال الموفق بغير خلاف أعلمه. وقال الشيخ وغيره يجوز تعجيل الزكاة قبل وجوبها بعد سيب الوجوب عند جماهير العلماء. فيجوز تعجيل زكاة الماشية والنقدين وعروض التجارة إذا ملك النصاب. ويجوز تعجيل العشريات قبل وجوبها إذا كان قد طلع الثمر قبل بدو صلاحه ونبت الزرع قبل اشتداد حبه وصرح جماعة بجواز تعجيلها من ولي كمالك. ولا يستحب تعجيلها خروجًا من خلاف من منعه. وإن أخذ الساعي منه زيادة على الواجب ونواه قال الشيخ باسم الزكاة ولو فوق النصاب بلا تأويل اعتد به. ويجوز للإمام التأخير إذا كان لصاحبها حاجة إليها ونحوه. لما روي عن عمر أنه أخرها عام الرمادة لجدب اتفق فيه. ثم أخذت منهم العام القابل. باب أهل الزكاة أي ذكر اصناف من يجوز دفع الزكاة إليه من أهلها الذين جعلهم الله محلا لدفعها. وذكر من لا يجوز دفعها إليه. وما يتعلق بذلك من بيان شروطهم. وقدر ما يعطاه كل واحد منهم. قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتِ} أي الزكاة المفروضة. قال

الشيخ ويدخل فيها صدقة التطوع وسائر المعروف اهـ. وسبب نزول هذه الآية لما لمز بعض المنافقين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قسم الصدقات. بين تعالى المستحقين لها. وأنه - صلى الله عليه وسلم - لا تعلق له منها بشيء. فلا مطعن عليه. وأتى تعالى بإنما المفيدة للحصر. المفصحة بإثبات ما بعدها. ونفي ما سواه. ولأبي داود وغيره عن زياد بن الحارث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء. فإن كنت منهم أعطيتك" قال الموفق وغيره لا نعلم خلافا بين أهل العلم أنه لا يجوز دفعها إلى غيرهم. إلا ما روي عن أنس والحسن. فلا يجوز صرفها في بناء المساجد والقناطر وسد البثوق وتكفين الموتى ووقف المصاحف وغيرها من جهات الخير. وحكاه الوزير وغيره اتفاقا. لتعينها لمن عينت له. قال الشيخ ولا ينبغي أن تعطى إلا لمن يستعين بها على طاعة الله. فإن الله فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج إليها من المؤمنين أو لمن يعاونهم. فمن لا يصلي من أهل الحاجات لا يعطى منها حتى يتوب ويلتزم أداء الصلاة. قال ولا يجوز أن يعطى من الزكاة من يصنع بها دعوة وضيافة للفقراء ولا يقيم بها سماطا لا لوارد ولا لغير وارد بل أن تعطي ملكا للفقراء المحتاجين ينفقونها على أنفسهم وعيالهم. ويقضون بها ديونهم ويصرفونها في حاجاتهم.

{لِلْفُقَرَاءِ} بدأ تعالى بهم لشدة حاجاتهم ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم وهم من لا يجدون شيئا أو يجدون بعض الكفاية والفقير من فقر الظهر فعيل بمعنى مفعول. أي مفقور. وهو الذي نزعت فقرة ظهره. فانقطع صلبه. ومثلوه بالزمن والأعمى (وَالْمَسَاكِينَ) وهم الذين يجدون أكثر الكفاية أو نصفها من كسب أو غيره. لخبر "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف" وقال تعالى {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ}. والمسكين مفعيل من السكون وهو الذي أسكنته الحاجة. والفقر والمسكنة عبارتان عن شدة الحاجة وضعف الحال. فالفقير هو الذي كسرت الحاجة فقار ظهره والمسكين هو الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت وهما صنفان في الزكاة عند الاقتران. وصنف واحد في سائر الأحكام لأن كل واحد من الاسمين ينطلق عليهما فيعطى الصنفان من الزكاة كفايتهما مع عائلتهما لأن كل واحد مع عائلته مقصود دفع حاجته سنة يتكرر بتكرر الحول. ومن ملك ولو أثمانا لا تقوم بكفايته أعطي تمام كفايته. فإن الغني الذي لا يجوز إعطاؤه منها هو ما يعده الناس غنيا. ويحصل به الكفاية على الدوام. إما من إجارة أرض أو عقار أو غير ذلك. فمن كان محتاجا حلت له. وإن ملك نصبا. قال الشافعي وغيره قد يكون الرجل بالدرهم غنيا مع كسبه. ولا

يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه. وكثرة عياله. وقال أحمد وغيره إذا كان له عقار وضيعة يستغلها عشرة آلاف مثلا أو أكثر ولا تكفيه يأخذ من الزكاة. ويكون له الزرع القائم وليس له ما يحصده يأخذ منها. وقال الشيخ وفي معناه ما يحتاج إليه لإقامة مؤنته. وإن لم ينفقه بعينه فيها. وكذا من له كتب يحتاج للحفظ والمطالعة. أول لها حلي للبس أو كراء تحتاج إليه لا يمنع ذلك الأخذ من الزكاة. {وَالْعَامِلِينَ} أي الساعين {عَلَيْهَا} الذين يبعثهم الإمام لأخذها من أربابها. كجباتها وحفاظها وحسابها وكتابها وقسامها بين مستحقيها. وعدادها وكيالها ووزانها. وجماع المواشي ورعاة وجمال. ومن يحتاج إليهم فيها. لدخولهم في مسمى العاملين عليها فيجوز إعطاؤهم قدر أجرتهم. ولو أغنياء إجماعا. وكان - صلى الله عليه وسلم - يبعث على الصدقة سعاة ويعطيهم عليها. فبعث عمر وأبا موسى وغيرهما. ولانزاع في ذلك. ويلزمهم رفع حساب ما تولوه إذا طلب منهم وفي الفروع مع التهمة. ويشترط التكليف والإسلام والأمانة والكفاية اتفاقا. لأنها ضرب من الولاية. ويأتي المنع من تولية أهل الذمة في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. وجوز بعضهم أن يكون الحامل والراعي ونحوهما من ذوي القربى ومواليهما. قال في الإنصاف بغير خلاف. لأن ما يأخذه للعمل لا للعالمة.

{الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} جمع مؤلف. وهو السيد المطاع في عشيرته. وهم قسمان مسلمون وكفار. والمسلمون أقسام من أشراف العرب كعيينة والأقرع. فيعطون لتقوى رغبتهم في الإسلام. وقسم نيتهم قوية فيعطون تألفا لقومهم. وترغيبا لأمثالهم في الإسلام. وقسم بإزاء قوم كفار في موضع لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بكلفة. وقوم بإزاء قوم يمنعون الزكاة فيأخذها منهم. ومؤلفة الكفار كصفوان بن أمية. لما يرى من ميلهم إلى الإسلام. فيعطون رجاء إسلامهم. أو من يخشى شره فيرجى بعطيته كف شره وشر غيره. أو إسلام نظيره. وحكمهم باق لإعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر. وأما ترك عمر وعثمان فلعدم الحاجة إليهم في خلافتهم. لاف في سقوط سهمهم. وهذا مذهب جمهور العلماء. ومنع وجود الحاجة على ممر الزمان واختلاف أحوال الناس في القوة والضعف لا يخفى فساده، وقال الشيخ ويجوز بل يجب الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليف قلبه. وإن كان لا يحل له أخذ ذلك كما في القرآن العزيز. وكما كان - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم من الفيء {وَفِي الرِّقَابِ} اي وي فك الرقاب رقاب المماليك. فيشتري بها رقبة لا تعتق عليه فيعتقها. وأما من تعتق عليه فكدفعها إليه. ويعطى المكاتب وفاء دينه لعجزه عن وفاء ما عليه. ولو مع قدرته على التكسب. وقال تعالى

{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} والجمهور على أنهم من الرقاب. ولا نزاع في ثبوت سهمهم. {وَالْغَارِمِينَ} أي المدينين والغرم في الأصل لزوم ما يشق على النفس وسمي الدين غرما لكونه شاقا على الإنسان والغارمون نوعان. غارم لإصلاح ذات البين وهي الوصل لقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وقوله {أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وللخبر الآتي وغيره. وذلك بأن يقع بين جماعة –كقبيلتين- تشاجر في دماء أو أموال. وتحدث بينهم الشحناء والعداوة. فيتوسط بالصلح لهم. ويلتزم في ذمته عوضا عما بينهم. ليطفئ الثائرة بينهم فقد أتى معروفا ومن المعروف حمله عنه من الزكاة. لئلا يجحف بسادات المصلحين. أو يوهن عزائمهم. وقد جاء الشرع بجعل نصيب لهم في الزكاة. ولو مع غناهم. والنوع الثاني من استدان لنفسه فيعطي عنه دينه بلا نزاع. لكن مع الفقر في مباح لا معصية. قال الشيخ من أظهر بدعة أو فجورا فإنه يستحق العقوبة بالهجر والاستتابة فكيف يعان على ذلك اهـ. ومن به سببان أخذ بهما اتفاقا (وفي سبيل الله) أي وفي النفقة في سبيل الله. والمراد الغزاة المتطوعة الذين لا ديون لهم. أو لهم لكن دون ما يكفيهم والسبيل عند الإطلاق هو الغزو. لقوله {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} وإنما استعملت

هذه الكلمة في الجهاد. لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين. ولا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم في الديوان إذا كانوا متطوعة. لأن من له رزق راتب يكفيه فهو مستغن به. وقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور يأخذ الغني منهم كما يأخذ الفقير ذهابا وإيابا. وثمن سلاح ودرع وفرس ونحو ذلك لأنه مصلحة عامة. وفرضه الله ورسوله. ومتى ادعى أنه يريد الغزو قبل قوله ودفع إليه دفعا مراعا من سائر ما يحتاج إليه. ويجزئ أن يعطي منها فقير لحج وعمرة لقوله - صلى الله عليه وسلم - "اركبها فإن الحج من سبيل الله" ولا يحج بزكاة ماله ولا يغزو بها ولا يشتري بها فرسا يحسبها في سبيل الله أو عقارا يقفه على الغزاة اتفاقا. لأن نفسه ليست مصرفا لزكاته. كما لا يقضي بها دينه. ولأن الشراء المذكور ليس من الإيتاء المأمور به. {وَابْنَ السَّبِيلِ} أي الطريق. سمي من لزمها ابن سبيل. كما يقل ولد الليل لمن يكثر خروجه فيه. وكل من لزم شيئا سمي به في الغالب. وابن السبيل هو المسافر المنقطع به. لا المنشئ للسفر من بلد إلى غيره. لأنه ليس في سبيل. ولا يتناوله النص اتفاقا. وإنما يصير ابن سبيل في ثاني حال. فيعطى ما يوصله إلى بلده. ولو كان موسرا في بلده. وأما مع فقره فيعطى لفقره. ولكونه ابن سبيل ما يوصله. ولا خلاف في استحقاق ابن السبيل. وبقاء سهمه ويدخل في ابن السبيل الضيف.

وإن فضل مع ابن سبيل أوغاز أو غارم أو مكاتب شيء رده. لأنهم لا يملكون ذلك من كل وجه. بل ملكا مراعا. ولزوال السبب. فيجب رد الفاضل بزوال الحاجة. بخلاف الأربعة الأول. فإنهم لا يردون شيئا لأن اللام في ذلك للملك. فثبت لهم ملك مستقر. والحاصل أن أهل الزكاة قسمان. قسم يأخذ بسبب يستقر الأخذ به هو الفقر والمسكنة والعمالة والتأليف وقسم يأخذ بسبب لا يستقر الأخذ به وهو الكتابة. والغرم. والغزو والسبيل. فالأول من أخذ شيئا صرفه فيما شاء كسائر ماله. والثاني إذا أخذ شيئا صرفه فيما أخذه له فقط. لعدم ثبوت ملكه عليه من كل وجه فإن التعبير في الآية للأول باللام للملك. وفي الثاني ينادي على المراعاة في ذلك بفي. وهي للظرفية. ثم لما أخبر تعالى أنه حصرها في الأصناف الثمانية قال {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمصالح عباده {حَكِيمٌ} فيما فرضه عليهم. لا يدخل في تدبيره وحكمه نقص. ولا خلل. وذكر ابن جرير وغيره أن عامة أهل العلم يقولون للمتولي قسمتها ووضعها في أي الأصناف الثمانية شاء بحسب المصلحة الشرعية. وإنما سمى الله الأصناف الثمانية إعلاما منه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها لا إيجابا بقسمتها بين الأصناف الثمانية.

ويؤيده قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} "تؤخذ من أغنائهم فترد على فقرائهم" وذكر غير واحد أنها جعلت لسد خلة المسلمين ومعونة الإسلام. وتقويته. فيلحق به من كان في مصلحة عامة للمسلمين مدة قيامه بها. وهو فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه والسلف بعدهم. قال الشيخ ويجب تحري العدل بحسب الإمكان. (وقال - صلى الله عليه وسلم - لا تحل الصدقة) أي الزكاة المفروضة (لغني) إجماعا. وهو من عده الناس غنيا كما تقدم (ولا لذي مرة) بكسر الميم وتشديد الراء أي قوة على الكسب (سوي) أي سوي الأعضاء سالمها (رواه الخمسة) أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو. وأحمد أيضا والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة. وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر ورآهما جلدين فقال "إن شئتما أعطيتكما، ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم. وظاهرهما أن مجرد القوة لا تقتضي عدم الاستحقاق إلا إذا اقترن بها الكسب. وهذا الحديث وما في معناه دليل على تحريمها على الغني سوى ما استثناه الشارع. كما هو مفهوم الآية. وإن القوي المكتسب يصير بالحرفة في حكم الغني تحرم عليه الصدقة.

(ولأبي داود) وأحمد وابن ماجه ومالك والبزار وعبد الله بن حميد وأبي يعلى والبيهقي والحاكم وصححه (عن أبي سعيد مرفوعا) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لا تحل الصدقة) أي ولا يجزئ دفعها (لغني إلا لخمسة) أي فتحل لهم مع الغنى لأنهم أخذوها بوصف آخر (لعامل عليها) أي على الزكاة. وإن كان غنيا. لأنه يأخذ أجره على عمله لا لفقره. (أو رجل اشتراها) أي الزكاة (بماله) من الفقير الذي أخذها فإنها قد وافقت مصرفها. وزال عنها اسم الزكاة وتغيرت الأحكام المتعلقة بها. وصارت ملكا لمن صرفت إليه فإذا باعها فقد باع ما ليس بزكاة حين البيع بل ملك له (أو غارم) والمراد لإصلاح ذات البين فتحل له وإن كان غنيا. فإنه يجوز أن يقضي ذلك الغرم من الزكاة وتقدم (أو غاز في سبيل الله) فيحل له أن يتجهز من الزكاة. وإن كان غنيا لأنه ساع في سبيل الله. (أو مسكين تصدق عليه) أي على المسكين بشيء من الزكاة (فاهدى) ما دفع إليه (منها لغني) فتحل له لأن الزكاة بلغت محلها. ويشهد له قوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة بريرة "هو عليها صدقة وهو لنا منها هدية" وليس بقيد ولأبي داود "ورجل تصدق عليه فيهدي لك أو يدعوك" قال ابن عبد البر وغيره هذا الحديث مفسر لمجمل قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" وأنه لس على عمومه.

وأجمع أهل العلم على أن الصدقة المفروضة لا تحل لغير الخمسة المذكورة. كما ذكره الباجي وغيره. فإن دفعها لغني غير هؤلاء عالما بغناه لم تجز بلا خلاف. وما ورد بدليل خاص. كان تخصيصا لهذا العموم "وفي لفظ أو ابن سبيل) وهو المسافر المنقطع به كما تقدم. فيأخذ من الزكاة ما يوصله وإن كان غنيا في بلده. (ولمسلم) وأحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم (عن قبيصة) ابن مخارق بن عبد الله بن شداد العامري الهلالي. وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله ستة أحاديث هذا الخبر (مرفوعا إن المسألة) أي الطلب من أموال الناس (لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل) بالكسر بدل من ثلاثة ويصح الرفع بتقدير أحدهم (تحمل حمالة) بفتح الحاء. وهو المال يتحمله الإنسان عن غيره. والحميل الضامن سواء كان دينا أو دية أو غرامة أو ليصلح بمال بين طائفتين (فحلت له المسألة) أي جازت له المسألة من أموال الناس مع غناه. لأنه لا يلزمه تسليمها من ماله لكن بشرط (حتى يصيبها) أي يجد ما يؤدي حمالته. أو يأخذ الصدقة (ثم يمسك) عن المسألة وهذا أحد الخمسة المتقدمة. (ورجل أصابته جائحة) أي آفة مهلكة للثمار والأموال. سماوية أو أرضية كالبرد والجراد والغرق ونحو ذلك (اجتاحت ماله) أي أهلكت ماله بحيث لم يبق له ما يقوم

بعيشته (فحلت له المسألة) من أموال الناس وإن كان قبل غنيا (حتى يصيب قواما) بكسر القاف ما يقوم بحاجته وسد خلته. وقوام الشيء عماده القائم به (من عيش) أي ما يقوم بمعيشته يعني بحاجته الضرورية من أكل ولباس وغيره. (ورجل أصابته فاقة) أي حاجة شديدة اشتهر بها بين قومه (حتى يقول) على رءوس الأشهاد (ثلاثة من ذوي الحجى) بكسر الحاء أي ذوي العقول الكمل (من قومه) والمراد حيث كان معروفا بالغنى ثم افتقر. وخص ذوي الحجى من قومه لأنهم أخبر بحاله يقولون (لقد أصابت فلانا فاقة) ولا يقبل من غلب عليه الغباوة والتغفيل. وكونهم ثلاثة هو مذهب الجمهور. (فحلت له المسألة) بسبب هذه القرائن الدالة على صدقه (حتى يصيب قواما من عيش) يقوم بحاجته (فما سواهن من المسألة يا قبيصة) أي في هذه الأحوال الثلاث. وكذا ما في حديث سمرة من جواز سؤال السلطان. وفي الأمر الذي لا بد منه (سحت) بضم السين المهملة. والسحت الحرام الذي لا يحل كسبه. سمي سحتا لأنه يسحت البركة ويذهبها (يأكلها) أي يأكل السائل ما لا يحل له من الصدقة (سحتا) أي حراما لا يجوز سؤاله. فلا يجوز دفع الزكاة لغني إلا لمن قام به أحد هذه الأوصاف ونحوها.

(ولهما أنه) - صلى الله عليه وسلم - (أعطى المؤلفة قلوبهم) فمن حديث أبي سعيد وغيره - صلى الله عليه وسلم - أعطى الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة العامري وزيد الطائي فقالت قريش: تعطي صناديد نجد فقال: "لا تألفهم وأعطى صناديد الطلقاء وأشرافهم وعد ابن الجوزي المؤلفة نحو الخمسين ولمسلم عن صفوان بن أمية قال أعطاني يوم حنين يعني قبل إسلامه. وإنه لأبغض الناس إلي. فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي. وذكر أنه استبصره أربعة أشهر لينظر في أمره وأومأ له عام حنين إلى إبل محملة. فقال "هذا لك" فقال: صفوان هذا عطاء من لا يخشى الفقر. وقال ابن عباس كانوا يأتون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرضخ لهم من الزكاة فإذا أعطاهم قالوا هذا دين صالح. وإلا عابوه. وتقدم أن سهمهم باق للآية. وبراءة من آخر ما نزل. ومن زعم أنه منسوخ فقد أبعد النجعة. (ولمسلم قال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (اقم يا قبيصة) أمر من الإقامة. بمعنى أثبت أي امكث عندنا واصبر. وكن في المدينة مقيما. وكان تحمل حمالة فأتى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأله فيها فقال اقم (حتى تأتينا الصدقة) أي يحضرنا مال من الزكاة (فنأمر لك بها) أي بالصدقة أو بالحمالة. وأمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر. فدل على جواز الاقتصار على شخص واحد من الأصناف الثمانية. قال في

المبدع وغيره في قول جماهير العلماء. ولأنه لما لم يمكن استغراق الأصناف حمل على الجنس. وكالعامل اتفاقا. ولما في الاستيعاب من العسر. وهو منتف شرعا. ويجوز دفعها لى غريمه أو مكاتبه ما لم يكن حيلة. كأن يعطيه بشرط أن يردها عليه من دينه. فلا يجزئه. لأن من شرطها تمليكا صحيحا فإذا شرط الرجوع لم يوجد التمليك. ولأنها لله فلا يصرفها على نفعه وقال أحمد وسفيان وغيرهما كانت العلماء تقول: لا يحابي بها قريبا. ولا يدفع بها مذمة ولا يقي بها ماله. وقال الشيخ الذي عليه الدين لا يعطيه ليستوفي دينه. وإسقاط زكاة العين عن المعسر لا يجزئ بلا نزاع. وقدر زكاة دينه فيه قولان أظهرهما الجواز. وذكر ابن القيم من الحيل الباطلة دفع زكاته إلى غريمه المفلس ليطالبه بالوفاء. فإذا وفاه برئ وسقطت الزكاة عن الدافع. قال وهذه الحيلة باطلة محرمة. سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من التصرف فيما دفع إليه. أوملكه إياه بنية أن يستوفيه من دينه. فكل هذا لا يسقط عنه الزكاة. ولا يعد مخرجا لها لا شرعا ولا عرفا. كما لو أسقط دينه وحسبه من الزكاة. "وقال" يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لعمر) وكان حمل على فرس في سبيل الله وقد أضاعه الذي هو عنده فأراد أن يشتريه منه برخص فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال (لا تعد في صدقتك) وفي لفظ "لا تشتره ولا تعد في صدقتك" وفي لفظ "وإن أعطاكه

بدرهم" مبالغة في رخصه. فمنعه من العود في صدقته بشراء أو نحوه. ولو وجده يباع في السوق. سدا لذريعة العود فيما خرج منه لله. لو بعوض. فإن المتصدق إذا منع من تملك صدقته بعوض. فتمكلها بغير عوض أشد منعا. وأفطم للنفوس عن تعلقها مما خرجت منه لله. وقال ابن عمر لا تشتر طهور مالك. (فإن العائد في صدقته) شمل البيع وغيره (كالعائد في قيئه متفق عليه) وفي لفظ "كالكلب يعود في قيئه" أي كما يقبح أن يقيء ثم يأكل ما قاءه. كذلك يقبح أن يتصدق بشيء ثم يجره إلى نفسه بأي وجه من الوجوه. وشبهه بأخس الحيوان في أخس أحواله. تصويرا للتهجين. وتنفيرا منه. فدل على حرمة العود فيها. وهو مذهب جمهور العلماء. وقال ابن المنذر ليس لأحد أن يتصدق ثم يشتري صدقته للنهي. ويلزم من ذلك فساد البيع. إلا أن يثبت الإجماع على جوازه. ولم يثبت. قال ابن القيم والصواب ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنع من شرائها مطلقا. ولا ريب أن في تجويز ذلك ذريعة إلى التحيل على الفقير بأن يدفع إليه صدقة ماله ثم يشتريها منه بأقل من قيمتها. فمن محاسن الشريعة سد هذه الذريعة. فإن رجعت إليه بإرث ونحوه جاز تملكها، لما روى مسلم وغيره أن امرأة قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كنت تصدقت على أمي بوليدة وإنها ماتت وتركتها، فقال: "وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث".

فصل فيمن لا تحل له

(وعن سلمان بن عامر) بن أوس الضبي البصري صحابي عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنهما (مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (الصدقة) وهي ما وقع لمحض التقرب إلى الله (على المسكين) فرضا كانت أو تطوعا (صدقة) أي واحدة (و) الصدقة (على ذي الرحم) أي القرابة ثنتان (صدقة وصلة) أي إحسان وعطف ورفق. وكله موجود في الصدقة على القرابة. لأنه يعد بذلك محسنا متعطفا رافقا. ولأنه أولى الناس بالمعروف (رواه الخمسة) وابن حبان وغيرهم وحسنه الترمذي. ولأحمد وغيره من حديث أبي أيوب "إن أفضل الصدقة: الصدقة على ذي الرحم الكاشح" ويأتي. فيسن أن يفرقها فيهم على قدر حاجتهم. ويبدا بالأحوج فالأحوج. والأقرب فالأقرب إجماعا. وإن كان الأجنبي أحوج فلا يعطي القريب ويمنع البعيد بل يعطي الجميع والجار أولى من غيره اتفاقا. والعالم والدين وذو العيلة أولى من ضدهم. فصل فيمن لا تحل له أي في بيان من لا تحل له الزكاة. ولا يجزئ دفعها إليه. (وعن المطلب) بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم سكن المدينة ثم تحول إلى الشام. وتوفي بدمشق سنة اثنين وستين وكان المطلب والفضل بن العباس انطلقا إلى رسول

الله - صلى الله عليه وسلم -. قال المطلب ثم تكلم أحدنا فقال يا رسول الله جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات. فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة. وتؤدي إليك ما يؤدي الناس ثم (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن الصدقة) أي الزكاة المفروضة (لا تحل لآل محمد). وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ارم بها أما علمت أنا لا نأكل الصدقة" وفي رواية "إنا لا تحل لنا الصدقة" فدل على تحريم الزكاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو إجماع ونقل الموقف الإجماع على أنها لا تحل لآل محمد. وآله - صلى الله عليه وسلم - هم آل علي وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث. وحكى الاتفاق على خمسة البطون غير واحد من أهل العلم. وقال جمهور أهل العلم وآل أبي لهب ابن عبد المطلب. وأخرجهم بعض أهل العلم. لأن أبا لهب كان حريصا على أذاه - صلى الله عليه وسلم -. فإن حرمة الصدقة على آله - صلى الله عليه وسلم - كرامة من الله لهم. ولذريتهم. حيث نصروه في جاهليتهم وإسلامهم. وفي جامع الأصول وغيره أن عتبة ومعتبا ابني أبي لهب اسلما عام الفتح. وسر - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهما. وشهدا معه حنينا والطائف. ولهما عقب. قال (إنما هي أوساخ الناس رواه مسلم) فكرم - صلى الله عليه وسلم - آله أن يكونوا محلا للغسالة. وشرفهم عنها. وهذه هي العلة المنصوصة في التحريم. ولأبي نعيم مرفوعا "لهم في خمس

الخمس ما يكفيهم ويغنيهم" والكفارة كالزكاة. لأن مشروعيتها لمحو الذنب فهي من أشد أوساخ الناس. وتسميتها أوساخا لأنها تطهير لأموالهم ونفوسهم. وذلك من الشتبيه البليغ. ويجوز لهم أخذ صدقة التطوع وحكي إجماعا. لأنهم إنما منعوا من أخذ الزكاة لأنها أوساخ الناس. والصدقة ليست كذلك. ولا خلاف في إباحة المعروف إلى الهاشمي. وفي الصحيحين "كل معروف صدقة" قال في الفروع ومعلوم أن هذا للاستحباب إجماعا. وكل من حرمت عليه الزكاة فله أخذها هدية اتفاقا لأكله - صلى الله عليه وسلم - مما تصدق به على أم عطية. وتجزئ إليه إن كان غازيا أو غارما لإصلاح ذات البيت لجواز الأخذ بذلك مع الغنى وعدم المنة فيه. واختار الشيخ والقاضي وأبو البقاء وأبو صالح وأبو طالب البصيري وأبو يوسف والأصطخري وغيرهم جواز الأخذ لبني هاشم إذا منعوا الخمس. لأنه محل حاجة وضرورة. وقال الشيخ يجوز لهم الأخذ من زكاة الهاشمي ولهم أخذ وصية ونذر لفقراء إجماعا. لأنه لا يقع عليهما اسم الزكاة. (وقال) - صلى الله عليه وسلم - (لأبي رافع) مولى رسوله - صلى الله عليه وسلم - قيل اسمه إبراهيم وقيل هرمز وقيل كان للعباس فوهبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أسلم العباس بشر أبو رافع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه فأعتقه. مات في خلافة علي. وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا على

الصدقة من بني مخزوم فقال لأبي رافع اصحبني فإنك تصيب منها. فقال حتى آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاساله فأتاه فسأله فقال (أنا لا تحل لنا الصدقة وإن مولى القوم منهم) وفي لفظ "من أنفسهم) أي حكمه حكمهم "رواه أحمد والثلاثة وصححه الترمذي". فموالي بني هاشم وهم الذين اعتقهم بنو هاشم تحرم الصدقة عليهم. وكتحريمها على بني هاشم. قال الطحاوي تواترت عنه - صلى الله عليه وسلم - الآثار بذلك. وقال ابن عبد البر لا خلاف بين المسلمين في عدم حل الصدقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولبني هاشم ومواليهم. وفي الحديث نص على تحريم العمالة على الموالي فبالأولى على آل محمد. وتجوز إلى موالي مواليهم لأنهم ليسوا من القوم ولا من مواليهم. (وقال ابن عباس) رضي الله عنهما (إذا كان) لك (ذو قرابة) أي صاحب قرابة منك وهم عشيرتك الأدنون. ويشمل الأصول والفروع والحواشي (لا تعولهم) أي تمونهم (فاعطهم من زكاة مالك) ولعموم قوله "صدقتك على ذي الرحم صدقة وصلة" وفي حديث زينب في الصدقة على أزواجهما وأيتام في حجورهما. فقال "لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة" متفق عليه. قال شيخ الإسلام في دفع الزكاة إلى الوالدين والولد إذا

كانوا فقراء وهو عاجز عن الإنفاق عليهم يجوز دفعها إليهم. وهو أحد القولين في مذهب أحمد. ويشهد له العمومات. وقال الأقوى دفعها إليهم في هذه الحال. لأن المقتضي موجود. والمانع مفقود فوجب العمل بالمقتضي السالم من المعارض المقاوم. وقال إذا كان محتاجا إلى النفقة وليس لأبيه ما ينفق عليه ففيه نزاع. والأظهر أنه يجوز له أخذ زكاة أبيه. وأما إن كان مستغنيا بنفقة أبيه فلا حاجة به إلى زكاته. وفي الصحيح في الذي وضع صدقته عند رجل فجاء ولد المتصدق فأخذها ممن هي عنده فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمتصدق "لك ما نويت" وقال للآخذ "لك ما أخذت". قال ابن رجب إنما يمنع من دفع زكاته إلى ولده خشية أن تكون محاباة. وإذا وصلت إليه من حيث لا يشعر كانت المحاباة منتفية. وهو من أهل الاستحقاق. وقال الشيخ إذا كانت الأم فقيرة ولها أولاد صغار لهم مال ونفقتها تضر بهم أعطيت من زكاتهم. وإذا كان على الولد دين لا وفاء له جاز أن يأخذ النفقة من زكاة أبيه في أظهر القولين في مذهب أحمد وغيره. قال رضي الله عنه (وإن كنت تعولهم فلا تعطهم) فتكون صارفا لنفسك (ولا تجعلها لمن تعول رواه الأثرم) وقد انعقد الإجماع: أنها لا تجزئ إلى أصله وفرعه في حالة تجب عليه

نفقتهم. لأن ملك أحدها في حكم ملك الآخر. وإذا كان كذلك لم يزل ملكه عنه. ومن شرط الزكاة زوال الملك. وقيل وسائر من تلزمه نفقته لغناه بوجوب النفقة له. ولأن نفعها سيعود إلى الدافع وظاهر المذهب وغيره ويجوز لما تقدم. واختاره الموفق والشيخ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. لوجود المقتضي. ودخولهم في العمومات. ولا نص ولا إجماع. وفي الصحيح أن امرأة عبد الله سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبناء أخ لها أيتام في حجرها افتعطيهم زكاتها قال "نعم" ولهذا لو دفع إليه شيئا في غير مؤنته التي عوده إياها تبرعا جاز اتفاقا. وكذا من تعذرت نفقته من زوج أو قريب بنحو غيبة أو امتناع اتفاقا. لوجود المقتضي مع عدم المانع. وفي الصحيح "زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم والأصل عدم المانع. وتجوز إلى غير الوارث بلا نزاع. ولا يجزئ دفعها إلى غير أهلها. وإن دفعها لمن ظنه غير أهل لها لم تجزئه لعدم جزمه بنية الزكاة حال دفعها لمن ظنه غير أهل لها، أو دفعها لغير أهلها ظانا أنهم أهلها ككافر لم تجزئه لكن قيل إلا لغني ظنه فقيرا لاعتقاده استحقاقه. والجمهور أنها لا تجزئه. ويرجع عليه بها أو بقيمتها. ويشترط لإجزائها تمليك المعطى. فلا يكفي إبراء فقير من

باب صدقة التطوع

دينه. ولا حوالة بها. ولا يقضي منها دين ميت غرم لمصلحة نفسه أو غيره. حكاه ابن عبد البر إجماعا. لعدم أهليته لقبولها. وهذا مذهب الجمهور وقال شيخ الإسلام يوفى الدين عن الميت في أحد قولي العلماء ولأن الله قال "والغارمين" ولم يقل وللغارمين فالغارم لا يشترط تمليكه على هذا. وعليه يجوز الوفاء عنه. وأن يملك لوارثه ولغيره. باب صدقة التطوع الصدقة ما يعطى لوجه الله ديانة وعبادة محضة من غير قصد إلى شخص معين. ولا طلب عوض من جهته وهي سنة كل وقت بإجماع المسلمين. لإطلاق الحث عليها في الكتاب والسنة. وقال غير واحد من أهل العلم هي أفضل من الجاهد لا سيما إذا كان زمن مجاعة على المحاويج. خصوصا صاحب العائلة. خصوصا القرابة. ومن الحج لأنه متعد. والحج قاصر. وافضل من العتق لقوله لميمونة "لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" متفق عليه وقد حث تعالى عليها في كتابه العزيز ورغب فيها - صلى الله عليه وسلم - في غير ما حديث. قال تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني أن التصدق خير لكم وأفضل. لأن في الثناء الجميل في الدنيا. والثواب الجزيل في العقبى. وقال: {وَآتَى الْمَالَ} أي أعطى المال {عَلَى حُبِّهِ} أي

أخرجه وهو محب له راغب فيه. وفي الصحيح: "أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر" {ذَوِي الْقُرْبَى} قرابات الرجل. وهم أولى من أعطى من الصدقة. للآيات وللأخبار (الآية) وآخرها {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} يعني المسافر {وَالسَّائِلِينَ} يعني الطالبين المعترضين للصدقات. وفي الخبر "وإن جاء على فرس" (وَفِي الرِّقَابِ) وتقدم. وقال {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} أي جوع. وقلبها قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي فهلا أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب وإطعام المساكين. وهو مثل ضربه الله لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في عمل الخير والبر. فجعله كالذي يفك من صعود العقبة أو لم يحمل نفسه المشقة بعتق الرقبة. والإطعام (يتيما) أي أطعم في هذا اليوم يتيما (ذا مقربة) اي قرابة بينه وبينه (أو مسكينا ذا متربة) أي فقيرا مدقعا قد لصق بالتراب من فقره وضره. ليس له شيء وفي الحديث "من أعطم مؤمنا جائعا: أطعمه الله من ثمار الجنة" {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} أي: برحمة الناس. وفيه الإشارة إلى تعظيم أمر الله. والشفقة على خلق الله. وقال {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} أي تظهروها والصدقات. ما يظهره الإنسان على وجه القربة. فيدخل فيه الزكاة الواجبة.

وصدقة التطوع {فَنِعِمَّا هِيَ} أي فنعمت الخصلة هي {وَإِنْ تُخْفُوهَا} أي تسروا الصدقة {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} في السر {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} يعني إخفاء الصدقة أفضل من إعلانهاز وكل مقبول إذا كانت النية صادقة. ولكن السر أفضل. واتفق العلماء على أن إخفاء صدقة التطوع أفضل وخير من إظهارها. لأن ذلك أبد من الرياء. وأقرب إلى الإخلاص. وفيه بعد عما تؤثره النفس من إظهار الصدقة. وفائدة ترجع إلى الفقير الآخذ. وهي أنه إن أعطي في السر زال عنه الذل والانكسار. إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به. فيكون أفضل من هذه الحيثية. والأصل أن السر أفضل لهذه الآية وغيرها {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي بالصدقات. ولا سيما إذا كانت سرا {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} سواء كان سرا أو علانية. والآيات في فضل الصدقة كثيرة. منها قوله {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}. وقال {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} وذلك أن معاذا وثعلبة سألا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا فنزلت {قُلِ الْعَفْوَ} يعني الفضل. وذلك أن لا يجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس. وفي الخبر "ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسك شر لك ولا تلام على كفاف"

فمعناه التصدق عن ظهر غنى. حتى لا يبقى كلا على الناس كما سيأتي. قال {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي يقدمون المحاويج على أنفسهم ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون به. وفي الصحيحين أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء. ثم الأخرى مثل ذلك. ثم قال "من يضيفه يرحمه الله" فقال أبوطلحة أنا. فقال لامرأته هل عندك شيء قالت لا. إلا قوت صبياني. قال علليهم بشيء ونوميهم. فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل. ثم اطفئ السراج ففعلت. فلما أصبح قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "عجب الله من صنيعكما" فنزلت الآية. ثم أثنى الله عليهم فقال {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فالذين أنفقوا الفضل قد لا يكون لهم إليه حاجة. ولا ضرورة. وهؤلاء آثروا على أنفسهم لشدة ثقتهم ومن هذا المقام تصدق الصديق بجميع ماله. ويأتي أنه يختلف باختلاف أحوال الناس. (وفي الصحيحين) وغيرهما (من حديث أبي هريرة) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) ولسعيد بن منصور من حديث سلمان في ظل عرشه

(وذكر منهم رجلا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) وفيه فضيلة المبالغة في الإخفاء وإبعاد الصدقة عن مظان الرياء. وفضل الإخفاء على الإبداء إلا للاقتداء. والمرأة كالرجل. فلا مفهوم له. وبقية السبعة "الإمام العادل، وشاب نشأ في طاعة الله. ورجل معلق قلبه بالمساجد. ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وافترقا عليه. ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله. ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" ووردت خصال أخرى تقتضي الظل. أبلغها الحافظ ثمانيا وعشرين والسيوطي سبعين. ولابن حبان والحاكم من حديث عقبة "كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس". ومن فوائد صدقة التطوع أنها تطفئ غضب الرب. وتدفع ميتة السوء. رواه الترمذي وفي الصحيحين "إن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل" وإنها تكون توفية للزكاة إن وجدت في الآخرة ناقصة كما تقدم في التطوع. وللحاكم من حديث ابن عمر "انظروا في زكاة عبدي فإن كان ضيع منها شيئا فانظروا هل تجدون لعبد نافلة من صدقة لتتموا بها ما نقص من الزكاة" وذلك من رحمة الله وعدله. (وفيهما) أي في الصحيحين البخاري ومسلم (عن ابن

عباس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس أي في جميع خصال الخير وأكثرهم جودا. لكونه مطبوعا على الجود مجبولا على الإعراض عن متاع الدنيا "وكان أجود ما يكون في رمضان" فإن الحسنة فيه بسبعين حسنة فيما سواه وللترمذي عن أنس مرفوعا "أي الصدقة أفضل" أي أعظم أجرا قال "صدقة في رمضان". وفيه إعانة على أداء الصوم المفروض. ومن فطر صائما كان له مثل أجره وكذا الصدقة في العشرة والحرمين. وكل مكان وزمان فاضل. وفي شدة حاجة. لما روي "أيما مسلم أطعم مسلما على جوع أطعمه الهل من ثمار الجنة" وبطيب نفس أفضل. وكذا في الصحة كما تقدم. (ولأحمد عن أبي أيوب مرفوعا أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" أي العدو المضمر للعداوة. الطاوي عليها كشحه أي باطنه. والذي يطوي عنك كشحه ولا يألفك. وتقدم أنها "على ذي الرحم صدقة وصلة" فمع العداوة هي أفضل منها على ذي الرحم غير الكاشح. لما فيه من قهر النفس للإذعان لمعاديها. وهذا الحديث صححه ابن طاهر وأقره المنذري والحافظ. ونحوه عند أبي داود والترمذي من حديث أبي سعيد. والطبراني عن أم كلثوم بنت عقبة. ورجاله رجال الصحيح.

(وعن حكيم بن حزام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال اليد العليا) وهي المعطية (خير من اليد السفلى) وهي السائلة وروي "اليد العليا التي تعطي ولا تأخذ" فالأيدي اثنتان: معطية عليا. وسائلة سفلى. وباعتبار الأيدي أربعا: يد المعطي وتضافرت الأخبار بأنها عليا. ويد السائل وتضافرت بأنها سفلى. أخذت أم لا. ويد المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي مثلا فهي عليا علوا معنويا. ويد الآخذ بغير سؤال قيل سفلى نظرا إلى المحسوس. وأما المعنوي فلا يطرد. فقد تكون عليا في بعض الصور. وعليه يحمل كلام من أطلق كونها عليا إذ محال أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل سفلى باستعماله. دون من فرض عليه إتيان الشيء فأتى به فربما كان الآخذ لما أبيح له أفضل من الذي يعطي. فأعلى الأيدي المنفقة ثم المتعففة. عن الأخذ. ثم الآخذة بلا سؤال. وأسفل الأيدي المانعة والسائلة. (وابدأ) أيها المتصدق (بمن تعول) أي تمون ممن تلزمك نفقته فقدمه على التصدق على غيرهم. تقديما للواجب على المندوب وفيه البداءة بالأهم فالأهم. فيبدأ بنفسه وعياله. كما يأتي لأنهم الأهم (وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) أي عفوا قد فضل عن غنى أو فضل عن العيال. والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعا للكلام. وتمكينا. كأن صدقته مستندة إلى ظهر قوي من المال.

فدل على أن افضل الصدقة ما بقي صاحبها بعد إخراجها مستغنيا. إذ معنى أفضل الصدقة ما أبقى المتصدق من ماله ما يستظهر به على حوائجه ومصالحه. فالاختيار للمرء أن يتبقى لنفسه قوتا. وأن لا ينخلع من ملكه أجمع مرة واحدة لما يخاف عليه من فتنة الفقر. وشدة نزاع النفس إلى ما خرج من يده فيندم ويذهب ماله ويبطل أجره. ويصير كلا على الناس. بل يأثم إن تصدق بما ينقص مؤنة تلزمه لتركه الواجب. أو بما يضر بنفسه أو غريمه أوكفيله في مال أو بدن. لقوله - صلى الله عليه وسلم - "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يفوت" رواه أبو داود. وقال ابن الجوزي الأولى أن يدخر لحاجة تعرض. وأنه قد يتفق له مرفق فيخرج: ما في يده فينقطع مرفقه فيلاقي من الضراء ومن الذل ما يكون الموت دونه. فلا ينبغي لعاقل أن يعمل بمقتضى الحال. بل يصور كلما يجوز وقوعه. وأكثر الناس لا ينظر في العواقب. وقد تزهد خلق كثير فأخرجوا ما بأيديهم. ثم احتجاجوا. فدخلوا في مكروهات. والحازم من يحفظ ما في يده. والإمساك في حق الكريم جهاد. كما أن إخراج ما في يد البخيل جهاد. وقال غير واحد نحن في زمان من احتاج فأول ما يبذل دينه. وأما من أراد أن يتصدق بماله كله وله عائلة لهم كفاية. أو يكفيهم بكسبه استحب له ذلك. لأن أبا بكر جاء بجميع ماله. فقال له رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - "ما أبقيت لأهلك" قال الله ورسوله. وكان تاجرا ذا كسب. أو كان وحده ويعلم من نفسه حسن التوكل. واثقا بما عند الله. آيسا مما في أيدي الناس استحب له. قال القاضي وغيره عند جمهور العلماء وأئمة الأمصار. لقوله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} وإلا حرم عليه ذلك. ويمنع منه. ويحجر عليه لتبذيره. ولو تبرع بماله بحيث لا يبقى لأهل الحقوق ما يستوفونه فهو باطل في أحد قولي العلماء. من جهة أن قضاء الدين واجب ونفقة الولد كذلك. فيحرم عليه أن يدع الواجب ويصرفه فيما لا يجب فيرد إلى ملكه. ويصرف في قضاء دينه. ونفقة ولده. وعن جابر: جاء رجل بمثل بيضة من ذهب. وقال خذها ما أملك غيرها. قال "فحذفه بها" وقال "يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة. ثم يقعد يتكفف الناس. خير صدقة ما كان عن ظهر غنى" رواه أبو داود. (ومن يستعفف) أي من يطلب من نفسه العفة ويتكلفها. ويكف عن سؤال الناس. أو يطلب العفة من الله (يعفه الله) أي يعطيه إياها ويعنيه عليها. ويجعله عفيفا والعفة الحفظ عن المناهي (ومن يستغن) بما عنده وإن قل: وعما في أيدي الناس (يغنه الله) بإلقاء القناعة في قلبه.

والقنوع بما عنده. وهي الكنز الذي لا يفنى ويعطيه الله من فضله. ومن يظهر الغنى بالاستغناء عن أموال الناس والتعفف عن السؤال حتى يحسبه الجاهل غنيا من التعفف يغنه الله فيجعله غني القلب (متفق عليه) وفي الخبر "ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس". (وعن أبي هريرة مرفوعا) قيل يا رسول الله أي الصدقة أفضل قال (أفضل الصدقة جهد المقل رواه أبو داود) الجهد بضم الجيم وسكون الهاء الوسع والطاقة. وبالفتح المشقة. والمراد قدر ما يحتمله قليل المال. كما في حديث "سبق درهم ألف درهم" رجل له درهما تصدق بأحدهما. ورجل له مال كثير فأخذ من عرضه ألف درهم فتصدق بها. لدلالة المقل على الثقة بالله. والزهد في الدنيا. فصدقته أفضل الصدقة. وهو أفضل الناس. وإذا صدقت نية العبد وقصده رزقه الله وحفظه من الذل. ودخل في قوله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وجمع البيهقي وغيره بين الحديثين أن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس في الصبر على الفاقة والشدة والاكتفاء بأقل الكفاية. (وله عنه) أي لأبي داود عن أبي هريرة (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال تصدقوا) فحث على الصدقة ورغب فيها (فقال

رجل عندي دينار) أي أريد أن أتصدق به وهو مثقال من الذهب مضروبا كان أو غير مضروب (قال تصدق به على نفسك) ففيه أن النفقة على النفس صدقة. وأنه يبدأ بها (قال عندي آخر) أي دينار آخر (قال تصدق به على ولدك) ففيه تقديم الولد على من بعده لشدة افتقاره إلى النفقة. ولأنه بعض منه ولاسيما إذا كان صغيرا ونحوه. قال أبو قلابة وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم. أو ينفعه الله بهم ويغنيهم. ولمسلم "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله" (قال عندي آخر قال تصدق به على خادمك" إن كان مملوكا أو مطلق من يخدمه (قال عندي آخر قال أنت أبصر) أي اعلم إن شئت تصدقت به وإن شئت أمسكت. وتقدم تقديم الأهم فالأهم. رواه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم ولم يذكر في الحديث الزوجة "وقدم في صحيح مسلم الزوجة على الولد" من حديث جابر ولفظه "ابدأ بنفسك فتصدق عليها. فإن فضل شيء فأهلك. فإن فضل شيء فلذي قرابتك" ويأتي تقديمها في النفقات إن شاء الله تعالى. (وله) أي مسلم في صحيحه (عن أبي هريرة مرفوعا من يسأل الناس أموالهم تكثرا) اي قصدا للجمع من غير حاجة

(فإنما يسأل جمرا) أي فإن الذي يسأل يصير جمرا يكوى به كما في مانع الزكاة (فليستقل أوليستكثر) أي من جمر جهنم. ففيه أن سؤال التكثر محرم. والنهي عن السؤال أكثر من أن يحصر. وتقدم طرف منه. ومنه "لا يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم" متفق عليه. (وللبخاري عن الزبير مرفوعا) أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب) وفي لفظ "فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه (خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) وفي لفظ لهما من حديث أبي هريرة "فيبيعها فيستغني بها عن الناس خير له" الخ. ولو أدخل على نفسه المشقة. وذلك لما يدخل السائل على نفسه من ذل السؤال. وذلة الرد إن لم يعط. ودل الحديث وما قبله على قبح السؤال مع الحاجة. وزاد بالحث على الاكتساب. ومن له قدرة على الكسب فصحح بعضهم أنه حرام للأخبار. وكرهه بعضهم بشروط. أن لا يذل نفسه ولا يلح في السؤال ولا يؤذي المسؤول فإن فقد أحدها حرم اتفاقا. وعن سمرة مرفوعا "إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا" لأن لكل حقا في بيت المال. وإنما السلطان وكيل "أو في أمر لا بد منه" نسأل الله السلامة.

ولأحمد عن خالد بن عدي مرفوعا "من بلغه معروف من أخيه عن غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله. ولا يرده. فإنما هو رزق ساقه الله إيه" وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا "إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه. وما لا فلا تتبعه نفسك" وفي المال حقوق سوى الزكاة: نحو مواساة قرابة وصلة إخوان. وإعطاء سائل. وإعارة محتاج. نحو دلو وركوب ظهر. وإطراق فحل. قال الشخ وإعطاء السائل فرض كفاية إن صدق. وقال القرطبي اتفق العلماء علىنه إذا نزل بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك يجب على الناس فداء أسرهم. وإن استغرق ذلك أموالهم. وفي الإقناع وغيره وإطعام الجائع ونحوه واجب إجماعا مع أنه ليس في المال حق واجب سوى الزكاة اتفاقا. لكن ما يعرض لجائع وعار ونحوهما فيجب عند وجود سببه.

كتاب الصيام

كتابُ الصِّيَام الصوم ترك الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك. وكان معروفا قبل مستعملا. كما في الصحيحين "يوم عاشوراء" كان يوما تصومه قريش في الجاهلية" فهو لغة مجرد الإمساك. وشرعا إمساك بنية عن اشياء مخصوصة في زمن معين من شخص مخصوص. فرض في السنة الثانية من الهجرة. وهو أحد أركان الإسلام. وفرض من فروض الله المعلومة بالضرورة من دين الإسلام. بل من العلم العام الذي توارثته الأمة خلفا عن سلف. وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع. ويأتي ذكر فضله. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ} أي فرض {عَلَيْكُمْ} وأوجب {الصِّيَامُ} أي الإمساك عن الطعام والشراب والجماع. من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. بنية خالصة. لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها عن الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة. والضمير عائد إلى المسلم دون الكافر إجماعا. فلا يجب عليه الصوم ولو مرتدا. لأنه عبادة بدنية محضة

تفتقر إلى نية فكان من شرطها الإسلام ولا يصح صوم كافر بأي كفر كان إجماعا. وتمنع الردة صحته إجماعا. {كَمَا كُتِبَ} أي فرض {عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني الأنبياء والأمم. والمعنى كما أوجبه عليكم فقد أوجبه على من كان قبلكم فلكم فيهم أسوة. فاجتهدوا في أدائه أكمل من أولئك {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعني بالصوم. لأن الصوم وصلة إلى التقوى. لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات. وذكر أياما معدودات أي مقدرات. (إلى قوله) {شَهْرُ رَمَضَانَ} أي كتب عليكم الصيام. ثم بينه تعالى فقال {شَهْرُ رَمَضَانَ} وسمي الشهر شهرا لشهرته. ورمضان اسم للشهر. سمي به من الرمضاء. قيل كان في شدة الحر حينما كانوا يصومون. ثم مدح تعالى شهر رمضان من بين سائر الشهور. بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم. وكان ذلك في ليلة القدر. قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي أنزله جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا. وأنزل من الله مفرقا بحسب الوقائع. وفي الحديث "أنه الشهر الذي أنزل الله فيه الكتب الإلهية على الأنبياء" وسمي قرآنا لجمعه السور والآي والحروف والقصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والحلال والحرام. {هُدًى لِلنَّاسِ} من الضلالات {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى}

دلالات واضحات (والفرقان) بين الحق والباطل {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} هذا إيجاب من الله ختم على من شهد منكم الشهر كله فليصم الشهر كله ومن لم يشهد منكم الشهر كله فليصم ما شهد منه. يوضحه إفطاره - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عام الفتح والمخاطب بالوجوب المكلف. فلا يجب على صغير ولا مجنون اتفاقا لخبر "رفع القلم عن ثلاثة مجنون حتى يفيق وصغير حتى يبلغ". ويصح من المميز كصلاته. ولا يصح من مجنون وإن أفاق من نواه جزءامن النهار صح اتفاقا ومن نام ولو جميعه صح. {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا} أي ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام أو يؤذيه فأفطر. فعدة من أيام أخر. {أو} كان منكم {عَلَى سَفَرٍ} أي في حال السفر فأفطر {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه عدة من أيام أخر أي ما أفطره في السفر من الأيام صامه من أيام أخر غير أيام مرضه وسفره {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} أي إنما رخص لكم فيالفطر في حال المرض وفي السفر مع تحتمه عليكم في حق المقيم الصحيح تيسيرا عليكم ورحمة بكم. {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فالدين كله يسر {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} أي عدد الأيام التي أفطرتم فيها بعذر السفر والمرض. وكذا الحيض والنفاس لتقضوها بعددها {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا

هَدَاكُمْ} ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على نعمه فيسن الفطر لمريض يضره الصوم إجماعا في الجملة. ويكره له الصوم لإضراره بنفسه وترك تخفيف الله له ورخصة الله المطلوب إتيانها. وأجمعوا على أنه إذا كان الصوم يزيد في مرضه أنه يفطر ويقضي. وإذا احتمل وصام أجزأ. ولم يذكروا خلافا في الإجزاء. ولا يفطر إن لم يتضرر اتفاقا. وقال أحمد الفطر للمسافر افضل. وإن لم يجهده الصوم. لأنه آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبت في السنن أن من الصحابة من يفطر إذا فارق عامر قريته. ويذكر أن ذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والفطر في السفر جائز بالنصوص وإجماع المسلمين. وقال الشيخ سواء كان كان سفر حج أو جهاد أو تجارة ونحو ذلك من الأسفار التي لا يكرهها الله ورسوله. وتنازعوا في سفر المعصية. وقال يجوز في كل سفر. وإن كن قصيرا. فإن شق بأن جهده كره له فعله. وكان الفطر أفضل. وصومه صحيح. وحكاه الوزير وغيره اتفاقا. واتفقوا على أنه يجوز له أن يصوم ويفطر. وكذا إن سافر في أثناء يوم لما تقدم وكما بعد سفره إجماعا. قال البغوي لا فرق عند عامة أهل العلم بين من ينشئ السفر في شهر رمضان وبين من يدخل عليه وهو مسافر. وجاءت الآثار في الفطر لمن أنشأ السفر في أثناء يوم. (وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - بني الإسلام على خمس) شهادة أن لا إله

إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإتياء الزكاة (وفيه وصوم رمضان) فهو ركن من أركان الإسلام التي لا ينبني الإسلام إلا عليها (و) كذا (حج البيت) الحرام من استطاع غليه سبيلا وجاء إليه - صلى الله عليه وسلم - أعرابي فقال ماذا فرض الله علي من الصيام قال "شهر رمضان" وغير ذلك من الأحاديث الدالة على فرضيته. (وفي الصحيحين وغيرهما) من غير وجه. قال الطحاوي تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أنه قال صوموا لرؤيته) أي رؤية هلال شهر رمضان. فيجب صومه برؤيته بإجماع المسلمين. والمراد إذا ثبتت رؤيته. كما سيأتي. فيلزم الناس كلهم الصوم إذا اتفقت المطالع وإلا فلا. ويستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان احتياطا لصومهم وحذرا من الاختلاف. وعن عائشة "كان يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين ثم صام" صححه الدارقطني. ويستحب قول ما ورد: ومنه الله أكبر ثلاثا. لا إله إلا الله ثلاثا. اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى ربي وربك الله. هلال رشد وخير الحمد لله الذي جاء بشهر رمضان وذهب بشهر شعبان (وأفطروا لرؤيته) إجماعا وليس المراد جميع الناس بل يثبت بعدلين بعدلين إجماعا.

(فإن غم عليكم) من غممت الشيء إذا غطيته. أي حال بينكم وبينه سحاب أو قتر هائج من الأبخرة. كنحو ما يحصل في الصيف من الأغيرة والأدخنة. فإنه لا يمكن رؤيته في مثل ذلك. كما يمكن في مثل صفاء الجو. وفي لفظ غبي عليكم وغمي. وهو بمعنى غم. وللترمذي وغيره "فإن حال بينكم وبينه سحاب" (فاكلموا عدة شعبان ثلاثين). وثبت من غير وجه "لا تصوموا حتى تروه" والمراد إذا لم يكمل شعبان ثلاثين يوما "ولا تفطروا حتى تروه" أي أو تكملوا ثلاثين "فإن حال دونه غياية فاكلموا ثلاثين يوما" وفي رواية "فاقدروا له" أي احسبا له قدره. وذلك ثلاثون. من قدر الشيء وليس من اضيق في شيء. بل قال الحافظ الزركشي السنة الصحيحة ترد تأويلهم ورواه الترمذي. وقال العمل عليه عند أهل العلم. كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان. وإن كان يصوم صوما فوافق صيامه فلا بأس به عندهم. وله عن ابن عباس مرفوعا "لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته" الخ وصح من غير وجه النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين ويأتي "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - "وصنف جامعة من أهل العلم في كراهة صوم يوم الشك أو تحريمه. وذهب إليه المحققون من أصحاب أحمد

وغيره. وهو رواية عن أحمد. وفاقا للثلاثة. واختاره الشيخ وغيره. وأجمعوا على أنه لا اعتبار بالحساب لهذا الخبر وغيره. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما قال (تراءى الناس) أي اجتمعوا للرؤية وتكلفوا النظر ليروا (الهلال فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وحدي (أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه رواه أبو داود) وصححه ابن حبان والحاكم وابن حزم. وللخمسة عن ابن عباس أن أعرابيا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إني رأيت الهلال فقال "أتشهد أن لا إله إلا الله" قال نعم قال "أتشهد أن محمدا رسول الله" قال نعم. فقال "أذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا" صححه ابن خزيمة. قال الترمذي العمل عليه أكثر أهل العلم. قالوا تقبل شهادة رجل واحد في الصيام. وبه يقول الشافعي وأحمد وأهل الكوفة. قال النووي وهو الأصح. ولأنه خبر ديني لا تهمة فيه. وأحوط للعبادة. ويقبل خبره رجلا كان أو امرأة بدون لفظ الشهادة. لأنه من باب الرواية. فيصام بقوله رأيت الهلال. ولو لم يقل أشهد. وتعتبر عدالته. (وله) أي لأبي داود وأحمد وغيرهما ورجاله رجال الصحيح عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال اختلف الناس في آخر يوم من رمضان و (أن أعرابيين) قدما على النبي - صلى الله عليه وسلم - و (شهد عند النبي - صلى الله عليه وسلم -) بالله

(أنهما رأيا الهلال بالأمس عشية. وأمس علم على اليوم الذي قبل يومك (فأمر - صلى الله عليه وسلم - الناس أن يفطروا) وأن يغدوا إلى مصلاكم" وتقدم نحوه عن أبي عمير صححه ابن المنذر وغيره. وثبت أنه قال - صلى الله عليه وسلم - "إن شهد اثنان فصوموا وافطروا) فلا يقبل في الفطر إلا اثنان عدلان. وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوما فلم ير الهلال لم يفطروا. كما لو شهد بهلال شوال بالإجماع. لأن الصوم إنما كان احتياطا. والأصل بقاء رمضان. وموافقة الأصل أولى. ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله. أو رأى هلال شوال فمع الناس قال الشيخ لا يزلمه الصوم أي ولا الفطر. ولا الأحكام المتعلقة بالهلال من طلاق وغيره. وقال يصوم مع الناس ويفطر مع الناس. وهذا أظهر الأقوال. إلا أن يكون في مكان ليس فيه غيره. (وعن أبي هريرة مرفوعا صومكم يوم تصومون) يعني أنتم معشر المسلمين (وفطركم يوم تفطرون) ماض لا وزر ولا عتب ولا شيء عليكم (رواه الترمذي) وغيره وحسنه. وسكت عنه أبو داود والمنذري. ورجال إسناده ثقات. وللترمذي وصححه عن عائشة قال" الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس" قال الشيخ أي هذا اليوم الذي تعلمون أنه وقت الصوم والفطر والأضحى فإذا لم تعلموه لم يترتب عليه حكم.

وقال أحمد وغيره يصوم ويفطر مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحوة والغيم. وقال يد الله على الجماعة. وقال الشيخ فسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس. ولأنه لو رأى هلال النحر وحده لم يقف دون سائر الحاج. وأصل هذه المسألة أن الله علق أحكاما شرعية بمسمى الهلال والشهر. كالصوم والفطر والنحر. وذكر الآيات. وتنازع الناس في الصوم. ثم قال: لكن النحر ما علمت أن أحدا قال من رآه ييقف وحده دون سائر الحاج. وذكر تنازعهم في الصوم وتناقضهم. ثم قال: وتناقض هذه الأقوال يدل على أن الصحيح صنعه مثل ذلك في ذي الحجة. وحينئذ فشرط كونه هلالا وشهرا شهرته بين الناس واستهلال الناس به حتى لو رآه عشرة ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد لكون شهادتهم مردودة. أو لكونهم لم يشهدوا به كان حكمهم حكم سائر المسلمين. فلذلك لا يصوموا إلا مع المسلمين ولا يفطرون إلا معهم. فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين فكذلك لا يصومون ولا يفطرون إلا مع المسلمين وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - "صومكم يوم تصومون ونحركم وأضحاكم" الحديث. وقال: الأصل أن الله علق الحكم بالهلال والشهر والهلال اسم لما يستهل به أي يعلن به ويجهر به فإذا طلع في السماء ولم يعرفه الناس ويستهلوا لم يكن هلال. وكذا الشهر مأخوذ من

الشهرة فإن لم يشتهر بين الناس لم يكن الشهر قد دخل وعلى هذا تفترق أحكام الشهر هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم أو لا يبين ذلك قوله " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). فإنما أمر بالصوم من شهد اشهر والمشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس حتى يتصور شهوده والغيبة عنه وقوله "إذا رأيتموه فصوموا. وإذا رأيتموه فافطروا" من الواضح الوضح. ونحو ذلك خطاب للجماعة. قال ولا يلزمه طلاقه وعتقه المعلق بالهلال وغير ذلك من خصائص الرمضانية. وذكر ابن عبد البر أنه قول أكثر العلماء. وأما الفطر فلاحتمال خطئه وتهمته. فوجب الاحتياط. وحكى بعضهم الإجماع على أنه لا يجوز إظهار الفطر وقال الشيخ باتفاق العلماء إلا أن يكون له عذر يبيح الفطر. وقال عمر وعائشة وغيرهما لا يفطر. قال الموفق لا يعلم لهما مخالف فكان إجماعا وهو المذهب وفاقا لأبي حنيفة ومالك. وقال الشيخ هو أصح القولين. (وعن حمزة بن عمرو) هو أبو صالح أو محمد الأسلمي الحجازي روى عنه ابنه محمد وعائشة. مات سنة إحدى وستين وله ثمانون (أنه قال يا رسول الله أجد بي قوة على الصوم في السفر فهل على جناح) أي إثم وميل إن صمت في السفر (فقال هي رخصة من الله) أي تسهيل وتخفيف من الله لعباده

(فمن أخذ بها) أي برخصة الله (فحسن) ولا إثم عليه. (ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه رواه مسلم) وهو عند الجماعة بلفظ "إن شئت فصم وإن شئت فافطر" وللبخاري "إن أفطرت فحسن. وإن صمت فلا بأس" وفي المسند "إن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يكره أن تؤتى معصيته" وفي الصحيحين "ليس من البر الصيام في السفر" وفيه أنه قد ظلل عليه وفي حديث حمزة "وهو اهـ. ون علي من أن أؤخره" وعلل بعضهم بالكراهة للضرر والمشقة. وحكي إذا جهده كره اتفاقا. لكن إن فعله أجزأ إجماعا. وقال الشيخ جائز باتفاق الأئمة. سواء كان قادرا على الصوم أو عاجزا. وسواء شق عليه الصوم أو لم يشق. ومن قال إن الفطر لا يجوز لا لمن عجز عن الصيام فإنه يستتاب. وكذلك من أنكر على المفطر أو أن عليه إثما فإن هذه الأقوال خلاف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة. (وله عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة) عام الفتح سنة ثمان في رمضان (فصام حتى بلغ كراع الغميم) بضم الكاف واد أمام عسفان من أموال أعالي المدينة. ولهما عن ابن عباس خرج منالمدينة ومعه عشرة آلاف فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون. حتى إذا بلغ الكديد وهو ماء بين عسفان وقديد من أموال أعالي المدينة. والجميع من عمل عسفان والقضية واحدة.

(وصام الناس معه فقيل) له إن الناس (قد شق عليهم) الصيام وإن الناس ينظرون فيما فعلت (فدعا بقدح من ماء) بعد العصر (فشرب) والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم وصام بعضهم (وبلغه أن أناسا صاموا فقال أولئك العصاة) ولفظ الصحيحين أفطر وأفطروا وإنما يؤخذ من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالآخر فالآخر. وله طرق. وفيه دليل على أنه يجوز للمسافر أن يفطر بعد أن نوى الصيام من الليل وهو قول الجمهور. وحكاه في الفروع اتفاقا. وبما شاء وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. لأن من له الأكل فله الجماع. إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه لظاهر الآية والأخبار. ومنها ما روى عبيد بن جبير قال ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط في شهر رمضان ثم قرب غداءه. فقلت الست ترى البيوت قال أترغب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه أبو داود وغيره. وعن أنس نحوه رواه الترمذي وصححه ابن العربي. فصرح هذان الصحابيان أنه سنة. ولأن السفر مبيح للفطر كالمرض الطارئ. ورجح الشيخ وغيره جوازه. وقال كما ثبت في السنن أن من الصحابة من يفطر إذا خرج من يومه. ويذكر أن ذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكر الحديث. والأفضل لمن سافر في أثناء يوم نوى صومه إتمام صوم ذلك اليوم. خروجا من خلاف من لم يبح له الفطر. ولا يفطر قبل خروجه اتفاقا.

(وقال ابن عباس) يعني في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي يتجشمونه. وفي قراءة أخرى (يطوقونه) {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (رخص للشيخ الكبير) يعني الفاني الذي لا يستطيع الصوم (أن يفطر) في رمضان (ويطعم عن كل يوم مسكينا) وفي رواية نزلت في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا. قال ابن القيم أفتى ابن عباس وغيره من الصحابة المريض المايوس منه. والشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم بأن يفطر ويطعما كل يوم مسكينا. إقامة للإطعام مقام الصيام رحمة وتخفيفا اهـ. وثبت عنه من غير وجه بألفاظ متقاربة. وقال ابن كثير وغيره حاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه لقوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وأما الشيخ الفاني الهرم والمرأة الكبيرة اللذان لا يستطيعان الصيام فلهما أن يفطرا ويطعما عن كل يوم مسكينا. ولا قضاء عليهما. وقد أطعم أنس رضي الله عنه لما كبر. قال ابن كثير وه والصحيح وعليه أكثر العلماء. ومثله المريض الذي لا يرجى زوال مرضه قاله ابن عباس وغيره. قال ابن القيم ولا يصار إلى الفدية إلا عند الياس من القضاء. (وقال) يعني ابن عباس رضي الله عنهما (في الحامل والمرضع) إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما (يفطران

ويطعمان) لدخولهما في الآية الكريمة. وعن ابن عمر نحوه. ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة. قال ابن القيم أفتى ابن عباس وغيره في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أن تفطرا وتطعما كل يوم مسكينا. إقامة للإطعام مقام الصيام اهـ. ولأنه فطر بسبب نفس عاجزة من طريق الخلقة فوجب به الكفارة كالشيخ الهرم وثبت أيضا عن ابن عباس أنه قال في الآية: أثبتت للحبلى والمرضع. وظاهره نسخ الحكم في غيرهما. والكبير الهرم. وهو مذهب الجمهور. وقالوا وحكم الإطعام باق في حق من لم يطق الصيام وذهب ابن عباس وابن عمر إلى عدم القضاء. وقال أحمد أذهب إلى حديث أبي هريرة "إن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم" قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم تفطران وتطعمان وتقضيان كالمريض إذا خاف على نفسه. وقال الشيخ تفطر وتقضي عن كل يوم يوما وتطعم عن كل يوم مسكينا رطلا من خبز بأدمه. وقال غير واحد على الفور. ويجوز إلى واحد جملة بلا نزاع. وحكى الوزير وغيره الاتفاق بدون إطعام. بخلاف خوفهما على ولديهما فقط أو الكبير لقدرتهما عليه. وكره صومهما مع خوف الضرر اتفاقا. وإن صامتا أجزأ كالمريض والمسافر. وحكم ظئر مرضعه لغير ولدها كأم. ويجب الفطر على من احتاجه لإنقاذ معصوم من هلكة

كغريق وتقدم سنية الفطر لمريض يضره الصوم وفي الإنصاف إن خاف المريض زيادة مرضه أو طوله. وصحيح مرضًا في يومه أو خاف مرضا لأجل العطش استحب له الفطر. وكره صومه وإتمامه إجماعا. وقال ابن القيم أسباب الفطر أربعة: السفر. والمرض. والحيض. والخوف على هلاك من يخشى عليه. كالمرضع. والحامل ومثله مسالة الغريق. وأجاز شيخ الإسلام الفطر للتقوي على الجهاد. وفعله وأفتى به لما نزل العدو دمشق في رمضان وأنكر عليه بعض المتفقهة. وقال ليس هذا بسفر فقال الشيخ هذا فطر للتقوي على جهاد العدو وهو أولى من الفطر للسفر. والمسلمون إذا قاتلوا عدوهم وهم صيام لم يمكنهم النكاية فهموربما أضعفهم الصوم عن القتال فاستباح العدو بيضة المسلمين. وهل يشك فقيه أن الفطر هنا أولىمن فطر المسافر. وقد أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح بالفطر للتقوي على عدوهم. قال ابن القيم إذا جاز فطر الحامل والمرضع لخوفهما. وفطر من يخلص الغريق. ففطر المقاتلين أولى بالجواز. وهذا من باب قياس الأولى. ومن باب دلالة النص وإيمائه. (وعن حفصة) يعني أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (مرفوعا) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (من لم يبيت) أي ينوي (الصيام من الليل) يقال بيت

فلان رأيه إذا فكر فيه وخمره وكل ما فكر فيه ودبر بليل فقد بيت (فلا صيام له رواه الخمسة وصححه الترمذي) وفي لفظ "من لم يجمع الصيام" أي يعزم عليه ويحكم النية "من الليل فلا صيام له" وللدراقطني عن عائشة مرفوعا "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له". فدلت الأحاديث على وجوب تعيين النية. وهو قول الجمهور. وفي الصحيحين "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وأصل النية في الصوم كغيره وإن كان تطوعا بالإجماع. ولأن النية عند ابتداء الصيام كالصلاة والحج. وحكى الشيخ ثلاثة أقوال ثالثها أن الفرض لا يجزئ إلا بتبييت النية من الليل. لما دل عليه حديث حفصة وابن عمر. لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم. والنية لا تنعطف على الماضي. وقال هذا أوسط الأقوال. ولا فرق بين أول الليل ووسطه وآخره. ويكفي في النية الأكل والشرب بنية الصوم يدل نيته قال الشيخ هو حين يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصوم. ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي ورمضان. وقال كل من علم أن غدا من رمضان وهو يريد صومه فقدنوى صومه. وهو فعل عامة المسلمين. واتفقوا على أن ما ثبت في الذمة من الصوم كقضاء رمضان والنذر والكفارات لا يجزئ صومه إلا بالنية من

اليل. وعند أحمد تكفي النية أول الشهر ما لم يقطعها وهو مذهب مالك وأبي حنيفة. (ولمسلم عن عائشة قالت دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال هل عندكم شيء فقلنا لا قال فإني إذا صائم) وإذا للاستقبال. قالت "ثم أتانا يوما آخر فقلنا اهـ. دي لنا حيس فقال أرينيه فلقدأصبحت صائما فأكل" وفي رواية كان يدخل على بعض أزواجه فيقول "هل من غداء" فإن قالوا لا قال "فإني صائم" وله ألفاظ: منها فإن قلنا ننعم "تغدى" فدل على انه كان مفطرا. وإن قلنا لا قال "إني صائم" وثبت عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. فدل على جواز تأخير نية الصوم عن أول النهار إذا كان تطوعا. وإفطاره قبل الليل. واتفقوا علىن صوم النفل كله يجوز بنية من النهار قبل الزوال وبعده. إلا ما روي عن مالك. قال الشيخ يجزئ كما دل عليه الخبر. وكالمكتوبة يجب فيها من الأركان كالقيام والاستقرار على الأرض ما لا يجب في التطوع توسيعا من الله على عباده طرق التطوع. فإن أنواع التطوعات دائما أوسع من أنواع المفروضات. وهذا أوسط الأقوال. وشرطه أن لا يوجد مناف غير نية الإفطار. اقتصارا على مقتضى الدليل. ونظرا إلى أن الإمساك هو المقصود الأعظم فلا يعفىعنه أصلا. فإن فعل قبل النية ما يفطره لم يجز

باب ما يفسد الصوم

الصيام. قال الموفق وغيره بغير خلاف. فلا يصح صوم من أكل ثم نوى بقية يومه اتفاقا. لعدم حصول حكمة الصوم. لأن من عادة المفطر الأكل بعض النهار. وإمساك بعضه. وقد أجمع المسلمون على أنه يدخل في الصوم بالفجر الثاني. ينقضي بتمام الغروب. والصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية. لأن ما قبله لم يوجد فيه قصد القربة. فلا يقع عبادة. قاله الشيخ وغيره من نوى الإفطار أو أن وجد طعاما أكل بطل صومه. وإن قطع نية فرض ثم نواه نفلا صح. وإن نوى إن كان الصيام غدا من رمضان فهو فرضه لم يجزئه التعيين لعدم جزمه. وإن نواه ليلة الثلاثين من رمضان أجزأه بناء على الاصل. باب ما يفسد الصوم أي باب بيان الذي يبطل الصوم وهوكل ما ينافيه من أكل وشرب وجماع ونحوها. وبيان ما يتعلق بذلك. قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} يعني في ليالي الصوم مع ما تقدم من إباحة الجماع في أي الليل شاء. حيث قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} كناية عن الجماع إلى أن قال {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} جامعوهن حلالا. إلى أن قال {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ

الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أي حتى يتبين لكم ضياء الصباح من سواد الليل. كما جاء مفسرا في الصحيحين وغيرهما. سميا خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الابتداء ممتدا كالخيط. وفي الترمذي وغيره "كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد. فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر" قال والعمل عليه عند أهل العلم. وثبت في الصحيح وغيره أن الذي يحرم الطعام يذهب مستطيلا في الافق والآخر الذي لا يحرم فيه الطعام كذنب السرحان. يذهب مرتفعا في السماء كالعمود. وبينهما وقت يظهر هذا وبعد ظهوره يظهر الثاني ظهورا بينا لا ظلمة بعده. {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فيحرم على الصائم الطعام والشراب. وكذا الجماع بطلوع الفجر الصادق إجماعا. قال الشيخ وغيره فعقل من الآية أن المراد الصيام من الأكل والشرب. فإنه أباحه إلى غاية ثم أمر بالإمساك عنهما إلى الليل. وفي قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وكان معقولا عندهم أن الصيام هو الإمساك عنهما. فمن أكل أو شرب عامدا ذاكرا لصومه فسد صومه بإجماع المسلمين ولا فرق بين الكثير والقليل. ويمتد الحضر إلى غروب الشمس. وإذا غربت حصل الفطر. وفي الصحيحين "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر

الصائم" ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الألفق وإذا غاب جميع القرص ظهر السواد من المشرق. ويعرف في العمران بزوال الشعاع. وإقبال الظلام. ويأتي الحث على تأخير السحور وتعجيل الفطر. وذكر جمع: وكذا لو احتقن أو اكتحل بما يصل إلى حلقه أو أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان أفطر. سواء كان بمائع ويغذي. أو غير مغذ كحصاة. وسواء كان من مداواة نحو جائفة. أو مأمومة. لأنه في الجميع أوصل إلى جوفه ما هو ممنوع من إيصاله إليه. اشبه ما لو أوصل غليه مأكولا أو مشروبا. وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه. وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة. فمما تنازع الناس فيه. فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك ومنهم من فطر بشيء دون شيء. والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك. فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام. فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصيام بها. لكان هذا مما يجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيانه. ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة. كما بلغوا سائر شرعه. فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك لا حديثا صحيحا ولا ضعيفا. ولا مسندا ولا مرسلا. علم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر شيئا من ذلك. والحديث المروي في الكحل ضعيف وقد

عورض بحديث ضعيف. وقال الترمذي لا يصح فيه شيء. وهؤلاء الذين قالوا إن هذه الأمور تفطر لم يكن معهم حجة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما ذكروا ذلك بما رأوا من القياس. وأقوى ما احتجوا به "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما". ولايجوز إفساد الصوم بهذه الاقيسة لوجوه: منها أن الأحكام الشرعية بينتها النصوص. وليس فيها ما يدل على إفطاره بهذه. ومنها أن الأحكام لا بد أن يبينها الشارع ولو كانت هذه مما يفطر لبينه كما بين الإفطار بغيرها. فلما لم يبين ذلك علمنا أنه من جنس الطيب والبخور والدهن. وهي مما يتقوى به البدن. وقد كان المسلمون في عهده يجرح أحدهم مأمومة وجائفة فلو كان يفطر لبينه لهم. ومنها أن إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون صحيحا وليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله مفطرا هو ما كان واصلا إلى دماغ أو بدن. وما كان واصلا من منفذ أو وصلا إلى الجوف ونحو ذلك من المعاني. التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عن الله ورسوله. وإذا لم يكن للحكم بهذا دليل كان قولا بلا علم وذكر أن من نشق المال بمنخريه ينزل غلى حلقه وجوفه. فيزول العطش ويطبخ الطعام كما يحصل بشراب الماء. وليس كذلك الكحل والحقنة. ومداواة الجائفة والمأمومة. فإن الكحل لا يغذي. وكذا الحقنة.

بل تستفرغ ما في البدن. ولا تصل إلى المعدة (¬1) والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل إليه من غذائه بل ليس فيه تغذية. والصائم نهي عن الأكل والشرب. لأنه سبب التقوي. فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجري فيه الشيطان إنما يتولد من الغذاء. لا عن حقنة ولا كحل ولا ما يقطر في الذكر ولا ما يداوي به المأمومة والجائفة. فإذا كانت هذه المعاني وغيرها موجودة في الأصل الثابت بالنص والإجماع. فدعواهم أن الشارع علق الحكم بما ذكروه من الأوصاف معارض بهذه الأوصاف والمعارضة تبطل كل نوع من الأقيسة. (وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه) فيه دليل على أن ثم صوم يتم. وللدارقطني "ولا قضاء" وللحاكم وقال على شرط مسلم "من أكل في رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة" وأفتى به جماعة من الصحابة. ولا مخالف لهم. وهو موافق لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} فالنسيان ليس من كسب القلوب. ¬

_ (¬1) كلامه رحمه الله على المعروف في عصره ويوجد الآن حقن آخر وهو إيصال بعض المواد الغذائية للأمعاء وغيرها يغذى بها المرضى وغيرهم فالاعتبار بما كان في عصره وما سواه يعطى حكمه.

(فإنما أطعمه الله وسقاه) أي ما أطعمه أحد ولا سقاه إلى الله. وأن هذا النسيان من الله ولطفه تيسيرا عليه ودفعا للحرج (متفق عليه) وللترمذي "إنما هو رزق ساقه الله إليه. ولا قضاء عليه" وإضافة الفعل إلى الله تعالى أنه سبحانه هو الذي أطعمه إياه تدل على ان لا اثر لذلك الأكل والشرب بالنسبة إلى الصائم. يؤيده "ولا قضاء عليه". ولأن النسيان والخطأ ضرورة والأفعال الضرورية غير مضافة في الحكم إلى فاعلها. ولا هو مؤاخذ بها وإلى ذلك ذهب جماهير العلماء أحمد والشافعي وأبو حنيفة وأهل الحديث عملا بالحديث. واعتذر بعض المالكية عن الحديث بأنه خبر واحد مخالف للقاعدة. والحديث مع ما يعضده قاعدة مستقلة. وكذا إن طار إلى حلقه ذباب أو غبار أو دخان لم يفطر اتفاقا. كالنائم يدخل حلقه شيء. وكذا لو فكر فأنزل عند الجمهور. وقال الوزير أجمعوا على أن من لمس فأمذى أن صومه صحيح. إلا ما روي عن أحمد. وإن احتلم فأنزل لم يفسد. قال الشيخ باتفاق الناس أو اغتسل أو تمضمض أو استنثر أو بالغ فدخل الماء حلقه لم يفطر إجماعا. ولا بكل ما دخل حلقه من غير قصد أشبه الناسي. (وللخمسة عنه) أي عن أبي هريرة (مرفوعا) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من ذرعه القيء) أي غلبه وسبقه في الخروج

(فلا قضاء عليه) إجماعا لأنه لا تقصير منه. وكذا إن أصبح في فيه طعام فلفظه. أو شق عليه فبلع ريقه من غير قصد لم يفسد حكاه ابن المنذر إجماعا. أو بلغ ريقه عادة اتفاقا (ومن استقاء فعليه القضاء) وفي لفظ "من استقاء عمدا فليقض" أي تسبب لخروجه عمدا وجب عليه القضاء إجماعا. وقال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم. وقال الشيخ نهي عن إخراج ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب الذي يتغذى به لمايوجب إخراجه من نقصان بدنه وضعفه. فإذا مكن منه ضره. وكان متعديا في عبادته. لا عادلا فيها. وعن ابن عمر نحوه موقوفا. ولأحمد عن أبي الدرداء أنه - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر. قال الترمذي هو أصح شيء في هذا الباب. وقال البغوي والخطابي وغيرهما أجمعوا على أن من ذرعه القيء فلا قضاء عليه. ومن استقاء فعليه القضاء. لم يختلفوا فيه. وجودوا هذا الحديث وله طرق وشواهد. (ولهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى على الرجل) بالبقيع (وهو يحتجم في رمضان) لثمان عشرة خلت من رمضان (فقال أفطر الحاجم) لأنه لا بد أن يصل إلى جوفه من الدم والحجامة شرط ظاهر الجلد المتصل قصدا لإخراج الدم من الجسد دون العروق أفطر (و) أفطر (المحجوم) للضعف الذي يلحق من ذلك إلى أن يعجز عن الصوم (صححه الترمذي) من حديث رافع (و) كذا صححه (غيره)

ابن المديني والدارمي وغيرهماز وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث شداد. وقال أحمد والبخاري إنه أصح حديث في الباب. وصححه أحمد والحاكم من حديث ثوبان. وقال الدارمي إنه وحديث رافع اصح شيء في هذا الباب. ولابن ماجه من حديث أبي هريرة مثله رواه أحمد. وله من حديث عائشة وأسامة ومصعب وبلال وصفية وأبي موسى وعمرو بن شعيب وغيرهم اثني عشر صحابيا. وقال الطحاوي وغيره متواتر. وقال الشيخ الأحاديث الواردة فيه كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ. وهذا نص في حصول الفطر لهما. فلا يجوز أن يعتقد بقاء صومهما. والنبي - صلى الله عليه وسلم - مخبر عنهما بالفطر. لا سيما وقد أطلق هذا القول إطلاقا من غير أن يقرنه بقرينة تدل على أن ظاهره غير مراد. وقد كره غير واحد من الصحابة الحجامة للصائم. وكان أهل البصرة يغلقون حوانيت الحجامين. والقول بأن الحجامة تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث كأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر. وأهل الحديث الفقهاء فيه العاملون به أخص الناس باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -. والذين لم يروه احتجوا بما في صحيح البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم محرم. وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة. وهي قوله وهو صائم. وقالوا الثابت أنه احتجم وهو محرم. وقال أحمد وهو صائم ليس بصحيح. وأنكره يحيى بن

سعيد. وقال أحمد هو خطأ من قبل قبيصة. وقال أيضا عن حديث ابن عباس ليس فيه صائم. وقال أصحاب ابن عباس لا يذكرون صائم. قال الشيخ وهذا الذي ذكره أحمد هو الذي اتفق عليه الشيخان. ولهذا أعرض مسلم عنه ولم يثبت إلا حجامة المحرم. قال وأما الحاجم فإنه يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه. والهواء يجتذب ما فيها من الدم. فربما صعد مع الهواء شيء من الدم ودخل في حلقه. وهو لا يشعر. والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بالمظنة. كالنائم تخرج منه الريح ولا يدري يؤمر بالوضوء. فكذلك الحاجم يدخل شيء من الدم مع ريقه إلى بطنه وهو لا يدري. والدم من أعظم المفطرات. فإنه حرام في نفسه لما فيه من طغيان الشهوة والخروج من العدل والصائم مأمور بحسم مادته والدم يزيد الدم فهو من جنس المحظور. فيفطر الحاجم لهذا. وأما الشارط فليس بحاجم. وهذا المعنى منتف فيه. وكذلك لو قدر حاجم لا يمص القارورة. بل يمتص غيره. أو يأخذ الدم بطريق أخرى والنبي - صلى الله عليه وسلم - خرج كلامه على الحاجم المعتاد. المعروف. وقال وقد بينا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس. وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاء

وبالاستمناء. وإذاكان كذلك فبأي وجه أراد إخراج الدم بقصاد أوشرط أو رعاف أفطر. كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر. فتلك طرق لإخراج القيء. هذه طرق لإخراج الدم. والمعنى الموجود في الحجامة موجود في الفصاد ونحوه. ويدل عليه كلام العلماء قاطبة وصوبه أبو المظفر الوزير العالم العادل وغيره ولهذا كان إخراج الدم بهذا وهذا سواء في باب الطهارة. فتبين بذلك كمال الشرع واعتداله وتناسبه. وقال إن احتاج إليه المريض اقتصر وعليه القضاء. وإلا أخره في أحد قولي العلماء. ولا يفطر في شيء مما تقدم إلا بشرط أن يكون قاصدًا الفعل. ذاكرًا لصومه. ويجب القضاء. وظاهر الحديث وإن لم يكونا عالمين. ولكن كما قال ابن القيم: وأما النسيان المانع من الفطر فيستفاد من دليل آخر. (وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنبًا من جماع) لا احتلام (ثم يصوم متفق عليه) ولهما عن أم سلمة نحوه. ولمسلم عن عائشة أن رجلا قال يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب فاصوم" فقال لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال "والله إني لا أرجو أن أكون أخشاكم الله وأعلمكم بما أتقي" وفي حديث أم سلمة كان يصبح جنبا من جماع لا حلم. ثم لا يفطر ولا يقضي.

وفي الكتاب العزيز جعل الفجر غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام. وهو دليل على أن من أصبح جنبًا فيغتسل وليتم صومه. ولا حرج عليه. وقال ابن كثير وغيره هذا مذهب الأئمة الأربعة. وحكاه الوزير والنووي وغيرهما إجماعًا. ومن ضرورة إباحة حل الرفث في جميع الليل أن يصبح صائمًا جنبًا. والغسل شيء وجب بالإنزال وليس في فعله شيء يحرم على الصائم. فإن الصائم قد يحتلم في النهار فيجب عليه الغسل. ولا يفسد صومه بإجماع المسلمين. وأجمعوا على أنه إذا انقطع دم الحائض والنفساء قبل الفجر ثم طلع الفجر قبل أن يغتسلا فصومهما صحيح. (وللبخاري عن أسماء) بنت أبي بكر رضي الله عنهما (أنهم أفطروا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم غيم ثم طلعت الشمس) أي بعد أن افطروا. فكانوا كمن أفطر ناسيًا لجواز الفطر بغلبة الظن (ولم يذكر قضاء) قال البخاري قال معمر سمعت هشامًا يقول لا أدري اقضوا أم لا. وعن مجاهد وعطاء وعروة عدم القضاء. وقول هشام "لا بد من قضاء" [إنما هو] برأيه. قال الشيخ وثبت في الصحيح أنهم أفطروا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم طلعت الشمس. ولم يذكر في الحديث أنهم أمروا بالقضاء. ولو أمرهم لشاع ذلك كما نقل فطرهم. فلما لم ينقل

فصل في الكفارة

دل على أنه لم يأمرهم وثبت عن عمر أنه أفطر ثم تبين النهار فقال لا نقضي فإنا لم نتاجنف لإثم. وهذا القول أقوى أثرا ونظرا وأشبه بدلائل الكتاب والسنة والقياس وكذا قال ابن القيم. وأنهم اتفقوا على أن الإثم موضوع عنه فصار فعله غير منسوب إليه كالناسي. لا سيما وهو مأمور بالمبادرة إلى الفطر. قال الشيخ فإذا أكل عند غروبها بناء على غلبة الظن فظهرت ثم أمسك فكالناسي. وكما لو أكل ظانا غروبها ولم يتبين له الخطأ واختار أنه لا قضاء على من أكل أو جامع معتقدا أنه ليل فبان نهارا. وقال قال به طائفة من السلف والخلف. وهو الثابت عن عمر وغيره. فأما إذا أكل شاكا في طلوع الفجر فالأصل بقاء الليل. ولأنه لا يمنع نية الصوم إلا اليقين. فصل في الكفارة أي في بيان ما يتعلق بالجماع في نهار رمضان من الكفارة. وهي عبارة عن الفعلة والخصلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها وتمحوها. وهي فعالة للمبالغة: فدية تلزم المجامع في نهار رمضان من غير عذر وعقوبة وزجر للواطئ وتكفير لجرمه. واستدراك لفرطه. وجبر لوهن الصوم. والجماع في نهار رمضان مفسد للصيام بالكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} أي أبيح لكم ليلة الصيام {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} يعني مجامعة النساء تيسيرًا عليكم

وكان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حل له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء أو يرقد قبلها، فإذا صلى أو رقد قبلها حرم عليه إلى الليلة القابلة {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي تخونون {أَنْفُسَكُمْ} بالمجامعة {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي تجاوز عنكم {وَعَفَا عَنْكُمْ} محا ذنوبكم {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} جامعوهن حلالا {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} من الولد أو الرخصة {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر ثم أتموا الصيام إلى الليلِ}. فأباح الأكل والشرب والجماع في أي الليل شاء. إلى أن يتبين ضياء الصباح ثم حرمه إلى الليل. فدلت الآية على أن الصيام المأمور بإتمامه ترك الوطء والأكل. فإذا وجد فيه الجماع لم يتم فيكون باطلا واتفق العلماء على أن من جامع في نهار رمضان فعليه القضاء والكفارة في الجملة ولما ذكر الشيخ انقسام المفطرات بالنص والإجماع. قال وأما الجامع فاعتبار أنه سبب إنزال المني يجري مجرى الاستقاءة والحيض والاحتجام. فإنه من نوع الاستفراغ. ومن جهة أنه إحدى الشهوتين فجرى مجرى الأكل والشرب. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "يدع طعامه وشرابه من أجلي" فترك الإنسان ما يشتهيه لله هوعبادة مقصودة يثاب عليها. والجماع

من أعظم نعيم البدن وسرور النفس وانبساطها. وهو يحرك الشهوة والدم والبدن أكثر من الأكل. فإذا كان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم والغذاء يبسط الدم. فتنبسط نفسه إلى الشهوات. فهذا المعنى في الجماع أبلغ. فإنه يبسط إرادة النفس للشهوات ويضعف إرادتها عن العبادة أعظم. بل الجماع هو غاية الشهوات. وشهوته أعظم من شهوة الطعام والشراب ولهذا وجب على المجامع كفارة الظهار. فوجب عليه العتق. أو ما يقوم مقامه بالسنة والإجماع لأن هذا أغلظ وداعيه أقوى. والمفسدة به أشد فهذا أعظم الحكمتين في تحريم الجماع. وأما كونه يضعف البدن كالاستفراغ فذلك حكمة أخرى. فصار فيها كالاستقاء والحيض. وهو في ذلك أبلغ منهما. فكان إفساده الصوم أعظم من إفساد الأكل والحيض. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال جاء رجل) هو سلمة بن صخر الأنصاري الخزرجي البياضي (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال هلكت) وللدارقطني "وأهلكت" فيدل على أنه كان عامدًا. لأن الهلاك هنا عبارة عن العصيان المؤدي إلى ذلك (قال وما أهلكك؟) استفهام منه - صلى الله عليه وسلم - عن الذي أهلكه (قال وقعت على امرأتي في رمضان) أي جامعها في نهار رمضان. (قال) له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (هل تجد ما تعتق رقبة) بالنصب بدل من ما. وظاهره الإطلاق. فيحمل على المقيد في

كفارة القتل بالإيمان. وهو قول الجمهور ولا بد أن تكون سليمة من العيوب الضارة بالعمل (قال لا) أي لا أجد رقبة. ولابن ماجه قال لا أجدها (قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين) وحكى الوزير وغيره الإجماع على وجوب التتابع فيها (قال لا) اي قال لا استطيع صوم شهرين متتابعين. (قال فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟ قال لا) أي لا أجد ما أطعم به ستين مسكينا. قال النووي أجمع عليه العلماء في الأعصار المتأخرة وهو اشتراط إطعام ستين مسكينًا والجمهور على أن لكل مسكين مدًا من طعام ربع صاع مما يجزئ في فطرة كما تقدم عن شيخ الإسلام. وظاهر الحديث الترتيب لأنه نقله من أمر بعد عدمه إلى آخر ولم يأمره إلا عند العجز. وليس هذا شأن التخيير وهو مذهب جمهور العلماء. ولابن ماجه قال "أعتق رقبة" قال لا أجدها. قال "صم شهرين متتابعين" قال لا أطيق. قال "أطعم ستين مسكينا" وفيه دلالة قوية على الترتيب "ثم جلس" غير قادر على شيء مما أمره به النبي - صلى الله عليه وسلم - "فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق) بفتح الراء (فيه تمر) اي في العرق وهو المكتل أو الزنبيل يسع خمسة عشر صاعًا. وروي فيه خمسة عشر صاعًا (فقال تصدق به). فدل على أن الكفارة تجب على الرجل وهو اتفاق وعند الجمهور وعلى المرأة. وسكوته - صلى الله عليه وسلم - لكونها لم تسأل. فلا حاجة

ولاحتمال أن تكون مكرهة. لقوله "هلكت وأهلكت" وإن كانت مطاوعة عالمة فك الرجل عند الجمهور لأن تمكينها كفعله في حد الزنا. ففي الكفارة أولى. وتسقط بتكفير غيره عنه "فقال أعلى أفقر منا" فهم من الأمر بالتصدق به أن يكون المتصدق عليه فقيرا "فما بين لابتيها" أي ما بين حرتي المدينة (أهل بيت أحوج إليه منا). (فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتىبدت نواجذه) جمع ناجذ والمشهور أنها أقصى الاضراس استغرب وضحك - صلى الله عليه وسلم - مما شاهده من حال الرجل حيث جاء خائفا على نفسه راغبًا في فدائها مهما أمكنه. فلما وجد الرخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه في الكفارة أو من حسن بيانه (وقال اذهب فأطعمه أهلك. متفق عليه). فدل على أنه إذا لم يجد شيئًا يطعمه المساكين سقطت الكفارة. لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بكفارة أخرى ولم يذكر له بقاءها في ذمته قال الوزير أجمعوا على أنه إذا عجز عن كفارة الوطء حين الوجوب سقطت إلا الشافعي في أحد قوليه وأوجب بعض العلماء على الرجل الكفارة ولو ناسيًا أو مكرهًا أو جاهلاً قالوا لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل المواقع عن حاله ولأن الوطء يفسد الصوم فأفسده على كل حال كالحج. وعن أحمد لا تجب اختاره شيخ الإسلام وغيره وقال هو قياس أصول أحمد وغيره لأن الكفارة ماحية ومع النسيان

والإكراه والجهل لا إثم يمحى وقا قد ثبت بالكتاب والسنة أن من فعل محظورا مخطئًا أو ناسيًا لم يؤاخذه الله وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله فلا يكون عليه إثم ومن لا إثم عليه لم يكن عاصيًا ولا مرتكبًا لما نهي عنه ومثل هذا لا تبطل عبادته. ونقل ابن القاسم كل أمر غلب عليه الصائم فليس عليه قضاء ولا كفارة قال أكثر الأصحاب وهذا يدل على إسقاط القضاء والكفارة. وقال ابن عبد البر الصحيح في الأكل والوطء إذا غلب عليهما لا يفطرانه. وكذا قال غير واحد من أهل العلم الجماع كالأكل فيما مر فيه من الإكراه والنسيان والجهل قال النووي وهو قول جمهور العلماء والصحيح من مذهبهم. لأنه صح الحديث أن أكل الناسي لا يفطر والجماع في معناه. والأحاديث في العامد لقوله "هلكت وأهلكت" وهذا لا يكون إلا في العامد. فإن الناسي لا إثم عليه بالإجماع. وقال الشيخ لا يقضي متعمد بلا عذر صوما ولا صلاة ولا يصح منه. وأنه ليس في الأدلة ما يخالف هذا بل يوافقه. وضعف أمر المجامع بالقضاء لعدول البخاري ومسلم عنه. والجمهور على خلافه وذكر الحافظ أن له طرقًا تثبت أن له أصلاً. ولفظه عند أبي داود وصم يوما مكانه. والاحتياط والخروج من الخلاف مستحب. وإن كرر الجماع في يوم فكفارة واحدة. قال الوزير أجمعوا

أنه إذا وطئ وكفر ثم عاد فوطئ ثانيًا في يومه ذلك أنه لا يجب عليه كفارة ثانية. وإن جامع في يومين متفرقين لزمه كفارتان عند الجمهور مالك والشافعي وأحمد وكما لو كفر عن اليوم الأول فإنه يلزمه لليوم الثاني كفارة ثانية. ذكره ابن عبد البر إجماعًا. ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لزمته الكفارة اتفاقًا لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل الأعرابي هل طرأ له بعد وطئه مرض أو غيره بل أمره بالكفارة. ولو اختلف الحكم لسأله عنه. ولأنه أفسد صيامًا واجبًا من رمضان بجماع فاسقرت كفارته. وإن جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة عليه. وأجمعوا على أنه إذا أفطر في السفر يباح له الجماع. وينبغي أن يفطر بنية الفطر. فيقع الجماع بعده. ومن لزمه الإمساك ثم جامع فعليه الكفارة اتفاقًا. ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان إجماعًا. ولا كفارة بجماع دون الفرج ولا بمباشرة أو قبلة ونحوها ولو مع الإنزال اتفاقًا. ولا بالجماع في قضاء رمضان أو نذر أو كفارة. لأن الكفارة لهتك حرمة الشهر وغيره لا يساويه. وقال طوائف من السلف من جامع معتقدا عدم طلوع الفجر ثم تبين أنه طلع فلا قضاء عليه. وقال الشيخ هذا القول أصح الأقوال وأشبهها بأصول الشريعة ودلالة الكتاب والسنة. فإن الله رفع المؤاخذة عن الناسي والمخطئ وقد أباح الله الأكل

باب ما يكره ويستحب في الصوم

والوطء حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. واستحب تأخير السحور. ومن فعل ما ندب إليه وأبيح له لم يفرط. فهذا أولى بالعذر من الناسي اهـ. ومن طلع عليه الفجر وهو مجامع فنزع في الحال لم يكفر اتفاقًا. وقال ابن أبي موسى قولا واحدا. واختاره أبو حفص وصاحب الفائق والشيخ وغيرهم. وقال هذا قول طوائف من السلف والخلف وقال غير واحد النزع ترك للجماع وقال ابن القيم من طلع عليه الفجر وهو مجامع فالواجب عليه النزع عينًا. ويحرم عليه استدامة الجماع واللبث ولا شيء عليه. اختاره شيخنا. وهو الصواب. والحكم في حقه وجوب النزع. والمفسدة في حركة النزع مفسدة مغمورة في مصلحة إقلاعه. ونزعه. وإن استدام فعليه القضاء والكفارة. وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. لأنه جماع في نهار رمضان باختيار فلا فرق بين ابتدائه ودوامه. باب ما يكره ويستحب في الصوم أي باب بيان ما يكره في الصوم من شتم وقبلة ونحو ذلك. وبيان ما يستحب في الصوم من تعجيل فطور وتأخير سحور قال تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} أي الكذب والبهتان والباطل كغيبة ونميمة وشتم وفحش ونحوه. ويجب اجتنابه كل وقت وفي كل مكان. وفي رمضان والمكان الفاضل

آكد. لأن الحسنات والسيئات تتضاعف بالزمان والمكان الفاضل. والنهي عن الزور كثير في الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} وقال {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} وقال {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} وقال {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} فعلى المرء أن يسعى في حفظ لسانه عن جميع الكلام إلا ما ظهرت فيه مصلحة "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت". قال أحمد ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري. ويصون صومه. وكانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا نحفظ صومنا ولا نغتاب أحدا. ولا يعمل عملا يجرح به صومه. ويشرع له كثرة القراءة والذكر والصدقة لمضاعفة الحسنات في رمضان. (وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يدع) أي يترك ويجتنب (قول الزور) وللطبراني من حديث أنس "من لم يدع الخنى والكذب" (والعمل به) أي بالزور (والجهل) أي السفه (فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) أي ليس المقصود من الصوم نفس الجوع والعطش. بل ما يتبعه من كسر

ثائرة الغضب وتطويع النفس الأمارة للطمأنينة. فإذا لم يحصل لم يبال الله بصومه "رب صائم حظه من صيامه الجوع والظمأ" (رواه البخاري) ورواه أحمد وأهل السنن وغيرهم. وفيه الزجر والتحذير من قول الزور ومن العمل به. وأن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور. قال الشيخ وقد يكثر فيزيد على الصوم. وقد يقل وقد يتساويان. وهذا مما لا نزاع فيه. وفي المسند في المرأتين اللتين صامتا عما أحل الله لهما من الطعام وأفطرتا على ما حرم الله عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس أمرهما أن يتقيئا فقاءتا ملء قدح قيحًا وصديدًا ولحمًا عبيطًا. وذكر الشيخ وجها يفطر بغيبة ونميمة ونحوها. ونقل عن بعض السلف. لكن قال أحمد لو كانت الغيبة تفطر. ما كان لنا صوم. وذكره الموفق إجماعًا. وقول الأئمة لا تفطر أي لا يعاقب عقاب المعلن بالفطر. ومن قال يفطر بمعنى أنه لم يحصل له مقصود الصوم. أو قد تذهب بأجر الصوم. فقوله موافق لقول الأئمة. ولا نزاع في تحريمها وفي الصحيحين "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" ولما عرج به مر على قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقال: "يا جبرائيل من

هؤلاء قال: الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم". (ولهما) أي وللبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بعد قوله "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب ولا يجهل" قال (وإن شاتمه أحد) أي شتمه متعرضًا لمشاتمته والشتم السب وهو رمي أعراض الناس بالمعائب القبيحة وذكرهم بقبيح القول حضرًا أو غيبًا (أو قاتله) أي نازه ودافعه ويحمل على ظاهره. وعلى اللعن. فيجعر إلى معنى الشتم والصائم مأمور أن يكف نفسه عن ذلك ولا يقابله بالشتم والسب. (فيقل إني) امرؤ (صائم) أي صومي يمنعني من ذلك. وآكد للزجر ليرده به عن نفسه وظاهره أنه يقوله جهرًا اختاره الشيخ وغيره. لأن القول المطلق باللسان وفي الفرض لا نزاع فيه حكاه ابن العربي. وإنما الخلاف في التطوع بعدًا عن الرياء. قال النووي كل منهما حسن. والقول باللسان أقوى من القول في النفس ولو جمعهما لكان حسنًا. (وعن عائشة) رضي الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - (كان يقبل وهو صائم) ولهما عن أم سلمة أنه كان يقبلها وهو صائم. ولمسلم عن عمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيقبل الصائم؟ فقال له "سل هذه "لأم سلمة فأخبرته أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك.

فقال يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال "أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له" وفيه أن أفعاله حجة. وقال لعمر أرأيت لو تمضمضت؟ رواه أبو داود. فدلت على أنه يجوز التقبيل للصائم. ولا يفسد به الصوم. قال النووي ولا خلاف أنها لا تبطل الصوم. إلا أن أنزل بها (ويباشر وهو صائم) المباشرة الملامسة وترد بمعنى الوطء. وليس مرادا هنا. وذكر المباشرة بعد التقبيل من ذكر العام بعد الخاص. فإن المباشرة المذكورة هنا أعم من التقبيل ما لم يبلغ إلى حد الجماع. لأنها في الأصل التقاء البشرتين. (ولكنه أملككم لإربه) بكسر الهمزة أي حاجته ووطره. وقيل لعضوه. وقيل لنفسه. وهي رواية وآمنكم من الوقوع في قبلة يتولد منها إنزال أو شهوة أو هيجان نفس. والمقصود أملككم لنفسه. فيأمن مع هذه المباشرة الوقوع في المحرم (متفق عليه). (ولأبي داود عن أبي هريرة نهى) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (شابا) سأله عن المباشرة للصائم فنهاه. وقال: "الشاب يفسد صومه" خشية أن تغلبه الشهوة وأن لا يملك نفسه عند التقبيل. ولذلك ذهب قوم إلى تحريم التقبيل على من تحرك شهوته الشاب مظنة لذلك. وقال المجد تحرم القبلة إن ظن إنزالا بغير خلاف. لتعريضه للفطر. ثم إن أنزل أفطر بلا خلاف وإن لم ينزل لم يفطر ذكره ابن عبد البر إجماعًا.

(ورخص الشيخ) سأله عن المباشرة للصائم. وقال الشيخ يملك إربه. وإسناده صحيح. ورواه البيهقي وهذا لفظه. ورواه سعيد عن أبي هريرة وأبي الدرداء وابن عباس بإسناد صحيح. ولفعله عليه الصلاة والسلام. والتعبير بالشيخ والشاب جرى على الغالب. فلو انعكس الأمر انعكس الحكم. وليست محرمة على من لم تحرك شهوته. ولا يقال إنها مكروهة له. وإنما هي خلاف الأولى في حقه. لثبوت فعله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لأنه يؤمن في حقه مجاوزة القبلة. ويخاف على غيره مجاوزتها. والمراد قبلة من تباح قبلته في الفطر. كزوجته وسريته تلذذا لا رحمة وتوددًا. فأما من تحرم قبلته في الفطر ففي الصوم أولى بالتحريم. وكذا دواعي الوطء كمعانقة ولمس وتكرار نظر للتلذذ والشهوة. وأما اللمس لغير شهوة كلمس اليد ليعرف مرضها ونحوه فلا يكره اتفاقًا. (وقال ابن عباس) رضي الله عنهما (لا بأس بذوق طعام لحاجة رواه البخاري) وكذا قال أحمد وغيره لا بأس به لحاجة ومصلحة. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وكالمضمضة. ويكره بلا حاجة لأنه لا يأمن أن يصل إلى حلقه فيفطره. قال أحمد أحب إلي أن يجتنبه فإن فعل فلا بأس. وقال الشيخ إذا ذاق طعامًا ولفظه أو وضع فيه عسلا ومجه فلا بأس به لحاجة كالمضمضة والاستنشاق اهـ.

ويكره مضغ علك قوي لا يتحلل اتفاقًا. ويحرم المتحلل إجماعًا. لأنه يكون قاصدًا لإيصال شيء من خارج إلى جوفه مع الصوم وهو حرام ويكره أن يدع بين أسنانه بقايا من الطعام خشية خروجه فيجري به ريقه إلى جوفه. ويكره جمع ريقه فيبتلعه خروجًا من الخلاف. ويحرم بلع النخامة وقيل يفطر بها إن وصلت إلى فمه وفاقًا للشافعي. كالقيء. وعن أحمد وغيره لا يفطر لأنه معتاد في الفم كالريق. فالأولى اجتنابه ولا يفطر به إجماعًا. (وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تسحروا) فيه الأمر بالسحور فإن في السحور بركة متفق عليه) لأنه يقوي على الصيام وتحصل بسببه الرغبة في الازدياد من الصيام لخفة المشقة فيه على المتسحر. وقال الحافظ الأجر والثواب. ولابن ماجه عن ابن عباس: "استعينوا بطعام السحر على صيام النهار". فحكمته التقوي على الصيام. وسمي فلاحًا لأنه سبب لبقاء الصوم ومعينًا عليه ولابن حبان عن ابن عمر "ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء" ولأحمد عن أبي سعيد "السحور بركة فلا تدعه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء. فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" ولأبي داود "نعم سحور المؤمن التمر" والسحور بفتح السين اسم لما يؤكل في السحر. وبالضم اسم الفعل على الأشهر. والمراد هنا

الفعل. وكل ما حصل من أكل وشرب حصل به فضيلة السحور. (ولمسلم عن عمرو بن العاص مرفوعًا فصل ما بين صيامنا) أي الفارق بين صيامنا معشر المسلمين (و) بين صيام أهل الكتاب) اليهود والنصارى (أكلة السحر) أي السحور لأن الله أباحه لنا إلى الصبح وحرمه عليهم بعد أن يناموا. ومخالفتنا إياهم مأمور بها شرعا. فتأكدت بالتعيين. وتقع هنا موقع الشكر لتلك النعمة. وفيه "أن هذا الدين يسر لا عسر فيه". وقد تقدم {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} وفرحوا به بعد المنع. والأمر بالسحور والحث عليه مستفيض وأجمعوا على ندبيته ولا يجب إجماعا حكاه ابن المنذر وغيره لما ثبت من الوصال. (ولهما عن سهل مرفوعًا لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) أي لا يزالون بخير في دينهم مدة فعلهم ذلك امتثالا للسنة. ولأبي داود "لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر. لأن اليهود والنصارى يؤخرون الإفطار إلى اشتباك النجوم" ونحوه في الصحيحين. فقوام الدين على مخالفة الأعداء. فدلت هذه الأحاديث أنه لا يزال أمر هذه الأمة

معظمًا. وهم بخير ما داموا محافظين على هذه السنة. مخالفين لأهل الكتاب وغيرهم من المشركين. وفيها إشارة إلى أن تغيير هذه السنة علم على فساد الأمر. فتأكد الفعل. ولأحمد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا "يقول الله تعالى أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا" ولأنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة. وكان - صلى الله عليه وسلم - يعجل الإفطار صححه الترمذي. (زاد أحمد عن أبي ذر وأخروا السحور) ولفظه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر" قال ابن عبد البر وغيره أحاديث تعجيل الفطور وتأخير السحور صحيحة متواترة. وأجمع العلماء علىن تجعيل الفطور وتأخير السحور سنة متبعة. حكاه الوزير وغيره. وجزم به الشيخ وغيره. وقوله (أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) يقتضي الإفطار عند غروب الشمس. حكمًا شرعيًا لما في الصحيحين وغيرهما "إذا اقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" أي دخل في وقت الفطر وجاز له أن يفطر. وأجمعوا على أن الصوم ينقضي ويتم بتمام الغروب. وأن السنة أن يفطر إذا تحقق غروب الشمس. وله الفطر بغلبة الظن.

اتفاقا. إقامة له مقام اليقين. ولأن ما عليه إمارة يدخله التحري كالوقت. قال الشيخ ومع الغيم المطبق لا يمكن اليقين الذي لا يقبل الشك لا بعد أن يذهب وقت طويل من الليل يفوت المغرب ويفوت تعجيل الفطور. والمصلي مأمور بصلاة المغرب وتعجيلها. وثبت في صحيح البخاري عن أسماء أفطرنا يوما من رمضان في غيم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم طلعت الشمس. فدل على أنه لا يستحب التأخير مع الغيم إلى أن يتيقن الغروب. فإنهم لم يفعلوا ذلك. ولم يأمرهم به. والصحابة مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم أعلم وأطوع لله. وكره الفطر مع الشك في غروب الشمس. لا في طلوع الفجر. قال ابن عباس وغيره كل ما شككت حتى لا تشك. وقال الصديق يا غلام أجف الباب لا يفاجأنا الفجر. ولا يعرف لهما مخالف. بخلاف الجماع لما في الشك من التعرض لوجوب الكفارة. وليس مما يتقوى به. ولا يستحب اتفاقا. ولأبي داود "إذا سمع أحدكم النداء والإناء في يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه". والمراد والله أعلم ما لم يعلم طلوع الفجر. ولإمكان سرعة أكله وشربه لتقارب وقته واستدراك حاجته. واستشراف نفسه. وقوة نهمته. وتوجه شهوته بجميع همته. مما يكاد يخاف عليه أنه

لو منع منه لما امتنع. فأجازه الشارع رحمة عليه. قوله {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أي ينتشر ويظهر ويستطير معترضا. كما بينه الشارع. وهو من باب الرخصة. والأخذ بها محبوب إلى الله وندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما إذا علم انتشار الصبح فيحرم اتفاقًا. بل امتناع السحور بطلوع الفجر قول الأئمة وفقهاء الأمصار. (وعن أنس قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر على رطبات قبل أن يصلي) وللطبراني "إذا كان صائمًا لم يصل حتى يأتيه برطب وماء فيأكل ويشرب" ففيه أيضًا سنية تعجيل الفطور قبل صلاة المغرب. وهو أفضل اتفاقًا. وأنه على رطب قدمه على اليابس. فيقدم عليه إن وجد (فإن لم تكن) أي فإن لم توجد رطبات (فتمرات) أي فيفطر على تمرات. ولفظ الطبراني. وإذا لم يكن رطب لم يصل حتى يأتيه بتمر وماء. ولأن التمر حلو وكل حلو يقوي البصر الذي يضعف بالصوم. (فإن لم تكن) أي توجد رطبات ولا تمرات (حسا حسوات من ماء) أي يشرب شربات من ماء والحسوة الجرعة من ماء بقدر ما يحسى مرة واحدة وحسا الماء شربه شيئًا بعد شيء والحديث (رواه أبو داود) ورواه الترمذي وغيره وحسنه وللخمسة وصححه ابن خزيمة من حديث سليمان بن عامر "إذا أفطر أحدكم فيلفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور".

وروي من طرق عن جماعة من الصحابة تدل على أن الإفطار بما ذكر سنة. وفي صحيح مسلم "فاجدح لنا" وهو خلط السويق بالماء. فنزل فجدح له. فشرب. وفي معنى الرطب والتمر كله حلو لم تمسه النار لأنه يرد للبصر ما زاغ منه بالصوم. قال ابن القيم وهذا من كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته ونصحه لهم فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو. مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به. لا سيما القوى الباصرة. فإنها تقوى به. وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس. فإن رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده. هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القب لا يعلمها إلا أطباء القلوب. (وله عن معاذ بن زهرة) بضم الزاي ذكره يحيى بن يونس في الصحابة وقال ابن معين حديثه مرسل (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر) أي إذا كان عند الفطر (قال اللهم لك صمت) أي أمسكت عن الطعام والشراب والجماع وغيره (وعلى رزقك) الذي أطعمتنيه (أفطرت) أي أكلت وشربت. وإن شاء زاد "فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".

فصل في القضاء

وإن شاء قال "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت سبحانك وبحمدك اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم" وعن ابن عمر "اللهم إني أسألك رحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي ذنوبي" فإن للصائم دعوة عند فطره لا ترد. كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "للصائم عند فطره دعوة لا ترد" وعنه "ثلاثة لاترد دعوتهم. منهم الصائم" ويستحب تفطير الصائم. لحديث "من فطر صائمًا فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء" صححه الترمذي. قال الشيخ المراد أن يشبعه. فصل في القضاء أي في حكم قضاء رمضان وغيره. وما يتعلق بذلك. قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا} أي فمن شهد منكم الشهر في الحضر مقيمًا وكان مريضًا فعدة من أيام أخر {أو} من كان منكم {عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أباح تعالى الفطر لعذر المرض والسفر. وتقدم. وأعاد تعالى ذكر الرخصة للمريض والمسافر في الإفطار بشرط القضاء. ليعلم أن هذا الحكم ثابت في الناسخ ثبوته في المنسوخ. وقال جل وعلا {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} تيسيرا عليكم روحمة بكم. {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} أي عدة أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في مرضكم وسفركم. وذلك

إذا أمكن بعد البرء وبعد الإقامة وجب القضاء اتفاقًا على التراخي مفرقًا ومتابعًا. وإن مات قبل التمكن فلا شيء عليه باتفاق أهل العلم. وقال الشيخ لا يأثم بتأخير قضاء رمضان ولو مات لأنه وقت موسع. وإن فرط أطعم عنه كما سيأتي. (وعن عائشة قالت كان يكون) بتكرير الكون لتحقيق القصة وتعظيمها. وتكرار الفعل أي يكون مرارا (علي الصوم) أي قضاء (من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان) وللترمذي وغيره: ما قضيت شيئًا مما يكون علي من رمضان إلا في شعبان حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متفق عليه). ولفظ البخاري لشغل النبي - صلى الله عليه وسلم -.اي من كونها مهيئة نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. متربصة لاستمتعاه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك. وهذا من الأدب ولا ريب في إطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. لا سيما مع توفر دواعي أزواجه إلى سؤاله عن الأحكام الشرعية. وإنما كانت تصومه في شعبان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم معظم شعبان فلا حاجة له فيها حينئذ في النهار. ولأنه إذا جاء شعبان يضيق قضاء رمضان فلا يجوز تأخيره عنه. ويشهد لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه" ويخص منه رمضان والقضاء المضيق قال المجد

وغيره يجوز تأخير قضاء رمضان بلا عذر ما لم يدرك رمضان ثان. ولا نعلم فيه خلافًا وكذا ذكر غير واحد مذهب الأئمة وجماهير السلف والخلف أن القضاء يجب على التراخي. ولا يشترط المبادرة فيه في الإمكان. قال النووي الصحيح عند محققي الفقهاء وأهل الأصول فيه وفي كل واجب موسع أنه يجوز تأخيره بشرط العزم على فعله. وإذا لم يبق من شعبان إلا قدر ما عليه وجب فورا إجماعا. ويستحب قضاؤه مع سعة الوقت متتابعًا على الفور اتفاقًا مسارعة لبراءة الذمة. ولا بأس أن يفرقه اتفاقًا. وقاله البخاري عن ابن عباس. وعنه مرفوعا "قضاء رمضان إن شاء فرق وإن شاء تابع" رواه الدارقطني. وله عن محمد بن المنكدر قال بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن تقطيع قضاء رمضان فقال "ذلك إليك أرأيت لو كان على أحد دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضى؟ فالله أحق أن يعفو ويغفر". ولأنه لا يتعلق بزمان معين فلم يجب فيه التتابع كالنذر المطلق. ومن فاته رمضان قضاه عدد أيامه تامًا كان أو ناقصًا إجماعًا. وهل يجوز له التطوع قبل القضاء مع سعة الوقت؟ نقل عن أحمد وغيره لا يجوز. لخبر "من أدرك رمضان وعليه من رمضان شيء لم يقضه لم يتقبل منه حتى يصومه" وقال الموفق متروك. ولأن المبادرة إلى إبراء الذمة من أكبر العمل الصالح. وإن نواه في نحو عشر ذي الحجة أجزأ.

وعن أحمد يجوز التطوع قبله ويصح. وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة للعموم. كالتطوع بصلاة في وقت فرض متسع قبل فعله فالأوجه أن يجوز صوم العشر ونحوها تطوعًا وقضاء. والتطوع أفضل كالسنن الراتبة في أول وقت الصلاة وإن أخره بلا عذر إلى رمضان آخر حرم عليه، ووجب عليه إطعام مسكين لكل يوم عند الجمهور مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وروي عن أبي هريرة بسند ضعيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في رجل مرض في رمضان فأفطر ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر فقال: "يصوم الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم كل يوم مسكينا" ورواه الدارقطني موقوفًا. وعن ابن عباس فإذا قضى أطعم. عن ابن عمر نحو. قال يحيى بن أكثم وجدته عن ستة من الصحابة لا أعلم لهم مخالفًا. وقال أبو العباس إن ترك الأداء لغير عذر وجبت وإلا قضى فقط اتفاقًا. ويجزئ الإطعام قبل القضاء وبعده ومعه. وقال المجد الأفضل عندنا تقديمه مسارعة إلى الخير. وتخلصًا من آفات التأخير. وإذا تكرر رمضان لا يلزمه أكثر من فدية واحدة لأن كثرة التأخير لا يزاد بها الواجب كما لو أخر الحج لسنين لم يكن عليه أكثر من فعله. (ولهما عنها) رضي الله عنها (مرفوعًا) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من مات وعليه صوم) أي واجب بالنذر. وقيل أو قضاء عن فائت. مثل أن يكون مسافرًا وأمكنه القضاء ففرط

فيه حتى مات. أو يكون مريضا فيبرا ولا يقضي. (صام عنه وليه) أي ليصم عنه وليه. خبر بمعنى الأمر. وفي البزار بسند حسن "فليصم عنه وليه إن شاء". فدل الحديث على أنه يصوم الولي. وهو كل قريب عصبة كان أو نسبًا وارثًا أو غير وارث قال البيهقي. هذه السنة ثابتة لا أعلم خلافًا بين أهل الحديث في صحتها وإن صام غير ولي الميت جحاز مطلقا بإذن الولي والورثة وعدمه. لأن الصيام من الأجنبي تبرع فجاز منه كقضاء الدين لتشبيهه به كما يأتي ولا يجب على الولي اتفاقًا. وإنما يسن فعله عنه لتفرغ ذمته كقضاء دينه وقال الشيخ إن تبرع عمن لا يطيقه لكبر ونحوه أو عن ميت وهما معسران يتوجه جوازه لأنه اقرب إلى المماثلة من المال. ويأتي الجمع بين الآثار. (وعن ابن عباس أن امرأة) من جهينة (قالت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أمي ماتت وعليها صوم نذر) وهو إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر (أفأصوم عنها؟) اي ما نذرته وللبخاري صوم شهر وفي رواية خمسة عشر يوما ولعله تعدد في الواقعة (قال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه عنها) أي ذلك الدين (أكان ذلك يؤدي عنها؟ قالت نعم). وفيه مشروعية القياس وضرب الأمثال ليكون أوقع في نفس السامع. وأقرب إلى سرعة فهمه (قال فصوم عن أمك

متفق عليه) ولأبي داود وغيره أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله نجاها أن تصوم شهرًا. فأنجاها الله فلم تصم حتى ماتت فجاءت قرابة لها. فقال "صومي عنها" وعن بريدة أن امرأة قالت يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفاصوم عنها. قال "صومي عنها" قالت إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال "حجي عنها" رواه مسلم. وعن ابن عباس أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال "نعم حجي عنها" رواه البخاري وغيره من غير وجه. ولأبي داود عن سعد بن عبادة قال إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه قال "أقضه عنها" ومعناه في الصحيحين وغيرهما من غير وجه ويروى عن ابن عباس وابن عمر وعائشة وغيرهما ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة. ولأن النيابة تدخل في العبادة حسب خفتها. وهو أخف حكما من الواجب بأصل الشرع أوجبه الناذر على نفسه. (وقال ابن عباس) رضي الله عنهما (يطعم عن الفرض) أي إذا مرض الرجل في رمضان أو سافر وأمكنه القضاء ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء. وللترمذي عن ابن عمر مرفوعًا "من مات وعليه صيام شهر رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين" وقال الصحيح إنه موقوف. وعن أبي هريرة وعائشة نحوه. وللنسائي ومالك وغيرهما لا يصوم أحد عن أحد. وهو قول أكثر أهل العلم مالك وأبي حنيفة

والشافعي وأحمد وغيرهم. قال مالك لم أسمع عن أحد من الصحابة ولا من التابعين أمر بصوم عن أحد ولا صلاة عن أحد. وأجمع أهل العلم على أن الصلاة المفروضة من الفروض التي لا تصح فيها النيابة بنفس ولا مال. والصوم الواجب بأصل الشرع له بدل شرعي وهو الإطعام. وفي أجزاء الصوم خلاف قوي والإطعام لا خلاف فيه فالإطعام أولى واتفقوا على أنه إذا أفطر في المرض والسفر ثم لم يفطر في القضاء حتى مات فلا شيء عليه ولا يجب الإطعام عنه ولو مضى عليه أحوال لأنه حق لله وجب بالشرع ومات من وجب عليه قبل إمكان فعله، فسقط إلى غير بدل كالحج. قال رضي الله عنه (ويقضى عنه النذر) وفي رواية عنه أما رمضان فيطعم عنه. وأما النذر فيصام قال ابن القيم وهذا أعدل الأقوال وعليه يدل كلام الصحابة وبهذا يزول الإشكال. وقال الشيخ: ابن عباس الذي روى الأحاديث أمر أن يقضى عن الميت الصوم المنذور. وأما رمضان فيطعم عنه كل يوم مسكين. وبذلك أخذ أحمد وإسحاق وغيرهما وهذا مقتضى النظر كما هو موجب الأثر. فإن النذر كان ثابتا في الذمة كالدين فيفعل عنه بعد الموت. وأما صوم رمضان فإن الله لم يوجبه على عاجز عن الصوم بل أمر العاجز بالفدية طعام مسكين.

والقضاء إنما يجب على من قدر عليه لا على من عجز عنه، فلا يحتاج أن يقضي أحد عن أحد. وأما الصوم وغيره من المنذورات فيفعل عنه بلا خلاف للأحاديث الصحيحة، والواجب بالشرع ايسر من الواجب بالنذر. وقال ابن القيم: يصام عن النذر دون الفرض الأصلي، وهذا القول مذهب أحمد وغيره، والمنصوص عن ابن عباس وعائشة، ولا تعارض بين روايتهما ورأيهما. وبهذا يظهر اتفاق الروايات وموافقة فتاوى الصحابة لها، وهو مقتضى الدليل والقياس لأن النذر ليس واجبًا بأصل الشرع وإنما أوجبه العبد علىنفسه فصار بمنزلة الدين، ولهذا شبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - به، والدين تدخله النيابة، وأما الصوم الذي فرضه الله عليه ابتداء، فهو أحد أركان الإسلام فلا تدخله النيابة بحال. كما لا تدخل الصلاة والشهادتين. فإن المقصود منها طاعة العبد بنفسه وقيامه بحقوق العبودية والتي خلق لها وأمر بها، وهذا لا يؤديه عنه غيره، ولا يصلي عنه غيره. وهكذا من ترك الحج عمدًا مع القدرة عليه حتى مات، أو ترك الزكاة فلم يخرجها حتى مات، فإن مقتضى الدليل وقواعد الشرع إن فعلها عنه بعد الموت لا يبرئ ذمته، ولا يقبل منه، والحق أحق أن يتبع اهـ. فيقضي عنه وليه كما تقدم، فإن لم يفعل الولي ولا غيره فعلى الولي أن يدفع في الصوم عن كل يوم طعام مسكين، لأنه فدية الصوم، وكمتعة حج.

باب صوم التطوع

ولا كفارة مع الصوم عنه أو الإطعام، ولا يلزم القضاء إلا في حق شخص أمكنه صوم ما نذره. بأن مضى ما يتسع لفعله قبل موته فلم يصمه، فيفعل عنه لثبوته في ذمته كقضاء دينه من تركته، وإن لم يمكنه إلا بعضه لم يقض إلا ذلك البعض، كمن نذر صوم شهر ومات قبل ثلاثين يومًا، فيصام عنه ما مضى دون الباقي، لأنه لم يثبت في ذمته. وإن كان مريضا. لأن المرض لا يمنع ثبوت الصوم في ذمته. وكذا لو مات وعليه حج منذور فعل عنه. ولو لم يمكنه فعله في حياته لجواز النيابة فيه حال الحياة، فبعد الموت أولى، ومن مات قبل دخول شهر نذر صومه لم يصم، ولم يقض عنه، قال المجد هذا مذهب سائر الأئمة ولا أعلم فيه خلافًا. باب صوم التطوع أي باب بيان فضل صوم التطوع وعظيم أجره. وقد ورد في فضله آيات وأحاديث كثيرة. وتقدم "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" وقال أحمد: الصيام أفضل ما تطوع به. لأنه لا يدخله رياء. قال تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي زاد على الواجب. وتطوع بالشيء تبرع به {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} وأعظم أجرًا، والخير اسم جامع لكل ما ينتفع به.

(وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل عمل ابن آدم له الحسنة) منه (بعشر أمثالها) أي كل أعمال ابن آدم تضاعف الحسنة بعشر أمثالها، قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (إلى سبعمائة ضعف) أي أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس. وإنما تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله (قال الله تعالى إلا الصوم) أي فإنه أحب العبادات إلي. ولا ينحصر تضعيفه بل يضاعفه الله أضعافًا كثيرة. ويثيب عليه بغير تقدير. وهو جنة يستجن به من النار ومن الصبر والصبر ثوابه الجنة. قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} واتفقوا على أن المراد بالصوم هنا المصون من المعاصي قولاً وفعلاً (فإنه لي) خصه تعالى بإضافته إليه دون سائر الأعمال تنويهًا بالتشريف والتعظيم والتفخيم. ثم قال (وأنا أجزي به) أي أجازي عليه جزاء جزيلاً بلا عدد ولا حساب. لأنه لم يشاركني فيه أحد. ولم يعبد به غيري. فأنا أتولى الجزاء عليه بنفسي. على قدر اختصاصه بي. ولأنه سر بين الله وبين عبده لا يطلع عليه سواه. فلا يكون العبد صائمًا حقيقة إلا وهو مخلص في الطاعة. وفيه بيان عظم فضل الصوم والحث عليه وعظم فضله. وكثرة ثوابه. لأن الكريم إذا أخبر أنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عظم ذلك الجزاء وسعة العطاء. وله من الفضائل والمثوبة ما لا

يحصيه إلا الله. قال تعالى: (يدع طعامه وشرابه) وشهوة الجماع (من أجلي متفق عليه) ولم يصرح بنسبته إلى الله تعالى للعلم بذلك. فيتقرب إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من الطعام والشراب والنكاح من أجل الله في صورة من لا حاجة له في الدنيا إلا رضى الله عز وجل. وهي أعظم شهوات النفس. فتنكسر سورتها الحاملة لها على الأشر والبطر والغفلة. ويتخلى القلب للذكر والفكر. ويعرف قدر نعمة الله عليه بأقداره على ما منعه كثيرًا من الفقراء. وفيه "والذي نفسي بيده: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه". وفي فضل الصوم أحاديث كثيرة: منها عن علي مرفوعًا من منعه الصيام من الطعام والشراب أطعمه الله من ثمار الجنة وسقاه من شرابها" وفي الصحيحين "في الجنة باب يدعى الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فيقال لهم يوم القيامة {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}. (وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له صم من كل شهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها) أي تضاعف بعشر أمثالها وكان رضي الله عنه قال إني أقوى أكثر من ذلك فأرشده - صلى الله عليه وسلم - إلى الأرفق به شفقة عليه. وإرشادًا له إلى

مصلحته. وحثًا له على ما يطيق الدوام عليه. ونهيًا له عن الإكثار من العبادة التي يخاف عليه الملل بسببها. أو ترك بعضها. كما قال "عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا" "وأحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه". ثم قال (وذلك) اي صيام ثلاثة أيام من كل شهر (مثل صيام الدهر متفق عليه) وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها فيعدل صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الشهر كله. فيكون كمن صام الدهر من غير حصول المشقة في صومه. وللترمذي من حديث أبي ذر "من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر) فأنزل الله (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) اليوم بعشر. وقال الشيخ مراده أن من فعل هذا حصل له أجر صيام الدهر بتضعيف الأجر. ولمسلم "يصوم من كل شهر ثلاثة الأيام" وللبخاري من حديث أبي هريرة "أوصاني خليلي بثلاث، صيام ثلاثة أيام من كل شهر" الحديث ولأبي داود: "من كل شهر أول اثنين وخميسين" ولمسلم "ما يبالي من أي الشهر صام" فيحصل أصل السنة بصوم ثلاثة من أي أيام الشهر. واتفق أهل العلم على سنية صيام ثلاثة من كل شهر. (وللخمسة من حديث أبي قتادة وغيره) فرواه أصحاب

السنن عن قتادة بن ملحان القيسي البصري له صحبة رضي الله عنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نصوم (البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) وقال "هي كهيئة الدهر" وعن أبي ذر "أمرنا أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" رواه الترمذي وصححه ابن حبان وغيره. ورواه أحمد وغيره من حديث أبي هريرة "فإن كنت صائمًا فصم الغر" أي البيض. والنسائي من حديث جرير "صيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر ثلاثة الأيام البيض" وورد من طرق عديدة. ولا معارضة بينها وبين ما تقدم. فإنها كلها دالة على ندبية صوم ثلاثة أيام من كل شهر والبيض منها أشهر. وما أمر به - صلى الله عليه وسلم - وحث عليه ووصى به أولى وأفضل. والبيض على حذف مضاف أي أيام ليالي البيض. وهي الليالي التي لياليهن مقمرة خصت لتعميم لياليها بالنور المناسب للعبادة والشكر على ذلك. وقيل من داوم على صيامها لم يعتل. لأن الفضلات تهيج في البدن في كل شهر وهذه الليالي أشد لقوة القمر. والصوم يذهب فضلات البدن. فمن صامها سلم. واتفق العلماء على أنه يستحب أن تكون الثلاثة المذكورة وسط الشهر. كما حكاه النووي وغيره. وقال الروياني وغيره صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب. فإن اتفقت أيام البيض كان أحب.

و (فيها) أي في مسند أحمد والسنن (عن عائشة) وأسامة ابن زيد وغيرهما (كان) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يتحرى صيام الاثنين والخميس) أي يقصد ويجتهد في الطلب والعزم على تخصيص صيام يوم الاثنين والخميس، صححه الترمذي. وللخمسة وغيرهم من حديث أبي هريرة وأسامة (وقال هما يومان تعرض الأعمال فيهما) أي في يوم الإثنين والخميس على رب العالمين. وورد أنه تعرض أعمال العباد كل يوم. ففيه أنه أيضا تعرض الأعمال في يوم الاثين والخميس. ثم أعمال السنة في شعبان. ولكل عرض حكمة (فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) ونحوه في صحيح مسلم. ولفظ أبي داود كان يصومهما. فسئل عن ذلك فقال "إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين والخميس" ولمسلم قال له رجل أرايت الاثنين قال "فيه ولدت وفيه أنزل علي القرآن"فيسن صومهما اتفاقا لفعله - صلى الله عليه وسلم - وحثه عليه وسمي الاثنين لأنه ثاني الأسبوع. والخميس لأنه خامسه. (وعن أبي أيوب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من صام رمضان ثم أتبعه) أي أتبع رمضان بالصوم (ستًا من شوال) ستا أصله سدس. ولو ميز بالهاء لكان صحيحًا. لأن العدد المميز إذاكان غير مذكور لفظا جاز تذكير مميزه وتأنيثه بالهاء أي ستة أيام من شهر شوال من شالت الإبل بأذنابها

للطراق (كان كصيام الدهر رواه مسلم) ورواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الصحابة. ولفظ ثوبان "من صام رمضان فشهره بعشرة ومن صام ستة أيام بعد الفطر فذلك صيامه السنة" رواه أحمد وغيره وهو حديث مستفيض. وذكروا أنه متواتر. عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد بالتشبيه في حصول العبادة به على وجه لا مشقة فيه. وإنما كره صوم الدهر لما فيه من الضعف والتشبه بالتبتل. ولولا ذلك لكان فيه فضل عظيم. لاستغراق الزمان بالطاعة والعبادة. فدل الحديث على سنية صوم ست من شوال. وحكى الموفق وغيره اتفاق أهل العلم على أن صومها سنة. وقال النووي وغيره كره مالك ذلك وعلله بأنه ربما ظن وجوبها وهو باطل في مقابلة السنة الصحيحة. ولا تترك السنة لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها قال ويلزمه ذلك في سائر أنواع الصوم وغيره المرغب فيه. ولا قائل به. وقال ابن عبد البر: لم يبلغ مالك هذا الحديث. واتباع الست يحتمل أن يكون بلا فاصل إلا بما لا يصلح للصوم ويحتمل إطلاقه مع الفاصل. ويستحب تتابعها. وكونها عقب العيد. لما فيه من المسارعة إلى الخير. ويحصل فضلها متتابعة ومتفرقة وفي أول الشهر وفي آخره. واختاره الشيخ وغيره. لظاهر الخبر. وذكره قول الجمهور. وذكر بعضهم أنها تحصل

الفضيلة بصومها في غير شوال. كما في خبر ثوبان وغيره. وصام ستة أيام بعد الفطر. ولعل تقييده بشوال لسهولة الصوم فيه لاعتياده. (وله) أي ولمسلم وأهل السنن وغيرهم (عن أبي هريرة مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل أي الصيام بعد رمضان أفضل فقال (أفضل الصيام بعد رمضان) أي بعد صيام رمضان لأن الواجب أفضل من المسنون وأعظم أجرًا. كما أن أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل. فحيث علم فضل صيام رمضان، فأفضل الصيام بعد صيامه (شهر الله المحرم) إضافة إلى الله تعالى تشريفًا وتفخيمًا وتعظيمًا. كقولهم بيت الله. قال بعض أهل العلم وهو أفضل الأشهر يعني بعد رمضان. والمعنى أفضل شهر تطوع به كاملا بعد شهر رمضان في الفضيلة شهر الله المحرم. لأن بعض التطوع قد يكون أفضل من أيامه كعرفة وعشر ذي الحجة. فالتطوع المطلق بشهر كامل سوى رمضان أفضله المحرم. وهذا الخبر الصحيح صريح في فضل صومه. ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يكثر فيه الصوم. إما لعذر أو لم يوح إليه بفضله إلا في آخر حياته. ويدل على فضله أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل أي شهر تأمرني أن أصومه بعد شهر رمضان فقال "إن كنت صائمًا بعد شهر رمضان فصم المحرم. فإنه شهر الله فيه يوم تاب الله فيه على

قوم. ويتوب فيه على قوم" حسنه الترمذي. وسمي محرمًا لكونه شهرًا محرمًا تصريحًا بفضله وتأكيدًا لتحريمه. لأن العرب كانت تتقلب فيه فتحله عامًا وتحرمه عامًا. وهو أول شهور العالم. (وله عن ابن عباس) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (صام العاشر) أي من شهر المحرم وعليه جماهير العلماء ويسمى عاشوراء. ولفظه صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء (وأمر بصيامه) ولهما عنه سئل عن صوم عاشوراء فقال ما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم. وعن عائشة كان يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان قال "من شاء صامه ومن شاء تركه". ومن حديث معاوية قال: "إن هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء صام ومن شاء أفطر" وأكثرها يدل على أن صومه وجب ثم نسخ. وقاله الإمام أحمد وغيره. وهو مذهب أبي حنيفة واختاره الشيخ وغيره. وبقي استحباب صومه إجماعًا. وأخباره مستفيضة أو متواترة (فقيل له إنه يوم تعظمه اليهود) والنصارى. ولهما عن أبي موسى كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود وتتخذه عيدًا فقال "صوموه أنتم". ومن حديث ابن عباس قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال "ما هذا" قالو هذا يوم صالح نجى الله

فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى. فقال "أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه" وعزم على مخالفتهم (فقال لئن بقيت إلى قابل) أي العام المقبل (لأصمن التاسع) وفي رواية "إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع" قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". واستحب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء الجمع بينهما. لأنه - صلى الله عليه وسلم - صام العاشر وأمر بصيامه. وأجمعوا على سنيته. ونوى صيام التاسع. وفي الحديث إشارة إليه (ولأحمد) "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع (والعاشر) رواه هو والخلال بسند جيد. وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "صوموا يوم عاشوراء. وخالفوا فيه اليهود. صوموا قبله يوما أو بعده يوما" وفي رواية "صوموا قبله يوما وبعده يوما" وسنده ضعيف وروي نحوه. وسكت عنه في التلخيص. وهو صريح في مشروعية ضم اليومين إلى يوم عاشوراء. وقال أحمد إن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام ليتيقن صومها. وكره ابن عباس أفراد العاشر. وروي عنه صوموا التاسع والعاشر. وخالفوا اليهود. وهو مقتضى كلام أحمد وغيره. للأمر بمخالفة اليهود. وقال الشيخ لا يكره إفراده بالصوم مع مبالغته في مخالفة المشركين. وتصريحه في الأمر بمخالفتهم.

وما روي فيه من التوسعة على العيال فقال أحمد لا أصل له. وقال الشيخ موضوع مكذوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ما يفعل من الكحل والاغتسال والحنا والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور وغير ذلك لم يرو في ذلك حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه. ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين. لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم. وقال وقوم يستحبون الاكتحال والاغتسال والتوسعة على العيال واتخاذ أطعمة غير معتادة. وهو بدعة أصلها من المتعصبين بالباطل على الحسين رضي الله عنه. وكل بدعة ضلالة. بل المستحب يوم عاشوراء الصيام عند جمهور أهل العلم. (وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما من أيام العمل) الصالح (فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر) وفي لفظ "ما العمل الصالح في أيام أفضل منه في هذه العشر" فدل الحديث أن العمل في أيام العشر أفضل من العمل في غيرها. ومن العمل في صيامها. وفي رواية القاسم بن أبي أيوب "ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى". وعند أبي عوانة وابن حبان من حديث جابر "ما من أيام أفضل عندالله من عشر ذي الحجة" وعند أحمد من حديث ابن عمر "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيها من

هذه الأيام العشر. فأكثروا فيها من التهليل والتكبير والتحميد" وتقدم {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} أيام العشر وقال {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} إنها المعنية. وسميت بذلك للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها. وآخرها يوم النحر. (قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله) فيه فضل الجهاد. وتقرر فضله عندهم. وأنه لا يعدله عمل (قال ولا الجهاد في سبيل الله) أي لا يكون الجهاد في سبيل الله أحب إلى الله من العمل في هذه الأيام العشر. واتفق أهل العلم على فضلها (إلا رجل) اي إلا عمل رجل وفي لفظ إلا من (خرج) أي في سبيل الله (بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء رواه البخاري) وأهل السنن وغيرهم. أي فيكون من لم يرجع بشيء من ذلك أفضل من العامل في أيام العشر أو مساويًا له. وشيء نكرة في سياق النفي فتعم ما ذكر. وعند ابن عوانة "إلا من عقر جواده وأهريق دمه" وفي رواية له "إلا من لم يرجع بنفسه وماله" فدل الحديث على فضيلة أيام العشر على غيرها من السنة. وتخصيصها بهذه المزية اجتماع أمهات العبادة فيها الحج والصدقة والصيام والصلاة ولا يتأتى ذلك في غيرها. والعمل في أيامها لا ينحصر. فمنه قوله "فأكثروا فيها من

التهليل والتكبير والتحميد" فكذا الصيام. وفي حديث ابن عباس "وأن صيام يوم منها يعدل صايم سنة والعمل بسبعمائة ضعف" وللترمذي من حديث أبي هريرة "يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة فيها بقيام ليلة القدر" وفيها ضعف. ولأحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم عن حفصة وغيرها كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة. وصومه مندرج في فضيلة العمل فيها. فإن العمل يضاعف في المكان والزمان الفاضل. وما رواه مسلم عن عائشة ما رأيته صائمًا في العشر قط. فقال أهل العلم المراد أنه لم يصمها لعارض وعدم رؤيتها له صائمًا لا يستلزم العدم. على أنه قد ثبت من قوله ما يدل على مشروعية صومها. وكذا من فعله أنه لم يكن يدع صيامها. وكان يصوم يوم عرفة. وقال "يكفر سنتين" وروى أبو الشيخ وابن النجار وغيرهما من حديث ابن عباس "صوم يوم التروية كفارة سنة" فترادفت الأخبار من قوله وفعله على استحباب صيام تسع ذي الحجة وهو قول جمهور أهل العلم وأفضلها التاسع ثم الثامن. (ولمسلم عن أبي قتادة مرفوعًا صيام يوم عرفة) تاسع ذي الحجة (يكفر السنة الماضية والآتية) وفي لفظ "يكفر سنتين ماضية ومستقبلة" وفي لفظ "احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" أي قبل وقوع المكفر. أو يلطف به

بسبب صيامه. فلا يأتي بذنب. أو يوفقه فيها لما يكفره. وصومه أوكد أيام العشر إجماعا. وسمي بيوم عرفة للوقوف فيه بعرفة. وقيل هو يوم الحج الأكبر. وجعل على الضعف من عاشوراء. فقيل لأن يوم عرفة محمدي وعاشوراء موسوي وأعمالنا على الضعف. ولو رأى أهل بلد هلال ذي الحجة ولم يثبت عند الحاكم فقال الشيخ لهم أن يصوموا اليوم الذي هو التاسع ظاهرا وأن كان في الباطن العاشر. لحديث "صومكم يوم تصومون" وتقدم. وقال: صوم اليوم الذي يشك فيه هل هو التاسع أو العاشر جائز بلا نزاع. لأن الأصل عدم العاشر كليلة الثلاثين من رمضان. وظهر الحديث يستحب صومه مطلقًا. وفعله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه يدل على أنه لا يستحب للحاج أن يصوم يوم عرفة بعرفة. وهو مذهب مالك والشافعي وجمهور أهل العلم. وكرهه بعضهم. لما روى أبو داود من حديث أبي هريرة "نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة" ولفطره بها - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الناس. متفق عليه. قال ابن عمر لم يصمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان. وليتقوى على العبادة والدعاء في ذلك اليوم. وللقيام بأعمال الحجز وقال الشيخ: لأنه يوم عيد. ويشهد له ما روى عقبة بن عامر مرفوعا "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق

عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب وذكر لله" صححه الترمذي (ويوم عاشوراء يكفر السنة الماضية) وأجمع أهل العلم على أن صومه سنة واستحبوا يوما قبله أو يوما بعده. أو يومًا قبله ويومًا بعده على ما تقدم. وإن قيل إذا كفرت الصلاة فماذا تكفر الجمعات ورمضان وعرفة وعاشوراء وغير ذلك؟ قيل كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره. وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتب به حسنات ورفعت به درجات وإن صادق كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر. ويأتي قول الشيخ إن إطلاق التكفير بالعمرة متناول الكبائر فكذا هذا الخبر ونحوه. (وعن عائشة) رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كان يصوم) في سائر أيام السنة (حتى نقول لا يفطر) أي ينتهي صومه إلى غاية نقول لا يفطر. بل كان - صلى الله عليه وسلم - يسرد الصيام أحيانًا. فيستحب أن لا يخلي المرء شهرًا من صيام. وفيه أن صوم النفل غير مختص بزمان معين. بل كل السنة صالحة له إلا رمضان لوجوبه والعيدين والتشريق للنهي عنها. (ويفطر حتى نقول لا يصوم) أي ينتهي فطره إلى غاية نقول لا يصوم أي يسرد الفطر أحيانا. ولعله - صلى الله عليه وسلم - يسرد الفطر أحيانًا لأشغاله. فيفعل ما يقتضيه الحال من تجرده عن

الأشغال. فيتابع الصوم. وعكس ذلك فيتابع الإفطار (وما رأيته استكمل شهرًا قط إلا رمضان" لئلا يظن وجوبه (وما رأيته في شهر) أي غير رمضان (أكثر منه صيامًا) يعني تطوعًا (في شعبان متفق عليه) لرفع أعمال العباد فيه. ففي النسائي عن أسامة قلت لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان. قال "ذاك: شهر يغفل الناس عنه وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" وعن أنس سئل أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال "شعبان لتعظيم رمضان" رواه الترمذي وقال غريب. وكان أحب الشهور إليه. فهو أفضل لمحافظته عليه أو أكثره. وكونه كالمقدمة لرمضان ويكون المحرم كما تقدم أفضل مما قبل رمضان أو بعده تشبيها لهما بالسنن الرواتب مع قيام الليل فهو أفضل التطوع بعد المكتوبة أي ورواتبها والوتر فشعبان والست ليس من المطلق بل هو أفضل لتبعية رمضان والمطلق أفضله المحرم. وكان يصوم شعبان إلا قليلاً. وقالت ما علمته صام شهرًا كله إلا رمضان. ولا أفطره كله حتى لا يصوم منه حتى مضى لسبيله متفق عليه وفي رواية بل كان يصوم شعبان كله. والمراد بكله غالبه لما تقدم. ولأنه جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول صام الشهر كله. وله نظائر. ولمسلم

ولا صام شهرًا كاملاً قط منذ قدم المدينة غير رمضان. ويحمل لفظه كله على حذف أداة الاستثناء. يعني قوله إلا قليلاً. ولا يكره إفراد شهر بالصوم غير شهر رجب. قال في المبدع اتفاقًا. وقال المجد لا نعلم فيه خلافًا للأخبار. قال الشيخ وكل حديث يروى في فضل صوم أو صلاة فيه فكذب باتفاق أهل العلم بالحديث. وقال من صامه يعتقد أنه أفضل من غيره من الأشهر إثم وعذر. وحمل عليه قول عمر رواه ابن أبي شيبة وغيره أنه كان يضرب أكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان. ويقول كلوا فإنما هو شهر تعظمه الجاهلية. وله من حديث زيد بن أسلم سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم رجب فقال "أين أنتم عن شعبان؟ " ولابن ماجه عن ابن عباس بسند ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن صيام رجب". وقال الشيخ وكراهية إفراد رجب والجمعة سدًا لذريعة اتخاذ شرع لم يأذن به الله من تخصيص زمان أو مكان لم يخصه الله به. كما وقع من أهل الكتاب. وقال يكفر من فضل رجب على رمضان. وقال من نذر صومه كل سنة أفطر بعضه وقضاه. (ولهما عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه (قال صم يومًا وأفطر يومًا) "فذلك صيام داود وهو أفضل الصيام" أي فالزيادة عليه مفضولة. فقال إني أطيق أفضل من ذلك فقال: "لا أفضل من ذلك" ونهى عليه الصلاة والسلام من

يسرد الصوم. وقال "لا صم فوق صوم داود". وتقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - أرشده إلى الأرفق به حثا له على ما يطيق الدوام عليه. وقال ابن مسعود لما قيل له إنك تقل الصيام. قال إني أخاف أن تضعف نفسي عن القراءة والقرآن أحب إلي من الصيام. وقال - صلى الله عليه وسلم - "إن لنفسك عليك حقا" الحديث ويشترط أن لا يضعف البدن حتى يعجز عما هو أفضل من الصيام كالقيام بحقوق الله تعالى وحقق عباده اللازمة. وإلا فتركه أفضل اختاره الشيخ وغيره. فإن من حق النفس اللطف بها حتى توصل صاحبها إلى المنزل. ويحرم صيام الدهر إن أدخل فيه العيدين وأيام التشريق. فإن أفطرها جاز نص عليه أحمد ومالك والشافعي وذكر مالك أنه سمع أهل العلم يقولونه. لقول حمزة بن عمرو يا رسول الله إني أسرد الصوم أفأصوم في السفر: قال "إن شئت فصم وإن شئت فافطر" متفق عليه. ولأن أبا طلحة وغيره من الصحابة وغيرهم فعلوه. ولأن الصوم أمر مطلوب للشاعر إلا ما استثناه. وأجابوا عن حديث عبد الله بن عمرو أنه خشية عليه، حتى تمنى أنه قبل الرخصة. قالوا ولا يبعد لو أن شخصًا لا يفوته من الأعمال الصالحة شيء بالصيام أصلاً. ولا يصوم يومي العيدين وأيام التشريق. ولا يفوته حق من

الحقوق التي خوطب بها أن يجوز في حقه وظاهر مجموع النصوص أنه يختلف باختلاف الأحوال. ومنه آخرون وأجابوا بأن سرد الصوم لا يستلزم صوم الدهر. بل المراد كثرة الصيام. وتقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - يسرد الصوم. مع ما ثبت أنه لم يصم شهرًا كاملاً إلا رمضان. وقال "أما أنا فأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني". (وقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو (لا صام من صام الأبد) أي لا صام من صام الدهر دعاء عليه. وإن كان معناه الخبر. أخبر عنه أنه لم يصم. وإذا لم يصم شرعا فكيف يكتب له ثواب فلمسلم من حديث أبي قتادة "لا صام ولا أفطر" وللترمذي "لم يصم ولم يفطر" أي لم يحصل له أجر الصوم لمخالفته. ولم يفطر لأنه أمسك. فثبت كراهته من وجوه. وقد حكم - صلى الله عليه وسلم - بأن صوم يوم وإفطار يوم أفضل الصيام. ولاقتضاء العادة بالمشقة والتقصير في حقوق أخرى حث الشارع عليها فيجب مراعاتها. قال الشيخ والصواب أن الأولى ترك صيام الدهر أو كراهته. وقال ابن القيم وكيف يكون أفضل الصيام مع قوله "لا صام من صام الأبد" وقوله "أفضل الصيام صيام داود" وهذا نص صحيح صريح رافع للإشكال. يبين أن صوم يوم وفطر يوم أفضل من سرد الصوم مع أنه أكثر عملا. وهذا يدل على انه مكروه. لأنه إذا كان الفطرأفضل منه لم يمكن أن يقال بإباحته واستواء طرفيه.

(ولمسلم عن عائشة) رضي الله عنها قالت (أهدي لنا حيس) بفتح فسكون طعام يتخذ من التمر والأقط والسمن. وقد يجعل عوض الأقط: الدقيق والفتيت (فقال أرينيه فلقد أصبحت صائما فأكل) وفي لفظ قال طلحة فحدثت مجاهدًا بهذا الحديث فقال تلك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها. ورواه النسائي عن عائشة مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي لفظ له قال. "يا عائشة إنما منزلة من صام في غير رمضان أو في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة من ماله فجاد منها بما شاء فأمضاه". قال الموفق وغيره لو نوى الصدقة بمال مقدر وشرع في الصدقة فأخرج بعضه لم يلزمه الصدقة بباقيه إجماعًا. وكذا القراءة ولاأذكار بلا نزاع وعن أم هانئ قالت دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا صائمة فأتى بإناء من لبن فشرب ثم ناولني فشربت فقلت إني كنت صائمة ولكني كرهت أن أرد سؤرك فقال "إن كان من قضاء رمضان فاقضي يومًا مكانه" ون كان من غيره فإن شئت فاقضي وإنشئت فلا تقضي رواه أحمد وغيره. (وقال) النبي - صلى الله عليه وسلم - (لأم هانئ) بنت أبي طالب بن عبد المطلب ابنة عم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعاشت بعد علي رضي الله عنهما. وذلك أنه دخل عليها فدعا بشراب ثم ناولها فشربت قالت إني كنت صائمة فقال (الصائم المتطوع أمير نفسه) أو أمين نفسه (إن شاء صام) ومضى في صيامه (وإن شاء أفطر رواه

الترمذي) وقال فيه مقال. ورواه أبو داود وابن ماجه وصححه أحمد. قال الترمذي والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الصائم المتطوع إذا أفطر فلا قضاء عليه إلا أن يجب أن يقضيه وهو قول سفيان وأحمد وإسحاق والشافعي. ودلت هذه الأحاديث على جواز الفطر للمتطوع. وعدم وجوب القضاء، وهو مذهب جمهور أهل العلم. لجواز فطره. ولأن القضاء يتبع المقضي عنه. فإذا لم يكن واجبا لم يكن القضاء واجبا. وقال مالك وأبو حنيفة لا يجوز له الفطر. وإن أفطر لزمه القضاء. واستدلوا بما رواه الدارقطني والبيهقي من حديث عائشة. وأقضي يوما مكانه وعمومات أخر. وقال أحمد خبر عائشة لا يثبت. ولا يقضي من أفطر لعذر لا صنع له فيه إجماعًا. وأما الفرض فيجب القطع لرد معصوم عن هلكة. وإنقاذ غريق ونحوهما. ويحرم خروجه منه بلا عذر. قال المجد وغيره لا نعلم فيه خلافا. وكذا من دخل في واجب موسع كقضاء رمضان ومكتوبة أول وقتها وغير ذلك كنذر مطلق وكفارة يجوز تأخيرها بلا عذر اتفاقا. فيستحب إتمام النفل لغير عذر خروجا من خلاف من أوجبه. ولعموم (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) وإن قضاه فحسن. فإن الخروج من الخلاف مستحب بلا خلاف، ولأن به تكمل العبادة وذلك مطلوب شرعا.

فصل فيما نهي عن صومه

فصل فيما نهي عن صومه أي في بيان ما يكره صومه ويحرم صومه. وما يتعلق بذلك. (عن أبي هريرة أن سول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تقدموا رمضان). أي لا تستقبلوا رمضان. وفي السنن "ولا تستقبلوا الشهر استقبالا" (بصوم يوم أو يومين) أي نقلا مطلقا لم تجر به عادة. لأن الحكم علق بالرؤية. فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم. (إلا أن يكون رجل يصوم صوما) أي معتادا كالاثنين والخميس. أو كان عليه قضاء أو نذر أو كفارة (فليصمه) قال الترمذي العمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان. واقتصر - صلى الله عليه وسلم - على يوم أو يومين لأنه الغالب فيمن يقصد الاحتياط لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه كما نهى أن توصل صلاة بصلاة. فأما إن وافق عادة فلا يكره اتفاقا. لأنه اعتاده وألفه وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء أو كان موصولا بصيام أيام قبله لم يكره لما يأتي. أو كان قضاء أو نذرا أو كفارة فإنه يجب صومه. ومنع بعض الشافعية من صوم النصف الأخير من شعبان مستندين إلى ما رواه العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" وقال أحمد وابن معين منكر.

وذهب الجمهور إلى استحبابه لما تقدمه من الحث على صيام شعبان وقال الشيخ لا يكره صوم العشر الأخير من شعبان عند أكثر أهل العلم. (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام) لكونه عيدنا أهل الإسلام. فيكره إفراده اتفاقا. إلا ما روي عن مالك. وعن علي من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة. فإنه يوم طعام وشراب وذكر لله. فيستحب فطره ليكون أعون على هذه الوظائف وأدائها. بنشاط وانشراح لها وتلذذ من غير ملل ولا سآمة ولأنه يوم عيد الأسبوع. (إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) أن يكون يصوم يوما ويفطر يوما أو وافق يوم عرفة أو يوم عاشوراء أو نذرا أو قضاء ونحوه لم يكره. قال الوزير اتفقوا على كراهته إلا أن يوافق عادة والحديثان (متفق عليهما) من غير وجه. (ولهما) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة أي وحده" (إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده) وفي لفظ إلا "وقبله يوم أو بعده يوم" ولأحمد "يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم "إلا أن تصوموا قبله أو بعده" وله عن ابن عباس "لا تصوموا يوم الجمعة وحده" وله عن جنادة الأزدي دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم الجمعة في

سبعة من الأزد وهو يتغذى فقال "هلموا إلى الإذاء" فقلنا إنا صيام. فقال "اصمتم أمس" قلنا لا. قال "أفتصومون غدا" قلنا لا. قال" فافطروا" فأكلنا معه. وللبخاري عن جويرية نحوه. فيتعين القول بكراهة صومه وحده إلا ويوم قبله أو بعده. وإلا وجب فطره ومالك معذور. قال الداودي لم يبلغه هذا الحديث. ولو بلغه لم يخالفه. ففي الصحيحين سئل جابر أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة؟ قال نعم. وللبخاري أن يفرد بصوم. وحكى ابن المنذر وغيره عن علي وغيره المنع من صومه وحده. وقال ابن حزم لا نعلم لهم مخالفًا في الصحابة. وقال الشيخ وكراهة إفراد رجب وكذا الجمعة بصوم سدا لذريعة اتخاذ شرع لم يأذن به الله من تخصيص زمان أو مكان لم يخصه الله كما وقع من أهل الكتاب ويكره إفراد قيام ليلتها باتفاق أهل العلم. ولمسلم وغيره "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي" وفيه دليل على كراهة الصلاة التي تسمى الرغائب. وفي قوله "إلا أن يصوم يوما قبله أو بعده" ونحوه أن صيام يوم السبت ويوم الجمعة أو السبت والأحد لا يكره وهو إجماع. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" وقال مالك منكر. وأبو داود منسوخ. وقال

الشيخ شاذ أو منسوخ. واختار هو وغيره من المحققين أنه لا يكره صومه منفردا. وأنه قول أكثر العلماء. لقول أم سلمة أكثر ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد وكان يقول "إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أريد أن أخالفهم" صححه ابن خزيمة وغيره. وللترمذي عن عائشة كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين. ومن الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس. ويكره صوم النيروز والمهرجان وكل عيد للكفار. أو يوم يفردونه بالتعظيم لما فيه من موافقة الكفار في تعظيمها. قال عبد الله بن عمر من صنع ببلاد الأعاجم نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم. قال الشيخ وغيره ما لم يوافق عادة أو يصمه عن نذر ونحوه. قال وكذلك يوم الخميس الذي يكون في آخر صومهم يوم عيد المائدة. ويوم الأحد الذي يسمونه يوم عيد الفصح وعيد النور والعيد الكبير ونحو ذلك. ليس للمسلم أن يشابههم في أصله ولا في وصفه. وقال لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم. لا من طعام ولا من لباس ولا اغتسال. ولا إيقاد نيران. ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك. ولا يحل فعله وليمة. ولا الإهداء. ولا الصنع بما يستعان به على ذلك. ولا تمكين الصبيان. ونحوهم من اللعب التي في الأعياد. ولا إظهار زينة. وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم

بشيء من شعائرهم. بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام. لا يخصه المسلمون. بشيء من خصائصهم. وتخصيصه بما تقدم لا نزاع بين العلماء في كفر من يفعل هذه الأمور. لما فيها من تعظيم شعائر الكفر. وقد اشترط عمر الصحابة وسائر أئمة المسلمين أن لا يظهروا أعيادهم في ديار المسلمين. فكيف إذا أظهرها المسلمون. قال عمر لا تتعلموا رطانة الأعاجم. ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم. فإن السخطة تنزل عليهم. وإذا كان كذلك فكيف بمن يفعل ما يسخط الله به عليهم مما هو من شعائر دينهم. قال غير واحد من السلف في قوله تعالى (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال أعياد الكفار، وفي المسند والسنن "من تشبه بقوم فهو منهم" "ليس منا من تشبه بغيرنا" وإن كان في العادة. فكيف بما هو أبلغ من ذلك؟. (عن عمار) بن ياسر رضي الله عنه أنه قال (من صام اليوم الذي يشك فيه) هل هو من رمضان أو من شعبان كأن يحول بينهم وبينه غيم أو قتر أو يتحدث الناس فيه برؤية ولم تثبت رؤيته، أو شهد واحد فردت شهادته. أو فاسقًا فأكثر فردت (فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -) كنيته - صلى الله عليه وسلم -. لأنه هو يقسم بين عباد الله أحكامه زمانا ومكانا وغير ذلك. ونهى في حياته أن يتكنى بها غيره (رواه الخمسة وصححه الترمذي) وقال

العمل عليه عند أكثر أهل العلم. ورواه البخاري تعليقا جزما لأن الصحابي لا يقول ذلك من قبل رأيه. فحكمه الرفع. قال ابن عبد البر هو مسند عندهم اتفاقا. ورجح الحافظ أنه موقوف لفظًا مرفوع حكما. وقال ابن عبد البر نهى - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الشك اطراحًا لأعمال الشك. وهذا أصل عظيم من أصول الفقه أن لا يدع الإنسان ما هو عليه من الحال المتيقنة إلا بيقين في انتقالها. وقال الشيخ هو يوم شك أو يقين من شعبان. ينهى عن صومه بلا توقف. لأن الأصل والظاهر عدم الهلال. فصومه تقدم لرمضان بيوم. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صومه. وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره. فإن المشكوك في وجوبه لا يجب فعله ولا يستحب. بل يستحب تركه احتياطا. وعن أحمد تحريمه وفاقا لمالك وأبي حنيفة والشافعي. واختاره الشيخ وجمهور المحقيقين من أصحاب أحمد وغيرهم. وهو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة المتواترة. منها النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين. وللخمسة عن ابن عباس "فإن حال بينكم وبينه سحاب فاكملوا العدة ثلاثين. ولا تستقبلوا الشهر استقبالا" ومنها الأحاديث الصحيحة الصريحة بالنهي عن صيامه كقوله "فإن غم عليكم فاكملوا العدة ثلاثين" وهي مستفيضة من غير وجه. والأمر بالشيء نهي عن ضده. ولما فيه

من الزيادة في الفرض. ويستثنى القضاء والنذر والعادة على ما تقدم. فائدة: كره الوصال بعض أهل العلم لما في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوصال فقالوا إنك تواصل فقال "إني لست مثلكم إني أطعم وأسقي" ولا يحرم لأنه نهى عنه رفقًا بهم. وقيل يحرم حكاه ابن عبد البر عن الجمهور. ولا يبطل الصوم حكاه الموفق إجماعا. ولا يكره إلى السحر لما في الصحيح "فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" وتركه أولى محافظة على الإتيان بالسنة في تعجيل الفطر. وتقوية البدن على العبادة. (وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (نهى) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عن صيام يومين) من أيام السنة. وللبخاري "لا صوم في يومين" ولمسلم "لا يصح الصوم في يومين (يوم الفطر) وهو يوم عيد الفطر (ويوم النحر) وهويوم عيد الأضحى (متفق عليه) ولهما عن أبي عبيد قال شهدت العيد مع عمر رضي الله عنه فصلى ثم انصرف فخطب الناس فقال: إن هذين يومين نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم. واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم. فأشار إلى العلة في وجوب فطرهما بالفصل من الصوم وإظهار تمامه وحده بفطر ما بعده، ليتميز وقت العبادة عن

غيره. لئلا يكون ذريعة إلى الزيادة في الواجب. كما فعل بالنصارى. وأكده الشارع باستحباب تعجيل الفطر. وتأخير السحور. واستحباب تعجيل الفطر يوم العيد قبل الصلاة. والآخر لأجل النسك المتقرب بذبحه ليؤكل منه. ولو شرع صومه لم يكن لمشروعية الذبح فيه معنى. فعبر عن علة التحريم بالأكل من النسك. لأنه يستلزم النحر. ولما في صومهما من الإعراض عن ضيافة الله تعالى لعباده. قال النووي وغيره أجمع أهل العلم على تحريم صومهما عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك. ولو نذر صومهما متعمدًا، ولا ينعقد عند الجمهور. ولا يلزمه قضاؤهما. لقوله "لا نذر في معصية". (وللبخاري عن ابن عمر لم يرخص) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (في أيام التشريق أن يصمن) وهي ثلاثة بعد يوم النحر. سميت بذلك لتشريق الناس لحوم الأضاحي فيها. وهو تقديدها ونشرها في الشمس. وهي الأيام المعدودات ولمسلم من حديث نبيشة" أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله" ولأحمد نحوه من حديث أبي هريرة وسعد "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي أيام منى أيام أكل وشرب ولا صوم فيها". وللخمسة من حديث عقبة وللبزار من حديث ابن عمر "أيام التشريق أيام أكل وشرب وصلاة فلا يصومها أحد"

ولأحمد عن أنس "نهى عن صوم خمسة أيام في السنة يوم الفطر ويوم النحرو ثلاثة أيام التشريق. وحكي أن النهي عن صومها متوتر. وقال الوزير وغيره أجمعوا على كراهة صيام أيام التشريق. ومن قصده نفلا فقد عصى الله. ولم يصح له إلا أبا حنيفة فقال ينعقد مع الكراهة. ولعل من رخص في صيامها أنه لم يبلغه النهي. قال المجد أو تأوله على أفرادها. كيوم الشك. (إلا لمن لم يجد الهدي) فيصوم الثلاثة فيها إذا لم يصمها قبل رخصة لمن كان متمتعا أو قارنا أو محصرا. لإطلاق الحديث وعموم الآية. وهو مذهب أحمد ومالك والشافعي في القديم. وعن أحمد لا يجوز وحكي اتفاقا لخبر "هي أيام أكل وشرب" والحديث يدل على الجواز، فإن حمل المطلق على المقيد واجب. وكذا بناء العام على الخاص. وللبخاري عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة فإن لم يجد هديا ولم يصم صام أيام منى. وهذه الصيغة لها حكم الرفع. وأخرجه الدارقطني والطحاوي بلفظ "رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لللمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق" وإن كان فيه مقال. فأصله متفق على صحته. والقول به أقوى. فيصح صوم أيام التشريق لمن عدم الهدي إذا لم يصمها قبل ويأتي.

فصل في ليلة القدر

فصل في ليلة القدر أي في بيان فضل ليلة القدر والحث على قيامها. وتحريمها في أوتار العشر الأخير. وما يتعلق بذلك. قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي العمل الصالح في ليلة القدر {خَيْرٌ مِنْ} العمل في {أَلْفِ شَهْرٍ} ليس فيها ليلة القدر وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - أري أعمال الناس قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته أن يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر. وقيل ذكر له رجل من بني إسرائيل حمل السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب هو والمسلمون من ذلك وتمنى ذلك لأمته. فقال "يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعمارا وأقلها عملا" فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر. وسميت ليلة القدر لأن فيها تقدير الأمور والأحكام والأرزاق والآجال وما يكون في تلك السنة إلى مثلها من السنة المقبلة. قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} والمراد التقدير الخاص لا العام. فإن الله قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض. وقيل لعظم قدرها وشرفها عند الله. كقوله {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}. وقال في هذه السورة تنويها بشرفها {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} يعني القرآن العظيم جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ونزل به جبرائيل من الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفصلا بحسب الوقائع {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي: أي

شيء يبلغ درايتك قدرها ومبلغ فضلها وعظم قدر الطاعات فيها. وهذا على سبيل التعظيم لها والتشويق إلى خيرها. وهي أفضل الليالي على الإطلاق. وأفضل الأيام يوم الجمعة. ويوم النحر أفضل أيام العام. وقيل يوم عرفة. ثم قال: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} تعظيما لكثرة بركتها {وَالرُّوحُ} جبرائيل عليه السلام والملائكة عليهم السلام يتنزلون من تنزل البركة والرحمة والمغفرة. كما يتنزلون عند تلاوة القرآن. ويحضرون حلق الذكر. ويضعون أجنحتهم لطالب العلم. (فيها) أي تنزل في ليلة القدر (من كل أمر) أي بكل أمر من الخير والبركة (سلام) على أولياء الله وأهل طاعته يصلون ويسلمون على كل عبد صالح قائم أو قاعد يذكر الله عز وجل (هي) يعني ليلة القدر سلامة وخير {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي يدوم ذلك السلام والخير إلى مطلع الفجر. ولأحمد عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حضر رمضان قال "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين فيه ليلة خير ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم" ونقل جمع من أهل المذاهب أنها خاصة بهذه الأمة. (وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من قام ليلة القدر) بالتهجد فيها والصلاة والذكر والدعاء والفكر. وهذه صيغة تغريب وندب دون إيجاب. وأجمعت الأمة على استحبابه

ويحصل بمطلق ما يصدق عليه القيام. وقيل أكثر الليل. وليس من شرطه استغراق جميع أوقات الليل. (إيمانا) تصديقا بأنه حق مقتصد فضيلته (واحتسابا) لثوابها عند الله لا يريد إلا الله وحده لا يريد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص. (غفر له ما تقدم من ذنبه، متفق عليه. زاد أحمد وماتأخر) أي من ذنبه. وله عن عبادة "من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" وللنسائي من حديث قتيبة "غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" قال الحافظ وإسناده على شرط الصحيح. أي يقوم يصلي ويقرأ ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة. لعله يوافقها. فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتهجد في ليالي رمضان. ويقرأ قراءة مرلتلة لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ. فجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر. وهذا أفضل الأعمال في ليالي العشر وغيرها. وقيامها يكفر الذنوب لمن وافقت له شعر بها أو لم يشعر. وهي باقية لم ترفع للأخبار المتواترة بطلبها. (ولهما عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تحروا) أي أطلبوا (ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) قال ابن عباس دعا عمر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر. وتقدم الحث على قيام العشر الأواخر من رمضان. وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها.

ويعتكفها هو ونساؤه. وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "اعتكفت الأول التمس هذه الليلة ثم الأوسط ثم أتيت فقيل لي إنها العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف" فاعتكف الناس معه. وقالت عائشة "كان إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله" حتى قال بعض السلف {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} إنه طلب ليلة القدر. والمعنى أن الله لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام. أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح فيفوتهم طلب ليلة القدر. فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل خصوصا في الليالي المرجوة فيها. فمن ههنا كان يصيب من أهله في العشرين من رمضان ثم يعتزل نساءه ليتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر فيعتكفها قطعا لأشغاله وتفريغا لباله وتخليا لمناجات ربه وذكره ودعائه. (وللبخاري عنها) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تحروا ليلة القدر (في الوتر منها) أي من العشر الأواخر من رمضان. ولمسلم عن ابن عمر وأحمد عن علي وغيره. وهي آكد عند جمهور العلماء. قال الشيخ فعلى هذا إن كان الشهر تامًا فكل ليلة من العشر وتر إما باعتبار الماضي كإحدى وعشرين. وإما باعتبار الباقي كالثانية. وإن كان ناقصًا فالأوتار باعتبار الباقي موافقة لها باعتبار الماضي.

وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأخير كله. كما قال - صلى الله عليه وسلم - "تحروها في العشر الأواخر" وللبخاري عن ابن عباس مرفوعا "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان. ليلة القدر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى" وفي رواية "سبع يمضين أو في سبع يبقين". ولمسلم من حديث أبي سعيد "أبينت لي فنيستها فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان. التمسوها في التاسعة والخامسة والسابعة" قيل لأبي سعيد ما التاسعة والخامسة والسابعة قال إذا مضت إحدى وعشرون فالتي تليها اثنتان وعشرون. فهي التاسعة. فإذ مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة. فإذا مضت خمس وعشرون. فالتي تليها الخامسة. وللترمذي وصححه من حديث أبي بكرة "التمسوها في تسع بقين أو خمس بقين أو ثلاث بقين أو آخر ليلة" فدلت هذه الأحاديث على أن أرجى وجودها في تلك الليالي. (ولهما من حديث ابن عمر) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (من كان متحريها) أي من كان ملتمسا لليلة القدر طالبا جزيل الثواب فيها (فليتحرها في السبع الأواخر) وذلك أن رجالا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر. فقال "أرى رؤياكم قد تواطأت" ولمسلم قال "التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أوعجز فلا يغلب على السبع البواقي" ولأحمد من حديث أبي ذر "التمسوها

في السبع الأواخر لا تسألني عن شيء بعدها". (ولأحمد) من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (تحروها ليلة سبع وعشرين) وفي رواية "من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين" ولمسلم عن أبي بن كعب قال والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله بقيامها. وهي ليلة سبع وعشرين. وفي لفظ كان يحلف على ذلك. ويقول بالآية والعلامة التي أخبرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وله عن ابن عباس مرفوعا: عليك بالسابعة وإسناده على شرط الصحيح. وله عن معاوية ليلة القدر ليلة سبع وعشرين. وصححوا وقفه. ويؤيده أنه - صلى الله عليه وسلم - قام بهم في السابعة إلى آخر الليل حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح. وجمع أهله ليلتئذ وجمع الناس. واستدل أبي عليها بطلوع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها. ورأى بعض السلف الملائكة في الهواء طائفين بالبيت الحرام. ورجل بالسواد يرى النخل واضعا سعفه بالأرض. وذكر غير ذلك. قال الشيخ وقد يكشف الله لبعض الناس في المنام أو اليقظة فيرى أنوارها. أويرى من يقول له هذه ليلة القدر. وقد يفتح الله على قلبه من المشاهدة ما يتبين به الأمر. وإن وقع ليلة جمعة في وتر منها فهي أرجى من غيرها. ولم يرد نص صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها في ليلة معينة. والحكمة في ذلك والله أعلم ليجتهد المؤمن في طلبها في هذه الليالي

الشريفة. كل ليلة يجد في العبادة طمعًا في إدراكها. يقول في كل ليلة هذه الليلة ليلة القدر. واجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في هذه الليالي العشر واعتكافه فيها لأجل هذه الليلة يدل على ذلك. وفيه أوقال أرجحها أنها في وتر العشر الأواخر. وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين. (وعن عائشة قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟) استفهام استرشاد أي: ما أقول فيها من الدعاء الجامع (قال قولي اللهم إنك عفو) العفو عفو الله عن خلقه. والصفح عن الذنوب. وترك مجازاة المسيء. والمحو من عفت الريح الأثر إذا درسته. فكان العافي عن الذنب يمحوه بصفحه عنه (تحب العفو) التجاوز عن الذنوب (فاعف عني) تجاوز عني فلا تؤاخذني بجرمي واستر على ذنبي وأكفني عذابك واصرف عني عقابك رواه أحمد والنسائي وابن ماجه و (صححه الترمذي) والحاكم وغيرهما. وللنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعا "سلوا الله العفو العافية والمعافاة الدائمة فما أوتي أحد بعد يقين خيرا من معافاة" فإن الشر الماضي يزول بالعفو والحاضر بالعافية. والمستقبل بالمعافاة لتضمنها دوام العافية ويكثر من الدعاء والاستغفار فيها لأن الدعاء فيها مستجاب ويذكر حاجته في دعائه الذي يدعو به تلك الليلة.

باب الاعتكاف

باب الاعتكاف العكوف لغة لزوم الشيء والاحتباس والمكث والمقام. واعتكف لزوم المكان. ومنه {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} وقال {أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}. وشرعا لزوم المسجد لعبادة الله تعالى على وجه مخصوص. ويسمى جوارا لا خلوة. وهو سنة وقربة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. وهو من الشرائع القديمة. وفيه من القرب المكث في بيت الله. وحبس النفس على عبادة الله. وقطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخال. وإخلاء القلب من الشواغل عن ذكر الله. والتحلي بأنواع العبادات المحضة من الفكر والذكر وقراءة القرآن والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار إلى غير ذلك من أنواع القرب. وفي الحديث "المعتكف يعكف الذنوب ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها وأعقب الصوم اقتداء بالكتاب العزيز. فإنه تعالى نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم. وفي ذكره بعده إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام. كما هو ثابت من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأتباعهم. قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} أي لا تجامعوهن ولا تقربوهن {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} أي معتكفون {فِي الْمَسَاجِدِ} أي ما دمتم عاكفين في المساجد. ولا تقربوهن في غيرها. والمراد

بالمباشرة هنا الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك. واتفق أهل العلم على ان الوطء في الاعتكاف محرم لهذه الآية والأخبار. وقال ابن كثير وغيره هو الأمر المتفق عليه عند العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا في مسجد. ولو ذهب إلى منزله لحاجة فلا يحل له أن يلبث فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك. وليس له أن يقبل امرأته ولا أن يضمها إليه ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه اهـ. وأجمع أهل العلم على فساد الاعتكاف بالجماع فيه. سواء أنزل أو لمنزل منذورا كان أو مسنونا. وإن باشر دون الفرج لم يفسد عند أكثر أهل العلم. ولا تحرم المباشرة دون الفرج بلا شهوة اتفاقا. ولأن عائشة كانت ترجله. وحكى ابن عبد البر وغيره الإجماع على أنه لا يجوز إلا في مسجد يجمع فيه. وحكي عن بعض المالكية وبعض الشافعية في كل مسجد. وقد وصف تعالى المعتكف بكونه في المسجد وأمر بتطهيره له والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في مسجده. قال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يعني الأحكام التي ذكرها في الصيام والاعتكاف أي ما منع الله منها. وما أباحه {فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ينتهون فينجون من العذاب. وفي هذه الآية. وقوله {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} دلالة واضحة على أن الاعتكاف من أفضل ما

يتقرب به العبد إلى الله عز وجل. (وعن عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف) أي يلزم المسجد ويقيم فيه بنية الاعتكاف (العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله) ولهما عن ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من رمضان. ولمسلم قال نافع وقدأراني عبد الله المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولأحمد والترمذي وصححه عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان. (ثم اعتكف أزواجه) - صلى الله عليه وسلم - (من بعده) أي من بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه (متفق عليه) فثبت من فعله من غير وجه مما يدل على مشروعية الاعتكاف. واتفق عليه أهل العلم. وقال أحمد لا أعلم عن أحد من العلماء خلافا أنه مسنون. ودل على استحباب المداومة عليه في العشر الأواخر تخصيصه بالمداومة عليه فيها. لطلب ليلة القدر. وأنه لم ينسخ بل استمر عمل السلف به. ودل على أن النساء كالرجال في الاعتكاف. ولا خلاف في عدم وجوبه. لأنه لم يأمر به أصحابه. وفي الصحيحين وغيرهما "من أحب أن يعتكف فليعتكف" إلا إذا نذره ويتأكد في العشر الأواخر. ويسن كل وقت حكاه غير واحد إجماعا. فلا يختص بزمان إلا ما نهي عن صيامه

للاختلاف في جوازه بغير صوم. وليس له ذكر مخصوص. ولا فعل آخر سوى اللبث في المسجد بنية الاعتكاف. (وعن عمر) رضي الله عنه (أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إني نذرت في الجاهلية) وهي ما كان قبل الإسلام (أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال أوف بنذرك متفق عليه) ففيه جواز الاعتكاف بغير صوم. لأن الليل ليس بوقت صوم. وقد أمره أن يفيء بنذره على الصفة التي أوجبها وفي رواية للبخارية فاعتكف ليلة. وللدارقطني من حديث ابن عباس "ليس على المعتكف صوم إلا أن يجعله على نفسه" وهذا مذهب الشافعي وأحمد والجمهور. واشترطه أبو حنيفة ومالك. وقال المجد والشيخ وغيرهما ليس في اشتراط الصوم في الاعتكاف نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح. ولا يثبت بدون ذلك. وما روي عن عائشة لا اعتكاف إلا بصوم فموقوف. ومن رفعه فقد وهم. ثم لو صح فالمراد به الاستحباب. فإن الصوم فيه أفضل. اهـ. ـ. وللبخاري أن سؤال عمر كان بالجعرانة مرجعه من حنين. فهو رد على من زعم أن اعتكاف عمر كان قبل المنع من الصايم بالليل. وكونه عبادة تصح في الليل فلم يشترط له الصيام كالصلاة. وإن نذر يوما لم تدخل ليلته إجماعا. إلا ما روي عن

مالك. وقال الخليل اليوم اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس. وكما لم يدخل في مسمى الليلة. وفيه أن الاعتكاف يلزم بالنذر. وفي الصحيح "من نذر أن يطيع الله فليطعه" فهو عبادة يجب الوفاء به إجماعا. حكاه الوزير وغيره. ولدارقطني وغيره. نذر أن يعتكف في الشرك. فدل على أن النذر من الكافر لا يسقط في الإسلام. ومن نذر الصوم والاعتكاف لزماه حكاه الوزير وغيره إجماعًا. وإن علقهما أو أحدهما بشرط نحو لله علي أن أعتكف شهر رمضان إن كنت مقيمًا صحيحًا فصادفه مريضًا أو مسافرًا فله شرطه لظاهر الآية والخبر. ومتى قطعه فعليه قضاؤه حيث كان واجبا بالنذر. وإن كان تطوعًا لم يلزمه شيء من التطوعات بالشروع فيها كما تقدم سوى الحج والعمرة. ولا يجوز لزوجة ولا لقن اعتكاف بلا إذن اتفاقا ولهما تحليلهما من تطوع وإن أذنا لهما شرعا. لأنه - صلى الله عليه وسلم - أذن لعائشة وحفصة وزينب في الاعتكاف. ثم منعهما بعد أن دخلا فيه متفق عليه. ولخبر لا تصوم المرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه ولما فيه من تفويت حقهما. وإن أذنا في منذور فلا. (ولهما من حديث ابن عمر) يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (صلاة في مسجدي هذا) يعني مسجد المدينة (خير من ألف صلاة فيما سواه) من سائر المساجد (إلا المسجد الحرام) أي

فصلاة فيه أفضل (زاد أحمد) من حديث جابر (وصلاة في المسجد الحرام) وهو مسجد مكة (أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه) قال ابن عبد البر هو أحسن حديث روي في ذلك. ولأحمد من حديث الزبير مثله. وللبيهقي وغيره نحوه بسند حسن. وفيه "صلاة في مسجد بيت المقدس بخمسمائة صلاة". ودلت هذه الأحاديث على فضيلة هذه المساجد وميزتها على غيرها. فمن عينها بنذر تعينت لفضل العبادة فيها على غيرها. لكونها مساجد الأنبياء. ولأن الأول قبلة الناس وإليه حجهم والثاني أسس على التقوى. والثالث كان قبلة الأمم السالفة. وتقدم حديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" لفضلها وشرفها على غيرها. فلا يستقيم أن يقصد بالزيارة غيرها قال الشيخ والجويني وغيرهما يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر الحديث وأن من نذر إتيان غيرها لصلاة أو غيرها لم يلزمه غيرها. لأنه لا فضل لبعضها على بعض. ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في الأفضل لم يجزئه فيما دونه فمن نذره في المسجد الحرام لم يجزئه فيما سواه من سائر المساجد. ومن نذره في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أجزأه فيه وفي المسجد الحرام. ومن نذره في الأقصى أجزأه فيه وفيهما.

ولأبي داود وغيره عن جابر أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس فقال "صل ههنا" فسأله فقال "صل ههنا" فسأله فقال "شأنك إذا" ومن نذره في غير المساجد الثلاثة أجزأه في كل مسجد يجمع فيه. قال الحافظ وغيره وإن نذر إتيان غيرها لصلاة أو غيرها لم يلزمه غيرها بلا خلاف. وحكاه النووي وغيره. واختار شيخ الإسلام في موضع: يتعين ما امتاز بمزية شرعية كقدم وكثرة جمع. والمراد بدون شد رحل. والقياس لزومه لكن ترك للخبر. ولأن الله تعالى لم يعين لعبادته موضعا فلم يتعين بالنذر سوى الثلاثة لمزيتها. وقيل ومسجد قباء. لمن كان بالمدينة. لإتيانه عليه الصلاة والسلام إليه. ويدخل في حكم المسجد ظهره عند الجمهور لعموم قوله تعالى (فِي الْمَسَاجِدِ) ورحبته المحوطة منه اتفاقا. ومنارته التي هي وبابها فيه منه وما زيد فيه منه لعموم الخبر. وقاله طائفة من السلف. واختاره الشيخ. وقال حكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام. فيثبت له جميع أحكامه من المضاعفة وغيرها. وروي عن أبي هريرة مرفوعا "لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي" وقال عمر لما زيد فيه لو زدنا فيه حتى يبلغ الجبانة كان مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لى الله عليه وسلم. قال ابن رجب وقد قيل إنه لا يعلم عن السلف خلاف في المضاعفة. وإنما خالف بعض المتأخرين ولأحمد في قصة الحديبية أنه كان يصلي في الحرم.

قال ابن القيم وفيه كالدلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم لا يخص بها المسجد وأن قوله "صلاة في المسجد الحرام" كقوله (أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) وكان الإسراء من بيت أم هانئ اهـ. ـز والمسجد الجامع أفضل لرجل تخلل اعتكافه جمعة. لئلا يحتاج إلى الخروج إليها فيترك الاعتكاف مع إمكان التحرز منه. ولا يلزم عند جمهور العلماء منهم أبو حنيفة وأحمد. وهو ظاهر مذهب الشافعي. وحكاه النووي عن مالك. لأن الخروج إليها لا بد منه كالخروج لحاجة. والخروج إليها معتاد. فكأنه مستثنى، وأجمعوا على وجوبه. ولا يصح إن وجبت الجماعة بالاعتكاف فيما تقام فيه الجمعة وحدها لوجوب الجماعة كما تقدم. ويحرم تركها. وقال الوزير اجمعوا على أن كل مسجد تقام فيه الجماعات فإنه يصح فيه الاعتكاف. ومن لا تلزمه ففي كل مسجد كالمعذور والمرأة. سوى مسجد بيتها. حكاه الوزير وغيره إجماعا. إلا أن أبا حنيفة جوزه والسنة الصحيحة أولى بالاتباع. ولانتفاء حكم المسجد عنه في سائر الأحكام. ولو أجزأ لفعله أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. واعتكف بعض نسائه معه في المسجد وهي مستحاضة ترى الدم. وربما وضعت تحتها الطشت من الدم. رواه البخاري، وسئل ابن عباس عن امرأة

جعلت عليها أن تعتكف في مسجد نفسها ببيتها فقال بدعة. وأبغض الأعمال إلى الله البدع. ويسن استتار معتكفه بخباء في مكان لا يصلي فيه الرجال. ويباح لرجل منه لاعتكافه - صلى الله عليه وسلم - في قبة. (وعن عائشة) رضي الله عنها (كان) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا اراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه) متفق عليه. فدل على أن أول وقت الاعتكاف بعد صلاة الفجر. والحديث ظاهر في ذلك وكانت عادته - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يخرج من منزله إلا عند الإقامة. وهذا قول أحمد وإسحاق. وحمله بعض أهل العلم على الجواز. وأولوا الحديث فقالوا إنه دخل من أول الليل. ولكن إنما يخلو بنفسه في المكان الذي أعده للاعتكاف بعد صلاة الصبح. ولا يخفى بعده. أما إن نذره كالعشر الأخير أو عشر ذي الحجة. وكشهر بعينه دخل معتكفه قبل الزمن المنذور اعتكافه. لأن أوله الغروب فيدخل عند أول جزء من الليل. وهو قبيل الغروب من اليوم الذي قبل نذر اعتكافه. وخبر عائشة في التطوع والتطوع يشرع فيه متى شاء. واستحب أهل العلم لمن اعتكف العشر الأخير منه أن يبيت ليلة العيد في معتكفه ويخرج منه إلى المصلى. ليصل طاعة بطاعة قال أحمد هكذا حديث عمرة عن عائشة. وقاله مال. وذكر أنه بلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه بلغه عن أهل الفضل الذين مضوا. وعن إبراهيم كانوا يستحبون ذلك.

ولما ورد من الترغيب في قيام ليلة العيد. وقال ابن الماجشون إنه السنة المجمع عليها. وأما المنذور فلا يخرج إلا بعد آخر يوم منه اتفاقا. ليستوفي جميعه. وإن نذر اعتكاف العشر الأخير فنقص الشهر أجزأه اتفاقا. بخلاف ما لو نذر عشرة أيام من آخر الشهر فنقص يوما قضى يوما اتفاقا. وإن فاتته العشر قضاه خارج رمضان. لفعله عليه الصلاة والسلام في العشر الأول من شوال. والأولى من قابل لا سيما لطلب ليلة القدر. وإن نذر زمنا معينا تابعه ولوأطلق اتفاقا. إلا في رواية عن الشافعي. لاقتضاء ذلك. سواء كان اعتكافا أو صوما. وإن نوى عددا فله تفريقه. (ولهما عنها) أنها قالت (إنه ليدخل على رأسه) صلوات الله وسلامه عليه (وهو) معتكف (في المسجد فأرجله) أي تمشط شعره وتنظفه وتحسنه. وفي رواية أنها كانت ترجله وهي حائض. وهو معتكف في المسجد. وهي في حجرتها يناولها رأسه. أي فتمشطه وفيه دليل على أن من أخرج بعض بدنه من المسجد لم يقدح في صحة اعتكافه. وهو اتفاق. وإن خرج جميعه مختارا عمدا له منه بد بطل أتفاقا. وإن قل. وأنه يجوز للمعتكف التنظف والتطيب والحلق والغسل والتزين إلحاقا له بالترجيل. والجمهور أنه لا يكره فيه إلا ما

يكره في المسجد. وفيه أن الحائض طاهرة. وأن تناول المرأة رأس زوجها وترجيله ولمس جلده بغير لذة مباح وإنما يمنع مباشرتها بلذة قالت (وكان لا يدخل البيت) إذا كان معتكفا (إلا لحاجة) وفي لفظ إلا لحاجة الإنسان. وفسرها الزهري بالبول والغائط. وأجمع أهل العلم على استثنائهما. وإلا لم يصح لأحد اعتكاف. لأنه لا يسلم من ذلك. وكقيء بغتة. وطهارة واجبة. وغسل منتجس يحتاجه. لأنه في معنى البول والغائط. وجمعة وشهادة لزمتاه إجماعا. ومرض يتعذر القيام معه اتفاقا. وقال الوزير وغيره أجمعوا على أنه يجوز للمعتكف الخروج إلى ما لا بد له منه كحاجة الإنسان والغسل من الجنابة والنفير والخوف الفتنة ولقضاء عدة المتوفى عنها زوجها ولأجل الحيض والنفاس. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد والجمهور له إتيانه بمأكل ومشرب لعدم من يأتيه بهما من غير أن يأكل ويشرب في بيته. ويجوز عند الشافعي لما فيه من ترك المروءة. ويستحي أن يأكل وحده. وكما لا يبطل الاعتكاف فلا ينقص مدته. لأنه كالمستثنى عادة. لكونه إما واجبا وإلا يسيرا مباحا لحاجة. وقام مع صفية إلى بيتها. (ولأبي داود عنها) رضي الله عنها (قالت السنة) أي الطريقة المتبعة (على المعتكف أن لا يعود مريضا) وله عنها "كان يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا يعرج يسأل

عنه". وفي الصحيحين عنها إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما اسأل عنه إلا وأنا مارة (ولا يشهد جنازة) فدل على أنه لا يجوز للمعتكف أن يخرج من معتكفه لعيادة مريض ولا لتشييع الجنازة ولا لما يماثلهما من القرب ما لم يتعين عليه ذلك مع عدم من يقوم به. فلا يزور قريبا ولا يتحمل شهادة ولا يؤديها. ولا يغسل ميتا ونحو ذلك. فلا يخرج لكل قربة لا تتعين عليه اتفاقا. لأن له منه بدا كغيره. وإن تعين فله الخروج له لتعينه كالجمعة وشهادة لزمتاه لوجوبهما بأصل الشرع. وإن اشترط في ابتداء الاعتكاف الخروج إلى عيادة مريض وشهود جنازة وكل قربة لم تتعين عليه وما له منه بد كعشاء في بيته فله شرطه. وقال في المبدع وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين. وقاله الشافعي وأحمد وغيرهما. وقال الوزير وهو الصحيح عندي. قال إبراهيم كانوا يستحبون للمعتكف هذه الخصال. لا الخروج للتجارة والتكسب بالصنعة في المسجد. ولا الخروج لما شاء فلا يجوز اشتراطه لأنه ينافي الاعتكاف صورة ومعنى. وإن خرج لما لا بد منه فباع واشترى أو سأل عن مريض أو غيره ولم يعرج أو يقف لذلك جاز اتفاقا. وإن قال متى مرضت أو عرض لي عارض خرجت فله شرطه. وإذا زال العذر فعليه الرجوع. إلى اعتكاف واجب.

(ولا يمس امرأة ولا يباشرها) المارد بالمباشرة هنا الجماع قرينة ذكر المس قبلها. وتقدم نقل الإجماع على ذلك. ويؤديه ما رواه الطبراني وغيره عن قتادة في سبب نزول الآية {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} أنهم كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته فجامعها إن شاء فنزلت الآية. وفسرتها السنة. وأجمع أهل العلم على بطلان الاعتكاف بالجماع. والمنع من المس بشهوة. وجوازه بدونها. وفي هذه الأخبار ونحوها أنه يستحب للمعتكف اجتناب ما لا يعنيه من جدال ومراء. وفي الحديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعينيه" وإذا حسن إسلام المرء اقتضى ترك ما لا يعنيه كله من المحرمات والشبهات والمكروهات. وفضول المابحات في سائر الأوقات. وفي الاعتكاف أولى. فالمكروه في غيره أشد كراهة فيه حتى كره بعض أهل العلم تعليم القرآن لئلا تنصرف همته عن تدبر القرآن إلى حفظه على القراء. فيكون قد صرف فهمه عن تدبر أسراره لنفسه إلى حفظ ظاهر نطقه لغيره. وإلا فليس من عمل اللسان للمعتكف ما يعدل قراءة القرآن واستماعه. وهذا كله إشارة إلى أن الاعتكاف حبس النفس وجمع الهمة على نفوذ البصيرة في تدبر القرآن. ومعاني التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. وذكر الله عز وجل فكلما جمع الفكر يناسب هذه العبادة. وكلما بسط من الفكر ونشر من الهمة ينافيها.

كتاب المناسك

كتابُ المناسِك جمع منسك المتعبدات كلها. وقد غلب إطلاقها على أفعال الحج لكثرة أنواعها. وفي المطالع مواضع متعبدات الحج. (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) المواضع التي تقصد في الحج. والأفعال التي تفعل هناك. كالطواف والسعي والوقوف والرمي. والحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام. ودعائمه الخمس. وفرض من فروضه بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. وهو من العلم المستفيض الذي توارثته الأمة خلفا عن سلف. وقال ابن إسحاق لم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا حج هذا البيت. وقال غيره ما من نبي إلا حج. ولأحمد وغيره بسند حسن عن ابن عباس مرفوعا "إن هذه الأمة لا تزال بخير ما عظموا هذه الحرمة" يعني الكعبة "حق تعظيمها فإذا ضيعوا ذلك هلكوا" فهو خاصة هذا الدين الحنيف. وسر التوحيد (حُنَفَاءَ لِلَّهِ) أي حجاجًا (قِيَامًا لِلنَّاسِ) عمود العالم لو ترك خرت السماء على الأض. وبه كمل بناء الدين وتم بناؤه على أركانه الخمسة. وهو فرض كفاية كل عام على من لم يجب عليه ولو

عينا. وإنما أخروا الحج عن الصلاة والزكاة والصوم لأن الصلاة عماد الدين وتكرر كل يوم خمس مرات. فالحاجة إليها أشد ثم ثنوا بالزكاة لكونها قرينة الصلاة في مواضع كثيرة في الكتاب والسنة. ولشمولها المكلف وغيره. ثم الصوم لتكرره كل سنة. والحج في العمر مرة لكن البخاري قدم الحج على الصوم للتغليظ في تركه. ولعدم سقوطه بالبدل. قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} بالكسر الحالة والهيئة. وبالفتح المرة. اي ولله فرض واجب على الناس حج البيت. والمراد منهم المسلم المكلف الحر اتفاقا. فلا يجب على الكافر والمجنون ولا يصح منهما. ولا يجب على الصبي والمملوك ويصح تطوعا. ولا يسقط به الفرض. وعن ابن عباس مرفوعا "أيما صبي حج ثم بلغ فعليه أن يحج حجة أخرى" رواه البيهقي. ونحوه لأبي داود مرسلا. قال الشيخ والمرسل إذا عمل به الصحابي حجة اتفاقا. قال وهذا مجمع عليه. لأنه من أهل العبادات فيصح ولا يجزئه أنه فعله قبل أن يخاطب به اهـ. ومن سواهم يجب عليه على الفور مع الاستطاعة. وحرف (على) للإيجاب لا سيما إذا ذكر المستحق. واتبع بقوله (ومن كفر) والحج لغة القصد. وشرعا قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص. وقال الشيخ غلب في الاستعمال الشرعي والعرفي على حج بيت الله

وإتيانه. فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد. لأنه هو المشروع الموجود كثيرا لقوله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وقال الجوهري تعورف استعماله في القصد إلى مكة للنسك. ويقال الحج حشر الخلائق من الأقطار للوقوف بين يدي الخالق. {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} من بدل من الناس. فتقديره ولله على المستطيع من المكلفين حج البيت. ويأتي ما رواه الدارقطني والبيهقي وغيرهما عن أنس قيل يا رسول الله ما السبيل قال "الزاد والراحلة" ولابن ماجه عن ابن عباس ونحوه. وعن جماعة من الصحابة. وللترمذي عن ابن عمر جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ما يوجب الحج؟ قال" الزاد والراحلة" وقال العمل عليه عند أهل العلم. وقال الشيخ بعد سرد الآثار فيه هذ هـ الأحاديث مسندة من طرق ومرسلة وموقوفة. تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة. ولأن الخطاب إنما هو للمستطيع لانتفاء تكليف ما لا يطاق شرعا وعقلاً. وليس شرطًا للصحة. بل متىوصل وفعل أجزأه. بلا نزاع. وإنما هو شرط للوجوب. قال الوزير وغيره أجمعوا على أن الحج يجب على كل مسلم عاقل حر بالغ صحيح مستطيع في العمر مرة واحدة. وأن المرأة في ذلك كالرجل. وأن الشرائط في حقها كالرجل. واشترط الجمهور وجود المحرم.

وإذا فقد من هذه الشروط شيء لم يجب. (ومن كفر) سمي تاركه كافرًا. فقد دل على كفره. وإذا دل على كفره فقد دل على آكدية ركنيته. بل أكده بعشرة أوجه من التأكيدات كلها تقتضي بفرضيته. وأكده بأعظم الوعيد والتهديد بالكفر. ثم بإخباره باستغنائه عنه فقال {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} وحجهم وعملهم وعن جميع خلقه. فله الغنى الكامل التام من كل وجه عن كل أحد بكل اعتبار. وأنه تعالى إنما شرع حج البيت ليشهدوا منافع لهم. لا لحاجة به إلى الحجاج. كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه. وافتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت. وعظم شأنه بما يدعو النفوس إلى قصده. وحجه. فقال {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وكل ذلك مما يدل على الاعتناء به والتنويه بذكره. والتعظيم لشأنه والرفعة من قدره. ولو لم يكن إلا إضافته إلى نفسه الكريمة بقوله {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} لكفى بها شرفا وفضلا. وهي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه حبا وشوقًا إلى رؤيته كيف وقد أوجبه وجمهور أهل العلم على الفور بشرطه لأن الأمر يقتضي المأمور به على الفور. قال السدي من وجد ما يحج به ثم لم يحج حتى مات فهو كفر به. وعن علي مرفوعا "من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله

ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا" وذلك أن الله يقول {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قال الترمذي غريب وفيه مقال. وصح عن عمر اهـ. قال من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا. وهم أن يبعث إلى الأمصار بضرب الجزية عل كل من كان عنده جدة فلم يحج ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين. ولأحمد "تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له" وله أيضا "من أراد الحج فليتعجل" وليست الإرادة هنا على التخيير لانعقاد الإجماع على خلافه. بل كقوله "من أراد الصلاة فليتوضأ" وروي "حجوا قبل أن لا تحجوا" أي اغتنموا فرصة الإمكان والفوز بالحصول على هذا الشعار قبل فواته بحادث موت أو غيره. ولأنه أحد مباني الإسلام فلم يجز تأخيره إلى غير وقت معين كبقية المباني وأما تأخيره - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه بناء على أنه فرض سنة تسع. كما صححه القرطبي وغيره. فيحتمل أنه كان في آخرها. أو لعدم استطاعته. أو حاجة خوف في حقه منعه. وأكثر أصحابه. أو لأن الله كره له الحج مع المشركين عراة. أو لاستدارة الزمان. أو غير ذلك. ومن جملة الأقوال أنه فرض سنة عشر. قاله إمام الحرمين وغيره. فلا تأخير عند أكثر أهل العلم. وجزم به غير واحد من أهل التحقيق. قال ابن القيم لما نزل عليه فرض الحج بادر. فإن فرضه

تأخر إلى سنة تسع أوعشر عام تبوك. وأردف الصديق بعلي ينادي بذلك. وهو قول جمهور المفسرين. والتقدم إليه أفضل إجماعا. ولو حج في آخر عمره ليس عليه إثم بالإجماع. ولو مات ولم يحج مع القدرة أثم إجماعا. وله تأخيره لمصلحة الجهاد. كتأخير الزكاة الواجبة لانتظار قوم أصلح من غيرهم. أو تضرر أهل الزكاة. وتأخير الفائتة للانتقال عن مكان الشيطان، ويقدم النكاح من خاف العنت عند الجمهور. وحكاه المجد إجماعًا. ولحاجة إليه. وإلا قدم الحج إجماعًا. (وعن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج) وهذا تقرير وتفسير لقوله (ولله على الناس حج البيت) (فحجوا) أمر إيجاب بلانزاع (فقال رجل) هو الأقربع بن حابس (أكل عام) يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا زجرا له عن السؤال الذي كان السكوت له أولى (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لو قلت نعم) أي يجب عليكم كل عام (لوجبت) أي عليكم كل عام فريضة الحج أو هذه العبادة كل عام. وفي رواية ولو وجبت ما قمتم بها (ولما استطعتم) أي كل عام ذروني ما تركتكم (رواه مسلم) ورواه غيره من طرق. ولأحمد وغيره عن ابن عباس قال خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال "أيها الناس كتب عليكم الحج" فقام الأقرع بن حابس فقال أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال "لو قلتها لوجبت. ولو

وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها. الحج مرة فما زاد فهو تطوع" ولابن ماجه عن أنس بسند جيد نحوه وفيه "ولو وجبت لم تقوموا بها. ولو لم تقوموا بها عذبتم" ولأحمد وغيره "الحج مرة وما زاد فهو تطوع". فدلت هذه الأحاديث على فرضية الحج وهو إجماع. وأنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة إجماعا. حكاه النووي والحافظ والوزير وغيرهم. وقال الخطابي لا خلفًا بين العلماء في أن الحج لا يتكرر وجوبه اهـ. إلا أن ينذره أو العمرة فيجب الوفاء بالنذر بشرطه. وفيها رأفته - صلى الله عليه وسلم - بأمته وشفقته عليهم. (وعن عائشة قلت يا رسول الله على النساء جهاد) إخبار يراد به الاستفهام (قال نعم عليهن جهاد لا قتال فيه) إيضاح للمراد وكأنها قالت ما هو فقال (الحج والعمرة) أطلق عليهما لفظ الجهاد وشبههما به فهما منه. ويأتي "الحج جهاد" وتقدم قوله "اركبيها فإن الحج من سبيل الله" وفيهما من الفضل وجزيل الأجر ما فيهما مما هو معلوم. ولجامع المشقة. وفيه أن الحج والعمرة تقوم مقام الجهاد في حق النساء. رواه أحمد وابن ماجه و (صححه الحافظ) وللبخاري عنها أنها قالت يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال "لا لكن أفضل الجهاد حج مبرور" واستدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على وجوبهما في العمر مرة واحدة.

(وللخمسة عن أبي رزين) لقيط بن عامر العامري العقيلي وافد بني المنتفق. روى عنه جماعة (أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة) ولا الظعن (فقال حج عن أبيك) الذي كبر (واعتمر صححه الترمذي) وقال أحمد لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا. ولا أصح منه. وهو المشهور عنه. وعن الشافعي. وجماعة من أهل الحديث مستدلين بهذا الحديث. وبحديث عمر في رواية الدارقطني وفيه "وتحج البيت وتعتمر" واستأنسوا بقوله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. وقال بعضهم على الآفاقي. قال أحمد ليس على أهل مكة عمرة. قال تعالى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهلهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي وأحمد واختيار الشيخ وغيره أن العمرة سنة. لحديث جابر مرفوعًا سئل عن العمرة أواجبة هي قال لا "وأن تعتمر خير لك" صححه الترمذي قال وهو قول بعض أهل العلم. قالوا ليست العمرة بواجبة. وللدارقطني بسند ضعيف قال "الحج جهاد والعمرة تطوع" ونحوه عن طلحة وابن عباس. ولأن الأصل عدم وجوبها. والبراءة الأصلية لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف. ولا دليل يصلح لذلك مع اعتضاد الأصل بالأحاديث القاضية بعدم الوجوب ويؤيده اقتصاره تعالى علىلحج في قوله {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} واقتصار

الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "بني الإسلام على خمس" على الحج. وقوله للذي قال لا أزيد عليهن ولا أنقص "لئن صدق ليدخلن الجنة" وحديث "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" وغيرها. وما استأنسوا به من قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل وهو بالجعرانة فقال كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فنزلت {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} والسائل قد أحرم. وإنما سأل كيف يصنع. وقد انعقد الإجماع على وجوب إتمام الحج والعمرة. ولو أفسدهما. قال ابن القيم وليس في الآية فرضها. وإنما فيها إتمام الحج والعمرة بعد الشروع فيهما. وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء، وأجمع أهل العلم على مشروعيتها كالحج. وأن فعلها في العمر مرة واحدة كالحج. وورد في فضلها أحاديث كثيرة. وفيه جواز الحج عن العاجز. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (أن امرأة رفعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صبيا) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي راكبا بالروحاء. محلة قرب المدينة فقال من القوم؟ قالوا المسلمون. فقالوا من أنت؟ فقال "رسول الله" (فقالت ألهذا حج؟ قال نعم) أي يكتب له حج فضلاً من الله ونعمة. وكذا أعمال البر كلها تكتب له. ولا تكتب عليه (ولك أجر) يكتبه الله لمن يأمره ويرشده إليه

(رواه مسلم) وأحمد وأبو داود والترمذي وصححه. وللبخاري عن السائب ابن يزيد قال "حج بي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن سبع" ولأحمد عن جابر "حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معنا النساء والصبيان. فنلبي عن الصبيان ورمينا عنهم" وبعث ابن عباس في الثقل ولم يبلغ. فيصح من الصبي نفلاً اتفاقًا. إلا أن أبا حنيفة قال لا يتعلق به وجوب الكفارات ولا يجب عليه الحج بالاتفاق لأنه غير مكلف. ولا يجزئ عن حجة الإسلام. قال الترمذي والوزير وغيرهما أجمع أهل العلم على أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك فعليه الحج إذا وجد وأدرك. وصح عن ابن عباس "أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى" ولأنه فعله قبل وجوبه فلم يجزئه إذا صار من أهله. ويعقد الإحرام ولي الصبي. والأم تقوم مقامه لقوله "ولك أجر" فلم يستفصل. ولقول جابر أحرمنا عن الصبيان، ويحرم المميز بإذن وليه. ويفعل ما يعجزه. لقول جابر لبينا عن الصبيان ورمينا عنهم. اي نيابة عنهم رواه أحمد. وطاف أبو بكر بابن الزبير في خرقة رواه الأثرم. وإذا كان له أجر فمن لازمه أن يوقف به المواقف كلها. ويطاف به إن لم يطق المشي. وكذا السعي ونحوه. وقال الشيخ إن لم يمكنه الطواف ماشيًا فطاف به راكبا أو

محمولا أجزأ اتفاقا. وكانت عائشة تجرد الصبيان إذا دنوا من الحرم. وقال عطاء وغيره يفعل به كما يفعل بالكبير. ويشهد المناسك كلها. إلا أنه لا يصلي عنه. ويجتنب في حجه ما يجتنبه الكبير من المحظورات. ويقع لازما كالمكلف. وإن فسد أو دخله نقص وجب جبرانه كالكبير. والوجوب متعلق بالولي. والرقيق كالصغير يصح منه نفلا إجماعا. وإن عتق فعليه الحج إن استطاع. قال الترمذي وغيره أجمع أهل العلم أن المملوك إذا حج في رقه ثم عتق فعليه الحج إذا وجد. ولا يجزئ عنه ما حج في حال رقه. (وعنه) أي ابن عباس (أن امرأة من خثعم) علم علي القبيلة المشهورة باسم جدها. واسمه أفتل بن أنمار وكان ذلك في حجةالوداع بمنى بعد الرمي عند المنحر والفضل بن عباس رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - (قالت يا رسول الله إن فريضة الله في الحج) أي لما نزلت (أدركت أبي شيخًا كبيرًا) أي حال كونه شيخا كبيرًا (لا يستطيع أن يستوي على الراحلة). وفي لفظ لا يثبت على الراحلة يعني لضعفه من الكبر. وإن شددته خشيت عليه. وفي معنى الراحلة ما حدث من المراكب البرية والبحرية والهوائية. ولأحمد والترمذي وصححه من حديث علي جاءته امرأة شابة من خثعم فقالت إن أبي كبير وقد أفند أي هرم وأدركته فريضة الحج ولا يستطيع أداءها. والمعنى

أنه وجب عليه الحج بأن أسلم وهو بهذه الصفة فيجزء عنه أن أؤديها عنه وهل لها أجر. ولأحمد والنسائي من حديث عبد الله بن الزبير قال جاء رجل من خثعم. وفيه "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان يجزئ ذلك عنه" قال نعم. ففي بعض الروايات أنه رجل. والأكثر أنه امرأة وذكر الحافظ طرقه. ثم قال الذي يظهر الذي يظهر من مجموعها أن السائل رجل وكانت ابنته معه فسألت. وكان معلوما عندهم فريضة الحج (قال فحجي عنه متفق عليه) وفي لفظ أفأحج أنا نيابة عنه قال؟ "نعم" وذلك في حجة الوداع. ولفظه للرجل "فأحجج عنه" والمراد أنه وجب عليه الحج وهو بهذه الصفة. فدل على أنه يجزئ عنه إذا كان مأيوسًا منه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه وكذا ثقل لا يثبت عل الراحلة. وما في معناها إلا بمشقة غير محتملة. ويسمى العاجز عن السعي لزمانة ونحوها المعضوب. من العضب وهو القطع. كأنه قطع من كمال الحركة والتصرف. ومن وجد الاستطاعة وهو معذور أو طرأ عليه العذر وجب عليه باتفاق أهل العلم وعند الجمهور يلزم أن يقيم من يحج عنه ويعتمر عنه فورا عند الشافعي وأحمد وغيرهما. ويجزئ من حيث وجب. ويقع الحج عن المحجوج عنه. قال الترمذي قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب غير حديث

والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبه يقول الشافعي وأحمد. وقوله "فدين الله أحق بالقضاء" قال الشيخ فجعل الشارع عمل الغير عنه يقوم مقام فعله فيما عجز عنه. مثل من وجب عليه الحج وهو معضوب أو مات ولم يحج. أو نذر صوما أو غيره ومت قبل فعله فعله عنه وليه. دين الله أحق بالقضاء. أي أحق أن يستوفي من وارث الغريم. لأنه أرحم من العباد. فهذا تشهد له الأصول اهـ. ولا يصح عن مريض أو مجنون يرجى برؤهما. واتفق القائلون بإجزاءا لحج عن فريضة الغير أنه لا يجزئ إلا عن موت أو عدم قدرة من عجز ونحوه. وإن عوفي بعد فراغ النائب من النسك فكما لو لم يبرأ لأنه أتى بما أمر به فخرج من العهدة وقال الشيخ المعضوب إذا أحج عن نفسه ثم برأ لا يلزمه إعادة الحج من غير خلاف أعلمه. واتفقوا على أنه إن عوفي قبل إحرام النائب عنه لم يجزئه للقدرة على المبدل قبل الشروع. في البدل. كالمتيمم يجد الماء. وكما لو استناب من يرجى زوال علته. والجمهور على أنه لا يجزئ لو عوفي بعد الإحرام. وقبل فراغ النسك. لأنه تبين أنه لم يكن مأيوسا منه. قال في المبدع وهو الأظهر عند الشيخ تقي الدين. ويصح عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما أن يستنيب قادر وغيره وفي نفل حج أو بعضه للتوسعة في النفل. وكالصدقة. ولأنها لا تلزم القادر ولا غير القادر بنفسه. فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب.

(وعن أنس) رضي الله عنه قال (قيل يا رسول الله ما السبيل) أي الذي ذكر الله في الآية (قال الزاد والراحلة رواه الدارقطني) والبيهقي وغيرهما وصححه الحاكم ورجح الحافظ إرساله. وأخرجه الترمذي وغيره من حديث ابن عمر وغيره وحسنه. وقال الحافظ في إسناده ضعف. وله طرق لا تخلو من مقال إلا أنها جاءت من طرق يقوي بعضها بعضًا فتصلح للاحتجاج بها. وتقدم قول الشيخ أنه جاء من طرق تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة. وهو قدر زائد على القدرة المعتبرة في جميع العبادات. وهو مطلق المكنة. والمراد هنا كفاية فاضلة عن كفايته وكفاية من يعول حتى يعود. لقوله "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول" وبعد قضاء الواجبات من الديون والكفارات والنذور والحوائج الأصلية. والكفاية المعتبرة وجود زاد وراحلة بكراء أو شراء لذهابه وعودته. ويعتبر الزاد مع قرب المسافة وبعدها إن احتاج إليه. فإن وجده في المنازل لم يلزمه حمله إن وجده يباع بثمن مثله. والزاد ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة. وتعتبر الراحلة مع بعد المسافة فقط. ولو قدر على المشي. والمعتبر في حق كل أحد ما يليق بحاله عرفا وعادة. لاختلاف أحوال الناس. فإذا كان ممن يكفيه الرحل والقتب ولا يخشى السقوط اكتفى بذلك.

وإلا اعتبر وجود محمل وما أشبهه مما لا يخشى سقوطه عنه. ولا مشقة فيه. وإن لم يكن ممن يقدر على خدمة نفسه اعتبر من يخدمه. وإن أمكنه من غير ضرر يلحقه أو غيره. مثل من يكتسب بصناعة كالخراز أو مقارنة من ينفق عليه أو يكتري لزاده ولا يسأل الناس استحب له الحج ويكره لمن حرفته المسألة. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. وأكثر أهل العلم. وقال مالك ليستا من شرط وجوبه. فإذا قدر راجلاً وله صنعة أومن عادته السؤال فهو مستطيع. وما عليه الجمهور هو مقتضى القواعد الشرعية. ونقل ابن الجوزي الإجماع على أن اكتساب الزاد والراحلة لا يجب. فتقرر أن تحصيل سبب الوجوب لا يجب ولا يصير مستطيعًا ببذل غيره. قال الشيخ وكل عبادة اعتبر فيها المال فالمعتبر ملكه. ولا القدرة على ملكه. كتحصيله بصنعة أو قبول هبة. أو مسألة أو أخذ من صدقة أو بيت مال اهـ. ـ. فإن قبل المال المبذول وقدر به وجب عليه الحج إجماعا. ويعتبر أمن الطريق. لأن عدم ذلك ضرر. وهو منتف شرعا. ولا يتأتى الحج بدونه. وإن استوى السلامة والهلاك فاختار الشيخ وغيره الكف وإن قتل فقال الشيخ أعان على نفسه فلا يكون شهيدًا وإن غلب الهلاك لم يلزمه إجماعا في البحر. وإن كان غالبه السلامة وجب اتفاقا.

(وعن ابن عباس) رضي الله عنه (أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول لا تسافر المرأة) في كل ما يسمى سفرا (إلا مع ذي محرم متفق عليه) ولمسلم من حديث أبي سعيد "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها" أي فيحل لها السفر معه. والمحرم هو زوجها أو من تحرم عليه بنسب أو سبب مباح. وفيه فقال رجل فقال يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وليس معها محرم وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا فقال "فانطلق فحج مع امرأتك" وللدارقطني وصححه أبو عوانة من حديث عمرو بن دينار "لا تحج امرأة إلا ومعها ذو محرم" وفي لفظ "مسيرة يوم" وفي لفظ "يومين" وفي لفظ "ثلاث" ولعله لتعدد القضايا. وقال النووي ليس المراد من التحديد ظاهره. بل كلما يسمى سفرا فالمرأة منهية عنه إلا بمحرم. وإنما التحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمعهوده. وقال الشيخ وغيره كلما يسمى سفرا فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم. ولا يجب عليها مع عدمه. فيعتبر لوجوب الحج على المرأة وجود محرم لها زيادة على ما تقدم من الشروط. وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وأحد قولي الشافعي. وذهب مالك وغيره إلى عدم اشتراطه. قال ابن المنذر

تركوا القول بظاهر الحديث. واشترط كل واحد ما لا حجة معه عليه وقال أحمد المحرم من السبيل فمن لم يكن لها محرم لم يلزمها الحج بنفسها ولا بنسائها. فالمحرم في حق المرأة من جملة الاستطاعة على السفر التي أطلقها القرآن مع النص الصريح باشتراط المحرم في سفر الحج بخصوصه. وإباحة الخروج لها في سفر الحج مع عدم هذا الشرط خلاف السنة. ونفقة محرمها عليها. فيشترط في وجوبه عليها ملك زاد وراحلة لها ولمحرمها. ولا يلزمه مع بذلها ذلك سفره معها. وإن أيست استنابت. وإن حجت بدونه أثمت بارتكاب النهي وأجزأ اتفاقا وأجمعوا على عدم جواز السفر لها بلا محرم سدا لذريعة ما يحاذر منه الفتنة وغلبات الطباع. واستثني مواضع الضرورة كالخروج من بلد الشرك. وانقطاعها في برية ونحو ذلك. لحديث عائشة في قصة الإفك. وعند الشيخ تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم. وإماء المرأة يسافرون معها ولا يفتقرون إلى محرم. لأنهن لا محرم لهن في العادة الغالبة. (وعنه أن امرأة من جهينة) قبيلة مشهورة من قضاعة (قالت يا رسول الله إن أمي) توفيت وقد (نذرت أن تحج) وكان معلوما عندهم في الجاهلية وجوب الوفاء بالنذر (فلم تحج) يعني ما نذرته (حتى ماتت) وظاهره أنها أدركت الإسلام قالت الجهينية (أفأحج عنها)؟ فأقضي ما نذرته (قال نعم حجي عنها) أي تلك الحجة التي نذرتها أمك (أرأيت لو

كان على أمك دين) يعني لآدمي (أكنت قاضيته). فيه دليل على أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله. كما أن عليه قضاء ديونه. وقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس ماله. فكذا ما شبه به في القضاء. ويلحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من نذر أو كفارة أو زكاة أو غير ذلك (أقضوا الله) أي حقه اللازم عليكم من نذر وغيره (فالله أحق بالوفاء) وأداء الواجبات (رواه البخاري) وله نحوه وفيه جاء رجل فقال إن أختي نذرت أن تحج. وللدارقطني عن ابن عباس: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال إن أبي مات وعليه حجة الإسلام افأحج عنه؟ قال "أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه أقضيته عنه" قال نعم. قال "فاحجج عن أبيك" وظاهره لا فرق بين الواجب بأصل الشرع أو بإيجابه على نفسه. ولأنه حق استقر عليه فلن يسقط بموته. سواء فرط بالتأخير أو لا. وفيها دليل على جواز حج الولد وغيره عن الميت حجة الإسلام بعد موته. وإن لم يقع منه وصيته. ولا نذر. ويسقط بحج أجنبي عنه. لا عن حي بلا إذنه. كدفع زكاة مال غيره بلا إذنه. لا إن جعل ثوابه له. ويحج النائب من حيث وجب الحج على الميت. لأن القضاء

يكون بصفة الأداء وإن ضاق ماله حج به عنه من حيث بلغ. لقوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وإن مات من وجب عليه في الطريق حج عنه من حيث مات مسافة وقولا وفعلا. قال الشيخ وغيره ويقع الحج عن المحجوج عنه كأنه فعله بنفسه. سواء كان من جهة المنوب عنه مال أو لم يكن. ويكون الفاعل بمنزلة الوكيل والنائب. لأنه ينوي الإجرام عنه ويلبي عنه. ويكفي نية النسك. ولا تعتبر تسمية المنوب عنه لفظا. وإن جهل اسمه أو نسيه لبى عمن أسلم عنه المال. ليحج به عنه. وإن أحرم عن اثنين وقع عن نفسه اتفاقا. لأنه لا يقع عنهما. وإن نسي عينه بالإحرام بتفريطه أعاد الحج. وإن فرط الوصي غرم. والنائب أمين فيما يعطاه ليحج منه. ويرد ما فضل إلا أن يؤذن له فيه. وكرهت الإجارة عليه. لأنها بدعة. والأجير إنما يبيع عمله لمن استأجره. والحج من شرطه أن يكون قربة لفاعله. فلا يجوز الاستئجار عليه. لأن الله أوجب على العبد أن يعمل مناسكه لله كلها. وتعبده بذلك. فلو أنه عملها بعوض من الناس لم يجزئه إجماعا. فإذا عجز عن ذلك بنفسه جعل الله عمل غيره قائما مقام عمل نفسه. لما ثبت بالنص. وسادا مسده رحمة منه تعالى ولطفا فلا بد أن يكون مثله ليحصل به مقصوده.

وإذا كان هذا العامل إنما يعمل للدنيا ولأجل العوض الذي أخذه لم يكن حجه عبادة لله وحده. فلا يكون من جنس ما كان على الأول. وإنما تقع النيابة المحضة ممن غرضه نفع أخيه المسلم. لرحم بينهما أو صداقة. كما هو في الأخبار أو غير ذلك. وله قصد في أن يحج بيت الله الحرام ويزور تلك المشاعر العظام. فيكون حجه لله. فيقام مقام حج المستنيب. واستحب بعضهم أن يحج عن أبويه إن كانا ميتين أو عاجزين. ويقدم أمه لأنها أحق بالبر. ويقدم واجب أيبه لإبراء ذمته. وعن زيد بن أرقم مرفوعا "إذا حج الرجل عن والديه يقبل عنه وعنهما واستبشرت أرواحهما في السماء وكتب عند الله برا" رواه الدارقطني. وله عن جابر نحوه. وتقدم ذكر ما في فعل القرب وإهدائها لقريب ونحوه. وأن فعلها عن نفسه ودعاءه لهم أفضل. وأنه الذي استمر عليه عمل السلف. (ولأبي داود عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة) أي نيابة عنه في الحج والعمرة (قال من شبرمة) المنوب عنه (قال أخ لي) أي من النسب أو قريب لي شك من الراوي (قال) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي سمعه يلبي عن شبرمة (حججت عن نفسك) وروي يا ابن نبيشة (قال لا) أيلم أحج عن نفسي (قال حج عن نفسك) يعني أولا (ثم حج عن شبرمة) قال الحافظ رواته ثقات. وله شاهد مرسل.

ورواه ابن ماجه وفيه "فاجعل هذه عن نفسك. ثم احجج عن شبرمة" والدارقطني وفيه قال "هذه عنك" اي: استدمه "وحج عن شبرمة" وصححه ابن حبان والبيهقي. وقال ليس في هذا الباب أصح منه. ورجح أحمد والحافظ وقفه. فيقوى المرفوع. لأنه من غير لجاله. وهو عبدة بن سليمان. قال الحافظ ثقة وتابعه غيره. ومال في التلخيص إلى صحته. وقال الشيخ حكم أحمد في رواية صالح أنه مرفوع. فيكون قد اطلع على ثقة من رفعه. وقال قد رفعه جامعة على أنه وإن كان موقوفا فليس لابن عباس فيه مخالف فدل على أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه. فإن أحرم عن غيره فإنه ينعقد إحرامه عن نفسه لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجعله عن نفسه بعد أن لبى عن شبرمة. فدل على أنها لم تنعقد النية عن غيره. وإلا لوجب عليه المضي فيه. وذلك لأن إحرامه عن الغير باطل لأجل النهي والنهي يقتضي الفساد. وبطلان صفة الإحرام لا توجب بطلان أصله. وهذا قول أكثر الأمة: إنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه مطلقا. مستطيعًا كان أو لا. لأن ترك الاستفصال والتفريق في حكاية الأحوال دال على العموم. ولأن الحج واجب في أول سنة من سني الإمكان. فإذا أمكنه فعله عن نفسه لم يجز أن يفعله عن غيره.

(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعا) أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (العمرة إلى العمرة) اي العمرة حال كون الزمن بعدها ينتهي إلى العمرة (كفارة لما بينهما) يعني من الصغائر إن كانت. ولأحمد من حديث عامر "كفارة لما بينهما من الذنوب والخطايا" قال الشيخ فيه إشارة إلى أن كبار الطاعات تكفر ما بينها. لأنه لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - كفارة لصغار ذنوبه بل إطلاقه يتناول الصغائر والكبائر. وقال من عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها في القلوب من الإيمان وإن كان متفاضلا بلا ريب. وأنه لا يعلم مقاديره إلا الله عرف أن ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق. ولم يضرب بعضه ببعض. وقد يفعل النوع الواحد بكمال إخلاص وعبودية فيغفر له الكبائر. ورد ذلك في صاحب السجلات مع البطاقة. والبغي التي سقت الكلب فغفر لها اهـ. وفيه دلالة على استحباب الإكثار من الاعتمار. وقال الوزير وغيره أجمعوا أن فعلها في جميع السنة جائز. فقد ندب - صلى الله عليه وسلم - عليها. وفعلها أشهر الحج ويكفي كونه أعمر عائشة من التنعيم سوى عمرتها التي كانت أهلت بها. فهو أصل في جوازها في شهر بل أقل. ولا وجه للمنع منها في جميع الأوقات ما لم يكن متلبسا بالحج. كما قاله الشيخ وغيره. فلا تكره يوم النحر ولا يوم عرفة. ما لم يكن متلبسًا بالحج. وحكي اتفاقا.

وفي المبدع تكره الموالاة بينها باتفاق السلف. وهذا الحديث يدل على التفريق بينها وبين الحج في التكرار. وينبه على ذلك إذ لو كانت لا تفعل في السنة إلا مرة لسوى الشارع بينهما. واستحب بعضهم وقوعها في رمضان. لما صح أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أم معقل لما فاتها الحج معه أن تعتمر في رمضان. وأخبرها أن عمرتها في رمضان تعدل حجة. ولكن كانت عمره - صلى الله عليه وسلم - كلها في أشهر الحج مخالفة لهدي المشركين. فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج. وقال ابن سيرين ما أحد من أهل العلم يشك أن عمرة في أشهرالحج أفضل من عمرة في غير أشهر الحج. قال ابن القيم وهذا دليل على أن الاعتمار في أشهر الحج أفضل من سائر السنة. بلا شك سوى رمضان لخبر أم معقل. ولكن لم يكن الله ليختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلا أولى الأوقات وأحقها بها. فكانت في أشهر الحج نظير وقوع الحج في أشهره. وهذه الأشهر قد خصها الله بهذه العبادة. وجعلها وقتًا لها. العمرة حج أصغر. فأولى الأزمنة بها أشهر الحج. وقد يقال إنه يشتغل في رمضان من العبادات ما هو أهم منها فأخرها إلى أشهر الحج. مع ما فيه من الرحمة لأمته. فإنه لو فعله لبادرت إليه. ولم يخرج من مكة ليعتمر كما يفعله أهل مكة. وقال العمرة التي شرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعلها نوعان. لا ثالث لهما عمرة التمتع. وهي التي أذن فيها عند الميقات وندب

إليها في أثناء الطريق. وأوجبها على من لم يسق الهدي عند الصفا والمروة. والثانية العمرة المفردة التي ينشئ لها سفرًا كعمرته - صلى الله عليه وسلم -. ولم يشرع عمرة مفردة غيرها. وفي كليهما المعتمر داخل إلى مكة. وأما عمرة الخارج منها إلى أدنى الحل فلم تشرع ولم يقل لأهل مكة اخرجوا إلى أدنى الحل فأكثروا من الاعتمار فإن عمرة في رمضان تعدل حجة. ولا فهم هذا أحد من أصحابه ولا السابقين الأولين. وأما عمرة عائشة فزيادة محضة. وإلا فعمرة قرانها قد أجزأت عنها بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكره هو والشيخ وغيرهما الخروج من مكة لعمرة تطوعًا. وقالوا إنه بدعة لم يفعله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه على عهده إلا عائشة تطييبا لنفسها. وكانت طلبت منه أن يعمرها. وقد أخبرها أن طوافها وسعيها قد أجزأها عن حجها وعمرتها. فأبت عليه إلا أن تعتمر عمرة مفردة. وكانت لا تسأله شيئًا إلا فعله. فلم يخرج لها في عهده غيرها لا في رمضان ولا في غيره اتفاقا. ولم يأمر عائشة بل أذن لها بعد المراجعة ليطيب قلبها. وقالا طوافه وعدم خروجه لها أفضل اتفاقًا. (والحج المبرور) أي المقبول الذي لم يخالطه شيء من الإثم قد وفت أحكامه فوقع على الوجه الأكمل. والبر الطاعة وقيل المبرور المتقبل (ليس له جزاء إلا الجنة) أي إلا دخول الجنة

وقال الشيخ أي ز ادت قيمته فلم يقاومه شيء من الدنيا. وإلا فمطلق الدخول يكفي فيه الإيمان (متفق عليه) وفي الصحيح "أفضل الجهاد حج مبرور" "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" أي مشابها لنفسه في أنه يخرج بلا ذنب كما خرج بالولادة. وللترمذي وصححه "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة" "وليس للحج ثواب إلا الجنة" وجاء "وإن الحج يهدم ما كان قبله" "وإن النفقة فيه كالنفقة في سبيل الله" بسبعمائة ضعف. وجاء في فضله والحث عليه أحاديث وآثار كثيرة مستفيضة. تتمة وإذا لم يكن فرضًا ولم يعزم فليستشر من يثق به ويستخير الله تعالى فيصلي ركعتين ويدعو في آخرها بما تقدم. قال الشيخ وقبل السلام أفضل. وإذا استقر عزمه فليبادر فعل كل خير ويبدأ بالتوبة من جميع المعاصي والمكروهات. ويخرج من المظالم بردها لأربابها. وكذا الودائع والعواري والديون. ويستحل من له عليه ظلامه ومن بينه وبينه معاملة أو مصاحبة ويستمهل من لا يستطيع الخروج من عهدته. ويكتب وصيته. ويوكل من يقضي ما لم يتمكن من قضائه. ويترك لمن تلزمه نفقته نفقتهم إلى حيث رجوعه.

ويرضى والديه ومن يتوجه عليه بره وطاعته. ويحرص أن تكون نفقته حلالا. ويستكثر من الزاد والنفقة. ويكون طيب النفس بما ينفقه ليكون أقرب إلى قبوله. قال الشيخ ومن جرد مع الحاج من الجند المقطعين وجمع له ما يعينه على كلفة الطريق أبيح له أخذه. ولا ينقص أجره. وله أجر الحاج بلا خلاف. ويجتهد في رفيق صالح. وإن تيسر عالم فليستمسك بغرزه. يكون سببا في بلوغه رشده ويجب تصحيح النية. ويصلي في منزله ركعتين. ثم يقول اللهم هذا ديني وأهلي ومالي ووليد وديعة عندك. الله أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال والولد. اللهم أصبحنا في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى. ويودع أهله وجيرانه وسائر أحبابه. ويودعونه. ويقول كل منهم استودعك الله الذي لا يضيع ودائعه. أو استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك. زودك الله التقوى. وغفر ذنبك ويسر لك الخير حيثما كنت. للأخبار. ويدعو له من يودعه. ويطلب منه الدعاء. فيقول لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك. ويقول: آمنت بالله وتوكلت على الله. اللهم إني أعوذ بك أن أضل إلخ. بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإذا أراد ركوب دابته قال بسم الله. الحمد لله الذي سخر

لنا هذا إلخ. ولا يستصحب كلبًا ولا يعلق على دابته جرسًا ولا قلادة من وتر ونحوها. للخبر. ويراعي مصلحة الدابة. وإذا عرس اجتنب الطريق. فإنها طريق للدواب ومأوى لهوام الليل. ويسن مساعدة الرفيق. وإذا كان معه فضل ظهر أو زاد عاد به على من لا ظهر له ولا زاد. ويستعمل الرفق وحسن الخلق. ويجتنب المخاصمة والمزاحمة. ويصون لسانه من الشتم والغيبة. وجميع الألفاظ القبيحة. وهذه الأمور مجمع عليها. ويستحب أن يكبر إذا صعد الثنايا ونحوها. ويسبح إذا هبط. وإذا أشرف على قرية قال اللهم إني أسألك خيرها إلخ. ويستحب أن يدعو في جميع سفره. فإن دعاءه مستجاب. وإذا جنه الليل قال يا أرض ربي وربك الله الحديث. وإذا نزل منزلا قال أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق. وإذا فرغ عجل إلى أهله، ويقول في رجوعه آئبون تائبون الحديث. ويخبرهم لئلا يقدم بغتة ويكره أن يطرقهم ليلا بغير عذر. ويبدأ بالمسجد فيصلي ركعتين. ويستحب أن يقال للقادم من الحج قبل الله حجك وغفر ذنبك وأخلف نفقتك.

باب المواقيت

باب المواقيت جمع ميقات كمواعيد وميعاد لغة الحد. والتوقيت التحديد. وبيان مقدار المدة. وأصله أن يجعل للشيء وقت يختص به ثم اتسع فيه فأطلق على المكان. واصطلاحا موضع العبادة وزمنها. واعلم أن البيت الحرام لما كان معظمًا مشرفًا جعل له حصن وهو مكة. وحمى وهو الحرم. وللحرم حرم وهو المواقيت. حتى لا يجوز لمن دونه أن يتجاوزه إلا بالإحرام تعظيمًا لبيت الله الحرام. قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي وقت الحج أشهر معلومات. حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. فخصصه الله تعالى من بين سائر شهور السنة وفي الصحيح عن ابن عباس: من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج. وروي مرفوعا "لا ينبغي أن يحرم بالحج إلا بأشهره" قال ابن كثير وغيره لا بأس به. قال الموفق وغيره يكره أن يحرم بالحج قبل أشهر الحج بغير خلاف علمناه. ولا ينعقد عند الشافعي. وعند الجمهور: مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم ينعقد مع الكراهة، ولا نزاع في افضليته في أشهره لموافقته الأحاديث الصحيحة وفعله - صلى الله عليه وسلم -. وكالمكاني. (قال ابن عمر) وجمع من الصحابة منهم عمر وعلي وابن مسعود وابن الزبير وابن عباس وغيرهم (أشهر الحج) أي التي شرع الله الإحرام بالحج فيها ثلاثة. وحكي إجماعا (شوال)

مأخوذ من شالة الإبل بأذنابها للطراق (ذو القعدة) لقعودهم عن القتال فيها والترحال (وعشر من ذي الحجة) لإقامتهم الحج فيه. وقاله جماعة من التابعين وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وابن جرير وغيرهم. قال وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب. وقال مالك وذو الحجة جميعه. وقال الوزير ليست له فائدة تخصه حكمية ومن عشر ذي الحجة يوم النحر. وهو يوم الحج الأكبر وإنما فات الحج بفجر يوم النحر بخروج وقت الوقوف لا لخروج وقت الحج. فهذا وقت الحج الزماني. (وعن ابن عباس مرفوعًا "عمرة في رمضان تعدل حجة" متفق عليه) أي في الثواب، لا أنها تقوم مقامها في إسقاط فرض الحج للإجماع على أن الاعتمار لا يجزء عن حج الفرض. وفيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت. وتقدم أن الله اختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - العمرة أشهر الحج. وهذا الحديث دليل على أن رمضان وقت لفعل العمرة وهو اتفاق. وكذا جميع السنة وقت لفعل العمرة وتقدم أنها في أشهر الحج أفضل لاختيار الله ذلك لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت) أي جعل ميقاتا للإحرام. والمراد بالتوقيت هنا بالتحديد. أو تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بالشروط المعتبرة (لأهل المدينة ذا الحليفة) ولهما من حديث ابن عمر قال "يهل أهل المدينة من

ذي الحليفة" وفي لفظ "أمر أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة" والحليفة تصغير الحلفة بفتحتين واحدة الحلفات. نبات معروف. قال الشيخ وتسمى وادي العقيق ومسجدها يسمى مسجد الشجرة. وفيها بئر تسميها العامة بئر علي. لظنهم أن عليا رضي الله عنه قاتل فيها الجن. وهو كذب. وهي أبعد المواقيت من مكة. بينها وبين مكة عشر مراحل أو أقل أو أكثر بحسب اختلاف الطرق. فإن منها إلى مكة عدة طرق. وبينها وبين المدينة ستة أميال وتعرف اليوم بآبار علي. وهي قرية خربة. وفيها اليوم عشش قليلة. (ولأهل الشام) زاد النسائي من حديث عائشة ومصر وزاد الشافعي والمغرب (الجحفة) بضم الجيم. قال الشيخ وغيره كانت قرية قديمة كبيرة معمورة جامعة. وكانت تسمى مهيعة. فجحف السيل بأهلها فسميت الجحفة بقرب رابغ علىيسار الذاهب إلى مكة. وهي اليوم خراب. ولهذا صار الناس يحرمون قبلها من المكان الذي يسمى رابغا. ومن أحرم منه فقد أحرم قبل محاذات الجحفة، وليس الإحرام منه مفضولا لضرورة انبهام الجحفة على أكثر الحاج ولعدم مائها. قال الشيخ وهذا ميقات لمن حج من ناحية المغرب كأهل الشام ومصر وسائر المغرب. لكن إذا اجتازو بالمدينة النبوية كما يفعلونه في هذه الأوقات احرموا من ميقات أهل المدينة فإن هذا هو المستحب لهم بالاتفاق. وكان بالجحفة غدير غم

وبينها وبين مكة خمس مراحل أو ست، وست أو سبع من المدينة. (ولأهل نجد) والطائف 0قرن المنازل) والمراد نجد اليمن ونجد الحجاز وهو ما بين جرش إلى سواد الكوفة وقرن بسكون الراء. قال الجوهري: ميقات أهل نجد. قال المهلبي: قرية. وفيه آثار ومساكن اليوم مشهورة بالسيل. وفي المعجم الوباءة موضع في وادي نخلة اليمانية عنده يكون مجتمع حاج البحرين واليمن وعمان. بينه وبين مكة مرحلتان. (ولأهل اليمن يلملم) ويقال ألملم وهو الأصل والياء تسهيل لها. وهو جبل من جبال تهامة. وقيل واد هناك يحرم منه أهل اليمن وفيه مسجد معاذ. وبينه وبين مكة مرحلتان. واليمن ما كان عن يمين الكعبة. كما أن الشام بالعكس. فإذا أتى من سواكن إلى جدة فإن رابغا ويلملم يكونان أمامه فيصل جدة قبل محاذاتهما فيحرم منها. لأنها على مرحلتين من مكة. (هن لهن) أي المواقيت المذكورة للبلدان المذكورة. والمراد أهلها أي للجماعات المذكورة فإن مقتضاه لهم. لكن عدل عن ذلك للتشاكل. وفي رواية (هن لهم) أي لأهلها الذي تقدم ذكرهم على حذف المضاف كما في رواية هن لأهلهن (ولمن أتى عليهن) أي على المواقيت (من غير أهلهن) أي أهل البلاد المذكورة. فإذا أراد الشامي الحج فدخل المدينة فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها. ولا يؤخر حتى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الأصلي. فإن

أخر أساء ولزمه دم عند الجمهور. وادعى النووي الإجماع على ذلك. تعقب بأن بعض المالكية يجيزه والخبر يرد ذلك. فإن قوله ولمن أتى عليهن من غير أهلهن يشمل الشامي وغيره إذا مر بذي الحليفة وغيرها. ولأن هذه المواقيت محيطة بالبيت كإحاطة جوانب الحرم. فكان من مر بجانب من جوانبه لزمه تعظيم حرمته. (ممن أراد الحج العمرة) فيجب أن لا يجاوزها إلا محرما باتفاق الأئمة حكاه الوزير وغيره. وقال الخطابي معنى التحديد في هذه المواقيت أن لا تتعدى ولا تجاوز إلا باستصحاب الإحرام. وإن لم يرد أحد النسكين أو كلاهما كمن قصد مكة لتجارة أوزيارة. فقال شيخ الإسلام ينبغي له أن يرحم. وفي الوجوب نزاع اهـ. لأنه - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت. وللشافعي قول يجب صححه جماعة لإطباق الناس عليه. ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنهم تجاوزوها إلى الحرم بغير إحرام إلا لقتال مباح إجماعا. أو خوف لدخوله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة وعلى رأسه المغفر. ولم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه الإحرام يومئذ. وعن ابن عباس مرفوعًا وفيه ضعف "لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام" وصح من قوله رضي الله عنه واختاره الأكثر. لأنه من أهل فرض الحج. ولعدم تكرر حاجته، ولأن الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة. فإن الله جعل البيت معظمًا وجعل المسجد الحرام فناء له وجعل مكة فناء للمسجد الحرام. وجعل

المواقيت فناء للحرم. والشرع ورد بكيفية تعظيمه. وهو الإحرام علي هيئة مخصوصة فلا يجوز تركه. وظاهر مذهب الشافعي جوازه. وهو رواية عن أحمد. واستظهره في الفروع. وحكاه أحمد وغيره عن ابن عمر وهي ظاهر النص. والاصل عدم الوجوب. ومن قال بجوازه ممن لم يقصد النسك كره تركه إلا أن يتكرر دخوله ولو تجاوزه بلا إحرام لم يلزمه قضاء الإحرام جزم به جماعة. ولأنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج والعمرة عند من أوجبها إنما تجب مرة واحدة. فلو وجب على كل من دخل مكة أن يحج ويعتمر لوجب أكثر من مرة. ومن دخل مكة لا ينوي نسكا ثم بدا له أحرم من حيث أراد ولا يلزمه أن يعود إلى ميقاته عند جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد. وأما من أراد نسكا وجاوزه لزمه أن يرجع ليحرم منه تداركا لتقصيره. لأنه واجب أمكنه فعله فلزمه كسائر الواجبات ما لم يخف فوت حجز أو على نفسه. فيحرم من موضعه. وعليه دم سواء كان لعذر أو لا اتفاقا لحديث ابن عباس مرفوعا "من ترك نسكا فعليه دم". وإن كان غير مكلف فلا دم عليه لأنه ليس من أهل فرض الحج. وكرقيق وكافر أسلم. قال الشيخ إنما يجب الإحرام على الداخل إذا كان من أهل وجوب الحج، وأما العبد والصبي والمجنون فيجوز لهم الدخول بغير إحرام. لأنه إذا لم تجب

عليهم حجة الإسلام وعمرته فلأن لا يجب عليهم الإحرام بطريق الأولى. (ومن كان دون ذلك) أي المذكور من المواقيت المحدودة (فمن حيث أنشأ) أي أنشأ الإحرام إذ السفر من مكانه إلى مكة. وفي لفظ "فمهله من أهله" أي يحرم من محل أهله كأهل عسفان وخليص اتفاقا. ولو من غير أهلها ممن جاوزها ثم بدا له النسك. فإن كان له منزلان جاز أن يحرم من أقربهما إلى مكة. والأولى من البعيد (حتى أهل مكة) أي يهلون بحج أو عمرة أو بهما (من مكة) وفي لفظ "حتى أهل مكة يهلون منها" (متفق عليه) أي يهلون من مكة وأنها ميقاتهم. سواء كانوا من أهلها أو من المجاورين أو الواردين إليها إجماعا فليس قوله "وأهل مكة" قيد إذ من كان بها من غير أهلها فحكمه كذلك. فلا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للإحرام منه. بل منها كالآفاقي الذي بينها وبين الميقات. ولمسلم عن جابر: "أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، فأهللنا من الأبطح" وظاهره لا ترجيح لموضع على موضع والأهلال أصله رفع الصوت لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام. ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعًا. وزعم المحب الطبري أنه لا يعلم أحدا جعل مكة ميقاتا للعمرة. وجوابه هذا الحديث المتفق على صحته. أنه - صلى الله عليه وسلم -

جعلها ميقاتا ويأتي ما وضحه الشيخ وابن القيم. وقال طاووس لا أدري الذين يعتمرون من التنعيم يؤجرون أو يعذبون. قيل له فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع البيت والطواف ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء اربعة أميال قد طاف مائتي طواف. وكلما طاف كان أعظم أجرا من أن يمشي في غير ممشى. (ولمسلم من حديث جابر) نحو حديث ابن عباس وابن عمر، ولفظه: أن ابن الزبير سمع جابرا سئل عن المهل؟ فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مهل أهل المدينة من ذي الحليفة" والطريق الآخر الجحفة. "مهل أهل العراق ذات عرق" بكسر العين وكانت قرية قديمة. ومن علاماتها المقابر القديمة؛ بينها وبين مكة مرحلتان وسمي بذلك لأن فيه عرقا وهو الجبل الصغير المشرف على العقيق. وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "وقت لأهل العراق ذات عرق" رواه أبو داود والنسائي ولأبي داود من حديث الحارث ابن عمرو السهمي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمنى أو عرفات وقد أطاف به الناس قال "ووقت ذات عرق لأهل العراق" وفي البخاري أن الذي وقت ذات عرق عمر رضي الله عنه. وتبعه الصحابة. وذلك أن عمر والله أعلم لم يبلغه الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاجتهد بما وافق النص وليس ببدع وقوع اجتهاده على وفق الشرع. وهذا الحديث له طرق وشواهد يجب العلم بمثلها مع

تعددها مجيئها مسندة ومرسلة من وجوه شتى. تثبت أن لهذا التوقيت أصلا. وقال ابن عبد البر ميقات بالإجماع. قال رضي الله عنه "ومهل أهل نجد من قرن ومهل أهل اليمن من يلملم. ورواه أحمد وابن ماجه ورفعاه من غير شك. وقال شيخ الإسلام هذه المواقيت كلها ثبتت بالنص والإجماع. ومن لم يمر بميقات أحرم إذا علم أنه حاذى أقربها منه. بحيث أنه إذا حاذى أحدهما يبقى بينه وبينه يوم وإذا حاذى الآخر يبقى بينه وبينه يومان. وهو عند محاذات أحدهما غير محاذ للآخر. فيحرم إذا حاذى الأقرب إليه. ولو كان الآخر ابعد من مكة. لقول عمر: فانظروا حذوها من طريقكم. رواه البخاري. وينبغي أن يحتاط مع جهل المحاذات. فيحرم من حذو الأبعد. وكذا من أول كل ميقات. ويتعين الاحتياط. وإن لم يحاذ ميقاتا احرم عن مكة بمرحلتين. ومن كان طريقه على ميقات كره أن يحرم قبل الميقات الذي وقته الشارع. وفعله فإنه - صلى الله عليه وسلم - أخر إحرامه من المدينة إلى الحليفة وبينهما ستة أميال في حجة الوداع. وكذا في عمرة الحديبية. وبلغ عمر إحرام عمران بن حصين من مصر فلامه وغضب. وقال يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - احرم من مصر ولام عثمان عبد الله على إحرامه من خراسان ولأبي يعلى عن أبي أيوب مرفوعا "يستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا

باب الإحرام

يدري ما يعرض له في إحرامه وقال مالك فيمن يحرم قبل الميقات يظن أنه أهدى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ريب أنما فعله أفضل. وينعقد قبلها مع الكراهة إجماعا. باب الإحرام أي باب بيان أحكام الإحرام والأنساك والتلبية وما يتعلق بذلك والإحرام لغة الدخول في التحريم لأنه يحرم على نفسه بنيته ما كان مباحًا له قبل الإحرام من النكاح والطيب والتقليم والحلق وأشياء من اللباس ونحو ذلك. وشرعا نية الدخول في النسك مع التلبية أو سوق الهدي لا نية أن يحج ويعتمر فإن ذلك لا يسمى إحراما. وكذا التجرد وسائر المحظورات. لكونه محرما بدونها. وقال الشيخ لا يكون الرجل محرما بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده. بل لا بد من قول أو عمل يصير به محرما. هذا هو الصحيح من القولين. قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} أي أوجب على نفسه الحج بالإحرام والتليبة. قال ابن عباس لا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم في أرض. وفيها دلالة على لزوم الإحرام بالحج. والمضي فيه. قال ابن جرير أجمعوا على أن المراد من الفرض ههنا الإيجاب والإلزام. وقال غير واحد الفرض الإحرام والتلبية.

وقال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} أي فمن كان منكم متمعا {بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} وهو يشمل من أحرم بهما معا أو أحرم بالعمرة أول. فلما فرغ منها أحرم بالحج. وهذا هو التمتع الخاص. وهو المعروف في كلام الفقهاء. والتمتع العام يشمل القسمين. وقال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) أنه الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج. ومنه القران. وفسخ الحج إلى العمرة اهـ. وأول الآية {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} اي أكملوا افعالهما بعد الشروع فيهما. وأجمعوا على أن الشروع فيهما ملزم. سواء قيل بوجوب العمرة أو باستجابها. وأجمعوا على جواز أدائهما على ثلاثة أوجه. التمتع والقران والأفراد. والتمتع أن يعتمر في أشهر الحج ثم بعد الفراغ من أعمال العمرة يحرم بالحج من مكة ويحج في عامة. والقران أن يحرم بهما معا أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل طوافها. والافراد أن يفرد الحج. واختلفوا في الأفضل: فقال جمهور أهل العلم التمتع أفضل. لأن الله نص عليه وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه لما طافوا وسعوا أن يجعلوها عمرة. إلا من ساق الهدي وثبت على إحرامه. لسوق الهدي. وتأسف بقوله "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت معكم" ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل. ولا يتأسف إلا على الأفضل. وقال عمر نزلت آية

التمتع في كتاب الله وأمرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم لم تنزل آية تنسخها ولم ينه عنها حتى مات. وأحاديث التمتع متواترة رواها أكابر الصحابة. وهو قول عمر وابن عباس وجمع. ولاتيانه بأفعالهما كاملة على وجه اليسر والسهولة. قال الترمذي وأهل الحديث يختارون التمتع بالعمرة في الحج وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. ثم القرآن لفعله - صلى الله عليه وسلم -. واختار الشيخ وابن القيم أنه الأفضل لمن ساق الهدي. قال ومحال أن يكون حج أفضل من حج خير القرون وأفضل العالمين مع نبيهم. وقد أمرهم أن يجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي فمن المحال أن يكون غيره أفضل منه إلا حج من قرن وساق الهدي كما اختاره الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فأي حج أفضل من هذين. وقد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى إيجاب القران على من ساق الهدي. والتمتع علىمن لم يسقه. منهم ابن عباس لفعله وأمره - صلى الله عليه وسلم -. ثم الإفراد لأن فيه إكمال افعال ابن سكين وهو أفضلها عند مالك والشافعي وهو قول عمر وعثمان وجمع. وإن أفرد الحج بسفرة ثم قدم في أشهر الحج فإنه يتمه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال شيخ الإسلام التحقيق أنه يتنوع باختلاف حال الحاج فإن كان يسافر سفرة للعمرة وللحج سفرة أخرى أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج ويعتمر ويقيم بها، فهذا. الافراد له أفضل باتفاق الأئمة.

وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس وهو أن يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة. ويقدم مكة في أشهر الحج. فهذا إن ساق الهدي فالقرآن أفضل له. وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل له. فإنه قد ثبت بالنقول المستفيضة التي لم يختلف في صحتها أهل العلم بالحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حج حجة الوداع هو وأصحابه أمرهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي. فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ساق الهدي هو وطائفة من أصحابه. وقرن هو بين العمرة والحج ولم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عائشة وحدها. لأنها كانت قد حاضت فلم يمكنها الطواف فأمرها أن تهل بالحج وتدع أفعال العمرة لأنها كانت متمتعة. ثم إنها طلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعمرها فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن فاعتمرت من التنعيم. ولم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر. لا في رمضان ولا في غيره. والذين حجوا معه - صلى الله عليه وسلم - ليس فيهم من اعتمر بعد الحج من مكة إلا عائشة. ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين. والذين استحبوا الأفراد من الصحابة إنما استحبوا أن يحج ويعتمر عقب ذلك عمرة مكية. بل هذا لم يكونوا يفعلونه قط إلا أن يكون شيئًا نادرًا.

(وعن زيد بن ثابت) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإحرامه) أي من ثياب المخيط كالقميص والسراويل قبل نية الإحرام قال الشيخ والتجرد من اللباس واجب في الإحرام. وليس بشرط فيه. فلو أحرم وعليه ثياب صح ذلك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وباتفاق أئمة أهل العلم. وعليه أن ينزع اللباس المحظور (واغتسل حسنه الترمذي) وأخرجه البيهقي والدارقطني والطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن عباس اغتسل ثم لبس ثيابه. وفيه ضعف. وصح عنابن عمر أنه قال من السنة أن يغتسل إذا أراد الإحرام. وإذا أراد دخول مكة. وكان ابن عمر يتوضأ أحيانًا ويغتسل أحيانًا. والغسل أفضل لاختياره - صلى الله عليه وسلم - ولأنه أعم وأبلغ في التنظيف. والمراد منه تحصيل النظافة وإزالة الرائحة وهو أبلغ اغتسالات الحج قال الشيخ ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال غسل عن الإحرام. والغسل عند دخول مكة. والغسل عند دخول عرفة. وما سوى ذلك كالغسل لرمي الجمار والطواف بالبيت والمبيت بمزدلفة فلا أصل له. لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه ولا استحبه جمهور الأئمة لا مالك ولا أبو حنيفة ولا أحمد. وإن كان قد ذكره طائفة من متأخري أصحابه. بل هو بدعة إلا أن يكون هناك سبب يقتضي الاستحباب. مثل أن يكون عليه رائحة يؤذي الناس بها.

فيغتسل لإزالتها. وقال فتركه الاغتسال للمبيت والرمي والطواف يعني بدون سبب هو السنة. والقول بخلاف ذلك خلاف السنة. (وعن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء) أي بنت عميس (وهي نفساء أن تغتسل) فدل على سنية الاغتسال مطلقا لأن النفساء إذا أمرت به مع أنها غير قابلة للطهارة كالحائض فغيرها أولى (وتحرم رواه مسلم) وغيره ففيه صحة إحرام النفساء ومثله الحائض. وأولى منهما الجنب. وهو إجماع. ولفظه "أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع فقال "اغتسلي واستثفري بثوب واحرمي" وفي لفظ لأبي بكر "مرها لتغتسل ثم لتهل" أي تحرم وتلبي. وأمر عائشة أن تغتسل لإهلال الحج. وهي حائض متفق عليه. والحكمة في اغتسالهما التنظيف وقطع الرائحة الكريمة لدفع أذاها عن الناس عند اجتماعهم وتخفيف النجاسة. ولأبي داود والترمذي عن ابن عباس مرفوعا "النفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت" وسنية الغسل لمن أراد الدخول في النسك من ذكر وأنثى. وإن كانت حائضًا ونفساء. وفعل ما يفعل الحاج غير الطواف بالبيت لا نزاع فيه. واستحب بعضهم التنظف بأخذ شعر وظفر وقطع رائحة

كريهة لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه وقال الشيخ إن احتاج إليه فعل وليس من خصائص الإحرام. ولم يكن له ذكر فيما نقله الصحابة لكنه مشروع بحسب الحاجة إليه. (وعن عائشة) رضي الله عنها (قالت كنت أطيب) أي تعطر (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه) أي عند إرادته فعل الإحرام لأجل دخوله فيه. وللنسائي حيث أراد أن يحرم. ولهما عنها عند إحرامه بأطيب ما أجد وفي لفظ "إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد" (قبل أن يحرم) أي يدخل في الإحرام. والمراد بدنه لا ثيابه فيكره اتفاقا لما يأتي من النهي أن يلبس ثوبا مسه ورس أو زعفران. وإن طيب ثوبه قبل الإحرام ولبسه استدامه ما لم ينزعه. فإن نزعه فليس له لبسه قبل غسل الطيب منه. ويدل على تخصيص البدن بالطيب قولها كنت أرى وبيص الطيب في رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولحيته. فدل على استحباب الطيب عند الإحرام واستدامته. ولو بقي لونه ورائحته عند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين. وإن عرق فسال فلا فدية. لحديث عائشة كنا نخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنضمد جباهنا بالمسك عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهاها رواه أبو داود. قال ابن القيم ومذهب الجمهور جواز استدامة الطيب للسنة الصحيحة. أنه كان يرى وبيص الطيب في مفارقه بعد

إحرامه. وفي رواية بعد أيام. ولأنه غير متطيب بعد الإحرام وفيهما أنها طيبته بذريرة فيكون من مسك وبخور وماء ورد ونحوها. ويستحب للنساء كالرجال عند الإحرام سواء كان مما تبقى عينه أو لا عند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. لما تقدم. وقال الشيخ إن شاء المحرم أن يتطيب في بدنه فهو حسن. ولا يؤمر المحرم قبل الإحرام بذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله ولم يأمر به الناس. واستحب بعضهم للمرأة خضابها بالحناء. لقول ابن عمر من السنة أن تدلك المرأة يديها في حناء. قالت رضي الله عنها (ولحله) أي تطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخروجه من إحرامه بالرمي والحلق "قبل أن يطوف بالبيت) يعني طواف الإفاضة (متفق عليه) وهذا قول جمهورأهل العلم ويأتي. (وعن ابن عمر مرفوعا ليحرم أحدكم) أيينوي النسك (في إزار ورداء) الإزار هو هذا المعروف الذي يشد على الحقوين فما تحتهما. وهو المئزر. والرداء ما يرتدي به على المنكبين وبين الكتفين من برد أو ثوب ونحوه يجعل نصفه على كتفيه. والحكمة أن يبعد عن الترفه ويتصف بصفة الخاشع الذليل. وليتذكر أنه محرم في كل وقت. بل تعظيما لبيت الله الحرام وإجلالا كما نراه في الشاهد. ويستحب أن يكونا أبيضين نظيفين سواء كانا جديدين أو

لبيسين وكونهما أبيضين للحث على لباس البياض ونظيفين لأنا أحببنا له التنظيف في بدنه فكذلك في ثيابه. وقال الشيخ يجوز أن يحرم في جميع أجناس الثياب المباحة من القطن والكتان والصوف ويستحب في ثوبين نظيفين فإن كانا أبيضين فهما أفضل للخبر. وقال السنة أن يحرم في إزار ورداء سواء كانا مخيطين أو غير مخيطين باتفاق الأئمة. ولو أحرم في غيرها جاز إذا كان مما يجوز لبسه. ويجوز أن يحرم في الأبيض وغير الأبيض من الألوان الجائزة. وإن كان ملونا (ونعلين رواه أحمد) وغيره. قال ابن المنذر ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويأتي معناه. والمراد بالنعلين التاسومةوهي الحذاء وتعرف بنجد والحجاز بالنعال ذات السيور. (وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) عام حجة الوداع بعدأن اغتسل وتطيب وتجرد من مخيط ولبس إزاره ورداءه (صلى الظهر) ركعتين (بذي الحليفة) ونحوه عن أنس. قال الترمذي والذي يستحبه أهل العلم أن يحرم دبر الصلاة. قال الشيخ إذا كان وقتها وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه. وقال ابن القيم ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر. وإن لم يتفق له بعد فريضة. وأراد أن يصلي فلا يركعهما وقت نهي. للنهي عنه. وليس من ذوات الأسباب.

(ثم دعا بناقته أي التي أراد أن يجعلها هديا (فأشعرها) أي شق الجانب الأمين من سنامها كما وضحه بقوله (في صفحة سنامها الأيمن) إظهارا لشعائر الإسلام. وإقامة لهذه السنة التي هي من أحب الاشياء إلى الله. وإظهارا للناس أن هذه قرابين لله تساق إلى بيته تذبح له ويتقرب بها إليه عند بيته وليعلم المار بها أنها هدي فيجتنبه إذا لم يكن محتاجا ولم يكن مضطرا إلى أكله (وسلت الدم) أي عن الناقة لسيلانه حال الإشعار (وقلدها نعلين) قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. وقال وكيع لا تنظروا إلى قول أهل العراق في هذا فإن الإشعار سنة. وقولهم بدعة. وقال أحمد لا ينبغي أن يسوقه حتى يشعره ويجلله بثون أبيض ويقلده نعلا أو علاقة قربة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. قالت عائشة "فتلت قلائد بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي ثم قلدها وأشعرها وأهداها" وتقليد الغنم مذهب العلماء إلا مالكا. ولعله لم يبلغه الحديث فعن عائشة كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها غنما صححه الترمذي. وقال العمل عليه عند بعض أهل العلم واتفقوا على أنها لا تشعر لضعفها عن الجرح ولاستتاره بالصوف. وأما البقر فيستحب عند الشافعي ومن وافقه الجمع بين الإشعار والتقليد كالإبل والأولى إن كان لها أسنمة أشعرت كالإبل وإلا فلا لأنه تعذيب لها وما عطب منه. سن أن ينحره

كما سيأتي. ثم يغمس نعله في دمه ويخلي بينه وبين الناس ولا يأكل منه قطعا للطمع لئلا ينحرها سائقها ويتعلل بالعطب. قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم. وسنية إشعار الهدي من الميقات إن كان ساقه مسافرا به. وإن أرسله مع غيره في بلده (ثم ركب راحلته) أي بعد صلاة الظهر وعقده النسك بالإشعار والتلبية (رواه مسلم) وأهل السنن وغيرهم. (وللخمسة عنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم - بعد ما صلى الظهر (أهل دبر الصلاة) أي رفع صوته بالتلبية بعدها واصل الإهلال رفع الصوت. لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام. وقال سعيد بن جبير قلت لابن عباس عجبا لاختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إهلاله؛ فقال ابن عباس إني لأعلم الناس بذلك إنما كانت منه حجة واحدة فمن هناك اختلفوا. لما صلى في مسجد ذي الحليفة أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتين فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه. ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل فأدرك ذلك منه أقوام فحفظوا عنه. وكذا لما أهل على البيداء وأيم الله لقد أوجب في مصلاه. فأزال الإشكال رضي الله عنه وأرضاه. قال شيخ الإسلام يلبي من حديث يحرم سواء ركب دابته أو لم يركبها، وإن أحرم بعد ذلك جاز والأصح أن السنة ابتداء

التلبية عقب الإحرام اهـ. ويجزئ من التلبية دبر الصلاة مرة والأحسن ثلاثا. (وعنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لضباعة) بنت الزبير بن عبد المطلب الهاشمية بنت عم النبي - صلى الله عليه وسلم - (وكانت وجعة) فخافت ان يصدها المرض عن البيت فقالت يا رسول الله إني اريد الحج وأجدني وجعة فقال (أهلي واشترطي) أي قول يلبيك اللهم لبيك و (إن محلي حيث حبستني متفق عليه) وفي السنن قال "قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسني" وصححه الترمذي وغيره. ولأحمد "فإن حبست" أي مرضت "فقد حللت من ذلك بشرطك على ربك". فيستحب أن يشترط إن كان خائفا خاصة. قال شيخ الإسلام وغيره وهو ظاهر نص الحديث. وإن لم يكن خائفا فلا يشترط جمعا بين الأدلة. قال شيخ الإسلام ولم يأمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تقول قبل التلبية شيئا لا اشتراطا ولا غيره. ولا أمر بذلك كل من حج. وإنما أمرها أن تشترط على ربها لما كانت شاكية فخاف أن يصدها المرض عن البيت. وإن اشترط على ربه خوفا من العارض فقال إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني كان حسنا اهـ. ونقل أبو داود إن اشترط فلا بأس. زاد النسائي في رواية

إسنادها جيد "فإن لك على ربك ما استثنيت" فمتى حبس بمرض أو عدو أضل عن الطريق حل ولا شيء عليه. إلا أن يكون معه هدي فيلزمه نحره. ويستفيد باشتراطه شيئين أحدهما إذا عاقه عائق فله التحلل والثاني متى حل فلا دم عليه ولا صوم ولا تعلق في الخبر لمن ذهب إلى التلفظ بالنية. قال الشيخ والصواب المقطوع به أنه لا يستحب التلفظ بشيء من ذلك. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع للمسلمين شيئًا من ذلك. ولا كان يتكلم بشيء من ألفاظ النية. لا هو لا أصحابه وذكر قصة ضباعة. (ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن عائشة) رضي الله عنها (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال من أراد منكم) معشر الحجاج (أن يهل) يعني يلبي (بحج وعمرة) أو يقصد بسفرته الإحرام بحج أو عمرة أي قارنا بينهما (فليفعل) أي فليهل يعني يلبي بالإحرام بهما (ومن أراد أن يهل بحج) وحده مفردا له (فليفعل ومن أراد أن يهل بعمرة) مفردة (فليفعل) فاذن - صلى الله عليه وسلم - بالحج قرانا أوتمتعا أو إفرادا. وتقدم الإجماع على جواز فعل أيهما شاء. وحكى النووي وغيره الإجماع على جواز الأنواع الثلاثة. وتقدم ذكر الأفضل منها (وأهل) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بالحج) وأدخل العمرة على الحج أو لبى بهما معا رواه عنه جماعة من الصحابة. والأكثر أنه حج قارنا. فقد جاء في بضعة

وعشرين حديثا صحيحة أنه حج قارنا. ومن ذكر أنه متمتع فالمراد متعة القرآن. وهو لغة القرآن من قرنت بين الشيئين فصار قارنا كما تقدم. وبقي عليه لسوقه الهدي (وأهل به ناس معه) أي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج مفردين. (وأهل ناس بالعمرة والحج) معا متمتعين بالعمرة إلى الحلج او قارنين (وأهل ناس بالعمرة) فقط قالت وكنت ممن أهل بالعمرة. وقالت أهللنا بالعمرة ثم أدخلنا عليها الحج. وفي الصحيح أنه أمرها بذلك. وقال ابن عمر هكذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يجب أن يعين ما يحرم به من حج أو تمتع بعمرة إلى الحج أو قران بين الحج والعمرة ويتلفظ به. ولكن ينبغي أن يقول لبيك حجا أو لبيك عمرة. أو لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج. أو لبيك حجا وعمرة. أو أوجبت حجا وعمرة. ومهما قال أجزأ اتفاقا. ولا يجب شيء من هذه العبارات ونحوها. بالاتفاق. قال شيخ الإسلام تنازع العلماء هل يستحب أن يتكلم بذلك. كما تنازعوا هل يستحب التلفظ بالنية في الصلاة الصواب المقطوع به أنه لا يستحب التلفظ بشيء من ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع شيئًا من ذلك ولا كان يتكلم بشيء من ألفاظ النية لا هو ولا أصحابه. وكان يقول في تلبيته لبيك عمرة وحجا وكان يقول للواحد من أصحابه "بم أهللت" وقال: "مهل أهل كذا من كذا" والإهلال هو التلبية. وقال بل متى لبى

قاصدا للإحرام انعقد إحرامه باتفاق المسلمين. ولا يجب عليه أن يتكلم قبل التلبية بشيء. وقال ايضا ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر أحدا بعبارة بعينها. وإنما يقال أهل بالحج أهل بالعمرة. أو يقال لبى بالحج لبى بالعمرة وهذا تأويل قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} الآية. قال ولو أحرم إحراما مطلقا جاز. فلو أحرم بالقصد للحج من حيث الجملة ولا يعرف هذا التفصيل جاز. ولو أهل ولبى كما يفعل الناس قاصدا للنسك ولم يسم شيئا بلفظه ولا بقصده بقلبه لا تمنعا ولا إفرادا ولا قرانا صح حجه ايضا وفعل واحدا من الثلاثة اهـ. وإن أحرم بما أحرم به فلان انعقد بمثله اتفاقا علم به قبل الإحرام أو بعده لحديث علي لما سأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "بم أحرمت قال بما أحرمت به يا رسول الله "وفي خبر أنس أهللت بإهلال كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي موسى أنه أحرم كذلك. ولم يكن ساق الهدي "فأمره أن يحل" ولأنه قصد الإحرام بصفة خاصة. حتى لو بطل بقي اصل الإحرام. وإن أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد بواحدة اتفاقا إلا ما روي عن أبي حنيفة. (وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل) أي لبى (فقال لبيك اللهم لبيك) أي إجابة بعد إجابة لازمة أو أنا مقيم على

طاعتك وإجابة دعوتك وأمرك لنا بالحج. قال الشيخ إجابة دعوة الله لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم. والملبي هو المستسلم المناقد لغيره. كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبته والمعنى إنا مجبوبك لدعوتك مستسلمون لحكمك مطيعون لأمرك مرة بعد مرة لا نزال على ذلك. وهذا قول جمهور المفسرين من الصحابة وغيرهم أنه إجابة دعوة إبراهيم حيث نادى بالحج: أيها الناس أجيبوا ربكم فأجابوه: لبيك اللهم لبيك. وفي لفظ إن ربكم اتخذ بيتا وأمركم أن تحجوه. قال الحافظ وهذا مما ليس للاجتهاد فيه مسرح. قال ابن القيم ولهذا كان للتلبية موقع عند الله. وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى الله وأحظى عنده. فهو لا يملك نفسه أن يقول لبيك حتى ينقطع نفسه (لبيك لا شريك لك لبيك) كرر تلك التليبة لأنه أراد إقامة بعد إقامة. ولم يرد حقيقة التثنية. وإنما هو التكثير حنانيك. (إن الحمد) كسر همزة إن أولى عند جماهير العلماء. وحكى الفتح. قال ثعلب من كسر فقد عم يعني حمد الله على كل حال. ومن فتح فقد خص اي لبيك لأن الحمد (والنعمة) كلاهما (لك) مستقرة الإحسان والمنة مطلقا. فالكسر أجود لأنه يقتضي أن الإجابة مطلقة. وأن الحمد والنعمة لله على كل حال. والفتح يدل على التعليل كأنه يقول أجبتك لهذا السبب والأول أعم وهو أكثر فائدة (والملك) كذلك (لك) بالنصب

على المشهور (لا شريك لك) في ملكك (متفق عليه) وقال الترمذي وغيره ثبت عن ابن عمر وغيره. والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. وهو قول سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق اهـ. والتلبية سنة مؤكدة. وأوجبها مالك وأبو حنيفة في ابتداء الإحرام. وقال بعضهم لا تستحب الزيادة على هذه التلبية لأنه - صلى الله عليه وسلم - لزم تلبيته فكررها ولم يزد عليها. قال الشيخ وكان - صلى الله عليه وسلم - يداوم على تلبيته وإن زاد لبيك ذا المعارج أو لبيك وسعديك ونحو ذلك جاز. كما كان الصحابة يزيدون والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمعهم ولم ينههم. وكذا جزم ابن القيم وغيره. يقرهم ولا ينكر عليهم. وأنه لزم تلبيته ولا تكره الزيادة عند الجمهور لما في الصحيحين عن ابن عمر: كان يلبي تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويزيد لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل وزاد عمر لبيك ذا النعماء والفضل لبيك لبيك مرغوبا ومرهوبا إليك لبيك. وروي عن أنس أنه كان يزيد لبيك حقا حقا تعبدا ورقا. وروي عن بعض السلف لبيك لا عيش إلا عيش الآخرة. وعن ابن عمر اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة. وقال الشافعي وغيره وإن زاد شيئا من تعظيم الله فلا بأس. وللنسائي وصححه ابن حبان مرفوعا "لبيك إله الحق لبيك" ولأن المقصود الثناء على الله وإظهار العبودية فلا مانع من الزيادة. واستحبها أبو حنيفة وغيره.

(وللخمسة عن السائب) بن خلاد بن سويد أبي سهل الأنصاري صحابي عمل على اليمن ومات سنة إحدى وسبعين (مرفوعا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (أتاني جبرئيل اي بالوحي من الله عز وجل (فأمرني) يعني أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (أن آمر أصحابي) وهو أمر ندب عند الجمهور وفي لفظ "ومن معي" وهو زيادة وإيضاح وبيان فإن الذين معه أصحابه رضي الله عنهم. (أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال) يعني التلبية بالحج. وفي لفظ والتلبية (صححه الترمذي) وفي لفظ بالإهلال أو التلبية يعني قول لبيك اللهم لبيك الخ. ولأحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم عن زيد بن خالد مرفوعا "أتاني جبريل فقال إن الله يامرك اصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج". ولابن ماجه ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أي الأعمال أفضل قال "العج والثج وفي رواية عن السائب مرفوعا "أتاني جبريل فقال كن عجاجا ثجاجا" ولابن أبي شيبة أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح حلوقهم. وقال أنس كانوا يصرخون بها صراخا. رواه البخاري. وهذا مذهب جمهور أهل العلم. وحكي اتفاقا. قال الشيخ وغيره التلبية شعار الحج فأفضل الحج العج والثج. فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج إراقة دماء الهدي.

ولهذا استحب رفع الصوت بها للرجل بحيث لا يجهد نفسه ويسن الإكثار منها. وللترمذي من حديث سهل "ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من شجر أو حجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا ومن ههنا" ويتأكد الإكثار منها إذا علا نشزا أو هبط واديا أوصلى مكتوبة اتفاقا. أو التفت الرفاق أو سمع ملبيا ونحو ذلك. وذكر الشيخ وغيره استحباب الإكثار من التلبية عند اختلاف الأحوال كما تقدم. ولا يرفع صوته في مساجد الحل وأمصاره. قال ابن عباس لمن سمعه يلبي بالمدينة إن هذا لمجنون إنما التلبية إذا برزت وقال أحمد وغيره إذا أحرم في مصره لا يعجبني أن يلبي حتى يبرز. ولا يرفع صوته في طواف القدوم والسعي بعده. لئلا يخلط على الطائفين. ولا يظهرها في الحرم اتفاقا. وتخفيها المرأة إجماعا بقدر ما تسمع رفيقتها. وتسمع نفسها اتفاقا. ولا يلبي عنه غيرها. هي تلبي عن نفسها. قال الشيخ ويستحب أن يلبي عن أخرس ومريض وصغير ومجنون ومغمى عليه تكميلا لنسكه. كالأفعال. وتشرع بالعربية لقادر عليها. لأنه ذكر مشروع فلم يشرع بغيرها مع القدرة كسائر الأذكار. ويستحب بعده الدعاء بما أحب لأنه مظنة الإجابة. ويسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار. لما رواه الدارقطني وغيره كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من تلبيته "سأل الله الجنة واستعاذ برحمته من النار".

باب محظورات الإحرام

ويستحب عقب الدعاء أيضا الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. لأنه موضع يشرع فيه ذكر الله فشرعت فيه الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. كالصلاة والأذان. ولا يرفع بذلك صوته. قال الشيخ وإن دعا عقب التلبية وصلى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأل الله ورضوانه والجنة واستعاذ به من النار فحسن. باب محظورات الإحرام المحظورات جمع محظور. صفة لموصوف محذوف. أي باب بيان الخصلات المحظورات. أو الفعلات المحظورات. يعني المحرمات أو الممنوع فعلها حال الإحرام شرعا وهي تسعة. وبيان كفاراتها. وهدي التمتع. وما يتعلق بذلك. قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} أي تزيلوا شعره بحلق أو نتف أو قلع ونحو ذلك. وعبر بالحق لأنه الغالب وعدي أيضا إلى سائر شعر البدن اتفاقا لأنه في معناه ولحصول الترفه به. بل أولى. لأن الحاجة لا تدعو إليه. وشعر الرأس والبدن واحد عند أحمد وغيره. وعنه لكل منهما حكم يخصه اتفاقا. لأنهما كجنسين. ويحرم فعله لغير عذر من مرض أو قمل أو قروح أو صداع أو شدة حر. لكثرته مما يتضرر بإبقائه إجماعا. إذ حلق الشعر يؤذن بالرفاهية. وهي تنافي الإحرام لكون المحرم أشعث أغبر. ونص أهل العلم على أن تقليم الأظفار محظور في الإحرام.

أشبه إزالة الشعر. وحكاه ابن المنذر إجماعا. وقال الموفق وغيره أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره. لكونه مؤذنا بالرفاهية. وهي منافية لحال المحرم. وذكر بعضهم في ظفر وشعرة أو ظفرين أو شعرتين قبضة من طعام. وقال مالك وجماعة لا تجب الفدية إلا فيما يماط به الأذى. ويحصل به الترف. وإزالة الشعث. وأنكر ابن القيم وغيره أنه يستفاد من الآية وجوب الدم على من قطع من جسده أو رأسه ثلاث شعرات أو أربعًا. لأنه لا يدخل في مسمى الحلق لغة ولا عرفا. واستيعاب الرأس بالحلق ليس بمعتبر في وجوب الفدية إجماعًا. {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} أي مكانه الذي يجب أن يذبح فيه ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارنا أومن فعل أحدهما إن كان مفردا. أو متمتعا. وفي الصحيحين عن حفصه قالت يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال "إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر"وهذا حكم القارن. ومن كان معتمرا فمحله حيث يبلغ هديه الحرم. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} يحتاج إلى حلق شعر {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} أي فلا تحلقوا رؤوسكم في حال الإحرام إلا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو لاذى في الرأس من هوام أو صداع ويأتي حديث كعب وأنه قال نزلت في خاصة وهي لكم عامة {فَفِدْيَةٌ} اي فحلق فعليه فدية إجماعا وهي ما يجب فداء

بسبب نسك أو إحرام وهي في الاصل افتكاك الأسير. وإطلاقها في محظورات الإحرام إشعار بأن من أتى محظورا فكأنه صار في هلكة يحتاج إلى إنقاذه منها بالفدية التي يعيطها. فاستعير هذا الاسم في محظورات الإحرام إنقاذا لمن تلبس بشيء منها من تلك الهلكة بالفدية التي يعطيها. لعظم شأن الإحرام وتأكد حرمته. وسببه تعظيم أمر الإحرام بأن محظوراته من المهلكات. ووضح الفدية بقوله {مِنْ صِيَامٍ} أي ثلاثة أيام {أَوْ صَدَقَةٍ} أي ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع {أَوْ نُسُكٍ} واحدتها نسيكهة أي ذبيحة أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة. أيتها شاء ذبح فهذه الفدية على التخيير والتقدير. ويتخير بين أن يذبح أو يصوم أو يتصدق وجمهور العلماء على أن الفدية تنقسم إلى ضربين أحدهما على التخيير. وهو نوعان. فدية الحلق. والحقوا بها فدية التقليم. وتغطية الرأس والطيب لأن تحريمها فيه للترفة. فأشبهت الحلق فيخير بين صيام ثلاثة أيام. أو إطعام ستة مساكين. أو ذبح شاة اتفاقا. والنوع الثاني جزاء الصيد إن كان له مثل أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاما فيطعم كل مسكين مدا من بر. أو نصف صاع من غيره. أو يصوم عن كل مد أو نصف يوما. وهو اتفاق. كفدية الحلق. ولا يجب التتابع في الصوم. ولا الصوم عن بعض

والإطعام عن بعض اتفاقا. والضرب الثاني على الترتيب وهو ثلاثة أنواع: دم متعة وقران وطء في فرج. ومن الفدية ما لم يرد فيه ترتيب ولا تخيير كفدية الفوات. وعده بعضهم ضربا ثالثا. وإن فعل محظورا من أجناس بأن حلق وقلم أظفاره ولبس المخيط فدى لكل مرة فديته الواجبة فيه اتفاقا. وإن كرر المحظور من جنس ولم يفد فدى مرة سواء فعله متتابعا أو متفرقا. لأن الله أوجب في حلق الراس فدية واحدة. ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو دفعات. قال الشيخ وإذا لبس ثم لس مرارا ولم يكن أدى الفدية أجزأته فدية واحدة في أظهر قولي العلماء. بخلاف صيد ففيه بعدده ولو دفعة واحدة باتفاق أهل العلم. ويسقط بنسيان أو جهل أو إكراه فدية لبس وطيب. وتغطية رأس ونحوه. لخبر "عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" دون وطء عند الجمهور. وصيد إجماعًا. وذكر شيخ الإسلام عدم مؤاخذة الجاهل والناسي. ثم قال وأما الكفارة والفدية فتلك وجبت لأنها بدل المتلف من جنس ما يجب ضمان المتلف بمثله. كما لو أتلفه صبي ضمنه. وجزاء الصيد وجب على الناسي والمخطئ فهو من هذا الباب بمنزلة دية المقتول خطأ. والكفارة الواجبة بقتله خطأ بنص القرآن. وإجماع المسلمين.

وأما سائر المحظورات فليست من هذا الباب. وتقليم الأظفار وقص الشارب والترفه المنافي للتفث كالطيب واللباس. ولو فدى لكانت فدية من جنس فدية المحظورات. ليست بمنزلة الصيد المضمون بالبدل فأظهر الأقوال في الناسي والمخطء إذا فعل محظورا أن لا يضمن من ذك إلا الصيد. وقال ابن القيم الراجح من الأقوال أن الفدية لا تجب في ذلك مع النسيان. بخلاف الصيد فإنه من باب ضمان المتلفات. قال تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} أي من خوفكم. وبرأتم من مرضكم {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} أي فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج. وهو يشمل من أحرم بهما أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج. فإنه يسمى استمتاعا لإحلاله من العمرة حتى يحرم بالحج. توسعة من الله عليه. لما في استمراره محرما من المشقة. {فَمَا اسْتَيْسَرَ} أي فليذبح ما قدر عليه {مِنْ الْهَدْيِ} ولا خلاف في وجوبه على التمتع. وأقله شاة. وشرطه أن يقدم العمرة على الحج. وأن يحرم بها في أشهره من الميقات. وأن يحج بعد الفراغ منها في سنتها. {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} الهدي أو لم يجد ثمنه ولو وجد من يقرضه {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} أي قبل التروية ويوم التروية ويوم

عرفة. وإن صام قبلها بعد ما يحرم بالحج جاز. ويجوز أيام التشريق. فإن وقت الوجوب يوم النحر لأنه وقت الهدي. وإذا لم يجد جاز تقديمه بعد إحرام التمتع بالعمرة. قال الشيخ في أشهر قولي العلماء. وهو الأرجح. فإنه في تلك الحال في الحج. وقيل بعد التحلل من العمرة. فإنه حينئذ شرع في الحج. ولكن دخلت العمرة في الحج كما دخل الوضوء في الغسل. وأما إحرامه بالحج بعد ذلك. فكما يبدأ الجنب بالوضوء. ثم يغتسل بعده. وإن أوجب الصوم وشرع فيه ثم وجد هديا لم يلزمه. وأجزأه الصوم عند جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد. والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة ووجوبه وقت وجوب الهدي. لأنه بدل منه. وإن أخره عن أيام التشريق لغير عذر صامه بعد. ولا دم عليه عند جمهور العلماء مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد. {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} أي يصوم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله وبلده. وقال عليه الصلاة والسلام "فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله" فلو صامها قبل رجوعه لم يجز عند بعض أهل العلم. وأجازه بعضهم بعد الفراغ من أعمال الحج. وأنه المراد من الرجوع المذكور. ولا يجب التتابع اتفاقا. لإطلاق الأمر. ولا يلزمه التفريق بين الثلاثة والسبعة إذا أخر الثلاثة إليه. {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} ذكرها تعالى على وجه التأكيد. أو

الأمر بإتمامها {ذَلِكَ} الحكم {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهلهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي أهل الحرم فلا متعة لهم. وقيل من دون مسافة القصر. لأنه لا يعد مسافرا. ومن لا متعة له لا دم عليه. وقال تعالى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} جمع إحرام. أي لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بالحج أو العمرة وقيل المراد وعند الحرم. فهما مرادان بالآية. فلا يجوز قتل الصيد للمحرم ولا في الحرم إجماعا. نزلت في أبي اليسر شد على حمار وحشي فقتله وهو محرم ثم صار هذا الحكم عاما. فلا يجوز قتل الصيد ولا التعرض له. ولا أذاه ما دام المرء محرما. ولا في الحرم. والمراد كل حيوان متوحش مأكول اللحم عند الجمهور. للخبر الآتي. ثم ذكر تعالى جزاءه ويأتي. إلى قوله {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} ما يصاد منه طربا ما لم يكن في الحرم إجماعا. وطير الماء بري لأنه يبيض ويفرخ في البر. فيحرم على المحرم صيده. وفيه الجزاء في قول عامة أهل العلم. وقال الموفق لا نعلم فيه خلافا. إلا ما روي عن عطاء. (وطعامه) ما يتزودون منه مليحا يابسا. والبحر جميع المياه العذبة والمالحة. {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} تتزودون منه. ولا نزاع في هذا كله. {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} كرر تعالى تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة. كل ذلك لتأكيد تحريم قتل الصيد على المحرم. فهذان اثنان. والثالث

قوله في أول السورة {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إجماعا. لأنها ليست بصيد. إلا ما كان منها وحشيا. فإنه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام. والاعتبار في أهلي ووحشي بأصله اتفاقا. وقال قبل هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الصغير والضعيف في حال إحرامكم (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) ابتلاهم الله بالصيد يغشى رحالهم ولو شاؤوا تناولوه بأيديهم {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} ليعلم طاعة من يطيع في سره وجهره {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي الإعذار والإنذار فصاده {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال ها هنا {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فلا تستحلوا الصيد في حال الإحرام ولا في الحرم. ثم حذرهم بقوله {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجازيكم الله على معصيتكم. ففيها تحريم اصطياده حال الإحرام. وفي الحرم. وذلك بإجماع المسلمين. وعليه الجزاء إجماعا. ويحرم أذاه ولو لم يقتله أو يجرحه. قال الشيخ ولا يصطاد صيدًا بريًا ولا يعين عليه. ولا يذبحه. ولا يصطاد بالحرم صيدا وإن كان من الماء كالسمك على الصحيح. بل ولا ينفر صيده مثل أن يقيمه لقعد مكانه. وقال تعالى {فَلَا رَفَثَ} أي من أوجب الحج فعليه أن يجتنب الرفث فيه. وهو الجماع ودواعيه من المباشرة والتقبيل والغمز. وأن يعرض لها بالفحش من الكلام، وقال الأزهري وغيره الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. وقال

الشيخ الرفث اسم للجماع قولا وعملا. وحكاه ابن المنذر إجماع العلماء. وأنه لا يفسد النسك إلا به أنزل أو لم ينزل. وقال الشيخ وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث. فلهذا ميز بينه وين الفسوق. وقال أيضا فإن جامع قبل التحلل الأول فسد حجه. وأما سائر محظورات الإحرام كاللبس والطيب فإنه وإن كان يأثم بها فلا تفسد الحج عند أحد من الأئمة المشهورين. وقال ويحرم على المحرم الوطء ومقدماته. ولا يطأ شيئا سواء كان امرأة أو غير امرأة. ولا يتمتع بقبلة ولا مس بيد ولا نظر بشهوة اهـ. والحكمة أن يبعد عن ملاذ الدنيا وشهواتها. ويجمعهم لمقاصد الآخرة. قال الوزير وغيره وإن باشر دون الفرج فأنزل لم يفسد حجه وعليه شاةاتفاقا. وتحرم المباشرة اتفاقا. لأنهاوسيلة إلى الوطء المحرم. فكانت حراما. {وَلَا فُسُوقَ} أي في الحج وهو المعاصي. لم يفسق أي لم يأت بسيئة ولا معصية. وهو في حال الإحرام أشد وأقبح. لأنه حالة التضرع وهجر المباحات وإقبال على الطاعات (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) وهو الممارات فيما لا يعني والخصام مع الرفقة والمنازعة والسباب. قال الشيخ الجدال هو المراء في أمر الحج فإن الله قد وضحه وبينه وقطع المراء فيه. كما كانوا في الجاهلية يتمارون في أحكامه. ولم ينه المحرم عن الجدال مطلقا. بل قد يكون واجبا او مستحبا. وقد يكون محرما في الحج وغيره اهـ.

قال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} فإنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. حث على فعل الخير عقب النهي عن الشر. وهو أن يستعملوا مكان الرفث الكلام الحسن. ومكان الفسوق البر والتقوى. ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة. {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فإنه لا بد للإنسان من سفر في الدنيا. ولا بد فيه من زاد وسفر من الدنيا إلى الآخرة وزاد. وهو تقوى الله والعمل بطاعته. وهذا الزاد أفضل. لأنه يوصل إلى النعيم المقيم. وقال - صلى الله عليه وسلم - "من حج فلم يرفث ولم يفسق" أي في أيام الحج "خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" فيرجع ولا ذنب له ويبقى حجه فضالا له لأن الحسنات يذهبن السيئات. فيسن قلة الكلام في الحج إلا فيما ينفع. ويستحب اشتغال المحرم بالتلبية وذكر الله وقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل ونحو ذلك. وله اتجاره وعمل صنعة مالم يشغلاه عن واجب أو مستحب. وإلا كره. قال ابن عباس في قوله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج رواه البخاري. (وعن كعب) بن عجرة بن أمية بن عدي البلوى صحابي جليل. كان حليف الأنصار. ونزل الكوفة. ومات بالمدينة سنة إحدى وخمسين (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعله آذاك هوام رأسك) وفي لفظ "تؤذيك هوام رأسك" جمع هامة وهي ما يدب

من الأحناش. والمراد هنا ما يلازم الجسد غالبا إذا طال عهده بالتنظيف. فسر بالقمل. وفي لفظ حملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي فقال "ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى" (قال نعم) وفي لفظ "كأن هوام رأسك تؤذيك" فقلت أجل. (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة) وفي لفظ احلقه واذبح شاة أو صم ثلاثة أيام أو تصدق ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع. وفي رواية "نصف صاع من طعام" متفق عليه" وقد روي بألفاظ متعددة. وظاهر الآية المتقدمة وسائر روايات الحديث أنه مخير في الثلاث جميعا. قال البخاري خير النبي - صلى الله عليه وسلم - كعبا في الفدية وهو إجماع وأكثر الروايات رواية التمر. وجاء أنه نسك شاة بعد ما حلق رأسه ففي الصحيحين أتجد شاة قلت بلى فنزلت {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قالا يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "هو صوم ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين نصف صاع طعاما لكل مسكين ونسك شاة" وفي رواية نزلت في هذه الآية. ولا نزاع في أن النسك المأمور به شاة سواء كان حلقه لقمل أو صداع أو شدة حر. وقد جاء بروايات متفقة في المعنى. ومقصودها أن من احتاج إلى حلق الرأس لضرورة من قمل أو مرض أو نحوها فله حلقه في الإحرام. وعليه الفدية. لا إن خرج بعينه شعر أو انكسر ظفره فأزالهما أو زالا مع

غيرهما. كأن قطع جلدا عليه شعر أو أنملة بظفرها فلا فدية في ذلك اتفاقا. أما إزالتهما فقط فلأذاهما كالصيد الصائل عليه. وأما زوالهما مع غيرهما فلكونهما بالتبعية. ووقت ذبح الفداء حيث وجد سببه فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر كعبا بنحر هديه في موضعه وهو بالحديبية. وعلي رضي الله عنه نحر جزورا عن الحسين بالسقيا لما اشتكى رأسه فحلقه رواه مالك وغيره. ولأنه موضع تحلل فكان موضع ذبحه. ويجرئ بالحرم. وأما الصوم فيجزئ بكل مكان باتفاق أهل العلم. لقول ابن عباس وغيره الصوم حيث شاء لعدم تعدي نفعه ولا معنى لتخصيصه بمكان بخلاف الهدي. (ولهما عن ابن بحينة) عبد الله بن بحينة بنت الحارث بن عبد المطلب وأبوه مالك بن القشب الأزدي (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم) وذلك في حجة الوداع بلحي جمل. ماء بين مكة والمدينة. وهو إلى المدينة أقرب بينها وبين السقيا. في وسط رأسه. ولهما نحوه عن ابن عباس. وللبخاري من وجع كان به بماء يقال له لحي جمل. ويقال له اليوم بئر جمل بالجيم. بئر بناحية الجرف في آخر العقيق شمالي المدينة وتوضأ منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاء أن ناقته بركت عندها بين أظهر بني النجار. فدل الحديث على جواز الحجامة للمحرم. وهو إجماع في الرأس وغيره للحاجة. قال شيخ الإسلام وله أن يحك بدنه. ويحتجم في رأسه وغير رأسه. وإن احتاج أن يحلق لذلك شعر جاز. فإنه قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم في وسط

رأسه وهو محرم. ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر، وله أن يقتصد إذا احتاج إلى ذلك وقال وإن احتاج إلى قطعه بحجامة أو غسل لم يضر. اهـ. وله الاغتسال في حمام وغيره. روي عن عمر وعلي وابن عمر وجابر وغيرهم. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي: لأنه عليه الصلاة والسلام غسل رأسه وهو محرم. ثم عرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر. متفق عليه. وقال ابن القيم يجوز للمحرم أن يمشط رأسه. ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منع المحرم من ذلك. ولا تحريمه وليس في ذلك ما يحرم على المحرم تسريح شعره. فإن أمن من تقطيع الشعر لم يمنع من تسريح راسه وإلا ففيه نزاع. والدليل يفصل بين المتنازعين. فإنه لم يدل الكتاب ولا السنة ولا الإجماع على منعه فهو جائز. وقال الشيخ إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره. وإن تيقن أنه قطع بالغسل. وله أن يغتسل من الجنابة بالاتفاق. وكذلك لغير الجنابة. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يلبس المحرم) وهذا من بديع الكلام لأن ما لا يلبس منحصر فحصل التصريح به. وأما الملبوس الجائز فغير منحصر وللبخاري ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا. ولأحمد ما يترك المحرم (قال لا يلبس القميص) نوع من الثياب وهو كل ما

أحاط بالبدن مما كان عن تفصيل وتقطيع. (ولا العمامة) وهي ما أحاط بالرأس فيلحق بها غيرها مما يغطي الرأس (ولا البرنس) وهو كل ثوب رأسه منه ملتزما به من جبة أو دراعة أو غيرها. وقلنسوة طويلة يلبسها النساك في صدر الإسلام. وذكرهما معا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر كالبرانس إجماعا. بل يحرم. ويأتي قوله في المحرم "ولا تخمروا رأسه". وكان ابن عمر يقول إحرام الرجل في رأسه. وأجمع أهل العلم على أن من غطى رأسه بملاصق فدى. حكاه الوزير وغيره. وقال ابن القيم وغيره كل متصل ملامس يراد لستر الرأس كالعمامة والقبع والطاقية والخوذة وغيرها ممنوع بالاتفاق. وقال بل يتعدى النهي إلى الجلباب والدولقة والمبطنات والفراجي والأقبية والقرقشنيات. وإلى القبع والطاقية والكوفية والكلوتة والطيلسان والقلنسوة اهـ. وإن احتاج إلى شيء من ذلك لشجة أو صداع أو غيرهما فعل وفدى. ويجوز تلبيد راسه بعسل وصمغ ونحوها لئلا يدخله غبار أو دبيب أو يصيبه شعث ولا شيء عليه. لما في الصحيحين عن ابن عمر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يهل ملبدا قال (ولا السراويل) وهي لباس يستر النصف الأسفل من البدن فارسي معرب جمعه سراويلات. قال ابن القيم نبه بالقميص على ما فصل للبدن كله.

وبالسراويل المفصل عن الأسافل كالتبان ونحوه وبالعمامة على كل ساتر للرأس معتاد. وبالبرنس على المحيط بالرأس والبدن جميعا. وبالخفين على ما في معناهما. قال الشيخ وغيره نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يلبس القميص والبرنس والسراويل. وأمر من أحرم في جبة أن ينزعها عنه. فما كان من هذا الجنس فهو ذريعة في معنى ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فما كان في معنى القميص بكم ولا بغيركم. وسواء أدخل يديه أو لم يدخلهما وسواء كان سليما أو مخروقا. وكذلك لا يلبس الجبة ولا القباء الذي يدخل يديه فيه وكذلك لا يلبس الدرع الذي يسمى عرق جبن. يعني الفنيلة. وأمثال ذلك باتفاق الأئمة. وأما إذا طرح القباء على كتفيه من غير إدخال يديه ففيه نزاع. وهذا معنى قول الفقهاء لا يلبس المخيط. والمخيط ما كان من اللباس على قدر العضو ولا يلبس ما كان في معنى السراويل كالتبان ونحوه. ولا فرق بين قليل اللبس وكثيره. لظاهر الآية والخبر ويلزمه خلعه ولا يشقه ولا فدية لأن يعلى بن أمية أحرم في جبة فأمره - صلى الله عليه وسلم - بخلعها متفق عليه ولأبي داود فخلعها من رأسه. ولم يأمره بشق ولا فدية. وإن استدام لبسه فوق المعتاد في خلعه ذاكرا لإحرامه عالما بالتحريم فدى. واتفقوا على جواز ستره لبدنه بغير ذلك. وأجمعوا على اختصاص النيه بالرجل. وأنه

يجوز للمرأة جمع ما ذكر حكاه ابن المنذر وغيره. (ولا يلبس ثوبا) يعني إزارا أو رداء ونحوهما (مسه ورس) نبت أصفر طيب الرائحة يصبغ به الثياب والجز وغيرها (ولا زعفران) ونهى أن يتزعفر الرجل خارج الإحرام ففيه أشد. وأجمعوا على تحريم لباسهما حال الإحرام. وحكاه ابن رشد والنووي إجماع الأمة لكونهما طيب. والحقوا بيهما جميع أنواع ما يقصد به الطيب. والشارع نبه بها على اجتناب الطيب وما يشبههما في ملاءمة الشم فيؤخذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرم. وهو مجمع عليه فيما يقصد به التطيب. وهذا الحكم شامل للنساء كما سيأتي. وسواء كان مما يلبسه المحرم أو لا يلبسه. وقال غير واحد نبه بهما على ما هو أطيب رائحة منهما كالمسك والعنبر ونحوهما. وإذا حرم في الثوب ففي البدن أولى. وفي معناه تحريمه في المأكول. لأن الناس يقصدون تطييب طعامهم. كما يقصدون تطييب لباسهم. وهذا باتفاق أهل العلم حكاه العراقي. وخولف في المأكول. فهو عند طائفة من المالكية والحنفية لا يحرم. والجمهور على التحريم. لأن الطعم مستلزم الرائحة، والرائحة هي المقصود منه. فالطيب محظور بهذا الخبر وقوله - صلى الله عليه وسلم - ليعلى بن أمية "انزع قميصك واغسل هذه الصفرة عنك" وقوله "ولا تحنطوه ولا تمسوه طيبا". وتجب به الفدية. سواء طيب بدنه أو ثوبه أو ادهن بمطيب

أو شم طيبا ونحوه. وقال الشيخ: سواء كان تطيب به بعد إحرامه في بدنه أو ثوبه أو تعمد شمه. وقال ابن القيم وتحريم شمه بالقياس. ولفظ النهي لا يتناوله بصريحه. ولا إجماع معلوم فيه يجب المصير إليه. ولكن تحريمه من باب تحريم الوسائل فيمنع منه للترفه واللذة. فأم من غير قصد أو قصد الاستعلام عند شرائه لم يمنع منه. ولم يجب عليه سد أنفه. والحكمة في منع المحرم من اللباس والطيب أنه يدعو إلى الجماع. ولأنه مناف للحج فإن الحاج أشعث أغبر معرض عن زينة الدنيا وملاذها. قاصد جمع همه للآخرة والاتصاف بصفة الخاشع المتذكر القدوم على ربه. فيكون أقرب إلى مراقبته وتقدم كراهة لبس المعصفر والورس في غير الإحرام ففيه أولى. وإذا تطيب ناسيا أو عامدا لزمه إزالته مهما أمكن. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (سمعته) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يخطب بعرفات) عام حجة الوداع يقول (من لم يجد إزارا فليلبس سراوي) إلى أن يجد إزارا ولا فدية عليه. قال الشيخ إن لميجد إزارا فإنه يلبس السراويل ولا يفتقه هذا أصح قولي العلماء. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في عرفات فيلبيس السراويل لمن لم يجد إزارا. كما رواه ابن عباس. وكذا يجوز أن يلبس كلما كان من جنس الإزار والرداء فله أن يلتحف بالقباء والجبة والقميص ونحو ذلك. ويتغطى به

باتفاق الأئمة عرضا ويلبسه مقلوبا. يجعل أسفله أعلاه. ويتغطى باللحاف وغيره. لكن لا يغطي رأسه إلا لحاجه اهـ. ـ. وإن اتزر بقميص فلا بأس ولا يجوز لبسه ولو عدم الإزار اتفاقا لأنه يمكن أن يأتزر به. وكره بعض أهل العلم عقد رداء ونحوه. لأنه يترفه بذلك. لا الهميان فقال ابن عبد البر أجازه فقهاء الأمصار. وكذا السيف والسلاح. ولا يجعل للرداء أزارا ولا عروة. ولا يخله بشوك ونحوه. وقال الشيخ والرداء لا يحتاج إلى عقده فلا يعقده. فإن احتاج إلى عقده ففيه نزاع والأشبه جوازه حينئذ وهو المنع من عقده منع كراهة أو تحريم فيه نزاع. وليس على تحريم ذلك دليل وله شد وسطه بمنديل وحبل ونحوهما نص عليه أحمد وغيره. قال (ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين متفق عليهما) يعني حديثي ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم. ورواهما أهل السنن وغيرهم من غير وجه وقيل ظاهره أنه ناسخ ما جاء من حديث ابن عمر في القطع وثبت عن ابن عباس أنه قال لم يقل ليقطعهما. ولو كان القطع واجبا لبينه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الجمع العظيم. وقال غير واحد ويحرم قطعهما ونص عليه أحمد وغيره. وقال هو إفساد واحتج الموفق وغيره بالنهي عن إضاعة المال. وهذا هو المختار عملا بإطلاق حديثي ابن عباس وجابر

عند مسلم. فإنه لم يأمر فيهما بقطع. قال الشيخ فإن لم يجد نعلين لبس خفين ولبس عليه أن يقطعهما دون الكعبين. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالقطع أولا ثم رخص في ذلك في عرفات في لبس الخفين لمن لم يجد نعلين. وإنما رخص في المقطوع أولا لأنه يصير بالقطع كالنعلين وهذا أحسن من ادعاء النسخ. قال ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يلبس ما دون الكعبين مثل الخف المكعب والجمجم والمداس ونحو ذلك. سواء كان واجد النعلين أو فاقدا لهما. وإذا لم يجد نعلين ولا ما يقوم مقامهما مثل الجمجم والمداس ونحو ذلك فله أن يلبس الخف ولا يقطعه. هذا أصح قولي العلماء اهـ. ولا فدية سواء احتاج إلى لبسهما أو لا. بأن أمكنه المشي حافيا. أو لا يحتاج إلى شيء. لأن الرخصة في ذلك لمظنة المشقة فلا تعتبر حقيقتها. قال ابن القيم لأنه بدل يقوم مقام المدبل فلا فدية في بدله. بخلاف حلق الرأس فهو ترفه للحاجة. (وللبخاري عن ابن عمر مرفوعا لا تنتقب المحرمة) أي لا تلبس النقاب غطاء للوجه فيه نقبان على النعلين تنظر المرأة منهما. وهو الخمار الذي تشده على الأنف أو تحت المحاجر. وإن قرب من العين حتى لا تبدو أجفانها فهو الوصوصة. وإن نزل إلى طرف الأنف فهواللفاف. وإن قرب إلى الفم فه اللثام.

(ولا تلبس القفازين) شيء يعمل لليدين يدخلان فيه يسترهما من الحر قاله الشيخ وغيره. وقال "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تنتقب المرأة المحرمة أو تلبس القفازين" كما نهى المحرم أن يلبيس القميص ونحوه مع أنه يجوز له أن يستر يديه ورجليه باتفاق الأئمة. والبرقع أقوى من النقاب. فلهذا ينهى عنه باتفاقهم. ولهذا كانت المحرمة لا تلبس ما يصنع لستر الوجه كالبرقع ونحوه لأنه كالنقاب. قال ابن القيم نهيه أن تنتقب وتلبس القفازين دليل على أن وجهها كبدن الرجل لا كرأسه. فيحرم عليها فيه ما ضع وفصل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع. لا على ستره بالمقنعة الجلباب ونحوهما. وهذا أصح القولين. وقال ابن المنذر كراهية البرقع ثابتة عن سعيد وابن عمر وابن عباس وعائشة ولا نعلم أحدا خالف فيه. وتحريم القفازين هو مذهب مالك وأحمد. قال ابن القيم. وخالف فيه أبو حنيفة. وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بالاتباع اهـ. وكالنقاب وكالرجل اتفاقا. ويفدي الرجل والمرأة بلبسهما. (زاد أحمد) وأبو داود وغيرهما (وما مس الورس والزعفران من الثياب) أي ويحرم عليهما لبس ما مس الورس والزعفران من الثياب كما تقدم. قال "ولتلبس بعد ذلك" أي القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب "ما أحبت من ألوان الثياب: معصفرا أو وخزًا أو حليا أو سراويل أو

قميصا" من غير فرق بين المخيط وغيره. والمصبوغ وغيره. ونحوه لأبي داود. وله من حديث عائشة أنه رخص للنساء في الخفين. (وله) يعني أحمد رحمه الله (عن عائشة) رضي الله عنها قالت (كان الركبان) جمع راكب أصحاب الإبل ثم اتسع فيه فأطلق على كل من ركب دابة (يمرون بنا) أي مارين علينا معشر النساء ونحن محرمات مكشوفات الوجوه (فإذا حاذوا بنا) من المحاذات بمعنى المقابلة أي قابلونا. ولأبي داود جاوزوا بنا بالزاي ونحن محرمات مكشوفات الوجوه. (سدلت) أي أرسلت (إحدانا) أي الكاشفة وجهها المحاذية لهم (جلبا بها) أي محلفتها ويقال لها الملاءة التي تشتمل بها المرأة إذا خرجت لحاجة أو أرسلت طرف ثوبها (من رأسها على وجهها) بحيث لا يمس الجلباب أو الثوب بشرة الوجه أو مسا خفيفا. فإذا جاوزونا فعدلوا عنا أو تقدموا علينا كشفناه. أي أزلنا الجلباب وتركنا الحجاب. ورواه أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وصححه الحاكم من طريق أسماء بنت أبي بكر. قال المنذري واختار جماعة العمل بظاهر هذا الحديث. وفيه دلالة على أن المرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها لحاجتها إليه. ولم يحرم سترها له مطلقا كالعورة. قال ابن القيم وإنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه. وليس عن رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام. وقال شيخ الإسلام ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق. وإن كان يمسه فالصحيح أنه يجوز أيضًا. ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه لا بعود ولا بيدها ولا غير ذلك. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى بين وجهها ويديها وكلاهما كبدن الرجل لا كرأسه اهـ. ولا ريب أنه يجب عليها ستر رأسها جميعه. قال الشيخ فإنها عورة فلذلك جاز لها أن تلبس الثياب تستتر بها وتستظل بالمحمل اهـ. وكذا غير المحمل كالهودج والمحفة لحاجتها إلى الستر وحكاه ابن المنذر وغيره إجماعًا. (وعن أم الحصين) بنت إسحاق الأحمسية رضي الله عنها. وكانت حجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع (أنها رأت أسامة) بن زيد (رافعا ثوبه) أي ثوبا في يده (على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - يظله من الشمس) بالثوب مرتفعًا على رأسه بحيث لم يصل إلى رأسه (حتى رمى جمرة العقبة رواه مسلم) وفي رواية حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامه أحدهما: يقود به راحلته والآخر رافع ثوبه على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - يظله من الشمس". ففيه جواز تظليل المحرم على رأسه بثوب وغيره من محمل وغيره. وهو مذهب جمهور أهل العلم مالك

والشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد. وعن أحمد المنع لقول ابن عمر لرجل على بعيره قد استظل بينه وبين الشمس فقال اضح لمن أحرمت له. أي ابرز للشمس. وفعله - صلى الله عليه وسلم - يدل على الجواز بل يبعد أن يفعل المفضول صلوات الله وسلامه عليه. قال الشيخ وأما الاستظلال بالمحمل كالمحارة التي لها رأس في حال السير فهذا فيه نزاع والأفضل للمحرم أن يضحى لمن أحرم له. كما كان - صلى الله عليه وسلم - واصحابه يحرمون. وذكر أثرابن عمر. وأما الخيمة والسقف ونحوهما فجائز إجماعا. فقد ضربت له القبة - صلى الله عليه وسلم - فنزل بها. واستمر على الناس عليه. وقال الشيخ وابن القيم باتفاق أهل العلم. وكذا لو حمل على رأسه شيئا لا لقصد التغطية. (وتقدم) أي في الجنائز (خبر الذي أوقصته راحلته فقال) - صلى الله عليه وسلم - (لا تحنطوه) من الحنوط وهو الطيب الذي يوضع للميت ذكرا كان أو أنثى (ولا تخمروا رأسه) أي لا تغطوه فإذا نهي عن تغطيته وهو محرم بعد موته ففي الحياة أولى. وتقدم ذكر الإجماع على تحريمه. وأما الوجه فله تغطيته وهو مذهب الجمهور (ولمسلم ولا تمسوه بطيب) أي لا تضعوا طيبا على جسمه ولا في كفنه كما يفعل بغير المحرم. فدل على أنه لا يجوز أن يمس طيبا وهذا مذهب الشافعي

وأحمد وجمهور أهل العلم. ومن أجازه فالحديث حجة عليه. وفيه "فإنه يبعث يوم القيامة مليبا" أي يقول لبيك اللهم لبيك كما يقول الحاج. وفي لفظ "محرما" أي على هيئته التي مات عليها. معه علامة الحج وهي دلالة الفضيلة كما يجيء الشهيد تشخب أوداجه دما. (وعن أبي قتادة) رضي الله عنه (في قصة صيده الحمار الوحشي) الوحشي من دواب البر ما لا يستأنس غالبا والجمع الوحوش. وذلك أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية حتى إذا كانوا ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم. بل بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفقته لكشف عدو لهم بجهة الساحل. وفي لفظ بعثه إلى سيف البحر. فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا عليه. فسألهم رمحه فأبوا. فأخذه ثم شد على الحمار فقلته. فأكل منه بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأبى بعضهم. فلما أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن ذلك. (قال فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وكانوا محرمين) عام الحديبية وهو حلال (هل منكم أحد أمره) أي بصيد الحمار الوحشي (أو أشار إليه بشيء) فعلق الحكم بالإشارة أو الأمر لأنه وسيلة إلى الحرام كان حراما كسائر الوسائل اتفاقا (فقالوا لا) وفي لفظ لابن عوانة أنهم قالوا: إنا محرمون. ففيه أنهم قد كانوا علموا أنه يحرم على المحرم الإعانة على قتل الصيد كما يحرم

عليه اصطياده (قال فكلوه متفق عليه). وفي لفظ فسألناه فقال "هل معكم من شيء" قلنا نعم فناولته العضد فأكلها وهو محرم. وجاء الحديث من طرق بألفاظ. قال ابن عبد البر لا يختلف علماء الحديث في ثبوته وصحته. فدل على جواز أكل المحرم لصيد البر إن صاده غير محرم. ولم يكن منه إعانة بشيء على قتله وهو مذهب جمهور أهل العلم. قال القاضي غيره لا خلاف أن الإعانة توجب الجزاء. فكذا الإشارة والدلالة خلافا لمالك والشافعي لأن المحرم قد التزم بالإحرام أن لا يتعرض للصيد بما يزيل أمنه. والأمر بصيده والدلالة عليه والإشارة إليه يزيل الأمن عنه فيحرم التعرض ويحرم الأكل. وما ذبحه المحرم فميته اتفاقا. ولما مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأثاية إذا ظبى حاقف في ظل فيه سهم "فأمر رجلا أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزوه قال لشيخ ولا يصطاد المحرم صيدا بريا ولا يتملكه بشراء ولا اتهاب ولا غير ذلك. ولا يعين على صيد إلخ، وتقدم. (ولهما عن الصعب بن جثامة) بن قيس بن ربيعة الليثي حليف قريش. وكان ينزل ودان. يقال إنه مات في خلافة أبي بكر رضي الله عنهما (أنه أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - حمارا وحشيا) وفي لفظ حمار وحش يقطر دما. وفي أخرى لحم حمار وحش. قال

القرطبي يحتمل أنه أحضر الحمار مذبوحا ثم قطع منه عضوا فقدمه له. وهو بالأبواء جبل من أعالي الفرع. أو بودان موضع بقرب الجحفة. (فرده عليه) لكونه صاده لأجله فلا يحل له أكله (و) لما رأى ما في وجهه يعني من الكراهة لرد هديته (قال إنا لم نرده عليك) بفتح الدال يعني لعلة من العلل (إلا أنا حرم) تطييبا لقلبه. وللطبراني "إنا لم نرده عليك كراهية ولكنا حرم" وفي رواية سعيد عن ابن عباس "لولا أنا محرمون لقبلناه منك" ولمسلم عن زيد بن أرقم وقال له ابن عباس يستذكره كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حرام فقال أهدي له عضو من لحم صيد فرده وقال "إنا لا نأكله إنا حرم" قال سليمان بن حرب صيد من أجله - صلى الله عليه وسلم - لقوله فرده يقطر دما. كان صيد في ذلك الوقت. ولولا ذلك جاز أكله. كما هو مذهب الجمهور بخلاف ما قصد به لحديث أبي قتادة وغيره. (وفي السنن من حديث جابر) بن عبد الله رضي الله عنه يعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (الصيد للمحرم حلال) له أكله (ما لم تصيدوه) أي وأنتم محرمون (أو يصد لكم) أي لأجلكم. ورواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم. وقال الشافعي هذا أحسن حديث روي في هذا الباب. وأقيس. والعمل عليه. فإنه صريح في التفرقة بين ما يصيده المحرم. أو يصيده غيره له. وبين أن لا يصيده المحرم ولا يصاد

له بل يصيده الحلال لنفسه ويطعمه المحرم. وهو مقيد لبقية الأحاديث المطلقة ومخصص لعموم الآية وعن عمير بن مسلمة الضمري عن رجل من بهز خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد مكة حتى إذا كانوا في بعض وادي الروحاء وجد الناس حمار وحش عقيرا فذكروه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أقروه حتى يأتي صاحبه فأتى البهزي وكان صاحبه فقال يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار فأمر أبا بكر فقسم في الرفاق وهم محرمون رواه أحمد والشافعي ومالك وغيرهم وصححه ابن خزيمة وغيره وأفتى ابن عمر وأبو هريرة وكعب بأكل ما لم يصد لأجل المحرم وأقرهم عمر على ذلك. وقال عثمان لأصحابه كلوا فقالوا ألا تأكل قال إني لست كهيئتكم إنما صيد لأجلي. وفي هذه الأحاديث والآثار دلالة واضحة على جواز أكل المحرم من صيد الحلال إذا لم يصد لأجله. وهو قول جمهور العلماء حملوا الرد على ما صاده الحلال لأجل المحرم والقبول على ما يصيده الحلال لنفسه ويهديه للمحرم وبه تتفق الأدلة وقال ابن عبد البر وعليه تصح الأحاديث وإذا حملت عليه لم تختلف وعلى هذا يجب أن تحمل السنن ولا يعارض بعضها ببعض ما وجد إلى استعمالها سبيل وقال ابن القيم واثار الصحابه في هذا الباب إنما تدل على هذا التفصيل ولا تعارض بين أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحال.

(وعن عائشة) رضي الله عنها (مرفوعا) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال (خمس من الدواب) جمع دابة والدواب اسم لما دب على وجه الأرض من الحيوان (كلهن فواسق) هذه التسمية صحيحة جارية على وفق اللغة فإن أصل الفسق الخروج ومنه فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها فوصفت بذلك لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله وحل أكله أو خروجها بالإيذاء والإفساد. (يقتلن في الحرم) وفي الحل أيضا وفي لفظ ما فيه أذى وفي لفظ ابن عمر ليس على المحرم في قتلهن جناح أي إثم أو حرج (الغراب) وفي لفظ الأبقع وهو الذي في ظهره وبطنه بياض قال ابن المنذر أباح كل من يحفظ عنه قتله الآعطاء ولم يتابع عليه قال الحافظ اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب من ذلك ويقال له غراب الزرع أفتوا بجواز أكله فبقي ما عداه ملحقا بالأبقع. (والحدأة) بكسر الحاء وفتح الدال مهموزا (والعقرب) واحدة العقارب تلدغ وتؤلم (والفأرة) وهي الفويسقة وليس في الحيوان أفسد منها قال الحافظ وغيره لم يختلف في جواز قتلها (والكلب العقور) هو العاقر أي الجارح وهو كل سبع وجارح يعقر ويفترس (متفق عليه) ولأبي داود من حديث أبي سعيد السبع العادي حسنه الترمذي وقال العمل عليه عند أهل

العلم يقتل السبع العادي فدل الحديث على جواز قتله وهو قول الجمهور. وللبخاري والحية ولمسلم من حديث ابن عمر نحوه وعن ابن مسعود أمر بقتل حية بمنى قال نافع لا يختلف فيها ولا بن خزيمة وابن المنذر من حديث أبي هريرة الذئب والنمر قال مالك وغيره الكلب العقور كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب فهو عقور وهو قول الجمهور لأن الكلب العقور والأسد والنمر والفهد وما في معناها مما فيه أذى للناس أشد ضررا وكذا البازي والصقر والشاهين والعقاب والحشرات المؤذية كلها والزنبور والبق والبعوض والبراغيث وما في معناها. فإنه - صلى الله عليه وسلم - نبه بذكر هذه الخمس المؤذية على جواز قتل المضر ما سوى بني ادم فيدافعه مهما أمكن واتفقوا على قتل ما في معنى هذه من الفواسق لخروجها بالإيذاء والإفساد عن طريق معظم الدواب بل اشتمل الخبر على السباع الضارية والهوام القتلة والطير الذي هو من الهوام المستخبثة اللحم ومحرم الأكل يجمع الكل فاعتبروه ورتبوا عليه الحكم. وجاء جواز قتل الوزغ والزنبور ولو في جوف الكعبة وقال ابن كثير وغيره يكره قتل النمر ونحوه إلا من أذية وعليه الجمهور ويكره قتل ما لا يضر كنمل وهدهد إلا من أذى. وما

لا يؤذي بطبعه كالرخم والبوم والديدان ولا جزاء في ذلك ولا يحرم قتل الصيد الصائل دفعا عن نفسه وماله سواء خشي التلف والضرر بجرحه أو لا لأنه التحق بالؤذيات فصار كالكلب العقور فيسن قتل كل مؤذ غير ادمي قال الشيخ وغيره للمحرم وغيره أن يقتل كل ما يؤذي بعادته الناس. وله أن يدفع ما يؤذيه من الآدميين والبهائم حتى لو صال عليه أحد ولم يندفع إلا بالقتال قاتله فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد وكذلك ما يتعرض له من الدواب فينهى عن قتله وإن كان في نفسه محرما كالأسد فإذا قتله فلا جزاء عليه في أظهر قولي العلماء وقال إذا لم يندفع ضرر نمل إلا بقتله جاز اهـ. ولا يقتل القمل وصيبانه لأنه يترفه بإزالته وحكاه الوزير اتفاقا. وقال الشيخ إذا قرصته البراغيث والقمل فله القاؤها عنه وله قتلها ولا شيء عليه وإلقؤها أهون من قتلها وقال إن قرصه ذلك فله قتله مجانا وإلا فلا يقتله وأما التفلي بدون التأذي فهو من الترفه فلا يفعله ولو فعله فلا شيء عليه (وعن عثمان) بن عفان رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا ينكح المحرم) بفتح أوله أي لا يعقد المحرم لنفسه بحج أو عمرة أوبهما (ولا ينكح) بضم أوله أي لايتولى العقد لغيره بولاية ولا وكالة بالجزم فيهما على النهي وهو الرواية الصحيحة وهو مذهب جمهور أهل العلم مالك

والشافعي وأحمد وغيرهم مع أن النفي بمعنى النهي بل أبلغ وفرق عمر بين رجل وامرأة تزوج وهو محرم رواه مالك وغيره. وحكى الوزير الإجماع على أن المحرم لا يعقد النكاح لنفسه ولا لغيره ولأن الإحرام يمنع الوطء ودواعيه فمنع صحة عقده حسما لمواد النكاح عن المحرم ولأنه من دواعيه فمنعه الإحرام منه كالطيب لكن لا فدية علنه لأنه عقد فسد لأجل الإحرام فلم يجب به فدية كشراء صيد فسد عقده لأجل الإحرام وما روي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم فقال سعيد بن المسيب وهم ابن عباس وروى مسلم وغيره عنها أنه تزوجها حلالا وبنى بها حلالا ولأحمد والترمذي عن أبي رافع وكان هو السفير بينهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها حلالا وبنى بها حلالا. ورواية صاحب القصة والسفير فيها أولى لأنه أخبر وأعرف بها ولا مطعن فيها بل ذكر بعضهم أن روايتهم متواترة ويوافقها الخبر الصحيح الصريح بالتحريم وعليه عمل الخلفاء وجمهور الصحابة والتابعين قال ولا يخطب بضم الطاء من الخطبة بكسر الخاء أي لايطلب امرأة لنكاح رواه مسلم وعن ابن عمر كان يقول لاينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب على نفسه ولا على غيره رواه الشافعي وغيره فيحرم عند الجمهور مالك والشافعي وأحد وغيرهم. (وسئل عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (وغيره) من

الصحابة رضي الله عنهم منهم علي وأبو هريرة وابن عباس (عن رجل أصاب أهله) أي جامع أهله (وهو محرم) بالحج ومثله العمرة (فقالوا ينفذان) بضم الفاء وبالذال المعجمة أي يمضيان (لوجههما) فيكملان أعمال حجهما كما لو لم يفسداه (ويقضيان حجهما) أي الرجل والمرأة (من قابل) عاجلا قضاء عن هذا الفاسد لوجوب إتمام فاسد الحج وكذا العمرة. وحكاه الوزير وغيره اتفاقا سواء كان الحج تطوعا أو واجبا لقضاء الصحابة ولقوله وأتموا الحج والعمرة لله (والهدي) في القضاء جبرا لفعلهما ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة (روها مالك) في موطأه والبيهقي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأما أثر ابن عباس فرواه البيهقي وابن عمر عند أحمد وعمرو بن العاص عند الدارقطني والحاكم والبيهقي وهو عند أبي داود مرسلا مرفوعا. وحكى ابن المنذر والوزير وغيرهما إجماع العلماء على أن الوطء قبل التحلل الأول يفسد النسك وتقدم قول الشيخ أنه ليس في المحظورات شيء يفسد الحج إلا الجماع وقالوا اتفقوا على أنه إذا أفسد الحج لم يتحلل منه بالإفساد ومعنى ذلك أنه متى أتى فيه بمحظور فعليه فيه ما على المحرم في الحج الصحيح ويمضي في فاسده ويلزمه ذلك ثم يقضي فيما بعد لكن إن حل من أفسد حجه لاحصارثم زال وفي الوقت سعة قضى في ذلك العام قاله جماعة.

ولا يتصور القضاء في العام الذي أفسده فيه في غير هذه المسألة قيل للقاضي لو جاز طوافه في النصف الأخير لصح أداء حجتين في عام واحد ولا يجوزا إجماعا وبعد التحلل الأول لايفسد نسكه اتفاقا وعليه شاة وعند الجمهور لا فرق بين العامد والساهي في بطلان الحج بالوطء قبل التحلل الأول واختاره جماعة ولما حكى شيخ الإسلام الخلاف في المجامع في رمضان ناسيا أوجاهلا ورجح أن لا قضاء عليه ولا كفارة لما قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة. قال وطرد هذا أن الحج لا يبطل بفعل شيء من المحظورات لا ناسيا ولا مخطئا لا الجماع ولا غيره وهو أظهر قولي الشافعي اهـ. وينبغي تفرقهما في قضاء من حيث يحرمان خوف المحظور ويحصل بأن لا يركب معها على بعير ولا يجلس معها في خباء ونحوه بل يكون قريبا منها يراعي أحوالهالأنه محرمها.

باب جزاء الصيد

باب جزاء الصيد أي باب حكم جزاء الصيد وجزاؤه ما يستحق بدل مثله إن وجد مثله وإلا فقيمته على من أتلفه بمباشرة أو سبب قال الزهري تجب الفدية على قاتل الصيد متعمدا بالكتاب وعلى المخطىء بالسنة وجزاء بالمد والهمز مصدر جزيته جزاء بما صنع ثم أوقع موقع المفعول تقول الكبش جزاء الضبع وجزى الشيء عنك وأجزأإذا قام مقامك قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} يعني لقتله ذاكرا عالما بالحرمة قال ابن عباس والجمهور يحكم عليه بالجزاء وإن تعمد القتل مع ذكر الإحرام وهو قول عامة الفقهاء وكذا إن قتله خطأ بأن قصد غيره بالرمي ونحوه فأصابه فهو كالعمد في وجوب الجزاء عند جمهور العلماء والفقهاء {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أي فعليه جزاء من النعم مثل ما قتل والشبه واحد وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين على أن المعتبر الخلقة لأن ظاهر الآية وقضاء الصحابة يدل عليه وما لا مثل له فالقيمة بلا نزاع ويجب رعاية حقيقة المماثلة بأقصى الإمكان وإن لم تكن وجب الاكتفاء بالقيمة للضرورة وقال البغي وغيره يجب عليه مثل الصيد من النعم وأراد به ما يقرب من الصيد المقتول شبها من حيث الخلقة لا من حيث القيمة {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي

يحكم بالجزاء في المثل والقيمة فيما لا يمكن فيه المثل عدلان من أهل ملتكم ودينكم وينبغي أن يكونا فقيهين ينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} يعني أن الكفارة هدي يساق إلى الكعبة والمراد كل الحرم لأ ن الذبح لايقع في الكعبة ولا عندها ملاقيا لها إنما يقع في الحرم وهو المراد بالبلوغ فيذبح الهدي بمكة ويتصدق به على مساكين الحرم قال ابن كثير وغيره وهذا أمر متفق عليه ولقوله ثم محلها إلى البيت العتيق ويدخل فيه دم متعة وقران ومنذور وما وجب لترك واجب أو فعل محظور في الحرم وكذا الإطعام قال ابن عباس الهدي والإطعام بمكة بخلاف فدية الأذى واللبس ونحوهما وكل محظور فعله خارج الحرم فحيث وجد سببه {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} قال الشيخ لكل مسكين نصف صاع من تمر أو شعير أو مد بر وإن أطعمه خبزا جاز ويكون رطلين بالعراقي قريبا من نصف رطل بالدمشقي وينبغي أن يكون مأدوما وإن أطعمه مما يأكل جاز وهو أفضل من أن يعطيه قمحا وشعيرا وكذلك في سائر الكفارات إذا أعطاه ما يقتات به مع أدمه فهو أفضل من أن يعطيه حبا مجردا إذالم يكن عادتهم أن يطحنوا بأيديهم ويخبزوا بأيديهم والواجب في ذلك كله ما ذكره الله بقوله {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} رجحوا أيضا أنه

يرجع إلى العرف فيه فيطعم كل مما يطعم أهليهم وذكر قصة كعب لما كانوا يقتاتون التمر أمره أن يطعم منه {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} أي أو ما ساواه دراهم والدراهم يشتري بها طعاما فيتصدق به أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوما. ويجزىء الصوم بكل مكان فكفارة جزاء الصيد على التخيير اتفاقا كفدية الحلق للاية والخيار فيه إلى قاتل الصيد لأن الله أوجب عليه أحد الثلاثةعلى التخيير فوجب أن يكون هو المخير بين أيها شاء وأو حقيقة في التخيير كأنه فدية الأذى بخلاف هدي التمتع {لِيَذُوقَ} أي ليتجرع مرارة {وَبَالَ أَمْرِهِ} أي جزاء معصيته وهو الغرامة وكثرة استعماله في العذاب ومباشرته غير منتظر ولا يختص بحاسة الفم والوبال الشيء الثقيل فدل على وجوب الجزاء وعلى تأثيم العامد {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} أي قبل التحريم ونزول الآية {وَمَنْ عَادَ} أي إلى قتل الصيد {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} في الدنيا والاخرة وعليه مع ذلك الجزاء في الدنيا وإن كرر القتل تكرر عليه الجزاء أيضا (والله عزيز ذو انتقام) ممن عصاه. (وعن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه (قال جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضبع) بفتح الضاد وضم الباء وتسكن سبع معروف يشبه الذئب إلا أنه إذا مشى فيه عرج والذكر ضبعان بالكسر والأنثى ضبعة جعل فيه (كبشا) وهو فحل الضأن في أي سن كان وقيل إذا أثنى أو أربع (رواه الخمسة)

وغيرهم بسند صحيح وقضى به عمر وابنه. (زاد الدارقطني) ومالك وغيرهما عن جابر (و) قضى (في الظبي شاة) وقضى به عمر وابن العباس وروي عن علي وقاله عطاء وغيرهم وقال ابن المنذر لايعرف عن غيرهم خلافهم والظبي حيوان معروف اسم للذكر ويقال له تيس وذلك اسمه إذا أثنى ولا يزال ثنيا حتى يموت والأنثى ظبية (وفي الغزال) وهو من الظبا الشادن وقيل الأنثى حتى يتحرك ويمشي إلى طلوع قرنه وقيل قبل الإثناء (عنز) وهي أنثى المعز وقضى به عمر وغيره وفيه شبه الغزال لأنه أجرد الشعر منقطع الذنب وكذا العنز من الظباء والأوعال وإذا كان الغزال صغيرا فالعنز الواجبة فيه صغيرة مثله. (وفي الأرنب) حيوان معروف شهرته تغني عن وصفه (عناق) وهي الأنثى الجذعة من ولد المعز أصغر من الجفرة وكذا هو مروي عن عمر وغيره وفي الضب جدي قضى به عمر وغيره وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما وكذا والوبر قياسا عليه وقال مالك قيمة الوبر واليربوع كالضب (وفي اليربوع) حيوان معروف فوق الجرذ الذكر والأنثى فيه سواء والعامة تبدل ياءه جيما (جفرة) لها أربعة أشهر غالبا قال ابن الزبير فطمت ورعت وقضى به أيضا عمر وابنه وابن مسعود وغيرهم وهذا الخبر جاء عن عمر وغيره

موقوفا. وهو أصح وقال - صلى الله عليه وسلم - عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها. وفي الآية الكريمة (يحكم به ذوا عدل منكم) وما حكموا فيه رضي الله عنهم لا يتكرر الحكم فيه بل يبقى على ذلك الحكم فهم أعدل الأمة وأعلمها بمراد الله ورسوله وأقرب إلى الصواب وأعرف بمواقع الخطاب فحكمهم حجة على غيرهم كالعالم مع العامي مع أنه روي مرفوعا (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (في النعامة) بفتح النون من الطير تذكر وتؤنث والنعام اسم جنس (بدنة) من الإبل ذكرا كان أو أنثى لأنها تشبهها في كثير من صفاتها فكانت مثلا لها وروي عن عمر وعثمان وعلي وزيد ومعاوية وغيرهم وهو مذهب أحمد والشافعي ومالك وصاحبي أبي حنيفة وأكثر العلماء (وحمار الوحش) بالإضافة ويقال حمار وحش والحمار الوحشي معروف (والوعل) وهي الأروى ويقال أنه تيس الجبل كما في القاموس وغيره (بقرة) وهي ما تم لها سنتان (رواه ابن جرير) وغيره عن جماعة من الصحابة والتابعين فروي عن ابن مسعود وعروة ومجاهد وغيرهم وهو مذهب الشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم وكذا في بقرة الوحش بقرة روي عن ابن مسعود وعطاء وعروة وقتادة وهو مذهب أحمد والشافعي وعن ابن عباس أيضا في الأيل بقرة.

وهو الذكر من الأوعال ويقال له الثيتل وقال الجوهري الثيتل الوعل المسن والوعل من أولاد البقر ما بلغ أن يقبض على قرنه ولم يبلغ أن يكون ثورا. (وفي الحمامة شاة رواه الشافعي وغيره) عن ابن عباس رضي الله عنهما وحكم به عمر وعثمان وابن عمر وجابر رواه الشافعي وغيره أيضا وقال غير واحد هو إجماع الصحابة وليس ذلك على وجه القيمة والحمام هو كلما عب الماء يعني شرب الماء مرة واحدة من غير مص كما تعب الدواب وإنما يضع منقاره في الماء فيكرع كما تكرع الشاة ولا يأخد قطرة قطرة كالدجاج والعصافير وهو أيضا كلما صوت أي غرد ورجع صوته كأنه يسجع فأوجبوا فيه شاة لشبهه بها في كرع الماء ويدخل في الحمام الفواخت والوراشين والقطاء والقمري والدبسي لأن العرب تسميها حماما وقال الكسائي كل مطوق حمام فيدخل فيه الحجل لأنه مطوق إلا أنه لا يعب الماء وهذا ونحوه مما قضت فيه الصحابة وما لم تقض فيه يرجع فيه إلى قول عدلين خبيرين يحكمان فيه بأشبه الأشياء به من حيث الخلقة كقضاء الصحابة ولأنه لايتمكن من الحكم بالمثل إلا بها وما لا مثل له كباقي الطيور فيضمن بالقيمة اتفاقا ولأنه القياس وقال ابن عباس ما أصيب من الطير دون الحمام ففيه

الدية أي يضمن بقيمته في موضعه الذي أتلف فيه فما دون الحمام من العصافير ونحوها من الطيور تجب فيه قيمته عند الجمهوروعمر وابن عباس وغيرهما أوجبوا الجزاء في الجرادة فالعصفور أولى وذكر الموفق وغيره أن الجراد يضمن بقيمته وأنه قول أكثر الفقهاء لأنه طير في البر وقال العبدري هو قول أهل العلم كافة إلا الأصطخري ودلت الأحاديث أنه مأكول يفرخ في البر فوجب جزاؤه وما روي أنه من صيد البحر فقال أبو داود وهم ويضمن المحرم بيض صيد أتلفه أو نقله إلى موضع ففسد بقيمته لخبر الأنصاري في بيض نعامة قال عليه الصلاة والسلام عليه بكل بيضة صوم يوم أو إطعام مسكين حديث حسن وعن عائشة نحوه وللشافعي عن ابن مسعود وأبي موسى نحوه موقوفا وقال ابن عباس في بيض النعام قيمته ولخبر أبي هريرة عند ابن ماجه في بيض النعام ثمنه وحكى الوزير وغيره اتفاقهم على أن بيض النعام مضمون وكذا لبن صيد مضمون انفاقا والأولى بقيمته وكل صيد يحرم قتله تجب القيمة في إتلاف بيضه سواء الدواب أو الطيور عند الشافعي وأحمد والجمهور.

باب صيد الحرم

باب صيد الحرم أي حكم صيد حرم مكة وحكم نباته وحرم المدينة وما يتعلق بذلك قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} خطاب منه جل وعلا لأهل مكة {أَنَّا جَعَلْنَا} أي صيرنا {حَرَمًا آمِنًا} من الخوف فلا يرعب ولا يقاتل أهله يمتن تعالى على قريش فيما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس امنا سواء العاكف فيه والباد ومن دخله كان امنا فهم في أمن عظيم والأعراب حوله وسائر العرب ينهب بعضهم بعضا ويسبي بعضهم بعضا ويذكرهم هذه النعمة الخاصة بهم ويوبخهم بقوله أفبالبطل الذي هم عليه يؤمنون أي أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة) سنة ثمان (إن هذا البلد) والمراد البقعة لأنه لم يكن بلدا يوم خلقها الله (حرمه الله) أي حكم بتحريمه وقضاه (يوم خلق السموات والأرض) وإبراهيم عليه السلام أظهر تحريمها بأمر الله لاباجتهاده لقوله ولم يحرمها الناس (فهو حرام بحرمة الله) أي بتحريمه لا يقاتل أهله ويحرم صيده وقطع شجره ولا يحدث فيه حدث (إلى يوم القيامة) فتحريمها مستمر إلى قيام الساعة.

ولهما من حديث أبي هريرة قال لما فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنها لم تحل لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار" أي إراقة الدم دون الصيد والشجر " وإنها لا تحل لأحد بعدي فلا ينفر صيدها " الخ فمكة وما حولها كانب حرما قبل الخليل عليه السلام في قوله أكثر أهل العلم لهذين الخبرين وغيرهما. وما جاء أن الخليل حرم مكة فالمراد أظهر تحريمها وبينه. وحد حرمها من طريق المدينة ثلاثة أميال عند بيوت السقيا إضاءة بني غفار ويقال بيوت نفار دون التنعيم تعرف بمساجد عائشة. ومن اليمن عند إضاءة لبن من جهة الجنوب. ومن العراق كذلك على ثنية رجل جبل بالمقطع قطعت منه حجارة الكعبة زمن ابن الزبير. ومن الطائف وبطن نمرة كذلك في شعب عبد الله بن خالد بن أسيد علامة له من جهة عرفة. ومن جدة عشرة عند منقطع الأعشاش دون الشميسي. وهو الحديبية وليست داخلة فيه. ومن بطن عرنة أحد عشر ميلا. وعلى تلك أنصاب الحرم من جهاتها الأربع وغيرها لم تزل معلومة. وأول من نصبها الخليل عليه السلام ثم قصى وقيل ثم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عثمان ثم معاوية ثم عبد الملك. ثم الراضي الذي بالتنعيم. ثم المظفر الذي بجهة عرفة. ثم صاحب اليمن ثم

العثماني وغيرهم. وفيه أنها فتحت عنوة وعليه الجمهور. ولا يعرف فيه خلاف إلا رواية عن الشافعي وأحمد. ومن خصائص الحرم أن يعاقب المريد للمعصية فيه إذا كان عازما عليها. وإن لم يوقعها. لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وأن يستحل من الحرم ما حرمة الله عليه (لا يعضد) أي لا يقطع (شوكه) وهو كالصريح في تحريم قطع الورق. قال ابن القيم وهو المذهب والأصح لظاهر النص والقياس. فإن منزلته من الشجر منزلة ريش الطائر منه اهـ. ـ. وفي لفظ لا يعضد شجرها أي يقطع بالمعضد وهو آلة كالفأس. فدل على تحريم قطع الشوك وهو قول جمهور أهل العلم وأفاد تحريم قطع ما لا يؤذي بالأولى واتفق أهل العلم على تحريم قطع أشجارها التي لم ينبتها الآدميون في العادة كشجر الحرم البري إجماعا وفي البخاري لا يعضد بها شجرة وأما ما يزرعه الآدميون من أنواع الحبوب وغيرها والبقول والرياحين ويغرسونه من غير شجر الحرم فإنه يباح أخذه والانتفاع به كنخل وجوز إجماعا وعمل المسلمين عليه (ولا يختلى) أي لا يؤخذ ويقطع (خلاه) أي النبات الدقيق الرطب من الكلأ والعشب الرطب منه قال أحمد وغيره لا يحش الحرم ويعم الأراك والورق وفي رواية ولا يحش

حشيشها وتخصيص التحريم بالرطب إشارة إلى جواز اختلاء اليابس كأخذ المنكسر ولم يبن كظفر منكسر (ولا ينفر صيده) أي لا يزعجه أحد ولا يهيجه ولا ينحيه عن موضعه من غير ضرورة فإن فعل عصى تلف أو لا وإن تلف ضمنه ويستفاد من النهي عن التنفير تحريم الإتلاف بطريق الأولى وتقدم الإجماع على تحريمه ووجوب الفدية فيه مطلقا (ولا تلتقط لقطته) أي ساقطته (إلا لمعرف) ولفظ أبي هريرة ولا تحل ساقطتها إلا المنشد أي معرف ليردها على صاحبها ففيه أنها لا تحل لقطتها ألا لمن يعرف بها أبدا وهو خاص بها ولا يتملكها وذكر ابن القيم عن الشيخ وغيره أن الفرق بين لقطة مكة وغيرها أن الناس يتفرقون من مكة فلا يمكن تعريف اللقطة في العام فلا يحل لأحد يلتقط لقطتها إلا مبادر إلى تعريفها قبل تفرق الناس بخلاف غيرها من البلاد وروي والمدينة فيجوز بنية التملك بعد التعريف سنة ويأتي في باب اللقطة إن شاء الله تعالى (قال العباس) بن عبد المنطلب بن هاشم عم النبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله (إلا الإ ذخر) فإنه لقينهم وبيوتهم كأنه يقول هذا ما تدعو الحاجة إليه وقد عهد من الشريعة عدم الحرج فقرر - صلى الله عليه وسلم - كلامه وقبل شفاعته فيه والإذخر نبت معروف عند أهل مكة طيب الرائحة له أصل مند فن وقضبان دقاق ينبت في السهل والحزن كان يسقف به أهل مكة بيوتهم من بين الخشب

ويسددون به الخلل بين اللبنات في القبور (فقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إلا الإ ذخر متفق عليه) وفيه دليل على المنع من احتشاش غيره لا رعيه عند الجمهور لأ ن الهدايا وغيرها كانت تدخل الحرم فتكثر فيه ولم ينقل سد أفواهها وللحاجة إليه أشبه قطع الإذخر بخلاف الاحتشاش لها منه فيحرم وتضمن شجرة صغيرة عرفا بشاة عند الشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة بالقيمة وما فوقها ببقرة قال ابن عباس في الدوحة بقرة وفي الجزلة شاة فالمتوسطة بقدرها أمر عمر بقطع شجرة في المطاف وفدى ويفعل به كجزاء الصيد ويضمن حشيش وورق بقيمته عند الجمهور الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم لأن الأصل وجوب القيمة ترك فيما تقدم لقضاء الصحابة فبقى ما عداه على مقتضى الأصل (ولهما عن علي) رضي الله عنه (مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (المدينة) هي علم بالغلبة لمدينته - صلى الله عليه وسلم - التي هاجر إليها فلا يتبادر عند إطلاق اللفظ إلا إليها ولها اسماء كثيرة منها طيبة ويثرب فهي (حرام) وفي لفظ حرم ويكون الحرم والحرام كزمن وزمان أي المدينة حرم محرمة (ما بين عير) بفتح فسكون جبل كبير مشهور بها مستطيل مرتفع في قبلتها قال الشيخ عند الميقات يشبه العير وهو الحمار إلى ثور).

وتمامه من أحدث فيها حدثا أواوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل وثور جبل صغير لونه إلى الحمرة فيه تدوير ليس بالمستطيل خلف أحد من جهة الشمال قاله شيخ الإسلام وغيره وذكر المراغي وابن مزروع البصري أنه معروف عند أهل المدينة والعرب من بني هتيم وغيرهم قال الطبري فعلمنا أن ذكر ثور في الحديث صحيح وأن عدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته وبحثهم عنه فأحد حرم لأن ثورا حده من جهة الشمال كما أن عيرا حده من جهة الجنوب وهذا الحديث مفسر لما في الصحيحين عن أبي هريرة حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابتي المدينة وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى ولا بتيها حرتان منكتنفتان لها ولأحمد من حديث جابر حرام ما بين حرتيها وحماها كلها ولمسلم عن أبي سعيد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال إني حرمت المدينة حرام ما بين مأزميها ولهما عن أنس ما بين جبليها فما بين عير إلى ثور حد لحرمها من جهة الجنوب والشمال وما بين حرتيها حد لحرمها من جهة المشرق والمغرب وقال شيخ الإسلام لها حرم عند الجمهور كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس في الدنيا حرم لا بيت المقدس ولا غيره إلا هذين الحرمين. يعني حرمي مكة والمدينة. ولا يسمى غيرهام حرما. كما يسمي الجهال: فيقول حرم القدس. وحرم الخليل.

فإن هذين وغيرهما ليسا يحرم باتفاق المسلمين. ولم بتنازع المسلمون في حرم ثالث إلا في وج. وهو واد بالطائف وهو عند بعضهم حرم. وعند الجمهور ليس بحرم. قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه غير محرم الأصطياد ولا القطع إلا الشافعي. فقال يمنع من صيدها وقتله ولم يثبت فيه شئ. (ولهما عن أبي هريرة) يعنى مرفوعات إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (إن إبراهيم) يعني الخليل عليه السلام (حرم مكة) وفي رواية "إن الله حرم مكة" ولا منافاة فالمراد أن الله حكم بحرمتها وإبراهيم أظهر هذا الحكم على العباد (ودعا لها) أي دعا لأهلها حيث قال (رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات) وغيرها من الأيات (وإني) يعنى نفسه الشريفة صلوات الله وسلامه عليه (حرمت المدينة) أي جعلتها حراما يحرم صيدها وقطع شجرها. وقد أستفاض عنه من غير وجه. (كما حرم إبراهيم مكة) ولهما من حديث عباد بن تيمم نحوه (ودعا) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - للمدينة (بمثلي ما دعا إبراهيم) أي ضعف ما دعا إبراهيم وفي لفظ "بمثل ما دعا إبراهيم. ومثله معه". وفي لفظ "وبارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مديتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك في مدنا. اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبد ونبيك وإنه دعا لمكة وإني أدعو للمدينة بمثل ما دعا لمكة". ولهما من حديث عبد الله بن زيد "أن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما

حرم إبراهيم مكة. وإني دعوت في صاعها ومدها" البركة هنا. معنى النماء والزيادة. أو في نفس الكيل بحيث يكفي المد فيها من لا يكفيه في غيرها. ولمسلم من حديث جابر يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها" وتواردت بهذا الأخبار (لا يقطع عضاهما) وهو كل شجر عظيم له شوك وللبخاري من حديث أنس " لا يقطع شجرها" ولمسلم عنه "لا يختلي خلاها فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" ولأحمد من حديث أبي هريرة سمعته " يحرم شجرها أن يخبط أو يعضد" أي يقطع ولا يصاد صيدها ولمسلم عن عامر بن سعد عن أبيه مرفوعا "إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها". وتحريم قتل صيدها من طرق كتحريم قطع شجرها. وهو مذهب جمهور أهل العلم مالك والشافعي وأحمد وغيرهم كرم مكة. ألا يعلف الرجل بعيره ونحوه. ولا جزاء فيما حرم من صيدها وشجرها وحشيشها. قال أحمد وغيره: لم يبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحدا من أصحابه حكموا فيه بجزاء. وهو مذهب مالك والشافعي ,ابي حنيفة وجماهير العلماء. قال الشيخ: وإذا دخل عليه صيد لم يكن عليه إرساله. لخبر أنس "يا أبا عمير ما فعل النغير" قيل عصفور كان يلعب به متفق عليه. وقيل يسلب من العادي ونتصدق به. لفعل سعد

بمن وجده يقطع شجرا فسلبه. وقال "نفلنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رواه مسلم. قال القاضي عياض ولم يقل به أحد بعد الصحابة إلا السافعي في قوله القديم. وروى عن أحمد. (ولأحمد) من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لما حرم المدينة قالوا يا رسول الله إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح وإنا لا نستطيع أرضا غير أرضنا فرخص لنا فـ (ـرخص) لهم صلوات الله وسلامه عليه (في آلة الحرث ونحوه) كآلة الرحل. ولفظه فقال " القائمتان والوسادة والعارضة والمسند وأما غير ذلك فلا يخبط منه شئ". قال شيخ الإسلام: ولا يقلع شجره إلا لحاجة كآلة الركوب والحرث. ويؤخذ من حشيشه ما يحتاج إليه للعلف. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لأهل المدينة في هذا لحاجتهم إلى ذلك. إذ ليس حولهم ما يستغنون به عنه. ولأحمد من حديث على "لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاذ بها. ولا يصلح لرجل أن يجمل فيها السلاح لقتال. ولا يصلح أن تقطع فيها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره" وله من حديث جابر "لا يقطع شجرة إلا أن يعلف منها". وتستحب المجاورة بمكة عند الجماهير مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وهي أفضل من المدينة. وأحب البلاد إلى الله لما في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - "وإنك لأحب البقاع إلى" صححه الترمذي. والعمل فيها أفضل للنصوص. وقيل: المدينة أفضل

من مكة لأنها مهاجر المسلمين ولترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجاورة فيها. ولعل الخلاف في المجاورة فقط. وأما الأفضلية فالنصوص فاصلة في ذلك. وقال الشيخ: المجاورة بمكان بكثر فيه إيمانه وتقواه أفضل حيث كان. واختار أن الحسنة والسيئة تضاعف بالمكان الفاضل الحسنة بالكمية. والسيئة بالكيفية.

باب دخول مكة

باب دخول مكة أي باب بيان حكم دخول مكة المشرفة وما يتعلق به. من الطواف والسعي وغير ذلك. ومكة علم على جميع البلدة وهي البلدة المعروفة المعظمة المحجوجة غير مصروفة. سميت مكة لأنها كانت تمك من ظلم فيها أي تهلكه. وقيل مائها وقيل لأنها تمك المخ من العظم مأخوذ من قولهم مك الفصيل ضرع أمه وتسمى بكة من البك وهو الازدحام ودق الأعناق لأنها تدق أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها. وهي البلد الأمين الذي أقسم الله به في كتابه. وأم القرى ولها أسماء أخر. قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} أي ليحضروا منافع الدينا والآخرة. وأما منافع الآخرة فالعفو والعافية ورضوان الله وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات. وهذه الآية كقوله: {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} وهو جواب الأمر في قوله لخليله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} إلى قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}. وقال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} يعنى الكعبة المعظمة. ويدخل فيه الحرم كله. فإن الله وصفه بكونه آمنا. هذا صفة جميع الحرم {مَثَابَةً} مرجعا {للنَّاسِ} من كل

جانب يحجونه لا يقضون منه وطرا. يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه قال الشاعر: جعل البيت مثابا لهم ... ليس منه الدهر يقضون الوطر قال ابن كثير وغيره بذكر تعالي شرف البيت وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه مثابة للناس. أي جعله محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه. ولا يقضي منه وطرا. ولو ترددت إليه كل عام استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} {وَأَمْنًا} يأمنون فيه حتى لو فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا. {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} المقام هو الحجر الذي في المسجد يصلى إليه الأئمة. كان الخليل يقوم عليه لبناء الكعبة وكان كلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية التي تليها وهكذا. حتى تم جدار الكعبة. وفيه أثره وهو نحو ذراع وأقل طولا وعرضا كان عن يمين باب البيت. ثم حوله عمر إلى موضعه الآن. وأقره المسلمون. فيستحب أن يصلي ركعتي الطواف خلفه. لفعله - صلى الله عليه وسلم - متفق عليه. وما وحوله يطلق عليه اسم المقام عرفا ثم ما قرب من البيت ويجوز بدون سترة. قال الشيخ ولو صلى المصلى في المسجد والناس يطوفون أمامه لم يكره. سواء مر أمامه رجل أو امرأة هذا من خصائص

مكة ويجزئ فعلها في غير إجماعا. فإن عمر ركعهما بذي طوى رواه البخاري. ويطلق المقام على الحرم وعلى المشاعر. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما جاء مكة) شرفها الله (دخل من أعلاها) من الثنية التي ينزل منها إلى المعلي ثنية كداء. بفتح الكاف والدال ممدود وكل عقبة في جبل أو طريق فيه يسمى ثنية. وفي رواية دخل عام الفتح من كداء التي بأعلى مكة. وهو طريق بين جبلين يقال له "الحجون" المشرف على مقبرة أهل مكة. وكانت صعبة المرتقى. فسهلها معاوية. ثم من بعده والدخول معها سنة باتفاق أهل العلم. سواء كان حاجا أو معتمرا للإتيان من وجهة البلد والكعبة. ويستقبلها استقبالا من غير انحراف. وهذا إذا كان أيسر عليه. ولهما عن ابن عمر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل مكة دخل من الثنية العلياء التي بالبطحاء". ولهما عنه يبيت بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ويدخل مكة واتفقوا على استحباب الغسل لدخول مكة. قال الشيخ: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل لدخول مكة كما كان يبيت بذي طوى. وهو عند الأبار التي يقال لها آبار الزاهر. فمن تيسر له المبيت بها والأعتسال ودخول مكة نهارا وإلا فليس عليه شئ من ذلك. وقال الترمذي الصحيح ما روى نافع عن

ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - اغتسل لدخول مكة. ولا بأس بدخولها ليلا فإنه - صلى الله عليه وسلم - دخلها في عمرة الجعرانة ليلا. (وخرج من أسفلها متفق عليه) ولهما عن ابن عمر "وإذا خرج خرج من الثنية السفلى" من كدي بضم الكاف والتنوين. المعروف الآن بباب الشبيكة بقرب شعب الشافعيين وشعب ابن الزبير. عند قيعقعان. وكان ابن عمر إذا نفر منها مر بذي طوى وبات بها حتى يصبح. ويذكر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك" ففيه استحباب الخروج من السفلى حاجا كان أو معتمرا. (ولمسلم عن جابر: أناخ راحلته) يعنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عند باب بني شيبة) وهو المعلم عليه بالكمر يدخل معه بين المقام وزمزم وهو باب السلام (ثم دخل المسجد) وهو مرصوف بالرخام عليه صف من الأعمدة المصنوعة من نحاس محيطة به تعلق فيها المصابيح كان أهبط مما يليه بنحو درجة. وما سواه مزيد. وتقدم أن الزيادة لها حكم المزيد. فيسن الدخول من باب بني شيبة باتفاق أهل العلم. وإن لم يكن على طريقه لهذا الخبر وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل منه. والدوران إليه لا يشق. ومن ثم لم يكن خلاف في سنيته. بخلاف التعريج على ثنية كداء. ولأنه جهة باب الكعبة والبيوت تؤتي من أبوابها ومن ثم كانت جهة باب الكعبة أشرف جهاتها الأربع. وفيه الحجر الأسود. وصح أنه يمين الله في الأرض. نسبة باب

البيت إليه كنسبة وجه الإنسان إليه. وأماثل الناس يقصدون من جهة وجوهم. أطبقوا على استحباب الدخول من باب بني شيبة لكل قادم. إذ من قصد ملكا أم بابه. قيل وقيل يمينه. قال شيخ الإسلام إذا أتى مكة جاز أن يدخل مكة. والمسجد من جميع الجوانب. لكن الأفضل أن يأتي من وجه الكعبة. اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. فإنه دخلها من وجهها من الناحية العليا من ثنية كداء المشرفة على المقبرة. ودخل المسجد من الباب الأعظم الذي يقال له باب بني شيبة. ثم ذهب إلى الحجر الأسود. فإن هذا أقرب الطرق إلى الحجر الأسود لمن دخل من باب المعلاة. (وروى سعيد) بن منصور في سننه (والشافعي) في مسنده عن بن جريج مرسلا. وعن عمر موقوفا. وذكره ابن القيم وغيره. وسمعه سعيد بن المسيب من عمر. ورواه البيهقي عنه وغيرهم (أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى البيت) وكان يرى قبل علو البناء من ردم عمر (رفع يديه) وفي مراسيل مكحول "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر" وذكر ابن جرير وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إذا رأى البيت رفع يديه وكبر" وليس المراد على هيئة رفعها في الصلاة. قال الشيخ فمن رأي البيت قبل دخوله المسجد فعل ذلك. وقد استحب ذلك من استحبه من رؤية البيت. والآن لا يرى إلا بعد دخول المسجد في حال سيره إلى البيت. فيستحب إذا وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. قال في المبدع

وغيره وهو قول الأكثر (وقال اللهم أنت السلام) فالسلام اسم من أسماء لله تعالى. فهو السالم من كل عيب ونقص (ومنك السلام) اي لمن أكرمته بالسلام أي التحية. ورفع الدرجة. أو السلامة من الآفات (وحينا ربنا بالسلام) أي الأمن مما جنيناه والعفو عما اقترفناه أو بالسلامة من الآفات. (اللهم زد هذا البيت) يعنى الكعبة المشرفة (تعظيما) أي تبجيلا (وتشريفا) أي رفعة وعلوا (وتكريما) أي تفضيلا (ومهابة) أي تقديرا وإجلالا (وبرا) بكسر الباء والبر اسم جامعة للخير (وزد من عظمه وشرفه) بزيارته والطواف به. كما وضحه بقوله (ممن حجه واعتمره تكريما وتشريفا وتعظيما ومهابة وبرا) وحكمة تقديم التعظيم على التكريم في البيت. وعكسه في قاصديه أن المقصود بالذات في البيت إظهار عظمته في النفوس. حتى تخضع لشرفه. وتقوم بحقوقه. ثم كرامته بإكرام زائريه بإعطائهم ما طلبوه. وانجازهم ما أملوه. وفي زائريه وجود كرامته عند الله بإسباغ رضاه عليهم. وعفوه عما جنوه واقترفوه. ثم عظمته بين أبناء جنسه بظهور تقواه وهدايته. ويرشد إليه ختم دعاء البيت بالمهابة الناشئة عن تلك العظمة إذا هي التوقير والإجلال. ودعاء الزائر بالبر الناشئ عن ذلك التكريم. وإن زاد الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا كما هو أهله. وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. والحمد لله الذي بلغني بيته. ورآني لذلك أهلا. والحمد لله على

كل حال. اللهم إنك دعوت إلىحج بيتك الحرام. وقد جئتك لذلك. اللهم تقبل منى واعف عني. واصلح لي شأني لا إله إلا أنت فحسن. ذكره إبراهيم الحربي والأثرم وغيرهما. والمراد إن أمكنه هذا الدعاء. إذا دخل من باب المسجد بعد قول بسم الله أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم. اللهم صل على محمد اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. واستحب بعض أهل العلم رفع الصوت بالدعاء لأنه ذكر مشروع. فاستحب رفع الصوت به كالتلتبية. ويمكنه هذا الدعاء إذا دخل باب المسجد. أما إذا وصل إلىلبيت فقال الشيخ وغيره لا يشتغل بدعاء. (وعن يعلى بن أمية) بن أبي عبيدة التميمي الحنظلي رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف) يعنى بالبيت من قولهم طاف أي: ألم (مضطبعا) ببرد أخضر رواه الخمسة إلا النسائي و (صححه الترمذي) ولفظ أحمد لما قدم مكة طاف بالبيت وهو مضطبع. والاضطباع افتعال من الضبع وهو العضو. سمي اضطباعا لإبداء الضبعين. ويسمى تأبطا. لأنه يجعل وسط الرداء تحت الإبط. ويبدي ضبعه الأيمن. ويقال هو أن يأخذ الرداء أو البرد ويجعله تحت إبطه الأيمن. ويلقى طرفيه على كتفه الأيسر من جهة صدره وظهره. سواء كان معتمرا أو قارنا أو مفردا على هيئة أرباب الشجاعة إظهارا للجلادة في ميدان تلك العبادة. واقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.

ولأبي داود عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، "اعتمروا من الجعرانة. فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم. ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى" ليستعينوا بذلك على الرمل. وليرى المشركون قوتهم. ثم صار سنة باتفاق الأئمة. سواء كان معتمرا أو قارنا أو مفردا. ويضطبع في الأشواط السبعة عند الجمهور. فإذا قضى طوافه سوى ثيابه. ولا يضطبع في ركعتى الطواف عند الجمهور. وذلك ما لم يكن حامل معذور بردائه وهو من سنن الطواف قال الشيخ وغيره وإن تركه فلا شئ عليه. (ولمسلم من حديث جابر) الطويل وهو حديث جليل مشتمل على جمل ونفائس ومهمات وقواعد. قال: (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن) يعني الحجر الأسود. ويسمى الركن الأسود. وهو ركن الكعبة في الباب من جانب الشرق. وارتفاعه من الأرض ذراعان وثلث. استلمه أي مسحه بيده اليمنى. وفي الحديث "أنه نزل من الجنة أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم" صححه الترمذي. واستلامه سنة باتفاق المسلمين. وفي الحديث "والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق" وللترمذي عن عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاء لهما ما بين المشرق

والمغرب" وأهل اليمن يسمونه المحيا. لأن الناس يحيونه بالسلام. ويأتي إليه مستقبلاً له. محاذيًا له بجميع بدنه. بأن يقف مقابله. حتى يكون مبصرًا لظلعي البيت الذي عن أيمن الحجر وأيسره. احترازًا من أن يقف في ظلع الباب. وأذا حاذاه بجميع بدنه أجزأ بلا نزاع. قال الشيخ: فيبتدئ من الحجر الأسود يستقبله استقبالا. وذكرأنه هو السنة. قال وليس عليه أن يذهب إلى ما بين الركنين. ولا يمشي عرضا. ثم ينتقل إلى الطواف. بل ولا يستحب ذلك. وفي الخلاف لا يجوز أن يبتدئه غير مستقبل له. ومن قال يستقبل البيت بحيث يصير الحجر عن يمينه فهو خلاف السنة. وما عليه الأئمة. فلا يكون داخلا في الخروج من الخلاف. فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني. وابتداء الطواف مما بين الركنين مخالف للإجماع. وفي حديث جابر: ثم مشى على يمينه. فيجب أن يجعل البيت عن يساره. ويأخذ على يمينه. قال الشيخ لكون الحركة الدورية تعتمد فيها اليمنى على اليسرى. فلما كان الإكرام في ذلك للخارج جعل اليمنى اهـ. وأول شئ يبتدئ به المعتمر طواف العمرة. لأن الذي أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بفسخ نسكهم إليها أمرهم أن يطوفوا لها. وأما القارن والمفرد فيطوف للقدوم. وهو الورود. لفعل الصحابة الذين كانوا كذلك .. واتفق الأئمة على أنه سنة من سنن الحج. وشدد فيه مالك. ويبدأ القادم أول شئ بالطواف.

لأنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ به أول شئ. كما في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة توضأ ثم طاف. ولأن مقصوده بسفره زيارة البيت. وهو في المسجد الحرام. فلا يشتغل بغيره. والطواف تحية المسجد الحرام. فالمستحب البداءة به. إلا أن يخاف فوت مكتوبة ونحو ذلك. وقال عطاء: لم يلو على شئ ولم يعرج. ولا بلغنا أنه دخل ولا لهى بشئ. حتى دخل المسجد فبدأ بالبيت فطاف به (فرمل ثلاثا) أي في ثلاثة أشواط من الحجر إلى الحجر. وهو في الصحيحين وغيرهما من غير وجه عن أبي عمر وغيره. ولا يثب وثبا لأن ذلك ليس برمل. فإنه إذا فعله لم يكن آتيا بالرمل المشروع. قال الشيخ وابن القيم وغيرهما: الرمل مثل الهرولة وهو مسارعة المشي مع تقارب الخطأ. (ومشى أربعا) أي أربعة أشواط بقية سبعة من غير رمل. ولهما عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - " أمرهم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا أربعة" ولهما أيضا عن ابن عمر أنه كان إذا طاف بالبيت رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة. ويقول: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله" والحكمة في ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة فقال المشركون إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب فأمر أصحابه أن يرملوا الثلاثة، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم".

وكان هذا أصل الرمل. وسببه إغاظة المشركين. وكان في عمرة القضية. ثم صار سنة. ففعله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع مع زوال سببه كالسعي والرمي. قال ابن عباس رمل في عمره كلها وفي حجة الوداع. وأبو بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم. وقد يكون فعله باعثا علىتذكر سببه. فيذكر نعمة الله على إعزاز الإسلام وأهله. واتفقوا على سنيته. وقال الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم. ويختص الرمل بالرجال. لا يسن لحامل معذور. ولا لامرأة إجماعا. ومحرم من مكة أوقربها لعدم وجود المعنى الذي لأجله شرع. وهو إظهار الجلد والقوة لأهل البلد. ولا رمل في غير طواف القدوم. قال ابن عباس: لم يرمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبع الذي أفاض فيه. وهو مذهب جمهور أهل العلم. ولا يقضي إذا فات في الثلاثة الأول من طواف القدوم. لأنه هيئة فات محلها. والأربعة هيئتها السكينة فلا تغير. والرمل أولى من الدنو من البيت. لأن المحافظة على فضيلة تتعلق بذات العبادة من من فضيلة تتعلق بمكانها. قال الشيخ: فإن لم يمكن الرمل للزحمة كان خروجه إلى حاشية المطاف والرمل أفضل من قربه من البيت بدون الرمل. وأما إذا أمكن القرب من البيت مع إكمال السنة فهو أولى. وإن حصل التزاحم في الأثناء فعل ما قدر عليه اهـ. ولا يصح إلا بإكمال السبعة الأشواط ويبني على اليقين إجماعًا. وإن أحدث في بعض طوافه أو قطعة بفصل طويل عرفا

ابتدأه. وإن كان يسيرًا بنى. فلو أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة صلى في قول أكثر أهل العلم وبنى. روى عن ابن عمر وغيره. ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم. وقال ابن المنذر: لا نعلم أحدا خالف فيه إلا الحسن. وقول الجمهور أصح. لأنه فعل مشروع فلم يقطعه كاليسير. ويجوز أن يطوف من وراء قبة زمزم وما وراءها من السقائف المتصلة بحيطان المسجد ويجوز راكبا لعذر. وهو قول الجمهور. ومحمولا إجماعا. بل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (ثم أتى مقام إبراهيم) وهو بين زمزم والمنبر أمام باب الكعبة. عليه قبة عالية من خشب قائم على أربعة أعمدة دقيقة من حجارة بينها شبابيك من حديد. صنعت في القرن التاسع والمقام في وسطها محيط به قبة أيضا من حديد. وكان قبل عليه قبة من خشب. (فصلى) ركعتي الطواف نفلا. وثبت نحوه عن ابن عمر وغيره. وقال شيخ الإسلام بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتفاق السلف والأئمة. وحكى وجوبهما عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد. واتفقوا على مشروعيتهما. ولما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قوله (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) بيانا منه لتفسير القرآن. ومراد الله منه بفعله - صلى الله عليه وسلم - وإعلاما للأمة بشرفهما. وإحياء لذكر إبراهيم عليه السلام. فالأفضل كونهما خلفه. وهو مذهب جمهور

المفسرين والفقهاء المعتبرين. وفيه وجعل المقام بينه وبين البيت. ثم كونهما فيما حوله مما يطلق عليه اسم المقام عرفا. ثم ما قرب من البيت خصوصا الملتزم. والباب. ثم الحجر. ثم كلما قرب من البيت. وقال غير واحد أجمع أهل العلم على أن الطائف تجزئه ركعتا الطواف حيث شاء. وصلاهما عمر وغيره خارج الحرم كما تقدم. وقال بعض أهل العلم له جمع أسابيع بركعتين ولا تعتبر الموالاة بين الطواف وركعتيه. ولا نزاع في أنه يأتي الملتزم إن شاء متضرعا كما سيأتي. ويشرب من زمزم ويتضلع منه. (وللبخاري عنه) أي عن جابر رضي الله عنه (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه) يعنى الحجر الأسود (ويقبله إعظاما له). ولهما عن ابن عمر نحوه. وعن عمر أنه كان يقبل الحجر ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع. ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك. وذلك أن الناس حديثو عهد بجاهلية. فبين أنه لا يقصد إلا تعظيم الله عز وجل. وأن الحجر لا ينفع ولا يضر بذاته. قال الترمذي والشيخ وغيرهما: العمل عليه عند أهل العلم يستحبون تقبيل الحجر إن أمكنه بلا صوت. ولا يؤذي أحد بالمزاحمة عليه. وللنسائي من حديث حنظلة بن أبي سفيان رأيت طاووسا

يمر بالركن. فإن وجد عليه زحاما مر ولم يزاحم. وإن رآه خاليا قبله ثلاثا. ثم قال: رأيت ابن عباس فعل مثل ذلك. ثم قال ابن عباس: رأيت عمر فعل مثل ذلك. ثم قال عمر رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل مثل ذلك. ولابن ماجه عن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استقبل الحرج ووضع شفتيه عليه يبكي طويلا. ثم التفت فإذا بعمر بن الخطاب يبكي. فقال " يا عمر ههنا تسكب العبرات" وسجد عليه هووابنه وابن عباس. وقال عمر: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل هكذا. صححه الحاكم. وفيه ويضع جبهته عليه. ويلاحظ جلالة البقعة. يتلطف بمن يزاحمه ويرحمه. لأن الرحمة ما نزعت إلا من قبل شقي والمزاحمة الشديدة ضررها كبير. وربما أخرجت عن حكم التيامن المجمع عليه ولا يجوز للنساء مزاحمة الرجال عليه. ولا يستحب لهن تقبيله. ولا استلامه إلامع خلو المطاف ليلا كان أو نهارا. (وعنه) أي عن جابر أيضا رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - (استلمه) يعني الحجر الأسود (بيده) أي مسحه بها (وقبل يده) ولهما عن ابن عمر أنه استلمه بيده وقبل يده. وقال ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. ولمسلم عن أبي الطفيل رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت يستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن.

(ولأبي داود من حديث ابن عمر) رضي الله عنهما (كان) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا يدع أن يستلم الركن اليماني) في طوافه. وللطبراني بسند جيد أنه كان إذا استلم الركن اليماني قال: "بسم الله والله أكبر" كما يقول عند الحجر الأسود (و) كان - صلى الله عليه وسلم - لا يدع أن يستلم (الحجر يعني الأسود (في طوافه) قال نافع: وكان ابن عمر يفعله. وروي عنه مرفوعا "إن مسح الركن اليماني والحجر الأسود يحط الخطايا" وقال سمعته يقول "إن مسحهما كفارة للخطايا" ولمسلم عنه ما تركت استلام هذين الركنين منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمهما. ولأنهما بنيا على قواعد إبراهيم بخلاف الشاميين فلا يستلمهما ولا يقبلهما ولا يشير إليهما. لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل شيئا من ذلك. بل هو بدعة باتفاق الأئمة. قال شيخ الإسلام: ولا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين دون الشاميين. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما استلمهما خاصة. لأنهما بنيا على قواعد إبراهيم. والآخران هما في داخل البيت. وقال شيخ الإسلام فالركن الأول يستلم ويقبل. اليماني يستلم ولا يقبل. وقال ابن القيم في قوله كان إذا استلم الركن اليماني قبله: المراد به الأسود ولأنه يسمى يمانيا. بدليل حديث عمر في تقبيل الحجر الأسود خاصة. قال الشيخ: وأما سائر جوانب البيت ومقام إبراهيم وسائر ما في الأرض من المساجد

وحيطانها ومقابر الأنبياء والصالحين. كحجرة نبينا - صلى الله عليه وسلم -. ومغارة إبراهيم. ومقام نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يصلي فيه. وصخرة بيت المقدس. فلا تستلم ولا تقبل باتفاق الأئمة. وذكر نحو ذلك ابن الملقن وغيره. وزادوا أن التقبيل والاستلام تعظيم. والتعظيم خاص بالله تعالى. ولا يجوز إلا فيما أذن فيه. (وللبخاري عن ابن عباس طاف) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (على بعير) يقال للجمل وقد يكون للأنثى (كلما أتى على الركن) يعني الحجر الأسود (أشار إليه) أي إلى الركن (بشيء في يده) ولم يقبله. فدل الحديث على أنه إذا لم يمكنه التقبيل والاستلام أو شق عليه أشار إليه بيده. أو بشيء في يده ولا يقبله. لأنه لا يقبل إلا الحجر أو ما مس الحجر وجزم به الشيخ وغيره فصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلام الحجر وتقبيله. وهو أعلاها. واستلامه بيده وتقبيلها. واستلامه بالمحجن وتقبيله. والإشارة إليه بدون تقبيل. ودل الحديث على اختصاص الحجر بالإشارة دون اليماني. فلم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يشير إليه ولو فعله لنقل كما نقلت الإشارة إلى الحجر الأسود. وترك ما ترك - صلى الله عليه وسلم - هو السنة. كما أن السنة فعل ما فعل صلوات الله وسلامه عليه (وكبر) أي كلما أتى الحجر الأسود قال الله أكبر. (وله عنه) أي وللبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا استلم الركن) يعني الحجر الأسود (قال بسم الله والله أكبر)

أي بسم الله أطوف. والله أكبر من كل شيء. وجزم به شيخ الإسلام وغيره. وقال استقباله بوجهه هو السنة. ولأحمد من حديث عمر "إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر" ولا يرفع يديه كما يكبر للصلاة كما يفعله من لا علم عنده. بل هو من البدع جزم به ابن القيم وغيره. (وروي عن ابن السائب) عبد الله بن السائب بن يزيد ابن تمامة بن الأسود الكندي حليف بني عبد شمس. من طريق ناجية بسند ضعيف. ونحوه للشافعي عن ابن أبي نجيح عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بسم الله والله أكبر" (وقال اللهم إيمانا بك) أي أفعل ذلك إيمانا بك (وتصديقا بكتابك) حيث قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (ووفاء بعهدك) في قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}. {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ} فأجابه كل من كتب أن يحج (واتباعا لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -) في طوافه بالبيت. وأمره به. وروى العقيلي نحوه من حديث ابن عمر والطبراني البيهقي نحوه أيضا. وهو قول أكثر الفقهاء. وقال الشيخ وغيره إن شاء قال ذلك. (ولأبي داود) عن عبد الله بن السائب (سمعته) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يقول بين الركنين) اليمانيين (رَبَّنَا آتِنَا) أي أعطنا (فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) أي العلم والعمل والعفو والعافية

والرزق الحسن أو حياة طيبة (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أي المغفرة والجنة والدرجات العالية. أو مرافقة الأنبياء. أو الرضى. أو الرؤية (وَقِنَا) أي احفظنا واكفنا (عَذَابَ النَّارِ) أي شدائد جهنم وحرها وزمهريرها وسمومها. ولأحمد عن أبي هريرة مرفوعا "إن الله وكل بالركن اليماني سبعين ألف ملك. فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا آمين قال شيخ الإسلام: وكان - صلى الله عليه وسلم - يختم طوافه بذلك. كما كان يختم سائر دعائه بذلك اهـ. ولم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - في الطواف غيره. وينبغي أن يقول في بقية طوافه: اللهم اجعله حجا مبرورا، وسعيا مشكورا، وذنبا مغفورا. رب اغفر وارحم واهدني السبيل الأقوم وتجاوز عما تعلم وأنت الأعز الأكرم. وإن قال قبل ذلك اللهم إن هذا البيت بيتك والحرم حرمك والأمن أمنك. وهذا مقام العائذ بك من النار. اللهم اعذني من النار ومن الشيطان الرجيم. ومن أهوال يوم القيامة واكفني مؤونة الدنيا والآخرة. أو قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ولا حول ولا قوة إلا بالله. ونحوه كما رواه ابن ماجه. أو قرأ من القرآن فحسن. قال شيخ الإسلام: ويستحب له في الطواف أن يذكر الله ويدعوه بما شرع. وليس فيه ذكر محدود قد استحبه - صلى الله عليه وسلم - لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه. بل يدعو فيه سائر الأدعية الشرعية. وما

يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذك فلا اصل له. وليس في ذلك ذكر واجب باتفاق الأئمة. وقال ابن القيم لم يدع عند الباب بدعاء ولا تحت الميزاب. ولا عند ظهر الكعبة. ولا أركانها. ولا وقت للطواف ذكرا معينا. لا بفعله ولا بتعليمه. والذكر هو المتوارث عن السلف والمجمع عليه. فكان أولى من جنس القراءة فيه. ومأثور الدعاء أفضل. لأن القراءة لم تحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه. وحفظ غيرها. فدل على أنه ليس محلها بطريق الأصالة. والقراءة أفضل من دعاء غير مأثور. فإن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه. قال الشيخ: وإن قرأ سرا فلا بأس به. ويستحب للطائف ترك الكلام. وكل عمل ينافي الخشوع كالإلتفات والتخصر. ويصون نظره عن كل ما يشغله. ويتأكد عما لا يحل. وينزه طوافه عما لا يرتضيه الشرع. قال الترمذي: أكثر أهل العلم يستحبون ألا يتكلم في الطواف إلا لحاجة. أو يذكر الله أو من العلم. (وعن عائشة مرفوعا إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة) يعني السعي بينهما (لإقامة ذكر الله) أي إنما جعل ذلك لإقامة شعار النسك المشروع. رواه أحمد وأبو داود وغيرهما و (صححه الترمذي) وغيره فدل الحديث وغيره على

مشروعية الذكر عند تلك المشاعر العظام. قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} وقال: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} وخصصت هذه الأفعال بالذكر مع أنه المقصود من جميع العبادات. لأنها لا تظهر فيها العبادة. فشرع فيها ليكون شعارا لها. (وعن جابر) في حديثه الطويل (ثم صلى) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رعتين) أي ركعتي الطواف خلف المقام كما تقدم. وهذا لا نزاع في ندبيته (فقرأ) يعني في الركعة الأولى (فاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون) أي سورة قل يا أيها الكافرون (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وهي سورة الإخلاص. يعني في الركعة الثانية بعد الفاتحة. لما اشتملتا عليه من نوعي التوحيد. واستحباب قراءتهما في ركعتي الطواف إجماع. وإن قرأ غيرهما جاز. وعن أحمد تجزئ مكتوبة عنهما. وعنه لا تجزئ وفاقا. كما لا تجزئ عن منذورة. وحكي وجوبهما ويصح السعي قبلهما إجماعا. وفي أسباب الهداية يأتي الملتزم قبل الركعتين. وينبغي الإكثار من الطواف كل وقت. لأنه يشبه الصلاة والصلاة خير موضوع. وطواف التطوع للغرباء أفضل من صلاة التطوع اتفاقا. لأنهم لا يمكنهم الطواف. فكان الاشتغال به أولى. وقال ابن عمر: من طاف بهذا البيت أسبوعا كان كعتق رقبة. وقال لا يضع قدمًا ولا يرفع أخرى إلا حط الله بها

عنه خطيئة. وكتب له بها حسنة. وهو حديث حسن. (ثم عاد إلى الركن فاستلمه) يعني الحجر الأسود فيسن في كل طواف بعده سعي أن يعود إلى الحجر فيستلمه. لأن الطواف لما كان يفتتح بالاستلام فكذا السعي (ثم خرج من الباب إلى الصفا) أي خرج من باب بني مخزوم. وهو الذي يسمى باب الصفا. لأنه أقرب الأبواب إليه. فكان اتفاقا. ويخرج إليه من أي باب شاء. لحصول المقصود (فلما دنا من الصفا) بالقصر وهو الحجارة الصلبة. والمراد به هنا المكان المعروف عند المسجد في طرف المسعى الجنوبي. أسفل جبل أبي قبيس. قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الشعائر أعمال الحج. وكل ما جعل علما لطاعة الله. قاله - صلى الله عليه وسلم - بيان لمراد الله. وتقريرا: (ابدأ بما بدأ الله به) أي بالصفا حيث بدأ الله بها بالذكر. وعن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ الآية. وقال "نبدأ بالصفا اتبعوا القرآن فما بدأ به القرآن فابدءوا به" ورواية مسلم بصيغة الخبر. ورواه غير واحد بالنون. قال الحافظ وهم أحفظ. وهو عند النسائي بلفظ الأمر. أي ابدءوا في السعي بما بدأ الله به. وصححه النووي وغيره. وذهب الجمهور إلى أن البداءة بالصفا والختم بالمروة شرط للخبر وصححه الترمذي وقال العمل عليه عند أهل العلم أنه

يبدأ بالصفا قبل المروة. فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يجزئه وبدأ بالصفا (فرقى الصفا) أي علا على الصفا المعروف هناك. فيستحب صعوده. قال الشيخ: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرقىعلىلصفا والمروة. وهما في جانبي جبلي مكة. واليوم قد بني فوقهما دكتان. فمن وصل إلى اسفل النباء أجزأه السعي وإن لم يصعد فوق البناء اهـ. ولعل المراد باعتبار ذلك الزمن. وأما الآن فالبيت يرى من باب الصفا قبل رقيه. لما حدث من ارتفاع الأرض. حتى اندفن أكثر الدرج. ومن وقف على أول درجة من درجاته أمكنه أن يرى البيت. وقد ذكر الأزرقي وغيره أنه اثنا عشر درجة. وقال ابن بطوطة وللصفا أربع عشرة درجة علياهن كأنها مصطب. ومن تأمل علوالوداي اليوم تيقن كثرة المدفون من الصفا. قال جابر: فرقى الصفا (حتى رأى البيت فاستقبله) فيستحب أن يستقبله وليس بواجب لأنه لو ترك صعوده فلا شيء عليه إجماعا. فلا يجب الاستقبال. ولا نزاع في استحباب صعودهما واستقبال القبلة (فوحد الله كبره) فيستحب حينئذ توحيد الله وتكبيره. وفي لفظ كبر ثلاثا. واستحب بعضهم أن يقول الحمد لله على ما هدانا. ثم بين توحيد الله وتكبيره بقوله (وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له) في ربوبيته ولا في آلهيته. ولا في أسمائه وصفاته (له الملك) المطلق (وله الحمد) الكامل (وهو على كل شيء قدير) ولابن عمر من

رواية إسماعيل عن أيوب عن نافع: لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. (لا إله إلا الله وحده) إعادة كلمة التوحيد لشرفها. ولما من الله به تعالى على نبيه حيث (أنجز وعده) أي وفي بما وعد به محمدا - صلى الله عليه وسلم - من الفتح والنصر (ونصر عبده) محمدا - صلى الله عليه وسلم - على عدوه وأيده بالمعجزات (وهزم الأحزاب) يوم الخندق (وحده) هزمهم بغير قتال من الآدميين ولا سبب من جهتهم. والمراد بالأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق في شوال سنة أربع من الهجرة. قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}. (ثم دعا بين ذلك) وفي لفظ أنه "قاله ثلاث مرات" وفي لفظ "دعا بما شاء". وفي لفظ "يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعو" قال أحمد وغيره يدعو بدعاء ابن عمر. وهو اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك. اللهم جنبني حدودك. اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وأولياءك وعبادك الصالحين. اللهم يسر لي اليسرى وجنبني العسرى. واغفر لي في الآخرة والأولى. واجعلني من أئمة المتقين. واجعلني من ورثة جنة النعيم. واغفر لي خطيئتي يوم الدين. اللهم إنك قلت (ادعوني أستحب لكم). وإنك لا تخلف

الميعاد. اللهم إذ هديتنا للإسلام فلا تنزعه مني ولا تنزعني منه حتى توفاني وأنا على الإسلام. اللهم لا تقدمني للعذاب ولا تؤخرني لسوء الفتن. ويدعو بما أحب. ولمسلم من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه. وجعل يحمد الله ويدعو بما شاء". ولأنه موضع ترجى فيه الإجابة. (ثم نزل إلى المروة) وفي لفظ نزل من الصفا أي منتهيًا إلى المروة ماشيًا على قدميه الشريفتين صلوات الله وسلامه عليه (حتى انصبت) أي انحدرت (قدماه في بطن الوادي) وهو ما بين العلمين (سعى) أي أسرع في سيره بين العلمين في السبعة الأشواط. وعن ابن عباس إنما سعى بين الصفا والمروة ليرى المشركين جلده وقوته. صححه الترمذي. وقال وهو الذي يستحبه أهل العلم. وإن مشى وسعى رأوه جائزًا. وقال الشيخ: وإن لم يسع في بطن الوادي بل مشى على هينته جميع ما بين الصفا والمروة أجزأ باتفاق العلماء ولا شيء عليه اهـ. وسبب مشروعيته السعي أن إبراهيم لما ترك هاجر وإسماعيل هناك عطش. فصعدت الصفا تنظر هل بالموضع ماء فلم تر شيئا فنزلت تسعى في بطن الوادي حتى خرجت منه إلى جهة المروة. لأنها توارت بالوادي عن ولدها. فسعت شفقة عليه. فجعل ذلك نسكا. إظهارا لشرفها. وتفخيما لأمرها.

وقال المطرزي وغيره: الميلان علامتان بموضع الهرولة في ممر بطن الوادي. وقال ابن القيم وغيره بطن الوادي هو ما بينهما لم يتغير. واستمر عمل المسلمين عليه. خلفا عن سلف اهـ. والسعي بينهما وإن لم يكن اليوم هو نفس بطن الوادي هو السنة باعتبار ما كان سابقا. فإن ما بينهما كان منخفضًا. وطرفاه من جهة الصفا والمروة مرتفعان. والسعي الشديد مشروط بأن لا يؤذي. وخرج الراكب وحامل المعذور والمرأة إجماعا. لأن المطلوب منها التستر. وجوز الجمهور السعي راكبا لعذر. وقيل لغيره. (حتى إذا صعدتا) يعني قدميه الشريفتين أخذتا في الصعود من بطن الوادي إلى المكان العالي (مشى إلى المروة) قال أحمد وكان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال: رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم. ويستحب الإكثار من الذكر والدعاء في سعيه. لما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله عز وجل (ففعل على المروة كما فعل على الصفا) من التوحيد والتكبير والدعاء واستقبال القبلة إجماعا. والمروة هي الحجارة البيضاء البراقة. أو الرخوة سمي بها المكان الذي في طرف المسعى الشمالي. واتفقوا على أن العقد الكبير المشرف الذي بوجهها هو

حدها. علامة على أولها. قال المحب الطبري وغيره: في وجهها عقد كبير مشرف قد تواتر كونه حدا بنقل الخلف عن السلف. وكذا في مسالك الأبصار. وذكره الأزرقي وغيره. أن على المروة خمس عشرة درجةكحلت بالنورة في خلافة المأمون. وذلك قبل أن يعلوا الوادي. فأدنى المروة تحت العقد المشرف عليها وفيه أول الدرج. ويحصل استقبال القبلة بأن يميل إلى يمينه أدنى ميل. وفيه " حتى إذا كان آخر طوافه على المروة" واتفق رواة نسكه - صلى الله عليه وسلم - أنه طاف بينهما سبعة أشواط ذهاب سعية ورجوعه سعية يفتتح بالصفا ويختم بالمروة. وهذا باتفاق أهل العلم. وغلطوا الطحاوي وغيره ممن قال الذهاب والرجوع سعية. وقال ابن القيم لم ينقله أحد. ولا قاله أحد ممن اشتهرت أقوالهم. فلا خلاف أنه بدأ بالصفا وختم بالمروة. وحكى الوزير وغيره اتفاق الأئمة على الاحتساب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية. ويجب استيعاب ما بينهما في كل مرة. ويشترط كون السعي بعد طواف نسك. ولومسنونا. لأنه الوارد عنه - صلى الله عليه وسلم -. وحكي فيه الإجماع. فلا يجوز بعد طواف نفل. ويشترط فيه النيةإجماعا. كسائر العبادات. واختار الأكثر اشتراط الموالاة. ولا يضر فصل يسير. كأن أقيمت مكتوبة. أو حرت جنازة. فيصلي ويبني. وتسن الموالاة بينه وبين الطواف. كذا الطهارة والستارة ولا يجبان. فلو فصل بين

الطواف والسعي بطواف أو غيره أجزأ. وإذا لم تشترط الطهارة مع آكديتها فغيرها أولى. (ثم قال لهم) أي لأصحابه غير من ساق الهدي (أحلوا من إحرامكم) أي اجعلوا حجكم عمرة وتحللوا بالطواف والسعي. وفي لفظ "فنادى وهو على المروة والناس تحته فقال. لوأني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة" (وقصروا) أي من شعر الرأس من مجموعه لا من جميعه فلم يأمرهم بالحلق ليبقى لهم شعر يحلقونه في الحج فإن الحلق في تحلل الحج أفضل منه في تحلل العمرة لأنه أكمل (رواه مسلم) قال الشيخ: ويستحب له أن يقصر من شعره ليدع الحلاق للحج. وكذلك أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذا حلوا حل لهم ما حرم عليهم بالإحرام. ويذبح هدي العمرة عندها ولا يتحلل المعتمر إلا بالطواف والسعي والتقصير أوالحلق للخبر. وقال ابن رشد: اتفقوا علىن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة. وإن لم يكن حلق ولا قصر لثبوت الآثار في ذلك إلا خلاف شاذ اهـ. وأركان العمرة ثلاثة إحرام وطواف وسعي قال الوزير أجمعوا أنها أركان لها وفي الفصول السعي فيها ركن بخلاف الحج. (ولهما) يعني البخاري ومسلم وغيرهما من غير وجه (أنه

أمرهم) - صلى الله عليه وسلم - (لما طافوا) طواف العمرة (وسعوا) وقصروا (أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة) أي يجعلوا الحجة عمرة ويصيروا حلالا بعد فراغهم من أفعال العمرة. وقد أبيح لهم ما حرم عليهم بسبب الإحرام حتى يستأنفوا الإحرام للحج (إلا من ساق) معه (الهدي) فيبقى على إحرامه حتى يكمل حجه وينحر هديه. وللبخاري عن عائشة "من أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل حتى ينحر) وفي لفظ فقالوا كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج فقال "افعلوا ما أمرتكم به" ففعلوا. وفي لفظ نزل عليه القضاء بين الصفا والمروة. ولما توقوفا قال "انظروا ما آمركم به فافعلوه" قال الشيخ وغيره وهذا مذهب أهل الحديث. وإمامهم أحمد بن حنبل وأهل الظاهر. لبضعة عشر حديثا صحاحا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.منها "من تطوف بالبيت وسعى ولم يكن معه هدي حل" ومنها لما راجعوه قال "انظروا ما آمركم به فافعلوا" فردوا عليه فغضب وأقسم طائفة من أصحابه رضي الله عنهم أنه ما نسخ ولا صح حرف واحد يعارضه. وأنهم لم يخصوا به. بل أجرى الله على لسان سراقة (فقال راقة: ألعامنا هذا) أي جواز فسخ الحج إلى العمرة وفي لفظ أرأيت متعتنا هذه أي أخبرنا عن فسخنا الحج إلى عمرتنا هذه التي تمتعنا فيها. بالجماع والطيب واللبس ألعامنا هذا مخصوصة به لا تجوز في غيره (أم للأبد)؟ فقال "بل للأبد" أي لآخر الدهر وجميع

الأعصار. فلا يكون وقت العمرة في عامنا هذا فقط. وفي لفظ بل "لأبد الأبد" وفيه "فشبك بين أصابعه" وفي رواية ألعامنا هذا أم للأبد"؟ فشبك بين أصابعه واحدة في الأخرى و (قال دخلت العمرة في الحج) إلى يوم القيامة مرتين" أي دخلت نية العمرة في نية الحج بحيث من نوى الحج صح الفراغ عنه بالعمرة. فدل على جواز فسخ الحج إلى العمرة لاقتضاء سياق السؤال (لا) أي ليس خاصا بنا (بل لأبد الأبد) أضيف للمبالغة. أو تأكيد الدوام إلى قيام الساعة. وهذا صريح في أن العمرة التي فسخوا حجهم إليها لم تكن مختصة بهم. وأنها من مشروعة للأمة إلى يوم القيامة. وقوله "دخلت العمرة في الحج" تصريح أيضا بأن هذا الحكم ثابت أدبا لا ينسخ إلى يوم القيامة. قال ابن القيم وهذا الفسخ قد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر صاحبا. ورواه عنهم أكثر. فصار نقل كافة عن كافة يوجب العلم. وتواتر عن حبر الأمة عبدالله بن عباس ما طاف بالبيت حاج ولا غيرحاج إلا حل. أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما تم سعيه أمر كل من لا هدي معه أن يحل الحل كله. من وطءوطيب ولبس وأن يبقوا إلى يوم التروية. وقال رجل لابن عباس ما هذه الفتيا! فقال سنة رسولا لله - صلى الله عليه وسلم - وإن زعمتم. قال ابن القيم وصدق ابن عباس كل من طاف بالبيت وسعى ممن لا هدي معه من مفرد أو قارن أو متمتع فقد حل. إما وجوبا وإما

حكما. هذه هي السنة التي لا راد لها ولا مدفع. وقال أحمد لمسلمة عندي أحد عشر حديثا صحيحا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتركها لقولك؟ وأيضا إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد مخالفة المشركين تعين مشروعيته إما وجوبا وإما استحبابا. وقال ابن القيم لما ذكر غضبه - صلى الله عليه وسلم - لما لم يفعلوا. ونحن نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحج رأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة. تفاديا من غضبه - صلى الله عليه وسلم -. واتباعا لأمره. فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده. ولا صح حرف واحد يعارضه. ولا خصص به أصحابه دون من بعدهم بل أجرى الله على لسان سراقة أن سأله هل ذلك مختص بهم. فأجابه بأن ذلك كائن لأبد الأبد فما تقدم على هذه الأحاديث: وهذه الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من خالفه. (وعن ابن عباس مرفوعا كان) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يمسك) أي يمتنع ويكف (عن التلبية في العمرة) مفردا لها أو متمتعا بها إلى الحج (إذا استلم الحجر) الأسود للطواف رواه أبو داود وغيره و (صححه الترمذي) وقال العمل عليه عند أكثر أهل العلم. قالوا لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الحجر. وقال بعضهم إذا انتهى إلى البيوت. والعمل على حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -. والتلبية إجابة إلى العبادة وشعار الإقامة عليها. والأخذ في التحلل مناف. وهو يحصل بالطواف والسعي. فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل فيقطعها

كما يقطع الحاج التلبية إذا شرع في رمي جمرة العقبة. لحصول التحلل به. وقال النووي الصحيح أنه لا يلبي في الطواف لا في السعي. لأن لها أذكارا مخصوصة. ومن أجازها كره الجهر بها لئلا يخلط على الطائفين. (وله عنه) مرفوعا وموقوفا. قال النووي وغيره رفعه ضعيف. والصحيح أنه موقوف. وقال الشيخ لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن هو ثابت عن ابن عباس. وقد روي مرفوعًا (الطواف بالبيت صلاة) قال ولا ريب أنه يشبه الصلاة من بعض الوجوه. ليس المراد أنه نوع من الصلاة التي يشترط لها الطهارة. وهذا كقوله "إن العبد في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه" "وما دام ينتظر الصلاة" و"إذا أتى المسجد فلا يشبك بين أصابعه. فإنه في صلاة" ونحو ذلك "إلا أنكم تتكلمون فيه"وقال "الطواف بالبيت كالصلاةإلا أن الله أباح فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير". ولهذا يؤمر الطائف أن يكون متطهرا الطهارة الصغرى والكبرى. مستور العورة. مجتنبا النجاسة التي يجتنبها المصلي إجماعا. وفي وجوب الطهارة في الطواف نزاع بين العلماء. فإنه لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالطهارة للطواف ولا نهي

المحدث أن يطوف ولكنه طاف طاهرا. لكن ثبت عنه أنه نهى الحائض عن الطواف. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أنه) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال لها) وكانت طمثت بسرف فدخل عليها هي تبكي فقال لها (افعلي) يعني من مناسك الحج (ما يفعل الحاج) ولمسلم فاقضي ما يقضي الحاج. وهو إجماع (غير أن لا تطوفي بالبيت) أي حال كونك طامثا (حتى تطهري) بتشديد الهاء. وأصله تتطهري. والمراد بالطهارة الغسل من الحيض (متفق عليه) ولمالك نحوه عن ابن عمر. والحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع حيضها وتغتسل. وفي أثر ابن عمر ولا بين الصفا والمروة لأن السعي يتوقف على تقدم طواف قبله. وهو مذهب جمهور أهل العلم. وتحريم الطواف على الحائض مجمع عليه. سواء كان فرضا أو نفلا. وعن أحمد يجزئ وتجبره بدم. وهو قول أبي حنيفة. وقال شيخ الإسلام ما يعجز عنه من واجبات الطواف مثل من كان به نجاسة لا يمكنه إزالتها. كالمستحاضة ومن به سلس بول. فإنه يطوف ولا شيء عليه باتفاق الأئمة وكذا لو لم يمكنه الطواف إلا عريانا وكذا المرأة الحائض إذا لم يمكنها طواف الفرض إلا حائضا بحيث لا يمكن التأخر بمكة في أحد

قولي العلماء الذين يوجبون الطهارة على الطائف. ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بسوى هذا. فتطوف بالبيت والحالة هذه. وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه. وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة بل يوافقها. إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه. ولا واجب في الشريعة مع العجز. ولا حرام مع ضرورة. وتتلجم كما أبيح للمستحاضة دخول المسجد للطواف إذا تلجمت اتفاقا. لأجل الحاجة. وحاجة هذه أولى. فلا يمتنع الإذن لها في دخول المسجد لهذه الحاجة التي تلتحق بالضرورة. هذا إذا قيل إنها ممنوعة من المسجد. وأما أن عبادة الطواف لا تصح مع الحيض كالصلاة فغايته أن تكون الطهارة شرطا من شروط الطواف. فإذا عجزت عنه سقط كما لو انقطع دمها وتعذر عليها الإغتسال والتيمم فإنها تطوف على حسب حالها. كما تصلي بغير طهور. لقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وهذه قد اتقت الله ما استطاعت. فليس عليها غيره بالنص وقواعد الشريعة. والأشبه لا يجب عليها دم. لأن الطهارة واجب يؤمر به مع القدرة لا مع العجز. وأحمد يقول لا دم عليها. كما صرح به فيمن طاف جنبا وهو ناس وقال ابن القيم: بل تفعل ما تقدر عليه من مناسك الحج. ويسقط عنها ما تعجز عنه من الشروط

والواجبات. ومن المعلوم أن الشريعة لاتأتي بسوى هذا. وقال وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة بل يوافقها. إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه. وذكر نحوا من كلام الشيخ. وأنه لا يدل على اشتراط الطهارة للطواف نص ولا إجماع. وإذ لم يمكنها إلا على غير طهارة فليس عليها غيره بالنص وقواعد الشريعة اهـ. وإن حاضت المتمتعة قبل طواف العمرة فخشيت فوات الحج أو خشية غيرها أحرموا بالحج لتعينه. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - "أهلي بالحج"وليس كونها خشيت فوات الحج شرطا لجواز إدخال الحج على العمرة بل لوجوبه. لأن الحج واجب فورا. ولا سبيل إليه إلا ذلك. فتعين. وكالصورة الثانية من القران إدخال الحج على العمرة قبل الشروع في طوافها. وإن لم يخف فوت الحج ويصير بذلك قارنا عند الجمهور. إلا أبا حنيفة: قال ترفض العمرة. ولم يقله غيره. وقوله - صلى الله عليه وسلم - "ارفضي عمرتك" أي دعي أفعال العمرة. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لها "طوافك وسعيك يكفيك لحجك وعمرتك" وإنما أعمرها من التنعيم تطييبا لنفسها. وحديثها أصل في سقوط طواف القدوم عن الحائض. وكانت متمتعة فصارت من أجل الحيض قارنة. قال ابن القيم: وهو أصح الأقوال. والأحاديث لا تدل على غيره. ويجب دم القران. وتسقط عنه العمرة لاندراجها في الحج للأخبار.

باب صفة الحج

«باب صفة الحج» أي كيفية وبيان ما شرع فيه من أقوال وأفعال. (عن جابر) بن عبد الله رضي الله عنهما في حديثه الطويل الذي وصف فيه حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حللنا) أي من العمرة كما تقدم (أن نحرم) أي بالحج (فأهللنا من الأبطح رواه مسلم) فيسن لمتمتع حل من عمرته أن يحرم من منزله. وهو مذهب جمهور أهل العلم. وحكي أنه لا نزاع فيه. وقيل من المسجد. والسنة من منزله كما فعل خير الخلق وأصحابه. قال ابن القيم أحرموا من منزلهم. ومكةخلف ظهورهم ولم يدخلوا إلى المسجد ليحرموا منه اهـ. وقيل من تحت الميزاب ذكره بعض الأصحاب. ولم يكن السلف يفعلونه. ولو كان أولى لسبقونا إليه. واعتقاد سنة أو فضيلة ما ليس بسنة ولا جاء بفضله شرع فالسنة تركه. قال شيخ الإسلام السنة أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه. وكذا المكي يحرم من أهله. (وله عنه) أي ولمسلم وغيره عن جابر (قال فلما كان يوم التروية) وهو ثامن ذي الحجة. سمي بذلك لأنهم كانوا يتروون فيه الماء لما بعده. إذ لم يكن هناك ماء. أو لأنهم كانوا يروون إبلهم فيه. وقيل غير ذلك (توجهوا إلى منى) قبل

الزوال. فلمسلم عنه توجه قبل الصلاة الظهر يوم التروية إلى منى. سميت منى لأنه يمنى فيه الدم أي يراق. وقيل غير ذلك (فأهلوا بالحج) ولهما عنه حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج. وتقدم قوله: "وأهل مكة فمنها" وسواء في ذلك سكانها أوالواردون إليها. وأجمعوا على سنية الإهلال منها ويجزئ من بقية الحرم. وصوبه شيخ الإسلام. وقال لأن الأبطح خارج البلد. يعني قبل ويستحب أن يفعل عند هذا الإحرام ما يفعل عند الإحرام من الميقات من الغسل والتنظيف والتجرد من المخيط وغير ذلك. وقال بعضهم ينبغي لمتمتع عدم الهدي. وأراد الصوم. أن يحرم يوم السابع ليصوم الثلاثة الأيام قبل النحر محرما (وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقته القصواء). (فصلى بها) يعني منى (الظهر) واتفقت الرواة أنه صلى الظهر بمنى (والعصر والمغرب والعشاء والفجر) فالسنة الركوب إليها. وصلاة الخمس الفرائض فيها. ومبيت تلك الليلة فيها. وهي ليلة التاسع من ذي الحجة. وإن تركه فلا شيء عليه إجماعا. وقال غير واحد هو سنة ليس بركن ولا واجب إجماعا. وكل من أدركه الليل بها فقد بات نام أو لم ينم (ثم مكث) أي بمنى (حتى طلعت الشمس) واتفق أهل العلم على سنيته. وقال الشيخ السنة أن يبيت الحاج بمنى فيصلون بها الظهر

والعصر والمغرب والعشاء والفجر ولا يخرجون منها حتى تطلع الشمس كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما الإيقاد بها فبدعة مكروهة باتفاق العلماء ثم بعد طلوع الشمس سار من منى إلى عرفات لقوله (فأجاز) أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها وفي الخبر أمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار ولا تشك قريش أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فتجاوزه إلى حيث أمره الله عز وجل أن يفيض كما أفاض الناس أي سائر الشعوب غير قريش وكانت قريش لا تخرج من الحرم وسموا الحمس فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوجه إلى عرفات وفي الصحيحين عن أنس وكان يلبي منا الملبي فلا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه قال الشيخ وغيره ويسيرون من منى إلىعرفات على طريق ضب من يمين الطريق وافتراقه من مزدلفة ينعطف على اليمين قرب المشعر الحرام (حتى أتى عرفة) أي قرب منها لا أنه دخلها وعرفة أسم المشعر المعروف موضع الوقوف في الحج سميت عرفة لتعارف الناس بها أو لاعترافهم أو لأن جبرئيل قال للخليل عرفت وقيل غير ذلك وتسمى المشعر الحرام والأقصى وهي عمدة أفعال الحج والوقوف بها ركن من أركانه لا يتم الحج إلا به وحدها من الجبل ومشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر وهو المسجد المشهور المعمور دون

الزيادة فيه من شرقيه قيل إنها منها فيه أحجار كبار علم بين ما يصح الوقوف فيه وما لا يصح ومن حدودها الميلان الشاميان المقابلان لميلي الحرم بينهما وادي عرنة (فوجد القبة) خيمة صغيرة (قد ضربت له) وتقدم أنه أمر بها فبنيت له (بنمرة) قال الشيخ هي قرية كانت خارجة عن عرفات من جهة اليمين اهـ. وموضعها أكمة عليها أنصاب الحرم على يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الموقف فهي شرقي عرنة إلى الشمال خراب اليوم (فنزل بها) قال ابن الهمام ونزول النبي - صلى الله عليه وسلم - بنمرة لا نزاع فيه ولأبي داود وغيره عن ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - نزل بنمرة وهو منزل الإمام الذي ينزله بعرفة (حتى إذا) كان عند صلاة الظهر و (زالت الشمس) أي من كبد السماء إلى جهة الغرب (أمر بالقصواء) أي أمر بإحضار القصواء وهي ناقته التي كان يركبها كما مر ذكرها في مواضع من الأخبار حتى عام الحديبية في قوله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق (فرحلت له) أي شد عليها الرحل وهو مركب البعير أكبر من السرج والرحال العالم به المجيد له (فأتى بطن الوادي) المعروف بوادي عرنة وبه المسجد المعروف بمسجد عرنة قال الشيخ وغيره يسير إليها من بطن الوادي وهو موضع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي صلى فيه وهو في حدود

عرفة ببطن عرنة وهناك مسجد يقال له مسجد إبراهيم وليس بالخليل إنما هو إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الذي كانت له الدعوة العباسية مات هناك في الحبس قال وإنما بني في أول دولة بني العباس اهـ. ثم زيد فيه من عرفة والزيادة في نفس المسجد معلمة بصخرات كبار فرشت هناك فصدر المسجد من عرنة واخره قيل من يوم عرفة كما تقدم وبين المسجد والحرم نحو ألف ذراع (فخطب الناس) قال عبد الحق وغيره خطبته قبل الصلاة مشهورة وعمل به الأئمة والمسلمون اهـ. فيسن أن يخطب بها الإمام أو نائبه باتفاق الجماهير إلا ما روي عن مالك وقال الشيخ وغيره يسير إليها كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطب الناس قال وهي خطبة نسك لا خطبة جمعة اهـ. يعلمهم فيها الوقوف ووقته والدفع منه والمبيت بمزدلفة فيذكر العالم ويعلم الجاهل ويستحب تخفيفها قال سالم للحجاج إن كنت تريد أن تصيب السنة فقصر الخطبة وعجل الصلاة رواه البخاري قال جابر (ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر) بعد ما فرغ من الخطبة ولم يجهر بالقراءة (ولم يصل بينهما شيئا) قال الموفق وغيره والصحيح أن الإمام يجمع وكل من صلى معه وقال الشيخ فيصلي الإمام ويصلي معه جميع الحاج أهل مكة وغيرهم قصرا وجمعا كما جاءت بذلك الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مذهب أهل التحقيق ومن قال لا

يجوز القصر إلا لمن كان منهم على مسافة القصر فهو مخالف للسنة. وقال ويصلي بعرفة ومزدلفة ومنى قصرا ويقصر أهل مكة وغير أهل مكة وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة ومزدلفة وكذلك كانوا يفعلون خلف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفائه أحدا من أهل مكة أن يتموا الصلاة ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومنى أتموا الصلاة فإنا قوم سفر ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ وغلط غلطا بينا ووهم وهما قبيحا وقال قولا باطلا باتفاق أهل الحديث ولكن المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ذلك في غزوة الفتح لما صلى بهم بمكة أما في حجه فإنه لم ينزل بمكة ولكن كان نازلا خارج مكة وهناك كان يصلي بأصحابه ثم لما خرج إلى منى وعرفه خرج معه أهل مكة وغيرهم ولما رجع من عرفة رجعوا معه ولما صلى بمنى صلوا معه ولم يقل لهم أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ولم يحدد النبي - صلى الله عليه وسلم - السفر لا بمسافة معلومة ولا بأيام معلومة (ثم ركب) أي بعد ما فرغ من الخطبة والصلاة (حتى أتى الموقف) أي أرض عرفات فيسن بعد الصلاة بعرنة أن يذهب إلى عرفات إجماعا وينبغي الدنو من موقفه - صلى الله عليه وسلم - إن

سهل فإن لم يمكنه فبحسب الإمكان (فجعل بطن ناقته القصواء التي كان يركبها في أسفاره وتسمى العضباء ولم تكن مقطوعة الأذن (إلى الصخرات) الكبار المفترشة في أسفل جبل الرحمة (وجعل حبل المشاة) بالحاء المهملة وسكون الباء الموحدة أي طريق المشاة الذي يسلكونه في الرمل ومجتمعهم والرمل المستطيل دون الجبل فيه إلى الآن وقد أجريت معه العين جعله - صلى الله عليه وسلم - وجبل الرحمة (بين يديه) فموضع موقفه - صلى الله عليه وسلم - على الفجوة المستعلية التي عند الصخرات المفروشات السود الكبار عند جبل الرحمة بحيث يكون يمينك قليلا إذا استقبلت القبلة وبه مسجد جداره فوق ذراع ويقال للجبل إلا ل على وزن هلال وجبل الدعاء وهو المعروف وسط عرفات ولا يسن صعوده إجماعا قال الشيخ وغيره وقال ليس من السنة ولا يستحب وكذا القبة التي فوقه التي يقال لها قبة ادم لا يستحب دخولها ولا الصلاة فيها والطواف بها من الكبائر اهـ. ولا يكاد يذهب إلى نمرة ولا إلى مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا القليل بل يدخلون إلى عرفات من طريق المأزمين وغيره قال وهذا الذي يفعله الناس كله مجزئ معه الحج لكن فيه نقص عن السنة (واستقبل القبلة) ولأبي نعيم عن ابن عمر مرفوعا خير المجالس ما استقبل به القبلة وتقدم أن استقبال القبلة مستحب في كل طاعة إلا بدليل فسواء كان جبل الرحمة

بين يديه حال استقباله أو خلفه فإنه لم يرد في الشرع استقباله دون القبلة. (فلم يزل واقفا) أي قائما بركن الوقوف راكبا على راحلته القصواء قال الشيخ وغيره ويجوز الوقوف ماشيا وراكبا وأما الأفضل فيختلف باختلاف أحوال الناس فإن كان ممن إذا ركب راه الناس لحاجتهم إليه أو كان يشق عليه الوقوف وقف راكبا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف راكبا وهكذا الحج فإن من الناس من يكون حجه راكبا أفضل ومنهم من يكون حجه ماشيا أفضل وقال ابن القيم التحقيق ان الركوب أفضل إذا تضمن مصلحة من تعليم المناسك والاقتداء به وكان أعون على الدعاء ولم يكن فيه ضررعلى الدابة (حتى غربت الشمس) وفيه وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وهو بيان لقوله غربت الشمس فإنه قد يطلق على مغيب معظم القرص فأزال الاحتمال والجمهور على استمراره بها إلى الغروب وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وأحمد وأوجبوا دما على من لم يستمر بها إلى أن تغرب الشمس وشدد مالك فقال إن لم يرجع فاته الحج لكن قال ابن عبد البر لانعلم أحدا من العلماء قال بقوله (وله عنه مرفوعا وقفت ههنا) أي عند الصخرات المفروشة المبني بها مسجد وجبل الرحمة عن يمينك (وعرفه كلها موقف) أي جميع أجزائها ومواضعها ووجوه جبالها موقف

للحاج يصح الوقوف فيها إجماعا ويكون من وقف بها قد أتى بسنة الخليل وإن بعد موقفه عن موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي السنن أن يزيد بن شيبان كان في مكان من الموقف بعيد من موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول كونوا على مشاعركم هذه أي مواضع نسككم ومواقفكم القديمة وتقدم حدها من أربع الجهات إحداها جادة المأزمين والثانية حافات الحبل الذي وراء أرضها والثالثة إلى البساتين التي تلي قريتها على يسار مستقبل القبلة والرابع وادي عرنة قال الوزير وغيره اتفقوا على أن عرفات وما قارب الجبل كله موقف لهذا الخبر وأرسل للناس أن يكونوا على مشاعرهم ويقفوا بها فإنها من إرث أبيهم أبراهيم إلا ما كان من الحمس (زاد ابن ماجه) عنه قال - صلى الله عليه وسلم - (وارفعوا عن بطن عرنة) لأحمد والبزار والطبراني من حديث حبير بن مطعم وارفعوا عن بطن عرنة وهو الوادي الذي يسيل فيه الماء إذا كان المطر وهي ثلاثة جبال وموضعها معروف ما بين العلمين الكبيرين من جهة عرفة والعلمين الكبيرين من جهة الحرم وليست عرنة ولا نمرة من عرفات ولا من الحرم وقال الوزير وابن المنذر وغيرهما بطن عرنة لايجزئ الوقوف فيه باتفاق الأئمة (وعن ابن يعمر) هو عبد الرحمن يكنى أبا الأسود

الديلي صحابي سكن الكوفة ومات بخراسان (أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر مناديه) أي بأن ينادي في الناس (الحج عرفة) أي الحج الصحيح حج من أدرك يوم عرفة أو إدراك الحج وقوف عرفة أو ملاك الحج ومعظم أركانه وقوف عرفة لأن الحج يفوت بفواته قاله ثلاثا تأكيدا وذلك أن ناسا من أهل نجد أتوه وهو واقف بعرفة فسألوه فأمر مناديا ينادي في الناس بذلك وفي لفظ وأردف رجلا ينادي بهن (من جاء ليلة جمع) أي ليلة المبيت بمزدلفة سميت جمعا (قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج وفي لفظ فقد تم حجه أي لم يفته وأمن من الفساد (رواه الخمسة) قال الترمذي قال سفيان العمل على حد يث عبد الرحمن بن يعمر عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن من لم يقف بعرفات قبل الفجر فقد فاته الحج ولا يجزئ عنه إن جاء بعد طلوع الفجر ويجعلها عمرة وعليه الحج من قابل وهو قول الشافعي وأحمد وغيرهما وقال وكيع هذاالحديث أم المناسك ولأن الوقوف ركن للعبادة فلم يتم بدونه كسائر أركان العبادات (وفي لفظ) للخمسة من حديث عروة بن مضرس (فمن وقف بعرفة) أي حصل بها عالما بها أو جاهلا (ساعة من ليل أو نهار) وذلك أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمزدلفة حيث خرج إلى الصلاة جئت من جبلي طئ أكللت راحلتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عيه فهل لي من حج فقال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ساعة من ليل أو نهار (فقد تم حجه) أي معظم حجه وهو الوقوف لأنه الذي يخاف عليه الفوات فدل الحديث على أن من وقف بعرفة ساعة من ليلة العيد أو نهار عرفة فقد تم حجه وأنه لا يختص الوقوف بما بعد الزوال بل وقته ما بين طلوع الفجر يوم عرفة وطلوعه يوم العيد لأن لفظ الليل والنهار مطلقان والجمهور أن المراد بالنهار ما بعد الزوال لأنه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يقفوا إلا بعده ولم ينقل عن أحد أنه وقف قبله فكأنهم جعلوا هذاالفعل مقيدا لذلك المطلق وفيه وقضى تفثه أي أتى بما عليه من المناسك (وصححه الترمذي) وظاهر الحديث أنه يكفي الوقوف في جزء من أرض عرفة ولو في لحظة لطيفة في هذا الوقت وهو قول الجمهور (وله عن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده (مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (خير الدعاء دعاء يوم عرفة) قال المزي بجر دعاء ليكون قول لا إله إلا الله خبرا (وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي) ولفظ الموطأ أفضل الدعاء يوم عرفة وأفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي وعند العقيلي أفضل دعائي ودعاء الأنبياء قبلي عشية عرفة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) وله شواهد كلها ضعيفة.

وورد في فضلها أحاديث كثيرة. وروى عن علي وفيه اللهم أشرح لي صدري ويسرلي أمري وإن شاء قال اللهم لك الحمد كالذي تقول وخيرا مما نقول الخ اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسواس الصدر الخ ذكره الترمذي وغيره اللهم إنك ترى مكاني وتسمع كلامي وغيره من الأدعية المشروعة قال الشيخ وغيره لم يعين النبي - صلى الله عليه وسلم - لعرفة دعاء ولا ذكرا بل يدعو الرجل بما شاء من الأدعية الشرعية ويكبر ويهلل ويذكر الله حتى تغرب الشمس انتهى ويكثر الاستغفار والتضرع والخشوع وإظهار الضعف والا فتقار والتذلل وتفريغ الباطن والظاهر من كل مذموم. فإنه موقف تسكب فيه العبرات وتقال فيه العثرات وهو أعظم مجامع الدنيا ويجتهد أن يقطر من عينه قطرات فإنها دليل الإجابة وعلامة السعادة كما أن خلافه علامة الشقاوة فإن لم يقدر على البكاء فليتباك وليكن على طهارة في هذا المشعر العظيم يوم الحج الأكبر فإنه إذافرغ قلبه وطهره طهر جوارحه واجتمعت الهمم وتساعدت القلوب وقوي الرجاء وعظم الجمع كان جديرا بالقبول فإن تلك أسباب نصبها الله مقتضية لحصول الخير ونزول الرحمة. وإذا صادف يوم الجعة يوم عرفة اجتمع فضيلتان وفي اخر الجمعة ساعة الإجابة على الراجح فيكون له مزية على سائر الأيام قال الشيخ وغيره ويجتهد في الذكر والدعاء هذه

العشية فإنه ما رؤي إبليس في يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أغيظ ولا أدحض من عشية عرفة لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر. وروى أبو ذر الهروي عن أنس مرفوعا إن الله يباهي بهم الملائكة فيقول انظروا إلى عبادي شعثا غبرا أقبلوا يضربون الحر وفي لفظ مناجين من كل فج عميق فاشهدوا أني قد غفرت لهم إلا التبعات التي بينهم وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ولأبي داود عن ابن عباس رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات يدعو ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين وينبغي أن يأتي بكثير من الأذكار تارة وتارة يكبر وتارة يسبح وتارة يقرأالقران وتارة يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتارة يدعو وتارة يستعيذ وليدع لنفسه ووالديه وأقاربه وأحبابه وسائر من أحسن إليه. ويكرر الاستعفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الندم بالقلب والتضرع والخشوع والتذلل وإظهار الضعف والافتقار ويلح في الدعاء وينبغي أن يكرر كل دعاء ثلاثا ويفتتح بالتحميد والتمجيد والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويختم بمثل ذلك ويصون نظره ويحفظ لسانه ويترك كل عمل ينافي الخشوع ولأحمد هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له.

فصل في الدفع إلى المزدلفة

فصل في الدفع إلى المزدلفة أي في أحكام الدفع من عرفة إلى المزدلفة بعد أن تغيب الشمس ثم منها إلى منى بعد الأسفار قبل طلوع الشمس مخالفة للمشركين فإنهم كانوا يدفعون قبل أن تغيب الشمس فقال - صلى الله عليه وسلم - وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس مخالفا هدينا هديهم وقال في المزدلفة كذلك قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} أي صدرتم ودفعتم {مِنْ عَرَفَاتٍ} فالإ فاضة دفع بكثرة من أفاض الماء أي صبه {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالدعاء والتلبية والتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد {عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} الآية من الشعيرة وهي العلامة لأن الصلاة والمبيت والدعاء عنده من معالم الحج وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى المحسر وليس المأزمان ولا المحسر من المشعر الحرام وسئل - صلى الله عليه وسلم - عن المشعر فسكت حتى هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة فقال هذا المشعر الحرام وكلها موقف إجماعًا لكن الموقف عند قزح أفضل وهو جبل الميقدة وهو المكان الذي يقف فيه الناس اليوم وقد بني عليه بناء وهو المكان الذي يخصه كثير من الفقهاء بالمشعر الحرام وتمام الآية واذكروه أي بالتوحيد والتعظيم كما هداكم أي كما أنعم به عليكم من الهداية والإرشاد إلى مشاعر الحج على ما كان عليه

الخليل ولهذا قال وإن كنتم من قبله لمن الضالين أي وما كنتم من قبله إلا من الضالين. (قال جابر) رضي الله عنه في حديثه الطويل (ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي مضى وابتدأ السير والمراد انصرف من عرفة بعدما غربت الشمس متوجها إلى المزدلفة ولأبي داود عن علي دفع حين غابت الشمس وينبغي أن يكون على طريق المأزمين قال الشيخ وإذا غربت الشمس يخرجون إن شاءوا بين العلمين وإن شاءوا من جانبيهما والعلمان هما حدود عرفة فلا يجاوزونهما حتى تغرب الشمس وأما الميلان بعدهما فحد الحرم. قال (وقد شنق) بتخفيف النون ضم وضيق (للقصواء الزمام) يعني الخطام وبالغ (حتى إن رأسها ليصيب مورك) بفتح الميم وكسر الراء مقدم (رحله) بالحاء المهملة وهو الموضع الذي يثني الراكب رجليه عليه قدام وسط الرحل إذا مل من الركوب وله عن الفضل عليكم السكينة وهو كاف ناقته (ويقول بيده اليمنى) أي يشير بها قائلا (أيها الناس السكينة السكينة) أي الزموا السكينة الزموا السكينة الطمأنينة والرفق ولأبي داود فإن البر ليس بإيجاف الإبل أي الإسراع في السير إبقاء عليهم لئلا يحفوا بأنفسهم مع بعد المسافة. (كلما أتى حبلا) تلا من تلال الرمل وهو ما طال منه

وضخم (أرخى لها) أي ناقته (قليلا حتى تصعد) بفتح المثناة وضمها يقال صعد وأصعد وفي لفظ حتى إذا أتى فجوة أسرع وحرك ناقته ولهما عن أسامة كان يسير العنق فإذاوجد فجوة نص وكان لا يقطع التلبية في مسيره (حتى إذا أتى المزدلفة) من الزلف وهو التقرب لأن الحاج إذا أفاضوا من عرفة ازدلفوا إلى منى أي تقربوا منها (فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين) لم يبدأبشيء قبلهما (ولم يسبح) أي يصل (بينهما شيئا) أي نافلة. قال ابن المنذر لا اختلاف بين العلماء أن السنة الجمع بينهما لفعله - صلى الله عليه وسلم - رواه جابر وابن عمر وأسامة والسنة أن لا يتطوع بينهما بلا نزاع وللبخاري ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل أنسان راحلته في منزله خشية ما يحصل فيها من التشويش بقيامها ثم أقيمت العشاء فصلاها قال شيخ الإسلام وغيره فإذا وصلوا المزدلفة صلوا المغرب قبل تبريك الجمال إن أمكن ثم إذ بركوها صلوا العشاء وإن أخروا العشاء لم يضر ذلك اهـ. وإن صلوا المغرب بالطريق تركوا السنة وأجزأتهم لأن كل صلاتين جاز الجمع بينهما جاز التفريق ومن فاتته الصلاة مع الإمام جمع ولو وحده لفعل ابن عمر ولأن كل جمع جاز مع الإمام جاز منفردا. (ثم اضطجع) أي للنوم (حتى طلع الفجر) فيجب أن يبيت بها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بها وقال (خذوا عني مناسككم)

قال الوزير وغيره أجمعوا على أنه يجب عليه أن يبيت بها جزءا من الليل في الجملة ألا مالكا فقال سنة ويتأكد المبيت والوقوف بمزدلفة بأمور منها قوله تعالى فاذكروا الله عند المشعر الحرام وقوله عليه الصلاة والسلام من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى نجفع وكان قد وقف بعرفة ليلا أو نهارا تم حجه وغير ذلك وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المستفيض الذي خرج مخرج البيان للاية وقال الشيخ وغيره السنة أن يبيت بها إلى أن يطلع الفجر فيصلي بها الفجر ثم يقف حتى يسفر اهـ. وفي رواية ثم رقد بعد الصلاة ولم يحي تلك الليلة قال ابن القيم وغيره ولا صح عنه في ليلتي العيدين شيء اهـ. وينبغي أن يجتهد تلك الليلة في الدعاء والتضرع فإنها ليلة عيد جامعة لأنواع الفضل من الزمان والمكان وأمر الله بذكره فيها (فصلى الفجر حين تبين له الصبح) وفي لفظ فصلى الفجر بغلس وهو اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل والمراد في أول الوقت (بأذان وإقامة) كما يفعل كل وقت (ثم ركب) ناقته القصواء (حتى أتى المشعر الحرام) وهو الجبل الصغير المعروف بالمزدلفة ويقال له قزح وبه الميقدة يقف به الناس (فاستقبل القبلة) لأنها أشرف الجهات ويستحب استقبالها في كل طاعة إلا لدليل (فدعا الله) عز وجل في ذكل الموقف الجليل بما شاء وحمده (وكبره) أي قال الحمد الله والله

أكبر (وهلله ووحده) أي قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ونحو ذلك الخ في الدعاء والتضرع (فلم يزل واقفا) يدعو ويهلل ويكبر ويقرأ فإذا افضتم من عرفات فاذكروا الله الآية ويلح في الدعاء ومنه اللهم كما وفقتنا للوقوف فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا كما وعدتنا بقولك فإذا افضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم افيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ويكثر من قول ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ويدعو بما أحب ويختار الدعوات الجامعة ويكرر دعاءه وتقدم حديث المباهات بهم في عرفة وفيه قال ثم القوم أفاضوا من عرفات إلى جمع فقال جل وعلا يا ملائكتي انظروا إلى عبادي وقفوا وعادوا في الطلب والرغبة والمسألة اشهدوا أني قد وهبت مسيئهم لمحسنهم وتحملت التبعات التي بينهم قال جابر فلم يزل واقفا عند المشعر الحرام (حتى أسفر جدا) أي إسفارا بليغا وهو مذهب جمهور أهل العلم قال ابن عباس فلما أضاء كل شيء قبل أن تطلع الشمس أفاض وما روي عن مالك من الدفع قبل الإسفار لا يدفع به ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - (رواه مسلم) وحكى الطبري وغيره الإجماع على أن من لم يقف بها حتى طلعت

الشمس فاته الوقوف وأوجب بعضهم المبيت على غير سقاةورعاة ونحوهم ممن له عذر يبيح التخلف (وعن عائشة) رضي الله عنها (قالت استأذنت سودة) بنت زمعة القرشية (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة) يعني ليلة جمع وهي ليلة عيد النحر (أن تدفع قبله) أي إلى منى فترمي الجمرة قبل الزحمة (وكانت ثبطة) تعني ثقيلة من عظم جسمها فهي أول امرأة تزوج بها بعد خديجة وتوفيت في اخر زمن عمر رضي الله عنهما (فأذن لها) أي أن تد فع قبله فدل على جواز الدفع من مزدلفة قبل الفجر للعذر وهو مذهب جمهور العلماء (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني ليلة جمع (في الثقل) بفتحبين أي الأمتعة وفي لفظ في الضعفة أي من النساء والصبيان وغيرهم (من جمع بليل) يعني من مزدلفة إلى منى (متفق عليهما) قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم لم يروا بأسا أن يتقدم الضعفة من المزدلفة بليل يصيرون إلى منى لما فيه من الرفق بهم ودفع المشقة عنهم قال الشيخ وغيره فإن كان من الضعفة كالنساء والصبيان ونحوهم فإنه يتعجل من مزدلفة إلى منى إذا غاب القمر ولا

ينبغي لأهل القوة أن يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر ويقفوا بها وقال ابن القيم وقول جماعة أهل العلم الذي دلت عليه السنة جواز التعجيل بعد غيبوبة القمر لا نصف الليل وليس مع من حده بنصف الليل دليل اهـ. ومغيبه عادة في الليلة العاشرة في الثلث الأخير وفي حديث اسماء في أول ثلث الليل الأخير. (ولأبي داود عن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل بأم سلمة) رضي الله عنها ليلة النحر وهي ليلة جمع (فرمت قبل الفجر) فدل على جواز الرمي للنساء والضعفة قبل الفجر لأن الظاهر أنه لا يخفى عليه - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقرره فيجوز لمن له عذر وهو مذهب أحمد والشافعي (ثم مضت) أي نفذت (فأفاضت) أي دفعت إلى مكة فطافت طواف الإفاضة قال الحافظ وإسناده على شرط مسلم وقال البيهقي إسناده صحيح. وفي الصحيحين عن اسماء أنها نزلت بجمع فقامت تصلي ثم قالت هل غاب القمر قال مولاها نعم قلت فارتحلوا فارتحلنا ومشينا حتى رمينا الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها يعني بمنى فقلت يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا قالت يا بني إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن وأجازه أحمد والشافعي كما أذن فيه - صلى الله عليه وسلم - للنساء والضعفة لئلا يتأذوا

بالزحام ولأحمد والنسائي أمر ضعفة بني هاشم أن يتعجلوا من جمع بليل. قال ابن القيم وما روى أحمد وغيره عن ابن عباس أنهم رموها قبل الفجر قد روى هو وغيره حديثا أصح منه ولفظه أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس رواه الخمسة وفيه انقطاع وعلى كل تقدير فلا تعارض فإنه أمر الصبيان أن لا يرموا حتى تطلع الشمس فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي أما من قدم من النساء فإن قيل رمين قبل طلوع الشمس للعذر والخوف عليهن من مزاحمة الرجال فقد يسوغ وأما القادر فلا يجوز له ذلك. ويقول جماعة أهل العلم والذي دلت عليه السنة رمي القادر بعد طلوع الشمس قال ابن المنذر وغيره السنة أن لا يرمي إلا بببعد طلوع الشمس كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز قبل طلوع الفجر لأن فاعله مخالف للسنة ومن رماها بعده فلا إعادة عليه إذلاأعلم أحدا قال لا يجزئه. (وعن عمر) رضي الله عنه (قال إن المشركين كانوا لا يفيضون) أي لا يدفعون (من مزدلفة إلى منى حتى تطلع الشمس) وتكون كالعمائم على رؤوس الجبال (ويقولون أشرق) بفتح الهمزة فعل أمر من الإشراق أي أدخل (ثبير) في الشروق والمراد لتطلع عليك الشمس زاد أحمد وابن ماجه

وغيرهما كيما نغير. أي كي ندفع. وثبير جبل معروف على يسار الذاهب إلى منى. وهو أعظم جبال مكة. (وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس رواه البخاري) وعن محمد بن قيس بن مخرمة قال خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال "إن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة حيث تكون الشمس كأنها عمائم الرجال على رءوسهم. قبل أن تغرب. ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس حيث تكون كأنها عمائم الرجال على رؤوسهم. وأنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس. وندفع من المزدلفة قبل أن تطلع الشمسز هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك". وأورد نحوه شيخ الإسلام محتجا به على تحريم موافقة المشركين. وفيه "خالف هدينا هدي المشركين" فإن أسفر جدا سن أن يدفع قبل طلوعها. ولا نزاع في استجابة. وعن ابن عباس "أفاض قبل طلوع الشمس" حسنه الترمذي. (ولمسلم عن جابر فدفع) أي انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قبل أن تطلع الشمس) يعني من مزدلفة إلى منى قال ابن القيم الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سنة باتفاق المسلمين. وقال ابن المنذر وغيره جمهور أهل العلم يقولون بظاهر هذا الحديث. وما ورد في معناه. وما ذكر من رأي مالك أن يدفع قبل الإسفار مردود بالنصوص. وللخمسة وصححه

الترمذي عنه أفاض من جمع. وعليه السكينة وأمرهم بالسكينة. (حتى أتى بطن محسر) وهو واد بين مزدلفة ومنى برزخ بينهما. وليس من المشعرين. سمي بذلك لأنه يحسر سالكه. وقيل لأن أصحاب الفيل حسروا فيه أو الفيل. ويسميه أهل مكة وادي النار (فحرك قليلا) أي أجرى ناقته قليلا لتسرع في المشي. وللخمسة عنه "أوضع في وادي محسر". أي أسرع السير فيه. قال ابن اليم وغيره والإسراع في وادي محسر سنة. نقلها طوائف عنه - صلى الله عليه وسلم -. فيسن إسراع الماشي وتحريك الراكب دابته فيه لأنه محل غضب الله فيه على أصحاب الفيل. فلا ينبغي الإناءة فيه. ولا البقاء به وكذلك كانت عادته - صلى الله عليه وسلم - في المواضع التي نزل بها بأس الله بأعدائه وفيه الحث على المراقبة عند المرور. والخوف والبكاء والاعتبار بمصارع أولئك وأن يستعيذ بالله من ذلك. والإسراع المسنون قدر رمية حجر. (ثم سلك الطريق الوسطى) وهي غير التي ذهب فيها إلى عرفات فهو سنة. ليخالف الطريق تفاؤلا بتغير الحال. كدخول مكة من أعلاها. والخروج من أسفلها. والطريق التي هي الوسطى هي (التي تخرج على الجمرة الكبرى) آخر الجمار من ناحية منى وأقربها إلى مكة. وقد صارت علما على العقبة التي يرمى

عندها الجمرة. وليست من منى. والجمرة واحدة الجمار. وهي في الأصل الحصاة. ثم سمي الموضع الذي ترمى فيه الحصيات السبع جمرة. وتسمى الحصيات السبع جمرة أيضا. تسمية للكل باسم البعض. (فرماها) أي الجمرة الكبرى (بسبع حصيات) متعاقبات واحدة بعد واحدة. ولهما من حديث ابن عمر أنه رماها بسبع حصيات. وقال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. وقال الوزير وغيره أجمعوا على وجوب رمي جمرة العقبة يوم النحر خاصة بسبع حصيات. وقال ابن الماجشون هو ركن لا يتحلل إلا به كسائر الأركان. وقال عليه الصلاة والسلام "إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله". وذكر غير واحد من أهل التفسير أنها من شعائر الله. وسئل سعيد بن منصور عنها فقال الله ربكم تكبرون. وملة أبيكم تتبعون. ووجه الشيطان ترمون. وسببه رمي الخليل عليه السلام الشيطان الذي كان رآه في تلك المواضع (يكبر مع كل حصاة منها) ولا نزاع في استحبابه. والبداءة به. لأنه بدأ به. ولأنه تحية مني. فلم يتقدمها شيء كالطواف بالبيت. وكان ابن عمر وابن مسعود يقولان: اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا. (كل حصاة مثل حصى الخذف) بقدر حبة الباقلاء. قال

الشيخ وغيره بين الحمص والبندق دون الأنملة طولا وعرضا قال الترمذي وهو الذي اختاره أهل العلم أن تكون الجمار مثل حصى الخذف. ويكره بهيئة الخذف للنهي الصحيح عنه الشامل للحج وغيره. ولا تجزئ صغيرة جدا. ولا كبيرة (رمى من بطن الوادي) مستقبلا للجمرة. وعند بعض أهل العلم وجوبه. وإنه لا يجوز من أعلى الجبل والأكثر أنه جائز. وخلاف السنة. قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم يختارون أن يرمي الرجل من بن الوادي. وقد رخص بعض أهل العلم إن لم يمكنه أن يرمي من بطن الوادي رمى من حيث قدر عليه قال ابن الهمام ثبت أنه رمى خلق كثير من الصحابة من أعلاها. ولم يؤمروا بالإعادة. وحكي أن الرمي واجب إجماعا. وإن في تركه أو بعضه دم ويأتي (ثم انصرف إلى المنحر فنحر) فيه هديه قرب منزله عند الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف. فمنحره عند الجمرة الأولى بينها وبين الوسطى على يمين الصاعد إلى عرفة. عنده مسجد صغير بقرب دار المنحر المعروفة الآن ومنزله بين منحره ومسجد الخيف وقال "نحرت ههنا ومنى كلها منحر. فانحروا في رحالكم" أي فلا تتكلفوا النحر في موضع نحري بل يجوز لكم النحر في منازلكم. قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه أي موضع نحر فيه من الحرم أجزأه إلا مالكا فقال لا ينحر في الحج إلا بمنى. ولا في العمرة إلا بمكة.

وثبت من حديث أنس وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى منى فأتى الجمرة فرماها. ثم أتى منزله بمنى ونحر. وعليه إجماع المسلمين. وقال ابن رشد النحر بمنى إجماع من العلماء. قال الشيخ. وكل ما ذبح بمنى وقد سيق من الحل إلى الحرم فإنه هدي سواء كان من الإبل أو البقر أو الغنم ويسمى أيضا أضحية. بخلاف ما يذبح يوم النحر بالحل فإنه أضحية وليس بهدي. وليس بمنى ما هو أضحية وليس بهدي. كما في سائر الأمصار. وقال ابن القيم هدي الحاج بمنزلة الأضاحي للمقيم. ولم ينقل أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه جمعوا بين الهدي والأضحية. بل كان هديهم هو أضاحيهم. فهو هدي بمنى وأضحية بغيرها. (وله) أي لمسلم (عن الفضل) بن العباس بن عبد المطلب ابن هاشم ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - أكبر أولاد العباس. وبه يكنى أبوه وأمه. مات في طاعون عمواس. كان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - حين دفع من مزدلفة. قال (حتى إذا دخل) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (منى) من مزدلفة وفي لفظ محسرا (قال عليكم بحصى الخذف) أي حصى الرمي. والمراد الحصى الصغار الذ يرمي به الجمرة. والتي لقط: هن حصى الخذف. فوضعهن في يده. وجعل يقول بهن في يده "بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو". ولابن ماجه عنه قال لي وهو على ناقته القصواء "القط لي" قال فلقطت له سبع حصيات من حصى الخذف. وللبيهقي وغيره قال الفضل حتى إذا دخل منى فهبط حين هبط محسرا.

قال "عليكم بحصى الخذف الذي ترمى به الجمرة" وهو يشير بيده كما يحذف الإنسان. وفي رميه اقتداء بالخليلين. وطلب للفضل العظيم المرتب عليه. وقال غير واحد لم يثبت أخذه - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه من غير منى. وإن لم يرد التصريح به فهو كالظاهر. وروي عن ابن عمر وغيره أنه كان يأخذ الحصى من جمع. وثابر بعض العوام عليه حتى التقطه قبل الصلاة. قال الشيخ ولا يرمي بحصى قد رمي به. والتقاط الحصى أفضل من تكسيره من الجبل. (ولهما عن أسامة) والفضل بن العباس رضي الله عنهم قالا (ولم يزل - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة) أي حتى شرع في رمي جمرة العقبة. قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الحاج لا يقطع التلبية حتى يرمي الجمرة. ورواه حنبل قطع عند أول حصاة. وقال الطحاوي وغيره جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آثار متواترة بتلبيته بعد عرفة. إلى أن رمى جمرة العقبة. وقال الشيخ فإذا شرع في الرمي قطع التلبية. فإنه حينئذ يشرع في التحلل. وهكذا صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ولا يزال يلبي في ذهابه من مشعر إلى مشعر. مثل ذهابه إلى عرفات. وذهابه منها إلى مزدلفة. حتى يرمي جمرة العقبة. وتقدم "يهل منا المهل فلا ينكر عليه ويكبر المبكر فلا ينكر عليه". والمراد قبل رميها.

(ولهما عن ابن مسعود جعل - صلى الله عليه وسلم -) حال رميه جمرة العقبة (البيت) أي الكعبة (عن يساره ومنى عن يمينه) وفيهما عنه أنه استقبل الجمرة حالة الرمي. وهذا مذهب جمهور أهل العلم. وقال الشيخ يرميها مستقبلا لها يجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه هذا هو الذي صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها. ولا نزاع يعتد به في استحبابه (ورمى بسبع) أي سبع حصيات. وأجمعوا على وجوبه بها. ولا يجزئ الوضع فقط من غير رمي أو طرح لأنه خلاف الوارد. ولا يسمى رميا. ولا في معنى الرمي الذي هو مجاهدة الشيطان بالإشارة إليه بالرمي الذي يجاهد به العدو. ولا يجزئ دفعة واحدة إلا عن واحدة عند جمهور أهل العلم لفعله - صلى الله عليه وسلم - ويستحب رفع يده حتى يرى بياض إبطه لأنه أعون على الرمي وأمكن لحصولها في المرمى. وهو مجتمع الحصى والشاخص وضع علما على الجمرة. وإذا وقع الرمي قريبا من الجمرة جاز. ولا يقف عند جمرة العبة بعد رميها إجماعا لضيق المكان. وعدم مشروعية الوقوف عندها. (ولمسلم عن أنس فنحر - صلى الله عليه وسلم -) بدنه. وكانت مائة. كما في الصحيحين وغيرهما. ولمسلم عن جابر فانصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده. ثم أعطى عليا فنحر ما غبر. أي ما بقي من المائة. ومنحره عند الجمرة الأولى التي تلي المسجد (ثم قال للحلاق) معمر بن عبد الله بن نافع بن نضلة القرشي

العدوي رضي الله عنه (خذ) أي احلق شعر رأسي. (وأشار إلى جانبه الأيمن) فيسن البداءة به وللأمر بالبداءة باليمين في نحوه وهو مذهب الجمهور. ولأبي داود فأخذ شقه الأيمن فجعل يقسمه بين من يليه. وفي لفظ قال "ههنا أبو طلحة" فدفع النصف إليه وفي لفظ فقال اقسمه بين الناس (ثم الأيسر) أي ثم أشار إلى شقه الأيسر ليحلقه فحلقه. وفيه وجعل يعطيه الناس. ويستحب أن يستقبل القبلة لكونه طاعة. وذكر الموفق وغيره ويكبر لأنه نسك. ولا يتشارط على أجرته. ونقل عن بعض الأئمة أنه قال أخطأت في حلق رأسي في خمس علمنيها حجام بمنى قلت بكم تحلق قال النسك لا يشارط عليه فجلست فقال حول وجهك إلى القبلة. وقال أدر اليمين وكبر. فلما فرغت قال صل ركعتين فقلت من أين لك قال رأيت عطاء يفعله. والأربعة الأول هي فعل السلف. (وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال اللهم اغفر للمحلقين) وفي لفظ "ارحم المحلقين" أي الذين حلقوا رؤوسهم في حج أو عمرة عند الإحلال منهما. وتقدم أن الأفضل للمتمتع التقصير في العمرة ليوفره إلى الحل من الحج (قالوا يا رسول الله والمقصرين) أي قال السامعون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قل واغفر للمقصرين. وهو من عطف التلقين. أوقال ويرحم المقصرين. وقالوا فما بال المحلقين ظاهرت لهم الرحمة قال "لم يشكوا". أي عاملوا معاملة من لم يشك. فإن من بادر

إلى الحق في الحديبية أسرع إلى الامتثال (قال في الثالثة والمقصرين متفق عليه). وظاهره أنه دعا للمحلقين مرتين. وعطف المقصرين في الثالثة. وفيه روايات أنه دعا للمحلقين ثلاثا. ثم عطف المقصرين. وذكر النووي أن هذا الدعاء في حجة الوداع وقيل في الموضعين. قال ولا يبعد ذلك ففيه أن الحلق أفضل من التقصير. وهو إجماع. لتكريره الدعاء للمحلقين في الأولى والثانية. مع سؤالهم له ذلك. ولأن المقصود قضاء التفث وهو بالحلق أتم فكان أولى. ولأنه أبلغ في العبادة وأدل على صدق النية. وفيه مشروعية الحلق أو التقصير وأنهما عبادتان مقصودتان ليستا مجرد استباحة محظور. مع قوله "فليقصر ثم ليتحلل" وأنهما نسك وهو مذهب جماهير العلماء. قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ويجزئ القصير قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم يرون أن يحلق رأسه. وإن قصر يرون ذلك يجزئ اهـ. ـ. ويجب عند الجمهور استيعابه بالحلق أو التقصير قال ابن الهمام ومقتضى الدليل في الحلق وجوب الاستيعاب كما هو قول مالك وهو الذي أدين الله به. قال مالك ولا يخرج منه الا بالاستيعاب. وحكى النووي الإجماع على حلق الجميع والمراد إجماع

الصحابة والسلف ولم يحفظ عنه ولا عن أحد من أصحابه الاكتفاء بحلق بعض شعر الرأس. وتقدم النهي عنه. وقال الشيخ وإذا قصر: جمع الشعر وقصر منه بقدر الأنملة أو أقل أو أكثر اهـ. والمراد من مجموع شعره لا من جميعه. فلا يجب من كل شعره بعينها. وبأي شيء حلق أو قصر أجزأ. لكن السنة بالموسى ونحوه. وذكر الجمهور إمرار الموسى على رأس من عدم الشعر. وقال أهل التحقيق شيخنا وغيره: إذا سقط ما وجب لأجله سقط الحلق. وإمرار الموسى عبث وقد حل. وينبغي أن يأخذ من شاربه ليكون قد وضع من شعره شيئا لله. وكذا ينبغي أن يأخذ من ظفره وعانته وإبطه. قال ابن المنذر صح أنه - صلى الله عليه وسلم - لما حلق رأسه قلم أظفاره. ولأنه من التفث فيستحب قضاؤه. (ولأبي داود) وكذا الدارقطني وحسنه الحافظ (عن ابن عباس مرفوعا ليس على النساء حلق) ولأبي داود وضعفه من حديث عائشة نحوه. أي لا يجب عليهن الحلق في التحلل وهو إجماع (إنما على النساء التقصير) أي إنما شرع لهن التقصير. وحكى الحافظ وغيره إجماع العلماء على أنه ليس على النساء حلق وإنما عليهن التقصير. ونقل أبو داود وغيره تجمع شعرها إلى مقدم رأسها ثم تأخذ من أطرافه قدر أنملة. قال الشيخ ولا تقصير أكثر من ذلك.

وللترمذي وغيره عن علي "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها" قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم لا يرون على المرأة حلقا ويرون أن عليها التقصير ولأن الحلق مثلة في حقهن. ومثلهن الرقيق. ولا يحلق إلا بإذن سيده. (وللخمسة) وغيره (عنه) أي: عن ابن عباس (مرفوعا) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وحسنه في البدر المنير (إذا رميتم الجمرة) يعني جمرة العقبة يوم العيد فقد حل لكم كل شيء إلا النساء. وتكلم فيه بعضهم وللحاكم عن ابن الزبير نحوه. وللنسائي من حديث ابن عمر إذا رمى وحلق. ولأحمد عن عائشة إذا رميتم (وحلقتم) أي شعر رؤوسكم. أو قصرتم من شعرها. وفي الفروع وغيره الأصح أن الحلاق والتقصير لا ينوب عنه غيره. ولا يتحلل إلا به (فقد حل لكم كل شيء) أي كان محظورا بالإحرام. (وإلا النساء) وفي بعض هذه الأخبار "والطيب" وثبت أن عائشة قالت طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت وحكي إجماعا. وهو قول الجمهور. وقال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم يرون أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة يوم النحرو ذبح وحلق أو قصر فقد حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء. وقال الشيخ فإذا رمى وحلق أو قصر فقد تحلل باتفاق المسلمين. التحلل

الأول. فيلبس الثياب ويقلم أظفاره. وكذلك له على الصحيح أن يتطيب ويتزوج ويصطاد يعني خارج الحرم. ولا يبقى عليه من المحظورات إلا النساء. وفي المبدع والأكثر على أنه لا يحصل التحلل الأول إلا بالرمي والحلق أو التقصير. لأمره - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي أن يطوف ويقصر ثم يحل. ودل الحديث على أنه بمجموع الأمرين يحل كل محرم على المحرم إلا النساء. فلا يحل وطؤهن إلا بعد طواف الإفاضة إجماعا. وحكى الوزير وغيره اتفاقهم علىن للمحرم تحليلين: أولهما رمي جمرة العقبة. وآخرهما طواف الإفاضة. (وعن عبد الله بن عمرو) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع يوم النحر بعد الزوال. وهو على راحلته. يخطب الناس عند الجمرة (قال) عبد الله (فجعلوا يسألونه فقال رجل) قال الحافظ لم أقف على اسمه (لم أشعر) أي لم أفطن ولم أعلم ترتيب أعمال الحج (فحلقت قبل أن أذبح) أي الهدي (قال اذبح ولا حرج) أي لا إثم ولا فدية (وقال آخر لم أشعر فنحرت) أي الهدي (قبل أن أرمي) يعني جمرة العقبة (فقال ارم ولا حرج). وفي رواية وأتاه رجل فقال حلقت قبل أن أرمي قال "ارم ولا حرج" وأتاه آخر فقال أفضت إلى البيت قبل أن أرمي قال

"قال ارم ولا حرج" وجاء بألفاظ من غير وجه. قال عبد الله "فما سئل يومئذ) أي يوم النحر حال خطبته الناس (عن شيء قدم) من الأربعة الرمي والنحر والحلق والطواف (ولا آخر) منها يعني الأربعة (إلا قال افعل) ما بقي منها. أو ما فعلته منها. مقدما له أو مؤخرا له (ولا حرج) أي لا ضيق ولا إثم ولا فدية. فقوله لا حرج يقتضي رفع الإثم والفدية معا. ومعناه افعل ما بقي عليك وقد أجزأك ما فعلته. ولا حرج عليك في التقديم والتأخير. ونفي الحرج نفي للضيق (متفق عليه) قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم. وقال الموفق والشارح لا نعلم خلافا أن الإخلال بالترتيب لا يخرج هذه الأفعال عن الأجزاء. وترتيب أفعال يوم النحر الأربعة رمي جمرة العقبة. ثم الذبح. ثم الحلق. ثم طواف الإفاضة. هو فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته ففي الصحيحين أنه أتى منى فأتى الجمرة فرماها. ثم أتى منزله بمنى فنحر. وقال للحلاق خذ. ولا نزاع في هذا للحاج مطلقا. وسنة إجماعا. وقيل واجب. والحديث يدل على جواز تقديم هذه الأمور الأربعة بعضها على بعض. وحكي إجماعا. إلا أنه اختلف في وجوب الدم في بعض المواضع. وجمهور أهل الحديث والفقهاء على الجواز وعدم وجوب الدم. لأن قول الشارع لا حرج مقتض لرفع الإثم. والفدية معا. لأن المراد بنفي الحرج نفي الضيق. وإيجاب الدم ضيق.

فصل في الإفاضة

ولو كان واجبا لبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ص وينبغي للإمام أن يخطب يوم النحر بمنى لهذا الخبر ولقول ابن العباس "خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر" رواه البخاري. وعن نافع عن ابن عمر "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بمنى حيث ارتفع الضحى" ولأبي داود "فطفق يعلمهم مناسكهم" وهو يوم الحج الأكبر. لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ولأبي داود "افضل الأيام عند الله يوم النحر" فهو أفضل أيام العام. ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع. وليس بمنى صلاة عيد بل رمي الجمرة لهم كصلاة العيد لأهل الأمصار. فصل في الإفاضة يعني من منى لطواف الإفاضة. ويسمى طواف الصدر. لأنه يصدر إليه من منى. وطواف الفرض لتعينه. وطواف الركن عند أهل الحجاز. وطواف يوم النحر وغير ذلك. والإفاضة الدفع في السير. وأصلها الصب فاستعير للدفع في السير. وأصله افاض نفسه أو راحلته. قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أي ليزيلوا أدرانهم وأوساخهم. والمراد منه الخروج عن الإحرام بالحلق وقص الشارب ونتف الإبط وقلم الأظفار والاستحداد. وليس الثياب. أو مناسك الحج كلها {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي حجهم

أو نذر الحج والهدي. وما ينذره الإنسان من شيء يكون في الحج أي ليتموها بقضائها {وَلْيَطَّوَّفُوا} طواف الإفاضة الطواف الواجب {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} سمي عتيقا لأنه أول بيت وضع للناس. أو لأن الله أعتقه من أيدي الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه. وروي مرفوعا. وذكره تعالى بصيغة المبالغة لأنه ركن الحج. ووقته يوم النحر بعد الرمي والحلق. والأطواف ثلاثة طواف القدوم وتقدم. وطواف الإفاضة يوم النحر ركن الحج. وطواف الوداع ويأتي. (وعن عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما قال: (وأفاض) أي ذهب (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) مسرعا من منى إلى البيت يوم النحر بعد أن رمى ونحر وحلق "فطاف" أي سبعة أشواط (بالبيت) طواف الإفاضة. وهو طواف الفرض. فيعينه بالنية. ولهما عن ابن عمر. أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر وثبت عن عائشة وغيرها. فيسن طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق أول النهار. لما تواتر من فعله - صلى الله عليه وسلم -. وله تأخيره عن أيام منى. وقال الشيخ ينبغي أن يكون في أيام التشريق. فإن تأخيره عن ذلك فيه نزاع اهـ. ومذهب أحمد والشافعي أن آخره غير مؤقت. وعند أبي حنيفة أيام التشريق ومالك ذي الحجة. والتعجيل أفضل إجماعا. ولا شيء عليه في تأخيره عند

الجمهور. وثبت أن من لم يطف طواف الإفاضة لم يحل له أن ينفر حتى يطوف. وهو إجماع. وحكى النووي وغيره الإجماع على ان هذا الطواف وهو طواف الإفاضة ركن من أركان الحج لا يصح الحج إلا به وكذا الإحرام والوقوف. قال ابن القيم وغيره هذه الثلاثة أركان الحج باتفاق المسلمين. (ثم حل من كل شيء) من محظورات الإحرام (حرم منه) بالإحرام حتى الوطء إجماعا (رواه مسلم) وهذا هو التحلل الثاني الذي يعود المحرم به حلالا من لبس وطيب ووطء وغير ذلك مما حرم عليه بالإحرام. ولهما عن ابن عمر قال "لم يحل النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء حرم عليه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر فأفاض بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه"وعن عائشة نحوه متفق عليهما. وقال الوزير وغيره اتفقوا على أن التحلل الثاني يبيح محظورات الإحرام جميعها ويعود المحرم حلالا. ومرادهم أن الحل متوقف على السعي إن كان ركنا أو قيل بوجوبه. (وله عن جابر لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه) أي في حجهم وعمرتهم (بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول) أي مع طواف القدوم. فيجزئ عند جمهور العلماء إلا أبا حنيفة في القارن. وقال أحمد في المتمتع إن طاف طوافا واحدا فلا بأس وإن طاف طوافين فهو أعجب إلي. وعنه فهو أجود

وواحدا فلا بأس. قال الشيخ وهذا منقول عن غير واحد من السلف. وعن أحمد يجزئ سعي واحد. وقال أيضا إن طاف طوافا وحدا فهو أعجب إلي واحتج بحديث جابر. فلأبي داود عن جابر قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأربع ليال خلون من ذي الحجة فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة قال "اجعلوها عمرة إلا من كان معه هدي" فلما كان يوم التروية أهل بالحج فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت ولم يطوفوا بين الصفا والمروة. قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه بنحوه مختصرا ومطولا. قال ابن القيم وفيه اكتفاء المتمتع بسعي واحد كما تقدم. وقال ابن عباس يجزئ طواف بين الصفا والمروة. واختاره الشيخ. وقال هو أصح أقوال جمهور العلماء. وأصح الروايتين عن أحمد. فإن الصحابة الذين تمتعوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطوفوا بني الصفا والمروة إلا مرة واحدة قبل التعريف. وفي صحيح مسلم عن جابر لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا. وأكثرهم كانوا متمتعين. وحلف على ذلك طاووس. وثبت مثله عن ابن عمر وابن عباس وغيرهم. وهم أعلم الناس بحجه - صلى الله عليه وسلم -. قال ولم ينقل أن أحدا منهم طاف وسعى ثم طاف وسعى. ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فلما لم ينقله أحد علم أنه لم يكن.

وعمدة من قال بالطوافين ما روى أهل الكوفة عن علي وابن مسعود. وعن علي أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد خلاف ما رواه عنه أهل الكوفة. قال ابن حزم وما روي في ذلك عن الصحابة لم يصح منه ولا كلمة. قال الشيخ فإذا اكتفى المتمتع بالسعي الأول أجزأه كما يجزئ المفرد والقارن وهو الذي ثبت في صحيح مسلم عن جابر. وقد روي في حديث عائشة أنهم طافوا طوافين. لكن هذه الزيادة قيل إنها من قول الزهري وقد احتج بها بعضهم وهذا ضعيف. والأظهر ما في حديث جابر. ويؤيده "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" فالمتمتع من حين أحرم بالعمرة دخل بالحج لكنه فصل بتحلل ليكون أيسر على الحاج. وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة. وقال ابن القيم هذه اللفظة يعني أنهم طافوا طوافا آخر قد قيل إنها مدرجة في الحديث من كلام عروة اهـ. ولأنه لا يستحب التطوع بالسعي كسائر الأنساك. قال في المبدع بغير خلاف أعلمه. وقال النووي يكره ولا نزاع فيه في حق المفرد. والجمهور أن السعي ركن وهو مذهب الشافعي وأحمد والمشهور عن مالك لفعله - صلى الله عليه وسلم - وقال "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" رواه أحمد. ولأنه نسك في الحج والعمرة فكان ركنا فيهما كالطواف. وقالت عائشة ما أتم الله حج من لم يطف بين

الصفا والمروة. واختيار الموفق وغيره أنه واجب وليس بركن فيجبره بدم لأن دليل من أوجبه دل على مطلق الوجوب لا على أنه لا يتم الحج إلا به. (وله) من طريق مجاهد (عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها) وكانت تطهرت بعرفة. ومن رواية طاووس أنه قال لها يوم النفر (طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك) وهو مذهب الجمهور. وثبت في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد. ولدخول العمرة في الحج فلا تحتاج إلى عمل آخر غير عمله. (وعن جابر) في حديثه الطويل (ثم أتى إلى بني عبد المطلب) وهم أولاد العباس (وهم يسقون) على زمزم لأن سقاية الحاج كانت وظيفتهم. فقال "انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم" ولما نزلت (أجعلتم ساقية الحاج) الآية قال العباس: ما أراني إلا أني تارك سقايتنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا (فناولوه) أي أعطوه (دلوا فشرب منه رواه مسلم) وذكر الواقدي وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - لما شرب صب على رأسه. وجاء أنه شرب وهو قائم فلا بأس به. (ولأحمد عن ابن عباس مرفوعا ماء زمزم) سميت بذلك لكثرة مائها. أو ضم هاجر له حين انفجرت وزمها إياه

(لما شرب له) أي ينفع الشارب لأي أمر شرب لأجله. سواء كان من أمور الدنيا أو الآخرة لأن ما في قوله "لما شرب له" من صيغ العموم. والحديث أخرجه ابن ماجه وابن أبي شيبة وغيرهم. وصححه المنذري وحسنه الحافظ. وفيه دليل على استحباب الشرب منها. والتظلع منه. وللدارقطني عن ابن عباس مرفوعا "ماء زمزم لما شرب له. إن شربته تستشفي به شفاك الله. وإن شربته يشبعك أشبعك الله به. وإن شربته لقطع ظمئك قطعة الله" ولمسلم من حديث أبي ذر "إنها طعام طعم" أي تشبع شاربها كالطعام ولأبي داود: "وشفاء سقم". ولابن ماجه عن ابن عباس مرفوعا "أن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتظلعون من ماء زمزم" وقال ابن عباس إذا شربت من زمزم فاستقبل القبلة. واذكر اسم الله وتنفس وتظلع منه. فإذا فرغت فاحمد الله. ويقول إذا شرب اللهم اجعله لنا علما نافعا وزرقا واسعا وريا وشبعا وشفاء من كل داء. واغسل به قلبي واملأه من خشيتك وحكمتك. وروي عن عكرمة وغيره. لأنه لائق بالمحلل. وشامل لخير الدنيا والآخرة. فيرجى حصوله.

فصل في أيام منى

فصل في أيام منى أي في أحكام ما يفعله الحج من أعمال الحج بمنى أيام التشريق. كرمي الجمار والمبيت وغير ذلك. (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر) أي طاف بالبيت طواف الإفاضة كما تقدم (ثم رجع) أي من مكة (فصلى الظهر بمنى متفق عليه) قال ابن القيم وهو أظهر مما رواه جابر وعائشة لوجوه. منها أنه - صلى الله عليه وسلم - لوصلىلظهر بمكة لم تصل الصحابة بمنى وحدانا. ولم يكن لهم بد من نائب عنه. ولم ينقل. وأنه لو صلى بمكة كان صلى خلفه أهل البلد وهم مقيمون. ومنها أن حديث ابن عمر متفق على صحته اهـ. وثبت من غير وجه أنه مكث بها ليالي أيام التشريق. ومذهب الجمهور على أن المبيت بها واجب. وأنه من جملة مناسك الحج. قال الشيخ والسنة أن يصلي بالناس بمنى. ويصلي خلفه أهل الموسم. ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى. وهو مسجد الخيف مع الإمام. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر. وعمر كانوا يصلون بالناس بمنى قصرا بلا جمع ويقصر الناس كلهم خلفهم أهل مكة وغير أهل مكة. فإن لم يكن للناس إمام عام صلى الرجل بأصحابه. والمسجد بني بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على عهده بناء. وإنما أول من بناه المنصور العباسي.

(ولهما عنه) رضي الله عنه (قال استأذن العباس) عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان له سقاية الحاج (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة) أي يمكث فيها. يسمى بائتا وإن لم ينم (ليالي منى) أي الليالي الثلاث الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة (من أجل سقايته) يعني من ماء زمزم. فإنهم كانوا يغترفونه بالليل. ويجعلونه في الحياض سبيلا. (فأذن له) في المبيت بمكة لأجل السقاية. وهي مصدر كالسعاية والرعاية والحماية. وكان العباس يلى ذلك فى الجاهلية وقام الإسلام وهى بيده وأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه فكانت له ولآله أبدا فمن قام بها فالرخصة له لهما عن ابن عباس نحوه فدل الحديث على انه يجب المبيت بمنى ليلة ثانى النحر وثالثه وكذا رابعه على لمن غربت عليه الشمس بها إلا لمن له عذر السقاية وكذا الرعاية وحفظ مال وعلاج مريض ونحو ذلك عند الجمهور. وقال ابن القيم يجوز للطائفتين يعنى السقاة والرعاة ترك المبيت بالسنة إذا كان قد رخص لهم فمن له مال يخاف ضياعه أو مريض يخاف من تخلفه عنه أوكان مريضا لا تمكنه البيتوتة سقطت عنه بتنبيه النص على السقاة والرعاة. (وللبخارى عنه) يعنى ابن عمر رضى الله عنهما (أنه كان يرمي الجمرة الدنيا) تأنيث الأدنى ومعناه الأقرب وهى التى يبدأ بها فى الرمى ثاني يوم النحر وتلي مسجد الخيف.

سميت الدنيا لقرها من مسجد الخيف وهى أبعدهن عن مكة (بسبع حصيات) متعاقبات واحدة بعد واحدة إجماعأ يرفع يده حتى يرى بياض إبطه (يكبرمع كل حصاة) أي يقول بسم الله والله أكبر وقال الشيخ وغيره وإن شاء قال اللهم اجعله حجا مبرورا. الخ. (ثم يتقدم) امامها ويجعلها عن يساره (فيسهل) أى يصبر أقرب إلى السهل من الأرض وهو المكان المستوي الذي لا ارتفاع فيه (فيقوم مستقبل القبلة) ولا يكون كذلك إلا يجعلها عن يساره (ثم يدعو ويرفع يديه) أى فى الدعاء عند الجمرة اتفاقا إلا ما روى عن مالك (ويقوم طويلا) يدعو الله عز وجل ويثنى عليه ويهلل ويكبر ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويأتي انه بقدر سورة البقرة. (ثم يرمي) الجمرة (الوسطى) مثل الأولى بسبع حصيات ويتأخرقليلا (ثم يأخذ ذات الشمال) أى يمشي إلى جهة شماله ليقف داعيا فى مكان لايصيبه الرمل ويجعل الجمرة عن يمينه (فيسهل) أى يصير إلى بطن الوادى (فيقوم مستقبل القبلة) لأنها اشرف الجهات (ثم يدعو) الله عز وجل (ويرفع يديه) اتفاقا كما تقدم إلا عن مالك (ويقوم طويلا) يحمد الله وثني عليه ويهلل ويكبر ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفسره ما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح أنه بقدر سورة البقرة فى كل واحدة منهما وجزم به الشيخ وغيره لهذا الخبر وغيره.

قال ابن القيم ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو قريبا من وقوفه الأول فتضمن حجه ست وقفات للدعاء على الصفا والمروة وبعرفة ومزدلفة وعند الجمرتين وإن ترك الوقوف عندهما والدعاء فقد ترك السنة ولاشيء عليه وشرع الذكر عند هذه الأفعال لأنها أفعال تعبدية ولا تظهر فيها العبادة فأمر بالذكر فيها ليكون شعارا لها (ثم يرمي جمرة العقبة) كذلك بسبع حصيات كما تقدم (من بطن الوادي) مستقبلا لها والعمل عليه عند أهل العلم وبعضهم يرى وجوبه لثبوته من طرق متعددة (ولا يقف عندها) قال الحافظ وغيره لا نعلم فيه خلافا. والحديث دليل على مشروعية رمي الجمار الثلاث كل واحدة بسبع حصيات أيام التشريق وهو واجب إجماعا وحكاه الوزير اتفاقا ولم ينازع فى وجوبه من يعتد بقوله ويجب الترتيب عند الجمهور إلا أبا حنيفة فسنة عنده فإن نكسه لم يعتد إلا بالأولى ويأتي بما يليها وفيه مشروعية الوقوف عند الجمرتين الأوليين دون جمرة العقبة ومشروعية الدعاء عندهما وقال الموفق وغيره لا نعلم مخالفا لما تضمنه حديث ابن عمر إلا ما روي عن مالك فى رفع اليدين والسنة متظاهرة فى ذلك. وحكمة الوقوف عند الجمرتين دون جمرة العقبة والله أعلم تحصيل الدعاء لكونه فى وسط العبادة دون جمرة العقبة لأن العبادة قد انتهت بفراغ الرمي والدعاء فى صلب العبادة قبل

الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها كالصلاة (ثم ينصرف) يعني ابن عمر رضي الله عنه من عند الجمرة (ويقول هكذا) أي هذا الذي فعلت (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله) أي فى جميع ما فعل عند الجمرات الثلاث ولأ حمد وأبي داود عن عائشة نحوه ويفعل ذلك فى كل يوم من أيام التشريق على الترتيب والكيفية المذكورة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم بنقل الخلف عن السلف. قال الشيخ ويستحب أن يمشي إليها اهـ. لأن بعده وقوف ودعاء فالمشي أقرب إلى التضرع وقال ابن القيم لما زالت الشمس مشى من رحله إلى الجمار ولم يركب ورواه الترمذي وغيره وصححه مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا وراجعا وقال والعمل عليه عند أكثر أهل العلم وأما جمرة العقبة يوم النحر فثبت أنه رماها راكبا. (وله عنه) قال (كنا نتحين) أي نراقب الوقت المطلوب الرمي فيه وننتظر دخوله (فإذا زالت الشمس رمينا) يعني الجمار الثلاث أيام التشريق ولمسلم عن جابر رأيته يرمي على راحلته يوم النحر ضحى وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس ولأحمد وغيره عن عائشة فمكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمار إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات وللترمذي عن ابن عباس نحوه قال الترمذي والعمل عليه عند أكثر أهل العلم أنه لايرمي بعد يوم النحر

إلا بعد الزوال وقال غيرواحد هو مذهب الجمهور وخالف فى ذلك عطاء وطاووس. ويستحب قبل صلاة الظهر لفعله - صلى الله عليه وسلم - ورخص بعض الحنفية فى الرمي يوم النفر قبل الزوال والأحاديث الصحيحة المستفيضة رد عليهم وإن أخر الرمي إلى اليوم الثالث رماه كله فيه ويرتبه بنية لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي. (وللخمسة) وغيرهم (عن عاصم بن عدي) صحابي مشهور وكان حليفا لبني عبيد بن زيد الأنصاري مات سنة خمس وأربعين وله مائة وعشرون (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لرعاة الإبل) بضم الراء جمع راع (فى البيوتة عن منى) أي في ترك البيتوتة بها ليالي أيام التشريق لأنهم مشغولون برعي الإبل وحفظها لتشاغل الناس بنسكهم عنها ولا يمكنهم الجمع بين الرعي والمبيت فيجوز لهم ترك المبيت للعذر والرمي على الصفة المذكورة. (يرمون يوم النحر) أي جمرة العقبة يوم العيد ولا يبيتون بمنى (ثم يرمون ليومين) أي يرمون اليوم الثالث لذلك اليوم واليوم الذي فاتهم الرمي فيه وهو اليوم الثاني (ثم يرمون يوم النفر) أي اليوم الرابع إن لم يتعجلوا (صححه الترمذي) وابن حبان يرتبون الجمرات الثلاث بالنيه لليوم الأول ثم للثاني ثم للثالث وكذا كل ضرورة داعية يشق معها

فصل في النفر

المبيت مشقة لاتحتمل عادة وتقدم ترخيصه للسقاة وقيس على ذلك مما هو مثلهم في العذر وهو مذهب جمهور العلماء. فصل في النفر أي الذهاب من منى إلى مكة والوداع وما يتعلق بذلك والنفر بالتحريك التفرق من نفر ينفر نفورا ونفارا فر وذهب والنفر الأول والثاني من منى. قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} أي استعجل بالنفر من الحج في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد رمي جماره {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} في تعجيله وذلك أنه على الحاج أن يبيت بمنى الليلة الأولى والثانيه من أيام التشريق ويرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرون حصاة عند كل جمرة بسبع حصيات كما تقدم إلا أنه رخص لرعاة الإبل وأهل سقاية الحاج ثم كل من رمى اليوم الثاني من أيام التشريق وأراد أن ينفر ويدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها فذلك له واسع. {وَمَنْ تَأَخَّرَ} عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى يبيت ليلة الثالث ويرمي يوم الثالث جماره أو لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت حتى يرمى اليوم الثالث ثم ينفر (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) في تأخيره فقد خيره تعالى ونفى الحرج سواء في ذلك مريد الإقامة بمكة وغيره والأفضل أن يمكث ويرمي لفعله - صلى الله عليه وسلم - ونفي الإثم لايقتضي

المساواة لنزولها بسبب أن الجاهلية منهم من يؤثم المتقدم ومنهم من يؤثم المتأخر. فنفي الإثم تعالى عنهما لأخذ أحدهما بالرخصة والآخر بالأفضل {لِمَنِ اتَّقَى} أى لمن اتقى أن يصيب في حجه شيئًا نهاه الله عنه أو يغفر لهما بسبب تقواهما فلا يبقى عليهما ذنب ولما ذكر تعالى النفر الأول والثاني وهو تفرق الناس من موسم حجهم إلى سائر الأفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف قال {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تجمعون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم. (وقال عمر) ابن الخطاب رضى الله عنه (من أدركه المساء) أي غابت عليه الشمس (في اليوم الثاني) أي من أيام التشريق قبل أن ينفر (فليقم) أي يلزم المبيت بمنى (إلى الغد) من اليوم الثالث من أيام التشريق ويرمي الجمرات (حتى ينفر مع الناس) النفر الثاني قال الشيخ وغيره ثبت هذا الأثر عن عمر ورواه مالك عن ابن عمر وقال ابن المنذر ثبت عن عمر وهو قول أحمد والشافعي ورواية عن أبي حنيفة وهو مذهب جماهير العلماء وأكثر الفقهاء وقاله شيخ الإسلام وغيره. وقال ولأن الشارع جوز التعجيل في اليوم وهو اسم لبياض النهار فإذا غربت الشمس خرج من أن يكون في اليوم فهو ممن تأخر فلزمه المبيت بمنى والرمي بعد الزوال ونص عليه

جمهور أهل العلم. ثم إن نفر في اليوم الثاني ثم رجع في اليوم الثالث لم يضره رجوعه وليس عليه رمي لحصول الرخصة قال ولا ينفر الإمام الذي يقيم للناس المناسك بل السنة أن يقيم إلى اليوم الثالث وقال وليس له التعجيل لأجل من يتأخر. (وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء) يعني بالمحصب وللبخاري عنه صلى الظهر يوم التروية بمنى والعصر يوم النفر بالأبطح قال الحافظ وقوله صلى الظهر يعني بالمحصب لا ينافي أنه لم يرم إلا بعد الزوال لأنه رمى فنفر فنزل المحصب فصلى الظهر به والعصر والمغرب والعشاء (ثم رقد رقدة) وللبخاري عن ابن عمر نحوه وفيه ويهجع هجعة (بالمحصب) اسم لمكان كان متسعا خارج مكة عند خيف بني كنانة فيما بينه وبين ثنية كداء ويقال له الأبطح وهو ما انبطح من الوادي واتسع قال الحافظ مابين الجبلين على المقبرة. وللبخاري عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالبطحاء ثم هجع هجعه أي نام يسيرا (ثم ركب) يعني ناقتة القصواء (إلى البيت) أي ليطوف به (فطاف به) أي طواف الوداع (رواه البخاري) قال الشيخ ثم إذا نفر من منى فإن بات بالمحصب وهو الأبطح وهو ما بين الجبلين إلى المقبرة ثم نفر بعد ذلك فحسن فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات به وخرج ولم يقيم بمكة بعد صدوره من منى) لكنه

ودع البيت. وقال لاينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت. وقال ابن القيم اختلف السلف في التحصيب هل وهو سنة أو منزل اتفاق؟ فقالت طائفة هو من سنن الحج لما في الصحيحين نحن نازلون غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر فقصد إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر والعداوة لله ورسوله ولمسلم أن أبا بكر وعمر كانوا ينزلونه وابن عمر يراه سنة وذهبت طائفة منهم ابن عباس وعائشة إلى أنه ليس بسنة وإنما هو منزل اتفاق. وقال أبو رافع لم يأمرني ولكن أنا ضربت قبته فيه ثم جاء فنزل فأنزل الله فيه بتوفيق تصديقا لقوله - صلى الله عليه وسلم - ولا خلاف فى عدم وجوبه وصرح شيخ الإسلام وغيره أنه لو سافر لبلده من منى ولم يأتي مكة بعد طواف الإفاضة لم يكن عليه وداع وقال في الفروع وإن ودع وأقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه. (ولهما عن ابن عباس) رضى الله عنهما قال (أمر الناس) بالبناء للمجهول والمراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن يكون آخر عهدهم) رؤيتهم وليقيهم (بالبيت الطواف) وفي لفظ لمسلم كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاينفرن أحد حتى

يكون اخر عهده بالبيت وفيه دليل على وجوب طواف الوداع قال النووي وغيره وهو أكثر قول العلماء وورد فيه أمره - صلى الله عليه وسلم - به ونهيه عن تركه وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب. ولاريب أنه يفيد الوجوب كما هو مذهب جماهير السلف والخلف إلا ما روي عن مالك مستدلاً بالتخفيف عن الحائض وأجابوا بأنه دليل الإيجاب أن بتركه دمًا إذ لو لم يكن واجبًا لما أطلق عليه لفظ التخفيف ولفظه (إلا أنه خفف) يعني طواف الوداع. (عن الحائض) وظاهره عدم وجوبه عليها فلا يلزمها عند عامة الفقهاء ولا تنتظر الطهر لسقوطه عنها من أصله ومفهومه وجوبه على من سواها قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم وفي الصحيحين في قصة صفية وكانت حاضت بعد طواف الإفاضة فأمرها أن تنفر. وهو أصل في سقوط الوداع عنها وألحق الطبري وغيره من خاف نحو ظالم وغريم وفوت رفقة وقال شيخ الإسلام هو واجب على من سواها عند الجمهور وليس من الحج وإن خرج غير حاج فظاهر كلامه لايجب عليه ولاوداع على أهل مكة ولامن أقام بها بإجماع من أوجبه ولو خرج من مكة لحاجة فطر له السفر. لم يلزمه دخولها لأجل طواف الوداع لأنه لم يخاطب به حال خروجه. ووقته أذا فرغ من جميع أموره وإن قضى حاجته في

طريقه. أو اشترى زادًا أوشيئًا في طريقه لم يعد لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون اخر عهده بالبيت قاله شيخ الإسلام وغيره وهو مذهب جمهور أهل العلم وقال فلا يشتغل بعده بتجارة ونحوها لكن إن قضى حاجة أواشترى شيئا في طريقه بعد الوداع أودخل المنزل الذي هو فيه ليحمل المتاع على دابته ونحو ذلك مما هو من أسباب الرحيل فلا إعادة عليه وإن أقام بعد الوداع أعاد ليكون اخر عهده بالبيت كما جرت العادة في توديع المسافر أهله وجيرانه (ولأبي داود) وأحمد وغيرهما إلا أن في سنده مقالا (عن عبد الرحمن بن صفوان) بن قدامة قيل قرشي وقيل جمحي له صحبة وبلاء حسن وصداقة مع العباس (قال لما فتح رسول الله مكة) سنة ثمان من الهجرة وفي لفظ لما قدم مكة ودخل البيت لبست ثيابي ثم انطلقت و (وافقته قد خرج من الكعبة وللخمسة إلا النسائي وصمم الترمذي إنه دخل الكعبة وقال وددت أني لم أكن فعلت إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي. ولأحمد والنسائي عن أسامة دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت فحمد الله وأثنى عليه وكبر وهلل ثم قام إلى ما بين يديه من البيت فوضع صدره عليه وخده ويديه ثم هلل وكبر ودعا ثم فعل ذلك بالأركان كلها وثبت دخوله من حديث ابن عباس وغيره عند البخاري وغيره وللترمذي وصححه عن

بلال أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى في جوف الكعبة قال والعمل عليه عند أهل العلم لا يرون بالصلاة في الكعبة بأسًا. قال الشيخ فإذا دخل مع الباب تقدم حتى يصير بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع والباب خلفه فذلك المكان الذي صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يدخله فلا بأس وقال ليس دخوله فرضًا ولا سنة مؤكدة بل حسن وأخذ بيد عائشة لما سألته دخوله فأدخلها الحجر وهو صلى الله عليه وسلم لم يدخله في حجه ولا عمرته وإنما دخله عام الفتح قال ابن القيم لتطهيره مما كان فيه من طواغيت الجاهلية وأوثانها. قال (وأصحابه قد استلموا البيت) أي قد وضعوا صدورهم عليه وأيديهم فلمسوه وتناولوه (من الباب إلى الحطيم) وهو ما بين الركن والباب كما ذكره المحب الطبري وغيره. وكذا قال غير واحد أنه من الحجر الأسود إلى الباب. وقال ابن عباس الملتزم ما بين الركن والباب. ولا نزاع في ذلك. سمي بذلك لأن الناس كانوا يحطمون هناك بالإيمان ويستجاب فيه الدعاء للمظلوم على الظالم. وقل من حلف. هناك يعني كاذبًا إلا عجلت له العقوبة. وكذا قال أهل اللغة. لأنه تحطم فيه الذنوب (وقد وضعوا خدودهم على البيت). ولأبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: طفت مع عبد الله. فلما جاء دبر الكعبة. قال أعوذ بالله من

النار ثم مضى حتى استلم الحجر. فقام بين الركن والباب فوضع صدره وذراعيه وكفيه هكذا. وبسطهما بسطًا. وقال هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ولا بن ماجه نحوه ففيه استحباب وضع الخد والصدر على البيت بين الركن والباب قال (ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسطهم) بالتسكين لأنه بمعنى بيت. أي فكان - صلى الله عليه وسلم - شريكًا لهم في هذا العمل الصالح. ومن حديث عمرو بن شعيب أنه - صلى الله عليه وسلم - يلزق وجهه وصدره بالملتزم. ودلت الأحاديث على استحبابه. ولأنه موضع تجاب فيه الدعوات. قال ابن عباس لا يلتزم ما بينهما أحد يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه. وقال الشيخ يقف إن أحب وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع. فإن هذا الألتزام لا فرق أن يكون حال الوداع أو غيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة وقال ولو وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسنا. وإن شاء قال في دعائه الدعاء المأثور عن ابن عباس، ولفظه اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازداد عني رضا، وإلا فمن الآن قبل أن تنأي عن بيتك داري، وهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك اللهم فاصحبني العافية في

باب الفوات والإحصار

جسمي والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شئ قدير. ويدعو بما أحب ويصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال شيخ الإسلام وغيره ويشرب من ماء زمزم لما أحب، ويدعو بما ورد ومن حمل منه جاز، فقد كان السلف يحملونه، ويستلم الحجر ويقبله، ثم يخرج ولا يقف، ولا يلتفت ولا يمشي القهقري بعد وداعه، وذكر أنه بدعة مكروهة بل يخرج كما يخرج الناس من المساجد بعد الصلاة، وتقف الحائض والنفساء بباب المسجد ولا تدخله، لأنها ممنوعة من دخوله، وتدعو بالدعاء الذي سبق وبغيره. باب الفوات والإحصار أي بيان أحكامها، وما يتعلق بذلك، والفوات مصدر فات إذا سبق فلم يدرك وهو هنا كذلك لغة واصطلاحًا، ولا يتأتى إلا في الحج إذ العمرة لا تفوت إلا تبعا لحج القارن والإحصار مصدر حصره إذا حبسه، وأصل الحصر المنع والحبس عن السفر وغيره. قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي دون تمام الحج والعمرة فحللتم (ف) ـعليكم {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ما يهدى إلى البيت وأعلاه بدنه وأوسطه بقرة وأدناه شاة. قال ابن عباس شاة لأنه أقرب إلى اليسر قال الإمام العادل أبو المظفر الصحيح عندي ما

ذهب إليه الشافعي في قوله الجديد وأحمد فإن قوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} محمول على العموم في حق كل من أحصر سواء كان قبل الوقوف أو بعده، وبمكة أو غيرها، وسواء كان طاف بالبيت أو لم يطف وأن له أن يتحلل كما قال الله تعالى، وأطلق ذلك في قوله ولم يخصصه واختاره الشيخ. وقال الزركشي لعلها أظهر لظاهر الآية. والآية نزلت رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي وأن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا من إحرامهم. ومحل ذبح هدي المحصر حيث أحصر لأنه ثبت في الصحيح وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح الهدي عام الحديبية بها ثم قال تعالى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} أي مكانه الذي يجب أن يذبح فيه. وقال {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي: وصدوا الهدي أن يبلغ محله، قال ابن القيم ولا يلزم نحره في الحرم. ولو قدر على أطرافه اهـ. ومذهب أحمد الشافعي والجمهور يجب عليه الهدي ولا يتحلل إلا بهدي ينحره في محله في وقت حصره، وقال أبو حنيفة في الحرم. وفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أولى بالاتباع. وحكى الوزير الإتفاق على أن الإحصار بالعدو يبيح التحلل وقال في المبدع وغيره بغير خلاف. والمراد وأردتم التحلل. إذ الأحصار بمجرده لا يوجب هديا. وقال ابن القيم ولا يلزم المحصر هدي ولا قضاء لعدم أمر الشارع. وقال أبو حنيفة المحصر بالمرض كمن أحصر بالعدو سواء

وهو رواية عن أحمد. وقول جماعة من السلف. واختاره الشيخ. وقال غير واحد من أهل اللغة لفظ الإحصار إنما هو للمرض. يقال أحصره المرض إحصار فهو محصور. قال الزهري هو كلام العرب. استفيد حصر العدو بطريق التنبيه فيكون حكمه حكم من حصره العدو. قال ابن قتيبة في الآية هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كسر أو عدو. يقال أحصره فهو محصر. وقال ابن القيم لو لم مات يأت نص يحل المحصر بالعدو يقتضيه فكيف وظاهر القرآن والسنة والقياس يدل عليه. (ولما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلح الحديبية) أي من قضية الكتاب لأصحابه ويأتي (قال لأصحابه قوموا فانحروا) أي الهدي من الإبل، واذبحوا سواها من البقر والغنم (ثم احلقوا) رؤوسكم ويجزئ التقصير. فعند ذلك قال: "اللهم اغفر للمحلقين) وتقدم (رواه البخاري) وغيره عن المسور. ومروان في قصة عمرة الحديبية. وله عن ابن عمر وابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - "نحر ثم حلق". فدل على أن الحصر يقدم النحر على الحلق. وله أيضًا عن المسور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نحر قبل أن يحلق. وأمر أصحابه بذلك " ولأحمد "ونحر بالحديبية قبل ان يحلق وأمر أصحابه بذلك". وقال أكثر أصحاب أحمد يجب الحلق وفاقا لأبي حنيفة ومالك والشافعي. واختاره القاضي وغيره. ولا فرق في ذلك بين كون

الحصر عامًا أو خاصًا ولا بين كون الحج صحيحًا أوفاسدًا ولاقبل الوقوف أوبعده. ولا قضاء على المحصر المتطوع بحصر خاص أوعام وإن اقترن به فوات الحج إذ لم يرد الأمر به والذين أحصروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية لم يعتمر معه - صلى الله عليه وسلم - منهم في عمرة القضية إلاالبعض فعلم أنها لم تكن قضاء ولم ينقل أنه أمر الباقين بالقضاء لأنه تطوع جاز التحلل منه مع صلاح الزمان له فلم يجب قضاؤه وفارق الفوات لأنه منهما بخلاف المحصر وتقدم قول ابن القيم لايلزم المحصر هدي ولاقضاء لعدم أمر الشارع بهما وهو مذهب أبي حنيقة. فأما الفرض فيجب إجماعًا لوجوبه في الذمة قبل الشروع فيه وقال بعض أهل العلم إن فقد الهدي صام عشر أيام ثم حل وهو مذهب أحمد وأحد قولي الشافعي والجمهور على جواز التحلل قبل الإتيان بالبدل من غير توقف على الصوم لتضرره ببقائه على إحرامه إلى فراغ الصوم ولا إطعام في الاحصار ومن له طريق إلى الحج وأمكنه سلوكه لزمه والأولى لمعتمر وحاج اتسع زمن إحرامه الصبر أن غلب على ظنه انكشاف العدو وإمكان الحج. (وعن عكرمة) مولى عبد الله بن عباس كان من أعلم الناس ووثقه جماعة وتكلم فيه لرأيه لا لحفظه مات سنة مائه وخمس

(عن الحجاج بن عمرو) بن أبي غزية الأنصاري المازني رضي الله عنه. (قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من كسر) بضم الكاف وكسر السين أي أصابه كسر لايستطيع إكمال النسك معه (أو عرج) بفتح المهملة وكسر الراء أي أصابه شيء في رجله وليس بخلقه ولأبي داود وابن ماجه أومرض ولأحمد من حبس بكسر أومرض وهو محرم بحج أوعمرة (فقد حل) أي يصير حلالا بحصول ذلك المانع وممن يجوز له الحل بعد أن كان ممنوعًا منه. وتقدم قول ابن القيم ولو لم يأت نص بحل المحصر بمرض لكان القياس على المحصر بالعدو ويقتضيه فكيف وظاهر القرآن والسنة والقياس يدل عليه اهـ. وكذا كل عذر حكمه حكمها كإعواز النفقة والضلال في الطريق وبقاء السفينة في البحر وهو قول كثير من الصحابة ومذهب الحنفية وغيرهم (وعليه حجة أخرى) يعنى من قابل كما يأتي (قال) عكرمة (فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا صدق) يعني الحجاج بن عمرو فيما أخبر به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رواه الخمسة) وغيرهم وأقره الذهبي وحسنه الترمذي. وقال غير واحد هو حديث حسن يحتج بمثله وظاهر القرآن بل صريحه يدل على أن الحصر يكون بالمرض ونحوه كما

تقدم واختار الشيخ أن الحائض لها التحلل كمن حصره عدو فإن الله لم يوجب على المحصر أن يبقى محرمًا حولاً بغير اختياره. (وأمر عمر رضي الله عنه وغيره) يعني ابنه عبد الله وعبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم وغيرهم كما أخرجه مالك وغيره أنهم أمروا (من فاته الحج) وهو أن يفوته الوقوف بعرفة يوم عرفة (أن يحل) ولا بد (بعمرة) لأن قلب الحج عمرة جائز بلا حصر فمعه أولى وأجمعوا على أن من هذه صفته لايخرج من إحرامه إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة. (ثم يحج قابلا) أي وأن عليه الحج السنة المقبلة إن كان فردًا إجماعا أو نفلاً لأنه مفرط وهو مذهب الجمهور وللدار قطني عن ابن عباس مرفوعا من فاته عرفات فاته الحج وليتحلل بعمرة وعليه الحج من قابل وعمومه متناول للفرض والنفل بخلاف المحصر (ويهدي رواه الشافعي) ومالك والبيهقي والأثرم وغيرهم فعمر أمر أبا أيوب وهبار بن الأسود حيث فاتهما الحج أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالا ثم يحجا من قابل ويهديا. والجمهور أن عليه الهدي للإجماع على أن من حبسه المرض حتى فاته الحج فعليه الهدي وحكي أنهم اتفقوا على أن من فاته الحج لايبقى محرمًا إلى العام القبل وحكاه ابن رشد

باب الهدي والأضحية

قول جمهور العلماءوإن كان اشترط في ابتداء إحرامه أن محله حيث حبس فله التحلل بلا هدي ولا قضاء ثم إن تحلل المحصر وأمكنه الحج لزمه إن كان واجبًا على الفور وإن كان فاسدًا وتحلل منه قضاه في عامه إن أمكنه قال الموفق ولا يتصور في غيرها. وإن أخطأ الناس فوقفوا فى الثامن أوالعاشر أجزأهم إجماعا وإن وقفوا في الثامن ثم علموا قبل فوت الوقت وجب الوقوف في الوقت وإن لم يعلموا أجزأ وإن كان الخطأ من الجمهور فقد ألحق الأكثر بالكل لقوله - صلى الله عليه وسلم - الحج يوم يحج الناس والمشقة القضاء عليهم مع كثرتهم مشقة عظيمة ولإنهم لا يأمنون وقوع مثله في القضاء ولو أخطؤا لغلط في العددأوفي الطريق ونحوه فوقفوا في العاشر لم يجزئهم قال الشيخ إجماعا. باب الهدي والأضحية يعني والعقيقة الهدي ما يهدى للحرم من نعم وغيرها سمي بذلك لأنه يهدى إلى الله تعالى من أهديته أهدية إهداء وأصله التشديد من هديت الهدي أهديه والأضحية واحدة الأضاحي وجمعها ضحايا وكذا أضحاه بضم الهمزة وكسرها والجمع أضحى كأرطأة وأرطى ويقال ضحية وأجمع المسلمون على مشروعيتهما لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وغيرها ولما تواتر من فعله - صلى الله عليه وسلم -.

قال ابن القيم والذبائح التي هي قربة إلى الله تعالى وعبادة هي الهدي والأضحية والعقيقة وقال القربان للخالق يقوم مقام الفدية عن النفس المستحقة للتلف فدية وعوضا وقربانا إلى الله وعبودية ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يدع الهدي فثبت أنه أهدى مائة من الإبل في حجة الوداع وأرسل هديا في غيرها. ولم يكن يدع الأضحية وأوجبها أبو حنيفة على كل حر مسلم مقيم مالك نصاب وروي عن مالك ولأحمد وغيره في الأضاحي هي سنة أبيكم إبراهيم قالوا مالنا منها قال بكل شعرة حسنة وذكر أنها أحب الأعمال إلى الله يوم النحر وأنها تأتي يوم القيامةعلى الصفة التي ذبحت عليها ويقع دمها بمكان من القبول قبل أن يقع على الأرض. وقال الجمهور سنة مؤكدة على كل من قدر عليها من المسلمين المقيمين والمسافرين إلا الحاج بمنى فقال مالك لاأضحية عليهم اختاره شيخ الإسلام وغيره ولم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعا في جميع الملل ورخص بعض أهل العلم في الأضحية عن الميت ومنعه بعضهم وقول من رخص مطابق للأدلة ولا حجة مع من منع. (قال تعالى ذَلِكَ) أي الأمر والشأن {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أعلام دينه {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} أي تعظيم شعائر

الله من أفعال ذوي تقوى القلوب وذكر القلوب لأنها مراكز التقوى والمخلص تكون التقوى متمكنة في قلبه فيبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص قال ابن عباس شعائر الله البدن والهدي وأصلها من الإشعار وهو الإعلام التي تعرف به أنها هدي وتعظيمها استسمانها واستحسانها واستعظامها وروي استفرهوا ضحاياكم فأنها في الجنة مطاياكم ويأتي الحث على ذلك. {لَكُمْ فِيهَا} أي في البدن {مَنَافِعَ} اي في درها ونسلها وصوفها ووبرها وركوب ظهرها {إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى} أي إلى أن يسميها ويوجبها هديا فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها وقيل لكم فيها منافع بعد إيجابها وتسميتها هدايا بأن تركبوها وتشربوا من ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى يعني إلى أن تنحروها وتقدم جواز ركوبها عند الحاجة {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي منحرها عند البيت العتيق والمراد جميع أرض الحرم وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - نحرت ها هنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم. ثم قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} سلفت قبلكم {جَعَلْنَا مَنْسَكًا} وهو موضع القربان فلم يزل النسك مشروعا على اسم الله في جميع الملل {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ} أي عند ذبحها {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يعني فسموا على الذبح اسم الله وحده {فَلَهُ أَسْلِمُوا} اخلصوا {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} المتواضعين

{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. ثم امتن تعالى على عبيده فيما خلق لهم، وقال: {وَالْبُدْنَ} يعني الإبل والجمهور والبقر جمع بدنة سميت بدنة لعظمها وضخامتها {جَعَلْنَاهَا لَكُمْ} تهدى إلى البيت الحرام {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} من أعلام دينه لأنها تنغر أي تطعن بحديدة في سنامها فيعلم بذلك أنها هدي {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} منافع في الدنيا وثواب في الآخرة {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} يعني عند نحرها {صَوَافَّ} يعني على ثلاث قوائم قد صفت رجليها ويدها اليمنى والأخرى معقولة فينحرها كذلك. ورأى ابن عمر رجلا أناخ بدنة ينحرها فقال ابعثها قياما وقرىء صوافي أي صافية خالصة لله لاشريك له شرعا لكم لتذكروه عند ذبحها وقال ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} سقطت على الأرض بعد النحر وذهبت نفسها فسقطت على جنوبها وأصل الوجوب السقوط {فَكُلُوا مِنْهَا} أمر إباحة {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} أي الحابس في بيته المتعفف قد قنع بما يعطى ولا يسأل {وَالْمُعْتَرَّ} المتعرض لذلك تطعمه. واستدل بهذه الاية بعض أهل العلم أنها تجعل أثلاثا ويأتي {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} لتمكنوا من نحرها {لَعَلَّكُمْ

تَشْكُرُونَ} نعم الله عليكم {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا} أي لن ترفع إلى الله لحومها {وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} أي ولكن ترفع إليه الأعمال الصالحة. (وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ما عمل ابن ادم يوم النحر عملا) ويجوز أيضا ذبحها في أيام التشريق (أحب إلى الله) فيه أن الله يحب منا الأعمال الصالحة ويثيبنا عليها (من هراقه دم) بكسر الهاء وهي بدل من همزة أراق يقال آراقه وهراقه هراقة (رواه) ابن ماجه و (الترمذي) وحسنة ولابن ماجه وأحمد عن زيد بن أرقم ما هذه الأضاحي قال سنة أبيكم إبراهيم قالوا ما لنا منها قال بكل شعرة حسنة وللدار قطني عن ابن عباس مرفوعا ما انفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد. وفيه أحاديث كثيرة تدل على فضل ذبح الأضحية وكذاالهدي ولا نزاع في ذلك وصرح ابن القيم وغيره بتأكد سنيتها وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها لأنه - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه واظبواعليها وعدلوا عن الصدقة بثمنها وهم لايواظبون إلا على الأفضل ودلت هذه الأحاديث على أنها أحب الأعمال إلىلله يوم النحر وأنها تأتي يوم القيامة على الصفة التي ذبحت عليها ويقع دمها بمكان من القبول قبل أن يقع على الأرض. وهي سنة إباهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لقوله

تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} وأن للمضحي بكل شعرة حسنة وأن الدراهم لم تنفق في عمل صالح أفضل من الأضحية والمراد إذا وقعت لقصد التسنن وتجردت عن المقاصدالفاسدة وكانت على الوجه المطابق للحكمة في شرعها. (وعن أمامة بن سهل) رضي الله عنه أنه قال (كنا) يعني أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نسمن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون) بالمدينة وغيرها (يسمنون) يعني أضاحيهم (رواه البخاري) ولفظ أبي نعيم كان المسلمون يشتري أحدهم الأضحية فيسمنها ويذبحها رغبة في إعظامها ويروى استفرهوا ضحاياكم فإنها في الجنة مطاياكم وتقدم أن استسمانها من تعظيم شعائر الله. فدل على استحباب تسمين الأضحية وهو قول الجمهور إلاما روي عن بعض أصحاب مالك ورد لأن الظاهر إطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ولأنه من تعظيم شعائر الله المثنى عليها بأنها من تقوى القلوب. (والمسلم عن جابرأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لاتذبحوا إلا مسنة) وهي الثنية من الإبل والبقر والغنم فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجزىء الجذع وهومذهب الجمهور إلا من الضأن للأحاديث المقتضية بإجزائه المخصصة لهذا الخبر فللترمذي حديث أبي هريرة نعمت الأضحية الجذع من

الضأن ورواه أحمد وغيره وله من حديث هلال نحوه وأبي داود من حديث أبي مجاشع وللنسائي عن عقبة قال أصابني جذع فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضح به. وقوله (إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) وهي ما تم لها ستة أشهر حمله الجمهور على الاستحباب والأفضلية فتقديره يستحب لكم أن لاتذبحوا إلامسنة فإن عجزتم فجذعة ضأن وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن وأنها لاتجزىء بحال وصرح النووي أن الأمة أجمعت على أنه ليس على ظاهره لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه فيتعين تأويل الحديث على استحباب الأخبار المقتضية للتأويل منها نعمت الأضحية الجذع من الضأن وغيره. وفي السنن خير الأضحية الكبش الأقرن وقال بعضهم جذع الضأن أفضل من مسنة المعز وقال الوزير اتفقوا أنه لا يجزىء من الضأن إلاالجذع وهو ما له ستة أشهر وقد دخل في السابع ويعرف بنوم الصوف على ظهره فإنه كانت تعرفه العرب بذلك. واتفقوا أنه لا يجزئ مما سوى الضأن إلا الثني على الإطلاق من المعز والإبل والبقر لأنه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يذبحون إلا ذلك وقال اتفقوا على أن من ذبح الأضحيه من

هذه الأجناس بهذه الأسنان فما زاد فإن أضحيته مجزئة صحيحة وأن من ذبح منها ما دون هذه الأسنان من كل جنس منها لم تجزئه أضحيته (ولهما عنه قال أمرنا) وفي لفظ أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن نشترك في الإبل والبقر) يعني في الهدي ولمسلم وحضر جابر الحديبية قال نحرنا يومئذ سبعين اشتركنا (كل سبعة منا في بدنة) وفي لفظ قال لنا اشتركوا في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة رواه البرقاني على شرطهما وفي لفظ اشتركنا في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة فقال رجل منا لجابر أيشترك في البقر؟ ما يشترك في الجزور فقال ما هي إلا من البدن رواه مسلم وله عنه قال نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدن عن سبعة والبقرة عن سبعة ولأحمد عن حذيفة قال شرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته بين المسلمين في البقرة عن سبعة ورجاله ثقات. فدلت هذه الأحاديث على أن البدنة تجزئ في الواجب عن سبعة وهذا مذهب جمهور أهل العلم أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم وقال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم يرون الجزور عن سبعة والبقرة عن سبعة اهـ. وسواء أراد جميعهم القربة أو بعضهم وبعضهم اللحم لأن الجزء المجزئ لاينتقص بإرادة الشريك غير القربة فجاز كما لو اختلفت جهات القرب.

وحكى ابن رشد أنه إجماع ويؤيده أنه جاز رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال علي بدنة ولا أجدها فأمره أن يبتاع سبع شياه فيذبحها رواه أحمد وقال الوزير اتفقوا على سبيل الإرفاد أجازه بالأثمان والأعراض مالك والشافعي وأحمد وقال وأجاز الشافعي وأحمد الاشتراك مطلقا وأما الإجزاء عنه وعن أهل بيته ونحوذلك في التطوع فجنس الإبل والبقر أفضل من جنس الغنم. وشاة أفضل من سبع بدنة ورجح الشيخ تفضيل البدنة السمينة على السبع وإجزاء الواحدة من الغنم لا نزاع فيه فالبدنة والبقرة أولى وأما التشريك في أكثر من سبعة في بدنة أو بقرة أو في السبع منهما فمفهوم هذا الحديث تجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته أنه لايحزئ لأنه شرك في دم وجزم به شيخنا وغيره (وعن البراء) بن عازب رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أربع لاتجوز) أي لا تجزئ (في الأضاحي) وكذا الهدي أحدها (العوراء) أي الناقة أوالبقرة أوالشاة الذاهب بصر إحدى عينيها (البين عورها) قيل الواضح ذهاب جرمها بان انخسفت عينها لاالقائمة العين وهي التي لم تنخسف إلا أنها لاتبصر بها أو عليها بياض ورجح أهل الحديث عدم الإجزاء إذا ذهب بصر إحدى

عينيها بأي حال من الأحوال سواء فقدت الحدقة أوبقيت لفوات المقصود وهو النظر وجاء النهي عن البخقاء وهي التي تبخق عينها فيذهب بصرها والعيب صحيحة الصورة في موضعها (والمريضة البين مرضها) أي الذي بان أثره عليها وهو المفسد للحمها بقروح وجرب وغيره (والعرجاء البين ظلعها) بفتح الظاء أي عرجها وهي التي لاتطيق مع الصحيحة. (والكبيرة التي لا تنقي) بضم التاء أي قد ذهب مخ عظامها لهزالها وانقت الإبل وغيرها إذا سمنت وصار فيها نقي وهو مخ العظم وشحم العين من السمن فدل الحديث على أن متبينة العور والعرج والمرض لا يجوز التضحية بها إلا ما كان منها يسيرا غير بين وكذا الكبيرة التي لا تنقي قال النووي أجمعوا على أن التي فيها العيوب المذكورة في حديث البراء وهي المرض والعجف والعور والعرج البينات لا تجزئ التضحية بها. وكذا ما كان في معناها أو أقبح منها كالعمى وقطع الرجل وشبهه وقال الوزير وغيره اتفقوا على أنه لا يجزئ ذبح معيب ينقص العيب لحمه وعدوا ما في الخبر منه وفي المبدع وألحق في ذلك أن يناط الحكم بفساد اللحم لأنه أضبط. (وعن علي) رضي الله عنه (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن

نستشرف العين والأذن) الاستشراف النظر إلى شيء على التأمل أي أن نشرف عليهما ونتأملهما كي لا يقع فيهما نقص وعيب ولهم عنه وصححه الترمذي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضحى بأعضب القرن والأذن قال سعيد بن المسيب العضب النصف فأكثر وأما الهتماء وهي التي ذهب بعض أسنانها فقال الشيخ تجزئ في أصح الوجهين. وقيل لا تجزئ الجداء وهي التي نشف ضرعها فإذا وجد فيها لبن فليست بجداء وجاء النهي عن الجدعاء وهي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الشفة وهو بالأنف أخص وقال عتبة إنما نهى عن المصفرة بالراء المخففة مستأصلة الأذن وقيل إنها المهزولة لخلوها من السمن وأما المستأصلة فالمراد قرنها من أصله. (وأن لا نضحي بمقابلة) بفتح الموحدة وهي التي قطعت أذنها وتركت معلقة (ولا مدابرة) أي قطعت من جانب (ولا شرقاء) أي مشقوقة الأذن طولا ولا خرقاء وهي التي في أذنها خرق مستدير (رواهما الخمسة وصححهما الترمذي) وحديث البراء رواه أيضا ابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه النووي وحديث علي أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والبزار والبيهقي وظاهرهما التحريم والفساد وذكر الخلال أنهم اتفقوا على ذلك. وتجزئ الصمعاء وهي صغيرة الأذن والجماء التي لم يخلق لها قرن لعدم النهي ولأنه لا يخل بالمقصود ويجزئ خصي

غير مجبوب وقال أحمد والخصي أحب الينا من النعجة لأن لحمه أوفر وأطيب. (وللبخاري عن أنس قال نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع بدن) بسكون الدال جمع بدنة بفتحها (قياما) وقال تعالى {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} أي قياما على ثلاث قوائم وعن جابر من طريق عبد الرحمن بن سابط أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة يدها اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها فتطعن في الوهدة التي في أصل العنق والصدر لأن عنق البعير طويل فلو طعن في القرب من رأسه لحصل له تعذيب عند خروج روحه. (وضحى في المدينة) قال ابن عمر أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين يضحي وفعله خلفاؤه والسلف (بكبشين) مثنى كبش وهو الثني إذا خرجت رباعيته (أقرنين) الأقرن هو الذي خرجت له قرنان معتدلان (أملحين) الأملح هو الأبيض الخالص وقيل الذي يخالط بياضه شيء من سواد وقيل حمرة أو البياض أكثر فيستحب الأقرن الأملح وفيه مشروعية استحسان الأضحية صفة ولونا وإذا اجتمع حسن المنظر وطيب المخبر في اللحم فهن أفضل. (يذبح) الكبش وكذا البقر تذبح قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ويجوز العكس لحديث (ما أنهر الدم)

وقال ابن القيم المستحب في الإبل النحر وفي البقر والغنم الذبح لموافقة السنة المتواترة ويكره العكس لمخالفة السنة (ويكبر) يعني بعد التسمية (ويسمي) ولهما عنه يسمي ويكبر فيقول بسم الله والله أكبر كما في رواية مسلم وأكثر الحديث رواه الجماعة. وأوجب الجمهور التسمية لقوله فاذكروا اسم الله عليها ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام والأخبار متواترة بذلك أجمعوا على استحبابها وتسقط سهوا كما سيأتي في الذبائح وأما التكبير فمستحب إجماعا لقوله ولتكبروا الله على ما هداكم وقال ابن المنذر وغيره ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول ذلك واختير التكبير هنا اقتداء بأبينا الخليل عليه السلام حيث أتي بفداء إسماعيل. (ويضع رجله على صفاحهما) ليكون أثبت له وأمكن لئلا تضطرب الذبيحة برأسها فتمنعه من إكمال الذبح أوتؤذيه والصفحة جانب العنق ولا بن أبي شيبة أحدهما عن محمد وال محمد والآخر عن أمة محمد أي من أقر بالتوحيد وشهد له بالبلاغ وفي رواية عمن وحد من أمتي وفيهما فذبحهما بيده فيستحب تولي الإنسان ذبح أضحيته بنفسه فإن استناب جاز بلا نزاع وينبغي حضوره لقوله لفاطمة (احضري أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة منها)

وعن ابن عباس نحوه وتعتبر نية حال التوكيل في الذبح ولا تعتبر إن كانت الأضحية معينة ولا تسمية المضحى عنه ولا المهدي عنه إكتفاء بالنية قال الوزير أذا ذبح أضحية غيره بغير إذنه ونواه بها أجزأت عن صاحبها ولاضمان عليه واتفقوا أنها لاتصير بهذا ميتة. (ولمسلم عن عائشة) رضي الله عنها أنها قالت إن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أمر بكبش) ذكر الضأن (أقرن) أي قرناه معتدلان حسان وفيه يطأ في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به فقال لها يا عائشة هلمي المدية ثم قال اشحذيها على حجر ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش (فأضجعه) أي وضع جنبه بالأرض وفيه استحباب إضجاع الغنم في الذبح لأنه أرفق بها وكذا البقر وبهذا جاءت الأحاديث وأجمع عليه المسلمون كما قاله النووي وغيره واتفقوا على أن إضجاعها يكون على جنبها الأيسر لأنه أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين وإمساك رأسها باليسار. (ثم قال بسم الله) واستحبابها إجماع وإنما الخلاف في وجوبها (اللهم تقبل من محمد وال محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به) اي ذبحه بنية الأضحية بعد أن سمى ودعا ولابن ماجه عن جابر فقال حين وجهها وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له وبذلك

أمرت وأنا أول المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته. وقال الشيخ وغيره ويقول اللهم منك ولك ورواه أبو داود مرفوعا وقال ويقول اللهم تقبل مني كما تقبلت من خليلك إبراهيم قال ابن القيم تجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته وإن كثر عددهم كما قال عطاء عن أبي أيوب الأنصاري وصححه الترمذي وفي رواية مالك كنا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته وهذا الحديث نص صريح في ذلك. (وقال أبو أيوب) خالد بن زيد رضي الله عنه (كان الرجل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة) وهي الواحدة من الغنم (عنه) أي يذبحها أضحية عنه (وعن أهل بيته) وهم عائلته الذين هم في نفقته وكلفته والحديث مع ما تقدم وغيره على أن الشاة تجزئ عن أهل البيت حيث كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون ذلك في عهده - صلى الله عليه وسلم - مع إطلاعه على ذلك وإقرارهم عليه بل فعله - صلى الله عليه وسلم - والجمهور على أنها تجزئ عنهم وإن كثروا كما قضت بذلك السنة. (فيأكلون) أي أهل البيت منها والجمهور أنهم يأكلون الثلث وإن أكلوا أكثر جاز (ويطعمون) أي من الأضحية والأولى بالثلث ويتصدقون بالثلث لقول عمر ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين ويأتي وهذا الأثر رواه ابن ماجه

ومالك وغيرهما و (صححه الترمذي) وله شواهد كثيرة. (وعن علي أمرني) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن أقوم على بدنه) أي عند نحرها للاحتفاظ بها وللبخاري أنها مائة بدنة ولمسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - نحر منها ثلاثا وستين وأمر عليا فنحر ما بقي فيجوز أن يستنيب مسلما بلا نزاع وكره كتابيا ويجزئ عند الجمهور (وأن أتصدق بلحومها) أي يقسمها على المساكين إلا ما أمره به وهو أن يأخذ من كل بدنة بضعة وطبخت فأكل منها (وجلودها) أي وأن يتصدق بجلودها على المساكين. (وأجلتها) وهي ما يطرح على البعير من كساء ونحوه جمع جلال بكسر الجيم وكان ابن عمر لا يشق من الجلال إلاموضع السنام فإذا نحرها نزع جلالها مخافة أن يفسده الدم ثم يتصدق بها (وأن لاأعطي الجازر) أي من ينحرها وكذا من يذبح البقرة والشاة (منها شيئًا) أي لأجل النحر أو الذبح لأنه معاوضة وهي غير جائزة فيها لالغير لك كصدقة أو هبة كغيره وأولى لمباشرته لها وقال - صلى الله عليه وسلم - نحن نعطيه من عندنا يعني أجرته (متفق عليه). واتفق أهل العلم على أن لحمها لا يباع وكذا الجلود والجلال وأجازه جماعة إذا صرف ثمنه مصرف الأضحية سواء كانت واجبة أوتطوعا لأنها تعينت بالذبح وإن تعينت بقوله هذا هدي أو أضحية أو لله أو بالإشعار أو التقليد بنية قال الوزير

ولا يوجبها عندهم إلا القول لأن التعيين إزالة ملك على وجه القربة فلم يؤثر فيه مجرد النية كالعتق وعن أحمد تعين بالنية حال الشراء وهو مذهب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام. (ولمسلم عن بريدة مرفوعا) يعني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (كلوا ما بدا لكم) والأمر هنا على الندب والإباحة عند الجمهور أي كلوا ما بدا لكم من لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام (واطعموا) يعني من شئتم وعن عائشة وتصدقوا وفي هذا الخبر وغيره مع ما تقدم من الآية سنية الأكل من الهدي والأضحية والتصدق فيأكل هو وأهل بيته الثلث ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث وقال ابن عمر الهدايا والضحايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين وهو قول ابن مسعود ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة. ويخرج من العهدة بصدقته بالأقل وقيل يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله فكلوا منها واطعموا البائس الفقير وأما الواجب بنذر أوتعيين فلا يأكل منه وقال الشيخ يأكل مما عينه لا عما في ذمته (وادخروا) أي فوق الثلاث ما شئتم قاله بعد الحظر وكان سنة تسع لدافة حصلت والرخصة في حجة الوداع سنة عشر ولفظ أول الخبر كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام أي ليوسع ذو الطول على من لاطول له فكلوا ما بدا لكم الحديث.

(وعن أنس مرفوعا) اي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (من ذبح قبل الصلاة) أي المعهودة وهي صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - العيد وكذا صلاة الأئمة بعد انقضاء عصر النبوة (فإنما يذبح لنفسه) وللبخاري هن البراء فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء أي ليس من الأضحية ولهما عن أنس فليعد ولهما عن جندب البجلي مرفوعا من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله قاله في خطبة العيد. فوقت الذبح بلا نزاع أضحية كانت أو هديا بعد صلاة العيد بالبلد والاعتبار كما قال ابن القيم بنفس فعل الصلاة والخطبة لا بوقتهما وما ذبح قبل الصلاة ليس من النسك وإنما هو لحم قدمه لأهله والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرخص في نحر الهدي قبل طلوع الشمس ألبتة فحكمه حكم الأضحية إذا ذبحت قبل الصلاة وما لاتصلى فيه العيد فبعد قدر زمنها ومنه منى. وإذا اجتمع عيد وجمعة وصليت الجمعة قبل الزوال واكتفى بها عن صلاة العيد جاز الذبح بعد صلاة الجمعة لقيامها مقام صلاة العيد (ومن ذبح بعد الصلاة) أي صلاة العيد (فقد تم نسكه) أي عبادته ومن حديث البراء فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين يعني طريقتهم (رواه البخاري).

(ولمسلم عن ناجية) بن كعب الخزاعي رضي الله عنه وكان صاحب بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يا رسول الله كيف أصنع (فيما عطب من الهدي) أي انكسر ونحوه (قال انحره) وهو السنة في الإبل (واغمس) أي غط (نعله في دمه) بعد الذبح (واضرب صفحته) أي بالنعل المغموسة في الدم ليعلم من مر به أنه هدي (وخل بين الناس وبينه) أي فاتركه وسلمه للناس ليأخذوه فيأكلوه. ورواه الترمذي وغيره وقال العمل عليه عند أهل العلم في هدي التطوع إذاعطب لا يأكل هو ولا رفقته منه ويخلي بينه وبين الناس يأكلونه وقد أجزأ عنه وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وقالوا إن أكل منه شيئًا غرمه بقدر ما أكل منه ولمسلم عن ذؤيب بن حلحلة قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث معه البدن ثم يقول إن عطب منها شيء فخشيت منها موتا فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من رفقتك وفيه أنه يجزئ ذبح ما تعيب ولحديث أبي سعيد ابتعنا كبشا نضحي به فأصاب الذئب من إليته فسألنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرنا أن نضحي به رواه ابن ماجه. وهذا ما لم يكن واجبا في ذمته قبل التعيين كفدية ومنذور في الذمة فيجب نظيره مطلقا سواء أصيب بفعل الله أو فعل ادمي وإن ضل ونحوه ثم أبدله فعاد لزمه ذبحه لفعل عائشة

رضي الله عنها فإن ابن الزبير بعث إليها بهديين فنحرتهما ثم عاد الضالان فنحرتهما وقالت هذة سنة الهدي رواه الدارقطني وروي عن عمر وابنه وابن عباس (ولابن حبان) محمد بن حبان التميمي البستي الشافعي صاحب التصانيف المتوفى سنة ثلاثمائة وأربع وخمسين (عن جبير بن مطعم) رضي الله عنه (مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (كل أيام التشريق) أي الثلاثة بعد يوم النحر (ذبح) أي وقت لذبح الهدي والأضحية وقال علي رضي الله عنه أيام النحر يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده وقاله عطاء والحسن وغيرهما وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وعنه أيام النحر ثلاثة وفاقا لمالك وأبي حنيفة. والقول بأنها ثلاثة غيريوم النحر اختاره ابن المنذر والشيخ وغيرهما قال ابن القيم ولأن الثلاثة تختص بكونها أيام منى وأيام التشريق ويحرم صومها فهي إخوة في هذه الأحكام فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع وروي من وجهين مختلفين نشد أحدهما الاخر كل أيام التشريق ذبح اهـ. ويكره الذبح في لياليها خروجا من خلاف من قال بعدم جوازه فيها كمالك قال الوزير اتفقوا على أنه يجوز ذبح الأضحية ليلا في وقتها المشروع لها كما يجوز في نهاره إلامالكا أبو حنيفة يكرهه مع جوازه وإن فات الوقت قضى الواجب وسقط التطوع وحكاه اتفاقا.

(وعن أم سلمة مرفوعا إذا دخل العشر) أي عشر ذي الحجة وفي لفظ إذا رأيتم هلال ذي الحجة وتقدم ذكر فضلها والعمل فيها (وأراد أحدكم أن يضحي) أي لنفسه (فلا يأخذ من شعره) أي شعر جميع بدنه شيئا بقص أوحلق أوغير ذلك (ولا من أظفاره) أي لا يقلم من أظفاره (شيئا) وفي لفظ فلا يمس من شعره ولا من بشرته شيئا أي لايزيل شيئا من شعور بدنه ولا من بشرته كظفر ونحوه وفي لفظ فليمسك عن شعره وأظفاره ليبقى كامل الأجزاء للعتق من النار. وذكر ابن القيم أن تقليم الظفر وأخذ الشعر من تمام التعبد بالأضحية وذكر خبر عبد الله بن عمر تأخذ من شعرك وتحلق عانتك فتلك تمام أضحيتك عند الله فيتركه (حتى يضحي) أي يذبح أضحيته أوتذبح عنه (رواه مسلم) والخمسة وغيرهم وقال الوزير اتفقوا على أنه يكره لمن أراد الأضحية أن يأخذ من شعره وظفره من أول العشر إلى أن يضحي وقال أبو حنيفة لا يكره اهـ. والحديث يرد عليه. قال ابن القيم وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره لصحته وعدم ما يعارضه وقال بعض أهل العلم يحرم واختار الأكثر الكراهة وقيل من يضحي عنه لا من ضحى عن غيره سواء كان وصيا أو متبرعا.

فصل في العقيقة

فصل في العقيقة أي في بيان أحكام العقيقة عن الغلام والجارية والتحنيك والتسمية وما يتعلق بذلك والعقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود وأصل العتق الشق والقطع وقيل للذبيحة عقيقة لأنه يشق حلقها وقال الوزير وغيره هي في اللغة أن يحلق عن الغلام أو الجارية شعرهما الذي ولدا به ويقال لذلك عقيقة وإنما سميت الشاة عقيقة لأنها تذبح في اليوم السابع وهو اليوم الذي يعق فيه شعر الغلام الذي ولد وهو عليه أي يحلق. وقال أحمد إنما العقيقة الذبح نفسه وكذا حلق عقيقته وهي مشروعة وسنة مؤكدة عند الجمهور لأمره - صلى الله عليه وسلم - وفعله وفعل أصحابه والتابعين المستفيض قال مالك لا اختلاف فيه عندنا وهو المعمول به في الحجاز قديما وحديثا وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما ولو بعد موت المولود وقيل واجبة شرعت فدية يفدى بها المولود كما فدى الله اسماعيل الذبيح بالكبش وكانت تفعل في الجاهلية وأقرها الإسلام وأكدها وأخبرالشارع أن الغلام مرتهن بها ونفس الذبح وإراقة الدماء عبادة مقرونة بالصلاة كما تقدم. قال تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} قال البغوي وغيره نظر إبراهيم فإذا هوبجبريل ومعه كبش أملح أقرن فقال هذا فداء

لابنك فاذبحه دونه فأتى به المنحر من منى فذبحه قال أكثر المفسرين كان ذلك الكبش رعى في الجنة أربعين خريفًا وسماه عظيمًا لأنه متقبل قال شيخ الإسلام العقيقة فيها معنى القربان والشكر والصدقة والفداء وإطعام الطعام عند السرور فإذا شرع عند النكاح فلأن يشرع عند الغاية المطلوبة وهو وجود النسل أولى وقال أحمد إن استقرض رجوت أن يخلف الله عليه أحيا سنة واتبع ما جاء به عن ربه. قال ابن القيم وهذا لأنها سنة ونسيكة مشروعة بسبب تجدد نعمة على الوالدين وفيها سر بديع موروث عن فداء إسماعيل بالكبش الذي ذبح عنه وفداه الله به فصار سنة في أولاده بعده أن يفدي أحدهم عن ولادته بذبح يذبح عنه ولا يستنكر أن يكون هذا حرزا له من الشيطان بعد ولادته كما كان ذكر اسم الله عند وضعه في الرحم حرزا له من ضرر الشيطان اهـ .. وعن أحمد واجبة ولكن قال عليه الصلاة والسلام من أحب أن ينسك فليفعل وتقدم قول ابن القيم أنها تقوم مقام الفديه عن النفس المستحقة للتلف فدية وعوضا وقربانا إلى الله وعبودية اهـ. وفي فعلها مع الحث عليها الاقتداء بالخليلين الذين أمرنا بالاقتداء بهما. (وعن سلمان بن عامر) بن أوس بن حجر بن عمرو بن الحارث الضبي صحابي سكن البصرة رضي الله عنه (أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال مع الغلام) وجوبا أوندبا (عقيقة) أي الذبيحة التي تذبح للمولود ذكرا كان أو أنثى ولوولد اثنان في بطن استحب عن كل واحد عقيقة قال ابن عبد البر لاأعلم عن أحد من العلماء خلافه (فاهريقوا) من هراق الماء صبه أي أريقوا (عنه دما) شاة أو شاتين كما يأتي وفسر هذا الإبهام الأحاديث الآتية. وبهذا الحديث ونحوه استدل القائلون بالوجوب والجمهور على الاستحباب إذ لو كان للوجوب لبينه الشارع بيانا عاما تقوم به الحجة ولم يعلق محبةالفعل وإنكار أصحاب الرأي سنيتها لا يلتفت إليه مع ثبوت السنة (وأميطوا عنه الأذى) أي احلقوا عنه شعر رأسه (رواه البخاري) وللحاكم عن عائشة وأمر أن يماط عن رؤوسهما الأذى. (وعن سمرة) بن جندب رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كل غلام مرتهن) أي مرهون (بعقيقته) ممنوع محبوس عن خير يراد به ولا يلزم أن يعاقب على ذلك محتبس بها فلا تحصل سلامته من الافات (حتى يعق عنه) شبهه بالرهن في يد المرتهن وأنه لا بد أن يفدى مما يسوءه كما فدي إسماعيل قال ابن القيم جعل الله النسيكة عن الولد سببا لفك رهانه من الشيطان الذي تعلق به من حين خروجه إلى الدنيا وطعن في خاصرته فكانت فداء وتخليصا له من حبس الشيطان وسجنه

في أسره ومنعه له من سعيه في مصالح اخرته فأمر بإراقة الدم عنه الذي يخلص به من الارتهان. وقال أحمد هذا في الشفاعة أنه إذامات طفل لم يشفع في أبويه قال الخطابي هذا أجود ماقيل فيه وقال أحمد أيضا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة أذا لم يعق عنه فهو محتبس بعقيقته حتى يعق عنه وقال هذا الحديث أشد ما سمعنا في العقيقة وإني لأرجو إن استقرض أن يعجل الله له الخلف لأنه أحيا سنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبع ما جاء به وجاء الخبر أنها على سبيل النسك كالأضحية والهدي. وحكمها حكمهما فيما يجزئ ويستحب ويكره والأكل والهدية والصدقة إلاأنه لايجزئ فيها شرك في دم لأن المقصود أن تكون نفس فداء نفس ويروى مرفوعا قل بسم الله والله أكبر اللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان حسنه بن المنذر وإن نوى ولم يتكلم أجزأت قال ابن القيم وغير مستبعد في حكم الله وشرعه وقدره أن تكون سببا لحسن نبات المولود ودوام سلامته وطول حياته وحفظه من ضرر الشيطان حتى يكون كل عضو منها فداء كل عضو منه. (تذبح عنه) أي تعق عن المولود ذكرا كان أم أنثى (يوم سابعه) واستفاض عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه عق عن حسن وحسين يوم السابع وسماهما أخرجه ابن وهب ولابن المنذر عن عمرو

ابن شعيب نحوه وقال هذا قول عامة أهل العلم والحكمة والله أعلم أن الطفل حين يولد متردد فيه بين السلامة والعطب إلى أن يأتي عليه ما يستدل به على سلامة بنيته وجعل مقداره أيام الأسبوع فأنه دور يومي كما أن السنة دور شهري وطور من أطواره وإن فات ففي أربعة عشر ثم في السابع الثالث. وروي مرفوعًا وهو مذهب الجمهور قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم يستحبون أن يذبح عن الغلام العقيقة يوم السابع فإن لم يتهيأ يوم السابع فيوم الرابع عشر فإن لم يتهيأ عق عن يوم إحدى وعشرين وقالوا لا يجزئ في الشاة إلاما يجزئ في الأضحية وقال ابن القيم التقييد بذلك استحباب فلوذبح عنه في الرابع أو الثامن أو العاشر أو ما بعده أجزأت. (ويحلق) أي رأسه قال ابن عبد البر كان العلماء يستحبون ذلك وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حديث العقيقة ويحلق رأسه وجاء أيضا أميطوا عنه الأذى ويقال إن فاطمة حلقت رأس الحسن والحسين وتصدقت بوزن شعرهما ورقا وقاله أحمد وغيره (ويسمى) يعني المولود وروي ويدمى وقال أبو داود إنها وهم من همام وكانوا في الجاهلية يلطخون رأس المولود بدم القيقة تبركا فعوض الشرع بحلق رأسه والتصدق بوزنه وأن يطلخ بالزعفران (رواه الخمسة) وغيرهم.

قال ابن القيم لما كانت التسمية حقيقتها تعريف الشيء المسمى لأنه إذا وجد وهو مجهول الاسم لم يكن له ما يقع تعريفه به فجاز تعريفه يوم وجوده وجاز تأخير التعريف إلى ثلاثة أيام وجاز إلى يوم العقيقة عنه ويجوز قبل ذلك وبعده والأمر فيه واسع واتفقوا على أن التسمية للرجال والنساء فرض حكاه ابن حزم وغيره وفي قوله تعالى (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) دليل على جوازه يوم الولادة ويأتي ما في الصحيحين وغيرهما ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم. ولهما عن أنس أنه ذهب بأخيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ولدته أمه فحنكه وسماه عبد الله وسمي المنذر وغيره يوم الولادة وقال البيهقي باب تسمية المولود يوم يولد وهو أصح من السابع والتسمية للأب فلا يسمي غيره مع وجوده قال ابن القيم وهذا مما لا نزاع فيه بين الناس ولأنه يدعى يوم القيامة باسمه واسم أبيه وورد الأمر بتسمية السقط وإن لم يعرف أذكر أو أنثى سمي بصالح للذكر والأنثى كخارجة وطلحة وزرعة ونحوهم. (ولهم) أي للخمسة وغيرهم من طرق أحدها عن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ (أنه أمرهم) يعني المسلمين (أن يعق) كل والد عن ولده ويجزئ من الأجنبي قال الشيخ يعق عن اليتيم كالأضحية وأولى لأنه مرتهن بها وقال بعضهم مشروعة ولو بعد موت المولود واستحب جمع أن يعق

عن نفسه إذا بلغ قال أحمد من فعله فحسن ومن الناس من يوجبه (عن الغلام شاتان) مكافئتان أي متساويتان أو متقاربتان في السن بمعنى أنه لا ينزل سنها عن سن أدنى ما يجزئ في الأضحية لاتفاقهم على أنه لايحزئ في العقيقه إلاما يجزئ في الأضحيه. (وعن الجارية شاة) رواه أحمد وغيره وعن أم كرز الكعبية أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة فقال نعم عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحده لا يضركم ذكرانا كن أو إناثا رواه أحمد والنسائي ولهما وأبي داود عن عمروبن شعيب عن أبيه عن جده قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها فقال من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة وله طرق في السنن وغيرها (صححهما الترمذي) يعني حديث سمرة وهذا الحديث من طريق عائشة وأم كرز. وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة تدل على أن المشروع في العقيقة شاتان عن الذكر وهو قول الجمهور وقال مالك شاة عن الذكر والأنثى وجاء في الخبر نحوه والشاتان عن الذكر أكثر وأشهر قال ابن القيم وغيره أو الله تعالى فاضل بين الذكر والأنثى في المواريث والديات وغيرها فجرت المفاضلة في العقيقة هذا المجرى لو لم يكن فيها سنة كيف والسنن الثابتة صريحة بالتفضيل.

وإن اتفق وقت عقيقة وأضحية فعق أو ضحى أجزأ عنهما كما لو ولد له أولاد في يوم أجزأت عقيقة واحدة أو ذبح أضحية وأقام سنة الوليمة في عرسه قال أحمد قال به غير واحد من التابعين قال ابن القيم ووجه الإجزاء حصول المقصود منها بذبح واحد لأنهما مشروعتان فتقع عنهما كتحية المسجد وسنة المكتوبة ونحو ذلك وصرح به شيخ الإسلام وغيره. (وعن أبي رافع) رضي الله عنه (أنه - صلى الله عليه وسلم - أذن) أي تلا كلمات الأذان (في أذن الحسن) بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وأمه فاطمة الزهراء رضي الله عنهما (حين ولد) يعني الحسن سنة ست من الهجرة رواه أبو داود وغيره و (صححه الترمذي) فيستحب التأذين في أذن الصبي عند ولادته ويستحب إقامته في أذنه اليسرى وهو مذهب الجمهور قال الترمذي وعليه العمل وللبيهقي من حديث الحسن بن علي ورفعت عنه أم الصبيان وله عن ابن عباس أنه أذن في أذن الحسن وأقام في اليسرى وفيها ضعف. وقال ابن القيم وغيره سر التأذين أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المنتظمة لكبرياء الرب وعظمته والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه من الدنيا وغير مستنكر وصول التأذين إلى قلبه وتأثره به وهروب الشيطان من الأذان وأن تكون الدعوة إلى الله سابقة دعوة الشيطان وغير ذلك من الحكم.

(وعن أنس) يعني ابن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أنه ذهب بأخيه) أي لأمه أما أبوه فهو أبو طلحة بن زيد بن سهل الأنصاري (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ولد) أي ولدته أم سليم بنت ملحان الأنصارية رضي الله عنها وقالت يا أنس إذهب به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليحنكه (فحنكه) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والتحنيك سنة بالإجماع وهو أن يمضغ المحنك التمر ونحوه حتى يصير مائعا بحيث يبتلع ثم يفتح فم المولود ويضعهما فيه ليدخل شيء منها جوفه وفيه فجعل يتلمظ فقال حب الأنصار التمر وأبت الأنصار إلا حب التمر مبالغة في شدة حبهم للتمر وكان أكثر طعامهم (وسماه عبد الله) قال ابن سعد ولد بعد غزوة حنين وأقام بالمدينة وقيل مات بها سنة أربع وثمانين وفي الصحيحين من حديث أبي بردة قال ولد لي غلام فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة زاد البخاري ودعا له بالبركة ودفعه إلي وكان أكبر ولد أبي موسى. وروى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن اسماء أنها حملت بعبد الله بن الزبير فولدت بقباء ثم أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعته في حجره فدعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه قال النووي وغيره اتفق العلماء على استحباب تحنيك المولود عند ولادته بتمر فإن تعذر فما في معناه أو قريب منه من الحلو.

وأن يكون المحنك من الصالحين وفيه استحباب التسمية بعبد الله. (وقال - صلى الله عليه وسلم - ولد لي الليلة ولد) من مارية القبطية سنة ثمان من الهجرة (سميته باسم أبي إبراهيم) يعني الخليل عليهما أفضل الصلاة والسلام تذكيرا به وليقتدى به (متفق عليهما) ورواهما أهل السنة وغيرهم ولأبي داود تسموا باسماء الأنبياء لأن الاسم يذكر بمسماه ويقتضى التعلق بمعناه. (وعن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إنكم تدعون يوم القيامة باسمائكم) أي تدعون على رؤوس الأشهاد بالاسم الحسنى والوصف المناسب له وفي تحسين الأسماء تنبيه على تحسين الأفعال (وأسماء ابائكم) فيقال يا فلان ابن فلان (فأحسنوا اسماءكم) لتأثيرها في المسمى وغير ذلك (رواه أبو داود) قال النووي بإسناد جيد ورواه أحمد وغيره وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب الاسم الحسن ولما جاء سهل يوم الحديبية قال سهل أمركم. (ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (أحب اسمائكم إلى الله) لأحمد وغيره إن من أحسن اسمائكم ومن حديث عبد الرحمن بن سبرة إن خير الاسماء (عبد الله وعبد الرحمن) ففيه استحباب التسمية بهذين الاسمين وما كان مثلهما لأنها تضمنت ما هو وصف لله

وواجب له وهو العبودية وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسمكم واسم أبيكم والجمهور أن أحب الاسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن واسماء الأنبياء ولئلا تنسى اسماؤهم ولتذكر بأوصافهم وأحوالهم. وقال ابن حزم اتفقوا على استحسان الأسماء المضافة إلى الله قال ابن القيم ولما كان الاسم مقتضيا لمسماه ومؤثرا فيه كان أحب الأسماء إلى الله ما اقتضى أحب الأوصاف إليه كعبد الله ضد ملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه فإن ذلك ليس لأحد سوى الله فتسميته بذلك من أبطل الباطل وفي الصحيحين إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك لامالك إلاالله وكذا قاضي القضاة وسيد الناس وسيد الكل. ويحرم التعبيد لغير الله قال ابن حزم اتفق على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العزى وعبد هبل وعبد عمروعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشى عبد المطلب قال ابن القيم فلا تحل التسمية بتلك وبعبد علي ولا بعبد الحسين وروى ابن أبي شيبة عن شريح بن هانيء أنه وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوم فسمعهم يسمون رجلا عبد الحجر فقال مااسمك فقال عبد الحجر فقال إنما أنت عبد الله. وأما الإخبار كبني عبد الدار وعبد شمس فليس من باب إنشاء التسمية بذلك وإنما هو من باب الإخبار بالاسم الذي

عرف به المسمى دون غيره وكان الصحابة يتجوزون فيه ما لا يتجوزون في الإنشاء وأصدق الاسماء حارث وهمام ويكره بنحو حرب ويسار كالعاص وكلب وشيطان وخباب وشهاب وحنظلة ومرة وحزن وثبت أقبحها حرب ومرة. وقد كره النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة الاسم القبيح من الأشخاص والأماكن وذلك لأنه لما كانت الاسماء قوالب للمعاني ودالة عليها اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب وأن لاتكون معها بمنزلة الأجنبي المحض الذي لا تعلق له بها فإن حكمة أحكم الحاكمين تأبى ذلك والواقع يشهد بخلافه بل لها تأثير في المسميات وللمسميات تأثر عن أسمائها في الحسن والقبح والخفة والثقل واللطافة والكثافة. وتخير الاسماء من توفيق الله للعبد وثبت لاتسمين غلامك يساراولارباحا ولانجيحا ولا أفلح فإنك تقول أثم هو فلا يكون فيقال لا أي فيوجب تطيرا تكرهه النفوس ويصدها عما هي بصدده فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن يمنعهم من أسماء توجب لهم سماع المكروه أو وقوعه وأن يعدل عنها إلى أسماء تحصل المقصود من غير مفسدة ولئلا يسمى يسارا من هو أعسر الناس ونجيحا من لانجاح عنده ورباحا من هو من الخاسرين فيكون قد وقع في الكذب أو يطالب بمقتضى اسمه فلا يوجد عنده فيجعل سببا لذمه أو يعتقد في نفسه أنه كذلك فيقع في تزكية نفسه وتعظيمها فيكره بالتقي

المتقي والراضي والمحسن والمرشد ونهى الشارع أن يسمى برة ويكره أن يستعمل اللفظ الشريف المصون في حق من ليس كذلك والمهين في حق من ليس من أهله. وإن لقب بما يصدق فعله جاز وقال أبو جعفر النحاس لا نعلم بين العلماء خلافا أنه لاينبغي لأحد أن يقول لأحد من المخلوقين مولاي ولا يقول عبدك ولا عبدي وإن كان مملوكا ولمسلم لايقل أحدكم عبدي وأمتي كلكم عبيد الله وإماؤه ولا ربي ولا مولاي فإن مولاكم الله وظاهر النهي التحريم وقد حظر النبي - صلى الله عليه وسلم - على المملوكين فكيف بالأحرار وكره بعضهم أن يقال يا سيدي أدبا مع الله عز وجل وأجازه اخرون لغير منافق للخبر. وينبغي أن لا يرضى المخاطب بذلك وأن ينكره كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يستحق السيادة حيث قال السيد الله تبارك وتعالى وينبغي الاعتناء بأمر خلق الطفل فإنه ينشأعلى ما عوده المربي من لجاجة وخفة وجشع ونحو ذلك فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك ويجب أن يجنب إذا عقل مجالس الباطل واللهو فإنه إذا علق سمعه عسر عليه مفارقته. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم آخر المجلد الثاني من شرح أصول الأحكام، ويليه المجلد الثالث، وأوله: كتاب الجهاد.

جمع الفقير إلى الله تعالى عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي النجدي رحمه الله تعالى (1312 - 1392 هـ) المجلد الثالث

كتاب الجهاد

بسم الله الرحمن الرحيم كتابُ الجهَاد الجهاد بذل الطاقة والوسع. مصدر جاهدت جهادًا أي بلغت المشقة وفي الشرع بذل الجهد في قتال الكفار. ختم به العبادات لأنه أفضل تطوع البدن. وعده بعضهم ركنًا سادسًا لدين الإسلام. فلذا أوردوه بعد الأركان الخمسة وهو سنام العبادة. وذروة الإسلام. وموجب الهداية وحقيقة الإخلاص والزهد في الدنيا. ومنه ما هو واجب باليد، وما هو بالقلب والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة. فيجب على المرء بغاية ما يمكنه. وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} أي عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذا بذلوها في سبيله {بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} وقرأ الأعمش بالجنة أي بايعهم جل وعلا بها. فأغلى أثمانهم قال عبد الله بن رواحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال "أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا: ولنفسي أن تمنعوني مما

تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" قالوا فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال "الجنة" قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت الآية. {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} يعني الجهاد. وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد. كما في الآية (إلى قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} (فيقتلون ويقتلون) أي سواءً قتلوا أو قتلوا أو اجتمع لهم هذا وهذا قد وجبت لهم الجنة ومن الحكمة في مشروعيته حصول الثواب للمؤمنين لقوله تعالى: {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا}. وفي الصحيحين "تكفل الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد، إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى منزله نائلًا ما نال من أجر أو غنيمة " وعدًا عليه) بأن لكم الجنة (حقًا) كتبه على نفسه تفضلًا وكرمًا أثبته {فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} تأكيدًا لهذا الوعد. وإخبارًا بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة. وأنه أنزله على رسله في كتبه الكبار. وفيها أن الأمر بالجهاد موجود في جميع الشرائع. ومكتوب على جميع أهل الملل {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} أي: لا أحد أوفى بعهده {مِنَ اللهِ} وعد الله لا يخلف الله الميعاد {فَاسْتَبْشِرُواْ} أيها المؤمنون {بِبَيْعِكُمُ} أي بهذا البيع {الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ} البيع {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} الرابح في الآخرة.

(وقال: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} الآية) أول الآية {انْفِرُواْ} أي اخرجوا {خِفَافًا وَثِقَالاً} نشاطًا وغير نشاط. ثم رغبهم في النفقة في سبيله وبذل المهج في مرضاته فقال {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي هذا خير لكم في الدنيا والآخرة لأنكم تغرمون في النفقة قليلًا فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} أن ثواب الجهاد خير لكم من القعود والتثاقل عنه. وقال تعالى: {فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} والآيات في فضل الجهاد والحث عليه كثيرة معلومة وقال - صلى الله عليه وسلم - "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" صححه الحاكم فدلت الآيات والأحاديث وما في معنى ذلك على وجوب الجهاد بالمال وهو بذله فيما يقوم به من السلاح ونحوه. وعلى وجوب الجهاد بالنفس وهو بالخروج والمبارزة للكفار. وبذل المهج في مرضاة الله. ووجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس هو إحدى الروايتين عن أحمد. قال ابن القيم وغيره هو الصواب الذي لاريب فيه فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر بالجهاد بالنفس في القرآن وقرينه. بل جاء مقدمًا على النفس في كل موضع إلا موضعًا واحدًا. وهو الذي يدل

على أن الجهاد به أهم وأشهر من الجهاد بالنفس. وفي هذا الخبر وجوبه باللسان بإقامة الحجة عليهم وبدعائهم إلى الله والزجر ونحوه مما فيه نكاية للعدو. وقال: جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب وإما باللسان وإما بالمال وإما باليد. فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع. وأما الجهاد بالنفس ففرض كفاية والصحيح وجوبه بالمال. (وقال) تعالى: {وَأَعِدُّواْ} أي اتخذوا {لَهُم} لوقت الحاجة {مَّا اسْتَطَعْتُم} أي مهما أمكنكم {مِّن قُوَّةٍ} أي من الآلات التي تكون لكم عليهم قوة في الحرب لمقاتلتهم. وفي صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال على المنبر "ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي" ولا ينفي كون غيره من القوة بل إنه من أفضل المقصود وأجله. فدلت الآية على الاستعداد في الحرب بجميع ما يمكن من الآلات كآلة الرمي والسيف وغيرهما. {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} يعني اقتنائها وربطها للغزو في سبيل الله والربط شد الفرس وغيره بالمكان للحفظ. وربط الخيل للجهاد من أعظم ما يستعان به. وجاء في فضله أحاديث كثيرة. وفي الصحيحين "من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة" يعني حسنات {تُرْهِبُونَ بِهِ} أي تخوفون بتلك القوة وبذلك الرباط {عَدْوَّ اللهِ} الكافر بالله {وَعَدُوَّكُمْ} المحارب

لكم. وذلك لأن الكفار إذا علموا أن المسلمين كانوا متأهبين للجهاد مستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة وآلات الحرب وإعداد الخيل مربوطة للجهاد خافوهم. فلا يقصدون دخول دار الإسلام. بل يصير ذلك سببًا لدخول الكفار في الإسلام. أو بذل الجزية للمسلمين. (وقال) تعالى {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ} أي ما بالكم إذا دعيتم إلى الخروج {فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ} أي تثاقلتم وتباطأتم وتكاسلتم وملتم {إِلَى} المقام في {الأَرْضِ} في الدعة والخفض وطيب العيش (الآية) وتمامها {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي ما لكم فعلتم هكذا رضىً منكم بالدنيا بدلًا من الآخرة {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيل} ما مضى منها وما بقي عند الله قليل كزاد الراكب. (وعن أنس) بن مالك -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لغدوة) بالفتح وهي المرة الواحدة من الغدو وهو الخروج في أول وقت من أول النهار إلى انتصافه (في سبيل الله) أي الجهاد (أو روحة) هي المرة الواحدة من الرواح وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها (خير من الدنيا وما فيها. متفق عليه) هذا من باب تنزيل الغائب منزلة المحسوس تحقيقاً له في النفس. وإلا فجميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة. وقيل إن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي

يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله. لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن رواحة "لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم" والمقصود تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد في سبيل الله. وأن من غدا أو راح في سبيل الله حصل له أعظم من جميع ما في الدنيا. ولهما من حديث أبي هريرة وأبي أيوب "غدوة أو روحة في سبيل الله خير مما طلعت عليه الشمس وغربت" وفيهما "أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" وفي فضله أحاديث كثيرة وقال أحمد لا أعلم شيئًا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد. وقال الشيخ اتفق العلماء فيما أعلم أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد. (ولهما من حديث سهل) بن سعد الساعدي –رضي الله عنه-. قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) الرباط لزوم ثغر للجهاد مقويًا للمسلمين. وفي السنن "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه" ولمسلم عن سلمان مرفوعًا "رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه فإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان" وأفضله الأشد خوفًا. لأن مقامه به أنفع وأهله به أحوج. وكذا الحراسة في سبيل الله ثوابه عظيم للأخبار وعظيم نفعه.

(ولمسلم عن أبي هريرة مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من مات ولم يغز) بالفعل (ولم يحدث نفسه بالغزو) في سبيل الله (مات على شعبة) أي خصلة (من) خصال (النفاق) وهذا الوعيد دليل على وجوب الغزو في سبيل الله. وهو فرض كفاية ما لم يحضر العدو. فيتعين على كل أحد. ودليل على وجوب العزم على الجهاد. (وعن أبي موسى) الأشعري -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من قاتل) يعني في سبيل الله (لتكون كلمة الله هي العليا) أي لإظهار دين الله (فهو في سبيل الله متفق عليه) أو من كان قتاله طلب إعلاء كلمة الله وهو جواب سؤال عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". قال ابن بطال إنما عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لفظ جواب السائل لأن الغضب والحمية قد يكونان لله. فعدل عن ذلك إلى لفظ جامع. فأفاد رفع الالتباس وزيادة الإفهام. وقال الجمهور لا يضر إذا حصل ضمنًا لا أصلًا ومقصودًا وقال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث إعلاء كلمة الله لم يضره ما ينضاف إليه. (وعن أبي هريرة مرفوعًا الجهاد واجب عليكم مع كل أمير) على المسلمين (برًا كان) ولي أمر المسلمين (أو فاجرًا

رواه أبو داود) وغيره، وله عن أنس "ثلاث من أصل الإيمان" منها: "الجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل" وفي الصحيح "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر". قال الشيخ وغيره فيجب الغزو مع كل أمير برًا كان أو فاجرًا. حتى عد في العقائد الواجبة الاعتقاد للأخبار. ولأن تركه مع الفاجر يفضي إلى تركه، وظهور الكفار على المسلمين. واستئصالهم، وإعلاء كلمة الكفر. قال: وأهل السنة والجماعة يرون الجهاد مع كل أمير برًا كان أو فاجرًا. (وله عن معاوية) -رضي الله عنه- (مرفوعاً) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لا تنقطع الهجرة) أي الانتقال من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان (حتى تنقطع التوبة) أي قبولها "ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" وقال تعالى (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) وقال (إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) وقال - صلى الله عليه وسلم - "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله" وقال "أنا بريء من مسلم بين مشركين" وقال الوزير وغيره: اتفقوا علي وجوب الهجرة من ديار الكفر لمن قدر على ذلك وتسن الهجرة لقادر على إظهار دينه بنحو دار كفر. وتجب على عاجز عن إظهار دينه بمحل يغلب فيه حكم الكفر والبدع المضلة إحرازاً لدينه. ولا تجب من بين أهل

المعاصي. لقوله "من رأى منكم منكراً فليغيره" الحديث. والعمل على هذا عند أهل العلم. وهجران أهل المعاصي كما قال شيخ الإسلام نوعان أحدهما بمعنى الترك للمنكرات. وهو المذكور في قوله {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} وقوله {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين} والمراد به أن لا يشهد المنكرات لغير حاجة. وهذا من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات. ومنه الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به. ومنه {وَالرُّجْزَ فَاهْجُر}. والنوع الثاني الهجر على وجه التأديب. وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها. كما هجر الثلاثة المتخلفون حتى نزلت توبتهم وهو بمنزلة التعزير. والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات. وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم. فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه. ورجوع العامة عن مثل حاله. فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة كان مشروعًا. وإلا فالتأليف لبعض الناس أنفع من الهجر. ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يتألف قومًا ويهجر آخرين. وإذا اجتمع في الرجل خير وشر استحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من

الشر. فيجتمع في الشخص موجبات الإكرام والإهانة. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة. (وعن عبد الله بن عمرو قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد) وفي رواية لأحمد وأبي داود. إني جئت أريد الجهاد معك (فقال أحي والداك؟ قال: نعم) وفي لفظ لأحمد وأبي داود ولقد أتيت وإن والدي يبكيان (قال: ففيهما فجاهد متفق عليه) سمى إتعاب النفس في القيام بمصالح الأبوين جهادًا من باب المشاكلة لما استأذنه في الجهاد. وفيه دليل على أنه يجب استئذانهما فيه إذا لم يتعين. وهو قول الجمهور. ولفظ أحمد وأبي داود قال "فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما". (ولأبي داود من حديث أبي سعيد) ارجع فاستأذنهما (فإن أذنا لك وإلا فبرهما) أي بطاعتهما في عدم الخروج في الجهاد. وذلك أن برهما فرض عين. والجهاد فرض كفاية. وإن قيل فهما مستويان فمصلحة الجهاد أعم إذ هي لحفظ الدين والدفاع عن المسلمين فقدم لذلك ولا يعتبر إذن غيرهما إلا الغريم. ولا إذنهما لواجب. (وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل مشرك تبعه يوم بدر) وهو بحرة الوبرة وكان تذكر فيه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جئت لأتبعك وأصيب معك قال تؤمن بالله قال لا قال

(فارجع فلن أستعين بمشرك) وفي الثالثة قال "تؤمن بالله ورسوله" قال نعم قال: "فانطلق" (رواه مسلم) فلما أسلم أذن له. فدل على أنها لا تجوز الاستعانة بالمشركين في القتال. وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. واختاره شيخ الإسلام وغيره. ولأن الكافر لا يؤمن مكره وغائلته لخبث طويته. ويجوز عند الحاجة لأن عيينة الخزاعي كان كافرًا إذ ذاك. وفيه أيضًا من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم. ويجوز للضرورة لما روى الزهري أنه - صلى الله عليه وسلم - استعان بناس من اليهود في حرب خيبر سنة سبع. وشهد صفوان حنينًا والضرورة مثل كون الكفار أكثر عددًا ويخاف منهم. وإن جوز اشترط أن يكون حسن الرأي في المسلمين. ويحرم أن يعينهم المسلمون على عدوهم إلا خوفًا من شرهم. لقوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية. ويحرم أن يستعين مسلم بأهل الأهواء في شيء من أمور المسلمين لعظم ضررهم. قال الشيخ ولأنهم دعاة بخلاف اليهود والنصارى. وعلى ولي الأمر أن يعرف على القبيلة والجماعة العرفاء الأمناء ينظرون في أحوالهم. ويتعرف منهم أحوالهم لفعله - صلى الله عليه وسلم -. وعليه أن يؤمر في كل ناحية أميرًا يقلده أمر الحرب وتدبير الجهاد. ويكون ممن له رأي ودين وخبره بالحرب ومكائد العدو

مع أمانة ورفق بالمسلمين. ويعقد لهم الرايات والألوية. ويتخير لهم المنازل ويحفظ مكامنها. ويبعث العيون ليتعرف حال العدو. ليأمنوا هجومهم. ولا يولي في ذلك إلا مسلمًا. قال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا}. (وعن أبي هريرة مرفوعًا: شر ما في الرجل) من الخصال المذمومة. وفي لفظ شر ما أعطي الرجل: شح هالع و (جبن) هيبة وضعف يعتري القلب ضد الشجاعة (خالع) أي شديد كأنه يخلع فؤاده من شدة خوفه. والمخلع الرخو المفكك المفاصل. رواه أبو داود وغيره و (صححه الترمذي) وقال عمر الجبن والجرأة غرائز يضعها الله حيث يشاء. فالجبان يفر عن أهله وولده. والجرئ يقاتل عمن لا يؤوب به إلى رحله. والمراد ما يعرض للمرء من نوازع الأفكار وضعف القلب عند الخوف. فيمنع من لا يصلح للحرب. كشيخ هرم ومخذل يفند الناس عن القتال ويزهدهم فيه. كمن يقول الحر شديد والبرد شديد والمشقة شديدة أو لا تؤمن هزيمة الجيش. كما أنه لا يغزى مع مخذل ومرجف ومعروف بالهزيمة أو تضييع المسلمين. وفيه الحرص على الشجاعة واختيار الشجعان. حتى رخص الشارع في الخيلاء وهو التكبر عند القتال وإظهار الشجاعة ويري من نفسه القدرة والعظمة عند اللقاء. ومدار

القتال على قوة البدن والقلب والخبرة بالقتال. (وعن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (في قوله) تعالى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} أي بعد أن تأسروهم إما أن تمنوا عليهم بإطلاقهم من غير عوض {وَإِمَّا فِدَاء} أي وإما أن تفادوهم فداء بأموال يدفعونها لكم أو رجال أسرى عندهم قال (فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالخيار) بين المن والفداء وعمل به الخلفاء بعده. قال البغوي وغيره هو الأصح والاختيار لأنه عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده. وثبت في صحيح مسلم وغيره أن ثمانين من أهل مكة هبطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - من حيال التنعيم فأخذهم سلمًا فاعتقهم. ونزلت {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} وفي الصحيحين أنه أطلق ثمامة بن أثال. وفداء أسرى بدر قد تظاهرت به الأخبار. وفدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل، صححه الترمذي. وعن ابن مسعود مرفوعًا أنه قال يوم بدر "لا يبقى أحد من الأسرى إلا أن يفدى أو تضرب عنقه" فوقع منه - صلى الله عليه وسلم - المن والفداء والقتل. ومن خلفائه. واستفاض. قال ابن القيم ذكر عن ابن عباس أنه خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأسرى بين المن والفداء والقتل والاستعباد يفعل ما شاء. قال وهذا هو الحق الذي لا قول سواه. وقال الوزير اتفقوا على أن

فصل في وجوب الطاعة

الإمام مخير في الأسرى بين القتل والاسترقاق. والجمهور: وبين الفداء والمن. وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد. وقال الشيخ وغيره يعمل الإمام المصلحة في المال وغيره كما فعل - صلى الله عليه وسلم - بأهل مكة. فصل في وجوب الطاعة لله ورسوله ولأمير الجيش وما يلزم الجيش والمشاورة وغير ذلك. وأصل الطاعة الانقياد. وهو امتثال الأمر فتجب طاعة الله ورسوله وتجب لأمير الجيش. ما لم يأمر بمعصية. ويجب إخلاص النية لله تعالى في الطاعات كلها. (قال تعالى: {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} وطاعة الله امتثال أمره فيما أمر والانقياد لذلك الأمر. وطاعة الله واجبة على كافة الخلق. وكذلك طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واجبة أيضًا. لهذه الآية وغيرها {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} أي وأطيعوا أولي الأمر منكم أمراء المسلمين في عهده - صلى الله عليه وسلم - وبعده. ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرايا. أمر تعالى بطاعتهم بعد أمرهم بالعدل. تنبيهًا على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحق. قال علي حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة. فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا. {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} إلى الله: إلى

كتابه. والرسول في حياته. وسنته بعد وفاته. {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فإن الإيمان يوجب ذلك {ذَلِكَ} أي الرد {خَيْرٌ} لكم {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} أحمد عاقبة. (وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} أي في أمر الحرب إذ الكلام فيه. أو فيما يصح أن يشاور فيه استظهارًا برأيهم. وتطييبًا لنفوسهم. وتمهيدًا لسنة المشاورة للأمة. والغالب أن السادات إذا لم يشاوروا في الأمور شق عليهم. وشاورهم - صلى الله عليه وسلم - في الذهاب إلى العير. وفي أحد. والخندق. والحديبية وغير ذلك. في الحروب وغيرها. وسئل عن العزم فقال: "مشاورة أهل الرأي" وقالت عائشة "ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة للرجال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وقال علي الاستشارة عين الهداية. وقد خاطر من استغنى برأيه. والتدبر قبل العمل يؤمن من الندم. وما استنبط الصواب بمثل المشاورة. وقد يعزم الإنسان على أمر فيشاور فيه فيتبين له الصواب في قول غيره. وما أحسن ما قيل: وشاور إذا شاورت كل مهذب ... لبيب أخي حزم ترشد في الأمر ولا تك ممن يستبد برأيه ... فتعجز أو لا تستريح من الفكر ألم تر أن الله قال لعبده ... وشاورهم في الأمر حتمًا بلا نكر {فَإِذَا عَزَمْتَ} أي إذا شاورتهم على الأمر وعزمت عليه {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} فيه. أو إذا وطنت نفسك على شيء بعد

المشاورة فتوكل على الله في إمضاء أمرك. على ما هو أصلح لك. واستعن بالله في أمورك. ولا تعتمد إلا عليه. والمشاورة لا تنافي التوكل. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين} عليه في جميع أمورهم. فيهديهم إلى ما هو الأصلح لهم. في الدنيا والآخرة. (وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} جماعة كافرة {فَاثْبُتُواْ} للقائهم وذلك لأن يوطنوا أنفسهم على لقاء العدو وقتاله. ولا يحدثوها بالتولي. وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال "أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" ثم قال "اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم". قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيرًا} بقلوبكم وألسنتكم عند لقاء العدو {لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُون} وكونوا على رجاء الفلاح والنصر والظفر {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ} يعني في أمر الجهاد والثبات عند لقاء العدو {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} قوتكم {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِين} وهذا تعليم من الله لعباده آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة العدو. (وقال: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَار} الآية) أي تفروا وتتركوا أصحابكم {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً} فتقاربتم منهم ودنوتم إليهم {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ} ظهوركم. فإن المنهزم يولي دبره {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ظهره {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} منعطفًا يرى من نفسه الانهزام وقصده طلب العزة وهو يريد الكرة {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} منضمًا صائرًا إلى جماعة المسلمين يريد العود إلى القتال فلا بأس عليه. وإلا فمن ولى ظهره بدون هذه النية فقد توعده الله بأنه {بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير}. قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه إذا التقى الزحفان وجب على المسلمين الحاضرين الثبات وحرم عليهم الانصراف والفرار إذ قد تعين عليهم. إلا أن يكون متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة. أو يكون الواحد مع ثلاثة أو المائة مع ثلاثمائة. وقال ابن رشد لا يجوز الفرار عن الضعف إجماعًا. لقوله {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} الآية وذكر نحو ما ذكره الوزير. وقال مالك يجوز إن كان أعتق جوادًا أو أجود سلاحًا وأجود قوة. وسن الثبات مع عدم ظن التلف والقتال مع ظنه فهما أولى من الفرار والأسر. وكذا قال الشيخ وغيره يحرم نية الفرار من مثليهم للآيات والأخبار. وقال القتال لا يخلو إما أن يكون قتال دفع أو طلب فالأول بأن يكون العدو كثيرًا لا يطيقه المسلمون ويخافون أنهم إن انصرفوا عنهم عطفوا على من تخلف من المسلمين فهنا صرح الأصحاب بوجوب بذل مهجهم في الدفع حتى يسلموا. ومثله لو هجم عدو على بلاد المسلمين والمقاتلة أقل من

النصف لكن إن انصرفوا استولوا على الحريم. والثاني لا يخلو إما أن يكون بعد المصافة أو قبلها أو بعدها حين الشروع في القتال لا يجوز الإدبار مطلقًا إلا لمتحرف أو متحيز، وقال يسن الانغماس في العدو لمنفعة المسلمين ولا نهي عنه وهو من الهلكة. (وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله" فطاعته - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله ومعصيته معصية لله ولابد. فقد أمر الله تعالى بطاعته في غير موضع من كتابه (ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني متفق عليه) ولهما عن علي أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية عليهم رجل من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا. وقال في أئمة الجور "تسمع وتطيع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك فاسمع وأطع". ولما قالوا له أفلا ننابذهم قال "لا ما أقاموا فيكم الصلاة" "ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدًا من طاعة" رواهما مسلم. ولهما عن عبادة بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثره علينا وأن لا ننازع الأمر أهله "إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان" وأجمع العلماء على طاعة السلطان والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه. لما في ذلك من حقن الدماء. ولم يستثنوا من ذلك

إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته. وذكر الشيخ حديث عبادة "على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وأثره عليه" قال فأوجب الطاعة التي عمادها الاستنفار في العسر واليسر. وهذا نص في وجوبه مع الإعسار بخلاف الحج. وهذا في قتال الطلب. وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين واجب إجماعًا، ولا يشترط له شروط بل يدفع بحسب الإمكان. والسمع والطاعة فيه أوجب وألزم. (وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان رواه مسلم) ورواه أحمد وغيره وتمامه فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة فقال إيانا تريد يا رسول الله والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فانطلقوا حتى نزلوا بدرًا ووردت عليهم روايا قريش الحديث. وفيه دليل على أنه يشرع للإمام أن يكثر من استشارة أصحابه الموثوق بهم دينًا وعقلًا حتى قيل بوجوبه للآية. ولهذا الخبر وغيره ولأحمد والشافعي عن أبي هريرة ما رأيت أحدًا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع هذا لا ريب أن أخذ الأحكام المتعلقة بالحرب ومصالح الإسلام وأهله وأمره

وأمور السياسات الشرعية من سيره - صلى الله عليه وسلم - ومغازيه أولى من أخذها من آراء الرجال. (ولهما عن كعب كان) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا أراد غزوة ورَّى) بفتح الواو وتشديد الراء أي سترها (بغيرها) وجاء الاستثناء إلا في غزوة تبوك فإنه أظهر لهم مراده. وأخرجه أبو داود وغيره وزاد ويقول "الحرب خدعة" وكان توريته إذا أراد قصد جهة سأل عن طريق جهة أخرى إيهامًا أنه يريدها. وإنما يريد ذلك لأنه أتم فيما يريده من إصابة العدو. وإتيانهم على غفلة من غير تأهبهم له. ويقع بالتعريف وبالكمين ونحو ذلك. وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب. والندب إلى خداع العدو. وأن من لم يتيقظ لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه. والاحتياج إلى استعمال الرأي آكد من الشجاعة. وقال النووي وغيره اتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن. إلا ما يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز. (وعن بريدة) بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي. المتوفى بمرو سنة اثنتين وستين. رواه عنه ابنه سليمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرق (قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرًا على جيش) هم الجند السائرون إلى الحرب أو غيره (أو سرية) هي القطعة من الجيش تخرج منه تغير على العدو ثم

ترجع إليه. زهاء الأربعمائة. سميت سرية لأنها تسري ليلًا على خفية. (أوصاه في خاصة) أي في حق (نفسه) خصوصًا بتقوى الله تعالى. وهي كلمة جامعة يدخل فيها جميع الطاعات واجتناب المحرمات (و) أوصاه (بمن معه من المسلمين خيرًا) أي أن يفعل معهم خيرًا من الرفق بهم والإحسان إليهم وتعريفهم ما يحتاجون إليه. فدل على أنه يشرع للإمام إذا أرسل قومه إلى قتال الكفار ونحوه أن يوصيهم بتقوى الله تعالى. وينهاهم عن المعاصي وبالأخص المتعلقة بالقتال (ثم قال اغزوا) أي اشرعوا في فعل الغزو (على اسم الله) وفي لفظ بسم الله أي مستعينين باسمه مخلصين له. (في سبيل الله) وفي لفظ طاعة الله. وفي الحديث "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر فهو في سبيل الله (قاتلوا من كفر بالله) هذا العموم شمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم. وقد خصص من له عهد. وكذا الرهبان والنسوان. ومن لم يبلغ الحلم. لأنه لا يكون منهم قتال غالبًا. فإن حصل منهم قتال أو تدبير قوتلوا (أغزوا) كرر - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالغزو: اهتمامًا بأمره. (ولا تغلوا) بالغين المعجمة والغلول الخيانة في المغنم مطلقًا. ويأتي تمام الكلام فيه (ولا تغدروا) بكسر الدال وضمها. وهو ضد الوفاء. أي لا تنقضوا العهد (ولا تمثلوا)

من المثلة يقال مثل بالقتيل إذا قطع أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيئًا من أطرافه أو غيرها. تشويهًا وعبثًا به. قال الخطابي وغيره إن مثل الكافر بالمسلم جاز للمسلم أن يمثل به وإلا فلا. وقال الشيخ: المثلة حق للمسلم فله فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر. وله تركها والصبر عنها أفضل. وذلك حيث لا يكون في التمثيل بهم زيادة في الجهاد. أو يكون نكالًا لهم عن نظيرها. وأما إذا كان فيه دعاء لهم إلى الإيمان وزجر لهم عن العدوان فإنه هنا نوع من إقامة الحدود. ومن الجهاد المشروع المندوب إليه (ولا تقتلوا وليدًا) هو الصبي ما لم يبلغ سن التكليف. وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعًا "نهى عن قتل النساء والصبيان" وكان - صلى الله عليه وسلم - يسترق النساء والصبيان إذا سباهم. وعلى قاتلهم غرم الثمن غنيمة. فلا يجوز قتل صبي ولا امرأة. وكذا راهب وشيخ فان وزمن وأعمى لا رأي لهم ولم يقاتلوا. أو يحرضوا. وحكي الإجماع على أنه لا يجوز قتل الصبيان ولا النساء ما لم يقاتلن. إلا أن يكن ذوات رأي فيقتلن. ولأنهم يصيرون أرقاء. قال ابن رشد في الرهبان: يتركون ولا يتعرض لهم، لا بقتل ولا استعباد لقوله - صلى الله عليه وسلم - "ذروهم وما حبسوا أنفسهم عليه". وقال الشيخ الراهب الذي يعاون أهل دينه بيده ولسانه. مثل أن يكون له رأي يرجعون إليه في القتال. أو نوع من التحضيض. فهذا يقتل باتفاق العلماء إذا قدر عليه. وتؤخذ منه

الجزية. وإن كان حبيسًا منفردًا في معبد. فكيف بمن هم كسائر النصارى في معائشهم ومخالطتهم الناس. واكتساب الأموال. وأما الأعمى ونحوه فقال الوزير وغيره اتفقوا على أنه إذا كان الأعمى والمقعد والشيخ الفاني وأهل الصوامع لهم رأي وتدبير وجب قتالهم. وقال ابن رشد النكاية جائزة بطريق الإجماع في جميع أنواع المشركين ذكرانهم وإناثهم، شيوخهم وصبيانهم، صغارهم وكبارهم. واستثنى قوم الرهبان وقال الشيخ اتفقوا على جواز قطع الشجر وتخريب العامر عند الحاجة إليه. وليس ذلك بأولى من قتل النفوس. وما أمكن غير ذلك. (وإذا لقيت عدوك من المشركين) ناكثي العهد وناصبي العداوة المحادين لله ورسوله (فادعهم إلى ثلاث خصال) أي إلى إحدى ثلاث خصال الدخول في الإسلام أو بذل الجزية. وفيه "أو خلال" شك من الراوي وزنهما ومعناهما واحد. ويفسر إحداهما بالأخرى (فأيتهن ما أجابوك) أي فإلى أية الخصال أجابوك إليها أي قبلوها منك. والخطاب لأمير الجيش (فاقبل منهم) ما أجابوك إليه من الثلاث (وكف عنهم) القتال. وبين الثلاث بقوله (ادعهم إلى الإسلام) هذا أول الخلال الثلاث وأوجب مالك وغيره الدعوة مطلقًا. قال لا يقاتل الكفار قبل أن يدعوا ولا يلتمس غرتهم إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة فيجوز أن تؤخذ غرتهم. ونصره الموفق وغيره.

لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين إنما يقاتلون للدين. فإذا علم العدو ذلك كان سببًا لانقيادهم للدخول في الإسلام. وقيل لا تجب وجمهور العلماء أن الدعوة تجب لمن لم تبلغه. قاله ابن المنذر وغيره. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بذلك. وبه تجمع الأدلة. (فإن أجابوك فاقبل منهم) الإسلام (وكف عنهم القتال لإجابتهم ما دعوتهم إليه من الإسلام (ثم ادعهم إلى التحول) أي النقلة (من دارهم) أي منازلهم ومحالهم (إلى دار المهاجرين) مساكنهم وكل قبيلة اجتمعت في محلة سميت تلك المحلة دارًا وفيه ترغيبهم بعد إجابتهم للهجرة إلى ديار المسلمين. لأن البقاء بالبادية ربما كان سببًا لعدم معرفة الشريعة لقلة ما فيها من أهل العلم. وتقدم أنها واجبة على من أسلم. وهو في بلد الشرك إلى بلد الإسلام إذا استطاع. وتجب أو تستحب إذا ظهرت المعاصي كما نص عليه بعض أهل العلم. (وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك) أي تحولوا من دارهم إلى دار المهاجرين (فلهم ما للمهاجرين) أي المنتقلين من بلد الشرك إلى بلد الإسلام من ثواب وفيء وغير ذلك (وعليهم ما على المهاجرين) أي من الجهاد والنفير إذا دعوا إليه. والمهاجرون هم الذين تركوا أوطانهم وهجروها في الله تعالى. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق عليهم مما أفاء الله عليه. ولم يكن للأعراب في ذلك حظ والأعراب من قاتل منهم أخذ سهمه ومن

لم يخرج فلا شيء له من الفيء. ولا عتب عليه ما دام في المجاهدين كفاية. (فإن أبوا أن يتحولوا منها) أي أن ينتقلوا من بلادهم إلى بلاد المسلمين ولم يجاهدوا. ولأبي داود "واختاروا دارهم (فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين) يعني سكان البادية من المسلمين من غير هجرة ولا غزو (يجري عليهم ما يجري على المسلمين) من أحكام الإسلام كوجوب الصلاة والزكاة والقصاص والدية ونحو ذلك (ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء) وإنما لهم من الزكوات. والغنيمة هي ما أوجف المسلمون عليه بالخيل والركاب. والفيء هو ما أخذ من الكفار من غير قتال ولا إيجاف (إلا أن يجاهدوا مع المسلمين) فيستحقون ذلك. وظاهره أنه لا يستحق من كان بالبادية ولم يهاجر نصيبًا في الفيء والغنيمة إذا لم يجاهد. وهو مذهب الشافعي وأحمد. (فإن هم أبوا) أي عن قبول الإسلام (فاسألهم الجزية) وهي المال الذي يعقد عليه الذمة. فعلة من الجزاء. كأنهم جزت عن قتله. وهذه الثانية من الخصال الثلاث. ودل الحديث أن الجزية تؤخذ من كل كافر كتابي أو غيره، لقوله "إذا لقيت عدوك" وهو عام وهو مذهب مالك والأوزاعي وغيرهما. ورجحه ابن القيم واختار شيخ الإسلام أخذها من جميع

الكفار. وأنه لم يبق أحد من مشركي العرب بعد. بل كانوا قد أسلموا. قال وإذا عرفت حقيقة السنة تبين لك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفرق بين عربي وغيره. وأن أخذه للجزية كان أمرًا ظاهرًا مشهورًا. وقدوم أبي عبيدة بمال البحرين معروف. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخص العرب بحكم في الدين. لا بمنع الجزية ولا منع الاسترقاق. ولا تقديمهم في الإمامة ولا بجعل غيرهم ليس كفوا لهم في النكاح. ولا بحل ما استطابوه دون ما استطابه غيرهم. بل إنما علق الأحكام بالأسماء المذكورة في القرآن. كالمؤمن والكافر والبر والفاجر. قال ويؤخذ من بني تغلب عوض الجزية زكاتان. مما تجب فيه الزكاة. ويجوز تغييره لاختلاف المصلحة باختلاف الأزمنة. وجعل جماعة ذلك كالخراج والجزية. قال وإنما وقعت الشبهة في المجوس لما اعتقد بعض أهل العلم أنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب. وقد أخذت منهم بالنص والإجماع (فإن أجابوك) أي إلى بذل الجزية (فأقبل منهم وكف عنهم) أي القتال. (فإن أبوا) عن قبول الجزية (فاستعن بالله) عليهم فهو الذي بيده النصر والتأييد (وقاتلهم) كما قال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ

الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} وقال: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} وغيرها من الآيات الدالة على قتال المشركين إلى هذه الغاية. (وإذا حاصرت منعت وحبست (أهل حصن) من الكفار وضيقت عليهم وأحطت بهم. والحصن كل موضع حصين لا يوصل إلى جوفه قصراًَ كان أو غيره. قال الشيخ لزمه عمل المصلحة من مصابرته والموادعة بحال والهدنة بشرطها (فأرادوك) أي طلبوا منك (أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه) الذمة عقد الصلح والمهادنة. وإنما نهى عن ذلك لئلا ينقض الذمة من لا يعرف حقها. وينتهك حرمتها بعض من لا تمييز له من الجيش. فكأنه يقول إن وقع نقض من متعد كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله وعهد نبيه. فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه لأن نقض ذمة الله وذمة رسوله امتدت من نقض ذمة أمير الجيش أو ذمة جميع الجيش. وإن كان نقض الكل محرماً (ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك) ولا تجعل لهم ذمة الله تعالى ولا ذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. (فإنكم أن تخفروا) بضم التاء. من أخفرت الرجل إذا نقضت عهده. وذمامه. أي تنقضوا (ذممكم وذمم أصحابكم)

يعني الجيش (أهون) أي عند الله (من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه) وإن كان نقض الذمة محرماَ مطلقاً. فخفركم ذممكم وذمم أصحابكم أهون من خفركم ذمة الله وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله) أي على ما يحكم الله فيهم (فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك) فدل على جواز إنزالهم على حكم ولي أمر الجيش. وكذا غيره لقصة سعد لما نزل بنو قريظة على حكمه. وحكم أن يقتل رجالهم وتستحي نسائهم. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أصبت حكم الله فيهم" صححه الترمذي. فيجوز نزول العدو على حكم رجل من المسلمين. ويلزمهم ما حكم به عليهم من قتل أو أسر أو استرقاق (فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا) وعلله بأنه لا يدري أيصيب حكم الله فيهم أم لا يصيب حكم الله. فلا ينزلهم على شيء لا يدري أيقع أم لا. بل ينزلهم على حكمه (رواه مسلم) وأبو داود وغيرهما قال الشيخ وإن نزلوا على حكم رجل مسلم حر عدل مجتهد في الجهاد أو أكثر منه جاز. ويلزمه الحكم بالأحظ لنا. من قتل أو رق أو فداء وحكمه لازم. قال وتخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير لأي مصلحة. بطلب أي الأمرين كان أرضى لله فعله. ولا يتعين فعل واحد من هذه الأمور في كل وقت. بل قد يتعين

فصل في الغنيمة

فعل هذا تارة وفعل هذا تارة. وقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} يقتضي فعل أحد الأمرين. فصل في الغنيمة أي في بيان أحكام الغنيمة وقسمتها بين الغانمين. وقسمة خمسها وتحريم الغلول. والغنيمة هي ما أصيب من مال أهل الحرب وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب. وهي من خصائص هذه الأمة. حلال بالكتاب والسنة والإجماع. (قال تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} من أموال الكفار. والسبب محذوف تقديره أبحت لكم الغنائم {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} أكلًا {حَلاَلاً} ضد الحرام إزاحة لما في قلوبهم بسبب تلك المعاتبة في الأسرى. أو حرمة الغنائم على الأولين. ولذلك وصفه بقوله {طَيِّبًا} أي هنيئًا لذيذًا. وحلالًا بالشرع طيبًا بالطبع {وَاتَّقُواْ اللهَ} فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ} لما فعلتم {رَّحِيم} بإحلال ما غنمتم. وفي الصحيحين "وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي" وروي أنه قال: "ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا". (وقال: {وَاعْلَمُواْ} أيها المسلمون {أَنَّمَا غَنِمْتُم} أي الذي غنمتم من الكفار قهرًا {مِّن شَيْءٍ} أي مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط والمخيط {فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ} أي: فثابت أن الله خمسه {وَلِلرَّسُولِ} وذكر الله ههنا استفتاح كلام للتبرك.

والجمهور أن ذكر الله للتعظيم. وأضافه لنفسه لأنه هو الحاكم فيه. فيقسمه كيف شاء. وليس المراد منه أن سهمًا منه لله منفردًا. لأن الدنيا والآخرة كلها منه. فسهم الله وسهم رسوله واحد فتجعل خمسة أخماس أربعة أخماسها لمن قاتل عليها وأحرزها. والخمس الباقي لخمسة أصناف سهم لله وللرسول. كما ذكر الله عز وجل {فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} وهذا قول غير واحد من الخلف والسلف. ويؤيده ما رواه البيهقي وغيره أن رجلًا قال يا رسول الله ما تقول في الغنيمة فقال "لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش" وهذا الخمس يقسم على خمسة أسهم سهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان له في حياته. واليوم هو لمصالح المسلمين. وما فيه قوة الإسلام. يتصرف فيه الإمام بالمصلحة كالفئ. قال الشيخ وهو قول مالك وأكثر السلف الصالح وهو أصح الأقوال. {وَلِذِي الْقُرْبَى} يعني أن سهمًا من خمس السهم لذوي القربى وهم أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون بني عبد شمس ونوفل. وقال بعضهم ولا يفضل الفقير على الغني لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده يعطون العباس مع كثرة ماله. {وَالْيَتَامَى} جمع يتيم ويعطى من خمس الخمس إذا كان فقيرًا {وَالْمَسَاكِينِ} وهم أهل الحاجة والفاقة من المسلمين {وَابْنِ السَّبِيلِ} وهو المسافر البعيد عن ماله. فهذا مصرف

خمس الغنيمة. ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدوا الوقعة كما سيأتي قال تعالى {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ} أي فاعملوا به وارضوا بهذه القسمة. فالإيمان يوجب الرضا بحكم الله والعمل به. {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم وفي الصحيحين في ذكر خصال الإيمان "وآمركم أن تؤدوا الخمس من المغنم" فجعل أداء الخمس من الإيمان بالله. فدلت الآية على مصرف الغنيمة وهو مذهب جمهور العلماء. وقال {وَمَن يَغْلُلْ} أي من المغانم شيئًا {يَأْتِ بِمَا غَلَّ} ليزداد فضيحة بما يحمله {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} حاملًا له على عنقه كما في الحديث أو بما احتمل من وباله وإثمه فيجازي به يوم القيامة. وهو قوله {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} من خير أو شر {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون} بل يجازي كل على عمله. (وللخمسة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل) أي يزيد المستحق لعنايته وقتاله وغير ذلك. مأخوذ من النفل وهو الزيادة (في البدأة) بفتح الباء وسكون الدال أي ابتداء السفر للغزو إذا نهضت سرية من جملة العسكر (الربع) مما غنموا (وفي الرجعة) أي القفول من الغزو إذا أوقعوا بالعدو مرة ثانية (الثلث) مما غنموا رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن.

ولأبي داود وغيره عن حبيب بن مسلمة شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة" وفي رواية بعد الخمس. وتنفيل الثلث لأجل ما لحق الجيش من الكلال وعدم الرغبة في القتال. وله عن معن بن زيد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "لا نفل إلا بعد الخمس" وجمهور العلماء على جوازه. وقال شيخ الإسلام كان - صلى الله عليه وسلم - ينفل السرية الربع. وإذا رجعوا الثلث بعد الخمس اهـ. وإنما شركوا الجيش فيما غنمت السرية لأن الجيش ردء لها. قال ابن عبد البر لا يختلف الفقهاء أنه إذا خرج الجيش جميعه ثم انفردت منه قطعة فغنمت شيئًا كانت الغنيمة للجميع. وليس المراد من في بلاد الإسلام، وإنما المراد القريب الذي يلحقهما عونه وغوثه لو احتاجوا. قال الشيخ وكذا لو غنمت الجيش شاركتهم السرية لأنها في مصلحة الجيش. كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - لطلحة والزبير يوم بدر لأنه بعثهما في مصلحة الجيش. فأعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم. وخبر "يرد عليهم أقصاهم" يوجب أن السرية إذا غنمت غنيمة بقوة جيش كانت للجميع. إذ بقوته غنموها. قال ويجوز أن ينفل السرية من أربعة الأخماس وإن كان فيه تفضيل بعضهم على بعض اهـ. وفي الصحيحين عن ابن عمر قال بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية وأنا فيهم قبل نجد فغنموا إبلًا كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرًا ونفلوا بعيرًا بعيرًا" ولهما عنه "كان ينفل بعض من يبعث

من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسمة عامة الجيش". ولم يرد ما يدل على الاقتصار على نوع معين ولا مقدار معين. فيفوض إلى رأي الإمام. وهذا قول الجمهور لما تقدم. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - "وترد سراياهم على قعدهم" رواه أبو داود. ولأن لهم تأثيرًا في أخذ الغنيمة. (وعن ابن عمر قال قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر) وكانت سنة سبع. وأول إسهامه يوم بني قريظة (للفرس سهمين) لتأثيرها في الحرب (وللراجل سهمًا متفق عليه) وفي رواية أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم سهمين لفرسه وسهمًا له ومن حديث أبي عمرة أعطى للفرس سهمين ولكل إنسان سهمًا. فكان للفارس ثلاثة أسهم. قال خالد الحذاء لا يختلف فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن القيم هذا حكمه الثابت عنه في مغازيه كلها وبه أخذ جمهور العلماء اهـ. ولأن سهم الفارس إنما استحقه الإنسان الذي هو الفارس بالفرس. وغير بعيد أن يكون تأثير الفارس بالفرس في الحرب ثلاثة أضعاف تأثير الراجل. وهذا قول الجمهور وقيل يسهم لفرسين لكون إدامة ركوب واحد سيضعفه ويمنع القتال عليه. بخلاف ما فوق ذلك فإنه يستغني عنه. فيعطي صاحبها خمسة أسهم سهم له وأربعة لفرسيه. وهو مذهب أحمد. وروى الأوزاعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسهم للخيل وكان لا يسهم

للرجل فوق فرسين. ورواه الحسن عن بعض الصحابة. ويسهم للفرس الهجين سهمًا عند الأكثر. لما روى مكحول أنه - صلى الله عليه وسلم - "أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهمًا" رواه سعيد وأبو داود مرسلًا. ولا شيء لغير الخيل من البهائم إجماعًا لعدم وروده. قال الشيخ ويرضخ للبغال والحمير وهو قياس الأصول كما يرضخ لمن لا سهم له من النساء والعبيد والصبيان. قال ابن القيم ونص أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة. والعطاء الذي أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقريش والمؤلفة هو من النفل نفل به النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤوس القبائل والعشائر ليتألفهم به وقومهم على الإسلام فهو أولى بالجواز من تنفيل الثلث بعد الخمس والربع بعده لما فيه من تقوية الإسلام وشوكته واستجلاب عدوه إليه. وهكذا وقع سواء. وللإمام أن يفعل ذلك لأنه نائب عن المسلمين إذا دعت الحاجة. فيتصرف لمصالحهم وقيام الدين. وإن تعين الدفع عن الإسلام والذب عن حوزته واستجلاب رؤوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم تعين عليه اهـ. وكل من شهد الوقعة من أهل القتال بقصد الجهاد أسهم له قاتل أو لم يقاتل حكاه الوزير وغيره اتفاقًا. بخلاف من لم يكن قاصدًا له كتاجر ونحوه. فإن قاتل فالجمهور على أنه يسهم له. قال ابن رشد إنما تجب عند الجمهور للمجاهد بأحد

شرطين إما أن يكون ممن حضر القتال وإما أن يكون ردءًا لمن حضره. وحكى ابن القيم على أن حكم الردء حكم المباشر في الجهاد لا يشترط في الغنيمة ولا في الثواب مباشرة كل واحد في القتال. وقال المجد في الأجراء من كان للقتال استحق الإسهام من الغنيمة ومن لم يقصد فلا يستحق إلا الأجرة المسماة جمعًا بين قصتي أجير طلحة ويعلى. أعطي الأول ومنع الثاني رواه مسلم. (ولهما عن أبي قتادة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من قتل قتيلًا) وذلك أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ورأى رجلًا من المشركين فضربه على حبل عاتقه. ولما تراجع الناس وجلس رسول الله قال من قتل قتيلًا (له عليه بينة) أي شاهد ولو واحد. فإنه قال رجل من القوم صدق يا رسول الله فأمره بإعطائه إياه. قال ابن القيم أجاز شهادة الواحد ولم يطالب القاتل بشاهد آخر. وقال تقبل بشاهد واحد من غير يمين لهذا الخبر فلا استحلاف. (فله سلبه) السلب بفتح المهملة واللام وهو ما يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره. وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم حنين "ومن قتل رجلًا فله سلبه" فقتل أبو طلحة عشرين رجلًا وأخذ أسلابهم رواه أحمد وأبو داود. ولمسلم عن عوف بن مالك أنه قال لخالد بن الوليد أما علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل! وفيه أنه حاز فرسه وسلاحه. وقصة سلمة بن الأكوع

متفق عليها. وأنه جاء بجمل القتيل يقوده فقال - صلى الله عليه وسلم - "من قتل الرجل" قالوا سلمة بن الأكوع فقال "له سلبه أجمع". فدلت هذه الأحاديث على أن السلب الذي يؤخذ من العدو الكافر ملبوسًا كان أو غيره كالسلاح والدابة وما عليها بآلتها يستحقه قاتله عند الجمهور. وقال الزركشي هذا أعدل الأقوال. وقال ابن رشد عليه جماعة السلف سواء قال الإمام ذلك قبل القتال أو لا. قال الشافعي قد حفظ هذا الحكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواطن كثيرة. منها: يوم بدر حكم بسلب أبي جهل. وخاطب ابن أبي بلتعة يوم أحد. والأحاديث في هذا حكم كثيرة. وقوله "من قتل قتيلًا فله سلبه" بعد القتال مقرر للحكم. فإن هذا كان معلومًا عند الصحابة. قال أبو قتادة فقلت من يشهد لي فقال رجل –قيل إنه قرشي- سلب ذلك عندي فارضه، فقال أبو بكر يعمد إلى أسد من أسود الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "صدق فأعطه إياه" فأعطانيه. قال فبعت الدرع فابتعت به مخرفًا في بني سلمة. فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام" متفق عليه. وسواء كان قتله حال الحرب أو انهزم والحرب قائمة فأدركه وقتله فسلبه له. أو قتله منفردًا. لقصة ابن الأكوع. ورجحه الشيخ. وإن شاركه غيره فبينهما. وعموم الأدلة قاضية بعدم تخميسه.

(وعن ابن عمر أنه ذهب فرس له) الفرس اسم جنس يذكر ويؤنث (فأخذه العدو) الكافر المحارب (فظهر عليهم المسلمون فرد عليه) في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبق عبد الله فلحق بأرض الروم وظهر عليهم المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - (رواه البخاري) وأبو داود وغيره. وفي رواية أن غلامًا لابن عمر أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقسم. وروي أن الفرس في زمن أبي بكر. وبتقدير أن ذلك في زمنه والصحابة متوافرون من غير نكير فهو إجماع. ومتى وجده صاحبه قبل القسمة فهو أحق به عند الجمهور. وبعد القسمة بالقيمة. قال الشيخ وإن كان المغنوم مالًا قد كان للمسلمين قبل من عقار ومنقول وعرف صاحبه قبل القسمة فإنه يرد إليه بإجماع المسلمين اهـ. فإن قسم بعد العلم أنه مال مسلم لم تصح قسمته. وما لم يملكون فلا يغنم بحال. وذكر الشيخ أنهم يملكون أموال المسلمين بالقهر ملكًا مقيدًا لا يساوي ملك المسلمين من كل وجه وقال ابن القيم مضت السنة أن الكفار المحاربين إذا أسلموا لم يضمنوا ما أتلفوه على المسلمين من نفس أو مال ولم يردوا عليهم أموالهم التي غصبوها عليه بل من أسلم على شيء فهو له هذا حكمه - صلى الله عليه وسلم - وقضاؤه. وقال الشيخ وما لم يملكوه فإن ربه يأخذه مجانًا ولو بعد

إسلام من هو معه أو قسمته وشرائه منهم. وإن جهل ربه وقف أمره. ولا يملك الكفار حرًا مسلمًا ولا ذميًا بالاستيلاء عليه ويلزم فداؤهم. (وله عنه) أي وللبخاري وغيره عن ابن عمر -رضي الله عنهما- (قال كنا نصيب العسل والعنب) أي في المغازي (فنأكله) وفي رواية والفواكه. وفي أخرى والسمن (ولا نرفعه) أي لا نحمله على سبيل الادخار. أو لا نرفعه إلى من يتولى أمر الغنيمة ونستأذنه في أكله. اكتفاء بما علمه من الأذن في ذلك. وفي رواية أصبنا طعامًا وأغنامًا يوم اليرموك فلم يقسم. ولأبي داود فلم يؤخذ منهم الخمس وله عن ابن أبي أوفى قال أصبنا طعامًا يوم خيبر فكان الرجل يجيء فيأخذ منه قدر ما يكفيه ثم ينصرف. ولمسلم عن عبد الله بن مغفل أصبت جرابًا من شحم يوم خيبر فالتزمته. فقلت لا أعطي اليوم أحدًا من هذا شيئًا. فالتفت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسمًا. وغير ذلك من الأخبار الدالة على جواز أخذ الطعام. وقال ابن المنذر اتفق علماء الأمصار على جواز أكل الطعام. وقال ابن المنذر اتفق علماء الأمصار على جواز أكل الطعام. وحكاه جماعة قول الجمهور. وكذا ما يصلح به. وكل طعام أعتيد أكله عمومًا. وعلف الدواب قبل القسمة بإذن الإمام أو غيره. وأن هذه الأحاديث مخصصة أحاديث النهي عن الغلول. ويجوز ركوب الدابة. ولبس الثوب حال الحرب من غير

إعجاف وإتلاف. لقوله - صلى الله عليه وسلم - "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه. ولا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده". رواه أبو داود وغيره. وحكاه الحافظ اتفاقًا. وحكى الوزير وغيره الاتفاق على أنه لا يجوز لأحد من الغانمين أن يطأ جارية من السبي قبل القسمة. (وعن عبادة مرفوعًا لا تغلوا) أي لا تخونوا. والغلول الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة. سمي غلولًا لأن صاحبه يخفيه في متاعه. أو لأن الأيدي فيها مغلولة (فإن الغلول) يعني الخيانة (نار) على أصحابه (وعار) أي فضيحة في الدنيا والآخرة (على أصحابه) الكاتمين ما غنموا أو بعضه (في الدنيا) يفتضح به صاحبه إذا ظهر للناس (والآخرة) على الصفة الشنيعة في حمله (رواه أحمد) ورواه النسائي وصححه ابن حبان. وفي رواية "أدوا الخيط والمخيط فإن الغلول عار ونار على أهله يوم القيامة" واتفقوا على تحريمه للآية وهذا الخبر وغيره. ففي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال "والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارًا، أخذها من المغانم يوم خيبر لم تصبها المقاسم. وجاء رجل بشراك أو شراكين فقال "شراك من نار أو شراكان من نار" وفيهما في صاحب البردة "هو في النار" في بردة غلها. أو عباءة.

ومذهب أحمد وغيره حرق متاعه. لما رواه هو وأبو داود من حديث عمر "إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه" وله من حديث عمرو بن شعيب أنه - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر. حرقوا متاع الغال. وضربوه. لكن قال البخاري قد روي في غير حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغال. ولم يأمر بحرق متاعه وقال الدارقطني حرق متاع الغال لا أصل له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت حرمان سهمه في خبر. ولا دل عليه دليل. ولا قياس. فبقي بحاله. ومذهب جمهور العلماء وأئمة الأمصار أنه يعزر بما يراه الإمام. ولا يحرق رحله. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم. ومن لا يحصى من الصحابة والتابعين. واختار الشيخ أن تحريق رحل الغال من باب التعزير لا الحد. فيجتهد الإمام بحسب المصلحة. وصوبه في الإنصاف وغيره. وورد أن "هدايا العمال غلول" رواه أحمد وغيره. وقال الشيخ ما أخذه العمال وغيرهم من مال المسلمين بغير حق فلولي الأمر العادل استخراجه منهم. كالهدايا التي يأخذونها بسبب العمل. قال أبو سعيد هدايا العمال غلول. وروي مرفوعًا. ويشهد له قصة ابن اللتبية. وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك. هو من نوع الهدية. ولهذا شاطرهم

فصل في الفيء

عمر. لما خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها. لأنه إمام عادل يقسم بالسوية. فصل في الفيء وقسمته وما يتعلق بذلك. الفيء هو: كل مال أخذ من الكفار من غير قتال. ولا إيجاف خيل ولا ركاب. قال الشيخ وغيره خلق الله الخلق لعبادته وأعطاهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته فالكفار لما كفروا بالله وعبدوا معه غيره لم يبقوا مستحقين للأموال. فأباح الله لعباده قتلهم وأخذ أموالهم. فصارت فيئًا أعاده الله على عباده المؤمنين. لأنهم هم المستحقون له. وكل مال أخذ من الكفار قد يسمى فيئًا حتى الغنيمة. لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حنين "ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس وهو مردود عليكم" لكن لما قال الله {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآيات صار اسم الفيء عند الإطلاق لما أخذ من الكفار بغير قتال (قال تعالى: {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أي رد الله على رسوله. يقال فاء يفيء أي رجع. وأفاءها الله {مِنْهُمْ} أي من بني النضير أو من الكفرة. {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} أجريتم على تحصيله من الوجيف. وهو سرعة السير {مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلبك الراكب على مركوبه (إلى قوله {مَا أَفَاء اللَّهُ

عَلَى رَسُولِهِ} قال ابن كثير أي ما قاتلتم الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة. بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فأفاءه الله على رسوله. ولهذا تصرف فيه كما يشاء. فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله في هذه الآيات. وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم. طلب المسلمون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقسمها بينهم. كما فعل بغنائم خيبر. فبين الله في هذه الآيات أنها فيء. لم يوجف عليه المسلمون خيلًا ولا ركابًا. ولا قطعوا إليها مسافة. ولا نالوا مشقة. ولم يلقوا حربًا. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} لا يغالب ولا يمانع. {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي جميع البلدان التي تفتح هكذا. فحكمها حكم أموال بني النضير. وهذا بيان للأول فلذلك لم يعطف عليه. ولهذا قال {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه. قال تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ} أي كيلا يبقى مأكله يتغلب عليها الأغنياء ويتصرفون فيها بمحض الشهوات والآراء. ولا يصرفون منها شيئًا إلى الفقراء. {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} أي مهما أمركم به فافعلوه {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} أي مهما نهاكم عنه فاجتنبوه. فإنه إنما يأمركم

بخير وينهاكم عن شر {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في مخالفة أمره {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} لمن خالف. ثم بين حال الفقراء المستحقين لمال الفيء، {وأنهم الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ}. ثم ذكر الذين من بعدهم إلى قوله: {رَؤُوفٌ رَّحِيم} فأخبر تعالى أن ما أفاء على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بجملته لمن في هؤلاء الآيات. ولم يخص منه خمسه بالمذكورين بل عمم وأطلق واستوعب. ويصرف على المصارف الخاصة. وهم أهل الخمس. ثم على المصارف العامة وهم المهاجرون والأنصار وأتباعهم إلى يوم الدين. قال الشيخ والذي عمل به - صلى الله عليه وسلم - هو وخلفاؤه هو المراد من هؤلاء الآيات. ولذلك قال عمر ما أحد من المسلمين إلا له في هذا المال نصيب إلا العبيد. وقرأ {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} حتى بلغ {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} فقال هذه استوعبت المسلمين عامة. قال الشيخ ولا حق للرافضة في الفيء وليس لولاة الأمور أن يستأثروا منه فوق الحاجة. كالإقطاع يصرفونه فيما لا حاجة إليه. والأموال التي يتولى قسمتها ولاة الأمور. ثلاثة: مال المغانم وهي لمن شهد الوقعة إلا الخمس والفيء. وهو ما ذكره الله في قوله: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآيات {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} حركتم وأعملتم وسقتم. وهو ما صار للمسلمين بغير إيجاف خيل ولا

ركاب. وذلك عبارة عن القتال. أي ما قاتلتم عليه. فما قاتلوا عليه كان للمقاتلة. وما لم يقاتلوا عليه فهو فيء. لأن الله أفاءه على المسلمين فإنه خلق الخلق لعبادته وأحل لهم الطيبات ليأكلوا طيبًا ويعملوا صالحًا. والكفار عبدوا غيره فصاروا غير مستحقين للمال. فأباح للمؤمنين قتالهم. وأن يسترقوا أنفسهم. وأن يسترجعوا الأموال منهم. فإذا أعادها الله إلى المؤمنين فقد فاءت. أي رجعت إلى مستحقيها. وهذا الفيء يدخل في جزية الرؤوس التي تؤخذ من أهل الذمة. وما يؤخذ منهم من العشور. وأنصاف العشور. وما يصالح عليه الكفار من المال الذي يحملونه. وغير ذلك. ويدخل فيه ما جلوا عنه وتركوه خوفًا من المسلمين. كأموال بني النضير. وذكر تعالى مصارفه، فقال {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} إلى {رَؤُوفٌ رَّحِيم} فهؤلاء المهاجرون والأنصار ومن جاء بعدهم إلى يوم القيامة. ومنه ما ضربه عمر على أهل الأرض التي فتحها عنوة ولم يقسمها. كأرض مصر والعراق إلا يسيرًا. وبر الشام وغير ذلك. قال واتفق العلماء أنه يصرف منه ارزاق الجند. ومذهب أبي حنيفة ومالك والمشهور في مذهب أحمد والشافعي أنه لا يختص به المقاتلة. بل يصرف في المصالح كلها. وعلى القولين يعطي من فيه منفعة عامة لأهل الفيء قال وإذا كان للمصالح فيصرف منه إلى كل من للمسلمين به منفعة عامة. كالمجاهدين

وولاة أمورهم. من ولاة الحرب وولاة الديوان. وولاة الحكم ومن يقرئهم القرآن. ويفتيهم ويحدثهم ويؤمهم في صلاتهم. ويؤذن لهم. ويصرف منه في سد ثغورهم وعمارة طرقاتهم. وحصونهم. ويصرف منه إلى ذوي الحاجات منهم أيضًا. ويبدأ فيه بالأهم فالأهم. فيقدم ذوو المنافع الذين يحتاج المسلمون إليهم على ذوي الحاجات الذين لا منفعة فيهم. هكذا نص عليه عامة الفقهاء من أصحاب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم. قال ولا يعطى غني شيئًا حتى يفضل عن الفقراء. هذا مذهب الجمهور. كمالك وأحمد في الصحيح من الروايتين عنه. ومذهب الشافعي تخصيص الفقراء بالفاضل. والمال الثالث زكاة أموال المسلمين. فمصرفه ما ذكره الله في كتابه. قال وجمهور العلماء على أن الفيء لا يخمس. كقول مالك وأبي حنيفة وأحمد. وهو قول السلف قاطبة. وهو الصواب فإن السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه تقتضي أنهم لم يخمسوا فيئًا قط. وصوب أن مال الخمس والفيء سواء. وقال اتفق المسلمون على أن من مات ولا وارث له معلوم فماله يصرف في مصالح المسلمين. ومثله المظالم المجهول أربابها. وما اجتمع من بيت المال. ولم يرد إلى أصحابه. فصرفه في مصالح أصحابه والمسلمين أولى. من صرفه فيما لا ينفع أصحابه أو فيما يضر.

(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها) قال القاضي يحتمل أن يكون المراد الذي لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب بل صالحوا عليه. (فسهمكم فيها) أي حقكم من العطايا كما يصرف الفيء (وأيما قرية عصت الله ورسوله) وأخذت عنوة (فإن خمسها لله ورسوله) أي تكون غنيمة يخرج منها الخمس (ثم هي لكم) أي باقيها للغانمين رواه مسلم وأحمد وغيرهما. فدل على أن الأرض المغنومة للغانمين. حكمها حكم سائر الأموال التي تغنم. وأن خمسها لأهل الخمس. وأربعة أخماسها للغانمين. وقال الشيخ مذهب الأكثرين أن الإمام يفعل ما هو الأصلح للمسلمين من قسمها وحبسها. قال وإذا قسمها فمقتضى كلام المجد وغيره أنه يخمسها. وعموم كلام أحمد والقاضي وقصة خيبر أنها لا تخمس. لأنها فيء وليست بغنيمة. لأن الغنيمة لا توقف. وليس في الفيء خمس. ورجح ذلك. وقال لو جعلها الإمام فيئًا صار ذلك حكمًا باقيًا فيها دائمًا. فإنها لا تعود إلى الغانمين. وقال الموفق وغيره لا نعلم أن بلدًا فتح عنوة قسم بين الغانمين. إلا خيبر نصفها قسم فصار لأهله لا خراج عليه. وسائر ما فتح عمر ومن بعده لم يقسم منه شيء. (وقال عمر) -رضي الله عنه- (اتركها) أي الأرضين المغنومة (خزانة لهم) مدخرة للمسلمين غير مقسومة أسهمًا بين

الغانمين (يقتسمونها رواه البخاري) يقتسمون خراجها. وأول الخبر "أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببانا ليس لهم من شيء ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر. ولكني أتركها خزانة لهم" فوقفها -رضي الله عنه- وضرب عليها الخراج الذي يجمع مصلحتهم. قال عمر بن عبد العزيز من سأل عن مواضع الفيء فهو ما حكم فيه عمر بن الخطاب فرآه المؤمنون عدلاً موافقاً لخبر "جعل الله الحق على لسان عمر" وقال الشيخ جمهور الأئمة رأوا أنما فعله عمر من جعل الأرض المفتوحة عنوة فيئاً حسن جائز. وأن حبسها بدون استطابة الغانمين. ولا نزاع أن كل أرض فتحها لم يقسمها. وقال ابن القيم الذي كان عليه سيرة الخلفاء الراشدين يقسم خراجها في مصالح المسلمين. وقال جمهور الصحابة والأئمة بعدهم على أن الأرض ليست داخلة في المغانم التي تجب قسمتها. وهذه كانت سيرة الخلفاء ولما قال بلال وذووه أقسمها قال اللهم أكفنيهم فما حال عليهم الحول. ثم وافق سائر الصحابة عمر. وكذا جرى في سائر البلاد. وكان الذي رآه هو عين الصواب. ولا يصح أن يقال إنه استطاب نفوسهم ووقفها برضاهم. وقال إلا أن يرى الإمام في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة فإن له أن يقسمها. وإن اختلفوا في كيفية إبقائها بلا قسمة فظاهر مذهب أحمد أن الإمام مخير فيها تخيير

مصلحة. فإن كان الأصلح للمسلمين قسمتها قسمها. وإن كان الأصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها. وإن كان الأصلح قسمة البعض ووقف البعض فعله. فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل الأقسام الثلاثة. قال الشيخ وقول الجمهور أعدل الأقوال وأشبهها بالكتاب والسنة والأصول. وهم الذين قالوا يخير الإمام تخيير رأي ومصلحة لا تخيير شهوه ومشيئة. وقال في الأرضين المغنومة تنقلت أحوالها كالعراق فإن خلفاء بني العباس نقلوه إلى المقاسمة. ومصر رفع عنها الخراج من مدة لا أعلم ابتداءها وصارت الرقبة للمسلمين وهذا جائز في أحد قولي العلماء. (وضرب) عمر -رضي الله عنه- على الأرضين (الخراج) على كل جريب درهماً وقفيزاً. وهو ثمانية أرطال. قيل بالمكي. والجريب عشر قصبات في مثلها والقصبة ستة أذرع بذراع عمر وهو ذراع متوسط وقبضة وإبهام قائمة. فيكون الجريب ثلاثة آلاف ذراع وستمائة مكسراً. وما ضربه هو أو غيره من الأئمة فليس لأحد تغييره لأنه حكم من الإمام. ولا نقض لما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من وقف أو قسمة أو فعله الأئمة بعده. ولا يغير. لأنه نقض للحكم اللازم. وإنما التخيير والاستئناف فيما استؤنف فتحه. ما لم يتغير السبب بأن غلت الأرض أو رخصت فيغير المسبب لتغير سببه. قال الشيخ ولو

يبست الكروم بجراد أو غيره أو بعضها سقط من خراجها بقدر ذلك. وإذا لم يمكن الانتفاع بها ببيع أو إجارة أو غيرها لم تجز المطالبة بخراجها. (وقال) عمر -رضي الله عنه- (ليس أحد من المسلمين) على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم (أحق بهذا المال) يعني الفيء ونحوه (من أحد) بل المسلمون فيه على حد سواء بحسب منازلهم في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ لأبي داود وغيره عنه ما أنا بأحق بهذا المال منكم وما أحد منا بأحق به من أحد إلا أنا على منازلنا من كتاب الله وقسم رسوله وهو ما بينه بقوله (للفقراء المهاجرين) إلى آخر الآيات من سورة الحشر وما دل عليه من تفاصيل المسلمين في ترتيبه طبقاتهم. من ذكر السابقين والمهاجرين ومن بعدهم. وقد دون الدواوين وقدر الأعطية كل بحسبه ولم يكن لأحد ديوان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل عمر هو أول من دونها فهو من سنته التي أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباعها. وظهرت مصلحتها وحاجة الناس إليها. وقال -رضي الله عنه- (إنما هو الرجل وسابقته) أي في الإسلام. وفي لفظ وقدمه وهو من كان من السابقين الأولين فإنه يفضلهم في العطاء لسبقهم. (والرجل وغناؤه) بفتح الغين وهو الذي يغني عن المسلمين في مصالحهم كولاة أمورهم ومعلمهم وأمثال هؤلاء.

(والرجل وبلاؤه) أي شجاعته وثباته الذي ابتلى به في سبيل الله. والمراد مشقته وسعيه واجتهاده في قتال الأعداء. -قال رضي الله عنه- (والرجل وحاجته) أي مقدار حاجته وفي لفظ وفاقته. فإنه كان -رضي الله عنه- يقدم الفقراء. وفي لفظ وعياله أي ممن يمونه. فلا مزية لأحد في أصل الاستحقاق. وإنما التفاوت في التفاضل بحسب اختلاف المراتب والمنازل. وإما بتنصيص الكتاب والسنة. وإما بحسب بلائه. وإما لشدة احتياجه وكثرة عياله. وذكر شيخ الإسلام نحو هذا أيضاً ثم قال وإذا عرفت أن العطايا بحسب منفعة الرجل وبحسب حاجته في مال المصالح. وفي الصدقات أيضًا. فما زاد على ذلك لا يستحقه الرجل إلا كما يستحق نظراؤه. وليسوا ملاكًا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "والله إني لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا. وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت". وقال ونص العلماء على أنه يجب أن يقدم في مال الفيء والمصالح أهل المنفعة العامة وإذا كان العطاء لمنفعة المسلمين لم ينظر إلى الآخذ هل هو صالح النية أو فاسدها. وإنما العطاء بحسب المصلحة الدينية. فكلما كان لله أطوع ولدينه أنفع فالعطاء فيه أولى. وإعطاء محتاج إليه في إقامة دين الله وقمع أعدائه وإظهاره وإعلائه أعظم من إعطاء من لا يكون كذلك. وإن كان الثاني أحوج.

وذكر أنه اختلط في هذه الأموال المرتبة السلطانية الحق والباطل. فأقوام من ذوي الحاجات والعلم لا يعطى أحدهم كفايته ويتمزق جوعًا. وهو لا يسأل. ومن يعرفه فليس عنده ما يعطيه. وأقوام يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. وقوم لهم رواتب أضعاف حاجاتهم. وقوم ينالون جهات كالمساجد وغيرها. فيأخذون معلومها. وقوم آخذون ما لا يستحقون. ويأخذون فوق حقهم. ويمنعون من هو أحق منهم حقه أو تمام حقه. ولا يستريب مسلم أن السعي في تمييز الحق من غيره والعدل بين الناس وفعله بحسب الإمكان هو من أفضل أعمال ولاة الأمور. بل ومن أوجبها عليهم. قال ولا يجوز للإمام أن يعطى أحدًا ما لا يستحقه لهوى نفسه من قرابة بينهما أو مودة أو نحو ذلك. وليس لولاة الأمور أن يقسموها بحسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه. فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء. (وقال - صلى الله عليه وسلم -) فيما رواه عنه عمرو بن تغلب النمري (إني أعطي أقوامًا) وفي لفظ قومًا (أخاف ظلعهم) أي انقطاعهم واعوجاجهم وتأخرهم (وجزعهم) أي وأخاف قلة صبرهم إذا لم أعطهم. فيتألفهم ويثبتهم بالعطاء (وأكل أقوامًا) اعتمادًا وثقة وطمأنينة (إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير) المانع لهم من الهلع والجزع بل (والغنى) الذي أودعه الله في قلوبهم. وتقدم

"أن الغنى غنى النفس" والغناء بالمد الكفاية وفي لفظ بالقصر ضد الفقر. (رواه البخاري) وأول الحديث "أعطى قومًا ومنع آخرين" فكأنهم عتبوا عليه فقال ذلك. قال الشيخ ويجوز بل يجب الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليفه وإن كان لا يحل له أخذ ذلك. كما في القرآن. وكما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة من الفيء. قال وإن كان ظاهره لعطاء الرؤساء وترك الضعفاء كما فعل الملوك. فالأعمال بالنيات. فإن كان المقصد بذلك مصلحة الدين وأهله كان جنس عطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه. وإن كان المقصود العلو في الأرض كان من جنس عطاء فرعون. وذكر أن الغنيمة والخراج لمصالح المملكة. وبها يجتمع الجند على باب السلطان. فينفذ أحكام الشرع. ويحمي البيضة. ويمنع القوي من ظلم الضعيف. ويوصل كل ذي حق حقه. فلو فرقه غيره تفرقوا عنه. وزالت حشمته وهيبته. وطمع فيه. فجر ذلك إلى الفساد. وذكر أن الله علق الأمر بالإنفاق الذي هو السخاء والقتال الذي هو الشجاعة. وأن هذا مما اتفق عليه أهل الأرض. وأن الناس افترقوا أربع فرق فريق غلب عليهم العلو في الأرض فصاروا نهابين وهابين. نظروا في عاجل دنياهم. وأهملوا آخرتهم. فعاقبتهم رديئة في الدنيا والآخرة. وفريق عندهم

خوف من الله ودينهم يمنعهم عما يعتقدونه قبيحًا من ظلم الخلق. وفعل المحارم. لكن قد يعتقدون أن السياسة لا تتم إلا بما يفعله أولئك من الحرام. وربما اعتقدوا إنكار ذلك واجبًا كالخوارج. والفريق الثالث الأمة الوسط. دين محمد - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه على عامة الناس وخاصتهم إلى يوم القيامة، وهو إنفاق المال في المنافع للناس. فإن كانوا رؤساء فبحسب الحاجة إلى صلاح الأحوال. وإقامة الدين والدنيا التي يحتاج إليها الدين. وعفته في نفسه، فلا يأخذ ما لا يستحقه فيجمعون بين التقوى والإحسان. ولا تتم السياسة الدينية إلا بهذه الطريقة. وهذا هو الذي يطعم الناس ما يحتاجون إلى إطعامه. ولا يأكل هو إلا الحلال الطيب. ثم هذا يكفيه من الإنفاق أقل مما يحتاج إليه الأول، فإن الذي يأخذ لا لنفسه تطمع إليه النفوس ما لا تطمع في العفيف. ويصلح به الناس في دينهم ما لا يصلحون بالثاني. وأما من يأخذ لنفسه. ولا يعطي غيره. فهذا القسم الرابع شر الخلق. لا يصلح به دينه ولا دنياه. كما أن الصالحين أرباب السياسية الكاملة هم الذين يعطون ما يصلح الدين بعطائهم. ولا يأخذون إلا ما أبيح لهم. ويغضبون لربهم إذا انتهكت محارمه. ويعفون عن حقوقهم. وهذه أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بذله. وهي الأكمل.

باب الأمان

باب الأمان أي والهدنة. والأمان ضد الخوف. ويسمى مهادنة. وموادعة ومسالمة. ويجوز عقده مطلقًا وموقتًا ويقع لازمًا يجب الوفاء به. ما لم ينقضه العدو. والمطلق جائز يعمل الإمام فيه بالمصلحة. ولا يعقد الأمان إلا الإمام أو نائبه لتعلقه بنظر الإمام. ويصح الأمان بكل قول أو فعل أو إشارة أو كتابة ونحو ذلك مما يدل عليه. ويحرم به قتل ورق وأسر. وأخذ مال. لعصمتهم بالأمان. والأصل في الأمان: قوله تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِين} وغيرها من الآيات والأحاديث. (قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين أمرتك بقتالهم وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم {اسْتَجَارَكَ} أي استأمنك وطلب منك جواره {فَأَجِرْهُ} أي أمنه وأجبه إلى طلبته {حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} أي القرآن تقرؤه عليه وتذكر له شيئًا من أمر الدين. ويعلم ما له من الثواب إن آمن. وما عليه من العقاب إن أصر على الكفر (الآية) وتمامها {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} يعني إن لم يسلم أبلغه إلى الموضع الذي يأمن فيه وهو دار قومه. أو وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده ودار مأمنه {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون} أي إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوته في بلاده. فدلت الآية على أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في

أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب وطلب من الإمام أو نائبه أمانًا أعطي أمانًا ما دام مترددًا في دار الإسلام حتى يرجع إلى مأمنه ووطنه. ولا يمكن من الإقامة في دار الإسلام أكثر من أربعة أشهر. (وقال: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ} أي: مالوا إلى الصلح والمسالمة والمهادنة {فَاجْنَحْ لَهَا} أي فمل إليها واقبل منهم ذلك {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} أي صالحهم وتوكل على الله فإن الله كافيك وناصرك. ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقوا ويستعدوا {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين}. ولما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب عشر سنين أجابهم إلى ذلك. وقيل الآية منسوخة بآية السيف. وقال ابن كثير فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك. فأما إن كان العدو كثيفًا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية. وكما فعل - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص. فيجوز عقد الهدنة لمصلحة حيث جاز تأخير الجهاد لنحو ضعف بالمسلمين أو لمشقة الغزو. ولا تصح إلا حيث جاز تأخير الجهاد لمصلحة وتجوز ولو بمال منا ضرورة. وبمال منهم وبغير عوض بحسب المصلحة. لفعله - صلى الله عليه وسلم -. (وقال: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} أي فأوفوا لهم بعهدهم {إِلَى مُدَّتِهِمْ} أي إلى تمام مدتهم وأجلهم الذي عاهدتموهم عليه. ولا تجروهم مجرى الناكثين. فإنه تعالى قال: {إِلاَّ الَّذِينَ

عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَْ} قيل لهم بعد أن أمروا بنكث العهد ولكن الذين عاهدوا منكم {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا} من أعدائكم {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} مهما كان ولا تجعلوا الوافي كالغادر. وفي الحديث "ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته" بشرط أن لا ينقصه ولا يظاهر من سواهم. فهذا الذي يوفي له بذمته وعهده إلى مدته. ولهذا حرض تعالى على الوفاء بذلك فقال {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين} أي الموفين بعهدهم. وأما إذا حارب أهل العهد من هم في ذمة الإمام وجواره وعهده: صاروا حربًا له بذلك. وله أن يبيتهم في ديارهم كما في قصة الفتح ولا يحتاج أن يعلمهم على سواء. وإنما يكون الإعلام إذا خاف منهم خيانة، فإذا تحققها صاروا نابذين لعهده. ولما سار معاوية بأرض الروم وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم. فقال عمرو بن عنبسة الله أكبر وفاء لا غدر. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان بينه وبين قومه عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدنها حتى ينقضي أمدها أو ينبذوا إليهم عهدهم على سواء" فرجع معاوية. صححه الترمذي. (وعن علي مرفوعًا: ذمة المسلمين) أي عهدهم وحرمتهم (واحدة) فإذا أعطى أحدهم لعدو أمانًا جاز على جميع

المسلمين (يسعى بها أدناهم) أي ولو كان عبدًا أو امرأة أو عسيفًا تابعًا. فيجب قبول أمانهم وليس لأحد أن يخفر ذمتهم (متفق عليه) فدخل كل وضيع بالنص وكل شريف بالفحوى. زاد ابن ماجه "ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم" ومن حديث عمرو بن شعيب "يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم". وللطيالسي من حديث عمرو بن العاص "يجير على المسلمين أدناهم" ولأحمد عن أبي عبيدة مرفوعًا "يجير على المسلمين بعضهم" وللحاكم "المسلمون تتكافأ دماؤهم" ولمسلم "إن ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وهو متفق عليه من حديث علي. ومن حديث أنس "لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به" ولمسلم عن أبي سعيد نحوه. وهذه الأحاديث وغيرها دالة على صحة أمان الكافر من كل مسلم مأذون أو غير مأذون. لقوله "أدناهم" فإذا أعطى أحد الجيش العدو أمانًا جاز ذلك على جميع المسلمين. وهذا مذهب جمهور العلماء. ومذهب مالك والشافعي وأحمد يمضي أمان العبد سواء أذن له سيده في القتال أو لم يأذن. قال عمر العبد المسلم رجل من المسلمين يجوز أمانه رواه سعيد. ولأنه مسلم عاقل.

(ولهما من حديث أم هانئ) بنت أبي طالب -رضي الله عنهما-. وكانت أجارت رجلًا فقال (قد أجرنا من أجرت) وذلك أنها قالت يا رسول الله زعم ابن أبي طالب أنه قاتل رجلًا قد أجرته فلان ابن هبيرة. وهبيرة زوجها. ولأحمد أنها أجارت رجلين من أحمائها وجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تخبره أن عليًا أخاها لم يجز إجارتها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" وعن أبي هريرة مرفوعًا "إن المرأة لتأخذ للقوم" رواه الترمذي. فيدل على صحة أمان المرأة بإذن وعدمه. وهو مذهب جمهور العلماء إلا ما روي عن بعض أصحاب مالك حملوه على أنه إجازة منه. والجمهور على أنه أمضى ما وقع منها. وأنه قد انعقد أمانها. لأنه سماها مجيرة ولأنها دخلت في عموم المسلمين كما هو معروف عند الأصوليين. ولقصة زينب. وليس لهم أن يحفزوه، ولا أن ينقضوا عليه عهده وذكر الإجماع على صحة أمان المرأة غير واحد من أهل العلم. ويصح أمان كل واحد من الرعية لقافلة وحصن صغيرين عرفًا. لأن عمر أجاز أمان العبد لأهل الحصن ولا يصح لأهل بلدة كبيرة ولا جمع كبير لأنه يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتيات على الإمام. (وفيهما عن أنس) أي في الصحيحين (أن قريشًا صالحوا النبي – - صلى الله عليه وسلم -) يعني عام الحديبية سنة سبع. قال ابن القيم وغيره

فيه دليل على جواز صلح الإمام لعدوه ما شاء من المدة. ويكون العقد جائزًا له فسخه متى شاء. وهذا هو الصواب, وهو موجب حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ناسخ له وذكر أيضًا صلحه لأهل خيبر عمالًا له يقرهم فيها ما شاء. وأن هذا الحكم منه فيهم حجة على جواز صلح الإمام لعدوه ما شاء من المدة فيكون العقد جائزًا له فسخه متى شاء. وصوبه أيضًا. وفي قوله تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِين} إلى قوله {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ} الآيات: البراءة من المعاهدين إلا من كان له عهد إلى أجل. وهذا يبين أن تلك العهود كانت مطلقة ليست إلى أجل معين خلافًا لمن قال لا تجوز المهادنة المطلقة. ولا يجوز أن نقركم ما أقركم الله. حتى ادعى الإجماع في ذلك وليس بشيء. (واشترطوا عليه أن من جاء منكم لم نرده عليكم) أي من جاء من المسلمين إلى كفار مكة لم يردوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ومن جاءكم منا رددتموه علينا) أي من أهل مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رده إليهم. فكره المسلمون ذلك. ولهما أن سهيلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. وفيه قالوا يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال "نعم من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا".

وجاء أبو جندل يرسف في قيوده ثم أبو بصير فردهما ولحقا بالسيف عصابة يعترضون غير قريش. فيجوز شرط رد رجل جاء مسلما ًََللحاجة. فإنه - صلى الله عليه وسلم - كتب هذا الشرط. مع ما فيه ومع كراهته له. فدل على جواز الصلح على ذلك إن لم تكون حاجة كظهور المسلمين وقوتهم لم يصح الشرط. ولا يمنعهم الإمام أخذه ولا يجبره على العود معهم, ويجوز أمره سراً بقتالهم والفرار منهم. وله ولمن أسلم معه أن يتحيزوا ناحية ويقتلوا من قدروا عليه من الكفار. ويأخذوا أموالهم ولا يدخلون في الصلح. وإن عقد من غير شرط لم يجز رد من جاء مسلماً أو بأمان. وثبت أنه لم يرد النساء المهاجرات إليه لأن الصلح إنما وقع في حق الرجال وخرجت إليه أم كلثوم وطلبوا رجوعها فأنزل الله (فلا ترجعوهن إلى الكفار) ولو هرب قن فأسلم لم يرد وهو حر لأنه ملك نفسه بإسلامه. وقال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} ويؤخذون بجنايتهم على مسلم من مال وقود وحد. لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين منهم وأمانهم من المسلمين في المال والعرض ولا يحدون لحق الله لأنهم لم يلتزموا حكمنا. (ولأبي داود) وأحمد وغيرهما. وذكر ابن إسحاق وغيره (عن المسور) بن مخرمة بن نوفل القرشي قيل كان مولده بعد الهجرة. وقيل قبلها. وحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء

وغيرهم كان يلازم عمر -رضي الله عنهما-. وقتل بالمنجنيق مع ابن الزبير وهو يصلي سنة أربع وسنتين (هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله). وفي الصحيحين هذا ما صالح عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال سهيل بن عمرو لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت. ولا قاتلناك. ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال: والله إني لرسول الله. وإن كذبتموني أكتب محمد بن عبد الله أي هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله (سهيل بن عمرو) ابن عبد شمس القرشي قبل أن يسلم ثم أسلم وحسن إسلامه. ومات سنة سبع عشرة. تولى أمر الصلح. (على وضع الحرب) بينه - صلى الله عليه وسلم - وبينهم (عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق وجزم به ابن سعد. وقيل سنتين. وإنما هي التي انتهى أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. واختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين: فقيل لا تتجاوز عشر سنين كما في هذا الخبر. وهو قول الجمهور. وقال الوزير اتفقوا على أن الإمام يجوز له مهادنة المشركين عشر سنين فما دونها. واتفقوا على أنهم إذا عوهدوا عهداً وفي لهم به إلا أبا حنيفة فشرط بقاء المصلحة. وصوب ابن القيم وغيره جوازه فوق ذلك للحاجة والمصلحة الراجحة. كما إذا

كان بالمسلمين ضعف وعدوهم أقوى منهم. وفي العقد لما زاد عن العشر مصلحة للإسلام. (يأمن فيها الناس) على دمائهم وأموالهم (ويكف بعضهم عن بعض) القتال فدل على جواز الصلح عشر سنين. وما شاء ولي الأمر كما تقدم. (وله عن أبي رافع مرفوعاً إني لا أخيس) بخاء معجمة فمثناه تحتية فسين (بالعهد) أي لا أنقضه ولا أغدر من خاس الشيء إذا فسد. . (ولا أحبس الرسل) وفي رواية البرد. ورواه النسائي وصححه ابن حبان. وذلك أن العهد مراعى مع الكافر كما يراعى مع المسلم. وأن الكافر إذا عقد له عقد أمان فقد وجب عليك أن تؤمنه ولا تغتاله في دم ولا مال ولا منفعة. ولأن الرسالة تقتضي جواباً والجواب لا يصل إلا مع الرسول بعد انصرافه. فصار كأنه عقد له مدة مجيئه ورجوعه. وقد دل الحديث على وجوب حفظ العهد. وأمر الله به في غير موضع من كتابه. وعلى وجوب الوفاء به ولو لكافر وإن خيف نقض عهدهم أعلمهم أنه لم يبق بينهم وبينه عهد قبل الإغارة عليهم بقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِين وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِين}. وقال الوزير اتفقوا على أنه لا يجوز نقض العهد إلا بعد نبذه في مدة العهد ودل على أنه لا يحبس الرسل بل يرد جواب الرسول. وكان وصوله أماناً له. فلا يجوز أن يحبس بل يرد.

باب عقد الذمة

باب عقد الذمة أي صفة عقد الذمة وصفة أحكامها. والذمة لغة العهد والضمان والأمان. فعله من أذم يذم إذا جعل له عهداً. نحو أقررتكم بالجزية. ولا يعقدها إلا إمام أو نائبه لتعلقها بنظره. وفي الصحيحين "أن الإمام جنة" لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين. ويمنع الناس بعضهم من بعض ويحمي بيضة الإسلام. فهو الذي يعقد العهد والهدنة بين المسلمين والمشركين. وليس لغيره أن يجعل لأمة من الكفار أماناً, وإذا رأى الإمام ذلك وصالحهم وهادنهم وجب على المسلمين أن يجيزوا أمانة لهم. وإذا عقد العهد وصالح بين المسلمين وبين غير أهل الإسلام إلى مدة فالمسلمون يسيرون ويمرون في بلاد الشرك. ولا يتعرض لهم مخالفوهم بأذية ولا فساد في أنفسهم وأموالهم لأجل هذا الصلح. وكذلك أهل الشرك, وذلك لا يحصل إلا بعهد وأمان منه. والفرق بين المعاهد والمستأمن والذمي أن المعاهد هو من أخذ عليه العهد من الكفار. والمستأمن هو من دخل دارنا بأمان. والذمي من استوطن دار الإسلام بتسليم الجزية. (قال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} وإن ادعوا الإيمان. فإن من قال: عزير بن الله , والمسيح بن الله لا يكون مؤمناً بالله , ومن اعتقد بعثة الأرواح دون

الأجساد وأن أهل الجنة لا يأكلون فيها ولا يشربون لا يكون مؤمناً باليوم الآخر {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ} في كتابه {وَرَسُولُهُ} في سنته {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} أي الدين الحق دين الإسلام. الذي هو ناسخ سائر الأديان {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} يعني اليهود والنصارى على اختلاف طوائفهم وكذا من تبعهم فتدين لهم بأحد الدينين. كالسامرة والإفرنج والصابئين لعموم: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ}. وهذه الآية كما قال شيخ الإسلام وابن كثير وغيرهما هي أول الأمر بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى وذلك في سنة تسع {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} وهي الخراج المضروب عليهم إن لم يسلموا على وجه الصغار كل عام. جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقاً وبدلاً عن قتلهم وإقامتهم بدارنا. وقال الشيخ وجبت عقوبة وعوضاًِ عن حقن الدم عند أكثر العلماء {عَن يَدٍ} عن قهر وذل. قال ابن عباس يعطونها بأيديهم ولا يرسلونها. {وَهُمْ صَاغِرُون} أذلاء مقهورون يعطوها عن قيام والقابض جالس ويطال وقوفهم وتجر أيديهم. ويمتهنون عند كل جزية. ولكن بلا سوط ولا نول. ولهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغره. كما صحت به الأخبار. قال البغوي والشيخ وغيرهما اتفقت الأمة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتابين. وهم اليهود والنصارى

وكذا اتفقوا على أخذها من المجوس. وقال الشيخ إذا كان أهل الكتاب لا يجوز مهادنتهم إلا مع الجزية والصغار فغيرهم أولى بذلك. وقال وقد أخذها من المجوس وليسوا بأهل كتاب. ولا فرق بين عباد الأصنام وعباد النار بل أهل الأوثان أقرب حالًا من عباد النار. وكان فيهم من التمسك بدين إبراهيم ما لم يكن في عباد النار. وعلى ذلك تدل السنة كقوله "فإذا لقيت عدوك من المشركين". وليس أخذ الجزية من أهل الكتاب إقرارًا على دينهم الباطل بل لما في أيديهم من الكتب القديمة. فربما تفكروا فيها فعرفوا صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحة نبوته. فامهلوا لذلك. وحقنت دماؤهم رجاء أن يعرفوا الحق فيرجعون إليه ويصدقون به إذا رأوا محاسن الإسلام وقوة دلائله وكثرة الداخلين فيه. ومفهوم الآية وجوب قبول الجزية ممن بذلها. وحرمة قتله فإنها دلت على النهي عن القتال عند حصول الغاية. وهو إعطاء الجزية. فيحرم قتالهم بعد إعطائها. وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث بريدة "فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم". (وعن عبد الرحمن بن عوف) بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ولد بعد الفيل بعشر. وأسلم قديمًا. وشهد بدرًا وما بعدها. وصدقاته

مشهورة. ومات بالمدينة سنة إحدى وثلاثين -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية) وهي الخراج الذي سيضرب عليهم إن لم يسلموا على وجه الصغار. وبدلاً عن قتلهم وإقامتهم ببلدنا أخذها - صلى الله عليه وسلم -. (من مجوس هجر) وهي هجر البحرين تعرف الآن بالأحساء (رواه البخاري) وأحمد وأبو داود. ورواه الترمذي وغيره عن عمر أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أخذها من مجوس هجر". وفي رواية أن عمر ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" رواه الشافعي. وهذا يدل على أنهم ليسوا بأهل كتاب. وعن المغيرة أنه قال لعامل كسرى "أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية" رواه البخاري. وكانوا مجوسًا. وقال جمهور أهل العلم إنما أخذت الجزية من اليهود والنصارى بالكتاب. ومن المجوس بالسنة. وقال ابن رشد والوزير وغيرهما اتفق العلماء على أن الجزية تضرب على أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى. وكذلك اتفقوا على ضربها على المجوس. واختلف فيمن لا كتاب له ولا شبهة. فقال مالك تؤخذ من كل كافر عربيًا كان أو عجميًا إلا من مشركي قريش. وقال

أبو حنيفة لا تقبل إلا من العجم. وهو رواية عن أحمد. واختار شيخ الإسلام وغيره أخذ الجزية من جميع الكفار. وذكر أنه لم يبق أحد من مشركي العرب بعد. بل كانوا قد أسلموا. وقال هو ومالك والأوزاعي وفقهاء الشام تقبل من كل كافر إلا من ارتد. ودل حديث بريدة المتقدم على جواز أخذ الجزية من كل مشرك. قال الشيخ إنما وقعت الشبهة في المجوس لما اعتقد بعض أهل العلم أنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب. وقد أخذت من المجوس بالنص والإجماع. قال والمجوس لم يكونوا أهل كتاب أصلًا. ولا دانوا بدين أحد من الأنبياء لا في عقائدهم ولا في شرائعهم. والأثر الذي فيه أنه كان لهم كتاب فرفع لا يصح. قال والعرب كانوا على دين إبراهيم وكان له صحف وشريعة. وليس تغيير عبدة الأوثان بأعظم من تغيير المجوس. فإنه لا يعرف عنهم التمسك بشيء من شرائع الأنبياء. بخلاف العرب فكيف يجعل المجوس أحسن حالًا من مشركي العرب. وهذا القول أصح في الدليل. (ولأبي داود وغيره: عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث خالدًا) يعني ابن الوليد بن المغيرة القرشي المخزومي سيف الله. كانت

أعنة الخيل إليه في الجاهلية. وأسلم قبيل الفتح. وشهده. وشهد وقعة المؤتة وغيرها. وأقره أبو بكر. وأبلا بلاء حسنًا وفتح الله على يديه. والنبي – - صلى الله عليه وسلم - بعثه (إلى أكيدر دومة) الجندل. قال الحافظ ثبت أنه كان كنديًا. وقال الخطابي رجل من العرب. (فأتى به) يعني أتى خالد بالأكيدر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (فحقن دمه) أي صانه عن القتل فلم يرق دمه (وصالحه على الجزية) أي على دفع الجزية كأهل الكتاب وكان - صلى الله عليه وسلم - بعث خالدًا من تبوك في آخر غزوة غزاها - صلى الله عليه وسلم - وقال لخالد إنك تجده يصيد البقر فمضى خالد حتى إذا كان من حصنه بمبصر العين في ليلة مقمرة أقام وجاءت بقر الوحش حتى حكت قرونها بباب القصر فخرج إليها أكيدر في جماعة من خاصته فتلقتهم جند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذوا أكيدر وقتلوا أخاه حسان. واستلب خالد منه قباء ديباج مخوصًا بالذهب. وبعث به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجار خالد أكيدر من القتل حتى يأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يفتح له دومة الجندل ففعل. وصالحه على ألفي بعير. وثمانمائة رأس. وألفي درع. وأربعمائة رمح. فعزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفية خالصًا. ثم قسم الغنيمة وفيه أنه دعاه إلى الإسلام فأبي. فأقره على الجزية، فدل على جواز أخذ الجزية من العرب. كجوازه من العجم. قال الشيخ ومذهب الأكثرين أنه يجوز مهادنة جميع الكفار

بالجزية والصغار. وقد كتب إلى أهل هجر ومنذر بن ساوى وملوك الطوائف يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية. وإذا عرفت حقيقة السنة تبين لك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفرق بين عربي وغيره وأن أخذه للجزية كان أمرًا ظاهرًا مشهورًا. وقدوم أبي عبيدة بمال البحرين معروف. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخص العرب بحكم في الدين لا بمنع الجزية ولا منع الاسترقاق، ولا تقديمهم في الإمامة، ولا يجعل غيرهم ليس كفوًا لهم في النكاح، ولا بحل ما استطابوه دون ما استطابه غيرهم. بل إنما علق الأحكام بالأسماء المذكورة في القرآن كالمؤمن والكافر والبر والفاجر، قال: ويؤخذ من بني تغلب عوض الجزية زكاتان مما تجب فيه الزكاة، ويجوز تغييره لاختلاف المصلحة باختلاف الأزمنة. وجعل جماعة ذلك كالخراج والجزية. وذلك لأن عمر أضعفها عليهم. (وللخمسة) وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان (عن معاذ) بن جبل -رضي الله عنه- (قال بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن) وذلك سنة عشر قبل حجه - صلى الله عليه وسلم - داعيًا وقاضيًا وجابيًا (وأمرني أن آخذ من كل حالم) أي بالغ وفي رواية محتلم (دينارًا) وهو ضرب من قديم النقود زنته مثقال وتقدم (أو عدله) بفتح العين وتكسر (معافريًا) أي ثوبًا معافريًا بفتح الميم نسبة إلى بلدة باليمن تصنع فيها الثياب أو قبيلة سميت بها الثياب وإليها ينسب البز المعافري. أو نسبة إليهما جميعًا.

ورواه الشافعي في مسنده عن عمر بن عبد العزيز أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن "أن على كل إنسان منكم دينارًا كل سنة أو قيمته من المعافر". فدل الحديث على تقدير الجزية بالدينار من الذهب على كل بالغ. وهو مذهب أحمد والشافعي. قال وسألت عددًا من أهل اليمن وكلهم حكوا عن عدد مضوا قبلهم يحكون عن عدد مضوا قبلهم كلهم ثقة أن صلح النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لأهل الذمة باليمن على دينار كل سنة. وتجوز الزيادة لما روى أبو داود وغيره عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صالح أهل نجران على ألفي حلة في المحرم والنصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعًا وثلاثين فرسًا وثلاثين بعيرًا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزوا بها المسلمون ضامنين لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد". قال الشافعي وقد سمعت بعض أهل العلم من المسلمين ومن أهل الذمة من أهل نجران يذكر أن قيمة ما أخذوا من كل واحد أكثر من دينار. ولهذا ذهب عمر. فإنه أخذ زائدًا على الدينار. وفي الصحيح عن ابن أبي نجيح قال قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار! قال جعل ذلك من قبيل اليسار. وأقل الجزية عند الجمهور دينار في كل سنة، لحديث معاذ

وما في معناه. وقيل المتوسط عليه ديناران. وعلى الغني أربعة لهذا الخبر وغيره. وهو مذهب أبي حنيفة. ومن صار أهلًا لها أخذت منه في آخر الحول، ومفهوم الحديث أنها لا تؤخذ من الصبي. وهو مذهب جمهور العلماء. وقال الوزير وغيره اتفقوا على أن الجزية لا تضرب على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم حتى يبلغوا. ولا على مجنون ولا ضرير. ولا شيخ كان. ولا أهل الصوامع. وقال الشيخ وتؤخذ من راهب بصومعة ما زاد على بلغته. ويؤخذ منهم ما لنا كالرزق للديورة والمزارع إجماعًا. قال والرهبان الذين يخالطون الناس ويتخذون المتاجر والمزارع فكسائر النصارى، تؤخذ منهم الجزية باتفاق المسلمين. ولا تؤخذ من عبد ولا فقير يعجز عنها. لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، وقال ابن رشد اتفق على أنه لا تجب الجزية إلا بثلاثة أوصاف: الذكورة والبلوغ والحرية. (وعن عائذ بن عمرو) بن هلال المزني البصري -رضي الله عنه- شهد الحديبية. ومات في ولاية عبيد الله بن زياد سنة إحدى وستين (مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (الإسلام) أي الدين وهو الاستسلام من التوحيد والانقياد له بالطاعة. والبراءة من الشرك وأهله (يعلو) أي يرتفع ويظهر على سائر الأديان (ولا يعلى) عليه بل يظهر ويعلو (رواه الدارقطني).

ولا يزال دين الحق يعلو ولا يعلى كما قال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون} وفيه الدلالة الواضحة على علو أهل الإسلام على سائر أهل الأديان في كل أمر. لإطلاقه. فالحق الذي لأهل الإسلام إذا عارضهم غيرهم من أهل الملل: هو ما أشير إليه من إلجائهم إلى مضائق الطرق وإلزامهم المهانة والصغار، كما تقدم وأن يمنعوا من تعلية بنيان على مسلم ولو رضي. وسواء لاصقه أو لا إذا كان يعد جارًا له. فإن علا وجب نقضه. قال الشيخ ولو في ملك منزله بين مسلم وذمي. ولو احتال مبطل بأن يعليه مسلم ثم يشتريه الكافر فيسكنه فقال ابن القيم هذه أدخلت في المذهب غلطًا محضًا. ولا توافق أصوله ولا فروعه. فالصواب المقطوع به عدم تمكينه من سكناه. فإن المفسدة لم تكن في نفس البناء. وإنما كانت في ترفعه على المسلمين. ومعلوم قطعًا أن هذه المفسدة في الموضعين واحدة. ولو وجدنا دار ذمي عالية ودار مسلم أنزل منها وشككنا في السابقة. فقال لا تقر دار الذمي عالية لأن التعلية مفسدة. وقد شككنا في شرط الجواز والأصل عدمه. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام) لأن فيه تعظيمًا لهم وقد حكم عليهم بالصغار. وكذا بكيف أصبحت وكيف أمسيت أو كيف أنت أو كيف حالك. قال أحمد هذا عندي أكبر من

السلام. وتهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم وشهادة أعيادهم. وحكى النووي وغيره تحريم ابتداء اليهود والنصارى بالسلام عن عامة السلف وأكثر العلماء. ومفهوم الخبر أنه لا ينهى عن رد السلام. وثبت في الصحيحين "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم" وفي رواية "يقول أحدهم السلام عليكم فقولوا وعليك" واتفق أهل العلم على أنه يرد كذلك. كذلك. قال الشيخ ويحرم شهود عيد اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار. وبيعة لهم فيه ومهاداتهم لعيدهم. لما في ذلك من تعظيمهم. وكلما فيه تخصيص كعيدهم وتميز لهم فهو من التشبه بهم. فهو منهي عنه إجماعًا. واختلف كلامه في رد التحية هل ترد بمثلها أو وعليكم فقط وجوز أن يقال أهلًا وسهلًا. وكيف أصبحت وكيف حالك. وأكرمك الله. وهداك يعني بالإسلام. وكره الدعاء بالبقاء. لأنه شيء فرغ منه وجوز عيادتهم وتهنئتهم وتعزيتهم ودخولهم المسجد للمصلحة الراجحة كرجاء الإسلام وقال العلماء يعاد الذمي ويعرض عليه الإسلام. لأنه - صلى الله عليه وسلم - عاد يهوديًا وعرض عليه الإسلام فأسلم. وجوز ابتداءهم للضرورة والحاجة طائفة من العلماء. (وإذا لقيتموهم) أي استقبلتموهم (في طريق) أي سبيل جمعه طرق يذكر ويؤنث (فاضطروهم إلى أضيقه) أي

ألجؤهم إلى المكان الضيق منه (متفق عليه) فلا يجوز للمسلم أن يترك الذمي في صدر الطريق. فإن ذلك نوع من إنزال الصغار بهم والإذلال لهم. قال النووي وليكن التضييق بحيث لا يقع في وهدة ولا يصد من جدار ونحوه. (ولهما عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أنه - صلى الله عليه وسلم - أوصى عند موته) وذلك حين اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه يوم الخميس بثلاث خصال أحدها (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وهي ما أحاط بها بحر الهند وبحر الشام. ثم دجلة والفرات. أو ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولًا. ومن جدة إلى ريف العراق عرضًا. وسميت جزيرة لإحاطة البحار بها وأضيفت إلى العرب لأنها كانت بأيديهم قبل الإسلام وبها أوطانهم. والثانية أجيزوا الوفد. ونسيت الثالثة والشك من سليمان الأحول. ولمسلم عن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا" ولأحمد عن عائشة آخر ما عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قال "لا يترك بجزيرة العرب دينان" وله عن أبي عبيدة "أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب". فدلت هذه الأحاديث على وجوب إخراج المشركين من جميع جزيرة العرب. ومن قال لا يعلم أن أحدًا أجلاهم من اليمن ونحو ذلك فليس ترك إجلائهم دليلًا على جوازه. مع ما

ثبت بحمد الله من ذكر إجلائهم. ولو قدر عدمه فلا يدل السكوت على التقرير. لكثرة الأعذار. ولا تبطل به النصوص الشرعية. وقال النووي وغيره من العلماء في المسافرين إلى الحجاز لا يمكثون فيه أكثر من ثلاثة أيام إلا مكة وحرمها فلا يجوز تمكين كافر من دخولها بحال. فإن دخل خفية وجب إخراجه لقوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} وقال عمر لأبي موسى في نصراني ولم لا يدخله قال إنه نصراني فانتهره عمر قال الشيخ وهذا يدل على اتفاقهم على أن الكفار لا يدخلون المسجد. (وأجلاهم عمر منها) أي أجلى عمر -رضي الله عنه- اليهود والنصارى من جزيرة العرب قال ابن شهاب فحص عمر عن ذلك حتى أتاه اليقين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "لا يجمع دينان في جزيرة العرب" فأجلى يهود خيبر وقال مالك وغيره وقد أجلى يهود نجران وفدك أيضًا. وفي الصحيح أجلاهم من أرض الحجاز. (ومن شروطه) أي شروط عمر -رضي الله عنه- التي شرطها على أهل الذمة لما قدم إلى الشام وشارطهم. كما قال شيخ الإسلام وغيره بمحضر من المهاجرين والأنصار –رضي الله عنهم-. وعليها العمل عند أئمة المسلمين. لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" وقوله "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" ولأن هذا صار إجماعًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين لا يجمعون على ضلالة. بل ما فعلوه على ما فهموه من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. قالوا وهذه الشروط مروية من وجوه مختصرة ومبسوطة. منها ما رواه سفيان عن مسروق قال كتب عمر حين صالح نصارى الشام كتابًا وشرط عليهم فيه (أن لا يحدثوا) في مدنهم ولا ما حولها (ديرًا) أي خانًا وهو مسكن الرهبان (ولا صومعة) مكانًا مرتفعًا يسكنه الراهب وهو متعبده (ولا كنيسة) وهي محل عبادة النصارى وروى كثير بن مرة قال سمعت عمر يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا تبنى كنيسة في الإسلام". وقال ابن عباس إنما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة احتج به أحمد قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه لا يجوز إحداث كنائس ولا بيعة في المدن والأمصار في بلاد الإسلام. قال عمر –رضي الله عنه- (ولا يجددوا) أي لا يعيدوا (ما خرب منها) لأنها بعد الهدم كأنها لم تكن كما يمنعون من زيادتها ورم شعثها. قال الشيخ وغيره وهذه من الشروط التي كانوا ملتزمين بها أن لا يتخذوا من مدائن الإسلام ديرًا ولا صومعة ولا كنيسة ولا قلاية ولا يجددوا ما خرب منها ولا يمنعوا

كنائسهم التي عاهدوا عليها ضيافة من يمر بهم من المسلمين ودوابهم. ويصح أن يكتفي بها عن الجزية بشرط أن تقابل ما عليهم. ولا تجب بلا شرط. قال والكنائس العتيقة إذا كانت بأرض العنوة فلا يستحقون إبقاءها. ويجوز هدمها مع عدم الضرر علينا. وإذا صارت الكنيسة في مكان قد صار فيه مسجد للمصلين يصلي فيه وهو أرض عنوة فإنه يجب هدم الكنيسة التي به. لما روى أبو داود في سننه عن ابن عباس مرفوعًا "لا يجتمع قبلتان بأرض" وفي أثر آخر "لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب". ولهذا أقرهم المسلمون في أول الفتح على ما في أيديهم من أرض العنوة بأرض مصر والشام وغير ذلك. فلما كثر المسلمون وبنيت المساجد في تلك الأرض أخذ المسلمون تلك الكنائس فاقطعوها. وبنوها مساجد. وغيره ذلك. وقال اتفق المسلمون أنما بناه المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة. وإذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة فبنى المسلمون مدينة عليها فإن لهم أخذ تلك الكنيسة. ولو هدم ولي الأمر كل كنيسة بأرض العنوة كمصر والسودان والعراق وبر الشام ونحو ذلك مجتهدًا في ذلك ومتبعًا في ذلك لمن يرى ذلك لم يكن ظلمًا منه. بل تجب طاعته ومساعدته في ذلك. قال -رضي الله عنه- (ولا يؤوا جاسوسًا)

أي عينًا للكفار فمن فعل ذلك انتقض عهده. وكذا من تجسس عليهم لما فيه من الضرر على المسلمين. قال الشيخ ومن قطع الطريق على المسلمين أو تجسس عليهم أو أعان أهل الحرب على سبي المسلمين وأسرهم. أو ذهب بهم إلى دار الحرب. ونحو ذلك مما فيه مضرة على المسلمين. فهذا يقتل. ولو أسلم. وقال ابن القيم إذا كان الناقض واحدًا من طائفة لم يوافقه بقيتهم لم يسر النقض إلى زوجته وأولاده. كما أن من أهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دماءهم ممن كان يسبه لم يسب نساءهم وذريتهم. وإن كان الناقض طائفة لهم شوكة ومنعة استباح سبيهم. وجعل نقضهم ساريًا في حق النساء والذرية. وجعل حكم الساكت والمقر حكم الناقض والمحارب. وهذا موجب هديه في أهل الذمة ولا محيد عنه. قال الشيخ ولو قال الذمي هؤلاء المسلمون الكلاب أبناء الكلاب ينغصون علينا. إن أراد طائفة معينة عوقب عقوبة تزجره وأمثاله. وإن ظهر منه قصد العموم انتقض عهده ووجب قتاله. قال وليس لأحد من أهل الذمة أن يكاتب أهل دينه في طلب فتح الكنائس. ولا يخبرهم بشيء من أخبار المسلمين. ولا يطلب من رسولهم أن يكلف ولي أمر المسلمين ما فيه ضرر على المسلمين. ومن فعل ذلك منهم وجبت عقوبته باتفاق

المسلمين. وفي أحد القولين قد نقض عهده وحل دمه وماله قال عمر ولا يكتموا غش المسلمين. ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يمنعوا ذي قرابتهم من الإسلام إن أرادوه. قال عمر (وأن يوقروا المسلمين) أي يبجلوا المسلمين ويعظموهم وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس. (ولا يتشبهوا بهم) أي بالمسلمين (في لباس ونحوه) ولفظه: ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر. ولا يكتنوا بكناهم ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية. وفيه وأن يجزوا مقادم رؤوسهم. وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم. وفي لفظ الشروط التي التزموا بها: وأن يلزموا زيهم حيث كانوا. ولا يتسموا بأسماء المسلمين. ولا يكتنوا بكناهم كأبي عبد الله ولا يتلقبوا بألقابهم كزين العابدين. ولا يلبسوا عمامة صافية. بل يلبس النصراني العمامة الزرقاء عشرة أذرع من غير زينة لها ولا قيمة. وكذلك اليهودي يلبس العمامة الصفراء عشرة أذرع من غير زينة ولا قيمة. والمرأة البارزة من النصارى تلبس الإزار الكتان المصبوغ الأزرق من غير زينة لها ولا قيمة. وكذلك اليهودية تلبس الإزار الكتاب المصبوغ بالأصفر. والمرأة البارزة من النصارى تلبس خفين أحدهما أسود والآخر أبيض. وكذلك المرأة اليهودية تلبس خفين أحدهما أسود

ولا يدخل أحد منهم الحمام إلا بعلامة تميزه عن المسلمين خاتم من نحاس أو رصاص. أو جرس أو غير ذلك. وفيها ولا يركبوا الخيل ولا البغال بل يركبون الحمير بالأكف عرضًا من غير زينة ولا قيمة. ويركبون أفخاذهم مثنية. وقال ابن القيم الشروط المضروبة عليهم تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم. فسدت هذه الذريعة بإلزامهم التميز عن المسلمين. قال عمر -رضي الله عنه- (ولا يبيعوا الخمور) يعني للمسلمين ولا يظهروها في أسواقهم وغيرها. لتأذي المسلمين بذلك. وكذا الخنزير. فإن فعلوا أتلفناها عليهم. قال الشيخ وإذا كثر منهم بيع الخمر لآحاد المسلمين استحقوا العقوبة التي تردعهم وأمثالهم عن ذلك. وإن لم يظهروها لم نتعرض لهم. وكذا نكاح المحارم. لأنهم يقرون على كفرهم. وهو أعظم جرمًا. قال الشيخ إذا تزوج اليهودي بنت أخيه أو بنت أخته لحقه ولده منها باتفاق المسلمين. لاعتقادهم حله (ولا يظهروا شركًا) أي ويمنعون أن يظهروا شركًا أو كفرًا معنا. وقاله شيخ الإسلام وغيره ولا شيئًا من كتبهم في شيء من طريق المسلمين. ولا يرفعوا أصواتهم في الصلاة. ولا يجاوروا المسلمين

بموتاهم. بل يلزم مباعدة مقابرهم عن مقابر المسلمين ولا يظهروا النيران معهم. ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين. وفيما التزموه ولا يستخدموا مسلمًا في الحمام. ولا في أعمالهم الباقية. ولا يركبوا سفينة نوبيها مسلم. وفيها ولا يشتركون مع المسلمين في تجارة ولا بيع ولا شراء ولا يخدموا الملوك ولا الأمراء فيما يجري أمرهم على المسلمين من كتابة أو أمانة أو وكالة أو غير ذلك. وخبر: "المسلمون يد على من سواهم" يمنع من تولية الكفار شيئًا من الولايات. فإن للوالي يدًا على المولى عليه قال الشيخ وهذه الشروط التي أوردت فيها الأحاديث النبوية. قال عمر -رضي الله عنه- (فإن خالفوا شيئًا من ذلك) أي مما شرط عليهم مما تقدم وغيره مما ثبت عنه -رضي الله عنه- مما اشترطه عليهم. وما اشترطوه على أنفسهم (فلا ذمة) أي لا عهد (لهم) ولا ميثاق ولا ضمان ولا حرمة (وقد حل للمسلمين منهم) أي المعاهدين (ما يحل من أهل الشقاق) أي الكفرة المحاربين. قال الشيخ وهذه الشروط قد ذكرها أئمة العلماء من أهل المذاهب المتبوعة وغيرها في كتبهم. واعتمدوها. قال وما زال يجددها عليهم من وفقه الله من ولاة المسلمين. كما جدد عمر بن عبد العزيز في خلافته. وبالغ في اتباع سنة عمر حيث كان من العلم بالعدل والقيام بالكتاب والسنة بمنزلة ميزه الله بها على

غيره من الأئمة. وجددها هارون الرشيد. وجعفر المتوكل وغيرهما. قال وكل من عرف سيرة الناس وملوكهم رأى من كان أنصر لدين الله وأعظم جهادًا لدين الله ولأعدائه وأقوم بطاعة الله ورسوله أعظم نصرة وطاعة وحرمة من عهد عمر إلى الآن. وإلى أن تقوم الساعة. وليتقدم حاكم المسلمين ويلزمهم بهذه الشروط العمرية. أعز الله أنصار دينه. قال وهذه الشروط التي أوردت يعني ما تقدم فيها الأحاديث النبوية شرفها الله وأعزها. قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه (وقال - صلى الله عليه وسلم - اليهود والنصارى خونة) لا عهد لهم ولا أمانة (لا أعان الله) أي لا كان الله ظهيرًا لـ (من ألبسهم) أي شملهم وكساهم (ثوب عز) ضد الذل. ويطلق الثوب على الصفة المحمودة والمذمومة. وكنى باللباس أخذًا من قوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} والعرب يكنون بالثوب واللباس عما يستر ويقي. وهذا الخبر أورده شيخ الإسلام محتجًا به. وتقدم حديث "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" وقال عمر لا تعزوهم وقد أذلهم الله. ولا تأمنوهم بعد أن خونهم الله. ولا تصدقوهم بعد أن أكذبهم الله. ومن إذلالهم أخذ الجزية منهم على وجه الصغار. قال تعالى: {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} من الصغار وهو الذل والإهانة. فيعطونها وهم أذلاء مقهورون.

وقال {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ} ومن إذلالهم ما شرطه المسلمون عليهم. واشترطوه هم على أنفسهم. وتقدم أنه لا يجوز إعزازهم كما في هذا الحديث وغيره. واتفق المسلمون على إلزامهم الصغار الذلة والامتهان. وأنهم إن لم يلتزموه انتقض عهدهم. وقال عمر أذلوهم ولا تظلموهم. وعن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن آبائهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "ألا من ظلم معاهدًا أو نقصه من حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة". فيحرم إعزازهم كما يحرم ظلمهم. ويعاملون المعاملة الشرعية الثابتة في حقهم. قال الشيخ وإذا نقضوا العهد لم يجب على المسلمين أن يعاهدوهم ثانيًا. بل لهم قتالهم. وإن طالبوا أداء الجزية. وللإمام أن يقتلهم حتى يسلموا. وله أن يجليهم من دار الإسلام إذا رأي ذلك مصلحة. بل يجوز قتل كل من نقض العهد وقتاله. وإن بذل الجزية ثانيًا. قال تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُون أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ}. وقال ابن القيم وناقضوا العهد يسري نقضهم إلى نسائهم وذريتهم إذا كان نقضهم بالحراب. ويعودون أهل حرب.

وهذا عين حكم الله اهـ. وإن انتقل أحدهم إلى دين المجوس أو إلى غير دين أهل الكتاب لم يقر. ولم يقبل منه إلا الإسلام أو السيف. وإن انتقل غير الكتابي إلى دين أهل الكتاب أقر. * * * * * * * *

كتاب البيع

كتابُ البَيع البيع لغة: أخذ شيء وإعطاء شيء. مأخوذ من الباع. لأن كل واحد من المتبايعين يمد باعه للأخذ والإعطاء. وشرعًا مبادلة مال أو منفعة بمثل أحدهما. فشمل تسع صور: عين بعين أو دين أو منفعة. دين بعين أو دين أو منفعة. منفعة بعين أو دين أو منفعة. والحكمة أن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبًا. وصاحبه قد لا يبذله له. ففي شرعية البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير حرج. وحيث أنها تقدمت أركان الإسلام التي لا يستقيم إلا بها. فكل ذي لب لا يتصور منا صدور ذلك إلا بقوة يخلقها الله في أبداننا. وقد أجرى العادة بأن تلك القوة لا تقوم إلا بمادة تحصيلها عن الكسب فيما أباحه الله من السعي في وجوه المعاملات من البيع وغيره. ولا يباح للمسلم أن يفعل شيئًا منه إلا بموجب الشرع. فنخرج من أركان الإسلام إلى المعاملات. وقد بعث عمر -رضي الله عنه- من يقيم من الأسواق من

ليس بفقيه. والبيع من أفضل الكسب وجائز بالكتاب والسنة والإجماع والقياس. (قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} أي أحل الله لكم الأرباح في التجارة بالبيع والشراء. وكل منهما يطلق على ما يطلق عليه الآخر. فهما من الألفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة. وقال الله تعالى: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} وغيرها. ومن السنة "البيعان بالخيار" و "يا معشر التجار" وغيرهما. والإجماع معلوم في الجملة. والحكمة تقتضيه لما تقدم. وقال تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} وهو أخذ مال الإنسان من غير عوض. وذلك أن أهل الجاهلية قالوا لم حرم هذا وأبيح هذا اعتراضًا منهم على الشرع. فأخبر تعالى أن كل ما فيه معاوضة صحيحة خالية من أكل أموال الناس بالباطل الذي لا يقابله عوض فهو بيع حلال. وطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة. إنما الحرام زيادة على صفة مخصوصة في مال مخصوص. قال الشيخ وغيره: الأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم. فهي عفو حتى يحرمها الشارع. فإنه سكت عنها رحمة من غير نسيان وإهمال. بل صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه. وأمر بالوفاء به في غير موضع.

(وقال: {إِلاَّ أَن تَكُونَ} أي الأموال {تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} أي طيب نفس كل واحد منكم فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال. بعد أن نهانا عن أكلنا أموالنا بيننا بالباطل. وقال بعض السلف: التجارة رزق من رزق الله لمن طلبها بصدق. قال الشيخ: وكسب الإنسان فيما يقوم بالنفقة الواجبة على نفسه وعياله واجب عليه. وإنما المذموم فرط تعلق القلب بالمال بحيث يكون هلوعًا جزوعًا منوعًا. فدلت الآية على جواز البيع واشتراط التراضي من المتعاقدين وأنه لا يصح من مكره بلا حق. ودلت على اشتراط الإيجاب والقبول. ولا ريب أن الناس يتبايعون بالمعاطاة في كل عصر. ولم ينكر فكان إجماعًا. ولما كان الرضى أمرًا خفيًا لا يطلع عليه. وجب تعلق الحكم بسبب ظاهر. يدل عليه وهو الصيغة القولية أو الفعلية. واختار الشيخ وغيره صحة البيع بكل ما عده الناس بيعًا من متعاقب أو متراخ من قول أو فعل. (وقال: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى} الآية) أي اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحفظهم أموالهم. وتمام الآية: {حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} أي الحلم. والجمهور أن البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم. وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق. وفي الحديث "رفع القلم عن ثلاثة الصبي حتى يحتلم" أو يستكمل خمس عشرة سنة. لما في الصحيحين عن ابن عمر: عرضت يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني وعرضت يوم الخندق

وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. أو ينبت. لعرضهم يوم قريظة فمن أنبت قتل ومن لم ينبت لم يقتل. وتزيد الجارية بوجود الحيض {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا} صلاحًا في دينهم ومالهم {فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فيشترط في صحة البيع أن يكون العاقد جائز التصرف. فإنه لا يصح تصرف صبي ولا سفيه بغير إذن ولي. (وقال: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم} أي لا يأكل بعضكم مال بعض {بِالْبَاطِلِ} أي من غير الوجه الذي أباحه الله. وأصل الباطل الشيء الذاهب. والأكل بالباطل أنواع كثيرة. وقال أيضًا في الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} فنهى تعالى عن أكل بعضنا أموال بعض بأي نوع من أنواع المكاسب غير الشرعية كالربا والقمار، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل، والأسباب المحرمة في اكتساب الأموال. (وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم} أي بين ووضح لكم {مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وأكثر المفسرين أن المراد قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية. إلا أن الآية مكية. وآية المائدة مدنية. ولما كان في الترتيب لا في النزول. حسن عود الضمير إلى ما هو متقدم في الترتيب. وقيل المراد {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية. وإن كانت بعدها بقليل. فلا يمنع أن تكون هي المراد. والآية أعم من ذلك.

وقد اعتنى الشارع بتوضيح البيوعات الفاسدة لأنه يحتاج إلى بيانها لكونها على خلاف الأصل. لا البيوعات الصحيحة اكتفاء بالعمل فيها بالأصل. وعموم الآية يدل على أنه يجب اجتناب ما حرم من البيوعات، فيشترط لصحة البيع أن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة كما سيأتي. (وقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ} وهو كل مسكر من أي شيء كان لقوله - صلى الله عليه وسلم - "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" وسميت الخمر خمرًا لمخامرتها العقل {وَالْمَيْسِرُ} أي القمار ومنه الشطرنج. وكل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب والبيض {وَالأَنصَابُ} أي الأوثان سميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها {وَالأَزْلاَمُ} يعني القداح التي كانوا يستقسمون بها {رِجْسٌ} أي خبيث مستقذر {مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} من تزيينه {فَاجْتَنِبُوهُ} أبلغ من اتركوه. فإن اتركوا لعدم الفعل. واجتنبوا تقتضي الترك والمباعدة والمجانبة {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}، أما الخمر فإنهم إذا سكروا عربدوا وتشاجروا. وأما الميسر فيبقى المقمور مسلوب المال مغتاظًا. ثم قال تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ} أي يلهيكم عن ذكر الله ويشوش عليكم صلواتكم {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون} وهذا تهديد وترهيب وزجر عن تعاطي تلك

المحرمات. وانتظمت هذه الآيات عدة من شروط صحة البيع. (وعن رفاعة بن رافع) بن خديج الزرقي الأنصاري هو وأبوه صحابيان شهد رفاعة المشاهد كلها والجمل وصفين. وتوفي أول زمن معاوية. ورافع أحد النقباء وأول من قدم المدينة بسورة يوسف -رضي الله عنهما- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل أي الكسب أطيب) وذلك أن منزلة الرزق من الكسب كمنزلة الشبع من الطعام (قال: عمل الرجل بيده) من جهاد وحراثة ونجارة وخياطة وغير ذلك. وكذا عمل المرأة في بيتها. وغيره مما لا محذور فيه (وكل بيع مبرور) وهو ما خلص من اليمين الفاجرة لتنفيق السلعة. وعن الغش. والحيل في المعاملة، وعن أبي سعيد مرفوعًا "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين" حسنه الترمذي. وحديث الباب (رواه أحمد) والبزار وغيره وصححه الحاكم وفيهما دليل على فضل الإتجار. ولأحمد عن أبي بردة بن نيار سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الكسب قال "بيع مبرور وعمل الرجل بيده" وفيها دلالة على تقرير ما جبلت عليه النفوس من طلب المكاسب. وإنما سئل عن أطيبها أي أحلها وأبركها. وقدم في حديث رافع عمل اليد على البيع المبرور. فهو دال على أنه الأفضل. ويدل له ما رواه البخاري "أن داود كان يأكل من عمل يده".

وأشرفها ما يكسب من أموال الكفار بالجهاد. فهو مكسب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولما فيه من إعلاء كلمة الله. ثم من الزراعة لم تشتمل عليه من عمل اليد. والتوكل على الله. والنفع العام. وقدم في حديث أبي بردة الإتجار. وصوب الجمهور عمل اليد على الاتجار. وفي الاتجار فضل عظيم. لا سيما إن كان ممن يتقي الله ويتسامح. ففي الصحيح "رحم الله امرءًا سمحًا إذا باع سمحًا إذا ابتاع سمحًا إذا اشترى" ولأحمد "أدخل الله الجنة رجلًا سهلًا بائعًا سهلًا مشتريًا" وفي الصحيحين "تجاوز الله عمن يتجاوز عن الناس" ولمسلم "غفر لمن ينظر المعسر" وقال أحمد: الزم السوق تصل به الرحم وتعود به على نفسك. وقال لا ينبغي له أن يدع العمل. وينتظر ما بيد الناس. وقال عمن فعل هذا: هم مبتدعة قوم سوء يريدون تعطيل الدنيا. (وعن أبي سعيد مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (إنما البيع) أي اللازم بالعقد ما كان (عن تراض) أي من المتعاقدين بأن يأتيا به اختيارًا ظاهرًا وباطنًا (رواه ابن ماجه) وتقدم قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} وأنه أحد شروط البيع وأنه لا يصح من مكره بلا حق. فإن أكرهه الحاكم على بيع ما له لوفاء دينه صح لأنه حمل عليه بحق. وإن أكره على مقدار من المال فباع ملكه لأجل ذلك كره الشراء منه وصح. لأنه غير مكره عليه. هذا مذهب أحمد

ويسمى بيع المضطر. واختار الشيخ الصحة من غير كراهة. فلو امتنع الناس من الشراء منه لكان أشد ضررًا عليه. قال ومن استولى على ملك إنسان بلا حق. ومنعه إياه حتى يبيعه له على هذا الوجه فهذا مكره بغير حق. فلا يصح بيعه لأنه ملجأ إليه. اهـ. وإن لم يقصدا البيع بل أظهراه تلجئة خوفًا من ظالم ونحوه لم يصح. وكذا بيع هازل. وبيع الأمانة الذي هو في معنى القرض بعوض. وسئل أحمد عن رجل مقر بالعبودية حتى يباع يؤخذ البائع والمقر بالثمن. فإن مات أحدهما أو غاب أخذ الآخر بالثمن. واختاره الشيخ. وصوبه في الإنصاف. وفي الفروع يتوجه في كل غار. ولو أقر أنه عبده فكبيع. (وعن جابر) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله حرم بيع الخمر) وفي رواية أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم عام الفتح في رمضان سنة ثمان وهو بمكة "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر" وهو كل مسكر (و) حرم بيع (الميتة) وهي ما زالت عنه الحياة لا بزكاة شرعية. وحكى ابن المنذر الإجماع على تحريم بيع الميتة (و) حرم بيع (الخنزير) وقد حرم على لسان كل نبي. وحكى الحافظ الإجماع على تحريم بيعه بجميع أجزائه. ولأبي داود حرم الخمر وثمنها وحرم الخنزير وثمنه" (والأصنام) والصنم ما كان مصورًا. ويقال الصنم الوثن وقيل الوثن ما له جثة. وسماها رجسًا لأن وجوب تجنبها أوكد

من وجوب تجنب الرجس. وعبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات. (فقيل أرأيت شحوم الميتة) أي أخبرني عن الشحوم هل تخص من التحريم لنفعها. وذكر ثلاث المنافع فقال (فإنه يطلى بها السفن) أي تدهن بها وتلطخ لئلا يفسدها الماء (ويدهن بها الجلود) لتلين بذلك الدهان (ويستصبح بها الناس) الاستصباح استفعال من المصباح وهو السراج الذي يشعل منه. أي يجعلونها في سرجهم ومصابيحهم يستنيرون بها. أي فهل يجوز بيعها لما ذكر من المنافع. فإنها مقتضية لصحة البيع (فقال لا هو حرام) غير خارجة عن الحكم أي بيع الشحوم حرام. ولأحمد فما ترى في بيع شحوم الميتة (ثم قال عند ذلك) أي عند سؤالهم عن منافع شحوم الميتة التي تستعمل فيه دون الأكل. (قاتل الله اليهود) أي لعنهم الله كما في غير ما حديث. يقال في مقام الدعاء على المدعو عليه (إن الله لما حرم شحومها) أي شحوم الميتة (جملوه) أي أذابوه. يقال جمله إذا أذابه. والجميل الشحم المذاب (ثم باعوه) وللبخاري "جملوها ثم باعوها" (فأكلوا ثمنه) أي ثمن ما جملوه من الشحوم المحرمة عليهم (متفق عليه) وجوز بعض أهل العلم الاستصباح بالأدهان المتنجسة في غير مسجد. واختار الشيخ. لا ينجس العين مطلقًا.

وما تنجس من الأشياء الطاهرة فالجمهور على الجواز. والعلة في تحريم بيع الخنزير والميتة هي النجاسة عند جمهور العلماء. فيتعدى ذلك إلى كل نجاسة. وأما الأصنام فالعلة عدم المنفعة المباحة. فإن كان ينتفع بها بعد الكسر جاز عند بعضهم. ومنعه الأكثر. وعن ابن عباس مرفوعًا "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها. وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه" رواه أبو داود. وروى ابن بطة "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" وفيه دليل على تحريم الحيل والوسائل إلى المحرم. وإبطال ذلك. وأن كل ما حرم الله على العباد فبيعه حرام لتحريم ثمنه. فلا يخرج من هذه الكلية إلا ما خصه دليل كالجلد المدبوغ وتقدم. (ولهما) أي البخاري ومسلم ورواه الخمسة وغيرهم (عن أبي مسعود) عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال (نهى - صلى الله عليه وسلم -) (أي أتى بعبارة تفيد النهي وإن لم يذكرها. وبدأ بالنهي (عن ثمن الكلب) معلمًا كان أو غيره مما يجوز اقتناؤه أو لا يجوز. وهذا مذهب جمهور العلماء. والنص على تحريم ثمنه يدل باللزوم على تحريم بيعه. وروي "إلا كلب صيد". وقال الحافظ لا يصح. (و) نهى عن (مهر البغي) بتشديد الياء. وهو ما

تأخذه الزانية في مقابل زناها. وسماه مهرًا لكونه على صورته. وأجمعوا على تحريمه وأصل البغي الطلب. غير أنه أكثر ما يستعمل في الفساد. وذكر ابن القيم أنه في جميع كيفياته يجب التصدق به. ولا يرد إلى الدافع. لأنه دفعه باختياره في مقابل عوض لا يمكن صاحب العوض استرجاعه. فهو كسب خبيث يجب التصدق به. ولا يعان صاحب المعصية على حصول غرضه. واسترجاع ماله. (و) نهى عن (حلوان الكاهن) مصدر حلوته حلوانًا إذا أعطيته. وأصله من الحلاوة. شبه بالشيء الحلو من حيث أنه يؤخذ سهلًا بلا كلفة. وأجمعوا على تحريم حلوان الكاهن. والكاهن الذي يدعي علم الغيب. ويخبر الناس عن الكوائن من منجم وغيره. فلا يحل له ما يعطاه. ولا يحل لأحد تصديقه فيما يتعاطاه ولهما أيضًا من حديث أبي جحيفة "نهى عن ثمن الدم" قيل نفس الدم وهو حرام بالإجماع. وقيل أجرة الحجام "وثمن الكلب وكسب البغي" ولأحمد وأبي داود من حديث ابن عباس "إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا" وجاء في مسلم "وثمن السنور" وإن كان الجمهور على إباحته لأنه طاهر العين مباح النفع. فقال أحمد وغيره لا يجوز بيعه للنهي عن ثمنه. واختاره ابن القيم وابن رجب وغيرهما. (وللبخاري عن أبي هريرة مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه

قال (قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة) ولابن حبان وغيره "ومن كنت خصمه خصمته" قال: (ومنهم رجل باع حرًا فأكل ثمنه) قال ابن الجوزي الحرعبد الله فمن جنى عليه فخصمه سيده ولأبي داود من حديث ابن عمر "ورجل اعتبد محررًا" كأنه يعتقه ثم يكتم عتقه، أو يستخدمه كرهًا بعد. قال الحافظ وحديث أبي هريرة أشد لأن فيه مع كتم العتق أو جحده العمل بمقتضى ذلك من البيع وأكل الثمن. وأريد التشديد على هؤلاء بالتصريح. وإلا فهو تعالى خصم لجميع الظالمين. قال المهلب إنما كان إثمه شديدًا لأن المسلمين أكفاء في الحرية. فمن باع حرًا فقد منعه التصرف فيما أباح الله له. وألزمه الذل الذي أنقذه الله منه. وقال ابن المنذر لم يختلفوا في أن من باع حرًا أنه لا قطع عليه. يعني إذا لم يسرقه من حر مثله. إلا ما يروى عن علي. وكان في بيعه خلاف. ثم ارتفع. واستقر الإجماع على المنع منه. قال "ورجل أعطى بي ثم غدر". أي عاهد عهدًا وحلف عليه بالله ثم نقضه. والثالث "رجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره". (وعن جابر نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء) أي الفاضل عن كفاية صاحبه سواء كان في أرض مباحة أو مملوكة للشرب أو غيره لحاجة الماشية أو الزرع في فلاة وغيرها. وقال - صلى الله عليه وسلم - "لا تمنعوا فضل الماء" وهو عند الجمهور محمول على ماء البئر المحفورة في الأرض المملوكة أو في الموات لقصد

التملك وإما لقصد الارتفاق فالحافر لا يملك ماءها بل يكون أحق به إلى أن يرتحل. وفي الصورتين يجب عليه بذل ما يفضل عن حاجته وعلله الشارع أيضاً بكونه ذريعة إلى منع فضل الكلأ لأن صاحب المواشي إذا لم يمكنه الشرب من ذلك الماء لم يتمكن من المرعى الذي حوله. ولمسلم أيضاً من حديث أبي هريرة نحوه. ويأتي قوله "الناس شركاء في ثلاث فى الماء والكلأ والنار" وخص من العموم ما كان محرزاً في آنية ونحوها قياساً على جواز الاحتطاب. وكذلك بيع البئر والعين. فإنه جائز. وفي الاختيارات من ملك ماءً نابعاً كبئر محفورة في ملكه أو عين ماء في أرضه فله بيع البئر والعين جميعاً. ويجوز بيع بعضها مشاعاً. وإن كان أصل القناة في أرض مباحة. فكيف إذا كان في أرضه. قال الشيخ وهذا لا أعلم فيه نزاعاً. وإنما تنازعوا فيما لو باع الماء دون القرار. وفي الصحة قولان. ومذهب مالك والحنفية الصحة. ونص الشافعي على أنه يملك. لما يأتي من قوله - صلى الله عليه وسلم - "من يشتري بئر رومة". ومن احتفر بئراً أو نهراً ونحوه فهو أحق بمائه. وحديث الباب يدل على جواز بيع الماء لأنه منع الفضل لا منع الأصل ومحل النهي إذا لم يجد المأمور له بالبذل ماء غيره. فلا يمنع الفضل عن غيره. ولما رواه أبو داود وغيره مرفوعاً سئل ما الشيء الذي لا يحل منعه قال "الماء" وذكر الملح ومثله الكلأ.

قال ابن القيم ويجوز دخول الأرض المملوكة لأخذ الماء والكلأ لأن له حقاً في ذلك. ولا يمنعه استعمال ملك الغير نص عليه أحمد. لأنه ليس له منعه من الدخول. بل يجب عليه تمكينه. ويحرم منعه. فلا يتوقف دخوله على الأذن إنما يحتاج إليه في الدار إذا كان فيها سكن. (و) نهي (عن بيع ضراب الجمل. رواه مسلم) ورواه أهل السنن وغيرهم. وصححه الترمذي وغيره. وللبخاري من حديث ابن عمر "نهى عن عسب الفحل" وهو أن يستأجر فحل الإبل أو البقر أو الغنم أو غيرها لينزو على الإناث وعسبه ضرابه والمراد نهي عن أجرة ضراب الجمل. فدل على تحريم استئجار الفحل للضراب. والأجرة حرام. لأن ماء الفحل غير متقوم. ولا معلوم. ولا مقدور على تسليمه. وهذا مذهب الجمهور. وأما عارية ذلك فلا خلاف في جوازه. وللترمذي إنا نطرق الفحل فنكرم "فرخص له في الكرامة" ولابن حبان "من أطرق فرسًا فأعقب كان له كأجر سبعين فرسًا" فينبغي إطراق الفحل جملًا كان أو غيره. (وعن حكيم بن حزام مرفوعًا قال لا تبع ما ليس عندك) وذلك أنه قال يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم ابتاعه من السوق. فقال "لا تبع ما ليس عندك" (رواه الخمسة وصححه الترمذي) وأخرجه ابن حبان في صحيحه. وقد روي من غير وجه. ولهم

عن عمرو بن شعيب مرفوعًا "لا يحل سلف وبيع. ولا بيع ما ليس عندك" وصححه الترمذي وغيره. والمعنى ما ليس في ملكك وحوزتك وقدرتك. كالعبد الآبق. والطير في الهواء والسمك في الماء. قال ابن القيم كنهيه عن بيع الغرر. لأنه إذا باع ما ليس عنده فليس على ثقة من حصوله. قد يحصل له وقد لا يحصل فيكون غررًا. اهـ. وعند: لغة تستعمل في الحاضر القريب. وما في حوزتك. وإن كان بعيدًا. فالمراد ليس حاضرًا عندك ولا غائبا في ملكك. وتحت حوزتك. وقال البغوي وغيره النهي في هذا الحديث عن بيوع الأعيان التي لا يملكها. أما بيع شيء موصوف في ذمته فيجوز فيه السلم بشروطه. فظاهر النهي تحريم ما لم يكن من الأعيان في ملك الإنسان. ولا داخلًا تحت مقدرته. سوى الموصوف في الذمة. وقال الوزير وغيره اتفقوا على أنه لا يجوز بيع ما ليس عنده. ولا في ملكه. ثم يمضي فيشتريه له. وأنه باطل. قال الشيخ إنما يفعله لقصد التجارة والربح فيبيعه بسعر ويشتريه بأرخص ويلزمه تسليمه في الحال. وقد يقدر عليه وقد لا يقدر عليه. وقد لا تحصل له تلك السلعة إلا بثمن أعلى مما تسلف فيندم. وإن حصلت بسعر أرخص ندم المسلف. إذا كان يمكنه أن يشتريه هو بذلك السعر.

فصار هذا من نوع الميسر والقمار والمخاطرة. وأما مخاطرة التجارة فيشتري السلعة بقصد أن يبيعها بربح ويتوكل على الله في ذلك. فهذا الذي أحله الله. اهـ. وإن باع ملك غيره بغير إذنه أو اشترى بعين ماله بلا إذنه لم يصح وحكي اتفاقًا. وقال الشيخ: من وكل في بيع أو استئجار أو شراء فلم يسم الموكل في العقد فضامن. ومن ادعى بعد البيع أن البيع لغيره وأنه فضولي أو غاصب لم يقبل منه. ولا تسمع بينته على ذلك. فإن أقام المقر له البينة بالملك سمعت. فإن لم تكن له بينة حلف المشتري أنه لا يعلم مالكًا سوى البائع. وفي قصة: أصحاب الغار. وتنميته أجرة المستأجر لأجيره دليل على جواز تصرف الرجل في مال الغير. الأجير وغيره بغير إذنه. وهو تصرف الفضولي وما فتح عنوة فقال بعض أهل العلم لا يباع غير المساكن مما فتح عنوة كأرض الشام ومصر العراق. لأن عمر وقفها على المسلمين. وفي الاختيارات يصح بيع ما فتح عنوة ولم يقسم من أرض الشام ومصر والعراق. ويكون في يد مشتريه بخراجه. قال الشيخ: ومعنى وقفها إقرارها على حالها وضرب الخراج عليها مستمرًا في رقبتها. وليس معناه الوقف الذي يمنع من نقل الملك في الرقبة. بل يجوز بيعها كما هو عمل الأمة. ومن اشتراها صارت عنده خراجية. وذكر أنها تنتقل بالبيع في أصح قولي العلماء. وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولي

الشافعي والمؤثر بها أحق بها بلا خلاف. اهـ. بخلاف ما فتح صلحًا فيصح عند الجمهور. ويجوز بيع رباع مكة. وهو أظهر في الحجة. واختيار الشيخ وتلميذه. لأنه إنما يستحق التقدم على غيره بهذه المنفعة. واختص بها لسبقه وحاجته. وجواز البيع لوروده على المحل الذي كان البائع اختص به عن غيره. وهو البناء. فلو زال لم يكن له أن يبيع الأرض كما أنه ليس له أن يؤجرها وله أن يبنيها ويعيدها كما كانت وهو أحق بها يسكنها ويسكن فيها من شاء. وكانوا يتبايعونها قبل الإسلام وبعده بلا نزاع. بخلاف بقاع المناسك فلا يجوز قال في الإنصاف بلا نزاع. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (نهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة) قيل هو أن يقوم ارم بهذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت عليه فهو لك بدرهم. وقيل أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة. أو أن يعترض القطيع من الغنم فيأخذ حصاة ويقول أي شاة أصابتها فهي لك بكذا. وكل هذا ونحوه متضمن لبيع الغرر. لما في الثمن أو المبيع من الجهالة. ولفظ الغرر يشملها. وإنما أفردت لكونها كانت مما يبتاعها أهل الجاهلية. فنهى - صلى الله عليه وسلم - عنها. وأضيف البيع إلى الحصاة للملابسة لاعتبار الحصاة فيه. (و) نهى (عن بيع الغرر) وهو ما لا تعلم عاقبته من

الخطر الذي لا يدري أيكون أم لا. بمعنى مغرور اسم مفعول. وإضافة المصدر إليه من إضافته إلى المفعول. ومعناه أيضًا الخداع الذي هو مظنة أن لا يرضى به عند تحققه. فيكون من أكل المال بالباطل (رواه مسلم) وجاء النهي عنه في أحاديث كثيرة ومن جملة بيع الغرر المنهي عنه بيع السمك في الماء والطير في الهواء. وهو مجمع عليه. ما لم يألف الرجوع. وفي الفنون هو قول الجماعة ومن شروط البيع القدرة على التسليم. وعدم القدرة على التسليم غرر. قال الخطابي أصل الغرر ما طوي عنك علمه وخفي عنك باطنه. وكل بيع كان المقصود منه مجهولًا غير معلوم. أو معجوزًا عنه غير مقدور عليه. فهو غرر. وإنما نهي عنه تحصينًا للأموال أن تضيع. وقطعًا للخصومة بين الناس. قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه لا يجوز بيع الغرر كالشارد والآبق والطير في الهواء والسمك في الماء ونحو ذلك. وقال النووي وغيره النهي عن بيع الغرر أصل من أصول الشرع يدخل تحته مسائل كثيرة جدًا. وقال الشيخ كل بيع غرر مثل الطير في الهواء والشارد والآبق والثمرة قبل بدو صلاحها. وبيع الحصاة من الميسر الذي حرمه الله لأنه إن قدر عليه كان المشتري قد قمر البائع حيث أخذ ماله بدون قيمته. وإن لم يقدر عليه كان البائع قد قمر المشتري وفي كل منهما أكل مال بالباطل فهو قمار. اهـ. ويستثنى منه ما يدخل في المبيع تبعاً بحيث لو أفرد لم يصح

بيعه. وما يتسامح بمثله: إما لحقارته أو للمشقة في تمييزه وتعيينه كأساسات البنيان. واللبن في ضرع الدابة. والحمل في بطنها. والقطن المحشو في الجبة. فإن ذلك مجمع عليه. وكإجارة الدار والدابة شهراً. مع أنه قد يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين. ودخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء. وقدر مكثهم. وعلى جواز الشرب في السقاء بالعوض مع الجهالة. (ولهما عن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (نهى) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عن بيع حبل الحبلة) بفتح الحاء والباء فيهما. قال أحمد والترمذي وأكثر أهل اللغة هو بيع ولد الناقة الحامل. قال والعمل عليه عند أهل العلم. لكونه معدومًا ومجهولًا وغير مقدور على تسليمه. فهو من بيع الغرر. وفسر بما وقع في بعض الروايات لابن عمر أو نافع كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج ثم تنتج التي في بطنها. وذهب إليه جماعة من أهل العلم. وأما بيع اللبن في الضرع فقال الشيخ إن كان موصوفًا في الذمة واشترط كونه من هذه الشاة أو البقرة صح. واستدل بخبر نهي أن يسلم في حائط إلا أن يكون قد بدا صلاحه. واختار هو وابن القيم جواز بيع المسك في فأرته. لأنها وعاء له يصونه أشبه بيع ما مأكوله في جوفه كرمان. وتجاره يعرفونه. وجواز بيع فجل ونحوه مغروس في الأرض يظهر ورقه. وصوباه

لوجوه: منها أنه ليس من التغرير. وأهل الخبرة يستدلون بظواهره على بواطنه. (وفيهما عن أبي سعيد نهي) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عن الملامسة) يعني في البيع. ولمسلم من حديث أبي هريرة "أن يلمس كل منهما ثوب صاحبه من غير تأمل" وللنسائي "هي أن يقول الرجل للرجل أبيعك ثوبي بثوبك. ولا ينظر أحد منهما إلى ثوب الآخر" ولكنه يلمسه. وأخرج أحمد عن عبد الرزاق عن معمر: الملامسة أن يلمس الثوب بيده ولا ينشره ولا يقلبه فإذا مسه وجب البيع. قال الحافظ وتفسير أبي هريرة اقعد بلفظ الملامسة. لأنها مفاعلة فتستدعي وجود الفعل والعلة الغرر والجهالة وإبطال خيار المجلس. (و) نهى عن (المنابذة) في البيع قال أبو هريرة "أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر لم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه" وللنسائي "أن يقول أنبذ ما معي وتنبذ ما معك فيشتري كل واحد من الآخر. ولا يدري كم مع الآخر". وتمام حديث أبي سعيد "والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بالليل أو بالنهار ولا يقلبه والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه وينبذ بثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض" والعلة الغرر. وأجمعوا على تحريمه وهو ظاهر الخبر. وقال الوزير اتفقوا على أن بيع الحصاة والملامسة والمنابذة باطل. وفيه أنه لا

يصح بيع الغائب. ومذهب مالك وأحمد وجماعة إن وصفه صح. قال الشيخ وهذا أعدل الأقوال. وقال الوزير إذا رأياها ثم تبايعا جاز ولا خيار للمشتري إذا رآها على الصفة التي كان عرفها. فإن تغيرت فله الخيار. وكذا الأعمى إن وصف له صح. (وللترمذي وصححه عن جابر: ونهى) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عن الثنيا) أي الاستثناء المجهول. كأن يقول بعتك هذه الصبرة إلا بعضها أو هذه الأشجار أو الأغنام أو الثياب ونحوها إلا بعضها. لم يصح البيع للجهالة (إلا أن تعلم) يعني الثنيا فيصح البيع. قال في الإنصاف بلا نزاع. ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم. ورواه مسلم بلفظ "نهى عن الثنيا" وزادوا "إلا أن تعلم" والمراد بها الاستثناء في البيع. نحو أن يبيع الرجل شيئًا ويستثني بعضه. فإن كان الذي استثناه معلومًا نحو أن يستثنى واحدة من الأشجار معلومة أو منزلاً من المنازل معلومًا أو موضوعًا معلومًا من الأرض أو شاة معلومة من القطيع صح باتفاق أهل العلم. وإن كان مجهولًا نحو أن يستثني شيئًا غير معلوم لم يصح البيع لما فيه من الجهالة والغرر وإن استثنى من حيوان يؤكل رأسه وجلده وأطرافه صح. قال الشيخ ويصح بيع جلده وحده وبيعه مع جلده جميعًا كما قبل الذبح. لا استثناء الشحم ونحوه للجهالة.

ويصح بيع ما مأكوله في جوفه كبطيخ ورمان وحمص ونحوه في قشره. وطلع قبل تشققه. وحب منعقد في سنبله. وأما الجهالة في الثمن فغرر. واشترط أهل العلم أن يكون الثمن معلومًا. وإن باعه بما ينقطع به السعر أو كما يبيع الناس فقال الشيخ يصح وهو أطيب لنفس المشتري من المساومة. وصوبه ابن القيم. وذكر أنه عمل الناس. وليس في الشرع ما يحرمه والمانعون منه يفعلونه. ولا تقوم المصالح إلا به. (وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (قال كانوا يتبايعون الطعام جزافًا) بتثليث الجيم والكسر أفصح. والجزاف هو ما لم يعلم قدره على التفصيل (فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه حتى ينقلوه متفق عليه) ويأتي الكلام في نقله والتصرف فيه قبل قبضه جزافًا كان أو غيره. طعامًا أو غيره. والحديث دل على جواز بيع الصبرة جزافًا مع جهل المتبايعين بقدرها. وقال الموفق لا نعلم فيه خلافًا ولأنه معلوم بالرؤية فصح بيعه كالثياب والحيوان. ولا يضر عدم مشاهدة باطن الصبرة. فإن ذلك يشق ولكون الحب ونحوه يعلم برؤية ظاهره. ولا يحتاج إلى معرفة قدرها مع المشاهدة لأنه علم ما اشترى بأبلغ الطرق وهو الرؤية. وكذا لو قال بعتك نصفها أو جزءًا منها معلومًا لأن ما جاز بيعه جملة جاز بيع بعضه. كالحيوان. ولا فرق بين الأثمان والمثمنات في صحة بيعها جزافًا عند الجمهور.

فصل فيما نهي عنه

فإن كان يعلم قدر الصبرة لم يجز بيعها جزافًا. وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما من السلف. قال مالك لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك. قال القاضي وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافًا حتى يبينه" ولأن البائع لا يعدل إلى البيع جزافًا مع علمه بقدر الكيل إلا للتغرير. وأجاز بعضهم بيع صبرة علما كيلها. وإن أعلمه البائع بالكيل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سميت الكيل فكل" وإن باع الأدهان ونحوها في ظروفها جملة وقد شاهدها جاز لأن أجزاءه لا تختلف فهو كالصبرة. * * * فصل فيما نهي عنه يعني من البيوع. ووقته والبيع على بيع أخيه والتسعير والاحتكار وغير ذلك. (قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ} أذن لها {مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وهو النداء الثاني الذي عقب جلوس الإمام على المنبر لأنه الذي كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختص به الحكم {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} اهتموا في سيركم إليها. وليس المراد المشي السريع كما تقدم {وَذَرُوا الْبَيْعَ} أي اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع يعني المعاملة. فإنها حينئذ حرام إذا نودي للصلاة.

نهى تعالى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضور الجمعة. والنهي يقتضي الفساد. وكالبيع الشراء لأن اسم البيع يتناولهما جميعًا. وخص لأنه من أهم ما يشتغل به المرء من أسباب المعاش. وكذا يحرم البيع قبل النداء لمن منزله بعيد في وقت وجوب السعي عليه. وهو الوقت الذي يمكنه إدراكها فيه. وتحرم المساومة والمناداة إذًا. وكذا لو تضايق وقت مكتوبة. وتقييده بالجمعة يفهم منه صحته لغيرها. ويحرم إذا فاتته الجماعة وتعذر عليه جماعة أخرى {ذَلِكُمْ} الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع {خَيْرٌ لَّكُمْ} من المبايعة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} مصالح أنفسكم. (وعن بريدة مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من حبس العنب) ثمر الكرم أيام القطاف التي يقطف فيها الثمر (حتى يبيعه ممن يتخذه خمرًا) أي: عصير العنب (فقد تقحم النار على بصيرة) أي على علم بالسبب الموجب لدخول النار. وهذا وعيد شديد يوجب تحريم الفعل (حسنه الحافظ) ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان. ولفظه "ممن يُعلم أنه يتخذه خمرًا" وفي السنن وغيرها "لعن بائع الخمرة" ولعنت على عشرة وجوه. وتحريم بيع العنب ممن يتخذه خمرًا مع القصد محرم إجماعًا. ويكره مع عدم القصد إذا شك في اتخاذه خمرًا وإلا جاز بلا كراهة. ويقاس على ذلك كل ما يستعان به في معصية لقوله

تعالى {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وأما ما لا يفعل إلا في المعصية كالمزامير والطنابير ونحوها فلا يجوز بيعها ولا شراؤها إجماعًا. ولا يجوز بيع السلاح والكراع من الكفار والبغاة إذا كانوا يستعينون به على حرب المسلمين أو من قطاع الطريق. ولا بيع سلاح في فتنة. لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عنه. ولا يجوز بيع مأكول ومشموم لمن يشرب عليها الخمر. ولا قدح لمن يشربه به. ولا جوز وبيض لقمار. ويحرم أكله ونحو ذلك. قال الشيخ وغيره لا يصح ما قصد به الحرام. أو ظن في أحد القولين للنهي عن بيع القينات المغنِّيات. وقال ابن القيم القصود في العقود معتبرة تؤثر في صحة العقد وفساده. وفي حله وحرمته. فعصر العنب بنية أن يكون خمرًا معصية. وخلًا ودبسًا جائز. والسلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلمًا حرام باطل. ولمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله طاعة وقربة ا. هـ. ولا يصح بيع عبد مسلم لكافر إذا لم يعتق عليه. وإن أسلم في يده أجبر على إزالة ملكه عنه. لقوله تعالى:. {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا}. (وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يبعْ الرجل على بيع أخيه) ولهما أيضاً "لا يبع بعضكم على بيع بعض" والبيع يشمل البيع والشراء ومعنى بيع الرجل على بيع أخيه أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة أنا أعطيك مثلها بتسعة, وشرائه على شرائه أن يقول لمن باع سلعة بتسعة عندي فيها عشرة ليفسخ المقول

له العقد. ويعقد معه. ومحل ذلك إذا وقع في زمن الخيارين عند بعض أهل العلم. وقال الشيخ ولو بعده. لأنه ربما أشغله واحتج عليه بشيء. وقال ابن رجب يحرم مطلقاً. وهو ظاهر النص. واتفق أهل العلم على كراهته. وأبطله مالك. وقال الحافظ لا خلاف في التحريم. قال الشيخ يحرم الشراء على شراء أخيه. وإذا فعل كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة. وأخذ السلعة أو عوضها (ولا يسم) بضم السين وروي بإثبات الواو وإثبات الياء. في يبع ويسم (على سومه. متفق عليه) والمراد بعد الرضى صريحاً واستقرار الثمن. وركون أحدهما إلى الآخر. ويأخذه ليشتريه. فيقول للمستام رده لأبيعك خيراً منه بثمنه أو مثله بأرخص. أو يقول للمالك استرده لأشتريه منك بأكثر. وإن كان تصريحاً فقال الحافظ لا خلاف في التحريم. والجمهور على أنه يصح البيع. واشترط الركون. لأنه لا بد من أمر بين لموضع التحريم في السوم. لأن السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد لا يحرم بالاتفاق لما في السنن "من يزيد على درهم" وفي الصحيحين في خبر المدبر "من يشتريه مني" عرضه للزيادة. ولا بعد رد لعدم المحذور. والإجارة ونحوها كالبيع لأنه ذريعة إلى التباغض والتعادي. (وعن العالية) جدة إسرائيل وزوجة أبي إسحاق إحدى

التابعيات. سمعت من عائشة وغيرها. قال ابن القيم امرأة معروفة لا يعرف أحد قدح فيها (أن أم ولد زيد بن أرقم) الأنصاري (باعت غلامًا منه) أي من زيد بن أرقم (بثمانمائة إلى العطاء) وللدارقطني نسيئة (ثم اشترته) أي من زيد بن أرقم (بستمائة درهم) نقدًا وأخبرت عائشة بذلك (فقالت عائشة) –رضي الله عنها- (بئسما شريت وبئسما اشتريت) أي ملكت بهذا البيع (رواه أحمد) وعمل به والدارقطني. وقال ابن القيم محفوظ وآثار الصحابة موافقة له. مشتقة منه. مفسرة له. وتمامه "أخبريه أن جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بطل. إلا أن يتوب" فدل على أنه لا يجوز لمن باع شيئًا بثمن نسيئة أن يشتريه من المشتري بدون ذلك الثمن نقدًا قبل قبض الثمن الأول. فإن كان المقصود التحيل لأخذ النقد في الحال ورد أكثر منه بعد أيام فلا ريب أن ذلك من الربا المحرم وهو صورة من صور العينة. ولذلك صرحت بأن هذا الفعل موجب لبطلان الجهاد لثبوت تحريم الربا الشامل لمثل هذه الصورة. وقول عائشة –رضي الله عنها- يدل على أنها قد علمت ذلك بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما على وجه العموم كالآيات والأحاديث القاضية بتحريم الربا الشامل لمثل هذه الصورة أو على الخصوص كأحاديث العينة. ولأبي داود وغيره عن ابن عمر مرفوعًا "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى

دينكم" قال الحافظ رجاله ثقات وقد ورد النهي عن العينة من طرق. وهي بيع السلعة بثمن إلى أجل ثم اشتراؤها منه بأقل من ذلك سميت عينة لحصول النقد لصاحب العين لأن العين هو المال الحاضر. والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ليصل به إلى مقصوده. ومذهب جمهور العلماء تحريمها واستدل ابن القيم وغيره أيضًا على عدم جواز العينة بقوله - صلى الله عليه وسلم - "يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع" قال وإن كان مرسلًا فله من المسندات ما يشهد له. وهي الأحاديث الدالة على تحريم العينة. ولو لم يأت فيها أثر لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة: تحريمها أعظم من تحريم الربا فإنها ربا مستحل بأدنى الحيل. فإنه من المعلوم أن العينة عند من يستعملها إنما يسميها بيعًا. وقد اتفقوا على تحريم الربا الصريح قبل العقد. ثم غير اسمها إلى المعاملة. وصورتها إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه البتة. وإنما هو حيلة ومكر وخديعة الله تعالى. فمن أسهل الحيل على من أراد فعله أن يعطيه مثلًا ألفًا إلا درهمًا باسم القرض. ويبيعه خرقة تساوي درهمًا بخمسمائة درهم. وقوله - صلى الله عليه وسلم - "إنما الأعمال بالنيات" أصل في إبطال الحيل وتحريم كل بيع بنقد دون ما باع به نسيئة. وقال ابن القيم إذا

كان الطريق إلى الحلال هي العقود المقصود المشروعة التي لا خداع فيها ولا تحريم. لم يصح أن يلحق بها صورة عقد لم تقصد حقيقته. وإنما قصد التوصل إلى استحلال ما حرمه الله. قال وجماع الأمر أنه إذا باعه ربويًا بثمن وهو يريد أن يشتري منه بثمنه من جنسه: فإما أن يواطئه على الشراء منه لفظًا. أو يكون العرف بينهما قد جرى بذلك. أو لا يكون. فإن كان الأول فباطل. فإن هذا لم يقصد ملك الثمن. ولا قصد هذا تمليكه. وإنما قصد تمليك المثمن بالثمن. وجعلا تسميته الثمن تلبيسًا وخداعًا. ووسيلة إلى الربا. وإن لم تجرِ بينهما مواطأة. لكن قد علم المشتري أن البائع يرد أن يشتري منه ربويًا بربوي. فكذلك لأن علمه بذلك مواطأة. وهو يمنع قصد الثمن الذي يخرجان به من قصد الربا. وإن قصد البائع الشراء منه بعد البيع ولم يعلم المشتري فكرهه أحمد وغيره. والمتقدمون حملوا المنع على التحريم.؟ قال الشيخ ما دام الثمن في ذمة المشتري لم يجز أن يشتري منه المبيع بأقل منه من جنسه. ولا يجوز أن يبتاع منه بالثمن ربويًا لا يباع بالأول نسأ. لأن أحكام العقد الأول لا تتم إلا بالتقابض. فإذا لم يحصل صار ذلك ذريعة إلى الربا. اهـ. والآثار المتظاهرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم العينة وعلى الصحابة تدل على المنع من عود السلعة إلى البائع. وإن لم يتواطآ على الربا. سدًا للذريعة. وإن اشتراه بغير جنسه أو بعد

قبض ثمنه أو من غير مشتريه. أو اشتراه أبوه أو ابنه جاز إن لم يكن حيلة إلى التوصل إلى فعل مسألة العينة. وإن احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بأكثر قليلًا ليتوسع بثمنه فقيل لا بأس. وتسمى هذه الصورة مسألة التورق. قيل لأحمد إن ربح الرجل في العشرة خمسة يكره ذلك: قال إذا كان أجل إلى سنة أو أقل بقدر الربح فلا بأس به. وقال بيع النسيئة إن كان مقاربًا فلا بأس. قال الشيخ وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل. لأنه نسيئة كبيع المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند شخص. وينبغي أن لا يربح عليه إلا كما يربح على غيره. وله أن يأخذ منه بالقيمة المعروفة من غير اختياره. قال ابن القيم عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن بها عليه الموسر بالقرض. حتى يربح عليه في المائة ما أحب. وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي العينة. وإن باعها لغيره فهو التورق. وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا. والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق. وكان شيخنا يمنع منها وروجع فيها مرارًا فلم يرخص فيها. وقال المعنى الذي لأجله حُرم الربا موجود فيها بعينه. مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها. (وفي حديث النعمان) ابن بشير -رضي الله عنه- (من اتقى الشبهات) جمع شبهة بالضم الالتباس ما يلتبس فيه الحق

بالباطل والحلال بالحرام (فقد استبرأ لدينه) أي طلب البراءة لدينه (وعرضه) وهو الخليقة المحمودة أي طلب ما يصونه، يقال هو نقي العرض أي بريء من أن يعاب (متفق عليه) ولفظهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "الحلال بين" فما كان أصله الحل فتمسك به "والحرام بين" فما كان أصله الحرمة فتمسك بالأصل واجتنب المحرم. وهذا أصل كبير من أصول الأحكام "وبينهما أمور مشتبهات" أي تشتبه على بعض الناس دون بعض. ليس المراد أنها في ذاتها مشتبهة لا بيان لها في جملة أصول الشريعة. فإن الله لم يترك شيئًا إلا وقد جعل فيه بيانًا. ونصب عليه دليلًا. ولذا قال "لا يعلمهن كثير من الناس" فدل بفحواه أن بعض الناس يعرفها "فمن اتقى الشبهات" فلم يقدم إلا على بصيرة "استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع في الشبهات" اعتادها واستمر عليها أدته إلى أن "وقع في الحرام" تجاسر عليه فواقعه "كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه" فليتق الشبهات ليسلم من الوقوع في الحرام. "ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب" وفي لفظ "فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك. ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان" فقسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام الأول الحلال البين الواضح. والثاني الحرام البين

الواضح. فلا يفارقهما المرء باعتراض الشك حتى يزيل عنه يقين العلم. والثالث المشتبه لخفائه فلا يدري أحلال هو أم حرام؟!. وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه. لأنه إن كان في نفس الأمر حرامًا فقد برئ من التبعة. وإن كان حلالًا فقد استحق الأجر على الترك. لهذا القصد. لأن الأصل مختلف فيه حظرًا وإباحةً. والمراد أن كل واحد من القسمين الأولين بين لا يحتاج إلى بيان. أو مما يشترك في معرفته كل أحد. وأما الثالث فأمور مشتبهة اشتبهت بغيرها. مما لم يتبين. وللترمذي "لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام" وقيل الشبهات هي ما تعارضت فيه الأدلة. أو ما اختلف فيه العلماء. وقيل قسم المكروه. وقيل المباح. وقال الحافظ لا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادًا. ورجح الأول. وقد يختلف باختلاف الناس. فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم. فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح. أو المكروه. ومن دونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر. بحسب اختلاف الأحوال. ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة. أو يحمله اعتياده لارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم أو يكون ذلك لسر فيه. وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان الورع. فيقع في الحرام. ولو لم يختر الوقوع فيه. وهذا الحديث من الأربعة التي تدور عليها الأحكام. ويؤيده حديث "لا يبلغ

العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به البأس" وحديث "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وما شككت فيه فالورع اجتنابه. والشبهات تقع كثيرًا في المعاملات فعلى المرء اجتنابها. ويدخل في ذلك معاملة من كان في ماله شبهة أو خالطه ربا. (وعن أنس) -رضي الله عنه- (قال غلا السعر) أي ارتفع على معتاده. والسعر القيمة أي ارتفع السعر في المدينة. وفي لفظ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقالوا يا رسول الله سعر لنا) أمر من التسعير. والتسعير أن يأمر ولي الأمر أو نوابه أو كل من ولي من أمور المسلمين أمر أهل السوق أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا. فيمنع من الزيادة عليه. أو النقصان لمصلحة (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله هو المسعر) أي: يفعل ذلك وحده بإرادته (القابض) الممسك رزقه (الباسط) الموسع على من يشاء قال تعالى: {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} (الرزَّاق) (يبسط الرزق) ويقدره. (وأرجو أن ألقى الله –عز وجل- وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال" رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي) وابن حبان وأخرجه الدارمي والبزار وأبو يعلى وغيرهم. ولأحمد من حديث أبي هريرة جاء رجل فقال يا رسول الله سعر فقال "بل ادعو الله" ثم جاء آخر فقال يا رسول الله سعر فقال "بل الله يخفض ويرفع" ولهما شواهد حسنها الحافظ

وغيره دلت على تحريم التسعير. وأنه مظلمة، وإذا كان مظلمة فهو محرم. ووجهه أن الناس مسلطون على أموالهم. والتسعير حجر عليهم. والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين. وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن. وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم. وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى: {عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} وهو مذهب جمهور العلماء. ولا فرق بين حالة الغلاء والرخص ولا بين المجلوب وغيره. ومال إلى ذلك الجمهور. ولا بين القوت وغيره. وحكي تحريم التسعير في غير القوت اتفاقًا. وقال الوزير وغيره اتفقوا على كراهة التسعير. وقال ابن القيم التسعير منه ما هو محرم. ومنه ما هو عدل جائز. فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق بشيء لا يرضونه. أو منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل. ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل. فهو جائز. بل واجب. فالأول مثل ما روى أنس وذكر الحديث. ثم قال فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء أو

لكثرة الخلق فهذا إلى الله. فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق. والثاني مثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة. فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل. ولا معنى للتسعير إلا لإلزامهم بقيمة المثل. والتسعير ههنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به. قال ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم لا تبيعوا إلا بكذا ربحتم أو خسرتم من غير أن ينظر إلى ما يشترون به. قال ومنع الجمهور أن يحد لأهل السوق حدًا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب. ومن الظلم أن يلزم الناس أن لا يبيعوا الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون. فلا تباع تلك السلع إلا لهم. ثم يبيعونها هم بما يريدون. فلو باع غيرهم عوقبوا. فهذا من البغي في الأرض والفساد. وهؤلاء يجب التسعير عليهم. وأن لا يبيعوا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء. والتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع. وحقيقته إلزامهم بالعدل. ومنعهم من الظلم قال الشيخ إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه فهنا يؤمرون بالواجب. ويعاقبون على تركه. وكذا كل من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع. قال ابن القيم وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم تسعير عدل لا وكس ولا شطط. وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.

(وعن معمر) ابن عبد الله ويقال معمر بن أبي معمر أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة وتأخرت هجرته إلى المدينة. ثم هاجر إليها وسكنها -رضي الله عنه- (مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لا يحتكر إلا خاطئ رواه مسلم) ولأحمد من حديث معقل "من دخل في شيء من أسواق المسلمين ليغليه عليهم كان حقًا على الله أن يقعده بعظم من النار" وله من حديث أبي هريرة "من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ" ولان ماجه من حديث عمر "ضربه الله بالجذام". جاء غير ذلك مما يدل على عدم جواز الاحتكار. وهو الشراء للتجارة وحبسه مع حاجة الناس إليه. ولا فرق بين القوت وغيره. والمحتكر هو الذي يتلقى القافلة فيشتري الطعام منهم يريد إغلاءه على الناس. وهو ظالم لعموم الناس. خاطئ والخاطئ المذنب العاصي. من خطئ إذا أثم في فعله. والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند شخص طعام واضطر الناس إليه أجبر على بيعه. قال ابن القيم ولهذا كان لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند الضرورة إليه. مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة أو سلاح لا يحتاج إليه والناس محتاجون إليه للجهاد أو غير ذلك. وقال الشيخ وإذا اتفق أهل السوق على أن لا يتزايدوا في السلعة وهم محتاجون إليها ليبيعها صاحبها بدون قيمتها. فإن

ذلك فيه من غش الناس ما لا يخفى. وإن كان ثم من يزيد فلا بأس. وقال وإذا كان لا يبيع إلا هو بما يختار صار كأنه يكره الناس على الشراء منه فيأخذ منهم أكثر مما يجب عليهم. وقال ابن القيم وإذا احتاج الناس إلى صناعة طائفة كالفلاحة والنساجة والبنائين وغيرهم فلولي الأمر أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم. قال والمقصود أن هذه الأعمال متى لم يقم بها إلا شخص صارت فرضًا معينًا عليه. فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم. يجبرهم ولي الأمر عليها بعوض المثل. ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل. ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم. وهذا من التسعير الواجب. فهذا تسعير في الأعمال. وأما التسعير في الأموال فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد وآلاته فعلى أربابه أن يبيعوه بعوض المثل ولا يمكنوا من حبسه إلا بما يريدونه من الثمن. والله قد أوجب الجهاد بالنفس والمال. فكيف لا يجب على أرباب السلاح بذلة بقيمته وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. وهو الصواب. قال ويكره أن يتمنى الغلاء. ولا يكره ادخار قوت أهله ودوابه. لفعله – - صلى الله عليه وسلم -. وينبغي الإشهاد على البيع إلا في قليل الخطر.

باب الشروط في البيع

باب الشروط في البيع الشرط هو ما يلزم من عدمه العدم. والشرط هنا إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما له فيه منفعة. وهي غير شروط صحة البيع. ومحل المعتبر منها صلب العقد. وهي ضربان: صحيح يوافق مقتضى العقد. وفاسد يناقضه. قال ابن القيم الصحيح أن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} قال ابن مسعود –رضي الله عنه- إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} فأرع سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. والعقود جمع عقد وهو ما يتعاقد الناس عليه مطلقًا. من عقد بيع أو شركة أو نكاح أو يمين أو غير ذلك. ويشترط في وجوب الوفاء به أن لا يكون على معصية ثبتت بالنص. فدلت الآية ونحوها على لزوم العقد وثبوته. ووجوب الوفاء به. وإثبات خيار المجلس ليس منافيًا للزوم العقد. بل هو من مقتضياته شرعًا. فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود. (وعن عمرو بن عوف) ابن زيد المزني مات في زمن معاوية -رضي الله عنهما- (مرفوعًا المسلمون على شروطهم) أي ثابتون عليها لا يرجعون عنها مقتضية الوفاء بها. والمراد الجائزة لقوله (إلا شرطًا حرم حلالًا) فباطل (أو أحل حرامًا) فباطل

(صححه الترمذي) وفي حديث بريرة "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط" وحديث "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". وقال الشيخ اتفق المسلمون على أن من شرط في عقد من العقود شرطًا يناقض حكم الله ورسوله فهو باطل. مثل أن يستأجر الأجير بشرط أن لا يصلي الصلوات الخمس. أو لا يصوم شهر رمضان. اهـ. وكل شرط صحيح وافق مقتضى العقد لم يبطله الشارع. ولم ينه عنه جائز. كشرط التقابض وحلول الثمن. وكالرهن والضمان. وتأجيل بالثمن أو بعضه إلى مدة معلومة. وصفة في المبيع ككون العبد مسلماً أو كتابيًّا ونحو ذلك. وقال واشتراك صفة مباحة مقصودة في المعقود عليه مثل صفة في المبيع, ومثل الأجل في الثمن. أو نقد غير نقد البلد جائز باتفاق المسلمين. واختار صحة العقد والشرط في كل عقد. وكل شرط لم يخالف الشرع. لأن إطلاق الاسم يتناول المنجز والمعلق والصريح والكناية. كالنذر. وكما يتناوله بالعربية والعجمية وقال ابن القيم أجمعت الأمة على جواز الرهن والكفيل والضمين والتأجيل والخيار ثلاثة أيام. ونقد غير نقد البلد ونحو ذلك فيصح الشرط. فإن وفَّى وإلا فلصاحبه الفسخ. (وعن جابر) ابن عبد الله -رضي الله عنه- (أنه كان يسير

على جمل له قد أعيا) أي تعب وعجز عن السير فأراد أن يسيبه. قال ولحقني النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا لي قال (فضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسار سيرًا لم يسر مثله) وفي رواية كنت معه في غزاة فأبطأ بي جملي فتخلفت فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحجنه بمحجنه. ثم قال "اركب" فركبت. فلقد رأيته أكفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال: بعنيه) فيجوز طلب المبيع من المالك قبل عرض المبيع للبيع (فبعته) وفي رواية بأوقية. قال البخاري وقول الشعبي بأوقية أكثر (واستثنيت حملانه إلى أهلي متفق عليه) وللبخاري وشرطت ظهره إلى المدينة. وتمام الحديث فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه. ثم رجعت فأرسل في أثري فقال "أتراني ما كستك لآخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك". وللخبر ألفاظ كثيرة قال بعضهم رواه بعض الرواة بالمعنى وهو جائز. وقد دل على جواز البيع مع استثناء الركوب إلى موضع معين. وهو مذهب جمهور أهل العلم. ومثله سكنى الدار المبيعة شهرًا أو نفعًا معلومًا في مبيع. غير وطء ودواعيه فلا يصح الشرط وإن تعذر انتفاع بائع بسبب مشترٍ بأن أتلفت العين ونحوه فعليه أجرة المثل له. (وعن ابن عمر مرفوعًا لا يحل سلف) أي قرض (وبيع) أي مع السلف بأن يكون أحدهما مشروطًا في الآخر. قال أحمد أن يقرضه قرضًا ثم يبايعه بيعًا يزداد عليه. وهو فاسد

لأنه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن. وكل قرض جر نفعًا فهو ربا. وقال الوزير وغيره اتفقوا على أنه لا يجوز بيع وسلف وهو أن يبيع الرجل السلعة على أن يسلفه سلفًا أو يقرضه قرضًا. وقال ابن القيم نهى عن سلف وبيع لأنه ذريعة إلى أن يقرضه ألفًا ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى. فيكون قد أعطاه ألفًا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه العين. وهذا هو عين الربا. وقال إذا أقرضه مائة إلى سنة ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل. قال (ولا) يحل (شرطان في بيع رواه الخمسة) وغيرهم. واتفقوا على عدم صحة ما فيه شرطان ليسا من مقتضى البيع. ولا من مصلحته. وقيل الشرطان في البيع هو أن يقول بعتك هذا العبد بألف نقدًا أو بألفين نسيئة. وأن هذا بيع واحد تضمن شرطين يختلف المقصود فيه باختلافهما. وأنه كالبيعتين في بيعة وقال ابن القيم عاملَ عمرُ الناسَ على أنهم إن جاءوا بالبذر فلهم كذا. وإلا فلهم كذا. قال وهذا صريح في جواز بعتكه بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة. قال والصواب جواز هذا كله للنص والآثار والقياس. وذكر أمثلة يصح تعليقها بالشروط. ثم قال والمقصود أن للشروط عند الشارع شأنًا ليس عند كثير من الفقهاء. ثم قال والصواب الضابط الشرعي الذي دل عليه النص أن كل شرط خالف حكم الله وكتابه فهو باطل،

وما لم يخالف حكمه فهو لازم. والشرط الجائز بمنزلة العقد بل هو عقد وعهد. وكل شرط قد جاز بذله بدون الاشتراط لزم بالشرط. وقال تفسيره نهيه عن صفقتين في صفقة. وعن بيعتين في بيعة. وفسر بأن يقول خذ هذه السلعة بعشرة نقدًا. وآخذها منك بعشرين نسيئة. وهي مسألة العينة بعينها. وهذا هو المعنى المطابق للحديث. فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلا رأس ماله. وهو أوكس الثمنين. ولا يحتمل غير هذا المعنى. وهذا هو الشرطان في بيع. وإذا أردت أن يتضح لك هذا المعنى. فتأمل نهيه عن بيعتين في بيعة. وعن سلف وبيع. ونهيه في هذا الحديث عن شرطين في بيع. وعن سلف وبيع. وكلا الأمرين يؤول إلى الربا. اهـ. وقيل أن يقول بعتك ثوبي بكذا وعليَّ قصارته وخياطته. وقال أحمد يصح. والذي عليه العمل أن الشرطين الصحيحين لا يؤثران في العقد كما هو اختيار الشيخ تقي الدين وغيره. وما روي نهى عن بيع وشرط. فقال ابن القيم لا يعلم له إسناد مع مخالفته للسنة الصحيحة والقياس والإجماع. وقال أحمد إنما النهي عن شرطين في بيع. وهذا بمفهومه يدل على جواز الشرط الواحد. (ولهم) أي للخمسة (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (نهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة) ولأبي داود من باع بيعتين في

بيعية فله أوكسهما أو الربا (صححهما الترمذي) والأول صححه أيضًا ابن خزيمة والحاكم. وهذا صححه ابن حبان وغيره. واتفق أهل العلم على العمل بهما. وقال الوزير اتفقوا على أنه لا يجوز بيعتان في بيعة واحدة. قال ابن القيم قيل أن يقول بعتك بعشرة نقدًا أو عشرين نسيئة. وهذا التفسير ضعيف. فإنه لا يدخل الربا في هذه الصورة ولا صفقتين هنا وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين. والتفسير الثاني أن يقول أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالة. وهذا معنى الحديث الذي لا معنى له غيره. وهو مطابق لقوله "فله أوكسهما أو الربا". وقال وقيل البيعتان في بيعة هو الشرط في البيعة. فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجله ثم اشتراها منه بثمانين حالة فقد باع بيعتين في بيعة. فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا. وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما. وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا بخلاف بمائة مؤجلة أو خمسين حالة. فليس هنا ربا ولا جهالة ولا غرر ولا ضرر. وإنما خيره بين أي الثمنين شاء، اهـ. وفسره أحمد وغيره بأن يبيعه سلعة ويقرضه قرضًا. (وعن عائشة) -رضي الله عنها- (في قصة بريرة) وكانت لناس من الأنصار. وذلك أنها جاءت إلى عائشة رضي الله عنها فقالت إني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني. فقالت عائشة إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون

ولاؤك لي فعلتُ. فذهبت بريرة إلى أهلها. فقالت لهم فأبوا عليها. فجاءت من عندهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس فقالت إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء. فقال "خذيها واشترطي لهم الولاء" زجرًا وتوبيخًا. يعلم منه أنه كان قد بين لهم بطلانه. ثم قال "فإنما الولاء لمن أعتق" ففعلت. ثم قام في الناس خطيبًا "فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله" أي في شرعه الذي كتبه على العباد و (قال ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) أي الذي ليس في حكم الله. قال ابن القيم ليس المراد به القرآن قطعًا. فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن بل علمت من السنة. فعلم أن المراد بكتاب الله حكمه. فإنه يطلق على كلامه تعالى. وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له. فيكون باطلاً. والصواب اعتبار كل شرط لم يحرمه الله. ولم يمنع منه. وإلغاء كل شرط خالف حكم الله (وإن كان مائة شرط) لمخالفته للحق. فوجوده كعدمه. والمراد لو شرطوا مائة شرط فباطل (قضاء الله أحق) بالاتباع من الشروط المخالفة لحكم الله (وشرط الله أوثق) وآكد. لأن الدليل قد دل على بطلان جميع الشروط التي ليست في كتاب الله. فلو كانت ما كانت كان

الحكم كذلك (وإنما الولاء لمن أعتق) فلا يتعداه إلى غيره (متفق عليه) ولهما عن ابن عمر نحوه. وروي بألفاظ في الصحيحين وغيرهما تدل على أن كل شرط يخالف حكم الله باطل. ومنه لو شرط أن لا خسارة عليه. أو متى نفق المبيع وإلا رده. أو لا يبيع ولا يهب ولا يعتق. أو شرط البائع على المشتري أن يفعل ذلك. فيبطل الشرط وحده. كشرط الولاء للبائع. إلا إذا شرط العتق فيصح عند الجمهور. وكذا يبطل الشرط لو رهن نحو خمر أو إلى أجل مجهول. وفي الاختيارات تصح الشروط التي لم تخالف الشرع في جميع العقود. فلو باع جارية وشرط على المشتري إن باعها فهو أحق بها بالثمن صح البيع. والشرط. واشترط عثمان لصهيب وقف داره عليه. ومثل هذا أن يبيعه بشرط أن يعلمه أو لا يخرجه من ذلك البلد. ونحو ذلك. وإن قال إن جئتك بحقك في محله فقال ابن القيم يصح. وليس في الأدلة الشرعية ولا القواعد الفقهية ما يمنع تعليق البيع بالشرط. والحق جوازه. فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا. وهذا لم يتضمن واحدًا من الأمرين. فالصواب جواز هذا العقد. وهو اختيار شيخنا. (ولأحمد أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبدًا بشرط البراءة) أي من كل عيب (فأصاب به زيد عيبًا فأراد رده)

على ابن عمر (فلم يقبله) لأن الشرع أقام الشرط العرفي كاللفظي. وذلك للسلامة من العيب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب. ولا يبرأ بشرط السلامة من كل عيب حتى يعين (فقال عثمان لابن عمر تحلف انك لم تعلم بهذا العيب قال لا فرده عليه) قال الشيخ الصحيح في مسألة البيع بشرط البراءة من كل عيب. والذي قضى به الصحابة وعليه أكثر أهل العلم أن البائع إذا لم يكن علم بالعيب فلا رد للمشتري. لكن إن ادعى أن البائع علم بذلك فأنكر البائع حلف أنه لم يعلم. فإن نكل قضي عليه. اهـ. وإذا كان في المبيع عيب يعلمه البائع بعينه فأدخله في جملة عيوب ليست موجودة وتبرأ منها كلها. فقال ابن القيم لا يبرأ حتى يفرده بالبراءة. ويعين موضعه وجنسه ومقداره. بحيث لا يبقى للمبتاع فيه قول. ولا يقول البائع بشرط البراءة من كل عيب. وليقل وإنك رضيت بها بجملة ما فيها من العيوب التي توجب الرد أو يبين عيوبًا يدخله في جملتها. وأنه رضي بها كذلك. وفي الاختيارات وشرط البراءة من كل عيب باطل. ولا يبرأ حتى يسمي العيب. قال أحمد يضع يده على العيب. فيقول أبرأ إليك من ذا فأما إذا لم يعمد إلى الداء ولم يوقفه عليه فلا أراه يبرأ يرده المشتري بعيبه. لأنه مجهول. قال ابن رشد وحجة من لم يجز البراءة على الإطلاق أن ذلك من باب الغرر فيما لم يعلمه

باب الخيار

البائع. من باب الغبن والغش فيما يعلمه. قال ابن القيم وإذا أبطلنا الشرط فللبائع الرجوع بالتفاوت الذي نقص من ثمن السلعة بالشرط الذي لم يسلم له هذا هو العدل وقياس أصول الشريعة. ولمن جهل الحال من زيادة أو نقص وفات غرضه الخيار. * * * باب الخيار وقبض المبيع والإقالة وما يتعلق بذلك. والخيار اسم مصدر أي طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه. والخيار أقسام باعتبار أسبابه. (عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا تبايع الرجلان) أي أوقعا العقد بينهما. لا تساوما من غير عقد (فكل منها بالخيار) وفي لفظ "البيعان بالخيار" (ما لم يتفرقا) أي ببدنيهما فيثبت لهما خيار المجلس (وكانا جميعًا) أي وقد كانا جميعًا. والمعنى أن الخيار ممتد زمن عدم تفرقهما. وللبيهقي وغيره "ما لم يتفرقا عن مكانهما" وذلك صريح في المقصود. وقال أبو برزة وابن عمر إن التفرق بالأبدان. قال الحافظ ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة. وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

قال النووي ومن قال بعدمه ترد عليه الأحاديث الصحيحة. والصواب ثبوته كما قال الجمهور. قال ابن القيم أثبت الشارع خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين وليحصل تمام الرضى الذي شرطه تعالى فيه بقوله (عن تراض منكم) فإن العقد قد يقع بغتة من غير ترو ولا نظر في القيمة فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حريمًا يتروى فيه المتبايعان. ويعيدان النظر. ويستدرك كل واحد منهما اهـ. ومثل البيع الصلح بمعنى البيع. وكالإجارة والصرف والسلم. لا المساقاة والحوالة والوقف والرهن والضمان ونحو ذلك مما ليس في معنى البيع. وقال الوزير اتفقوا على أن خيار المجلس لا يثبت في العقود التي هي غير لازمة كالشركة والوكالة والمضاربة. واتفقوا على أنه لا يثبت في العقود اللازمة التي لا يقصد فيها العوض. كالنكاح والخلع والكتابة. قال (أو يخير أحدهما الآخر) أي يشترط أحدهما الخيار مدة معلومة. أو يشترطاه معًا. ويقال إلا بيعًا شرط فيه الخيار. أو إلا أن يكون البيع بشرط الخيار. فإن الخيار لا ينقضي بالتفرق بل يبقى حتى تنقضي مدة الخيار التي شرطها أحدهما أو كلاهما. لقوله "المسلمون على شروطهم" وإذا مضت مدته لزم البيع بلا خلاف. وحكاه الوزير اتفاقًا. وقال الشيخ ويثبت خيار الشرط في كل العقود. ولو طالت المدة اهـ. ولمن له الخيار الفسخ إن رد الثمن جزم به الشيخ وغيره.

ولو مع غيبة الآخر وسخطه. والملك مدة الخيارين للمشتري. وله نماؤه المنفصل وكسبه. ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع ولا في عوضه المعين فيها بغير إذن الآخر (¬1). فإن فعل أو مات سقط خياره. ولا يقبل من بائع أو مشتر أنه اختار أو رد إلا ببينة. وإن اختارا أو أحدهما إمضاء البيع قبل التفرق لزم البيع حينئذٍ وبطل اعتبار التفرق. قال ابن القيم إذا أسقطا الخيار قبل التفرق سقط على الصحيح ودل عليه النص. ولأنهما عقدًا العقد على هذا الوجه. ولأن الخيار حق لهما فيسقط بإسقاطهما أو أحدهما. ويبقى خيار من لم يسقطه. (فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك) أي بأن خير أحدهما الآخر (فقد وجب البيع) أي لزم وتم ونفذ على ما تبايعا عليه (وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع متفق عليه)، وفي رواية "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يختارا" وعن حكيم بن حزام نحوه. وقال الوزير اتفقوا على أنه إذا وجب البيع وتفرقا من المجلس من غير خيار فليس لأحدهما الرد إلا بالعيب ويستثنى من البيع الكتابة كما تقدم. لكونها تراد للعتق. وتولي طرفي العقد لانفراد العاقد بالعقد. وشراء من يعتق عليه لعتقه بمجرد الانتقال. أو اعترف بحريته ¬

_ (¬1) هذا فيما إذا كان الإذن بعد العقد ودخلا في البيع على أصله الشرعي وإلا فإن أراداه قبل العقد لانتفاع المشتري بغلة المبيع لأن الذي يقبضه البائع قرضًا فيكون الخيار حيلة ليربح في قرض وهو حرام. مؤلفه.

قبل الشراء لكونه استنقاذًا لا حقيقة. (وللخمسة من حديث عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث ابن عمر وفيه (ولا يحل له) أي لأحد المتبايعين (أن يفارقه) أي أن يفارق صاحبه (خشية أن يستقيله) أي يفسخ البيع. وقال الترمذي وغيره أي خشية أن يختار فسخ البيع. فالمراد بالاستقالة فسخ النادم. وما روي عن ابن عمر أنه كان إذا بايع رجلًا فأراد أن يتم بيعته قام يمشي هنيهة فمحمول على أنه لم يبلغه النهي. (وعن ابن عمر قال ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل) هو حبان بن منقذ (يخدع في البيوع فقال من بايعت فقل لا خلابة) أي لا خديعة (متفق عليه) ومعناه البيع بشرط إن أرد الثمن وتسترد المبيع إذا ظهر لي غبن. لقنه - صلى الله عليه وسلم - هذا القول ليتلفظ به عند البيع. ليطلع به صاحبه على أنه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة فيها ليرى له البائع كما يرى لنفسه. وكان الناس إذا ذاك أحقاء لا يغبنون أخاهم المسلم. وكانوا ينظرون له كما ينظرون لأنفسهم. فدل الحديث على خيار الغبن في البيع والشراء إذا حصل الغبن. وهو مذهب أحمد وغيره أنه يرد بالغبن الفاحش لمن لم يعرف قيمة السلعة. وشرط نحو هذا الشرط. ولابن ماجه وغيره "ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاثة أيام" والمراد إذا

ظهر غبن. لأنه شكا في رواية ما يلقاه من الغبن. وفي معنى الحديث أيضًا مما سيأتي وغيره دليل على ثبوت خيار الغبن. وهو ثلاثة: أحدها المسترسل وهو من جهل القيمة ولا يحسن يماكس. بل يقول أعطني هذا. والثاني زيادة الناجش. والثالث التلقي. قال ابن القيم وفي الحديث غبن المسترسل ربا وهو الذي لا يعرف قيمة السلع أو الذي لا يماكس بل يسترسل إلى البائع. واختار الشيخ وغيره ثبوت خيار الغبن لمسترسل لم يماكس. وقال لا يربح على المسترسل أكثر من غيره. وكذا المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند شخص ينبغي أن لا يربح عليه إلا كما يربح على غيره. (ولهما عنه مرفوعًا نهى عن النَجْش) بفتح فسكون. قال ابن قتيبة هو الختل والخديعة وهو لغة تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد. وشرعًا الزيادة في ثمن السلعة المعروضة للبيع. لا ليشتريها بل ليغر بذلك غيره. سمي الناجش في السلعة ناجشًا لأنه يثير الرغبة فيها. ويرفع ثمنها. فيثبت له الخيار إذا غبن غبنًا يخرج عن العادة. أو يزيد البائع بنفسه. والمشتري لا يعلم. قال الشيخ فإنه يكون ظالمًا ناجشًا. وكذا لو أخبره أنه اشتراها بكذا وهو زائد عما اشتراها به. فيثبت له الخيار. لأنه باعه مساومة. وأجمع أهل العلم على تحريم النجش لأنه غرر. وقال ابن

أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن. والإثم يختص بالناجش إن لم يعلم به البائع. فإن واطأه على ذلك أثما جميعًا. ولا ريب أنه يحرم تغرير مشتر بأن يسومه كثيرًا ليبذل قريبًا منه. كأن يقول في سلعة ثمنها خمسة أبيعها بعشرة. وجزم به الشيخ وغيره. وأعظم من ذلك أن يقول أعطيت بها كذا وهو كاذب. (وعن ابن عباس مرفوعًا لا تلقوا الركبان) جمع راكب ولهما عن ابن مسعود "نهى عن تلقي البيوع" ولمسلم عن أبي هريرة "نهى أن يتلقى الجلب" فالتنصيص على الركبان خرج مخرج الغالب في أن من يجلب الطعام وغيره يكون في الغالب راكبًا. وحكم الجالب الماشي حكم الراكب بلا نزاع. وفيها دليل على أن التلقي محرم. وفي رواية لابن عمر "لا تلقوا السلع حتى يهبط بها السوق" وفي رواية كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام فنهى عن تلقي الركبان الذين يجلبون إلى البلد أرزاق العباد للبيع. والمراد من خارج السوق الذي تباع فيه السلع. وبيعه منهم كالشراء. لأن العلة التي هي مراعاة نفع الجالب. أو أهل السوق حاصلة في ذلك. قال (ولا بيع حاضر لباد) والحاضر المقيم في المدن والقرى. والباد المقيم بالبادية. وفسره ابن عباس بقوله: لا يكون له سمسارًا أي دلالًا يتوسط بين البائع والمشتري. وهو في الأصل المقيم الحاضر. ثم استعمل في متولي البيع والشراء (متفق عليه) وللبخاري عن ابن عمر "نهى أن يبيع حاضر

لباد" ولمسلم عن جابر "لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" ولهما عن أنس "نهينا أن يبيع حاضر لباد وإن كان أخاه لأبيه وأمه". فدلت هذه الأحاديث على أنه لا يجوز للحاضر أن يبيع للبادي من غير فرق أن يكون البادي قريبًا له أو أجنبيًا. وسواء كان في زمن الغلاء أو لا. وسواء كان يحتاج إليه أهل البلد أم لا. وسواء باعه له على التدريج أو دفعة واحدة. والحكم منوط بالبادي. ومن في معناه. وإنما ذكر البادي لكونه الغالب. فألحق به من شاركه في عدم معرفة السعر من الحاضرين. وكما أنه لا يجوز أن يبيع الحاضر للبادي كذلك لا يجوز أن يشتري له. لأنه قوله لا يبع كلمة جامعة تطلق على الشراء. وفي رواية "أن تبيعوا أو تبتاعوا" يشهد لذلك قوله "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" وإن خالف وباع صح مع الإثم. وهذا مذهب الجمهور الشافعي وأحمد وجماعة من المالكية وغيرهم. (ولمسلم من حديث أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه قال "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتلقى الجلب" مصدر بمعنى اسم المفعول أي المجلوب. يقال جلب الشيء جاء به من بلد إلى بلد للتجارة. فإن تلقاه إنسان فابتاعه (فإذا أتى) صاحب السلعة (سيده السوق) الذي تعرف فيه قيم السلع (فهو بالخيار) أي بين أن يمضي البيع أو يفسخ. ففيه أن ابتدأ التلقي من خارج السوق الذي تباع فيه السلع. ومن حديث ابن عمر

"نهانا أن نبيعه حتى نبلغ به سوق الطعام" وفي رواية "فإذا ورد السوق فهو بالخيار" فدل على انعقاد البيع. وهو مذهب الجمهور. وقالوا لا يجوز تلقي الركبان ويثبت له الخيار مطلقًا. وهو ظاهر النص. وقال الشيخ أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - للركبان الخيار إذا تلقوا. لأن فيه نوع تدليس وغش وخديعة. وقال ابن القيم نهي عن ذلك لما فيه من تغرير البائع. فإنه لا يعرف السعر فيشتري منه المشتري بدون القيمة. ولذلك أثبت له النبي - صلى الله عليه وسلم - الخيار مع الغبن. فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلًا بثمن المثل فيكون المشتري غارًا له. ومنه تلقي سوقة الحجيج الجلب من الطريق. وسبقهم إلى المنازل يشترون الطعام والعلف. ثم يبيعونه كما يريدون. فيمنعهم والي الحسبة. (وعنه) أي أبي هريرة -رضي الله عنه- (مرفوعًا: لا تصروا الإبل) بضم ففتح أي لا تربطوا أخلافها ليجتمع لبنها فيكثر. فيظن المشتري أن ذلك عادتها. فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها. وأصل التصرية حبس الماء. وقال أبو عبيد التصرية حبس اللبن في الضرع. حين يجتمع. اهـ. وفيه "والغنم" واقتصر على ذكر الإبل والغنم دون البقر. لأن غالب مواشيهم كانت من الإبل والغنم. والحكم واحد. ولحديث "نهي عن التصرية للحيوان".

(فمن ابتاعها بعد ذلك) أي اشتراها بعد التصرية (فهو بخير النظرين) أي الرأيين (بعد أن يحلبها) جعله قيدًا في ثبوت الخيار. لكونها لا تعرف غالبًا إلا بعد الحلب. والجمهور على أنه إذا علم بالتصرية ثبت له الخيار على الفور. ولو لم يحلبها (إن رضيها امسكها) وفي رواية: إن شاء أمسكها (وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر متفق عليه) وللبخاري (وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر" ولمسلم "فهو بالخيار ثلاثة أيام" ودل الحديث على أنه لا يجوز رد اللبن ولو كان باقيًا على صفته. لم يتغير لاختلاطه بالحادث وتعذر معرفة قدره. ودل الحديث على أنه لا يلزم قبوله لذهاب طراوته واختلاطه بما تجدد عند المشتري. وأخذ الجمهور بظاهر الحديث وأفتى به ابن مسعود وأبو هريرة. ولا يعلم لهما مخالف في الصحابة. ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلًا أو كثيرًا. لتقدير الشارع لدفع التشاجر وقطع النزاع. وذكر ابن القيم أن حديث المصراة أصح من حديث الخراج بالضمان بالاتفاق. مع أنه لا منافاة بينهما. فإن الخراج ما يحدث في مالك المشتري. وهنا اللبن كان موجودًا في الضرع. فصار جزءًا من المبيع. ولم يجعل الصاع عوضًا عما حدث. بل عن اللبن الموجود في الضرع. وقت العقد. وتقديره بالشرع لاختلاطه بالحادث. وتعذر معرفة قدره. فقدر قطعًا للنزاع. وبغير الجنس لأنه بالجنس قد يفضي إلى الربا.

ودل الحديث أيضًا على صحة البيع مع التصرية. وهو وما في معناه دليل على ثبوت خيار التدليس بما يزيد به الثمن. وأصول الشريعة توجب الرد به وبالغش. والرد بها أولى من الرد بالعيب. ومنه تسويد شعر الجارية وتجعيده. وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها للبيع. وغير ذلك مما فيه تدليس وغش. وإظهار ما ليس معتادًا ليغر المشتري قال في الإنصاف وتحسين وجه الصبرة وتصنع النساج وجه الثوب. وصقال الإسكاف وجه المتاع ونحوه. يثبت للمشتري خيار الرد بلا نزاع. وقال الشيخ وإن دلس مستأجر على مؤجر وغيره حتى استأجره بدون القيمة فله أجرة المثل. وإذا دلس على المشتري رجع المشتري بالثمن على الأصح. (ولمسلم عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر برجل يبيع طعامًا فأدخل يده فيه) أي في الطعام (فإذا هو مبلول فقال من غشنا فليس منا) الغش ضد النصح. من الغشش وهو المشرب الكدر. وفي لفظ مر بصبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللًا، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام" قال أصابته السماء يا رسول الله قال "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس. من غشنا فليس منا". وهذا وعيد شديد يدل على تحريم الغش. وكتم العيب وهو إجماع. وأحاديث الوعيد تجري على ظاهرها ليكون أوقع في النفس. وأبلغ في الزجر. قال الشيخ لا يجوز بيع المغشوش ولا

عمله إذا لم يعلم قدر الغش. لأن المشتري لا يعلم قدر الخلط. فيبقى المبيع مجهولًا. وكذا كل ما كان من الغش في المطعوم والملبوس وغيره. (وعن عقبة) بن عامر -رضي الله عنه- (مرفوعًا لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا وفيه عيب إلا بينه) له (رواه أحمد) وابن ماجه وغيرهما وفيه "المسلم أخوالمسلم" وجاء نحوه من غير وجه. مما يدل على تحريم الغش وكتم العيب. ووجوب تبيينه للمشتري. ولا نزاع في ذلك ويثبت الفسخ بالإجماع. قال ابن رشد وبالجملة خيار الرد بالعيب ثابت للمشتري. ولما كان ذلك يختلف اختلافًا كثيرًا كاختلاف المبيعات في صفاتها وجب إذا اتفقا على جهل صفة العيب المؤثر في الثمن. وحجة من لم يجز البراءة على الإطلاق أن ذلك من باب الغرر فيما لم يعلم البائع. ومن باب الغبن والغش فيما يعلمه. والعيب هو ما ينقص قيمة المبيع عادة عما طلب من الثمن كمرض وفقد عضو وزنا الرقيق ونحو ذلك. فما عده التجار في عرفهم منقصًا أنيط به الحكم ومالا فلا. قال الشيخ لا يطمع في إحصاء العيوب. لكن يقرب من الضبط ما قيل إن ما يوجد بالبيع مما ينقص العين أو القيمة نقصًا يفوت به غرض صحيح يثبت الرد إذا كان الغالب في جنس المبيع عدمه. قال الوزير اتفقوا على أن للمشتري الرد بالعيب الذي لم يعلم به حال العقد ما لم يحدث عنده عيب آخر. وأن له إمساكه إن شاء بعد

عثوره عليه. اهـ. وإن علم العيب فأخر الرد لم يبطل خياره إلا أن يوجد منه ما يدل على الرضى من التصرف ونحوه. وإن اختلفا عند من حدث العيب فقال بعضهم قول بائع مع يمينه. وقال ابن القيم قول من يدل الحال على صدقه. فإن احتمل صدقهما فقول بائع لأن المشتري يدعي ما يسوغ فسخ العقد بعد تمامه ولزومه والبائع ينكره. وإن مات المبيع أو أبق ونحوه وكان البائع علم العيب وكتمه عن المشتري فقال ابن رشد وغيره فقهاء الأمصار على أنه فوت. ويرجع المشتري على البائع بقيمة العيب. ومذهب أحمد وغيره يذهب المبيع على البائع. (وللخمسة) عن ابن مسعود وغيره (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (إذا اختلف المتبايعان) وفي لفظ "البيعان" أي البائع والمشتري. ولم يذكر الأمر الذي فيه الاختلاف فيعم المبيع والثمن. وكل أمر يرجع إليهما. وفي سائر الشروط المعتبرة (وليس بينهما بينة) تثبت قول أحدهما. وكذا لو تعارضت بينتاهما (فالقول ما قال البائع) إذا وقع الاختلاف بينه وبين المشتري في أمر من الأمور المتعلقة بالعقد ولكن مع يمينه كما جاء أمره البائع أن يستحلف. وهذا مذهب أحمد وغيره (أو يترادان البيع) فإن تراضيا على ذلك جاز بلا خلاف فلا يكون لهما خلاص من النزاع إلا التفاسخ أو حلف البائع. والحديث صححه الحاكم وغيره. وذكر ابن عبد البر. أنه مشهور الأصل

عند جماعة تلقوه بالقبول. وبنوا عليه كثيرًا من فروعه. وقال الخطابي قد اصطلح الفقهاء على قبوله. وذلك يدل على أن له أصلًا. وإن كان في إسناده مقال. فدل على إثبات الخيار لاختلاف المتبايعين. (وفي لفظ إذا اختلفا) أي المتبايعان في أمر من الأمور المتعلقة بالعقد (ولا بينة لهما) تبين ما اختلفا فيه (تحالفا) فيحلف بائع أولًا ما بعته بكذا. وإنما بعته بكذا. ثم يحلف مشتر ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا. وكذا في عين المبيع أو صفته ونحو ذلك. قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة فإنهما يتحالفان ويترادان وإن رضي أحدهما بقول صاحبه أو حلف أحدهما ونكل الآخر أقر العقد. وذكروا الخيار في البيع بتخبير الثمن متى بان أقل أو أكثر. وفي التولية والشركة والمرابحة والمواضعة. والخلف في الصفة. وتغير ما تقدمت رؤيته. وفقد شرط صحيح أو فاسد، وفوات غرض. وظهور عسر ونحو ذلك. ومطل اختاره الشيخ. (وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من ابتاع) أي اشترى (طعامًا) مكيلًا كان أو موزونًا أو معدودًا (فلا يبعه حتى يقبضه متفق عليه) من غير وجه عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكاه الشيخ وغيره إجماعًا

ولمسلم عن ابن عباس "حتى يكتاله" أي حتى يأخذه بالكيل ولهما من غير وجه عن ابن عباس وغيره "حتى يستوفيه" وقال ابن المنذر أجمع العلماء على أن من اشترى طعامًا فليس له أن يبيعه حتى يقبضه. وقال الوزير اتفقوا على أن الطعام إذا اشترى مكايلة أو موازنة أو معادة فلا يجوز لمن اشتراه أن يبيعه من آخر. أو يعاوض به حتى يقبضه الأول. فإن القبض شرط في صحة هذا البيع. وتواتر النهي عن بيع مطلق الطعام حتى يقبضه من غير فرق بين الجزاف وغيره. وهو مذهب الجمهور. وفي نص حديث ابن عمر السابق كان الناس يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق. فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه حتى ينقلوه متفق عليه. ولمسلم "يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه" ولأحمد من حديث حكيم "إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه" وللبيهقي من حديث أبان "إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه" ولأبي داود من حديث زيد بن ثابت "نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على أنه لا يجوز بيع أي سلعة اشتريت إلا بعد قبض البائع لها. واستيفائها. إن كان المبيع طعامًا يكال فبكيله. أو يوزن فبوزنه. أو يعد فبعده. وإن كان المبيع يذرع فبذرعه أو ينقل فبنقله. أو غيره فبتخليته.

وعلة النهي عن البيع قبل القبض عجز المشتري عن تسليمه. لأن البائع قد يسلمه وقد لا يسمله. لا سيما إذا رأى المشتري قد ربح فإنه يسعى في رد البيع إما بجحد أو احتيال في الفسخ. قال ابن القيم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى تنقل. لأنه ذريعة إلى جحد البائع البيع، وعدم إتمامه إذا رأى المشتري قد ربح فيها. فيغره الطمع. وشح نفسه بالتسليم كما هو الواقع. وأكده بالنهي عن ربح ما لم يضمن سدًا للذريعة. وهذا من محاسن الشريعة. وألطف باب سد الذرائع. وقال الصحيح أنه لا يجوز بيع شيء من المبيعات قبل قبضه بحال. وهو مذهب ابن عباس حيث يقول ولا أحسب كل شيء إلا مثل الطعام. وهو إحدى الروايتين عن أحمد. لحديث حكيم بن حزام وأبان وزيد بن ثابت. وقال ثبوت المنع في الطعام بالنص. وفي غيره إما بقياس النظر كما صح عن ابن عباس أو بقياس الأولى. لأنه إذا نهى عن بيع الطعام قبل قبضه فغيره بطريق الأولى فإنه لا فارق بين الطعام وغيره في ذلك. ويلحق بالبيع التصرفات بعوض فيكون فعلها قبل القبض غير جائز كالبيع. ويجوز التصرف في المبيع بغير البيع. ويجوز بيعه لبائعه والشركة فيه. وكل ما ملك بعقد سوى البيع فإنه يجوز التصرف فيه قبل قبضه بالبيع وغيره. لعدم قصد الربح. وإذا تعين ملك إنسان في موروث أو وصية أو غنيمة لم يعتبر لصحة تصرفه قبضه بلا خلاف وينتقل

الضمان إلى المشتري بتمكنه من القبض. قال الشيخ ويملك المشتري المبيع بالعقد. ويصح عتقه. قبل القبض إجماعًا فيهما. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى) أي حكم (أن الخراج) أي الدخل والغلة والكراء (بالضمان رواه الخمسة) وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وغيرهم. وضعفه البخاري. لأن فيه مسلم بن خالد الزنجي. والباء متعلقة بمحذوف تقديره الخراج مستحق بالضمان. فما يحصل من غلة العين المبتاعة للمشتري كأن يشتري عينًا ويستغلها زمانًا ثم يعثر على عيب قديم لم يطلعه البائع عليه. أو لم يعرفه فله رد العين وأخذ الثمن. وللمشتري مستغله. فإن أصل الحديث أن رجلًا اشترى غلامًا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان عنده ما شاء الله. ثم رده من عيب وجده. فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برده بالعيب. فقال المقضي عليه قد استعمله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الخراج بالضمان" أي أن المبيع إذا كان له دخل وغلة فإن مالك الرقبة الذي هو ضامن لها يملك خراجها لضمان أصلها. ولا شيء عليه. لما انتفع به لضمان أصله. فلو كان المبيع تالفًا في يده صار من ضمانه. ولم يكن له على البائع رد. وله النماء المتصل لتعذر انفصاله. ولا يرد المشتري نماء

منفصلًا إلا لعذر كولد الأمة. قال ابن رجب وهو الأصح. وإن حملت أمة أو بهيمة بعد الشراء فالحمل نماء متصل. يتبعها في الفسخ. فإن حملت بعد الشراء وولدته فمنفصل. ويرد ولد الأمة لتحريم التفرق على كلا القولين. (وعن أبي هريرة مرفوعًا من أقال مسلمًا) وللبزار من أقال نادمًا (بيعته) أي فسخ عقد البيع لندم المشتري (أقال الله عثرته) أي غفر زلته وخطيئته (رواه أبو داود) رواه ابن ماجه وغيره. وصححه ابن حبان والحاكم. وفيه "أقال الله عثرته يوم القيامة" وفي فضل الإقالة أحاديث أخر. وأجمعوا على مشروعيتها. وحقيقتها رفع العقد الواقع بين المتعاقدين. وصورتها أنه اشترى أحد شيئًا من رجل ثم ندم على شرائه إما لظهور الغبن فيه. أو لزوال رجاحته أو لانعدام الثمن أو غير ذلك. فرد المبيع على البائع. وقيل البائع رده. أزال الله مشقته وعثرته. لأنه إحسان منه على المشتري. لأن البيع قد ثبت فلا يستطيع المشتري فسخه فاستحبت لذلك وكذا لو ندم البائع فأقاله المشتري وتجوز قبل قبض المبيع بمثل الثمن. وهي فسخ لا بيع فلا خيار فيها ولا شفعة. ولا تصح بزيادة على ثمن أو نقصه أو غير جنسه. لأن مقتضاها رد الأمر على ما كان. فإن طلب أحدهما الإقالة وأبي الآخر فاستأنفًا بيعًا جاز.

باب الربا

باب الربا أي باب ما يذكر فيه أحكام الربا والصرف. والربا لغة عبارة عن الزيادة يقال ربا الشيء يربو إذا زاد. ومنه (اهتزت وربت) أي زادت. وأربى الرجل إذا عامل في الربا {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} أي ليكثر. وشرعًا زيادة في شيء مخصوص. وهو الكيل والوزن. ويطلق الربا على كل بيع محرم. وهو نوعان: ربا نسيئة، وربا فضل. والأول جلي. والثاني خفي. فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم. والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي. فتحريم الأول قصدًا. وتحريم الثاني وسيلة وتحريمه من باب سد الذرائع. لكونه أخذ مال من غير عوض. ومال الإنسان متعلق حاجته. وله حرمة عظيمة فقد قال - صلى الله عليه وسلم - "حرمة ماله كحرمة دمه" فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرمًا. (قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وذلك أن المشركين لما اعترضوا على أحكام الله في شرعه. وذلك الذي حل بهم أنهم قالوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} لا فرق إن زدنا في الثمن في أول البيع أو عند محله. فلم أحل هذا وحرم هذا فأكذبهم الله وأبطل قولهم. وأول الآية {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} أي يعاملون به {لاَ يَقُومُونَ} أي يوم القيامة من قبورهم مما يصيبهم بسبب أكل الربا {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} أي إلا كما يقوم المصروع حال صرعه

وتخبط الشيطان له. وهذا رد على ما قالوه من الاعتراض. مع علمهم بتفريق الله بين البيع والربا حكمًا. وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه. العالم بحقائق الأمور ومصالح العباد. وما ينفعهم فيبيحه لهم. وما يضرهم فينهاهم عنه. ولهذا قال تعالى: {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ} أي بلغه من ربه تذكير وتخويف عن الربا {فَانتَهَىَ} عن أكل الربا حال وصول الشرع إليه {فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي مضى من ذنبه بسبب المعاملة بالربا. لقوله تعالى: عفا الله عما سلف {وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ} إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه {وَمَنْ عَادَ} بعد التحريم إلى أكل الربا مستحلًا له {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} وهذا أبلغ وعيد. {يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا} أي ينقصه ويهلكه أو يذهب ببركته من يد صاحبه. أو يحرمه بركة ماله. ويعاقبه عليه يوم القيامة. وفي الخبر "الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل" {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} أي يثمرها ويبارك فيها في الدنيا. ويضاعف بها الأجر والثواب في العقبى. {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم} فاجر بأكل الربا وقد بالغ تعالى في الزجر عن الربا. ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ} أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} أي اتركوا

ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس أموالكم بعد هذا الإنذار والإعذار {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك. لما بين تعالى أن من انتهى عن الربا (فله ما سلف) فقد كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة الغريم فقال {اتَّقُواْ اللهَ} واتقاؤه ترك ما نهى عنه {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} وبين به الفرق بين المقبوض وما لم يقبض، فالزيادة تحرم، وليس لهم أن يأخذوا إلا رؤوس أموالهم. وإنما شدد في ذلك لأن من انتظر مدة طويلة في حلول الأجل، ثم حضر الوقت وظن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له، فيحتاج في منعه عنه إلى تشديد عظيم، فقال {اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} يعني إن كنتم قد قبضتم شيئًا فمعفو عنه وإن لم تقبضوه أولم تقبضوا بعضه فذلك الذي لم تقبضوه من الربا، كل كان أو بعضًا، فإنه محرم قبضه فذروه إن كنتم مؤمنين {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي إذا لم تذروا ما بقي من الربا {فَأْذَنُواْ} أي فاعلموا أنتم واستيقنوا {بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا. قيل حرب الله النار وحرب رسوله السيف. {وَإِن تُبْتُمْ} أي تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} {لاَ تَظْلِمُونَ} بأخذ الزيادة {وَلاَ تُظْلَمُون} بوضع رؤوس الأموال. بل لكم ما بذلتم من غير

زيادة عليه ولا نقص منه. قال ابن عباس هذه آخر آية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي الحديث أنه قال في حجة الوداع "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع" أي مبطل (لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً} لا تزيدوا زيادات مكررة {وَاتَّقُواْ اللهَ} في أمر الربا فلا تأكلوه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} وهو مجرب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال اجتنبوا) أبعدوا وهو أبلغ من لا تفعلوا ودعوا واتركوا (السبع الموبقات) أي المهلكات جمع موبقة. سميت بذلك لأنها تهلك فاعلها في الدنيا لما يترتب عليها من العقوبات. وفي الآخرة من العذاب (وذكر منها) أي من السبع الموبقات (أكل الربا) وهو: فضل مال بلا عوض، وأكله تناوله بأي وجه كان. ولفظه قالوا وما هن يا رسول الله قال "الشرك بالله" بدأ به لأنه أعظم ذنب عصي الله به "والسحر" وحد الساحر القتل عند الجمهور "وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق" وفيه الوعيد الشديد بأن جزاءه جهنم. ثم عطف عليه أكل الربا "وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات" (متفق عليه) وأجمعوا على أنها من الكبائر.

ومر - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقال "من هؤلاء يا جبرئيل" قال أكلة الربا. وقال - صلى الله عليه وسلم - "الربا سبعون حوبًا أيسرها" أي في الإثم "مثل أن ينكح الرجل أمه علانية" شبهة به لاستقباحه في العقل. والأحاديث في النهي عنه وذم فاعله مشهورة كثيرة جدًا. (ولهما) من حديث أبي جحيفة وجابر رضي الله عنهما. وأهل السنن من حديث ابن مسعود (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعن الله آكل الربا) أي آخذه وإن لم يأكله. وإنما خص الأكل لأنه أعظم أنواع الانتفاع. وسبب إتلاف أكثر الأشياء وإلا فالوعيد حاصل لكل من عامل به سواء أكل منه أو لا (وموكله) أي معطيه لمن يأخذه فيأكله أو يبيعه وغير ذلك. والحديث دليل على تحريم تعاطيه وكاتبه أي كاتب الربا. (وشاهديه) وقال "هم في الإثم سواء" وللنسائي "ملعونون على لسان محمد – - صلى الله عليه وسلم - " وفيه التصريح بتحريم الكتابة للمترابين والشهادة عليهما وتحريم الإعانة على الباطل. وقال الشيخ وأما الشهادة على العقود المحرمة على وجه الإعانة عليها فحرام. (وعن عبادة بن الصامت) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الذهب بالذهب) بجميع أنواعه من

مضروب ومنقوش وجيد ورديء. ومكسر وحلي وتبر وخالص ومغشوش مثلًا بمثل يدًا بيد ونقل النووي وغيره الإجماع على ذلك (والفضة بالفضة) أي مثلًا بمثل يدًا بيد إجماعًا. ويدخل في ذلك أنواع الفضة مضروبة أو غير مضروبة (والبر بالبر) بضم الباء وهو الحنطة بجميع أنواعها ومنه السلت. وفي لفظ "مدًا بمد" أي مكيالًا بمكيال (والشعير بالشعير) فيه أنه صنف غير البر. (والتمر) بجميع أنواعه (بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل) في المقدار (سواء بسواء) لقصد التأكيد أو للمبالغة. فلا يباع موزون بجنسه إلا وزنًا. ولا مكيل بجنسه إلا كيلا اتفاقًا. حكاه الوزير وغيره. لعدم تحقق التماثل بغير معياره الشرعي. وما لا يتهيأ فيه الكيل كالتمور التي تغشاها المياه فالوزن. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ثبت عنده كيل التمر بالمدينة استفيد منه تأصيل المماثلة. وفي الاختيارات وما لا يختلف فيه الكيل والوزن مثل الأدهان يجوز بيع بعضه ببعض كيلًا ووزنًا (يدًا بيد) أي حالًا مقبوضًا في المجلس قبل افتراق أحدهما عن الآخر. وحكى الوزير وغيره الإجماع على أنه لا يجوز بيع جنس منها بجنسه إلا مثلًا بمثل يدًا بيد. وأنه لا يباع غائب منها بناجز. وقد حرم في هذا الجنس الربا من طريق الزيادة والنساء. ولهما عن عمر "إلا ها وها، أو هات وهاك". ومن

حديث أبي هريرة "يدًا بيد" وزيد بن أرقم والبراء "نهى عن بيع الذهب بالفضة دينًا" وأجمع العلماء على تحريمه. وإنما يشترط التقابض في الشيئين المختلفين جنسًا، المتفقين تقديرًا، كالذهب بالفضة والبر بالشعير إذ لا يعقل التفاضل والاستواء إلا فيما كان كذلك. وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "اشترى من يهودي طعامًا بنسيئة". وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلًا أو مؤجلًا. كبيع الذهب بالحنطة. وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل قال الجمهور العلة في الدراهم والدنانير الثمنية. وصوبه ابن القيم وغيره. فإنهم أجمعوا على إسلامها في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما. فلو كان النحاس والحديد ربويًا لم يجز بيعها إلى أجل بدراهم نقدًا. والتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة. وذكر نحوًا من ثلاثين دليلًا على صحة هذا القول. والمكيلات خصته طائفة بالقوت. وما يصلحه وهو قول مالك. قال ابن القيم وهو الصواب. وفي الاختيارات العلة في تحريم ربا الفضل الكيل مع الطعم. وهو رواية عن أحمد. وقال غير واحد إذا اتفقا في العلة واختلفا في الجنس منع النساء. وجاز التفاضل. وإن اختلفا أيضًا في العلة جاز النساء والتفاضل. واستثنى النقدان من الموزونات لئلا ينسد باب السلم (فإذا اختلفت هذه الأصناف) الستة. وكذا ما في

معناها (فبيعوا كيف شئتم) أي بيعوا بعضها ببعض من غير تقييد بصفة من الصفات. (إذا كان يدًا بيد، رواه مسلم) وللترمذي وغيره "بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدًا بيد. وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدًا بيد" قال والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون أن يباع البر بالبر إلا مثلًا بمثل. والشعير بالشعير إلا مثلًا بمثل. فإذا اختلفت الأصناف فلا بأس أن يباع متفاضلًا إذا كان يدًا بيد. وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال الوزير اتفقوا على أنه يجوز الذهب بالفضة وعكسه متفاضلين. وكذا التمر بالحنطة أو الشعير أو الملح. ولا بد في بيع بعض الربويات ببعض من التقابض. ولا سيما في الصرف وهو بيع الدراهم بالذهب وعكسه. فإنه متفق على اشتراطه. فلو افترق المتصارفان قبل قبض البعض أو الكل بطل العقد فيما لم يقبض. واتفقوا على أنه لا يجوز بيع الجيد بالرديء من جنس واحد إلا مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد. والمراد بالصنف الجنس وهو ما له اسم خاص يشمل أنواعًا كبر ونحوه. وفروع الأجناس أجناس باختلاف أصولها. (ولهما من حديث أبي سعيد نحوه) أي نحو حديث عبادة في "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل" وهو أصل في باب الربا (وفيه

فمن زاد أو استزاد) أي أعطي الزيادة أو طلب الزيادة (فقد أربى) أي أوقع نفسه في الربا أو أتى الربا وتعاطاه. والمراد أخذ أكثر مما أعطاه وهو ربا (الآخذ والمعطي فيه سواء) أي في الإثم. فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على تحريم ربا الفضل. وهو مذهب جمهور العلماء. للأخبار المستفيضة في ذلك الثابتة عن جماعة من الصحابة. القاضية بتحريم بيع هذه الأجناس بعضها ببعض متفاضلًا. وقال - صلى الله عليه وسلم - في الذي أتاه بتمر جنيب "أكل تمر خيبر هكذا"؟ قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة. فقال "لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا". فيحرم التفاضل ولو اختلفا في الجودة والرداءة. ولا يجوز بيع شيء منها ببعضه على التحري على الإطلاق. وقال ابن القيم حرم التفريق في الصرف وبيع الربوي بمثله قبل القبض لئلا يتخذ ذريعة إلى التأجيل الذي هو أصل باب الربا. فحماهم عن قربانه باشتراط التقابض في الحال. ثم أوجب عليهم فيه التماثل. وأن لا يزيد أحد العوضين على الآخر إذا كانا من جنس واحد. حتى لا يباع مد جيد بمدين رديئين. وإن كانا يساويانه. سدًا لذريعة ربا النساء الذي هو حقيقة الربا. وأنه إذا منعهم من الزيادة مع الحلول حيث تكون الزيادة في

مقابلة جودة صفة ونحوها. فمنعهم منها حيث لا مقابل لها إلا مجرد الأجل أولى. فهذه حكمة تحريم ربا الفضل التي خفيت على كثير من الناس اهـ. ولا يجوز بيع حب بدقيقه ولا سويقه. ولا نيئه بمطبوخه ولا أصله بعصيره. ولا خالصه بمشوبه. واتفقوا على أن الربا المحرم يجري في غير الأعيان الستة المنصوص عليها. وأنه متعد منها إلى كل ملحق بشيء منها. ولا ربا فيما لا يوزن عرفًا لصناعته كفلوس. ومعمول صفر ونحاس ورصاص عند الجمهور مالك وأبي حنيفة والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد. وغير ذهب وفضة فلا يصح مطلقًا. ولا ربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن كبيض وجوز. (وللأربعة) وغيرهم (عن سعد) يعني ابن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه قال (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر) وفي رواية سمعته "يسأل عن اشتراء التمر بالرطب" فقال: "أينقضي الرطب إذا يبس" قالوا نعم "فنهى عن ذلك" صححه ابن المديني والترمذي. وقال العمل عليه عند أهل العلم. ولأن أحدهما أزيد من الآخر قطعًا بلينته فهو أزيد أجزاء من الآخر زيادة لا يمكن فصلها وتمييزها. ولا يمكن أن يجعل في مقابلة تلك الأجزاء من الرطب ما يتساويان به. فدل على أن الشرط تحقق المماثلة حال اليبوسة. فلا يكفي

تماثل الرطب والتمر على رطوبته. ولا على فرض اليبوسة. لأن تخمين فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر. وهذا قول أكثر أهل العلم. وجوز أبو حنيفة بيع الرطب بالتمر إذا تساويا كيلًا. وحمل الحديث على البيع نسيئة. كما جاء في بعض الروايات. وصرح الحافظ المنذري وغيره أنها غير محفوظة. وفي الصحيحين عن ابن عمر "نهى عن بيع الرطب بالتمر كيلًا" وعن بيع العنب بالزبيب كيلا وعن بيع الزرع بالحنطة كيلا" والعلة في ذلك هو الربا لعدم التساوي. ويدل على تحريمه أيضًا النهي عن بيع المحاقلة والمزابنة الآتي. وفيه دليل على جواز بيع الرطب بالرطب، وهو مذهب الجمهور. (ولمسلم عن جابر) -رضي الله عنه- (نهى) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عن بيع الصبرة) وهي ما جمع من الطعام بلا كيل ولا وزن (من التمر لا يعلم كيلها) يعني الصبرة. وهذه صفة كاشفة للصبرة. لأنه لا يقال لها صبرة إلا إذا كانت مجهولة الكيل فلا يجوز بيعها (بالكيل المسمى من التمر) فدل الحديث أنه لا يباع جنس بجنسه وأحدهما مجهول المقدار. لأن العلم بالتساوي مع الإتفاق في الجنس شرط لا يجوز البيع بدونه. ولا ريب أن الجهل بكلا البدلين أو بأحدهما مظنة للزيادة والنقصان. وما كان مظنة للحرام وجب تجنبه. والقاعدة أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.

(وفي الصحيحين) من حديث جابر وزيد بن أبي أنيسة وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه (نهى عن بيع المحاقلة) من الحقل وهو بيع ثمر النخل بالتمر كيلًا وبيع العنب بالزبيب كيلاً وبيع الزرع بالحنطة كيلاً. والعلة في ذلك هو الربا. لعدم التساوي (و) أنه نهى عن بيع (المزابنة) مفاعلة من الزبن وهو الدفع الشديد. قيل للبيع المخصوص مزابنة. لأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه. أو لأن أحدهما إذا وقف على ما فيه من الغبن أراد دفع البيع لفسخه وأراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة بإمضاء البيع. وفي خبر زيد ""المحاقلة أن يبيع الحقل بكيل من الطعام معلوم. والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر" وقال الترمذي المحاقلة بيع الزرع بالحنطة. والمزابنة بيع التمر على رؤوس النخل بالتمر. والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم كرهوا بيع المحاقلة والمزابنة وألحق الشافعي وغيره بذلك كل بيع مجهول أو معلوم من جنس يجري الربا في نقده. وهو قول الجمهور. (ولهما عن زيد بن ثابت) -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في العرايا) أي في بيع تمر العرايا جمع عرية. والعرية هي النخلة. وفي الأصل عطية ثمر النخلة. سميت بذلك لأنها أعريت من أن تخرص في الصدقة. فرخص لأهل الحاجة الذي لا نقد لهم وعندهم فضول من تمر قوتهم. والترخيص في الأصل التسهيل والتيسير. وفي العرف ما شرع من الأحكام

لعذر مع بقاء دليل الإيجاب والتحريم. لولا ذلك العذر (أن تباع بخرسها كيلًا) أي أن يبتاعوا بذلك التمر من رطب تلك النخلات بخرصها. وللبخاري عن رافع وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن المزابنة بيع التمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم". (وفي لفظ يأخذها أهل البيت) يعني الذين لا نقد لهم وعندهم فضول من تمر قوتهم (بخرصها) أي بقدر ما فيها إذا كان تمرًا والخرص هو التخمين والحدس كما تقدم (يأكلونه رطبًا) وفي لفظ "رخص في بيع العرية بالرطب أو الثمر. ولم يرخص في غير ذلك" ولهما عن سهل "نهى عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا أن تشتري بخرصها يأكلها أهلها رطبًا" قال غير واحد العرية أن يشتري الرجل تمر النخلات لطعام أهله رطبًا بخرصها تمرًا. يقول هذا الرطب الذي عليها إذا يبس يحصل منه ثلاثة أوسق مثلًا. فيبيعه بثلاثة أوسق تمرًا ويتقابضان في المجلس. فيسلم المشتري التمر. ويسلم البائع النخل. ولا يجوز في غير الرطب والعنب من الثمار. وأخرج الشافعي عن زيد بن ثابت أنه سمى رجالًا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطبًا ويأكلون مع الناس وعندهم فضول قوتهم من التمر. فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها. من التمر. فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على أن حكم العرايا مخرج

من بين المحرمات مخصوص بالحكم. وللبخاري من حديث جابر "نهى عن بيع الثمر حتى يطيب. ولا يباع شيء منه إلا بالدنانير والدراهم إلا العرايا". (ولهما من حديث أبي هريرة فيما دون خمسة أوسق) أو في خمسة أوسق فيبقى الشك ويعمل بالمتيقن وهو الأربعة فما دونها. وهذا مذهب الجمهور. قال ابن حبان الاحتياط أن لا يزيد على الأربعة. قال الحافظ يتعين المصير إليه. فيشترط للعرية خمسة شروط: أن تكون بمثل ما يؤول إليه. وفيما دون خمسة أوسق. ولمحتاج لرطب ولا ثمن معه. بشرط الحلول والتقابض. وزيد أن يكون الرطب على رؤوس النخل. فلو كان على وجه الأرض لم يجز لأن الرخصة وردت في بيعة على رؤوس النخل ليؤخذ شيئًا فشيئًا وأن يكون التمر معلومًا بالكيل. والثامن الحلول على قول أنهما شرطان. (وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشًا) أي أن يهيء ما يحتاج إليه العسكر من مركوب وسلاح وغيره (فنفدت الإبل) بفتح فكسر أي فنيت أو نقصت. والمعنى أنه أعطى كل رجل جملًا وبقيت بقية من الناس بلا مركوب. فقال يا رسول الله قد نفدت الإبل. وقد بقيت بقية من الناس لا ظهر لهم أي ليس لهم إبل (فأمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) أي مؤجلًا إلى أوان حصول إبل

الصدقة (رواه أبو داود) والحاكم وغيرهما والدارقطني وصححه. وقال ابن القيم حديث عبد الله بن عمرو صريح في جواز التفاضل والنساء. وهو حديث حسن وقال الحافظ إسناده قوي. وفي السنن وصححه الترمذي أنه - صلى الله عليه وسلم - اشترى عبدًا بعبدين. وللبيهقي قال عمرو بن حريث لعبد الله بن عمرو إنا بأرض ليس فيها ذهب ولا فضة أفأبيع البقرة بالبقرتين والبعير بالبعيرين والشاة بالشاتين. فقال أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. وفي لفظ لأحمد وغيره فقال لي "ابتع علينا إبلًا بقلائص الصدقة إلى محلها حتى تنفذ هذا البعث" قال فكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها. حتى نفذت ذلك البعث. فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحاصل أنه أمره أن يبتاع عددًا من الإبل حتى يتم ذلك الجيش ويرد بدلها من إبل الصدقة وفي قصة وفد هوازن " ومن لم تطب نفسه فله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا" وعن علي أنه باع جملًا يدعى عصيفيرًا بعشرين بعيرًا إلى أجل. رواه مالك والشافعي وغيرهما. واشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالربذة. ورافع بن خديج بعيرًا ببعيرين وأعطاه أحدهما. وقال آتيك بالآخر غدًا. وقال ابن المسيب وغيره لا ربا في البعير بالبعيرين

والشاة بالشاتين إلى أجل. وورد في ذلك آثار كثيرة. وعلل أحمد أحاديث المنع. وأنه ليس فيها حديث يعتمد عليه. وقال أبو داود إذا اختلفت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظرنا إلى ما عمل به أصحابه من بعده. وذكر هو وغيره آثارًا عن الصحابة في جواز ذلك متفاضلًا ونسيئة. وذهب جمهور العلماء إلى جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلًا. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب الأصح يجوز مع الحاجة. وأما مع الاختلاف في الأجناس كالعبيد بالثياب والشاة بالإبل فإنه يجوز عند جمهور الأمة التفاضل فيه والنساء. وأما بيع الحيوان بالحيوان يدًا بيد متفاضلًا وغير متفاضل فلا نزاع فيه. (وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (نهى) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عن بيع الكالئ بالكالئ رواه الدارقطني وفيه ضعف) وقد صححه الحاكم على شرط مسلم. ولكنه تفرد به موسى بن عبده الربذي. وقال فيه أحمد لا تصلح الرواية عنه عندي. ولا أعرف هذا الحديث عن غيره. وليس في هذا أيضًا حديث صحيح. لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين. قال نافع الكالئ بالكالئ هو بيع الدين بالدين. وقال أبو عبيد هو بيع النسيئة بالنسيئة. وقد دل الحديث على عدم جواز بيع الدين. وهو إجماع أهل العلم كما حكاه أحمد وابن عبد البر والوزير وغيرهم وله

صور منها بيع ما في الذمة بثمن مؤجل لمن هو عليه أبو بحال لم يقبض أو جعله رأس مال سلم. وقال ابن القيم الكالئ هو المؤخر الذي لم يقبض. كما لو أسلم شيئًا في شيء في الذمة وكلاهما مؤخر. فهذا لا يجوز بالاتفاق. وكذا لا يجوز بيع كل معدوم بمعدوم. وقال بيع الدين بالدين ينقسم إلى بيع واجب بواجب وهو ممتنع. وإلى بيع ساقط بساقط. وساقط بواجب. وواجب بساقط. فالساقط بالساقط في صورة المقاصة. والساقط بالواجب كما لو باعه دينًا له في ذمته بدين آخر من جنسه فسقط الدين المبيع ووجب عوضه. وهو بيع الدين ممن هو في ذمته. وأما بيع الواجب بالساقط. فكما لو أسلم إليه في كر حنطة مما في ذمته. وقد حكى الإجماع على امتناعه. ولا إجماع فيه. واختار الشيخ جوازه. قال ابن القيم وهو الصواب إذ لا محذور فيه. وليس بيع كالئ بكالئ فيتناوله النهي بلفظه. ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى. فإنه المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة. وأما ما عداه من الثلاث فلكل منهما غرض صحيح. وذلك ظاهر في مسألة التقاص، فإن ذمتهما تبرأ من أسرها وبراءة الذمة مطلوب لهما. وللشارع. فأما في الصورتين الأخيرتين فأحدهما يعجل براءة ذمته. والآخر يحصل على الربح.

وإن كان بيع دين بدين فلم ينه الشارع عنه لا بلفظه ولا بمعنى لفظه. بل قواعد الشرع تقتضي جوازه اهـ. لكن المنع هو قول الجمهور. لا سيما في الاحتيال على المعسر في قلب الدين إلا معاملة أخرى بزيادة مال. وذكر الشيخ أنه حرام باتفاق المسلمين. ويحرم أن يمتنع من إنظار المعسر حتى يقلب عليه الدين. ومتى قال إما أن تقلب وإما أن تقوم عند الحاكم وخاف أن يحبسه لعدم ثبوت إعساره عنده وهو معسر كانت المعاملة حرامًا غير لازمة باتفاق أهل العلم. وللنهي عن بيع المضطر. (وعن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- (قال اشتريت قلادة) وهي ما يعلق في العنق ونحوه. وذلك يوم خيبر باثني عشر دينارًا (فيها خرز) هو بالفارسية مهرة (وذهب) وفي رواية "خرز معلق بذهب" وفي رواية ذهب وجوهر (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا حتى تفصل رواه مسلم) وأهل السنن وغيرهم. وصححه الترمذي وغيره. ولأبي داود قال إنما أردت الحجارة. فقال "حتى تميز بينهما" قال فرده حتى ميز بينهما. فدل الحديث وما في معناه مما تقدم وغيره من النهي عن بيع الجنس بجنسه متفاضلًا على تحريم بيع الذهب مع غيره بذهب حتى يفصل من ذلك الغير ويميز عنه ليعرف مقدار الذهب المتصل بغيره. ومثله الفضة مع غيرها بفضة. وكذلك سائر الأجناس الربوية لاتحادها في العلة. وهو بيع الجنس

بجنسه متفاضلًا. لعدم التمكن من معرفة التساوي على التحقيق. كما تعذر الوقوف على التساوي في القلادة من غير فصل. وهذا مذهب جمهور أهل العلم وهو المفتي به. (وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (قلت يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع) بالباء وللبيهقي في بقيع الغرقد وكانوا يقيمون فيه السوق قبل أن يتخذ مقبرة (فأبيع بالدنانير) ضرب من الذهب (وآخذ الدراهم) ضرب من الفضة (وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير) وفي لفظ أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير. (فقال لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء رواه الخمسة) وصححه الحاكم. فدل على جواز قضاء الذهب عن الفضة والفضة عن الذهب بسعر يومها. وهو مذهب أحمد وغيره. ودل على أن جواز الاستبدال مقيد بالتقابض في المجلس. وبسعر يومها. لا يقبض البعض دون الكل. لأن ذلك من باب الصرف ومن شرطه أن لا يفترقا بينهما شيء وحكاه ابن المنذر وغيره إجماعًا. * * *

باب بيع الأصول والثمار

باب بيع الأصول والثمار أي باب أحكام بيع الأصول. جمع أصل وهو ما يتفرع عنه غيره. والمراد هنا الدور والأرض والشجر. وأحكام الثمار جمع ثمرة وهو حمل الشجر. وحكم الجوائح وما يتعلق بذلك. وذكر أهل العلم أن من باع دارًا شمل أرضها وبناءها وإن كانت مما فتح عنوة. كما تقدم. وإن باع أرضًا شمل غرسها وبناءها. أو بستانًا لأنه اسم للأرض والشجر. والحائط. (وعن عثمان بن عفان) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من يشتري بئر رومة) مشهورة في العقيق ليس بالمدينة ماء يستعذب غيرها بخير له منها في الجنة (يوسع بها على المسلمين) وكانت لرجل من بني غفار يبيع منها القربة بمد فبلغ ذلك عثمان قال عثمان -رضي الله عنه- (فاشتريتها) من صلب مالي. ويأتي إن شاء الله في باب الوقف (حسنه الترمذي) فدل الحديث على جواز بيع البئر والعين وما في معنى ذلك. وتقدم قول الشيخ وغيره. إن من ملك ماء نابعًا كبئر محفورة في ملكه أو عين ماء في أرضه فله بيع البئر والعين جميعًا. وأنه يجوز بيع بعضها مشاعًا. وإن كان أصل القناة في أرض مباحة. فكيف إذا كان أصلها في أرضه. وأنه لا يعلم فيه نزاعًا. (وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من ابتاع) أي اشترى (نخلًا مؤبرة) أي مشققة وملقحة. والتأبير التشقيق والتلقيح.

وذلك أنه يشق طلع النخلة الأنثى ليضع فيها شيئًا من طلع النخلة الذكر. قال القاضي الحكم متعلق بالظهور دون نفس التلقيح بغير خلاف بني العلماء. واختار الشيخ أنه منوط بالتأبير. وأناطوه بالتشقيق لملازمته له غالبًا (فالثمرة للبائع إلا أن يشترط المبتاع) أي المشتري بقرينة الإشارة إلى البائع. وذلك كأن يقول المشتري اشتريت الشجرة بثمرتها. وعن عبادة مرفوعًا "قضى أن ثمرة النخل لما أبرها إلا أن يشترط المبتاع". فدل الحديثان وغيرهما على أن من باع نخلًا وعليها ثمرة مؤبرة لم تدخل الثمرة في البيع بل تستمر على ملك البائع. إلا أن يشترطها المبتاع. فتكون له. ودل بمفهومه على أنها إن كانت غير مؤبرة تدخل في البيع وتكون للمشتري ودل على أنه يجوز أن يشترطها. وعلى أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد لا ينافي البيع. وهذا مذهب جمهور العلماء. والبيع صحيح باتفاق أهل العلم. والنهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها المراد بها المستقلة. وهنا الثمرة تابعة للنخل. فتدخل تبعًا على القاعدة المشهورة. قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه إذا باع أصول نخل لا ثمر فيها فالبيع صحيح. وكذا اتفقوا على صحة البيع للأصول وفيها ثمر باد. وإن كان غير مؤبر. فقال مالك والشافعي وأحمد الثمرة للمشتري. وإن كان مؤبرًا فللبائع. إلا أن يشترط المبتاع اهـ. وكذا لو صالح بالنخل أو جعله أجرة أو صداقًا أو عوض

خلع. بخلاف وقف ووصية. وكذا حكم شجر عنب وتوت ورمان وجوز. وما ظهر من نوره كمشمش وتفاح. ومن أكمامه كورد وقطن. وسائر الأشجار قياسًا على النخل. قال (ومن ابتاع عبدًا) وظاهره أو أمة (له مال) أي في يده ملكه سيده إياه. أو خصه به (فماله للذي باعه) لأن مال العبد لا يدخل في المبيع. ولاختصاص البيع بالعبد دون غيره (إلا أن يشترط) أي المال (المبتاع) في العقد فله (متفق عليه) وعن عبادة "قضى أن مال المملوك لمن باعه إلا أن يشترط المبتاع" وفيها دليل على أن مال العبد لا يدخل في المبيع حتى ثياب الزينة. ونسبه الماوردي لجميع الفقهاء وصححه النووي. قال الماوردي إلا أن العادة جارية بالعفو عنها فيما بين التجار. وقوله "المملوك" ظاهر في التسوية بين العبد والأمة. فهو في الدلالة أشمل. وإن كان قصد المشتري المال الذي مع العبد اشترط علمه بالمال. وسائر شروط البيع. لأنه مبيع مقصود أشبه ما لو ضم إليه عينًا أخرى. ويشمل بيع دابة. كفرس لجامًا ومقودًا ونعلًا ونحوه في مطلق البيع. لجريان العادة به. فإن العمل في الغالب بالعرف في ذلك ونحوه. (ولهما عنه نهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار) جمع ثمرة وهي أعم من الرطب وغيره (حتى يبدو) بغير همز أي يظهر (صلاحهما أي حمرتها وصفرتها. وبدو الصلاح إذا ظهر ولو في شجرة،

إذا اتحد البستان، والعقد، والجنس، فيتبع ما لم يبد صلاحه بما بدا صلاحه. واكتفى ببدو صلاح بعضه. لأن الله امتن علينا فجعل الثمار لا تطيب دفعة واحدة. إطالة لزمن التفكه. فلو اعتبر في طيب الجميع لأدى إلى أن لا يباع شيء قبل كمال صلاحه. أو تباع الحبة بعد الحبة. وفي كل منهما حرج. وقال ابن القيم إذا بدا الصلاح في بعض الشجرة جاز بيعها جميعها. وكذلك يجوز بيع ذلك النوع كله في البستان. وقال شيخنا يجوز بيع البستان كله تبعًا لما بدا صلاحه. سواء كان من نوعه أولًا تقارب إدراكه وتلاحقه أو تباعد. وفي الفروع واختار شيخنا بقية الأجناس التي تباع عادة كالتفاح. والعلة عدم اختلاف الأيدي على الثمرة. ولمسلم ما صلاحه قال "تذهب عاهته" وفي لفظ "نهى عن بيع النخل حتى تزهو. وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة" الآفة تصيبه. فيفسد. (نهى البائع والمبتاع) أما البائع فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل. وأما المشتري فلئلا يضيع ماله ويساعد البائع على الباطل. قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث. وفي البخاري من حديث زيد بن ثابت "كان الناس يتبايعون الثمار فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع إنه أصاب الثمر الدمان" وهو فساد الطلع وسواده "أصابه مراض" داء يقع في الثمر فيهلك. "أصابه قشام" أي تساقط "عاهات يحتجون

بها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإما لا فلا تبتاعوا حتى يبدو صلاح الثمر". (ولهما عن أنس نهى) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عن بيع الثمار حتى تزهو قيل) يا رسول الله (وما زهوها قال تحمار وتصفار)، وذلك دليل خلاصها من الآفة. وإمارة الصلاح فيها. قال الخطابي لم يرد اللون الخالص من الحمرة والصفرة. وإنما أراد حمرة أو صفرة بكمودة. وقال ابن التين ظهور أوائل الحمرة والصفرة قبل أن ينضج. وللخمسة "نهى عن بيع العنب حتى يسود" أي يبدو صلاحه "وعن بيع الحب حتى يشتد ويأمن العاهة" واشتداده قوته وصلابته. والمراد بدو صلاحهما. وقال ابن المنذر لا أعلم أحدًا من أهل العلم يعدل عن هذا الحديث. وكذا لا يجوز بيع البطيخ ونحوه قبل بدو صلاحه وطيب أكله. وفي الصحيحين "نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب" وفي نحو قثاء حتى يؤكل عادة. ويجوز البيع قبل بدو الصلاح بشرط القطع إذا كان المقطوع منتفعًا به كالخصوم إجماعًا. وأما بيع الرطبة والبقل والقثاء والباذنجان ونحوه لقطة لقطة فيجوز. وأما ما سيوجد منها. فقال الشيخ الصحيح أن هذه لم تدخل في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - بل يصح العقد على اللقطة الموجودة واللقطة المعدومة حتى تيبس المقثاة. لأن الحاجة داعية إلى ذلك. فيجوز بيع المقاثي دون أصولها. وقال ابن القيم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز لا بلفظ عام ولا بلفظ خاص. بل صحح الشارع في بعض المواضع بيع الثمر. وإنما نهى عن بيع الثمار التي يمكن تأخير بيعها حتى يبدو صلاحها. فلم تدخل المقاثي في نهيه. وقال إنما نهى عن بيع الغرر. ولا يسمى هذا غررًا لا لغة ولا عرفًا ولا شرعًا. وأهل الخبرة يستدلون بما ظهر من الورق على المغيب في الأرض. والمرجع في ذلك إليهم. وأيضًا العلم في المبيع شرط في كل شيء بحسبه. وما احتيج إلى بيعه يسوغ فيه ما لا يسوغ في غيره. فيجيز الشارع للحاجة مع قيام السبب. كما أقام الخرص في العرايا مقام الكيل وغير ذلك. (وقال إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك) بغير حق. وقيل إنه من قول أنس. وله حكم الرفع. (ولمسلم عن جابر مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لو بعت) من أخيك (ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا بمَ تأخذ مال أخيك بغير حق) وفيها دليل على وضع الجوائح لأن معناه أن الثمر إذا تلف كان الثمن المدفوع بلا عوض. فكيف يأكل البائع بغير عوض؟ إذ هو مال أخيه لا ماله. فلم يستحقه. وأجمعوا على أنه يفسد البيع قبل بدو الصلاح بشرط البقاء. وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على المنع من بيع الثمرة

قبل بدو الصلاح وإن وقوعه في تلك الحالة باطل. كما هو مقتضى النهي. وأجمعوا على عدم جوازه قبل خروجه. وظاهر النصوص أن البيع بعد ظهور الصلاح صحيح سواء شُرط البقاء أو لم يشرطه. لأن الشارع قد جعل النهي ممتدًا إلى غاية بدو الصلاح وما بعد الغاية مخالف لما قبلها. (وفي رواية) لمسلم عن جابر -رضي الله عنه- (أمر) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (بوضع الجوائح) جمع جائحة. وهي الآفة التي تصيب الثمار فتهلكها. من الجوح وهو الاستئصال. ولا خلاف أن البرد والقحط والعطش جائحة. وكذلك كل ما كان من آفة سموية. وأما ما كان من الآدميين كالسرقة ففيه خلاف. ولا بد من ضمانه على المتلف. قال ابن القيم: من غير مال غيره، بحيث يفوت مقصوده عليه خير المالك بين أخذه وتضمين النقص. والمطالبة بالبدل. وهذا أعدل الأقوال وأقواها. ودلت الأحاديث وما في معناها على وجوب إسقاط ما اجتيح من الثمرة عن المشتري. وأن تلفها من مال البائع. وأنه لا يستحق على المشتري في ذلك شيئًا والجمهور من غير فرق بين القليل والكثير. وبين البيع قبل بدو الصلاح وبعده عملًا بظاهر الحديث. وقال يحيى بن سعيد لا جائحة فيما أصيب دون ثلث رأس المال. وذلك في سنة المسلمين. * * *

باب السلم

باب السلم أي هذا باب يذكر فيه أحكام السلم والتصرف في المبيع وما يتعلق بذلك. والسَلَم بفتح السين واللام السلف وزنًا ومعنى. وقيل السلف لغة أهل العراق. والسلم لغة أهل الحجاز. وقال الأزهري: السلف والسلم واحد في قول أهل اللغة. إلا أن السلف يكون قرضًا. والسلم شرعًا عقد على موصوف في الذمة مؤجل. شرع على أكمل الوجوه لأجل الارتفاق من الجانبين. هذا يرتفق بتعجيل الثمن. وهذا يرتفق برخص المثمن. بشروط زائدة على شروط البيع. قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه يشترط للسلم ما يشترط للبيع. وأن السلم يصح بستة شروط. أن يكون في جنس معلوم. وصفة معلومة. ومقدار معلوم. ومعرفة مقدار رأس المال. وهذه زيادة على شروط البيع. ووجوب وفاء المُسلَم فيه مكان العقد لا بد منه. وإن لم يشترط. فقد أجرى الشارع الشرط العرفي كاللفظي. واتفقوا على مشروعية السَلَم والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع. (قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} أي تعاملتم بالدين {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي مدة معلومة الأول والآخر {فَاكْتُبُوهُ} الآية) أي اكتبوا الذي تداينتم به. إرشاد منه تعالى لهم ليكون أحفظ للدين وميقاته. وأضبط للشاهد فيه.

ونبه على ذلك بقوله {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} قال ابن عباس وغيره نزلت في السلم إلى أجل مسمى. وقال أشهد أن السلم المضمون إلى أجل مسمى. أن الله أحله. وأذن فيه. وقرأ الآية. وهذا اللفظ يصلح للسلم ويشمله. بعمومه. وقدم بز من الشام فقالت عائشة لو اشتريت منه ثوبين إلى الميسرة. وتوفي - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة بطعام لأهله. ويصح السلم بألفاظ البيع لأنه بيع حقيقة. ويصح بلفظ السلم والسلف لأنهما أيضاً حقيقة فيه. فهما اسم للبيع الذي عجل ثمنه وأجل مثمنه. (وعن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة) مهاجرًا من مكة. ومنها ابتدأ الناس التأريخ (وهم يسلفون) بضم الياء أي يعطون الثمن في الحال ويأخذون المثمن في المآل (في الثمار السنة والسنتين) منصوبان بنزع الخافض. أي يشترون إلى السنة والسنتين أو على الظرفية أو المصدر. وللبخاري عامين أو ثلاثة. فيجوز السلم في منقطع الجنس حالة العقد. ولا يشترط أن يكون عند المسلم إليه. لتقريره - صلى الله عليه وسلم - لهم. وفي الصحيح عن ابن أبي أوفى وغيره قيل أكان لهم زرع؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك (فقال من أسلف في شيء) وفي لفظ "في ثمر" بالمثلثة (فليسلف) أي يسلم (في كيل معلوم) أي إذا كان ما يكال. فيعتبر تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل اتفاقًا (ووزن معلوم) إذا كان مما يوزن اتفاقًا ويصح في

الموزون كيلًا وفي المكيل وزنًا. لأن الغرض معرفة قدره وإمكان تسليمه من غير منازعة. فأي قدر قدره جاز وهو مذهب الجمهور. وإن كان مما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم. وحكاه ابن بطال إجماعًا. وكذا الزرع. فإن العدد والزرع يلحقان بالوزن والكيل للجامع بينهما. وهو ارتفاع الجهالة بالمقدار. واتفقوا على أنه لا بد من معرفة صفة الشيء المسلم فيه صفة تميزه عن غيره. وقال الوزير وغيره اتفقوا على أن السلم جائز في المكيلات والموزونات والمزروعات التي يضبطها الوصف. وقال الموقف وغيره المتفق عليه ثلاثة أوصاف الجنس والنوع والرداءة. وأن هذه لا بد منها في كل مسلم فيه بلا خلاف. ويضبط الحيوان بتسعة أوصاف الجنس والنوع والسن واللون والقدر والهزال والسمن والجودة والرداءة. واستدل بعض أهل العلم بآية البقرة في حصر صفاتها. حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان. كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا بدليل ما في الصحيحين "لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها" وكما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - إبل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد بالصفات المذكورة في الحديث. والأصل في صحة السلم فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرًا رواه مسلم. ولأبي

داوود "ابتاع البعير بالعيرين وبالأبعرة إلى مجيء الصدقة". واتفقوا على أن السلم في المعدودات التي لا تتفاوت آحادها كالجوز والبيض جائز. إلا في رواية عن أحمد. وحكي أنهم أجمعوا على أنه لا يجوز في مجهول من مكيل ولا موزون ولا غيرهما. قال (إلى أجل معلوم، متفق عليه) فيعتبر الأجل في السلم وهو مذهب الجمهور. وللآية. (ولابن ماجه عن عبد الله بن سلام) بن الحارث من ذرية يوسف من بني قينقاع سيدهم. قيل نزلت فيه (وشهد شاهد من بني إسرائيل) مات -رضي الله عنه- بالمدينة سنة ثلاث وأربعين. (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (أما في حائط بني فلان فلا) أي لا يجوز السلم في بستان بعينه قال ابن المنذر إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل العلم. وقد كانوا في المدينة حيث قَدِم النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلمون في ثمار النخيل بأعيانهم فنهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لما فيه من الغرر. إذ قد تصاب تلك النخيل بعاهة فلا تثمر شيئًا. وقوله - صلى الله عليه وسلم - "في كيل معلوم ووزن معلوم" احتراز من السلم في الأعيان. وقال ابن القيم وغيره إذا شرط دخل في حد الغرر. فمنع أن يشترط فيه كونه من حائط معين. لأنه قد يختلف فيمتنع التسليم. وإن أسلم في ذمته واشترط عليه أن يعطيه من ثمرة نخله أو زرعه فقال الشيخ وغيره يجوز.

(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل معلوم) ففيه اشتراط الأجل. وأن يكون معلومًا كما تقدم. وفيه جواز معاملة أهل الذمة. (وارتهن منه درعًا من حديد) وللبيهقي رهن درعًا عند أبي الشحم اليهودي. رجل من بني ظفر. بطن من الأوس. وكان حليفًا لهم. (رواه البخاري) ونحوه عند مسلم وفي رواية لهما توفي - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا. وعن أنس رهن درعًا له عند يهودي بالمدينة. وأخذ منه شعيرًا لأهله رواه البخاري. فدل على جواز الرهن في السلم. وكذا الكفيل به. وهو مذهب الجمهور. واختاره الشيخ وغيره. (وعن عبد الله بن عمرو) -رضي الله عنهما- (نهى - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن) أي ما لم يقبض. لأن السلعة قبل قبضها ليست في ضمان المشتري إذا تلفت تلفت من مال البائع. فنهى - صلى الله عليه وسلم - عن أخذ ربحها وذلك مثل أن يشتري متاعًا ويبيعه إلى آخر قبل قبضه من البائع. ودل الحديث على أن البيع باطل وربحه لا يجوز. رواه الخمسة وغيرهم و (صححه الترمذي) وابن خزيمة والحاكم وغيرهم. وقال ابن القيم: المراد به أن لا يصرف المسلم فيه إلى سلم آخر. أو يبيعه بمعين مؤجل. لأنه حينئذ يصير بيع دين بدين وهو منهي عنه من جنس ما نهي عن بيع الكالئ بالكالئ. والذي يجوز منه هو من جنس ما أذن فيه من بيع النقد لمن هو في ذمته بغيره من غير ربح.

(ولأبي داوود) وغيره (عن أبي سعيد مرفوعًا من أسلم في شيء) من مكيل وموزون ونحوهما مما تقدم وغيره مما يجوز السلم فيه (فلا يصرفه إلى غيره) أي لا يحل له جعل المسلم فيه ثمنًا لشيء قبل قبضه. ولا يجوز بيعه قبل القبض. أي لا يصرفه إلى شيء غير عقد السلم. وقال ابن رسلان أي ليس له صرف رأس المال في عوض آخر. كأن يجعله ثمنًا لشيء آخر فلا يجوز له ذلك حتى يقبضه. وقال الموفق بغير خلاف علمناه. وقيل ولو لبائعه. قال ابن القيم: وحكي إجماعًا وليس بإجماع. فمذهب مالك جوازه. وقد نص عليه أحمد في غير موضع. وجوز أن يأخذ عرضًا بقدر قيمة دين السلم وقت الاعتياض. ولا يربح فيه. وقيل له إذا لم يجد ما أسلم فيه ووجد غيره من جنسه أيأخذه؟ قال: نعم. إذا كان دون الشيء الذي له. وذكر حديث ابن عباس "إذا أسلمت في شيء فخذ عوضًا أنقص منه ولا تربح مرتين" قال ابن المنذر وهذا قول صحابي ثبت عنه. وهو حجة ما لم يخالف. قال ابن القيم فثبت أنه لا نص فيه ولا إجماع ولا قياس. وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة. وقال ثبت عن ابن عمر: أني أبيع الإبل بالبقيع إلخ. فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه. والنهي عن بيع الطعام قبل قبضه إنما هو في المعين. أو المتعلق به حق توفية. وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء.

وفائدته سقوط ما في ذمته. لا حدوث ملك له. وقال إذا فسخ العقد بإقالة أو غيرها جاز أن يأخذ عن دين السلم عوضًا من غير جنسه. وهو اختيار القاضي وشيخنا. ومذهب الشافعي. وهو الصحيح. فإن هذا عوض مستقر في الذمة. فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون. ولا نص في المنع ولا إجماع ولا قياس. وقال إذا باع ما يجري فيه الربا بثمن مؤجل فحل فاشترى جنسًا آخر مما يمنع ربا النساء فيهما. فمذهب مالك المنع. ومذهب الشافعي وأبي حنيفة الجواز. واختاره الموفق وشيخنا. وغيرهما. وهو الصحيح. قال علي بن الحسين إذا لم يكن حيلة مقصودة. فهذا شراء للطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول. (وللبخاري من حديث أبي هريرة) أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (من أخذ أموال الناس) أي بالاستدانة أو حفظها أو غير ذلك (يريد أداءها) أي قضاءها في الدنيا (أدى الله عنه) أي قضاها عنه بأن يسوق إلى المستدين ما يقضي به دينه وغير ذلك. وفي الآخرة بإرضائه بما شاء تعالى وتقدس فلا يأخذ من حسناته لصاحب الدين. ولابن ماجه وغيره مرفوعًا "ما من مسلم يدان دينًا يعلم أنه يريد أداءه إلا أداه عنه في الدنيا والآخرة" (ومن أخذها) أي أخذ أموال الناس بأي طريق من طرق الاستئكال (يريد إتلافها) عليهم لا لحاجة ولا لتجارة،

بل لا يريد إلا إتلاف ما أخذ على صاحبه، ولا ينوي قضاءها، إلا (أتلفه الله) إما بإهلاكه نفسه، ويشمل إتلاف طيب عيشه وتضييق أموره وتعسر مطالبه ومحق بركته. ويحتمل إتلافه في الآخرة بتعذيبه. قال ابن بطال فيه الحث على ترك استئكال أموال الناس. والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة وأن الجزاء قد يكون من جنس العمل اهـ. وفيه الحث على حسن النية. والترهيب عن خلافه. وبيان أن مدار الأعمال على النية. وأن من استدان ناويًا الإيفاء أعانه الله عليه. وللحاكم من حديث عائشة "ما من عبد كانت له نية في وفاء دينه إلا كان له من الله عون". * * *

باب القرض

باب القرض أي هذا باب يذكر فيه فضل القرض وأحكامه وما يتعلق بذلك. وأصل القرض في اللغة القطع. سمي به القرض لأن المقرض يقطع من ماله شيئًا يعطيه ليرجع إليه مثله. وهو نوع من المعاملات على غير قياسها. لاحظها الشارع رفقًا بالمحاويج. قال ابن القيم: القرض من باب الإرفاق والتبرع. لا من باب المعاوضات. ولهذا سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - منيحة لينتفع بما يستخلف منه. ثم يعيده إليه بعينه إن أمكن. وإلا فنظيره أو مثله. وإن كان المقرض ينتفع بالقرض كما في السفتجة. ولهذا كرهها من كرهها. والصحيح أنها لا تكره. وشرطه معرفة قدر القرض ووصفه. ليتمكن من رد بدله. وأن يكون المقرض ممن يصح تبرعه. ويصح بلفظ القرض والسلف. وما أدى معناهما. ويمكن بالقبض. والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع. (قال تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ}) أي أنفقوا في طاعة الله. والقرض كلما يعطيه الإنسان ليجازى عليه مما يتعلق بالنفس والمال. وقيل المراد أقرضوا عباد الله والمحتاجين من خلقه {قَرْضًا حَسَنًا} على أحسن وجه من كسب طيب بإخلاص. وفي حديث النزول "من يقرض غير عديم ولا ظلوم" وسمى تعالى ما عمله عباده المؤمنون على رجاء ما أعد لهم من الثواب قرضًا. لأنهم يعملونه لطلب ثوابه {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ

خَيْرٍ} كلمة من جوامع الكلم تعم كل ما يرغب فيه {تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} أي جميع ما تقدموه بين أيديكم من خير فهو لكم حاصل {هُوَ خَيْرًا} من الذي تؤخرونه {وَأَعْظَمَ أَجْرًا} نفعًا وجزاء. فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره. وقال {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} ثم قال تعالى {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لما اجترحتم من السيئات {رَّحِيم} بكم. وعمومات الأدلة القرآنية قاضية بفضل القرض. وقضاء حاجة المسلم. وكذا السنة. وهو مباح للمقترض. وليس من المسألة المكروهة. لفعله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يستقرض إلا ما يقدر أن يوفيه. إلا الشيء اليسير الذي لا يتعذر مثله عادة. لئلا يضر بالمقرض. ولا بغيره ممن هو معروف بعدم الوفاء. لكونه تغريرًا بمال المقرض وإضرارًا به. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من نفس) بالتشديد أي فرج (عن مسلم كربة من كرب الدنيا) غمًّا أوهمًّا أو عناء أو شدة. والكرب هو الغم الذي يأخذ النفس (نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) أي فرج بذلك عنه. ولفظ البخاري من حديث أبي هريرة "ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" (ومن يسر على معسر) أي سهل على من كان له دين على فقير بإمهال وبترك بعض الدين أو كله (يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) ما كان عسيراً.

وفيه "ومن ستر على مسلم" في قبح فلا يفضحه أو كساه ثوباً "ستر الله عليه في الدنيا" فلا يفضحه "و" في "الآخرة" ستر الله عيوبه يوم القيامة (والله في عون العبد) في حاجته (ما كان العبد في عون أخيه) في قضاء حاجته فكما تدين تدان والجزاء من جنس العلم. والحديث (رواه مسلم) وغيره. وفي الصحيح "ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته" ولابن ماجه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا "ما من مسلم يقرض مسلمًا مرتين إلا كان كصدقة مرة" وله عن أنس مرفوعًا "الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر" حتى قيل: إنه أفضل من الصدقة. إذ لا يقترض إلا محتاج. وفي هذه الأحاديث وغيرها من العمومات ما يدل على فضيلة القرض. وقضاء حاجة المسلم. وتفريج كربته. وسد فاقته. ولا خلاف بين المسلمين في مشروعيته. وجواز سؤاله عند الحاجة. ولا نقص على طالبه. ولو كان فيه شيء من ذلك لما استسلف النبي - صلى الله عليه وسلم -. (ولهما عن أبي رافع) -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف) أي استقرض (من رجل بكرًا) بفتح الباء. هو الفتى من الإبل بمنزلة الغلام من الذكور (فقدمت عليه إبل الصدقة) أي قطعة إبل من إبل الصدقة (فأمره) يعني أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا رافع (أن يقضي الرجل) أي أن يوفي الرجل (بكره) الذي كان استسلفه منه. فدل على جواز قرض

الحيوان. وهو مذهب الجمهور (فقال) يعني أبا رافع (لا أجد) يعني في إبل الصدقة (إلا خيارًا) أي مختارًا. (رَباعيًا) بفتح الراء وهو الذي استكمل ست سنين ودخل في السابعة حين طلعت رباعيته. وكذلك الدين حيوانًا كان أو غيره. ففي الصحيحين عن جابر كان لي عليه دين فقضاني وزادني (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أعطه إياه) أي أعط الرجل الجمل الخيار الرباعي (فإن خير الناس أحسنهم قضاء) وللترمذي وصححه من حديث أبي هريرة قال استقرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنًا فأعطى سنًا خيرًا من سنه. وقال "خياركم أحسنكم قضاء" ولفظ الصحيحين كان له عليه سن من الإبل. فدل الحديثان وما في معناهما على جواز الزيادة على مقدار القرض من المستقرض. بل إنه يستحب لمن له عليه دين من قرض أو غيره أن يرد أجود من الذي عليه. وأن ذلك من مكارم الأخلاق المحمودة عرفًا وشرعًا. ولا يدخل في القرض الذي يجر نفعًا لأنه لم يكن مشروطًا من المقرض. وإنما ذلك تبرع من المستقرض. وكذا لو أعطاه هدية بعد الوفاء بلا شرط ولا مواطأة. لأنه لم يجعل تلك عوضًا في القرض ولا وسيلة إليه. ولو علمت زيادته لشهرته بسخائه كفعله –صلى الله عليه وسلم. ودل الحديث على أن ما صح بيعه من حيوان ونقد وغيرهما صح قرضه. وهو مذهب الجمهور إلا الأمة لغير محرم منها لإفضائه إلا ما لا يباح.

(وكان عبد الله بن الزبير) -رضي الله عنه- (يأخذ من أقوام بمكة دراهم) إذ كان واليًا عليها. وتسمى السفتجة (ثم يكتب لهم بها) أي بالدراهم التي أخذ (إلى أخيه مصعب بن الزبير) وذلك سنة سبع وستين (بالعراق) وكان جعله أميرًا عليها (فيأخذونها منه) أي من مصعب بن الزبير. (ولم ير ابن عباس بذلك) أي باستقراضه ذلك (بأسًا. رواه سعيد) ابن منصور في سننه. وقال ابن القيم الصحيح أن السفتجة لا تكره. وفي الاختيارات لو أقرضه في بلد ليستوفي منه في آخر جاز على الصحيح. وقال ابن القيم لو أقرضه دراهم يوفيه إياها في بلد آخر ولا مؤونة لحملها جاز لأنه مصلحة لهما. ولو أفلس غريمه فأقرضه دراهم يوفيه كل شهر شيئًا معلومًا من ربحها جاز لأن المقرض لم ينفرد بالمصلحة. أو كان له عليه حنطة فأقرضه دراهم يشتري له بها حنطة ويوفيه إياها. أو أقرض فلاحه ما يشتري به بقرًا يعمل بها في أرضه أو بذرًا يبذره فيها. واختاره الموفق وصححه ابن القيم. وقال ذلك لأن المستقرض إنما يقصد نفع نفسه. ويحصل انتفاع المقرض ضمنًا. فأشبه أخذ السفتجة. وإيفاءه في بلد آخر. من حيث إنه مصلحة لهما جميعًا. والمنفعة التي تجر إلى الربا في القرض هي التي تخص المقرض.

(وسئل معاذ) ابن جبل -رضي الله عنه- (عن استقراض الخبز) ورد مثله (والخمير) يعني العجين ورد مثله عجينًا. (فقال هذا من مكارم الأخلاق) معالي السجايا والمروءات. وقال مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من السلف يجوز قرض الخبز ونحوه. وقال في الاختيارات يجوز قرض الخبز ورد مثله عددًا بلا وزن من غير قصد الزيادة. وهو مذهب أحمد. ويجوز قرض المنافع. ويصح تأجيل القرض. لخبر الذي أسلف ألف دينار إلى أجل مسمى. وهو قول الأكثر. ويلزم إلى أجله. وهو مذهب مالك واختاره الشيخ. وصوبه في الإنصاف ويملك القرض بقبضه ويرد مثله. وإن كان فلوسًا أو دراهم مكسرة فمنع السلطان المعاملة بها فله القيمة وقت القرض. وكذا سائر الديون اختاره الشيخ. (وتقدم) قوله - صلى الله عليه وسلم - في باب الشروط في البيع (لا يحل سلف وبيع) أي قرض وبيع مع السلف بأن يكون أحدهما مشروطًا في الآخر. وتقدم قول أحمد أن يقرضه قرضًا ثم يبايعه بيعًا يزداد عليه. هو فاسد لأنه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن. وقول الوزير وغيره اتفقوا على أنه لا يجوز بيع وسلف. وقول ابن القيم لأنه ذريعة إلى أن يقرضه ألفًا ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى. فيكون قد أعطاه ألفًا وسلعة بثمانمائة. ليأخذ منه ألفين. وهذا هو عين الربا.

(وعن أنس مرفوعًا إذا أقرض أحدكم أخاه قرضًا) أي أعطاه شيئًا من المال ليعيده إليه (فأهدى إليه) شيئًا أتحفه به (أو حمله على الدابة) من موضع إلى آخر أو غير الدابة (فلا يركبها) وكذا لو دفعها إليه ليحمل عليها ونحوه (ولا يقبله) أي لا يقبل ما أهدى إليه. ولا الحملان ونحو إلا أن يحسبه من دينه. فمنع الشارع المقرض من قبول الهدية حتى يحسبها من دينه. لئلا يتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية. فيكون ربا. فإنه يعود إليه ماله وأخذ الفضل الذي استفاده. (إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك) يعني الإهداء لا لأجل القرض. وله شواهد كثيرة (رواه ابن ماجه) وفيه ضعف إلا أنه يغتفر في فضائل الأعمال. وللبخاري عن أبي بردة بن أبي موسى قال قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي إنك بأرض فيها الربا فاش. فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قط فلا تأخذه فإنه ربا. وللبخاري أيضًا في تأريخه عن أنس مرفوعًا "إذا أقرض فلا يأخذ هدية". وورد غير ذلك من الآثار والأصول الشرعية ما يعضد ذلك مما يدل على أن الهدية ونحوها إذا كانت لأجل التنفيس في أجل الدين. أو لأجل رشوة صاحب الدين. أو لأجل أن يكون لصاحب الدين منفعة في مقابل دينه. فذلك محرم. لأنه إما نوع من الربا والربا محرم. أو نوع من الرشوة وهي حرام أيضًا

بالنصوص المستفيضة فيها. القاضية بتحريم قبول المقرض هدية أو غيرها من المنافع. والعلة في ذلك لئلا يتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأخذ هدية عليه. أو أي منفعة. فيكون ربا. لأنه يعود إليه ماله مع أخذ الفضل الذي استفاده. وإن كان ذلك لأجل عادة جارية بين المقرض والمستقرض قبل التداين فلا بأس. (وقال ابن مسعود) -رضي الله عنه- (كل قرض جر نفعًا) نحو أن يسكنه داره أو يقضيه خيرًا منه أو يهدي له أو يعمل له عملًا ونحو ذلك (فهو ربا) أو رشوة وكلاهما حرام بالنصوص المستفيضة. وأبلغ في التحريم لو اشترط ما يجر نفعًا مما مر أو غيره. وهذا الأثر وإن كان إسناده متكلمًا فيه فله شواهد عن ابن عباس وعبد الله بن سلام وفضالة وغيرهم. ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وجمهور السلف أنه إذا أقرض لا ينتفع. وكل غريم حكمه حكم المقرض. وصرحوا على أن ما تبرع به المقترض لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به قبل القرض لم يجز. لأنه إنما يتبرع به من أجل القرض. إلا أن ينوي المقرض مكافأته على ذلك الشيء. بأن يفعل مثل فعله. أو يحتسبه من دينه فيجوز له قبوله. وإن استضاف غريمه ولم تكن العادة جرت بينهما بذلك حسب له ما أكله. وأما إذا قضى المقترض المقرض دون حقه

وحلله من البقية كان ذلك جائزًا. لحديث جابر. وفيه فسألتهم أن يقبلوا ثمرة حائطي ويحللوا أبي. وفي رواية سأل له غريمه في ذلك. ولو حلله من جميع الدين جاز عند جميع أهل العلم. قرضًا كان أو غيره. فكيف إذا حلله من بعضه؟!. * * *

باب الرهن

باب الرهن أي هذا باب يذكر فيه الرهن وأحكامه وما يتعلق به. والرَهْن بفتح فسكون. وهو لغة الثبوت والدوام والاحتباس. وهو المراد هنا. من قولهم رهن الشيء إذا دام وثبت. ومنه {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} وشرعًا توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه منها. أو من ثمنها. ويطلق الرهن على العين المرهونة. تسمية للمفعول باسم المصدر. وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع. (قال تعالى: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ}) أي فارتهنوا ممن تدينونه رهونًا مقبوضة لتكون وثيقة لكم بأموالكم. والرهان جمع رهن بمعنى مرهون. والمرهون كل عين معلومة جعلت وثيقة في حق. ولو رهن ولم يسلم فلا يجبر الراهن على التسليم. فإذا سلم لزم من جهة الراهن حتى لا يجوزَ له أن يسترجعه بلا إذن مرتهن ما دام شيء من الحق باقيًا. ولا ينفذ تصرف واحد منهما فيه بغير إذن الآخر بالجملة، وقال ابن رشد اتفقوا على أن القبض شرط في الرهن للآية. والجمهور أنه من شروط الصحة. وعلى أن من شرطه أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن. وكذا قال البغوي وغيره اتفقوا على أن الرهن لا يتم إلا بالقبض. واتفقوا على جواز الرهن في الحضر. ومع وجود كاتب. فإن الكل خرج مخرج الأعم الأغلب لا على سبيل الشرط للخبر

الآتي وغيره اهـ. ولأنه عقد إرفاق يفتقر إلى القبول فافتقر إلى القبض. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو الذي عليه أكثر أهل العلم. وإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره زال لزومه. {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} أي فإن كان الذي عليه الحق أمينًا عند صاحب الحق ولم يرتهن منه شيئًا لحسن ظنه به فليؤد إليه حقه {وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} في أداء الحق عند حلول الأجل من غير مماطلة ولا جحود. بل يعامله المعاملة الحسنة كما أحسن ظنه فيه. وأجمعوا على جوازه في السفر. والجمهور على جوازه في الحضر. ومع وجود كاتب. وليس بواجب إجماعًا. لأنه وثيقة بالدين فلم يجب كالضمان. وإنما ندب إليه حفظًا للأموال وسلامة من التنازع. ويصح الرهن مع الحق عند الجمهور وبعده إجماعًا. لقوله {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} بعد قوله {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا} فجعله بدلًا من الكتابة فيكون في محلها. ومحلها بعد وجوب الحق. ولا يصح بدون إيجاب وقبول أو ما يدل عليهما. وتعتبر معرفة قدره وجنسه وصفته. فلا يصح إلا فيما يصح بيعه في الجملة. وكون الراهن جائز التصرف مالكًا للمرهون أو مأذونًا له فيه. قال ابن رشد لا خلاف أنه لا بد أن يكون جائز التصرف. ومن صح أن يكون راهنًا صح أن يكون مرتهنًا.

ويعتبر أن يكون بدين ثابت أو مآله إلى الثبوت. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي ودرعه مرهونة عند يهودي) هو أبو الشحم كما رواه البيهقي وغيره (بثلاثين صاعًا من شعير متفق عليه) وفي لفظ اشترى طعامًا من يهودي ورهنه درعًا من حديد. وللبخاري عن أنس رهن درعًا له عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرًا لأهله. والحديث دليل على مشروعية الرهن. ولا نزاع في جوازه. ودليل أيضًا على صحة الرهن في الحضر وهو قول الجمهور. فإن التقييد في الآية بالسفر خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. ودل على جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم العين المتعامل فيها. وجواز رهن السلاح عند أهل الذمة لا أهل الحرب باتفاق أهل العلم. وجواز الشراء بالثمن المؤجل وتقدم. (وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يغلق الرهن) بفتح الياء وسكون الغين أي لا يستحقه المرتهن إذا عجز صاحبه عن فكه. يقال غلق الرهن إذا خرج عن ملك الراهن واستولى عليه المرتهن بسبب عجزه عن أداء ما رهنه فيه. وكان هذا عادة العرب فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغلق الرهن "من صاحبه الذي رهنه". وأبطل فعل الجاهلية. ثم قال (له غنمه) أي زيادته (وعليه غرمه) هلاكه ونفقته (رواه الدارقطني) ورواه الحاكم وغيره. وقال الحافظ وغيره رجاله ثقات. فدل على أن نماء الرهن المتصل والمنفصل ملحق بالرهن فيكون رهنًا معه وهو

مذهب الجمهور. ودل على أن مؤونته على الراهن. وحكاه الوزير وغيره إجماعًا. (ويأتي قوله) - صلى الله عليه وسلم - في باب العارية (على اليد ما أخذت) أسنده إلى اليد على المبالغة لأنها هي المتصرفة (حتى تؤديه أي ما أخذته اليد ضمان على صاحبها يلزم رده. والحديث دليل على وجوب رد ما قبضه المرء وهو ملك لغيره من مرهون أو غيره). ولا يبرأ إلا بمصيره إلى مالكه أو من يقوم مقامه. فإن تعدي المرتهن أو فرط في الرهن ضمنه بالإجماع حكاه الوزير وغيره. وإن تلف الرهن ونحوه في يد المرتهن أو غيره بغير تعدٍ ولا تفريط فلا ضمان عليه. لأنه أمانة في يده كالوديعة. ولا يسقط بهلاكه شيء من دينه. وإن تلف بعضه فباقيه رهن بجميع الدين. وهذا مذهب الجمهور فإن الرهن يتعلق بجملة الحق المرهون فيه. وببعضه. فهو محبوس بحق فوجب أن يكون محبوسًا بكل جزء منه. وقال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه على أن من رهن شيئًا بمال فأدى بعضه وأراد إخراج بعض الرهن أن ذلك ليس له حتى يوفيه آخر حقه. أو يبرئه. وليس له تملكه. بل متى حل الدين لزم الراهن الإيفاء وإن امتنع فيإن كان أذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفى الدين. وإلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن. فإن لم يفعل باعه الحاكم ووفى الدين. وقال ابن رشد حق المرتهن في الرهن أن يمسكه حتى يؤدي الراهن ما عليه. فإن لم يأت به عند الأجل فله أن

يرفعه إلى السلطان فيبيع عليه الرهن إن لم يجبه إلى البيع. أو كان غائبًا. وأما بيعه للمرتهن بما عليه عند الحلول فقال ابن القيم يصح وهو رواية عن أحمد. وفعله. ولم يبطله كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ولا مفسدة ظاهرة. وغايته أنه بيع علق على شرط. وقد تدعو الحاجة إليه. ولا يحرم عليهما ما لم يحرمه الله ورسوله. ولا ريب أن هذا خير للراهن والمرتهن من الرفع للحاكم اهـ. وإن رهن عند اثنين شيئًا فوفى أحدهما. أو أرهناه شيئًا فاستوفى من أحدهما انفك في نصيبه بقسطه. وإن اختلفا في قدر الدين فقول المرتهن ما لم يزد عن قيمة الرهن. قال ابن القيم وهو الراجح في الدليل. (وللبخاري عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله على وسلم- قال الظهر) أي ظهر الدابة (يُركب بنفقته إذا كان مرهونًا) أي يستحق المرتهن الانتفاع بالرهن في مقابلة نفقته (ولبن الدَرّ) بفتح فشد أي لبن الدابة ذات الضرع (يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا) ويُركب ويُشرب بضم أوله على البناء للمجهول. وهو خبر بمعنى الأمر. وهذا الانتفاع في مقابلة النفقة. وذلك يختص بالمرتهن (وعلى الذي يركب ويشرب النفقة) وهذا أيضًا خبر في معنى الأمر. فدل الحديث على أن للمرتهن أن يركب ما يركب وأن يحلب ما يحلب من الرهن بقدر نفقته متحريًا في ذلك للعدل. لأن المراد الانتفاع في مقابلة النفقة. وما فضل عن نفقته لربه.

وما عدا ذلك يكون رهنًا معه وإن فضل من النفقة شيء رجع به على الراهن. وقال ابن القيم دل الحديث وقواعد الشريعة وأصولها على أن الحيوان المرهون محرم في نفسه لحق الله تعالى. وللمالك فيه حق الملك. وللمرتهن حق الوثيقة. فإذا كان بيده فلم يركبه ولم يحلبه ذهب نفعه باطلًا. فكان مقتضى العدل والقياس ومصلحة الراهن والمرتهن والحيوان أن يستوفي المرتهن منفعة الركوب والحلب. ويعوض عنهما بالنفقة. فإذا استوفى المرتهن منفعته وعوض منها نفقة كان في هذا جمع بين المصلحتين وبين الحقين. وقال الوزير أجمعوا على أنه إذا أنفق المرتهن على الراهن بإذن الحاكم أو غيره مع غيبة الراهن أو امتناعه كان دينًا للمنفق على الراهن. قال الشيخ: فإن قال الراهن لم آذن لك في النفقة. قال هي واجبة عليك. وأنا أستحق أن أطالبك بها لحفظ المرهون. قال: ومحض العدل والقياس والمصلحة وموجب الكتاب والسنة ومذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث وأهل السنة أن من أدى عن غيره فإنه يرجع ببدله. والصواب التسوية بين الإذن وعدمه. والمحققون من الأصحاب سووا بينهما. قال تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ولم يشترط إذنًا ولا عقدًا. * * *

باب الضمان

باب الضمان مشتق من الضمن فذمة الضامن في ذمة المضمون عنه وقال القاضي من التضمن. وقال الموفق من الضم. وشرعًا التزام ما وجب على غيره مع بقائه. وما قد يجب كثمن مبيع وقرض. ويصح بلفظ ضمين وكفيل وحميل وزعيم. وتحملت دينك وضمنته ونحو ذلك. قال الشيخ وتلميذه وغيرهما قياس المذهب أنه يصح الضمان بكل لفظ فهم منه الضمان عرفًا. لأن الشارع لم يحد ذلك بحد فيرجع فيه إلى العرف. وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع في الجملة. ولا يصح إلا من جائز التصرف. ولا يصح ضمان مسلم جزية على ذمي لفوات الصغار. (قال تعالى: {وَلِمَن جَاء بِهِ}) أي صواع الملك ({حِمْلُ بَعِيرٍ}) من الطعام. وسيأتي في الجعالة إن شاء الله تعالى {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيم} أي ضامن حمل الطعام لمن جاء بالصواع. فدلت الآية على صحة ضمان المجهول إذا آل إلى العلم. وكذا ما يؤول إلى الوجوب. لأن حمل البعير غير معلوم. فضمان المعلوم أولى. وقال ابن القيم يصح ضمان ما لا يجب. كقوله ما أعطيته فلانًا فهو عليَّ عند الأكثرين. كما دل عليه القرآن. وذكر الآية. قال والمصلحة تقتضي ذلك. بل قد تدعو إليه الحاجة والضرورة اهـ.

ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة فصح في المجهول. ويصح ضمان السوق. وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين وما يقبضه من عين مضمونة. كما قاله الشيخ وغيره. وقال يصح ضمان حارس ونحوه وتجار حرب بما يذهب من البلد أو البحر. وغايته ضمان مجهول وما لم يجب. وهو جائز عند أكثر أهل العلم اهـ. ولا تعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه ولا له. بل إنما يعتبر رضا الضامن. (وعن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الزعيم) أي الضمين (غارم) أي ملزم نفسه ما ضمنه فالغرم أداء شيء يلزمه. رواه أبو داود وغيره و (حسنه الترمذي) فدل على لزوم غرم ما ضمنه. وقيل له مطالبة من شاء منهما. قال ابن القيم وهو قول الجمهور. والقول الثاني: إن الضمان استيثاق بمنزلة الرهن فلا يطالبه إلا إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه لأن الضامن فرع ولا يصار إليه إلا عند التعذر. ولم يوضع لتعدد الحق. وإنما وضع ليحفظ صاحب الحق حقه من الهلاك. ويرجع إليه عند تعذر الاستيفاء. ولم ينصب الضامن نفسه لأن يطالبه المضمون له مع وجود الأصيل ويسرته. والتمكن من مطالبته. والناس يستقبحون هذا. ويعدون فاعله متعديًا. ولا يعذرونه بالمطالبة إلا إذا تعذر عليه مطالبة الأصيل. وهذا أمر مستقر في فطر الناس ومعاملاتهم. وهذا القول في القوة كما ترى اهـ. ومتى برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا عكسه.

(وعن سلمة بن الأكوع) -رضي الله عنه- (قال أُتي بجنازة) قال الحافظ لم أقف على اسم صاحب هذه الجنازة (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل عليه دين؟) وذلك قبل الفتح (قالوا: ثلاثة دنانير) يعني ولم يترك وفاء (فقال صلوا على صاحبكم) وفي حديث أبي هريرة "فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء صلى، وإلا قال: صلوا على صاحبكم" (فقال أبو قتادة هي عليَّ) أي الثلاثة الدنانير (فصلى عليه) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رواه البخاري) ولأحمد وأبي داود وغيرهما من حديث جابر: قلنا ديناران فانصرف فتحملهما أبو قتادة. فقال "وجب حق الغريم وبرئ الميت منهما" قال "نعم" فصلى عليه. وللحاكم جعل إذا لقي أبا قتادة يقول "ما صنعت الديناران" حتى كان آخر ذلك أن قال قضيتها يا رسول الله. قال "الآن بردت جلدته" وللدارقطني من حديث علي كان إذا أُتي بجنازة لم يسأل عن شيء من عمل الرجل. ويسأل عن دينه. وللبيهقي وأنا لهما ضامن. فدل الحديث وما في معناه على صحة الضمان عن الميت وأنه لا رجوع له في مال الميت وهو مذهب الجمهور. وصحة تحمل الواجب عمن وجب عليه وعلى فضله. وللبيهقي "ما من مسلم فك رهان أخيه إلا فك الله رهانه يوم القيامة". ودل على شدة أمر الدين فإنه - صلى الله عليه وسلم - ترك الصلاة عليه. وتقدم أنها شفاعة للميت. وشفاعته - صلى الله عليه وسلم - مقبولة. والدين لا

فصل في الكفالة

يسقط إلا بالتأدية. وكان هذا في أول البعثة. ولما فتح الله عليه الفتوح كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فليسأل هل ترك لدينه وفاء وإلا قضاه. قال غير واحد من أهل العلم يلزم متولي أمر المسلمين أن يفعله فيمن مات وعليه دين. ولأحمد "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه. فمن ترك دينًا فعلي" قال ابن بطال هذا ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين. وقد حكى الحازمي إجماع الأمة على ذلك. فصل في الكفالة وهي التزام رشيد إحضار من عليه حق مالي لربه. وتنعقد بما بنعقد به الضمان. بل هي نوع منه وتصح ممن يصح ضمانه. وإن ضمن معرفته أخذ به. قال الشيخ وغيره إذا ضمن معرفة المستدين كضمنت لك معرفته أي أعرفك من هو؟ وأين هو؟ أخذ به. فإن عجز عن إحضاره مع حياته ضمن ما عليه. ولا يكفي أن يذكر اسمه ومكانه. والفرق بين الضمان والكفالة أن الضمان أضيق منها بدليل أنه لا يبرأ الضامن من الضمان إلا بالأداء أو الإبراء. بخلاف الكفالة فإنها تسقط بموت المكفول عنه أو تلف العين مثلًا. ويعتبر رضي الكفيل لا مكفول به. وتصح بكل عين مضمونة وببدن من عليه دين. (قال تعالى) حاكيًا عن يعقوب: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ} أي

قال يعقوب لبنيه لن أرسل بنيامين ابني معكم {حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللهِ} أي حتى تعطوني ميثاقًا وعهدًا من الله أي بسبب تأكده بإشهاد الله، وبسبب القسم عليه. والميثاق العهد المؤكد بالقسم {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} أي حتى تحلفوا بالله {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} جاء بلفظ عام لجميع وجوه العلة أي لا تمتنعون من الإتيان به لشيء من الأشياء إلا أن تغلبوا كلكم. ولا تقدرون على تخليصه {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} أكده عليهم فـ {قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ} من طلب الموثق وإعطائه {وَكِيل} شهيد رقيب مطلع. والمعنى أنه موكول إليه هذا العهد. فدلت الآية على جواز الكفالة. (وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلًا لزم غريمًا له) أي تعلق مدينًا له ودام معه (حتى يقضيه) أي يوفيه (أو يأتيه بحميل) كأمير أي كفيل (فجره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي جذبه (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كم تستنظره) أي: تطلب منه أن ينظرك، والإنظار التأخير والإمهال (قال: شهرًا) أي: ثم أقضيه حقه (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنا أحمل) أي أكفل لك (رواه أبو داود) والترمذي وغيرهما. ولفظة فتحمل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه فقضاها رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -. فدل على صحة الكفالة. وقال الشيخ في سجان ونحوه ممن هو كفيل على بدن الغريم كرسول الشرع بمنزلة الكفيل عليه إحضار الخصم. فإن

تعذر إحضاره ضمن ما عليه. وإن كان المكفول في حبس الشرع فسلمه إليه فيه برئ. وإن تعذر إحضار مكفول على كفيل مع بقاء حياته. أو امتنع من إحضاره لزمه ما عليه وإن مات أو تلفت العين بفعل الله تعالى. أو سلم المكفول نفسه برئ الكفيل. وفي الاختيارات إن لم يكن الوالد ضامنًا لولده ولا له عنده مال لم يجز لمن له على الولد حق أن يطالب والده بما عليه. لكن مهما أمكن الوالد معاونة صاحب الحق على إحضار ولده بالتعريف ونحوه لزمه ذلك. (وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده (مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لا كفالة في حد) كحد زنا أو لواط أو سرقة أو شرب خمر (رواه البيهقي بسند ضعيف) وقال: إنه منكر. ودل على أن الكفالة لا تصح في الحدود. قال الموفق: هو قول العلماء. لأنه لا يجوز استيفاؤه من الكفيل. إلا إذا كفل السارق بسبب غرم المسروق لأنه حق مالي. ولأن مبناها على الإسقاط. والدرء بالشبهات. فلا يدخل فيها الاستيثاق. وقيل ولا ببدن من عليه حد قذف أو قصاص. لأنه لا يمكن الاستيفاء من غير الجاني. وقال الشيخ تصح الكفالة في ذلك. واختاره غير واحد. وهو مذهب مالك. وإحدى الروايتين عن أحمد. وفي الصحيح أن حمزة الأسلمي أخذ كفلاء على رجل وقع على جارية امرأته حتى قدم على عمر. وقال جرير والأشعث لابن مسعود في

المرتدين استتبهم وكفلهم فتابوا وكفلهم عشائرهم. واستدل به البخاري في الديون بطريق الأولى. ولأنه حق لآدمي فصحت الكفالة به كسائر حقوق الآدميين. وكذا إذا كفل بدن شخص لأجل مال بالعفو إلى الدية ليدفعها. * * *

باب الحوالة

باب الحوالة مشتقة من التحول. أو من الحول. فالحوالة تحول الحق عن قولك تحول فلان من داره. وهي نقل دين من ذمة إلى ذمة أخرى. ثابتة بالسنة والإجماع. وإن كانت بيع دين بدين فلم ينه الشارع عن ذلك. بل قواعد الشرع كما قال ابن القيم وغيره تقتضي جوازه. فإن الحوالة اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه. ومما يبين أنها على وفق القياس أنها من جنس إيفاء الحق. لا من جنس البيع. ولا تصح إلا على دين مستقر. فعلى ما له في الديوان ونحوه إذن في الاستيفاء. ولا يعتبر استقرار المحال به. ويشترط رضى المحيل بلا خلاف. والمحتال عند الأكثر. ويشترط أيضًا اتفاق الدينين جنسًا ووصفًا ووقتًا وقدرًا. (عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مطل الغني ظلم) المطل التسويف والتأخير. من إضافة المصدر إلى الفاعل أي يحرم على الغني القادر أن يمطل صاحب الدين. والمطل في الأصل المد. وقال الأزهري المدافعة. قال الحافظ والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه من وقت إلى آخر بغير عذر مع الطلب. وهو حرام على المتمكن. والجمهور على أنه يوجب الفسق. وقيل: إنه كبيرة (وإذا اتبع أحدكم على ملي) أي جعل تابعًا للغير بطلب الحق. ولأحمد "إذا أحيل أحدكم على ملي" كغني لفظًا ومعنى، وهو القادر بماله وقوله وبدنه. فمتى أحيل عليه (فليتبع) بالتخفيف.

ولفظ أحمد "فليحتل" أي فليقبل الحوالة (متفق عليه). ولابن ماجه عن ابن عمر مرفوعًا "مطل الغني ظلم وإذا أحلت على ملي فاتبعه" وحكى الموفق الإجماع على ثبوت الحوالة. وتصح بلفظ أحلتك بدينك على فلان. أو خذ دينك منه. وغير ذلك مما يدل على المقصود. والحديث دليل على أن من أحيل بحقه على ملي أن يحتال. وأوجبه الحنابلة. وأهل الظاهر. والجمهور على الاستحباب. وإذا صحت الحوالة باجتماع شروطها. نقلت الحق المحال به إلى ذمة المحال عليه. وبرئ المحيل بمجرد الحوالة. قال الموفق وغيره في قوله عامة أهل العلم. ومتى لم يكن المحال عليه قادرًا بماله وقوله وبدنه لم يلزم الاحتيال عليه. لما في ذلك من الضرر على المحال. والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بقبولها على الملي. وإذا صحت ثم تعذر القبض بحدوث حادث كموت أو فلس لم يكن للمحتال الرجوع على المحيل. لأنه لو كان له الرجوع لم يكن لاشتراط الغنى فائدة. فلما شرط علم أنه انتقل انتقالًا لا رجوع له. كما لو عوضه عن دينه بعوض ثم تلف. وإن كان المحال عليه مفلسًا. ولم يكن المحتال رضي بالحوالة عليه رجع بدينه على المحيل. لأن الفلس عيب ولم يرض به فاستحق الرجوع وإن رضي فلا. (وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- (يتخارج) أي لا

باب الصلح

بأس أن يتخارج (الشريكان) فيقتسمان يأخذ هذا عينًا وهذا دينًا (وأهل الميراث) أي ويتخارج أهل الميراث يعني يصطلحان (فيأخذ هذا عينًا) أي مالًا حاضرًا (وهذا دينًا) نقدًا أو غيره. سميت مخارجة لأن الشريك يعطي شريكه ما يصالح عليه ويخرج نفسه من الشركة أو الميراث (فإن توى لأحدهما) أي هلك له عين أو دين مما اقتسماه أو اصطلحا عليه (لم يرجع على صاحبه) أي لم يرجع من هلك له شيء على من لم يهلك له لاقتسامهم أو اصطلاحهم. فدل على أن المحتال إذا رضي بحوالة فهلك له شيء لم يرجع على المحيل. * * * باب الصلح أي هذا باب يذكر فيه الصلح وأحكام الجواز وما يتعلق بها. والصلح اسم مصدر صالحه مصالحة وصِلاحًا بالكسر. وهو لغة قطع المنازعة. وشرعًا معاقدة يتوصل بها إلى إصلاح بين متخاصمين. وهو خمسة أنواع بين المسلمين وأهل الحرب وبين أهل عدل وبغي. وبين زوجين خيف شقاقهما. أو خافت إعراضه. وبين متخاصمين في غير مال. والخامس الصلح لقطع الخصومة إذا وقعت المزاحمة في الأموال. وهو الذي يذكره الفقهاء هنا في باب الصلح. وهو قسمان: صلح على إقرار. أو على إنكار. والحقوق نوعان: حق لله وحق

للآدمي. وحق الله لا مدخل للصلح فيه. كالحدود والصلاة والزكاة. وإنما الصلح بين العبد وربه في إقامتها لا في إهمالها. ولهذا لا يقبل في الحدود. وإذا بلغت السلطان فلعن الله الشافع والمشفع. وأما حقوق الآدميين فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عليها. والصلح ثابت بالكتاب والسنة والإجماع. (قال تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}) أول الآية ({وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}) أمر تعالى بالإصلاح بين الفئتين الباغيتين بعضهم على بعض. حتى أمر بقتال الباغية {حَتَّى تَفِيءَ} أي ترجع {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي إلى الحق {فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} بحملهما على الإنصاف والرضى بحكم الله. ثم قال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} فلا تعصوه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون}. وقال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وقال {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} وقال: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ثوابًا جزيلًا. وللترمذي وغيره وصححه "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قلنا بلى! قال "إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة" وقال لأبي أيوب "ألا أدلك على تجارة"؟ قال بلى. قال "تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا" والأخبار في ذلك كثيرة.

(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "الصلح جائز" ليس بحكم لازم يقضي به. إن لم يرض به الخصم (بين المسلمين) شمل كل صلح قبل اتضاح حق وبعده. وتخصيصه المسلمين خرج مخرج الغالب. لأن الصلح جائز بين الكافر والمسلم وبين الكفار (إلا صلحًا حرم حلالاً) بأن يشترط شرطًا مفسدًا للصلح فيحرم عليه ما يحل له بالصلح. كمصالحة إحدى الزوجات لزوجها أن لا يبيت عند ضرتها. أو أن لا يطأها ونحو ذلك. (أو) إلا صلحًا (أحل حرامًا) كأن يصالحه على نصرة ظالم أو باغ. أو على حل مال لا يحل له إلا بالصلح ونحو ذلك لم يصح الصلح. وقال ابن القيم كالصلح الذي يتضمن تحريم بضع حلال. أو إحلال بضع حرام. أو إرقاق حر. أو نقل نسب. أو ولاء عن محل إلى محل. أو أكل ربا أو إسقاط واجب. أو تعطيل حد. أو ظلم ثالث وما أشبه ذلك. فكل هذا صلح جائر مردود. فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضي الله ورضي الخصمين. فهذا أعدل الصلح وأحقه. رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم وغيرهم. و (صححه الترمذي) ونوقش على تصحيحه. لأن في سنده كثير بن عبد الله. واعتذر له الحافظ وغيره بأنه اعتبر بكثرة

طرقه. فرواه أبو داود من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح. وقال الحاكم على شرطهما. وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي. وأخرجه الحاكم من حديث أنس وعائشة. وأحمد من حديث سليمان بن بلال. وكتب به عمر إلى أبي موسى. ولا ريب أن الطرق الكثيرة من جهات متفاوتة يشد بعضها بعضًا. فتصلح للاحتجاج بها. أما الصلح على الإقرار فجوازه ظاهر النصوص. وأما الصلح على الإنكار ففيه تفصيل. فإن كان المدعي يعلم أن له حقًا عند خصمه جاز له قبض ما صوالح عليه. وإن كان خصمه منكرًا. وإن كان يدعي باطلًا فإنه يحرم عليه الدعوى. وأخذ ما صولح به. والمدعى عليه إن كان عنده حق يعلمه وإنما ينكر لغرض وجب عليه تسليم ما صولح به عليه. واتفقوا على أنه لا يحل أن يصالحه على بعض حقه. وهو يعلمه. وإن كان يعلم أن له عنده حقًا جاز له إعطاء جزء من ماله في دفع شجار غريم وأذيته. وحرم على المدعي أخذه. وبهذا تجتمع الأدلة. قال ابن القيم قول من منع الصلح على الإنكار أنه يتضمن المعاوضة عما لا تصح المعاوضة عليه. وهو إنما افتدى نفسه من الدعوى واليمن. وتكليف إقامة البينة. وليس هذا مخالفًا لقواعد الشرع. بل حكمة الشرع وأصوله وقواعده ومصالح المكلفين تقتضي ذلك.

(ولأبي داود) وغيره (عن أم سلمة) رضي الله عنها (مرفوعًا قال اذهبا) وذلك أنه جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست. ليس بينهما بينة فقال "إنكم تختصمون إليَّ وإنما أنا بشر ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض. وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع. فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه. فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها اسطامًا في عنقه يوم القيامة" فبكى الرجلان. وقال كل واحد منهما حقي لأخي. فقال "أما إذا قلتما فاذهبا" (فاقتسما) يعني تلك المواريث التي كانت بينهما. وقد درست (ثم توَخَيا) بفتح الواو والخاء أي اقصدا (الحق) فيما تصنعان من القسمة. (ثم استهما) أي ليأخذ كل واحد منكما ما تخرجه القرعة من القسمة. ليتميز سهم كل واحد منكما عن الآخر (ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه) أي ليسأل كل واحد منكما صاحبه أن يجعله في حل من قِبَله بإبراء ذمته. فدل على صحة الصلح بمعلوم عن مجهول. ولكن لا بد مع ذلك من التحليل. ودل على صحة التحليل من المعين المعلوم. وهو إجماع. وأن من حلل خصمه من مظلمة لا رجوع له في ذلك. أما المعلوم فلا نزاع فيه. وأما المجهول الذي يتعذر علمه من دين أو عين بمعلوم فيصح لهذا الخبر وغيره. ولئلا يفضي إلى ضياع المال. أو بقاء شغل الذمة. وإن لم يتعذر علمه فكبراءة من مجهول.

فيصح على المشهور قطعًا للنزاع. وما لا يتعذر علمه كشركة باقية صالح الورثة الزوجة عن حصتها منها. فقال شريح هذا هو الريبة ولأن الصلح إنما جاز مع الجهالة للحاجة إليه لإبراء الذمم. وإزالة الخصام. فمع إمكان العلم لا حاجة إليه. (وسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرماء عبد الله) وذلك أنه قتل يوم أحد شهيدًا وعليه دين. فاشتد الغرماء في حقوقهم. فجاء ابنه جابر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشفع له إليهم (أن يقبلوا ثمر حائطه) عن الدين الذي لهم عليه (ويحللوه رواه البخاري) ثم قال لجابر "جد لهم فأوف الذي لهم" وفي لفظ "فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة" فجددتها فقضيتهم. وبقي لنا من ثمرها. وفي لفظ سبعة عشر وسقًا. فدل الحديث على جواز المصالحة بالبعض. لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط بعض حقه. ويصح ولو بمجهول عن معلوم. لأنه يغتفر في القضاء من المعاوضة ما لا يغتفر ابتداء. وقال ابن القيم يصح الإسقاط والتأجيل وهو الصواب. بناء على تأجيل القرض والعارية. وهو مذهب أهل المدينة. واختاره شيخنا. وقال وإن صالحه ببعضه حالًا مع الإقرار والإنكار جاز. وهو قول ابن عباس. وإحدى الروايتين عن أحمد. واختاره شيخنا. فإن هذا عكس الربا. فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل. وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل. فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل.

فانتفع به كل واحد منهما. ولم يكن هنا ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفًا. والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا. ولا يخفي الفرق الواضح بينهما اهـ. وقول بعضهم إن لم يكن بلفظ الصلح. فالصلح معناه قطع المنازعة. فإن أوفاه من جنس حقه فوفاء. أو من غير جنسه فمعاوضة. أو إبراء من بعضه فإسقاط. أو وهبه له فهبة. فالخلاف في التسمية. والمعنى متفق. ولم يخرج بذلك عن كونه صلحًا. وهذا الحديث وحديث أم سلمة مخصص للعمومات المتقدمة القاضية بوجوب معرفة مقدار كل واحد من البدلين المتساويين جنسًا وقدرًا. فيجوز القضاء مع الجهالة إذا وقع الرضا والتحليل. (ولهما عن عبد الله بن كعب) ابن مالك الأنصاري السلمي المدني وكان قائد أبيه حين عمي ومات سنة سبع وتسعين (أن أباه) كعب بن مالك -رضي الله عنه- (تقاضى ابن أبي حدرد) الأسلمي -رضي الله عنهما- (دينًا) كان له أي لكعب على ابن أبي حدرد. فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج إليهما ونادى كعبًا (فأشار إليه) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة (أن ضع الشطر) من دينك" قال كعب قد فعلت يا رسول الله. قال "قم فاقضه" ولأن الإنسان لا يمنع من إسقاط حقه. كما لا يمنع من استيفائه بلا نزاع. ويحتمل أن يكون نزاعهما في مقدار الدين. فيكون الصلح

عن إنكار. ويحتمل أن يكون في التقاضي. والأمر على جهة الوجوب. ومحل صحة الإسقاط ونحوه. أن لا يمنع من عليه الحق ربه بدون الإسقاط ونحوه. لأن منعه أكل المال الغير بالباطل. إلا إن أنكر من عليه الحق ولا بينة فإنه يصح الصلح مما ذكر ونحوه. ومتى اصطلحا ثم بعد ذلك ظهرت بينة فاختار الشيخ نقض الصلح. لأنه إنما صالح مكرهًا في الحقيقة. إذ لو علم البينة لم يسمح بشيء من حقه. (ومن حديث عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- (في قتل العمد) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "من قتل متعمدًا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية وذلك عقل العمد" ولقصة ربيع في الصحيحين وغيرهما (وما صولحوا عليه) أي زائدًا عن دية العمل. وهي كما في الحديث (ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة) ثم قال: (وذلك عقل العمل) يعني الذي قدره الشارع. وما صولحوا عليه من الزيادة (فهو لهم) وذلك لتشديد العقل. والحديث رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما من طرق يشد بعضها بعضًا. و (حسنه الترمذي) والحديث دليل على جواز الصلح في الدماء بأكثر من الدية. وفي الاختيارات ويصح عن دية الخطأ. وعن قيمة المتلف غير المثلي بأكثر منها من جنسها. (وعن أبي حميد الساعدي مرفوعًا) أي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب

نفس منه) أي سماحه بها (رواه الحاكم) في صحيحه وابن حبان وغيرهما. وفي معناه أحاديث كثيرة: منها ما في الصحيحين "لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه" ولأبي داود وغيره "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لا لاعبًا ولا جادًا" وهذه الأحاديث وما في معناها دالة على تحريم مال المسلم إلا بطيبة من نفسه. وإن قل. وتقدم "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" وهو شامل. (وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من كانت عنده مظلمة) أي من كانت عليه مظلمة (لأخيه من عرض) العرض موضع المدح والذم سواء كان في النفس أو السلف. أو من يلزمه أمره (أو شيء) هو من عطف العام على الخاص. فيدخل فيه المال بأصنافه. والجراحات حتى اللطمة ونحوها (فليتحلله) أي ليسأله أن يجعله في حل (منه اليوم) أي في دار الدنيا. وفيها دينار ودرهم (قبل أن لا يكون دينار ولا درهم) أي يوم القيامة (إن كان له عمل صالح) عمله في دار الدنيا وقت العمل (أخذ منه بقدر مظلمته) أي أخذ من عمله الصالح في الآخرة. (وإن لم تكن له حسنات) يؤخذ منها يوم القيامة بقدر مظلمة الظالم للمظلوم (أخذ من سيئات صاحبه) أي صاحب المظلمة (فحمل عليه) أي على الظالم. وفي رواية لمالك "فطرحت عليه (رواه البخاري)، ولمسلم "المفلس من

أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وقد شتم هذا وسفك دم هذا وأكل مال هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه وطرح في النار" وإذا حلله في حياته من ظلمه فلا رجوع فيه فيما مضى بالاتفاق. وفيما سيأتي فيه خلاف. فصل في الجوار وأحكامه وما يتعلق به وما يصح فيه من الصلح والجوار مصدر جاوره قرب من مسكنه. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يمنع) بالجزم وفي لفظ لا يمنعن (جار جاره أن يغرز خشبه) بصيغة الجمع. وللبيهقي عن ابن عباس: أن يدعم جذوعه (في جداره) أي جدار جاره المالك للجدار. ثم يقول أبو هريرة وذلك أيام إمارته على المدينة زمن مروان مالي أراكم عنها معرضين. والله لأرمين بها بين أكتافكم (متفق عليه) أراد بذلك المبالغة. والأحاديث تدل على أنه لا يحل للجار أن يمنع جاره من غرز الخشب في جدار جاره. ويجبره الحاكم إذا امتنع. لأنه حق ثابت لجاره. وهو مذهب أحمد وأهل الحديث وغيرهم. قال البيهقي لم نجد في السنة الصحيحة ما يعارض هذا الحكم. إلا عمومات لا يستنكر أن يخصها.

وقضى به عمر -رضي الله عنه- في زمن وفور الصحابة. وقال الشافعي لم يخالفه أحد من الصحابة. وإطلاق الأحاديث قاض بعدم اعتبار تضرر المالك. إلا أنه يجب على من يريد الغرز أن يتوق الضرر مهما أمكن. فإن لم يمكن إلا بإضرار وجب على الغارز إصلاحه. وذلك ما يقع عند فتح الجدار لغرز الخشب. وأما اعتبار حاجة الغارز إلى الغرز فأمر لا بد منه. وإن صالح عن شيء من ذلك بعوض معلوم صح. (ولابن ماجه عن ابن عباس مرفوعًا لا ضرر ولا ضرار) ورواه عن عبادة. وروي أيضًا من حديث أبي سعيد وغيره. قال ابن كثير هو حديث مشهور. ولأبي داود وغيره "من ضار ضار الله به. ومن شاق شاق الله به" ويشهد له كليات وجزئيات. وهو لا شك قاعدة من قواعد الدين. يدل على تحريم الضرار على أي صفة كان من غير فرق بين الجار وغيره. وفي حق الجار أشد لعظم حقه. والضرر قيل فعل الواحد. والضرار فعل الإثنين فصاعدًا. وقيل الضرار أن تضره من غير أن تنتفع. والضرر أن تضره وتنتفع أنت به وقيل غير ذلك. وقال الوزير اتفقوا على أن للرجل التصرف في ملكه ما لم يضر بجاره والمضارة مبناها على القصد والإرادة. أو على فعل ضرر عليه. فمتى قصد الإضرار ولو بالمناخ. أو فعل الإضرار من غير استحقاق فهو مضار. وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة إليه والانتفاع به لا لقصد الإضرار فليس بمضار. ومنه

قوله لصاحب النخلة لما طلب المعاوضة عنها بعدة طرق فلم يفعل "إنما أنت مضار" ثم أمر بقلعها. فدل على أن الضرر محرم لا يجوز تمكين صاحبه منه. قال (وللرجل أن يضع خشبه في حائط جاره) فدل أيضًا على جواز وضع الخشب في جدار الجار. وإذا جاز الغرز جاز الوضع بطريق الأولى. لأنه أخف منه. قال الشيخ إذا كان الجدار مختصًا بشخص لم يكن له أن يمنع جاره من الانتفاع مما يحتاج إليه الجار. ولا يضر بصاحب الجدار. ويجب على الجار تمكين جاره من إجراء مائه في أرضه. إذا احتاج إلى ذلك ولم يكن على صاحب الأرض ضرر في أصح القولين في مذهب أحمد. وحكم به عمر –رضي الله عنه. وإن صالحه على أن يجري ماء على أرضه صح. قال في الإنصاف بلا نزاع. لكن يشترط معرفة الذي يجري فيه من ملكه. ويجوز شراء ممر في ملكه. وموضع في حائطه يجعله بابا. وبقعة يحفرها بئرًا. وعلو بيت يبني عليه بنيانًا موصوفًا. ويصح فعله صلحًا أبدًا. قال والعمل عليه في كل مصر وعصر. قال الشيخ وإذا كان المسجد معدًا للصلاة ففي جواز البناء عليه نزاع بين العلماء. وليس لأحد أن يبني فوق الوقف ما يضر به اتفاقًا. وكذا إن لم يضر به عند الجمهور. وفي الاختيارات ليس للإنسان أن يتصرف في ملكه بما يؤذي به جاره من بناء حمام وحانوت طباخ ودقاق. وهو مذهب أحمد. قال ومن كانت له

ساحة يلقي فيها التراب والحيوانات ويتضرر الجيران بذلك فإنه يجب على صاحبها أن يدفع ضرر الجيران: إما بعمارتها أو إعطائها لمن يعمرها. أو يمنع أن يلقى فيها ما يضر بالجيران اهـ. وإن كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر فليس لصاحب العلو الصعود على وجه يشرف على جاره. إلا أن يبني سترة تستره. وفي الاختيارات يلزم الأعلى التستر بما يمنع مشارفة الأسفل وإن استويا وطلب أحدهما بناء الستر أجبر الآخر معه مع الحاجة إلى السترة اهـ. وإن انهدم جدارهما أو خيف ضرره فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه أجبر عليه. أو احتاج النهر أو الدولاب أو القناة المشتركة لعمارة أجبر الشريك عليه. إزالة لضرر شريكه. قال الشيخ إذا احتاج الملك المشترك إلى عمارة لا بد منها فعلى أحد الشريكين أن يعمر مع شريكه إذا طلب ذلك منه في أصح القولين اهـ. وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله فإن أبى لواه إن أمكن وإلا فله قلعه إزالة للضرر. (ولهما من حديث أبي هريرة) -رضي الله عنه- يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (وإذا اختلفتم في الطريق) التي هي مجرى عامة المسلمين بأحمالهم ومواشيهم وفي لفظ "الميتاء" قيل أعظم الطرق أو الطريق الواسعة (فاجعلوه) أي اجعلوا سعة الطريق (سبعة أذرع) وهذا محمول على الطريق التي هي

مجرى العامة إذا تشاجر من له أرض يتصل بها مع من له فيها حق جعل عرضها سبعة أذرع بالذراع المتعارف في ذلك البلد. بخلاف بنيات الطريق. فإن الرجل إذا جعل في بعض أرضه طريقًا مسبلة للمارين كان تقديرها إلى خيرته. والحكمة في ورود الشرع بتقدير الطريق سبعة أذرع أن تسلكها الأحمال والأثقال دخولًا وخروجًا. وتسع ما لابد منه. فما لا تسع السبعة يجعل بقدر ما تسع لوجود العلة. قال الوزير وغيره اتفقوا على أن الطريق لا يجوز تضييقها. وقال الشيخ لا يجوز لأحد أن يخرج شيئًا في طريق المسلمين من أنواع أجزاء البناء حتى أنه ينهى عن تجصيص الحائط إلا أن يدخل رب الحائط في حده بقدر غلظ الجص. فلا يجوز إخراج الدكة مطلقًا أذن فيه الأمام أو لا. قال الموفق لا نعلم فيه خلافًا. ويجوز إخراج الساباط بلا ضرر اختاره الشيخ. وقال الذي يضر بالمارة مثل أن يحتاج الراكب أن يحني رأسه إذا مر هناك وإن غفل عن نفسه رمى عمامته أو شج رأسه. ولا يمكن أن يمر هناك جمل عال أو محمل فمثل هذا الساباط لا يجوز إحداثه على طريق المارة باتفاق المسلمين. بل يجب على صاحبه إزالته. فإن لم يفعل كان على ولاة الأمور إلزامه بإزالته حتى يزول الضرر. حتى لو كان الطريق منخفضًا ثم ارتفع على طول الزمان وجب إزالته إذا كان الأمر على ما ذكر.

(وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع للعباس) بن عبد المطلب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - (ميزابًا على طريق) رواه أحمد عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-. قال كان للعباس ميزاب على طريق عمر -رضي الله عنه- فلبس ثيابه يوم الجمعة فأصابه منه ماء بدم. وذلك أنه ذبح للعباس فرخان فلما وافى عمر الميزاب صب ماء بدم الفرخين. فأمر عمر بقلعه. فأتاه العباس فقال إنه للموضع الذي وضعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر للعباس وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعل ذلك العباس. والحديث دليل على جواز إخراج الميازيب إلى الطرق. لكن بشرط أن لا تكون محدثة. وتضر بالمسلمين. وقال الشيخ إخراج الميازيب إلى الدرب هو السنة. واختاره وقدمه في النظم وغيره. ويمنع في الطريق الغرس والبناء والحفر ومرور أحمال الشوك. ووضع الحطب والذبح فيها. وطرح القمامة والرماد وقشر الموز وغير ذلك. مما فيه ضرر على المارة. باب الحجر في الأصل التضييق والمنع. ومنه سمي الحرام والعقل حجرًا. وفي الشرع منع إنسان من تصرفه في ماله وهو ضربان حجر لحق الغير كعلى مفلس. وحجر لحق نفس المحجور. كعلى نحو صغير. والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} يعني وإن كان الذي عليه الدين معسرًا {فَنَظِرَةٌ} أمر في صيغة الخبر تقديره فعليه نظرة {إِلَى مَيْسَرَةٍ} أي إلى اليسار والسعة. وأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء. ثم ندب إلى الوضع عنه فقال: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} وفي الحديث "من سره أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فلييسر على معسر أو ليضع عنه" وفي رواية "من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة" وفي الحديث القدسي "أنا أحق من ييسر أدخل الجنة" وفي فضل التيسير على المعسر وإنظاره أحاديث كثيرة. ودلت الآية وغيرها على أن المعسر الذي لا يقدر على الوفاء شيء من دينه لا يطالب به ويجب إنظاره ويحرم حبسه وملازمته. وإن ادعى العسرة وكان الحق ثبت عليه في غير مقابلة مال أخذه. كأرش جناية ومهر وضمان. ولم يعرف له مال حلف وخلي سبيله قال علي -رضي الله عنه- حبس الرجل بعد معرفة ما عليه من الحق ظلم. قال ابن القيم هذا الحكم عليه جمهور الأمة فيما إذا كان عليه دين عن غير عوض مالي. قال والذي يدل عليه الكتاب والسنة وقواعد الشرع أنه لا يحبس في شيء من ذلك. إلا أن يظهر بقرينة أنه قادر مماطل. سواء كان دينه عن عوض أو عن غير عوض. وسواء لزمه باختياره أو بغير اختياره.

فإن الحبس عقوبة والعقوبة إنما تسوغ بعد تحقق سببها. ولا تسوغ بالشبهة. بل سقوطها بالشبهة أقرب إلى قواعد الشريعة. وقال الشيخ من عرف بالقدرة فادعى إعسارًا وأمكن عادة قبل. لتعلق حق العبد بماله. وإذا كان دينه عن عوض كثمن وقرض وادعى الإفلاس. وقد علم له مال متقدم فكمن أصابته فاقة. حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه. قال ابن القيم هذا صريح في أنه لا يقبل في بينة الإعسار أقل من ثلاثة رجال وهو الصواب الذي يتعين القول به. وإذا كان في باب أخذ الزكاة وحل المسألة يعتبر العدد المذكور ففي باب دعوى الإعسار المسقط لأداء الديون ونفقة الأقارب والزوجات أولى وأحرى. (وعن عمرو بن الشريد) بفتح الشين ابن سويد الثقفي (عن أبيه) -رضي الله عنه- سمي شريدًا لأنه شرد من المغيرة لما قتل رفقته الثقفيين وقيل صحب قومًا فقتلهم فسمي الشريد (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي الواجد ظلم) كقوله "مطل الغني ظلم" ولي بفتح فشد. مصدر لوى يلوي. أضيف إلى فاعله. وهو الواجد من الوجد بالضم يعني القدرة. أي مطل الغني القادر على وفاء دينه ظلم (يحل عرضه) بأن يقول مطلني. ويغلظ القول عليه. ويشدد في هتك عرضه. وحرمته (وعقوبته) أي حبسه (رواه الخمسة إلا الترمذي) وحسنه الحافظ. وصححه ابن حبان. وعلقه البخاري.

وهو دليل على تحريم مطل الواجد. بل أصل متفق عليه: أن كل من ترك واجبًا استحق العقوبة. فمن عليه مال يجب عليه أداؤه كوديعة أو مضاربة أو مال لبيت المال فللقاضي التغليظ عليه وحبسه تأديبًا له. فإن أبى عزره مرة بعد أخرى. وأجاز الجمهور الحجر على القادر المماطل. وبيع الحاكم ماله. لقيامه مقامه. ودفعًا لضرر رب الدين. وهو داخل تحت لفظ عقوبته. وفي الاختيارات. ومن كان قادرًا على وفاء دينه وامتنع أجبر على وفائه بالضرب والحبس. ونص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وقال أبو العباس ولا أعلم فيه نزاعًا. لكن لا يزاد كل يوم على أكثر من التعزير إن قيل يتقدر. وقال ولا يجب حبسه بمكان معين. فيجوز حبسه في دار ولو في دار نفسه. بحيث لا يمكن من الخروج. ولو كان قادرًا على أداء الدين وامتنع. ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل. والنكاح. فله ذلك. إذ أن التعزير لا يختص بنوع معين. وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه. وقدره إذا لم يتعد حدود الله. وللحاكم أن يبيع عليه ماله. ويقضي دينه. ولا يلزمه إحضاره. وإذا كان الذي عليه الحق قادرًا على الوفاء ومطل صاحب الحق حتى أحوجه إلى الشكاية. فما غرمه بسبب ذلك. فهو على الظالم المبطل. إذا كان غرمه على الوجه المعتاد. وقال من غرم مالًا بسبب كذب عليه عند ولي الأمر فله تضمين

الكاذب عليه بما غرمه اهـ. والجمهور أنه يفسق بمطله. ومفهوم أن مطل المعسر لا يحل عرضه ولا عقوبته. وهو معنى قوله {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ولا يطالب مدين بدين مؤجل. (وعن كعب بن مالك) -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجر على معاذ) بن جبل -رضي الله عنه- (ما له) أي منعه من التصرف في ماله من نحو بيع وغيره لأجل غرمائه (وباعه في دين كان عليه رواه الدارقطني) والبيهقي والحاكم. وصححه. وقال ابن الصلاح هو حديث ثابت. وعن عبد الرحمن بن كعب. قال كان معاذ بن جبل شابًا سخيًا. وكان لا يمسك شيئًا. فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلمه ليكلم غرماءه. فلو تركوا لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فباع لهم ماله. حتى قام معاذ بغير شيء. رواه سعيد مرسلًا ونحوه في صحيح مسلم. قال أصيب رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها فكثر دينه. ويأتي. فدل الحديث وما في معناه على جواز الحجر على المديون. وأنه يجوز للحاكم بيع ماله لقضاء دينه. والحجر على المديون وإعطاء الغرماء ثابت أيضًا من فعل عمر. ولم ينقل أنه أنكر ذلك عليه أحد من الصحابة. وقال الوزير وغيره اتفقوا على أن الحجر على المفلس إذا طلب الغرماء ذلك وأحاطت الديون بماله مستحق على الحاكم. وله منعه من التصرف. حتى لا يضر بالغرماء. وبيع ماله إذا امتنع المفلس من بيعه ويقسمه بين

غرمائه بالحصص. ويخرجه الحاكم من الحبس. ويحول بينه وبين غرمائه إلا أبا حنيفة فقال يحبس حتى يقضي الدين. وقال ابن القيم إذا استغرقت الديون ما له لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون. سواء حجر عليه الحاكم أو لم يحجر عليه. هذا مذهب مالك واختيار شيخنا. وهو الصحيح. وهو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره. بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده. لأن حق الغرماء قد تعلق بماله. ولهذا يحجر عليه الحاكم. ولولا تعلق حق الغرماء بماله لم يسع الحاكم الحجر عليه. فصار كالمريض مرض الموت. وفي تمكين هذا المدين من التبرع إبطال حقوق الغرماء. والشريعة لا تأتي بمثل هذا. فإنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق. وسد الطرق المفضية إلى إضاعتها. (ولمسلم عن أبي سعيد) الخدري -رضي الله عنه- (قال أصيب رجل في ثمار ابتاعها) أي اشتراها (فكثر دينه) من أجل مصيبته في تلك الثمار. ولم يقدر على الوفاء (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصدقوا عليه) ليحصل له من الصدقة ما يفي بدينه (فلم يبلغ ذلك) أي ما تصدقوا به عليه (وفاء دينه) فيستوفي كل منهم حقه (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لغرمائه) أصحاب الدين (خذوا ما وجدتم) أي عند غريمكم لا غير (وليس لكم إلا ذلك) فهذا الحديث صريح في أنه ليس لهم إلا أخذ ما وجدوه. وليس لهم حبسه. ولا ملازمته.

قال ابن القيم ولم يحبس - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان. ولا يحبس في الدين ولو كان في مقابلة عوض. إلا أن يظهر بقرينة أنه قادر مماطل. لأن الحبس عقوبة. والعقوبة إنما تسوغ بعد تحقق سببها. وهي من جنس الحدود. ولا يجوز إيقاعها بالشبهة. بل يتثبت الحاكم. ويتأمل حال الخصم. ويسأل عنه. فإن تبين له مطله وظلمه ضربه إلى أن يوفي. أو حبسه. ولو أنكر غريمه إعساره. فإن عقوبة المعذور شرعًا ظلم. وإن لم يتبين له من حاله شيء أخره حتى يتبين له حاله. وظاهر الحديث أن الزيادة ساقطة عنه. ولو أيسر بعد ذلك لم يطالب بها. وفيه دليل على انتظار الغلة ونحوها. وأن التمكن من ذلك لا يعد مطلًا. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من أدرك متاعه) وفي لفظ ماله. وظاهره سواء كان ببيع أو قرض أو غير ذلك (بعينه) لم يتغير بصفة ولا زيادة ولا نقص (عند رجل قد أفلس) أي صار إلى حالة لا يملك فيها فلسًا (فهو أحق به) أي بمتاعه من غيره من الغرماء (متفق عليه) وفي لفظ قال في الرجل الذي يعدم "إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه أنه لصاحبه الذي باعه" رواه مسلم. ولأحمد عن الحسن عن سمرة مرفوعًا "من وجد متاعه عند مفلس بعينه فهو أحق به" حسنه الحافظ. ولها شواهد. وقوله "بعينه" دليل على أن شرط الاستحقاق أن يكون

المال باقيًا بعينه لم يتغير. ولم يتبدل "فهو أحق به" كائنًا من كان. وارثًا أو غريمًا. وهذا مذهب جمهور العلماء. وقضى به عثمان. وقال ابن المنذر لا نعلم له مخالفًا في الصحابة. وكذا روي عن علي ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة. والحديث إذا صح فليس إلا التسليم له. وكل حديث أصل برأسه ومعتبر حكمه في نفسه. فلا يجوز أن يعترض عليه بسائر الأصول المخالفة له. أو يجترئ على إبطاله بعدم النظير له. وقلة الانتباه في نوعه. والمراد ما لم يكن اقتضى من ثمنه شيئًا كما يأتي وهو مذهب الجمهور. فإن تغيرت العين في ذاتها بالنقص مثلًا. أو في صفة من صفاتها فهو أسوة الغرماء ويلتحق بالبيع القرض وغيره. (ولأبي داود أو مات) أي وجد ماله عند رجل أفلس أو مات فهو أحق به. وقال الحافظ يتعين المصير إليه. لأنها زيادة مقبولة من ثقة. فدل على أن صاحب السلعة أحق بها. ولا يلزمه القبول لو أراد الورثة أن يعطوه ثمنها. وقال أيضًا حديث حسن يحتج بمثله. أخرجه أيضًا أحمد وأبو داود وابن ماجه. وصححه الحاكم ورجحه الشافعي على المرسل. قال وجزم ابن العربي بأن الزيادة التي في مرسل مالك من قول الراوي. يعني قوله فإن مات فهو أسوة الغرماء. وذكر ابن القيم أنه موصول عن الزهري من طرق. ولا يكون مدرجًا إلا بحجة. وخبر (أو مات) قال ابن عبد البر

يرويه المعتمر وهو غير معروف بحمل العلم. ثم هو غير معمول به لجعله المتاع لصاحبه بمجرد موت المشتري. والأمر بخلاف ذلك عند جميع العلماء. وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما فالله أعلم. (ولأحمد) وأبي داود وغيرهما (ولم يكن اقتضى من ماله شيئًا) وفي لفظ "ولم يقض الذي باعه من ماله شيئًا" فوجد متاعه بعينه (فهو له) وفي رواية "أحق به" أي من سائر الغرماء. وهذا مذهب الجمهور. فإن اقتضى من ماله شيئًا فهو أسوة الغرماء. كما هو لفظ حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وغيره عند أبي داود وغيره. وإن كان قضى من ثمنها. شيئًا فهو أسوة الغرماء فيها. والمراد مما تقدم قبل الحجر عليه. أو بعده. لمن جهل الحجر عليه. لأنه معذور بجهل حاله وإلا فلا رجوع له في عينه. لأنه دخل على بصيرة. ويرجع بذلك بعد فك الحجر عنه. وكذا إن تصرف في ذمته بشراء أو ضمان أو نحوهما. أو أقر بدين أو جناية توجب قودًا أو مالًا صح. ويطالب به بعد فك الحجر عنه. ولا يفك الحجر عنه إلا الحاكم. وإن وفى ما عليه انفك بدونه. * * *

فصل في حجر السفه

فصل في حجر السفه أي في حكم الحجر على السفيه والصغير والمجنون لحظهم. وهذا هو القسم الثاني من أقسام الحجر. فيحجر على السفيه والصغير والمجنون وقد اتفق الأئمة على أن هذه الأسباب موجبة للحجر. إذ المصلحة تعود عليهم لحظهم. والحجر عليهم عام في ذممهم وأموالهم. ولا يحتاج لحاكم. ولا يصح تصرفهم قبل الإذن. قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ} جمع طفل والطفل الصبي. ويقع على الذكر والأنثى {مِنكُمُ الْحُلُمَ} أي الاحتلام. وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد واتفق الفقهاء على أن الاحتلام بلوغ. وقال ابن رشد أجمع العلماء على وجوب الحجر على الأيتام الذين لم يبلغوا الحلم. والجمهور وعلى الكبار إذا ظهر منهم التبذير لأموالهم. وقال: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى} أي اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحفظهم أموالهم {حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} أي بلغ اليتامى من الرجال والنساء النكاح. وهو الاحتلام المذكور في الآية قبلها وغيره مما سيأتي {فَإِنْ آنَسْتُم} أي رأيتم {مِّنْهُمْ رُشْدًا} عقلًا وصلاحًا في الدين وحفظًا للمال. وعلمًا بما يصلحه. فعلق تعالى زوال الحجر عن الصغير ودفع المال إليه باثنين: بالبلوغ والرشد. والبلوغ إما بالسن وهو اكتمال خمس عشرة سنة. أو بالاحتلام أو الإنبات. وتزيد الجارية بالحيض.

وأما الرشد فهو أن يكون مصلحًا في دينه وماله. وهو أن لا يكون مبذرًا. أولا يحسن التصرف. وهذا مذهب جمهور العلماء. وحكي الاتفاق على أن الغلام إذا بلغ غير رشيد لم يسلم إليه ماله. وإذا طرأ عليه السفه بعد الرشد يحجر عليه عند الجمهور مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وقالوا يبتدأ بالحجر عليه ولو بعد البلوغ والرشد. قال تعالى: {فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} قال الفقهاء وغيرهم إذا بلغ الغلام مصلحًا لدينه وماله إنفك الحجر عنه. فيسلم له ماله الذي تحت يد وليه. لكن بهذين الشرطين. بلوغ الحلم وإيناس الرشد. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا} معشر الأولياء، {إِسْرَافًا} بغير حق {وَبِدَارًا} أي مبادرة {أَن يَكْبَرُواْ} أي لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذرًا أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم. ثم قال تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} عنه ولا يأكل منه شيئًا. والعفة الامتناع عما لا يحل {وَمَن كَانَ فَقِيرًا} محتاجًا إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ويأتي حديث عمرو بن شعيب أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم فقال "كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل" قال الشيخ وغيره لوصي اليتيم أقل الأمرين من أجرة مثله أو كفايته اهـ. ولا يلزمه عوضه إذا أيسر. لأنه عوض عن عمله فهو فيه كالأجير والمضارب {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} بعد بلوغهم

الحلم وإيناس الرشد منهم {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وهذا عند الجمهور أمر إرشاد. لتزول التهمة وتنقطع الخصومة. قال الشيخ وإن نوزع في الرشد فشهد به شاهدان قبلا. لأنه قد يعلم بالاستفاضة. ومع عدم البينة له اليمين على وليه أنه لا يعلم رشده {وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} محاسبًا ومجازيًا وشاهدًا ورقيبًا على الأولياء. ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة والضرورة والغبطة والتلف ورد المال لأنه أمين. (وقال: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} أي قيمه {بِالْعَدْلِ} أي بالصدق والحق. وفي الاختيارات الولاية على الصبي والمجنون والسفيه تكون لسائر الأقارب. ومع الاستقامة لا يحتاج إلا الحاكم إلا إذا امتنع من طاعة الولي. وتكون الولاية لغير الأب والجد والحاكم على اليتيم وغيره. وهو مذهب أبو حنيفة ومنصوص أحمد في الأم. وأما تخصيص الولاية بالأب والجد والحاكم فضعيف جدًا، والحاكم العاجز كالعدم. (وقال: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ} قيل النساء وقيل الأولاد. والمراد كل من ليس له عقل يفي بحفظ المال. ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام. وكل من كان موصوفًا بهذه الصفات. والسفه خفة العقل. ولذلك سمي الفاسق سفيهًا. لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم. ويسمى الناقص العقل سفيهًا لخفة عقله. قال ابن كثير ينهى سبحانه عن تمكين

السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قيامًا. تقوم بها معائشهم من التجارات وغيرها. ومن ههنا يؤخذ الحجر على السفهاء وهم أقسام. فتارة يكون الحجر للصغر. فإن الصغير مسلوب العبارة. وتارة يكون الحجر للجنون. وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو البدن. وتارة للفلس. ومن أعطاهم ماله ببيع أو قرض ونحوه رجع بعينه إن بقي وإن تلف لم يصمنوه وإن أتلف فقال ابن القيم يضمن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال. وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح الأمة إلا بها. فلو لم يضمنوا جنايات أيديهم لأتلف بعضهم أموال بعض، وادعى الخطأ وعدم القصد. (وقال {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ} فضلًا عن أن تتصرفوا فيه {إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} من حفظه وتثميره والتصرف فيه بالغبطة قال الشيخ ولا يجوز أن يولى على مال اليتيم إلا من كان قويًا خبيرًا بما ولي عليه. أمينًا عليه. والواجب إذا لم يكن الولي بهذه الصفة أن يستبدل به. ولا يستحق الأجرة المسماة. لكن إذا عمل لليتامى استحق أجرة المثل. كالعمل في سائر العقود الفاسدة اهـ. والسفيه والمجنون في معنى اليتيم. وقال الشيخ وغيره يتصرف ولي المحجور عليه في ماله استحبابًا لقول عمر وغيره اتجروا بأموال اليتامى كيلا تأكلها الصدقة. ولوليه دفع ماله مضاربة بجزء من الربح لفعل عائشة وغيرها.

(وقال: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} الآية) أي وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم. وتمامها {وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أي يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح {وَلَوْ شَاء اللهُ لأعْنَتَكُمْ} أي لضيق عليكم. وما أباح لكم مخالطتهم {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم} فيما صنع من تدبيره. أباح لكم مشاركتهم في أموالهم وخلطها بأموالكم في نفقاتكم. فتصيبوا من أموالهم عوضًا من قيامكم بأمورهم. أو تكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم. (وقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ} أي تعدلوا {فِي الْيَتَامَى} الآية) أي إذا كانت تحت يد أحدكم يتيمه وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها من النساء. قالت عائشة هي اليتيمه تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها فنهوا عن ذلك. إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق. (وفي حديث علي) عند أحمد وغيره (رفع القلم عن ثلاثة) وهو لأحمد أيضًا عن عائشة وأبي داود وابن ماجه (وفيه والصغير حتى يبلغ) ولابن ماجه أيضًا عن علي والنسائي وعطاء بن السائب عن أبي ظبيان عنه. وللطبراني عن غير واحد و (صححه الترمذي) لمجيئه من غير وجه. وإن كان فيها مقال فيعضد بعضها بعضًا. وتدل على عدم تكليف الصبي. وفيه "والنائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يفيق" ولا قصد لهما ما

داما متصفين بتلك الصفات. (وعنه) أي عن علي -رضي الله عنه- (مرفوعًا) أنه قال - صلى الله عليه وسلم - (لا يتم) اليتم الانفراد. وهو فقد الصبي أباه قبل البلوغ (بعد احتلام) فإذا احتلم زال عنه اسم اليتم حقيقة وبلغ الحلم (رواه أبو داود) وفي حديث عطية "فمن كان محتلمًا" ولا نزاع على أن الاحتلام مع الإنزال من علامات البلوغ. (وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (قال عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد) الغزوة المشهورة سنة ثلاث في شوال (وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني) أي لم يأذن لي بالخروج للقتال. وفي رواية فلم يجزني ولم يرني بلغت (وعرضت عليه يوم الخندق) وهي غزوة الأحزاب في شوال سنة خمس من الهجرة (وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) أي أمضاني أخرج للقتال. وفي رواية فأجازني ورآني بلغت (متفق عليه) فدل الحديث وما في معناه على أن بلوغ خمس عشرة سنة من الولادة يكون بلوغًا. ويزول عنه الحجر. وهو قول الجمهور. (وعن عطية) القرظي -رضي الله عنه- قال (عرضت) على النبي - صلى الله عليه وسلم - (يوم قريظة) سنة خمس من الهجرة. وذلك أن سعد بن معاذ لما حكم بقتلهم وسبي ذراريهم. وأنكر بعضهم البلوغ فرارًا من القتل. أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يكشف عن مؤتزرهم. فمن أنبت فهو من المقاتلة فيقتل. ومن لم ينبت فهو من الذرية

يسترق قال عطية (فكان من أنبت قتل) أي من أنبت الشعر الأسود الخشن المتجعد في العانة قتل (ومن لم ينبت خلي سبيله) قال فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي. رواه الخمسة وغيرهم و (صححه الترمذي) فدل الحديث على أن الإنبات من علامات البلوغ. (وتقدم) في حكم ستر العورة (حديث: لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) وحيث علق الشارع قبول صلاة الحائض بالحيض دل على اعتباره. وأنه علم على البلوغ في حقها. وقال الموفق وغيره لا نعلم فيه خلافًا. فمتى تم لصغير خمس عشرة سنة. أو نبت حول قبله شعر خشن. أو أنزل أو عقل مجنون ورشد أو رشد سفيه زال حجرهم بلا خلاف ولا ينفك حجر أحدهم قبل شروطه بحال ولو كان شيخًا كبيرًا وهو قول جمهور العلماء للآيات والأخبار ولا يدفع إليه ماله حتى يختبر قبل بلوغه ليعلم رشده. ويختص الاختبار بالمراهق الذي يعرف المعاملة والمصلحة. (وعن عروة) بن الزبير بن العوام أحد الفقهاء السبعة وعلماء التابعين ثقة ثبت مات سنة اثنتين أو ثلاث وتسعين (قال ابتاع عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب بن عبد المطلب ولد بالحبشة. وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوفي وله عشر سنين وتوفي عبد الله سنة ثمانين. قال عروة ابتاع (بيعًا فقال علي لآتين عثمان) أي قال علي بن أبي طالب لآتين عثمان بن عفان

-رضي الله عنهما- فيما صنعت (فلاحجرن عليك) أي أمنعك من هذا التصرف فأرد المبيع (فاعلم) عبد الله (بن جعفر الزبير) بن العوام -رضي الله عنه- (فقال أنا شريكك) أي فيما ابتعت ليتم البيع ويقوى ساعد عبد الله بشركة الزبير له) (فقال عثمان: احجر على رجل شريكه الزبير) وهو بالمكانة المرموقة (رواه الشافعي) ورواه البيهقي وأبو عبيد. ولفظه قال عثمان لعلي ألا تأخذ على يد ابن أخيك وتحجر عليه. اشترى سبخة بستين ألف درهم ما يسرني أنها لي ببغلي. وللبيهقي قال الزبير أتحجران على رجل أنا شريكه فقالا لا. وذكر غيرها عن السلف. فدلت هذه القصة ونحوها على جواز الحجر على من كان سيء التصرف. وهو مذهب الجمهور وتقدم {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ} فالسفهاء هم المبذرون أموالهم. ورد عليه الصلاة والسلام صدقة الذي تصدق بأحد ثوبيه. والبيضة. والمعتق عبدًا له عن دبر لا مال له غيره. وذلك أن الأموال للانتفاع بها بلا تبذير. واستفاض النهي عن إضاعة المال. (وقال - صلى الله عليه وسلم - للنساء تصدقن) وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس ووعظهم. ثم أتى النساء فوعظهن وحثهن على الصدقة. ومعه بلال -رضي الله عنه- (فجعلت المرأة تلقي) أي تضع في ثوب بلال (القرط) نوع من حلي الأذن (والخاتم) حلي للأصبع معروف؛ ولمسلم الفتخ والخواتم وفي رواية الخاتم

والخرص والشيء فدل الحديث على جواز تصرف المرأة في مالها من غير توقف على إذن زوجها أو على مقدار معين من مالها لعدم استفصال الشارع وهو مذهب جماهير العلماء قال البيهقي يدل عليه الكتاب والسنة والآثار والعقل. (وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (كل من مال يتيمك) وذلك أنه جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إني فقير ليس لي شيء. ولي يتيم. وهو من مات أبوه ولم يبلغ. فقال "كل من مال يتيمك" وارشده - صلى الله عليه وسلم - إلى الأكل بالمعروف فقال (غير مسرف) أي مجاوز الحد في الأكل منه (ولا مبذر) مفرق له في كل وجه. ويفسر أحدهما بالآخر وهذا كقوله: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ} (ولا متأثل) أي مدخر من مال اليتيم لنفسه ما يزيد على قدر ما يأكله. والتأثل اتخاذ أصل المال حتى كأنه عنده قديم (رواه الخمسة) وغيرهم (إلا الترمذي) وقال الحافظ إسناده قوي. وولي اليتيم وكذا المجنون والسفيه حال الحجر الأب. لكمال شفقته. ثم وصيه. ثم الحاكم. وتكون لغيرهم. كما قال الشيخ. وتقدم قوله لا يجوز أن يولى على مال اليتيم إلا من كان قويًا خبيرًا بما ولي عليه. أمينًا عليه. والواجب أنه إذا لم يكن بهذه الصفة أن يستبدل به. ودل الحديث على أن للولي الفقير الأكل من مال موليه بالمعروف وهو الأقل من كفايته. أو

باب الوكالة

أجرة عمله. وهذا مذهب الجمهور. وبه قال الشيخ وغيره. وعليه أن يتصرف له بالأجرة بلا نزاع. وله أن يدفعه لمن يتجر فيه مضاربة بجزء معلوم من الربح. فعائشة أبضعت مال محمد ابن أبي بكر. وله البيع نسأ. وله القرض والرهن والإيداع. وشراء العقار وبناؤه لمصلحته. ولا يبيعه إلا لضرورة أو غبطة. أو مصلحة عامة كبناء مسجد. لقصة شراء مسجد المدينة من اليتيمين. وقال الشيخ ليس للناظر وولي اليتيم أن يسلم ما يتصرف فيه إلا بإجارة شرعية. وله شراء أضحية لموسر لأنه يوم سرور وفرح ليحصل بذلك جبر قلبه. وقال يستحب إكرام اليتيم وإدخال السرور عليه. ودفع الإهانة عنه. فجبر قلبه من أعظم مصالحه. باب الوكالة هي بفتح الواو وقد تكسر التفويض والحفظ. تقول وكلت فلانًا. إذا استحفظته ووكلت الأمر إليه بالتخفيف إذا فوضته إليه. وهي في الشرع إقامة الشخص غيره مقام نفسه مطلقًا أو مقيدًا. قال الوزير اتفقوا على أن الوكالة من العقود الجائزة في الجملة. وأن كل ما جازت النيابة فيه من الحقوق جازت الوكالة فيه كالبيع والشراء والإجارة وقضاء الديون والخصومة في المطالبة بالحقوق والتزويج والطلاق وغير ذلك. ووكل عبد الرحمن بن عوف أمية بن خلف. وقال ابن المنذر

توكيل المسلم حربيًا مستأمنًا وتوكيل الحربي المستأمن مسلمًا لا خلاف في جوازه، اهـ. وتصح بكل قول أو فعل دال على الإذن وتصح مؤقتة ومعلقة بشرط. قال ابن القيم كما صحت به السنة. ويصح القبول على الفور والتراخي بكل قول أو فعل دال عليه. وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع. ولدعاء الحاجة إليها إذ لا يمكن كل أحد فعل ما يحتاج إليه بنفسه. (قال تعالى: {فَابْعَثُوا} أي أرسلوا {أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ} فضتكم {هَذِهِ} فإنه كان معهم دراهم {إِلَى الْمَدِينَةِ} أي مدينتكم التي خرجتم منها والألف واللام للعهد. قيل هي طرسوس {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} أطيب طعامًا {فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ} أي قوت وطعام تأكلونه. فدلت الآية الكريمة على صحة التوكيل في البيع والشراء. فكذا سائر العقود كالإجارة والقرض والمضاربة والإبراء وما في معنى ذلك. (وقال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ} أي قال يوسف لعزيز مصر. ولني أمر خزائن أرض مصر. والخزائن جمع خزينة. وأراد خزائن الأموال. والطعام {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم} أي حفيظ للخزائن عليم بوجوه مصالحها. ويجوز للرجل مدح نفسه إذا جهل أمره للحاجة. وسؤال العمل إذا علم قدرته عليه. وفيها دليل على أن من له التصرف في شيء فله التوكيل فيه.

وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه إذا كان يتولاه مثله. ولم يعجزه إن لم يؤذن له فيه. فإن أذن له جاز بغير خلاف. (وقال والعاملين عليها) أي الساعين في قبض الزكاة فدلت الآية على جواز الوكالة في قبض الزكاة ولا نزاع في ذلك. (وكان - صلى الله عليه وسلم - يبعث عماله في قبض الزكاة) كما هو متواتر من غير وجه وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث عمر على الصدقة. ومعاذًا وغيرهما مما هو معلوم بالضرورة (وتفريقها) أي ويأمر بتفريق الزكاة. وقال "إن الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملًا موفرًا طيبة به نفسه حيث يدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين" وجاء فيه أحاديث شهيرة. بل قال أبو هريرة وكلني النبي - صلى الله عليه وسلم - في حفظ زكاة رمضان. ووضع يزيد دنانير عند رجل في المسجد يتصدق بها. فدفعها إلى ابنه معن. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لك ما نويت يا يزيد" رواه البخاري. فتصح الوكالة في كل حق لله تعالى تدخله النيابة من قبض زكاة وتفرقتها. وصدقة ونذر وكفارة ونحو ذلك بلا نزاع. وكحج وعمرة عن الغير كما تقدم. وأما العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم والطهارة من الحدث فلا يصح التوكيل فيها. لأنها تتعلق ببدن من هي عليه (ويأمر بإقامة الحدود) أي وكان - صلى الله عليه وسلم - يأمر بإقامة الحدود. فقال اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" فاعترفت فرجمها. ويأتي.

ووكل عثمان عليًا في إقامة حد الشرب على الوليد. وغير ذلك مما هو معلوم يدل على جواز الوكالة في إقامة الحدود. ولأن الحاجة تدعو إليه. إذ الإمام لا يمكنه تولي ذلك بنفسه. وحكم القاضي في ذلك حكم الإمام. لأنه قد يؤدي ذلك إلى تعطيل مصالح الناس العامة. فأشبه من وكل فيما لا تمكنه مباشرته عادة لكثرته ويجوز في حضرة الموكل وغيبته. وتصح الوكالة أيضًا في إثبات الحدود ولا تصح في الظهار. لأنه قول منكر ولا اللعان ولا الإيمان. ولا القسامة ولا القسم بين الزوجات. والرضاع والالتقاط والاغتنام والغصب والجنابة ونحو ذلك. لتعلق ذلك بعين الفاعل. ولا تدخلها النيابة. (وأمر) - صلى الله عليه وسلم - (عليًا) عام حجة الوداع بعد أن نحر من هديه ثلاثًا وستين (بنحر بقية بدنه) كما تقدم في الهدي وفيه "وأمره بقسم جلودها وجلالها" وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن عامر غنمًا أضحية يقسمها بين أصحابه. فدل على صحة التوكيل في نحر الهدي والأضحية وهو إجماع. إذا كان الذابح مسلمًا. وجواز التوكيل في قسم جلودها وجلالها. وقسم الأضاحي. وقال ابن بطال وكالة الشريك جائزة كما تجوز شركة الوكيل لا أعلم فيه خلافًا. (واستسلف بكرًا كما تقدم) في القرض (وأمر أبا رافع أن

يقضيه من إبل الصدقة) فدل الحديث على جواز التوكيل في قضاء القرض ونحو ذلك. (ووكله) أي وكل النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا رافع (وعمرو بن أمية) بن خويلد الضمري (في قبول النكاح) وذلك أن أبا رافع تولى قبول نكاح ميمونة بنت الحارث له - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة قبل أن يخرج وعمرًا تولى نكاح أم حبيبة وهي بالحبشة رواه مالك وغيره. وهو دليل على جواز التوكيل في عقد النكاح من الزوج. ولا خلاف في ذلك. وكذا الطلاق كما يأتي. وفيه وما قبله صحة قبول الوكالة على الفور والتراخي. وصحة قبول الوكالة بكل قول أو فعل دال عليه. فإن قبول وكلائه - صلى الله عليه وسلم - كان بفعلهم. وكان متراخيًا عن توكيله إياهم. ولأنه إذن في التصرف. والإذن قائم ما لم يرجع عنه. (وقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لجابر) بن عبد الله وذلك أنه لما أراد الخروج إلى خيبر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له (إذا أتيت وكيلي) أي عاملي (بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقًا فإن ابتغى آية) أي علامة (فضع يدك على ترقوته) وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق. لأني قلت له إن العلامة التي بيني وبينك إذا جاءك أحد يطلب منك شيئًا عن لساني أن يضع يده على ترقوتك. فإن فعل ذلك فاعلم أنه يصدق فيما يقول. وقال ابن القيم نزل - صلى الله عليه وسلم - هذه العلامة منزلة البينة التي تشهد أنه أذن له أن يدفع له ذلك. كما نزل الصفة للقطة منزلة

البينة. بل هذا نفسه بينة. إذ البينة ما بين الحق من قول أو وصف اهـ. ولأن الأمانة طوق في الرقبة (رواه أبو داود) وغيره. وفيه دليل على صحة الوكالة فيها. وأن للإمام أن يوكل ويقيم عاملًا على الصدقة في قبضها ودفعها إلى مستحقها. وإلى من يرسله إليه بإمارة. وفيه جواز العمل بالإمارة. وقبول قول الرسول إذا عرف المرسل إليه صدقة. وقيل له الامتناع من الدفع إليه حتى يشهد عليه بالقبض. وفيه أيضًا دليل على جواز اتخاذ علامة بين الوكيل وموكله. لا يطلع غيرهما. وفي الاختيارات. والذي يجب أن يقال أن الغريم متى غلب على ظنه أن الموكل لا ينكر وجب عليه التسليم فيما بينه وبين الله تعالى كالذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى وكيله وعلم له علامة. فهل يقول أحد إن ذلك الوكيل لا يجب عليه الدفع؟. وأما في القضاء فقيل إن كان الموكل عدلًا وجب الدفع. لأن العدل لا يجحد. والظاهر أنه لا يستثنى فإذا دفع من عنده الحق إلى الوكيل ذلك الحق. ولم يصدقه أنه وكيل. وأنكر صاحب الحق الوكالة. رجع عليه اتفاقًا. قال الشيخ ومجرد التسليم ليس تصديقًا. (وله) أي لأبي داود وغيره (عن يعلى بن أمية) بن أبي عبيدة بن همام بن الحارث التميمي. ويقال ابن منية قتل

يوم صفين مع علي -رضي الله عنهما- أنه - صلى الله عليه وسلم - قال له: (إذا أتتك رسلي) وكان عزم أن يرسل إليه في عارية دروع وابل. قال (فأعطهم ثلاثين درعًا) الدرع قميص من زرد الحديد يلبس وقاية من السلاح (وثلاثين بعيرًا) البعير يقع على الذكر والأنثى من الإبل. وفيه دليل على جواز التوكيل من المستعير لقبض العارية. فشمل ما تقدم جواز التوكيل فيما تدخله النيابة. وهي عقد جائز من الطرفين. لأنها من جهة الموكل إذن. ومن جهة الوكيل بذل نفع. والوكيل أمين لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط. ويقبل قوله في نفي التفريط والهلاك مع يمينه. ولا يكلف بينة. لأنه مما يتعذر إقامة البينة عليه ولئلا يمتنع الناس من الدخول في الأمانات مع الحاجة إليها. قال الشيخ والوكيل في الضبط والمعرفة مثل من وكل رجلًا فيما له وما عليه كأهل الديوان. فقوله أولى بالقبول من وكيل التصرف. لأنه مؤتمن على نفس الإخبار بما له وما عليه. ونظيره إقرار كاتب الأمراء وأهل ديوانهم بما عليه من الحقوق. وإقرار كاتب السلطان بما على بيت المال. وسائر أهل الديوان ما على جهاتهم من الحقوق. ومن ناظر الوقف وعامل الصدقة والخراج ونحو ذلك. فإن هؤلاء لا يخرجون عن ولاية أو وكالة اهـ. وإن اختلفا في رد العين أو ثمنها إلى الموكل فالبينة

على المدعي واليمين على من أنكر فهي كلمة جامعة شاملة لا فرق بين متطوع أو بجعل. (وقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما جهز جيش غزو مؤتة في نحو ثلاثة آلاف سنة ثمان من الهجرة إلى البلقاء من الشام (أميركم زيد) بن حارثة بن شراحيل القضاعي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فإن قتل فجعفر) بن أبي طالب بن عبد المطلب. فهو ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - (فإن قتل فـ) عبد الله (بن رواحة) ابن ثعلبة الخزرجي الأنصاري -رضي الله عنهم-. ولما انتهوا إلى البلقاء لقيهم جموع هرقل في نحو مائتي ألف. وانحاز المسلمون إلى قرية مؤتة. فاقتتلوا. وقتل زيد براية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أخذها جعفر فقتل. ثم ابن رواحة فقتل. ثم اصطلح الناس على خالد بن الوليد فدافع القوم. ولما أصبحوا جعل المقدمة مؤخرة. والميمنة ميسرة. فرعب العدو. وفتح على المسلمين فدل الحديث على صحة الوكالة ولو واحدًا بعد واحد معلقة على موت الأول أو مؤقته كفلان شهرًا ثم فلان واتفقوا على أنه إن عزل الوكيل انعزل. ومذهب الشافعي لا ينعزل إلا بعد العلم. وعن أحمد كذلك. واختاره الشيخ. وقال هو الصواب. لأنه قد يتصرف تصرفات فتقع باطلة. وربما باع الجارية فيطؤها المشتري. ويجب ضمانه فيتضرر المشتري والوكيل. وعليه فمتى تصرف قبل علمه فتصرفاته صحيحة، وهو

قول أبي حنيفة، حتى أنه لا يعزل نفسه إلا بحضرة الموكل، وقال الشيخ: وعلى القول بالعزل فتصرفاته صحيحة أيضًا. وعند الجمهور لا يبيع لنفسه ولا يشتري من نفسه لئلا تلحقه التهمة. وحيث حصلت التهمة لم يصح. وعن أحمد جوازه إذا زاد على مبلغ ثمنه. وفي الإنصاف احتمال لا يعتبر. لأن دينه وأمانته تحمله على الحق. وربما زاد خيرًا. ومحل الخلاف ما لم يأذن له وإلا جاز. ويتولى طرفي العقد. (وعن عروة) بن الجعد ويقال ابن أبي الجعد (البارقي) حضر فتوح الشام ونزلها. وسيره عثمان إلى الكوفة. قيل رؤي في داره ستين فرسًا مربوطة (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارًا ليشتري له به شاة) وفي لفظ أضحية (فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار) ضرب معروف من الذهب (وجاءه بدينار وشاة) وروي من حديث حكيم بن حزام نحوه (فدعا له بالبركة) في بيعه (رواه البخاري) وفيه وكان لو اشترى ترابًا لربح فيه ببركة دعائه - صلى الله عليه وسلم - وفيه وفي غيره مما تقدم وغيره ما ينيف على ثلاثين حديثًا تدل على صحة الوكالة فيما تقدم وغيره وتقدم أنه إجماع. وفي هذا الحديث دليل على صحة العقد الموقوف. وهو مذهب جماعة من السلف. وأنه يجوز للوكيل إذا قال له الموكل اشتر بهذا الدينار شاة مثلًا ووصفها أن يشتري به شاتين بالصفة المذكورة. لأن مقصود الموكل قد حصل. وزاده الوكيل خيرًا.

باب الشركة

ومثله لو أمره أن يبيع شاة بدرهم فباعها بدرهمين. أو أن يشتريها بدرهم فاشتراها بنصف درهم. وفيه دليل على صحة بيع الفضولي. وهو مذهب الجمهور. وفيه استحباب الشكر على الصنيعة ولو بالدعاء. وإن اشترى ما يعلم عيبه لزمه أن لم يرض موكله. فإن جهل الوكيل عيبه رده. باب الشركة بفتح وكسر وكسر وسكون. وهي لغة الاختلاط. وشرعًا اجتماع في استحقاق أو تصرف. فشركة الاستحقاق كثبوت ملك في عقاب بين اثنين فأكثر بإرث ونحوه. أو منفعة دون العين. وشركة التصرف في العقود من بيع ونحوه. وهي المقصودة هنا. وهي خمسة أنواع شركة عنان ومضاربة وشركة وجوه وشركة أبدان وشركة مفاوضة والشركة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع. (قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء} أي الشركاء {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي ليظلم بعضهم بعضًا {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} أي قليل هم والمراد أن الصالحين الذين لا يظلمون قليل. فدلت الآية على جواز الشركة في الأملاك والعقود. والمنع من ظلم الشريك شريكه. (وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال قال الله تعالى أنا

ثالث الشريكين) أي فيحصل بتلك المعية الخاصة الحفظ والرعاية والإمداد وإنزال البركة في تجارتهما (ما لم يخن أحدهما صاحبه) فيما تشاركا فيه (فإذا خانه) أي فإذا حصلت الخيانة من أحدهما (خرجت من بينهما) فنزعت البركة من تجارتهما (رواه أبو داود) وزاد رزين "وجاء الشيطان" أي دخل بينهما "وكان ثالثًا لهما" وفيه مشروعية الشركة. والحث عليهما واستحبابها مع عدم الخيانة. لأن كل واحد من الشريكين يسعى في غبطة صاحبه. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. وفيه التحذير من الشركة مع الخيانة. (وله عن السائب) بن أبي السائب المخزومي. وكان من المؤلفة قلوبهم. وممن حسن إسلامه. ومن المعمرين حتى إنه عاش إلى زمن معاوية (أنه كان شريك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية) ولابن ماجه "كنت شريكي في الجاهلية " وفي لفظ "قبل البعثة" في التجارة (فجاء يوم القتح) يعني فتح مكة سنة ثمان في رمضان (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (مرحبًا) أي لقيت رحبًا وسعة. أو رحب الله بك مرحبًا (بأخي) أي في الإسلام لما أسلم (وشريكي) أي في التجارة في الجاهلية "وكان لا يماري ولا يداري" أي لا يمانع ولا يحاور. وفي لفظ أن السائب أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعلوا يثنون عليه ويذكرونه فقال "أنا أعلمكم به. فقال: صدقت بأبي أنت وأمي كنت شريكي فنعم الشريك لا تداري ولا تماري" رواه أبو نعيم

وغيره عن ابن السائب. فدل على جواز الشركة وأنها كانت ثابتة قبل الإسلام. ثم قررها الشارع على ما كانت عليه وفيه ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من حسن الخلق وحسن المعاملة. والرفق قبل النبوة وبعدها وجواز السكوت من الممدوح عند سماع من يمدحه بحق. (وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أكره أن يشارك المسلم اليهودي) وكذا النصراني لأنهما لا يؤمنان أن يعاملا في الربا. أو يشتريا بمال الشركة خمرًا أو ميتة. أما غير الكتابي كالمجوسي والوثني فمكروهة. ولو كان المسلم يلي التصرف. (وعن المنهال) بن عمرو الأسدي مولاهم الكوفي (أن زيد بن أرقم والبراء) بن عازب -رضي الله عنهما- (كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة) وشراء الفضة بنسيئة تقدم أنه لا يجوز لخبر "الفضة بالفضة، يدًا بيد، سواء بسواء" وكذا الذهب بالذهب" (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان بنقد فاجيزوه" لقوله - صلى الله عليه وسلم - "يدًا بيد سواء بسواء" وما كان بنسيئة فردوه ولقوله: "ولا يباع منها غائب بناجز" (رواه البخاري) وكذا لا يجوز بيع أحد النقدين بالآخر إلا يدًا بيد. وتقدم موضحًا في باب الربا. فدل الحديث على جواز الشركة في الدراهم والدنانير. قال ابن بطال وهو إجماع. وذهب الجمهور إلى الصحة في غير

النقدين من كل ما يتملك. ولا يشترط خلط المالين إذا عيناهما. أو أحضراهما. وهو مذهب الجمهور. ثم يتصرفان جميعًا إلا أن يقيم كل واحد منهما الآخر مقام نفسه إجماعًا. ولكل منهما التصرف بما هو من مصلحة تجارتهما. وأن يشترطا لكل منهما جزءًا من الربح مشاعًا معلومًا. ومتى اقتسما رجع كل منهما بماله. ثم اقتسما الربح وإن تلف أحد المالين فهو من ضمانهما. (وخرج ابنا عمر) عبد الله وعبيد الله رضي الله عنهم (في جيش) أنفذه عمر -رضي الله عنه- (فاستسلفا من أبي موسى) حين لقياه بالبصرة منصرفهما من غزوة نهاوند (مالًا) وكان اجتمع عنده مال أراد إرساله إلى عمر. فاستقرضاه منه وضمناه له (وابتاعا به متاعًا) وقدما به المدينة وباعاه (فربحا فيه). وقيل: إنه أراد عمر أخذ رأس المال والربح كله. فقالا لو كان تلف كان ضمانه علينا فكيف لا يكون ربحه لنا؟! فقال رجل يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضًا. فقال قد جعلته قراضًا (فأخذ منهما عمر) -رضي الله عنه- (نصف الربح رواه مالك) والشافعي والدارقطني. وقال الحافظ: إسناده صحيح. وقد اعتمد الفقهاء على هذا الأثر في باب المضاربة أن الربح مما حصل من منفعة بدن هذا ومال هذا يكون بينهما. وقال الشيخ والربح الحاصل من مال لم يأذن مالكه في التجارة به

قيل للمالك. وقيل للعامل. وقيل بينهما على قدر النفعين بمعرفة أهل الخبرة. قال وهو أصحها وبه حكم عمر. إلا أن يتجر به على غير وجه العدوان. مثل أن يعتقد أنه مال نفسه فيتبين مال غيره. فهنا يقتسمان الربح بلا ريب. ودلت هذه الآثار وما في معناها على جواز شركة العنان. وهي أن يشتركا بماليهما المعلوم ليعملا فيه ببدنيهما. وينفذ تصرف كل منهما فيهما بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه. وتجوز المضاربة بالدين. قال ابن القيم وهو الراجح في الدليل. وليس في الأدلة الشرعية ما يمنع من جوازه. ولا يقتضي تجويزه مخالفة قاعدة من قواعد الشرع. ولا وقوعًا في محظور ولا غرر ولا مفسدة. وتجويزه من محاسن الشريعة. (وفي الصحيحين) وغيرهما عن أبي موسى -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن الأشعريين) قبيلة أبي موسى الأشعري مشهورين باليمن (إذا قل طعامهم) وفي رواية: "إذا أرملوا أو قل طعامهم (جمعوا متاعهم) وفي رواية "جمعوا عندهم ثم اقتسموا بالسوية، وفي رواية "في إناء واحد بالسوية (فهم مني وأنا منهم) قال الحافظ أي هم متصلون بي. وقيل فعلوا فعلي في هذه المواساة. وقال النووي معناه المبالغة في اتحاد طريقهما وإنفاقهما في طاعة الله. وطريقة السلف أجراؤه على ظاهره. وللبخاري من حديث جابر أن الصحابة اشتركوا في أزوادهم في غزوة الساحل. ومن حديث سلمة أنهم

فصل في المضاربة

جمعوا ازوادهم فدعا لهم فيها بالبركة. ولهما شواهد تدل على جواز الاشتراك في جميع أنواع المال. فصل في المضاربة وهي دفع مال مضاربة لمتجر به ببعض ربحه مأخوذة من الضرب في الأرض وهو السفر. لما كان الربح يحصل في الغالب بالسفر. أو من الضرب في المال. وهو التصرف. والعامل مضارب وتسمى المضاربة قراضًا ومعامَلَة قال ابن القيم: المضارب أمين وأجير ووكيل وشريك. فأمين إذا قبض المال. ووكيل إذا تصرف فيه. وأجير فيما يباشره بنفسه من العمل. وشريك إذا ظهر فيه الربح. وقال ابن حزم كل أبواب الفقه لها أصل من الكتاب والسنة حاشى القراض فما وجد له أصل فيهما ألبتة. ولكن إجماع صحيح مجرد. والذي نقطع به أنه كان في عصره - صلى الله عليه وسلم - فعلم به وأقره. ولولا ذلك لما جاز، اهـ. بل المضاربة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع في الجملة. (قال تعالى: {وَآخَرُونَ} أي ذو أعذار في ترك قيام الليل {يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} يسافرون في الأرض {يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} يطلبون من رزق الله في المكاسب والمتاجر. والمضاربة من الضرب في الأرض للاتجار. فدلت الآية على جواز المضاربة. واشتهرت في عصر النبوة وبعده. لا ينازع في ذلك منازع. وأجمعوا على أن للعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه. أو ما يجمعان عليه. بعد أن

يكون ذلك معلومًا بجزء من أجزاء. فمن شرط صحتها تقدير نصيب العامل. لأنه يستحقه بالشرط. فلم يقدر إلا به. وإن قال والربح بيننا فنصفان. أو لي أو لك ثلاثة أرباعه أو ثلثه صح. والباقي للآخر. وإن اختلفا لمن الجزء المشروط فللعامل لاستحقاقه له بالعمل. ولا نفقة لعامل إلا بشرط. وقال الشيخ وابن القيم أو عادة. (وقارض) من القرض في الأرض وهو قطعها بالسير فيها. وهو المضاربة من الضرب في الأرض. فقد قارض (ابن مسعود وغيره) من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. فروى الشافعي أن ابن مسعود أعطى زيد بن جليدة مالاً مقارضة. يعني مضاربة يتجر فيه ببعض الربح وروى مالك عن العلاء عن أبيه أنه عمل في مال لعثمان على أن الربح بينهما. وروى البيهقي أن عمر أعطى مال يتيم مضاربة. وتقدم خبر ابني عمر وغيره مما يدل على أن المضاربة مما كان الصحابة يتعاملون بها من غير نكير فكان إجماعًا منهم على الجواز. ولابن ماجه من حديث صهيب "ثلاث فيهن البركة" منها المقارضة وهي دفع مال لمتجر به ببعض ربحه. (وكان حكيم بن حزام) بن خويلد بن أسد بن عبد العزى. قال ولدت قبل الفيل بثلاث عشرة سنة. وقيل في جوف الكعبة. وهو من سادات قريش. وأسلم عام الفتح. وكان من المؤلفة. وأعطي مائة بعير. وفي الصحيح "من دخل

دار حكيم فهو آمن" وعاش مائة وعشرين سنة وكان (يشترط على من أعطاه مالًا مقارضة) أي مضاربة بسهم معلوم للعامل (ألا يجعله في كبد رطبة) أي لا يشتري به الحيوانات لأن ما كان له روح عرضة للهلاك بطرو الموت عليه. (ولا يحمله في بحر) مخافة الغرق (ولا ينزل به بطن مسيل) فيهجم عليه السيل فيتلفه. وهذه الثلاثة من أخطر ما يكون (فإن فعل ضمن) لتعديه ما شرط عليه. وتفريطه بتعرضه لهلاك المال (رواه الدارقطني) والبيهقي. وقوى الحافظ إسناده فدل على جواز نحو هذه الشروط وعلى هذه المضاربة وفي تجويز المضاربة أيضًا آثار عن جماعة من الصحابة –رضي الله عنهم. وأما اشتراط النفقة فيها ففي الاختيارات لا نفقة للمضارب إلا بشرط أو عادة. فإن شرطت مطلقًا فله نفقة مثله طعامًا وكسوة. وقد يخرج لنا أن للمضارب في السفر زيادة على نفقة الحضر. كما قلنا في الولي إذا أحج الصبي اهـ. وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف جبر من الربح قبل قسمته أو تنضيضه. وليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال. (وعن ابن مسعود) -رضي الله عنه- (قال اشتركت) أي: وقعت شركة بيني (أنا وعمار) بن ياسر، (وسعد) بن أبي وقاص (فيما نصيب يوم بدر) الوقعة

المشهورة في السنة الثانية من الهجرة (فجاء سعد بأسيرين) وأخفق الآخران. قال ابن مسعود (ولم أجئ أنا وعمار بشيء) وأقرت شركتهم (رواه أبو داود) والنسائي وغيرهما. قال أحمد أشرك بينهم النبي – - صلى الله عليه وسلم -. فدل على صحة الشركة في المكاسب. وتسمى شركة الأبدان. وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وجمهور أهل العلم. وهي أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما. وما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله أو يوكل كل منهما صاحبه أن يتقبل أو يعمل عنه في قدر معلوم. ويعينان الصنعة. أو على أجرة وعمل وما يحصل لهما بعد العمل والأجرة مشترك بينهما. وتصح شركة الأبدان في الاحتشاش والاحتطاب وسائر المباحات. قال الشيخ وتصح شركة دلالين وجعلها بمنزلة خياطة الخياط. وتجارة التاجر. وموجب العقد المطلق التساوي في العمل والأجر. ومن عمل أكثر وطلبه فله بقدره. وإن مرض أحدهما فالكسب بينهما وإن طالبه الصحيح أن يقيم غيره مقامه لزمه. (وله عن رويفع) بن ثابت بن السكن من بني مالك بن النجار الأنصاري رضي الله عنهم توفي ببرقة سنة ست وخمسين (إن كان أحدنا) يعني الأنصاري بالمدينة (ليأخذ نضو أخيه) النضو المهزول من الإبل فيعلفه ويركبه (على أن له النصف مما يغنم) وذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل على جواز أخذ الرجل راحلة صاحبه في الجهاد على أن تكون الغنيمة بينهما. وكذا غيره

باب المساقاة

من سائر المكاسب المباحة. وذكر بعض أهل العلم شركة الوجوه، وهي: أن يشتركا في ذمتيهما بجاههما فما ربحاه فبينهما على ما شرطاه. والوضيعة على قدر ملكيهما. وهي كشركة العنان. لأنها في معناهما فأعطيت حكمها. وذكروا شركة المفاوضة، وهي: أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي أو بدني من أنواع الشركة. وهي الجمع بين عنان ووجوه ومضاربة وأبدان. فتصح لأن كل واحد منها يصح منفردًا فصح مع غيره كحالة الانفراد. باب المساقاة أي والمزارعة. والمساقاة من السقي. سميت بذلك لأنه أهم أمرها بالحجاز. وهي دفع شجر له ثمر يؤكل. ولو غير مغروس. إلى آخر ليقوم بسقيه. وما يحتاج إليه بجزء معلوم من ثمر نفس الشجر للمالك. وللعامل الباقي. أو على الشطر والشطر الثاني للعامل. بحسب ما يصطلحان عليه. والمزارعة مفاعلة من الزراعة. وهي دفع أرض لمن يعمل عليها أو أرض وحب لمن يزرعه ويقوم عليه. أو حب مزروع ينمى بالعمل لمن يقوم عليه بجزء معلوم. قال الشيخ هما أصل من المواجرة وأقرب إلى العدل والأصول. فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم اهـ.

ويصحان بما يؤدي المعنى. وهما جائزتان بعموم الكتاب والسنة والإجماع. فإن المكاسب من الضرب في الأرض وابتغاء فضل الله. وكان أهل المدينة أهل حرث. وكثير من أهل الأشجار والأراضي يعجزون عن عمارتها وسقيها. ولا يمكنهم الاستئجار عليها. وكثير من الناس لا أرض لهم ولا شجر ويحتاجون إلى الثمر. والعمل فيه من ابتغاء فضل الله. وهو من أحل المكاسب والسنة طافحة بذلك. وفيه فضل إذا لم يشغل عن الأمور المطلوبة ففي الصحيحين "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له صدقة". (عن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (قال عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر) بعد أن فتحها الله عليه سنة سبع (بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع متفق عليه) ولمسلم "دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولهم شطر ثمرها" والشطر هنا بمعنى النصف. ولأحمد "دفع خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف" فدل الحديث على صحة المساقاة والمزارعة. وهو قول الخلفاء وفقهاء الحديث وعمل المسلمين في جميع الأعصار والأمصار. وأنه لا يشترط كون البذر والغراس من رب الأرض. وهو الذي عليه عمل الناس. وثبت أن عمر قال إن جاء عمر بالبذر من عنده فالشطر. وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا. واشتهر فلم ينكر. ودل على بيان

الجزء المساقى عليه من نصف أو ربع أو غيرهما من الأجزاء المعلومة. فلا يجوز على مجهول. (وفي رواية نقركم بها) أي نمكنكم على ذلك (ما شئنا) أي إلى أن نشاء إخراجكم. لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان عازماً على إخراجهم من جزيرة العرب. وتقدم أنهم أقروا حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه. فدل على صحة المساقاة والمزارعة وإن كانت المدة مجهولة. (وقال أبو جعفر) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي ثقة فاضل توفي سنة 115هـ (عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر بالشطر) مما يخرج منها (ثم أبو بكر) -رضي الله عنه- مدة خلافته (ثم عمر) -رضي الله عنه- مدة خلافته (وعثمان) -رضي الله عنه- كذلك (وعلي) -رضي الله عنه- كذلك (ثم أهلوهم) آل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي (إلى اليوم) يعني إلى عصر أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم, قال أبو جعفر (يعطون الثلث والربع) مما يخرج من ثمر أو زرع. وقال قيس بن مسلم عن أبي جعفر ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع. وزارع علي وسعد بن

مالك وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل علي وآل عمر. وعن طاووس أن معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان على الثلث والربع. فهو يعمل به إلى يومك هذا. رواه ابن ماجه. وذكر البخاري وغيره آثاراً كثيرة عن السلف توجب أنه لم ينقل خلاف في الجواز. وتمسك بذلك الجمهور. وقالوا يجوز العقد على المساقاة والمزارعة مجتمعتين. فتساقيه على النخل وتزارعه على الأرض. كما جرى في خيبر. ويجوز العقد على كل واحدة منهما منفردة. وفيه أيضاً بيان الجزء المساقى عليه من نصف أو ربع أو غيرهما من الأجزاء المعلومة. وقال ابن القيم في قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء من الغلة من ثمر أو زرع. فإنه - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر واستمر على ذلك إلى حين وفاته - صلى الله عليه وسلم - ولم ينسخ البتة. واستمر عمل الخلفاء الراشدين عليه. وليس هذا من باب المواجرة في شيء بل من باب المشاركة وهو نظير المضاربة سواء اهـ. ومذهب أحمد وغيره أن المساقاة والمزارعة عقد جائز قياساً على المضاربة. والجمهور على أنه عقد لازم دفعاً للضرر. وقيل عليه العمل. واختاره الشيخ وغيره. وعليه فحكمها حكم الإجارة اللازمة. وعلى الأول إن فسخ المالك فللعامل الأجرة وإن فسخ العامل فلا شيء له. وفي التبصرة جائزة من قبل العامل لازمة من جهة المالك.

وذكره الشيخ حمد بن معمر عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وأنه عليه العمل. وقال شيخ الإسلام إذا ترك العامل العمل حتى فسد الثمر فينبغي أن يجبر عليه ضمان نصيب المالك. لأن ترك العمل من غير فسخ العقد حرام وغرر. وهو سبب في عدم الثمر. وقال إذا فسدت المساقاة أو المزارعة استحق العامل نصيب المثل. وهو ما جرت العادة في مثله. لا أجرة المثل. وقال الصحيح من قولي العلماء أن هذه المشاركات إذا فسدت وجب نصيب المثل لا أجرة المثل. فيجب من الربح أو النماء إما مثله وإما نصفه كما جرت العادة في مثل ذلك. ولا يجب أجرة مقدرة. فإن ذلك قد يستغرق المال. وأضعافه. وإنما يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح. ليس هو أجرة مسماة بل جزء مشاع من الربح مسمى. فيجب في الفاسد نظير ذلك. (وقال رافع بن خديج) بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم الخزرجي الأنصاري عرض يوم بدر وأجيز يوم أحد وشهدها وما بعدها قيل مات سنة ثلاث وسبعين وقال البخاري مات زمن معاوية رضي الله عنهما. قال (كراء الأرض) أي إجارتها (بالذهب والفضة) ولأبي داود وغيره عنه مرفوعاً "أما بالذهب والفضة فـ (ـلا بأس به) وما نهي عنه فلأجل الجهالة والغرر والحظر. وأما بشيء معلوم فلا. وذكر ابن المنذر أن الصحابة أجمعوا على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة. ونقل

ابن بطال اتفاق فقهاء الأمصار عليه. قال رافع (إنما كان الناس يؤاجرون) أي يكرون أراضيهم للزرع ونحوه (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيكون لهم ما (على الماذيانات) مجاري الماء وما ينبت حول السواقي. والماذيانات الأنهار كلمة أعجمية (وأقبال الجداول) بفتح الهمزة أوائل السواقي جمع جدول. وهو النهر الصغير (وأشياء من الزرع) يعني مجهولة المقدار (فيهلك هذا) بكسر اللام (ويسلم هذا) أي ربما يهلك هذا وربما يسلم هذا دون الآخر (ولم يكن للناس كراء إلا هذا) يعني الشيء المجهول وهو غرر (فلذلك زجر عنه) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بالبناء للمجهول. والمراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لما فيه من الغرر المؤدي إلى التشاجر وأكل أموال الناس بالباطل. فدل الحديث وما في معناه على تحريم المساقاة والمزارعة على ما يفضي إلى الغرر والجهالة. ويوجب المشاجرة. فلأحمد وأبي داود والنسائي عن سعد بن أبي وقاص أن أصحاب المزارع في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي. وما سعد بالماء مما حول النبت. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختصموا في ذلك فنهاهم أن يكروا بذلك (فأما شيء معلوم مضمون) الحفظ والعمل عليه حتى يسلم إلى أهل الأرض (فلا بأس به رواه مسلم) وروي من غير وجه بألفاظ متقاربة.

وقال ابن المنذر قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لتلك العلل. وهي التي كانوا يعتادونها. قال كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه. وبهذه الروايتين يتضح المتفق عليه لفظًا وحكمًا. قال ابن القيم المزارعة أبعد عن الظلم والغرر من الإجارة فإن أحدهما غانم ولا بد. وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركًا فيه. وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان. فهذا أقرب إلى العدل. وأبعد عن الظلم والغرر من الإجارة. وذكر أن المزارعة التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه لم يتناولها النهي بحال. قال الشيخ ولو دفع أرضه إلى آخر يغرسها بجزء من الغراس صح كالمزارعة. ولو كانت مغروسة فعامله بجزء من غراسها صح. ولا فرق بين أن يكون الغارس ناظر وقف أو غيره. وقال وإن غارسه على أن لرب الأرض دراهم مسماة إلى حين إثمار الشجر. فإذا أثمرت كانا شريكين في الثمر. هذه لا أعرفها منقولة وقد يقال هذا لا يجوز كما لو اشترط في المزارعة والمساقاة دراهم مقدرة مع نصيبه من الزرع والثمر. فإن هذا لا يجوز بلا نزاع. كما لو اشترطا شيئًا مقدرًا. فإنه قد لا يحصل إلا ذلك المشروط فيبقى الآخر لا شيء له. لكن الأظهر أن هذا ليس بمحرم، اهـ. ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة. وصاحب الملك ما يصلحه. والمرجع إلى العرف في هذه الأشياء. وأما

الكلف السلطانية فقال الشيخ يتبع في الكلف السلطانية العرف ما لم يكن شرطًا. وما طلب من قرية من كلف سلطانية ونحوها فعلى قدر الأموال. وإن وضع على المزارع فعلى ربه. وعلى العقار فعلى ربه. ومطلقًا فالعادة. (وعنه مرفوعًا: من زرع في أرض قوم بغير إذنهم) أي غصب أرض قوم بغير إذنهم وزرعها (فليس له من الزرع شيء) الزرع لمالك الأرض لتصرفه فيها بغير إذن مالكها (وله نفقته) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه و (حسنه البخاري) والترمذي. وتكلم فيه بعضهم. وقال ابن القيم ليس مع من ضعف الحديث حجة. فإن رواته محتج بهم في الصحيح. وهم أشهر من أن يسأل عن توثيقهم. واحتج به أحمد وأبو عبيد. وله شاهد من حديث رافع بن خديج في قصة الذي زرع في أرض ظهير بن رافع. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذوا الزرع ويردوا عليه نفقته. وقال فيه: لأصحاب الأرض "خذوا زرعكم" وذكر أنه محض القياس لو لم يأت فيه حديث. فمثل هذا الحديث الحسن الذي له شاهد من السنة على مثله. وقد تأيد بالقياس الصحيح من حجج الشريعة. وقال أحمد إذا كان الزرع قائمًا فهو لصاحب الأرض. فأما إذا حصد فإنما يكون له الأجرة. * * *

باب الإجارة

باب الإجارة لغة المجازاة. يقال آجره الله على عمله إذا جازاه عليه. فهي مشتقة من الأجر. وهو العوض. ومنه سمي الثواب أجرًا. وفي التنزيل {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} والإجارة عقد على منفعة مباحة معلومة. من عين معينة أو موصوفة في الذمة. مدة معلومة. أو عمل معلوم. بعوض معلوم. واتفقوا على أن العقد فيها يتعلق بالمنفعة دون الرقبة. وهي نوع من المعاوضة العامة. لا نوع من البيع عند الإطلاق. وتنعقد بلفظ الإجارة والكراء وغير ذلك مما يعرف المتعاقدان به المقصود. وتصح بثلاثة شروط. معرفة المنفعة ومعرفة الأجرة والإباحة في نفع العين. ويشترط في العين المؤجرة خمسة شروط: معرفتها برؤية أو صفة. والعقد على نفعها. والقدرة على تسليمها. واشتمالها على المنفعة وأن تكون للمؤجر أو مأذونًا له فيها. وهي عقد لازم من الطرفين عند جمهور العلماء. لأنها نوع من البيع. فليس لأحدهما فسخها لغير عيب ونحوه. وجائزة في الجملة بالكتاب والسنة والإجماع. ومن الرخص المستقر حكمها على وفق القياس. (قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أي فإن أرضعن أولادكم وهن طوالق {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} على إرضاعهن فمتى أرضعت استحقت أجر مثلها. ولها أن تمتنع لكن بعد أن

تسقيه اللبأ الذي لا قوام للمولود إلا به. فدلت الآية على جواز الإجارة. وقال الوزير اتفقوا على أنه يجوز استئجار الظئر للرضاع. وقال الشيخ يصح أن يستأجر الحيوان لأخذ لبنه. ولو جعل الأجرة نفقته وهو مذهب مالك. وقال إذا استأجر حيوانًا لأخذ لبنه فنقص عن العادة كان كتغير العادة بتغير العادة في المنفعة يملك المستأجر الفسخ. (وقال: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} يعني الأب {رِزْقُهُنَّ} طعامهن {وَكِسْوَتُهُنَّ} لباسهن {بِالْمَعْرُوفِ} أي على قدر الميسرة. وبما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن. من غير إسراف ولا إقتار. قال الشيخ ولا يفتقر إلى تقدير عوض. ولا إلى صيغة. بل ما جرت العادة بأنه إجارة فهو إجارة. يستحق فيه أجرة المثل في أظهر قولي العلماء {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} أي طاقتها. فلا يكلف الوالد من الإنفاق عليه وعلى أمه إلا بما تتسع به قدرته. وقال في الآية الأخرى {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} وسيأتي إن شاء الله. والمراد هنا مشروعية الإجارة وصحتها في الظئر بطعامها وكسوتها. وكذا الأجير. كما روي عن أبي بكر وعمر وغيرهما. ولحمل الإطلاق عليه. وقال ابن القيم فقد أجرى الشارع الشرط العرفي كاللفظي. ومنه لو دفع ثوبه إلى من يعرف أنه يغسل أو يخيط بالأجرة. أو عجينه لمن يخبزه أو لحمًا لمن يطبخ أو متاعًا لمن يحمله. ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك.

وجب له أجرة مثله. وإن لم يشترط معه ذلك لفظًا عند الجمهور حتى عند المنكرين لذلك فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به. وإن قال إن ركبت هذه الدابة إلى أرض كذا فلك عشرة. أو إلى أرض كذا فلك خمسة عشر. أو إن خط هذا القميص اليوم فلك درهم أو غدًا فنصف درهم. أو إن زرعت أرضي حبًا فمائة أو شعيرًا فمائتان فقال ابن القيم وغيره. هذا كله جائز صحيح لا يدل على بطلانه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح. ولا نزاع فيه في عصر الصحابة رضي الله عنهم. بل الثابت عنهم جوازه. كما ذكره البخاري عن عمر أنه إذا دفع أرضه إلى من يزرعها. قال إن جاء عمر بالبذر فله كذا وإن جاؤا به فله كذا. ولم يخالفه صحابي. ولا محذور فيه. ولا غرر ولا جهالة. ولا يقع إلا معينًا والخيرة إلى الأجير. (وقال) تعالى {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} أي إحدى ابنتي شعيب {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} الآية) اتخذ أجيرًا ليرعى أغنامنا {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِين} أي خير من استعملت من هو قوي على العمل وأداء الأمانة {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي أن تكون أجيرًا لي إلى ثمان سنين {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ} أي تفضل منك. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "آجر موسى نفسه ثمان سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام

بطنه" واستدلوا بهذه الآية على صحة استئجار الأجير بالطعام والكسوة. {قَالَ لَوْ شِئْتَ} أي قال موسى للخضر لو شئت يعني لو أردت على إقامتك الجدار الذي انقض {لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ} أي على إقامته {أَجْرًا} مكافأة وإثابة على عملك. فإنك قد علمت أننا جياع وأن أهل القرية لم يطعمونا فلو أخذت على عملك أجرًا. فدلت الآية على صحة الإجارة على إقامة الجدار ونحوه. (واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر) -رضي الله عنه- عند خروجهما من مكة إلى المدينة عام الهجرة (رجلًا من بني الديل) بكسر الدال. واسمه عبد الله بن أريقط. والديل حي من عبد القيس (هاديا) إلى سواء السبيل (خريتا) أي ماهرًا بالهداية. وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال. فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثالثة فارتحلا (رواه البخاري) وغيره في قصة الهجرة عن عائشة رضي الله عنها. وفيه دليل على جواز الإجارة. واشتراط معرفة المنفعة وجواز استئجار المسلم للكافر هداية الطريق إذا أمنه. والبخاري ترجم عليه: باب استئجار المشركين عند الضرورة. وقال ابن بطال وغيره الفقهاء يجيزون استئجار المشركين

عند الضرورة وغيرها. لما في ذلك من الذلة لهم. وإنما الممتنع أن يؤجر المسلم نفسه من المشرك. لما فيه من الإذلال اهـ. والمراد ليستخدمه. وأما لغير الخدمة كإجارة نفسه منه في عمل معين في الذمة. كخياطة ثوب ونحوه. فقال الموفق يجوز بغير خلاف. ولما يأتي في خبر علي رضي الله عنه. وأما إجارته داره ونحوها. فنصوص أحمد كثيرة في النهي عن إجارة المسلم داره من أهل الذمة. وبيعها لهم. وأكثر الأصحاب على التحريم. ما لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة. فإن آجره إياها لأجل بيع الخمر أو اتخاذها كنيسة أو بيعة لم يجز قولًا واحدًا. حكاه الشيخ وغيره. وقال بعض الفقهاء يجب على المؤجر كلما يتمكن به من النفع لأن عليه التمكين من الانتفاع. وفي المغني من أكرى بعيرًا لإنسان ليركبه بنفسه وسلمه إليه لم يلزمه سوى ذلك. بخلاف ما إذا عقد ليسافر معه والجمهور أن العمل في ذلك على العرف والعادة. وتنفسخ بتلف العين المؤجرة. وموت الراكب ونحو ذلك. (وله) أي البخاري (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما بعث الله نبيًا) أي من قبلي من الأنبياء (إلا رعى الغنم) لما يحصل في رعايتها من الجلم والشفقة. فقال أصحابه وأنت "قال نعم" أي كنت أرعى الغنم. ولذا (قال: كنت أرعاها على قراريط) قال سويد بن

سعيد كل شاة بقيراط نصف عشر دينار وثلث ثمنه (لأهل مكة) وللنسائي من حديث نصر افتخر أهل الإبل والغنم فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "بعث موسى وهو راعي غنم. وبعث داود وهو راعي غنم وبعثت أنا راعي غنم". قال بعض أهل العلم الحكمة في الهام رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما سيكلفونه من القيام بأمر أمتهم. لأن في مخالطتها ما يحصل منه الحلم والشفقة على أمته. لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في الرعي. ونقلها من مسرح إلى مسرح. ودفع عدوها من سبع وغيره. وعلموا أن اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة. وعرفوا اختلاف طباعها. وتفاوت عقولها. فجبروا كسرها. ورفقوا بضعيفها. وأحسنوا التعاهد لها. وتكون مشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام به أول وهلة. لما يحصل لهم من التدرج بذلك. والحديث دليل على جواز الإجارة على رعي الغنم. ويلحق بها في الجواز غيرها من الحيوانات. (وعن سويد بن قيس) العبدي أبو مرحب الكوفي -رضي الله عنه- (في رجل يزن بالأجر) أي بالأجرة وذلك أنه قدم مكة ببز من هجر فاشترى منه سراويل. وثم رجل يزن بالأجر (فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - زن) أي زن ثمن السراويل (وارجح) أي رجح الميزان. رواه الخمسة وغيرهم

(وصححه الترمذي) فدل على جواز الاستئجار على الوزن وجواز أخذ الأجرة عليه. وعلى الكيل. وما في معناهما كأجرة القاسم والحاسب. قال الشيخ والوزن بالقبان كالوزن بسائر الموازين إذا وزن بالعدل جاز أخذ الأجرة ممن وزن له اهـ. وفيه أن أجرة وزن الثمن على المشتري. لأن الإيفاء يلزمه. والمبيع على البائع وهو قول فقهاء الأمصار. إلا أن يكون ثم عادة مطردة في البلد. وفيه استحباب ترجيح المشتري في وزن الثمن ومثله المبيع. (وعن علي) -رضي الله عنه- (قال عملت) بالأجرة ليهودية (كل ذنوب) هو الدلو الملآ (على تمرة) وقال مددت ستة عشر ذنوبًا حتى مجلت يداي أي تنفطت. ثم أتيتها فعدت لي ست عشرة تمرة (وأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم -) بذلك وجئته بها (وأكل معي منها) أي من تلك التمرات (رواه أحمد) ولابن ماجه من حديث ابن عباس أن عليًا آجر نفسه من يهودي يسقي له كل دلو بتمرة. وفي الصحيح أن خبابًا عمل للعاص بن وائل بمكة قال الحافظ واطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وأقره. فدل على جواز إجارة المسلم نفسه في نحو ذلك. لأنه عقد معاوضة لا يتضمن إذلاله ولا استخدامه. وقال ابن المنير استقرت المذاهب على أن الصناع في حوانيتهم يجوز لهم العمل

لأهل الذمة. ولا يعد ذلك من الذلة. بخلاف أن يخدمه في منزله وبطريق التبعية له. ودل أيضًا على جواز الإجارة معادة. قال ابن القيم لو آجره كل شهر بدرهم صح. وإن كانت جملة الأجرة غير معلومة تبعًا لمدة الإجارة فقد صح عن علي أنه آجر نفسه كل دلو بتمرة. وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك التمر. وفي الحديثين ما كان الصحابة عليه من العيش للتعفف عن السؤال وتحمل المنن. وأن تأجير النفس لا يعد دناءة. وإن كان المستأجر غير شريف أو كافرًا. والأجير من أشراف الناس وعظمائهم. وإن آجر دارًا ونحوها مدة معلومة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح. وقفًا كانت أولا. لأن المعتبر كون المستأجر يمكنه استيفاء المنفعة منها غالبًا. وقال الشيخ ليس لوكيل مطلق إجارة مدة طويلة. بل العرف كسنتين ونحوهما إذا رأى المصلحة في ذلك قال وتجوز إجارة العين المؤجرة في مدة الإجارة. ويقوم المؤجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجرة من المستأجر الثاني وتجوز بزيادة. وإن شرط أن لا يستوفيها إلا بنفسه أو أن لا يؤجرها إلا لعدل أو أن لا يؤجرها لزيد صح لكن لو تعذر على المستأجر الاستيفاء بنفسه فينبغي أن يثبت له الفسخ. كما لو تعذرت المنفعة. قال وليس له إخراج المستأجر قبل انقضاء المدة لأجل زيادة أو غيرها. وما فعله بعض متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد من التفريق بين أن يزاد قدر الثلث فهو قول

مبتدع لا أصل له عند أحد من الأئمة. لا بسبب تفاوت وقت ولا وقف ولا غيره. وإذا التزم المستأجر بهذه الزيادة على الوجه المذكور لم تلزمه اتفاقًا. كخوفه من الإخراج. بل له استرجاعها. ولا عبرة بما يحدث في أثناء المدة من ارتفاع الكراء أو انخفاضه. وقال فيمن احتكر أرضًا بنى فيها مسجدًا أو بناء وقفه عليه. متى فرغت المدة وانهدم البناء زال حكم الوقف. وأخذوا أرضهم. فاستنفعوا بها. وما دام البناء قائمًا فيها فعليه أجرة المثل. كوقف علو ربع أو دار مسجدًا. ووقف البناء لا يسقط حق ملاك الأرض. وذكر في الفنون معناه. وقال في الإنصاف هو الصواب. ولا يسع الناس إلا ذلك. وإن شرط قلعه لزمه بلا نزاع. وإن كان إبقاؤه بتفريط المستأجر فللمالك أخذه بالقيمة. وقيل بنفقته. أو تركه بالأجرة بلا نزاع. وبغير تفريط له أجرة مثله لما زاد بلا نزاع. (وله عن أبي سعيد) الخدري -رضي الله عنه- قال (نهى - صلى الله عليه وسلم - عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره) ولفظ عبد الرزاق "من استأجر أجيرًا فليسم له أجره" ففيه النهي عن استعمال الأجير حتى يسمي له أجره. وهو أحد شروط الإجارة. لئلا يكون مجهولًا فيؤدي إلى التشاجر والخصام. ولا يجب عند مالك وأحمد وغيرهما للعرف. واستحسان المسلمين قال الشيخ وإذا ركن المؤجر إلى شخص

ليؤجره لم يكن لغيره الزيادة عليه. فكيف إذا كان المستأجر ساكنًا في الدار. فإنه لا تجوز الزيادة على ساكن الدار اهـ. ومثله من يعمل له عملًا. (وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم) حجمه أبو طيبة واسمه نافع (وأعطي الحجام أجره) صاعين من طعام (رواه البخاري) وفي لفظ أعطاه أجره صاعًا أو صاعين. وقال ابن عباس لو كان حرامًا وفي لفظ سحتًا لم يعطه. وفي لفظ لو علم كراهيته لم يعطه. فدل على أنه حلال. وذهب جمهور العلماء إلى أنه حلال. محتجين بهذا الخبر وغيره. وقالوا هو كسب فيه دناءة وليس بمحرم. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي يجوز ويباح للحر. ولأنها منفعة مباحة لا يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة. (ولمسلم عن رافع مرفوعًا: كسب الحجام خبيث) وكره أحمد وجمهور السلف للحر الاحتراف بالحجامة والانفاق على نفسه من أجرتها. ويجوز له الإنفاق على الرقيق والدواب. لحديث محيصة أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كسب الحجام فنهاه فذكر له الحاجة فقال "أعلفه نواضحك" وأباحوه للعبد مطلقًا. وقال الشيخ اتخاذ الحجامة صناعة يتكسب بها هو مما نهي عنه عند إمكان الاستغناء عنه. فإنه يفضي إلى كثرة مباشرة النجاسات والاعتناء بها. لكن إذا عمل ذلك العمل بالعوض استحقه. وإلا فلا يجتمع عليه استعماله في مباشرة النجاسة وحرمانه

أجرته ونهى عن أكله مع الاستغناء عنه مع أنه ملكه وإذا كان محتاجًا إلى هذا الكسب ليس له ما يغنيه عنه إلا مسألة الناس فهو خير له من سؤال الناس. قال بعض السلف كسب فيه دناءة خير من مسألة الناس. (وعن عمران بن حصين) -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال اقرؤا القرآن) وفضله وفضل قراءته معلوم (واسألوا الله به) حاجات الدنيا والآخرة فهو كلام الله وصفة من صفاته. ولا يسأل إلا بالله وأسمائه وصفاته (فإن من بعدكم) و "لا يأتي زمان إلا وما بعده شر منه" (يقرؤون القرآن) وجاء لا يجاوز حناجرهم (يسألون الناس به) يتأكلون بالقرآن (رواه الترمذي) وغيره ولأبي داود عن عبادة علمت ناسًا من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلى رجل منهم قوسًا فقلت ليست بمال وارمي عليها في سبيل الله فقال "إن كنت تحب أن تطوق طوقًا من نار فاقبلها" ولأحمد عن عبد الرحمن ابن شبل: "اقرؤا القرآن ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به". وفيه دليل على أنه لا تصح الإجارة على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة. كتعليم القرآن. وكالحج والأذان. لأن من شرط هذه الأفعال كونها قربة. بخلاف العمل الذي يكون قربة ويكون غير قربة. كبناء مسجد وتعليم خط. ونحو ذلك. وقال الشيخ لا يصح الاستئجار على القراءة وإهدائها إلى

الميت. لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة الإذن في ذلك. وقد قال العلماء إن القارئ إذا قرأ لأجل المال فلا ثواب له. فأي شيء يهدي إلى الميت. وإنما يصل إلى الميت العمل الصالح، والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة. وقال لا يجوز أن يستأجر من يصلي عنه نافلة. ولا فريضة في حياته. ولا بعد وفاته باتفاق الأئمة. وأما ما يؤخذ من بيت المال فقال ليس عوضًا وأجرة بل رزق للإعانة على الطاعة. فمن عمل منهم لله أثيب. وما يؤخذ رزق للإعانة على الطاعة. وكذلك الموقوف على أعمال البر. والموصي به كذلك. والمنذور له ليس كالأجرة. وجوز أخذ الأجرة مع الحاجة. وذكره وجهًا في المذهب وهو مذهب مالك في غير الإمامة. (وعن ابن عباس في قصة اللديغ) وذلك أن نفرًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مروا بماء فيهم لديغ فقالوا هل فيكم من راق؟ فرقى أحدهم بفاتحة الكتاب على شاء فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا أخذت على كتاب الله أجرًا و (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا) أي مكافأة (كتاب الله رواه البخاري) ولفظ حديث أبي سعيد لم يرقه حتى شرط عليه قطيعًا من غنم فتفل عليه وقرأ عليه (الحمد لله رب العالمين) ولما ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "قد أصبتم واضربوا لي معكم سهمًا".

فدل الحديث على جواز أخذ العوض على الرقية بالفاتحة. والذكر. وأنها حلال لا كراهية فيها. فإن هذا عوض في مقابلة قراءة القرآن. وبها استدل الجمهور على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد. وأما تعليم القرآن والعلم بغير أجرة فقال الشيخ وغيره هو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله. وقوله "اضربوا لي معكم سهمًا" من باب المروآت والتبرعات ومواساة الأصحاب. وإلا فجميعها ملك للراقي. لكن قاله تطييبًا لأنفسهم. (ويأتي) في كتاب النكاح (أنه) - صلى الله عليه وسلم - (زوج رجلًا) قال الحافظ لم أقف على اسمه (على سور من القرآن) وفي لفظ "فعلمها من القرآن" ولأبي داود "عشرين آية" وجاء بألفاظ تدل على جواز جعل تعليم الرجل لامرأته من القرآن مهرًا. وهذا الخبر يؤيد حديث ابن عباس وأبي سعيد وما في معناهما على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن. ولأنه يجوز أخذ الرزق والجعل عليه فجاز أخذ الأجرة كبناء المساجد ولحاجة الاستنابة في الحج عمن وجب عليه. وعجز عن فعله. وجوزه شيخ الإسلام للحاجة. وقال من جوزه لأنه نفع يصل إلى المستأجر كسائر النفع. وجوز إيقاعها عبادة في هذه الحال لما فيها من النفع. واستثنى الأكثر الإمامة. وتقدم ما في الحج عن الغير. وعن أحمد التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين. أو

لرجل من عامة الناس في ضيعة. ومن أن يستدين ويتجر. لعله لا يقدر على الوفاء. فيلقى الله بأمانات الناس. واختار الموفق والشيخ وغيرهما جواز أخذ الأجرة على تعليم الفقه والحديث ونحوهما. ويجوز أخذ رزق على ذلك من بيت المال. (وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- (مرفوعاً) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من تطبب) أي تعاطى علم الطب (ولم يعلم منه طب) أي لم يعلم منه معرفة جيدة للطب ومداواة الجسم. وقيل ولا شهادة له بعلم الطب (فهو ضامن) أي غارم جنايته (رواه أبو داود) والترمذي والحاكم وغيرهم. وله أيضاً عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز "أيما طبيب تطبب على قوم لا يعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت فهو ضامن" وفيه مجهول. فدل على أن تعاطي الطب يضمن ما حصل من الجناية بسبب علاجه. لأنه لا يباح له مباشرته إذًا. وإما من علم منه أنه طبيب فلا ضمان عليه. وهو من يعرف العلة ودواءها. وله مشائخ في هذه الصناعة شهدوا له بالحذق فيها. وأجازوا له المباشرة. ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ. ولا حجام ونحوه عرف ححذقه. وراع ونحوه لم يتعد. ولم يفرط. وحكى الوزير الاتفاق على أن الراعي لا يضمن ما لم يتعد. وإن اختلفا في التعدي ولا بينة فقوله. وإن تعدى ضمن بلا خلاف.

ويضمن الأجير المشترك ما تلف بفعله عند الجمهور. لا من حرزه ونحوه. لأن العين أمانة في يده كالمودع. وإن حبسها على أجرته فتلفت فقال ابن القيم له حبسها حتى يتسلم الأجرة. وعلله بأن العمل يجري مجرى الأعيان. فكأنه شريك لصاحب العين. وله ذبح مأكول. ويقبل قوله أنه لم يذبحه إلا خوفًا من موته. قال ابن القيم ما لم يثبت بينهما عداوة وحقد. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يقول الله تعالى (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة) ومن كنت خصمه خصمته. وهو تعالى خصم لجميع الظالمين. لكنه أريد التشديد على هؤلاء بالتصريح (منهم: رجل استأجر أجيرًا) أي استخدمه بعوض (فاستوفى منه) العمل الذي استأجره فيه بعوض (ولم يوفه أجره) فهو تعالى خصمه لأجل ظلمه الأجير (رواه البخاري) وأهل السنن وغيرهم والثاني "رجل أعطي بي ثم غدر" أي حلف بي أو أعطى الأمان بي ثم غدر. أي نكث العهد. والثالث "رجل باع حرًا فأكل ثمنه" وتقدم. ومن استأجر أجيرًا ولم يوفه أجره فهو كمن باع حرًا فأكل ثمنه. لأنه استوفى منفعته بغير عوض. فكأنه أكلها فمن استخدمه بغير أجرة فكأنه استعبده. ولهذا عطفه عليه. (ولابن ماجه من حديث ابن عمر وفيه ضعف) وله شواهد ضعاف أيضًا بمعنى (أعطوا الأجير أجره) أي عوض عمله (قبل أن يجف عرقه) مبالغة في تعجيله أجره وتحذيرًا من

باب السبق

مطلة حقه. حتى أن من العلماء من يقدمه على الغرماء مع الفلس. ولأحمد من حديث ابن عمر في ذكر آخر ليلة من رمضان أهي ليلة القدر قال "لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله" فدل الحديث على تعجيل أجر العامل ما لم يكن مؤخرًا بشرط. لاستحقاقه إياه بعمله. وتجب الأجرة بالعقد عن لم تؤجل. وتستحق بتسليم العمل لا قبله. وتستقر كاملة باستيفاء المنفعة وتسليم العين. ومضي المدة مع عدم المانع. ونحو ذلك. لا الفاسدة فلا تجب بالعقد. وتجب بالاستيفاء. وإذا تسلم عينًا بإجارة فاسدة وفرغت المدة لزمه أجرة المثل. وإذا عمل الأجير بعض العمل فقال الشيخ يعطى من الأجرة بقدر ما عمل. باب السبق هو بفتح الباء العوض الذي يبذل ليسابق عليه. وبسكونها المجارات بين حيوان وغيره. وهو مشروع أو جائز بالكتاب والسنة والإجماع بحسب الباعث. قال تعالى: {إِنَّا ذَهَبْنَا} أي سرنا {نَسْتَبِقُ} نترامى بالسهام أو نتجارى على الأقدام أينا أشد عدوًا. وأصل السبق في الرمي بالسهم. وهو أن يرمي اثنان ليتبين أيهما يكون أسبق سهمًا، وأبعد غاية، ثم يوصف المتراميان بذلك. فيقال استبقا وتسابقا إذا فعلا ذلك. ليتبين أيهما أسبق سهمًا ويشمل الرمي بالبنادق.

ومشروعية التدرب فيه. لأن الإعداد إنما يكون مع الاعتياد. إذ من لا يحسن الرمي لا يسمى معدًا للقوة. وأما الإستباق على الأقدام فكالاستباق على الخيل. وكانوا يجربون بذلك أنفسهم. ويدربونها على العدو. لأنه كالآلة في محابة العدو. وتقدم أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه. وقال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} وفي الحديث "ألا إن القوة الرمي" وقال "فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه" وقال "من علم الرمي ثم تركه فليس منا" وقال الشيخ السبق والصراع ونحوهما طاعة إذا قصد به نصرة الإسلام. وأخذ السبق عليه أخذ بالحق اهـ. وكان الرمي بالقوس في الجاهلية وصدر الإسلام وصنفوا في الرمي به المصنفات المشهورة. وسموها بالفروسية والفروسية أربعة أنواع ركوب الخيل والكر والفر بها. والثاني الرمي بالقوس. ويذكرون صفته. والرمي به وغير ذلك واستعمل الآن آلات أنكى منه وأبعد مدى. فيعتبر لها ما تقرب الإصابة فيه غالبًا. والثالث المطاعنة بالرماح. والرابع المداورة بالسيوف. ومن استكملها استكمل الفروسية. وقال ابن القيم في المفاضلة بين ركوب الخيل والرمي بالنشاب كل واحد منهما يحتاج في كماله إلى الآخر. والرمي أنفع في البعد. وإذا اختلط الفريقان قامت سيوف الفروسية. والأفضل منهما ما كان أنكى في العدو. وأنفع للجيش. ويختلف

باختلاف الجيش ومقتضى الحال. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا: لا سبق) بفتح الباء أي لا جعل للسابق (إلا في خف) كناية عن الإبل أي ذي خف (أو نصل) أي سهم من نشاب ونبل (أو حافر) أي ذي حافر وهو للخيل (رواه الخمسة) وغيرهم. ولم يذكر ابن ماجه النصل. وصححه ابن حبان والحاكم وابن القطان وابن دقيق. والحديث دليل على جواز السباق على جعل. وجواز بذلك العوض في ذلك وأخذه لأنه من آلات الحرب المأمور بتعلمها وإحكامها. ومفهومه لا يجوز فيما سواها وحكى ابن عبد البر تحريم الرهن في غير الثلاثة إجماعًا. ونوقش. وذكر الخطابي وغيره أن البغال والحمير في معنى الخيل. لأنها كلها ذات حوافر. وقد يحتاج إلى سرعة سيرها ونجاتها. لأنها تحمل أثقال العساكر. فتكون معها في المغازي. وفسره بعضهم أنه لا سبق كاملًا ونافعًا ونحوه. وقالوا أيضًا الحديث يحتمل أن يراد به أن أحق ما بذل فيه السبق هذه الثلاثة. لكمال نفعها وعموم مصلحتها. فيدخل فيها كل مغالبة جائزة ينتفع بها في الدين. لقصة ركانة وأبي بكر. وقال ابن القيم الرهان على ما فيه ظهور الإسلام ودلالته وبراهينه من أحق الحق. وأولى بالجواز من الرهان على النضال وسباق الخيل اهـ. والسبق قيل جعالة لكل واحد فسخه، لأنه عقد على ما لا تحقق القدرة على تسليمه، إلا أن يظهر الفضل لأحدهما فله

الفسخ دون صاحبه. وهذا المشهور عند أصحاب أحمد ومذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي. وقال الشيخ الجعالة تجوز على العمل المباح. لكن المقصود بالجعل هنا أن يظهر أنه الأقوى والجعالة الغرض بها العمل من العامل. وقال ابن القيم هو عقد مستقل بنفسه له أحكام يختص بها ويتميز بها عن الإجارة والجعالة والنذور والعدات ونحوها. وليس من باب الجعالة ولا الإجارة. ومن أدخله في أحد هذين البابين تناقض. إلا أن يقصد الباذل تمرين من يسابقه كولده والمعلم للمتعلم. فهذا هو الجعالة المعروفة. وهو نادر والغالب فيها مسابقة النظراء بعضهم لبعض. (وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجرى) أي سابق يقال أجراه وجاراه وجرى معه (ما ضمر) أي اعلف حتى سمن وتقوى ثم قلل عليه بعد بقدر القوت حتى خف لحمه وقوي على الجرى (من الخيل) أي المعدة للغزو فيجوز لذلك. (من الحفياء) بفتح فسكون قيل إنها خارج السور قرب مسجد الراية على مقربة من البركة وقيل بأدنى الغابة لخبر من الغابة (إلى ثنية الوداع) ثنية مشهورة شامي المدينة بين مسجد الراية ومسجد النفس الزكية قرب سلع وسميت بذلك لأن الخارج من المدينة يمشي معه المودعون إليها. وكان بينهما خمسة أميال أو ستة (وما لم يضمر) أي سابق بين الخيل التي لم تضمر (من الثنية) أي ثنية الوداع (إلى

مسجد بني زريق) وكان بينهما ميل (رواه البخاري) ولهما بلفظ سابق بالخيل التي قد ضمرت من الحفياء. وكان أمدها ثنية الوداع. وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق. ولأحمد وأبي داود سابق بين الخيل وفضل القرح في الغاية. وله أيضًا سابق بالخيل وراهن. وفي لفظ وأعطى السابق. والحديث دليل على مشروعية السباق. وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو. والانتفاع بها في الجهاد. وقال القرطبي لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب. وعلى الأقدام. وكذا الترامي بالسهام. واستعمال الأسلحة. لما في ذلك من التدريب على الحرب. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس به) بل هو كأحدهما. وجعله بعض الفقهاء شرطًا إذا كان السبق منهما. وأن المراد به الخروج عن شبه القمار. والشرط الثاني تعيين المركوبين بالرؤية. وهذا بلا نزاع. والثالث اتحادهما في النوع. والرابع تعيين الرماة ولا نزاع فيه. وإذا كان السبق من غير المتسابقين فلا نزاع فيه. ومن أحدهما عند الجمهور. وأما إذا كان السبق منهما فقال ابن القيم ما علمت في الصحابة من اشترط المحلل. وإنما هو معروف عن سعيد بن المسيب. وعنه

تلقاه الناس (فإن أمن فقمار) ولفظه "فإن أدخل فرسًا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار" أي مقامر (رواه أحمد) ورواه أبو داود وغيره. وتكلم فيه أهل العلم. وقال ابن القيم خبر من أدخل فرسًا بين فرسين ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بل من كلام سعيد بن المسيب. وجوازه بغير محلل هو مقتضى المنقول عن أبي عبيدة بن الجراح. وقال رجل عند جابر بن زيد بأن صحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون بالدخيل بأسًا. فقال هم كانوا أعف من ذلك. قال ابن القيم ونحن نقول كما قال جابر. وذكر المذاهب. ثم قال: ونتولى علماء المسلمين. ونتخير من أقوالهم ما وافق الكتاب والسنة. ونزنها بهما. وبهذا أوصانا أئمة الإسلام. وقال في الخبر على تقدير صحته الذي يدل عليه لفظه أنه إذا أسبق اثنان وجاء ثالث دخل معهما. فإن كان تحقق من نفسه سبقهما كان قمارًا. لأنه دخل على بصيرة أنه يأكل ما لهما. وإن دخل معهما وهو لا يتحقق أن يكون سابقًا بل يرجو ما يرجوانه ويخاف ما يخافانه. فإنه كان كأحدهما. ولم يكن أكل سبقهما قمارًا. وأما اشتراط الدخيل الذي هو شريك في الربح برئ من الخسران فكالمحلل في النكاح. والخبر يدل على جواز حل السبق من كل باذل. وإذا كان منهما لم يختص أحدهما ببذل ماله لمن يغلبه. بل كل منهما باذل مبذول له باختيار. فهما سواء في البذل والعمل. ويسعد الله بسبقه من شاء من خلقه. وقال العقد

المشتمل على الإخراج منهما أحل من العقد الذي انفرد أحدهما فيه بالإخراج. (وله) أي لأحمد في مسنده (سئل أنس) بن مالك -رضي الله عنه- قال السائل (أكنتم) يعني أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (تراهنون) أي تسابقون على الخيل وغيرها (على عهد رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -) فقالوا نعم أي كنا نراهن على عهده - صلى الله عليه وسلم - قال (أكان يراهن) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال نعم) والله: لقد راهن على فرس يقال له سبحة فسبق الناس فبش لذلك وأعجبه، وسابق على العضباء فيجوز على سائر الحيوانات والسفن والأقدام والسهام والمناجيق والمقاليع ونحو ذلك. وهو قول الجمهور. وفي الاختيارات وغيرها الصراع والسبق بالأقدام ونحوها طاعة إذا قصد به نصر الإسلام. وأخذ السبق عليه أخذ بالحق والمغالبة الجائزة تحل بالعوض إذا كانت مما ينفع في الدين. كما في مراهنة أبي بكر. وظاهره جواز الرهان في العلم. وهو مذهب الحنفية. لقيام الدين بالعلم. واختاره الشيخ. قال ابن القيم والصديق أخذ رهنه بعد تحريم القمار. وقال الدين قيامه بالحجة والجهاد. فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد ففي العلم أولى بالجواز. هذا القول هو الراجح. فإن القصد الأول إقامته بالحجة والسيف منفذ. (وعن عقبة) بن عامر رضي الله عنه (مرفوعًا: كل شيء

يلهو به ابن آدم) أي يلعب به. يقال لهوت بالشيء ألهو لهوًا وتلهيت به إذا لعبت به وتشاغلت وتغافلت به عن غيره (فباطل) والباطل ضد الحق. فما لهوت به وشغلك من هوى وطرب ونحوهما فغير جائز (إلا رميه عن قوسه) القوس آلة منحنية كان يرمى بها العدو وغيره في العصور الماضية (وتأديبه فرسه) يقال أدب فرسه إذا براضها على السير (وملاعبته أهله) وقال "فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك" الثلاث جائزة فإنهن من الحق رواه الخمسة وغيرهم و (حسنه الترمذي) فدل الحديث على أن كل ما صدق عليه اسم اللهو فهو داخل في حيز البطلان إلا هذه الثلاثة الأمور. فإنها وإن كانت في صورة اللهو فهي طاعات مقربة إلى الله عز وجل. مع الالتفات إلى ما يترتب على ذلك الفعل من النفع الديني. (وعن عمرو بن عبسة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا من رمى بسهم) أي نبل واحد السهام يرمي به (في سبيل الله) إذا أطلق فالمراد به الجهاد (فهو عِدل) بكسر العين وفتحها مثل (محرر) زاد الحاكم ومن بلغ بسهم فله درجة في الجنة (صححه الترمذي) أي من رمى بسهم بنية الجهاد في سبيل الله كان له ثواب تحرير رقبة أي عتقها وقد ورد في الترغيب في الرمي أحاديث كثيرة. وتقدم أنه داخل في قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} وقال الشيخ السباق بالخيل والرمي بالنبل ونحوه من آلات الحرب مما أمر الله به ورسوله. لأنه مما

يعين على الجهاد في سبيل الله. (وصارع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركانة) بن عبد يزيد بن هشام بن عبد المطلب بن عبد مناف المشهور بالقوة (على شاة) جعلها سباقًا (فصرعه) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي طرحه على الأرض فأخذها أي الشاة. وذلك أنه قال هل لك أن تصارعني قال "ما تسبقني" قال شاة من غنمي فصارعه فصرعه فأخذ الشاة. فقال ركانة هل لك في العود (ثم عاد مرارًا) فصرعه فقال يا محمد ما وضع جنبي أحد إلى الأرض. وما أنت بالذي تصرعني (فأسلم) يعني ركانة لما صرعه مرارًا. (فرد عليه غنمه) أي رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنم ركانة عليه (رواه البيهقي) قال الحافظ وإسناده صحيح إلى سعيد بن جبير. ولأبي داود أن ركانة صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - فصرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وله طرق وفيها مقال. وقال الشيخ عبد الغني هي أمثل ما روي في مصارعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل على جواز المصارعة وجوازها بين المسلم والكافر. (ولمسلم) وغيره (سابق سلمة) يعني ابن الأكوع. وذلك في مسيره إلى المدينة (أنصاريًا) وكان الأنصاري لا يسبق شدًا. فجعل يقول ألا مسابق قال سلمة فسبقته (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). ولأحمد وأبي داود سابق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة. ولفظ أبي داود أنها كانت معه في سفر. قالت فسابقته

باب العارية

فسبقته على رجلي. فلما حملت اللحم سابقته فسبقني. فقال هذه بتلك السبقة. وفي هذه الأحاديث وغيرها الدلالة على جواز السبق على الأقدام. ولا نزاع في ذلك. ويجوز اللعب بما فيه مصلحة بلا مضرة. ويكره بأرجوحة ونحوها. وظاهر كلام الشيخ لا يجوز اللعب المعروف بالطابة والنقلة. وقيل هي اللعب بالودع. وكلما أفضى إلى المحرم. إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة. لأنه يكون سببًا للشر والفساد وقال الشيخ ما ألهى وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه. وإن لم يحرم جنسه كالبيع والتجارة. وأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به في حق شرعي فكله حرام. باب العارية بتشديد الياء وتخفيفها. من عار إذا ذهب أو من العري وهو التجرد لتجردها عن العوض. وقيل من العار. وفيه شيء لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعلها. وهي في الشرع إباحة عين بغير عوض. قال ابن رشد تكون في الدور والأرضين والحيوان. وجميع ما يعرف بعينه إذا كانت منفعته مباحة الاستعمال، اهـ. وتنعقد بكل لفظ أو فعل يدل عليها اتفاقًا بشرط أهلية المعير والمستعير. واتفقوا على أنها قربة مندوب إليها. وأن للمعير فيها ثوابًا جزيلًا ومشروعة بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}، فالعارية داخلة في عموم الآية. فإن البر الإحسان والإعارة منه. وقال: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون} عارية القدر والفأس والدلو والملح والنار وأمثال ذلك. وشدد فيها قوم من السلف لهذا الآية. وإنه المتاع في البيت يتعاطاه الناس. وقال الشيخ تجب مع غنا المالك. وهو أحد القولين في مذهب أحمد. وتجب إعارة مصحف لمحتاج لقراءة مع عدم غيره. وخرج ابن عقيل وجوب الإعارة في كتب علم للمحتاج لها من القضاة والحكام وأهل الفتاوى. (وقال: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} هذا الخطاب يشمل جميع الأمانات. وورودها على سبب لا ينافي ما فيها من العموم. فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب بإجماع أهل العلم. فدلت الآية على وجوب رد الأمانات إلى أهلها. واستدل بعضهم بهذه الآية على وجوب ضمان العارية. والأمر بالتأدية لا يلزم منه الضمان إذا تلفت. (واستعار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسًا لأبي طلحة متفق عليه) من حديث أنس قال كنا فزع بالمدينة فاستعار النبي - صلى الله عليه وسلم - فرسًا من أبي طلحة يقال له المندوب فركب. فلما رجع قال "ما رأينا من شيء. وإن وجدناه لبحرًا " فدل على جواز الاستعارة. وأبو طللحة هو زيد بن سهل بن الأسود ابن حرام الأنصاري

الخزرجي. مشهور بكنيته. وهو زوج أم سليم. يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد نحري دون نحرك لا يصيبك بعض سهامهم. خير من ألف رجل. مات سنة أربع وثلاثين. وقيل سنة خمسين فالله أعلم. (واستعار) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من صفوان) يعني ابن أمية قرشي من أشراف قريش. هرب يوم الفتح. واستؤمن له. وحضر حنينًا والطائف. ثم أسلم وحسن إسلامه (أدراعًا) قمصان زرد الحديد تلبس وقاية من سلاح العدو. وذلك يوم خيبر فقال صفوان اغصبا أي هي غصب يا محمد (قال) بل عارية (مضمونة) وحكى الحافظ عن الجمهور ضمانها إذا تلفت في يد المستعير. إلا فيما إذا كان على الوجه المأذون فيه. قال فضاع بعضها فعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضمنها له. فقال أنا اليوم في الإسلام أرغب (رواه أبو داود) فدل على ضمانها بالتعدي لما يأتي في الرواية الثانية. وقال الشيخ هي مضمونة بشرط ضمانها. وهو رواية عن أحمد. (وله عن يعلى) أي ولأبي داود وأحمد والنسائي وغيرهم عن يعلى بن أمية. ويقال منية صاحبي مشهور (نحوه) أي نحو حديث صفوان. ولفظه "إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعًا" قلت أعارية مضمونة أو عارية مؤداة (قال) بل (مؤداة) بدل مضمونة. والمؤداة التي تجب تأديتها مع بقاء عينها. فإن تلفت لم تضمن بالقيمة. فدل على أنها لا تضمن

العارية إذا لم يجر منه تعد. وروري "لا ضمان على مؤتمن" ومنه المستعير. وهو مذهب الحنفية والمالكية. واستظهره ابن القيم لأوجه. أحدها هذه الرواية. فإنها تبين أنه أراد بقوله مضمونة يعني بالرد. والثاني أنه لم يسأله عن تلفها. وإنما سأله هل تأخذها مني أخذ غصب أو أخذ رد. فقال "بل عارية مضمونة" أي أؤديها إليك وأردها لك. والثالث أنه جعل الضمان صفة لها نفسها. ولو كان ضمان تلف لكان الضمان لبدلها. فلما وقع الضمان على ذاتها دل على أنه ضمان أداء. ولو كان ضمان تلف لكان لما ضاع بعضها لم يعرض عليه أن يضمنها. ولقال هذا حقك. كما لو كان الذاهب بعينه موجودًا. فإنه لا يعرض عليه رده. (وعن أبي أمامة مرفوعًا: العارية مؤادة) موصلة إلى صاحبها. قال الحافظ ليس فيه دلالة على التضمين. لأن الله يقول {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وإذا تلفت الأمانة لم يلزم ردها. والحديث رواه أبو داود و (حسنه الترمذي) وصححه ابن حبان وغيره. فدل على أنها لا تضمن إلا بالتعدي. وهو أوضح الأقوال. وأفتى عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنها لا تضمن إلا بالتفريط فيها. وإن تلفت في انتفاع بمعروف لم تضمن. لأن

الإذن في الاستعمال تضمن الإذن في الإتلاف. وله استيفاء المنفعة بنفسه ووكيله. وليس له أن يعيرها أو يؤجرها. (وعن سمرة مرفوعًا على اليد ما أخذت) أي ما أخذته اليد ضمان على صاحبها (حتى تؤديه) من غير نقص عين ولا صفة وأسند إلى اليد لأنها المتصرفة فمن أخذ مال غيره لزمه رده (رواه الخمسة) وصححه الحاكم وحسنه الترمذي والحديث دليل على وجوب رد ما قبضه المرء وهو ملك لغيره. وعليه مؤونة الرد. ولا يبرأ إلا بمصيره إلى مالكه أو من يقوم مقامه. وهم يعم العارية والغصب. ولو سلم شريك شريكه دابة فتلفت بلا تعد لا تفريط لم يضمن. ولا ضمان عند الجمهور في أربع إذا كانت العارية وقفًا. وإذا أعارها المستأجر أو بليت فيما أعيرت له. أو أركب دابة منقطعًا للثواب فتلفت تحته ما لم يفرط. وللمعير الرجوع متى شاء بلا نزاع. ما لم يأذن في شغله بشيء يضر المستعير برجوعه فيه. كما لو أعاره أرضًا للزرع أو جدارًا ليضع عليه خشبه. (ولأبي داود) وغيره (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (أد الأمانة) أي ادفع الأمانة وهي كل حق لزمك أداؤه وحفظه (إلى من ائتمنك) عليها والائتمان إيداع الشيء لحفظه حتى يعاد إلى المؤتمن (ولا تخن

من خانك) أي لا تكافئ الخائن بمثل فعله. فلا يجازى بالإساءة من أساء وهذه مسألة الظفر وتأتي. والحديث حسنه الترمذي وصححه الحاكم. وتكلم فيه أحمد وغيره. وله طرق متعددة فيها مقال. وقال في نيل الأوطار ينتهض للاحتجاج به. وهو شامل للعارية والوديعة ونحوهما وأنه يجب أداء الأمانة كما تقدم في قوله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ولا نزاع في ذلك. وإن اختلفا في الإعارة فقال المالك آجرتك فقبل مضي مدة يقبل قول مدعي الإعارة. وبعد مدة لها أجرة قول المالك. وإن قال أعرتك قال بل أجرتني فقول المالك. لأن الأصل عدم عقد الإجارة. وإن قال أعرتني أو أجرتني وقال المالك بل غصبتني فقوله. لأن الأصل عدمهما. وإن قال أعرتك وقال بل أجرتني والبهيمة تالفة فقول المالك. وإن اختلفا في الرد فقول المالك للخبر. باب الغصب أي باب ذكر أحكام الغصب وجناية البهائم وما في معنى ذلك من الاتلافات. والغصب مصدر غصب يغصب غصبًا. وهو لغة أخذ الشيء ظلمًا. تقول غصبه منه وغصبه أو قهره عليه. واصطلاحًا الاستيلاء عرفًا على حق غيره قهرًا بغير حق

من عقار ومنقول. وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع في الجملة. قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم} أي لا يأكل بعضكم مال بعض {بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} أي من غير الوجه الذي أباحه الله والغصب من أكل أموال الناس بالباطل وأصل الباطل الشيء الذاهب فالأكل بالباطل أنواع قال بعض المفسرين قد يكون بطريق الغصب والنهب وقد يكون بطريق اللهو والقمار. (وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه ابن عباس وأبو بكرة وغيرهما في خطبته يوم النحر عام حجة الوداع بمنى ومسلم عن جابر بعرفة (إن دماءكم) أي إن دماء بعضكم على بعض حرام (وأموالكم) أي وإن أموال بعضكم على بعض حرام (وأعراضكم) وهي موضع الذم والمدح (عليكم حرام) وقال الحافظ على حذف المضاف أي سفك دمائكم وأخذ أموالكم (كحرمة يومكم هذا) أي يوم النحر، ويوم عرفة أو هما وكلاهما له حرمة أكيدة وثلب أعراضكم عليكم حرام (في بلدكم هذا) أي بلد مكة وتقدم أنه حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة (في شهركم هذا) أي ذي الحجة وفيه ثم قال ألا هل بلغت؟ قالوا اللهم نعم فقال - صلى الله عليه وسلم - اللهم اشهد الحديث (متفق عليه). قال الحافظ فيه مشروعية ضرب المثل وإلحاق النظير بالنظير

ليكون أوضح للسامع وقال مناط التشبيه ظهوره عند السامعين لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتاً في نفوسهم متقرراً عندهم بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا في الجاهلية يستبيحونها فأخبر الشارع أن تحريم دم الإنسان وماله وعرضه أعظم من ذلك فدل الحديث على آكدية تحريم مال المسلم. (وعن أنس) بن مالك -رضي الله عنه- (مرفوعاً لا يحل مال امرئ مسلم) اخرج الكافر غير المستأمن (إلا عن طيب نفسه) رواه الدارقطني و (رواه ابن ماجه) وغيره ومعناه صريح في الكتاب والسنة ومجمع على تحريمه. (وعن ابن السائب) عبد الله بن السائب بن يزيد بن سعيد ثمامة الكندي عن أبيه عن جده يزيد (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لا يأخذ أحدكم متاع أخيه) منفعة كان أو سلعة مما يتمتع به من الحوائج (لا لاعباً) أي لا في حالة اللعب فلا يجوز له أخذ متاع على جهة المزح والهزل فدل على تحريم أخذ متاع الإنسان على جهة المزح (ولا جاداً) أي ولا في حال الجد فيحرم أخذه على جهة الجد أيضاً وفي النهاية وغيرها أن يأخذه. ولا يريد سرقته ولكن يريد المزح وإدخال الهم والغيض عليه فهو لاعب في السرقة جاد في الأذية. وهذا كقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) وكقوله - صلى الله عليه وسلم - "إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام" ولا نزاع في تحريم ذلك لا شرعاً ولا عقلاً بل تطابق على

ذلك الشرع والعقل إلا ما استثنى كالزكاة وغيرها من الحقوق المالية الموضحة في مواضعها. (ومن أخذ عصا أخيه) تنبيهًا على ما هو أعلى منها وجاء ولو قضيبًا من أراك (فليردها إليه رواه أبو داود) وأقره المنذري وحسنه الترمذي فدل على تحريم أخذ مال المسلم بغير حق وليس المراد العصا بل المراد منه كل شيء حتى العصا فدل الحديث على تحريم الغصب ووجوب رد المغصوب بعينه إن أمكن أو مثله وإلا فقيمته كما سيأتي. (ولهما) أي البخاري ومسلم (عن سعيد بن زيد مرفوعًا من غصب شبرًا من الأرض) وفي لفظ "من أخذ شبرًا" وفي لفظ "شيئًا" من الأرض (طوقه) أي حمله طوقًا على رقبته (من سبع أرضين) ولهما من حديث عائشة "من ظلم شبرًا من الأرض طوقه من سبع أرضين" ولأحمد من حديث أبي هريرة "من اقتطع شبرًا من الأرض بغير حق طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين" ولأبي عوانة "جاء به مقلده". وفيها دليل على تغليظ عقوبة الغصب وأنه من الكبائر. ودليل على أن من ملك أرضًا ملك قرارها. وله منع من يحفر تحتها بئرًا أو سربًا بغير رضى المالك. وأن ملك ظاهر الأرض ملك لباطنها بما فيه من حجارة وأبنية ومعادن وغير ذلك. وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بمن يجاوره.

(وعنه مرفوعًا ليس لعرق ظالم حق) قال الحافظ رواية الأكثر بتنوين عرق. وغلط الخطابي من رواه بالإضافة. وظالم نعت له. أي ليس لذي عرق ظالم حق (رواه الخمسة) وحسنه الحافظ وله شواهد. وتمام الحديث ولقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرس أحدهما نخلًا في أرض الآخر. فقضى لصاحب الأرض بأرضه. وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها. قال فلقد رأيتها وإنما لتضرب أصولها بالفؤس. وإنها لنخل عم. يعني طوالًا. وحكى ابن رشد الإجماع على أن من اغترس نخلًا أو شجرًا. وبالجملة نباتًا في غير أرضه أنه يؤمر بالقلع اهـ. ولأنه شغل ملك غيره بملكه الذي لا حرمة له في نفسه بغير إذنه فلزمه تفريغه. ويلزمه ارش نقصها وتسويتها وأجرة مثلها إلى وقت التسليم. وأكثر الفقهاء على أن صاحب الأرض يملك إجبار الغاصب على قلعه. (وعن رافع مرفوعًا: من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء)، وكذا من بنى أو حفر في أرض غيره بغير حق. ولا شبهة فلا شيء له (وله نفقته) أي للغاصب ما أنفقه على الأرض من المؤونة في الحرث والسقي وقيمة البذر ونحو ذلك رواه الخمسة إلا النسائي. (وحسنهما الترمذي) وحسن البخاري حديث رافع. وله شواهد. وتقدم. وفيه دليل

على أن غاصب الأرض إذا زرعها لا يملك الزرع. وأنه لمالكها. وله ما غرم على الزرع من النفقة والبذر. ويقال من بذر في أرض غيره بلا إذنه فلا يخلو: إما أن يسترجعها مالكها بعد حصاد الزرع أو قبله. فإن أخذها مستحقها بعد حصاد الزرع فالزرع لغاصب الأرض. قال الموفق لا نعلم فيه خلافًا. وذلك إنه نماء ماله وعليه أجرة الأرض إلى وقت التسليم، وضمان نقص الأرض. وإن أخذها صاحبها من الغاصب والزرع قائم فيها فعند الجمهور أن الزرع لمالك الأرض وعليه نفقته. واختاره الشيخ. ويخير المالك بين أن يدفع إليه نفقته ويكون الزرع له. أو يترك الزرع للغاصب ولم يملك إجباره على قلعه. لأنه أمكن رد المغصوب إلى مالكه من غير إتلاف مال الغاصب على قرب من الزمن. فلم يجز إتلافه. وفارق الشجر لطول مدته. وحديث ليس لعرق ظالم حق محمول عليه. وهذا الحديث في الزرع. فحصل الجمع بين الخبرين. وأما من زرع بلا إذن شريكه والعادة بأن من زرع فيها له نصيب معلوم. ولربها نصيب معلوم. فقال الشيخ يقسم ما زرعه في نصيب شريكه كذلك اهـ. ولو طلب أحدهما من الآخر أن يزرع معه أو يهاييه فأبي فللأول الزرع في قدر حقه بلا أجرة. كدار بينهما فيها بنيان سكن أحدهما عند امتناعه مما يلزمه. وصوبه في الإنصاف. وأنه لا يسع الناس غيره.

وإن كان المغصوب على خلقته كولد الجارية فقال ابن رشد: لا خلاف أعلمه أن الغاضب يرده كالولد مع الأم المغصوبة. قال والقياس أن تجرى المنافع والأعيان المتولدة مجرى واحدًا. وقال الشيخ المتوجه فيما إذا غصب شيئًا كفرس وكسب به مالًا كالصيد أن يجعل الكسب بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعها. بأن تقوم منفعة الراكب ومنفعة الفرس. ثم يقسم الصيد بينهما. وأما إذا كسب العبد فالواجب أن يعطى المالك أكثر الأمرين من كسبه أو قيمة نفعه. (وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من اعتق) أي حرر من الرق (شركًا له) وفي رواية شقصًا وفي رواية نصيبًا له (في عبد) ذكرًا كان أو أنثى (قوم) أي العبد (عليه قيمة عدل) وفي رواية قوم العبد عليه قيمة عدل (متفق عليه) ورواه غيرهما من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه "فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا" أي وإن لم يكن له مال "فقد عتق منه ما عتق" فدل على تقويم حصة الشريك. ولعله مع تعذر المثل. قال ابن القيم إذا اتلف نقدًا أو حبوبًا. أمكن ضمانها بالمثل. وإن كان ثيابًا أو آنية أو حيوانًا فمثله. وقد يتعذر فالقيمة. واحتج الشيخ بقوله: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا} وقال يضمن المغصوب بمثله مكيلًا كان أو موزونًا أو غيرهما حيث أمكن. وإلا فالقيمة. واختار اعتبار المثل بكل ما

يثبت في الذمة. والتشابه في غير المكيل والموزون ممكن. فلا مانع منه. وكذا ما انقسم بالأجزاء بين الشريكين من غير تقويم مضافًا إلى هذا النوع. لوجود التماثل وانتفاء التخالف. (وللبخاري) في صحيحه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- (أن إحدى نساء النبي – - صلى الله عليه وسلم -) وللترمذي أنها عائشة رضي الله عنها (كسرت قصعة الأخرى) هي زينب بنت جحش. كما رواه ابن حزم وغيره والقصعة إناء من خشب (فدفع) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قصعة الكاسرة) وهي لعائشة رضي الله عنها (وحبس المكسورة) في بيت التي كسرت، وقال "طعام بطعام وإناء بإناء" وللنسائي عن أم سلمة أنها أتت بطعام في صحفة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة. ووقع مثل ذلك لحفصة مع عائشة. وصفية مع عائشة. فلأبي داود قالت ما رأيت صانعًا طعامًا مثل صفية، صنعته فبعثت به، فأخذني: أفكل –رعدة- فكسرت الإناء. فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت؟ قال "إناء مثل إناء. وطعام مثل طعام". ولا ريب أن إتلاف مال الغير عدوانًا من أنواع الغصب. ودلت الأحاديث وما في معناها على أن من استهلك على غيره شيئًا كان مضمونًا بمثله. وهو إجماع في المثلي. حكاه الحافظ وغيره. وأن القيمي يضمن بمثله. ولا يضمن بالقيمة إلا عند عدم المثل. وقال الوزير اتفقوا على أنه يجب على الغاصب

للمغصوب منه رد العين إن كانت عينية. ولم يخف من ردها إتلاف نفس. وأن العروض والحيوان وكل ما كان غير مكيل ولا موزون يضمن إذا غصب وتلف بقيمته. والمكيل والموزون بمثله إذا وجد مثله. وقال ابن عبد البر كل مطعوم من مأكول ومشروب فمجمع على أنه يجب على مستهلكه مثله لا قيمته. وقال الشيخ وغيره يضمن المغصوب بمثله مكيلًا كان أو موزونًا أو غيرهما. حيث أمكن. وإلا فالقيمة. وقال إذا تغير السعر وفقد المثل فينتقل إلى القيمة وقت الغصب. وهو أرجح الأقوال. وقال في الثوب والعصا والقصعة ونحوها يضمنه بالمثل مراعيًا للقيمة. وقال ولو شق ثوب شخص خير مالكه بين تضمين الشاق نقصه وبين شق ثوبه. (وعن سمرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من وجد عين متاعه) ما ينتفع به من عروض الدنيا وفي لفظ "عين ماله" أي ما غصب أو سرق أو ضاع من ماله (عند رجل فهو أحق به) فيأخذه وفي لفظ ويتبع البيع بكسر الياء مشددة من باعه رجلًا كان أو امرأة (وفي لفظ إذا سرق من الرجل متاعه) يعني ماله المسروق (أو ضاع) أي متاعه (فوجده بيد رجل) أي عند رجل (بعينه) أي بعين ماله المسروق أو الضائع والمراد إذا ثبت ببينة أو إقرار (فهو أحق به) يأخذه.

وقال الموفق وغيره أجمع العلماء على وجوب رد المغضوب إذا كان بحاله لم يتغير ولم ينشغل بغيره (ويرجع المشتري) إن كان اشتراه (على البائع بالثمن) الذي دفعه (رواه أبو داود) والنسائي ورواه أحمد وابن ماجه. وفي لفظ "ويرجع المشتري" أي للمغصوب ونحوه "على من باعه" أي وأخذه منه الثمن. فإن له أن يخاصمه ويأخذ عين ماله منه. ويرجع مشتري الشيء المأخوذ من يده على من باعه إياه. فمتى ظهر المبيع مستحقاً فللمشتري أن يرجع بالثمن على من قبضه منه أو ببدله. فإن كان القابض غائباً حكم عليه إذا قامت الحجة. وسلم للمحكوم له حقه من مال الغائب مع بقائه على حجته. وإن اختلطت الغصوب واشتبه ملك بعضهم ببعض فقال الشيخ إن عرف قدر المال تحقيقًا قسم الموجود عليهم على قدره وإن لم يعرف إلا عدده على قدر العدد. لأن المالين إذا اختلطا قسما بينهم. وإن كان كل منهم يأخذ عين ما كان للآخر. لأن الاختلاط جعلهم شركاء. وسواء اختلط غنم أحدهما بالآخر عمداً أو خطأ. يقسم المالان على العدد إذا لم يعرف الرجحان. وإن عرف وجهل قدره أثبت منه القدر المتيقن. وأسقط الزائد المشكوك فيه. لأن الأصل عدمه. قال وقدر المتلف إذا لم يمكن تحديده عمل فيه بالاجتهاد

كما يعمل في قيمته بالاجتهاد. إذ التقويم والخرص واحد. فإن الخرص الاجتهاد في معرفة مقدار الشيء. وتقويمه الاجتهاد في معرفة مقدار ثمنه. بل قد يكون الخرص أسهل. وكلاهما يجوز مع الحاجة. قال ومن ندم ورد المغصوب بعد موت المغصوب منه كان للمغصوب منه مطالبته في الآخرة لتفويته الانتفاع به في حياته. كما لو مات الغاصب فرده وارثه. وقال ومن كانت عنده غصوب وودائع وغيرها لا يعرف أربابها صرفت في المصالح. وقاله العلماء. ولو تصدق بها جاز. وله الأكل منها. ولو كان عاصيًا إذا تاب. وكان فقيرًا. وقيل يدفعه إلى الإمام إن كان عادلًا. أو له نائب كذلك. الأسلم لرجل عالم معروف موثوق به. وأعلمه بالحال ليصرفه في مصارفه. وللعالم أن يصرفه إليه إن كان ممن يجوز الصرف إليه. وله أن يصرفه من نفسه لنفسه إن كان بهذه الصفة. وهو عالم بالأحكام الشرعية. وقال من مات معدمًا يرجى أن الله يقضي عنه ما عليه. (وعن أبي هريرة مرفوعًا: العجماء) البهيمة لأنها لا تتكلم (جبار) بضم الجيم أي جناية البهائم هدر. قال أهل اللغة الجبار الهدر والباطل. وقال الشيخ كل بهيمة عجماء كالبقر والشاة وغيرهما. فجناية البهائم غير مضمونة إذا فعلت بنفسها. كما لو انفلتت ممن هي في يده وأفسدت فلا ضمان على أحد. ما لم تكن عقورًا ولا فرط صاحبها في حفظها في الليل أو في أسواق

المسلمين ومجامعهم. وكذا قال غير واحد أنه إنما يكون جبارًا إذا كانت منفلتة ذاهبة على وجهها ليس لها قائد ولا سائق إلا الضارية. وكذا الجوارح وشبهها يلزم مالكها وغيره ضمان ما أتلفت. وفي الفصول من أطلق كلبًا عقورًا أو دابة رفوسًا أو عضوضًا على الناس وخلاه في طريقهم ومصاطبهم ورحابهم فأتلف مالًا أو نفسًا ضمن لتفريطه. وكذا إن كان له طائر جارح كالصقر والبازي فأفسد طيور الناس وحيواناتهم. وقال الشيخ فيمن أمر رجلًا بإمساك الضارية فجنت عليه يضمنه إن لم يعلمه بها. ويضمن جناية ولد الدابة إن فرط نحو أن يعرفه شموصًا. (والبئر جبار) وذلك أن يحفر شخص في ملك نفسه فيتردى فيها إنسان). فإنه هدر. وإن حفر في فناء داره لنفسه ضمن. وكذا إن حفرها في طريق ضيق. وإن حفرها بطريق واسع لنفع المسلمين بلا ضرر في سابلة لم يضمن ما تلف بها لأنه محسن (والمعدن جبار) وذلك أن يستأجر من يستخرجها. فإذا انهارت عليهم فدماؤهم هدر. لأنهم أعانوا على أنفسهم فزال العتب عمن استأجرهم (متفق عليه) فدل الحديث على أن هذه الثلاثة هدر على ما فصل. (ولأبي داود والرجل جبار) أي لا ضمان فيما جنته

الدابة برجلها. لكن بشرط أن لا يكون بسبب مالكها. كأن يجذبها باللجام زيادة على العادة أو يضرب وجهها فيضمن ما نفحته برجلها. وإن كانت هذه الزيادة فيها مقال فيشهد لها قوله في الحديث الصحيح "جرحها جبار" فإن عمومه يقتضي عدم الفرق بين جنايتها برجلها أو بغيرها. (وعن النعمان) بن بشير -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من أوقف دابة) بعيرًا كان أو حمارًا أو غيرهما (في طريق المسلمين) المسلوك وقيده بعضهم بالضيق (أو سوقهم) أو مجامعهم (فأوطأت) أي داست (بيد أو رجل) فأتلفت شيئًا (فهو ضامن) لأن من طبع الدابة الجناية برجلها أو يدها أو فمها (رواه الدارقطني) قال المجد هذا إذا أوقفها في طريق ضيق أو حيث تضر المار اهـ. وكجعلها في الأسواق والمجامع طردها في تلك الأمكنة. فيضمن جنايتها حيث كانت لسببه. وأن لا يكون في الأوقات التي يجب على المالك حفظها فيها كالليل. وبقرب ما تتلفه عادة. قال الشيخ ولو كان معها قائد أو سائق فما أفسدت بفمها أو يدها فهو عليه. لأنه تفريط. قال الحارثي والبهيمة النزقة التي لا تضبط بكبح ولا نحوه ليس له ركوبها بالأسواق. فإن ركب ضمن لتفريطه. وكذا الرموح التي تضرب برجلها. (وللخمسة) وغيرهم؛ (إلا الترمذي عن البراء) ابن

عازب -رضي الله عنه- قال (قضى رسول الله عليه وسلم أن حفظ الحوائط) وهي البساتين إذا كانت محاطة بالجدر. وكذا المزارع حفظها (بالنهار على أهلها) فلا يضمن مالك البهيمة ما جنت بهيمته بالنهار ما لم يرسلها بقرب ما تتلفه عادة. وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم (وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها) ومطلقًا عما تتلفه عادة لخبر "لا ضرر ولا ضرار" (وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل) لتفريطهم بإرسالها كما لو أرسلوها قرب الزرع قاله الشيخ وغيره. وقال أيضًا هذا إذا كانت ترعى في المراعي المعتادة فانفلتت نهارًا من غير تفريط من صاحبها حتى دخلت اصطبلًا فأفسدته أو أفسدت زرعًا لم يكن على صاحبها ضمان عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد لقصة سليمان بن داود والنفش. ولحديث ناقة البراء. فإنها دخلت حائطًا فأفسدته فقضى فيها رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بما تقدم. وأما إن كان صاحبها اعتدى وأرسلها في زرع قوم أو بقرب زرع أو ادخلها إلى اصطبل الحمار بغير إذن صاحبه فأتلفت فهنا يضمن لعدوانه. وقال البغوي ذهب أهل العلم إلى أن ما أفسدت الماشية بالنهار من مال الغير فلا ضمان على أهلها. وما أفسدت بالليل ضمنه مالكها. لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار. وأصحاب المواشي بالليل. فمن خالف هذه

العادة كان خارجًا عن رسوم الحفظ. هذا إذا لم يكن مالك الدابة معها. فإن كان معها فعليه ضمان ما أتلفته. وهذا مذهب مالك والشافعي. وذهبت الحنفية على أنه إن لم يكن معها فلا ضمان عليه ليلًا كان أو نهارًا، اهـ. وفي قصة داود وسليمان ما يشهد لهذا الخبر. لأن النفش إنما يكون بالليل. كما جزم به الشعبي وشريح ومسروق وغيرهم. وقال الشيخ فصح أنما أفسدت المواشي بالليل ضمان على أهلها. وصح بنص القرآن الثناء على سليمان بتفهيم الضمان بالمثل. فإن النفش رعي الغنم ليلًا. وكان ببستان عنب. فحكم داود بقيمة المتلف. فاعتبر الغنم فوجدها بقدر القيمة. فدفعها إلى أصحاب الحرث. وقضى سليمان بالضمان على أصحاب الغنم. وأن يضمنوا ذلك بالمثل بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان. ولم يضيع عليهم مغله من حين الإتلاف إلى حين العود. بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك لياخذوا من ثمارها بقدر نماء البستان فيستوفوا من نماء غنمهم نظير ما فاتهم من نماء حرثهم. واعتبر النمائين فوجدهما سواء. وهذا هو العلم الذي خصه الله به وأثنى عليه بإدراكه. قال ابن القيم وصح بالنصوص والقياس الصحيح وجوب الضمان بالمثل.

فصح أنه هو الصواب والحق. وهو أحد القولين في مذهب أحمد ووجه للشافعية والمالكية. (وعن عبد الله بن عمرو) -رضي الله عنهما- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من قتل دون ماله) قاتل أو لم يقاتل (فهو شهيد) له أحكام الشهداء في الآخرة والبرزخ وأما تغسيله والصلاة عليه فتقدم (متفق عليه) وفي لفظ "من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد" صححه الترمذي وله أيضًا وصححه من حديث سعيد بن زيد "من قتل دون دينه فهو شهيد. ومن قتل دون دمه فهو شهيد. ومن قتل دون ماله فهو شهيد". ولمسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رجل يا رسول الله إن جاء رجل يريد أخذ مالي. قال "فلا تعطه مالك" قال أرأيت إن قاتلني؟ قال "قاتله" قال أرأيت إن قتلني؟ قال "فأنت شهيد" قال: أرأيت إن قتلته؟ قال "هو في النار". ولأحمد إن عدا على مالي قال "أنشد الله" قال فإن أبى قال "انشد الله" قال فإن أبى قال "قاتل فإن قتلت ففي الجنة وإن قتلته ففي النار" ففيه أنه يدفع بالأسهل فالأسهل. ودلت الأحاديث وما في معناها أنها تجوز مقاتلة من أراد أخذ مال الإنسان من غير فرق بين القليل والكثير. إذا كان الأخذ بغير حق. وهو مذهب الجمهور.

وقال ابن المنذر الذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عن ماله ونفسه ودينه وحريمه إذا أريد ظلمًا بغير تفصيل. واستثنى السلطان للآثار الواردة بالصبر على جوره وترك القيام عليه واستثنى بعضهم حالة الفرقة والاختلاف. وأنه يستسلم المبغي على نفسه أو ماله ولا يقاتل. وقال الشيخ يجوز للمظلوم قتل المحاربين والدفع عن النفس والحرمة. ولا يجوز بذلهم من المال لا قليلًا ولا كثيرًا. وقال من طلب منه الفجور كان عليه أن يدفع الصائل عليه. فإن لم يندفع إلا بالقتل فله ذلك باتفاق الفقهاء. فإن ادعى القاتل أنه صال عليه وأنكر أولياء المقتول. فإن كان المقتول معروفًا بالبر. وقتل في محل لا ريبة فيه لم يقبل قول القاتل. وإن كان معروفًا بالفجور والقاتل معروفًا بالبر فالقول قول القاتل مع يمينه. لا سيما إذا كان معروفًا بالتعرض له قبل ذلك. ومن رأى رجلًا يفجر بأهله جاز له قتلهما فيما بينه وبين الله. سواء كان الفاجر محصنًا أو غير محصن. معروفًا بذلك أم لا كما دل عليه كلام الأصحاب وفتاوى الصحابة. وليس هذا من باب دفع الصائل كما ظنه بعضهم. بل هو من عقوبة المعتدين المؤذين. وأما إذا دخل الرجل ولم يفعل بعد فاحشة. ولكن دخل لأجل ذلك ففيه نزاع. والأحوط لهذا أن يتوب من القتل في مثل هذه الصورة.

(وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شق زقاق الخمر) أي ظروفها والزق بالكسر السقاء أو جلد يجز شعره ولا ينتف وقيل كل وعاء اتخذ للشراب وغيره والزق بالضم من أسماء الخمر (رواه أحمد) وذلك أنها جلبت من الشام فشق ما كان من تلك الزقاق. قال ابن عمر وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت. (وللترمذي) وغيره (عن أبي طلحة) زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو النجاري كان من النقباء وصلى عليه عثمان (في خمر لأيتام) جمع يتيم وهو من مات أبوه ولم يبلغ (في خمر لأيتام) جمع يتيم وهو من مات أبوه ولم يبلغ (في حجر أبي طلحة) ومن حديث أنس أن أبا طلحة سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمرًا (قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة (أهرق) أي أرق (الخمر) من الإراقة فدل على وجوب إراقتها (واكسر الدنان) الدن الراقود أطول من الحب ولمسلم أفلا أجعلها خلا قال لا وهو مال يتيم ولأحمد أيضًا عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يأخذ مدية ثم يخرج إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام فشققت بحضرته وأمر أصحابه بذلك. فدلت الأحاديث على وجوب أهراق الخمر وكسر دنانها. وشق أزقاقها وإن كان مالكها غير مكلف. وكذا آلة اللهو كالطنبور والعود والطبل والدف والصنوج والنرد والشطرنج ونحوها. والصليب وآنية الذهب والفضة لقوله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله

باب الشفعة

حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" وللنهي عن اتخاذ تلك الاشياء في غير ما حديث. ومنه "بعثت بمحق القينات والمعازف" وغير ذلك. وكسوها هدر. لأنه لا يجوز اتخاذها. ولا يحل بيعها وكذا اتلاف كتب كفر وسحر وأكاذيب وبدع وسخافات لأهل الخلاعة والبطالة. وصور وآلاتها. وحرق مخزن خمر ونحوه لأمره - صلى الله عليه وسلم - بتحريق مسجد الضرار. باب الشفعة بضم الشين وسكون الفاء من الشفع. وهو الزوج لأن الشفيع بالشفعة يضم المبيع إلى ملكه الذي كان منفردًا وشرعًا انتقال حصة شريكه بسبب شرعي ممن انتقلت إليه بعوض مالي. كالبيع والصلح والهبة. فيأخذ الشفيع نصيب البائع بثمنه الذي استقر عليه العقد. قال ابن القيم شرع تعالى الشفعة وسلط الشريك على انتزاع الشقص من يد المشتري سدًا لذريعة المفسدة المتعلقة بالشركة. قال فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي. ويزول عنه ضرر الشركة ولا يتضرر البائع لأنه يصل إلى حقه من الثمن. وهذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر. ومصالح العباد. وهي مشروعة بالسنة والإجماع. (عن جابر -رضي الله عنه- قال: قضى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -) أي حكم (بالشفعة) وأجمع أهل العلم أنها تجب للشريك.

غير الذمي في جزيرة العرب لأنهم ممنوعون من البقاء فيها. وكانت الشفعة معروفة عند العرب في الجاهلية. كان الرجل إذا أراد بيع منزل أو حائط أتاه الجار والشريك والصاحب يشفع إليه فيما باعه فيشفعه. وجعله أولى به ممن أبعد منه. فسميت الشفعة. وسمي طالبها شافعًا (في كل ما لم يقسم) من الدور والعقار والبساتين. وهذا مجمع عليه إذا كان مما يقسم. وفيما لا يقسم كالحمام الصغير ونحوه اختاره الشيخ وغيره. وقال الصواب ثبوت الشفعة ولو لم تمكن القسمة لعموم الأخبار. وهو مذهب أبي حنيفة واختيار أبي شريح وابن عقيل وغيرهما. ولأن الشفعة لإزالة الضرر وهو في هذا النوع أكثر (فإذا وقعت الحدود) أي حصلت قسمة الحدود في المبيع واتضحت بالقسمة مواضعها. والحدود جمع حد. وهي هنا ما تتميز به الأملاك بعد القسمة. وأصل الحد المنع. ففي تحديد الشيء منع خروج شيء منه، ومنع دخول غيره فيه (وصرفت الطرق) بضم الصاد وتشديد الراء أي بينت مصارفها مشتق من الصرف بالكسب وهو الخالص من كل شيء. سمي بذلك لأنه صرف عنه الخلط. والطرق جمع طريق. وكذا شوارعها. وذلك بأن حصل لكل نصيب طريق مخصوص (فلا شفعة) أي بعد القسمة (متفق عليه) والمراد بينت أقسام الأرض المشتركة بأن قسمت وصار كل نصيب منفردًا. فلا شفعة لأن الأرض بالقسمة

صارت غير مشاعة. ولأبي داود من حديث أبي هريرة "إذا قسمت الدار وحدت فلا شفعة فيها" وهو إجماع ومفهومه أنها إذا وقعت الحدود ولم تصرف الطرق ثبتت الشفعة. قال ابن القيم وهو أصح الأقوال في شفعة الجوار ومذهب أهل البصرة وأحد الوجهين في مذهب أحمد واختيار الشيخ وغيره. (ولمسلم في كل شرك) بكسر الشين من أشركته في المبيع أي جعلته لك شريكًا وفي لفظ شركة أي قضى بالشفعة في كل مشترك (في أرض) وفي رواية في كل شركة لم تقسم ربعة (أو ربع) بفتح فسكون. وهو المنزل الذي يتربعون فيه ومطلق الأرض (أو حائط) وهو البستان من النخل إذا كان عليه جدار. وخصت الشفعة بالعقار لأنه أكثر الأنواع ضررًا وما سواه قال النووي اتفقوا على أنه لا شفعة في الحيوان والثياب والأمتعة وسائر المنقول اهـ. وللطحاوي "قضى بالشفعة في كل شيء" قال الحافظ ورجاله ثقات. وللترمذي عن ابن عباس مرفوعًا "الشفعة في كل شيء" فيكون مقيدًا بحديث الباب. ففيه إثبات الشفعة بالشركة وهو اتفاق. وأنها لا تجب إلا في الأرض والعقار دون غيرهما من العروض والأمتعة والحيوان ونحوها. قال علي الباجي هو قول عامة أهل العلم: وقال غير واحد الجمهور على عدم ثبوتها في المنقول. لقوله:

"فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" وقوله "في كل شرك أو ربع أو حائط" وفي لفظ للبيهقي "لا شفعة إلا في ربع أو حائط" ولأحمد من حديث عبادة "قضى بالشفعة بين الشركاء في الأرض والدور" وعن أحمد تجب في الغراس والبناء. والبناء من العقار. (وفيه) أي في صحيح مسلم من حديث جابر (لا يحل له أن يبيع) أي الشريك (حتى يؤذن شريكه) وفيه "فإن شاء أخذ. وإن شاء ترك. فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به" فدل الحديث على أنه لا يحل له أن يبيع حتى يعرض على شريكه. وأنه يحرم عليه البيع قبل عرضه عليه. وحمله بعضهم على الكراهة. وظاهر الخبر وجوب إعلام شريكه وفيه أنها إنما تثبت فيما كان بعقد البيع. وهذا مجمع عليه. وفي الصلح والهبة إذا وقع أحدهما بمعنى البيع لأنهما بيع في الحقيقة يثبت فيهما أحكام البيع. وهذا مذهب الجمهور. وهل له الشفعة. بعد أن آذنه ثم باعه من غيره، الأكثر له الشفعة. ولا يكون مجرد الإذن مبطلاً لها. وقال طائفة من أهل الحديث تسقط شفعته بعد عرضه عليه. وقال ابن القيم إسقاط الشفعة قبل البيع إسقاط لحق كان بعرض الثبوت رضي صاحبها بإسقاط. وأن لا يكون البيع سبباً لأخذه بها. فالحق له. وقد أسقطه. وقد دل النص على

سقوطها. كما لو أذن له في إتلاف ماله وإسقاط الضمان عنه قبل الإتلاف. فإنه لا يضمن اتفاقاً. فهذا موجب النص والقياس. وقال أيضاً حرم على الشريك أن يبيع نصيبه حتى يؤذن شريكه. فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به. وإن أذن في البيع. وقال لا غرض لي فيه. لم يكن له الطلب بعد البيع. وهذا مقتضى حكم الشرع. ولا معارض له بوجه وهو الصواب المقطوع به. (وعن أبي رافع) -رضي الله عنه- (مرفوعاً: الجار) وهو المجاور, وعن ابن الأعرابي هو الذي يجاورك بيت بيت (أحق بصقبه) ويقال بالسين وهو القرب والمجاورة قال في النهاية والمراد به الشفعة (رواه البخاري) ولفظه أن عمرو بن الشريد قال وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة. ثم جاء أبو رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا سعد ابتع مني بيتي في دارك. فقال سعد والله ما أبتاعها. فقال المسور والله لتبتاعنها. فقال سعد والله ما أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة. قال أبو رافع لقد أعطيت بها خمسمائة دينار. ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "الجار أحق بسقبه" ما أعطيتكها بأربعة آلاف. وأنا أعطى بها خمسمائة دينار. فأعطاها إياه. ولأحمد والنسائي قلت يا رسول الله أرض ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار؟ فقال "الجار أحق بسبقه ما كان" ففيه

الحث على عرض المبيع على الشريك كما تقدم. ودليل على ثبوت الشفعة بالجوار. (وعن سمرة) بن جندب -رضي الله عنه- (مرفوعًا جار الدار) أي المجاور لدار الجار (أحق بالدار) وفي لفظ "جار الدار أحق بدار الجار" وللطبراني "أحق بالشفعة" رواه أحمد وأبو داود وغيرهما (وصححه الترمذي) فللجار إذا باع جاره أن يأخذها بالشفعة. وعند ابن سعد أحق بالدار من غيره ولأبي داود "جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض" ونحوهما حديث الشريد بن سويد في ثبوت الشفعة بالجوار. والجار وما في معناه قد يحمل على أنه إذا كان طريقها واحدًا. كما يأتي. والجمع بين الأحاديث أن الجوار لا يكون مقتضيًا للشفعة إلا مع اتحاد الطريق ونحوه. لأن شرعية الشفعة لدفع الضرر والضرر إنما يحصل في الأغلب مع المخالطة في الشيء المملوك أو في طريقه ونحوه. ولا ضرر على جار لم يشارك في أصل ولا طريق ولا شرب إلا نادرًا والنادر غير معتبر. لأن الشارع علق الأحكام بالأمور الغالبة. وقال الشيخ تثبت شفعة الجوار مع الشرك في حق من حقوق الملك من طريق وماء ونحو ذلك نص عليه أحمد واختاره ابن عقيل وأبو محمد وغيرهم. وقال الحارثي هذا الذي يتعين المصير إليه. وفيه جمع بين الأخبار. وقال ابن القيم القول الوسط بين الأدلة الذي لا يحتمل

سواه وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث: أنه إن كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة. وإن كان كل واحد منهما متميزًا ملكه. وحقوق الملك فلا شفعة نص عليه أحمد. وهو قول عمر بن عبد العزيز وهو الصواب وأعدل الأقوال والقياس الصحيح اهـ. ويقدم بالشفعة الشريك مطلقًا. ثم المشارك في الشرب. ثم المشارك في الطريق. ويقدم بالجوار الأقرب لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة في الهدية "إلى أقربهما منك بابًا". (وعن جابر) بن عبد الله -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (الجار أحق) من المشتري (بشفعة جاره) أي الجار أحق بشفعة شريكه فالجار يطلق أيضًا على الشريك لغة وشرعًا (ينتظر بها) أي بحقه من الشفعة (وإن كان غائبًا) فشفعة الغائب لا تبطل وإن تراخى. ولا يجب عليه السير حين يبلغه الشراء لأجلها. وكذا إن كان حاضرًا ولم يعلم فهو على شفعته. ولو مضى عليه سنون. وقال الوزير اتفقوا على أنه إذا كان الشفيع غائبًا فله إذا قدم المطالبة بالشفعة ولو تناول المبيع جماعة. (إذا كان طريقهما واحدًا) أي فالجوار بمجرده لا تثبت به الشفعة. بل لا بد معه من اتحاد الطريق. وكذا الشرب وغيره من مصالح العقار. رواه الخمسة و (حسنه الترمذي) وقال الحافظ رجاله ثقات. فدل الحديث على أن الجار أحق بالشقص المبيع. وأنها لا

تبطل في حق الغائب وإن تراخى. وذلك مع اتحاد الطريق. قال ابن القيم وهذا أعدل الأقوال. واختيار شيخ الإٍسلام وحديث جابر هذا صريح فيه. فإنه أثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق ونفاها مع عدم الاتحاد في قوله "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" فمفهوم حديث جابر هذا هو منطوق حديثه المتقدم. فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه. وقال أيضًا فمفهوم حديث عبد الملك هو منطوق حديث أبي مسلمة. وحديث أبي رافع يدل على ما دل عليه حديث عبد الملك. وهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة وأقربها إلى العدل. وقال الحارثي فيما اختاره الشيخ: إن الشفعة تجب بالشركة في مصالح العقار هذا هو الذي يجب المصير إليه. ثم ذكر أدلته. وقال: وفيه جمع بين الأخبار. (وقال شريح) بن الحارث بن قيس الكندي القاضي ولي لعمر الكوفة فقضى بها ستين سنة وكان من جلة العلماء وأذكياء العالم، قال الشعبي كان أعلم الناس بالقضاء مات سنة ثمانين وله مائة وعشر وقيل وعشرون سنة (الصغير أحق بالشفعة حتى يكبر) أي ينتظر بحقه من الشفعة حتى يدرك فيطالب بها أو يدع وللطبراني عن جابر مرفوعًا الصبي على شفعته حتى يدرك. فإذا أدرك فإن شاء أخذ وإن شاء ترك. ولما ذكر الوزير اتفاقهم على أن للغائب المطالبة بها إذا قدم. قال وكذا أي الصغير إذا كبر إذا طالب وقت علمه وأشهد على نفسه بالمطالبة اهـ.

ثم إذا أشهد على الطلب له أن يخاصم المشتري ولو بعد أيام أو شهر أو شهرين أو سنين. لأن إشهاده دليل على رغبته. وإن نهاه وليه عن التصرف ولم يطالب بها لم يصر المشتري ممنوعًا. بل تسقط على القول أنها على الفور. واقتصر عليه ابن رجب وغيره. وقال الفقهاء إذا كبر فله الأخذ عفا الولي عنها أو لا. وسواء كان الحظ في الأخذ له أو لا. وقال في الإنصاف إن ترك الولي شفعة للصبي فيها حظ لم تسقط. وإن تركها لعدم الحظ سقطت. اختاره الشيخ. فإن بنى أو غرس في حال يعذر فيه الشريك بالتأخير فقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور للشفيع تملكه بقيمته. وله قلعه ويغرم نقصه. ولربه أخذه بلا ضرر. (وعن أبي هريرة مرفوعًا: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود) من حيلهم في تحليل ما حرم عليهم. كنصبهم الشبابيك يوم الجمعة لتقع فيها الحيتان يوم السبت. ويقولون ما اصطدنا يوم السبت. وكجملهم الشحوم وإذابتها وبيعها (فتستحلوا محارم الله) ويدخل فيه التحيل لإسقاط الشفعة (بأدنى الحيل) بأي نوع من التحيل لإسقاطها، وقد قال الله فيهم {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين} يعني من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليتعظوا بذلك فيجتنبوا مثل فعلهم بالتحيل على ما نهوا عنه. وفي الخبر "لا تحل الخديعة لمسلم". والله تعالى ذم المخادعين. والمتحيل مخادع. ومن يخدع الله

يخدعه. واتفق السلف على أن الحيل بدعة محدثة لا يجوز تقليد من يفتي بها. ويجب نقض حكمه. ومن احتال على تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرض الله وتعطيل ما شرعه الله كان ساعيًا في دين الله بالفساد. والحيلة لإسقاط الشفعة أن يظهر المتعاقدان في البيع شيئًا لا يؤخذ بالشفعة معه. وقال الشيخ وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال على إسقاط الشفعة فهو باطل اهـ. لأن الشفعة شرعت لدفع الضرر فلو شرع التحيل لإبطالها لكان عودًا على إبطال مقصود الشريعة. وقال ابن القيم من له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائله ثم انصف لم يشك أن تقرير الإجماع من الصحابة على تحريم الحيل وإبطالها ومنافاتها للدين أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك مما يدعى فيه إجماعهم. بل أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم متفقة على تحريمها والمنع منها. ومضى على أثرهم أئمة الحديث والسنة. وذلك كان يقفه المشتري أو يهبه حيلة لإسقاطها. فلا تسقط عند أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم. ويغلط من يحكم به ممن ينتحل مذهب أحمد. ولو جعله مسجدًا لم تسقط الشفعة. وذكر غير واحد أنه إن تصرف مشتريه بوقفه أو هبته أو وصيته به ونحو ذلك قبل الطلب لم تبطل. لأن حق الشفيع أسبق وجنبته أقوى. فلم يملك المشتري تصرفًا يبطل حقه. والمفتى به أنه إذا كان الوقف صحيحًا ولم يكن حيلة سقطت

نص عليه أحمد. وأختاره الشيخ. وأنها لا تسقط فيما سواه. وقال ابن القيم من الحيل الباطلة أن يتفقا على مقدار الثمن ثم عند العقد يصبره صبرة غير موزونة فلا يعرف الشفيع ما يدفع. فإذا فعلا ذلك فللشفيع أن يستحلف المشتري أنه لا يعرف قدر الثمن. فإن نكل قضي عليه. وإن حلف فللشفيع أخذ الشقص بقيمته. ومنها أن يهب الشقص للمشتري ثم يهبه ما يرضيه. وهذا لا يسقط الشفعة. وهذا بيع. وإن لم يتلفظا به. فله أن يأخذ الشقص بنظير الموهوب. ومنها أن يشتري الشقص ويضم إليه سكينًا. ومنها أن يشتري الشقص بألف دينار ثم يصارفه عن كل دينار بدرهمين. وهذه الحيل ونحوها لا تسقط الشفعة. ومنها أن يشتري بائع الشقص منه عبدًا قيمته مائة درهم بألف في ذمته. ثم يبيعه الشقص بالألف فيأخذه بقيمة العبد. ومنها أن يشتري الشقص بألف وهو يساوي مائة. ثم يبريه من تسعمائة. أو يشتري جزءًا منه بالثمن كله ثم يهب له بقيته وهذا لا يسقطها. ويأخذ الشفيع الشقص بالثمن. ولا تغير حقائق العقود بتغير العبارة. وقال الشيخ يجب على المشتري أن يسلم الشقص المشفوع بالثمن الذي تراضيا عليه في الباطن إذا طالبه الشريك. وإذا حابا البائع المشتري بالثمن محاباة خارجة عن العادة يتوجه أن يكون للشفيع أن لا يأخذه إلا بالقيمة اهـ. وإن أقر البائع بالبيع

وأنكر المشتري وجبت الشفعة. وعهدة الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع. (وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (الشفعة كحل العقال) شبهة بحل عقال البعير لسرعة حله (رواه ابن ماجه بسند ضعيف) ورواه ابن حزم. وزاد "فإن قيدها مكانه ثبت حقه وإلا فاللوم عليه" وأخرج عبد الرزاق عن شريح: إنما الشفعة لمن واثبها. أي بادر إليها. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد أنها على الفور وقت علمه. وقال الوزير اتفقوا أنه إذا طالب وقت علمه أو أشهد على نفسه بالمطالبة اهـ. أي وقت علمه فإن لم يطلبها إذا بلا عذر بطلت وإذا كان وجه شرعيتها لدفع الضرر ناسبت الفورية. وكيف يقال بالغ الشرع في دفع ضرر الشفيع ولا يبالغ في دفع ضرر المشتري ببقائه معلقًا. وإن قال الشفيع للمشتري بعني أو صالحني قبل أن يشفع بطلت لعدم الفورية أو كذب العدل لتراخيه عن الأخذ بلا عذر أو طلب أخذ البعض لما فيه من الإضرار بالمشتري. وإن كان دلالًا بينهما أو وكيلًا لأحدهما. وشفع إذا تم العقد ثبتت له. وإن اختلفا في قدر الثمن فقول المشتري مع يمينه. ولو أثبت البائع بأكثر وإن قال المشتري ليس لك ملك في شركتي فعلى الشفيع إقامة البينة بالشركة. وإذا ثبتت الشفعة فالغلة

باب الوديعة

والنماء المنفصل والزرع والثمرة الظاهرة بعد البيع للبائع. لخبر "الخراج بالضمان". باب الوديعة من ودع الشيء إذا تركه. لأنها متروكة عند المودع. وشرعًا اسم للمال أو المختص المدفوع إلى من يحفظه بلا عوض. وهي عقد جائز واتفق أهل العلم على أنها من القرب المندوب إليها. وأن في حفظها ثوابًا. ويستحب قبولها لمن علم من نفسه العفة وأنه قادر على حفظها. وفي الحديث "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" ولحاجة الناس إلى ذلك. وأجمعوا في كل عصر على جوازها للأمر بأدائها في الكتاب والسنة. قال تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} من دين أو وديعة أو غيرها. فإن الأمر بأداء الأمانة حكم عام يدخل فيه البيع وغيره. كالوديعة. فهو من جوامع الكلم واحكم المحكمات {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} أي ليقضه على الأمانة والوديعة أمانة داخلة في عموم الآية {وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} يعني المؤتمن في أداء الوديعة في حرز مثلها. كما يحفظ ماله عادة. لأمره بأدائها ولا يمكن ذلك إلا بالحفظ. لأنه المقصود من الإيداع. والاستبداع التزام ذلك. فإذا لم يحفظ لم يفعل ما التزم به.

(وتقدم) أي في باب العارية (قوله - صلى الله عليه وسلم - أد الأمانة إلى من ائتمنك) أي من جعلك أمينًا وحافظًا على ماله رواه أبو داود وغيره وله شواهد ينتهض بها للاحتجاج على وجوب أداء الوديعة ونحوها كما هو ظاهر الآية وغيرها وفي الترغيب في أدائها أحاديث كثيرة فمتى أراد المودع أخذ الوديعة لزم المستودع ردها وإن أراد المستودع ردها إلى ربها لزمه قبولها وإن أذن المالك في التصرف فعارية لها حكم العارية. (وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من أودع وديعة) ولم يفرط (فليس عليه ضمان) وروي عن أبي بكر وعلي وابن مسعود -رضي الله عنهم- (رواه ابن ماجه بسند ضعيف) والبيهقي وله بسنده عنه لا ضمان على مؤتمن ورواه الدارقطني بلفظ لا ضمان على مؤتمن وفيه ضعف أيضًا ورواه أيضًا بلفظ "ليس على المستودع غير المغل ضمان" وحكي إجماعًا إلا لجناية منه على العين وما حكي عن الحسن أن الوديعة لا يضمن إلا بشرط الضمان حمل على ضمان التفريط لا الجناية المتعمدة. قال ابن رشد اتفقوا على أنها أمانة لا مضمونة قال وبالجملة فالفقهاء بأجمعهم أنه لا ضمان على صاحب الوديعة إلا أن يتعدى وقال الوزير اتفقوا على أن الوديعة أمانة محضة وأن الضمان لا يجب على المودع إلا بتعديه واتفقوا على أنه إذا أودعه على شرط الضمان فإنه لا يضمن بالشرط اهـ. والوجه

في تضمينه الجناية أنه صار بها خائنًا والخائن ضامن وهو المغل كما في الخبر وكذا إذا وقع منه تعد في حفظ العين لأنه أيضًا نوع من الخيانة. وإن ادعى أنه لم يتعد ولم يفرط فالقول قوله مع يمينه إن كذبه المودع لأن الله أمر برد الأمانة ولم يأمر بالإشهار فوجب أن يصدق المودع في دعواه رد الوديعة قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه أن المستودع إذا أحرز الوديعة ثم ذكر أنها ضاعت قبل قوله بيمينه وحكى الوزير الاتفاق على أن القول قول المودع في التلف والرد مع يمينه وقال ابن القيم إذا لم يكذبه شاهد الحال وقال إذا ادعى الهلاك في الحريق أو تحت الهدم أو في نهب العيارين ونحوهم لم يقبل إلا إذا تحقق وجود هذه الأسباب وإن هلكت من بين ماله فجاء أن عمر ضمنه ولعله لتفريطه. (وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -) أخرجه البيهقي وغيره عن عائشة -رضي الله عنها- وغيرها من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنه كان عنده ودائع) أي عنده للناس بمكة (فلما أراد الهجرة) إلى المدينة حين همت قريش بقتله (أودعها عند أم أيمن) ورواية البيهقي (وأمر عليًا) -رضي الله عنه- (أن يردها) أي تلك الودائع (على أهلها) فأداها علي عنه - صلى الله عليه وسلم - فدل الخبر على أنه إن حدث للمودع سفر أو خوف ردها على صاحبها وإلا حملها معه إن كان أحرز وإلا أودعها الحاكم أو ثقة لأنه موضع حاجة ولأن في السفر بها غررًا.

باب إحياء الموات

قال مالك والشافعي وأحمد إذا أودعها من غير إذن صاحبها ومن غير ضرورة فتلفت فلصاحبها تضمين أيهما شاء وقال الشيخ لو أودع المودع بلا عذر ضمن المودع الثاني لا يضمن إن جهل نص عليه أحمد وكذا المرتهن منه وإن ركب الدابة أو لبس الثوب أو أخرج الدراهم من حرزها أو رفع الختم ونحوه عنها أو خلطها بغير متميز فضاع الكل ضمن الوديعة لتعديه وإن غصبت منه فله مطالبة غاصبها ومتى طلبها صاحبها وجب على المودع أن لا يمنعها مع الإمكان باتفاق أهل العلم وإن لم يفعل ضمن. باب إحياء الموات بفتح الميم الأرض التي لم تعمر. شبهت العمارة بالحياة وتعطيلها بالموت. وإحياؤها عمارتها. واصطلاحًا الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم. فلا تملك بالإحياء الطرق والأفنية ومسائل المياه والمحتطبات ونحوها. وما جرى عليه ملك معصوم بشراء أو عطية أو غيرها. والأصل في إحياء الموات السنة والإجماع في الجملة. (وعن جابر) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من أحيى أرضًا) بأن يعمد شخص إلى أرض كانت (ميتة) لم يتقدم ملك لأحد عليها فيحييها بالسقي أو الزرع أو الغرس أو البناء. أو إجراء الماء إليها من عين ونحوها أو حبسه عنها ليزرع

(فهي له) أي بذلك الإحياء اتفاقًا. مسلمًا كان المحيي أو ذميًا. إلا أن على الذمي خراج ما أحيى وسميت ميتة تشبيهًا لها بالميتة التي لا ينتفع بها لعدم الانتفاع بالأرض الميتة بزرع أو غرس أو غيره وظاهره سواءً كان بإذن الإمام أو لا. فإن هذه كلمة شرط وجزاء فهو غير مقصور على عين دون عين ولا على زمان دون زمان. رواه أحمد والنسائي وغيرهما و (صححه الترمذي). ولهم عن سعيد بن زيد مرفوعًا "من أحيى أرضًا ميتة فهي له" ولأبي داود عن عروة أشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قضى أن الأرض أرض الله والعباد عباد الله ومن أحيى مواتًا فهو أحق بها جاءنا بهذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين جاءوا بالصلوات عنه" - صلى الله عليه وسلم - فدل الحديث وما في معناه مما سيأتي وغيره أن الإحياء بحفر أو تحجير أو إجراء ماء إليه ونحو ذلك من وجوه العمارة. كما لو عمد إلى أرض فقطع شجرها وجمع لها السيل فالإحياء يرجع فيه إلى العرف كالحرز. وتملك به إن لم يكن قد ملكها مسلم. أو ذمي. أو ثبت فيها حق للغير. وذكر الحافظ عن الجمهور أن الأرض التي لا يعلم تقدم ملك أحد عليها بالسقي أو الزرع أو الغرس أو البناء تصير بذلك ملكه. سواء كانت فيما قرب من العمران أو بعد. أذن الإمام أو لم يأذن. ولو تحول جري الماء عن أرض جاز إحياؤها لانقطاع الحق وعدم تعين أهله.

(وعن عائشة) رضي الله عنها (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من عمر أرضًا) بفتح العين وتخفيف الميم (ليست لأحد) ببناء أو غرس ونحو ذلك (فهو أحق بها) وتصير ملكًا له بذلك. قال عروة وقضى به عمر في خلافته (رواه البخاري) ومالك وغيرهما. وقال ابن عبد البر سنده صحيح متلقى بالقبول عند فقهاء المدينة وغيرهم وما ملك بإحياء ثم دثر فعند الجمهور ملك بالإحياء. وعند مالك للإمام أن يقطعه من شاء لأنه فيء. (ولأبي داود) وغيره وصححه ابن الجارود من حديث جابر وغيره (من أحاط) أي أدار (حائطًا) أي جدارًا منيعًا (على أرض) أي حول أرض بما جرت العادة به (فهي له) أي صارت تلك الأرض المحوطة ملكًا له. ولأحمد وغيره من حديث سمرة نحوه فدل على أن التحيوط على الأرض من جملة ما يستحق به ملكها والمقدار المعتبر ما يسمى حائطًا في اللغة. ولا بد من تقييده بأنه لا حق فيها لأحد كما تقدم. (وله عن أسمر) بن مضرس (مرفوعًا: من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به) واتفق عليه علماء الأمصار وفي لفظ:"إلى لفظ "إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له" قال فخرج الناس يتعادون يتخاطون. صححه الضياء في المختارة. وقوله "مسلم لأن الكافر الحربي لا حكم لتقدمه. وأما الذمي فلا لأنه من

أهل دار الإسلام فيملكه كالشراء. ومن سبق إلى معدن أو حطب أو صيد مباح فهو أحق به. ومن سبق إلى جلوس في طريق واسع فهو أحق به لهذا الخبر. وحديث الزبير فيحتطب فيضعه في السوق. وكذا من سبق إلى رحبة مسجد غير محوطة فهو أحق بها لأنه سبق إلى ما لم يسبق إليه. وإن سبق اثنان معًا اقترعا. ومن جلس في نحو جامع للفتوى أو الإقراء فهو أحق بمكانه ما دام فيه. وإن غاب لعذر أو وعاد قريبًا فهو أحق به. ومن سبق إلى رباط أو تدريس أو نزل فقيه بمدرسة لتدريس لم يبطل حقه بخروجه لحاجة. ومن نزل عن وظيفته لزيد وهو لها أهل لم يتقرر غيره فيها. فإن قرر هو وإلا فهي للنازل. وقال الشيخ لا يتعين المنزول له. ويولي من له الولاية من يستحقها شرعًا. (وله عنه أن رجلين اختصما في أرض غرس أحدهما فيها وهي للآخر فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأرض لصاحبها) أي مالكها (وأمر صاحب النخل) الذي غرس في الأرض بغير إذن مالكها (يخرج نخله) منها لظلمه بغرسها (وقال ليس لعرق ظالم) أي لذي عرق ظالم من غرس أو زرع أو بناء أو حفر في أرض غيره بغير حق (حق) ولا شبهة حق. وتقدم أنه قال لقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس. وإنها لنخل عم. وأنه مجمع على أن من اغترس نخلًا أو شجرًا في غير أرضه أنه يؤمر بالقلع. لأنه شغل ملك غيره بملكه الذي لا حرمة له في نفسه. فلزمه تفريغه.

(وعن ابن المسيب) سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي. أحد العلماء والفقهاء الكبار السبعة من التابعين. قال ابن المديني لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه. مات بعد التسعين. وقد ناهز الثمانين. وأبوه المسيب صحابي وجده (قال السنة في حريم البئر) الحريم هو ما يمنع منه المحيي والمحتفر لإضراره. سمي بذلك لأنه يحرم منع صاحبه منه ويحرم على غيره التصرف فيه (البدئ) أي المحدثة التي لم يسبق لها عمارة (خمسة وعشرون ذراعًا) لأجل البئر أو سقي الماشية (والعادي) بتشديد الياء أي القديمة. نسبة إلى عاد ولم ترد بعينها وحريمها (خمسون) ذراعًا من كل جانب. والمراد إذا كانت أنطمت وذهب ماؤها فجدد حفرها وعمارتها. أو انقطع ماؤها فاستخرجه. رواه البيهقي مرسلًا. وقال غير واحد أصح المراسيل مراسيل سعيد. ونحوه عند أحمد وغيره عن أبي هريرة بسند ضعيف. ولابن ماجه بسند ضعيف أيضًا عن عبد الله بن مغفل مرفوعًا "من حفر بئرًا فله أربعون ذراعًا عطنًا لماشيته" زاد البيهقي من طريق سعيد بن المسيب "وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها" وذلك إذا حفر بئرًا فوصل إلى الماء فإن لم يصل إلى الماء فهو كالمتحجر الشارع في الإحياء. وإن حفرها ليرتفق بمائها كحفر السفارة في بعض المنازل. كالأعراب ينتجعون فيحفرون لشرابهم وشراب دوابهم لم يملكوها. وهم أحق بمائها ما أقاموا.

وعليهم بذل الفاضل لشاربه. وبعد رحيلهم تكون سابلة للمسلمين. فإن عادوا إليها كانوا أحق بها. (وللدارقطني من حديث أبي هريرة) نحو خبر ابن المسيب وفيه (والعين السائحة) أي حريم العين الجارية على وجه الأرض (ثلاثمائة ذراع) حريم (وعين الزرع ستمائة ذراع) وحريم النهر قدر ما يلقى منه كسحه. وحريم الأرض قدر ما تحتاج إليه وقت عملها. وإلقاء كسحها. وكذا المسيل حريمه قدر ما يحتاج إليه كسحه. ونحوه قياسًا على البئر بجامع الحاجة. وحريم دار مطرح تراب وكناسة وثلج وماء ميزاب وحريم شجرة مد أغصانها. هذا في الأرض المباحة. وأما الأرض المملوكة فلا حريم في ذلك. بل كل يعمل في ملكه ما شاء فلا حريم لدار ونحوها محفوفة بملك. ويتصرف كل منهم بحسب العادة. ومن تحجر مواتًا بأن أدار حوله أحجارًا ونحوها لم يملكه. وهو أحق به ووارثه من بعده. وقيل ليس له بيعه. وله النزول عنه بعوض. لا على وجه البيع. وقال بعضهم له بيعه. وإن لم يتم إحياؤه لأنه أحق به. (وفي الصحيحين) من حديث أسماء بنت أبي بكر في حديث ذكرته (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع الزبير) وللبخاري من أموال بني النضير أرضًا. قالت كنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسي وهو مني على ثلثلي فرسخ.

(ولأبي داود) وأحمد وغيرهما. قال: اقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - الزبير (حضر) بضم الحاء وسكون الضاد أي ارتفاع (فرس) في عدوه وفيه أجرى الفرس حتى قام ثم رمى بسوطه. فقال "أعطوه حيث بلغ السوط" فدل على جواز إقطاع الموات لمن يحييه ولا يملكه بالإقطاع. بل هو أحق به من غيره. فإذا أحياه ملكه. (وعن وائل) بن حجر -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطعه أرضًا بحضر موت) وبعث معاوية ليقطعها إياه رواه أبو داود وغيره و (صححه الترمذي) وابن حبان والبيهقي وغيرهم فدل أيضًا على جواز إقطاع الموات لمن يحييه. قال القاضي عياض الإقطاع تسويغ الإمام من مال الله شيئًا لمن يراه أهلًا لذلك. وأكثر ما يستعمل في الأرض وهو أن يخرج منها لمن يراه ما يحوزه. إما بأن يملكه إياه فيعمره. وإما أن يجعل له غلتها مدة. وقال الشيخ الإقطاع نوعان إقطاع تمليك. كما يقطع ولي الأمر الموات لمن يحييه. وإقطاع استغلال وهو إقطاع منفعة الأرض لمن يشاء يستغلها أو يحتجزها. (وللبخاري) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- (أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا الأنصار ليقطعهم البحرين) فقالوا يا رسول الله إن فعلت فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها. فلم يكن ذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني بسبب الفتوح. فقال "إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني" ويحتمل أنه أراد الموات ليتملكوه

بالإحياء. أو أراد أن يخصهم بتناول جزيتها. وقال الحافظ أراد أن يخصهم بما يحصل منها. أما الناجز فالجزية. وأما بعد ذلك فخراج الأرض. وقد وقع منه - صلى الله عليه وسلم - ذلك في عدة أراض بعد فتحها. وقبل فتحها. منها إقطاعه تميمًا الداري بيت إبراهيم. فلما فتحت في عهد عمر، نجز ذلك لتميم. واستمر في يد ذريته. واقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - صخر بن أبي العبلة ماء لبني سليم لما هربوا من الإسلام. وتركوا ذلك الماء ثم رده إليهم. ولما خرج إلى تبوك لقيته جهينة بالرحبة. فقال لهم "من أهل ذي المروة" فقالوا بنو رفاعة من جهينة فقال "اقطعتها لبني رفاعة" فاقتسموها. فمنهم من باع. ومنهم من أمسك. فعمل وغير ذلك من الأحاديث الدالة على إقطاع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتخصيصه بعضًا دون بعض. إذا كان فيه مصلحة وجوازه للأئمة من بعده. (ولأبي داود وخط لعمرو بن حريث دارًا بالمدينة) حسنه الحافظ ولفظه عن عمرو بن حريث قال خط لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دارًا بالمدينة بقوس. وقال "أزيدك أزيدك" وللبيهقي والطبراني وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة اقطع الدور. واقطع ابن مسعود فيمن اقطع. وللإمام إقطاع جلوس في الطرق الواسعة. ورحاب المساجد غير المحوطة، ما لم يضر بالناس. ويكون المقطع أحق بجلوسها. ولا يزول حقه بنقل متاعه منها. لأنه

استحق بإقطاع الإمام له. وأما بيعه شيئاً من طريق المسلمين. فقال الشيخ لا يجوز لوكيل بيت المال ولا غيره بيع شيء من طريق المسلمين النافذ. وليس للحاكم أن يحكم بصحته. (وأقطع بلال بن الحارث) المزني وفد في رجب سنة خمس وكان معه لواء مزينة يوم الفتح ومات سنة ستين -رضي الله عنه- أقطعه النبي - صلى الله عليه وسلم - (المعادن القبلية) بفتح القاف والباء منسوبة إلى قبل. وهي ناحية من ساحل البحر. بينها وبين المدينة خمسة أيام. ولأبي داود وهي من ناحية الفرع. والخبر رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن عباس وعمرو ابن عوف. "وفيه جلسيها وغوريها. وحيث يصلح الزرع من قدس. ولم يعطه حق مسلم" وقدس جبل عظيم معروف. وعند أبي عبيد أقطعه العقيق فدل هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع المعادن. فكذا الأئمة بعده. وهو جعل بعض الآراض الموات مختصة ببعض الأشخاص سواء كان معدناً أو أرضاً كما تقدم ويصير أولى بها من غيره بشرط كونها من الموات التي لا يختص بها أحد. وإذا ظهر المعدن بإظهاره ملكه. كملح وجص أو المعدن الجامد الباطن كالذهب والفضة. يملك بالإحياء. ولا تملك معادن منفردة مطلقاً ظاهرة أو باطنة. ولا تملك المعادن الظاهرة كملح وكحل وجص. بل هي مشتركة بين الناس. لأنها منافع دائمة إليها حاجات الناس. كالماء ونحوه. ولا الجارية بإحياء الأرض لكن صاحب الأرض أحق بها كما تقدم.

و (قال عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (من تحجر أرضاً) بأن شرع في عمارتها ولم يحيها بما يعد إحياء (فعطلها) من العمارة (ثلاث سنين) وعمرها غيره بعد الثلاث (فعامرها أحق بها) لإحيائه لها وتعطيل المتحجر. (وقال) يعني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- (لبلال بن الحارث) المتقدم خبره (ما اقطعت) أي ما أقطعك النبي - صلى الله عليه وسلم - (لتحجبه) عن عمارة الناس له (خذ ما قدرت) أي على إحيائه (وذر الباقي) وهذا الأثر مع ما تقدم يدل على أن المقطع أحق من غيره وأولى بالإحياء. ولكن لا يملكه بمجرد الإقطاع. وإنما يملكه بالإحياء فمتى أقطع الإمام أحداً أكثر مما يقدر على إحيائه. ثم تبين عجزه عن إحيائه وحصل متشوف للإحياء. وطالت المدة عرفاً. أو ثلاث سنين. كما تقدم. استرجعه الإمام منه. كما استرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني سليم وغيرهم. وكما استرجع عمر من بلال بن الحارث ولم ينكر. (وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "لا يمنع الماء والنار والكلأ) النبات رطباً كان أو يابساً. رواه ابن ماجه وغيره و (صححه الحافظ) وعن رجل من الصحابة قال غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعته يقول "الناس شركاء في ثلاثة الكلأ والماء والنار" رواه أحمد وأبو داود. ووثقه الحافظ أيضاً. وفيه أحاديث أخر. بمجموعها يحتج بها. وفي الماء بخصوصه أحاديث في صحيح مسلم وغيره. وقال "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به

الكلأ" فلا يرعى ذلك الكلأ بدون ماء ذلك البئر. فدل الحديث وما في معناه على عدم اختصاص أحد من الناس بأحد الثلاثة. الكلأ في الأرض المباحة. والجبال التي لم يحرزها أحد. فأنه لا يمنع من أخذ كلئها أحد. إلا ما حماه ولي أمر المسلمين. وأما النابت في الأرض المملوكة والمتحجرة فصاحبه أحق به. وما أحرز بعد قطعه فلا شركة فيه بالإجماع. وأما النار فقيل المراد الاستصباح منها والاستضاءة بضوئها. والمشهور أن المراد الشجر الذي يحتطبه الناس من المباح فيوقدونه. وقيل الأقرب أن المراد بها النار حقيقة. وأما الماء فماء السماء والعيون والأنهار التي لا تملك. والمجتمعة من الأمطار وغيرها في أرض مباحة. وليس أحد أحق بها من أحد إلا لقرب أرضه منها ولو كان في أرض مملوكة فكذلك إلا أن صاحب الأرض المملوكة أحق به يسقيها ويسقي ماشيته إجماعاً. ويجب بذل ما فضل من ذلك فلو كان في أرضه أو داره عين نابعة أو بئر احتفرها فإنه لا يملك الماء بل حقه فيه تقديمه في الانتفاع به على غيره وللغير دخول أرضه. وتقدم. وأما الماء المحرز في الجرار ونحوها فملك إجماعاً. (وقال - صلى الله عليه وسلم - اسق يا زبير) وكان تخاصم مع رجل من الأنصار في شراج الحرة التي يسقون بها النخل إذا سالت من ماء المطر وكان يمر بأرض الزبير فيحبسه لإكمال سقي أرضه. وطلب الأنصاري تعجيل إرساله فقال - صلى الله عليه وسلم - "اسق يا زبير ثم

أرسل الماء إلى جارك" فغضب الأنصاري فقال "اسق يا زبير (ثم احبس الماء) أي على أرضك (حتى يرجع) أي الماء (إلى الجدر) أي جدران الشربات التي في أصول النخل. والمعنى حتى يبلغ تمام الشرب (متفق عليه) زاد عبد الرزاق عن معمر عن الزهري. قال نظرنا إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" فكان ذلك إلى الكعبين. وذلك أنه لما علم السلف أن الجدر يختلف بالطول والقصر. قاسوا ما وقعت فيه القصة. فوجدوه يبلغ الكعبين. فجعلوا ذلك معياراً لاستحقاق الأول فالأول. والحديث دليل على أن من سبق إلى شيء من مياه الأدوية والسيول التي لا تملك فهو أحق به. وأنه ليس له إذا استغنى أن يحبس الماء عن الذي يليه. (ولأبي داود) وابن ماجه وغيرهما وحسنه الحافظ (من حديث عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (قضى) يعني في سيل مهزور واد بالمدينة (أن يمسك) يعني الأعلى (حتى يبلغ) السيل (الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل) ورواه الحاكم وغيره من حديث عائشة. ورواه أبو داود من حديث ثعلبة. وعبد الرزاق عن أبي حاتم القرظي أنه سمع كبراءهم يذكرون أن رجلاً من قريش كان له سهم في بني قريظة. فخاصم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مهزور. المسيل الذي يقتسمون ماءه. فقضى أن الماء إلى الكعبين.

فدلت هذه الأحايث وغيرها على أن الأعلى تستحق أرضه الشرب بالسيل والغيل وماء البئر ونحوها قبل الأرض التي تحتها. وأن الأعلى في السيل ونحوه يمسك الماء حتى يبلغ كعبي الرجل الكائنين عند مفصل الساق والقدم. ثم يرسله بعد ذلك إلى من يليه. وهكذا. فإن كان الماء مملوكاً قسم بين الأملاك بقدر النفقة والعمل. وتصرف كل واحد في حصته بما شاء. (وعن الصعب بن جَثَّامة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا حمى) أي لا مكان محمي من موات كثيرة العشب ونحوه (إلا لله ورسوله) - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز لأحد من الناس أن يحمي مواتاً يختص به (رواه البخاري) وأحمد وأبو داود وغيرهم. وأصل الحمى عند العرب أن الرئيس منهم كان إذا نزل منزلاً مخصباً استعوى كلباً على مكان عال. فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب. فلا يرعى فيه غيره. ويرعى هو مع غيره فيما سواه. ومعناه أن يمنع من الإحياء في ذلك الموات ليتوفر فيه الكلأ. وترعاه مواش مخصوصة. ويمنع غيرها. وفرق بين الحمى المنهي عنه. والإحياء المباح مما لا منفعة للمسلمين فيه شاملة. (وقال بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمى النقيع) أصل النقيع كل موضع يستنقع فيه الماء. وهذا النقيع المذكور في هذا الحديث على عشرين فرسخاً من المدينة. قدره ميل في ثمانية أميال. وهو غير نقيع الخضمات. وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

حمى النقيع للخيل خيل المسلمين رواه أحمد وغيره. (وعمر) -رضي الله عنه- (حمى الشرف) سرة نجد قرب الشريف الذي قيل إنه أعلى جبل في بلاد العرب. حمى ضرية والربذة (والربذة) قرية من قرى المدينة على طريق الحاج. فيها قبر أبي ذر رضي الله عنه. ولابن أبي شيبة بسند صحيح أن عمر -رضي الله عنه- حمى الربذة لنعم الصدقة. وقال الوزير وغيره اتفقوا على أنه يجوز للإمام أن يحمي الحشيش في أرض الموات لإبل الصدقة. وخيل المجاهدين. ونعم الجزية. والضوال إذا احتاج اليها. ورأى فيه المصلحة. وقال: اتفقوا على أن الأرض إذا كانت أرض صلح, أو ما للمسلمين فيه منفعة. فإنه لا يجوز للمسلم أن ينفرد بها اهـ. وما حماه النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس لأحد نقضه. لثبوته بالنص. وما حماه غيره من الأئمة يجوز نقضه. لأنه بالاجتهاد. ولا يجوز لأحد أن يأخذ من أرباب الدواب عوضاً عن مرعى موات أو حمى. لأنه قد ثبت أن الناس شركاء فيه. ومن أخذ مما حماه إمام عزر في ظاهر كلام بعض أهل العلم. ولا ضمان. (وقال) عمر رضي الله عنه (لمولاه) هني. وكان استعمله على الحمى. يا هني (اضمم جناحك) أي جانبك (على المسلمين, واتق دعوة المظلوم) فإن دعوة المظلوم مستجابة (وادخل رب الصريمة) تصغير صرمة. وهي ما بين العشرين إلى الثلاثين من

باب الجعالة

الإبل. أو من العشر إلى الأربعين (والغنيمة) تصغير غنم. وتمام الخبر: وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان. فإنهما أن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع. ورب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه. يقول: يا أمير المؤمنين؟ أفتاركهم أنا لا أبا لك. فالماء والكلأ أيسر عليَّ من الذهب والورِق. وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم. إنها لبلادهم. قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام. والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شيئاً. رواه البخاري. وقال مالك بلغني أنه كان يحمل على أربعين ألفاً في سبيل الله. باب الجعالة به بتثليث الجيم. وهي ما يعطاه الإنسان على أمر يفعله ويقال جعل له كذا على كذا شارطه به عليه. واصطلاحاً جعل جائز التصرف شيئاً متمولاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً مدة معلومة أو مجهولة. وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع في الجملة. (قال تعالى: {وَلِمَن جَاء بِهِ} أي دل على سارقه {حِمْلُ بَعِيرٍ} وهذا جعل. والعمل الذي يؤخذ عليه الجعل نحو ذلك. والرقية ورد الآبق كما سيأتي. وبناء حائط وسائر ما

يستأجر عليه من الأعمال. ولا فرق بين أن يجعله لمعين أو غير معين. كما في الآية وقال الوزير اتفقوا على أن رد الآبق يستحق الجعل برده إذا شرط. وقال أبو حنيفة وأحمد وإن لم يشترط. وقال مالك إن كان معروفاً به. وهي عقد جائز لكل منهما فسخه. ولا يشترط العلم بالعمل. ولا المدة ويقوم العمل مقام القبول. بخلاف الإجارة. ومن عمل بعد قول صاحب العمل من فعل كذا فله كذا استحق الجعل. لأن العقد استقر بتمام العمل. وإن بلغه الجعل في أثناء العمل يأخذ قسط تمام العمل. وإن لم يبلغه إلا بعد العمل لم يستحق شيئاً لذلك. وإن كان في يده حرم عليه أخذه إلا أن تبرع له ربه به. (وعن أبي سعيد) الخدري -رضي الله عنه- (في قصة اللديغ) وهو اللسيع. وهو ضرب ذات الحمة من حية وعقرب وغيرهما وصرح بها في إحدى الروايات. وذكر أنه انطلق نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة حتى نزلوا على حي من أحياء العرب. فاستضافوهم فابوا فلدغ سيد ذلك الحي, فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء. فأتوهم فقالوا يا أيها الرهط إن سيدنا لُدغ وسعينا بكل شيء لا ينفعه. فهل عند أحد منكم من شيء؟ قال بعضهم: إني والله لأرقي ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا. ثم (قال ما أنا براق لكم) أي نافث على لدغته والرقية كلام يستشفى به من كل عرض (حتى تجعلوا لنا جعلاً) وهو ما يعطاه المرء على عمل.

(فصالحوهم) أي صالحهم الحي أن يرقوا سيدهم (على قطيع) وهو الشيء المنقطع (من غنم) كان أو من غيرها. قال بعضهم الغالب استعماله فيما بين الأربعة والأربعين. وللبخاري إنا نعطيكم ثلاثين شاة. ولعل الرهط نحو من ذلك فكأنهم جعلوا لكل رجل شاة فانطلق يتفل عليه ويقرأ {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين} فكأنما نشط من عقال. فانطلق يمشي وما به قَلَبَة. فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه. فقال بعضهم اقتسموا ذلك. فقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فنذكر الذي كان. فنظر الذي يأمرنا. فقدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - (فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -) فقال وما يدريك أنها رقية (فقال) قد (أصبتم) فصوب صلوات الله وسلامه عليه أخذ الجعل على الرقية. (وقال "اقتسموا واضربوا لي معكم سهماً) وضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - (متفق عليه). (وعن عمر) -رضي الله عنه- (وغيره) من الصحابة علي وابن مسعود رضي الله عنهم (في رد الآبق) إذا جاء به من خارج الحرم (ديناراً أو اثني عشر درهماً) من المصر أو خارجه. وجزم بعض أهل العلم بمشروعية هذا التقدير لمجيئه مرفوعاً وموقوفاً. قال عمرو بن دينار وابن أبي مليكة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في رد الآبق من خارج الحرم ديناراً. هذا إذا فعل ذلك من غير جعل, وإن وجد صاحبه وشهدت له به بينة, أو صدقة مكلف دفعه إليه. وإلا إلى ولي الأمر ليحفظه

لصاحبه. وليس له تملكه كضوال الإبل. وإنما جاز التقاطه لما تقدم. ولأنه لا يؤمن لحاقه بدار الحرب. وارتداده. واشتغاله بالفساد. ويرجع راد الآبق وغيره بنفقته. لأنه مأذون في الإنفاق عليه شرعاً. بحرمة النفس. إن لم ينو التبرع. ولو هرب منه في الطريق. والمراد إذا لم يكن ذلك تخليصاً له من هلكة ونحوها. فله أجرة المثل. قال شيخ الإسلام وغيره من استنقذ مال غيره من المهلكة ورده استحق أجره المثل. ولو بغير شرط في أصح القولين. وهو منصوص أحمد وغيره. وقال إذا استنقذ فرساً أو نحوه للغير ومرض بحيث أنه لم يقدر على المشي فيجوز بل يجب في هذه الحال أن يبيعه الذي استنقذه ويحفظ الثمن لصاحبه. نص الأئمة على هذه المسألة ونظائرها. وقال ابن القيم متى كان العمل في مال الغير انقاذاً له من التلف المشرف عليه كان جائزاً. كذبح الحيوان المأكول إذا خيف موته. ولا يضمن ما نقص بذبح. قال ولهذا جاز لأحدهم ضم اللقطة ورد الآبق وحفظ الضالة. حتى إنه يحسب ما ينفقه على الضالة والآبق واللقطة. وينزل انفاقه عليها منزلة انفاقه لحاجة نفسه. لما كان حفظاً لمال أخيه. وإحساناً إليه. فلو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع وأن إحسانه يذهب باطلاً في حكم الشرع لما أقدم على ذلك. ولضاعت مصالح الناس. ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضاً.

باب اللقطة

وتعطلت حقوق كثيرة. وفسدت أموال عظيمة. ومعلوم أن شريعة الإسلام بهرت العقول وفاقت كل شريعة. واشتملت على كل مصلحة. وعطلت كل مفسدة تأبى ذلك. كل الإباء. وذكر أصولاً. ثم قال: وإنما الشأن فيمن عمل في مال غيره عملاً بغير إذنه ليتوصل بذلك العمل إلى حقه. أو فعله حفظاًًًً لمال المالك. وإحرازاً له من الضياع. فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله. وقد نص عليه أحمد في عدة مواضع. منها إذا حصد زرعه في غيبته. ومنها لو انكسرت سفينته فوقع متاعه في البحر فخلصه. فلو ترك ذلك لضاع. والمؤمنون يرون قبيحاً أن يذهب عمل مثل هذا ضائعاً. ومال هذا ضائعاً. ويرون من أحسن الحسن أن يسلم مال هذا. وينجح سعي هذا. باب اللُقَطة بضم اللام وفتح القاف. وهي مال أو مختص ضل عن ربه. وقال ابن رشد اللقطة بالجملة كل مسلم معرض للضياع كان ذلك في عامر الأرض أو غامرها. والجماد والحيوان في ذلك سواء إلا الإبل بالاتفاق. فاللقطة ثلاثة أقسام: ما لا تتبعه همة أوساط الناس كالتمرة والسوط. أولا كالشاة والمتاع. أو نحو ضوال الإبل. (عن أنسب) -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بتمرة في الطريق فقال لولا أني أخاف أن تكون) يعني تلك التمرة

(من الصدقة) والصدقة لا تحل له - صلى الله عليه وسلم - ولا لأهل بيته (لأكلتها متفق عليه) فدل على إباحة المحقرات في الحال. (وقال جابر) -رضي الله عنه- (رخص لنا - صلى الله عليه وسلم - في العصا والسوط والحبل وأشباهها) كشسع النعل والتمرة يلتقطه الرجل ينتفع به (رواه أبو داود) ورواه أحمد وغيره. وفي الحديثين ونحوهما دليل على جواز الانتفاع بما يوجد في الطرقات من المحقرات. كالتمرة والسوط والعصا ونحو ذلك مما لا خطر له. ولا يلزم دفع بدله. ولا يحتاج إلى تعريف لفعله - صلى الله عليه وسلم - وإرخاصه في ذلك. ولم تجرِ عادة المسلمين بالتعريف بمثل ذلك. وهو ظاهر قوله "لأكلتها" أي في الحال. وكذا متروك قصداً. وملقى لعجز. ولقاط ثمرة ونحو ذلك. (وعن زيد بن خالد) الجهني -رضي الله عنه- (قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن اللقطة) وهي مال ضل عن ربه (فقال اعرف عِفاصها) بكسر العين وعاءها التي تكون فيه النفقة جلداً كان أو غيره. من العفص. وهو الثني. لأن الوعاء يثنى على ما فيه. وفي رواية "خرقتها" (ووكاءها) بكسر الواو ممدود, ما يربط به الوعاء الذي تكون فيه النفقة. يقال أوكيته إيكاء فهو موكأ. وفي حديث أبي بن كعب "وجنسها وصفتها وعددها" وغير ذلك مما تتميز به (ثم عرفها سنة) أي اذكرها للناس في مظان اجتماعهم في الأسواق وأبواب المساجد أدبار الصلوات. والمجامع الحافلة ونحو ذلك.

يقول من ضاعت له نفقة ونحو ذلك. ولا يصفها بصفاتها. لأنه لا يُؤْمَن أن يدعيها من سمع ذلك. ويتوصل الكاذب به إلى أخذها وصحح النووي أن يذكر بعض الصفات ولا يستوعبها. ولا يجب التعرف بعد السنة غير الجمهور. وما ورد في البخاري وغيره من الزيادة على الحول. فقال ابن الجوزي وغيره خطأ من بعض الرواه. ثم ثبت واستمر على حول واحد. ولا يؤخذ إلا بما لا يشك فيه. لا بما يشك في راويه. فدل الحديث على وجوب التعرف لعفاصها ووكائها ونحو ذلك. ووجوب تعريفها سنة. وذلك يكون على المعتاد. كأن يكون في الابتداء كل يوم مرتين في طرفي النهار. ثم في كل يوم مرة. ثم في أسبوع ثم شهر. ولا يشترط أن يُعَرفها بنفسه. بل له توكيل غيره. ويعرفها في مكان وجودها وغيره وقال الشيخ قريبًا من المكان الذي وجدها فيه وقال الوزير وغيره اتفق فقهاء الأمصار: أنه إذا انقضت له أن يأكلها إن كان فقيراً. أو يتصدق بها إن كان غنياً. والجمهور له أكلها (فإن جاء صاحبها) أي فأعطه إياها. كما في صحيح البخاري. والمراد إذا وصفها بالصفات التي اعتبرها الشارع واتفقوا على أنها لا تُدفع إليه إذا لم يعرف العِفاص ولا الوِكاء ونحوه. وأنه إن غلط لم تدفع إليه. ويجب الرد بالوصف عند الجمهور. وهو ظاهر النص. ولا يحتاج إلى بينه ولا يمين. بل ربما يكون وصفها أظهر

وأصدق من البينة واليمين. ويدفع معها نماءها المتصل والمنفصل في حول التعرف. وبعده المنفصل لواجدها (وإلا فشأنك بها) أي فإن لم يأت صاحبها ويصفها فشأنك بها. وللبخاري "ثم كلها" وفي لفظ "فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك. فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فادفعها إليه" وفي رواية "فأدها إليه" بعد قوله "كلها" أي أد إليه بدلها. قال ابن رشد اتفق فقهاء الأمصار أن له أن يتصرف فيها. ثم قال مالك والشافعي له أن يتملكها. وكلهم متفقون على أنه إن أكلها ضمنها لصاحبها. إلا أهل الظاهر. ولا يضمن إن تلفت إلا بتفريط أو جناية. (قال: فضالة الغنم) الضالة تقال على الحيوان. وما ليس بحيوان يقال له لقطة (قال هي لك أو لأخيك أو للذئب) جنس معروف من السباع يأكل الشاة ونحوها. والحديث دليل على جواز أخذها. كأنه قال هي ضعيفة لعدم الاستقلال. معرضة للهلاك. مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك. وهذا حث على أخذها. لأنه إذا علم أنها إن لم يأخذها بقيت للذئب. كان ادعى له إلى أخذها. واتفقوا على أن لواجد الغنم في المكان القفر البعيد من العمران أن يأكلها. يعني بعد معرفة صفاتها. واجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط كان له أخذها. وإلا بدلها عند الجمهور. بل يخير بين ذبحها وعليه القيمة. أو بيعها ويحفظ ثمنها. أو ينفق عليها من ماله بنية

الرجوع ويفعل الأحظ. وكذا حكم كل طعام لا يبقى إذا خشي عليه التلف إن ترك. وهل التقاط اللقطة في الجملة أفضل؟ إن أمن نفسه على ذلك وقوي على التعرف. أم الترك؟ قال أبو حنيفة والشافعي الالتقاط أفضل. لأن من الواجب على المسلم حفظ مال أخيه. وقال مالك وأحمد الترك أفضل. لخبر " ضالة المؤمن حرق النار" وقيل واجب. وتأولوا الحديث على من أراد الانتفاع بها من أول الأمر قبل التعريف. والمراد ما عدا لقطة الحاج. فأجمعوا على أنه لا يجوز التقاطها. بل تترك في مكانها لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك. ولقطة مكة لا يجوز التقاطها إلا لمنشد. وقيل ثم تملك عند الجمهور بعد الحول للعموم. والتخصيص لتأكدها. وقال الشيخ لا تملك بحال للنهي عنها. ويجب تعريفها أبدًا. وهو رواية عن أحمد. واختاره طائفة من العلماء (قال فضالة الإبل) ويقال الهوامي والهوامل (قال مالك ولها) استفهام إنكار أي اتركها (معها سقاؤها) أي جوفها وقيل عنقها (وحذاؤها) بكسر الحاء المهملة فذال معجمة أي خفها (ترد الماء وتأكل الشجر) فحكم - صلى الله عليه وسلم - بأنها لا تلتقط بل تترك ترد المياه وتأكل الشجر. وذلك لشدة صبرها عن الماء لكثرة ما توعي في بطنها منه. وقوتها على وروده.

(حتى يلقاها ربها) إشارة إلى استغنائها عن الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش. وتناول المأكول بغير تعب. لطول عنقها. وقوتها على المشي وامتناعها من السباع. فلا تحتاج إلى ملتقط كما تقدم ما لم تكن بمهلكة. والحكمة أن بقاءها حيث ضلت أقرب إلى وجدان مالكها من تطلبه لها في رحال الناس (متفق عليه) وقال ابن رشد اتفقوا على أن الإبل لا تلتقط، والبقر والخيل والظباء ونحوها في معنى الإبل للعلة. وقال الشيخ وغيره لا يلتقط الطير والظباء ونحوها إذا أمكن صاحبها إدراكها. وأما إذا خيف عليها كما لو كانت بمهلكة أو في أرض مسبعة أو قريبًا من دار الحرب أو بموضع يستحل أهله أموال المسلمين أو ببرية لا ماء فيها ولا مرعى جاز أخذها. ولا ضمان على آخذها. لأنه إنقاذ لها من الهلاك. حتى لو قيل بوجوب أخذها والحالة ما ذكر لكان متوجهًا. (وللبخاري في ضالة الغنم: وهي تُعرَف) فدل على وجوب تعريفها. ومثل الغنم في جواز الالتقاط إذا أمن نفسه. ووجوب التعريف: فصلان وعجاجيل وأفلاء ونحو ذلك مما لا يمتنع من صغار السباع. وقال الموفق في الحمر الأهلية الأولى إلحاقها بالشاة لمساواتها لها في العلة. وأنها لا تمتنع من الذئب. وتفارق الإبل في علتها لذلك. ولكونها لا صبر لها عن الماء. ويملك اللقطة بشرطها بعد التعريف ملكًا حكميًا، للخبر مراعي.

(ولمسلم من آوى ضالة فهو ضال) أي ليس بمهتد. والمراد بالضالة هنا ما يحمي نفسه من إبل وبقر وخيل وبغال. ويقدر على الإبعاد في طلب المرعى والماء. بخلاف نحو الغنم. فالحيوان الممتنع من صغار السباع لا يجوز التقاطه. سواء كان كبير الجثة. كالإبل والبقر والخيل والبغال. أو يمنع نفسه بطيرانه كالطيور المملوكة. أو بنابه كالفهود المعلمة بجامع العلة في الإبل. وما سوى ذلك من نحو الغنم فحقه أن يعرف بها. فإذا أخذها من دون تعريف كان ضالًا أيضًا. لقوله: (ما لم يُعَرفها) ليردها للواصف لها. وظاهر هذه الأخبار وجوب التعريف. لأن الأمر يقتضي الوجوب. ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قد سمى من لم يعرفها ضالًا. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الضالة المكتومة غرامتها ومثلها معها. بل ولا يجوز التقاطها لمن لم يأمن نفسه عليها. وإلا فكغاصب. ومن التقط ما لا يجوز التقاطه زال ضمانه بدفعه إلى الإمام أو نائبه. ولا يبرأ برده إلى موضعه. وإلا باعها الملتقط بعد حول التعريف. قال الشيخ الأشبه أن المالك لا يملك انتزاعها من المشتري. وإنما على الملتقط بدلها. كما تقدم. (وله) أي لمسلم (عن أبي) ابن كعب -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (فإن جاء أحد) أي ممن يطلبها (يخبرك بعدتها) وفي لفظ أنه قال وجدت مائة دينار

فقال "عرفها حولًا" فعرفتها فلم تعرف فرجعت إليه فقال: اعرف عددها ووعاءها ووكاءها وجنسها وصفتها فإن جاء أحد يخبرك بعدتها (ووعائها ووكائها) وفيه جواز تأخير معرفة عدتها ونحوه إلى تمام الحول. والسنة أن يعرف ذلك حين يلتقطها. وبعضهم يقول يكتب صفتها مخافة النسيان. أو وارث لا يعلم ذلك (فأعطها إياه) أي فادفعها إليه إن كانت موجودة أو بدلها. وفيه جواز دفعها على من وصفها بالعلامات المذكورة من دون إقامة بينة. وهو مذهب الجمهور. وهذا فيما إذا كان لها عفاص ووكاء أو عدد. فإن كان لها البعض فيكفي ذكره. وإن لم يكن لها شيء من ذلك فلا بد من ذكر أوصاف مختصة بها. تقوم مقام وصفها بالأمور التي اعتبرها الشارع (وإلا فاستمتع بها) ظاهره غنيًا كان أو فقيرًا. والأمر بالاستمتاع للإباحة. وكذا قوله "فاستنفقها" ونحوه. وإن جاء صاحبها فترد العين إن كان موجودة أو البدل إن استهلكت. (ولأحمد) وغيره (عن عياض) ابن حمار -رضي الله عنه- (مرفوعًا) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال (فليشهد ذوي) أي صاحبي (عدل) على التقاطه. وقال ابن القيم في السنن الأمر بالإشهاد خوفًا من تسويل النفس وانبعاث الرغبة فيها. أو حدوث المنية فيحوزها الورثة في جملة التركة. ومذهب مالك وأحمد وغيرهما استحباب الإشهاد احتياطًا. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم

يأمر به في حديث زيد وغيره. ولو كان واجبًا لبينه (وليحفظ عفاصها ووكاءها ثم لا يكتم) أي لا يجوز كتم اللقطة إذا جاء صاحبها. وذكر من أوصافها ما يغلب الظن بصدقه. وفي لفظ "فإن جاء صاحبها فلا تكتم فهو أحق بها" وللبيهقي "وليعرف ولا يغيب". (فإن جاء ربها فهو أحق بها) أي من الملتقط. فهي مال صاحبها ضلت عنه. ثم وجدها فهي له (وإلا فهو مال الله) أضافه إلى الله تعالى. وله ما في السموات والأرض (يؤتيه من يشاء) فيجوز أن يصرفها في نفسه بعد التعريف المشروع. سواء كان غنيًا أو فقيرًا. للإطلاق. ولقوله "فاستمتع بها" وفي لفظ "فهي كسبيل مالك" وفي لفظ "فاستنفقها" وفي لفظ "فهي لك". (ولأبي داود عن سهل) ابن سعد الساعدي -رضي الله عنه- (أن عليًا) يعني ابن أبي طالب -رضي الله عنه- (وجد دينارًا في السوق فاشترى به طعامًا وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال كلوا) ولأبي داود أيضًا وغيره من حديث أبي سعيد أن عليًا أتى به فاطمة رضي الله عنها فسألت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال كلوا) فقال "هو رزق الله" فأكل منه وأكل علي وفاطمة (ثم جاء صاحبه فدفعوه إليه)، وفي حديث أبي سعيد ثم أتت امرأة تنشد الدينار فقال - صلى الله عليه وسلم - "يا علي أد الدينار" وروي من طرق بألفاظ لا تخلو من مقال. وحسنه الحافظ وغيره. وفي دليل على رد البدل.

وهو قول الجمهور. وأن اللقطة إذا كانت دراهم أو دنانير ليست بصرة ولا نحوها لا يجب تعريفها. وكذا إذا كان لا يرجى وجود صاحبها. وظاهر المنتهى وغيره يجب مطلقًا. (وقال ابن شهاب) الزهري (كانت ضوال الإبل في زمن عمر) ابن الخطاب -رضي الله عنه- يعني في خلافته. وهو الخليفة الراشد الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم - هو وأبو بكر "اقتدوا باللذين من بعدي" وقال "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" أي كانت الضوال (إبلًا مؤبلة) أي كثيرة متخذة للقنية (حتى إذا كان عثمان) أي في خلافة عثمان ثالث الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم (أمر بمعرفتها) أي صفة تلك الضوال لئلا تضيع على أصحابها (ثم تباع) أي تلك الضوال (فإذا جاء صاحبها) أي الضالة التي كانت مع تلك الضوال ووصفها بالصفات التي تتميز بها (أعطي ثمنها) فدل على جواز التقاط الإبل ودفعها إلى ولي الأمر. وجواز بيعها بعد معرفة صفاتها. وإذا جاء مالكها ووصفها دفع ولي الأمر أو نائبه إلى صاحبها ثمنها. (وعن عبيد بن حميد) ابن عبد الرحمن الحميري رحمه الله وقد وثقه بعضهم (عن الشعبي) عامر بن شراحيل الحميري الكوفي راوية يضرب به المثل مات سنة ثلاث ومائة رحمه الله (عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والشعبي قد لقي جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. ومجهولهم مقبول. وقد

باب اللقيط

سمع من نحو خمسين منهم (أنه قال) يعني النبي – - صلى الله عليه وسلم - (من وجد دابة) وظاهره العموم (قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيبوها فأخذها فهي له رواه أبو داود) وله عن الشعبي يرفعه "من ترك دابة بمهلكة فأحياها رجل فهي لمن أحياها" يعني بالسقي والعلف إلى أن قويت على المشي والركوب والحمل. ملكها بذلك. وإن تركها لا لرغبة عنها بل ليرجع إليها أو ضلت عنه فتقدم حكمها. وما يلقى في البحر خوفًا من غرق يملكه آخذه ولا يملك متاعًا ولا عبدًا. لأن المتاع لا حرمة له في نفسه، ولا يخشي عليه التلف. كما يخشي على الحيوان. ولأن العبد يمكنه في العادة التخلص إلى الأماكن التي يعيش فيها وإن انكسرت سفينته فاستخرجه قوم فهو لربه. وعلى الآخذ أجرة المثل. وإن وجد عنبرة على الساحل فله. وإن أخذ نعله ونحوه ووجد موضعه غيره فهو لقطة. له أحكام اللقطة. ويأخذ حقه منه بعد تعريفه. باب اللقيط بمعنى ملقوط. وهو طفل لم يميز وقيل من الولادة إلى البلوغ. ذكرًا كان أو أنثى. لا يعرف نسبه ولا رقه. نبذ في شارع أو غيره. أو ضل وأخذه فرض كفاية ويسن الإشهاد عليه.

(قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} فدل عموم الآية على وجوب التقاطه. ولأن فيه إحياء نفس معصومة. فوجب كإطعامه وإنجائه. (وعن واثلة) ابن الأسقع -رضي الله عنه- (مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (المرأة تحوز ثلاث مواريث عتيقها) ولا نزاع في ذلك (ولقيطها) وبه قال إسحاق وغيره. وقال ابن القيم وهو في غاية القوة اهـ. وإن صح الحديث فالقول ما قاله. والجمهور إنما لها الولاية لا الولاء. لحديث "إنما الولاء لمن أعتق" وإن لم يخلف وارثًا صرف ماله لبيت المال. فإن المسلمين خولوا كل مال لا مالك له (وولدها الذي لا عنت عليه) قال ابن القيم والقول به أصح الأقوال. وهو مقتضى الآثار والقياس. والحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وغيرهم و (حسنه الترمذي) وتكلم فيه بعضهم. وهو دليل على جواز التقاط المرأة للطفل. وحضانتها له. وصحة ولايتها عليه. فالحر العدل المكلف الرشيد أولى بالجواز بغير إذن حاكم. لأنه وليه. وإن كان الملتقط فاسقًا أو رقيقًا أو كافرًا. واللقيط مسلم. أو بدويًا ينتقل في المواضع. أو وجده في الحضر. وأراد نقله إلى البادية لم يقر بيده. (وقال عمر) ابن الخطاب -رضي الله عنه- (لأبي جميلة)

واسمه سنين أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهد عام الفتح، وكان وجد لقيطًا فأتى به عمر. فقال عريفي يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح. فقال أكذلك قال نعم، قال فاذهب فـ (ـهو حر) قال ابن المنذر. وأجمع عليه عوام أهل العلم. وقال الوزير اتفقوا على أنه حر وولاؤه لجميع المسلمين (ولك ولاؤه) أي ولايته فدل على أن اللقيط يقر في يد واجده الأمين. لأن عمر أقره في يده حين قيل له إنه رجل صالح (وعلينا نفقته) يعني من بيت مال المسلمين. وفي رواية من بيت المال. هذا إذا لم يكن له مال ينفق عليه منه. قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه إن وجد مع اللقيط مال أنفق عليه منه. فإن لم يوجد معه نفقة أنفق عليه من بيت المال اهـ. ولا تجب نفقته على الملتقط. فإنما هو محسن قام بفرض الكفاية. فإن الولاية هنا كالحضانة. ولا توجب الإنفاق بالاتفاق. وإن تعذر الإنفاق من بيت المال فعلى من علم حاله من المسلمين. فإن تركوه أثموا. قال وعلينا (رضاعه) أي في بيت المال (رواه سعيد) ابن منصور في سننه. وهو مسلم إذا وجد في دار الإسلام. وأما في بلد كفر لا مسلم فيه يمكن كونه منه فكافر. وما وجد معه من فراش أو ثياب أو مال في جيبه أو تحته ظاهرًا أو مدفونًا طريًا. أو متصلًا به كحيوان وغيره مشدودًا بثيابه. أو مطروحًا قريبًا منه. فهو له عملًا بالظاهر. ولأن له

يدًا صحيحة كالبالغ ينفقه عليه ملتقطه بالمعروف لولايته عليه ووليه في القتل العمد العدوان: الإمام يخير بين القصاص والدية. لأنه ولي من لا ولي له. والتخيير هنا تفويض النظر إليه في أصلح الأمرين وإن أقر رجل أنه ولده لحقه. ولا يلحق الكافر في دينه. ولا يلحق بامرأة حكاه ابن المنذر إجماعًا. وإن اعترف بالرق مع سبق مناف له لم يقبل منه. وكذا إن قال إنه كافر لم يقبل منه. لأنه محكوم بإسلامه. متى ولد في دار الإسلام بإسلام أبيه. وكذا بإسلام أمه اتفاقًا. وإن وجد في كنيسة أو بيعة أو قرية من قرى أهل الذمة فهو ذمي. (وله) أي لسعيد بن منصور في سننه (عن عمر) -رضي الله عنه- (أن امرأة وطئها رجلان في طهر فقال القائف قد اشتركا فيه فجعله بينهما) وذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر ذلك أحد منهم فكان إجماعًا. وكذا إن وطئ امرأة اثنان بشبهة أو جارية مشتركة بينهما في طهر واحد ونحو ذلك أو ادعى اللقيط اثنان فأكثر ولا بينة. أو تعارضت بينتاهما فلمن ألحقته القافة به. وإن ألحقته باثنين فأكثر لحقهم. لا بأكثر من أم. وإن ألحقته بكافر لم يحكم بكفره إلا ببينة مع بقاء أبويه ويلحق به نسبًا. قال الشيخ وغيره قد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعده القافة دليلًا من أدلة ثبوت النسب. وقال بعض الفقهاء ومن العجيب إنكار لحوق النسب بالقافة التي اعتبرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمل بها الصحابة من بعده.

باب الوقف

وحكم بها عمر رضي الله عنه. وإن وصفه أحدهما بعلامة خفية بجسده حكم له به عند الجمهور. والقافة قوم يعرفون الأنساب بالشبه. ولا يختص بقبيلة معينة. ويكفي واحد. وشرطه أن يكون عدلًا مجربًا في الإصابة. . ويكفي مجرد خبره. واختار ابن القيم وغيره أن قوله حكم لا رواية. باب الوقف الوقف لغة الحبس. يقال وقف الشيء أي حبسه. وكذا أحبسه وسبله بمعنى. وشرعًا تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. وتسمية الوقف وقفًا بمعنى أنه وقف على تلك الجهة ونحوها تأباه اللغة. والوقف مما اختص به المسلمون فلم يوجد قبل هذه الأمة. وشرطه أن يكون الواقف جائز التصرف. وأركانه الواقف والموقوف عليه. والصيغة التي ينعقد بها. ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه عرفًا. والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع في الجملة. (قال تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} والوقف من فعل الخير المأمور به. ومن أفضل القرب المندوب إليها {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} تسعدون وتفوزون بالجنة. فدلت الآية الكريمة على مشروعية الوقف في أعمال البر. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال

إذا مات ابن آدم) يعني العامل بطاعة الله (انقطع عمله) الذي كان يعمل في حياته (إلا من ثلاث) وفي لفظ "ثلاثة أشياء" وضحها بقوله (صدقة جارية) أي وقف كما فسره به أهل العلم (أو علم ينتفع به من بعده) كالتعليم والتصنيف. فيبقى من يرويه عنه. وينتفع به. وكذا كتب العلم النافع. ولو بالأجرة مع النية الصالحة. أو وقف الكتب النافعة (أو ولد صالح يدعو له) ذكرًا كان أو أنثى وشرط صلاحه ليكون الدعاء مجابًا (رواه مسلم) في كتاب الوقف لأنه فسر به. ورواه أحمد وأهل السنن وغيرهم. إلا ابن ماجه. والبخاري تعليقًا. والحديث دليل على أنه ينقطع أجر كل عمل بعد الموت إلا هذه الثلاثة الأشياء. فإنه يجري أجرها بعد الموت. ويتجدد ثوابها. لكونه كاسبًا لها. وفيه فضيلة الصدقة الجارية. والعلم الذي يبقى بعد موته. والتزوج الذي هو سبب وجود الأولاد. ولابن ماجه بلفظ "إنما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علم نشره. أو ولد صالح تركه. أو مصحف ورثه. أو مسجد بناه. أو بيت لابن السبيل بناه. أو نهر أجراه. أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته" ووردت خصال غير هذه نظمها السيوطي: إذا مات ابن آدم ليس يجري ... عليه من فعال غير عشر علوم بثها. ودعاء نجل ... وغرس نخل. والصدقات تجري

وراثة مصحف. ورباط ثغر ... وحفر البئر. أو إجراء نهر وبيت لغريب بناه يأوي ... إليه أو بناء محل ذكر (وعن ابن عمر قال أصاب عمر) -رضي الله عنهما- (أرضًا بخيبر) وللنسائي أنه كان لعمر مائة رأس فاشترى بها مائة سهم من خيبر. وهي المسماة بثمغ. كما في رواية لأحمد والبخاري (فقال يا رسول الله لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه) أنفس أي أعظم أو أكثر منه والنفيس الجيد. ويسمى الجيد نفيسًا لأخذه بالنفس (قال فما تأمرني) أي أن أصنع بتلك الأرض (قال إن شئت حبست أصلها) أي أصل الأرض التي لك بخيبر. فهذا أصل في أن الوقف شرعًا تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به (وتصدقت بها) أي بمنفعتها. وللبخاري "حبس أصلها وسبل ثمرتها" وله أيضًا "تصدق بثمره وحبس أصله". وعند الفقهاء ألفاظ الوقف الصريحة: وقفت وحبست وسبلت. والكنايات تصدقت وحرمت وأبدت. واشترطوا النية مع الكناية. أو اقترانها بأحد الألفاظ الخمسة أو حكم الوقف. وعند الشيخ وغيره يحصل الوقف بكل ما أدى معناه. وأنه لو قال جعلت ملكي للمسجد وفي المسجد ونحو ذلك صار وقفًا على المسجد (غير أنه لا يباع أصلها) وللدارقطني حبيس ما دامت السموات والأرض (ولا يوهب ولا يورث) وللبخاري "تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث" ولكن ينفق ثمره.

وأجاز أبو حنيفة بيع الوقف. وقال أبو يوسف لو بلغه هذا الحديث لقال به ورجع عن بيع الوقف. وقال القرطبي رد الوقف مخالف للإجماع. فلا يلتفت إلى قول أبي حنيفة. وتقدم قول "صدقة جارية" وللنسائي وغيره عن قتادة مرفوعًا "خير ما يخلفه الرجل بعده ثلاث منها: صدقة تجري يبلغه أجرها" فدلت هذه الأحاديث على لزوم الوقف. وأنه من أفضل القربات. وعلى عدم جواز نقضه. وأنه عقد لازم بمجرد القول أو الفعل. وإن لم يحكم به حاكم. وقال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم. فلا يجوز فسخه بإقالة ولا غيرها من واقف وغيره. لأنه مؤبد يتعذر الرجوع فيه بعد التحبيس. ومذهب الجمهور أنه تشترط فيه المنفعة دائمًا من معين ينتفع به مع بقاء عينه. وعند الشيخ أقرب الحدود في الموقوف أنه كل عين تجوز إعارتها (قال فتصدق بها عمر على الفقراء) وتقدم أنهم من لا يجدون شيئًا أو يجدون بعض الكفاية وإذا أفردوا دخل فيهم المساكين (وذوي القربى) أي: قربى عمر (والرقاب) يعني المماليك في فك رقابهم من الرق (وفي سبيل الله) أي وفي النفقة في سبيل الله يعني الجهاد (وابن السبيل) أي الطريق وهو المسافر المنقطع به (والضيف) وهو من نزل بقوم يريد القرى. وفيه أن الوقف من شرطه أن يكون على بر. لأن المقصود منه التقرب إلى الله.

وأما الشروط التي يذكرها كثير من الواقفين فخبر "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل". متفق على عمومه. وقال الشيخ إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة. وإلا كانت باطلة. فإن شرط فعلًا محرمًا ظهر أنه باطل. أو مباحًا لا قربة فيه كان أيضًا باطلًا. لأنه شرط شرطًا لا منفعة فيه لا له ولا للموقوف عليه. فيكون منفقًا للمال في الباطل. لا سيما والوقف محبس مؤبد. فيكون في ذلك ضرر على الورثة بحبس المال عنهم بلا منفعة. وضرر على المتناولين باستعمالهم بدون مصلحة دينية أو دنيوية. (لا جناح على من وليها) أي صدقته -رضي الله عنه- (أن يأكل منها بالمعروف) وهو القدر الذي جرت به العادة بأن العامل يأكل من ثمرة الوقف. حتى لو اشترط الواقف أن العامل لا يأكل لاستقبح ذلك منه. وقيل المراد أن يأخذ منه بقدر عمله. وفيه صحة شرط الأكل من الوقف واستثناء الغلة مدة حياته ونحو ذلك. فإن عمر -رضي الله عنه- كان هو الوالي على وقفه. مدة حياته. وكذا فعله جماعة من الصحابة. قال ابن القيم وهذا جائز بالسنة الصحيحة والقياس الصحيح. وهو مذهب فقهاء الحديث. واختار هو وشيخه صحة الوقف على نفسه. وفي الإنصاف عليه العمل في زماننا. وقبله عند حكامنا من أزمنة متطاولة وصوبه. ولو وقف على الفقراء فافتقر شمله الوقف. قال (أو

يطعم صديقًا) وفي لفط "أو يؤكل صديقًا له) وللبخاري وكان ابن عمر هو يلي صدقة عمر. ويهدي لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم (غير متأثل مالا) وهو اتخاذ أصل المال حتى كأنه عنده قديم. وفي لفظ "غير متمول مالاً" أي غير متخذ منها مالاً. أي ملكاً. والمقصود أنه لا يتملك شيئاً من رقابها. ولا يأخذ من غلتها ما يشتري بدله ملكاً. بل ليس له إلا ما ينفقه (متفق عليه) ورواه الخمسة وغيرهم بألفاظ متقاربة ولأحمد أنه أوصى بها إلى حفصة. ثم إلى الأكابر من آل عمر. وقال ابن عمر أول صدقة موقوفة كانت في الإسلام صدقة عمر. وتلقاه أهل العلم بالقبول. واتخذوه أصلًا في أحكام الوقف. (ولهما عن علي مرفوعًا من بني لله مسجدًا) يقصد وقفه لذلك سواء بناه بنفسه أو بني له بأمره (بنى الله له بيتًا في الجنة) ومن حديث عثمان يبتغي به وجه الله ولأحمد من حديث ابن عباس ولو كمفحص قطاة. فدل على فضيلة بناء المساجد. وعظم الجزاء على ذلك. وعلى صحة الوقف بالفعل الدال على التوقيف. وقد استدل البخاري وغيره بهذا الحديث وغيره على صحة وقف المشاع. وهو مذهب الجمهور. وحكى الوزير وغيره الاتفاق على جوازه. وفي قصة بناء مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يؤيد ذلك. فإنه قال ثامنوني حائطكم. فقالوا لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل.

فهذا ظاهر في جواز وقف المشاع. ولو كان غير جائز لأنكر عليهم صلوات الله وسلامه عليه. وقيل لا يصح وقف المجهول. وقال الشيخ المجهول نوعان: مبهم ومعين. مثل دار لم يرها. فمنع هذا بعيد. وكذلك هبته. فأما الوقف على المبهم فهو شبيه بالوصية له. وفي الوصية للمبهم روايتان: أن يوصي لأحد هذين أو لجاره محمد وله جاران بهذا الاسم ووقف المبهم مفرع على هبته وبيعه. وليس عن أحمد في هذا منع. وقال إذا كان الوقف على معين ولم يقبله فالتحقيق أنه ليس كالوقف المنقطع. بل الوقف هنا صحيح قولًا واحدًا. ثم إنه ينتقل إلى من بعده كما لو مات أو تعذر استحقاقه. (وعن عثمان) بن عفان -رضي الله عنه- (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال من يشتري بئر رومة) بضم الراء وسكون الواو. وتسمى بئر عثمان. مشهورة في العقيق. شمالي غربي المدينة. بقرب مسجد القبلتين. وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة. فقال "من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين" ففيه فضل وقف الماء. وأنه يجوز للواقف أن يجعل لنفسه نصيبًا من الوقف (يوسع بها على المسلمين) وكانت بيد رجل يغليها عليهم. ولذلك قال (بخير له منها في الجنة). وللبغوي كانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة وكان يبيع منها القربة بمد. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "تبيعنيها بعين في

الجنة" فقال يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها. فبلغ ذلك عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال (فاشتريتها من صلب مالي) أي أصله أو خالصه. وللبغوي بخمسة وثلاثين ألف درهم. ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أتجعل لي ما جعلت له. قال نعم قال قد جعلتها للمسلمين. والحديث رواه النسائي وغيره (حسنه الترمذي) وأخرجه البخاري تعليقًا. وللنسائي اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك. وقال ذلك أيضًا وهو محصور. وصدقه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. (وعن أبي هريرة مرفوعًا من احتبس فرسًا في سبيل الله) أي للجهاد في سبيل الله وتقدم تعريفه (إيمانًا واحتسابًا) وفي لفظ إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده أي من الثواب (فإن شبعه) بكسر أوله أي ما يشبع به وريه (وروثه) أي روث الفرس (وبوله) يوضع يوم القيامة (في ميزانه) حين توزن الأعمال (حسنات رواه البخاري) فدل الحديث على فضل الوقف في سبيل الله. وعلى جواز وقف الحيوان. وهو مذهب الجمهور. ويشهد له أيضًا ما تقدم من خبر عمر في نهي المتصدق من شراء ما تصدق به. وكان حمل على فرس في سبيل الله. وأراد المحمول بيعه برخص. فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر عن شرائه. ولخبر أم معقل أن ناضح زوجها جعله في سبيل الله. وقال البخاري باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت. وقال الشيخ ولو وقف منفعة يملكها كالعبد الموصى بخدمته. أو منفعة أم

ولده في حياته. أو منفعة العين المستأجرة. فإنه لا فرق بين وقف هذا. ووقف البناء والغراس. ولا فرق بين وقف ثوب على الفقراء يلبسونه. أو فرس يركبونه. أو ريحان يشمه أهل المسجد. وذكر أن التطيب منفعته مقصودة. لكن قد يطول بقاء مدة التطيب وقد يقصر. ولا أثر لذلك. قال وأقرب الحدود في الموقوف أنهكل عين تجوز إعارتها. (وتقدم أن خالدًا) يعني ابن الوليد -رضي الله عنه- (احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله) فدل على جواز وقف المنقولات من عروض وغيرها. وعلى صحة وقف الحيوان. فقد فسرت الاعتاد بالخيل. وهو مذهب الجمهور. (واحتبست حفصة) بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أم المؤمنين زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي وقفت (حليًا) وهو كل ما يتزين به من مصاغ الذهب والفضة (على آل الخطاب) أي أهل بيت الخطاب وقفًا حبسته عليهم فدل على جواز وقف الحلي وما في معناه. (وفي قصة كعب) ابن مالك -رضي الله عنه- لما نزلت {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ} إلى قوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم} قال (إن من توبتي) لتخلفه عن غزوة تبوك في قصته المشهورة ثم تاب الله عليهم فقال -رضي الله عنه- (أن أنخلع من مالي) أي أخرج من جميع مالي كله (صدقة)

مصدر في موضع الحال أي متصدقًا (إلى الله ورسوله) شكرًا لله أن تاب عليه وعفا عن تخلفه عن تلك الغزوة ففيه استحباب الصدقة شكرًا للنعم المتجددة (قال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (امسك عليك) أي استبق لك (بعض مالك) ولم يعين له بل وكله إليه (فهو خير لك) خشية أن يتضرر بالخروج من ماله بل أمره بالاقتصار على البعض خوفًا ألا يصبر على الإضاقة (رواه البخاري) ومسلم وغيرهما. ولأبي داود إن من توبتي أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة قال لا قلت نصفه قال لا قلت فثلثه قال نعم ولأحمد في قصة أبي لبابة حين قال إن من توبتي أن أنخلع من مالي كله. صدقة لله ورسوله فقال يجزئ عنك الثلث وخبر الصحيحين لم يعين له فيه قدرًا بل أطلق ووكله إلى اجتهاده في قدر الكفاية قال بن القيم وهو الصحيح فإن ما تقصي عن كفايته وكفاية أهله لا يجوز له التصدق به وما انفرد به أبو داود وغيره نظره وقصة أبي لبابة تقيد إطلاق حديث كعب حيث عزما على الصدقة وأجزأهما بعض المال ولم يحتاجا إلى إخراجه كله والجمع بين قصتيهما وقصة أبي بكر أنه - صلى الله عليه وسلم - عامل كلا منهم بما يعلم من حاله وتقدم. (ولعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور) وثبت أنه نهى عن اتباعهن الجنائز وهو مخصوص من عموم زوار القبور لوجوه

فصل في شرط الواقف وإبدال الوقف لحاجة وغير ذلك

(والمتخذين) أي ولعن البانين (عليها) أي على القبور (المساجد) فتعظم لأجل المقبور (و) لعن المتخذين عليها (السرج) رواه أهل السنن وصححه شيخ الإسلام فدل على تحريم الوقف على تنوير القبور. وعلى ستورها وتبخيرها. وعلى من يقيم عندها أو يخدمها. لأن الوقف على ذلك إعانة على الشرك. فلا يصح. قال ابن القيم الوقف على المشاهد باطل. وهو مال ضائع. فيصرف في مصالح المسلمين. فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ورسوله. فلا يصح على مشهد ولا قبر يسرج عليه ويعظم وينذر له. ويحج إليه ويعبد من دون الله. ويتخذ وثنًا من دون الله. وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام ومن اتبع سبيلهم اهـ. ولا يصح الوقف على كنيسة وبيعة وبيت نار وصومعة. لأنها بنيت للكفر. ولا يصح على نسخ التوراة والإنجيل. وكتب زندقة وبدع مضلة. لأنه إعانة على الكفر. فصل في شرط الواقف وإبدال الوقف لحاجة وغير ذلك المراد العمل بما يشترطه في وقفه من اعتبار وصف أو عدمه. أو جمع أو تقديم أو ترتيب أو ضده. ونظر وغير ذلك. ويلزم الوفاء بشرطه إذا كان مستحبًا خاصة. وقول بعض الفقهاء نصوص الواقف كنصوص الشارع يعني في الفهم

والدلالة. لا في وجوب العمل مع أن لفظ الواقف والموصي والناذر والحالف وكل عاقد يحمل على مذهبه وعادته في خطابه. ولغته التي يتكلم بها. وافق لغة العرب. أو لغة الشارع أو لا. فإن المقصود في الألفاظ دلالتها على مراد الناطق. والعادة المستمرة والعرف المستقر في الوقف يدل على شرط الواقف أكثر مما يدل لفظ الاستفاضة. قاله الشيخ. وقال ابن القيم شروط الواقف كنصوص الشارع في الدلالة. وتخصيص عامها. وحمل مطلقها على مقيدها. واعتبار مفهومها. كما يعتبر منطوقها. ولا نعدل بنصوص الشارع غيرها أبدًا. والصواب عرض شروط الواقف على كتاب الله وعلى شرطه. فما وافقه فهو صحيح وما خالفه باطل. (قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} أمر منه تعالى بالعدل في الأولاد ولفظ الولد يشمل الذكر والأنثى فإذا وقف على الفقير من ولده أو ولد غيره مثل شمل الذكر والأنثى. والأولى كالإرث اتباعًا للنص. واختاره الموفق وغيره. وإن فضل بعضهم لمقصود شرعي جاز وإلا فلا. وحكى الوزير الاتفاق على أنه إذا أوصى لولد فلان كان للذكور والإناث من ولده. وكان بينهم بالسوية. والأول أولى. واستنبط بعض أهل العلم أن الله أرحم بخلقه من الوالدة بولدها من هذه الآية.

حيث أوصى الوالدين بأولادهم. ثم بعد أولاده أو أولاد غيره لولد بنيه. وإن سفلوا لأنهم ولده وينتسبون إليه. ويستحقونه مرتبًا كقوله بطنًا بعد بطن. أو الأقرب فالأقرب. قال الشيخ ويستحق ولد الولد وإن لم يستحق أبوه شيئًا. ومن ظن أن الوقف كالإرث فإن لم يكن والده أخذ شيئًا لم يأخذ هو. فلم يقله أحد من الأئمة. ولم يدر ما يقول. ولهذا لو انتفت الشروط في الطبقة الأولى أو بعضها لم تحرم الثانية مع وجود الشروط فيهم إجماعًا. وقال إذا مات شخص من مستحقي الوقف وجهل شرط الواقف صرف إلى جميع المستحقين بالسوية. وإن قال على ولد فلان وولد ولده اشتركوا. لأن الواو تدل على التشريك. بخلاف ثم فتدل على الترتيب فلا يستحق البطن الثاني شيئًا من الوقف ما دام من البطن الأول مستحق. وإن قال من مات عن ولد فنصيبه لولده استحق كل ولد بعد أبيه نصيبه. لأنه صريح في ترتيب الأفراد. ويدخل فيه أولاد البنات. كما لو قال على ولد زيد فلان وفلان وفلانة. ثم أولادهم. أو على أولاده وفيهم بنات. أو قال من مات عن ولد فنصيبه لولده ونحو ذلك. وإن انقرض الموقوف عليهم أو لم يكن للوقف مصرف فقال بعضهم يكون لورثة الواقف وقفًا عليهم نسبًا بقدر إرثهم. وقال آخرون يكون ملكًا للورثة قال الشيخ وهذا أصح وِأشبه بكلام أحمد.

(وقال تعالى) في حق الذرية ودخول أولاد البنات فيهم {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} أي إبراهيم أو نوح {دَاوُودَ} وسليمان وأيوب ويونس (إلى قوله وعيسى ابن مريم) فدل على دخول أولاد البنات في ذرية الرجل. لأن عيسى إنما ينسب إلى إبراهيم بأمه مريم. فإنه لا أب له وروى ابن أبي هاشم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم - تجده في كتاب الله. وقد قرأته من أوله إلى آخره. فلم أجده قال أليس تقرأ سورة الأنعام {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} حتى بلغ (ويحيى وعيسى) قال بل قال أليس عيسى من ذرية إبراهيم. وليس له أب قال صدقت. فلهذا إذا وقف الرجل لذريته أو على ذرية زيد أو أوصى إليهم أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم. وهو إحدى الروايتين عن أحمد وغيره. (وقال - صلى الله عليه وسلم -) فيما رواه البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للحسن بن علي -رضي الله عنهما- (إن ابني هذا سيد) ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" فسماه صلوات الله وسلامه عليه ابنا. وهو أفصح العرب على الإطلاق. فدل على دخول ولد بنت الواقف في الأبناء. وللترمذي وصححه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لصفية بنت حيي "إنك لابنة نبي. وإن عمك لنبي. وإنك لتحت نبي" وذلك أنها من ذرية هارون. وعمها موسى. وبنو قريظة من ذرية هارون فسماه أبًا لها. وبينها وبينه آباء متعددون.

وقال "اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار. وأبناء أبناء الأنصار" وفي لفظ لذراري الأنصار. وذراري ذراريهم" صححه الترمذي. فدلت هذه الأحاديث على أن حكم الأبناء وأبناء الأبناء وبنات الأبناء وأبناء بنات الأبناء حكم الأبناء. فكذا في الوقف وغيره وأن الأولاد وأولاد الأولاد من باب أولى. ويشهد لذلك قوله "ابن أخت القوم منهم" وهذا مذهب طوائف من أهل العلم. وذهب بعضهم إلى عدم دخول أبناء البنات في لفظ الأبناء إلا بنص أو قرينة والله أعلم. (وقال عمر) -رضي الله عنه- (تليه حفصة) يعني بنت عمر إحدى أمهات المؤمنين رضي الله عنها (ما عاشت) وعاشت إلى سنة خمس وأربعين (ثم يليه ذو الرأي من أهله) فوليه بعدها ابنه عبد الله. فدل على اعتبار شرط الواقف في النظر سواء كان لنفسه. فإن عمر ولي وقفه في حياته أو لغيره بالتعيين. أو بالوصف. وسواء كان من أهل الوقف أو لا وإن أطلق ولم يشترط في معين فالنظر للموقوف عليه. وغير المعين للحاكم يولي عليه الأصلح. قال الشيخ ولا يجوز أن يولي فاسقًا في جهة دينية كمدرسة وغيرها مطلقًا. لأنه يجب الإنكار عليه وعقوبته. ويعتبر في ناظر إسلام وتكليف وكفاية للتصرف وخبرة به، وقوة عليه. ويضم لضعيف: قوي أمين. وفي أجنبي ولايته من حاكم أو ناظر عدالة. فإن فسق عزل. ومن واقف وهو فاسق أو فسق يضم

إليه أمين. وإن كان الموقوف عليه بجعل. أو لكونه أحق من غيره. فهو أحق مطلقًا. ووظيفته: حفظ الوقف وعمارته وإيجاره وزرعه ومخاصمته فيه. وتحصيل ريعه والاجتهاد في تنميته. وصرفه في جهاته. وغير ذلك. قال الشيخ وإن فرط سقط مما له بقدر ما فوته من الواجب عليه من العمل. قال وعليه أن لا يؤجر حتى يغلب على ظنه أنه ليس هناك من يزيد. وعليه أن يشهر المكان عند أهل الرغبات. فإن حابا به بعض أصدقائه كان ضامنًا. لما نقص أهل الوقف من أجرة المثل. قال -رضي الله عنه- (ينفق حيث يرى) أي أنه الأحق أو الأولى (من السائل والمحروم) أي الذي يسأل والذي لا يسأل فيحسب غنيًا فيحرم ولا مفزع له (وذوي القربى) أي قربى عمر -رضي الله عنه- (ولا حرج على من وليه) أي بالتعيين كحفصة. أو بالوصف كذي الرأي (إن أكل أو اشترى رقيقًا رواه أبو داود) وتقدم لا متأثلًا مالا وأنه لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف. وهو القدر الذي جرت به العادة. قال الشيخ ولا أعلم خلافًا أن من قسم شيئًا يلزمه أن يتحرى فيه العدل. ويتبع ما هو أرضى لله ورسوله. سواء استفاد القسمة بولاية كالإمام والحاكم. أو بعقد كالناظر والوصي. أو باستحقاق النظر كالموقوف عليه. وقال كل

متصرف بولاية إذا قيل له افعل ما تشاء. فإنما هو لمصلحة شرعية. حتى لو شرط الواقف بفعل ما يهواه أو ما يراه مطلقًا فهو شرط باطل. لمخالفته الشرع. وغايته أن يكون شرطًا مباحًا. وهو باطل على الصحيح المشهور. (وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة) زيد بن سهل بن الأسود بن حرام النجاري الأنصاري -رضي الله عنه- وذلك أنه قال يا رسول الله إن الله يقول {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} تمسك -رضي الله عنه- بعمومها. وقال إن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله. فضعها يا رسول بالله حيث أراك الله. فقال "بخ بخ ذاك مال رابح" مرتين "وقد سمعت (أرى) (أن تجعلها في الأقربين) ففيه دليل على فضل الصدقة على الأقربين. وهو من أفضل أعمال البر. ومن شرط الوقف أن يكون على بر. (فقال افعل) أي اجعلها في الأقربين (فقسمها) أبو طلحة (في أقاربه وبني عمه) وفيه تقديم الأقرب من الأقارب على غيرهم (متفق عليه) وللبخاري "اجعلها لفقراء قرابتك" ولمسلم فجعلها في حسان بن ثابت وأبي بن كعب. قال محمد بن عبد الله الأنصاري: أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان إلى حرام. وهو الأب الثالث. وأبي بن كعب بن قيس بن عتيك بن

زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار. فعمرو يجمع حسانًا وأبا طلحة وأبيًا. وبين أبي وأبي طلحة ستة آباء. ولما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين} دعا قريشًا فعم وخص. قال "يا بني كعب بن لؤي، يا بني مرة بن كعب يا بني عبد شمس يا بني عبد مناف يا بني هاشم. يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار" وذكر فاطمة ابنته وصفية عمته. فجميع من ناداهم يطلق عليهم لفظ الأقربين. فإذا وقف على قرابته أو قرابة زيد. أو أهل بيته أو قومه أو عشيرته. شمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وأولاد جده وإن علا. ويستوي الصغير والكبير والقريب والبعيد. والغني والفقير. لشمول اللفظ لهم. لا من يخالف دينه كحربي ومرتد. وكفقراء أهل الذمة. ويصح على ذمي معين لأن حفصة وقفت على أخ لها يهودي. وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي. وإن كان لا يمكن حصرهم واستيعابهم كبني هاشم وتميم لم يجب تعميمهم. وجاز تفضيل بعضهم على بعض. والاقتصار على أحدهم. لأن مقصود الواقف بر ذلك الجنس. وإن وقف مدرسة أو رباطًا ونحوهما على طائفة اختص بهم كعلى العلماء وهم أهل التفسير والحديث والفقه. وكالمتفقهة وهم طلبة الفقه. وكأهل الحديث وهم المشتغلون بالحديث. وإن عين إمامًا ونحوه تعين. أو عين للإمامة بمذهب تعين. ما لم يكن.

في شيء من أحكام الصلاة مخالفًا لصريح السنة. قال الشيخ يجب أن يولى في الوظائف الدينية وإمامة المساجد الأحق شرعًا. ومن لم يقم بوظيفته فلمن له الولاية أن يولي من يقوم بها إلى أن يتوب ويلتزم بالواجب. والنيابة في مثل هذه الأعمال المشروطة جائزة. ولو عينه الواقف. إذا كان مثل مستنيبه. ومن وقف على مدرسة أو فقهاء فللناظر ثم الحاكم تقدير أعطيتهم. ولو زاد النماء فهو لهم. ولو عطل وقف مسجد سنة تقسط الأجرة المستقبلة عليها. وعلى السنة الأخرى. لأنه خير من التعطيل. وقال ولا ينقص الإمام بسب تعطيل الزرع بعض العام. والأرزاق التي يقدرها الواقفون ثم يتغير النقد يعطي المستحق من نقد البلد ما قيمته قيمة المشروط. وله أن يفرض له على عمله ما يستحقه مثله. وقال تجب عمارة الوقف بحسب البطون. والجمع بين عمارة الوقف وأرباب الوظائف حسب الإمكان أولى. بل قد يجب. (وجعل الزبير) بن العوام -رضي الله عنه- (دوره) وقفًا (على بنيه) الذكور (لا تباع ولا توهب) وتقدم أن الأصل في الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة (وأن للمردودة) أي المطلقة (من بناته) المردودة إلى بيت أبيها أو غيره (أن تسكن) أي في تلك الدور الموقوفة (وإن استغنت بزوج) أي

كانت تحت زوج لم ترد (فلا حق لها في الوقف) وهذا نص في الاستحقاق حالة الرد. وعدمه حالة الاستغناء بالزوج. فمتى وجد نص أو وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عمل بها. أو فضل بعض أهل الوقف لغرض شرعي كالأفقه أو الأضعف ونحوهما. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لولا أن قومك) يعني قريشًا (حديثو عهد) وفي رواية لولا حدثان قومك (بجاهلية) وكانت تعظم أمر الكعبة جدًا فخشي أن يظنوا أنه غير بناءها لينفرد بالفخر عليهم (لنقضت الكعبة) قال فإن قريشًا حين بنت البيت استقصرت يعني على هذا المقدار لقصور النفقة (ولألصقتها بالأرض) "ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها من الحجر" وفي لفظ: "بابين" (ولأنفقت كنزها في سبيل الله) وهو: المال المجتمع مما يهدي إلهيا وفي رواية في بنائها فدل على جواز تغيير صورة الوقف للمصلحة. وهو مذهب الجمهور. وجواز صرف ما فضل عن حاجة الوقف في مثله. وفي سبيل الله وسائر مصالح المسلمين. وهو مذهب جمهور العلماء (رواه مسلم) وفيه ولأدخلت فيها من الحجر وتقدم ذكر ما فيه منها. (وللبخاري عن عمر) -رضي الله عنه- وكان جلس إليه شيبة بن عثمان بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الله بن عبد الدار. فقال له عمر (لقد هممت أن لا أدع فيها) يعني في

الكعبة المشرفة (صفراء) يعني من الذهب (ولا بيضاء) يعني من الفضة والمراد الكنز الذي بها. وهو ما كان يهدى إليها فيدخر مما يزيد عن الحاجة. أو مما كان يهدى إليها في الجاهلية تعظيمًا لها. فيجتمع فيها (إلا قسمتها بين المسلمين) قال شيبة ما أنت بفاعل. قال لم؟ قال لم يفعله صاحباك. فقال هما المرآن يقتدى بهما. وللبخاري أقتدي بهما. أراد عمر ذلك لكثرة إنفاقه في منافع المسلمين. قال الحافظ يحتمل أن تركه - صلى الله عليه وسلم - لذلك رعاية لقلوب قريش. كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم. وقال لولا قومك حديثو عهد بجاهلية وفيه ولأنفقت كنزها في سبيل الله. فهم عمر وتركه كترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدل على جواز صرف ما فضل عن حاجة الوقف ما لم يكن مانع. (ونقل) عمر -رضي الله عنه- (المسجد بالكوفة) وذلك أنه كتب إلى سعد لما بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نقب أن أنقل المسجد الذي بالتمارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد. فإنه لن يزال في المسجد مصل. وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان إجماعًا. فدل على جواز بيع الوقف وإبداله إذا تعطلت منافعه. كدار انهدمت أو أرض خربت وعادت مواتًا. ولم تمكن عمارتها. ولو شرط الواقف أن لا يباع إذًا. فشرط فاسد ويصرف ثمنه في مثله ومع الحاجة

يجب إبداله بمثله. وبلا حاجة يجوز بخير منه لظهور المصلحة. وهو قياس الهدي. وجوز شيخ الإسلام بيعه والمناقلة به لنقصه أو رجحان مغله. ولو لأجل ضيقه على أهله. أو خراب محله. ويصح بيع بعضه لإصلاح ما بقي. واتفقوا على أنه إذا خرب لم يعد إلى ملك الواقف. وما فضل عن حاجة المسجد يجوز صرفه في حاجة مسجد آخر. وفي سائر المصالح. وبناء مسكن لمستحقي ريعه القائمين بمصالحه. وكان شيبة بن عثمان الحجبي يتصدق بخلقان الكعبة. لما روى الخلال بإسناده أن عائشة أمرته بذلك. ولأنه مال الله لم يبق له مصرف فصرف إلى المساكين. وأما فضل موقوف على معين استحقاقه مقدم فيتعين إرصاده. وقال الشيخ إن علم أن ريعه يفضل دائمًا وجب صرفه. لأن بقاءه فساد له. وعلى نحو قنطرة فانحرف الماء يرصد لعله يرجع الماء. فيصرف عليها ما وقف عليها. وإلا فإلى أخرى. وعلى ثغر اختل في ثغر مثله. ومن ظهر عليه دين وقد وقف وقفًا مستقلًا ولم يمكن وفاء الدين إلا ببيع شيء من الوقف وهو في مرض الموت بيع بالإتفاق. وإن كان الوقف في الصحة فقال الشيخ وغيره ليس بأبلغ من التدبير. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - باع المدبر في الدين.

باب الهبة

باب الهبة بكسر الهاء. مصدر وهبت له وهبًا وهبة. والاتهاب قبول الهبة والاستيهاب سؤال الهبة. والهبة شرعًا التبرع من جائز التصرف بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيره. وتطلق بالمعنى الأعم على أنواع الإبراء. وهو هبة الدين ممن هو عليه. والصدقة وهي هبة ما يتمحض به طلب ثواب الآخرة. والهدية وهي ما يلزم الموهوب له عوضه. لأنه المعطي يقصد به الرفد والثواب. وقدر الثواب على العرف والعادة، أو قيمة الموهوب. أو ما يرضي الواهب. وتطلق بالمعنى الأخص على ما يقصد له بدل وقال الموفق الهبة والصدقة والهدية والعطية معانيها متقاربة. وكلها تمليك في الحياة بغير عوض. (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تهادوا) أي ليهد بعضكم لبعض (تحابوا) أي ليحب بعضكم بعضًا رواه البيهقي وأبو يعلى والبخاري. في الأدب المفرد و (حسنه الحافظ) وإن كان فيه مقال. فلشواهده. ولموقع الهدية في القلوب. (وللبزار) الحسن بن الصباح بن محمد أبو علي الواسطي البغدادي أحد أعلام السنة روى بسنده (عن أنس مرفوعًا تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة يعني الحقد وفي لفظ وتذهب وحر الصدر" وللترمذي عن أبي هريرة نحوه وله عن عائشة

تذهب الضغائن والهدية هي ما يقصد به إكرام شخص معين. إما لمحبة أو صداقة أو قضاء حاجة. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) يا نساء المسلمات (لا تحقرن جارة لجارتها) أي بهدية تهديها إليها (ولو فرسن شاة) بكسر الفاء والسين. وهو من البعير بمنزلة الحافر من الدابة. وربما استعير للشاة (متفق عليه) والمراد المبالغة في الحث على هدية الجارة لجارتها لا حقيقة الفرسن. لأنه لم تجدر العادة بإهدائه. وظاهره النهي للمهدي عن استحقار ما يهديه بحيث يؤدي إلى ترك الإهداء. ويحتمل أن المراد المهدي إليه لا يحتقرن ما أهدي إليه. ولو كان حقيرًا ويحتمل إرادة الجميع. وفيه الحث على التهادي. لا سيما الجيران. ولو بالشيء اليسير. لما فيه من جلب المحبة والتأنيس. ومن أعطى شيئًا يريد به التقرب إلى الله لمحتاج فصدقة. وإلى الشخص والمحبة له فهدية. وإلا فهبة وعطية ونحلة. والكل مندوب إليه إذا قصد به وجه الله. لا مباهات ورياء وسمعة. وقال الشيخ الصدقة أفضل من الهبة إلا لقريب يصل بها رحمه أو أخ له في الله. فقد تكون أفضل من الصدقة. وقال إعطاء المال ليمدح ويثنى عليه مذموم. وإعطاؤه لكف الظلم والشر عنه ولئلا ينسب إلى البخل مشروع. بل محمود مع النية الصالحة ويجوز للمهدي أن يبذل في دفع الظلم عنه. أو التوصل إلى حقه الذي ما يتوصل إلى أخذه إلا به. أو دفع

الظلم عنه. وهو المنقول عن السلف والأئمة. والأكابر. وفيه حديث مرفوع رواه أبو داود. (وقال) - صلى الله عليه وسلم - (لأم سلمة) لما تزوج بها إني (أهديت للنجاشي) واسمه أصحمة (حلة وأواقي من مسك ولا أراه) أي النجاشي (إلا قد مات) "ولا أرى هديتي إلا مردودة" (فإن ردت علي فهي لك) قالت وكان كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وردت عليه هديته فأعطي كل امرأة من نسائه أوقيه مسك. وأعطاني بقية المسك والحلة (رواه أحمد) ورواه الطبراني والحاكم وحسنه الحافظ. وفيه دليل على أن الهبة تصح وتملك بالإيجاب والقبول بأي لفظ دل عليه. وبأي فعل يقترن بما يدل على الهبة. وهو مذهب الجمهور. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخذ الهدية التي بعث بها إلى النجاشي بعد رجوعها دل ذلك على أن الهدية لا تملك بمجرد الإهداء بل لا بد من القبول بلفظ أو فعل دال عليه. وذهب الجمهور إلى أن الهدية لا تنقل إلى الهدى إليه وتلزم إلا أن يقبضها هو أو وكيله. ويشهد لقبول الهدية من رسول المهدي ما رواه أ؛ مد أيضًا وغيره عن عبد الله بن بسر أن أخته كانت تبعثه بالشيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تطرفه إياه فيقبله مني. وفي لفظ كانت تبعثني بالهدية فيقبلها. وكان عبد الله صبيًا مدة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الشيخ وتصح هبة المجهول: كقوله ما أخذت من مالي

فهو لك. أو من وجد من مالي فهو له. وتصح هبة المعدوم كالثمرة واللبن بالسنة. وفي جميع هذه الصور يحصل الملك بالقبض ونحوه. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لو دعيت إلى كراع) أو ذراع (لأجبت) والكراع هو ما دون الكعب من الدابة (ولو أهدى إلى كراع) أو ذراع (لقبلت رواه البخاري) وللترمذي وصححه عن أنس مرفوعًا "لو أهدي إلى كراع لقبلت. ولو دعيت إليه لأجبت" وهذا ترغيب منه - صلى الله عليه وسلم - في قبول الهدية وإن كانت من شيء يسير. وعند الطبراني عن أم حكيم قلت يا رسول الله تكره رد اللطف قال "ما أقبحه لو أهدى إلي كراع لقبلته" خطأ منه - صلى الله عليه وسلم - على إجابة الدعوة. ولو كانت إلى شيء يسير كالكراع. وعلى قبول الهدية ولو كانت شيئًا يسيرًا من كراع ونحوه. وعلى أنها تصح وتملك بالقبول. وأن الإيجاب والقبول ليسا شرطًا بل تصح وتملك بالمعاطاة الدالة على الهبة. ولأنه عليه الصلاة والسلام يهدي ويهدى إليه. وكذا أصحابه, ولو كان الإيجاب والقبول باللفظ شرطًا لنقل عنهم نقلًا متواترًا. وكان ابن عمر على بعير لعمر فقال - صلى الله عليه وسلم - لعمر بعنيه. فقال هو لك يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع ماشئت. وقال الموفق ولا خلاف بين العلماء في أن

تقديم الطعام بين يدي الضيفان والإذن في الأكل لا يحتاج إلى إيجاب وقبول. فمتى وجد ما يدل على التراضي بنقل الملك أكتفي به. وإنما يجب مع الإطلاق وعدم العرف القائم من المعطي والمعطي. وقال الشيخ صحح الجمهور الهبة بمثل آجرتك وأطعمتك وحملتك على هذه الدابة ونحو ذلك مما يفهم منه أهل الخطاب الهبة. قال وتجهيز المرأة بجهاز إلى بيت زوجها تمليك وأفتى به طوائف من اتباع الأئمة اهـ. والهبة المطلقة التي لم يشترط لها عوض لا تقتضي عوضًا ولو دلت قرينة على العوض كقضاء حاجة وشفاعة ونحو ذلك. وسواء كانت لمثله أو دونه عند جمهور العلماء. أو أعلى منه لأنه عطية على وجه التبرع. (وله) أي البخاري رحمه الله (عن عائشة) رضي الله عنها (كان) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يقبل الهدية) من مسلم وكافر ككسرى. وغير واحد من المشركين. كما هو مشهور عنه - صلى الله عليه وسلم - (ويثيب عليها) أي يعطي المهدي بدلها. والمراد بالثواب المجازاة. وأقله ما يساوي قيمة الهدية. فدل على أن عادته - صلى الله عليه وسلم - كانت جارية بقبول الهدية والمكافأة عليها. ولابن أبي شيبة "ويثيب عليها ما هو خير منها" ولأحمد وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال وهب رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقة فأثابه عليها فقال"رضيت" قال لا "فزاده" فقال "رضيت" قال

لا "فزاده" فقال "رضيت" قال نعم ورواه الترمذي وبين أن العوض ست بكرات. فتسن الإثابة على الهدية. لهذا الخبر وغيره قال الشيخ ومن العدل الواجب من له يد أو نعمة أن يجزيه بها. ولا ترد وإن قلت خصوصًا الطيب للخبر. ويجوز لأمور نحو لو يريد أخذها بعقد معاوضة أو لا يقنع بالثواب المعتاد. أو تكون بعد السؤال أو استشراف النفس. أو لقطع المنة. ويجب كهدية صيد صيد لمحرم. (وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (مرفوعًا: من أتى) أي صنع (إليكم معروفًا) أي إحسانًا والمعروف اسم جامع لكل ما ندب إليه الشرع من طاعة الله والإحسان إلى الناس (فكافئوه) أي جازوه عن المعروف الذي أسداه إليكم (فإن لم تجدوا ما تكافئوه) عند ذلك العرف (فادعوا له) أي كافئوه بالدعاء له (حتى تروا) بضم التاء أي حتى يغلب على ظنكم. وبفتحها حتى تعلموا (أنكم قد كافأتموه) أي جازيتموه على معروفه الذي صنع إليكم (رواه أبو داود) وغيره والعرف والغالب أن الواهب لا يهب إلا لغرض. فالهبة من الغني والأعلى ونحوهما للأدنى أكثر ما تكون كالصدقة. وللمساوي معاشرة لحسن العشرة. وجلب المودة. ولا يستريب العارف بتخالف الهدايا باعتبار حال المهدي

والمهدي إليه. فالمهدي لنحو الملوك غرضه التكسب. ومن مراده تحصيل المودة وصفاء ذات البين لا تهمه المكافأة. ومن غرضه التماس الثواب كالصدقة. وإن شرط فيها عوضًا معلومًا فهي بيع. وإن كان مجهولًا فقيل لا يصح. ويكون حكمها كالبيع الفاسد. وثبت عن ابن عمر أنه قال من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب عليها. وروي مرفوعًا وصححه الحاكم. والحديث فيه دليل على المكافأة. والأثر على جواز الرجوع فيها ما لم يثبت عليها. وعدم جواز الرجوع في المثاب عليها. وما ورد في الصحيحين من قوله - صلى الله عليه وسلم - "العائد في هبته كالعائد في قيئه" ونحو ذلك فالمراد به الرجوع في الهبة بعد أن تقبض. كما هو مذهب الجمهور. والغني يهب الفقير ونحو من يصل رحمه والصدقة يراد بها ثواب الآخرة وقال الحافظ اتفقوا على أنه لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد القبض. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن أبا بكر) الصديق -رضي الله عنه- (نحلها) أي أعطاها ووهبها ابتداء من غير عوض (جذاذ) أي صرام (عشرين وسقًا) أي ستين صاعًا. والمراد أنه يحصل من ثمرته عشرين وسقًا (بالغابة) المعروفة في المدينة المنورة من ماله بالعالية (فلما مرض) يعني أبا بكر -رضي الله عنه- (قال كنت نحلتك) أي أعطيتك في حال الصحة (ولو حزتيه) أي قبضتيه (لكان لك) لصحة الهبة إذ ذاك

(وإنما هو اليوم مال وارث) فاقتسموه على كتاب الله تعالى (رواه مالك) والبيهقي وغيرهما ولابن عيينة عن عمر نحوه. ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة حكاه الموفق وغيره. وقال المروذي اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة. كما لو مات الواهب. فدل على أن الهبة لا تملك وتلزم إلا بالقبض. وهو مذهب الجمهور. وأن قبض الثمر يكون بالجذاذ وما كان في يد متهب أو وديعة أو غصب أو نحوهما فيلزم بالعقد لأن قبضه مستدام. وقال الوزير اتفقوا على أنها تصح بالإيجاب والقبول والقبض. وتلزم به عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد. وعند مالك لا تفتقر صحتها ولزومها إلى القبض. ولكنه شرط في نفوذها وتمامها. لا في صحتها ولزومها. وأنه يقبض للطفل أبوه ووليه اهـ. ومن وهب غريمه من دينه برئت ذمته. وإن وقع الإبراء بلفظ الإحلال أو الصداقة أو الترك أو العفو أو نحو ذلك برئ. ولو لم يقبل لأنه إسقاط فلم يفتقر إلى القبول. (وعن جابر) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال العمرى) من العمر وهو الحياة سميت بذلك لأنهم في الجاهلية كان الرجل يعطي الرجل الدار ويقول له أعمرتك إياها أي أبحتها لك مدة عمرك وحياتك فقضى - صلى الله عليه وسلم - بها (لمن وهبت له) وهو مذهب جمهور العلماء أنها إذا وقعت كانت ملكًا للآخذ ولا ترجع إلى الأول. إلا أن يصرح باشتراط ذلك

(متفق عليه) وللخمسة "العمرى جائزة لأهلها. والرقبى جائزة لأهلها" والرقبى بوزن العمرى من المراقبة. لأن كلا منهما يرقب الآخر متى يموت لترجع إليه فقضى - صلى الله عليه وسلم - أنها لمن أعطيها. (زاد مسلم حيًا وميتًا) أي مدة حياته وبعد موته (ولعقبه) وأول الحديث "امسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها. فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًا وميتًا ولعقبه" ولأبي داود "لا ترقبوا ولا تعمروا فمن أرقب شيئًا أو أعمر شيئًا فهو لورثته" فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على مشروعيتها وأنها ملك لمن وهبت له. وهو مذهب العلماء إلا ما روي عن داود أنها لا تصح والأحاديث الصحيحة حجة عليه. وأن العمرى صحيحة في جميع الأحوال وأن الموهوب له يملكها ملكًا تامًا يتصرف فيه بالبيع وغيره. لتصريح الشارع بأنها لمن أعمرها حيًا وميتًا ولعقبه. وقال بعض أهل العلم إن قال هي لك ما عشت فإذا مت فإنها ترجع إلي فهي عارية صحيحة. ترجع إلى صاحبها. وكما لو أعمره شهرًا أو سنة. فإنها عارية إجماعًا. وقال الشيخ تصح العمرى وتكون للمعمر ولورثته. إلا أن يشترط المعمر عودها إليه فيصح الشرط. وهو قول طائفة من العلماء ورواية عن أحمد.

فصل في العطية

فصل في العطية أي في بيان حكم العطية ووجوب تعديل الوالد بين أولاده فيها. والعطية تمليك عين مالية موجودة مقدور على تسليمها معلومة أو مجهولة تعذر علمها في الحياة بلا عوض. قال الحارثي وغيره فهي مصدر. وليس عند أهل اللغة كذلك بل نفس الشيء المعطى. والجمع عطايا. وأما المصدر فالإعطاء. والاسم العطى. وأكثر المراد بالعطية هنا الهبة في مرض الموت. (عن النعمان بن بشير) -رضي الله عنه- (أن أباه أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -) ومن حديث جابر عند مسلم وغيره أن امرأة بشير وهي عمرة بنت رواحة قالت انحل ابني غلامًا وأشهد لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال) بشير (إني نحلت) أي أعطيت (ابني هذا غلامًا كان لي) يعني بلا عوض. فالنحلة: العطية بلا عوض ولا استحقاق؛ والهبة. ولابن حبان أخذ بيدي وأنا غلام. ولمسلم انطلق بي يحملني فهو إذ ذاك صغير السن حين جيء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء بألفاظ كثيرة والقصة مشهورة (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل ولدك نحلته مثل هذا) أي هذا الغلام (فقال لا قال فارجعه) ولمسلم "أردده " أي أردد ما نحلته ولدك هذا دون إخوته. (وفي لفظ انطلق بي) أي انطلق بشير بابنه النعمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ليشهده على صدقتي) أي على عطيته الغلام.

(فقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أفعلت هذا بولدك كلهم قال لا) ولمسلم من حديث جابر سأتلني أن أنحل ابنها غلامي فقال (له إخوة) قال نعم قال (فكلهم أعطيته مثل ما أعطيته) قال لا (قال فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ولمسلم أيضًا عن جابر "لا يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق" فدل على تحريم الشهادة على التفضيل تحملًا وأداء إن علم. ولأحمد وأبي داود والنسائي "اعدلوا بين أولادكم" ثلاث مرات ولأحمد "إن لنبيك عليك من الحق أن تعدل بينهم" (فرجع أبي في تلك العطية) أي ردها (متفق عليه) ولمسلم "فاشهد على هذا غيري" من باب التهديد. ثم قال "أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء"؟ قال بلى قال "فلا إذًا". فدل الحديث على وجوب العدل بين الأولاد في العطية. وهو قول جمهور أهل العلم. وفي بعض ألفاظ الحديث "لا أشهد على جور" قال ابن القيم وكل هذه ألفاظ صحيحة صريحه في التحريم والبطلان من عشرة أوجه تؤخذ من الحديث. وقال الشيخ الحديث والآثار تدل على وجوب التعديل بينهم في غير التمليك. وهو في ماله ومنفعته التي ملكهم. والذي أباحهم كالمسكن والطعام. قال ثم هنا نوعان: نوع يحتاجون إليه من النفقة في الصحة والمرض ونحو ذلك. فتعديله في أن يعطي كل واحد ما يحتاج إليه. ولا فرق بين محتاج قليل أو كثير. ونوع تشترك حاجتهم إليه من عطية أو نفقة أو تزويج

فهذا لا ريب في تحريم التفاضل فيه. وينشأ من بينهما نوع ثالث وهو أن ينفرد أحدهما بحاجة غير معتادة. مثل أن يقضي عن أحدهما ما وجب عليه من أرش جناية. أو يعطي عنه المهر. أو يعطيه نفقة الزوجية ونحو ذلك. ففي وجوب إعطاء الآخر مثل ذلك نظر. وتجهيز البنات بالنحل أشبه. والأشبه في هذا أن يكون بالمعروف. فلو كان أحدهما محتاجًا دون الآخر انفق عليه قدر كفايته. وأما الزيادة فمن النحل. قال ويتوجه في ولد البنين التسوية كآبائهم. ولا يجب بين سائر الأقارب الذين لا يرثونه كالأعمام والإخوة مع وجود الأب. وأما التسوية بين الذكور والإناث فقال ابن القيم وغيره عطية الأولاد المشروع أن تكون على قدر ميراثهم. لأن الله منع مما يؤدي إلى القطيعة والتسوية بين الذكر والأنثى مخالفة لما وضعه الشرع من التفضيل. فيفضي ذلك إلى العداوة ولأن الشرع أعلم بمصالحنا اهـ. وإن أعطاه لمعنى فيه من حاجة أو زمانة أو عمى. أو كثرة عائلة أو لاشتغاله بالعلم ونحوه كصلاحه. أو منع بعض ولده لفسقه أو بدعته. أو لكونه يعصى الله بما يأخذه ونحوه جاز التخصيص والتفضيل. وبدون معنى يخصه تجب التسوية برجوع حيث أمكن الرجوع فيما فضل به بعضهم على بعض أو بإعطاء المفضول ليستوي بمن فضل. ولو في مرض الموت. لأنه من العدل الواجب وإن مات قبل ذلك فقال الشيخ وغيره

للباقين الرجوع على المفضل. (ولهما عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (مرفوعًا العائد في هبته) أي الذي يهب شيئًا ثم يرجع فيه (كالكلب يقيء) أي يستخرج ما في جوفه (ثم يرجع) وفي لفظ ثم يعود (في قيئه) وهذا من أبلغ الزجر. وللبخاري "ليس لنا مثل السوء الذي يعود من أبلغ الزجر. وللبخاري "ليس لنا مثل السوء الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه" فدل على تحريم الرجوع في الهبة اللازمة. وهو مذهب جمهور أهل العلم. سواء عوض عنها أولًا. لأن الهبة المطلقة لا تقتضي ثوابًا إلا ما استثناه الشارع. وهو ما إذا وهب لولده فله الرجوع فيه. (وعنه مرفوعًا لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها) وفيه "مثل الرجل يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قاء ثم رجع في قيئه" إلا ما استثناه النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله (إلا الوالد فيما يعطي ولده) أي فله الرجوع بشرطه (رواه الخمسة) وغيرهم (وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم. قال الحافظ وغيره القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض مذهب جمهور العلماء. إلا هبة الوالد لولده فيجوز له أن يرجع فيما وهب لابنه. وهذا مذهب الجمهور. وذلك بأن يكون ما وهبه عينًا باقية في ملك الابن. وباقية في تصرفه. وأن لا تزيد عند الولد زيادة متصلة. وأن لا يكون الأب قد أسقط حقه من الرجوع. وإن أفلس الابن وحجر عليه فلا رجوع للأب.

وكذا قال الشيخ ما لم يتعلق به حق رغبة. فلا يرجع بقدر الدين. ولا بقدر الرغبة. وعموم لفظ الوالد يدل على أن للأم الرجوع كالأب. ولأنه طريق إلى التسوية وربما لا يكون لها طريق غيره. ولأنها ساوته في تحريم تفضيل بعض ولدها. فينبغي أن تساويه في التمكن من الرجوع فيما فضلت به تخليصًا لها من الإثم. وإزالة التفضيل المحرم. قال الموفق وهذا الصحيح إن شاء الله تعالى. (ولهم) أي وللخمسة وابن حبان والحاكم وغيرهم (من حديث عائشة) رضي الله عنها أي أنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم) سواء كان عملًا بيد أو اتجار أو غير ذلك من أنواع المكاسب المباحة (وإن أولادكم من كسبكم حسنه الترمذي) وفي لفظ "ولد الرجل من أطيب كسبه. فكلوا من أموالهم هنيئًا " رواه أحمد. (ولابن ماجه من حديث جابر: أنت ومالك لأبيك) وذلك أن رجلًا قال يا رسول الله إن لي مالًا. وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال ذلك. ولفظ أبي داود من حديث عمرو بن شعيب إن لي مالًا وولدًا وإن والدي يريد أن يجتاح مالي فقال: "أنت ومالك لأبيك. إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئًا " وفي البزار وغيره عن سمرة وغيره نحوه. وبمجموعها تدل على أن للوالد الأخذ والتملك والأكل من مال ولده ما لم يضره ولا يحتاجه. قال الشيخ له

التملك من مال ولده ما لم يتعلق به حق كالرهن والفلس. وإن قوله "أنت ومالك لأبيك" يقتضي إباحة نفع نفسه كإباحة ماله. وإنه يجب على الولد خدمة أبيه. ويقويه جواز منعه من الجهاد والسفر ونحو ذلك فيما يفوت انتفاعه به. لكن هذا يشترك فيه الأبوان. واشترط بعض أهل العلم ستة شروط: أن يكون ما يأخذه من مال ولده فاضلًا عن حاجة الولد. وأن لا يعطيه لولد آخر. وأن لا يكون في مرض موت أحدهما. وأن لا يكون الأب كافرًا والابن مسلمًا. وأن يكون عينًا موجودة. والسادس حصول تملكه بقبض مع قول أو نية. وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه إلا بنفقته الواجبة عليه. وله المطالبة بعين مال له بيد أبيه. وإن مات رجع الابن بدينه في تركته. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أي الصدقة أفضل) وأعظم أجرًا قال "أما وأبيك لتفتأن" من الفتيا وفي نسخة "لتنبأن" من النبأ (قال أن تصدق) بتخفيف الصاد. وأصله أن تتصدق (وأنت صحيح) أي سليم من مرض مخوف (شحيح) أي حريص على الضنة بالمال. وهو الجامع للبخل مع الحرص. فهو أبلغ منه (تأمل الغنى) أي تطمع في الغنى (وتخشى الفقر) فمجاهدة النفس حينئذ على إخراج المال آية صحة القصد وقوة الرغبة. فكان ذلك أفضل. لأن صحة البدن تجعل للمال موقعًا في القلب. لما يأمله من

البقاء. والمرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه. فاشترطت صحة البدن في الشح بالمال. وحيث أن الشح غالبًا في الصحة. فالسماح فيه بالصدقة أصدق في النية وأعظم للأجر. بخلاف من يئس من الحياة. ورأى مصير المال لغيره (ولا تمهل) أي لا تؤخر الصدقة في الصحة (حتى إذا بلغت الحلقوم) أي قاربت الروح بلوغ الحلقوم. وهو الوصول إلى مجرى النفس عند الغرغرة ولم تبلغه بالفعل. إذ لو بلغته لما صح تصرفه (قلت لفلان كذا) أي لمن يعطيه أو يوصي له (ولفلان كذا) أي لمن يعطيه. أو يوصي له أيضًا على سبيل المثال (وقد كان لفلان) يعني الوارث (متفق عليه). فدل على أن التصدق في حال الصحة أفضل منه في حال المرض. لأنه في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالبًا. لما يخوفه به الشيطان. ويزين له من إمكان طول العمر. والحاجة إلى المال. كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} وللترمذي وصححه "مثل الذي يعتق ويتصدق عند موته مثل الذي يهدي إذا شبع" ولأبي داود "لأن يتصدق الرجل في حياته وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة" وفي معنى ذلك قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وجاء في فضل الصدقة آيات وأحاديث كثيرة. منها {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} وخبر "والصدقة تطفيء الخطيئة" وغير

ذلك فدل على فضلها في الصحة وجوازها عند الموت قبل الغرغرة. (ولمسلم) وغيره (عن عمران بن حصين) -رضي الله عنه- (أن رجلًا أعتق في مرضه) أي الذي مات فيه (ستة أعبد) قال القرطبي ظاهره أنه نجز عتقهم في مرضه. ولأحمد عن أبي زيد عند موته (لم يكن له مال غيرهم) أي غير ستة الأعبد (فاستدعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم أثلاثًا) أي اعتبر عدد أشخاصهم (فأعتق اثنين وأرق أربعة) وقال له قولًا شديدًا وفي لفظ فجاء ورثته من الأعراب فأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما صنع. قال "أو فعل ذلك؟ لو علمنا إن شاء الله ما صلينا عليه" ولأحمد "لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين" قاله تغليظًا شديدًا وذمًا بليغًا. لأن الله لم يأذن للمريض بالتصرف إلا في الثلث. فإذا تصرف في أكثر منه كان مخالفًا لحكم الله. مشابهًا لمن وهب غير ماله. وحكي الإجماع على أن تصرفات المريض لا تجوز بأزيد من الثلث لمن له وارث لهذا الخبر وغيره. ولابن ماجه وغيره "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم " وقال سعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بشطر مالي قال "لا" قال فالثلث قال: "الثلث والثلث كثير" ففيها ونحوها أن تبرع المريض مرضًا مخوفًا متصلًا بالموت بعتق أو عطية أو هبة أو نحوها لا يصلح إلا من الثلث عند الموت. وهو مذهب جمهور

العلماء أبي حنيفة ومالك وأحمد وأحد قولي الشافعي. والمراد بالمرض المخوف كبرسام وذات الجنب ووجع قلب ودوام قيام ورعاف. وأول فالج وآخر سل. والحمى المطبقة ومثله من وقع الطاعون ببلده. أو كان بين الصفين عند التحام حرب. أو في لجة بحر عند هيجانه. أو قدم أو حبس للقتل. ونحو ذلك. قال الشيخ وأقرب ما يقال ما يكثر حصول الموت منه. فلا يلزم تبرعه بما فوق الثلث. ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لهما إن مات منه. وإن عوفي من ذلك فتبرعه كتبرع الصحيح في نفوذ عطاياه كلها. وكذا من مرضه غير مخوف كصداع يسير ووجع ضرس ونحو ذلك. لأنه في حكم الصحيح. وإن ملك من يعتق عليه بهبة أو وصية. أو أقر أنه أعتق ابن عمه في صحته عتق من رأس المال. لأنه لا تبرع فيه. بل كالحقوق التي تلزم بالشرع. وإن اشترى في مرضه المخوف من يعتق عليه ويرث منه كأبيه ونحوه عتق من الثلث وورث. وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدره. وإن قال أنت حر آخر حياتي عتق وورث. وإن دبره عتق ولم يرث. وإن ضاق الثلث عن العطايا في مرض الموت والوصايا قدمت العطايا لأنها لازمة ويبدأ بالأول فالأول في العطايا. ويعتبر القبول لها عند وجودها ويثبت الملك إذًا وإن اتهموا المريض بالتبرع زيادة

باب الوصايا

على الثلث مثل أن يتصدق أو يهب أو يحابي ولا يحسب ذلك. أو خافوا أن يعطي بعض المال لإنسان يمتنع عطيته ونحو ذلك. فقال الشيخ يملك الورثة أن يحجروا على المريض إذا اتهموه. وكذلك لو كان المال بيد وكيل أو غير ذلك أو مضارب وأرادوا الاحتياط على ما بيده. بأن يجعلوا معه يدًا أخرى فالأظهر أنهم يملكون ذلك. وهكذا يقال في كل عين تعلق بها حق الغير. وقال نكاح المريض في مرض موته صحيح. وترث المرأة في قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين. ولا تستحق إلا مهر المثل لا الزيادة عليه. بالاتفاق وقال ابن رشد دلت الدلائل على أنه إن قصد بالنكاح خيرًا لا يمنع. وإن دلت على أنه قصد الإضرار بورثته منع. كما في أشياء من الصنائع. باب الوصايا جمع وصية. من وصيت الشيء إذا وصلته. فالموصي وصل ما كان له في حياته بما بعد موته. واصطلاحًا الأمر بالتصرف بعد الموت. أو التبرع بالمال بعده. قال ابن رشد الوصية بالجملة هي هبة الرجل ماله لشخص آخر أو لأشخاص بعد موته. أو عتق غلامه. سواء صرح بلفظ الوصية أو لم يصرح به. وهذا العقد عند أهل العلم من العقود الجائزة اهـ. وتصح من البالغ الرشيد. ومن الصبي العاقل والسفيه

بالمال. ومن الأخرس بإشارة مفهومة. وإن وجدت وصية إنسان بخطه الثابت ببينة أو إقرار ورثته صحت. وقال الشيخ تصح الوصية بالرؤيا الصادقة المقترنة بما يدل على صدقها لقصة ثابت بن قيس. والأصل في الوصية الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} أي فرض عليكم {إِذَا حَضَرَ} أي جاء {أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي أسبابه وآثاره من العلل والأمراض {إِن تَرَكَ خَيْرًا} أي مالًا كثيرًا عرفًا ورجح الموفق أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة لم تستحب الوصية لقوله "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة" وقال الشعبي ما من مال أعظم أجرًا من مال يتركه الرجل لولده يغنيهم به عن الناس {الْوَصِيَّةُ} {لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} لا يزيد على الثلث ولا يوصي للغني ويدع الفقير أو من غير إسراف ولا تقتير. وكان ذلك واجبًا في ابتداء الإسلام للوالدين والأقربين على من مات وله مال ثم نسخت بآية الميراث. وقال - صلى الله عليه وسلم - "إن الله قد أعطى كل ذي جق حقه فلا وصية لوارث" فرفع حكم أهل الفروض والعصبات بالكلية. وبقي الأقارب الذين لا ميراث لهم. يستحب أن يوصي لهم من الثلث فما دونه في قول عامة أهل العلم. استئناسًا بهذه الآية الكريمة وما اشتملت عليه وبينته السنة مما سيأتي وغيره. ومنها الحديث القدسي "ابن آدم جعلت لك نصيبًا في مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك به

وأزكيك" فالوصية لمن له مال مستحبة قال الوزير أجمعوا على أنه مستحبة مندوب إليها لمن لا يرث الموصي من أقاربه وذوي أرحامه. وقال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء إذا كانوا ذوي حاجة. لأن الله كتب الوصية للوالدين والأقربين فخرج منه الوارثون بقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا وصية لوارث" وبقي سائر الأقارب على الوصية لهم. وأقله الاستحباب فإن أوصي لغيرهم وتركهم صحت في قول أكثر أهل العلم. وإن لم يكن له قريب منه فقير فللمساكين. وعالم ودين ونحوهم. وأجمعوا على أن من كانت ذمته معلقة بأمانة أو دين ونحو ذلك فالوصية واجبة عليه. وأن الوصية غير واجبة لمن ليس عنده أمانة يجب عليه الخروج منها. ولا عليه دين. أو عليه ولا يعلم من هو له. أو ليس عند وديعة بغير إشهاد. (وقال {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} أي الإرث من بعد وصية إن كان أو دين إن كان. والإرث مؤخر عن كل واحد منهما إجماعًا. وللترمذي وغيره عن علي -رضي الله عنه- "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدين قبل الوصية" قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم فيخرج الواجب كله من دين لله أو لآدمي من كل ماله. وإن لم يوص به وإنما قدم الوصية لأنها كانت على وجه البر والصلة والدين يقع بعد الميت بنوع تفريط. بدأ بالوصية لكونها أفضل. أو لأن الوصية شيء يؤخذ

بغير عوض فكان إخراج الوصية أشق على الوارث من إخراج الدين فبدأ بها. أو لأنها حظ الفقير غالبًا. والدين حظ الغريب ويطلبه بقوة. أو قدمت لأجل ذلك كله وغيره. ولا نزاع في أن الدين مقدم على الوصية. {غَيْرَ مُضَآرٍّ} أي لتكن وصيته على العدل. لا على الإضرار والجور والحيف بأن يحرم بعض الورثة أو ينقصه أو يزيده على ما فرض الله له من الفريضة. أو يجاوز الثلث في الوصية أو غير ذلك مما يخالف السنة. فقيد تعالى ما شرعه من الوصية بعدم الضرار. فتكون الوصية المشتملة على الضرار باطلة لمخالفتها لما شرعه الله تعالى. وللترمذي وغيره وحسنه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا "إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار" ثم قرأ أبو هريرة {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ} إلى قوله {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم}. وفي هذا الوعيد الشديد لأن مجرد المضارة في الوصية إذا كانت من موجبات النار بعد العبادة الطويلة في السنين المتعددة فلا ريب أنها من أشد الذنوب. وعن ابن عباس وصية الضرار من الكبائر. (وعن أبي الدرداء) عويمر بن عامر الأنصاري الخزرجي أسلم يوم بدر وشهد أحدًا وولاه معاوية قضاء دمشق أيام عمر

ومات في أيام عثمان رضي الله عنهم (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) وذلك أن الميت ينتقل عنه ماله بالموت إلى ورثته وإنما أذن له بالثلث ليتقرب به إلى الله (عند وفاتكم) يعني ما يتقرب به مما يخلف (زيادة في حسناتكم ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم) وتقدم "أو صدقة جارية" لما ذكر أن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث (رواه الدارقطني) ونحوه لأحمد وابن ماجه والبزار. وسكت عليه الحافظ في التخليص. وفيه وما في معناه دليل على أن الإذن بالتصرف في ثلث المال عند الوفاة من الألطاف الإلهية. والتكثير للأعمال الصالحة. وهو من الأدلة على اشتراط القربة في الوصية. (وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ما حق امرئ) ولابن عبد البر لا يحل لامرئ (مسلم) وقال الشافعي والخطابي وغيرهما ما الحزم والاحتياط لمسلم (له شيء يريد أن يوصي فيه) بتصرف بعد الموت أو تبرع بمال بعده (يبيت ليلتين) ولمسلم "ثلاث" والمراد لا يمضي عليه زمان ,عن كان قليلًا (إلا ووصيته مكتوبة عنده) لأنه لا يدري متى يأتيه منيته فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك (متفق عليه) وذكر المسلم لتقع المبادرة إلى الامتثال لما يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك. وإلا فوصية الكافر جائزة في الجملة. وحكى ابن المنذر فيه الإجماع. قال ابن عمر -رضي الله عنهما- لم أبت ليلة منذ

سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ووصيتي عندي. وتقدم الإجماع على الندب عليها. وأن المراد الحزم والاحتياط. لئلا يفجأه الموت وهو على غير وصية. وتفويض الأمر إلى إرادة الموصي يدل على عدم الوجوب. بخلاف من عليه حق شرعي يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به كالدين والوديعة ونحوهما. فترجح قول الجمهور أن الوصية غير واجبة بعينها. وإنما الواجب بعينة الخروج من الحقوق الواجبة للغير. سواء كان بتنجيز أو وصية. ومحل وجوب الوصية إذا كان عاجزًا عن تنجيزه ولم يعلم بذلك غيره ممن يثبت الحق بشهادته. وقالوا لا يندب أن يكتب جميع الأشياء المحقرة. ولا ما جرت العادة بالخروج منه. والوفاء به عن قرب. وفي الحديث دليل على جواز الاعتماد على الكتابة والخط. ولو لم يقترن ذلك بالشهادة. فإذا عرف خط الموصي عمل به. ومثله خط الحاكم. وعليه عمل الناس قديمًا وحديثً. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث الكتب وتقوم بها الحجة. ما جرت به عادة الناس من كتب الشاهدين ونحو ذلك فليس فيه نص من الشارع. واستحبه بعضهم قطعًا للنزاع. واحتياطًا وحفظًا لما فيها. وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن أنس موقوفًا: كانوا يعني أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتبون في صدور وصاياهم هذا ما أوصى به فلان ابن فلان. أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأن محمدًا عبده ورسوله. وأن الساعة آتية لا ريب

فيها وأن الله يبعث من في القبور. وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين. وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} وفي وصية أبي الدرداء وغيره نحو ذلك. (ولهما عن سعد بن أبي وقاص) -رضي الله عنه- (قلت يا رسول الله أنا ذو مال) وفي رواية كثير أو كبير (ولا يرثني إلا ابنة لي) واحدة قاله في حجة الوداع. ثم ولد له بعد ذلك قيل أكثر من عشرة. ومن البنات اثنتا عشرة (أفأتصدق بثلثي مالي؟) وفي لفظ أوصي بثلثي مالي (قال لا قولت فالشطر قال لا) وفي لفظ قلت أفأتصدق بشطر مالي أي النصف (قال لا قلت فالثلث) أي أتصدق بثلثه (قال الثلث والثلث كثير) وصفه بالكثرة بالنسبة إلى ما دونه وأن الأولى الاقتصار عليه. كما قال ابن عباس وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع في الوصية. (إنك أن تذر) بفتح الهمزة وكسرها (ورثتك أغنياء) عبر - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الورثة ولم يكن له إذ ذاك إلا ابنة لكون الوارث لم يتحقق أو لوجود أولاد أخيه وإنما قال سعد ذلك بناء على موته في ذلك المرض (خير من أن تذرهم عالة) أي فقراء جمع عائل (يتكففون الناس أي يسألون الناس بأكفهم. فعلل كثرة الوصية بذلك. وفيه دليل على منع الوصية بأكثر من الثلث لمن

له وارث. وعلى هذا استقر إجماع أهل العلم. واستحب الجمهور الأقل من الثلث. كما ذهب إليه ابن عباس. وبه أوصى أبو بكر وعمر: أبو بكر بالخمس. وعمر بالربع. قال قتادة والخُمس أحبّ إليَّ. وقال الموفق وغيره هو أفضل للغني. وقال الوزير أجمعوا على أنه إنما يستحب للموصي أن يوصي بدون الثلث مع إجازتهم له عملا بإطلاق النصوص. وقوله "إنك أن تذر ورثتك أغنياء" يشعر باعتبار الورثة. وقال ابن القيم الصحيح أن له ذلك. لأنه إنما منعه الشارع فيما زاد على الثلث إذا كان له ورثة. فمن لا وارث له لا يعترض عليه فيما صنع في ماله. فتجوز وصيته إذًا بكل ماله. إذا لم يكن له ورثة لا بفرض ولا عصبة ولا رحم ولا ولاء ولا نكاح. ولو ترك زوجًا أو زوجة لا غير. وأوصى بجميع ماله ورد أحد الزوجين بطلت بقدر فرضه من الثلثين. ولو أوصى أحد الزوجين للآخر بماله كله وليس له وارث غير الزوج أخذ المال كله فرضًا ووصية. وإن لم يف الثلث بالوصايا فالنقص بالقسط عند الجمهور فيتحاصون لا فرق بين متقدمها ومتأخرها والعتق وغيره لأنهم تساووا في الأصل. وإن تفاوتوا في المقدار. فوجبت المحاصة كمسائل العول. وهذا مذهب جمهور العلماء أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم. وإن قال أدوا الواجب من ثلثي بدئ به من الثلث فإن فضل شيء من الثلث أخذه صاحب التبرع.

وإلا سقط التبرع إلا أن يجيز الورثة ولا يعتبر القبول ولا يثبت الملك إلا بعد الموت قال الوزير: أجمعوا على أن لزوم العمل بالوصية إنما هو الموت. واتفقوا أنها إنما تلزم بعده. (وللخمسة) إلا أبا داود من حديث عمرو بن خارجة. ولهم إلا النسائي من حديث أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (إن الله أعطى كل ذي حق حقه) بما قدره من الفروض فلا وصية لوارث، وصححه الترمذي) وحسنه الحافظ وقال ولا يخلو إسناد كل منها من مقال لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلًا. وذكر الشافعي أنه متواتر. فقال وجدنا أهل الفُتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عام الفتح "لا وصية لوارث" ويأثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم. فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد. وأخرج نحوه البخاري عن ابن عباس موقوفًا وله حكم الرفع. وقال الحافظ الحجة في هذا إجماع العلماء على مقتضاه كما صرح به الشافعي وغيره قال الشيخ ولما كان ما ذكره تعالى من تحريم تعدي الحدود عقب ذكر الفرائض المحدودة دل على أنه لا يجوز أن يزاد أحد من أهل الفرائض على ما قدر له ودل على أنه لا تجوز الوصية لهم وكان هذا ناسخًا لما أمر به أولًا من الوصية للوالدين والأقربين. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" رواه

أهل السنن والسير. واتفقت الأمة عليه اهـ. والمراد بعدم صحة الوصية للوارث عدم اللزوم. لأن الأكثر على أنها موقوفة على إجازة الورثة. (وللدارقطني إلا أن يجيز الورثة) ولفظه من حديث عمرو بن شعيب " إلا أن يجيز الورثة " وحسنه الحافظ. فإذا رضي الوارث صارت صحيحة كما هو شأن بناء الخاص على العام. ولأن المنع إنما كان لحق الورثة. فإذا أجازوه لم يمتنع. قال الموفق في قول الجمهور. وقال الوزير أجمعوا على أن الوصية بالثلث لغير وارث جائزة. وأنها لا تفتقر إلى إجازة الورثة. وعلى أن ما زاد على الثلث إذا أوصى به من ترك بنين أو عصبة أنه لا ينفذ إلا الثلث. وأن الباقي موقوف على إجازة الورثة. فإذا أجازوه نفذ. وإن أبطلوه لم ينفذ. واتفقوا على أن لا وصية لوارث إلا أن يجيز ذلك الورثة. وقال الموفق وغيره لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن اعتبار الوصية بالموت. وهو كون الموصى له عند الموت وارثاً أولا. (ولأحمد عن أبي هريرة مرفوعاً في الرجل يعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فيحيف في وصيته) كأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث. أو فيما لا تجوز فيه الوصية (فيختم له بشر عمله) وتمامه " وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيدخل الجنة" ولفظ أبي داود والترمذي "إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت

فصل في الموصى له وإليه

فيضاران في الوصية فتجب لهما النار" حسنه الترمذي. وفيه وعيد شديد وزجر وتهديد في الحيف في الوصية. كما أن له الأجر الجزيل في العدل فيها. وتقدم أن الضرار فيها يوجب بطلانها. ويؤيد هذا الحديث ما رواه ابن عباس "إن الضرار في الوصية من الكبائر" وتقدم قوله (غير مضار) وذكر تعالى بعد التبديل في الوصية أن (من خاف من موص جنفاً أو إثماً) بأن زاد وارثاً ولو ببيع شيء محاباة ونحو ذلك إما مخطئًا غير عامد بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر. أو متعمدًا آثم في ذلك. (فأصلح بينهم) أي الوصي أو غيره فيصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي. ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعاً بين مقصود الموصي والطريق الشرعي (فلا إثم عليه) وليس من التبديل في شيء. فصل في الموصى له وإليه والموصى به والوصية بالأنصباء والأجزاء. وما يتعلق بذلك. وأركان الوصية أربعة موص وصيغة والثالث موصى له والرابع موصى إليه. {قال تعالى: إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا} ذكرها تعالى بعد قوله {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} أي بالتوارث لما نسخ بالحلف

والهجرة. أي إلا أن تواصوا لمن تولونه بما تحبون من ثلث أموالكم. وتقدم قوله (إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين) ويأتي الأمر به. فتصح لمن يصح تملكه من مسلم وكافر معين كالهبة. وهو مذهب مالك وأحمد وأكثر أصحاب الشافعي. وقال محمد بن الحنفية في الآية هو وصية المسلم لليهودي أو النصراني. وعمر كسا خاله حلة وهو بمكة مشرك. وأسماء وصلت أمها وهي راغبة عن الإسلام. وصحح الحارثي أنه إذا لم يتصف بالقتال أو المظاهرة وإلا فلا. والمراد المعين فلا تصح لكافر غير معين كاليهود والنصارى والمجوس. أو فقرائهم كالوقف عليهم. وتصح الوصية لمكاتبه ومدبره وأم ولده. ولعبده بمشاع كثلثه. وبعتق منه بقدره. ولعبد غيره فهو من كسبه. لعموم هذه الآية وغيرها. {وقال: فَمَن بَدَّلَهُ} أي بدل الوصية وحرفها فغير حكمها وزاد فيها أو نقص. وأعظم من ذلك لو كتمها من الأوصياء أو الأولياء أو الشهود {بَعْدَمَا سَمِعَهُ} أي من بعد ما سمع قول الموصي {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} أي إثم التبديل والتغيير {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} والميت بريء منه. وقد وقع أجره على الله. وتعلق الإثم بالذين بدلوا ذلك {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ} لما أوصى به الموصي قد اطلع عليه {عَلِيم} بذلك وبما بدله الموصى إليهم أو غيرهم. حتى قال بعض أهل العلم الأولى ترك الدخول في الوصايا لما فيه من الخطر. وخصوصاً في هذه الأزمنة.

لكن قال الحارثي وغيره الوصية إما واجبة أو مستحبة وأولوية ترك الدخول يؤدي إلى تعطيلها فالدخول قد يتعين فيما هو معرض للضياع. ولما فيه من درء المفسدة وجلب المصلحة. فيجوز أو يستحب الدخول لمن قوي عليه ووثق من نفسه. وقال بعضهم قربة مندوبة. وكما أن التغيير والتبديل مذموم. فحفظ مال المسلم مندوب وهو فعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر وأبا طلحة) -رضي الله عنهما- (وغيرهما) من الصحابة (أن يجعلوا وصاياهم في القربى) كقربى عمر وغيره (وللفقراء) وتقدم تعريفهم (وغير ذلك) كسبيل الله وابن السبيل وغير ذلك من أبواب البر. مما هو مشهور مستفيض بين المسلمين. جار عليه عملهم قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل. فعمر -رضي الله عنه- جعلها في الفقراء وفي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل. بعد أن أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. ومن الرواه من رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأبو طلحة قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " اجعلها في قرابتك" كما تقدم. فجعلها في حسَّان وأبي وغيرهما. ولو أوصى لزيد والفقراء والمساكين فله التسع. ولو أوصى بثلثه للمساكين وله أقارب محاويج غير وارثين لم يوص لهم فهم أحق به. وفي أعمال بر وذريته ضعفاء جاز لمتوليها أن يدفع لهم ما يستغنون به. وإذا كانت غير حجة الإسلام صرفت عليهم.

وكذا الأضحية لأن الصدقة عليهم أفضل إذا احتاجوا ولابد من تنفيذ الوصية ابتداء ثم النظر للمتولي عليها. كما أفتى به الشيخ عبد الرحمن بن حسن. وتصح الوصية لحمل تحقق وجوده قبل الوصية. ويقبل عنه وليه بعد موت الموصي. لا لما تحمل به هذه المرأة ما لم يتحقق وجوده قبل الوصية. ولا تصح لملك أو بهيمة أو ميت. وإن أوصى لحي وميت فللحي نصف الوصية. وكذا لو مات أحدهما أو رد الوصية لعدم الأهلية. وإن أوصى من لا حج عليه أن يحج عنه بألف مثلاً صرف من ثلثه مؤونة حجة بعد أخرى حتى ينفد وإن قال. بألف دفع لمن يحج به واحدة. وقال الشيخ لو وصى أن يحج عنه زيد تطوعاً بألف فيتوجه إذا أبى المعين حج عنه غيره. وقال ومن أوصى بإخراج حجة فولاية الدفع والتعيين للوصي الخاص إجماعاً. وإنما للولي العام الاعتراض عليه لعدم أهليته أو فعله محرماً. (وأوصى عمر) -رضي الله عنه- (بثمغ) أرض بخيبر وللبخاري كان أرضاً تقدم خبرها في الوقف. (وأوصى أبو طلحة) -رضي الله عنه- (ببيرحاء) بئر وبستان شمالي سور المدينة من جهة الشرق مربعة الطي يستقى الماء منها بالدلاء وقال - صلى الله عليه وسلم - مال رابح وتصح بالمجهول كعبد وشاة عند جمهور العلماء وتقدم نحوه وبما يعجز عن تسلمه كآبق وطير

في هواء. وبالمعدوم كما يحمل حيوانه وشجرته. وبما فيه نفع مباح ككلب حرث وماشية وزيت متنجس ونحو ذلك. وإن أوصى بثلث ماله فاستحدث مالاً دخل في الوصية. وإن تلف الموصى به بطلت وإن تلف المال غيره فهو للموصى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة. والاعتبار حالة الموت. (وأوصت أم الشريد) ابن سويد الثقفي -رضي الله عنهما- (أن يعتق عنها رقبة مؤمنة) فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال عندي جارية سوداء فقال "ائت بها" فدعا بها فجاءت فقال لها "من ربك" قالت الله قال "من أنا" قالت أنت رسول الله قال "اعتقها فإنها مؤمنة" رواه أحمد وأبو داود والنسائي فدل الحديث على صحة الوصية بعتق الرقبة المؤمنة وفضلها ودل على جواز النيابة في العتق بالوصية. واكتفى بمعرفة الله ورسوله في كون تلك الأمة مؤمنة. وقد ثبت نحو ذلك في غير ما حديث. (وعن عمرو) ابن شعيب عن أبيه عن جده (أن العاص) ابن وائل بن هشام القرشي السهمي (أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة) وكان عتق الرقاب معهوداً في الجاهلية (فأعتق) ابنه (هشام خمسين رقبة) تنفيذاً لوصية أبيه العاص ابن وائل (وأراد ابنه عمرو) -رضي الله عنه- تنفيذ وصية أبيه كما فعل أخوه هشام (أن يعتق عنه الخمسين) الرقبة (الباقية) عليه فجاء عمرو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن أبي أوصى

أن يعتق عنه مائة رقبة وإن هشاماً أعتق عنه خمسين رقبة. وبقيت خمسون أفأعتق عنه؟. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان) يعني العاص بن وائل (مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدقتم أو حججتم عنه) وتقدم حكم النيابة في الحج (نفعه ذلك) فدل على صحة الوصية بالعتق. وفضل الوصية ونفعها لو كان مسلماً (رواه أبو داود) وقد صحح له بهذا الإسناد الترمذي وغيره فدل الحديث على صحة الوصية وصحة وصية الكافر بالمباح فالمندوب أولى ودل على أن الكافر إذا أوصى بقربة من القرب لم ينفعه ذلك لأن الكفر مانع لحبوط العمل بالكفر قال تعالى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} فأثبت لهم عملاً وقال {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا َ} وقال {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم}. فلا ينفع الكافر ما عمله ولا ما أوصى بفعله. ولا ما فعله له قرابته المسلمون من أي قربة من القرب كالصدقة والحج والعتق وغير ذلك. ولا يلزم تنفيذ وصيته. وأما صحتها فتصح وصية الذمي عند جمهور أهل العلم أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم. ولم يتعرض في هذا الخبر لعدم صحتها. وإنما ذكر عدم القبول. فتصح بالمباح إذ لا مانع. فلا تصح وصية مسلم ولا كافر لكنيسة وبيت نار وبيعة وصومعة. ولا أي مكان من أماكن الكفر أو عمارتها أو سدنتها. ولا لشيء من الإنفاق عليها لأنه معصية. ولا لكتب التوراة والإنجيل وبدع ونحوها.

(وروي عن ابن مسعود) -رضي الله عنه- من طريق محمد العزرمي (أن رجلاً أوصى) يعني في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لرجل بسهم) أي من ماله (فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - السدس) ومحمد العزرمي تكلم فيه أهل العلم. لكن هو قول علي وابن مسعود. وقال الموفق وغيره لا نعلم عن غيرهما خلافهما. وقال إياس بن معاوية السهم في كلام العرب السدس. وهو مذهب أحمد وغيره. وإن صح الحديث المذكور. أو صح أن السهم في لسان العرب السدس فكما لو وصى له بسدس من ماله. والإ فقال الموفق وغيره الذي يقتضيه القياس أنه كما لو وصى له بجزء من ماله على ما اختاره الشافعي وغيره أن الورثة يعطونه ما شاءوا. وإن أوصى بشيء أو جزء أو حظ أعطاه الوارث ما شاء قولاً واحداً. لأن القصد بالوصية بره. وإنما وكل قدر الموصى به وتعيينه إلى الورثة. لأنه لا حد له في لغة ولا في شرع. فكان على إطلاقه. وإن كان له ثلاث أولاد مثلاً فأوصى لشخص بمثل نصيب أحدهم. فقال الجمهور: أبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم له الربع. وإن أوصى بمثل نصيب أحد ورثته ولم يعين كان له مثل ما لأقلهم نصيباً. (وقال سعد بن أبي وقاص) -رضي الله عنه- (أوصى أخي) عتبة بن أبي وقاص (أن أنظر ابن أمة زمعة) فأقبضه له

يعني أنه ابن له من أمة زمعة والحديث رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن عبد بن زمعة وسعد بن أبي وقاص اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ابن أمة زمعة. فقال سعد يا رسول الله أوصاني أخي إذا قدمت أن أنظر ابن أمة زمعة فأقبضه فإنه ابني. وقال ابن زمعة أخي وابن أمة أبي ولد على فراش أبي. فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهاً بينا بعتبة. فقال "هو لك يا عبد بن زمعة. الولد للفراش. واحتجبي منه يا سودة" وسيأتي إن شاء الله. ووجه الاستدلال به هنا جواز الإيصاء بالنيابة في دعوى النسب. والمحاكمة في ذلك. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على سعد دعواه بوصاية أخيه في ذلك. بل أقرها وحكم بينهما. (وأوصى أبو عبيدة) ابن الجراح الفهري أمين هذه الأمة وأحد العشرة -رضي الله عنهم- واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح أوصى (إلى عمر) -رضي الله عنه- وأوصى عمر إلى ابنه عبد الله وأوصى عبد الله إلى ابنه جابر -رضي الله عنهما- في قضاء دينه وغيره (و) أوصى (إلى الزبير) ابن العوام جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بسهم (عثمان بن عفان) -رضي الله عنه- كما رواه البيهقي وأوصى الزبير إلى ابنه عبد الله في قضاء دينه وغيره (وغيره) أي وأوصى إلى الزبير غير عثمان منهم ابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والمقداد ومطيع واشتهر فكان كالإجماع. حتى قال عمر لو تركت تركة أو عهدت عهداً إلى أحد لعهدت إلى الزبير إنه ركن من أركان الدين وقال الوزير اتفقوا

على أن الوصية إلى العدل جائزة. وأن الوصية إلى الكافر لا تصح. وتصح وصية الكافر إلى المسلم إن لم تكن تركته نحو خمر. وتصح الوصية إلى عاجز. ويضم إليه أمين. وتصح إلى زيد وبعده إلى عمر. لقوله - صلى الله عليه وسلم - "أميركم زيد فإن قتل فجعفر" وإلى صبي إذا بلغ كغائب إذا حضر. وتقدم أنه لا بأس بالدخول في الوصية لمن قوي عليها ووثق من نفسه. وأن الدخول فيها للقوي قربة. وإذا أوصى إلى رجلين وأطلق لم يجيز لأحدهما التصرف دون الآخر. وهو مذهب الجمهور. مالك والشافعي وأحمد. وليس له أن يوصي إلا أن يجعل إليه. وله أن يوكل فيما لا يباشره مثله أو يعجز عنه كالوكالة. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد. وإذا أوصى إلى زيد وبعده إلى عمرو ولم يعزل زيداً اشتراكا وإن جعل الحل واحد التصرف صح وإن مات أو غاب جعل الحاكم مكانه أميناً. ولا تصح التوصية إلا في تصرف معلوم يملكه الموصي كقضاء دينه وتفرقة وصيته والنظر لصغاره ونحو ذلك فلا تصح بالنظر على بالغ رشيد من أولاده من ورثته ولا بالنظر على أولادهما الأصاغر. ويصح قبول الوصية في حياة الموصي وبعد موته. وله عزل وصيه متى شاء كالوكالة. وقال بعضهم ليس للوصي عزل نفسه إن لم يجد حاكماً. لأنه تضييع للأمانة. وإبطال لحق المسلم. وكذا إن تعذر تنفيذ حاكم للموصى به.

أو غلب على الظن إسناده إلى من ليس بأهل. (وعن سعد) -رضي الله عنه- ابن الأطول بن عبد الله بن خالد (الجهني) من جهينة القبيلة المشهورة (أن أخاه) يسار بن الأطول (ترك دراهم وعيالاً) وعليه دين قال فأردت أن أنفق الدراهم على عياله (فقال - صلى الله عليه وسلم - إنه محتبس بدينه) فاقض عنه (فقال يا رسول الله قد أديت عنه) فيه استقلال الوصي في قضاء ديون الميت لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك. وحكى إجماعاً لنيابته عنه. ثم قال (إلا دينارين ادعتهما امرأة ولا بينة) أي وليس لها بينة (قال فاعطها فإنها محقة رواه أحمد) وابن ماجه وغيرهما. وفيه دليل على تقديم إخراج الدين على ما يحتاج إليه من نفقة أولاد الميت ونحوها. ولا خلاف في ذلك. وتقدم أن الدين يقدم على الوصية. وقال بعض أهل العلم لا يدفع إلا إذا ثبت ببينة. وقال الشيخ من ادعى ديناً على ميت وهو ممن يعامل الناس نظر الوصي إلى ما يدل على صدقه ودفع إليه. وإلا فتحريم الإعطاء حتى يثبت عند القاضي خلاف السنة والإجماع. وكذلك ينبغي أن يكون حكم ناظر الوقف ووالي بيت المال. وكل وال على حق غيره إذا تبين له صدق الطالب دفع إليه. وذلك واجب عليه إن أمن التبعية. وإن خاف التبعية فلا اهـ. وإن ظهر دين يستغرق التركة بعد تفرقة الوصي لم يضمن

لرب الدين شيئاً. لأنه معذور بعدم علمه بالدين. وإن أمكن الرجوع فعل. ووفى الدين. وإن قال الموصي ضع ثلثي حيث شئت. أو تصدق به على من شئت ونحو ذلك. فقال الجمهور لا يحل للوصي أخذه. وقال أصحاب الرأي وغيرهم له أخذه لنفسه وولده. وقال الموفق يحتمل أن يجوز ذلك عندنا أيضاً. لأن لفظ الموصي يحتمله. ويحتمل أن ينظر إلى قرائن الأحوال. فإن دلت على أنه أراد أخذه منه مثل أن يكون من جملة المستحقين أو عادته الأخذ من مثله فله الأخذ منه. وقال الحارثي المذهب جواز الدفع إلى الولد والوالد ونحوهم. واختاره المجد وغيره. فإن عبارته تستعمل في الرضا بصرف الوصي إلى ما يختاره كيف كان. لا إلى ورثة الموصي. وإن قال اصنع في مالي ما شئت أو هو بحكمك افعل فيه ما شئت ونحو ذلك من ألفاظ الإباحة لا الأمر فقال الشيخ له أن يخرج ثلثه. وله أن لا يخرجه. فلا يكون الإخراج واجباً ولا محرماً. بل هو موقوف على اختيار الوصي. وقال له صرف الوصية فيما هو أصلح من الجهة التي عينها الموصي اهـ. والمال الموصى به في يد الموصى إليه أمانة يجب عليه حفظه حيث تحفظ الأمانات. وإن أودعه لخائن مع إمكانه أن لا يفعل فهو مفرط.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض جمع فريضة بمعنى مفروضة. أي مقدرة. فهي نصيب مقدر شرعاً لمستحقه. وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى نصيباً مفروضاً أي مقداراً معلوماً والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع. وقد رغب في تعلمها الشارع صلوات الله وسلامه عليه. وأفردت بالتصانيف. (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تعلموا الفرائض) أي أحكام المواريث (وعلموها الناس) ليتناقلوها فلا تنسى (فإنها نصف العلم) لأن للناس حالتين حياة وموتاً. وفي الفرائض معظم الأحكام المتعلقة بالموت. أو لأنه يبتلى بها الناس كلهم (رواه ابن ماجه) وفيه ضعف ولأحمد وأبي داود والترمذي والحاكم وغيرهم " تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض. وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف اثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما" ففيهما وغيرهما التحريض على تعلمها وتحفظها. لأنها لما كانت تنسى. وكانت أول ما ينزع من العلم. كان الاعتناء بحفظها

أهم ومعرفتها لذلك أقوم. وعلمها هو العلم بقسمة المواريث الآتي تفصيله. (وعن عبد الله بن عمرو) -رضي الله عنه- (مرفوعاً العلم ثلاثة) أي العلم النافع المستمد من الكتاب والسنة ثلاثة. أو أصل علوم الدين ومسائل الشرع ثلاثة وضحها - صلى الله عليه وسلم - بقوله (آية محكمة) وهي في كتاب الله العربي. واشترط فيها الإحكام. لأن من الآي ما هو منسوخ لا يعمل به. وإنما يعمل بناسخه (أو سنة قائمة) أي دائمة متميزة وهي الثابتة بما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السنن المروية (أو فريضة عادلة) إما من العدل فى القسمة فيكون معدله على السهام والأنصباء المذكورة في الكتاب والسنة. أو أن تكون مستنبطة منهما. ومن معانيهما. فتكون هذه الفريضة تعدل بما أخذ من الكتاب والسنة إن كانت في معنى ما أخذ عنهما نصاً. وفيه "وما سوى ذلك فهو فضل " أي زائد لا ضرورة فيه (رواه أبو داود) وغيره بسند صحيح. فدل الحديث على أن العلم النافع الدي ينبغي تعلمه وتعليمه هو الثلاثة المذكورة. وما سواها فضل لا تمس الحاجة إليه. وإن زاحم العلم الشرعي. أو أضعفه كره أو حرم. وحد علم الفرائض هو العلم بفقه المواريث. وما يضم إلى ذلك من حسابها. وموضوعه التركات. وثمرته إيصال ذوي الحقوق حقوقهم. وحكمه في الشرع فرض كفاية وأركانه ثلاثة وارث. ومورث وحق موروث. وشروطه ثلاثة تحقق موت المورث

باب الفروض

وحياة الوارث. والعلم بمقتضى التوارث. والحقوق المتعلقة بتركة الميت: مؤونة التجهيز. ثم الديون. ثم الوصايا وتقدم ذلك. ثم الإرث. باب الفروض أي المقدرة في كتاب الله تعالى. وفي السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أجمع عليه المسلمون. أو كان عليه الجمهور. والفروض بنص القرآن ستة: نصف وربع وثمن. وثلثان وثلث وسدس. والسابع وهو ثلث الباقي بالاجتهاد. وأسباب الإرث: رحم ونكاح وولاء والورثة ذو فرض وعصبة ورحم. وسيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى. (قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} وذلك أن الوراثة كانت في الجاهلية بالذكورة والقوة. فكانوا يورثون الرجال دون النساء والصبيان. فأبطل الله ذلك بالإسلام. ونزلت هذه الآية والتي بعدها. وخاتمة هذه السورة فهن آيات علم الفرائض. وهو مستنبط منها ومن الأحاديث الواردة في ذلك. مما هو كالتفسير لذلك. فقال تعالى {يُوصِيكُمُ اللهُ} أي يعهد إليكم ويفرض عليكم {فِي} أمر {أَوْلاَدِكُمْ} إذا متم. ويأمركم بالعدل فيهم. حتى استنبط بعض أهل العلم من ذلك أن الله أرحم بخلقه من الوالدة بولدها. حيث أوصى الوالدين بأولادهم. وقال - صلى الله عليه وسلم - في امرأة من السبي تدور على

ولدها "والله لله أرحم بعباده من هذه بولدها". قال تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} أي ضعف ما للأنثى. لأن الرجال قوامون على النساء. والذكر أنفع للميت في حياته من الأنثى. فكان أحق بالتفضيل. سوى ولد الأم. لأنه لا يرث إلا بالرحم المجردة أو لأن الذكر مكلف أن ينفق على نفسه وعلى زوجته. فهو محتاج للتكسب وتحمل المشاق. فناسب أن يعطي ضعفي ما تأخذه الأنثى. فللبنين والبنات المال المخلف عن الميت للذكر مثل حظ الأنثيين. وكذا أبناء البنين وبنات البنين. وإن نزلوا ومع الأبوين وإن عليا. أو أحد الزوجين ما بقي: للذكر مثل حظ الأنثيين ما ترك الميت من بعد وصية يوصي بها أو دين. {فَإِن كُنَّ} يعني المتروكات من الأولاد {نِسَاء} بنات صلب أو بنات أبناء. وإن نزلوا {فَوْقَ} صلة أي كن نساء {اثْنَتَيْنِ} فصاعدًا {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} بشرط عدم المعصب. واستفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة. ومن خبر ابنتي سعد: أخذ عمهما ما لهما. فجاءت أمهما بهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اعط ابنتي سعد الثلثين. وأمهما الثمن. وما بقي فهو لك" وهذا نص في المسألة. ولا نزاع في ذلك. {وَإِن كَانَتْ} يعني البنت {وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} يعني

مما ترك الميت بشرط عدم المعصب. وهو أخوها. والمشارك وهو أختها. وهكذا حكم بنت الابن وإن نزل. بشرط عدم الفرع الوارث الذي أعلى منها. وعدم المشارك. وهو أختها. والمعصب وهو أخوها. أو ابن عمها الذي في درجتها {وَلأَبَوَيْهِ} أي لأبوي الميت {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} أي الأب والأم {السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} الميت {إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} فيرث كل واحد منهما السدس بشرط وجود الفرع الوارث. وهو الولد وولد الابن وإن نزل. وإن لم يكن له إلا بنت أو بنت ابن وأب وأم فللأب السدس وللأم السدس وللبنت أو بنت الابن النصف. ويبقى سدس للأب تعصيبًا. والجد مثل الأب في هذه الصور. يرث بالفرض مع ذكور الولد أو ولد الابن. وبالتعصيب مع عدم الولد وولد الابن. وبالفرض والتعصيب مع إناثهما عند فقد الأب. ومع الإخوة كالأب في أصح القولين كما سيأتي. وتفارق أحكامه أحكام الأب في العمريتين والجدة فأكثر ترث السدس مع عدم الأم كما سيأتي. وكل من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة. إلا ولد الأم لا يحجبون بها. بل يحجبونها من الثلث إلى السدس. وإلا أم الأب وأم الجد {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ} أي للميت {وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} فرضًا والباقي للأب تعصيبًا. {فَإِن كَانَ لَهُ} أي للميت {إِخْوَةٌ} اثنان فأكثر ذكورًا أو إناثًا أو ذكورًا وإناثًا {فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} إجماعًا سواء كان الإخوة

وارثين أو غير وارثين عند الجمهور. والباقي يكون للأب إن كان معها أب أو جد. ولا ميراث للإخوة مع الأب. ولكنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس. ويقال إنهم إنما حجبوا أمهم لأن أباهم يلي إنكاحهم ونفقته عليهم دون أمهم. وهذه الفروض {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} إن كان، فإن الإرث مؤخر عن الدين والوصية. {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ} يعني الذين يرثونكم {لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} أي لا تعلمون أيهم أنفع لكم في الدين والدنيا. فمنكم من يظن أن الأب أنفع له فيكون الابن أنفع. ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع. وأنا العالم بما هو أنفع لكم. وقد دبرت أمركم على ما فيه المصلحة فاتبعوه {فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ} أي ما قدر الله من المواريث فرض من الله حكم به وقضاه {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيما} بأمور العباد {حَكِيمًا} يضع الأشياء في مواضعها. ويعطي كلًا ما يستحقه بحسبه. {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} أي لكم أيها الرجال من الميراث نصف ما ترك أزواجكم {إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} أي إن متن عن غير ولد ذكرًا كان أو أنثى واحدًا أو متعددًا. فالزوج يرث النصف من بعد الوصية. والدين. بشرط عدم الفرع الوارث. وهو الولد أو ولد الابن وإن نزل إجماعًا {فَإِن كَانَ لَهُنَّ

وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فالزوج يستحق الربع بشرط وجود الفرع الوارث إجماعًا. وحكم أولاد البنين وإن نزلوا حكم أولاد الصلب بلا نزاع بين العلماء. {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ} سواء كن واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا بشرط عدم الفرع الوارث إجماعًا {فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فتستحق الزوجة أو الزوجات الثمن بشرط وجود الفرع الوارث إجماعًا. ففي زوج وأخ شقيق أو لأب، للزوج النصف والباقي للأخ. وفي زوج وابن، للزوج الربع وللابن الباقي. وفي زوجة وعم، للزوجة الربع وللعم الباقي. وفي زوجة وابن، للزوجة الثمن والباقي للابن. {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ} أي تورث كلالة من الإكليل. وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه. والمراد هنا من يرثه من حواشيه. لا أصوله ولا فروعه. قال أبو بكر وعمر وابن عباس وغيرهم: الكلالة من لا ولد له ولا والد. وهو قول أهل المدينة وأهل الكوفة والبصرة والفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد. وبيان ذلك مأخوذ من حديث جابر بن عبد الله حيث قال: إنما يرثني كلالة. أي يرثني ورثة ليسوا بولد ولا والد. لأن

آية الكلالة نزلت فيه. ولم يكن له يوم نزولها أب ولا ابن. فصار شأن جابر بيانًا لمراد الآية {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} أي من أم بالإجماع. كما هو في قراءة بعض السلف. وكذا فسرها به أبو بكر -رضي الله عنه- {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} أي الأخ من الأم أو الأخت من الأم. بشرط انفراده وعدم الفرع الوارث. وعدم الأصل من الذكور الوارث. {فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ} أي فإن كان ولد الأم أكثر من واحد. بأن كانوا اثنين فصاعدًا {فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ} ذكرهم وأنثاهم فيه سواء بالإجماع. قال ابن القيم هو القياس الصحيح والميزان الموافق لدلالة القرآن. وفهم أكابر الصحابة. فيستحقون الثلث بشرط أن يكونوا اثنين فأكثر. وعدم الفرع الوارث. والأصل من الذكور الوارث. قال تعالى {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} أي الإرث المذكور من بعد الوصية والدين وغير مدخل الضرر على الورثة بمجاوزة الثلث أو لوارث {وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيم}. {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} أي ما ذكر من الفرائض المحدودة والمقادير التي جعلها للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه هي حدود الله {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} ولا تجاوزوها {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ} أي فيها فلم يزد أحداً ولم ينقصه بحيلة أو وسيلة بل تركهم على حكم الله {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ

تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم. وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} لكونه غير ما حكم الله به {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِين}. (وقال في الكلالة) أي في آية الكلالة أيضًا في آخر سورة النساء وتسمى آية الصيف. وذلك أن الله أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما في أول النساء وتقدمت. والأخرى في الصيف وهي التي في آخر النساء. قال عمر –رضي الله عنه- ما راجعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء ما راجعته في الكلالة. فقال "ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء" وفيها من البيان ما ليست في آية الشتاء. فلذلك أحاله عليها. قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} أي عن الكلالة. وفي الصحيحين وغيرهما أن جابرًا قال يا رسول الله لا يرثني إلا كلالة فنزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} أي مات {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} أي من أم وأب أو من أب {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}. فتستحقه بشرط عدم المشارك. وهو أختها. والمعصب وهو أخوها إجماعًا، وكذا بنت الابن تستحق النصف بشرط عدم الفرع الوارث الذي أعلى منها. وعدم المعصب وهو أخوها. أو ابن عمها الذي في درجتها. وعدم المشارك وهو أختها أو بنت عمها التي في درجتها. بالإجماع. ولأحمد عن زيد بن ثابت أنه سئل عن زوج وأخت لأبوين فأعطى الزوج النصف والأخت

النصف. وقال حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بذلك {وَهُوَ يَرِثُهَآ} أي أخوها لأبوين أو لأب {إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ} يرث جميع ما لها إذا ماتت. فإن كان لها ابن فلا شيء للأخ. وإن كان ولدها أنثى فللأخ ما فضل عن فرض البنت أو البنات إجماعًا. {فَإِن كَانَتَا} أي الأختان لأوبين أو لأب {اثْنَتَيْنِ} فأكثر {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} إن لم يكن له ولد بالنص ووالد بالنص عند التأمل. لأنه لو كان معها أب لم ترث شيئًا. لأن يحجبها بالإجماع {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً} لأبوين أو لأب {رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} لما تقدم من أن الذكر أحوج إلى المال. ولأن الرجال قوامون على النساء {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ} أي يفرض لكم فرائضه ويحد لكم حدوده ويوضح لكم شرائعه {أَن تَضِلُّواْ} أي لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} أي هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده. وما يستحقه كل واحد من القرابات بحسب قربه من المتوفى. (وعن ابن مسعود) -رضي الله عنه- (في بنت وبنت ابن وأخت، قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت رواه البخاري) والخمسة إلا النسائي وفيه قصة. وذلك أن أبا موسى سئل عن هذه المسألة فقال للبنت النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود فقال قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. اقضي فيها بما قضى

النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك. قال: فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. وفيه دليل على أن الأخت مع البنت عصبة. لا يفرض لها معها. ولا مع البنتين. ولا مع بنت الابن وإن نزل. وأن للبنت النصف كما تقدم. وأن بنت الابن فأكثر مع البنت تستحق السدس بشرط عدم المعصب. وعدم الفرع الوارث الذي أعلى منها سوى صاحبة النصف. فإنها لا ترث السدس إلا معها. وهذا لا نزاع فيه. وفي الصحيح أن معاذًا ورث أختًا وابنة. جعل لكل واحدة منهن النصف. وهو باليمن. والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي. ولا يقضي إلا بدليل يعرفه. ونصيب البنت فرض. ونصيب الأخت عصب. وهذا مجمع عليه. فإن الأخوات مع البنات عصبات. قال ابن القيم ميراث البنات مع الأخوات وأنهن عصبة دل عليه القرآن. كما أوجبته السنة الصحيحة. وقضى به الصحابة رضي الله عنهم اهـ. والأخت لأب فأكثر مع أخت وإخوة لأبوين كبنت الابن مع بنت الصلب سواء للشقيقة، النصف وللأخت لأب فأكثر السدس تكملة الثلثين. مع عدم المعصب. والفرع الوارث. والأصل من الذكور الوارث. (وعن بريدة) ابن الحصيب -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

جعل للجدة) من تركة الميت (السدس إذا لم يكن دونها أم رواه أبو داود) والنسائي وغيرهما. وللخمسة إلا النسائي عن المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس. فدل الحديث وغيره على أن فرض الجدة السدس. ولا نزاع في ذلك بشرط عدم الأم. (وقال أبو بكر) الصديق -رضي الله عنه- (في جدتين هو بينكما) يعني السدس رواه مالك في الموطأ. وكذا رواه الدارقطني وغيره. ورواه الخمسة إلا النسائي عن عمر -رضي الله عنه- (وصححهما الترمذي) وحديث بريدة صححه أيضًا ابن السكن وابن خزيمة وابن الجارود وغيرهم. وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قضى للجدتين من الميراث بالسدس بينهما" رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في المسند. ولا نزاع في ذلك. (وروي) عن عبد الرحمن بن يزيد (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنه) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (أعطاه) أي أعطى السدس (ثلاثًا) يعني ثلاث جدات ثنتين من قبل الأب. وواحدة من قبل الأم. رواه الدارقطني وغيره مرسلًا. ورواه البيهقي أيضًا عن زيد بن ثابت والأحاديث المذكورة وغيرها تدل على أن فرض الجدة الواحدة السدس. وكذلك فرض الجدتين إذا استوين بلا نزاع والثلاث. وحكاه ابن نصر وغيره إجماع الصحابة والتابعين. وإن كثرن إذا استوين وتستوي أم الأم وأم الأب لا فضل بينهما.

فإذا اختلفن سقط الأبعد بالأقرب. سواء كن من جهة أو جهتين. وسواء كانت القربى من جهة الأم والبعدى من جهة الأب إجماعًا. أو بالعكس. وكل جدة أدلت بأب بين أمين فهي ساقطة. وقال الشيخ وغيره لا يرث غير ثلاث جدات: أم الأم وأم الأب وأم أب الأب وإن علون أمومة وأبوة. إلا المدلية بغير وارث كأم أب الأم اهـ. وترث أم الأب وأم الجد معهما كالعم. لما روى الترمذي وغيره عن ابن مسعود أول جدة أطعمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السدس أم أب مع ابنها وابنها حي وترث الجدة المدلية بقرابتين ثلثي السدس والأخرى ثلثه. (وقضى عمر) -رضي الله عنه- (بثلث الباقي للأم مع زوج) وأب أصلها من ستة للزوج النصف وللأم ثلث الباقي وهو سدس في الحقيقة والباقي للأب (أو زوجة وأب) وأصلها من أربعة للزوجة الربع وللأم ثلث الباقي واحد والباقي للأب. وتبعه الأئمة الأربعة وغيرهم. وتسمى العمريتين. لقضاء عمر -رضي الله عنه- فيهما. وعبر فيهما بثلث الباقي للأم تأدباً مع القرآن. قال شيخ الإسلام وقول عمر -رضي الله عنه- أصوب. لأن الله إنما أعطى الأم الثلث إذا ورثه أبواه. كما قال تعالى {وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} فأعطاها الثلث إذا ورثه أبواه. والباقي بعد فرض الزوجين هو ميراث بين الأبوين يقتسمانه. كما اقتسما الأصل. كما لو كان على الميت دين أو وصية فإنهما يقتسمان ما بقي أثلاثًا.

باب التعصيب

باب التعصيب أي بيان ذوي التعصيب وأقسامه. التعصيب مصدر عصب يعصب تعصيبًا فهو عاصب ويجمع العاصب علىعصبة. وتجمع العصبة على عصبات. ويسمى بالعصبة الواحد فأكثر. والعصبة لغة بنو الرجل وقرابته لأبيه. سموا بذلك لأنهم عصبوا به أي أحاطوا به. وقيل لتقوي بعضهم ببعض. من العصب وهو الشد. واصطلاحًا من يرث بلا تقدير. فإن انفرد أخذ جميع المال. ومع ذي فرض يأخذ الباقي. ومن الحكمة الإلهية أن جعل الميراث لأقارب الأب. وقدمهم على أقارب الأم. وجعل العصبة القائمين بنصرته وموالاته والذب عنه وحمل العقل عنه. قال تعالى: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً} أي فإن كان ورثة الميت إخوة له من أبويه أو من أبيه {رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} وتقدم قوله (للذكر مثل حظ الأنثيين) قال ابن كثير وغيره هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والإخوة يعني لأبوين أو لأب إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين. وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤونة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق. فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى. وتقدم أنه مكلف أن ينفق على نفسه وعلى زوجته.

(وعن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ألحقوا الفرائض) أي الأنصباء المنصوص عليها في الكتاب والسنة (بأهلها) المستحقين لها بالنص. وتقدم موضحًا (فما بقي) أي فضل بعد إعطاء ذوي الفروض فروضهم المقدرة لهم (فهو لأولى) أي لأقرب (رجل) من الميت (ذكر) تأكيد أنه ليس المراد بالرجل البالغ. بل الذكر وإن كان صغيرًا (متفق عليه) فدل الحديث على أنه يبدأ بذوي الفروض فيعطون فروضهم المنصوص عليها. وأن ما أبقت الفروض بعد أخذ مستحقيها يكون لأقرب العصبات من الرجال. لا يشاركه من هو أبعد منه. وحكاه النووي وغيره إجماعًا. وإن استووا اشتركوا. وخرج من ذلك الابن وأخته. وابن الابن وأخته. والأخ لأبوين أو لأب وأخته. فتقدم أنهما يرثان معهم بنص القرآن. قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} وقال: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} وغيرهم من العصبة لا ترث أخته معه شيئًا. لأنهن من ذوي الأرحام. والعصبة ثلاثة أقسام عصبة بالنفس: وهم الابن وابنه وإن نزل. والأب والجد له وإن علا. والأخ لأبوين ثم لأب ثم بنوهما كذلك. ثم العم لأبوين ثم لأب ثم بنوهم كذلك. ثم المعتق والمعتقة. هؤلاء هم العصبة بالنفس. والعصبة بالغير البنت مع الابن. وبنت الابن مع ابن

الابن. والأخت الشقيقة مع أخيها. والأخت لأب مع أخيها. والعصبة مع الغير الأخوات مع البنات. والأقرب من العصبة يحجب من دونه. وتقدم حجب الجد بالأب. والجدة بالأم. وابن الابن بالابن. ويسقط العم بالأخ. وابن العم بالعم. ومع الاستواء يقدم الأقوى. فيسقط الأخ لأب بالأخ لأبوين. والعم لأب بالعم لأبوين وهكذا. والحجب من أعظم أبواب الفرائض وأهمها. حتى قال بعضهم حرام على من لم يعرف الحجب أن يفتي في الفرائض. والحجب من حيث هو قسمان: حجب أوصاف. وهي موانع الإرث الثلاثة: الرق والقتل واختلاف الدين. ويتأتى على جميع الورثة. والمحجوب به وجوده كعدمه. وحجب أشخاص: وينقسم إلى حجب حرمان. وحجب نقصان وحجب الحرمان يتأتى على جميع الورثة إلا الأبوين والولدين والزوجين. وأما حجب النقصان فيتأتى على جميع الورثة. (ولهما عن أبي هريرة مرفوعًا أيما مؤمن مات وترك مالًا) بعد مؤنة تجهيزه وقضاء دينه إن كان (فليرثه عصبته من كانوا) ولمسلم فإلى العصبة يعني ما خلف إن لم يكن ثم ذو فرض. وهذا لا نزاع فيه. وإن لم يكن له ولد ولا ولد ابن وإن نزل ولا أب ولا وجد وإن علا. ولا أخ لأبوين أو لأب ولا بنوهم وإن نزلوا. ولا عم لأبوين أو أب ولا بنوهم ورثه أعمام جده. ثم

بنوهم. ثم أعمام أبي جده ثم بنوهم. وهكذا ثم معتق ثم عصبته ثم مولى مولى معتق ثم عصبته وهكذا فإن لم يوجد عصبة ووجد ذو فرض رد عليه غير الزوجين. وإن لم يوجد فذو الأرحام كما يأتي. (وعن عمران بن حصين) -رضي الله عنه- (قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن ابن ابني مات فمالي من ميراثه) فالميت ابن ابن السائل خلف ابنتين وجد (قال) - صلى الله عليه وسلم - للسائل وهو جد الميت (لك السدس) وهو أقل ما يرثه الجد (فلما ولى دعاه) وفي لفظ فلما أدبر دعاه (فقال لك سدس آخر) أي غير السدس المفروض لك (فلما ولى دعاه) أي فلما ذهب ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال إن السدس الآخر طعمة) أي رزقكه الله طعمة بسبب عدم كثرة أصحاب الفروض. فإنهم إن كثروا لم يبق لك هذا السدس الآخر. لأنه ورثه بالتعصيب لا بالفرض. رواه الخمسة (وصححه الترمذي) فدل الحديث على أن للجد الباقي بعد الفروض. وأصل المسألة من ستة: للجد السدس فرضًا. وللبنتين الثلثان. وبقي سدس للجد تعصيبًا. ولذلك لم يدفع إليه السدس الآخر. أولًا. لئلا يظن أن فرضه الثلث. وتركه حتى ولى. فقال لك سدس آخر. وهو بقية التركة. فلما ذهب دعاه فقال إن السدس الآخر طعمة أي زيادة على الفرض الذي لك فله سدس فرض. والباقي تعصيب. فهو كالأب مع البنات أو بنات الابن بلا نزاع في ذلك بين المسلمين.

وتفارق أحكامه أحكام الأب في العمريتين إجماعًا. ومع الإخوة عند بعض أهل العلم فيجعلونه كأخ منهم. ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث أو السدس مع ذي فرض. فيأخذه ومذهب أبي بكر وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين وأبي حنيفة أنه كالأب. فيحجب الإخوة مطلقًا. وهو رواية عن أحمد. اختارها شيخ الإسلام وابن القيم. واستظهرها في الفروع. واختاره بعض الشافعية. والشيخ محمد بن عبد الوهاب. وقال ابنه عبد الله هو المفتى به عندنا. وقال شيخنا هو الصواب. ورجح بأمور أحدها العمومات. ولم يسم الله الجد بغير اسم الأبوة. والثاني محض القياس. قال ابن عباس ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنًا. ولا يجعل أبا الأب أبًا. والثالث أن توريثهم معه وكيفياته لو كان من الله لم يهمله النبي - صلى الله عليه وسلم - بل وضحه والرابع أن الذين ورثوا الإخوة معه اختلفوا في كيفية ذلك ولم يجزموا بل معهم شك ومقرون أنه محض رأي لا حجة فيه ولا قياس. ولا ريب أن من ورث الجد وأسقط الإخوة هو أسعد الناس بالنص والإجماع والقياس. وعدم التناقض. وقد فاز بدلالة الكتاب والسنة والقياس. وأيضًا لم يختلف على الصديق -رضي الله عنه- في زمانه فكان إجماعًا قديمًا. (وعن علي) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن أعيان بني الأم يتوارثون) أي يرث الإخوة الأشقاء (دون بني العلاة) أي الإخوة لأب فقط سمي الإخوة الأشقاء بني الأعيان

لأنهم من عين واحدة والإخوة لأب بني العلات جمع علة بفتح العين وهي الضرة. فكأنه قيل بني الضرات. لأنهم من أمهات شتي ومن رجل واحد ويقال للإخوة للأم فقط بني الأخياف. أي الأخلاط لأنهم من أخلاط الرجال. ليسوا من رجل واحد. فقال (الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه رواه الترمذي). فدل الحديث على أن الإخوة لأبوين تقدم على الأخوة لأب ولا نزاع في ذلك بين أهل العلم. ثم أبناء الأخ لأبوبين ثم لأب وإن نزلوا. ثم الأعمام لأبوين ثم لأب ثم بنوهم كذلك. فمع اتحاد الجهة يعتبر التقديم بالقرب. ومع الاستواء في الدرجة تعتبر القوة كما قال الجعبري: فبالجهة التقديم ثم بقربه ... وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا (ولأبي داود عن بريدة) -رضي الله عنه- (قال توفى رجل من الأزذ) قبيلة مشهورة من قحطان (فلم يدع وارثًا) وفي لفظ أتي بميراثه فقال: التمسوا له وارثًا أو ذا رحم" فلم يجدوا وارثًا (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ادفعوه) أي ادفعوا ميراثه (إلى أكبر خزاعة) قبيلة مشهورة من الأزد. وفي لفظ أن رجلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن عندي ميراث رجل من الأزد ولست أجد أزديًا أدفعه إليه قال "فاذهب فالتمس أزديًا حولًا" فأتاه بعد الحول فقال يا رسول الله لم أجد أزديًا أدفعه إليه قال "فانطلق فانظر أول خزاعي تلقاه فادفعه إليه" فلما ولي قال "علي بالرجل"

فلما جاء قال "انظر أكبر خزاعة فادفعه إليه". فدل الحديث على جواز صرف ميراث من ليس له وارث معين إلى أكبر قومه إن كان يجتمع هو وقبيلته في جد معلوم ولم يعلم له وارث منهم على التعيين. فأكبرهم سنًا أقربهم إليه نسبًا. لأن كبر السن مظنة لعلو الدرجة. فالمراد الأقرب عصبة بالنسب. (وقال علي) -رضي الله عنه- (إذا استغرقت الفروض المال) فلم يفضل بعد ذوي الفروض شيء (سقطت العصبة) ولا نزاع في ذلك. لقوله "ألحقوا الفرائض بأهلها" وغيره. وحتى في المشركة. (وقضى به عمر) -رضي الله عنه- (في المشركة) أي قضى بسقوط العصبة إذا استغرقت الفروض المال في المشركة. وهي زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أيضًا لأم وأب فإن مسألتهم من ستة: للزوج النصف. وللأم السدس. وللإخوة للأم الثلث. فلم يبق بعد الفروض شيء فسقط الإخوة لأبوين. وهذا مقتضى النص والقياس. ومذهب علي وابن مسعود وابن عباس وأبي موسى وغيرهم ومذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن الشافعي وأحمد. لعموم قوله تعالى {فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ} فإنه دل على اختصاص ولد الأم بالثلث. فإذا شرك معهم غيرهم لم يأخذوا الثلث وللخبر فإن من شرك لم يلحق الفرائض بأهلها.

ولم يبق بعد الفرائض للأشقاء شيء فيسقطون. وقال ابن القيم تشريكهم خروج عن القياس. كما هو خروج عن النص. (وعن سهل) بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- (في) حكم (الملاعنة) في الميراث. وأما حكم اللعان فسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى قال (جرت السنة أنه يرثها) أي يرث ابن الملاعنة أمه (وترث منه) أي من ولدها ذكرًا كان أو أنثى (ما فرض الله لها) وهو في الصحيحين. ولأبي داود من حديث عمرو بن شعيب أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها. وتقدم أن المرأة تحوز ثلاث مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه. وقول ابن القيم أنه أصح الأقوال. ولو لم ترد به الآثار. فهو محض القياس الصحيح. وعند الأكثر أن عصبته عصبة أمه في إرث لا في عقل ولا ولاية. ودلت هذه الأحاديث وما في معناها أن ميراث ابن الملاعنة لأمه وعصبتها. فيكون لأمه ثم لعصبتها إذا لم يكن غير الأم وقرابتها. لأنها قامت مقام أبيه في انتسابه إليها. ولأنهم أدلوا بها. فلا يرثون معها. وذكر أنه اختيار الشيخ. وهو قول ابن مسعود ورواية عن أحمد. والجمهور على التسوية بين ولد الزنا وولد الملاعنة. فإن كان له ابن أو زوجة أعطي كل واحد ما يستحقه. كما في سائر المواريث فأما الملاعن وعصبته فلا يرثون منه شيئًا. وكذلك ولد الزنا. وهذا إجماع من أهل العلم. (وعن أبي هريرة) - رضي الله عنه - (مرفوعًا) إلى

باب ميراث ذوي الأرحام

النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من ترك مالًا فلورثته متفق عليه) فدل عموم هذا الحديث وغيره. وعموم قوله تعالى {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} على رد ما بقي بعد الفروض إن لم يوجد عصبة على ذوي الفروض بقدر إرثهم سوى الزوجين لأنه لا رحم لهما وهذا مذهب أحمد وأبي حنيفة وقال ابن سراقة عليه العمل في الأمصار. فيعطى كل من ذوي الفروض غير الزوجين من أصل ستة. وهي أربعة أصول: أصل اثنين واصل ثلاثة. وأصل أربعة. وأصل خمسة وإن كان هناك أحد الزوجين ففرضه من مخرج فرض الزوجية. واحد من اثنين أو أربعة أو ثمانية. وإن كان المردود عليه شخصًا واحدًا أخذه فرضًا وردًا كأم. أو عدد كإخوة لأم. وإن اختلف إرثهم فأنصباؤهم من أصل مسألة الرد كما هو معروف عند أهل هذا الفن. باب ميراث ذوي الأرحام جمع رحم. وهم كل قريب ليس بذي فرض ولا تعصيب. فمتى لم يوجد وارث صاحب فرض. ولم يوجد معصب. ورث أولو الأرحام عند أكثر أهل العلم. منهم عمر وعلي وعبد الله ومعاذ وغيرهم من الصحابة. وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد والأصح عند الشافعية إن لم ينتظم بيت المال. لعموم الآية والأخبار.

قال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ} أطلقهم علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا تعصيب. بل يدلون بوارث كخال والخالة والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} أي أحق بالتوارث {فِي كِتَابِ اللهِ} أي في حكم الله تعالى. والآية عامة. وتشمل ذوي الأرحام الذين لا فرض لهم ولا تعصيب بالاسم الخاص. فالجد أبو الأم ينتسب بالولادة اشبه أبا الأب ولأن لهم نسبًا فكانوا مقدمين على بيت المال كالعصبات وذوي الفروض. ولأن لهم سببين إسلامًا ورحمًا. وبيت المال ليس له إلا سبب واحد وهو الإسلام. وقال تعالى {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} ولفظ الرجال والنساء والأقربين يشمل ذوي الأرحام. ويرثون بالتنزيل عند أحمد وغيره. لأن بنت العمة بمنزلة الأب. وبنت الأخ بمنزلة الأخ ويصل كل منهما إلى الوارث في درجة واحدة. ومن قال بالقرابة فعلى ترتيب العصبة. وارثهم بشرط عدم أهل الفروض غير الزوجين وبعدم العصبة. وذكرهم وأنثاهم سواء كولد الأم. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن مولى للنبي - صلى الله عليه وسلم - خر) أي سقط (من عذق نخلة) العذق بالفتح النخلة وبالكسر العرجون بما فيه من الشماريخ (فمات فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال هل له من نسيب أو رحم) يعني قريبًا له بعد أصحاب الفروض والعصبة (قالوا لا) أي لا قرابة له بنسب ولا رحم

(قال اعطوا ميراثه بعض أهل قريته رواه الخمسة) وغيرهم. فدل الحديث على إرث ذوي الأرحام. وهو مذهب أكثر أهل العلم. وعن المقدام بن معد يكرب مرفوعًا "الخال وارث من لا وارث له" رواه الخمسة إلا الترمذي. ولهم سوى أبي داود كتب عمر إلى أبي عبيدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخال وارث من لا وارث له" وصححه الترمذي. وذكر ابن القيم أن أحاديث الخال رويت من وجوه مختلفة. رواتها ليسوا بمجروحين. وحكم ابن حبان بصحتها. وليس في أحاديث الأصول ما يعارضها. وجمهور العلماء يورثونه. وهو قول أكثر الصحابة. قال وأسعد الناس بهذه الأحاديث من ذهب إليها اهـ. والمراد إذا لم يكن ثم وارث من جميع الجهات من ذوي الفروض أو العصبات. وفي كتاب عمر والله ورسوله مولى من لا مولى له. فمن لم يكن له وارث ولا من ذوي الأرحام فلمصالح المسلمين. ولا يكون لبيت المال إلا مع عدم أهل الفروض والعصبة وذوي الأرحام. كما هو قول جمهور أهل العلم. ويدل له عمومات الكتاب والسنة والآثار. ومما يؤيد ميراث ذوي الأرحام أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم - "ابن أخت القوم منهم" ولا ريب في انتهاض مجموع الأحاديث للاستدلال بميراث ذوي الأرحام. (ونزل عمر) -رضي الله عنه- (العمة أبا) أي تنزل منزلته في الإرث مع عدم وعدم أهل الفروض والعصبة (والخالة

أما) تنزل منزلتها مع عدم أهل الفروض والعصبة وهو الصحيح عنه وعلي وغيرهما. قال الموفق وغيره لا مخالف لهم في الصحابة وأنه الصحيح لوجوه: منها الخبر الآتي وغيره ولأن الأم أقوى جهات الخالة. (وروي) عن الزهري (مرفوعًا) ولفظه "العمة بمنزلة الأب إذا لم يكن هناك أب. والخالة بمنزلة الأم إذا لم يكن بينهما أم" أي ولا أهل فرض ولا عصبة. (وعلي) بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وغيرهما (نزل بنت البنت بمنزلة البنت وبنت الأخ والأخت بمنزلة الأخ والأخت) فدل على أن إرث ذوي الأرحام بالتنزيل. ويجعل كل وارث بمنزلة من أدلى به. وهم أحد عشر صنفًا الأول: أولاد البنات وأولاد بنات البنين وإن نزلوا. الثاني أولاد الأخوات مطلقًا الثالث بنات الإخوة لغير أم وبنات بنيهم. والرابع أولاد الإخوة لأم. الخامس العم لأم. سواء كان عم الميت أو عم أبيه أو عم جده. السادس العمات مطلقًا وبنات بنيهم. السابع بنات الأعمام وبنات بنيهم. الثامن الأخوال والخالات مطلقًا. التاسع الأجداد الساقطون من جهة الأم والأب. العاشر الجدات السواقط. الحادي عشر كل من أدلى بأحد هذه الأصناف العشرة، كعمة العمة وخالة الخالة. وأبي أبي الأم وأخ العم لأمه وعمه

وعمته. ونحو ذلك. فينزل كل واحد من هذه الأصناف بمنزلة من أدلى به من الورثة. فأولاد البنات وإن نزلوا بمنزلة البنات. وأولاد بنات البنين وإن نزلوا بمنزلة بنات البنين. وبنات الإخوة وبنات بنيهم بمنزلة آبائهن. وأولاد الإخوة لأم ذكورًا كانوا أو إناثًا بمنزلة الإخوة لأم. والعم لأم والعمات مطلقًا بمنزلة الأب. والأخوال والخالات مطلقًا بمنزلة الأم. وأخوال الأب وخالاته مطلقًا بمنزلة أم الأب وأخوال الأم وخالاتها مطلقًا بمنزلة أم الأم وأبو الأم. وكل من أدلى به بمنزلة الأم. وأبو أم الأب وكل من أدلى به بمنزلة أم الأب وهكذا. فيجعل نصيب كل وارث لمن أدلى به. فإن كان واحدًا أخذ المال كله. وإن أدلى جماعة بجماعة قسمت المال بين المدلى بهم فما صار لكل واحد أخذه المدلى به. وإن أدلى جماعة بوارث واستوت منزلتهم منه بلا سبق فنصيبه لهم الذكر والأنثى سواء. فلو خلف شخص ثلاثة أولاد بنت فالمال بينهم أثلاثًا. وإن اختلفت منازلهم منه جعلتهم معه كميت اقتسموا إرثه. ففي ثلاث خالات متفرقات للشقيقة ثلاثة. وللخالة لأب واحد. وللخالة لأم واحد. وفي ثلاثة أخوال متفرقين لذي الأم السدس. والباقي لذي الأبوين. وإن كان معهم أبو أم أسقطهم. وإن حجب بعضهم بعضًا عملت به. ويسقط بعيد من وارث بأقرب منه إلا إذا اختلفت الجهة فينزل بعيد من وارث درجة درجة حتى يلحق به. فإن أدلى بعصبة أخذه

باب ميراث الحمل والمفقود والخنثى والغرقي

تعصيبًا وإن أدلى بذي فرض أخذه فرضًا وردًا. وجهاتهم أبوة وأمومة وبنوة. ومن أدلى بقرابتين ورث بهما. كبنت أخ لأم هو ابن عم مع بنت ابن عم. وإن كان مع ذوي الأرحام أحد الزوجين أخذ فرضه كاملًا. والباقي لذوي الأرحام. فإن كان واحدًا أخذه. وإن كانوا جماعة وانقسم فكذلك. كزوجة وبنت أخت وبنت أخ. وإن لم ينقسم نظرت بينه وبين مسألة الأرحام. فإن تباينا ضربت مسألة ذوي الأرحام في مسألة الزوج. فما بلغ فمنه تصح. باب ميراث الحمل والمفقود والخنثى والغرقي المراد بالحمل ما في بطن الآدمية المتوفى عنه وهي حامل به. يقال امرأة حامل وحاملة إذا كانت حبلى. والمفقود هو من انقطع خبره فلم تعلم له حياة ولا موت. سواء كان بأسر أو سفر غالبه السلامة. أو كان بما غالبه الهلاك. كمن غرق في مركب أو فقد من بين أهله. أو في مفازة مهلكة ونحو ذلك. والخنثى هو من لم تتضح ذكورته ولا أنوثته له شكل ذكر وفرج امرأة. أو ثقب في مكان الفرج يخرج منه البول. والغرقي جمع غريق مثل قتلى وقتيل. والمراد الميت في الماء. وكذا من خفي موتهم بنحو هدم أو غربة أو نار. (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا

استهل المولود) أي رفع صوته بالبكاء وصاح شديدًا عند ولادته (ورث) وفي لفظ "إذا استهل المولود صارخًا ورث" فصارخًا حال مؤكدة (رواه أبو داود) وللترمذي وغيره من حديث جابر "إذا استهل السقط صلي عليه وورث" فدل الحديثان على أن المولود إذا وقع منه الاستهلال. أو ما يقوم مقامه. كما لو عطس أو رضع أو تنفس وطال زمن التنفس. أو وجد منه دليل على حياته. كحركة طويلة أو سعال. ورث. لأن هذه الأشياء تدل على الحياة المستقرة. فيرث بشرطين بأن ولد حيًا لا ميتًا بالاتفاق. وبتحقيق وجوده في الرحم حين موت الموروث. ولو نطفة بلا نزاع. ومن خلف ورثة فيهم حمل يرثه. ولم يرضوا بوقف الأمر إلى وضعه. وطلبوا القسمة لم يعطوا كل المال بلا نزاع. ووقف للحمل الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين. لأن وضعهما كثير معتاد. فإذا ولد أخذ حقه من الموقوف. وما بقي فلمستحقه من الورثة. ومن لا يحجبه الحمل يأخذ إرثه كاملًا كالجدة. فإن فرضها السدس مع الولد وعدمه. ومن ينقصه الحمل شيئًا يعطى اليقين. كالزوجة والأم. فيعطيان الثمن والسدس. ومن سقط به كعصبة لم يعط شيئًا. للشك في إرثه. (وروي) من حديث أبي هريرة وغيره أخرجه الترمذي وغيره (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال أعمار أمتي) أي غالب أعمارهم (ما بين الستين) سنة (والسبعين) سنة لأن الغالب أن لا يعيش أكثر

من هذا. ويشهد له الحال وأقلهم من يجوز ذلك ومنهم من لا يبلغ الستين وفي القرون الماضية كانت أعمارهم وأبدانهم وأرزاقهم أضعاف ذلك ولم يزل الخلق يضعف حتى صارت هذه الأمة هي آخر الأمم فمن انقطع خبره ولا يدري حياته وموته. له حالتان: حالة يكون الغالب عليه السلامة. كمن سافر لتجارة أو سياحة أو طلب علم أن نحو ذلك. انتظر به حتى يتيقن موته أو تمضي عليه مدة لا يعيش في مثلها. وذلك مردود إلى اجتهاد الحاكم. وهو قول الشافعي والمشهور عن مالك وأبي حنيفة. لأن الأصل حياته. واتفقوا على أنه لا يقسم ماله حتى تمضي مدة لا يعيش في مثلها. وعن أحمد ينتظر به تمام تسعين سنة منذ ولد لأن الغالب أنه لا يعيش أكثر منها. والحالة الثانية يكون الغالب عليه الهلاك. كمن غرق في مركب فسلم قوم دون قوم. أو فقد من بين أهله. أو من بين الصفين. أو في مفازة مهلكة. أو نحو ذلك انتظر به تمام أربع سنين منذ فقد. وقد اتفق الصحابة على اعتداد امرأة المفقود بعد التربص هذه المدة. وحلها للأزواج بعد ذلك. وانقطاع خبره في تلك المدة يغلب على الظن هلاكه. ثم بعد مضي المدة يقسم ماله بين ورثته الأحياء. حين يحكم الحاكم بموته. وإن مات مورثه في مدة التربص أخذ كل وارث إذًا اليقين. وهو ما لا يمكن أن ينقص عنه مع حياة المفقود أو موته.

ووقف ما بقي. فإن قدم أخذ نصيبه الذي وقف. ورد الباقي على مستحقه. وإن مضت المدة ولم يعلم خبره فعن أحمد يرد إلى ورثة الميت الذي مات في مدة التربص قطع به الموفق وغيره. وإن بان موته قبل موت مورثه رد الموقوف على مستحقه بلا خلاف. وكذا إن بان ميتًا ولم يتحقق أنه قبل موت مورثه. واتفقوا على أنه لا يرث المفقود إلا الأحياء من ورثته. (وأنه سئل) أي وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل (عن مولود) خنثى (له قبل) كفرج المرأة (وذكر) كذكر الرجل (من أين يورث) وهو ينقسم إلى مشكل وغير مشكل. فمن ثبت فيه علامات الرجال أو النساء فيعلم أنه رجل أو امرأة. وليس بمشكل. وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه يعتبر إرثه بمباله. (قال) يورث (من حيث يبول) فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن حكمه حكم من ظهرت علاماته فيه. (وأنه) - صلى الله عليه وسلم - (أتى بخنثى من الأنصار فقال ورثوه من أول ما يبول منه) وهو قول علي ومعاوية وغيرهما وقال الموفق يعتبر بمباله في قول من بلغنا قوله من أهل العلم. وقال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الخنثى يورث من حيث يبول. إن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل. وإن بال من حيث تبول المرأة فهو امرأة. ولأن خروج البول أعم العلامات لوجودها في الصغير والكبير وإن كان مشكلًا فلا يخلو من حالتين. أما أن يرجى انكشاف حاله أولا.

فإن رجي بأن كان صغيرًا عومل هو ومن معه من الورثة بالأضر إن طلبوا القسمة ووقف الباقي عند الجمهور إلى أن يتضح أمره كبوله من أحد آلتيه. فإن بال منهما فبأسبقهما عند الجمهور. وإن استويا فبأكثرهما. وكحيضه وتفلك ثدييه ونبات لحيته. وإن لم يرج انكشاف حاله بأن مات وهو صغير. أو بلغ ولم يتضح أمره. أعطي نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى. قال الموفق وهو قول ابن عباس ولا يعلم له في الصحابة منكر. هذا إن ورث بهما متفاضلًا. وإن ورث بهما على السواء أعطي نصيبه كاملًا. وإن ورث بالذكورية فقط أعطي نصف ميراث ذكر. أو بالأنوثية فقط فنصف ميراث أنثى. وكخنثى مشكل في الحكم من لا ذكر له ولا فرج. ولا فيه علامة. ذكر ولا أنثى. وذكر الموفق وغيره أنه قد وجد ذلك. (ولم يورث أبو بكر) الصديق الخليفة الراشد -رضي الله عنه- وأرضاه (و) لا (غيره) من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كابن عباس وزيد بن ثابت والحسن بن علي وغيرهم (من علم موتهم معًا) أي جميعًا بعضهم من بعض (أو جهل السابق) منهم موتًا (بعضهم من بعض) وهو قول عمر بن عبد العزيز والزهري والأوزاعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد. وروى سعيد وغيره أن قتلى اليمامة وصفين والحرة لم يورث بعضهم من بعض. وأن أم كلثوم بنت علي وابنها زيدًا لم يدر أيهما مات أول

فلم ترثه ولم يرثها. ولأنه لم يكن حيًا حين موت الآخر. وشرط الإرث حياة الوارث بعد موت الموروث. وإذا مات متوارثان بغرق أو هدم أو حرق أو غربة أو نار ونحو ذلك فلهم خمسة أحوال إما أن يتأخر موت أحد المتوارثين ولو بلحظة. فيرث المتأخر إجماعًا. أو يتحقق موتهما معًا فلا إرث إجماعًا. أو تجهل كيفية موتهما. أو يعلم سبق أحدهما الآخر لا بعينه. أو يعلم السابق بالموت ثم ينسى. ففي هذه الأحوال الثلاثة عند الأئمة الثلاثة وإحدى الروايتين عن أحمد لا إرث بينهم. لما تقدم. وعنه إذا جهل السابق بالموت ولم يختلفوا فيه ورث كل منهما من الآخر من تلاد ماله دون ما ورثه منه دفعًا للدور. واحتجوا بما رواه الشعبي عن عمر لما وقع الطاعون بالشام: أن ورثوا بعضهم من بعض. وبما روي عن إياس بن معاوية مرفوعًا في قوم وقع عليهم بيت فقال يرث بعضهم من بعض ولكن قال الموفق إنما هو عن إياس نفسه. وحكاه أحمد عنه. والقول الأول مذهب الجمهور. وجزم به شيخ الإسلام. وقال لو مات متوارثان وجهل أولهما موتًا لم يرث بعضهم من بعض. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي. اهـ. وإن تداعيا ولا بينة. أو تعارضت بينتاهما حلف كل منهما على إبطال دعوى صاحبه. ولم يتوارثا لعدم وجود شرطه.

باب ميراث أهل الملل

باب ميراث أهل الملل جمع ملة بكسر الميم وهي الدين والشريعة. وتقدم أن اختلاف الدين من موانع الإرث. (وعن أسامة بن زيد) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" متفق عليه) ورواه الخمسة وغيرهم. وفي رواية قال يا رسول الله أتنزل غدًا في دارك بمكة قال "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور" وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب. ولم يرث جعفر ولا علي شيئًا. لأنهما كانا مسلمين. وكان عقيل وطالب كافرين. فدل الحديثان وغيرهما أن الكافر لا يرث المسلم. وهذا بإجماع المسلمين. وأن المسلم لا يرث الكافر وهو مذهب جمهور العلماء. وقال الموفق عند عامة الفقهاء. وعليه العمل والمرتد لا يرث أحدًا من المسلمين. وقال لا نعلم فيه خلافًا بين أهل العلم. لأنه لا يقر على ما هو عليه. وإن مات فقال شيخ الإسلام المرتد إن قتل في ردته أو مات عليها فماله لوارثه المسلم. وهو رواية عن أحمد وهو المعروف عن الصحابة. ولأن ردته كمرض موته. وقال ابن القيم القول الراجح أنه لورثته من المسلمين. وهو الصواب. قال الشيخ. والزنديق منافق يرث ويورث. لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأخذ من تركة منافق شيئًا. ولا جعله

فيئًا. فعلم أن التوارث مداره على النظرة الظاهرة. واسم الإسلام يجري عليه في الظاهر إجماعًا اهـ. واستثنى بعض الأصحاب الولاء. لما رواه الدارقطني. إلا أن يكون عبده أو أمته. فقالوا لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر إلا بالولاء. وجمهور العلماء أنه لا يرثه مع اختلاف دينهما. لخبر أسامة ولأنه ميراث فيمنعه اختلاف الدين كميراث النسب. وأولى. وميراث النسب أقوى. وإذا منع الأقوى فالأضعف أولى. (وللخمسة) وغيرهم فلأحمد وأبي داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر وللترمذي وغيره من حديث جابر -رضي الله عنهما- (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لا يتوارث أهل ملتين شتى) أي متفرقين في أديانهم. ورواه الحاكم وغيره وللبزار وغيره لا ترث ملة ملة. وقال علي -رضي الله عنه- الكفر ملل شتى. وقال الموفق لا نعلم له مخالفًا في الصحابة فكان إجماعًا فدل على أنه لا توارث بين أهل ملتين مختلفتين بالكفر. أو بالإسلام والكفر وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما. وذهب جماعة إلى أن المراد بالملتين الكفر والإسلام. فيكون كالحديث المتقدم. ولفظ الحديث ظاهر في عدم التوارث بين أهل ملل الكفر. ولأن كل فريق منهم لا موالاة بينهم. ولا اتفاق في دين. فلم يرث بعضهم بعضًا كالمسلمين والكفار. ويرث المجوسي وكل من يرى كل نكاح ذوي المحارم بقرابتين

إن أسلموا. أو تحاكموا إلينا قبل إسلامهم. لقوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ} وكذا حكم المسلم يطأ ذات رحم محرم منه بشبهة نكاح أو تسر. يثبت به الميراث والنسب. لا بنكاح ذات رحم محرم فلا يرثها ولا ترثه. ولو بعقد لا يقر عليه لو أسلم كمطلقته ثلاثًا قبل أن تنكح زوجًا غيره. (ولأبي داود عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (كل قسم في الجاهلية) أي كل ميراث قسم في الجاهلية (فهو على ما قسم) لا يرجع على من أخذ نصيبه. لاعتقاده ملكًا له أو استولى عليه وتملكه في جاهليته ومنع مالكه منه بحيث أيس منه ثم أسلم وهو في يده لا ينازعه فيه فله. (وكل قسم أدركه الإسلام) قبل أن يقسم (فإنه على قسم الإسلام) المنصوص عليه في شريعة الإسلام. فدل الحديث على أنه لو أسلم كافر قبل قسم ميراث مورثه المسلم ورث لهذا الخبر. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - "من أسلم على شيء فهو له" رواه سعيد. وقضى به عمر وعثمان. واشتهر فلم ينكر فكان إجماعًا. ولأن الناس أسلموا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين ولم ينطروا في أنكحة الجاهلية. ولا في عقودهم قال ابن جريج لعطاء أبلغك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر أهل الجاهلية على ما كانوا عليه. قال لم يبلغنا إلا ذلك. وأفتى أهل هذه الدعوة بأن المواريث التي قسمت في الشرك وتملكها أهلها ثم أسلموا لا تعاد. وأنه إذا

باب ميراث المطلقة والمقربة

منع الوارث شريكه من نصيبه في الإرث وأسلم والمال في يده فالمال له دون شريكه. سواء كان الممنوع رجالًا أو نساء. وإن كان لم يقسم قسم على فراض الله. باب ميراث المطلقة والمقربة أي باب بيان من يرث من المطلقات طلاقًا رجعيًا أو بائنًا يتهم فيه بقصد الحرمان. ومن لا يرث. وبيان إرث المقربه. (قضى أبو بكر وعمر) وعلي وغيرهم (بميراث المطلقة الرجعية) سواء كان في المرض أو في الصحة ولم تنقض عدتها. وهو إجماع من أهل العلم حكاه غير واحد. لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه ويملك إمساكها بالرجعة بغير رضاها. وإن أبانها في صحته لم يتوارثا إجماعًا. أو في مرضه غير المخوف ومات به لم يتوارثا عند الجمهور. أو المخوف ولم يمت به لم يتوارثا. لانقطاع النكاح وعدم التهمة. (وورث عثمان) رضي الله (تماضر) بنت رباب بن الأصبغ بن ثعلبة وهي أم مسلمة بن عبد الرحمن بن عوف (من عبد الرحمن بن عوف) بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي -رضي الله عنه- (وكان طلقها في مرضه وبتها) واشتهر فلم ينكر. وقال له عمر إن مت لأورثنها منك فقال قد علمت. قال ابن القيم ووافقه الصحابة على ذلك معارضة له

بنقيض قصده. وهذا مذهب جمهور أئمة الإسلام. وقضى به أيضًا عمر بن الخطاب. ولم يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك خلاف. وجزم ابن القيم وغيره أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت. حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد. وإن لم يقصد الحرمان لأن الطلاق ذريعة. وأما إذا لم يتهم ففيه خلاف معروف. مأخذه أن المرض أوجب تعلق حقها بماله. فلا يمكن من قطعه. أو سدًا للذريعة بالكلية. اهـ. وإن أبانها ابتداء بلا سؤال منها. أو سألته أقل من ثلاث فطلقها ثلاثًا. أو علق إبانتها في صحته على مرضه. أو على فعل له ففعله في مرضه لم يرثها إن ماتت لقطعه نكاحها. وترثه هي في العدة عند الجمهور. وبعدها في المشهور عن أحمد. وقول مالك وغيره. ما لم تتزوج فيسقط ميراثها. أو ترتد. ولو أسلمت بعد. لأن مجرد ارتدادها يسقط إرثها. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي واحمد لأنها فعلت باختيارها ما ينافي النكاح الأول. وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أباه طلق أمه وهو مريض فمات فورثته بعد انقضاء العدة. ولأن سبب توريثها فراره من ميراثها. وهو لا يزول بانقضاء العدة. ولو تزوج في مرض موته مضارة لتنقيص إرث غيرها وأقرت به فقال الشيخ ترثه. لأن له أن يوصي بالثلث. وإن فعلت في مرض موتها ما

يفسخ نكاحها ورثها إن اتهمت بقصد حرمانه. وإن ارتد أحد الزوجين ثم عاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة ورثه الآخر. لأن النكاح باق. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن سعد بن أبي وقاص) -رضي الله عنه- (اختصم هو وعبد بن زمعة) في ابن أمة زمعة فقال سعد يا رسول الله أوصاني أخي إذا قدمت أن أنظر ابن أمة زمعة فأقبضه فإنه إبني. وقال ابن زمعة أخي وابن أمة أبي ولد على فراش أبي. فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهًا بينًا بعتبة فقال "هو لك يا عبد بن زمعة" قالت عائشة (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الولد للفراش) وكانت فراشًا لأبيه "وللعاهر الحجر" فلا تلحق به (متفق عليه) فدل الحديث على أنه إذا أقر الورثة بوارث للميت ولو أنه واحد وصدق المقر به. أو كان صغيرًا أو مجنونًا والمقربه مجهول النسب. ثبت نسبه بشرط إمكان كونه منه. وثبت إرثه حيث لا مانع. لأن الوارث يقوم مقام مورثه في بيناته ونحوها. فكذلك النسب. ويعتبر إقرار زوج ومولى إن ورثا. وإن أقر بعض الورثة دون بعض بوارث للميت لم يثبت نسبه إجماعًا. لأن النسب لا يتبعض. ويثبت بشهادة عدلين منهم أو من غيرهم. ويثبت نسبه من مقر فقط. ويأخذ الفاضل بيده. أو ما في يده إن أسقطه. فإن أقر أحد ابني الميت بأخ مثله فله ثلث ما بيده. أو ببنت فلها خمسه. وإن أقر ابن ابن بابن دفع له كل ما بيده.

باب ميراث القاتل والمبعض والولاء

باب ميراث القاتل والمبعض والولاء أي باب بيان الحال التي يرث القاتل فيها. والحال التي لا يرث فيها. وبيان ميراث المعتق بعضه. والميراث بالولاء. وهو بالمد. والمراد ولاء العتاقة. وهو لغة الملك. وشرعًا ثبوت حكم شرعي بعتق أو تعاطي سببه. (عن عمر) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليس للقاتل من الميراث شيء رواه أحمد) ومالك وابن ماجه. وعن عمرو بن شعيب مرفوعًا "لا يرث القاتل شيئًا" رواه أبو داود والنسائي. ولهما شواهد. وإن كان فيها مقال فبمجموعها يحتج بها. وقضى بذلك عمر وعلي وشريح وغيرهم من قضاة المسلمين. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. وأكثر أهل العلم. قالوا لا يرث القاتل من المال. ولا من الدية شيئًا سواء انفرد بقتل مورثه أو شارك فيه مباشرة أو سببًا بلا حق. إن لزمه قود أو دية أو كفارة. والمكلف وغيره في ذلك سواء. قال شيخ والآمر بقتل مورثه لا يرثه. ولو انتفى عنه الضمان. وقال ابن القيم رحمه الله قتلًا مضمونًا بقصاص أو دية أو كفارة أو قتلًا مطلقًا. سواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع اتفاقًا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل. فسد الشارع الذريعة بالمنع، اهـ. أما إن قتل بحق قودًا كقصاص. أو حدًا

كترك زكاة أو لزنا ونحوه أو لصيالة دفعًا عن نفسه. أو بشهادة وارثه عليه بما يوجب القتل. أو تزكية الشاهد عليه بحق. أو قتل العادل الباغي وعكسه. ورثه لأنه فعل مأذون فيه فلم يمنع الميراث. كما لو أطعمه وسقاه باختياره. فأفضى إلى تلفه. وكذا لو أدب ولده أو زوجته ولم يسرف ومات ورثه. (وعنه) أي عن عمر -رضي الله عنه- (أنه - صلى الله عليه وسلم - ورث الزوجة من دية زوجها) أخبره بذلك الضحاك بن سفيان الكلابي أن النبي كتب إليه "أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. و (صححه الترمذي) فدل على أنه لا تختص به العاقلة. (وفي السنن عن عمرو) بن شعيب عن أبيه عن جده (مرفوعًا قضى) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن العقل) ميراث (بين ورثة القتيل) لا تختص به العاقلة (على فرائضهم) المقدرة لهم شرعًا. ورواه أحمد وغيره. والبخاري في تأريخه عن قرة بن دعموص قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وعمي فقلت يا رسول الله عند هذا دية أبي فمره يعطنيها. وكان قتل في الجاهلية فقال أعطه دية أبيه" فقلت هل لأمي فيها حق قال "نعم" وكانت ديته مائة من الإبل. فدلت هذه الأحاديث وغيرها أن الدية ميراث كسائر ماله لا يختص بها العاقلة بل ترث الزوجة من دية زوجها كما ترث من ماله وكذلك الأم وغيرها.

(وعن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (مرفوعا المكاتب يورث بقدر ما عتق منه) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم و (حسنه الترمذي) وقال الحافظ إسناده ثقات. وهو قول علي وابن مسعود وغيرهما. فيثبت له حكم الحرية فيما يتبعض من الأحكام حيًا وميتًا كالإرش والحد ويرث ويورث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية. وكسب وارثه بحريته لورثته كما إذا كان نصفه حرًا وهاياه مالك نصفه بأخذ نصف كسبه فنصف كسبه له. يختص به ورثته. ومن كله رقيق لا يرث ولا يورث إجماعًا ولو كان مدبرًا أو مكاتبًا أو أم ولد لخبر "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" واختاره الموفق وغيره. ولأنه لو ورث لكان لسيده وهو أجنبي ولا يورث لأنه لا مال له ومن قال يملك فملكه غير مستقر. ويرث الأسير عند الكفار إذا علمت حياته اتفاقًا. (وقال - صلى الله عليه وسلم - إنما الولاء لمن أعتق) وهو حديث متفق عليه. فأثبت الولاء ومقتضاه نفيه عمن سواه. وولاء العتاقة عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق. فمن أعتق عبدًا أو أمة أو أعتق بعضه فسرى إلى باقيه أو عتق عليه برحم أو كتابة أو إيلاد فله عليه الولاء إجماعًا. وقيل ولو أعتقه في زكاة أو كفارة. وقال أبو عبيد ولاؤه لصاحب الصدقة. وهو قول الجمهور ومن له عليه الولاء فله الولاء على أولاده. وأولادهم وإن سفلوا من زوجة عتيقة أو سرية وعلى من له

أو لهم ولاؤه، لأنه ولي نعمتهم، وبسببه عتقوا، ولأن الفرع يتبع أصله. ويرث ذو الولاء مولاه عند عدم عصبة النسب، وعدم ذوي فرض تستغرق فروضهم المال لخبر "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" ثم عصبة ذي الولاء بعده الأقرب فالأقرب، فمتى وجد عصبة النسب أو ذي فرض يستغرق المال فلا شيء للمولى ولا عصبته بلا خلاف. (وقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الولاء لحمة كلحمة النسب) أي يجري الولاء مجرى النسب. كما تخالط اللحمة سدى الثوب حتى يصير كالشيء الواحد (لا يباع ولا يوهب) وفي المتفق عليه "نهى عن بيع الولاء وعن هبته" (ولا يورث) ولا يوقف ولا يوصى به بل إنما يورث به (صححه الترمذي) وقال الشيخ معناه صحيح، وتكلم فيه بعضهم، فدل هو وغيره على عدم صحة بيع الولاء وهبته. فإن الولاء أمر معنوي كالنسب، لا يتأتى انتقاله، كالأبوة والأخوة لا يتأتى انتقالها. وعلى هذا جماهير العلماء ولا فرق بين كون ذلك في دار الإسلام أو الحرب، لتشبيه الشارع له بالنسب، ولو اختلف دينهما في قول جمهور العلماء. (ويروى) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ميراث الولاء للكبر من الذكور) بضم الكاف وسكون الموحدة أقرب عصبة السيد إليه يوم موت عتيقه ولا.

باب العتق

يرث النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن، أي باشرن عتقه، أو عتق عليهن بنحو كتابه، أو أعتقه من أعتقن، أي عتيق عتيقهن وأولادهم، ومن جروا ولاءه (قال أحمد وهو قول أكثر الناس) فمن أعتقن أو عتق عليهن ورثته بلا خلاف، لما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - "إنما الولاء لمن أعتق" وأن "المرأة تحوز إرث عتيقها" ولأنها منعمة بالإعتاق كالرجل، ما لم يوجد عصبة نسب أو ذي فرض يستغرق المال. ولا يرث بالولاء ذو فرض إلا أب وجد يرثان السدس مع الابن أو ابنه. وإن مات السيد عن ابنين ثم مات أحدهما عن ابن ثم مات عتيقه فإرثه لابن سيده وحده، لأنه أقرب عصبة إليه، وهو معنى قوله "للكبر" ولو مات ابنا السيد وخلف أحدهما ابنًا والآخر تسعة، ثم مات العتيق فإرثه على عددهم كالنسب، وهو قول أكثر العلماء، ولو اشترى أخ وأخته أباهما فعتق عليهما، ثم ملك قنا فاعتقه، ثم مات الأب ثم العتيق، ورثه الابن بالنسب دون أخته بالولاء، وتسمى مسألة القضاة، فروي عن مالك أنه سأل عنها سبعين من قضاة العراق فأخطأوا فيها. باب العتق وهو لغة الخلوص ومنه عتاق الخيل أي خالصها وعتق الفرخ إذا طار. والرقيق يخلص بالعتق ويذهب حيث شاء.

وسمي البيت العتيق لخلوصه من أيدي الجبابرة وشرعًا تحرير الرقبة وتخليصها من الرق. وهو مندوب إليه بالكتاب والسنة والإجماع. (قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ} أي عتق {رَقَبَةٍ} كفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم. وهو قتل المؤمن وإن كان خطأ وإنما كانت كفارة لعظم الأجر في تحريرها وتخليصها من الرق وخصت الرقبة مع وقوعه على جميع البدن لأن ملك السيد له كالغل في رقبته المانع له من التصرف. فإذا عتق فكأن رقبته أطلقت من ذلك الغل. وجعلها تعالى كفارة للظهار. فقال (فتحرير رقبة) وكفارة للأيمان فقال (وتحرير رقبة مؤمنة. ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) وكفارة للوطء في نهار رمضان بالسنة الصحيحة. ومتى كانت الرقبة مسلمة صح عتقها عن الكفارة فدلت الآية على فضيلة العتق. وقال {فَكُّ رَقَبَة} أي إعتاقتها وإطلاقها فداء له من النار. وذلك أنه قال تعالى {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَة} أي فهلا أنفق ما له فيم يجوز به العقبة. ثم قال {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة} تعظيمًا لشأنها. قيل عقبة في جهنم ثم أخبر عن مجاوزتها بفك الرقبة. ويشهد له الأحاديث الآتية في فكاكة من النار بعتق الرقبة فدلت هذه الآيات على عظم فضل عتق الرقاب. واتفق أهل العلم على أن العتق من القرب المندوب إليها بل من أفضلها لفك الرقبة من المحنة والبلوى بالرق.

(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من أعتق رقبة مسلمة) وفي لفظ "ايما امرئ مسلم أعتق امرءًا مسلمًا (أعتق الله) وفي لفظ "استنقذ الله" (بكل عضو منه) أي من المعتق (عضوًا منه) أي من المعتق (من النار متفق عليه) وللبخاري "حتى فرجه بفرجه" وللترمذي نحوه وزاد فامرأتين كانتا فكاكه من النار" ولأحمد "أيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار". فدل الحديث على أن العتق من القرب الموجبة للسلامة من النار. وأن إعتاق الذكر أفضل من المرأة. وأن التعدد أفضل. وأن اشتراط الإسلام لأجل هذا الأجر الجزيل وأنه بعد استحقاق المعتق للنار. وأنه لا نجاة له من النار بسبب عتق الكافرة وإن فيه فضل بلا نزاع لخبرا أسلمت على ما أسلفت" لكن ليس ثوابه كثواب الرقبة المسلمة. وإلا فعتق الكافرة يصح ولا أجر له، إلا أن انتهى أمره إلى الإسلام. وأجمعوا على أنه يصح عتق المالك التام الملك الصحيح الرشيد الغني غير العديم. وصريح العتق نحو أنت حر أو محرر أو عتيق أو معتق أو حررتك أو أعتقتك وهذه تلزم بالإجماع وكنايته نحو خليتك والحق بأهلك أو لا سبيل أو لا سلطان لي عليك وأنت لله أو مولاي وملكتك نفسه. فيقع العتق بها مع النية عند الجمهور والجمهور أن الأبناء تابعون في العتق والعبودية للأم.

(ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن أبي ذر) -رضي الله عنه- (قلت يا رسول الله أي الرقاب أفضل) أي عتقها (قال أنفسها عند أهلها) أي أعظمها وأعزها في نفوس أهلها. واغتباطهم بها أشد فإن عتق مثل ذلك ما يقع غالبًا إلا خالصًا كما قال تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} (وأكثرها ثمناً) للبخاري "أعلاها ثمناً" بالعين المهملة. ومعناهما متقارب. فالأكثر قيمة أفضل من الأدنى قيمة. وهذا والله أعلم كما قال النووي وغيره فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة. أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلاً أراد أن يشتري به رقاباً يعتقها فوجد رقبة نفيسة ورقبتين مفضوليتن. فالثنتان أفضل. إلا أنه يختلف باختلاف الأشخاص. فلو كان شخص بمحل عظيم من العلم والعمل وانتفاع المسلمين به. فعتقه أفضل من عتق جماعة ليس فيهم هذه الصفات فيكون الضابط الأكثر نفعًا. ويستحب عتق من له كسب لانتفاعه بكسبه وكره بعضهم عتق من لا كسب له لئلا يسقط نفقته عنه ويصير كلام على الناس وكذا من يخاف منه زنا أو فساد، وإن علم أو ظن حرم لأنه وسيلة إلى فعل المحرم ويصح مع التحريم لصدوره في محله. (وعن سفينة) أبي عبد الرحمن مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أصله من فارس فاشترته أم سلمة (قال أعتقتني أم سلمة)

بنت أبي أمية بن المغيرة أم المؤمنين واسمها هند رضي الله عنها (وشرطت علي أن أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عاش (رواه أحمد) والنسائي وابن ماجه ولأبي داود كنت مملوكًا لأم سلمة فقالت اعتقك واشترك عليك أن تخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عشت فقال لو لم تشترطي علي ما فارقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عشت فأعتقتني واشترطت علي. فدل على صحة اشتراط الخدمة على العبد المعتق. وصحة العتق المعلق على شرط. وأنه يقع بوقوع الشرط. لتقريره - صلى الله عليه وسلم - لذلك. قال ابن رشد لم يختلفوا أن العبد إذا اعتقه سيده على أن يخدم سنين أنه لا يتم عتقه إلا بخدمته ولخبر "المؤمنون على شروطهم " ولأن منافعه لسيده. فإذا أعتقه واستثنى منافعه فقد أخرج الرقبة وبقيت المنفعة. وإن علق عتقه على قدوم زيد أو رأس الحول عتق إذا قدم وجاء رأس الحول ولا يملك إبطاله ويصح على مال معلوم وإذا أداه عتق وإن كان له مال فلسيده عند الجمهور. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا لا يجزي ولد عن والده) أي لا يكافئه بماله من الحقوق عليه (إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه رواه مسلم) وإنما كان العتق جزاء لأبيه. لأن العتق أفضل ما من به أحد على أحد. لتخليصه بذلك من الرق فتكمل له أحوال الأحرار. والحديث نص في عتق الوالد. ومثله الأم لما ثبت لها من الحقوق.

(وللخمسة) وغيرهم (عن سمرة مرفوعاً من ملك ذا رحم محرم) أي عليه (فهو حر) أي يعتق بملكه إياه. والرحم أصله موضع تكوين الولد ثم استعمل للقرابة فيقع على كل من بينك وبينه نسب يوجب تحريم النكاح. فإنه يعتق عليه. كالآباء وإن علوا والأولاد وإن سفلوا. والإخوة وأولادهم. والأخوال والأعمام دون أولادهم. ودون من حرم عليه برضاع. ومذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم أن من ملك ذا رحم محرم عليه. يعني بنسب عتق. ذكراً كان أو أنثى. وحكاه ابن رشد قول جمهور العلماء. إلا داود الظاهري فعنده لا يعتق إلا بالإعتاق. والسنة حجة عليه. وقد صحح هذا الحديث جماعة من الأئمة. فتعين العمل به. وقوله في حديث أبي هريرة فيعتقه. والله أعلم أنه لما كان شراؤه تسبب عنه العتق. نسب إليه العتق. لهذا الخبر ولما عليه الجمهور. فإن استنادهم إلى السنة واجتهادهم في اتباعها. (وللبخاري استأذن رجال من الأنصار) من الطائفة المشهورة من بني النجار (أن يتركوا لابن أختهم العباس فداءه) وكانوا أخوال أبيه عبد المطلب. فإن أم عبد المطلب منهم. فهي سلمى بنت عمرو بن أحيحة من بني النجار ومثله قصة الهجرة ونزوله على أخواله بني النجار. وإنما هم أخوال جده (فقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا) أي لا تتركوا فداءه. فدل الحديث على أنه إذا كان في الغنيمة ذو رحم لبعض الغانمين

ولم يتعين له لم يعتق عليه. فإن العباس ذو رحم محرم من النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن علي رضي الله عنه. ومفهومه أنه لو تعين له لعتق فمن ملك سهماً ممن يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر عتق عليه كله. وإن ملك جزءاً منه بميراث لم يعتق عليه إلا ما ملك منه. ولو كان موسراً. (وتقدم) أي في باب الغصب (حديث من أعتق شركًا له في عبد) أي حصة ونصيبًا وفي لفظ "شقصًا" وهون النصيب أيضًا (وكان له مال) أي يبلغ ثمن العبد (قوم عليه قيمة عدل) بلا زيادة ولا نقص. وأعطى شركاءه حصصهم (وعتق عليه) أي العبد. والحديث متفق عليه وفيه "وإن لم يكن له مال يبلغ ثمن العبد فقد عتق منه ما عتق" وفي رواية "من أعتق عبدًا بينه وبين آخر قوم عليه في ماله قيمة عدل ولا وكس ولا شطط ثم عتق عليه في ماله إن كان موسرًا". وفي رواية للبخاري "فإن كان موسرًا قوم عليه ثم يعتق" وفي رواية "وجب عليه أن يعتق كله إن كان له مال. قدر ثمنه يقام قيمة عدل ويعطى شركاءه حصصهم ويخلى سبيل المعتق" وفي رواية "وكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة العدل فهو عتيق" ولمسلم "عتق ما بقي في ماله إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد" ولأحمد وقال "ليس لله شريك" فدلت هذه الأحاديث وغيرها على أن من له حصة في عبد إذا أعتق حصته فيه وكان موسرًا لزمه تسليم حصة شريكه بعد تقويم الشريك تقويم

مثله. وعتق عليه العبد جميعه. وأجمع أهل العلم على أن نصيب المعتق يعتق بنفس الإعتاق. واختار الشيخ بدفعها وأنه إن أعتق الشريك قبل الدفع نفذ. ودلت على أنه لا يعتق سنصيب شريكه إلا مع يسار المعتق لا مع إعساره. لقوله "وكان له مال" وإن لم يكن له مال فقد عتق منه ما عتق" وهي حصته. أما لو كان يملكه كله فأعتق بعضه عتق عليه كله. قال ابن رشد هذا متفق عليه. وقال أيضًا جمهور علماء الحجاز والعراق مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وغيرهم يقولون يعتق عليه كله. لما ثبتت به السنة في إعتاق نصيب الغير على الغير لحرمة العتق. فلأن يجب ذلك عليه في ملكه أولى وأحرى. (ولهما من حديث أبي هريرة) -رضي الله عنه- نحو ما تقدم ولفظه "من أعتق شقصًا له من مملوكه فعليه خلاصه في ماله (وإلا) أي وإن لم يكن له مال (قوم العبد عليه) أي قيمة عدل لا جور ولا شطط (ثم استسعى) يعني العبد في النصيب الذي لم يعتق (غير مشقوق عليه) قال جماعة من أهل التحقيق هذه الزيادة ثابتة في الصحيحين والجمع ممكن فالمعسر إذا أعتق حصته لم يسر العتق في حصة شريكه بل تبقى حصة شريكه على حالها. وهي الرق ثم يستسعى العبد في عتق بقيته إن اختار ذلك. واختاره الشيخ وغيره لقوله "غير مشقوق عليه" فيحصل ثمن الجزء الذي لشريك سيده ويدفعه إليه.

ويعتق. وجعلوه في ذلك كالمكاتب وجزم بذلك الجمهور ولأبي داود "واستسعى في قيمته لصاحبه". (ولهما عن جابر أن رجلًا) اسمه أبو مذكور كما في مسلم (أعتق غلامًا له عن دبر) وفي لفظ أعتق رجل من الأنصار غلامًا له اسمه يعقوب عن دبر. بضم الباء وهو العتق في دبر الحياة سمي بذلك لأن الموت دبر الحياة. أو لأنه دبر أمر دنياه باستخدامه ذلك المدبر. واسترقاقه. ودبر أمر آخرته بإعتاقه. وتحصيل أجر العتق. وسيده علق عليه عتقه بموته. والتعليق نحو أن يقول أنت حر بعد موتي. أو أنت حر عن دبر مني أو إذا مت فأنت حر أو أنت مدبر. هذه ألفاظ التدبير بالاتفاق. فدل على مشروعية التدبير وهو إجماع. واتفقوا على أن الذي يقبل هذا العقد هو كل عبد صحيح العبودية. ليس يعتق على سيده سواء ملكه كله أو بعضه. وأن من شروط المدبر أن يكون مالكًا تام الملك غير محجور عليه سواء كان صحيحًا أو مريضًا وأن من شرطه أن لا يكون الدين أحاط بماله. ولا يبطل بإبطال ولا رجوع لأنه تعليق للعتق بالموت. ويتنجز به وهل ينفذ من رأس المال. أو من الثلث الجمهور على أنه من الثلث حكاه الوزير وغيره. وتقدم خبر الذي أعتق ستة أعبد فأعتق - صلى الله عليه وسلم - اثنين واسترق أربعة. فالعتق أقرب شبهًا بالوصية فإن خرج من الثلث وإلا عتق منه بقدره.

باب الكتابة

قال جابر (فاحتاج) أي السيد (فباعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفع ثمنه إليه) وفي لفظ ولم يكن له مال غيره. فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من يشتريه مني" فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم. وللنسائي فأعطاه وقال "اقض دينك وأنفق على عيالك" فدل على جواز بيع المدبر لحاجة النفقة. أو قضاء الدين. وقال ابن رشد وغيره اتفقوا على أن الدين يبطل التدبير ويصح وقف المدبر ويبطل به التدبير ويصح بيعه ونحوه. قال الجوزجاني صحت أحاديث بيع المدبر باستفاضة الطرق ولأنه عتق بصفة. باب الكتابة اسم مصدر بمعنى المكاتبة مشتقة من الكتب. وهو الجمع. لأنها تجمع نجومًا بمعنى الجمع. أو لأن السيد يكتب بينه وبين رقيقه كتابًا بما اتفقا عليه. وشرعًا بيع سيد عبده نفسه بمال معلوم مؤجل في ذمته. وقيل إنها متعارفة قبل الإسلام. . فأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} وأول الآية {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} أي يطلبون المكاتبة {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} أمر تعالى السادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم. واتفق أهل العلم على أنها مستحبة مندوب إليها.

وروي عن أحمد وغيره وجوبها إذا دعا العبد سيده إليها على قدر قيمته أو أكثر. وقال الموفق لا تجب في ظاهر المذهب. وهو قول عامة أهل العلم اهـ. وتكون منجمة نجمين فأكثر رفقًا بالمملوك يسعى ويؤدي لا بواحد ولو طال قال الموفق روي عن جماعة من الصحابة. ولم ينقل عنهم عقدها حالة ولأن الكتابة مشتقة من الكتب وهو الضم. ولما يأتي. أو لعجزه عن أدائها في الحال وتصح بمنفعة مفردة أو معها مال. ولا تصح إلا من جائز التصرف. ولا يكاتب مجنونًا ولا طفلًا غير مميز وتصح بكاتبتك على كذا مع قبول العبد قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه إذا قال كاتبتك على ألف درهم ونحوها. ونوى العتق أنه متى أداها عتق. ولم يفتقر إلى أن يقول إذا أديت لي فأنت حر. لأن اسم الكتابة لفظ شرعي. فهو يتضمن جميع أحكامه. ويملك كسبه ونفعه. وكل تصرف يصلح ماله. كبيع وإجارة إجماعًا لأن عقد الكتابة لتحصيل العتق ولا يحصل إلا بأداء عوضه. ولا يمكنه إلا بالاكتساب وقوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أي قوة على الكسب. وأمانة وصلاحًا ونحو ذلك قال ابن رشد وغيره اتفق أهل العلم على أن من شرط المكاتب أن يكون قويًا على السعي لقوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} قيل الاكتساب والأمانة. وقيل الصلاح والدين. وأنكر بعض أهل العلم أن يكاتب من لا حرفة له. مخافة

السؤال وكرهها لئلا يكون كلا على الناس. وقال الموفق ينبغي أن ينظر في المكاتب. فإن كان ممن تضرر بالكتابة ويضيع لعجزه على الإنفاق على نفسه. ولا يجد من ينفق عليه كرهت كتابته. وإلا لم تكره لحصول النفع بالحرية من غير ضرر. ومتى أدى ما عليه من الكتابة. أو أبرأه سيده عتق إجماعًا {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قيل الثلث وقيل الربع وهو قول أكثر المفسرين وقدره أحمد بالربع واستحبه مالك وغيره وقال بعضهم بلا تقدير. بل بجزء من المال بلا حد للإطلاق. (قال على ربع الكتابة) أي في قوله: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وقاله طائفة من أهل التفسير وأوجب أحمد وغيره أن على السيد أن يؤدي إلى من وفى كتابته ربعها. ورفعوا أثر علي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يثبت وإنما هو موقوف على علي -رضي الله عنه- كما صرح به النسائي وغيره ورواه ابن جرير وغيره عن علي أنه قال أمر الله السيد أن يدع الربع للمكاتب من ثمنه. وهذا تعليم من الله وليس بفريضة ولكن فيه أجر وهو مذهب جماهير أهل العلم. (وفي الصحيحين) وغيرهما من غير وجه عن عائشة رضي الله عنها (أن بريرة) مولاة عائشة قيل كانت مولاة لقوم من الأنصار وقيل غير ذلك (جاءت عائشة) رضي الله

عنها وهي مكاتبة على تسع أواق (تستعينها في كتابتها) وكانت قالت لعائشة كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فاعينيني فقال - صلى الله عليه وسلم - "اشتريها" فاشترتها قال ابن المنذر بيعت بريرة بعلم من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي مكاتبة ولم ينكر ذلك ففيه أبين البيان أن بيعه جائز. ولا أعلم خبرًا يعارضه اهـ. ولأنه قن ما بقي عليه درهم. ومشتري المكاتب يقوم مقام مكاتبه. ويبقى المكاتب على كتابته عند المشتري. وعلى نجومه. كما كان عند البائع. ويؤدي له ما بقي من كتابته ولا تنفسخ كتابته بالبيع ولا يجوز إبطالها قال الموفق لا نعلم فيه خلافًا لأنها عقد لازم ومتى أدى إليه عتق باتفاق أهل العلم وولاؤه له لما في هذا الحديث وغيره "إنما الولاء لمن أعتق" وإن عجز عاد قنا. كما لو كان عند مكاتبه وفيه جواز طلب الإعانة على الكتابة. (ولأحمد عن سهل) بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- (مرفوعًا من أعان مكاتبًا في رقبته) أي في فكاك رقبته من الرق بنحو أداء بعض النجوم عنه (أظله الله) من حر الشمس عند دنوها من الرؤوس يوم القيامة (في ظله) أي في ظل عرشه كما تشهد له النظائر (يوم لا ظل إلا ظله) جزاء بما فعل، وأضاف الظل إليه للتشريف فدل على عظم أجر إعانة المكاتب. (وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده رضي الله

عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أيما عبد كوتب بمائة أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو رقيق) وفي لفظ فهو عبد فلا يعتق إلا بالأداء (رواه الخمسة) ولأبي داود "المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم" حسنه الحافظ. قال الشافعي وعليه فتيا المفتين. فدل على أن المكاتب إذا لم يف بما كوتب عليه فهو عبد له أحكام المماليك وهو مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين وأخذ بالاحتياط فلا يزول ملك السيد إلا بما قد رضي به من تسلم ما عند عبده. وكذا مشتريه له حكم بائعه. (ولهم عن أم سلمة) رضي الله عنها (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لها (إذا كان لأحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي) كتابته (فلتحتجب منه صححه الترمذي) فدل على أن المكاتب إذا صار معه جميع مال الكتابة فقد صار حرًا وإن لم يكن قد سلمه فتحتجب منه سيدته. وهذا أيضًا أخذ بالاحتياط لأنه بوجود ما يفدي به نفسه قد صار له ما للأحرار وتقدم أنه متى أدى كتابته عتق ولم يفتقر أن يقول فإذا أديت لي فأنت حر. لأن اسم الكتابة أمر شرعي. فهو يتضمن جميع أحكامه. واتفقوا على أنه إنما يرق إذا عجز عن البعض أو الكل. ومن عنده ما يفدي ليس بعاجز. أما إذا عجز عن البعض وقد أدى البعض فهو عبد ما بقي عليه درهم. وأنه يرق إذا عجز عن البعض. وهو قول جماهير العلماء. وفيه جواز النظر إلى

سيدته ما لم يكاتبها ويجد مال الكتابة ويشهد له قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة لما تقنعت بثوب "إنما هو أبوك وغلامك" رواه أبو داود. وكان مماليك أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلون عليهن وهو مذهب جمهور أهل العلم. (وسأل سيرين) وهو والد محمد بن سيرين الفقيه المشهور وكان من سبي عين التمر اشتراه أنس في خلافة أبي بكر فسأل (أنسا) يعني ابن مالك -رضي الله عنه- (الكتابة وكان كثير المال فأبى) يعني أنسا فانطلق سيرين إلى عمر فقال عمر كاتبه فأبى (فضربه عمر) يعني بالدرة (وتلا) عمر {فَكَاتِبُوهُمْ} {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (رواه البخاري) فدل على جواز إجبار السيد على مكاتبة عبده ولم يخالف أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - واختار ابن جرير وغيره وجوب الكتابة كما تقدم والجمهور على الندب. (وعن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من وطئ أمته فولدت له فهي معتقة عن دبر منه رواه أحمد) وابن ماجه. وفي لفظ "أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه" أو قال من بعده وللدارقطني ذكرت أم إبراهيم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال "أعتقها ولدها" وروي عن عمر وغيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه الأحاديث وما جاء من الآثار ظاهرة الدلالة على أن الأمة إذا ولدت من سيدها

صارت أم ولد له. تعتق بموته من كل ماله. وكذا إن أولد أمته المدبرة أو المكاتبة أو أمة له ولغيره. أو أمة لولده لم يطأها وهو مذهب جماهير العلماء أبي حنيفة ومالك وأحمد وأحد قولي الشافعي. بشرطين: أحدهما أن تكون حملت به في ملكه. قال ابن رشد اتفقوا على أنه إن ملكها قبل حملها منه فإن وطئها حاملًا حرم عليه بيع الولد ويعتقه لأن الماء يزيد في الولد. وقال الموفق إنما ثبت الإجماع فيمن حملت منه في ملكه. قال ابن رشد والقياس أن تكون أم ولد في جميع الأحوال. إذ ليس من مكارم الأخلاق أن يبيع أم ولده الثاني إذا تبين فيه خلق الإنسان قال عمر إذا ولدت الأمة من سيدها فقد عتقت وإن كان سقطًا وعن ابن عمر أعتقها ولدها وإن كان سقطًا. وقال الموفق لا أعلم فيه خلافًا بين من قال بثبوت حكم الاستيلاد اهـ. وسواء ولدت منه في الصحة أو في المرض. (وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (أن عمر نهى عن بيع أمهات الأولاد) أصل أم أمهة فلذا جمعت على أمهات باعتبار الأصل (وقال لا يبعن) لأنهن يعتقن بموت سيدهن وبيعهن يمنع ذلك (ولا يوهبن) لأن الهبة في معنى البيع (ولا يورثن) فلسن بمال بل يعتقن بموت سيدهن. وذكره غير واحد إجماع الصحابة (يستمتع بها ما بدا له حيًا) فهي كأمته

القن في سائر أمورها إلا أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث. قال الوزير اتفقوا على أنها لا تباع أمهات الأولاد والهبة في معنى البيع وكذا لا تجعل صداقًا ولا عوض خلع ولا يوصى بها لأنها تعتق بموته ولا ترهن لأنه يراد للبيع. (وإذا مات فهي حرة رواه مالك) والدارقطني وغيرهما ورفعاه في رواية والموقف أصح وعليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماهير العلماء لحكمه - صلى الله عليه وسلم - أنها معتقة عن دبر منه قال ابن رشد الثابت عن عمر أنه قضى بأنها لا تباع أمهات الأولاد. وأنها حرة من رأس مال سيدها إذا مات. وروي مثله عن عثمان. وهو قول أكثر التابعين وجمهور فقهاء الأمصار. وحكى ابن عبد البر وأبو حامد الاسفيرائني وأبو الوليد الباجي وابن بطال والبغوي وغيرهم الأجماع على أنه لا يجوز وما في يدها من شيء فلورثة سيدها لأنها أمة وكسبها لسيدها فإذا مات انتقل إلى ورثته وإن ماتت في حياته فارثها له لأنها رقيقة. (ولأبي داود عن جابر) بن عبد الله -رضي الله عنه- قال (بعناهن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر فلما كان عمر نهانا فانتهينا) فدل على عدم جواز بيعهن وهو قول الجمهور وحكى الموفق إجماع الصحابة عليه ولا يقدح فيه ما روي عن علي وابن عباس وابن الزبير لأنه قد روي عنهم الرجوع عن المخالفة. قال عبيدة لعلي رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة. وعللوا ما على

عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر أنه لم يصرح بعلمهما وإلا لم تجتمع الصحابة على مخالفتهما ويؤيده قوله تعتق عن دبر منه والبيع يمنع ذلك. وتصح مكاتبتهن لأنها تراد للعتق فإذا أدين في حياة سيدهن عتقن وما بيدهن لهن. وإن مات وعليهن شيء عتقن بموته وما بيدهن للورثة ويتبعهن أولادهن في الرق والحرية عند جمهور العلماء. * * *

كتاب النكاح

كتاب النكاح هو في اللغة الوطء والضم والتداخل والجمع بين الشيئين وقد يطلق على العقد. فإذا قالوا نكح فلانة أو بنت فلان أرادوا تزوجها وعقد عليها. وإذا قالوا نكح امرأته لم يريدوا إلا المجامعة. وقال الزجاج النكاح في كلام العرب بمعنى العقد والوطء جميعًا وفي الشرع والعرف لفظ مشترك يعم العقد والوطء جميعًا ليس أحدهما أخص به من الآخر فهو من الألفاظ المتواطئة إلا قوله: {حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}. وقال الشيخ النكاح في الآيات حقيقة في العقد والوطء والنهي لكل منهما. والمقعود عليه منفعة الاستمتاع أو الحل. ومال الشيخ إلى أن المعقود عليه الإزدواج كالمشاركة. والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع في الجملة. فلو جعل عتقها صداقها لم يحتج إلى لفظ انكاح. وفوائده كثيرة. منها أنه سبب لوجود هذا النوع الإنساني ومنها قضاء الوطر بنيل اللذة والتمتع بالنعمة وهي الفائدة في الجنة ومنها غض

البصر وكف النفس عن الحرام وغير ذلك. (قال تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} أمر تعالى بنكاح ما طاب لنا من النساء والأمر يقتضي الوجوب. وهو رواية عن أحمد. وقول بعض أهل العلم لكن الجمهور أنه في حق من يخاف زنا بتركه. والسنية لذي شهوة لا يخاف زنا من رجل وامرأة وحكاه الوزير وغيره إجماعًا {مَثْنَى} أي اثنتين {وَثُلاَثَ} أي ثلاثًا {وَرُبَاعَ} أي أربعًا أي إن شاء أحدكم فليتوزج اثنتين. وإن شاء فليتزوج ثلاثًا وإن شاء فليتزوج أربعًا قال أهل العلم المقام مقام امتنان وإباحة فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره. وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة كما دلت عليه السنة الصحيحة المستفيضة مما سيأتي وغيره {فَإِنْ خِفْتُمْ} أي خشيتم أو علمتم من تعددهن {أَلاَّ تَعْدِلُواْ} بين الأزواج {فَوَاحِدَةً} أي فانكحوا واحدة. لأن الزيادة عليها والحال ما ذكر تعريض للمحرم. كما قال تعالى {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني السراري. لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق ما يلزم في الحرائر. ولا قسم لهن. ولا وقف في عددهن {ذَلِكَ أَدْنَى} أي أقرب {أَلاَّ تَعُولُوا} أي أن

لا تجوروا ولا تميلوا يقال عال في الحكم إذا جار. ففي الآية الأمر بالنكاح. ويجب على من يخاف زنا بتركه ومن تاقت نفسه إليه فإنه تتأكد مشروعيته في حقه وهو أفضل له من التطوع وإن حصل الإعفاف بواحدة وإلا استحب الزيادة إن لم تعفه. إن كان قادرًا على كلفة ذلك مع توقان النفس إليه. ولم يترتب عليه مفسدة أعظم من فعله. وقال الشيخ يجب على من خاف على نفسه العنت في قول عامة الفقهاء. إذا قدر على مهر حرة ويجزئ التسري حيث وجب. أو استحب لقوله {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}. (وقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} الأيامى جمع أيم. وهو من لا زوج له من رجل أو امرأة يقال رجل أيم وامرأة أيم وأيمة أي زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} خص الصالحين لأن إحصان دينهم والاعتناء بحالهم أهم وأكثر. وهذا إيجاب وندب إيجاب على من خاف العنت. وندب واستحباب على من تاقت نفسه إليه وأمن العنت. وهذا مذهب جماهير العلماء. وقال الشيخ تزويج الأيامى فرض كفاية إجماعًا. فإن أباه حاكم إلا بظلم كطلبه جعلا لا يستحقه صار وجوده كعدمه. (وعن ابن مسعود) عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) لنا (يا معشر الشباب) جمع

شاب كالشبان. وأصله الحركة والنشاط. واسم لمن بلغ حتى يبلغ ثلاثين. ثم هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين ثم هو شيخ والمعشر الجماعة خاطب الشباب لأنهم أغلب شهوة (من استطاع منكم الباءة) بالمد والهاء وفيها لغة بالقصر وأصلها النكاح من البات وهو المنزل لأن من تزوج امرأة بوأها منزلًا. والمراد بها هنا الجماع أو مؤن النكاح. ومراده من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤن النكاح. قال الحافظ ولا مانع من الحمل على المعنى الأعم بأن يراد بالباءة القدرة على الوطء ومؤن التزويج وقال الشيخ استطاعة النكاح هي القدرة على المؤونة ليس القدرة على الوطء. فإن الحديث إنما هو خطاب على القادر على فعل الوطء (فليتزوج) وفي رواية "من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج" وللنسائي من كان ذا طول فلينكح أمر ندب عند جمهور الفقهاء. وحمله الظاهرية وغيرهم على الوجوب وهو رواية عن أحمد وتقدم أنه واجب على من خاف العنت وقال القرطبي لا يختلف في وجوبه عليه. وأجمع أهل العلم على استحبابه لمن تاقت نفسه إليه وأمن العنت. واتفقوا على أنه يتأكد في حقه ويكون له أفضل من حج التطوع وجهاد التطوع وصلاة التطوع وصوم التطوع لأنه طريق إعفاف نفسه وصونها عن الحرام ولا فرق بين القادر على الإنفاق والعاجز عنه وقال الشيخ ظاهر كلام أحمد

والأكثرين عدم اعتبار الطول. لأن الله وعد عليه الغناء لقوله: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} وتقدم أنه يجزئ التسري حيث وجب أو استحب وقال إذا خشيه جاز تزوج الأمة مع أن تركه أفضل. وإن احتاج إلى النكاح وخشي العنت بتركه قدمه على الحج الواجب. وإن لم يخف قدم الحج. وقال إن كانت العبادات فرض كفاية كالعلم والجهاد قدمت على النكاح إذا لم يخف العنت. ولم يتزوج أحمد إلا بعد أربعين سنة. وشيخ الإسلام لم يتزوج لاشتغالهما بالعلم. وذكر القرطبي وغيره من الأئمة أنه يحرم بدار حرب إلا لضرورة. فيباح لغير أسير وأنه يحرم على من يخل بالزوجة في الوطء والإنفاق مع قدرته عليه وتوقانه إليه. ويكره في حق مثل هذا. حيث لا إضرار بالزوجة. ويندب في حق كل من يرجى منه النسل. ولو لم يكن له في الوطء شهوة للحث عليه والأمر به. ويباح فيما إذا انتفت الدواعي والموانع. وعدم النسل (فإنه أغض للبصر) أي أشد غضًا وأخفض لعين المتزوج (وأحصن للفرج) أي أشد إحصانًا له وحفظًا ومنعًا من الوقوع في الفاحشية. (ومن لم يستطع) الباءة لعجزه عن مؤنة النكاح (فعليه الصوم) ليدفع شهوته ويقطع شرفيته كما يقطعه الوجاء (فإنه له وجاء) بكسر الواو والمد رض عروق الخصيتين. فيكون شبيهًا بالخصاء (متفق عليه) وإنما جعل الصوم وجاء

لأنه بتقليل الطعام والشراب يحصل للنفس انكسار عن الشهوة ولسر جعله الله في الصوم. فإنه لا ينفع تقليل الطعام وحده من دون صوم. (ولهما عن أنس) -رضي الله عنه- (قال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وأتزوج النساء) وذلك أنه جاء ثلاثة نفر فسألوا أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عبادته فكأنهم تقالوها فقالوا أين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدًا وقال الآخر وأنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج فقال - صلى الله عليه وسلم - "ولكني أنا أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء". فدل على الترغيب في التزوج والحث عليه. وأنه سنة المرسلين المتبعة وأن الإعراض عن الأهل والأولاد ليس مما يحبه الله ورسوله. ولا هو دين الأنبياء. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} وتقدم أن فعله مع الشهوة أفضل من نوافل العبادة لاشتماله على مصالح كثيرة. وقال - صلى الله عليه وسلم - (فمن رغب عن سنتي) أي أعرض عن طريقتي (فليس مني) وهذا وعيد شديد ويجري على ظاهره أبلغ في الزجر. فإن من تبرأ منه سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - فقد اقترف ذنبًا عظيمًا يعد من الكبائر قال أحمد ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء وروي "لا صرورة في الإسلام" والصرورة الذي لم يتزوج وقال من دعاك إلى غير التزويج فقد دعاك إلى غير

الإسلام ولو تزوج بشر كان قد تم أمره ولو كان التخلي والتبتل أفضل لانعكست الأحكام. وقال ابن عباس لرجل تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء والمشروع هو الاقتصاد في العبادات دون الانهماك والإضرار بالنفس. وهجر المألوفات كلها. وهذه الأمة المحمدية مبنية شريعتها على الاقتصاد والتيسير. وعدم التعسير {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} والأولى التوسط في الأمور. وعدم الإفراط والتفريط. والأخذ بالتشديد يؤدي إلى الملل. وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلًا وترك النفل يفضي إلى البطالة. وخير الأمور أوساطها. قال تعالى: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وهديه - صلى الله عليه وسلم - أكمل هدي. وسنته أكمل السنن. وأعدلها. ولا يعدل عنها إلا مبتدع. (ولأحمد عنه) أي عن أنس -رضي الله عنه- (كان) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يأمرنا بالباءة) يعني التزوج (وينهانا عن التبتل) وهو الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعًا إلى عبادة الله. وأصل البتل القطع. ومنه قيل لمريم البتول. ولفاطمة البتول لانقطاعهما عن نساء زمانهما دينًا وفضلًا. ورغبة في الآخرة (نهيًا شديدًا) وتقدم قوله "فليتزوج" وقال "من رغب عن سنتي" وغير ذلك (ويقول تزوجوا الودود) أي المودودة المحبوبة بكثرة ما هي عليه من خصال الخير. وحسن الخلق والتحبب إلى زوجها.

(الولود) أي كثيرة الولد. ويعرف ذلك في البكر بحال قرابتها. بأن تكون من نساء يعرفن بكثرة الولادة. إذ الغالب سراية طباع الأقارب بعضهن إلى بعض. ولأبي داود والنسائي جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب. إلا أنها لا تلد. أفأتزوجها؟ فنهاه ثم أتاه الثانية والثالثة فقال - صلى الله عليه وسلم - "تزوجوا الودود الولود" قيد بهاتين الصفتين لأن الولود إذا لم تكن ودودًا لم يرغب الزوج فيها. والودود إذا لم تكن ولودًا لم يحصل المطلوب. وهو تكثير الأمة. ثم قال - صلى الله عليه وسلم - (فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة) وفي غير ما حديث "مكاثر بكم الأمم" أي بأمته صلوات الله وسلامه عليه. والمكاثرة المفاخرة ففيه جوازها في الدار الآخرة ولأحمد "أنكحوا أمهات الأولاد فإني مباه بكم يوم القيامة" ووجه ذلك أن أمته أكثر فثوابه أكثر. لأن له مثل أجر من تبعه. وفي هذه الأحاديث وما في معناها مشروعية النكاح. والترغيب فيه. وفي المرأة الصالحة الودود الولود. وقال - صلى الله عليه وسلم - "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب" وقال "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة" وللحاكم من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه". (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تنكح المرأة) لأربع أي يرغب في نكاحها ويدعو إليه منها لأجل أربع خصال في غالب العادة (لمالها) حتى قيل إنه حسب من لا حسب له (ولحسبها) الحسب في الأصل.

الشرف بالآباء والأقارب. وقيل هنا الفعل الجميل للرجل وآبائه ويقال الحسب المال والكرم والتقوى إلا أنه هنا لا يراد به المال فالحسيبة هي النسيبة طيبة الأصل ليكون ولدها نجيبًا فإنه بما أشبه أهلها. ونزع إليهم وكان يقال إذا أردت أن تزوج امرأة فانظر إلى أبيها وأخيها. ويؤخذ منه أن الشريف النسيب ينبغي له أن يتزوج نسيبة. (ولجمالها) في الذات والصفات فلا يسأل عن دينها حتى يحمد له جمالها. وللنسائي عن أبي هريرة قيل يا رسول الله أي النساء خير قال "التي تسره إن نظر وتطيعه إن أمر ولا تخالفه في نفسها وما له بما يكره" وللبزار "المرأة لعبة زوجها فإن استطاع أحدكم ان يحسن لعبته فليفعل" وروي "خير فائدة الرجل بعد إسلامه امرأة جميلة" فيسن أن يتخير الجميلة لأنه أغض لبصره وأمكن لنفسه. وأكمل لمودته. ولو قيل للشحم أين تذهب لقال أقوم الأعوج. وليستجد الشعر ويتخير ما يليق به مما يعجبه. (ولدينها) فهو غاية البغية وورد النهي عن نكاح المرأة لغير دينها فقال "لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يرديهن. ولا لمالهن فلعله يطغيهن وانكحوهن للدين ولأمة سوداء ذات دين أفضل" رواه ابن ماجه وغيره. فيكون الدين مطمح نظره. ولأن مصاحبة أهل الدين في كل شيء هو الأولى لأن مصاحبهم يستفيد من أخلاقهم وبركتهم وطرائقهم ولا سيما الزوجة فهي أولى من يعتبر دينه. لأنها ضجيعته وأم أولاده

وأمينته على ماله ومنزله. وعلى نفسها. (فاظفر بذات الدين) أي فز بنكاحها. ففيه مراعاة الكفاءة وأن الدين أولى ما اعتبر فيها لأمره - صلى الله عليه وسلم - بتحصيل صاحبة الدين وقال عمر وغيره الكفاءة في الدين وقيل والحسب (تربت يداك) كلمة جارية على ألسنة العرب على صورة الدعاء. كأنه قال تلصق بالتراب. ولا يريدون بها الدعاء على المخاطب كقولهم أنعم صباحًا تربت يداك. بل إيقاظ المخاطب لذلك المذكور ليعتني به. والحث والتحريض على الجد والتشمير في طلب المأمور به. وقيل معناها لله درك أو صار مالك كثيرًا كالتراب. وأضيف إلى اليد لأن التصرفات تقع بها غالبًا (متفق عليه) ورواه الخمسة وغيرهم ولمسلم من حديث جابر "تنكح على دينها ومالها وجمالها فعليك بذات الدين تربت يداك صححه الترمذي فالائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء لا سيما فيمن تطول صحبته كالزوجة. (ولهما) أي البخاري ومسلم في صحيحهما (عن جابر) ابن عبد الله -رضي الله عنه- قال (قال لي) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (تزوجت بكرًا) وهي التي لم توطأ سميت بكرًا لكونها عذراء لم تثقب (أم ثيبًا) وهي التي قد وطئت سميت ثيبًا لكونها بعد نكاح ضد البكر (قلت ثيبًا) أي تزوجت ثيبًا (فقال فهلا بكرًا) أي فهلا تزوجت بكرًا (تلاعبها

وتلاعبك) زاد البخاري "وتضاحكها وتضاحكك" ولأبي عبيد "تداعبها وتداعبك" تعليل للتزوج بالبكر. لما فيه من الإلفة التامة. فإن الثيب قد تكون متعلقة القلب بالزوج الأول. فلم تكن محبتها كاملة بخلاف البكر وقد لا تصلح من طال لبثها مع رجل. وعن عطاء مرفوعًا "عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهًا وأنقى أرحامًا وأرضى باليسير" فدل على استحباب نكاح الأبكار إلا لمقتض لنكاح الثيب كما وقع لجابر فإنه قال توفي أبي وترك سبع بنات فكرهت أن أجيئهن بمثلهن. فقال "بارك الله لك" وقال عثمان لابن مسعود ألا نزوجك بكرًا لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد وذلك أنه ينعش البدن وأحسن ما تكون ابنة أربع عشرة سنة إلى العشرين. ويتم نشوها إلى الثلاثين ثم تقف إلى الأربعين ثم تنزل. وينبغي أن يختار ذات العقل ويجتنب الحمقاء، لأن النكاح يراد للعشرة. ولا تصلح العشرة مع الحمقاء. ولا يطيب العيش معها. وربما تعدى حمقها إلى ولدها. وقد قيل اجتنبوا الحمقاء فإن ولدها ضياع وصحبتها بلاء. وأصلحهن الجلب التي لم تعرف أحدًا والأصلح منعها الاجتماع بالنساء فإنهن يفسدنها عليه والأولى أن لا يسكن بها عند أهلها. (وعن ابن عباس) -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {وَلاَ

جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء} يقول إني أريد التزويج رواه البخاري) ومثله أن يقول إني في مثلك لراغب. وما أحوجني إلى مثلك. وإن قضى شيء كان ونحو ذلك مما يفهم النكاح ويدل على رغبته فيها. فإن التعريض يفهم منه النكاح مع احتمال غيره. وتخصيص التعريض بنفي الحرج يدل على عدم جواز التصريح به. وهو ما لا يحتمل غير النكاح نحو أريد أن أتزوجك أو زوجيني نفسك أو فإذا انقضت عدتك تزوجتك ونحو ذلك. فيحرم التصريح بخطبة المعتدة من وفاة وقال ابن القيم حرم خطبة المعتدة صريحًا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة. فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة. والكذب في انقضاء عدتها اهـ. ويحرم التصريح بخطبة المبانة حال الحياة بطلاق ثلاث أو فسخ ويحرم التصريح والتعريض لرجعية. لأنها في حكم الزوجات. ويباح التصريح والتعويض من صاحب العدة فيها. (ولمسلم عن فاطمة بنت قيس) قيل هي بنت أبي حبيش الأسدية رضي الله عنها (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها لا تفوتينا بنفسك) وقال - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة "لقد علمت أني رسول الله وخيرته من خلقه. وموضعي من قومي" فكانت تلك خطبته - صلى الله عليه وسلم - ففعله تفسير لقوله: {وَلاَ جُنَاحَ

عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء} وقال شيخ الإسلام التعريض أنواع تارة بذكر صفات نفسه. مثل ما ذكر "النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة وتارة يذكر لها طلبًا لا بعينه لقوله رب راغب فيكي وطالب لكي وتارة يذكر أنه طالب للنكاح ولا يعينها وتارة يذكر لها ما يحتمل النكاح وغيره كقوله إن قضي شيء كان. (وعن جابر) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا خطب أحدكم المرأة) أي أراد خطبتها (فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها) أي يحمله ويبعثه (فليفعل) الأمر للإباحة لحديث أبي حميد وغيره. قال جابر فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت ما دعاني إلى نكاحها. فتزوجتها (رواه أبو داود) ووثقه الحافظ ورواه أحمد وغيره وله من حديث أبي حميد "إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها" إذا كان إنما ينظر لخطبة. إن كانت لا تعلم من حديث محمد بن مسلمة "إذا ألقى الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها". ففيها الحث على النظر إذا أراد أن يخطب امرأة يغلب على ظنه إجابتها. واستحبابه مذهب الجمهور. ولا يشترط رضاها بذلك. بل له أن يفعل ذلك على غفلتها. كما فعله جابر. وإن لم يغلب على ظنه إجابتها لم يجز كمن ينظر إلى امرأة جليلة يخطبها مع علمه أنه لا يجاب إلى ذلك.

(ولمسلم عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل تزوج امرأة) أي أرد تزوجها فللنسائي بلفظ خطب رجل امرأة ولما في السنن وغيرها (أنظرت إليها؟ قال لا) أي لم أنظر إليها (قال اذهب فانظر إليها) وفي السنن عن المغيرة أن رجلًا خطب امرأة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" ولأحمد عن أبي هريرة قال خطب رجل امرأة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئًا" وفي الصحيحين في قصة الواهبة فصعد فيها النظر وصوبه. فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على الندب إلى تقديم النظر إلى المرأة التي يريد أن يتزوجها وهو مذهب جمهور العلماء إذا غلب على ظنه إجابتها وإباحته بالاتفاق. فينظر ما يظهر غالبًا كالوجه بلا خلاف بين العلماء وهو مجمع المحاسن فيستدل به على الجمال أو ضده والكفين عند الجمهور. وهي تدل على خصوبة البدن أوعدمها. وقيل ورأس وساق للإذن في النظر من الشارع. فأبيح له ذلك. وقال أحمد لا بأس أن ينظر لها عند الخطبة حاسرة وقال جمع إلى البدن سوى السوأتين. ويكرر النظر بلا خلوة إن أمن ثوران الشهوة. وقالت طائفة ينبغي أن يكون النظر قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء بخلافه بعد الخطبة. وإذا لم يمكنه النظر إليها استحب له أن يبعث امرأة يثق بها

تنظر إليها وتخبره بصفتها فقد روى أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث أم سليم إلى امرأة فقال "انظري إلى عرقوبها وشمي معاطفها" رواه أحمد وفي رواية "شمي عوارضها" وهي الأسنان التي في عرض الفم ما بين الثنايا والأضراس والمراد اختبار رائحة النكهة. ولا يجوز أن تنعتها لغير خاطب. لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها" سدًا للذريعة. وحماية عن مفسدة وقوعها في قلبه وميله إليها بحضور صورتها في نفسه. وعلى من استشير في خاطب ومخطوبة أن يذكر ما فيه من مساو وغيرها. ولا يكون غيبة. (وعن جابر) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها) أي ومن فعل ذلك لم يكن كامل الإيمان بالله واليوم الآخر (متفق عليه) ولأحمد "فإن ثالثهما الشيطان" وله من حديث عامر نحوه. وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على تحريم الخلوة بالأجنبية. وحكى الحافظ وغيره الإجماع على ذلك لما يوقع في المعصية. ومع وجود المحرم فلا مانع لامتناع وقوع المعصية مع حضوره وظاهر الحديث أن غير المحرم لا يقوم مقامه. وذكر ابن القيم وغيره تحريم الخلوة ولو في اقراء القرآن. سدًا للذريعة ما يحاذر من الفتة وغلبات الطباع وقال يحرم خلوة النساء بالخصي والمجبوب لإمكان الاستمتاع من القبلة والاعتناق، والخصي يقرع قرع الفحل، والمجبوب يساحق.

وفي الاختيارات: تحرم الخلوة بغير محرم ولو بحيوان يشتهي المرأة أو تشتهيه كالقرد وتحرم الخلوة بأمرد غير حسن. ومضاجعته كالمرأة الأجنبية. ولو لمصلحة التعليم والتأديب. والمقر موليه عند من يعاشره لذلك ملعون ديوث. ومن عرف بمحبتهم ومعاشرة بنيهم منع من تعليمهم. (وللبخاري عن عقبة) بن عامر -رضي الله عنه- أنه قال (أفرأيت يا رسول الله الحمو) واحد الأحماء. وهم أقارب الزوج. والمراد هنا أخو زوج المرأة فإنه ليس بمحرم لها (قال الحمو الموت) يعني دخول الحمو على المرأة في الخلوة سبب الموت. وأشد من الموت. فإنه حرام وارتكاب الحرام سبب الهلاك في الدنيا والآخرة. فخلوته بزوجة أخيه أشد تحريمًا. (ولمسلم من حديث أبي سعيد) الخدري -رضي الله عنه- يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل) يعني العورة المغلظة (ولا المرأة) أي لا تنظر المرأة (إلى عورة المرأة) أي العورة المغلظة. فيجب ستر العورة المغلظة من غير من له الوطء. وحكي إجماعًا لهذا الخبر. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" وفيه "ولا يفضي الرجل إلى الرجل" أي يضطجع الرجل مع الرجل في الثوب الواحد "ولا المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" مع الإفضاء ببعض البدن لأن ذلك مظنة وقوع المحرم من المباشرة أو من العورة أو غير ذلك.

(وله) أي لمسلم في صحيحه (عن جرير) بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- (سألته) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عن نظر الفجاءة) بالضم أي البغتة (فقال اصرف بصرك) أي لا تنظر ثانية. لأن الأولى إذا لم تكن بالاختيار فهو معفو عنها. فإن أدام النظر أثم ويروى "اطرق بصرك" والإطراق أن يقبل ببصره إلى وجهه والصرف أن يفتله إلى الشق الآخر والناحية الأخرى. فدل على أن النظر الواقع فجأة من دون قصد وتعمد لا يوجب إثم الناظر. لأن التكليف به خارج عن الاستطاعة. وإنما الممنوع منه النظر الواقع على طريق التعمد أو ترك صرف البصر بعد نظر الفجأة. ودل على تحريم النظر إلى الأجنبية. ووجوب غض البصر عنها في جميع الأحوال. إلا لغرض صحيح شرعي. وفي الصحيحين "زنا العين النظر" أي حظها منه النظر على قصد الشهوة فيما لا يحل له. (ولأحمد) وأبي داود والترمذي وغيرهم (عن بريدة) -رضي الله عنه- أنه - صلى الله عليه وسلم - قال (لك الأولى) أي قال لعلي -رضي الله عنه- "يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى" أي النظرة الأولى إذا كانت من غير قصد (وليست لك الآخرة) أي النظرة الآخرة لأنها باختيارك فتكون عليك. وفي لفظ "لا تعد الثانية" ولمفهوم "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" وغير ذلك من الأحاديث. فالنظر إلى الأجنبية من غير

سبب محرم لهذه الأخبار ولقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وقوله {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} وسدًا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور. ومن فوائد غض البصر عن الصور التي يحرم النظر إليها حلاوة الإيمان ولذته. وكونه يورث نور القلب والفراسة. والتعلق بالصور يورث فساد العقل وعمى البصر. وسكر القلوب وجنونه فمن غض بصره عن محارم الله عوضه بما هو خير منه فيطلق عين بصيرته. ويفتح عليه أبواب العلم والمعارف وقوة القلب وشجاعته. قال الشيخ والمس أولى بالمنع من النظر. (وعن ابن مسعود) -رضي الله عنه- (مرفوعًا المرأة عورة صححه الترمذي) فيحرم النظر إليها ويحرم نظر خصي ومجبوب وممسوح إلى الأجنبية ولو امرأة سيده. ويلزمها ستر جميع بدنها حتى شعرها إلا وجهها في الصلاة كما تقدم ويباح نظر ما يظهر غالبًا كوجه وساق ورقبة ويد وقدم من ذات محرم وأمة. ولعبد نظر ذلك من مولاته قال الباجي: لا خلاف في النظر على الوجه المباح إلى ذ وات المحارم كأمه وأخته وابنته، كما أنه لا خلاف في منعه على وجه الالتذاذ والاستمتاع. وقال ابن عبد البر وأما النظر للشهوة فحرام تأملها فوق ثيابها بالشهوة. فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة. ويحرم تزينها لمحرم غير زوج وسيد. وقال الشيخ يحرم النظر بشهوة إجماعًا.

يعني لغير زوج وسيد. ومن استحله كفر إجماعًا. ونص أيضًا مع خوفها. وذكر أنه قول جمهور العلماء في النظر إلى الأمرد وغيره. قال ويحرم تكرار النظر إليه. ومن كرر وقال لا أنظر لشهوة فقد كذب إنما ينظر لما في القلب من اللذة وحكى ابن القطان الإجماع على أنه يحرم النظر إلى غير الملتحي لقصد التلذذ بالنظر إليه وامتاع حاسة البصر بمحاسنه. وأجمعوا على جواز النظر إليه بغير قصد اللذة. والناظر مع ذلك آمن من الفتنة قال النووي وربما كان المنع فيه أحرى من المرأة. وغض البصر وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله فمنع منه سدًا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور. ويدخل في ذلك نظر المرأة إلى الرجل. قال النووي بلا خلاف. قال الشيخ وكل قسم كان معه شهوة كامه كان حرامًا بلا ريب. سواء كانت شهوة تمتع بنظر أو نظر شهوة الوطء وقال النظر إلى المردان أقسام: ما تقترن به الشهوة فحرام بالاتفاق. وما لا شهوة معه كالنظر إلى ولده الحسن أو من لا يميل قلبه إلى المردان كما كان الصحابة والأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة. فإن أحدهم لا يفرق بين نظره إلى ابنه أو ابن جاره. وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين في الطرقات مكشوفات الوجوه. ويخدمن الرجال مع سلامة القلوب. إلا أن ذلك لا ينبغي اليوم لعموم الفساد في أكثر الناس. فلو أراد

الرجل أن يدع نحو التركيات يمشين بين الناس لكان من باب الفساد. وكذا المردان الحسان. لا يجوز أن يخرجوا في الأمكنة التي يخاف فيها الفتنة بهم. قال وينظر ما يظهر غالبًا ممن لا تشتهي كعجوز وبرزة وقبيحة ونحوهن. وأمة ولا يحرم النظر إلى عورة الطفل والطفلة قبل السبع ولا لمسها. ولا يجب سترها مع أمن الشهوة. ولا يجب استتار ممن له دون سبع في شيء. ولكل من الزوجين نظر جميع بدن الآخر ولمسه. بلا كراهة حتى الفرج. وكره النظر إليه حال الطمث وتقبيله بعد الجماع لا قبله. وكره أحمد مصافحة النساء حتى لمحرم غير أب. وسئل يقبل ذوات المحرم منه قال إذا قدم من سفر ولم يخف على نفسه. لكن لا يفعله على الفم أبدًا الجبهة والرأس. واستدل بحديث خالد أنه - صلى الله عليه وسلم - قدم من سفر فقبل فاطمة ومن له النظر لا يحرم البروز له ولطبيب ونحوه نظر ما دعت الحاجة إليه. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) بكسر الخاء التماس النكاح. وأما الخطبة في الجمعة والعيد والحج وبين يدي عقد النكاح ونحوه فبضم الخاء (حتى يترك) الخاطب قبله (أو يأذن) أي للثاني (متفق عليه) وفي رواية للبخاري " حتى ينكح أو يترك" ولمسلم "لا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" وللبخاري من حديث ابن عمر "لا يخطب الرجل على الرجل حتى يترك

الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب" وعبر بالأخ للتحريض على كمال التودد وقطع صور المنافرة. فدلت هذه الأحاديث وغيرها على تحريم خطبته على خطبة أخيه. وهو مذهب جمهور العلماء وحكى النووي أن النهي فيه للتحريم بالإجماع. لما فيه من الإفساد على الخاطب وإيقاع العداوة بين الناس. ولكنهم اختلفوا في شروطه فقال الجمهور محل التحريم إذا صرحت المخطوبة بالإجابة أو وليها الذي أذنت له. وإن وجد منها ما يدل على الرضى تعريضًا لا تصريحًا فحكمه حكم ما لو أجيب صريحًا وهو ظاهر الخبر فلم يرد فيه ذكر الإجابة. فإن ترك الخاطب الأول أو أذن للثاني جاز. أو استأذن الثاني الأول. أو سكت جاز. لأنه في معنى الترك. أو رد الخاطب الأول جاز. لما روت فاطمة بنت قيس أنها ذكرت معاوية وأبا جهم خطباها فقال "انكحي أسامة" ولو كان الرد بعد الإجابة. لأن الإعراض عن الأول ليس من قبله وكذا إن لم يركن إليه أو جهل الثاني حال الأول جاز لأنه معذور. وإن كان الأول خطب تعريضًا في العدة أو بعدها فقال الشيخ لا ينهى غيره عن الخطبة. ويكره رد بلا غرض صحيح بعد إجابة قال الشيخ ولو خطب المرأة أو وليها رجلًا ابتداء فأجابها فينبغي أن لا يحل لرجل آخر خطبتها. إلا أنه أضعف من أن يكون هو الخاطب ونظير الأولى أن تخطبه امرأة أو وليها بعد أن خطب هو امرأة. فإن هذا إيذاء للمخطوبة في

الموضعين. كما أن ذلك إيذاء للخطاب. وهو بمنزلة البيع على بيع أخيه قبل انعقاد العقد. وهذا كله ينبغي أن يكون حرامًا. واستدل الجمهور بهذا الحديث على جواز خطبة المسلم على خطبة الكافر. فإنه ليس بأخ للمسلم. وإن خطب المسلم على أخيه وعقد مع علمه صح العقد مع الإثم. (وعن ابن مسعود) -رضي الله عنه- (قال علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في الحاجة) وأراد بالتشهد كل كلام فيه النبأ عن الله وفي كلمتا الشهادتين. أي إذا كان لنا حاجة وشغل إذا أردنا ذلك الشغل. فهو عام لكل حاجة ومنها النكاح وزاد ابن كثير في الإرشاد في النكاح وغيره. وقال أبو إسحاق تقال في خطبة النكاح وغيره في كل حاجة. (أن الحمد لله) بتخفيف أن ورفع الحمد. وقال الجزري يجوز تخفيفها وتشديدها (نحمده ونستعينه) أي في حمده وغيره (ونستغفره) أي من تقصيرنا في عبادته وطاعته ونتوب إليه. (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) أي من ظهور شرور أخلاق نفوسنا الردية وأحوال طباع أهوائنا الدنية (وسيئات أعمالنا) أي ونستغفره تعالى من سيئات أعمالنا (من يهد الله فلا مضل له) أي من يوفقه للعبادة فلا مضل له من شيطان ونفس وغيرهما (ومن يضلل فلا هادي له) لا من نبي ولا ولي ولا غيرهما. بل الهداية بيده سبحانه. وكذا الإضلال.

يهدي من يشاء ويضل من يشاء بيده الخيروهو على كل شيء قدير. (وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) أي أجزم واقطع بذلك. قال الشيخ ولما كانت كلمة الشهادة لا يتحملها أحد عن أحد ولا تقبل النيابة بحال أفرد الشهادة بها. ذكره ابن القيم. قال وفيه معنى آخر وهو أنها إخبار عن شهادته لله بالوحدانية. ولنبيه بالرسالة وهي خبر يطابق عقد القلب وتصديقه وهذا إنما يخبر به الإنسان عن نفسه لعلمه بحاله. وما سواه طلب وإنشاء فيطلب لنفسه وإخوانه المسلمين (ويقرأ ثلاث الآيات رواه الخمسة) وحسنه الترمذي وصححه الحاكم. وعن ابن كثير الآيات في نفس الحديث: الأولى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى قوله تعالى {رقيبًا} والثانية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} والثالثة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} إلى قوله {عظيمًا} ويجزئ أن يحمد الله ويشهد ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخطب بها العاقد بنفسه حال العقد أو غيره من الحاضرين واستحبها جمهور أهل العلم لهذا الخبر. وقوله "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع"

وفي رواية "ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء وغير ذلك" وليست بواجبة لقوله "زوجتكها بما معك من القرآن" وقال أهل العلم النكاح جائز بغير خطبة. وينبغي أن يكون يوم الجمعة مساء. لأن فيه ساعة الإجابة. وبالمسجد ذكره ابن القيم وغيره. واستحبه الجمهور. ويأتي خبر "واجعلوه في المساجد". (ولهم) أي للخمسة وغيرهم (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا كان إذا رفأ إنسانًا إذا تزوج) بتشديد الفاء أي هنأه ودعا له. وكان من دعائهم للمتزوج أن يقولوا بالرفاء والبنين فنهى عنه - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان من عادتهم. والرفاء الالتئام والاتفاق والبركة والنماء. وسن لهم إذا دعا أحدهم لأخيه (قال: بارك الله لك) أي أدام لك وأثبت ما أعطاك (وبارك عليك) أي أدامه عليك دعاء له بالبركة وثبوت الخير (وجمع بينكما في خير) وإلف وسرور فوضع هذا الدعاء موضع الترفيه. صححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان. ولمسلم من حديث جابر أنه قال له "تزوجت" قال نعم قال "بارك الله لك" زاد الدارمي "وبارك عليك". وللطبراني أنه - صلى الله عليه وسلم - شهد نكاح رجل فقال "على الخير والبركة والإلفة والسعة والرزق بارك الله لكم" ودعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة. وغير ذلك وتزوج عقيل بن أبي طالب امرأة فقالوا بالرفاء والبنين. فقال "لا تقولوا هكذا ولكن قولوا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اللهم بارك لهم وبارك عليهم" رواه النسائي.

فصل في أركانه

وفي رواية "بارك الله فيك وبارك لك فيها" وإنما كرهه - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من موافقة أهل الجاهلية كانوا يقولونه تفاؤلًا لا دعاء. وأما المتزوج فينبغي له أن يقول ما رواه أبو داود وغيره عن عمرو بن شعيب مرفوعًا "إذا فاد أحدكم امرأة أو خادمًا فليأخذ بناصيتها وليقل اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه" ولا بأس بالصدقة عند العقد. فصل في أركانه أي أركان النكاح وركن الشيء هو جانبه الأقوى. وجزء ماهيته. والماهية لا توجد ولا تتم بدون أجزائها فكذا النكاح لا يتم بدون ركنه. وأركانه عند طائفة من العلماء ثلاثة: الزوجان الخاليان من الموانع. والإيجاب والقبول. والأكثر لا يعد الأول لوضوحه. قال تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} أي بعد طلاقها من زيد وانقضاء عدتها. وكان السفير جبرئيل. وقال تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} فاستدل بعض الفقهاء بها على اعتبار لفظ زوجت وانكحت وحكى الموفق والشيخ وغيرهما الإجماع على أن النكاح ينعقد بلفظ الإنكاح والتزويج وعند الأكثر ينعقد بكل لفظ يدل عليه وقال الوزير اتفقوا على أنه إذا قال الولي

زوجتك وأنكحتك فقال الزوج قبلت هذا النكاح أو رضيت هذا النكاح فإنه ينعقد هذا النكاح إذا كان مع شروطه على اختلاف بينهم فيها. (وقال - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي قال في الواهبة) وهي التي قالت يا رسول الله جئت أهب لك نفسي. فنظر إليهاه ثم طأطأ رأسه فجلست فقام رجل من الصحابة فقال (إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها) فقال هل عندك من شيء فقال لا والله. وفيه. (قال زوجتكها بما معك من القرآن متفق عليه) فدل على أن النكاح ينعقد بلفظ التزويج. ولا خلاف في ذلك. وعند بعض الأصحاب لا يصح إذا تقدم القبول الإيجاب. وقال المحققون يحتمل أن يصح إذا تقدم بلفظ الطلب لهذا الخبر. ولو قال زوجني ابنتك فقال زوجتكها. أو تقدم بلفظ الاستفهام. وهو رواية عن أحمد وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي. لأنه قد وجد الإيجاب والقبول فهو كما لو تقدم الإيجاب وإن تأخر القبول عن الإيجاب صح ما داما في المجلس. ولو تشاغلا بما لا يقطعه عرفا. وفيه أن للإمام الولاية على المرأة التي لا قريب لها إذا أذنت. وأن يعقد لها من غير سؤال عن وليها. (وللبخاري أمكناكها بما معك من القرآن) ولأبي داود

قم فعلمها عشرين آية (وفي رواية قد ملكتكها بما معك من القرآن) فدل على انعقاده بنحو هذه الألفاظ. ولو قال زوجت بضم الزاي وفتح التاء. أو قال قبلت تجوزيها ونحوه صح. وقال الشيخ ينعقد بما عده الناس نكاحًا بأي لغة ولفظ وفعل. فالأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع وتارة باللغة وتارة بالعرف وقال ابن القيم أصح قولي العلماء أن النكاح ينعقد بكل لفظ يدل عليه. لا يختص بلفظ الإنكاح والتزويج وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحد القولين في مذهب أحمد. بل نصوصه لا تدل إلا على هذا الوجه. وفيه أنه لا بد من الصداق في النكاح وصحته على شيء ولو من القرآن. ونقل القاضي عياض الإجماع على أنه لا يصح على ما لا قيمة له. والآيات القرآنية تدل على اعتبار المالية في الصداق وهذا الخبر يدل على صحته بمنفعة. وفيه أنه ينبغي ذكر الصداق. وهذا الخبر يدل على صحته بمنفعة. وفيه أنه ينبغي ذكر الصداق في العقد. لأنه اقطع للنزاع. وأنفع للمرأة ولو عقد بدون ذكر صداق صح. ووجب لها مهر المثل بالدخول. ويصح إيجاب السيد لأمته أن يقول اعتقتك وجعلت عتقك صداقك. فقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتق صفية وجعل عتقها صداقها. ويصح جعل شيء آخر مع عتقها صداقًا لها كدراهم ونحوها نص عليه الشيخ وغيره. (وعن أبي هريرة) رضي الله (مرفوعًا ثلاث) أي يجزن على المرء ولو لم يقصدهن حقيقة (هزلهن جد) والهزل

أن يراد بالشيء غير ما وضع له بغير مناسبة بينهما (وجدهن جد) والجد ما يراد به ما وضع له إحداهن (النكاح) كان يقول زوجتك ابنتي ويقول قبلت فيصح ولو لم يقصدا نكاحًا حقيقة. فإنه لو أطلق الناس لتعطلت الأحكام. ولم يؤمن ناكح أن يقول كنت في قولي هازلًا فيكون في ذلك إبطال حكم الله. وكذا يصح ولو تلجئة كان يزوج ابنته ونحوها رجلًا خوفًا من أن يتزوجها من يكرهه. كحاكم أو أمير. فإنه صحيح في حق الرجل المتزوج. (والطلاق) كأن يقول طلقت ولم أقصد (والرجعة) أي وكذا أي الرجعة تثبت أحكامها بالهزل أو الجد. ولو لم يقصدها حقيقة (حسنه الترمذي) وعن الحسن مرفوعًا "من نكح لاعبًا جاز" وقال عمر: أربع جائزات إذا تكلم بهن الطلاق والعتاق والنكاح والنذر. وقال علي لا لعب فيهن فدل الحديث والآثار على أن من تكلم بشيء مما مر لزمه حكمه ولم يقبل منه خلافه. وذلك تأكيد لأمر الفروج واحتياط له. ولا ينفعه. ولا يقبل منه لو قال كنت لاعبًا أو هازلًا. أو لم أنوه وما أشبه ذلك. قال تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا} ولا يصح تعليق النكاح على شرط مستقبل كزوجتك ما في بطنها. أو من في هذه الدار. بخلاف الشروط الحاضرة. كزوجتك ابنتي إن كانت

فصل في اشتراط الرضى

انقضت عدتها. ولا يثبت خيار الشرط ولا خيار المجلس في النكاح إجماعًا. فصل في اشتراط الرضى أي ممن يشترط له. فلا يصح أن يكره على النكاح الرجال البالغون الأحرار المالكون لأمر أنفسهم بغير حق ولا الثيب البالغ فقد اتفق العلماء على اشتراط رضاهم وقبولهم في صحة النكاح إلا البالغ المعتوه والمجنونة والصغير والبكر على ما سيأتي ولا ريب أن الشارع اشترط للنكاح شروطًا زائدة على العقد تقطع عنه شبه السفاح. منها تعيين الزوجين ورضاهما والولي. والشهادة عند الجمهور. ومنع المرأة أن تليه بنفسها وندب الشارع إلى إعلانه. لأن في الإخلال به ذريعة إلى وقع السفاح بصورة النكاح. وزوال بعض مقاصده. وأثبت له أحكامًا زائدة على مجرد الاستمتاع. وجعله وصلة بين الناس بمنزل الرحم. فأما تعيين الزوجين فلأنه المقصود في النكاح فلا يصح بدونه كزوجتك بنتي وله غيرها أو زوجتها ابنك وله بنون وإن أشار الولي إليها أو وصفها بما تتميز به أو قال زوجتك ابنتي وليس له إلا واحدة صح لعدم الالتباس. وأما الرضى فبالكتاب والسنة والإجماع في الجملة. قال تعالى: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء}

وأول الآية {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} وهو ما تقدم من قوله {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء}. (قالت عائشة) رضي الله عنها (نزلت في اليتيمة يرغب فيها وليها) ونحوه عن ابن عباس وغيره. وذلك أن اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات مال وجمال بغير رضاها. وبأقل من سنة صداقها. فنهوا عن ذلك فدلت الآية على اعتبار الرضى في الجملة على ما يأتي تفصيله. (وعنها) أي عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها بنت سبع سنين) وقيل بنت ست سنين قبل الهجرة (وأدخلت عليه بنت تسع سنين) سنة الهجرة أو السنة الثانية (متفق عليه) فدل الحديث على أن للأب تزويج ابنته البكر. والتي لم يكن لها إلا دون تسع سنين بغير إذنها ورضاها إذا وضعها عند كفء بلا نزاع حكاه ابن رشد والوزير وغيرهما وقال المهلب أجمعوا على أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة والبكر. ولو كانت لا يوطأ مثلها. ودل على تزويج الصغيرة بالكبير. وحكاه الحافظ إجماعًا. قال ولو كانت في المهد لكن لا يمكن منها حتى تصلح للوطء. وله تزويج ابنه الغلام. فإن ابن عمر زوج ابنه وهو غلام. وليس له تزويج البالغ العاقل من بنيه بلا إذنه بلا نزاع.

(ولهما عن أبي هريرة مرفوعًا لا تنكح الأيم) وهي من فارقت زوجها بطلاق أو موت أو غيرهما (حتى تستأمر) من الاستئمار طلب الأمر. أي لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها. فلهذا يحتاج إلى صريح إذنها. قال الشيخ وغيره وإذنها الكلام بلا خلاف اهـ. وإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقًا (ولا البكر حتى تستأذن وإذنها أن تسكت) أي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قالوا له وكيف إذنها؟ قال "أن تسكت" وفي لفظ "صماتها" ولأحمد "وإن سكتت فهو إذنها وإن أبت لم تكره" وهو قول عامة أهل العلم. فدل الحديث على أنه لا بد من طلب الأمر بالتزويج من الثيب. فلا يعقد عليها حتى يطلب الولي منها الإذن بالعقد. والمراد من ذلك اعتبار رضاها. وهو معنى أحقيتها بنفسها من وليها، كما جاء في غير ما حديث. وعبر بالاستئذان بحق البكر إشارة إلى الفرق بينهما. وأنها متأكدة مشاورة الثيب. ومحتاج الولي إلى صريح القول بالإذن منها في العقد عليها. وأما البكر فإذنها دائر بين القول والسكوت. واكتفي منها بالسكوت لأنها قد تستحي من التصريح وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله إن البكر تستحي؟ قال "رضاها صماتها". وحكى ابن رشد وغيره الإجماع على أن الإذن في حق الإبكار المستأذنات واقع بالسكوت وهو الرضى. وأما الرد

فباللفظ للخبر وقال ابن المنذر يستحب أن يعلم أن سكوتها رضى. والأولى أن يرجع إلى القرائن. فإنها لا تخفى. والحديث عام الأولياء من أب وغيره من أنه لا بد من إذن البكر البالغة. (ولمسلم: والبكر يستأذنها أبوها) والمراد البالغة. إذ لا معنى الاستئذان الصغيرة لأنها لا تدري ما الإذن. وله عن ابن عباس "الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر وإذنها سكوتها" وفي لفظ لأبي داود وغيره "ليس للولي مع الثيب أمر. واليتيمة تستأمر". (وفي السنن لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن) واليتيمة في الشرع الصغيرة التي لا أب لها وقال ابن عمر زوجني قدامة بن مضعون بنت أخيه عثمان. ودخل المغيرة إلى أمها فأرغبها في المال فأبتا علي حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال "هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها" فانتزعت مني. فلا يجبر اليتيمة وصي ولا غيره وظاهر الأحاديث أن البكر البالغة إذا زوجت بغير إذنها لم يصح العقد. وحكاه الترمذي قول أكثر أهل العلم. ويعتبر في الاستئذان تسمية الزوج على وجه تقع به المعرفة من ذكر نسبه ومنصبه ونحو ذلك. لتكون على بصيرة. (وللبخاري) من طريق مالك (عن خنساء) بنت خدام بن خالد الأنصاري من بني عمرو بن عوف رضي الله عنها (أن أباها زوجها وهي ثبت فكرهت) ورواه النسائي من

طريق سفيان وهي بكر (فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكاحها) ولأحمد وأبي داود وغيرهما أن بكرًا ذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة. فخيرها النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن القيم وهذا الحديث على طريقة أكثر الفقهاء. وجميع أهل الأصول صحيح. وذكر أحاديث في معناه. وحديث مسلم "البكر يستأمرها أبوها" ثم قام وهذا خبر في معنى الأمر على إحدى الطريقتين. أو خبر محض ويكون خبرًا عن حكم الشرع. لا عن الواقع. وهي طريقة المحققين. فقد توافق أمره وخبره ونهيه على أن البكر لا تزوج إلا بإذنها ومثل هذا يقرب من القاطع ويبعد كل البعد حمله على الاستحباب ثم قال وحمل هذه القضايا وأشباهها على الثيب دون البكر خلاف مقتضاها. فلا بد من رضاها من غير فرق بين أن يكون الذي زوجها هو الأب أو غيره. وقال الشيخ الصحيح أن البكر البالغة لا يجبرها أحد. وقال ليس للأبوين إلزام الولد بنكاح من لا يريد فلا يكون عاقًا كأكله ما لا يريد وللأب أو وصيه تزويج ابنه البالغ المعتوه والمجنونة والصغير فابن عمر زوج ابنه صغيرًا. ومن يخنق بعض الأحيان أو زال عقله ببرسام ونحوه لم يصح إلا بإذنه قاله الشيخ وغيره. فإن من أمكن أن يتزوج لنفسه لم تثبت ولاية تزويجه كالعاقل. ويزوج المجنونة مع شهوتها كل ولي الأقرب فالأقرب لحاجتها إليه وصيانتها وغير ذلك. وتعرف شهوتها من كلامها وتتبعها الرجال وتؤامر المرأة

فصل في الولي

في بنتها لما روى أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر "آمروا النساء في بناتهن" وذلك استطابة للنفس. ولا خلاف أنه ليس لها فيها أمر. فصل في الولي أي في اشتراط الولي عند عقد النكاح. فلا يصح إلا بولي وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء. والولي هو متولي أمر المرأة (قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} الأيم المرأة التي لا زوج لها. أمر تعالى بإنكاحها ولم يكله إليها فدلت على اعتبار الولي. وقال {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} قال الشافعي هي أصرح آية في اعتبار الولي. وإلا لما كان لعضله معنى ويأتي ذكر سبب نزولها. وقال الشيخ تزويج الأيامى فرض كفاية إجماعًا. وتقدم بيان الإذن وأنه لا يزوج غير الأب صغيرًا إلا الحاكم لحاجة. ولا كبيرة عاقلة ولا بنت تسع سنين إلا بإذن. وإذن بنت تسع فأكثر معتبر وقالت عائشة إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. (وقال: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} أي مواليهن. فدلت الآية على أن السيد هو ولي أمته. ويزوجها بغير إذنها. لأنه يملك منافع بضعها. ولا تزوج إلا بإذنه وكذلك وهو ولي

عبده. وليس له أن يتزوج بغير إذنه. ويزوج الصغير بغير إذنه. فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج سيدتها بإذنها لما في الحديث "لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها". (وعن أبي موسى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا نكاح) أي لا يصح عقد النكاح (إلا بولي) يعقده. وهو أقرب العصبة بالنسب ثم السبب ثم عصبته ثم المولى. ثم عصبته (رواه الخمسة وصححه أحمد) وابن المديني وابن مهدي والترمذي والبيهقي وابن القيم وغيرهم من الحفاظ. وعن جابر نحوه وقال الضياء رجاله كلهم ثقات. وذكر المناوي أنه متواتر فدل الحديث: أنه لا يصح النكاح إلا بولي. لأن الأصل في النفي نفي الصحة وقال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم منهم عمر وعلي وابن عباس وأبو هريرة وغيرهم. وهكذا روي عن فقهاء التابعين أنهم قالوا لا نكاح إلا بولي. وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. والولي هو الأقرب إلا المرأة من عصبتها دون ذوي أرحامها وهذا مذهب جمهور العلماء. واشترطوا في الولي التكليف لأن غير المكلف يحتاج لمن ينظر له. والذكورية والحرية لأن المرأة والعبد لا ولاية لهما على أنفسهما فغيرهما أولى والرشد في العقد واتفاق الدين والعدالة وقال الشيخ في عقد الكتابي لابنته على المسلم ليس على بطلانه دليل شرعي ولا ينبغي أن يكون متوليًا لنكاح مسلم.

(ولهم) أي للخمسة وغيرهم (عن عائشة) رضي الله عنها (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (أيما امرأة نكحت) أي تزوجت (بغير إذن وليها فنكاحها باطل) فنكاحها باطل كرره ثلاثًا تأكيدًا لبطلانه. وهذا مع ما تقدم وما يأتي من خبر معقل وغيره يدل على اشتراط الولي. وقال الخطابي في قوله {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} أدل آية في كتاب الله على أن النكاح لا يصح إلا بعقد ولي. وأنه لو كان لها سبيل إلى أن تنكح نفسها لم يكن للعضل معنى (فإن دخل بها) أي بمن نكحت بغير إذن ولي (فلها المهر بما استحل من فرجها) قال الرافعي فيه أن وطء الشبهة يوجب المهر وإذا وجب ثبت النسب وانتفى الحد. (فإن اشتجروا) أي منعوها من كفء، فالاشتجار منع الأولياء المرأة من التزويج من كفء (فالسلطان ولي من لا ولي له) أي فيزوجها السلطان. لأن الولي إذا امتنع فكأنه لا ولي لها فيكون السلطان وليها (صححه الترمذي) وأبو عوانة وابن معين وابن حبان والحاكم وغيرهم. قال الحاكم وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة وأم سلمة وزينب وعلي وابن عباس وغيرهم. وذكر ثلاثين صحابيًا. وجمهور العلماء على اشتراط الولي. كما هو ظاهر هذا الحديث وغيره. وأن المرأة لا تزوج نفسها. وقال ابن المنذر لا يعرف عن الصحابة خلاف في ذلك. وعن أبي هريرة "لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها" وقال

الحافظ رجاله ثقات وظاهره لا بإذن الولي ولا غيره. وجعلت امرأة أمرها بيد رجل غير الولي فانكحها فبلغ عمر فجلد الناكح والمنكح. ورد نكاحها. وكان علي يضرب فيه بغير ولي. رواها الدارقطني. وفيه أن المرأة تستحق المهر بالدخول وإن كان النكاح باطلًا. وأن بطلانه يقع مع العلم بالحكم والجهل به. ويسمى باطلًا أو صحيحًا. ولا واسطة بينهما. وأنه إن اشتجر الأولياء أي عضلوا انتقلت الولاية إلى السلطان. وظاهره أنه إن عضل الأقرب تنتقل إلى الأبعد وهو مذهب الجمهور. وكذا إن غاب غيبة منقطعة لا تقطع إلا بكلفة ومشقة أو جهل مكانه. أو تعذرت مراجعته. تنتقل إلى من يليه ثم إلى السلطان فلأبي داود وغيره أن النجاشي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة وقال ابن القيم وهو المعروف عند أهل العلم. وقال الموفق وغيره للسلطان تزويج من لا ولي لها عند عدم الأولياء أو عضلهم لا نعلم فيه خلافًا. فالسلطان ولي من لا ولي لها لعدمه أو منعه أو غيبته. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا "لا نكاح إلا بولي والسلطان ولي من لا ولي له". رواه الطبراني وغيره. والمراد بالسلطان من إليه الأمر. وقال الموفق وغيره هو الإمام أو الحاكم أو من فوض إليه ذلك. وعن أحمد عند عدم القاضي. وقال إذا لم يكن لها ولي فالسلطان المسلط على الشيء القاضي يقضي في الفروج والحدود. وقال أيضًا ما للوالي ولاية إنما هو القاضي وقال

بعضهم إن الوالي أذن له في التزويج ويحتمل أنه إذا لم يكن في موضع ولايته قاض. قال الشيخ لأنه موضع ضرورة ويقدم أبو المرأة في إنكاحها لأنه أكمل نظرًا وأشد شفقة. ثم وصيه في النكاح. ولا إشكال في جواز توكيله. لأن ولايته ثابتة شرعًا. وكذلك لا يعتبر معه إذن كموكله. قال في الإنصاف قطع به الجمهور. وكذا إن كان غير مجبر. لأن ولايته ثابتة بالشرع. فلا تتوقف استنتابته إلى إذنها كالمجبر. وإنما افترقا على إذنها في صحة النكاح. قال وهذه طريقة الموفق وغيره. وهو الأقوى دليلًا انتهى. وتقدم الكلام في الأب فكذا وكيله. ثم جدها لأب وإن علا. ثم ابنها ثم بنوه وإن نزلوا الأقرب فالأقرب. لما روى النسائي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر بن أبي سلمة "قم فزوج رسول الله" فزوجه. ثم أخوها لأبوين ثم لأب ثم بنوهما كذلك. ثم عمها لأبوين ثم لأب ثم بنوهم على ما سبق في الميراث. ثم أقرب عصبة نسب كالإرث ثم المولى ثم المنعم ثم عصبته ثم ولاء. قال الوزير اتفقوا على أن الولاية في النكاح لا تثبت إلا لمن يرث بالتعصيب ولا ولاية لأخ من أم ولا خال ونحوه من ذوي الأرحام وهو مذهب الشافعي. ولا تزول ولاية بالإغماء ولا بالعمى ولا بالسفه. وإن جن أحيانًا أو أغمي عليه أو أحرم انتظر زوال ذلك. ولا ينعزل الولي بطريان ذلك. ثم السلطان أو نائبه. وقال الشيخ إذا تعذر.

من له ولاية النكاح انتقلت الولاية إلى أصلح من يوجد ممن له نوع ولاية ككبير قرية أو وليها أو أمير قافلة ونحوه. وقال إذا ادعت خلوها من الموانع وأنها لا ولي لها زوجت ولو لم يثبت ذلك ببينة اهـ. وإن زوج الأبعد من غير عذر للأقرب أو زوج أجنبي ولو حاكمًا من غير عذر لم يصح العقد لعدم الولاية من العاقد عليها. مع وجود مستحقها. وإن كان الأقرب لا يعلم أنه عصبة أو أنه صار أهلًا بأن بلغ أو عاد أهلًا بعد مناف من نحو فسق صح العقد استصحابًا للأصل. ووكيل كل ولي يقوم مقامه لأنه - صلى الله عليه وسلم - وكل أبا رافع وعمرو بن أمية بشرط إذنها للوكيل بعد توكيله إن لم تكن مجبرة ويشترط في وكيل ولي ما يشترط فيه. ويقول ولي أو وكيله لوكيل الزوج زوجت موكلك فلانًا فلانة وينسبها. ويقول وكيل الزوج قبلته لفلان وينسبه بما يتميز به. وإن استوى وليان فالأكثر سنًا يقدم. فأسن فإن تشاحوا أقرع. (وعن عقبة) بن عامر -رضي الله عنه- (مرفوعًا أيمًا امرأة زوجها وليان) استويا في الولاية لرجلين (فهي للأول) أي لمن عقد له أولًا (رواه أبو داود) وأحمد والنسائي وغيرهم والخمسة عن الحسن عن سمرة وحسنه الترمذي فدل الحديثان على أنه إذا عقد لها وليان لرجلين وكان العقد مرتبًا إنها للأول منهما سواء دخل بها الثاني أولا. لأنه تزوج زوجة غيره. أما إن دخل بها عالمًا فأجمعوا على أنه زنا. وأنها للأول وإن كان جاهلًا إلا أنه لا

حد عليه للجهل. فإن وقع العقدان معًا في وقت واحد بطلا عند أكثر الفقهاء وكذا إذا علم ثم التبس. واختار الشيخ يقرع بينهما. وهي للقارع من غير تجديد عقد. وهو ظاهر كلام الجمهور. إلا إذا دخل بها أحدهما برضاها فإنه يقرر العقد الذي أقرت بسبقه. (وعن جابر) بن عبد الله -رضي الله عنه- (مرفوعًا أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه وأهله فهو عاهر) أي زان رواه أحمد وأبو داود و (صححه الترمذي) وابن حبان. وله عن ابن عمر أنه وجد عبدًا له تزوج بغير إذنه ففرق بينهما. وأبطل عقده. وضربه الحد. فدل على أن نكاح العبد بغير إذن وليه باطل. وحكمه حكم الزنا عند الجمهور. إلا أنه يسقط عنه الحد إذا كان جاهلًا التحريم. ويلحق به النسب. ولا ولاية لأحد عليها معه. ولو أبوها أبو ابنها قال الموفق بلا خلاف. (وعن معقل بن يسار) -رضي الله عنه- (قال كانت لي أخت) قال الطبري اسمها جميل بالتصغير. وقيل غير ذلك. قال وكانت تخطب إلي (فأتى ابن عم لي فأنكحتها إياه) وفي رواية أنه زوج أخته رجلًا من المسلمين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ثم طلقها) طلاقًا له رجعة ثم تركها حتى انقضت عدتها وذكر أنها خطبت إليه قال (ثم أتاني) يخطبها (فقلت لا أنكحها) وفي لفظ لا والله لا أنكحها أبدًا (فنزلت) {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} أن ينكحن أزواجهن) الآية أي

لا تمنعوهن عن النكاح بعد انقضاء العدة. والعضل المنع. وأصله الضيق والشدة. وفيه فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه (رواه البخاري) وفي رواية وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه وفي رواية فهويها وهويته. فدل الحديث على اعتبار الولي. وإلا لكان رغوب أحدهما في الآخر كافيًا. ودل على أن السلطان لا يزوج المرأة إلا بعد أن يأمر وليها بالرجوع عن العضل. وقال الشافعي هذا أبين ما في القرآن من أن للولي مع المرأة في نفسها حقًا وأن على الولي أن لا يعضلها إذا رضيت أن تنكح بالمعروف. قال وجاءت السنة بمعنى ما في كتاب الله عز وجل. اهـ. واتفقوا على أنه ليس للولي أن يعضل وليته إذا دعت إلى كفء. وبصداق مثلها. وقال الشيخ إذا خطبها كفؤ وآخر وآخر فمنع صار ذلك كبيرة يمنع الولاية لأجل الإضرار والفسق. وتمام الآية: {تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}، وهذا خطاب مع الأولياء. وهو أظهر ما يحتج به في اعتبار الولي في العقد. فلو كانت تملك عقد النكاح لم يكن هناك عضل ولا للنهي معنى. وهل أبلغ من هذا الخطاب. (ولهما عن أنس) -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفية) بنت حيى بن أخطب من سبط هرون بن عمران كانت تحت ابن أبي الحقيق. وقتل يوم خيبر ووقعت في السبي.

فصل في الشهادة

فاصطفاها - صلى الله عليه وسلم - فأعتقها (وتزوجها) ولأحمد اصطفى صفية بنت حي فاتخذها لنفسه. وخيرها أن يعتقها وتكون زوجته أو يلحقها بأهلها فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته وتوفيت رضي الله عنها سنة الخمسين. وفي الصحيحين "أيما رجل كانت عندة وليدة فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" وذهب جمهور العلماء إلى ما دل عليه الحديث من صحة العقد والعتق والمهر. وقال ابن القيم هو القول الصحيح الموافق للسنة وأقوال الصحابة والقياس وفي الحديث الثاني أيضًا مشروعية إعتاق الإماء والتزوج بهن وأنه يستحق بذلك أجرين. فصل في الشهادة أي على عقد النكاح لأن الفرض إعلانه احتياطًا للنسب خوف الإنكار. واتفق أهل العلم العلم على أنه لا يجوز نكاح السر. وأنه ينعقد بحضور شاهدين مع الولي. (عن جابر) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل رواه البرقاني) في صحيحه واسمه أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي الشافعي صاحب التصانيف. وضمن صحيحه ما اشتمل عليه الصحيحان. وحديث النووي والشعبي وطائفته توفي سنة أربعمائة وخمس وعشرين وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا "لا نكاح إلا بولي

وشاهدي عدل" رواه الدارقطني ولأحمد نحوه عن عمران بن حصين. وعنها لا بد في النكاح من حضور أربعة الولي والزوج والشاهدين. وللترمذي وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا "البغايا التي يزوجن أنفسهن بغير بينة" وروي عن أبي هريرة وابن عمر وفيها مقال. وثبت عن ابن عباس لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد وفي لفظ إلا بينة. ولا يعلم له مخالف من الصحابة. فدلت هذه الأحاديث والآثار وغيرها على اعتبار الشاهدين. وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وجمهور العلماء. وقال الترمذي العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من التابعين وغيرهم. قالوا لا نكاح إلا بشهود لم يختلف في ذلك من مضى منهم. إلا قوم من المتأخرين من أهل العلم. وتعتبر العدالة ظاهرًا عند جماهير العلماء. (وعن عبد الله بن الزبير) بن العوام -رضي الله عنهما- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أعلنوا النكاح رواه أحمد) وصححه الحاكم وغيره وعن عائشة رضي الله عنها "أعلنوا النكاح وأضربوا عليه بالغربال" رواه الترمذي وتكلم فيه. وله أيضًا وحسنه "أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف" فدلت هذه الأحاديث وغيرها على الأمر بإعلانه وهو خلاف السر لأنهم لو لم يعلنوه فربما لم يدر الناس فينسبونها إلى الزنا فيقعون في الغيبة والبهتان.

(ولمالك) بن أنس رحمه الله في الموطأ (أن عمر أتى بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة فقال هذا نكاح السر ولا أجيزه) ولو كنت تقدمت فيه لرجمت. فهذه الأحاديث وغيرها تدل على اعتبار الإشهاد. وأنه لا يكتفى فيه إلا برجلين وتدل على اعتبار الإعلان به واتفق أهل العلم أنه لا يجوز نكاح السر لهذه الأخبار وغيرها. وفي الاختيارات والذي لا ريب فيه أن النكاح مع الإعلان يصح. وإن لم يشهد شاهدان وأما مع الكتمان والإشهاد فينظر فيه وإذا اجتمع الإعلان والإشهاد فلا نزاع في صحته. وإن خلا من الإعلان والإشهاد فهو باطل عند عامة العلماء. وقال أبو بكر من شروط النكاح الإظهار. فإذا دخله الكتمان فسد. وقال مالك يبطله وهو رواية عن أحمد ولا تشترط الشهادة بخلوها من الموانع وقيل إن لم يعلم لها سابقة تزوج ولا على إذنها للولي أن يزوجها والاحتياط الإشهاد فإن أنكرت الإذن صدقت قبل الدخول لا بعده لأن دخوله بها دليل كذبها وإن ادعت الإذن فأنكر صدقت. * * *

فصل في الكفاءة

فصل في الكفاءة وهي لغة المساواة والمثل تتكافأ دمائهم أي تتساوى. والمراد بالكفاءة في باب النكاح الدين والمنصب والحرية والصناعة واليسار. وإذا رضيت المرأة والأولياء صح النكاح بالاتفاق إلا في الدين. (قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} لما ذكر تعالى أنه خلقنا من ذكر وأنثى وجعلنا شعوبًا وقبائل لنتعارف: بين الخصلة التي بها فضل الإنسان وأنها التقوى. وكأنه لما قال ليس الشعوب والقبائل للتفاخر. قيل فبأي شيء يستحق الشخص المفخرة قال "من كان أتقى لله وأخشى له" وإلا فالناس متشاركون في الجد والجدة والكل واحد وإنما التفاوت بالدين. (وعن فاطمة بنت قيس) أخت الضحاك بن قيس القرشية الفهرية. وكانت من المهاجرات الأول. ذات جمال وفضل وكمال (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال لها انكحي أسامة) بن زيد -رضي الله عنهما- وكانت جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن طلقها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة. فأخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباها فقال لها "أما أبو جهم فلا يضع عصاه على عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة" (رواه مسلم) وأسامة مولاه بن مولاه وهي قرشية وقدمه - صلى الله عليه وسلم - على أكفائها ممن ذكر فدل على أنه لا عبرة في الكفاءة بغير الدين. (ولأبي داود) وغيره (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه-

(مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (يا بني بياضة) القبيلة المشهورة من الأمصار من بياضة ابن عامر بن زريق الخزرجي -رضي الله عنه- (أنكحوا أبا هند) واسمه يسار. وهو الذي حجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان مولى لبني بياضة (وأنكحوا إليه) وكان حجامًا والحديث صححه الحاكم وجوده الحافظ وغيره فدل على عدم اعتبار كفاءة الأنساب. وثبت أن بلالًا نكح هالة بنت عوف. أخت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم. وعرض عمر ابنته على سلمان الفارسي. وذهب الجمهور إلى أن الكفاءة النسب ليست شرطًا في صحة النكاح كما دلت عليه هذه الأحاديث وغيرها ففي الصحيح أن أبا حذيفة بن عتبة تبني سالمًا وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة. وهو مولى لامرأة من الأنصار. وقال الموفق وغيره الصحيح أن الكفاءة غير مشروطة وهي المذهب عند أكثر المتأخرين. وقول أكثر أهل العلم. وعن أحمد أنها مشروطة لأنها حق لله ولها وأوليائها وأوردوا فيه أخبارًا. قال وما روي فيه يدل على اعتبارها في الجملة. ولا يلزم منه اشتراطها. أما الدين وهو أداء الفرائض واجتناب النواهي فمعتبر باتفاق الأئمة. فلا تزوج عفيفة بفاجر. وأما المسلمة بمجوسي ونحوه فلا نزاع في بطلانه. وأما المنصب وهو النسب فليس العجمي كفوًا للعربية وروي عن عمر لأمنعن أن تزوج ذات الأحساب إلا من الأكفاء وأما

الحرية فليس العبد كفوًا للحرة ولو عتيقة لقصة بريرة ولأنه منقوص بالرق. ممنوع من التصرف وأما الصناعة فكما روي "العرب بعضهم لبعض أكفاء إلا حائكًا أو حجامًا" وضعفه أحمد وغيره لكن قال العمل عليه عند أهل العرف. وأما اليسار بحسب ما يجب لها من مهر ونفقة. فلما روي "الحسب المال" وأحساب الناس بينهم هذا المال. ولأن عليها ضررًا في إعساره وبه تملك الفسخ كما يأتي. وقال الخطابي الكفاءة معتبرة في قول أكثر العلماء بأربعة أشياء: الدين والحرية والنسب والصناعة. ومنهم من اعتبر السلامة من العيوب. واعتبر بعضهم اليسار. ومذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء أن النسب شرط للزوم النكاح. فلو زوج الأب عربية بعجمي أو حرة بعبد فلمن لم يرض من المرأة والأولياء الفسخ. لأن العار عليهم جميعًا وخياره على التراخي. ولا يسقط بإسقاط بعض العصبة. وقال الشافعي ليس نكاح غير الأكفاء حرامًا فيرد به النكاح. وإنما هو تقصير بالمرأة والأولياء. فإذا رضوا صح ويكون حقًا لهم تركوه فلو رضوا إلا واحدًا فله الفسخ. وفي الاختيارات الذي يقتضيه كلام أحمد أن الرجل إذا تبين له أنه ليس بكفء فرق بينهما وأنه ليس للولي أن يزوج المرأة من غير كفء ولا للزوج أن يتزوج ولا للمرأة أن تفعل ذلك وأن الكفاءة ليست بمنزلة الأمور المالية. ولكنه أمر ينبغي

باب المحرمات في النكاح

لهم اعتباره. وإن كانت منفعته تتعلق بغيرها. وفقد النسب والدين لا يقر معهما النكاح بغير خلاف عن أحمد. وحيث يثبت الخيار بفقد الكفاءة للمرأة أو وليها يسقط خيارها بما يدل على رضاها. من قول أو فعل. وأما الأولياء فلا يسقط إلا بالقول ويفتقر الفسخ إلى حاكم. ولهم الفسخ ولو مع ما يدل على رضاها به إذا لم يرضوا به وأما كفاءة المرأة فليست شرطًا اتفقاً. فقد تزوج - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حيي. وتسرى بالإماء. باب المحرمات في النكاح وعبر بعضهم بموانع النكاح والمحرمات في النكاح ضربان: من يحرمن إلى الأبد أو إلى أمد ومن يحرمن إلى الأبد أقسام: وفي كتاب الله بالنسب سبع وسبع بالسبب. وقال الشيخ موانع النكاح الرحم والصهر والرضاع. وجمع الرحم المحرم وجمع العدد. والكفر والرق والنكاح والعدة والإحرام والطلاق الثلاث. واللعان في أشهر الروايتين والزنا وتزويجها في العدة في رواية. والخنوثة والملك من الجانبين أو ملك الولد والمكاتب وفضل المرأة على الرجل إذا قلنا الكفاءة شرط. (قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} أي حرم عليكم نكاح أمهاتكم جمع أم. ويدخل فيها الجدات وإن علون من قبل الأم ومن قبل الأب قال ابن رشد اتفقوا على أن الأم ههنا

اسم لكل أنثى لها عليك ولادة من جهة الأم أو من جهة الأب اهـ فسواء أمك التي ولدتك أو التي ولدت من ولدتك. وإن علت ومنه جداتك أم أبيك وأم أمك. وجدتا أبيك وجدتا أمك وجدات أجدادك جدات جداتك وإن علون. وارثات أو غير وارثات لقوله - صلى الله عليه وسلم - في هاجر أم إسماعيل "تلك أمكم يا بني ماء السماء". {وَبَنَاتُكُمْ} جمع بنت ويدخل فيها بنات الأولاد وإن سفلن قال ابن رشد اتفقوا على أن البنت اسم لكل أنثى لك عليها ولادة من قبل الإبن أو من قبل البنت أو مباشرة اهـ. وتحرم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم الآية. وهو مذهب جمهور أهل العلم أبي حنيفة ومالك وأحمد. وقال غير واحد تحرم ابنته وابنة ابنه وأخته وابنة أخيه من الزنا في قول عامة الفقهاء. {وَأَخَوَاتُكُمْ} جمع أخت سواء كانت من قبل الأب والأم أو من قبل أحدهما. قال ابن رشد وغيره اتفقوا على أن الأخت اسم لكل أنثى شاركتك في أحد أصليك أو مجموعهما أعني الأب أو الأم أو كليهما. {وَعَمَّاتُكُمْ} جمع عمة ويدخل فيهن جميع أخوات آبائك وأجدادك وإن علوا واتفقوا على أن العمة اسم لكل أنثى هي أخت لأبيك أو لكل ذكر له عليك ولادة. {وَخَالاَتُكُمْ} جمع خالة ويدخل فيهما جميع أخوات أمهاتك وجداتك. واتفقوا على أن الخالة اسم لكل أخت لأمك أو أخت كل أنثى لها عليك

ولادة {وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} ويدخل فيها بنات أولاد الأخ والأخت وإن سفلن. وحكى ابن رشد وغيره الاتفاق على أن بنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة من قبل أمها أو من قبل أبيها أو مباشرة وبنات الأخت اسم لكل أنثى لأختك عليها ولادة مباشرة أومن قبل أمها أو من قبل أبيها. {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} أي كما تحرم عليك أمك التي ولدتك كذلك تحرم عليك أمك التي أرضعتك فتحرم الأمهات وجداتهن وإن علت {وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} أي وكما تحرم عليك أختك من النسب تحرم عليك أختك من الرضاعة. فكل امرأة أرضعتك أمها أو أرضعتها أمك أو أرضعتك وإياها امرأة واحدة. أو ارتضعت أنت وهي من لبن رجل واحد فهي أختك محرمة عليك. {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ} أي وحرمت عليكم أمهات نسائكم. فكل من عقد النكاح على امرأة حرم عليه أمهاتها وجداتها وإن علون من النسب والرضاعة بنفس العقد دخل بها أو لم يدخل بها. وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين. وقال الوزير اتفقوا على أن نفس العقد على المرأة يحرم أمها على العاقد على التأبيد وأنه لا يعتبر الوطء في ذلك وقال ابن رشد ذهب الجمهور من كافة فقهاء الأمصار إلى أن الأم تحرم بالعقد على البنت دخل بها أو لم يدخل. {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ} الربائب جمع ربيبة وهي بنت المرأة.

سميت ربيبة لتربيته إياها غالبًا وكذا بنات أولادها الذكور والإناث وإن نزلن. وقوله: {فِي حُجُورِكُم} أي في تربيتكم يقال فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته. والجمهور على أن الربيبة حرام. سواء كانت في حجر الرجل أم لم تكن في حجره فليس شرطًا كونها في حجر الزوج فهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. وقال الوزير اتفقوا على أن الرجل إذا دخل بزوجته حرمت عليه بنتها على التأبيد وإن لم تكن الربيبة في حجره وقال - صلى الله عليه وسلم - "لا تعرضوا علي بناتكن ولا أخواتكن" قال الشيخ وتحرم بنت الربيبة لأنها ربيبة وبنت الربيب أيضًا وقال لا أعلم فيه خلافًا. {اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} أي نكحتموهن فإن المراد بالدخول هنا الوطء وإنما كني عنه بالدخول قال ابن جرير وفي إجماع الجميع أن خلوة الرجل بامرأة لا تحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها. وقبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع. {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ} أي وطأتموهن كما هو قول الجمهور {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن أو متن. قال ابن المنذر أجمع عوام علماء الأمصار أن الرجل إذا تزوج امرأة ثم طلقها وماتت قبل أن يدخل بها حل له أن يتزوج ابنتها فإن خلا بها ولم يطأها لم تحرم ابنتها عليه. وقال القاضي إن تجردت الخلوة عن نظر أو مباشرة لم تحرم وإن

وجد معها نظرة وقبلة وملامسة دون الفرج فروايتان وقال الشيخ إن اتصلت بعقد النكاح قامت مقام الوطء. {وَحَلاَئِلُ} أي زوجات {أَبْنَائِكُمُ} واحدتها حليلة والذكر حليل. سميا بذلك لأن كل واحد منهما حلال لصاحبه. أو لأنها تحل إزار زوجها. وقيل غير ذلك. {الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} أي الذين ولدتموهم من أصلابكم فأخرج زوجة المتبني فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج امرأة زيد وكان قد تبناه. قال الشيخ لا تحرم عليه زوجة ربيبه لا أعلم فيه نزاعًا وتحرم بنت ابن زوجته لا أعلم فيه نزاعًا. فيحرم على الرجل حلائل أبنائه وأبناء أولاده وإن سفلوا بنفس العقد. من نسب أو رضاع وارثات أو غير وارثات باتفاق أهل العلم. ويباح للمرأة ابن زوجة ابنها وابن زوج ابنتها وابن زوج أمها وزوج أبيها وزوج زوجة ابنها {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} أي وحرم الله عليكم الجمع بين الأختين معًا في التزويج. وكذا في ملك اليمين وأجمع أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة وسائر السلف. على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح. وكذلك الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء بل أجمع المسلمون على أن معنى (حرمت عليكم أمهاتكم) الآية أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء. وكذلك عند الجمهور الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب. قال ابن كثير وهم الحجة.

وقال الشيخ يحرم الجمع بين الأختين بالوطء بملك اليمين كقول جمهور العلماء. ومن قال كرهه أحمد فغلط. مأخذه الغفلة عن دلالة الألفاظ. ومراتب الكلام {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} أي إلا ما قد مضى منكم في الجاهلية فقد عفونا عنه وغفرناه {إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} وكذلك لا يجوز له الجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها كما سيأتي {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء} أي وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات وهن المزوجات فلا يحل للغير نكاحها قبل مفارقة الأزواج وفراغ العدة وهذه السابعة من اللاتي حرمن بالسبب. {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي إلا ما ملكتموهن بالسبي فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن. لأن بالسبي يرتفع النكاح بينها وبين زوجها وثبت عن أبي سعيد أنها نزلت في سبايا أوطاس لهن أزواج فكرهوا أن يقعوا عليهن فنزلت هذه الآية. وقيل المراد بالمحصنات من النساء ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم {كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ} أي هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم فالزموا كتابه ولا تخرجوا عن حدوده. والزموا شرعه وما فرضه. {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} أي ما عدا ما ذكر من المحارم هن حلال لكم {أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم} أي تطلبوا وتحصلوا بأموالكم فتنكحوا بصداق إلى أربع. أو تشتروا بثمن ما شئتم بالطريق الشرعي {مُّحْصِنِينَ} أي متزوجين أو متعففين.

وقال الشيخ المحصن هو الذي أحصن المرأة من غيره أي منعها من غيره فلا يشركه فيها غير {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي غير زانين مأخذو من سفح الماء وصبه وهو المني. ثم قال تعالى وَمَن {لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى أن قال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} فلا ينكح حر مسلم أمة مسلمة إلا بشرطين أن يخاف عنت العزوبة لحاجة المتعة والخدمة. ويعجز عن طول حرة وقيل وثمن أمة قال الموفق فتحل له الأمة المسلمة بهذين الشرطين خوف العنت وعدم الطول عند عامة العلماء وإن اشترط حرية الولد فقال ابن القيم وغيره يكون حرًا ولا ينكح عبد سيدته ولا سيد أمته وللحر نكاح أمة أبيه بشرط دون أمة ابنه. لأن له التملك من ماله وليس للحرة نكاح عبد ولدها. (وقال: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} حرم تعالى نكاح زوجات الآباء على الأبناء تكرمة للآباء وإعظامًا واحترامًا أن يطأها ابنه من بعده حتى إنها لتحرم على الإبن بمجرد العقد عليها بإجماع المسلمين. وكذا زوجة كل جد وإن علا. قال ابن رشد وغيره إجماعًا. وذلك أن أهل الجاهلية كان منهم من ينكح زوجة أبيه فروي أن هذه الآية نزلت في أبي قيس وفي الأسود بن خلف وفي فاختة. وقال السهيلي كان معمولًا به

في الجاهلية ولهذا قال تعالى {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} أي معنى في الجاهلية. {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} وهي أقبح المعاصي {وَمَقْتًا} أي يورث مقت الله والمقت أشد البغض {وَسَاء سَبِيلا} أي وبئس ذلك طريقًا لمن سلكه. فهو حرام بإجماع المسلمين. بشع غاية البشع. فمن تعاطاه بعد هذا الوعيد الشديد والتهديد الأكيد فقد ارتد عن دينه فيقتل كما سيأتي ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة لكونهن زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو كالأب بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع بل حبه - صلى الله عليه وسلم - مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} أي لا يتزوجها أو لا يطؤها (إلا زان) أي عاص بزنا (أو مشرك) لا يعتقد تحريمه {وَحُرِّمَ ذَلِكَ} أي نكاح الزانية {عَلَى الْمُؤْمِنِين} أي حرم تعالى تعاطيه والتزويج بالبغايا. وهذه الآية كقوله تعالى {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} وقوله (والمحصنات من النساء) أي العفيفات فمفهومها أو غير العفيفة لا تباح والآية وإن كان لفظها الخبر فالمراد النهي. قال ابن القيم وأما نكاح الزانية فقد صرح الله بتحريمه في سورة النور وأخبر أن من نكحها فهو زان أو مشرك. فهو إما أن يلتزم حكمه تعالى ويعتقد وجوبه عليه فإن لم يعتقده فهو

مشرك. وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه فهو زان ثم صرح تعالى بتحريمه فقال: "وحرم ذلك على المؤمنين" {فَإِن طَلَّقَهَا} أي الطلقة الثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ} أي تحرم عليه {مِن بَعْدُ} أي من بعد الطلقة الثالثة {حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أي غير المطلق فيجامعها. والنكاح تقدم أنه يتناول الوطء والعقد جميعًا. والمراد هنا الوطء لما يأتي من قوله - صلى الله عليه وسلم - "حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها" قال الشيخ لو قتل رجل آخر ليتزوج امرأته فإنها لا تحل للقاتل أبدًا عقوبة له، ولو خبب رجل امرأة على زوجها يعاقب عقوبة بليغة ونكاحه باطل في أحد قولي العلماء ويجب التفريق بينهما. وقال تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} أي حرم تعالى على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان {حَتَّى يُؤْمِنَّ} ثم أخبر أن أمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم بجمالها ومالها وقال الوزير اتفقوا على أنه لا يجوز للمسلم نكاح المجوسيات ولا الوثنيات ولا غيرهما من أنواع المشركات اللاتي لا كتاب لهن. وسواء في ذلك حرائرهن وإماؤهن. وحكاه ابن رشد اتفاق المسلمين. وعموم الآية غير مراد فلا يدخل فيها الكتابية لما يأتي. وقال تعالى: {وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ} أي لا

تزوجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات (حتى يؤمنوا) وقال تعالى {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ولا نزاع في ذلك ثم قال تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي إلى الأعمال الموجبة للنار. فمعاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا وإيثارها على الدار الآخرة. وعاقبة ذلك النار. {وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون} يتعظون. (وقال في الكتابية) أي في إباحة نكاح الحرة الكتابية واستثنائها من المشركات {وَالْمُحْصَنَاتُ} أي العفائف {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} ممن دان بالتوراة أو الإنجيل خاصة كاليهود والسامرة والنصارى ومن وافقهم من الإفرنج والأرمن وغيرهم. وقال الموفق ليس بين أهل العلم اختلاف في حل نساء أهل الكتاب وقال ابن المنذر لا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك. اهـ. وأما المتمسك بصحف إبراهيم وشيث وزبور داود فليسوا بأهل كتاب. فلا تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم كالمجوس. وأهل الأوثان. وكذا الدروز والنصيرية ونحوهم. ويحل نكاح نساء بني تغلب ومن في معناهن من نصارى العرب ويهودهم لأنهم كتابيات قال في الفروع والأولى تركه. وكرهه القاضي وشيخنا. وذكر أنه قول أكثر العلماء كأكل

ذبائحهم بلا حاجة. ولكن لا يحرم وقال القاضي يكره نكاح الحرائر الكتابيات مع وجود الحرائر المسلمات. وهو قول أكثر العلماء كما يكره أن يجعل أهل الكتاب ذباحين مع وجود ذباحين مسلمين. ولكن لا يحرم اهـ. ولو ولدت بين كتابي وغيره أو كان أبواها غير كتابيين واختارت دين أهل الكتاب قيل لا تباح وقال الشيخ قول أحمد لم يكن لأجل النسب ومنصوصه أنها لا تحرم اعتبارًا بنفسها. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور. واختاره هو والموفق وغيرهما. (ويأتي قوله - صلى الله عليه وسلم -) في باب الرضاع (ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) فالمرتضعون من الرجال والنساء باللبن الواحد كالمنتسبين منهم إلى النسب الواحد لا فرق. وفي لفظ "أن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة" وقال في ابنة أم سلمة "لو لم تكن ربيبتي ما حلت لي إنها ابنة أخي أرضعتني وإياها شويبة) وقال لعائشة وكانت امرأة أخي أفلح أرضعتها إنه عملك فكل امرأة حرمت من النسب حرم مثلها من الرضاع كالعمة والخالة والبنت وبنت الأخ وبنت الأخت قال الموفق لا نعلم فيه خلافًا إلا أم أخته وأم أخيه من رضاع وأخت ابنه. قال الشيخ لا يثبت به تحريم المصاهرة فلا يحرم على الرجل نكاح أم زوجته وابنتها من الرضاع. ولا على المرأة نكاح

أبي زوجها وابنته من الرضاع ولم يقل - صلى الله عليه وسلم - ما يحرم من المصاهرة وقال وامرأة ابنه أو أبيه من الرضاع حرمن بالمصاهرة لا بالنسب. ولا نسب بينه وبينهن فلا تحريم اهـ وكل ما يلحق به النسب من نكاح صحيح أو نكاح بشبهة فإنه يحرم بالرضاع فيه النكاح. (وقال البراء) بن عازب بن الحارث الأوسي -رضي الله عنه- (لقيت خالي) يعني أبا بردة بن نيار (ومعه الراية) ولأحمد مر بي عمي الحارث بن عمير ومعه لواء قد عقده له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له أي عم أين بعثك النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه رواه النسائي) ورواه أحمد وأهل السنن من طرق عن البراء عن خاله أبي بردة. وفي رواية ابن عمر وفي رواية ابن عمه أنه بعثه - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله وأجمع أهل العلم على تحريم من وطأ الأب على الابن وإن سفل بتزويج أو ملك أو شبهة. (وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح المراة على عمتها أو) تنكح المرأة على (خالتها متفق عليه) وفي لفظ "نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها" ولابن حبان نهى أن تزوج المرأة على العمة والخالة وقال "إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن" ولأبي داود في المراسيل "مخافة القطيعة" ولأحمد وأبي داود وغيرهما كره أن يجمع بين العمة

والخالة وبين الخالتين والعمتين وقال - صلى الله عليه وسلم - "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين". وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على تحريم الجمع بين من ذكر وحكاه الترمذي بعد حديث الباب عن عامة أهل العلم. والشافعي عن جميع المفتين. وقال ابن المنذر لا أعلم في ذلك خلافًا وحكى القرطبي الإجماع واستثنى الخوارج. وقال ولا يعتد بخلافهم. وقال ابن رشد اتفق المسلمون على أنه لا يجمع بين الأختين بعقد نكاح. وإن جمع بينهما في عقد بطل وفي عقدين بطل الثاني. وتقدم أن العلة قطيعة الرحم وهي من الكبائر بالاتفاق. وما كان مفضيًا إليها يكون محرمًا. ويدخل في العمات عمات آبائها وخالاتهم وعمات أمهاتها وخالاتهن وإن علت درجتهن. حرتين كانتا أو أمتين أو حرة وأمة قبل الدخول أو بعده للعموم وحكاه ابن المنذر إجماعًا وخالفه الشيخ في الرضاع. وقال الوزير اتفقوا على أن العمة تنزل في التحرير منزلة الخالة إذا كانت الأولى أخت الأم لأمها أو امرأتين لو كانت إحداهما ذكرًا والأخرى أنثى حرم نكاحه لها لقرابة. وحكاه الشعبي عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه أحمد. ويحرم الجمع بين المرأة وأمها في العقد لأن المرأة وأمها أولى من الأختين. وأجمعوا على أنه لا يجوز أن يتزوج بكل

واحدة ممن يحرم عليه الجمع بينها وبين المعتدة منه إذا كن معتدات من طلاق رجعي أو بائن. ولا يحرم الجمع بين ابنة العم وابنة الخال في قول عامة أهل العلم ولا الجمع بين أخت شخص من أبيه وأخته من أمه. ولا بين مبانة شخص وبنته من غيرها ولو في عقد لأنه لا قرابة بينهما ومتى طلقت المرأة وفرغت عدتها أبيحت أختها أو عمتها أو خالتها ونحوهن لعدم المانع وسائر القرابات الإلزام بتحريمه يرده الإجماع على خلاف. (وعن أبي سعيد) الخدري -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لا توطأ حامل) أي من غيره (حتى تضع رواه أبو داود) وتقدم قوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} فتحرم المعتدة من الغير وكذا المستبرأة لأنه لا يؤمن أن تكون حاملًا فيفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب وأجمعوا على أنه لا يصح العقد في مدة العدة وحكاه ابن رشد وغيره سواء كانت عدة حمل أو عدة حيض أو عدة أشهر. وسواء كانت من وطء مباح أو محرم أو من غير وطء. (وله) أي لأبي داود في سننه (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله) أي لا يحل لرجل أن يتزوج بمن ظهر منها الزنا وكذلك لا يحل للمرأة أن تتزوج بمن ظهر منه الزنا وقوله "المجلود" خرج مخرج الغالب.

فلا مفهوم له. وتقدم قوله {حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِين} ولا نزاع في ذلك وقال بعضهم حتى تتوب وتنقضي عدتها وقيل توبتها أن تراود فتمتنع. والصواب توبتها بالندم والاستغفار والعزم على أن لا تعود. فإذا تابت وانقضت عدتها حل نكاحها لزان تائب وغيره. وعن أحمد لا تشترط التوبة وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم. وأما انقضاء العدة فهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما ولقوله "لا توطأ حامل حتى تضع وغير ذلك وإن زنت قبل الدخول أو بعده لم ينفسخ النكاح في قول عامة أهل العلم وحكاه الوزير اتفاقًا وقال الشيخ إذا كانت المرأة تزني لم يكن له أن يمسكها على تلك الحال بل يفارقها إلا إذا كان ديوثًا ولا يطؤها وفي بطنها جنين لغيره. قال ابن عبد البر هذا مجمع على تحريمه. (ويأتي خبر الذي طلق امرأته ثلاثًا) في باب الطلاق وإن شاء الله تعالى قالت عائشة رضي الله عنها طلق رجل امرأته ثلاث (فتزوجها آخر ثم طلقها قبل أن يدخل بها فأراد الأول أن يتزوجها) فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا) أي لا تحل لك (حتى يذوق الآخر عسيلتها) وتذوق عسيلته أي حلاوة الجماع التي تحصل بتغيب الحشفة وفي لفظ حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول". قال جمهور العلماء والعسيلة كناية عن المجامعة، وهو

تغييب الحشفة في فرج المرأة ويكفي منه ما يوجب الغسل كما تقدم. ويجب الحد والصداق فدل الحديث كما دلت الآية على تحريم نكاح مطلقته ثلاثًا حتى يطأها زوج غيره بلا نزاع ولو كافرًا في كتابية وتحرم الملاعنة على الملاعن على التأبيد. قال سهل بن سعد: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدًا مقال الموفق لا نعلم أحدًا قال بخلاف ذلك. (وعن قيس بن الحارث) الأسدي وقيل الحارث بن قيس الأسدي -رضي الله عنه- (قال أسلمت وعندي ثمان نسوة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختر منهن أربعًا رواه أبو داود) وعن سالم عن أبيه أو غيلان بن سلمة أسلم وله عشر نسوة فأسلمن معه فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخير منهن أربعًا رواه أحمد والشافعي والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم قال أحمد والعمل عليه وروى الشافعي والبيهقي عن نوفل بن معاوية أنه قال أسلمت وتحتي خمس نسوة فقال النبي – - صلى الله عليه وسلم - "فارق واحدة وامسك أربعًا " وإن كان فيها مقال فبمجموعها يحتج بها. كما هو مفهوم الآية. وحكي الإجماع على تحريم الزياد على أربع، وأن الزيادة من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وقال عمر ينكح العبد امرأتين وقال الحكم بن عتبة أجمع الصحابة على أنه لا ينكح العبد أكثر من اثنتين وقال ابن القيم وقصر عدد المنكوحات على أربع وإباحة ملك اليمن بغير حصر من تمام نعمة الله وكمال شريعته. وموافقتها للحكمة والرحمة والمصلحة. فإن النكاح يراد للوطء

وقضاء الوطر ثم من الناس من يغلب عليه سلطان الشهوة فلا تندفع حاجته بواحدة فاطلق له ثانية وثالثة ورابعة. ورحم الضرة بأن جعل عامة انقطاع زوجها عنها ثلاثاً ثم يعود. وأما الإماء فلما كن بمنزلة سائر الأموال من الخيل والعبيد وغيرها لم يكن لقصره على أربع منهن أو غيرهن من العدد معنى. وأيضاً للزوجة حق على الزوج اقتضاه عقد النكاح. ويجب القيام به. فقصره على عدد يكون العدل فيه أقرب وجعل العبيد على النصف من الأحرار في الجملة. (وتقدم) في كتاب الحج قوله - صلى الله عليه وسلم - (لا ينكح المحرم) بفتح الياء أي لا يعقد المحرم بحج أو عمرة لنفسه (ولا ينكح) بضم الياء أي لا يتولى العقد لغيره. وفيه "ولا يخطب" أي لا يطلب امرأة للنكاح. فدل الحديث على أنه يحرم على المحرم أن يعقد النكاح في حال إحرامه. وهو مذهب جماهير العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وحكى إجماعاً. فإن فعل فالنكاح باطل. وهو قول عمر وعلي وابن عمر وزيد وغيرهم. ولأن الإحرام يمنع الوطء ودواعيه فمنع صحة عقده حسمًا لمواد النكاح عن المحرم. وصلى الله عليه محمد وآله وصحبه وسلم. آخر المجلد الثالث من شرح أصول الأحكام، ويليه المجلد الرابع، وأوله: باب الشروط في النكاح.

جمع الفقير إلى الله تعالى عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي النجدي رحمه الله تعالى (1312 - 1392 هـ) المجلد الرابع

باب الشروط في النكاح

باب الشروط في النكاح تقدم تعريف الشروط. والمراد هنا ما يشترطه أحد الزوجين على الآخر مما له فيه غرض. والمعتبر منها ما كان في صلب العقد أو اتّفاقًا عليه قبله. والشروط في النكاح منها ما هو صحيح يجب الوفاء به بالاتفاق. وهو ما يقتضيه العقد. كتسليم الزوجة. والاستمتاع بها. وغير ذلك مما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ومنها ما تنتفع به المرأة ولا ينافي مقتضى العقد كأن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى ونحو ذلك. ومنها ما هو فاسد لا يصح على ما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى. (وعن عقبة) ابن عامر -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أحقَّ الشروط أن يوفى بها) وفي لفظ «أحق ما أوفيتم به من الشروط» وفي لفظ «إن أحق الشروط أن توفوا به» (ما استحللتم به الفروج متفق عليه) أي أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح، فهي أولى من الشروط في البيوع وغيرها. لأن أمره أحوط. وبابه أضيق والمراد الجائزة لا المنهي عنها. فقد قال علي رضي الله عنه سبق شرط الله شرطها.

(وقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (المسلمون على شروطهم) وتقدم وفيه «إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً» فيدخل فيه شرط ما يقتضيه العقد وما تنتفع به المرأة ولا ينافي الشرع، وبطلان ما أحل حرامًا أو حرم حلالاً كشرط طلاق أختها. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا نهي) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى (أن تشترط المرأة طلاق أختها متفق عليه) وسواء كانت أختها من النسب أو الرضاع أو الدين، وقال ابن عبد البر الأخت هنا الضرة، وفي لفظ لهما «ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها» وفي لفظ «إنائها فإنما رزقها على الله تعالى» ولأحمد من حديث عبد الله بن عمر «لا يحل أن تنكح امرأة بطلاق أخرى». والنهي يقتضي بطلان الشرط. وهو مذهب جماهير العلماء، ولأنها شرطت عليه فسخ عقده وإبطال حقه وحق امرأته فلم يصح الشرط، وهذا التحريم فيما إذا لم يكن هناك سبب يجوز ذلك لريبة، أو على سبيل النصيحة المحضة أو لضرر أو غير ذلك من المقاصد المسوغة لطلبها ذلك. (وقال عمر) رضي الله عنه (فيمن شرطت دارها أي على من تزوجها ثم أراد نقلها) فقضى عليه بلزوم الشرط، قال المشروط عليه إذ يطلقنا فقال عمر (لها شرطها) أي بقاؤها في دارها عملاً بالشرط. ثم قال رضي الله عنه (مقاطع الحقوق عند الشروط) وتقدم أمره - صلى الله عليه وسلم - بالوفاء بالشروط، وإن أحق الشروط بالوفاء ما استحلت به الفروج. فدلت الأحاديث

والأثر على الوفاء بالشروط. فإذا شرطت دارها أو بلدها صح الشرط، وكذا لو شرطت أن لا يتزوج عليها أو أن لا يتسرى عليها فيصح الشرط، فإن وفى به وإلا فلها الفسخ، كما هو ظاهر النصوص. وقول عمر. وقال الموفق وغيره هو قول غيره من الصحابة ولم يعلم لهم مخالف في عصرهم. وقال ابن القيم يجب الوفاء بهذه الشروط التي هي أحق أن يوفى بها، وهو مقتضى الشرع والعقل، والقياس الصحيح، فإن المرأة لم ترض ببذل بضعها للزوج إلا على هذا الشرط، ولو لم يجب الوفاء به لم يكن العقد عن تراض وكان لزامًا لها بما لم تلتزمه، وبما لم يلزمها الله به ولا رسوله، وكذا لو شرطت أن لا يسافر بها. وقال الشيخ لو خدعها فسافر بها ثم كرهته لم يكن له أن يكرهها بعد ذلك، وقال إذا أراد أن يتزوج عليها أو يتسرى وقد شرط لها عدم ذلك فقد يفهم من إطلاق أصحابنا جوازه بدون إذنها. لكونهم إنما ذكروا أن لها الفسخ، ولم يتعرضوا للمنع، قال وما أظنهم قصدوا ذلك. وظاهر الأثر والقياس يقتضي منعه كسائر الشروط الصحيحة اهـ. ولو شرطت أن لا يفرق بينها وبين أولادها، وأبويها. أو أن ترضع ولدها الصغير صح الشرط، أو شرطت نقدًا معينا أو زيادة في مهرها، أو نفقة ولدها وكسوته صح، قال الشيخ لو شرطت مقام ولدها عندها ونفقته على الزوج كان مثل اشتراط الزيادة في الصداق، ويرجع إلى العرف كالأجير بطعامه وكسوته وقال إذا شرطت عليه أن لا يخرجها من دارها، ونحوه صح في

مذهب أحمد ومالك ووجه في مذهب الشافعي وكذا إن كان متقدمًا على العقد ولو لم يذكره حين العقد. وقال عامة نصوص أحمد وقدماء أصحابه ومحققي المتأخرين على أن الشروط والمواطأة التي تجري بين المتعاقدين قبل العقد إذا لم يفسخاها حين العقد. فإن العقد يقع مقيدًا بها. وقال ابن القيم في قصة ابنة أبي جهل يؤخذ منها أن المشروط عرفًا كالمشروط لفظًا، وأنه يملك به فسخ العقد، فقوم لا يخرجون نساءهم من ديارهم عرفًا وعادة، أو امرأة من بيت قد جرت عادتهم أن الرجل لا يتزوج على نسائهم، أو يمنعون الأزواج منه. أو يعلم عادة أن المرأة لا تمكن من إدخال الضرة عليها كان ذلك كالمشروط لفظًا، وهذا عرف مطرد إلى آخر كلامه رحمه الله، وإن شرط أن لا يخرجها من منزل أبويها فمات أحدهما بطل الشروط واستظهره الشيخ وغيره، وقال يحتمل أن لا يخرجها منزل أمها، إلا أن تتزوج الأم، وقال فيمن شرط لامرأته أن يسكنها بمنزل أبيه فسكنت ثم طلبت النقلة عنه وهو عاجز لا يلزمه ما عجز عنه. بل لو كان قادرًا فليس لها عند مالك واحد القولين في مذهب أحمد وغيرهما غير ما شرط لها. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار) بكسر الشين سمي شغارًا لخلوه عن العوض، من قولهم شغر المكان إذا خلا، أو من شغر الكلب إذا رفع رجله يبول، ولمسلم عنه «لا شغار في الإسلام» وللترمذي عن

عمران بن حصين نحوه وصححه (والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق متفق عليه" وفي لفظ لهما أن التفسير من كلام نافع، ولأحمد من حديث أبي هريرة "نهى عن الشغار، والشغار أن يقول الرجل زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي. أو زوجني أختك وأزوجك أختي. وللبيهقي عن جابر: "أن تنكح هذه بهذه بغير صداق بضع هذه صداق هذه وبضع هذه صداق هذه" قال القرطبي تفسير الشغار صحيح موافق لما ذكره أهل اللغة، فإن كان مرفوعًا فهو المقصود، وإن كان من قول الصحابي فمقبول أيضًا. لأنه أعلم بالمقال، وأقعد بالحال، وقال شيخ الإسلام: حقيقته أنه مبادلة بضع ببضع، كما قال أحمد فرج بفرج. واتفق أهل العلم أن هذه صفته، وقال ابن رشد اتفقوا على أن نكاح الشغار غير جائز لثبوت النهي، والنفي، وهو دال على أن الشغار حرام باطل، ولا نزاع في تحريمه، ولأنه جعل كل واحد من العقدين سلمًا في الآخر، فصار فساده أنه وقفه على شرط فاسد. قال الشيخ ولم يقابل كل منهما إلا بمنفعة البضع الآخر، فالنفع للولي، وهو البضع خاصة فهذا إشغار للنكاح من المهر، وإخراج للمرأة عن استحقاق المهر، وهذا هو النكاح الذي نفي فيه المهر، فعلم أن النكاح بشرط نفي المهر باطل، قال وحقيقة الأمر أن كل واحدة قد رضيت ببذل بضعها بلا مهر، لأجل ما تبذله لوليها من بضع الأخرى فكأنها رضيت بمهر يستحقه

الولي، ولا تستحقه هي. ولو جاز هذا لجاز أن المرأة تملك بضع المرأة لتزوجها لرجل، إما بعوض وإما بغير عوض اهـ. والتحريم غير مختص بالبنات فقد أجمعوا على أن غير البنات من الأخوات وبنات الأخ وغيرهن كالبنات. كما حكاه النووي وغيره، ولو جعل بضع كل واحدة مع دراهم معلومة مهرًا للأخرى لم يصح. أو سمى مهرًا قليلاً كان أو كثيرًا حيلة لم يصح. وذلك بأن يكون العوض المقصود هو الفرج الآخر، حيث أنه لا يزوج به هذا الرجل قط لولا ابنته معه، ففرج هذه هو المقصود لا المهر، ولأحمد أن العباس بن عبد الله أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وقد كانا جعلا صداقًا، فكتب معاوية إلى مروان بالتفريق بينهما، وقال في كتابه هذا هو الشغار الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكر الشيخ الأخبار، وأقوال الناس. ثم قال وفصل الخطاب أ، الله حرم نكاح الشغار، لأن الولي يجب عليه أن يزوج موليته إذا خطبها كفوء، ونظره لها نظر مصلحة لا نظر شهوة، والصداق حق لها لا له، قال، وليس للولي ولا للأب أن يزوجها إلا لمصلحتها، وليس له أن يزوجها بالزوج الناقص لغرض له، وإذا زوجها برجل ليزوجه وليته كان قد زوجها لغرضه لا لمصلحتها. وبمثل هذا تسقط ولايته، ومتى كان غرضه أن يعاوض فرجها بفرج الأخرى لم ينظر في مصلحتها وصار كمن زوجها على مال له لا لها، وكلاهما لا يجوز.

وعلى هذا فلو سمي صداقًا حيلة والمقصود المشاغرة لم يجز كما نص عليه أحمد، لأن مقصوده أن يزوجها بتزوجه بالأخرى، والشرع قد بين أنه إذا زوج وليت هو على أن يزوجه الآخر وليته لا يقع هذا إلا لغرض الولي لا لمصلحة المرأة سواء سمي مع ذلك صداقًا أو لم يسمه كما قال معاوية وغيره، وأحمد رحمه الله جوزه مع تسمية الصداق المقصود دون الحيلة. . مراعاة لمصلحة المرأة في الصداق، وقد يصدق صداق المثل، لكن الولي إنما رغب في الخاطب لغرضه إلا لمصلحتها، وقد يكون هناك خاطب أصلح منه، قال والظاهر أن هذا وإن لم يسم شغارًا فهو في معناه من جهة أن الولي زوجها لغرض يصلح له من الزوج، كما يحصل له إذا زوجه موليته. وذكر أن لها حقين حقًا في مال الزوج وهو الصداق فإذا أسقط هذا بالشغار كان حرامًا باطلاً وحقًا في بدن الزوج، وهو كفاءته، فلو زوجها الولي بغير كفء لغرض له لم يجز ذلك، وإن أذنت له لجهلها بحقيقة الأمر فوجود هذا الإذن كعدمه. وقال أيضًا أما إذا سمي لها صداق مثلها فهذا يجوز في الجملة لكن يبقى تخصيصها بهذا الخاطب دون غيره، أما إن كان لغرضه لم يكن له ذلك، وأما إذا كان الخاطب أصلح لها، ولم يبذل للولي شيئًا، بل كل من الزوجين راغب في المرأة المخطوبة، وكل من المرأتين راغبة في خاطبها، فهذا جائز مع الصداق الشرعي.

(وعن ابن مسعود) رضي الله عنه أنه قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل) سمي محللاً لقصده الحل في موضع لا يحصل فيه الحل (والمحلل له) أي ولعن المحلل له (رواه الخمسة وصححه الترمذي) وابن القطان وابن دقيق وغيرهم. وقال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم منهم عمر وعثمان وابن عمر، هو قول الفقهاء من التابعين، ولابن ماجه والحاكم من حديث عقبة: "ألا أخبركم بالتيس المستعار" قالوا بلى يا رسول الله قال: "هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له" وعن علي نحوه. وهذه الأحاديث دالة على تحريم التحليل، لأنه لا يكون اللعن إلا على فاعل محرم، وكل محرم منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، فإن تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها بطل النكاح في قول عامة أهل العلم. سواء قال زوجتكها إلى أن تطأها، أو أنه إذا أحلها فلا نكاح بينهما، وكذا إن نوى التحليل بلا شرط، وحكي عن طائفة من الصحابة، ولا مخالف لهم، ولأنه قصد التحليل فلم يصح النكاح كما لو شرطه، قال الشيخ لا يصح نكاح المحلل ونية ذلك كشرطه، وكذا إن اتفقا عليه قبل العقد ولم يرجع عن نيته بطل النكاح ولو لم يذكر في العقد لم يصح العقد. وقال أجمعوا على تحريم نكاح المحلل، واتفق أئمة الفتوى على أنه إذا شرط التحليل في العقد كان باطلاً والصحابة والتابعون وأئمة الفتوى لا فرق عندهم بين الشرط المتقدم

والعرف وهو قول أهل المدينة وأهل الحديث وقال ولا يحصل به الإحصان، ولا الإباحة للزوج الأول، ويلحق فيه النسب. ومن عزم على تزويجه بالمطلقة ثلاثا، ووعدها كان أشد تحريمًا من التصريح بخطبته المعتدة إجماعًا، لا سيما إذا اتفق عليها، وأعطاها ما تحلل به اهـ. وإن لم يكن للزوج نية فقال ابن القيم وغيره إنما تؤثر نيته وشرط الزوج، ولا أثر لنية الزوجة، ولا الولي وإنما التأثير لنية الزوج الثاني فإنه إذا نوى التحليل كان محللاً فيستحق اللعنة، ويستحق الزوج المطلق اللعنة، إذا رجعت إليه، بهذا النكاح الباطل، فأما إذا لم يعلم الزوج الثاني ولا الأول بما في قلب المرأة، أو وليها من التحليل، لم يضر ذلك العقد شيئًا، وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - من امرأة رفاعة أنها كانت تريد أن ترجع إليه، ولم يجعل ذلك مانعًا من رجوعها إليه، وإنما جعل المانع عدم وطء الثاني فقال: «حتى تذوق عسيلته». (وعن سبرة) بن معبد الجهني رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة، أيها الناس إني كنت أذنت لكم) وفي رواية أمرنا بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة (في الاستمتاع) بالجماع (من النساء) وهو النكاح الموقت. بأمد معلوم أو مجهول، سميت بذلك لأنه يتزوجها ليتمتع بها إلى أمد. قال - صلى الله عليه وسلم - «وإن الله قد حرم ذلك» أي نكاح المتعة (إلى يوم القيامة رواه مسلم) وفي رواية فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا" وفي رواية أنه غزا

مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام فتح مكة قال فأقمنا بها خمسة عشر فأذن لنا في متعة النساء" ثم قال: فلم نخرج حتى حرمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولهما عن ابن مسعود كنا نغزوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس معنا نساء، فقلنا أفلا نختصي " فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا بعد أن تنكح المرأة بالثوب إلى أجل" وللترمذي من حديث سهل "إنما رخص في المتعة لعزبة كانت بالناس شديدة ثم نهى عنها بعد ذلك" والمقصود أنه إنما رخص فيها بسبب العزوبة ثم حرمت. قال الحافظ ولا يصح من روايات الإذن بالمتعة شيء إلا في غزوة الفتح، وحرمت فيها، والإذن الواقع منه منسوخ بالنهي المؤبد، وقال شيخ الإسلام الروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أنه تعالى حرم المتعة بعد إحلالها، والصواب أنها بعد أن حرمت لم تحل، وأنها لما حرمت عام فتح مكة لم تحل. بعد ذلك، ولم تحرم عام خيبر. وذكر ابن القيم أن المسلمين لم يكونوا يستمتعون بالكتابيات، يقوي أن النهي فيها لم يقع عام خيبر، وذكر السهيلي وغيره أنه لا يعرف عن أهل السير ورواة الآثار أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح المتعة عام خبير، وذكر ابن عيينة وغيره أن النهي زمن خبير عن لحوم الحمر الأهلية. وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر، وقال القرطبي: الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل، وأنه حرم ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض، وقال الحازمي وكان تحريمًا

مؤبدًا لم يبق اليوم خلاف بين فقهاء الأمصار وأئمة الأمة إلا أشياء ذهب إليها بعض الشيعة. وما روي عن ابن عباس ثبت رجوعه فيها، وكانت تقرأ {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} حتى نزلت: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} فتركت المتعة، وكان الإحصان وتحريمها كالإحماع بين المسلمين لم يبقى خلاف إلا من بعض الروافض. وقال الوزير أجمعوا على أن نكاح المتعة باطل لا خلاف بينهم في ذلك، فإذا تزوج الغريب بنية طلاقها، أو قال الولي زوجتك وإذا جاء غد فطلقها أو وقت كذا فطلقها، أو وقته بمدة، بأن قال زوجتكها شهرًا أو سنة لم يصح النكاح، وإن زوجها إلى انقضاء الموسم أو قدوم الحاج، أو يقول الزوج أمتعيني نفسك، أو نوى بقلبه فكالشرط، ولا فرق بينه وبين نية التحليل أيضًا وكذا لو شرط الزوج في النكاح طلاقها ولو مجهولاً فكالمتعة لا يصح. وإن علق النكاح على شرط مستقبل كاذا جاء رأس الشهر، أو إن رضيت أمها ونحوه، فقال ابن رجب رواية الصحة أقوى، وإن قال زوجتك إن كانت بنتي، أو إن انقضت عدتها، وهما يعلمان ذلك، أو إن شئت فقال قد شئت وقبلت ونحوه صح لأنه تقوية، وإن شرط فيها خيارًا صح النكاح عند الجمهور.

وإن شرط أن لا مهر ولا نفقة، أو أن يقسم لها أقل من ضرتها صح النكاح، وبطل الشرط عند الجمهور، واختار الشيخ صحته كترك ما تستحقه، وإن شرطها مسلمة فبانت كتابية فله الفسخ، أو شرطها بكرًا أو جميلة أو نسيبة وبانت بخلافه فله الفسخ، وكذا لو شرط نفي عيب لا ينفسخ به النكاح، لا إن شرط صفة فبانت أعلى منها، وإن ظنها مسلمة أو جميلة ونحو ذلك فقال الشيخ لو قال ظننتها أحسن مما هي أو ما ظننت فيها هذا لم يلتفت إلى قوله. وكان هو المفرط حيث لم يسأل ولم يرها، ولا أرسل إليها من رآها له، وإذا فرط فله التخلص بالطلاق. وقال إن شرط وصفًا مقصودًا فبانت بخلافه فإلزامه بما لم يرض به لم يأت به شرع ولا عرف، بل هو مخالف للأصول والعقول، ولا شيء عليه إن فسخ قبل الدخول، وبعده يرجع بالمهر على الغار، وإن شرط أنها حرة فكانت أمة، فإن كان ممن يحل له نكاح الإماء فله الخيار، ولا فرق بينهما وما ولدته قبل العلم حر يفديه بقيمته يوم ولادته بلا خلاف، وإن كان عبدًا فولده حر أيضًأ يفديه إذا عتق عند الجمهور ويرجع على من غره، وكذا إن تزوجت على أنه حر فبان عبدًا فلها الخيار، أو شرطت صفة فبان بخلافها. (ولهما) أي البخاري ومسلم (عن عائشة أنه) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (خير بريرة على زوجها حين عتقت) وللبخاري من

حديث ابن عباس أنه كان عبدًا، وروي أنه كان حرًا، وقال الحافظ وغيره رواية كونه عبدًا أثبت وأكثر، ولأبي داود أن زوج بريرة كان عبدًا أسود يسمى مغيثًا فخيرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمرها أن تعتد. وفي الصحيح ذاك مغيث عبد بني فلان، وللترمذي لبني مغيرة، ولأبي داود عبد لبني أحمد، وفيها: "إن قربك فلا خيار لك" فدل الحديث على ثبوت الخيار للمعتقة بعد عتقها في زوجها إذا كان عبدًا وهو إجماع. وإن كان حرًا فالجمهور على أنه لا يثبت لها خيار، لأن العلة في ثبوت الخيار إذا كان عبدًا هو عدم المكافأة من العبد للحرة في كثير من الأحكام. وقال ابن القيم عقد عليها السيد بحكم الملك حيث كان مالكًا لرقبتها، ومنافعها، والعتق يقتضي تمليك الرقبة والمنافع للمعتق، وهذا مقصود العتق وحكمته، فإذا ملكت رقبتها ملكت بضعها ومنافعها، ومن جملتها منافع البضع، فلا تملك عليها إلا باختيارها، فخيرها الشارع بين الأمرين من البقاء تحت الزوج. أو الفسخ منه. وفي بعض طرق حديثها " ملكت نفسك فاختاري" وهذا إشارة إلى علة التخيير، فيقتضي ثبوت الخيار، وإن كانت تحت حر، وهذا مذهب أصحاب الرأي، واختاره شيخ الإسلام لهذا الخبر، ولأنها ملكت رقبتها وبضعها فلا يملك ذلك عليها إلا باختيارها. فتقول فسخت نكاحي، واخترت نفسي ولو متراخيًا

فصل في العيوب

كخيار عيب ما لم يوجد دليل الرضا، كتمكين من وطء أو قبلة ونحوها، ويجوز للزوج الإقدام على الوطء إذا كانت غير عالمة ولو بذل لها عوضًا على أن تختاره جاز، ولو شرط المعتق عليها دوام النكاح تحت حر أو عبد إذا أعتقها ورضيت لزمها، وهو الذي يقتضيه مذهب أحمد. قاله الشيخ ولا يحتاج فسخها لحاكم، لأنه مجمع عليه، وإن فسخت قبل الدخول فلا مهر لها، لمجيء الفرقة من قبلها، وبعده هو لسيدها لوجوبه بالعقد, وهي ملك له حالة العقد، وإن رضيت المقام معه فليس لها فراقه قال الموفق بلا خلاف نعلمه. فصل في العيوب أي في العيوب في النكاح مما يثبت به الخيار منها، وما لا خيار به، وبيان ما يختص بالرجال، وما يختص بالنساء، وما هو مشترك بينهما وثبوته لأحد الزوجين إذا وجد بالآخر عيبًا في الجملة، روي عن عمر وابنه وابن عباس وغيرهم، وهو مذهب الشافعي، لأنه يمنع الوطء فأثبت الخيار، ولأن المرأة أحد العوضين في النكاح فجاز ردها بعيب كالصداق، ولأن الرجل أحد الزوجين فيثبت له الخيار بالعيب في الآخر كالمرأة. (عن عمر) رضي الله عنه أنه قال (في) حكم (العنين) وهو من لا يقدر على الوطء، من عن يعن إذا اعترض لأن ذكره يعن يعني يعترض إذا أراد أن يولجه، فيعجز

عن الوطء وربما اشتهاه ولا يمكنه، ومتى ثبتت عنته بإقراره أو ببينة على إقراره فكما قال عمر رضي الله عنه (قال يؤجل) أي العنين (سنة) وهو قول عثمان وابن مسعود والمغيرة وغيره، ولا يعلم لهم مخالف، وقال الوزير اتفقوا على أنها إذا وجدت زوجها عنينا أجل سنة، وعليه فتوى علماء الأمصار، لاختيار زوال ما به. لأنه إذا مضت الفصول الأربعة ولم تزل العنة علم أنه جبلة وخلقة ولو كان عبدًا. فإن كان من يبس زال في فصل الرطوبة وعكسه، وإن كان من برودة زال في فصل الحرارة، وإن كان من احتراق زال في فصل الاعتدال، والسنة المعتبرة في التأجيل هي الهلالية، ومبتدأ الأجل من المحاكمة، ولا تعتبر عنته إلا بعد بلوغه، وإن وطيء في السنة فليس بعنين، وإلا فلها الفسخ، ولا تزول بوطئه غيرها، وإن اعترفت أنه وطئها فليس بعنين، ولو قالت في وقت رضيت به عنينًا سقط خيارها، وإن ادعت عجزه لم تسمع دعواها، ولم تضرب له مدة، وإن علم أن عجزه لعارض من صغر أو مرض مرجو الزوال لم تضرب له مدة أيضًا. وإن كانت عجزه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه ضربت له المدة، وإن كان مجبوبًا بأن قطع ذكره فلها الفسخ في الحال. وكذا إن قطع بعضه وبقي له ما لا يطأ به، قال القاضي عياض وغيره اتفق كافة العلماء: أن للمرأة حقًا في الجماع فيثبت الخيار لها إذا تزوجت المجبوب والمسموح جاهلة بهما، وكذا

الأشل. قال عمر لرجل متزوج وهو خصي أعلمتها قال لا: قال أعلمها ثم خيرها، وكذا وجاء وهو رضهما لأن ذلك يمنع الوطء. (وبعث) أي عمر رضي الله عنه (رجلاً على بعض السعاية فتزوج امرأة وكان عقيمًا فقال أعلمتها أنك عقيم قال لا قال فأعلمها ثم خيرها) رواه سعيد بن منصور في سننه، ونقل ابن منصور عن أحمد، إن كان عقيمًا أعجب إلي أن يبين لها، وقال الشيخ إن بان عقيمًا فقياس قولنا ثبوت الخيار للمرأة، لأن لها حقًا في الولد، ولهذا قلنا لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها. (وقال الزهري) الإمام المشهور رحمه الله (يرد النكاح) فيثبت الخيار لأحد الزوجين (من كل داء) بالآخر (عضال) أي صعب، يعجز الأطباء فلا دواء له، ونقل أبو البقاء ثبوت الخيار بكل عيب يرد به المبيع، وقال أحمد إذا كان به جنون أو وسواس أو تغير في عقل، أو كان يعبث ويؤذي رأيت أن يفرق بينهما، وقال الشيخ ترد المرأة بكل عيب ينفر عن كمال الاستمتاع. وقال ابن القيم فيمن به عيب كقطع يد أو رجل أو عمى أو خرس أو طرش وكل عيب ينفر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة يوجب الخيار، وأنه أولى من البيع، وإنما ينصرف الإطلاق إلى السلامة، فهو المشروط

عرفًا وقال ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدله وحكمته وما اشتملت عليه من المصالح لم يخف عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد الشريعة. (وعن كعب) بن عجرة (قال تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - العالية من بني غفار) القبيلة المشهورة (فلما دخلت عليه ووضعت ثيابها رأى بكشحها وضحا فقال البسي ثيابك وألحقي بأهلك وأمر لها بالصداق رواه الحاكم" ورواه أحمد عن كعب بن يزيد أو زيد بن كعب، وقال امرأة من بني غفار، فلما دخلت عليه ووضع ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضًا فانحاز عن الفراش. ثم قال: "خذي عليك ثيابك" ولم يأخذ مما آتاها شيئًا ورواه سعيد وقال عن زيد بن كعب بن عجرة، ورواه أبو نعيم من حديث ابن عمر، ولفظ ابن كثير أنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج امرأة من بني غفار فلما دخلت عليه رأى بكشحها وضحا فردها إلى أهلها، وقال: "دلستم علي" فدل الحديث على فسخ النكاح بالعيب، وأكثر الأمة على ثبوته به. (وقال عمر) رضي الله عنه (أيما رجل تزوج امرأة فدخل بها) أو خلا بها (فوجدها برصاء) أي أبيض جلدها أو أسود (أو مجنونة) لا إن زال عقلها بمرض فإغماء لا خيار به، فإن زال المرض ودام زوال عقلها فجنون (أو مجذومة) داء معروف تتهافت منه الأطراف ويتناثر منه اللحم فللزوج الخيار في فسخ النكاح عند جمهور العلماء فإن اختار الفسخ فقال عمر:

رضي الله عنه (فلها الصداق بمسيسه إياها) ولعموم فلها المهر بما استحل من فرجها" (وهو) أي المهر للزوج إن غرم يرجع به (على من غره منها) لأنه غرم لحقه بسببه إلا أنهم اشترطوا علمه بالعيب. فإن كان جاهلاً فلا غرم عليه، إذ لا غرر منه (رواه سعيد) بن منصور في سننه ومالك وابن أبي شيبة وغيرهم، وقال الحافظ رجاله ثقات، ويشهد لرجوعه به على الغار قوله - صلى الله عليه وسلم - «من غش فليس منا» ولمالك وذلك لزوجها على وليها والغار من علم العيب وكتمه من زوجة عاقلة وولي ووكيل، وأيهم انفرد ضمن، ومن زوجة وولي الضمان على الولي، ومن الزوجة والوكيل الضمان بينهما، ويقبل قول ولي في عدم علمه بالعيب، وكذا قولها إن احتمل. ومثل ذلك لو زوج امرأة فأدخل عليه غيرها. (وزاد) أي سعيد بن منصور في سننه (عن علي) رضي الله عنه أنه قال: (وبها قرن) بفتح فسكون هو العفلة بفتحتين وهي لحمة زائدة تخرج في قبل بعض النساء فتسد وقيل عظم أو غدة تمنع ولوج الذكر، وقيل العفل ورم في اللحمة شبيه بالإدرة التي للرجال في الخصيتين (فزوجها بالخيار) أي يثبت له الخيار في فسخ نكاحها لما فيه من النفرة المانعة من الوطء. وكذا الرتق بأن يكون فرجها مسدودًا بأصل الخلقة لا يسلكه ذكر، وكذا الفتق وهو انخراق ما بين سبيلها، واستطلاق بول ونجو وقروح

سيالة في فرج، واستحاضة ونحو ذلك. قال الشيخ يثبت بالاستحاضة الفسخ في أظهر الوجهين، وترد المرأة بكل عيب ينفر من كمال الاستمتاع اهـ، وكذا باسور وناصور وقرع رأس معه ريح منكرة، وبخر فم وغيره ذلك مما يوجب النفرة، ولو كان بالآخر عيب مثله، أو مغاير له، يثبت بكل واحد منها الفسخ، فأما القرن والعفل والفتق والقطع والعنة والجنون والبرص والجذام فقولاً واحدًا، وهو مذهب مالك والشافعي، وما عداه كالبخر واستطلاق البول والنجو والباسور والناصور والخصاء، وكون أحدهما خنثى فاختار ابن القيم وغيره ثبوت الفسخ به، وبكل عيب ينفر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح. وقال الشيخ قد علم أن عيوب الفرج المانعة من الوطء لا يرضى بها في العادة، بخلاف اللون والطول والقصر والعرج ونحو ذلك مما ترد به الأمة المعيبة، فإن الحرة لا تقلب كالأمة والزوج قد رضي بها رضي مطلقًا، بخلاف البيع، وهو مع هذا لم يشترط فيها صفة فبانت دونها. والشرط إنما يثبت شرطًا وعرفًا، وما أمكن معه الوطء وكماله فلا ينضبط فيه أغراض الناس، والنساء يرضى بهن في العرف والعادة مع الصفات المختلفة، والمقصود من النكاح المصاهرة والاستمتاع وذلك يختلف باختلاف الصفات، فهذا فرق شرعي معقول في عرف الناس.

وقال وأما الرجل فأمره ظاهر يراه من شاء، فليس فيه عيب يوجب الرد، والمرأة إذا فرط الزوج في بصرها أولاً فله طريق إلى التخلص منها بالطلاق، فإنه بيده دون المرأة وقال وإن كان الزوج صغيرًا وبه جنون أو جذام أو برص فلها الفسخ في الحال، وكذا الزوجة إذا كانت صغيرة أو مجنونة أو عفلاء أو قرناء، ولكل منهما الفسخ في الحال. ولا ينتظر وقت إمكان الوطء، لأن الأصل بقاؤه بحاله، ومن ادعى الجهل بالخيار كعامي لا يخالط الفقهاء فاستظهر غير واحد ثبوت الفسخ عملاً بالظاهر، ولا يثبت إلا بفسخ حاكم لأنه مجتهد فيه. وقال الشيخ ليس هو الفاسخ، وإنما يأذن ويحكم به، فمتى أذن أو حكم باستحقاق عقد أو فسخ لم يحتج بعد ذلك إلى حكم بصحته بلا نزاع والصغيرة والمجنونة والأمة لا تزوج واحدة منهن بمعيب يرد به في النكاح، وكذا ولي صغير ومجنون ليس له تزويجهما بمعيبة ترد في النكاح فإن فعل لم يصح، فإن رضيت الكبيرة مجبوبًا أو عنينًا لم تمنع، بل تمنع من مجنون ومجذوم وأبرص، ومتى علمت العيب أو حدث به العيب لم يجبرها وليها على الفسخ. قال علي رضي الله عنه: (فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها) وكذا بعد الدخول أو الخلوة، لأمره عليه الصلاة والسلام للعالية بالصداق، وقول عمر بمسيسه إياها، وغير ذلك لوجوبه بالعقد واستقراره بالدخول، وقيل في فسخ الزوج بعيب

باب نكاح الكفار

قديم أو بشرط ينسب قدر نقص المثل لأجل ذلك إلى مهر المثل كاملاً فيسقط من المسمى بنسبته فسخ أو أمضى، ورجحه الشيخ، وقال وكذا إن ظهر الزوج معيبًا فلها الرجوع عليه بنقص مهر المثل، وكذا في شرط وهو العدل. ويرجع به على الغار إن وجد، فإن كان من الزوجة، والولي فعلى الولي، ومن المرأة والوكيل فبينهما، وأيهم انفرد بالغرر ضمن، لانفراده بالسبب الموجب، ومتى زال العيب قبل الفسخ فلا فسخ، ولا ينقص الفسخ عدد الطلاق، سواء كان لعيب أو إعسار بنفقة، أو صداق، وكذا فسخ الحاكم على المولي بشرطه إلا فرقة اللعان فعلى الأبد. باب نكاح الكفار من أهل الكتاب وغيرهم وبيان حكمه وما يترتب عليه من صحة وفساد وغير ذلك، ومذهب جمهور العلماء أن حكمه كحكم نكاح المسلمين في الصحة والفساد، ووقوع الطلاق والظهار والإيلاء ووجوب المهر والنفقة والقسم والإحصان وغير ذلك. (قال تعالى) {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا (اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ)} أي جعل الله امرأة فرعون مثلاً للذين آمنوا واسمها آسية، وكانت آمنت بموسى {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ

وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *} فسماها امرأة مع كفر فرعون، وحقيقة الإضافة تقتضي زوجية صحيحة (وقال) في حق الكافرين (وامرأته) أي امرأة أبي لهب واسمها أروى (حمالة الحطب) قيل إنها تلقي الشوك في طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل تحمل النميمة وهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان من سادات نساء قريش. وكانت عونًا لزوجها على كفره، فكانت عونًا عليه في عذابه، تحمل الحطب فتلقي على زوجها ليزداد عذابا على ما هو فيه من العذاب، قال تعالى {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} سلسلة في عنقها نعوذ بالله من أليم عقابه. فسماها امرأة مع كفرهما. والإضافة تقتضي زوجية صحيحة، كما في الآية قبلها، فتتعلق بنكاح الكفار الأحكام المتعلقة بأحكام نكاح المسلمين عند جمهور العلماء، وقال الشيخ وأما صحة أنكحة الكفار وفسادها فالصواب أنها صحيحة من وجه فاسدة من وجه، فإن أريد بالصحة إباحة التصرف فإنما يباح لهم بشرط الإسلام، وإن أريد نفوذه وترتب أحكام الزوجية عليه من حصول الحل به للمطلق ثلاثًأ ووقوع الطلاق فيه وثبوت الإحصان به فصحيح اهـ. فيقرون على فاسد النكاح بشرطين: إذا اعتقدوا صحته في شرعهم ولم يرتفعوا إلينا، لمفهوم قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر، ولم يعترض

عليهم في أنكحتهم، وأسلم خلق كثير في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ولم يكشف عن كيفيتها، ولأنا صالحناهم على إقرارهم على دينهم، وإذا لم يرتفعوا إلينا لم نتعرض لهم، وإن أتونا قبل عقده عقدناه على حكمنا لقوله {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} وإن أتونا بعده، أو أسلما على نكاح بدون صيغته أو ولي ونحو ذلك لم نتعرض لكيفية صدوره. بل إن كانت المرأة تباح إذا أقرا عليه، وإلا فرق بينهما، كما قال عمر فرقوا بين كل ذي رحم من المجوس، وإن كان المهر صحيحًا أخذته، وإن كان فاسدًا وقبضته استقر، وإن لم يسم لها مهر فرض لها مهر المثل، جزم به الشيخ وغيره وقال ويتوجه إن كان بعد الدخول فإيجاب مهرها فيه نظر، فإن الذين أسلموا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في بعض أنكحتهم شغار ولم يأمر أحدًا منهم بإعطاء مهر. (وقال: لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) أي لا المؤمنات حلال للكفار ولا الكفار يحلون للمؤمنات، فدلت الآية: أن المسلمة لا تحل للكافر، ولا نزاع في ذلك (إلى قوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}) فحرم تعالى نكاح المشركات بل حرم موالاة المشركين وموادتهم، فكيف بضجيعته، ولأن اختلاف الدين سبب العداوة والبغضاء، ومقصود النكاح الاتفاق والائتلاف وإن أسلما فلهما المقام على نكاحهما، ما لم يكن بينهما نسب أو رضاع.

وقال - صلى الله عليه وسلم - ولدت من نكاح لا من سفاح) كان جده عبد المطلب زوج أباه عبد الله بآمنة بنت وهب بن عبد مناف سيدة نساء قومها، فدخل عليها حين أملكها، فحملت منه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أسلم خلق كثير في عهده - صلى الله عليه وسلم - وأسلم نساؤهم فأقروا على أنكحتهم ولم يسألهم على شروط النكاح، ولا كيفيته، وهذا أمر علم بالتواتر والضرورة فكان يقينًا ولا تعتبر له شروط أنكحة المسلمين بلا خلاف. (وقالت عائشة) رضي الله عنها (كان نكاح الجاهلية) وهو ما كان قبل الإسلام (على أربعة أنحاء) جمع نحو أي ضرب وزنًا ومعنى، ومرادها الأكثر، فقال الداودي بقي أنحاء لم تذكرها، نكاح الخدن، وهو قوله (غير متخذات أخذان) كانوا يقولون ما استتر فلا بأس به، وما ظهر فهو لوم، ونكاح المتعة، ونكاح البدل، واستنكرها بعض أهل العلم. وذكرت رضي الله عنها (منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته) وفيه أو ابنته، والتخيير للتنويع لا للشك (فيصدقها ثم ينكحها) أي يعين صداقها ويسمى مقداره ثم يعقد عليها. (وذكرتها) أي الثلاثة الأخر، وهي أن الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه أي اطلبي منه الجماع، ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل، فإذا تبين حملها أصهابها زوجها إذا

أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم فيصيبونها، فإذا حملت ووضعت ومر ليال أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها. فتقول قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، فتسمى من أحبت باسمه فيلحق به، ولدها لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل. ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة، لا تمتنع من جاءها، وهن البغايا، ينصبن على أبوابهن الرايات، وتكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت جمعوا لها ودعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به أي استلحقه ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك (ثم قالت فلما بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم) أي الذي بدأت بذكره وهو أن يخطب الرجل إلى الرجل موليته فيزوجه (رواه البخاري) وأبو داود وغيرهما، فدل الحديث على إقرار المشركين على ما اعتقدوه نكاحًا، ولو لم يكن بصيغة أنكحة المسلمين، وأن هذا الضرب من أنكحة الجاهلية مقر في الإسلام بشرطه. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال رد النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب) رضي الله عنها (على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين) وكان أقام بمكة على كفره، واستمرت زينب عند

أبيها بالمدينة. وخرج بتجارة لقريش فلقيه سرية فأخذوا ما معه وهرب واستجار بزوجته فأجارته، ورد عليه ما كان ورجع به إلى أهله، ثم أسلم، وقدم علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فردها عليه (بالنكاح الأول ولم يحدث نكاحًا رواه الخمسة وصححه أحمد) وقال في رواية أنه ردها بمهر جديد ونكاح جديد هذا حديث ضعيف. والحديث الصحيح الذي جاء فيه أنه أقرهما على النكاح الأول، وقال الدارقطني الصواب حديث ابن عباس، أنه ردها بالنكاح الأول، وكذا صححه البيهقي، وحكاه عن حفاظ الحديث، وقال الخطابي هو أصح من حديث عمرو بن شعيب، وكذا قال البخاري، وقال ابن كثير هو حديث جيد قوي، وقال ابن عباس فلم يحدث شهادة ولا صداقًا ويشهد له ما رواه البخاري عن ابن عباس: إن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه، فإنه يقتضي أنه إن هاجر بعد انقضاء العدة أنها تعود إليه ما لم تنكح زوجًأ غيره، كما هو الظاهر من قصة زينب وذهب إليه طوائف من العلماء. ولأنه لا ذكر للعدة في حديث. ولا أثر لها في بقاء النكاح، ولم ينجز الشارع الفرقة في حديث، ولا جدد نكاحًا فيتعين القول به، وقال ابن شهاب بلغني أن ابنة الوليد بن المغيرة كانت تحت صفوان ابن أمية فأسلمت يوم الفتح، وهرب صفوان، فبعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمانًا، وشهد حنينًا

والطائف، وهو كافر، وامرأته مسلمة، فلم يفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما حتى أسلم صفوان واستقرت عنده بذلك النكاح. رواه مالك. وله عنه أن أم حكيم ابنة الحارث بن هشام أسلمت يوم الفتح وهرب عكرمة حتى قدم اليمن فقدمت عليه ودعته إلى الإسلام فأسلم وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعه فثبتا على نكاحهما، قال ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت وزوجها كافر إلا فرقت هجرتها بينهما، إلا أن يقدم قبل أن تنقضي عدتها، ولم يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها. قال ابن القيم اعتبار العدة لم يعرف في شيء من الأحاديث، ولا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل المرأة هل انقضت عدتها أم لا، ولو كان الإسلام بمجرده فرقة لكانت طلقة بائنة ولا رجعة فيها فلا يكون الزوج أحق بها إذا أسلم، وقد دل حكمه - صلى الله عليه وسلم - أن النكاح موقوف، فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي زوجته، وإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت. وإن أحبت انتظرته، وإذا أسلم كانت زوجته من غير تجديد نكاح، ولا نعلم أحدًا جدد بعد الإسلام نكاحه البتة، بل كان الواقع أحد الأمرين، إما افتراقهما ونكاحها غيره، وإما بقاؤهما على النكاح الأول، إذا أسلم الزوج، وأما تنجيز الفرقة، أو مراعاة العدة، فلم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بواحدة منهما مع كثرة من أسلم في عهده، وقرب إسلام أحد الزوجين من الآخر وبعده منه.

قال ولولا إقراره - صلى الله عليه وسلم - الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلام أحدهما عن الآخر بعد صلح الحديبية وزمن الفتح لقلنا بتعجيل الفرقة بالإسلام من غير اعتبار عدة لقوله: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} وذكر قضايا تدل لما نصره، وهو أقرب الأقوال وأسعد بالحجة، وفي غاية الحسن، قال وهذا اختيار الخلال وأبي بكر وابن المنذر وابن حزم، وهو مذهب الحسن وطاووس وعكرمة وقتادة والحكم. وهو مذهب عمر وجابر وابن عباس وآخرين، واختار شيخ الإسلام فيما إذا أسلمت قبله بقاء نكاحه قبل الدخول وبعده ما لم تنكح غيره، وأن الأمر إليها ولا حكم له عليها، ولا حق لها عليه، لأن الشارع لم يستفصل. وكذا إن أسلم قبلها، وليس له حبسها، بل متى أسلمت ولو قبل الدخول أو بعده فهي امرأته إن اختار، وكذلك فيما إذا ارتد أحدهما، قال، وقياس المذهب أن الزوجة إذا أسلمت قيل الزوج فلا نفقة لها لأن الإسلام سبب يوجب البينونة، والأصل عدم إسلامه في العدة، فإذا لم يسلم حتى انقضت العدة تبينا وقوع البينونة بالإسلام، ولا نفقة للبائن عندنا ويجب الصدق بالدخول، وينتصف بالعقد كنكاح المسلمين. (وله) أي أحمد وأبي داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما (عنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما (قال أسلمت امرأة) أي وزوجها باق على كفره (فتزوجت)

آخر (فجاء زوجها) الأول (فقال يا رسول الله إني كنت أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زوجها الآخر وردها على زوجها الأول" والمراد بلا تجديد عقد بل حكم صلوات الله وسلامه عليه بأن النكاح الأول باق والثاني باطل، فدل الحديث على أنه إذا أسلم الزوج وعلمت امرأته بإسلامه فهي في عقدة النكاح. وإن تزوجت فهو تزوج باطل تنتزع من الزوج الآخر، والحديث محتمل أنه أسلم بعد انقضاء عدتها أو قبلها، وأنها ترد إليه على كل حال، وإن علمها بإسلامه قبل تزوجها بغيره يبطل نكاحها مطلقًا، سواء انقضت عدتها أم لا، لأن تركه - صلى الله عليه وسلم - الاستفصال هل علمت بعد انقضاء العدة أو قبلها دليل على أنه لا حكم للعدة، أما إذا أسلم وهي فيها فالنكاح بينهما باق فتزوجها بعد إسلامه باطل. لأنها باقية في عقدة نكاحه، وهذا الحديث دليل على بطلانه بعلمها قبل تزوجها ولو بعد انقضائها. (وعن فيروز الديلمي) ويقال الحميري لنزوله حمير، وهو من أبناء فارس من فرس صنعاء، كان ممن وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي قتل العنسي الكذاب الذي ادعى النبوة سنة إحدى عشرة، وأتى حين قتله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مريض مرض موته وكان بين ظهوره وقتله أربعة أشهر، قال: (قلت يا رسول الله أسلمت وتحتي) امرأتان (أختان) علم رضي الله عنه تحريم

الجمع بين الأختين فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (طلق أيهما شئت) وفي لفظ "أمرني أن أطلق إحداهما (رواه أحمد) ورواه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وصححه ابن حبان والدارقطني وغيرهما. وهو دليل على اعتبار أنكحة الكفار، وإن خالفت نكاح الإسلام، وأنها لا تخرج المرأة عن الزوج إلا بطلاق بعد الإسلام، وأنه يبقى بعد الإسلام بلا تجديد عقد، وهو مذهب جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وفي الصحيحين عن أم حبيبة أنها عرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينكح أختها فقال: «لا تحل لي» وتقدم تحريم الجمع بين الأختين، وأنه لا نزاع في ذلك، فإذا أسلم وتحته أختان أجبر على طلاق إحداهما، وكذا إن كان تحته امرأة وعمتها أو خالتها ونحو ذلك. (وله) أي ولأحمد والنسائي وابن ماجه، وغيرهم والترمذي، وابن حبان وصححاه (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن غيلان) بن سلمة وهو ممن أسلم بعد فتح الطائف، ولم يهاجر وهو من أعيان ثقيف، ومات في خلافة عمر فذكر ابن عمر أن غيلان (أسلم وله عشرة نسوة فأسلمن معه فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخير منهن أربعًا) أي ويفارق ستًا. وفي لفظ "أسمك منهن أربعًا وفارق سائرهن" قال ابن كثير رواه الإمامان أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه، وهذا الإسناد رجاله على شرط الشيخين إلا أن الترمذي

قال سمعت البخاري يقول هذا الحديث غير محفوظ والصحيح ما روى شعيب وغيره عن الزهري قال: حدثت عن محمد بن شعيب الثقفي أن غيلان فذكره، قال البخاري وإنما حديث الزهري عن مسلم عن أبيه أن رجلاً من ثقيف طلق نساءه فقال عمر لتراجعن نساءك. قال ابن كثير قد جمع الإمام أحمد في روايته لهذا الحديث بين هذين الحديثين بهذا السند، فليس ما ذكره البخاري قادحًا وساق رواية النسائي له برجال ثقات، وقال أحمد العمل عليه ولأبي داود أن قيس بن الحارث أسلم وعنده ثمان نسوة فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعًا، وروى البيهقي عن نوفل أنه قال أسلمت وتحتي خمس نسوة فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «فارق واحدة وأمسك أربعًا» فعمدت إلى أقدمهن عندي عاقر منذ ستين سنة فقارقتها، وعاش نوفل مائة وعشرين سنة في الإسلام، وستين في الجاهلية. فدلت هذه الأحاديث وغيرها على أن من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة فأسلمن معه أو كن في العدة لم يكن له إمساكهن كلهن بلا خلاف، وكذا لو كن كتابيات، فليس له أمساكهن كلهن، بل يختار منهن أربعًا، ويفارق سائرهن، أو أسلم وتحته إماء أكثر من أربع فأسلمن معه. أو في العدة اختار أربعًا إن جاز له نكاحهن بشرط، قال الشيخ ولا يشترط في جواز وطئه انقضاء العدة لا في جمع العدد ولا في جمع الرحم اهـ. وقيل إن

كان الزوج مكلفًا وإلا وقف الأمر حتى يكلف، وإن أبى الاختيار أجبر بحبس ثم تعزير، وقال الشيخ يقوم الولي مقامه في التعيين، كما يقوم في تعيين الواجب عليه من زكاة وغيرها. (وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (في) حكم (سبايا أوطاس) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس فلقي عدوًا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكان ناسًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فنزلت (والمحصات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (هن لكم حلال) أي تطؤنهن (إذا انقضت عدتهن رواه مسلم) وللترمذي أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج في قومهن، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}. وله عن العرباض بن سارية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن" وله من حديث رويفع " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره" وفي هذه الأحاديث دليل على أن السبايا حلال، من غير فرق بين ذوات الأزواج وغيرهن، ولا نزاع في ذلك، لكن بعد مضي العدة المعتبرة شرعًا لقوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي من اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الكفر فهن حلال لغزاة المسلمين وإن كن محصنات.

باب الصداق

باب الصداق الصداق عوض في النكاح ونحوه، يقال أصدقت المرأة ومهرتها مأخوذ من الصدق لإشعاره بصدق رغبة الزوج في الزوجة وله تسعة أسماء. صداق ومهر نحلة وفريضة، حباء وأجر ثم عقد علائق. والتاسع الصدقة، والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع، واتفقوا على أنه شرط من شروط صحة النكاح وتسن تسميته في العقد قطعًا للنزاع، وكان في شرع من قبلنا للأولياء. (قال تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} تطلبوا أن تنكحوا بصداق {مُحْصِنِينَ} متزوجين فالإحصان العفة، فإنها تحصين للنفس عن اللوم والعقاب، وكان - صلى الله عليه وسلم - يزوج ويتزوج بصداق ولم يكن يخلي التزويج من صداق، وقال: "التمس ولو خاتمًا من حديد" فلا بد من صداق إجماعًا. (وقال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} أي مهورهن (نحلة) أي عطية. وقالوا النحلة المهر والفريضة والواجب، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " ما تراضى عليه أهلوهم" والمقصود أنه يجب على الرجل دفع صداق على المرأة حتمًا، وأجمعوا على مشروعيته، وأن يكون طيب النفس بذلك، وإن طابت نفسها به أو بشيء منه فكما قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} سائغًا طيبًا.

وقال {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن، فالمهر في مقابلة الاستمتاع (فريضة) بمعنى مفروضة، أو إيتاء مفروض، فدلت هذه الآيات على مشروعية الصداق، وأنه لا يجوز التواطؤ على تركه. (وقال) تعالى {وَآتَيْتُمُ} أي أعطيتم {إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} وهو المال الكثير صداقًا {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا *} فدلت الآية على جواز الإصداق بالمال الجزيل، وأجمعوا على أنه لا حد لأكثره. ولو تزوج امرأة اتفق معها على نحو عشرة دنانير وأنه يظهر عشرين دينارًا وأشهد عليها بقبض عشرة فقال الشيخ لا يخل لها أن تغدر به، بل يجب عليها الوفاء بالشرط ولا يجوز تحليف الرجل على وجود القبض في مثل هذه الصورة، لأن الإشهاد بالقبض في مثل هذا يتضمن الإبراء. (وقال) تعالى (عن شعيب) بعد ذكر قصة ورود موسى ماء مدين وسقيه لابنتي شعيب، وقول إحداهما (يا أبت استأجره قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} قيل اسمهما صفوراء وليًا، وقيل صفرًا وصفيرًا، وقال الأكثر إنه زوجه الصغرى وهي التي ذهبت لطلب موسى، أي طلب إليه شعيب أن يرعى غنمه ويزوجه إحدى ابنتيه، وقال تعالى: {عَلَى

أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} يعني أن تكون أجيرًا لي ثمان سنين. {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} أي إن أتممت عشر سنين فذلك تفضل منك وتبرع، وإلا ففي الثمان كفاية (وما أريد أن أشق عليك) أي ألزمك تمام العشر إلا أن تبرع {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} في حسن الصحبة والوفاء. (قال) موسى (ذلك بيني وبينك) يعني هذا الشرط فما شرطت علي فلك وما شرط من تزويج إحداهما فلي والأمر بيننا ثم قال: (أيما الأجلين قضيت) أي أتممت من الثمان أو العشر (فلا عدوان علي) بأن أطالب بأكثر منهما (والله على ما نقول وكيل) شهيد فيما بيني وبينك وقضى العشر. كما قاله ابن عباس وغيره، وروي مرفوعًا. وأعطاه في العام الأخير كلما ولدت غنمه على غير صفتها فولدن كذلك، ووفى له شرطه، وذهب بأولادهن ذلك العام، فتلك منفعة يصح أخذ العوض عليها فهي مال، وكذا كل عمل معلوم منه أو من غيره، والحر والعبد في ذلك سواء، وهذا مذهب جماهير العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من السلف فكلما صح أن يكون ثمنًا أو أجرة صح أن يكون مهرًا قال الشيخ وتعليل المنع لما فيه من كون كل من الزوجين يصير ملكًا للآخر، ويجوز أن يكون المنع مختصًا بمنفعة الخدمة خاصة لما فيه من المهنة والمنافاة، وأما إن كانت لغيرها فتصح لقصة شعيب، وإذا لم تصح المنفعة فقيمتها. (وعن عقبة) بن عامر رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قال: «خير الصداق أيسره» أي أسهله (رواه أبو داود) وصححه الحاكم. فدل على استحباب تخفيف المهر، وأن غير الأيسر على خلاف ذلك، وإن كان جائزًا كما تقدم في الآية وكما سيأتي، وفي الحديث: «أبركهن أيسرهن مؤنة» ولفظ أحمد "إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة" فالنكاح بمهر يسير لا يستصعبه من يريده، فيكثر الزواج المرغب فيه، ويقدر عليه الفقراء، ويكثر النسل الذي هو أهم مطالب النكاح، بخلاف ما إذا كان المهر كثيرًا فإنه لا يتمكن من الزواج إلا أرباب الأموال، فيكون الفقراء الذين هم أكثر في الغالب غير متزوجين، فلا تحصل المكاثرة التي أرشد إليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. (وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على عبد الرحمن بن عوف) رضي الله عنه (أثر صفرة) أي أثر صفرة الزعفران، فكره - صلى الله عليه وسلم - تلك الصفرة منه، لأن استعمال الزعفران والخلوق وما كان له لون منهي عنه في حق الرجال، لأن ذلك تشبه بالنساء (فقال ما هذا) يعني لما استعملت هذه الصفرة (قال تزوجت امرأة) فسكت - صلى الله عليه وسلم - ولم يأمره بغسل ذلك الأثر، ورجح النووي أنها كانت من جهة امرأته من غير قصد منه وقال: «على وزن نواة من ذهب» متفق عليه، وفي روايات للبخاري على نواة من ذهب. قيل المراد واحدة نوى التمر، وإن القيمة عنها يومئذ كانت

خمسة دراهم، وقيل كان قدرها ربع دينار، وقيل عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق، ونقله عياض عن أكثر العلماء وللبيهقي وزن نواة من ذهب قومنت خمسة دراهم، وقال أبو عبيد إن عبد الرحمن دفع خمسة دراهم، وهي تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية، والحديث دليل على أنه يجوز أن يكون المهر شيئًا قليلاً كالنعلين والمد من الطعام. وحكى القاضي الإجماع على أن مثل الشيء الذي لا يتمول ولا له قيمة لا يكون صداقا، ولا يحل به النكاح، وفي الصحيحين " التمس ولو خاتمًا من حديد" وكل ما له قيمة يصح أن يكون مهرًا. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال كان صداقنا إذا كان فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر أواق رواه أحمد) والنسائي وغيرهما وإسناده ثقات، وفي لفظ لأحمد وطبق يديه، وذلك أربع مائة أي أربع مائة درهم؛ لأن الأوقية كانت قديمًا عبارة عن أربعين درهمًا، وقال الشيخ كلام أحمد يقتضي أن المستحب أربع مائة درهم وهو الصواب مع اليسار، فيستحب بلوغه ولا يزاد عليه. وقال عمر رضي الله عنه: (ما أصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه) يعني أكثر من ثنتي عشرة أوقية والمراد الأكثر، فإن أم حبيبة أصدقها النجاشي أربعة آلاف إلا أنه تبرع به إكرامًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية) رواه الخمسة و (صححه الترمذي) أول الأثر

«ألا لا تغالوا» أي لا تكثروا "صدقة النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فيسن الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم -. وذكر عبد الرزاق عن عمر أنه قال: لا تغالوا في مهر النساء. فقالت امرأة ليس ذلك لك يا عمر إن الله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} من ذهب كما في قراءة ابن مسعود، فقال عمر امرأة خاصمت عمر فخصمته ولفظ الزبير بن بكار امرأة أصابت ورجل أخطأ. وقالت عائشة رضي الله عنها كان صداقه - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا، فتلك خمس مائة درهم، وقد وقع الإجماع على أنه لا حد لأكثر المهر بحيث تصير الزيادة على ذلك الحد باطلة للآية، وقد كان عمر أراد قصر أكثره على قدر مهور أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد الزيادة إلى بيت المال، وتكلم به في الخطبة، فردت عليه تلك المرأة، فرجع وقال: كلكم أفقه من عمر. ويستحب أن لا ينقص عن أقل من عشرة دراهم خروجًا من خلاف من قدر أقله بذلك، وكانت خطبة عمر بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكر فكان اتفاقًا منهم ودل الأثر وغيره على صحة تزويج الرجل ابنته بدون مهر مثلها، لأنه ليس المقصود من النكاح العوض، وكذا لو زوجها ولي غير الأب بإذنها، لأن الحق لها، وإن لم تأذن فلها مهر المثل، وقال الشيخ على الولي كالوكيل في البيع.

(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل) من أصحابه رضي الله عنهم «علي كم تزوجتها قال علي أربع أواق فقال له: على أربع أواق؟» استفهام استنكار (كأنما تنحتون الفضة) أي تقشرون وتقطعون الفضة (من عرض هذا الجبل) أي ناحيته (رواه مسلم) فأنكر عليه - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إليه حيث كان فقيرًا ففيه " ما عندنا ما نعطيك ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه" قال فبعث بعثًا إلى بني عبس بعث ذلك الرجل فيهم. قال الشيخ والصداق المقدم إذا كثر وهو قادر على ذلك لم يكره، إلا أن يقترن بذلك ما يوجب الكراهة من معنى المباهات ونحو ذلك، فأما إذا كان عاجزًا عن ذلك فيكره، بل يحرم: إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة، فأما إن كثر، وهو مؤخر في ذمته، فينبغي أن يكره لما فيه من تعريض نفسه لشغل ذمته اهـ، ومتى أجل الصداق أو بعضه صح، وإن عينا أجلاً وإلا فمحله الفرقة. قال ابن القيم: إذا اتفق الزوجان على تأخير المطالبة وإن لم يسميا أجلاً فلا تستحق المطالبة به إلا بموت أو فرقة، هذا الصحيح ومنصوص أحمد اختاره قدماء شيوخ المذهب والقاضي أبو يعلى والشيخ، وهو ما عليه الصحابة حكاه الليث إجماعًا عنهم، وهو محض القياس والفقه. فإن المطلق من العقود ينصرف إلى العرف والعادة عند المتعاقدين، وقال الشيخ إن كان

العرف جاريًا بين أهل تلك الأرض أن المطلق يكون مؤجلاً فينبغي أن يحمل كلامهم على ما يعرفونه، ولو كانوا يفرقون بين لفظ المهر والصداق، فالمهر عندهم ما يعجل والصداق ما يؤجل، كان حكمهم على مقتضى عرفهم. (ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (في قصة الواهبة) خولة بنت حكيم أو أم شريك التي قالت يا رسول الله جئت أهب لك نفسي، ولما لم يقض فيها شيئًا جلست، فقام رجل من الصحابة فقال: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها (قال التمس) وفي لفظ: انظر (ولو خاتمًا من حديد) أي موجود عندك (فلم يجد) أي ولا خاتمًا من حديد، قال ولكن هذا إزاري قال الراوي ما له رداء فلها نصفه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء». ثم قال: «ماذا معك من القرآن» قال معي سورة كذا، وكذا (فزوجه إياها بما معه من القرآن) أي أن يعلمها إياه، وفي رواية: "فعلمها إياه" وفي بعض الروايات "عشرين آية" وفي بعضها "عشرًا" ويكون ذلك صداقًا وهو مذهب مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، لأنها منفعة معينة مباحة. وقال ابن القيم إذا رضيت بعلم الزوج وحفظه للقرآن أو بعضه من مهرها جاز ذلك، وكان ما يحصل لها من الانتفاع بالقرآن والعلم هو صداقها، وهذا هو الذي اختارته أم سليم لما

خطبها أبو طلحة، فاشترطت عليه أن يسلم وتزوجته على إسلامه. فإن انتفاعها بإسلامه أحب إليها من المال الذي يبذله، وهذا من أفضل المهور وأنفعها وأجلها والتعليم تفهيمها إياه وتحفيظها، وكذا تعليم فقه وأدب ونحوه، وصنعة وكتابة وخياطة وغير ذلك هي أو غلامها، وقوله: «ولو خاتمًا من حديد» مبالغة في التقليل، ولا ريب أن له قيمة، وتقدم أنه لا يصح بما لا قيمة له، ولا يحل به النكاح. ويأتي ما قال لعلي لما تزوج فاطمة "اعطها شيئًا" قال ما عندي شيء قال: فأين درعك الحطمية" وفي لفظ فمنعه حتى يعطيها شيئًا، وذكر ابن القيم وغيره أنه لا تقدير لأقله وذكر الأقوال في التقدير، ثم قال وليس لشيء من هذه الأقوال حجة يجب المصير إليها، وليس بعضها أولى من بعض. (ولهما) أي البخاري ومسلم أيضًا (أنه) - صلى الله عليه وسلم - (أعتق صفية) بنت حيي بن أخطب سيد أهل خيبر وكانت وقعت له في السبي كما تقدم (وجعل عتقها صداقها) وفي لفظ "فأعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها" وهو دليل على جعل العتق صداقًا على أي عبارة تفيد ذلك. قال أنس لما سئل ماذا أصدقها قال نفسها وأعتقها، فإنه ظاهر أنه جعل نفس العتق صداقًا وللطبراني وغيره عنها قالت أعتقني النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعل عتقي صداقي، قال الخطابي قد ذهب غير واحد من العلماء إلى ظاهر

الحديث ورأوا أنه من أعتق أمة كان له أن يتزوجها بأن يجعل عتقها عوضًا عن بضعها، وذكر أنه قول سعيد بن المسيب والحسن والنخعي وأحمد وإسحاق وغيرهم. وحكي عن أحمد أنه قال: لا خلاف أن صفية كانت زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقل من نكاحها غير هذه اللفظة، فدل أنها سبب النكاح، وقال ابن القيم ولم يقل أنه خاص به ولا قاله أحد من الصحابة ولم تجمع الأمة على عدم الاقتداء به في ذلك، والقياس الصحيح يقتضي جواز ذلك. ولما كانت منفعة البضع لا تستباح إلا بعقد النكاح أو ملك اليمين، وكان إعتاقه يزيل ملك اليمين عنها كان من ضرورة استباحة هذه المنفعة جعلها زوجة، وزوجها كان يلي إنكاحها فاستثنى لنفسه ما كان يملكه منها، ولما كان ضرورة عقد النكاح ملكه، لأن بقاء ملكه المستثنى لا يتم إلا به، فهذا محض القياس الصحيح الموافق للسنة الصحيحة اهـ. أما لو أصدقها طلاق ضرتها لم يصح، لحديث: "لا تسأل المرأة طلاق أختها" رواه البخاري وغيره، وقال الشيخ لو قيل ببطلان النكاح لم يبعد، لأن المسمى فاسد، وحكي عن أبي بكر تستحق مهر الضرة، قال الشيخ وهو أجود، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يفسد النكاح بفساد الصداق، وهو إحدى الروايتين عن مالك وأحمد وقول الجمهور، فمتى بطل المسمى وجب مهر المثل، ومتى كان المهر صحيحًا ملكته بالعقد كالبيع

فصل في المفوضة

ولها نماء المهر المعين قبل القبض، ولها التصرف فيه، وعليها زكاته. وإن طلق قبل الدخول والخلوة فله نصفه، وهدية زوج ليست من المهر فما قبل عقد وإن وعدوه ولم يفوا رجع بها، فما سببه النكاح يبطل بزواله، وهذا المنصوص على أصول المذهب لموافقته أصول الشرع، وهو أن كل من أهدي أو وهب له شيء بسبب يثبت بثبوته ويزول بزواله ويحرم بحرمته، ويجب كله بالدخول أو الموت، لقوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وأما وجوبه بالموت فلانعقاد الإجماع على ذلك، وقال الشيخ إذا اتفقوا على النكاح من غير عقد فأعطى أباها لأجل ذلك شيئًا فماتت قبل العقد ليس له استرجاع ما أعطاه فإن كان الإعراض منه أو ماتت فلا رجوع له وما قبض بسبب نكاح ككسوة لأبيها أو أخيها فكمهر، والزيادة بعد العقد تلحق به. فصل في المفوضة التفويض النكاح دون صداق، ولغة الإهمال، فكأن المهر أهمل حيث لم يسم، والمفوضة المزوجة بلا مهر، وهو نوعان: تفويض بضع، وهو الذي ينصرف إليه التعريف، وتفويض مهر وهو أن يزوجها على ما شاء أحدهما أو أجنبي والتفويض جائز بالكتاب والسنة والإجماع.

(قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}) أي لا حرج عليكم بل قد أباح لكم تبارك وتعالى: {إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} أي ولم تمسوهن والمس النكاح {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي أو لم تفرضوا لهن فريضة أي توجبوا لهن صداقًا، فجوز الطلاق قبل الدخول والفرض. وإن كان فيه انكسار لقلبها، ولهذا أمر بامتاعها وتعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها فقال {وَمَتِّعُوهُنَّ} أي أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به والمتعة والمتاع ما يتمتع به من زاد وغيره ثم قال: {عَلَى الْمُوسِعِ} أي على الغني {قَدَرُهُ} أي قدر غناه {وعلى المقتر} أي على الفقير {قَدَرُهُ} أي إمكانه وطاقته {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} أي بما أمركم الله به من غير ظلم {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} فأعلاها خادم وأدناها كسوة تجزئها في صلاتها. قال ابن عباس أعلى المتعة خادم ثم دون ذلك النفقة ثم دون ذلك الكسوة، ولا يجبر الزوج على قدر معلوم إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة، واستحب بعضهم المتعة لكل مطلقة لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ *} وقوله: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا *} واختاره شيخ الإسلام وغيره، وإنما تجب للمطلقة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها، فهذه هي التي دلت الآية الكريمة على وجوب متعتها، وغيرها على الاستحباب جمعًا بين الآيات والأحاديث، هو قول جمهور العلماء، وكذا من سمي لها مهر فاسد.

واختار الشيخ وجمع لها نصف مهر المثل، فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة، وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول وجب لها عليه شطره، فإن دخل بها استقر الجميع، وكان ذلك عوضًا لها عن المتعة، والآية دلت على صحة التفويض، وتقدم أنه إجماع، وسواء زوج الرجل ابنته المجبرة بلا مهر، أو أذنت المرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر. فيصح العقد ولها مهر المثل، ودلت أيضًا على صحة تفويض المهر إلى أحد الزوجين أو أجنبي، ويجب مهر المثل في قول عامة أهل العلم، لأن المقصود من النكاح الوصلة والاستمتاع، دون الصداق، وجهالته لا تضر، ولها طلب فرضه، فإن امتنع أجبر عليه، قال الموفق بلا خلاف، ولها المطالبة به، ويصح إبراؤها منه قبل فرضه، ويفرضه الحاكم بقدره بطلبها، وإن تراضيًا قبله على مفروض جاز. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن عمرة بنت) يزيد بن (الجون) وسماها السهيلي أسماء بنت النعمان بن الجون الكندية، وقال اتفقوا على تزويجه بها (تعوذت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تزوجها) أي قالت لما دخل عليها أعوذ بالله منك (فقال لقد عذت بمعاذ) وهو الله عز وجل (فطلقها وأمتعها بثلاثة أثواب رواه ابن ماجه) وغيره وفيه مقال، وأصل القصة في الصحيح، وفيه أيضًا عن سهل وأبي أسد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج أميمة بنت شرحبيل فلما أدخلت عليه

" بسط يده إليها" فكأنها كرهت ذلك "فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين أزرقين" وللبيهقي أتى بالجونية فعزلت في بيت أميمة بنت النعمان بن شرحبيل. وقيل إن سبب تعوذها منه أنه لما دخل عليها وكانت من أجمل النساء فداخل نساءه غيره، فقيل لها إنما تحظين عنده أن تقولي أعوذ بالله منك، وقيل إنه يعجبه ذلك، وقيل في سببه غير ذلك فالله أعلم، والحديث دليل على مشروعية المتعة المطلقة وهو مذهب جمهور العلماء، ويدل على أن الكسوة متعة. (وعن علقمة) بن قيس بن شبل بن مالك، من بني بكر ابن النخع تابعي جليل اشتهر بحديث ابن مسعود وصحبته مات سنة إحدى وستين (قال) علقمة رحمه الله (سئل ابن مسعود) رضي الله عنه (عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقًا ولم يدخل بها حتى مات فقال لها مثل صداق نسائها) أي مهر مثلها من نساء قراباتها. كأم وخالة وعمة وأخت ممن يماثلها، يعتبره الحاكم بمن تساويها منهن في حال وجمال وعقل وأدب وسن وبكارة وثيوبة وبلد وصراحة نسب، وكلما يختلف لأجله المهر. فإن لم يكن لها إلا دونها زيدت بقدر فضلها، كنقصها وتعتبر عادة كتخفيف عن عشيرتها، أو لشرف زوج ويسار وغير ذلك قاله الشيخ، وقال ما جرت العادة بأخذه من الزوج. ومن قال ينتصف بالموت رده شيخ الإسلام، وقال هذا

قول مخالف السنة وإجماع الأمة، وغلط الناقل (لا وكس) بفتح فسكون أي لا نقص فلا تنقص من مهر نسائها (ولا شطط) بفتحتين أي لا جور فلا يجار على الزوج بزيادة مهرها على نسائها (وعليها العدة) إجماعًا (ولها الميراث) إجماعا لوجوبه لها بالعقد لا بالوطء فقط. إذ سبب الميراث العقد (فقال معقل) بن سنان الأشجعي. شهد فتح مكة ونزل الكوفة وقتل يوم الحرة صبرًا رضي الله عنه. أي قال لما سمع فتيًا ابن مسعود (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بروع) بنت واشقا مرأة منهم تزوجت هلال بن مرة الأشجعي وفوضت إليه فتوفي قبل أن يدخل بها، أي فقضى لها (بمثل ما قضيت) يعني ابن مسعود، ففرح بها ابن مسعود (رواه الخمسة وصححه الترمذي) وابن مهدي وابن حزم وغيرهم، وفي لفظ فشهد معقل أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى في بروع بمثل ما قضى به ابن مسعود. فدل الحديث على استحقاق المرأة كمال المهر بالموت، وهو قول جمهور العلماء أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، وإن لم يسم لها الزوج ولا دخل بها، وتستحق مهر مثلها وهو مقتضى الحديث، ومن وطئت بشبهة أو في نكاح فاسد وجب لها مهر المثل إن لم تكن عالمة مطاوعة عند جمهور العلماء، وظاهر كلام الشيخ لا يجب، لأن البضع إنما يقوم على زوج، ومن وطئت بزنا مكرهة فقال الشيخ لا يجب إنما هو خبيث. (ولهم عن عمرو بن شعيب مرفوعًا أيما امرأة نكحت)

أي تزوجت (على صداق أو حباء) وهو العطاء للزوجة، وكذا غيرها زائدًا على مهرها (أو عدة) بوعد من الزوج وإن لم يحضر، ولو كان ذلك الشيء مذكورًا لغيرها (قبل عصمة النكاح فهو لها) أي للزوجة (وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه) سواء كان وليًا أو غير ولي أو المرأة نفسها (وأحق ما يكرم عليه الرجل ابنته) وأخته. فدل الحديث على أن المرأة تستحق جميع ما يذكر قبل العقد، سواء كان صداقًا أو حباء أو عدة، ولو كان مذكورًا لغيرها، لأنه عوض بضعها، وما يذكر بعد العقد فهو لمن جعل له، سواء كان وليًا أو غير ولي. وما يعطيه الزوج مما هو للإتلاف كالطعام ونحوه: فإن شرط في العقد كان مهرًا وما سلم قبل العقد فإباحة، ويصح الرجوع فيه مع بقائه إذا كان في العادة يسلم للتلف، وإن كان للبقاء رجع في قيمته، إلا أن يمتنعوا من التزويج رجع فيه مطلقًا. وإن ماتت أو امتنع هو كان الرجوع فيما بقي، وفيما سلم للبقاء، وفيما تلف قبل الوقت الذي يعتاد التلف فيه، لا فيما عدا ذلك، وما بعد العقد هبة أو هدية على حسب الحال، أو رشوة إن لم تسلم إلا به ودل على مشروعية صلة أقارب الزوجة وإكرامهم، والإحسان إليهم، وأن ذلك حلال لهم وليس من قبيل الرسوم المحرمة إلا أن يمتنعوا من التزويج إلا به. (ولأبي داود) والنسائي وغيرهما وصححه الحاكم (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (أن عليًا) رضي الله عنه (لما

تزوج فاطمة) رضي الله عنها وذلك في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وبني بها في ذي الحجة (قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطها شيئًا) وفي لفظ منعه حتى يعطيها شيئًا (قال) علي رضي الله عنه (ما عندي شيء) أي أعطيها إياه (قال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أين درعك الحطمية) نسبة إلى حطمة من محارب بطن من عبد القيس، كانوا يعملون الدروع. فللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال، وحكاه ابن المنذر إجماعًا مفوضة كانت أو غيرها، لأن المنفعة المعقود عليها تتلف بالاستيفاء، قال الشيخ والأشبه أن الصغيرة تستحق المطالبة بنصف الصداق، لأن النصف يستحق بإزاء الحبس، وهو حل بالعقد، والنصف الآخر بإزاء الدخول فلا تستحقه إلا بالتمكين. (وله) أي لأبي داود وابن ماجه (عن عائشة) رضي الله عنها قالت (أمرني) تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن أدخل امرأة على زوجها) وللبيهقي وغيره أن رجلاً تزوج من امرأة على عهده - صلى الله عليه وسلم - فجهزها إليه (قبل أن يعطيها شيئًا) وللبيهقي: ونحوه عن علي وغيره فدل الحديث على أنه لا يشترط في صحة النكاح أن يعطيها الزوج شيئًا قبل أن يدخل بها، وقال بعضهم لا خلاف في ذلك، وما تقدم من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًا رضي الله عنه بإعطاء فاطمة رضي الله عنها الدرع الحطمية لم يكن للوجوب.

باب وليمة العرس

باب وليمة العرس الوليمة من الولم وهو الجمع، لأن الزوجين يجتمعان، وقال ابن الأعرابي، أصلها تمام الشيء واجتماعه، وتقع على كل طعام يتخذ لسرور، وتستعمل في وليمة الأعراس بلا تقييد، وفي غيرها مع التقييد، وجزم جمع أنها الطعام في العرس خاصة. (عن أنس) رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن بن عوف) القرشي الزهري أحد العشرة المشهود لهم بالجنة قيل إنه تصدق بشطر ماله ثم بأربعين ألف دينار ثم حمل على خمس مائة فرس في سبيل الله وخمس مائة راحلة وكان أكثر ماله من التجارة مات سنة إحدى وثلاثين (أو لم ولو بشاة) أي اصنع شاة وليمة العرس وظاهر الأمر الوجوب، وهو مذهب الظاهرية، وحكي عن مالك والشافعي وأحمد، وللطبراني "الوليمة حق" ولأحمد لما خطب علي فاطمة رضي الله عنهما قال - صلى الله عليه وسلم - «لا بد للعروس من وليمة». وجمهور أهل العلم أنها سنة مندوب إليها مرغب فيها، وفيها فضيلة، حتى قال ابن بطال والموفق لا أعلم أحدًا أوجبها، والخبر محمول على الاستحباب، وقال الشيخ تستحب بالدخول، وفي الصحيح بني بامرأة فدعوت رجالاً وقيل بالعقد وفي الإنصاف الأولى أنه يقال وقت الاستحباب موسع من عقد النكاح إلى انتهاء أيام العرس، لصحة الأخبار في هذا وهذا.

وكمال السرور بالدخول اهـ ولو هنا ليست الامتناعية وإنما هي للتقليل. وفي الحديث دليل على أن الشاة أقل مجزئ في الوليمة عن الموسر، ولولا ثبوت أنه - صلى الله عليه وسلم - أو لم على بعض نسائه بأقل من الشاة لكان يمكن أن يستدل به على أن الشاة أقل ما يجزئ في الوليمة مطلقًا، وأجمعوا على أنه لا حد لأكثر ما يولم به، وأقله مهما تيسر أجزأ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أولم على صفية بمد من شعير، والمستحب أنها على قدر حال الزوج، وإن نكح اثنتين فأكثر في عقد أو عقود في وقت متقارب أجزأت وليمة واحدة إن نواها للكل. {وأولم - صلى الله عليه وسلم - على زينب} بنت جحش الأسدية أم المؤمنين رضي الله عنها تزوجها - صلى الله عليه وسلم - سنة ثلاث من الهجرة وفيها نزلت (فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها) وماتت سنة عشرين وهي ابنة خمسين أولم عليها (بشاة) فدل الحديث أيضًا على سنة الوليمة بشاة ولا نزاع في ذلك (متفق عليهما) أي على حديث أنس المتقدم وعلى هذا أيضًا وهو حديث أنس. ولفظه "ما أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من نسائه ما أولم على زينب أولم بشاة" وقيل إنه محمول على ما انتهى إليه علم أنس رضي الله عنه، أو لما وقع من البركة في وليمتها، حيث أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا من الشاة الواحدة وإلا فإنه - صلى الله عليه وسلم - أولم على ميمونة بنت الحارث في عمرة القضية بمكة، وطلب من أهل مكة أن يحضروا وليمتها.

فلعله أن يكون ما أولم به عليها أكثر من شاة لوجود التوسعة عليه - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحال، لأن ذلك كان بعد فتح خيبر، وقد وسع الله على المسلمين في فتحها عليهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس إلا أنه لا يبالغ في التأنق فيما يتعلق بأمور الدنيا. (ولمسلم في قصة صفية جعل) - صلى الله عليه وسلم - {في وليمتها} أي في طعام زواجه بها (التمر والأقط والسمن) ولهما أنه - صلى الله عليه وسلم - "أقام بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبني بصفية" قال أنس فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالانطاع فبسطت فألقي عليها التمر والأقط والسمن، وعنه أنه - صلى الله عليه وسلم - "أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" "وأولم عليها بحيس" والأمور الثلاثة إذا خلط بعضها ببعض سميت حيسًا فدل الحديث على إجزاء الوليمة بغير ذبح شاة وهو مذهب جمهور العلماء. (وله) أي لمسلم (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال شر الطعام طعام الوليمة) سماه شرًا لما ذكر عقبه فكأنه قال: شر الطعام الذي شأنه كذا، أو من شأنه كذا وبين شريته فقال: (يمنعها من يأتيها) وهم الفقراء (ويدعي إليها من يأباها) وهم الأغنياء وفي رواية تدعي لها الأغنياء وتترك الفقراء، وللطبراني "بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الشبعان ويمنع عنها الجيعان" وكان من عادة الجاهلية أن يدعو الأغنياء ويتركوا الفقراء.

ولم يرد - صلى الله عليه وسلم - أن كل وليمة طعامها شر الطعام، فإن لو أراد ذلك لما أمر بها ولا ندب إليها، ولا أوجب الإجابة إليها ولا فعلها - صلى الله عليه وسلم - بل قال - صلى الله عليه وسلم - (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) أي دعوة وليمة النكاح فدل على تأكد إجابتها، وتقدم أنه حكي وجوب إجابتها يعني وليمة النكاح فقد صدق عليها اسم الوليمة شرعًا قال الحافظ وهي بفتح الدال على المشهور. (ولهما) أي البخاري ومسلم (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها» وفي رواية البخاري «أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم إليها». (ولمسلم) أي عن ابن عمر مرفوعًا (فليجب عرسًا كان أو نحوه) أي سواء كانت الدعوة إلى وليمة عرس فيجيب إليها، أو كانت الدعوة على غير وليمة العرس، إلا أن إجابة الدعوة إلى وليمة العرس كانت آكد، لقوله: "فمن لم يجب فقد عصى الله ورسوله". قال الشافعي إتيان دعوة الوليمة حق، والوليمة التي تعرف وليمة العرس وكل دعوة دعي إليها رجل وليمة، فلا ارخص لأحد في تركها، ولو تركها لم يتبين أنه عاص كما في وليمة العرس، وقد يسوغ الترك لأعذار ستأتي. ونحو وليمة العرس حذاق لطعام عند حذاق صبي، وهو

ختم القرآن الكريم، ويقال مشداخ وعذيرة، وأعذار لطعام ختان، وخرسة وخرس لطعام ولادة، وكيرة لدعوة بناء ونقيعة لقدوم غائب، وتحفة منه، وعقيقة الذبح للمولود، وتقدمت، ومأدبة لكل دعوة بسبب وغير سبب، وشندخية لأملاك، وقيل تطلق الوليمة على كل طعام لسرور حادث. لكن استعمالها في طعام العرس أكثر، وكلها مستحبة أو جائزة، لما فيها من جبر قلب الداعي وتطييب خاطره، وقال الموفق إذا قصد فاعلها شكر نعمة الله عليه وإطعام إخوانه، وبذل طعامه، فله أجر ذلك، وينبغي إجابته، وإلا فقد دعي عثمان إلى ختان فأبى، وقال كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ولأبي داود) أي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (فإن كان) أي المدعو للوليمة (مفطرًا فليطعم) أي جبرًا لقلب داعيه، وأكله من تمام إجابة دعوته (وإن كان صائمًا فليدع) أي لداعيه لوليمته بالبركة والمغفرة، وله عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا وقال الموفق صحيح "إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائمًا فليصل" أي ليدع لما تقدم، ومنه "أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وذكركم الله فيمن عنده" "وإن كان مفطرًا فليطعم" فدل الحديثان وغيرهما على أنه يتأكد على من كان صائمًا أن

لا يعتذر بالصوم بل يجيب وليدع لأهل الطعام بالبركة والمغفرة، وظاهره أنه لا يجب عليه الإفطار، فأما إن كان صومه فرضًا كقضاء رمضان، وكنذر فلا نزاع في أنه يحرم عليه الفطر، لقوله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وينبغي إخباره بصومه ليعلم عذره، وإن كان نفلا جاز له الفطر، ولا يجب لما رواه مسلم عن جابر مرفوعًا «إن شاء طعم وإن شاء ترك» وقال لرجل اعتزل عن القوم ناحية وقال إني صائم " دعاكم أخوكم وتكلف لكم كل ثم صم يومًأ مكانه إن شئت" وقال الشيخ وغيره يفطر استحبابًا إن جبر قلب أخيه المسلم، وإلا كان تمام الصوم أولى من الفطر، وهذا أعدل الأقوال. وقال لا ينبغي لصاحب الدعوة الإلحاح في الطعام للمدعو إذا امتنع من الفطر في التطوع، أو الأكل، إن كان مفطرًا فإن كلا الأمرين جائز، وإذا ألزمه بما لا يلزمه كان من نوع المسألة المنهي عنها، ولا يحلف عليه ليأكل، ولا ينبغي للمدعو إذا رأى أنه يترتب على امتناعه مفاسد أن يمتنع فإن فطره جائز، فإن كان ترك الجائز مستلزمًا لأمور محذورة فينبغي أن يفعل ذلك الجائز، وربما يصير واجبًا، وإن كان في الإجابة مصلحة الداعي فقط، وفيها مفسدة الشبهة ففي أيهما أرجح خلاف اهـ. وإن كان المدعو مريضًا أو ممرضًا أو مشغولاً بحفظ مال أو في شدة حر أو برد أو مطر يبل الثياب أو وحل، أو كان أجيرًا ولم

يأذن له المستأجر لم تجب الإجابة في حقه، لأحد هذه الأعذار، وقال بعض أهل العلم يكره لأهل العلم والفضل الإسراع إلى الإجابة والتسامح فيه، لأن فيه بذلة ودناءة وشرها، لا سيما القاضي، لأنه ربما كان ذريعة للتهاون به وعدم المبالاة. قال ابن عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن دخل على غير دعوة» أي من غير أن يدعوه صاحب الوليمة (دخل سارقًا) لأنه دخل بغير إذن، ورد في الرجل يدخل على آخر وهو يعلم أنه يأكل ليأكل معه (وخرج مغيرًا) من أغار يغير إذا نهب مال غيره، شبه دخوله على الطعام الذي لم يدع إليه بدخول السارق الذي يدخل بغير إرادة المالك، لأنه اختفى بين الداخلين وشبه خروجه بخروج من نهب قومًا وخرج ظاهرًا بعد ما أكل بخلاف الدخول فإنه دخل مختفيًا خوفًا من أن يمنع، وبعد الخروج قد قضى حاجته فلم يبق له حاجة إلى التستر، وإذا دعي فجاء مع الرسول فهو إذن في الأكل، فلا يشترط إذن ثان، وتقديم الطعام إليه بطريق الأولى، وهذا فيما إذا وضعه ولم يلحظ انتظار من يأتي، وينظر إلى العرف والعادة في ذلك البلد. (وله) أي ولأبي داود عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعًا: «إذا اجتمع داعيان» أي لوليمة «فأجب أقربهما بابا» وفيه فإن أقربهما إليك بابًا أقربهما إليك جوارًا «فإن سبق أحدهما» أي أحد داعيين إلى وليمة «فأجب الذي سبق» سواء كان هو الأقرب أو الأبعد فالقرب وإن كان سببًا للإيثار لكنه لا

يعتبر إلا مع عدم السبق، فدل الحديث على أنه إذا اجتمع داعيان فالأحق بالإجابة الأسبق، فإن استويا قدم الجار، والجار على مراتب فأحقهم أقربهم بابًا، فإن استويا أقرع بينهما، وقيل إن كان أحدهما رحمًا، أو من أهل العلم، أو الورع، قدم لمرجح الإجابة. (وعن أنس) رضي الله عنه (قال تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال أنس فدخل بأهله فصنعت أم سليم حيسًا فجعلته في تنور فقالت: يا أنس اذهب به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهبت به فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ضعه» (وقال ادع فلانًا وفلانًا ومن لقيت) وكذا من شئت (متفق عليه) فدل على جواز الدعوة إلى الطعام على الصفة التي أمره بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دون تعيين المدعو. وتسمى هذه الدعوة الجفلى والخاصة والنقري، قال طرفة: نحن في المشتات ندعوا الجفلى لا ترى الأدب فينا ينتقر أي يخصص فتباح لهذا الخبر: وعن أبي سعيد مرفوعًا "طعام أول يوم حق" فقيل واجب وتقدم أن الجمهور على الندب "وطعام اليوم الثاني سنة" ولأبي داود "معروف وطعام اليوم الثالث سمعة. ومن سمع سمع الله به" رواه الترمذي وغيره، أي فلا ينبغي فعله، ولا الإجابة إليه، وقال الشيخ يحرم الأكل والذبح الزائد على المعتاد في بقية الأيام، ولو العادة فعله، أو لتفريح أهله، ويعذر إن عاد.

وذهب جماعة إلى أنه لا بأس بالضيافة إلى سبعة أيام إذا كان المدعوون كثيرين، ويشق جمعهم في يوم أو يومين، وقال البخاري: باب حق إجابة الوليمة والدعوة، ومن أولم سبعة أيام ونحوه ولم يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا ولا يومين، ولابن أبي شيبة عن حفصة بنت سيرين قالت لما تزوج أبي دعا الصحابة سبعة أيام، وفي رواية ثمانية أيام. (وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (مرفوعا: من رأى منكم منكرً) ذكره منكرًا ليعم جميع ما نهى الله عنه، فإذا دعي إلى وليمة مثلاً ورأى منكرًا كخمر وخنزير وآلة لهو وتصاوير وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله «فليغيره بيده» إن قدر على ذلك، وهو أعلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أثنى الله على هذه الأمة بذلك، فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} بل أمر به فقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ثم طبع على ذلك بطابع الفلاح فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *}. {فإن لم يستطع} أي تغيير المنكر بيده (فـ) ليغير المنكر (بلسانه) إن قدر على ذلك «فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» متفق عليه. وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» بل قد يكون ممن رضي وتابع، فإن قدر على تغيير المنكر حضر وغيره، فأدى بذلك إجابة الدعوة وإزالة

المنكر، وإن لم يقدر على تغييره لم يحضر. (وعن عمر) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر» رواه أحمد وله الترمذي والنسائي نحوه من حديث جابر، وحسنه الحافظ، ولأبي داود عن ابن عمر، "نهى عن الجلوس على مائدة يدار عليها الخمر" فدلت هذه الأحاديث على سقوط حق الداعي، وعدم حضور الدعوة لوجود المنكر، والمراد إذا لم يقدر على تغييره. (ولابن ماجه) بإسناد رجاله رجال الصحيح (عن علي) رضي الله عنه قال: (صنعت طعامًا فدعوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى في البيت تصاوير فرجع) وقال الشيخ وغيره خرج أحمد من وليمة فيها آنية فضة، فقال الداعي نحوها فأبى أن يرجع، فإذا صار في الوليمة خمر أو خنزير أو تصاوير، أو شاهد ستورًا معلقة فيها صور حيوان لم يجلس إلا أن تزال، وهذا مذهب جماهير العلماء، وقال ابن عبد البر هذا أعدل المذاهب، ويكره أيضًا تعليق الستور على الحيطان والأبواب من غير حاجة، لوجود أغلاف غيرها من أبواب الخشب ونحوها، وما زاد عن الحاجة فسرف. وأما الحرير والذهب فيحرم كما تحرم سيور الحرير والذهب على الرجال، فكذا الحيطان والأبواب التي يشترك فيها الرجال والنساء: ينبغي أن تكون كالتي للرجال، وأما ما يختص بالمرأة

ففيه نظر، إذ ليس هو من اللباس، وإن حضر من غير علم به ثم علم به أزاله لوجوب إزالته عليه، ويجلس بعد إزالته وإن دام المنكر لعجزه عن إزالته انصرف لئلا تكون إجابته سببًا لشهود المنكر، قال الشيخ ويحرم دخول بيعة وكنيسة مع وجود صورة، وأنها كالمسجد على القبر. ويحرم حضور أعياد المشركين، وأن يفعل كفعلهم والتشبه بهم منهي عنه إجماعًا وتجب عقوبة فاعله، ولا ينبغي إجابة هذه الدعوة، وإن كان هناك مضحك بالفحش والكذب، لم يجز الحضور، ويجب الإنكار، فإن كان مزح لا كذب فيه ولا فحش أبيح مع من يقل ذلك، قال: والفرق بين الدعوة والجنازة أن الحق في الجنازة للميت، فلا يترك حقه لما فعله الحي من المنكر، والحق في الوليمة لصاحب البيت، فإذا أتى فيها بالمنكر فقد أسقط حقه من الإجابة. (وعن أنس) رضي الله عنه (مرفوعًا: «من انتهب فليس منا» رواه أحمد وصححه الترمذي) وللبخاري "نهى عن المثلة والنهبي" ولأحمد "عن النهبة والخلسة" وعن عمران بن حصين نحو ذلك، فثبت من طريق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم النهي عن النهبة، ومن جملة ذلك انتهاب النثار، ولم يرد ما يصلح لتخصيصه، قال الحافظ ولا ضعيف فضلا عن صحيح فيكره، والنثار، شيء يطرحونه في أيام التزويج من دراهم أو غيرها، ويكره التقاطه، وأخذه ممن أخذه. قال أحمد هذه نهبة

تقتضي التحريم وقيل ليس بمكروه، قال الشيخ والرخصة المحضة تبعد جدًا اهـ للنهي عنه، ولما فيه من الدناءة والسخف. (وفي السنن) وعند أحمد والحاكم وغيرهم إلا أبا داود من حديث محمد بن حاطب أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «فصل ما بين الحرام والحلال الدف» أي ضرب الدف، والمراد ضربة غير ملهية كدف العرب على شكل الغربال، ولأنه المعهود حينئذ (والصوت في النكاح) أي رفع الصوت في النكاح للإعلان به. وتقدم سنيته (حسنه الترمذي) فدل الحديث على سنية ضرب الأدفاف قاله الشيخ وغيره، بحيث يكون كدف العرب، لا الأغاني المهيجة للشرور المشتملة على وصف الجمال والفجور ومعاقرة الخمور، فإن ذلك يحرم في النكاح كما يحرم في غيره، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «نهيت عن صوتين أحمقين» وغيره، ويسن رفع الأصوات بشيء من الكلام، نحو أتيناكم أتيناكم، إعلانًا بالنكاح. (ولابن ماجه عن عائشة) رضي الله عنها (مرفوعًا «أعلنوا النكاح» أي أظهروه وأشيعوه «واضربوا عليه بالغربال» فهو المعهود على عهده - صلى الله عليه وسلم - وفي المسند عن عمر بن يحيى المازني عن جده أبي حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره نكاح السر، حتى يضرب بدف، ويقال: «أتيناكم أتيناكم فحيونا

نحييكم» وفي رواية شريك "فهلا بعثتم جارية تضرب بالدف. (وللبخاري عنها) أي عن عائشة رضي الله عنها (أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال - صلى الله عليه وسلم - ما كان معكم من لهو فإن الإنصار يعجبهم اللهو) ولابن ماجه عن ابن عباس أن عائشة أنكحت ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أهديتم الفتاة» قالوا: نعم قال: أرسلتم لها من يغنى قالت لا قال: «إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم» ففي هذه الأحاديث وما في معناها الندب على إعلان النكاح بالدف والغناء المباح، وفي الصحيح لما رأى نساء وصبيانًا جاءوا من عرس قال إنكم من أحب الناس إلي. (وله) أي للبخاري (عن الربيع) بنت معوذ رضي الله عنها أنه (دخل عليها) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (وجويريات يضربن بالدف) أي فأقرهن ولم ينكر ذلك، قال الشيخ، ومن استدل بجواز الغناء للصغار في يوم عيد على أنه مباح للكبار من الرجال والنساء على الإطلاق فهو مخطئ، وقال أما الشابة فلم يرخص أحد من أهل العلم في حضورها مجمع الرجال الأجانب. لا في جنازة ولا في عرس، وتحرم كل ملهاة سوى الدف المعهود في عصر النبوة، كمزمار، وطنبور وجنك وعود وسائر الملاهي المحرمة، وكذا الأغاني المهيجة للفجور.

فصل في آداب الأكل

ويحرم اللعب بالشطرنج ونحوه على عوض، وحكاه ابن عبد البر إجماعًا لا سيما إذا اشتمل على ترك واجب أو فعل محرم فيحرم بالاتفاق، أو عوض، أو شغل عن واجب من مصلحة النفس أو الأهل، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلة الرحم، أو ما يجب فعله من نظر في ولاية أو إمامة أو غير ذلك. (ولأبي داود) والنسائي وابن ماجه وغيرهم (من حديث عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده أي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا تزوج أحدكم امرأة فليقل اللهم إني أسألك خيرها» أي خير ذاتها «وخير ما جبلتها عليه» أي خلقتها وطبعتها عليه من الأخلاق البهية، «وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه» وفي لفظ: "ثم ليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة" ففيه استحباب الدعاء بما تضمنه هذا الحديث عند تزوجها وزفافها إليه، وهو دعاء جامع لأنه إذا لقي الإنسان الخير من زوجته وجنب الشر كان في ذلك جلب النفع واندفاع الضرر. فصل في آداب الأكل والشرب وبيان ما يسن في ذلك ويباح ويحرم ويكره وغير ذلك (عن عمر بن أبي سلمة) كانت أمه زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن توفي أبو سلمة (قال كانت يدي تطيش في الصحفة فقال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يا غلام سم الله» أي قل بسم الله. قال الشيخ ولو زاد الرحمن الرحيم لكان حسنًا، فإنه أكمل بخلاف الذبح «وكل بيمينك» ولمسلم من حديث ابن عمر إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه «وكل مما يليك متفق عليه» فدل الحديث على وجوب التسمية للأمر بها، وقيل مستحبة في الأكل، ويقاس عليه الشرب، قال العلماء ويستحب أن يجهر بها ليسمع غيره وينبهه عليها، فإن تركها لأي سبب نسيان أو غيره في أول الطعام ففي أثنائه للخبر الآتي. ودل على وجوب الأكل باليمين، وفي الحديث «فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» وإن رجلا أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «كل بيمينك» فقال: لا أستطيع، فقال: «لا استطعت ما منعه إلا الكبر» فما رفعها إلى فيه، فيكره أكله بشماله بلا ضرورة. وحكاه النووي في الشرب إجماعًا ودل على أنه يجب الأكل مما يليه، ولابن ماجه من حديث ابن عباس: «إذا أكل أحدكم فلا يأكل من أعلى الصحفة ولكن من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاها» وفي لفظ «كلوا من جوانبها ودعوا ذروتها يبارك فيها» وإنه ينبغي حسن العشرة للجليس، وأن لا يحصل من الإنسان ما يسوء جليسه مما فيه سوء عشرة وترك مروءة فقد يتقذر جليسه لا سيما في الثريد والأمراق ونحوها، إلا في مثل الفاكهة لفعله - صلى الله عليه وسلم - من أنه يتتبع الدباء من نواحي الصحفة متفق عليه، ولأنه غير لون واحد. ونهى عن الأكل من

وسط الصحفة فللخمسة «لا تأكلوا من وسط الصحفة، وكلوا من جوانبها فإن البركة تنزل في وسطها» وسنده صحيح، وظاهر النهي سواء كان وحده أو معه جماعة. وينبغي غض طرفه عن جليسه لئلا يستحي منه، وإيثاره على نفسه للآية، وقال أحمد يأكل بالسرور مع الإخوان وبالإيثار مع الفقراء وبالمروءة مع أبناء الدنيا، ومع العلماء بالتعلم، ويكره نفض يده في القصعة، وأن يقدم إليها رأسه عند وضع اللقمة في فمه، وينبغي أن يحول وجهه عند العطاء والسعال عن الطعام، أو يبعد عنه، أو يجعل على فيه شيئًا لئلا يخرج منه ما يقع في الطعام، ولا ينبغي أن يفجأ قومًا عند وضع طعامهم تعمدًا، وإلا أكل، قال الشيخ وأكل النساء مع الرجال الأجانب لا يفعل إلا لحاجة من نحو ضيق المكان أو قلة الطعام ومع ذلك لا تكشف وجهها للأجانب. (وعن عائشة) رضي الله عنها (قال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فإن نسي) أي نسي التسمية (في أوله) أي أول تناول الطعام (فليقل بسم الله في أوله وآخره صححه الترمذي) فدل على وجوب التسمية أثنائه إذا نسي في أوله. وأن يسمى كل واحد من الآكلين، ولما تقدم من قوله: «يا غلام سم الله» فإن سمي واحد فقط، فقيل تحصل بتسميته السنة، لخبر «إن الشيطان يستحل الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه» وفي

هذين الحديثين وغيرهما، أنه لا بد من تسمية كل شخص فيتعين ذلك. (وعن كعب) بن مالك رضي الله عنه (قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل بثلاث أصابع) الإبهام والسبابة والوسطى (رواه الخلال) ورواه مسلم وغيره وفيه فإذا فرغ لعقها فيكره الأكل بما دونها وما فوقها، ما لم تكن حاجة، أو ما يتناول عادة وعرفًا بإصبع أو إصبعين أو أكثر، فإن العرف يقتضيه، ولا يكره الأكل بالملعقة ونحوها، والسنة أن يأكل بيده. (وعن جابر) رضي الله عنه (أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بلعق الأصابع) وفي حديث كعب ولا يمسح يده حتى يلعقها (و) أمر بلعق (الصحفة) أي التي أكل منها (وقال إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) أي فيما أكلتموه قبل أو ما لعقتم من الأصابع أو الصحفة (رواه مسلم) وللترمذي "تستغفر له الصحفة" فدل الحديث على أنه يسن أن لا يمسح يده حتى يلعقها وأن يلعقوا الصحفة التي أكل منها، وأن يأكل ما تناثر من الطعام، لخبر " إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما بها من الأذى وليأكلها". (وعن أبي جحيفة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا آكل متكئًا) أي متمكنًا في جلوسه، والاتكاء مأخوذ من الوكاء، والتاء بدل عن الواو، والوكاء هو ما يشد به الكيس أو

غيره فكأنه أوكأ مقعدته وشدها بالقعود على الوطاء الذي تحته ومعناه الاستواء على وطاء متمكنًا (رواه البخاري) ومعنى الحديث إذا أكلت لا أقعد متكئًا كفعل من يريد الاستكثار من الأكل، ولكن آكل بلغة، فيكون قعودي مستوفزًا. والعامة لا تعرف المتكئ إلا من مال على أحد شقيه، ومن حمله على ذلك تأول ذلك على مذهب أهل الطب، بأن ذلك فيه ضرر، فإنه لا ينحذر في مجازي الطعام سهلا، ولا يسيغه هنيئًا وربما تأذى به فينبغي للآكل أن يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى، أو يتربع ويكره الأكل قائمًا والشرب قائمًا لغير حاجة، اختاره الشيخ وغيره. (ولمسلم عن أنس) رضي الله عنه (مرفوعًا إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها) بأن يقول الحمد لله رب العالمين (ويشرب الشربة فيحمده عليها) بأن يقول الحمد لله رب العالمين إذا فرغ من أكله أو شربه، وينبغي أن يقول الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين للخبر. (وعنه) أي عن أنس رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى سعد) ابن عبادة رضي الله عنه فجاء بخبز وزيت (فأكل) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ثم قال: افطر عندكم الصائمون) ظاهره فرضًا كان أو نفلاً فدل على فضيلة تفطير الصائم وتقدم أن له مثل أجره (وأكل طعامكم الأبرار) الاتقياء الصالحون

(وصلت عليكم الملائكة) أثنت عليكم أو دعت لكم واستغفرت وفيه وذكركم الله فيمن عنده (رواه أبو داود) وسكت عنه المنذري ولأبي داود وغيره عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أكل وأصحابه عند أبي الهيثم طعامًا قال أثيبوا أخاكم قالوا: وما إثابته قال: إن الرجل إذا دخل بيته فأكل طعامه وشرب شرابه فدعوا له فإذا دعوا له فذلك إثابته. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال ما عاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعامًا قط) فلا يقول رديئًا أو مالحًا أو حامضًا أو نحو ذلك، ولا يحتقره (إن اشتهاه أكله) ولم يعبه (وإلا تركه) ولم يعبه (متفق عليه) وفيه عدم عنايته - صلى الله عليه وسلم - وتأنقه في المأكل، ويكره من رب الطعام مدح طعامه وتقويمه، لأنه يشبه المن به، وحرمه بعضهم، ولا بأس بمدحه من غير ربه، ولغير ضيف وقد يصير من لاتحدث بالنعمة، وكره قرانه في تمر قال الشيخ ومثله قران ما العادة تناوله إفرادًا. (وعن المقدام) بن معدي كرب رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «بحسب ابن آدم لقيمات» وفي لفظ أكلات تكفيه في سد الرمق وإمساك القوة «يقمن صلبه» أي ظهره ويتقوى بهن على الطاعة، «فإذا كان ولا بد» وفي لفظ لا محالة «فثلث لطعامه» أي يجعله لمأكوله «وثلث لشرابه» أي يدعه لمشروبه «وثلث لنفسه» أي من التجاوز، رواه أحمد وابن ماجه و (حسنه الترمذي)

وصححه الحاكم، وهذا غاية ما اختير للأكل، ويحرم الأكل فوق الشبع. وكره الشيخ وغيره أكله كثيرًا حتى يتخم، وحرمه أيضًا وحرم الإسراف وهو مجاوزة الحد، ولا ينبغي أن لا يأكل إلا قليلاً بحيث يضره، سواء كان مع غيره أو وحده، لخبر " لا ضرر ولا ضرار" وليس من السنة ترك أكل الطيبات ومن السرف أن يأكل كل ما اشتهى، ومن أذهب طيباته في حياته الدنيا واستمتع بها، نقصت درجاته في الآخرة للأخبار. (وعن أبي قتادة) رضي الله عنه (مرفوعًا إذا تنفس أحدكم فلا يتنفس في الإناء) لما يخرج النفس من كرب القلب وكدر البدن، فكره الشارع أن يؤذي الشارب، أو لأنه قد يخرج شيء من الفم فيتصل بالماء فيقذره على غيره (متفق عليه) وأما ما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس في الشرب ثلاثًا، فالمراد في أثناء الشراب، لا في إناء الشراب، ولمسلم "فإنه أروى وأبرأ وأمرى" أي أقمع للعطش وأكثر برأ، ولما فيه من الهضم، ومن سلامته من التأثير في برد المعدة، وأكثر مراءة لما فيه من السهولة. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما أي مرفوعًا نحوه رواه أبو داود وغيره وزاد على ما تقدم (أو ينفخ فيه) أي في الإناء (صححه الترمذي) وله وغيره من حديث أبي سعيد "نهى عن

النفخ في الشراب، فقال رجل القذاة أراها في الإناء قال: "أهرقها" قال فإني لا أروى من نفس واحد قال: "فأبن القدح من فيك ثم تنفس، فدل الحديث على النهي عن النفخ في الإناء، وعن ابن عباس مرفوعًا «لا تشربوا واحدًا كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث» وروي " مصوا الماء مصًا ولا تعبوه. فإن الكباد من العب. وأما اللبن فيعب لأنه طعام، وينبغي أن لا يشرب من ثلمة القدح، لما روى أبو داود من حديث أبي سعيد " نهى عن الشرب من ثلمة القدح" وكره شربه من في السقاء، لأنه قد يخرج منه ما ينغصه، وفي أثناء طعامه بلا عادة، إلا إذا صدق عطشه، فينبغي من جهة الطب، يقال إنه دباغ المعدة، وإذا شرب ناوله الأيمن للخبر. * * *

باب عشرة النساء

باب عشرة النساء بكسر العين الاجتماع، يقال لكل جماعة عشرة، ومعشر، والمراد هنا ما يكون بين الزوجين من الإلفة والانضمام وما يلزم كلا منهما من العشرة بالمعروف، فلا يمطل أحدهما حق صاحبه ولا يتكره لبذله ولا يتبعه أذى ولا منة. قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم، وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها، فافعل ذلك أنت بها مثله، قال ابن زيد تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله فيكم، وقال - صلى الله عليه وسلم - «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» وكان من أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - أنه جميل العشرة دائم البشر. يداعب أهله ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه حتى أنه يسابق عائشة يتودد إليها بذلك، ويأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، وينام مع إحداهن في شعار واحد قال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا *} أي فعسى أن يكون صبركم في إمساككم لهن مع الكراهة فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة. ومنه أن يعطف عليها فيرزق منها ولدًا، ويكون في ذلك الولد خير كثير، وفي الصحيح لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقًا رضي منها آخر" فدلت الآية على أنه ينبغي إمساكها مع كراهته لها، لأنه لا يعلم وجوه الصلاح فربما مكروهًا عاد

فصل في القسم

محمودًا أو محمودًا عاد مكروهًا مذمومًا، ولا تكاد تجد محبوبا ليس فيه ما تكره فليصبر المرء على ما يكره لما يحب. (وقال) تعالى (ولهن) أي للنساء على الرجال من المعاشرة بالمعروف {مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} للرجال من المعاشرة والقيام بحق الزوج {بِالْمَعْرُوفِ} وهو ما يعرف بالشرع ويتعارف بين الناس وجماع المعروف بينهما كف المكروه وإعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه لا بإظهار الكراهية في تأديته فأيهما مطل بتأخيره فمطل الغني ظلم، قال ابن عباس رضي الله عنهما إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي، وقال ابن العطار يجب على المرأة أن تبدي لزوجها كل ما يدعوه إليها ويزيدها في مودته وتصطاد به قلبه. ويجب عليها إزالة نحو وسخ ودرن وغسل نجاسة ونحو ذلك، وأخذ ما تعافه النفس من شعر وغيره، وكل ما يمنع كمال الاستمتاع كأكل ما له رائحة كريهة، وقال الشيخ تجبر على تمكينه من جميع أنواع الاستمتاع المباحة، ويجب عليها خدمة زوجها بالمعروف من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} في الفضيلة وطاعة الأمر والإنفاق وغير ذلك، وقال ابن عباس، بما ساق فحق الزوجة أعظم من حقها عليه وفي الحديث " لو كنت أمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها.

رواه أهل السنن وغيرهم ولأحمد وغيره "والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد ثم استقبلته تلحسه ما أدت حقه" وله أيضًا لا تؤدي حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه. (وقال) تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} أي اعتزلوا جماعهن حال جريان حيضهن، فدلت الآية على تحريم وطء الحائض حال جريان دم الحيض ولا نزاع في ذلك. ويحرم بعده قبل الغسل عند جماهير العلماء لقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} وتقدم حديث «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» أي الجماع فهو مفسر للآية ومبين الاعتزال المنهي عنه وأنه الجماع لا المواكلة والمشاربة والملامسة والمضاجعة. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «استوصوا») أي أوصيكم «بالنساء خيرًا» يعني فاقبلوا وصيتي «فإنهن عوان عندكم» أي أسيرات، فالعاني الأسير وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنا «أخذتموهن بأمانة الله» أي أن الله ائتمنكم عليهن فيجب حفظ الأمانة وصيانتها بمراعاة حقوقها والقيام بمصالحها وفي لفظ "بأمان الله" «واستحللتم فروجهن بكلمة الله» أي بإباحة الله والكلمة {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية رواه مسلم. فدل الحديث على الوصية بهن ومراعات حقهن ومعاشرتهن بالمعروف، وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة في الوصية بهن وبيان حقوقهن والتحذير من التقصير في ذلك.

(ولهما عنه) أي وللبخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه (مرفوعًا: إن المرأة خلقت من ضلع) بكسر الضاد وفتح اللام وإسكانها واحد الأضلاع (أعوج) أي غير مستقيم "وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه" مبالغة في إثبات هذه الصفة لهن «فإن ذهبت تقيمه» أي الضلع «كسرته» وفي لفظ «وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها» «وإن استمتعت استمتعت بها وفيها عوج» لأنهن خلقن من أصل معوج، والمراد أن حواء خلقت من ضلع آدم قيل الأقصر الأيسر قال تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}. ففيه الوصية بهن والاحتمال لهن والصبر على عوج أخلاقهن وأنه لا سبيل إلى إصلاح أخلاقهن بل لا بد من العوج فيها، وأنه من أصل الخلقة، وتقدم «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر» فإنها لا تستقيم أبدًا فمن حاول حملها على الأخلاق المستقيمة أفسدها، ومن تركها على ما فيها من الإعوجاج انتفع بها. (وعنه مرفوعًا) أي وعن أبي هريرة أيضًا رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أكمل المؤمنين إيمانًا» إذ الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فأكملهم «أحسنهم خلقًا» بضم الخاء ففيه أن من ثبت له مزية حسن الخلق كان من أهل الإيمان الكامل، فإن كان أحسن الناس خلقًا كان أكمل الناس إيمانًا لأن كمال الإيمان يوجب حسن

الخلق والإحسان وإن خصلة يختلف حال الإيمان باختلافهم لخلقته بأن ترغب إليها نفوس المؤمنين قال: «وخياركم خياركم لنسائها» وفي لفظ" إن من أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله" (صححه الترمذي) ورواه أحمد وغيره، وجاء أيضًا «خيركم خيركم لأهله». فدل الحديثان أن أعلى الناس مرتبة في الخير وأحقهم بالأتصاف به هو من كان خير الناس لأهله، فإن الأهل هم الأحق بالبشر وحسن الخلق والإحسان وجلب النفع ودفع الضر، فإذا كان الرجل كذلك فهو خير الناس، وإن كان على العكس من ذلك فهو في الجانب الآخر من الشر، وكثيرًا ما يقع الناس في هذه الورطة فترى الرجل إذا لقي أهله كان أسوأ الناس أخلاقًا وأشحهم نفسًا وأقلهم خيرًا. وإذا لقي غير الأهل لانت عريكته وانبسطت أخلاقه، وجادت نفسه نعوذ بالله من موجبات غضبه، وقال ابن الجوزي معاشرة المرأة بالتلطف مع إقامة الهيبة، ولا ينبغي أن يعلمها قدر ماله ولا يفشي إليها سرًا يخاف إذاعته، وليكن غيورًا من غير إفراط لئلا ترمى بالشر من أجله. (وعنه) أي عن أبي هريرة أيضًا رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها» قيل كتابة عن الجماع أو أن المراد الفراش المعهود «لعنتها الملائكة حتى ترجع» متفق عليه وفي لفظ للبخاري «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح» أي

وترجع ولمسلم " كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها" فدل الحديث على أنه يجب على المرأة إجابة زوجها إذا دعاها للجماع أو الفراش للعن الملائكة لها إذ لا يلعنون إلا عن أمر الله، ولا يكون إلا عقوبة ولا عقوبة إلا على ترك واجب، ودل على تأكد وجوب طاعة الزوج وتحريم عصيانه ومغاضبته ورواية "حتى تصبح" خرج مخرج الغالب، وإلا فيجب عليها إجابته نهارًا للأخبار. وفي خبر الثلاثة الذين لا تقبل لهم صلاة ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة" المرأة الساخط عليها زوجها، وله الاستمتاع بها، ولو على تنور أو ظهر قتب للخبر رواه أحمد، وليس له شغلها عن فرض، وليس لها تطوع بصوم أو صلاة وهو شاهد إلا بإذنه، ويباشرها ما لم يضر بها، قال الشيخ فإن تنازعا فينبغي أن يفرضه الحاكم كالنفقة، فمن زاد عليها في الجماع صولح على شيء لأنه غير مقدر، وجعل ابن الزبير أربعًا في الليل وأربعًا في النهار، وصالح أنس رجلاً على ستة، ويرجع إلى اجتهاد الحاكم. (ولهما عنه) أي عن أبي هريرة أيضً رضي الله عنه (مرفوعًا ولا تأذن في بيته إلا بإذنه) لا لقرابة ولا غيرهم لعموم الخبر ما لم تقم قرينة دالة على رضاه، وللترمذي وصححه، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون وإن خاف ضررا من زيارة أبويها فله منعها، ويعرف ذلك بقرائن الأحوال ومنه أن يفسداها عليه، ولا

يمنعها من كلامهما وله منعها من الخروج من منزلة، ويحرم بلا إذنه من غير ضرورة كاضطرارها لمطعم ومشرب لعدم من يأتيها به. وينبغي استئذانه أن تمرض محرمها وتشهد جنازته لما في ذلك من صلة الرحم، وعدم إذنه يكون حاملاً لها على مخالفته، قال الشيخ له منعها من الخروج فإذا نهاها لم تخرج، وقال ولا تترك المرأة تذهب حيث شاءت بالاتفاق اهـ. وله منعها من إجارة نفسها ومن إرضاع ولدها من غيره إلا لضرورة، وله السفر بها مع الأمن وعدم اشتراط ضده، لأنه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يسافرون بنسائهم. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الله إلى رجل أتى» رجلا أو «امرأة في دبرها» رواه النسائي وغيره (حسنه الترمذي) ونحوه لأحمد أيضًا وغيره، عن أبي هريرة، وعلي بن أبي طالب وعلي بن طلق وغيرهم مرفوعًا وموقوفًا، ولفظ الخمسة عن أبي هريرة مرفوعًا «ملعون من أتى امرأة في دبرها» والأحاديث قاضية بتحريم إتيان النساء في أدبارهن، وقد حرم الله الوطء في القبل لأجل الأذى فكيف بالحش الذي هو موضع الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل الذي هو العلة الغائية في مشروعية النكاح، وفيه من المفاسد الدينية والدنيوية ما هو معروف. وقال الشيخ وطء المرأة في الدبر حرام بالكتاب والسنة وقول جماهير السلف والخلف بل هو اللوطية الصغرى، وسيأتي

في حد اللواط ما يكفي ويشفي، وما روي عن الشافعي فمن أصحابه من أنكره عنه، والقول الجديد عنه تحريمه، ولا يرضى أحد بنسبة جوازه إلى أمامه، وقال الربيع والله الذي لا إله إلا هو لقد نص الشافعي على تحريمه في ست كتب. وقال ابن القيم قال الشافعي لا أرخص فيه بل أنهى عنه، وقال من نقل عن الأئمة إباحته فقد غلط عليهم أفحش الغلط وأقبحه، وإنما الذي أباحوه أن يكون الدبر طريقًا إلى الوطء في القبل، فيطأ من الدبر في القبل لا في الدبر، فإن فعله عزر لإتيانه معصية لا حد فيها ولا كفارة، وإن تطاوعا عليه فرق بينهما، قال الشيخ كما يفرق بين الرجل الفاجر وبين من يفجر به من رقيقه. (وعن عمر) رضي الله عنه قال (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعزل) أي الزوج (عن) زوجته (الحرة) والعزل النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج (إلا بإذنها رواه أحمد) وفيه ابن لهيعة، ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن عباس نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها. (ولمسلم عن عائشة) رضي الله عنها قالت (قال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ذلك) أي العزل (الوأد الخفي) أي دفن البنت حية، سماه وأدًا لما تعلق من قصد منع الحمل، فدلت هذه الأحاديث على تحريم عزل الزوج عن زوجته الحرة إلا بإذنها، وقال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها. لأن الجماع من حقها ولها المطالبة به، وليس

الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل، ويحرم من زوج أمة إلا بإذن سيدها، وهو مذهب الجمهور، وأما الأمة فلمسلم عن جابر أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل فقال: «اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتي ما قدر لها» فيجوز العزل عن الأمة لهذا الخبر وغيره وهو مذهب الجمهور. (وقال لعبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنه (وإن لزوجك عليك حقًا متفق عليه) وجاء من طرق بعد ذكر صومه التطوع أي لا ينبغي لأحد أن يجهد نفسه في العبادة حتى يضعف عن القيام بحقها من جماع واكتساب، وفيه: "وإن لنفسك عليك حقًا" وفي لفظ "ولجسدك عليك حقًا" مراعاته والرفق به وتقدم " ولنسائكم عليكم حقًا" ثم قال: "وحقها عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن" فإذا انقطع في التعبد عن مصالح أهله وضعف عن القيام بحقوقهم كره ما لم يأذنوا به. ولا وجه لقول بعضهم يبيت عند الحرة ليلة من أربع وينفرد إذا أراد في الباقي، فنص أحمد في الذي يصوم النهار ويقوم الليل على وجوب المبيت في المضجع، وكذا ما في النشوز يدل على وجوب المبيت في المضجع، وجواز التزوج بأربع لا يقتضي أنه إذا تزوج بواحدة يكون حال الانفراد كحال الاجتماع. وقرر الشيخ وجوب المبيت في المنزل وأنه لا يهجر المضجع واختار وجوب الوطء بقدر كفايتها ما لم ينهك بدنه.

أو يشغله عن معيشة من غير تقدير مدة، فإن تنازعا فينبغي أن يفرضه الحاكم كالنفقة وكوطئه إذا زاد، قال وحصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتض للفسخ بكل حال سواء كان يقصد من الزوج أو بغير قصد، ولو مع قدرته وعجزه كالنفقة وأولى للفسخ بتعذره في الإيلاء إجماعًا، ثاب أبو محمد المقدسي القول في امرأة الأسير والمحبوس ونحوهما ممن تعذر انتفاع امرأته به إذا طلبت فرقته كالقول في امرأة المفقود بالإجماع. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا) أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أن أحدكم حين يأتي أهله» أي حين يريد أن يأتي أهله وفي لفظ "إذا أراد أن يأتي أهله" كنى به عن الجماع (يقول بسم الله) بركة واستعانة بالله (اللهم جنبنا الشيطان) باعده منا واعصمنا منه (وجنب الشيطان ما زرقتنا) من الولد فلا يكون له نصيبًا فيه (لم يضره الشيطان أبدًا متفق عليه) ورواه أهل السنن وغيرهم أي لم يسلط عليه فيكون من جملة الذين قال الله فيهم (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان). قال الحسن يرجى إن حملت به أن يكون ولدًا صالحًا. فدل الحديث على استحباب التسمية وبيان بركتها في كل حال، وأن يعتصم بالله وذكره من الشيطان ويتبرك باسمه تعالى والاستعاذة به من جميع الأسواء، ولابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه إذا أنزل يقول اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتنا نصيبًا.

وينبغي أن يلاعبها قبل الجماع وتقدم أنها تجبر على تمكينه من جميع أنواع الاستمتاع المباحة، ويكره الوطء متجردين لما ورى ابن ماجه وغيره من حديث عتبة " فليستتر ولا يتجردا تجرد العيرين" ويكره كثرة الكلام حالة الجماع. لما روي "لا تكثروا الكلام عند مجامعة النساء" ويكره النزع قبل فراغ شهوتها، لما روي "إذا قضي حاجته فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها" لما في ذلك من الضرر عليها ومنعها من قضاء شهوتها، ويحرم الوطء بمرأى أحد أو مسمعه. قال أحمد كانوا يكرهون الوجس يعني الصوت الخفي، ويأتي النهي عن التحدث به فكيف برؤيته. (ولمسلم عن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه مرفوعًا أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من شر الناس» ولفظ مسلم «أشر الناس» وجاءت الأحاديث باللفظين وشر الناس ضد خيرهم (عند الله منزلة يوم القيامة تهديد شديد وزجر من أ، (الرجل يفضي إلى المرأة) من أفضى الرجل إلى المرأة جامعها، أو خلا بها جامع أولا. (وتفضي إليه ثم ينشر سرها) أي وتنشر سره فيبدي كل منهما ما يجري بينه وبين صاحبه، ولأحمد وأبي داود من حديث أبي هريرة "هل منكم رجل إذا أتى أهله أغلق بابه وأرخى ستره ثم يخرج فيحدث فيقول فعلت بأهلي كذا وفعلت بأهلي كذا" فسكتوا فأقبل على النساء فقال: «هل منكن من تحدث» فجثت فتاة على إحدى ركبتيها وتطاولت ليراها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسمع كلامها فقالت: أي والله إنهم يتحدثون وإنهن

ليتحدثن فقال: «هل تدرون ما مثل من فعل ذلك مثل شيطان وشيطانه لقي أحدهما صاحبه بالسكة فقضي حاجته منها وللناس ينظرون إليه». فدل الحديثان وغيرهما على تحريم إفشاء الزوجين أو أحدهما لما يقع بينهما من أمور الجماع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري فيه بينهما من قول أو فعل ونحوه، وأما مجرد ذكر الجماع فإذا لم يكن لحاجة فمكروه لأنه خلاف المروءة وللنهي عنه، وإن دعت إليه حاجة أو ترتب عليه فائدة بأن كان ينكر إعراضه عنها أو تدعي عليها العجز عن الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة في ذلك، كما قال - صلى الله عليه وسلم - «إني لأفعله أنا وهذه» وقال لجابر "الكيس الكيس" وكما روي عن الرجل الذي ادعت عليه العنة قال: يا رسول الله إني لأنفضها نفض الأديم. فصل في القسم أي العدل بين الزوجات في المبيت والنفقة والكسوة وغير ذلك مما يأتي تفصيله. (قال تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا} أي إلى التي تحبونها {كُلَّ الْمَيْلِ} أي لا تتبعوا أهواءكم وأفعالكم في القسم في المبيت والنفقة وغير ذلك {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي إذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل بالكلية فتدعوا الأخرى كالمعلقة لا أيما ولا ذات بعل، قال ابن عباس وغيره لا ذات بعل ولا مطلقة فدلت

الآية وغيرها مما سيأتي على وجوب التسوية في القسم بين من كان تحته امرأتان فأكثر، فإن أبى عصى وعليه القضاء للمظلومة، والتسوية شرط في البيتوتة لا في الجماع، فلا يجب لأنه يدور على النشاط، وليس ذلك إليه، وفي الكسوة والنفقة اختاره الشيخ وغيره، وتمييز إحداهن ميل. ويكون في القسم ليلة وليلة إلا أن يرضين بأكثر، ولزوج أمة مع حرة ليلة من ثلاث لأنها على النصف منها وعماد القسم الليل لمن معاشه النهار، ومن معيشته بالليل كحارس يقسم بين نسائه بالنهار ويكون النهار في حقه كالليل في حق غيره. وله أن يأتيهن وأن يدعوهن إلى محله، وأن يأتي بعضًا ويدعو بعضًا إذا كان مسكن مثلها، ولا يدخل على غير ذات ليلة فيها إلا لضرورة كمنزول بها أو ما لا بد منه عرفًا، ولا في نهارها إلا لحاجة كدفع نفقة أو سؤال عن أمر يحتاجه، فإن لبث أو جامع لزمه القضاء لا قضاء قبلة ونحوها. ويقسم لحائض ونفساء ومجنونة مأمونة وغيرها، وإن سافرت بلا إذن أو أبت السفر معه أو المبيت عنده في فراشه فلا قسم لها ولا نفقة، لأنها عاصية كالناشز، وكذا إن سافرت بإذنه في حاجتها فلا قسم لها أيضًا ولا نفقة لعدم الاستمتاع بها ولحاجته فلا يسقط حقها. (وقال) تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ} أي خشيتم {أَلَّا تَعْدِلُوا}

بين الأزواج أربع أو ثلاث أو اثنين {فَوَاحِدَةً} أي فانكحوا واحدة لا تزيدوا عليها {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني السراري لأنه لا يلزم فيها من الحقوق ما يلزم في الحرائر بل يطأ من شاء متى شاء، ولا قسم لهن ولا وقف في عددهن، بخلاف الحرائر فيجب القسم بينهن بإجماع المسلمين. {ذَلِكَ} أي الاقتصار على زوجة واحدة أو ملك يمين {أَدْنَى} أي أقرب {أَلَّا تَعُولُوا} أي أن لا تجوروا يقال عال في الحكم إذا قسط وظلم وجار، وقال بعضهم أقرب أن لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم وأصل العول المجاوزة، والمراد أن لا تميلوا إلى من تحبون منهن دون الأخرى، كما في الآية الأولى فتأثموا بذلك. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من له امرأتان» أي مثلا «فمال إلى إحداهما» أي فضل إحداهما فلم يعدل بينهما بل مال إلى إحداهما دون الأخرى «جاء يوم القيامة وشقه مائل» أي أحد جنبيه مفلوج ساقط (رواه الخمسة) وغيرهم، وقال الحافظ سنده صحيح، والحديث دليل على أنه يجب على الزوج التسوية بين الزوجات، وأنه يحرم عليه الميل إلى إحداهن كما تقدم في الآية. والمراد في القسم والإنفاق ونحو ذلك مما يملكه الزوج لا في المحبة ونحوها، لأنها مما لا يملكه، كما قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} قال ابن عباس في الحب والجماع، ويستحب أن يسوي بينهن بجميع الاستمتاعات من

الوطء والقبلة والنظر وغير ذلك. (ولهم) أي للخمسة وصححه ابن حبان وغيره (عن عائشة) رضي الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - (كان يقسم بين نسائه) فيبيت عند كل واحدة ليلة (ويعدل) أي يسوي بين نسائه في البيتوتة، وعماده الليل لأنه الوقت الذي يأوي فيه الإنسان إلى منزله ويسكن إلى أهله وينام على فراشه مع زوجته عادة، والأولى أن يكون لكل واحدة منهن مسكنًا يأتيها فيه لفعله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأنه أصون لها وأستر حتى لا يخرجن من بيوتهن، وإن دعاهن إلى محل يسكنه غير مساكن زوجاته جاز، وإن أقام عند واحدة ودعا الباقيات إلى بيتها لم تجب عليها الإجابة، ويقسم المريض كالصحيح، لقوله "أين أنا غدًا" رواه البخاري. (ويقول اللهم هذا) أي هذا العدل (قسمي فيما أملك) أي فيما أقدر عليه (فلا تلمني) أي تعاتبني أو تؤاخذني (فيما تملك ولا أملك) يعني من زيادة المحبة وميل القلب فإنك مقلب القلوب، وقال الترمذي وغيره يعني به الحب والمودة، والحديث دليل على وجوب القسم فيما يملك الزوج، وأن المحبة وميل القلب أمر غير مقدور للعبد، بل هو من الله تعالى لا يملكه العبد قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}. (وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه (قال من السنة) وله حكم الرفع ورواه جماعة عن أنس وقالوا فيه قال رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا تزوج الرجل البكر على الثيب) وذلك أن تكون عنده امرأة فيتزوج معها بكرًا (أقام عندها سبعًا) أي عند البكر أيام زفافها (ثم قسم) أي بين أزواجه (وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا ثم قسم متفق عليه) وقال ابن عبد البر الأحاديث المرفوعة على ذلك وليس مع من خالف حديث مرفوع والحجة مع من أدلى بالسنة، وللدارقطني عنه مرفوعًا "للبكر سبع وللثيب ثلاث" ويحمل المطلق على المقيد. ولما تزوج - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة رضي الله عنها أقام عندها ثلاثًا ثم قال: "ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي" والحديث وما في معناه يدل على أن البكر تؤثر بسبع والثيب بثلاث وتجب الموالاة في السبع والثلاث، وهو في حق من له زوجة قبل الجديدة، وقيل بسبب الزفاف، وقال النووي يستحب إذا لم يكن عنده غيرها وإلا فيجب، والإيثار يكون بالمبيت والقيلولة لا استغراق ساعات الليل والنهار. (ولهما عن عائشة) رضي الله عنها (أن سودة بنت زمعة) ابن قيس بن عبد شمس بن عبد ود العامرية وكان - صلى الله عليه وسلم - تزوجها بمكة بعد موت خديجة وتوفيت بالمدينة سنة أربع وخمسين (وهبت يومها لعائشة) وللبخاري تبتغي بذلك رضا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك حين أسنت وخافت أن يفارقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا رسول الله يومي لعائشة فقبل منها رواه أبو داود، ولابن

سعد مرسلاً أنه - صلى الله عليه وسلم - طلقها فقعدت له فقالت أنشدك الله لما راجعتني فراجعها قالت: فإني جعلت يومي لعائشة حبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وكان - صلى الله عليه وسلم - يقسم) أي بين زوجاته لكل زوجة يوم (ولها) أي لعائشة (يومين يومها) أي يوم عائشة (ويوم سودة) الذي وهبته لعائشة وللبخاري وليلتها. فدل الحديث على جواز هبة المرأة نوبتها لضرتها، ولهما عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج تقول أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري وأنت في حل من النفقة علي والقسم، وفي رواية هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كبرًا أو غيره فيريد فراقها فتقول أمسكني وأقسم لي ما شئت فلا بأس إذا تراضيا فدلت الآية أيضًا على ما دل عليه الحديث من جواز إسقاط نفقة أو قسم أو غير ذلك مما يدخل تحت عموم الآية، والحديث ويعتبر رضي الزوج إذا وهبت نوبتها لضرتها لأن له حقًا في الزوجة فليس لها أن تسقط حقها إلا برضاه ويصح الرجوع لها فيما وهبت من نوبتها لأن الحق يتجدد. (وعنها) أي عن عائشة رضي الله عنها (قالت كان) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه) لتعين القرعة من يسافر بها لتساويهن في الحق وعدم إمكان الجمع

فصل في النشوز

بينهن فوجب المصير إلى القرعة إن لم يرضين (فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه) أي خرج بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمرأة التي خرج سهمها معه في السفر (متفق عليه) وقال أحمد يقرع بينهما فتخرج إحداهما برضى الأخرى ويأثم إن سافر بإحداهن بغير قرعة ولا رضى. ولا يقضي عند الجمهور واختراه الشيخ. فصل في النشوز وهو معصية الزوجة زوجها فيما يجب عليها مأخوذ من النشز وهو ما ارتفع من الأرض فأكنها ارتفعت وتعالت عما فرض الله عليها من المعاشرة بالمعروف. قال تعالى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} لما ذكر تعالى الصالحات القانتات يعني المطيعات أزواجهن الحافظات للغيب في غيبة زوجها في نفسها وماله بين حكم اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن أي يرتفعن ويتعالين عليهم فالناشز هي المرتفعة على زوجها التاركة لأمره المعرضة عنه قال تعالى {فَعِظُوهُنَّ} أي متى ظهر منها إمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله في عصيانه ويذكرها ما أوجب الله عليها من الحق والطاعة وما يلحقها من الإثم بالمخافة. فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والوعظ بالقول. {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} إن لم ينزعن عن ذلك بالقول وعصين بعد وعظهن ويليها ظهره في الفراش ولا يكلمها وقال بعضهم لا يضاجعها وللبيهقي يعني النكاح ما شاء حتى تنزع فلم يقدر بمدة وفي الكلام ثلاثة أيام فإن أصررن بعد الهجر المذكور فقال تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} أي إن لم ينزعن مع الهجران فاضربوهن والمراد ضربًا غير مبرح للخبر والضرب المبرح هو الشاق الذي لا تحمله النفس فبدأ تعالى بالموعظة فإن لم ترتدع فبالهجر فإن لم ترتدع فبالضرب. قال الوزير اتفقوا على أنه يجوز للزوج أن يضرب زوجته إذا نشزت بعد أن يعظها ويهجرها في المضجخ ويجتنب الوجه والمواضع المخوفة. وله تأديبها على ترك الفرائض. قال الشيخ وتهجر زوجها في المضجع لحق الله بدليل قصة الذين خلفوا. {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} أي إذا أطاعت زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله له منها {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} أي لا سبيل له عليها بعد إتيانها لما يريده منها لا ضربها ولا هجرانها {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا} أي متعاليًا من أن يكلف العباد ما لا يطيقونه {كَبِيرًا} لا أكبر منه ولا أعظم انتقامًا منه لمن ظلم. وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} أي علمت {مِنْ بَعْلِهَا} أي زوجها {نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} أي بغضًا ونفورًا عنها {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي لا حرج على الزوج ولا المرأة {أَنْ يُصْلِحَا} أي يتصالحا. وقرأ أهل الكوفة أن يصلحا من

الصلاح {بَيْنَهُمَا صُلْحًا} يعني في القسم والنفقة وغير ذلك، وذلك بأن تسقط عنه حقها أو بعضها من قسم أو نفقة أو كسوة ومبيت وغير ذلك من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها فلا حرج عليها في بذلها ذلك له، ولا حرج عليه في قبوله منها. قيل: نزلت في سودة لما عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فراقها صالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها، وقيل في امرأة لها من زوجها أولاد فقالت: لا تطلقني ودعني أقوم على أولادي واقسم لي من كل شهرين إن شئت، وإن شئت فلا تقسم لي، وقال البغوي: هو أن يقول الزوج لها إنك قد دخلت في السن وإني أريد أن أتزوج شابة أوثرها عليك، فإن رضيت بهذا فأقيمي وإلا خليت سبيلك، فإن رضيت كانت هي المحسنة ولا تجبر على ذلك، وإن لم ترض كان عليه أن يعرفها حقها أو يسرحها. ثم قال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} أي من الفراق فإن إقامتها بعد تخييره إياها والمصالحة على ترك بعض حقها من القسم والنفقة خير من المفارقة بالكلية بل أبغض الحلال إلى الله الطلاق (وأحضرت الأنفس الشح) أي شح كل واحد من الزوجين بنصببه من الآخر (وإن تحسنوا) أي تصلحوا (وتتقوا) الجور، أو خطاب مع الأزواج بأن يحسنوا بالإقامة معها على الكراهية (وتتقوا) ظلمها (فإن الله) سبحانه (كان بما تعملون خيبرا) فيجزيكم بأعمالكم.

(وقال) تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} أي الزوجين، وقد تقدم في الآية الأولى ذكر نفور الزوجة، وفي الآية الثانية ذكر نفور الزوج، وفي هذه الآية إذا وقع بينهما الشقاق واشتبه حالهما الزوجة لم تؤد الحق عليها ولم تقتنع والزوج لم يصفح ولم يفارق وخرجا إلى ما لا يحل قولاً وفعلاً وتفاقم أمرهما وطالت خصومتها، والخوف هنا بمعنى اليقين أي ظهر الشقاق بينهما {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} إليه {وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} إليها رجلين عدلين ليستطلع كل واحد من الحكمين رأي من بعث إليه إن كان رغبته في الصلح أو الفرقة ثم يجتمعان فينظران في أمرهما ويفعلان ما فيه المصلحة مما يريانه من التوفيق أو التفريق. ولهذا قال تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} يعني الحكمين فعليهما أن ينويا الإصلاح، وأن يطلفا القول وينصحا ويرغبا، ويخوفا ولا يخصان بذلك أحدهما دون الآخر (يوفق الله بينهما) يعني بين الزوجين. والتوفيق أن يخرج كل واحد منهما من الوزر، وذلك تارة يكون بصلاح حالهما في الوصلة، وتارة بالفراق (إن الله كان عليمًا) بما يصلح لهما (خبيراً) بأحوالهما وما انطويا عليه. وقال الوزير اتفقوا على أنه إذا وقع الشقاق بين الزوجين وخيف عليهما أن يخرجهما ذلك إلى العصيان أن يبعث الحاكم حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، وقال الشيخ دلت الآية على وجوب كونهما من الأهل، واشترطه الخرقي، كما اشترط الأمانة وهذا أصح، فإنه نص القرآن، ولأن الأقارب أخبر بالعلل

الباطنة وأقرب إلى الأمانة والنظر في المصلحة فإنه نظر في الجمع والتوفيق، وهو أولى من ولاية عقد النكاح، لا سيما إن جعلناها حكمين، كما هو الصواب فهو نص القرآن اهـ. وأجمعوا على أن الحكمين إذا اختلف قولهما فلا عبرة بقول الآخر، وعلى أن قولهما نافذ في الجمع، وإن لم يوكلهما الزوجان والجمهور على أن قولهما نافذ في التفرقة بينهما إذا رأياه من غير توكيل، وأنهما إن رأيا الأصلح الطلاق بعوض أو بغير عوض جاز، وإن رأيا الخلع جاز، وإن رأى الذي من جهة الزوج الطلاق طلق، ولا يحتاج إلى إذن الزوج. قال الوزير بناء على أنهما حكمان، وهو الصحيح عندي. لأن الله سماهما ذلك فقال: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} فسماهما حكمين في نص القرآن. (وفي حديث حكيم) بن معاوية القشيري عن أبيه قال يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ وفيه قال: (ولا تقبح) أي لا تقل لامرأتك قبحك الله (ولا تهجر) أي لا تترك امرأتك (إلا في البيت) لا تحول عنها إلى دار أخرى أو تحولها إليها بل إذا أردت منها أمرًا فهجرها في البيت. وفي الآية الشريفة {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} (رواه أبو داود) ورواه أحمد وابن ماجه وغيرهم وصححه ابن حبان والحاكم وفيه "ولا تضرب الوجه" فيجتنب الوجه والمواضع المستحسنة لئلا يشوها، والأولى ترك ضربها إبقاء للمودة.

(وعن عمرو بن الأحوص) من بني جشم بن سعد شهد حجة الوداع واليرموك زمن عمر رضي الله عنهما (مرفوعًا: إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم) ما يفرش من متاع البيت من بساط ونحوه (أحدًا تكرهونه) ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، فلا تأذن في بيته إلا بإذنه كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وإن علمت رضاه بذلك فلا حرج عليها، كمن جرت عادته بإدخال الضيوف موضعًا معدا لهم. سواء كان حاضرًا أو غائبًا فلا يفتقر ذلك إلى إذن الزوج (فإن فعلن) أي أوطأنها من تكرهونه «فاضربوهن ضربًا غير مبرح» أي غير شديد لا تحتمله النفوس (رواه مسلم) ورواه أهل السنن وغيرهم. فدل الحديث على أن له أن يضربها ضربًا غير شديد تأديبًا لها إذا رأى منها ما يكره فيما يجب عليها فيه طاعته، فإن اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل، ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام لا يعدل إلى الفعل، لما في الوقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجية، إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله، وللنسائي عن عائشة: ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة له ولا خادمًا قط، ولا ضرب بيده شيئًا قط إلا في سبيل الله، أو تنتهك محارم الله فينتقم لله. (وعن عبد الله بن زمعة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد» وتمامه (ثم يجامعها) وفي رواية ولعله أن يضاجعها (رواه البخاري)

باب الخلع

ورواه مسلم وغيره وفيه دليل على جواز ضرب المرأة ضربًا خفيفا. ولأبي داود "ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك" وللبخاري "ضرب الفحل أو العبد" وكلها دالة على جواز الضرب إلا أنه لا يبلغ ضرب الحيوانات والمماليك وتقدم قوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} بعد أن ذكر الموعظة والهجر، وفيه دليل على جواز ضرب غير الزوجات فيما ذكر ضربًا شديدًا، ولا ريب أن عدم الضرب والاغتفار والسماحة أشرف كما هو خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولعل علة النهي أن ضرب من يجامعها لا يستحسن لأن الجماع والمضاجعة إنما تليق مع ميل النفس والرغبة في العشرة والمجلود غالبًا ينفر عمن جلده، بخلاف التأديب المستحسن فإنه لا ينفر الطباع. باب الخلع بضم الخاء وهو فراق الزوجة بعوض سمي بذلك لأن المرأة تخلع نفسها من الزوج كما يخلع اللباس، ويشترط بذل العوض ممن يصح تبرعه، وزوج يصح طلاقه غير هازل، وعدم عضلها إن بذلته، وعدم حيلة وغير ذلك، وفائدته تخلصها منه على وجه لا رجعة له عليها إلا برضاها، وعقد جديد، والأصل في جواز وقوعه الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ} أي لا

يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن ليفتدين منكم بما أعطيتموهن {شَيْئًا} أي من المهر وغيره، ثم استثنى الخلع فقال {إِلَّا أَنْ يَخَافَا} أي يعلم الزوج والزوجة {أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} يخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها وتخاف المرأة أن تعصي الله في أمر زوجها {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} المرأة نفسها منه ولو كثر. وهو مذهب الجمهور، وقالت الربيع اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي ولم ينكر فكان كالإجماع، سواء كرهت خلقه أو خلقه أو نقص دينه أو خافت إثمًا بترك حقه أو أبغضته ولم تقدر على معاشرته فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ولا حرج عليها في بذله ولا حرج عليه في قبول ذلك منها، قال ابن عبد البر لا نعلم أحدًا خالف في ذلك إلا المزني. وقال الوزير اتفقوا على أنه يصح الخلع مع استقامة الحال بينهما، وقال ابن رشد الجمهور أنه جائز إذا لم يكن سببه رضاها بما تعطيه إضراره بها، وقال بعض الأصحاب إن لم يكن شيء من ذلك بل كانت حالهما مستقيمة كره الخلع لما في السنن: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة» ويقع الخلع وإن كانت تبغضه وهو يحبها، فقال أحمد لا آمرها بالخلع وينبغي لها أن تصبر، وقال الشيخ إذا أبغضته وهو محسن إليها فإنه يطلب منه الفرقة من غير أن يلزم بذلك، فإن فعل وإلا أمرت المرأة أن تصبر إذا لم يكن هناك ما يبيح الفسخ.

وقال وإذا كان كل منهما مريدًا لصاحبه فالخلع محدث في الإسلام. والخلع الذي جاءت به السنة أن تكون المرأة مبغضة للرجل فتفتدي نفسها منه كالأسير اهـ، ودلت الآية على أنه يصح الخلع بكل ما يصح المهر به من عين مالية أو منفعة أو غير ذلك. وبمجهول كالوصية، ولو أطلقا الخلع صح بالصداق كما لو أطلقا النكاح ثبت صداق المثل. قال الشيخ فكذا الخلع وأولى، وقال الوزير اتفقوا على أنه إذا خالعها على رضاع ولدها سنتين جاز ذلك، فإن مات قبل الحولين فقال أبو حنيفة وأحمد يرجع بقيمة الرضاع، وهو أحد القولين لمالك والشافعي اهـ. وإن وقع الخلع بلفظ الخلع أو الفداء أو الفسخ ونحو ذلك كان فسخًا لا ينقص عدد الطلاق، لأن الله تعالى ذكره بعد تطليقتين ثم ذكر الثالثة ولم يجعله طلاقًا، وقال أحمد وغيره هو فسخ ولو نوى به الطلاق واختاره شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما، وكان ابن عباس يقول هو فداء ذكر الله الطلاق في أول الآية والفداء في وسطها وذكر الطلاق بعد الفداء وليس هو طلاقًا وإنما هو فداء فجعل ابن عباس وأحمد وغيرهما الفداء فداء لمعناه لا لفظه قال ابن القيم وهذا هو الصواب، فإن الحقائق لا تتغير بتغير الألفاظ. (وقال) تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} أي لا تضاروهن

بالعشرة ولا تقهروهن {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} أي لتترك بعض ما أصدقتها أو كله أو حقًا من حقوقها عليك أو شيئًا من ذلك على وجه القهر لها والإضرار. قال ابن عباس هذا في الرجل تكون له المرأة وهو كار لصحبتها ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي به فنهى تعالى عن ذلك، ثم قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} يعني الزنا، فله أن يسترجع منها الصداق الذي أعطاها، ويضاجرها حتى تتركه له ويخالعها، وقال الشيخ إذا كانت تزني لم يكن له أن يمسكها على تلك الحال وإلا كان ديوثًا، وقال بعضهم النشوز معصيتها، ويعم ذلك كله الزنا، والنشوز والعصيان، وبذاء اللسان وغير ذلك، كل ذلك يبيح له مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه، ويفارقها لأنه ضرها بحق. وإن لم يكن مضاجرته لزناها أو نشوزها أو تركها فرضًا وفعلت حرم عند جماهير العلماء، لهذه الآية وغيرها، وقاله شيخ الإسلام وغيره، قال ابن عقيل العوض مردود والزوجة بائن. قال الشيخ وله وجه حسن ووجه قوي إذا قلنا الخلع يصح بلا عوض، والمذهب لا يصح بلا عوض، وكذا لو خالعت الصغيرة والسفيهة لخلوه عن بذل عوض ممن يصح تبرعه وأما الأب فقال ابن القيم إذا كان له أن يعفو عن صداق ابنته قبل الدخول وهو الصحيح لبضعة عشر دليلاً فخلعها بشيء من مالها أولى، لأنه إذا ملك إسقاط مالها مجانًا فلأن يملك إسقاطه

ليخلصها من رق زوج ليزوجها خيرًا لها منه أولى وأحرى، واختاره الشيخ، وذكر أنه يجوز لأجنبي أن يختلعها كما يجوز أن يفتدي الأسير، لكن بشرط أن يكون مقصوده تخليصها من رق الزوج لمصلحتها في ذلك. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال جاءت امرأة ثابت بن قيس) ابن شماس الخزرجي الأنصاري خطيب الصحابة ومن أعيانهم رضي الله عنهم شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وامرأته جاء في بعض روايات الحديث أن اسمها جميلة بنت أبي بن سلول، وذلك أنها جاءت (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت إني ما أعتب عليه) أي على ثابت رضي الله عنه والعتب الخطاب بالإدلال، وجاء المثنات التحتية من العيب (في خلق ولا دين) أي لا أريد مفارقته لسوء خلقه بضم الخاء واللام، ولا لنقصان دينه، وعرضت عما في نفسها من كراهة الصحبة. فقالت: (ولكني أكره الكفر في الإسلام) أي كفران العشير والتقصير فيما يجب له بسبب شدة البغض له، وفي رواية لا أطيقه بغضا أي فأخاف على نفسي ما ينافي مقتضى الإسلام من النشوز أو: لكني أكره لوازم الكفر من المعاداة والنفاق والخصومة (فقال أتردين عليه حديقته) أي تعطينه بستانه الذي أعطاك إياه مهرًا، وكان أصدقها حديقة نخل، كما في بعض الروايات الحديث (قالت نعم) وفي لفظ: وزيادة (فقال

أقبل الحديقة) أي التي أصدقتها إياها (وطلقها تطليقة) وفي رواية أمره بطلاقها (رواه البخاري). فدل الحديث على جواز أخذ العوض من المرأة إذا كرهت البقاء معه، وتقدم أنه مذهب جماهير العلماء، وإن خالعته على شيء لم يسقط غيره من حقوق الزوجية ويقع الطلاق إذا علقه على عوض أو غيره. بأن قال إن أعطيتيني كذا فأنت طالق، وقال الشيخ إذا قال إن أبريتني فأنت طالق فقالت أبرأك الله مما تدعي به النساء على الرجال، فقال أنت طالق وظن أنه يبرأ من الحقوق فإنه يبرأ مما تدعي به النساء على الرجال إذا كانت رشيدة. (ولابن ماجه ولا تزد) وذلك أنها قالت أردها عليه، وزيادة، وهذه الزيادة مرسلة، ولعله خرج مخرج المشورة، لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي قل أو كثر وذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها، وقال مالك لم أر أحدًا ممن يقتدي به منع من ذلك لكنه ليس من مكارم الأخلاق، وتسميته فدية دليل على اعتبار الرضي منهما لأنه معاوضة. (ولأبي داود أنها اختلعت منه) أي اختلعت امرأة ثابت من ثابت رضي الله عنه (فأمرها) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن تعتد بحيضة) حسنه الترمذي، وقال الصحيح أنها أمرت أن

تعتد بحيضة، فدل الحديث على أن عدة المختلعة حيضة، وهو قول جماهير السلف. وأن الخلع ليس بطلاق كما قال الخطابي وغيره: فيه أن الخلع ليس بطلاق، وهو مذهب ابن عباس وغيره والمشهور من مذهب أحمد، واستدلوا بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآيات، وقال الشيخ ولو أتى بصريح الطلاق وليس من الطلاق الثلاث، وهذا هو المنقول عن ابن عباس في أصحابه. وعن أحمد وقدماء أصحابه، لم يفرق أحد من السلف ولا أحمد ولا أحد من أصحابه في الخلع بين لفظ ولفظ، بل ألفاظهم كلها صريحة في أنه فسخ بأي لفظ كان، وقال ابن القيم الذي يدل على أنه ليس بطلاق أنه تعالى رتب على الطلاق بعد الدخول ثلاثة أحكام كلها منتفية عن الخلع، أحدها أن الزوج أحق بالرجعة فيه، والثاني أنه محسوب من الثلاث، والثالث أن العدة ثلاثة قروء، وقد ثبت بالنص والإجماع أنه لا رجعة في الخلع، قال ولا يصح عن صحابي أنه طلاق البتة والقائلون بأنه طلاق لا يشترطون فيه أن يكون للسنة لعدم استفصاله - صلى الله عليه وسلم -.

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق في اللغة التخلية، والإطلاق الإرسال والترك، وفي الشرع حل قيد النكاح أو بعضه، ويصح من زوج مكلف ومميز يعقله، ويباح للحاجة كسوء خلق المرأة، ويكره لعدمها، لاشتماله على إزالة النكاح المشتمل على المصالح المندوب إليها، ويستحب للضرر باستدامة النكاح في حال الشقاق، أو ترك حق الله تعالى، ويجب للإيلاء إذا أبى الفيئة، ويحرم للبدعة كفي حيض أو طهر وطئ فيه والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع. (قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية وتمام الآية {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} أمر تعالى الرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقًا له عليها فيه رجعة أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها بمعروف، وهو أن يشهد على رجعتها وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها من منزله إذا انقضت عدتها بالتي هي أحسن، ولا

يمسكها مضارة بتطويل الحبس. فالبلغوغ هنا بلوغ مقاربة وذلك أن الرجل كان يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها إضرارًا، لئلا تذهب إلى غيره قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يقول أحدكم قد طلقت قد راجعت» فدلت الآية على جواز الطلاق عند الحاجة إليه، ولم يجعلها تعالى غلاً في عنقه، وأباح له المراجعة قبل استكمال العدة أو ماله من العدد، وهذا من محاسن هذه الشريعة المطهرة. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» رواه أبو داود) لعل المراد بالحلال ما ليس تركه بلازم الشامل للمباح، والواجب والمندوب والمكروه، فإن كونه مبغوضًا يقتضي رجحان تركه على فعله، وكونه حلالاً يقتضي مساواة تركه لفعله، وقد يقال الطلاق حلال لذاته والأبغضية: لما يترتب عليه من انجراره إلى المعصية، وفي رواية: "ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق" وفيه دليل على أن من الحلال ما هو مبغوض إلى الله، وأن أبغضه الطلاق وأنه يحسن تجنب إيقاع الطلاق ما وجد عنه مندوحة، وقسموا الطلاق إلى الأحكام الخمسة كما تقدم، والمكروه الواقع بغير سبب مع استقامة الحال، وهذا والله أعلم هو القسم المبغوض مع حله. قال الوزير: أجمعوا على أن الطلاق في حال استقامة

الزوجين مكروه إلا أبا حنيفة، قال: هو حرام مع استقامة الحال. (وفي السنن) لأبي داود والترمذي وابن ماجه، ورواه أحمد وغيره (عن ثوبان) رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس) أي من غير أن يكون في مصاحبتها الزوج بها شدة وضرر نحو ما تقدم مما يبيح لها طلب المخالعة (فحرام عليها رائحة الجنة) فيه زجر عن طلب المرأة الطلاق من غير ضرورة ووعيد شديد ومبالغة في التهديد وأن سؤالها الطلاق محرم عليها تحريمًا شديدًا لأنه من لم يرح رائحة الجنة غير داخلها. (وعن لقيط) بن صبرة رضي الله عنه قلت (يا رسول الله إن لي امرأة) يعني زوجة له (وذكر من بذائها) وأنه كرهها لذلك (قال طلقها) أمر ندب (قال إن لها صحبة) أي طويلة (وولدًا) له منها (قال مرها) أي عظها (فإن يكن فيها خير فستفعل) أي ما أمرها به (رواه أبو داود) وفيه «ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك» ورواه البيهقي ورجاله رجال الصحيح وأقره المنذري، فدل الحديث على أنه يحسن طلاق من كانت بذيئة اللسان وأنه يجوز إمساكها، وأنه لا يحل ضربها كضرب الأمة. وأما طلاقها لتركها عفة أو لتفريطها في حقوق الله فلا ريب في ذلك، وله وعظها في نحو هذه الحال والتضييق عليها لتفتدي منه كما تقدم، (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال

كانت تحتي) أي زوجة لي (امرأة أحبها) لم نقف على اسمها (وأبي يكرهها) لعله لنقصان في دينها (فأمرني أن أطلقها) لما يكرهه منها (فأبيت) أي أن أطلقها (فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي أنه أمرني بطلاقها فأبيت عليه لمحبتي لها (فقال طلقها) أي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه (وصححه الترمذي). فدل الحديث على أنه يجب على الرجل إذا أمره أبوه بطلاق زوجته أن يطلقها وإن كان يحبها فليس ذلك عذرًا له في الإمساك، قال الشيخ: وكلام أحمد في وجوب طلاق الزوجة بأمر الأب مقيد بصلاح الأب، ولا يجب للبدعة، بل طلاق السنة، وإن امرأته به أمه فقال أحمد لا يعجبني طلاقه، وقيل، وكذا الأم لحديث «من أبر قال أمك» ثلاثًا ثم قال «أباك» وفي الحديث «الجنة تحت أقدام الأمهات». (وعنه) أي عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنه طلق امرأته) وهي آمنة بنت غفار وفيه أنه طلقها واحدة (وهي حائض) أي حالة كونها حائضًا، وفي رواية وهي في دمها حائض (فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -) فتغيظ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففيه عظيم حرمته (فقال مره) أي مر ابنك (فليراجعها) ويأتي «ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك» بعد فالجمهور على الاستحباب. قال - صلى الله عليه وسلم - (ثم ليطلقها طاهرًا)

وللنسائي: «فليراجعها فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها، وإن شاء أن يمسكها فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» كما في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وذلك طاهرًا (أو حاملاً) أي ثم ليطلقها حاملاً أي إن شاء وذلك طلاق السنة (رواه مسلم) ورواه الخمسة وغيرهم. فالتحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا زال زال موجب التحريم وجاز طلاقها في هذا الطهر كما جاز في الحمل، وكما يجوز في الطهر الذي لم يتقدم طلاق في حيضة، وهذا مذهب جمهور العلماء، وحكى الوزير وغيره اتفاقهم على أن الطلاق في الحيض بمدخول بها، والطهر المجامع فيه محرم، إلا أنه يقع. والحديث دليل على أنه يقع، قال ابن عبد البر لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع، لأنه أمر ابن عمر بالمراجعة ولا تكون إلا بعد طلاق. وعن عائشة رضي الله عنها (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا طلاق» أي لا يقع طلاق (في إغلاق) بكسر الهمزة أي إكراه، وقيل غضب، وقال أبو عبيدة الإغلاق التضييق، فكأنه يغلق عليه ويحبس ويضيق عليه حتى يطلق (رواه أبو داود) ورواه أحمد وابن ماجه، وأبو يعلى والبيهقي والحاكم وصححه، فدل على أن طلاق المكره لا يقع، قال الشيخ وهو قول جماهير العلماء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم لهذا الحديث، وحديث «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وقال تعالى

في حق المكره على الكفر: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} والشرك أعظم من الطلاق، وقال ابن عباس فيمن أكرهه اللصوص فيطلق. وذلك أن المكره مغلق عليه في أمره مضيق عليه في تصرفه، كما يغلق الباب على الإنسان قال، ومن قصد إيقاع الطلاق دون دفع الإكراه وقع طلاقه، كمن أكره على طلقة فطلق أكثر، وقال: الإكراه يقع بالتهديد أو بأن يغلب على ظنه أنه يضره في نفسه أو ماله بلا تهديد، وقال كونه يغلب على ظنه تحقق تهديده ليس بجيد، بل الصواب أنه لو استوى الطرفان كان إكراهًا. ومذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إذا نطق بالطلاق دافعًا عن نفسه لم يقع طلاقه، وقال ابن القيم المكره قد أتى باللفظ المقتضي للحكم ولم يثبت عليه حكمه لكونه غير قاصد، له، وإنما قصد دفع الأذى عن نفسه فانتفى الحكم لانتفاء قصده، وإرادته لموجب اللفظ اهـ. وأما الغضب فإذا بلغ به إلى غاية لا يشعر معها لم يقع طلاقه للإغلاق عليه، قال الشيخ: هوما أغلق عليه قلبه فلا يدري ما يقول، وإن لم يزل عقله ويغيره الغضب لم يقع اهـ. والغضب على ثلاثة أقسام ما يزيل العقل فلا يشعر صاحبه ما يقول فهذا لا يقع طلاقه. أو يستحكم الغضب ويشتد به فلا يزيل عقله بالكلية، ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه فهذا محل نظر، وعدم وقوعه

أقوى، أو يكون الغضب في مباديه بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول فيقع طلاقه، وقل من يطلق حتى يغضب. (وقال علي) رضي الله عنه (كل الطلاق جائز) أي واقع لا محالة (إلا طلاق المعتوه) ذكر البخاري وروى عن أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه «والمغلوب على عقله» وحكى الطحاوي الإجماع على أن طلاق المعتوه لا يقع. (وقال ابن عباس) رضي الله عنهما (طلاق السكران) سكر ضد صحا والسكر حالة تعترض بين المرء وعقله (والمستكره) يعني المكره على الطلاق (ليس بجائز) ذكره البخاري، وذكر عن عثمان رضي الله عنه أنه قال ليس لمجنون ولا لسكران طلاق، ورواه ابن أبي شيبة عن جماعة من السلف وقال ابن المنذر ثبت عن عثمان ولا نعلم أحدًا من الصحابة خالفه. وقال ابن القيم: ثبت في الصحيح عن عثمان، وابن عباس في السكران ونحوه، ولا يعرف عن رجل من الصحابة أنه خالفهما في ذلك، واحتج الطحاوي وغيره بأنهم أجمعوا على أن طلاق المعتوه لا يقع، قال والسكران معتوه بسكره، وفرق بعضهم بين السكر بالمحرم وغيره. والقائلون بعدم وقوع طلاق السكران احتجوا بزوال التكليف وأن كل مكلف يصح منه الطلاق، وأنه لا يصح من غير مكلف، ولا ممن زال تكليفه، وقد نهى تعالى عن قربان

الصلاة حالة السكر. وقال: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} والسكران لا يعلم ما يقول، ومن كان كذلك فكيف يكون مكلفًا وهو غير فاهم، والفهم شرطًا التكليف، كما هو مقرر في الأصول، وأن الأحكام لا تختلف بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو من جهة غيره، وأجمعوا على أنه لا يقع الطلاق من مجنون ولا نائم لأنه غير فاهم ما يقول، وكذا السكران غير عاقل ولا فاهم ما يقول، وليس إسقاطًا منهم لحكم المعصية بل لعدم مناط التكليف، وحمزة رضي الله عنه لما ثمل، وقال: ما أنتم إلا عبيد لأبي لم يلزمه، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم تلك الكلمة، والمقصود أن السكران الذي لا يعقل لا حكم لطلاقه، لعدم المناط الذي تدور عليه الأحكام. وقال الشيخ لا يقع طلاق السكران ولو بسكر محرم، وهو رواية عن أحمد، قال الزركشي ولا يخفى أن أدلة هذه الرواية أظهر، ونقل الميموني الرجوع عما سواها، وقال ابن القيم زائل العقل إما بجنون أو إغماء أو شرب دواء أو شرب مسكر لا يعتد به، واختلف المتأخرون فيه، والثابت عن الصحابة الذي لا يعلم فيه خلاف بينهم أنه لا يقع طلاقه اهـ. ويعتبر لوقوع الطلاق إرادة لفظه لمعناه، فلا طلاق لفقيه يكرره، وحاك ولو عن نفسه، وأما طلاق الهازل فقال الشيخ وغيره واقع، لأنه قصد التكلم بالطلاق، وإن لم يقصد إيقاعه وفي الحديث "ثلاث هزلهن جد" وعد منها الطلاق.

فصل في عدده

فصل في عدده أي في حكم عدد الطلاق وفي سنته وهو إيقاعه على الوجه المشروع، وبدعته وهو إيقاعه على الوجه المحرم المنهى عنه. (قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم خاطب الأمة، أي إذا أردتم طلاقهن {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي وقتها قال ابن مسعود: طاهرات من غير جماع، وتقدم قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ويأتي قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وسنة الطلاق في حق من تحيض من وجهين: أحدهما: من جهة الزمان وهو أن يطلقها في طهر لم يصبها فيه أو حاملاً. والثاني: من جهة العدد، وهو أن يطلقها واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، ثم قال تعالى {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} اضبطوا ابتداءها وانتهاءها للعلم ببقاء زمن الرجعة وغير ذلك. (وقال) تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ} أي المخيلات من حبال أزواجهن {يَتَرَبَّصْنَ} ينتظرون ويمكثن {بِأَنْفُسِهِنَّ} بعد طلاقهن {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} أي أطهار قال أحمد: هو قول الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يتزوجن حتى تمضي عليهن الثلاثة إلا الإماء فيمكثن قرءين لأنهن على النصف من الحرائر عند الأئمة الأربعة وغيرهم، والقرء لا يتبعض.

ثم قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} أي حال العدة {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} أي إن أرادوا بالرجعة الإصلاح وحسن المعاشرة لا الإضرار، إلى قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فأباح الرجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة. رفعًا لما كانوا عليه في الجاهلية وابتداء الإسلام يطلق الرجل من غير حصر ولا عدد كلما قاربت انقضاء العدة راجعها (ثم قال) تعالى بعد ذكر الطلقتين {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني الطلقة الثالثة بعدما أرسل عليها الطلاق مرتين {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} أي من بعد الطلقة الثالثة تحرم عليه {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أي حتى يطأها زوج آخر غير المطلق فيجامعها في نكاح صحيح. فلو وطئها واطئ في غير نكاح ولو في ملك يمين لم تحل للأول، لأنه ليس بزوج، أو تزوجت ولم يدخل بها الزوج الثاني ويطأها لم تحل للأول أو قصد التحليل وصرح بمقصوده بطل النكاح عند الجمهور ولم تحل للأول وتقدم. (فإن طلقها) الثاني بعد وطء في نكاح صحيح لم يقصد به التحليل {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي على الزوج الأول والمرأة {أَنْ يَتَرَاجَعَا} يعني بنكاح جديد {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *}. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (أنه طلق امرأته) آمنة بنت غفار (وهي حائض فسأل عمر) رضي الله عنه (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال مره فليراجعها) فتسن مراجعتها لهذا الخبر

لأنه طلاق بدعة (ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر) أي فلا يطلق إلا في الطهر الثاني دون الأول، وهو مذهب مالك وأحد الوجهين عند الشافعية ورواية عن أحمد، فإذا راجعها وجب إمساكها حتى تطهر، فإذا طهرت سن أن يمسكها حتى تحيض حيضة أخرى ثم تظهر، وعند أبي حنيفة وأحمد أنه مندوب (ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس) أي بعد الطهر الثاني قبل أن يصيبها، فإذا فعل ذلك فهو طلاق السنة، وإن مس ثم طلق فبدعة محرم ثم قال - صلى الله عليه وسلم - «فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» متفق عليه. فدل الحديث على تحريم الطلاق حال الحيض، أو طهر وطئ فيه، ولمسلم وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قال ابن رشد أجمع العلماء على أن المطلق للسنة في المدخول بها هو الذي يطلق امرأته في طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة. وأن المطلق في الحيض أو الطهر الذي مسها فيه غير مطلق للسنة، وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - «ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً» ففيه جواز الطلاق حال الطهر، ولو كان الذي يلي الحيضة التي طلقها فيها وهو مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد وغيره، وعند أحمد وغيره المنع لهذا الخير فالله أعلم. وجواز طلاق الحامل لزوال العلة التي لأجلها نهى عن الطلاق في حيض أو طهر وطئ فيه فكذا الصغيرة الآبسة وقال علي رضي الله عنه: لو أن الناس أخذوا ما أمر الله به من

الطلاق ما اتبع رجل نفسه امرأة أبدًا، يطلقها تطليقة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثًا فمتى شاء راجعها. (ولمسلم كان ابن عمر) رضي الله عنهما (إذا سئل) أي عن الحكم فيمن طلق في الحيض (قال أما إن طلقت مرة أو مرتين، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني بهذا) أي أن أراجعها ثم أمسكها حتى تحيض حيضة أخرى ثم أمهلها حتى تطهر ثم أطلقها قبل أن أمسها (وإن كنت طلقت ثلاثًا فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك، وحرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك) فدل على تحريم الطلاق في الحيض وعلى وقوع الطلاق وإبانتها بالثلاث، وهو مذهب جمهور العلماء. (وله) أي لمسلم في صحيحه (عن ابن عباس) رضي الله عنهما أنه قال: (كان الطلاق) أي حكمه (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر) مدة خلافته (وسنتين من خلافة عمر وظاهر كلام ابن عباس أنه كان الإجماع على ذلك (طلاق الثلاث واحدة) سواء كان الطلاق في مجلس واحد أو بكلمة واحدة أو كلمات. (فقال عمر) رضي الله عنه بعدما مضى صدر من خلافته وتتابع الناس على إيقاع الثلاث (إن الناس قد استعجلوا في أمر) وهو إيقاع الثلاث معًا (كان لهم فيه أناة) أي مهلة وبقية استمتاع لانتظار المراجعة (فلو أمضيناه عليهم) أي ألزمناهم

الثلاث، لما رآه من الأمور التي ظهرت والأحوال التي تغير وفشو إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل، وصار الغالب عليهم قصدها (فأمضاه عليهم) أي ألزمهم الثلاث، قال ابن القيم: لم يخالف رضي الله عنه ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ما كان في عصر الخليفة الراشد، ولا ما صدر في أول عصره بل رأى رضي الله عنه إلزامهم بالثلاث عقوبة لهم وتابعه على ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيدوا رأيه لماعلموا أن إرسال الثلاث حرام وتتابعوا فيه. (وللنسائي) برواة كلهم ثقات (عن محمود بن لبيد) بن أبي رافع الأنصاري ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدث عنه أحاديث قال البخاري له صحبة وكان من العلماء مات سنة ست وتسعين (قال أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا) يعني في مجلس واحد (فقام غضبان) كراهة لما أوقعه (ثم قال أيلعب بكتاب الله) يريد آيات الطلاق في سورة البقرة وأن المأذون فيه تطليقة بعد تطليقة وحكمته (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا) (وأنا بين أظهركم) أي فكيف يكون التلاعب به بعدي (حتى قام رجل فقال يا رسول الله ألا أقتله) فدل الحديث على أن جميع الثلاث التطليقات بدعة محرم، ولو بكلمات في طهر لم يصبها فيه، لا بعد رجعة أو عقد. ولو طلقها ثلاثًا في ثلاثة أطهار كان حكم ذلك حكم جمع الثلاث في طهر واحد.

وروى سعيد بن منصور عن أنس أن عمر كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثًا أوجع ظهره ضربًا، ولا ريب أن طلاق الثلاث في مجلس واحد في وقته - صلى الله عليه وسلم - واحدة، وروى أنه قال لركانة: «قد علمت فراجعها» وهو مروي عن علي وابن مسعود وغيرهما. وأصحاب ابن عباس وبعض أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد، ولم تجمع الأمة على خلافه، وأفتى به الشيخ لما فشا التحليل وأيده بما هو معلوم عنه رحمه الله، وذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء إلى أن الثلاث تقع ثلاثًا لإلزام عمر رضي الله عنه بذلك عقوبة، ومتابعة الصحابة له كما تقدم. وقال ابن القيم لا ريب أن هذا سائغ للأمة أن يلزموا الناس ما ضيقوا به على أنفسهم ولم يقبلوا فيه رخصة الله عز وجل وتسهيله بل اختاروا الشدة والعسر، فكيف بأمير المؤمنين وكمال نظره للأمة، وتأديبه لهم ولكن العقوبة تختلف باختلاف الأزمنة والأشخاص والتمكن من العلم بتحريم الفعل المعاقب عليه وخفائه، وعمر رضي الله عنه لم يقل إن هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو رأي رآه مصلحة للأمة يكفهم به عن التسارع إلى إيقاع الثلاث، لما علم أن تلك الأناة والرخصة نعمة من الله على المطلق ورحمة به. وأنه قابلها بضدها، حال بينه وبينها وألزمه ما استلزمه من الشدة والاستعجال، وهذا موافق لقواعد الشريعة، بل هو موافق لحكمة الله في خلقه قدرًا وشرعًا.

(وتقدم) أي في فصل أركان النكاح قوله - صلى الله عليه وسلم - «ثلاث هزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» وروي عن عبادة مرفوعًا «لا يجوز اللعب في ثلاث» وذكر الطلاق وقال «فمن قالهن فقد وجبن» فدل الحديث على وقوع الطلاق من الهازل، وأنه لا يحتاج إلى النية في الصريح، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، واختاره الشيخ وغيره. وحكى غير واحد اتفاق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان البالغ العاقل فإنه مؤاخذ به، وإن قال كنت هازلاً، وقال ابن القيم طلاق الهازل يقع عند الجمهور وهو المحفوظ عن الصحابة والتابعين وكذلك نكاحه صحيح كما في الحديث: «ثلاث هزلهن جد» الحديث وهو قول عمر، وعلي وغيرهما وأحمد وأصحابه وطائفة من أصحاب الشافعي، وهو مذهب مالك وعليه العمل عند أصحابه. وذلك أن الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه وقصد المعنى المتضمن للمعنى قصد لذلك المعنى لتلازمهما وليس للعبد مع تعاطي السبب أن لا يترتب عليه موجبه, لا يؤمن مطلق أن يقول كنت في قولي هازلاً فيكون في ذلك إبطال لحكم الله عز وجل وتلاعب به، اهـ وصريحه لفظ الطلاق وطلقتك وطالق ومطلقة، وإن نوى بطالق من وثاق ونحوه، أو صرف لفظه إلى ممكن قبل قوله إذا كان عدلاً. واختار الشيخ أنه يقبل حكمًا، وهو رواية عن أحمد، إلا في حال

فصل في الكنايات

غضب أو سؤالها الطلاق فلا يقبل قولا واحدا ولو سئل أطلقت امرأتك فقال نعم وقع. أو قيل له ألك امرأة فقال لا وأراد الكذب لم تطلق. وقال الشيخ يجب أن يفرق بين قول الزوج لست لي بامرأة أو ما أنت لي بامرأة. وبين قوله ليست لي امرأة. وبين قوله إذا قيل ألك امرأة لأن الفرق بينهما ثابت وصفا وعددا. إذ الأول نفى نكاحها. ونفي النكاح عنها كإثبات طلاقها. يكون إنشاء ويكون إخبارًا. بخلاف نفي المنكوحات عموما. فإنه لا يستعمل إلا إخبارا اهـ. وإن كتب صريح الطلاق ونواه وقع عند الجمهور وقال مالك وأشهد عليه. وإن قال لم أرد إلا تجويد خطي أو غم أهلي. أو قرأ ما كتبه. وقال لم أرد إلا القراءة قبل. كلفظ الطلاق إذا قصد به الحكاية ونحوها. فصل في الكنايات أي كنايات الطلاق وهي ما يحتمل غيره. ويدل على المعنى الصريح فيه. وجعلوها قسمين ظاهرة وخفية والظاهرة هي ما كان معنى الطلاق فيها أظهر من الخفية ولا يقع بها طلاق إلا بنية مقارنة للفظ. لقصور رتبتها عن الصريح. واحتمالها الطلاق وغيره فلا يتعين له بدون نيته. وهو مذهب جمهور العلماء. (قال تعالى) لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} أي خير أزواجك {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي عرض الحياة

الدنيا {وَزِينَتَهَا} زيادة في النفقة وكن طلبن ذلك منه {فَتَعَالَيْنَ} أي هلم إلي {أُمَتِّعْكُنَّ} متعة الطلاق {وَأُسَرِّحْكُنَّ} أي أفارقكن {سَرَاحًا جَمِيلًا} قال ابن كثير أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن من غير ضرار. {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ} الآية، والمراد البقاء في عصمته والدار الآخرة يعنى الثواب الجزيل {فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا *} قالت عائشة رضي الله عنها "خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترناه، فلم يعد ذلك طلاقًا، فدلت الآية على أن التخيير لا يعد طلاقًا. (وقال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة) رضي الله عنها وذلك لما أمر بتخيير أزواجه فيما تقدم من قوله {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} الآية قالت فبدأ بي وقال: (إني ذاكر لك أمرًا) وهو ما حكاه الله من قوله {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} الآيتين (فلا عليك أن تستأمري أبويك) أي لا تعجلي أن تستأمري أبويك فيه (متفق عليه) قالت وقد علم - صلى الله عليه وسلم - أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، فقلت في هذا استأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، "وتقدم أنها قالت خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترناه فلم يعد ذلك طلاقًا" وفي رواية شيئًا، وفي أخرى "فلم يكن طلاقًا" وهذا مذهب جماهير العلماء الأئمة الأربعة وفقهاء الأمصار وغيرهم أن من خير زوجته فاختارته لم يكن ذلك طلاقًا ولا يقع به فرقة. ومفهومه أن كنايات الطلاق لا يقع بها طلاق إلا بنية مقارنة للفظ وإن قال تزوجي من شئت وحللت للأزواج ولا

سبيل لي عليك ونحو ذلك فكناية ظاهرة، ويأتي قوله: طلقها البتة وأنها كناية ظاهرة، وكذا بتلة وخلية وبرية وبائن ونحو ذلك مما هو كناية عن الطلاق ظاهرة، لا يقع طلاقًا إلا بنية، والجمهور على أنه يقع واحدة ما لم ينو أكثر، وإن قال أمرك بيدك ونواه طلاقًا، فجمهور العلماء من الصحابة والتابعين يقع واحدة، ولها أن تطلق نفسها متى شاءت واحدة، ما لم يطأ أو يطلق أو يفسخ ما جعله لها، أو ترد هي، لقول علي رضي الله عنه ولا يعلم له مخالف في الصحابة. (وعنها) أي عن عائشة رضي الله عنها (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لابنة الجون) الكندي قيل اسمه النعمان بن شراحيل، وابنته أميمة وتقدم. وروى ابن سعد أنه قال يا رسول الله أزوجك أجمل أيم في العرب قال: "نعم" قال فابعث من يحملها إليك. وكانت سنة سبع ولما أدخلت عليه ودنا منها وقالت أعوذ بالله منك قال: لقد عذب بعظيم (الحقي بأهلك، رواه البخاري) وفي القصة أنها خدعت لما رؤي من جمالها فقيل لها استعيذي منه فإنه أحظى لك عنده، ولما علم - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنكن صواحب يوسف» وكانت تقول أنا الشقية. فدل الحديث على أن الرجل إذا قال لامرأته إلحقي بأهلك طلاق، لأنه لم يرو أنه زاد غير ذلك، فيكون كناية طلاق، وإن كانت خفية إذا أريد به الطلاق كان طلاقًا، زاد البيهقي وجعلها تطليقة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يطلق ثلاثًا، وفي قصة كعب لما

قيل له اعتزل امرأتك قال إلحقي بأهلك، ولم يرد الطلاق فلم تطلق. (ولهما عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لسودة اعتدي) أي لأني طلقتك، فكذا استبرئي واعتزلي واخرجي واذهبي ونحو ذلك مما هو كناية عن الطلاق، لأن هذا اللفظ مما يشابه الطلاق فتعين إرادته له، فإن نواه وقع وهو مذهب جماهير العلماء، وإن لم ينوه لم يقع. وقيل إلا حال خصومة أو غضب أو سؤالها الطلاق فيقع بالكناية، لدلالة الحال، وعن أحمد لا يقع إلا بنية وجزم به ابن الجوزي وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال ابن قندس: الذي يظهر أنه لا بد من النية حال الغضب وسؤال الطلاق، وقولهم دلالة الحال تقوم مقام النية في هذه الحال، معناه أن دلالة الحال تدل على النية وليس مرادهم سقوط النية بالكلية. (وفيهما عنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (إن الله تجاوز عن أمتي) أي عفا عنها وفي لفظ تجاوز لأمتي «ما حدثت به أنفسها» نوته أو همت به ولابن ماجه "ما توسوس به صدورها" (ما لم تعمل به) إن كان فعليًا (أو تكلم) به إن كان قوليًا، قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم: أن الرجل إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيء حتى يتكلم به، وورد «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان» فدل الحديث على أنه لا يقع الطلاق بحديث النفس بأن طلق بقلبه ولم يتكلم بلسانه لأن خطرات القلب مغفورة للعباد إذا كانت

فصل في الحلف

فيما فيه ذنب، فكذلك لا يلزم حكمها في الأمور المباحة، فلا يكون حكم حضور الطلاق في القلب إرادته حكم التلفظ به، وتقدم أنه يقع على ما عمل بكتابته وعزم عليه بقلبه، لا لتجويد خطه أو قراءته ونحو ذلك. (وعن ركانة) بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف قيل إنه مات في زمن معاوية رضي الله عنهما (أنه طلق امرأته) سهيمة (البتة) أي قال: أنت طالق البتة (فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي أنه طلقها البتة (فقال والله ما أردت إلا واحدة) أي بلفظ النية لم أرد إلا طلقة واحدة رجعية (فردها إليه) حيث لم يرد بها إلا واحدة غير بائن (رواه أبو داود) والترمذي وصححه هو وابن حبان والحاكم فدل الحديث على أن من طلق البتة ونحوها وأراد واحدة كانت طلقة واحدة وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد جزم به أبو الفرج وغيره، وفيه أنه لو أراد بها أكثر وقع ما نواه. فصل في الحلف أي بالطلاق وأنه يكون يمينًا منعقدة أو لغوًا، أو يكون كناية في الطلاق، (قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ} أي شرع الله لكم (تحلة أيمانكم) تحليلها بالكفارة وهي ما ذكر في سورة المائدة، وذكر تعالى فرض تحلة الإيمان عقب تحريم الحلا، فلا بد أن يتناوله، ويأتي قول ابن عباس وحديث أنس

وهو أحد طرق سبب نزول الآية، وقالت عائشة "آلي من نسائه وحرم فجعل الحرام حلالاً وجعل في اليمين كفارة" قال الخطابي والأكثر أن الآية في تحريم مارية، ورجحه الحافظ، وقال ابن عباس إذا قال لامرأته أنت علي حرام لغو وباطل، لا يترتب عليه شيء، أي طلاق. وفي لفظ إذا حرم امرأته ليس بشيء، وقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} رواه البخاري، وهو قول أكثر أصحاب الحديث وغيرهم لهذه الآية، ولقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}. قال الشيخ فالمناكح والمطاعم التي يباح الانتفاع بها بوجه من الوجوه هي مما سماه الله حلالا، ومن جعل ما أحله الله حرامًا فقد أتى منكرًا من القول وزورًا، وهو كلام لا يمكن تحقيق موجبه، ولا يحل التكلم به، فلا يجعل سببًا لما أباحه الله من الطلاق الذي فيه إرسال المرأة، وإن قصد به الطلاق فليس له أن يقصد الطلاق بمثل هذا الكلام كما لو قال: زواجي بك حرام وقصد به الطلاق فإن هذا كلام باطل في نفسه. فلا يحصل به ثبوت ملك ولا زواله. ولكنه يمين. لأنه امتنع به من المباح أنهم جعلوا تحريم الحلال يمينا. وجعلوا النذر يمينا. وكلاهما يدل عليه النص اهـ. ورجحه جماعة من العلماء. أما إذا أراد تحريم العين فله حكمه. وإن أراد الطلاق

فلم يرد ما يدل على امتناع وقوعه. قال ابن القيم قد أوقع الصحابة الطلاق بأنت حرام وأمرك بيدك واختاري ووهبتك لأهلك وأنت خلية ونحو ذلك. وذهب جمهور العلماء إلى جواز التجوز لعلاقة مع قرينة في جميع الألفاظ. إلا ما خص فما يمنعه في باب الطلاق وقد نواه. وإن لم ينو فيمين مكفرة. وكذا إن قال علي الحرام والحرام يلزمني ونحو ذلك لغو. ومع نية أو قرينة يكون طلاقا. وقال: قوله الطلاق يلزمني لا أكلم فلانا يمين لا تعليق. وقد أجمع الصحابة على أن قصد اليمين في العتق يمنع من وقوعه. وحكى غير واحد إجماع الصحابة على أن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق إذا حنث. وقال علي وغيره في اليمين بالطلاق والعتق والشرط وغير ذلك لا يلزم من ذلك شيء. ولا يقضي بالطلاق على من حلف به فحنث. ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة. وقال: قوله الطلاق يلزمني ونحوه يمين باتفاق العقلاء والفقهاء والأمم. وأما إذا حرم على نفسه طعاما ونحوه فلغو. قال الشيخ: ومن حلف بالطلاق كاذبا يعلم كذب نفسه لا تطلق زوجته. ولا يلزمه كفارة يمين. (وقال) تعالى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} أي ذلك الذي ذكرت لكم وهو {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} الشرعية {إِذَا حَلَفْتُمْ} وحنثتم. فإن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث قال تعالى {وَاحْفَظُوا

أَيْمَانَكُمْ} لا تتركوها بغير تكفير إذا حنثتم، واحفظوا اليمين عن الحنث، هذا إذا لم تكن يمينه على ترك مندوب أو فعل مكروه، فإن حلف على فعل مكروه أو ترك مندوب فالأفضل أنه يحنث نفسه ويكفر، للخبر الآتي وغيره. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما أنه قال (إذا حرم الرجل امرأته) أي قال أنت حرام أ, أنت علي حرام ونحو ذلك (فهو يمين يكفرها) وقال «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حنسة» (متفق عليه أي فلا يحرم بالتحريم ما حرمه على نفسه قال ابن القيم: وصح ذلك عن أبي بكر وعمر وزيد بن ثابت وابن مسعود، وعبد الله بن عمر وعكرمة وعطاء، وقتادة والحسن وخلق سواهم، وحجة ذلك ظاهر القرآن فإن الله تعالى فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال، فلا بد أن يتناوله يقينًا. وقال الشيخ: إذا قال هذا علي حرام أو قال لزوجته أنت علي حرام أو لسريته أنت علي حرام، أو لطعامه وشرابه هو علي حرام فهذا التحريم يتضمن منعه لنفسه منه وأنه التزم هذا الامتناع التزامًا جعله لله لأن التحريم والتحليل إنما يكون لله، وهو إذا قال هذا حرام لم يرد به أن الله حرمه عليه ابتداء فإن هذا كذب ولا يريد أني أحرمه تحريمًا امتنع منه بتاتًا، فإن هذا كلام لا فائدة فيه ولا يقوله عاقل، لا يقصد القائل بقوله هذا حرام إلا أني ممتنع منه من جنس ما حرمه الله علي لا أقربه أبدًا وهذا هو معنى اليمين.

(وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان له أمة يطؤها) مارية القبطية أم إبراهيم (فلم تزل به عائشة وحفصة) رضي الله عنهما (حتى حرمها على نفسه) أي أن لا يطأها وحلف بالله (فأنزل الله: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك، رواه النسائي) وقال الحافظ سنده صحيح، وله شاهد عند الطبراني بسند صحيح عن زيد بن أسلم، قال أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم إبراهيم ولده في بيت بعض نسائه فقالت يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي، فجعلها عليه حرامًا، فقالت كيف تحرم عليك الحلال. "فحلف لها بالله لا يصيبها" فنزلت الآية، ويأتي أنه - صلى الله عليه وسلم - «ألي وحرم» فجعل الحلال حرامًا أي جعل الشيء الذي حرمه وهو الجارية والعسل حلالاً بعد تحريمه إياه، وجعل في اليمين كفارة، وهو حلفه بالله لا يصيبها فظاهره أن الكفارة لليمين لا التحريم. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه مرفوعًا «من حلف على يمين» أي حلف يمينًا وهو مجموع المقسم به، لكن المراد هنا المقسم عليه (فرأى غيرها خيرًا منها) أي من حلف يمينًا جزمًا ثم بدا له أمر فعله أفضل من إبرار يمينه (فليأت الذي هو خير) أي فليفعل ذلك الأمر (وليكفر) بعد فعله (عن يمينه) بما ذكر اللهف ي كفارة الأيمان (رواه مسلم) وأحمد والترمذي وغيرهم وجاء بألفاظ من طرق، ولأبي داود وغيره من حديث أبي بردة عن أبيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى

باب ما يختلف به عدد الطلاق

غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأنت الذي هو خير» فدل الحديث على إجزاء الكفارة بعد الحنث واتفق عليه أهل العلم، ولا تجزئ قبل الحلف بالاتفاق، وتقديم الكفارة على الحنث جائز عند الأكثر وقد اختلف لفظ الحديث فعند البخاري "فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير" ولأبي داود في رواية "ثم ائت الذي هو خير" وأخرجه مسلم بالواو. باب ما يختلف به عدد الطلاق أي هذا باب في حكم من يختلف به عدد الطلاق بالحرية والرق، وهو معتبر بالرجال وخالص حق الزوج بالكتاب والسنة والإجماع. (قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا}) يعني التطليقة الثالثة {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} أي من بعد الثلاث الطلقات {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} قال شيخ الإسلام وغيره: بإجماع المسلمين، وحكى ابن رشد إجماع فقهاء الأمصار على أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة وتقدم الكلام فيه، وإن كرره ثلاثًا وقع، إلا أن ينوي تأكيدًا يصح أو إفهامًا، وتقدم الكلام في صريح الطلاق وكناياته، وإن قالت أنت الطلاق أو علي الطلاق أو يلزمني الطلاق وقع ثلاثًا بنيتها، لأن لفظه يحتمله، وإن لم ينو إلا واحدة فواحدة عملاً بالعرف، لأنهم لا يعتقدونه ثلاثًا. ويقع بلفظ كل الطلاق أو أكثره أو عدد الحصى أو الريح

أو نحو ذلك ثلاث ولو نوى واحدة لأنه لا يحتملها لفظه، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد، وقالوا إذا قال لزوجته يدك أو رجلك أو عضو من الأعضاء المتصلة طالق وقع على جميعها، أو نصف طلقة أو جزءًا منها وقعت طلقة، لأن الطلاق لا يتبعض، وحكاه الوزير اتفاقًا، ويصح استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق وعدد المطلقات، وأجاز الجمهور استثناء الأكثر. (وفي السنن) والمسند وغيرها (أن ابن عباس) رضي الله عنهما (استفتي في مملوك) أي طلبت منه الفتيا في مملوك (تحته مملوكة) أي في نكاحه (طلقها طلقتين) أي طلق المملوك المملوكة طلقتين (ثم عتقا) بصيغة المجهول بعد الطلاق (هل له أن يخطبها) أي هل للمولك أن يخطب المملوكة بعد أن عتقا (فقال: نعم) أي يجوز له ذلك قضى بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه الخمسة إلا الترمذي (وفي رواية بقيت لك واحدة قضي بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) رواه أبو داود وغيره قال أحمد، وهو قول ابن عباس وجابر وأبي سلمة وقتادة، وهو مذهب الجمهور. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: طلاق العبد اثنتان) لا يملك أكثر منهما (فلا تحل له) أي بعد طلقتين (حتى تنكح زوجًا غيره) ويطؤها في نكاح صحيح كما تقدم (رواه الدارقطني) ولابن ماجه والدارقطني نحوه من حديث ابن عمر قال الترمذي والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكى قوم أنه إجماع وخالف فيه

تتمة في إيقاع الطلاق في الزمن الماضي والمستقبل والمستحيل

جماعة من أهل الظاهر، والجمهور قاسوه على الحدود وقد أجمعوا على أن الرق مؤثر فيها، فيملك العبد اثنتين حرة كانت زوجته أو أمة، لأن الطلاق خالص حق الزوج فاعتبر به. تتمة في إيقاع الطلاق في الزمن الماضي والمستقبل والمستحيل إذا قالت لزوجته أنت طالق أمس أو قبل أن أنكحك، فقال ابن القيم: إذا قال أنت طالق في الشهر الماضي أو قبل أن أنكحك فإن كلا الوقتين ليس بقابل للطلاق، لأنها في أحدهما لم تكن محلاً، وفي الثاني فيه طالقًا قطعًا، فإن قوله: أنت طالق في وقت قد مضى -ولم تكن فيه- إخبار كاذب أو إنشاء باطل اهـ. وإن قال أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر أو نحو ذلك لم يجز وطؤها إلى موته، وقال الشيخ: تأملت نصوص أحمد فوجدته يأمر باعتزال الرجل زوجته في كل يمين حلف الرجل عليها بالطلاق وهو لا يدري بار هو أو حانث حتى يستيقن أنه بار، فإذا لم يعلم أنه بار اعتزلها أبدًا اهـ. فإن قدم قبل مضي الشهر ونحوه لم تطلق، وبعد شهر وجزء يقع، وإن قال: قبل موتي أو موت زيد طلقت في الحال، لأن ما قبل موته من حين عقد الصفة وإن علق الطلاق على المستحيل، فقال ابن القيم إذا

علق الطلاق بأمر يعلم العقل استحالته لم يقع، فإن المستحيل عادة كالمستحيل في نفسه. وأما تعليقه بوجود الشيء وبعدمه فقال الشيخ: لو قال لا نزلت ولا صعدت ولا قمت في الماء ولا خرجت يحنث بكل حال، كمنعه لها من الأكل، ومن تركه، فكان الطلاق معلقًا بوجود الشيء وبعدمه، فوجود بعضه وعدم البعض لا يخرج عن الصفتين، بخلاف ما إذا علقه بحال الوجود فقط، أو بحال العدم فقط اهـ، وإن قال أنت طالق في غد أو في رمضان طلقت في أوله، وإلى غد أو شهر فعند انقضائه، وإن قال أنت طالق اليوم إذا جاء غد قيل لغو، وقال لاشيخ يقع على ما رأيته لأنه جعل هذا شرطًا يتعلق وقوع الطلاق به، فهو كما لو قال أنت طالق قبل موتي بشهر، فإنه لم يجعل موته شرطًأ يقع به الطلاق عليها قبل شهر، وإنما رتبه فوقع على ما رتب. ومن علق الطلاق على شرط أو التزامه لا يقصد بذلك لا الحض أو المنع فإنه يجزئه فيه كفارة يمين إن حنث، وإن أراد الجزاء بتعليقه طلقت كره الشرط أو التزمه، وعليه يدل كلام أحمد، وقال فيمن قال الطلاق يلزمني ما دام فلان في هذا البلد، إن قصد به الطلاق إلى حين خروجه فقد وقع، ولغا التوقيت وهذا هو الوضع اللغوي، وإن قصد أنت طالق إن دام فلان فإن خرج عقب اليمين لم يحنث، وإلا حنث، وهذا نظير أنت طالق إلى شهر.

باب تعليق الطلاق بالشروط

باب تعليق الطلاق بالشروط أي ترتيبه على شيء حاصل أو غير حاصل، بإن أو إحدى أخواتها، والشروط جمع شرط، وتقدم معناه، والمراد هنا الشرط اللغوي، لأن أنواع الشرط ثلاثة، عقلي وشرعي ولغوي، فالعقلي كالحياة للعلم، والشرعي كالطهارة للصلاة واللغوي كإن دخلت الدار فأنت طالق، والمعلق للطلاق على شرط هو إيقاع له عند الشرط، ولا يصح إلا من زوج وإذا علقه بشرط لم تطلق قبله. (قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فدلت الآية على أنه لا يقع الطلاق على المرأة قبل نكاحها، إذ هي أجنبية قال ابن عباس ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن، فإذا قال المطلق إن تزوجت فلانة هي طالق مطلق لأجنبية فإنها حين أنشأ الطلاق أجنبية؛ والمتجدد هو نكاحها فهو كما لو قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت وهي زوجته لم تطلق إجماعًا. (وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده رضي الله عنهم (مرفوعًا) أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «ليس على الرجل طلاق فيما لا يملك» عصمة نكاحها (رواه الخمسة وصححه الترمذي) قال البخاري أصح شيء فيه وأشهره حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقاله البيهقي وغيره، والحديث دليل على أنه لا يقع الطلاق على الأجنبية، فإن كان منجزًا فإجماع، وإن كان

معلقًا فهو قول الجمهور، ورواه البخاري عن جماعة من الصحابة وله شواهد منها: (ولأبي يعلى) الحافظ الموصلي (من حديث جابر) بن عبد الله رضي الله عنه أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا طلاق إلا بعد نكاح» ورواه الحاكم وصححه، وقال أنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه، وقد صح على شرطهما من حديث ابن عمر وعائشة وابن عباس، ومعاذ بن جبل وجابر اهـ. وقد روي من طرق بمجموعها يصلح أن يحتج به، وأنه لا يصح الطلاق قبل النكاح مطلقًا، ولابن ماجه وغيره من حديث المسور وعلي بن أبي طالب لا طلاق قبل نكاح فدلت الأحاديث والآثار: أنه لا يصح الطلاق قبل النكاح مطلقًا وكما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. (ولابن ماجه من حديث عياض) بن حمار رضي الله عنه (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) فلو زوج عبده أمته ثم أراد أن يفرق بينهما لم يقع طلاقه، ودل الحديث مع ما تقدم أنه لا يصح إلا من زوج يملك الطلاق، ويعضده قوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} وقوله {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} فلو قال إن تزوجت امرأة أو فلانة فهي طالق لم يقع بتزويجها، ودلت بمفهومها على وقوع طلاق الزوج مع ما تقدم، منجزًا كان الطلاق أو معلقًا، وإن علقه بشرط متقدم أو متأخر، كإن دخلت الدار فأنت طالق، أو أنت طالق إن قمت، لم تطلق قبل

وجود الشرط، وحكي قولاً واحدًا، وقيل يتعجل إذا عجله وهو ظاهر كلام الشيخ فإنه يملك تعجيل الدين المؤجل. ومتى وجد الشرط الذي علق به الطلاق وهي زوجته وقع، وإن قال سبق لساني بالشرط ولم أرده وقع في الحال كالمنجز، وإن علق الطلاق على صفات فاجتمعت في عين فقال الشيخ لا تطلق إلا واحدة، لأنه الأظهر في مراد الحالف، والعرف يقتضيه، إلا أن ينوي خلافه، وإن قال إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق حرم وطؤها قبل استبرائها بحيضة، ليستبين له عدم حملها، وحكي إجماعًا، والآيسة والصغيرة قبل أن تستبرأ بمثل الحيضة، وكل ما يكون الشرك فيه عدميًا يستبين فيما بعد، وقال في السريجية وهي إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا فلا تطلق- إنه قول باطل لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أحد من الأئمة الأربعة. وقال إذا قال إن عصيت أمري فأنت طالق ثم أمرها بشيء أمرًا مطلقًا فخالفته حنث، وإن تركته ناسية أو جاهلة أو عاجزة ينبغي ألا يحنث، لأن هذا الترك ليس عصيانًا، وذكر الأدلة واختاره في غير موضع، وقال ولو حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه فهذه المسألة أولى بعدم الحنث من مسألة فعل المحلوف عليه ناسيًا أو جاهلاً، وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه إذا حلف بالطلاق يحنث قولاً واحدًا، وهذا خطأ بل الخلاف في مذهب أحمد، وقال فيمن حلف على غيره ليفعلن

كذا أو لا يفعله لا يحنث إن قصد إكرامه لا إلزامه بالمحلوف عليه، لأن الإكرام قد حصل. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا من حلف) بالله تعالى أو صفة من صفاته (فقال إن شاء الله لم يحنث حسنه الترمذي) فدل الحديث على أن من علق طلاق امرأته على مشيئة الله تعالى، كأن قال لزوجته أنت طالق إن شاء الله لم تطلق، وقال الشيخ: إذا قال لزوجته أنت طالق إن شاء الله لا يقع به الطلاق عند أكثر العلماء، وإن قصد أنه يقع به الطلاق، وقال إن شاء الله تثبيتًا لذلك وتأكيدًا لإيقاعه وقع عند أكثر العلماء وهذا هو الصواب اهـ. وإن قال إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله طلقت إن دخلت الدار، لتعليقه على وقوع الفعل وقد وقع، وإن قال أنت طالق إن لم يشأ زيد، فقيل قد علق الطلاق بصفة هي عدم المشيئة، فمتى لم يشأ وقع لوجود شرطه، وقال الشيخ القياس أنها لا تطلق حتى تفوت المشيئة، إلا أن تكون نية أو قرينة تقتضي الفورية، وقال الطلاق بعد هذا لا يشاء إلا بكلمه بعد بمشيئة الله فإذا طلق بعد ذلك فقد شاء الله وقوع طلاقها وكذا إن قصد وقوعه الآن، فإنه يكون معلقًا أيضا على المشيئة ولا يشاء وقوعه حتى يوقعه.

باب التأويل في الحلف

باب التأويل في الحلف أي بالطلاق أو غيره، ومعنى التأويل في الحلف أن يريد بلفظه في الحلف ما يخالف لفظ يمينه، كنيته بنسائه طوالق بناته أو أخواته ونحوها، فإذا حلف وتأول في يمينه نفعه التأويل، ولم يحنث إلا أن يكون ظالمًا بحلفه، والضابط أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام، لأنه كتمان وتدليس، وكلما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز، بل واجب إذا أمكن، وإن كان جائزًا فجائز، واختار الشيخ أنه لا يجوز التعريض في المخاطبة لغير ظالم بلا حاجة. (عن سويد) بن حنظلة قيل جعفي وقال ابن عبد البر لا أعلم له نسبًا ولا حديثًا غير هذا (قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا وائل) بن حجر رضي الله عنهما (فأخذه عدو له فحلفت أنه أخي) أي ونيته أنه أخوة في الإسلام (فقال كنت أبرهم) به (وأصدقهم) بيمينك أنه أخوك (المسلم أخو المسلم) وقال صلى الله عليه وسلم " المسلم أخو المسلم" في غير ما حديث (رواه أبو داود) وطرق رجل الباب على أحمد فسأله عن المروذي فقال ليس هنا، وأشار إلى يده. فو حلف ما زيد ههنا ونوى غير مكانه بأن أشار إلى غير مكانه لم يحنث، أو حلفه ظالم ما لزيد عندك شيء وله عنده وديعة بمكان فنوى غيره لم يحنث. قال ابن القيم: استعمال المعاريض إذا كان المقصود رفع ضرر غير مستحق فهو جائز، وقد يكون واجبًا إذا تضمن دفع ضرر يجب دفعه ولا يندفع إلا بذلك، وإذا اعتقد أن غيره أخذ

ماله فيحلف ليردنه أو ليحضرن زيد فقال الشيخ: الأول يظهر جدًا أنه لا يحنث؛ لأن مقصوده ليردنه إن كان أخذه والثاني وإن لم يحصل غرضه لكن لا غرض له مع وجود المحلوف عليه فيصير كأنه لم يحلف عليه. (ولمسلم) وغيره (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال (يمينك) أي إنما يقع (على ما يصدقك به صاحبك) لا تؤثر فيه التورية فالمعنى يمينك التي يجوز أن تحلقها هي التي لو علمها صاحبك لصدقك فيها، فدل الحديث على أنه إذا حلف ظالمًا بحلفه آثم بحلفه لا ينفعه التأويل وانصرفت يمينه إلى ظاهر ما عناه المستحلف وفي المبدع بغير خلاف نعلمه (وفي لفظ على نية المستحلف) فالتورية لا تفيد ولا يجوز الحلف إلا على ما في نفس الأمر، فلو حلف شخص وتأول في يمينه ظالمًا حنث بحلفه ولم ينفعه التأويل. وذكر ابن القيم وغيره أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام، لأنه كتمان وتدليس، وجوز الأكثر التعريض في المخاطبة لغير ظالم بلا حاجة واختار الشيخ وتلميذه أنه تدليس كتدليس المبيع ونص أحمد أنه لا يجوز التدليس مع اليمين فلو حلف: لا يطأ نهار رمضان ثم سافر ووطئ فقال لا يعجبني لأنه حيلة، ومن احتال بحيلة فهو حانث، وذكر ابن حامد وغيره أنه لا تجوز الحيل في اليمين، وأنه لا يخرج منها إلا بما ورد به سمع، كنسيان وإكراه واستثناء، وأنه لا يجوز التحلل لإسقاط

باب الشك في الطلاق

حكم اليمين، ولا تسقط، واستدلوا بلعن المحلل، حتى قال الشيخ ومن أخذ ينظر بعد الطلاق في صفة عد لنكاح فهو من المعتدين فإنه يريد أن يستحل محارم الله قبل الطلاق وبعده، وغالب هذا الباب مبني على التخلص مما حلف عليه بالحيل والمذهب أن الحيل لا يجوز فعلها ولا يبرأ بها ولا يخرج منمها إلا بنسيان أو إكراه ونحوه. باب الشك في الطلاق الشك هو التردد بين أمرين لا ترجيح لأحدهما على الآخر، وهو هنا مطلق التردد بين وجود المشكوك فيه من طلاق أو عدده وعدمه، فيدخل فيه الظن والوهم. (تقدم) في باب سجود السهو (حديث) أبي سعيد عند مسلم وغيره (فليطرح الشك) وفي لفظ لأحمد فليلق الشك، أي يرم به ولا يعبأ به (وليبن على ما استيقن يعن من صلاته وجاء فليتحر الصواب وقوله - صلى الله عليه وسلم - «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وقوله «لا ينصرف أحدكم حتى يسمع صوتًا أو يحد ريحًا» فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على أن من شك في طلاق لم يلزمه الطلاق، لأن النكاح متقين فلا يزول بالشك، ولأنه لم يعارض يقين النكاح إلا شك محض فلا يزول النكاح به، وهذا قول جمهور العلماء. وكذا من شك في شرط الطلاق الذي علق عليه وجوديًا كان أو عدميًا لم يلزمه الطلاق، ومن شك في عدد الطلاق بني

على اليقين، فإن شك في الثانية فواحدة، أو في الثالثة فثنتان قال ابن القيم وغيره لأن النكاح متيقن فلا يزول بالشك، وهو الصحيح وقول الجمهور، وقال متى وقع الشك في وقوع الطلاق فالأولى استبقاء النكاح، بل يكره أو يحرم إيقاعه لأجل الشك، فإن الطلاق بغيض إلى الرحمن حبيب إلى الشيطان، وأيضًا دوامه آكد من ابتدائه كالصلاة. (وقال علي) بن أبي طالب رضي الله عنه (في رجل له أربع نسوة طلق إحداهن) ولا تعرف عينها منهن (ثم مات) المطلق لإحدى نسائه (لا يدري الشهود) الذين أشهدهم على الطلاق (أيتهن طلق) من الأربع (أقرع بين الأربع) لتعين بالقرعة (وأمسك منهن واحدة) تعينت بالقرعة (ويقسم بينهن الميراث) وقال أحمد في رجل له نسوة طلق إحداهن ولم تكن له نية في واحدة بعينها يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فهي المطلقة، وكذلك إن قصد إلى واحدة بعينها ونسيها وإن كان نوى معينة طلقت بلا خلاف. قال: والقرعة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد جاء بها القرآن فهي طريق شرعي لإخراج المجهول، فقد جعل الله طريقًا إلى الحكم الشرعي في كتابه، وفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بها، وحكم بها علي في هذه المسألة، قال ابن القيم: وكل قول غير القول بها فإن أصول الشرع وقواعده ترده فإن التعيين إذا لم يكن لنا سبيل إليه بالشرع فوض إلى القضاء، والقدر، وصار

باب الرجعة

الحكم به شرعيًا قدريًا. شرعيًا في فعل القرعة، قدريًا فيما تخرج به، وذلك إلى الله، وقال فإن الحق إذا كان لواحد غير معين فإن القرعة تعينه، فهي دليل من أدلة الشرع اهـ وإن طلق إحدى امرأتيه ونوى معينة طلقت المنوية، وإلا من قرعت وإن تبين أن المطلقة غير التي قرعت ردت إليه ما لم تتزوج، أو تكن القرعة بحاكم، ما لم تشهد بذلك بينة، فترد إليه، لأن حكم الحاكم لا يغير الشيء عن صفته باطنًا. باب الرجعة الرجعة إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد نكاح، بشرط الدخول والخلوة بها، وكون الطلاق عن نكاح صحيح، وكونه دون ما يملك، وكونه بلا عوض، فإن فقد بعضها لم تصح. (قالت تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} خاطبه الله تشريفًا له، ثم خاطب الأمة تبعًا فقال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} أي إذا أردتم تطلقهن {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن، وفي قراءة (في قبل عدتهن) وتقدم أمره ابن عمر لما طلق امرأته حائضًا أن يراجعها، فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك، وقرأ {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فلا يطلقها وهي حائض ولا في طهر قد جامعها فيه {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أي احفظوها واعرفوا ابتدائها وانتهاءها، لئلا تطول العدة على المرأة فتمتنع من الأزواج.

{وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ} أي في ذلك ثم قال {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} أي في مدة العدة لها حق السكنى والنفقة على الزوج ما دامت مقيدة منه، فليس للرجل أن يخرجها، ولها النفقة والكسوة فهي زوجة يملك منها ما يملكه ممن لم يطلقها، إلا أنه لا قسم لها (ولا يخرجن) أي لا يجوز لهن أن يخرجن من بيوتهن ما لم تنقض العدة، فإن خرجت لغير ضرورة أو حاجة أثمت {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة فتخرج من المنزل، والفاحشة تشمل الزنى والنشوز والبذاء على أهل بيت الرجل، فيحل إخراجها (وتلك حدود الله) يعني ما ذكر من سنة الطلاق وما بعده إلى قوله {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي إذا بلغت المعتدات أجلهن أي شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك، ولم تفرغ العدة بالكلية. {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي راجعوهن بمعروف محسنين إليهن في صحبتهن وذلك قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} يعني الرجعة {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن، فيبن منكم من غير مقابحة ولا مشاتمة {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي على الرجعة إذا عزمتم عليها وعلى الطلاق، أمر منه تعالى بالإشهاد حتى قيل بوجوبه وجعله بعضهم شرطًا، فتبطل إن أوصى الشهود بكتمانه، قال الشيخ ولا تصح الرجعة مع الكتمان بحال، وقال أحمد: يفرق بينهما ولا رجعة له عليها، فيلزم إعلان الرجعة والإشهاد كالنكاح

والجمهور أنه سنة لأن الرجعة لا تفتقر إلى قبول ولا إلى ولي ولا صداق ولا رضي المرأة ولا علمها، وأجمعوا على مشروعيته، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلهِ} أيها الشهود {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي هذا الذي أمرناكم به إنما يأتمر به من يؤمن بالله واليوم الآخر، وأنه شرعه {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا *}. (وقال) تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} أي تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ثم تتزوج إن شاءت، واستثنى أهل العلم الأمة لأنها على النصف من الحرة فتمكث قرءين {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} أي لا يحل للمطلقات كتمان {مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} من حيض أو حمل وهو يريد أن يراجعها لتبطل حق الزوج من الرجعة والولد، وجعلها تعالى مؤتمنة على ذلك، ما لم تأت من ذلك ما يعرف به كذبها. قال تعالى: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} تهديد لهن على خلاف الحق، وفيها أن المرجع إليهن في ذلك لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن، ويتعذر إقامة البينة عليه غالبًا، فرد الأمر إليهن وتعودهن فيه، لئلا يخبرن بغير الحق، إما استعجالا لانقضاء العدة أو رغبة في بطئها. {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} أي أولى برجعتهن في

حال العدة بوطئها مع نية الرجعة، أو بلفظ راجعت امرأتي ونحوه، ما لم يغتسل من الحيضة الثالثة، وإن ادعت انقضاء عدتها في زمن يمكن انقضاؤها فيه أو بوضع الحمل الممكن وأنكره فقولها، وإلا فلا بد من بينة {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} أي إن كان مرادهم بردها الإصلاح والخير، قال الشيخ: لا يمكن من الرجعة إلا من أراد إصلاحًا وإمساكًا بمعروف، وهذا في الرجعيات، وأما من طلق في نكاح فاسد أو خالع بعوض أو طلق قبل الدخول والخلوة فلا. ونفى تعالى الإضرار عما كانوا يفعلونه في الجاهية من تطويل العدة، وذكر تعالى ما لهن وما عليهن بالمعروف وتقدم (إلى قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أي إذا راجعها فعليه أن يمسكها بالمعروف، والمعروف كل ما يعرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أي فيتركها حتى تنقضي عدتها وقبل الطلقة الثالثة فتبين منه ويطلق سراحها محسنًا إليها، لا يظلمها من حقها شيئًا ولا يضار بها، كما كانوا يفعلونه في الجاهلية يطلق أحدهم ثم يراجع لا يؤويها ولا يفارقها. ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي إن طلق الرجل زوجته طلقة ثالثة بعدما أرسل عليها الطلاق مرتين {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} أي من بعد الثلاث بل تحرم عليه {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أي حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح، قال العلماء كل موضع

في القرآن ذكر فيه النكاح فالمراد به العقد، إلا هذه الآية، فالمراد به الوطء، واتفقوا على أنه شرط في جواز عودها إلى الأول، وأنه إنما يقع الحل في الوطء في النكاح الصحيح، وأنه إن كان الوطء في النكاح الفاسد فاتفقوا كلهم على أن الإباحة لا تحصل به، لأن النكاح الفاسد لا اثر له في الشرع، فلا يدخل في قوله تعالى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}. وقال الشيخ النكاح الذي يبيحها له الذي يقران عليه بعد الإسلام، والمجيء به إلينا للحكم صحيحًا، فعلى هذا يحلها النكاح بلا ولي ولا شهود، وكذا لو تزوجها على أختها ثم ماتت الأخت قبل مفارقتها فأما لو تزوجها في عدة أو على أختها ثم طلقها مع قيام المفسد فموضع نظر، فإن هذا النكاح لا يثبت به التوارث، ولا نحكم فيه بشيء من أحكام النكاح فينبغي أن لا تحل له اهـ وإن وطئ في حال الحيض أو الإحرام وقع الحل عند الجمهور أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ} أي هذه أوامر الله ونواهيه، وحدود الله ما منع الشرع من مجاوزته {فَلَا تَعْتَدُوهَا} أي فلا تجاوزها {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *}. وحكى ابن المنذر وغيره إجماع أهل العلم على أن الحر إذا طلق دون الثلاث والعبد دون اثنتين أن لهما الرجعة في العدة وحكاه الوزير وغيره اتفاق أهل العلم، وأنه إذا طلق الحر زوجته ثلاثًا لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وإذا طلق العبد

اثنتين فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، ومن ادعت مطلقته ثلاثًا نكاح من أحلها وانقضاء عدتها منه وأمكن قبل، وإن لم يمكن فقال شيخ الإسلام: من كان لها زوج وادعت أنه طلقها لم تتزوج بمجرد دعواها باتفاق المسلمين. (وعن عمر) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة) هي بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين رضي الله عنهما روي أنه لما بلغ عمر هذا الخبر اهتم له، فأوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - راجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وهي زوجتك في الجنة (ثم راجعها) - صلى الله عليه وسلم - (رواه أبو داود) ورواه النسائي وابن ماجه وغيرهم، فدل الحديث على مشروعية الرجعية (وتقدم) قريبًا في موضعين حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما طلق امرأته وهي حائض قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر (مره فليراجعها) فدل على مشروعية المراجعة إذا طلق الرجل امرأته حائضًا حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر "ثم ليطلقها إن شاء طاهرًا أو حاملاً أو يمسكها". (وعن عائشة أن امرأة رفاعة) القرظي سمتها امرأة باعتبار ما كان أولاً أو لاشتهارها بها وروي أنها تميمة بنت وهب (وكان طلقها آخر ثلاث تطليقات) وللترمذي وغيره، طلقني فبت طلاقي، يعني جزم البتة ولم يبق من الثلاث شيئًا وتقدم أنها تحرم عليه حتى تنكح زوجًا غيره (فتزوجت بابن الزبير) بفتح الزاي بن باطيًا القرظي (قالت والله يا رسول الله ما معه إلا مثل

هدبة الثوب) بفتح الهاء وضمها وسكون المهملة طرف الثوب الذي لم ينسج منه، أرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار. (قال: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة) القرظي (لا) أي لا ترجعين إليه «حتى تذوقي» يعني المرأة المطلقة ثلاثًا «عسيلته» بالتصغير أي لذة جماع الزوج الثاني «ويذوق عسيلتك» أي لذة جماعها (متفق عليه) وهو حديث مشهور وقع الإجماع عليه. قال أهل العلم ذو العسيلة كناية عن الجماع، وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة، والعرب تسمي كل شيء تستلذه عسلاً، ولأحمد والنسائي وغيرهما عن عائشة مرفوعًا «العسيلة هي الجماع» وعن ابن عمر: سئل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يطلق امرأته ثلاثًا ويتزوجها آخر فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها هل تحل للأول؟ قال: «لا حتى يذوق عسيلته» رواه أحمد والنسائي، وقال: قال: «لا تحل للأول حتى يجامعها الآخر». وفيه أحاديث أخر نحو هذا، وهو مذهب جمهور العلماء وقالوا يكفي ما يوجب الحد، ويحصن الشخص ويوجب كمال الصداق، ويفسد الحج والصوم، فدل الحديث وما في معناه أنه لا بد فيمن طلقها زوجها ثلاثًا ثم تزوجها زوج آخر من الوطء في الفرج، فلا تحل للأول إلا بعده، قال ابن المنذر وغيره أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول إلا سعيد بن المسيب

ولم يوافقه إلا طائفة من الخوارج، ولعله لم يبلغه الحديث، واشترطوا أن لا يكون في ذلك مخادعة من الزوج الثاني ولا إرادة تحليل للأول. ومن طلق دون ما يملك ثم راجع لم يملك من الطلاق أكثر مما بقي له إجماعًا، ولو وطئها زوج غيره، لأنه غير محتاج إليه في الإحلال فلم يغير حكم الطلاق. (وسئل عمران بن حصين) رضي الله عنه (عن الرجل يطلق ثم يراجع) أي يطلق امرأته ثم يقع بها، أي يجامعها للرجعة، هذا لفظه (ولا يشهد) أي على رجعتها (فقال: طلقت) أي امرأتك (لغير سنة) أي إشهاد (وراجعت لغير سنة) أي إشهاد (أشهد على طلاقها ورجعتها) ولا تعد (رواه أبو داود) ورواه ابن ماجه وغيرهما ولم يقل ولا تعد. ورواه البيهقي والطبراني وزاد واستغفر الله، وسنده صحيح، واستدل به بعضهم على وجوب الإشهاد على الرجعة، والجمهور أنه مستحب لوقوع الإجماع على عدم وجوبه في الطلاق، والرجعة قرينته، فلا يجب فيها كما لا يجب فيه، إلا أنه يتأكد في الرجعة للآية وهذا الخبر وغير ذلك وخروجًا من الخلاف.

باب الإيلاء

باب الإيلاء الإيلاء لغة الحلف، وشرعًا الامتناع باليمين من وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر، بشرط أن يكون ممن يمكنه الوطء، وأن يحلف بالله، أو صفة من صفاته، وأن يكون على ترك الوطء في القبل، وأن يحلف على أكثر من أربعة أشهر وأن تكون ممن يمكن وطؤها، وهو محرم في ظاهر كلام الأصحاب لأنه يمين على ترك واجب. (قال تعالى: {لِلَّذِينَ} أي للأزواج الذين {يُؤْلُونَ} أي يحلفون والألية اليمين {مِنْ نِسَائِهِمْ} أي يحلف أحدهم على ترك وطء زوجته مدة تزيد على أربعة أشهر {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} أي إن حلف أن لا يجامع زوجته أكثر من أربعة أشهر فلا يتعرض له قبل مضيها، وبعد مضيها يوقف ويؤمر بالفيء أو الطلاق بعد مطالبة المرأة، وهذه الآية نزلت لإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من إطالة مدة الإيلاء، فإنه كان الرجل يولي من امرأته السنة والسنتين، فأبطل الله ذلك، وانظر المولي أربعة أشهر فإما أن يفيء وإما أن يطلق. قال تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا} أي رجعوا عن اليمين بالوطء {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} عما جناه من التقصير في حقهن بسبب اليمين، فهو محظور وعليه كفارة يمين عند الجمهور، وإن كان يمينه أقل من أربعة أشهر فله أن ينتظر انقضاء المدة، ثم يجامع، وعليها أن تصبر وليس لها مطالبتها بالفيئة في هذه المدة، لما ثبت في

الصحيحين وغيرهما أنه - صلى الله عليه وسلم - «آلى من نسائه شهرًا فنزل لتسع وعشرين» وهو مذهب الجمهور {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} أي فإن حلف لا يجامع زوجته أكثر من أربعة أشهر ولم يفيء بل عزم وحقق إيقاع الطلاق وقع، فإنه بعد مضي الأربعة يوقف إما أن يفيء وإما أن يطلق، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور المتأخرين، وأنه لا يقع عليها الطلاق، بمجرد مضي الأربعة قال تعالى: {فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لقولهم {عَلِيمٌ} بنياتهم، وفيه أنها لا تطلق إلا بقول يسمع. فدلت الآية: على أن من آلى من زوجته أكثر من أربعة فإن فاء وإلا طلق، وقال الوزير وغيره، اتفقوا على أنه إذا حلف بالله أن لا يجامع زوجته أكثر من أربعة أشهر كان موليًا فإن حلف أن لا يقربها أقل من أربعة أشهر لم يتعلق به أحكام الإيلاء، وإذا حلف أن لا يقربها أربعة أشهر فقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه لا يكون موليًا، يعني لا يوقف إلا بعد مضي الأربعة. (وعن عائشة) رضي الله عنها (قالت آلى) أي حلف (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) على ترك وطء نسائه شهرًا واعتزلهن، فلذا قالت آلى (من نسائه وحرم) أي حرم مارية أو شرب العسل، وهو في الصحيحين (فجعل الحرام حلالاً) لأن كل حلال حرم لم يحرم، وعن ابن عباس أقسم أن لا يدخل عليهن شهرًا (وجعل في اليمين الكفارة) وهي كفارة اليمين لما تقدم من الآية (رواه

الترمذي) ورجح إرساله، وقال الحافظ رجاله ثقات. وتقدم أنه حرم مارية أو العسل، وقال: "ما حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يمين" وتقدم أن الإيلاء: هو الحلف بالله، أو صفة من صفاته، فلا إيلاء بحلف بنذر أو عتق أو طلاق ونحوه، ولا بحلف على ترك وطء سريته ونحو رتقاء، ويصح من كل من يصح طلاقه من مسلم وكافر وقن وبالغ ومميز وممن لم يدخل بها. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال إذا مضت أربعة أشهر) ممن حلف على مدة تزيد عليها فهو مول (يوقف المولي) أي يطالب بأحد أمرين حتى يفيء أو (حتى يطلق ولا يقع الطلاق حتى يطلق) فلا يقع الطلاق بمضي المدة (رواه البخاري وهذا الحديث كالتفسير للآية التي هي الأصل في حكم الإيلاء (وذكره) أي ذكر البخاري أنه يذكر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة وأثنى عشر رجلاً فالمعنى (عن بضعة عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) والبضعة بكسر الباء ما بين الثلاثة إلى التسعة، فذكره عن ستة عشر، وقال سليمان بن يسار أدركت بضعة عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يقفون المولي، ونحوه عن أبي صالح. وقال أحمد بن حنبل قال عمر وعثمان وعلي وابن عمر يوقف المولي بعد الأربعة فإما أن يفيء وإما أن يطلق، وهذا مذهب جماهير أهل العلم، وهو ظاهر الآية وإن لم يفيء بوطء

باب الظهار

من آلى منها ولم تعفه ولم يطلق أمره الحاكم بالطلاق إن طلبت ذلك منه. ويطلق عليه واحدة أو يفسخ لقيامه مقام المولي عند امتناعه، قال الشيخ: وإن لم يفيء وطلق بعد المدة أو طلق الحاكم عليه لم يقع إلا طلقة رجعية، وهو الذي يدل عليه القرآن ونص عليه أحمد، وإن ادعى بقاء المدة أو أنه وطئها وهي ثيب صدق مع يمينه، وإن كانت بكرًا أو ادعت البكارة وشهدت بذلك امرأة عدل صدقت، وإن ترك وطأها إضرارًا بها بلا يمين ولا عذر فكمول، أو ظاهر ولم يكفر ضرب له أربعة أشهر، فإن فاء وإلا أمر بالطلاق، وإن كان بأحدهما عذر أمر أن يفيء بلسانه ثم متى قدر وطئ أو طلق. باب الظهار أي باب ما يذكر من حكم الظهار وكفارته، وما يتعلق بذلك، والظهار مشتق من الظهر لقول القائل أنت علي كظهر أمي، وخص بالظهر لأنه موضع الركوب، وشبهت الزوجة بذلك لأنها مركب الرجل، ويصح ظهار زوج يصح طلاقه، مسلم أو كافر أو قن من كل زوجة معجلاً ومعلقًا بشرط ومؤقتًا، والأصل في الظهار الكتاب والسنة والإجماع. (قال تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} أي يقول أحدهم لامراته أنت علي كظهر أمي أو مثل أمي وما أشبه ذلك {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} أي ما اللواتي يجعلونهن من زوجاتهم كالأمهات، لسن كأمهاتهم {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ} أي ما أمهاتهم {إِلَّا

اللائِي وَلَدْنَهُمْ} أي لا تصير أمه بقوله أنت كأمي ونحو ذلك إنما أمه التي ولدته. {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ} أي المظاهرون من نسائهم {مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} أي كلامًا فاحشًا باطلاً لا يعرف في الشرع، بل كذبًا بحتًا وحرامًا محضًا منكرًا من القول في الإنشاء، وزورًا في الخبر أبطله الشارع وجعله منكرًا لأنه يقتضي تحريم ما لم يحرمه الله، وزورًا لأنه يقتضي أن تكون زوجته مثل أمه، وهذا باطل وذكر بعض أهل العلم أنه إذا قال لامرأته أنت علي حرام فهو ظهار. قال ابن القيم: لما صح عن ابن عباس وابي قلابة وسعيد بن جبير وغيرهم، ومذهب أحمد وغيره، وذلك لأن الله تعالى جعل التشبيه بمن تحرم عليه ظهارًا، فالتصريح منه بالتحريم أولى، وذكر أقوالاً، وقال هذا أقيس الأقوال، ويؤيده أن الله لم يجعل للمكلف التحليل والتحريم بل ذلك إليه تعالى، وإنما جعل له مباشرة الأقوال والأفعال التي يترتب عليها التحليل والتحريم، فإذا قال أنت علي كظهر أمي أو أنت علي حرام فقد قال منكرًا من القول وزورًا، وكذب علي الله فإن الله لم يجعلها عليه كظهر أمه، ولا جعلها عليه حرامًا. فقد أوجب بهذا القول المنكر والزور أغلظ الكفارتين وهي كفارة الظهار، وقال الموفق: أكثر الفقهاء على أن التحريم إذا لم ينوبه الظهار فليس بظهار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي {وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ *} عفا عنهم وغفر لهم

بإيجاب الكفارة عليهم، نزلت هذه الآية في خولة وأوس بن الصامت، وكان الظهار طلاقًا في الجاهلية، فاستفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: كنت عنده وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه دخل عليها يومًا فراجعته بشيء فغضب، فقال أنت علي كظهر أمي، ثم أرادها فامتنعت منه، وأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته. فأنزل الله في حكمها صدر هذه السورة {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قال أحمد ومالك وغيرهما من السلف هو أن يعود المظاهر إلى الجماع، فيحرم قبل أن يكفر، أو يعزم عليه، فلا تحل له حتى يكفر بما ذكر الله في هذه الآية، وكذا قاله غير واحد من أهل التفسير هو أن يعودوا إلى الجماع الذي قد حرموه على أنفسهم فإن وطئ فيه كفر لظهاره. قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي إعتاق رقبة كاملة مؤمنة كما في الآية الأخرى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} المراد بالمماسة هنا الجماع فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر، سواء أراد التكفير، بالإعتاق أو لم يجد فكفر بالصيام أو لم يستطع فكفر بالإطعام، وهذا مذهب جمهور العلماء وحكاه الوزير اتفاقًا. وأنه لا يحرم سوى الوطء في الفرج، قال ابن رشد يحرم عليه الوطء، وقال الجمهور لا يحرم ما عداه، وإن جامع قيل التكفير عصى الله تعالى والكفارة في ذمته ولا يجب عليه كفارة ثانية، ورتب تبارك وتعالى الكفارة فقدم تحرير الرقبة، ولا تلزم

إلا من ملكها أو أمكنه ذلك بثمن مثلها فاضلاً عن كفايته ومن يمونه، وما يحتاجه كما في الحج، ولا يجزئ إلا رقبة مؤمنة، كما في كفارة القتل ولما سأل معاوية السلمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إعتاق جارية عن الرقبة التي عليه لم يستفصل، وقال لها «أين الله» قالت في السماء قال: «من انا» قالت أنت رسول الله، قال: «اعتقها فإنها مؤمنة». قال الشيخ المراد مطلق الإيمان، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأن تكون سليمة من عيب يضر بالعمل ضررًا بينًا، وتجب النية في التكفير فلا يجزئ ع تق ولا صوم ولا إطعام إلا بنية {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي تزجرون به {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي بما يصلحكم عليم بأحوالكم {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} أي الرقبة أو كان له رقبة، إلا أنه محتاج إلى خدمته أو له ثمن رقبة لكن محتاج إليه لنفقته ونفقة عياله. {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} فإن تخلله رمضان أو فطر يجب كعيد وأيام تشريق وحيض ونفاس وجنون ومرض مخوف ونحوه، أو أفطر ناسيًا أو نكرهًا أو أفطر لعذر يبيح الفطر لم ينقطع التتابع، لأنه فطر لسبب لا يتعلق باختياره. وإن أصاب المظاهر منها ليلاً أو نهارًا انقطع التتابع، هذا مذهب الجمهور أبي حنيفة، ومالك وأحمد، وقال الشافعي، إن وطئ نهارًا، وصحح الوزير أن الوطء في هذه المدة عمدًا سواء كان ليلاً أو نهارًا يوجب الاستئناف بنص القرآن وهو قوله تعالى {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} وعن أحمد إن وطئ ناسيًا لا

يفطر ولا ينقطع التتابع وهو قول الشافعي وابن المنذر وظاهر اختيار الشيخ لأنه فعل المحظور ناسيًا أشبه ما لو أكل ناسيًا {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي يجامعها وظاهر الآية وكذا الأحاديث أن حكم العبد حكم الحر في ذلك، وحكي الإجماع على أنه إذا ظاهر لزمه وأن كفارته بالصيام شهران، وقال مالك إن أذن له سيده بالإطعام أجزأ. {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} الصوم لمرض أو فرط شهوة لا يصبر عن الجماع (فـ) يجب عليه {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} ويجزئه إجماعًا لكل مسكين مدبر أو نصف صاع من غيره عند الجمهور لكل واحد ممن يجوز دفع الزكاة إليه لحاجتهم، واقتصر ابن القيم على الفقراء والمساكين لنص القرآن، واختار الشيخ، أن ما يُخرج في الكفارة المطلقة غير مقدر بالشرع بل العرف قدرًا أو نوعًا من غير تقدير ولا تمليك، وهو قياس مذهب أحمد في الزوجة والأقارب والمماليك والضيف والأجير والمستأجر بطعامه إن كان يطعم أهله بإدام وإلا فلا، وعادة الناس تختلف في ذلك في الرخص والغلاء واليسار والإعسار، وتختلف بالشتاء والصيف اهـ. فكفارة الظهار على الترتيب وهو إجماع، فلو أعسر موسر قبل التكفير لم يجزئه صوم وتبقى الرقبة في ذمته، ولو أيسر معسر لم يلزمه عتق ويجزئه، فلو شرع في الصيام ثم وجد الرقبة فمذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد لا يلزمه الخروج منه

والعتق، وقال مالك إن كان قد مضى فيه {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا} أي لتصدقوا {بِاللهِ وَرَسُولِهِ} في قبول ما أتى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الله عز وجل {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ} يعني ما وصف لكم محارمه فلا تعتدوها والكفارات في لظهار فلا تتركوها فدلت الآية على وجوب الكفارة إن وطئ قبل فراغ المدة، وأنه يلزم إخراجها قبله عند العزم عليه، ولا تثبت في الذمة إلا بالوطء، ولا تجب قبله، وإنما يؤمر بها من أراده ليستحله. (وعن خولة) بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنها (قالت ظاهر مني) زوجي (أوس) بن الصامت (فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشكو إليه ويجادلني) فيه ويقول: «اتقي الله فإنه ابن عمك» فما برحت حتى نزل القرآن وكان الظهار في الجاهلية طلاقًا فحلفت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ما ذكر طلاقًا، «فقال حرمت عليه» فقالت: أشكو إلى الله، وجعلت تراجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترفع رأسها إلى السماء. وتشكو إلى الله ما نزل بها. وأبي صبيتها وفي بعض أخبارها تقول أشكو فاقتي وشدة حالي وأن لي صبية صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوًا وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع رأسها وتقول. اللهم إني أشكو إليك (حتى نزلت) {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} أي تخاصمك وتحاورك وتراجعك في شأنه، وما نزل به {وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} مراجعتكما الكلام {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ} لما تناجيه {بَصِيرٌ} بمن يشكو إليه.

قالت عائشة تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها إن المرأة لتحاور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفي علي بعضه وهي تشتكي إلى الله وتقول: أكل مالي وافنى شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، حتى أنزل الله {قَدْ سَمِعَ اللهُ} الآيات (قال يعتق رقبة) وفي رواية «يحرر رقبة» (قلت لا يجد) أي ما يعتق به رقبة (قال فيصوم شهرين متتابعين) ففيه وجوب التتابع في الصيام (قلت إنه شيخ كبير) أي لا يطيق الصيام فسرت ذلك بقولها (ما به من صيام) أي ليس فيه قوة على الصيام. (قال: {فيطعم ستين مسكينًا} كفارة لظهاره (قلت ما عنده من شيء) أي يطعم به ستين مسكينًا (فأتي) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (بعرق) بفتحتين هو السفيفة المنسوجة من الخوص أو الزنبير، ويقال له المكتل يسع نحوًا من خمسة عشر صاعًا، كما جاء عن أبي سلمة وصححه الترمذي وعن سليمان بن يسار وغيرهما وهو مذهب أحمد وغيره، والمشهور عرفًا، فيكون لكل مسكين مد. (فقلت سأعينه بآخر) قال قد أحسنت أي في تلك الإعانة (قال فأطعمي بها عنه ستين مسكينًا) كفارة لظهاره (وارجعي إلى ابن عملك رواه أبو داود) وأحمد والترمذي وحسنه وصححه الحاكم وتكلم فيه بعضهم، ولأبي داود عن عروة أن جميلة كانت تحت أوس وكان به لمم فإذا اشتد لممه ظاهر من

امرأته فنزلت الآية وله عن عائشة نحوه. (وعن سلمة بن صخر) البياضي وبنو بياضة بطن من بني زريق من ولد جشم بن الخزرج الأنصاري رضي الله عنه (قال دخل رمضان) قال: وكنت امرءًا أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، كناية عن كثرة شهوته (فخشيت أن أصيب امرأتي) وقال يتابع بي حتى أصبح، أي يلازمين ملازمة الشر، والتتابع الوقوع في الشر من غير فكر (فظاهرت منها) أي قال هي كظهر أمي حتى ينسلخ شهر رمضان، ففيه أن الظهار المؤقت كالمطلق، وإن كان دون أربعة أشهر له حكمه إذا أصابها قبل انقضاء المدة. (فانكشف لي شيء منها) وفي لفظ فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء (فوقعت عليها) أي جامعها وفيه فما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر، وقلت امشوا معي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: لا والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا قرآن، أو يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيا مقالة يبقى فينا عارهًا، ولكن اذهب أنت، فانطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: «أنت بذاك أنت بذاك» ثلاثًا، ثم قلت نعم ها أنا فأمض في حكم الله فأنا صابر له (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «حرر رقبة» وفي لفظ «اعتق رقبة» ظاهره صغيرًا كان أو كبيرًا ذكرًا أو أنثى إلا ما يمنع دليل الإجماع منه.

(فقلت) والذي بعثك بالحق (ما أملك إلا رقبتي) ما أملك رقبة غيرها، وضربت صفحة رقبتي بيدي (قال: فصم شهرين متتابعين قلت، وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام) أي بسبب الصيام (قال أطعم فرقًا من تمر) وفي لفظ «وسقا من تمر» والوسق ستون صاعًا وفي رواية «عرقا من تمر» وتقدم أنه: خمسة عشر صاعًا، وأمره أن يطعم {سِتِّينَ مِسْكِينًا} قال: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين أي جائعين ما لنا طعام، قال: "فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فاطعم ستين مسكينًا وسقًا من تمر، وكل أنت وعيالك بقيتها". فرجعت إلى قويم فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم (حسنه الترمذي) وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن خزيمة والحاكم، وظاهرها أن حكم العبد حكم الحر في ذلك ونقل ابن بطال الإجماع على أن العبد إذا ظاهر لزمه وأن كفارته بالصيام شهران كالحر وأجمعوا على أن الكفارة في الظهار على الترتيب وفيه أنها لا تسقط لأنه أعانة بما يكفر به. (وللخمسة) وغيرهم من طرق (وصححه) أي الترمذي (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (أن رجلاً ظاهر من امرأته) وفي رواية فرأى بريق ساقها في القمر وفي لفظ بياض ساقها في

باب اللعان

القمر (ثم وقع عليها) جامعها بعد ظهاره منها (فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يسأله عما فعل معها (فقال إني وقعت عليها قبل أن أكفر) أي كفارة الظهار (قال فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به) وفي رواية فأمره أن يكفر، وفي رواية "فاعتزلها حتى تكفر" أي عن ظهارك. ودل الحديث على أنه يحرم وطء الزوجة المظاهر منها قبل التكفير، وهو إجماع ولما تقدم من قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ولو وطئ ولم يسقط التكفير، ولا يتضاعف لقوله «حتى تكفر» ولما رواه الترمذي وابن ماجه من حديث سلمة في المظاهر يواقع قبل أن يكفر قال: "كفارة واحدة، قال الترمذي والعمل عليه عند أكثر أهل العلم وقال ابن دينار سألت عشرة من الفقهاء عن المظاهر يجامع قبل التكفير فقالوا كفارة واحدة، وهو قول الأئمة الأربعة وغيرهم من الفقهاء، ودل على ثبوت الكفارة في الذمة. باب اللعان من اللعن لأن الملاعن يلعن نفسه في الخامسة وقيل لأن اللعن الطرد والإبعاد وهو مشترك بينهما، واللعان شهادات مؤكدات بأيمان من الجانبين مقرونة بلعنة وغضب، ويشترط كونه بين زوجين مكلفين وسبق قذفه منها بزنى، وأن تكذبه وأن يستمر إلى انقضاء اللعان، وأن يكون بحكم حاكم، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.

(قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}) أي يقذفون نساءهم ويعسر على أحدهم إقامة البينة، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} يشهدون على صحة ما قالوا {إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} أي غير أنفسهم فلهم إسقاط الحد باللعان {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} التي تدرأ عنه الحد إذا قذف امرأته {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ} أي يشهد أربع شهادات بالله بأن يقول: أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه وذلك في مقابلة أربعة شهداء {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} أي فيما رماها به من الزنى وعند الشيخ وغيره أنه لا يلزم قول فيما رماها به وهذا فرج من الله للأزواج إذا قذف أحدهم زوجته وعسر عليه إقامة البينة لنفي الولد وإسقاط الحد عنه أن يلاعنها كما أمر الله وقدم لأن جانبه أرجح من جانب المرأة قطعًا فإن إقدامه على إتلاف فراشه ورميها بالفاحشة على رءوس الأشهاد وتعريض نفسه لعقوبة الدنيا والآخرة مما تأباه طباع العقلاء وتنفر عنه نفوسهم لولا أن الزوجة اضطرته بما رآه وتيقنه منها إلى ذلك. وجوز طائفة من العلماء ملاعنة الرجل امرأته إذا رأى رجلاً يعرف بالفجور يدخل عليها ويخرج من عندها نظرًا إلى الأمارات والقرائن، وقال النووي: يجوز مع غلبة الظن بالزنى ومع العلم ويحرم مع عدمها، (والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) أي ويزيد شهادة خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين عليها فيما رماها به من الزنى وحكمه سقوط الحد عنه وبينونتها منه. {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} أي يدفع عنها

الحد {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ} أي ثم تقول هي أربع مرات أشهد بالله {إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} أي عليها فيما رماها به من الزنى، وذلك أن تقول أربع مرات أشهد بالله لقد كذب علي فيما رماني به من الزنى (والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) أي فيما رماها به من الزنى. وذلك أنه حيث لا شاهد له إلا نفسه مكنت المرأة أن تعارض أيمانه بأيمان مكررة مثلها وسن أن يأمر الحاكم من يضع يده على فم زوج وزوجة عند الخامسة ويقول: اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وذكر ابن رشد وغيره أن صفة اللعان عند جماهير العلماء على ما تضمنته ألفاظ الآيات الكريمة وإذا تم اللعان سقط عنه الحد إن كانت محصنة، والتعزير إن كانت غير محصنة بلا نزاع، أو كانت ذمية أو أمة، وثبتت الفرقة بينهما بتحريم مؤبد، وخصها بالغضب لأن المغضوب عليه هو الذي يعرف الحق ويحيد عنه، ولعظم الذنب بالنسبة إليها، واختير في حقه اللعن لأنه قول وهو الذي بدأ به. ويسن تلاعنهما قيامًا لما يأتي، ولأنه أبلغ في الردع بحضرة جماعة لحضور ابن عباس وغيره، فإن نكلت صارت أيمانه مع نكولها بينة قوية لا يعارض لها. قال ابن القيم: والذي يقوم عليه الدليل أن الزوجة تحد وتكون أيمان الزوج بمنزلة الشهود، كما قاله مالك والشافعي، قال: ويحكم بحدها إذا نكلت عن الأيمان، وهو الصحيح وهو الذي يدل عليه القرآن في قوله {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} والعذاب ههنا هو العذاب المذكور في أول السورة، فأضافه أولاً وعرفه، باللام ثانيًا، وهو عذاب واحد، اهـ، وجزم به الشيخ وغيره. وإن قذف الصغيرة أو المجنونة عزر ولا لعان، لأنه أيمان لا تصح من غير مكلف وإن قال وطئت زوجته بشبهة أو مكرهة أو نائمة فلا لعان بينهما، لأنه لم يقذفها بما يوجب الحد، وإن قال لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني فشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال: سأل فلان) وفي رواية رجل من الأنصار وفي حديث ابن عباس هلال بن أمية، وفي لفظ أنه أول من سأل عن ذلك (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة، أي أخبرني عن حكم من يقع له ذلك (كيف يصنع) قاله غيره منه على فساد فراشه، وفي لفظ حديث سهل في قصة عويمر العجلاني لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً كيف يصنع (إن تكلم تكلم بأمر عظيم) وهو قذف زوجته (وإن سكت سكت على مثل ذلك) أي على أمر عظيم. وفي قصة عويمر إن تكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه أو سكت سكت على غيظ (فلم يجبه) وثبت أن سعدًا قال: يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسه حتى أتى بأربعة شهداء قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نعم» قال كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك، فقال: «اسمعوا إلى ما

يقول سيدكم إنه لغيور، وأنا أغير منه والله أغير مني». والجمهور على منع الإقدام على قتله، وقالوا يقتص منه إلا أن يأتي ببينة الزنى، أو يعترف المقتول وأن يكون محصنًا، وقال بعض السلف لا يقتل ويعذر إذا ظهرت أمارات صدقه (فلما كان بعد) أي بعد أيام (أتاه فقال إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله الآيات) وأكثر الروايات وقول الجمهور أن سبب نزول الآيات قصة هلال بن أمية وزوجته، وكانت متقدمة على قصة عويمر، وإنما تلاها عليه لأن حكمها عام للأمة، وفي لفظ فقال اللهم افتح، وجعل يدعو فنزلت آية اللعان، وقيل سنة سبع، وللبخاري وغيره من حديث أنس أن هلالاً لما قذف امرأته بشريك بن سحماء قال - صلى الله عليه وسلم - «البينة أو حد في ظهرك» فنزلت الآية، فدلت الآية والأحاديث على أنه إذا قذف زوجته بالزنى وعجز عن إقامة البينة وجب عليه الحد. وإذا وقع اللعان سقط عنه الحد وهو مذهب الجمهور، والملاعنة من فرج الله له فإنه يلحق بزناها من العار والمسبة وفساد الفراش، وإلحاق ولد غيره به، وغير ذلك ما هو معروف، فهو محتاج إلى قذفها، وتخلصه من العار، وأن لا يكون زوج بغي، ولا يمكنه إقامة البينة على زناها في الغالب، وهي لا تقربه، وقوله عليها غير مقبول، فلم يبق سوى تحالفهما بأغلظ الأيمان، وتأكيدها بدعائه على نفسه باللعنة، ودعائها على نفسها

بالغضب إن كانا كاذبين، ثم يفسخ النكاح وينتفي هو من الولد. (فتلاهن) أي آيات اللعان المتقدمة عليه (ووعظه) ولأبي داوود وغيره عن ابن عباس فذكرهما (وذكره) والعطف هنا عطف تفسير إذ الوعظ هو التذكير (وأخبره أن عذاب الدنيا) وهو الحد (أهون من عذاب الآخرة) الموعود به في قوله تعالى {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وفي حديث أنس «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب» (قال والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها أي فيما رماها به من الزنى (ثم دعاها فوعظها كذلك) كما وعظ الرجل وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة (قالت والذي بعثك بالحق إنه لكاذب) أي عليها فيما رماها به من الزنى. (فبدأ بالرجل) فقال: «قم فاشهد أربع شهادات بالله إنك من الصادقين» (فشهد أربع شهادات بالله) إنه لمن الصادقين فدل الحديث على أنه يبدأ به كما تقدم في الآية الكريمة وهو قياس الحكم الشرعي، لأنه المدعي، وأجمعوا على أن تقديمه سنة، والجمهور على وجوبه لخبر "البينة وإلا حد في ظهرك" فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين (ثم ثَنى بالمرأة) "فشهدت أربع شهادته بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وفي حديث أنس فلما كانت عند الخامسة وقفوها

فقالوا إنها موجبة، فلتكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفصح قومي سائر اليوم، فالمعتبر التصريح لا الدلالات الظنية ولا الشبه (ثم فرق بينهما رواه مسلم). فدل الحديث كالآيات على صفة اللعان، ودل على أن الفرقة بينهما لا تقع إلا بتفريق الحاكم وهو مذهب كثير من العلماء لا بنفس اللعان، والجمهور أن الفرقة تقع بنفس اللعان كما في صحيح مسلم من قوله - صلى الله عليه وسلم - «ذاكم التفريق بين كل متلاعنين» وقوله الآتي «لا سبيل لك عليها» ولأبي داود عن ابن عباس «وقضى أن ليس عليه قوت ولا سكنى» من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق، وهو ظاهر في أن الفرقة وقعت بينهما بنفس اللعان. (ولهما عنه) أي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا سبيل لك عليها» أي لا ملك لك عليها، ولا يجوز لك أن تكون معها، بل حرمت عليك أبدًا، وهذا إبانة للفرقة بينهما كما تقدم (قال: مالي) يريد به الصداق الذي سلمة إليها، يعني إذا حصلت الفرقة فأين ذهب ما أعطيتها من المهر (قال: إن كنت صدقت عليها) فيما رميتها به (فهو بما استحللت من فرجها) أي فالمهر في مقابلة وطئك إياها (وإن كنت كذبت عليها) فيما رميتها به (فذلك أبعد لك منها) أي فأيضًا مهرك في مقابلة وطئك إياها، كما لو صدقت فعود المهر إذا كنت كذبت عليها أبعد، لأنه لم يعد المهر مع صدقك، فلأن لا يعود إليك مع أنك كاذب أولى.

فدل الحديث على الفرقة باللعان، وأن أحدهما كاذب في نفس الأمر، وحسابه على الله، وأنه لا يرجع بشيء من الصداق، لأنه إن كان صادقًا في القذف فقد استحقت المال بما استحل منها، وإن كان كاذبًا، فقد استحقته أيضًا بذلك، ورجوعه إليه أبعد، لأنه هضمها بالكذب عليها، فكيف يرتجع ما أعطاها، وهو إجماع في المدخول بها، وغير المدخول بها الجمهور: أن لها النصف كغيرها من المطلقات قبل الدخول. (ولأبي داود) والنسائي وغيرهما، ووثقه الحافظ (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً أن يضع يده عند الخامسة على فيه وقال إنها الموجبة) أي للعذاب والفرقة، فدل الحديث على أنه يشرع للحاكم المبالغة في منع الحلف خشية أن يكون كاذبًا، فإنه - صلى الله عليه وسلم - منع بالقول والتذكير والوعظ كما تقدم، ثم منع في هذا الخبر بالفعل، وكما تقدم في حديث أنس أنهم وقفوها عند الخامسة وقالوا إنها الموجبة، ودل على أن اللعنة الخامسة واجبة. (وله) أي لأبي داود وغيره (عن سهل) بن سعد الساعدي رضي الله عنه (قال مضت السنة بعد في المتلاعنين أنه يفرق بينهما). ولمسلم في قصة عويمر كان فراقه إياها سنة في المتلاعنين أي تفريقًا مؤبدًا (ثم لا يجتمعان أبدًا) فيه تأبيد الفرقة، وأخرجه

البيهقي بلفظ فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما وقال: «لا يجتمعان أبدًا» وفي الصحيحين في قصة عويمر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ذاكم التفريق بين كل متلاعنين» وعن علي وابن مسعود قالا مضت السنة بين المتلاعنين أن لا يجتمعان أبدًأ، وعن عمر يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدًا، ولأبي داود عن ابن عباس " وقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا مبيت لها عليها ولا قوت من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها" فدلت الأحاديث والآثار على التحريم المؤبد، وهو مقتضى حكم اللعان، ومذهب جمهور العلماء، فإن لعنة الله وغضبه قد حلت بأحدهما لا محالة ومذهب الجمهور أنه فسخ. (ولهما) أي البخاري ومسلم في صحيحيهما (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال: فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما) أي المتلاعنين (وألحق الولد بالمرأة) أي صيره لها وحدها، ونفاه عن الزوج، فلا توارث بينهما، وأما الأم فترث منه ما فرض الله لها وتقدم ولأبي داود من حديث سهل فكان الولد ينسب لأمه وفي رواية: يدعى لأمه وفي الصحيحين من حديث أنس ما يدل على أنه ينتفي باللعان، وإن لم يذكر النفي في اليمن وفيهما في قصة هلال وزوجته أنها كانت حاملاً وأنه نفى الحمل، فدلت الأحاديث على مشروعية اللعان لنفي الولد، وعلى صحته قبل الوضع، ونفي الحمل، وإن لم يذكر في اللعان صريحًا أو تضمنًا، أو كذب نفسه بعد ذلك لحقه نسبه، وإلا

انتفى لكن بشرط أن لا يتقدمه نفي أو إقرار به أو بما يدل عليه. (ولأبي داود) في حديث طويل (عن ابن عباس) رضي الله عنهما قال: (وقضى) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ولد المتلاعنين إذا نفاه الزوج (أن لا يدعى ولدها لأب) لانتفائه منه (ولا يرمى ولدها) أي أنه ولد زنى (ومن رماها) أي بالزنى (أو رماه) بذلك (فعليه الحد) أي حد القذف، ورواه أحمد وغيره، وله من حديث عمرو بن شعيب "قضى في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه أمه ومن رماها به جلد ثمانين جلدة ومن دعاه ولد زنى جلد ثمانين" قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرًا على مصر ولا يدعى لأب. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال: جاء رجل) اسمه ضمضم بن قتادة (من بني فزارة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ولدت امرأتي غلامًا أسود) وهو حينئذ يعرض بأنه ينفيه (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «هل لك من إبل) ليمثل له بها (قال: نعم» لي إبل (قال: ما ألوانها؟) حمر بيض سود؟ (قال: حمر) أي أكثرها (قال: هل فيها من أورق) وهو الذي في لونه سواد ليس بحالك (قال: نعم قال: فإنى ذلك) جاءها أي إذا كان ألوان غبلك الحمرة فمن أين ترى حصل الأوراق (قال لعله نزعه عرق) أي جذبه إلى اللون الأورق والمراد بالعرق الأصل من النسب (قال فلعل ابنك) الذي ولدته امرأتك أسود (نزعه عرق) أي فكما أن هذا عرق نزعها فلون ولدك أيضًا نزعه عرق، ولم يرخص له في

انتفائه (متفق عليه) ولأبي داود إن امرأتي ولدت غلامًا أسود وإني أنكره وأنا أبيض فكيف يكون مني؟ فدل الحديث على أنه لا يرخص لمن جاء في ولده لون يخالف لون أبيه أو أمه أن ينفيه بمخالفة صورتهما فإنه - صلى الله عليه وسلم - حكم بأن الولد للفراش ولم يجعل خلاف الشبه واللون دلالة يجب الحكم بها، وضرب له المثل بما يوجد من اختلاف الألوان في الإبل ولقاحها واحد، وحكي الإجماع على أنه لا يجوز نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة إن لم ينضم إليه قرينة زنى، وإن اتهمها بولد على لون الرجل الذي اتهمها به جاز، والمذهب يجوز مع القرينة مطلقًا، ولا يجب الحد بالكنية والتعريض بالقذف، وإنما يجب في القذف الصريح، وهذا مذهب الجمهور. وقال النووي إذا كان على جهة السؤال لا حد فيه، وإنما يجب الحد في التعريض إذا كان على المواجهة والمشاتمة وفرق بعضهم بين الزوج والأجنبي في التعريض، أن الأجنبي يقصد الأذية المحضة، والزوج قد يعذر بالنسبة إلى صيانة النسب. (ولهما عن عائشة) رضي الله عنها (قالت دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسرورًا) وقال بعض الرواة تبرق أسارير وجهه، أي من السرور (فقال: ألم تري) أي لم تعلمي يا عائشة (أن مجززًا المدلجي) القائف المشهور، ومجزز اسم فاعل من الجز، لأنه جز نواصي قوم (نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد) بن حارثة

ابن شراحيل الكلبي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن أمه زارت قومها وهو معها فأغارت خيل لبني القين في الجاهلية على أبيات بني معن فاحتملوه وعرضوه في عكاظ فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، ثم وهبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدم أبوه بفدائه فاختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجه زينب وقيل بمولاته أم أيمن فولدت له أسامة وكان أسود قالت: (فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض) أي أسامة من زيد، وكان زيد أبيض غاية البياض وأسامة أسود غاية السواد. وأما أسامة أم أيمن جارية حبشية الأصل، ورثها النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبيه عبد الله فأعتقها، فدل الحديث على ثبوت العمل بالقافة، وصحة الحكم بقولهم في إلحاق الولد، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يظهر عليه السرور إلا بما هو الحق عنده، وكان الناس قد أرتابوا في زيد بن حارثة وابنه أسامة وكان زيد أبيض، وأسامة أسود فتمارى الناس في ذلك وتكملوا فيه، فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول المدلجي فرح به. فالقافة والقرعة طريقان شرعيان أيهما حصل وقع به الإلحاق فإن حصلا معًا فمع الاتفاق لا إشكال ومع الاختلاف فالاعتبار بالأول منهما لأنه طريق شرعي يثبت به الحكم، ولا ينقضه طريق آخر يحصل بعده. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) لما نزلت آية المتلاعنين «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم» بأن تنسب إلى زوجها ولدها من غيره (فليست من الله في

شيء) بريئة من الله، وهذا وعيد شديد (ولن يدخلها جنته) بل يعذبها، وهذا أيضًا وعيد فيعد ذلك من الكبائر «وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه» أي يعلم أنه ولده «احتجب الله عنه» وعيد شديد «وفضحه على رءوس الأولين والآخرين» بجحوده ولده وهو ينظر إليه ويتحقق ذلك (رواه أبو داود) ورواه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان وغيره، ولأحمد من حديث مجاهد عن ابن عمر نحوه والبزار عن ابن عمر، وفيه أن الله يرى في الآخرة وأنه لا غاية في النعيم أعظم من النظر إلى وجه الله الكريم. وعبر بالجحود ليفيد مع الوعيد على النفي الوعيد على قذف الزوجة فباء بأعظم الإثم، نعوذ بالله من غضبه، وعن ابن عمر: من أقر بولده طرفة عين فليس له أن ينفيه، رواه البيهقي، وأجمعوا على أنه لا يصح النفي للولد بعد الإقرار به، ومن ولدت زوجته من أمكن أنه منه لحقه نسبه لخبر «الولد للفراش» وذلك بأن تلده بعد نصف سنة منذ أمكن وطؤه، أو دون أربع سنين منذ أبانها. وذكر ابن القيم أنه وجد لأكثر لكن بشرط أن يكون ممن يولد بمثله. واتفقوا على أن الأمة تصير فراشًا بوطء السيد، فمن أقر بوطء أمته فولدت لنصف سنة فإنه يلحقه إلا أن يدعي الاستبراء ويحلف عليه. ومن أقر بنسب أو شهدت به بينة فشهدت بينة أخرى أن هذا ليس من نوع هذا بل هذا رومي وهذا فارسي فقال

الشيخ: التغاير بينهما إن أوجب القطع بعدم النسب فهو كالبينة، مثل أن يكون أحدهما حبشيًا والآخر روميًا ونحو ذلك فهذا ينتفي النسب، وإن كان أمرًا محتملاً لم ينفه لكن إن كان المقتضي للنسب الفراش، لم يلتفت إلى المعارضة، وإن كان المثبت له مجرد الإقرار أو البينة فاختلاف الجنس معارض ظاهر.

كتاب العدد

كتاب العدد واحدها عدة كبسر العين وهي التربص المحدود شرعًا مأخوذ من العدد لأن أزمنة العدد محصورة مقدرة، والعدة حرم لانقضاء النكاح لما كمل، والقصد منها: استبراء الرحم من الحمل لئلا يطأها غير المفارق لها قبل العلم، فيحصل الاشتباه وتضيع الأنساب، وتعظيم خطر هذا العقد وقضاء حق الزوج وإظهار تأثير فقده في المنع من التزين، والقيام بحق الله، والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع في الجملة. (قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} خرج مخرج الغالب، إذ لا فرق بين المؤمنة والكتابية في ذلك باتفاق أهل العلم {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي تجامعوهن {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} أي تحصونها بالأقراء والأشهر. فدلت الآية وأجمع أهل العلم على أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها، وأن لها أن تذهب من فورها وتزوج من شاءت ولا يستثنى من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها، فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشرًا، وإن لم يدخل بها بإجماع

العلماء، ودلت الآية على وجوب العدة بعد المسيس، ولا نزاع في ذلك. وقال الشيخ: تجب بعد المسيس باتفاق العلماء للآية اهـ (الآية) وتمامها {فَمَتِّعُوهُنَّ} أي أعطوهن ما يستمتعن به، وذلك إن لم يكن سمي لها صداقًا وإلا فلها نصفه {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} أي خلوا سبيلهن بالمعروف. (وقال) تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} أي ينتظرن بأنفسهن، وتمكث إحداهن بعد طلاق زوجها (ثلاثة قروء) أي حيض، ثم تتزوج إن شاءت وجعلها الشارع ثلاثة رعاية لحق الزوج، وهو اتساع زمن الرجعة له، وحق للزوجة وهو استحقاقها للنفقة والسكنى ما دامت في العدة، وحق للولد وهو الاحتياط لثبوت نسبه، وأخرج الأئمة الأربعة وغيرهم الأمة إذا طلقت، فإنها تعتد بقرءين، لأنها على النصف من الحرة، والقرء لا يتبعض فكمل لها قرءان، وروي عن عائشة وعمر وابنه ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة وأدخل بعض الفقهاء المفارقات بخلع أو فسخ. والآية نص في المطلقات، وأما المفارقات بخلع أو فسخ فلم يدخلن في حكم المطلقات، ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المختلعة أن تعتد بثلاث حيض، بل روى أهل السنن من حديث الربيع أنه - صلى الله عليه وسلم - (أمرها أن تعتد بحيضة) وتلحق بأهلها، ولأبي داود وغيره من حديث ابن عباس (أمرت أن تعتد بحيضة) وقال الترمذي الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة، وقال ابن

القيم: محال أن يكون الآمر غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، والصريح يفسره، وقال النحاس هو إجماع من الصحابة. وقال الشيخ: أصح الروايتين دليلاً عن أحمد أنها تعتد بحيضة، وهو مذهب عثمان وابن عباس، وقد حكى إجماع الصحابة، ولم يعلم لهما مخالف، ودلت عليه السنة الصحيحة، وعذر من خالفهما أنها لم تبلغه، وهذا القول هو الراجح في الأثر والنظر، قال ابن القيم: وأما النظر فإن المختلعة لم تبق لزوجها عليها عدة فلها أن تتزوج بعد براءة رحمها، كالمسبية والمهاجرة وكذا الزانية والموطوءة بشبهة اختاره الشيخ: وهو الراجح أثرًا ونظرًا. (وقال) تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} فلا يرجين أن يحضن {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي شككتم فلم تدروا ما عدتهن {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} ولما نزلت {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} قال خلاد بن النعمان أو أبي بن كعب يا رسول الله فما عدة من لا تحيض والتي لم تحض وعدة الحبلى، فأنزل الله {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} يعني القواعد اللاتي قعدن عن الحيض {إِنِ ارْتَبْتُمْ} في حكمهن {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} يعني الصغار اللائي لم يحضن ويوطأ مثلهن فعدتهن أيضًا ثلاثة أشهر، وأما من لا يوطأ مثلها كبنت دون تسع أو ممن لا يولد لمثله كابن دون عشر فلا عدة عليها لبراءة الرحم بخلاف المتوفى عنها فتعتد مطلقًا.

(وأولات الأحمال) مطلقة أو متوفي عنها (أجلهن) أي منتهى عدتهن {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قال ابن عباس وغيره عدة الحامل المتوفى عنها أبعد الأجلين اهـ، سواء كان الحمل واحدًا أو أكثر، كامل الخلقة أو ناقصها، إذا كان فيه صورة خلقة آدمي، سواء طلقها زوجها أو مات عنها، فوضع الحمل هو مقدم الأجناس كلها، فإذا وجد فالحكم له، ولا الالتفات إلي غيره، ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفواق ناقة عند جمهور العلماء من السلف والخلف، لهذه الآية والأخبار الصحيحة الآتية وغيرها وروى الضياء وغيره عن أبي بن كعب قلت يا رسول الله هي المطلقة ثلاثًا؟ أو المتوفى عنها؟ قال: «هي طلقة ثلاثًا والمتوفى عنها». وعن ابن مسعود وغيره نحوه، مما يدل على أن الآية على عمومها في جميع العدد، وأن عموم آية البقرة مخصص أو منسوخ بهذه الآية الكريمة، وقد حصل نزاع بين السلف في المتوفى عنها أنها تتربص أبعد الأجلين ثم حصل الاتفاق على انقضاء عدتها بوضع الحمل، وقال الوزير وغيره اتفقوا على أن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أو المطلقة الحامل أن تضع حملها، بشرط أن يلحق به، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة. (وقال) تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} أي يتوفى عنهن أزواجهن يموتون، وتتوفى آجالهم ويتركون أزواجًا

{يَتَرَبَّصْنَ} أي ينتظرن {بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ذكر العشر مؤنثة لإرادة الليالي، والمراد مع أيامها عند الجمهور، فلا تحل حتى تدخل الليلة الحادية عشرة، يعتددن بترك الزينة والطيب النقلة على فراق أزواجهن هذه المدة، وهذا الحكم شمل الزوجات المدخول بها وغير المدخول بها بالإجماع، إلا أن يكن حوامل فعدتهن بوضع الحمل، كما تقدم، وكانت عدة الوفاة في الابتداء حولاً كاملاً، ثم نسخت بأربعة أشهر وعشر. قال الوزير وغيره اتفقوا على أن عدة المتوفى عنها زوجها ما لم تكن حاملاً أربعة أشهر وعشر، ولا يعتبر فيها وجود الحيض إلا ما روي عن مالك، وقال ابن القيم تجب عدة الوفاة بالموت دخل بها أو لم يدخل بها، لعموم القرآن والسنة واتفاق الناس، وليس المقصود من عدة الوفاة استبراء الرحم ولا هي تعبد محض، لأنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقله، ويخفى على من خفي عليه، وقيل إذا طلع فجر الليلة العاشرة، وقال: الصواب أنها لا تنقضي حتى تغيب شمس يوم العاشر. وقيل حكمة التقدير بهذه المدة والله أعلم أن الولد تتكامل خلقته وينفخ فيه الروح بعد مضي مائة وعشرين يومًا، وهي زيادة على أربعة أشهر بنقصان الأهلة فجبر الكسر إلى العقد على طريق الاحتياط وأما الأمة فعدتها نصف عدة الحرة، لأن الصحابة أجمعوا على تنصيف عدة الأمة في الطلاق، فكذا عدة

الموت، وإن مات زوج رجعية في عدة طلاق سقطت، وابتدأت عدة وفاة منذ مات، بخلاف المبانة فلا تنتقل، وفي مرض الموت الأطول منهما، وإن كانت البينونة منها أو كانت أمة أو ذمية فلطلاق فقط. (وعن زرارة) ابن أوفى النخعي أبو عمرو توفي زمن عثمان رضي الله عنهما (قال قضى الخلفاء) الراشدون وروي أيضًا عن عمر وعلي وزيد بن ثابت (أن من أغلق بابًا) على زوجته فخلا بها (أو أرخى سترًا) عليهما وخلا بها (فقد وجب المهر) حيث خلا بها مطاوعة مع علمه بها (ووجبت العدة) حيث خلا بها (رواه أحمد) وغيره قال الموفق هذه قضايا اشتهرت فلم تنكر فكانت إجماعًا وضعف أحمد ما روي في خلافها، فدل الحديث أن العدة تلزم كل امرأة فارقت زوجها بطلاق أو خلع أو فسخ كما تقدم إذا كان خلا بها مطاوعة مع علمه بها وقدرته على وطئها. ولو مع ما يمنعه منهما أو من أحدهما حسًا أو شرعًا إلا أن يكون ممن لا يولد لمثله، أو لا يوطأ مثلها، للعلم ببراءة الرحم ما لم تكن متوفى عنها، فتعتد مطلقاً، ولا تعتد مفارقة في نكاح مجمع على بطلانه، لأن وجوده كعدمه. (وعن أم سلمة) رضي الله عنها (أن سبيعة) تصغير سبع الأسلمية هي بنت برزة الأسلمي إحدى المهاجرات (توفي عنها زوجها) هو سعد بن خولة العامري من بني عامر بن لؤي كان توفي في حجة الوداع (وهي حبلى) فوضعت فخطبها أبو السنابل

وكانت مكثت قريبًا من عشر ليال ثم نفست، وللبخاري من حديث المسور: نفست بعد وفاة زوجها بليال، أي فخطبت (فقال أبو السنابل) قيل اسمه عمرو وقيل عامر وقيل أصرم بن بعكك بن الحارث من بني عبد الدار (ما يصح أن تنكحي) وفي لفظ ما يصلح أن تنكحي (حتى تعتدي آخر الأجلين) ثم جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته. قال البخاري: إنها كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها، فلما تعالت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل فقال مالي أراك تجملت للخطاب فإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت فجمعت علي ثياب فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فأفتاني النبي - صلى الله عليه وسلم - بأني قد حللت حين وضعت حملي) وفي رواية قال: «انكحي» (متفق عليه) ولفظ المسور: استأذنت أن تنكح فنكحت ولمسلم قال الزهري ولا أرى بأسًا أن تزوج وهي في دمها، غير أن لا يقربها زوجها حتى تطهر. فدل الحديث على أن الحامل المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل، وإن لم يمض عليها أربعة أشهر، وعشر، ويجوز بعده أن تنكح، وهو قول جماهير العلماء، وحكي إجماعًا، إلا ما نقل عن سحنون من القول باستكمال آخر الأجلين، لكن قال الحافظ هو مردود، لأنه إحداث خلاف بعد استقرار الإجماع، ولما تقدم، ولابن ماجه أن الزبير كانت عنده أم كلثوم.

بنت عقبة، فقالت وهي: حامل طيب نفسي بتطليقة فطلقها تطليقة، ثم خرج إلى الصلاة وقد وضعت، فقال مالها خدعتني، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «سبق الكتاب أجله أخطبها إلى نفسها» فهذه الأحاديث وما في معناها مصرحة بأن قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} عامة في جميع العدد وأن عموم آية البقرة مخصص بها كما تقدم واستقر الإجماع على ذلك. (ولهما) أي البخاري ومسلم (عن أم عطية) رضي الله عنها (مرفوعًا لا تحد امرأة) ولو صغيرة وهو مذهب الجمهور وذكر المرأة خرج مخرج الغالب (على ميت) أب أو أم أو أخ أو غيرهم (فوق ثلاث) أي ثلاث ليال بأيامها (إلا على زوج) فتحد عليه إذا مات عنها (أربعة أشهر وعشرًا) أي فيجب الإحداد إذًا. فدل الحديث على أن عدة المتوفى عنها زوجها من غير حمل أربعة أشهر وعشر كما في الآية، إذ الإحداد ملازم لعدة الوفاة كما سيأتي، فتعتد بترك الطيب والزينة والنقلة ولها أن تحد على ميت من قريب ونحوه ثلاثًا فما دونها لغلبة الطباع البشرية ويأتي. (وعن عائشة) رضي الله عنها قالت (أمرت بريرة) أي أمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن تعتد بثلاث حيض) كحرة الأصل حيث عتقت (رواه ابن ماجه) وقال الحافظ: رواته ثقات لكنه معلول، وقد ورد ما يؤيده.

ودل على أن العدة تعتبر بالمرأة عند من يجعل عدة المملوكة دون عدة الحرة، وهو الجمهور كما تقدم. (وله) أي لابن ماجه في سننه (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (عدة الأمة حيضتان) إذا كانت ممن يحضن ورواه الدارقطني مرفوعًا وضعفه ونحوه لأبي داود والترمذي من حديث عائشة وصححه الحاكم، وخالفه الجمهور فضعفوه، وتقدم أن عدة الأمة نصف عدة الحرة، وحكي أنه إجماع الصحابة، وقال الوزير أجمعوا على أن عدة الأمة بالأقراء قرآن. (وقال عمر) رضي الله عنه (عدة أم الولد حيضتان) كالأمة إذا كانت ممن يحضن ولو لم تحض فعن أحمد شهر ونصف، وهو قول أبي حنيفة ومالك، وعدة مبعضة بالحساب، ومن ادعت انقضاء عدتها بالأقراء قبل قولها إذا كان ممكنًا إلا أن تدعيه بالحيض في شهر فلا يقبل إلا ببينة. وقال الشيخ: المذهب المنصوب أنها إذا ادعت ما يخالف الظاهر كلفت البينة، لا سيما إذا أوجبنا عليها البينة فيما إذا علق طلاقها بحيضة فقالت حضت، فإن التهمة في الخلاص من العدة كالتهمة في الخلاص من النكاح، فيتوجه أنها إذا ادعت الانقضاء في أقل من ثلاثة أشهر كلفت البينة. (وقال) أي عمر رضي الله عنه (فيمن ارتفع حيضها) أي انقطع بعد أن كانت تحيض (ولم تدر ما رفعه) أي لم تعلم سبب

ارتفاعه تعتد (سنة) بين مدة الحمل ومدة العدة فقال (تسعة أشهر للحمل) إذ هي غالب مدته (وثلاثة) أشهر (للعدة) وهي عدة من لم تحض أو انقطع حيضها، قال الشافعي هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منهم منكر علمناه اهـ. وإن علمت المعتدة ما رفع الحيض من مرض أو رضاع أو غيرهما فمتى زال المانع ولم تحض فتعتد سنة، كالتي ارتفع حيضها ولم تدر سببه اختاره الشيخ، واختار أيضًا أنها إن علمت عدم عوده فكآيسة. وقال في المرضعة: تبقى في العدة حتى تحيض ثلاث حيض، فإن أحبت أن تسترضع لولدها لتحيض هي، أو تشرب دواء أو نحوه تحيض به فلها ذلك. (وقال) أيضًا عمر رضي الله عنه (في امرأة المفقود) أي في حكم امرأة المفقود، وهو الذي فقد من بين أهله ولم يعلم خبره، كما يأتي في القصة قال عمر (تتربص أربع سنين) أي تمكث من حين رفعت أمرها إليه أربع سنين (ثم تعتد) بعد الأربع سنين (أربعة أشهر وعشرًا) رواه مالك والشافعي وغيرهما (وقدم زوجها الأول) الذي حكم لها بالتربص والعدة منه، وقد تزوجت أي بعد المدة التي ضرب لها (فخيره) عمر بينها وبين الصداق الذي أصدقها إياه

والأثر رواه أيضًا البيهقي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم وفيه قصة الذي فقد: قال دخلت الشعب فاستهوتني الجن فمكثت أربع سنين فأتت امرأتي عمر فأمرها أن تتربص أربع سنين من حين رفعت أمرها إليه، ثم دعا وليه فطلقها ثم أمرها أن تعتد أربعة أشهر وعشرًا، قال: ثم جئت بعدما تزوجت فخيرني عمر بينها وبين الصداق الذي أصدقتها وهذا مذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي وقول جماعة من السلف والخلف بدليل فعل عمر. وروي عن علي تصبر حتى يأتيها يقين موته ولا يصح والله أعلم لما فيه من الحرج والضيق، وقال ابن القيم: حكم الخلفاء في امرأة المفقود كما ثبت عن عمر، وقال أحمد ما في نفسي شيء منه، خمسة من الصحابة أمروها أن تتربص، قال ابن القيم وقول عمر هو أصح الأقوال وأحراها بالقياس، وقال الشيخ: الصواب في امرأة المفقود مذهب عمر وغيره من الصحابة وهو أنها تتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة ويجوز لها أن تتزوج بعد ذلك، وهي زوجة الثاني باطنًا وظاهرًا ثم إذا قدم زوجها الأول بعد تزوجها خير بين امرأته وبين مهرها، ولا فرق بين ما قبل الدخول وبعده. وعلى الأصح لا يعتبر الحاكم، فلو مضت المدة والعدة تزوجت بلا حكم، وشبهه باللقطة من بعض الوجوه، وذكر أن وقف التصرف في حق الغير على إذنه يجوز عند الحاجة، وأن

فصل في الأحداد

التخيير فيه بين المرأة والمهر هو أعدل الأقوال، وأن كل صورة فرق فيها بين الرجل وامرأته بسبب يوجب الفرقة ثم تبين انتفاء ذلك السبب فهو شبيه المفقود، ولو ظنت أن زوجها طلقها فتزوجت فهو كما لو ظنت موته اهـ. وهذا فيما إذا كان ظاهر غيبته الهلاك، وإن كان ظاهر غيبته السلامة فمذهب أحمد وغيره من السلف ينتظر به تمام تسعين سنة منذ ولد، ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرًا. وأمة فقد زوجها كحرة في التربص أربع سنين أو تسعين سنة، وفي العدة للوفاة بعد التربص المذكور نصف عدة الحرة كما تقدم، وفي المدة الأخيرة أيضًا كالأولى إن قدم الأول خير وله أخذها زوجة، ولو لم يطلق الثاني، ولكن لا يطؤها قبل فرغ عدة الثاني، وله تركها مع الثاني من غير تجديد عقد للثاني، ويأخذ قدر الصداق الذي أعطاها من الثاني في كلا الحالتين، ويرجع الثاني عليها بما أخذه الأول منه، ومن مات زوجها الغائب أو طلقها اعتدت منذ الفرقة، وإن لم تحد، وإن وطئت بشبهة أو نكاح فاسد فرق بينهما وأتمت عدة الأول، ثم اعتدت للثاني. فصل في الإحداد الإحداد لغة المنع، وشرعًا ترك الطيب والزينة للمعتدات من الوفاة، ويجب عليهن لزوم المسكن وعلى المطلقات

الرجعيات بالكتاب والسنة والإجماع في الجملة. (قال تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} أي في مدة العدة لأن لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه، فليس له أن يخرجها إذا كان المسكن الذي طلقها فيه له أو تحت تصرفه بالإجماع في الجملة {وَلَا يَخْرُجْنَ} أي لا يجوز لهن أن يخرجن ما لم تنقض العدة، لأنهن معتقلات لحق الزوج {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة، فتخرج من المنزل، والفاحشة تشمل الزنى والنشوز على الزوج، والبذاء على أهل الرجل وأذيتهم في الكلام والفعال. (وقال) تعالى {فَإِنْ خَرَجْنَ} أي: الأزواج {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يا أولياء الميت {فِيمَا فَعَلْنَ} تلك الأزواج المتوفى عنهن {فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يعني: التزين للنكاح، وهذه الآية قيل نسختها آية أربعة الأشهر والعشر ويتوجه فيما زاد عنها، وذكر شيخ الإسلام وغيره أنها إذا انقضت الأربعة الأشهر والعشر، أو وضعت الحمل واختارت الخروج والانتقال من المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لهذه الآية، قال ابن كثير وهذا القول له اتجاه، وفي اللفظ مساعدة له، وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله. (وعن أم عطية) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا

يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت) أي تمنع نفسها الزينة وبدنها الطيب على ميت من قريب كأب وأم وأخ وأخت ونحوهم (فوق ثلاث) ليال فما دونها وذلك أنه أبيح لأجل حظ النفس ومراعاتها، وغلبت الطباع البشرية (إلا على زوج) أي فيجب: أربعة أشهر وعشرًا ولمسلم «إلا امرأة فإنها تحد أربعة أشهر وعشرًا» فيلزم الإحداد كل امرأة متوفى عنها زوجها في نكاح صحيح، وأجمع المسلمون على وجوب الإحداد على الحرائر المسلمات في عدة الوفاة، إلا ما روي عن الحسن، وعند الجمهور يحرم فوق ثلاث على ميت إلا على زوج. قال ابن القيم وهذا من تمام محاسن الشريعة وحكمتها ورعايتها على أكمل الوجوه، فإن الإحداد على الميت من تطعيم مصيبة الموت التي كان أهل الجاهلية يبالغون فيها أعظم مبالغة وتمكث المرأة سنة في أضيق بيت وأوحشه لا تمس طيبًا، ولا تدهن ولا تغتسل إلى غير ذلك مما هو تسخط على الرب وأقداره، فأبطل الله برحمته سنة الجاهلية، وأبدلنا بها الصبر والحمد، ولما كانت مصيبة الموت لا بد أن تحدث للمصاب من الجزع والألم والحزن مما تتقاضاه الطباع، سمح لها الحكم الخيبر في اليسر من ذلك. وهو ثلاثة أيام تجد بها نوع راحة، وتقضي بها وطرًا من الحزن، وما زاد فمفسدته راجحة، فمنع منه بخلاف مفسدة الثلاث فإنها مرجوحة مغمورة بمصلحتها، فإن

فطام النفوس عن مألوفاتها بالكلية من أشق الأمور عليها فأعطيت بعض الشيء ليسهل عليها ترك الباقي. والمقصود أنه أباح لهن لضعف عقولهن، وقلة صبرهن الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام وأما الإحداد على الزوج فإنه تابع للعدة، وهو من مقتضياتها ومكملاتها، وهي أنها تحتاج إلى التزين لتحبب إلى زوجها، فإذا مات وهي لم تصل إلى آخر فاقتضى تمام حق الأول الأول وتأكيد المنع من الثاني قبل بلوغ الكتاب أجله أن تمنع مما تصنع النساء لأزواجهن مع ما في ذلك من سد الذريعة إلى طمعها في الرجال، وطمعهم فيها بالزينة. قال - صلى الله عليه وسلم - «فإنها لا تكتحل» أي المتوفى عنها زوجها فدل على تحريم الاكتحال على المرأة في أيام عدتها من موت زوجها إلى انقضاء عدتها، هو مذهب الجمهور ويأتي تفصيله (ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا) بأي لون من ألوان الصبغ إلا ما استثني قال ابن المنذر أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحادة لبس الثياب المعصفرة ولا المصبغة، ورخص بعضهم فيما صبغ بسواد، لأنه لا يتخذ للزينة قال (إلا ثوب عصب) برد يمانية يعصب غزلها أي يجمع ويشد ثم يصبغ وينشر فيبقى موشى، لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذ الصبغ، والمراد ما لم يكن فيه زينة فتمنع منه للتعليل بالزينة. (ولا تمس طيبًا) وفي رواية "ولا تطيب" ففيه تحريم الطيب

على المعتدة، وهو كل ما يسمى طيبًا ولا نزاع في ذلك (إلا إذا طهرت) أي من حيضها (نبذة) أي قطعة نبذة (من قسط) بضم القاف ضرب من الطيب (أو أظفار) وفي لفظ "وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من قسط أو أظفار " قال النووي: نوعان معروفان من البخور، وليسا من مقصود الطيب، رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة تتبع به أثر الدم لا التطيب (متفق عليه). فدل الحديث مع ما يأتي على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها، وأنه لا إحداد على المطلقة، فإن كان رجعيًا فإجماع، وإن كان بائنًا فمذهب الجمهور أنه لا إحداد عليها، وهو ظاهر في غير المطلقة ثلاثًا فإنه يصح أن تعود مع زوجها بعقد، وأما المطلقة ثلاثًا فيباح لها الإحداد، يؤيده أنه شرع لقطع ما يدعو إلى الجماع فهي تشبه المتوفى عنها لتعذر رجوعها إلى الزوج، وأما المطلقة قبل الدخول فلا إحداد عليها، قال الحافظ اتفاقًا وإن كان النكاح فاسدًا لم يلزم المتوفى عنها الإحداد، لأنها ليست زوجة وكذا موطوءة بشبهة أو زنا. ولا يعتبر لوجوب الإحداد كونها وارثة أو مكلفة، فيجنبها وليها الطيب ونحوه، وسواء كان الزوج مكلفًا أو لا، للعموم وللتساوي في اجتناب المحرمات، وأما الأمة فقال ابن رشد لا إحداد عليها، وبه قال فقهاء الأمصار.

(ولأبي داود) والنسائي وأحمد وغيرهم من حديث أم سلمة في المتوفى عنها زوجها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال «ولا تلبس المعصفر من الثياب» أي المصبوغ بالعصفر (ولا الممشقة) أي المصبوغة بالمشق وهو المغرة (ولا الحلي) أي ولا تلبس الحلي من ذهب أو فضة أو غيرهما (ولا تختضب) أي بالحناء فدل على ترك الثياب المعصفرة والممشقة للمحادة على ترك الخضاب وهو مذهب جماهير العلماء. (وله عنها) أي لأبي داود والنسائي وغيرهما وحسنه الحافظ عن أم سلمة (في الصبر) قال - صلى الله عليه وسلم - «إنه يشب الوجه» أي يجمله ويحسنه (فلا تجعليه إلا بالليل) لأنه لا تظهر فيه الزينة «وانزعيه بالنهار» لظهور الزينة فيه وكذا الاكتحال بالإثمد للتداوي تجعله بالليل وتنزعه بالنهار وظاهره أنه يجوز للمعتدة عن موت أن تجعل على وجهها الصبر بالليل وتنزعه بالنهار لأنه يحسن الوجه فلا يجوز فعله في الوقت الذي تظهر فيه الزينة «ولا تمتشطي بالطيب» لأن الامتشاط به تطيب «ولا بالحناء» أي ولا تمتشطي بالحناء «فإنه خضاب» أي وهي ممنوعة من الخضاب. فلا يجوز للمعتدة من وفاة أن تمتشط بشيء من الطيب، أو بما فيه زينة كالحناء ولكن بالسدر ونحوه، فإنها قالت يا رسول الله بأي شيء أمتشط؟ قال بالسدر تغفلين بها رأسك، وجملة ذلك أنها تجتنب ما يدعو إلى نكاحها، ويرغب في النظر إليها من الزينة والطيب والتحسين والحناء، وما صنع للزينة، وحلي

وكحل أسود، لا توتيا ونحوها، ولا نقاب وأبيض، ولا أخذ ظفر ونحوه، وتنظيف وغسل، قال ابن رشد وغيره تمتنع عند الفقهاء بالجملة من الزينة الداعية الرجال إلى النساء، وذلك كالحلي والكحل لثبوته بالسنة، لا ما لم تكن فيه زينة وثياب اللباس المصبوغة إلا السواد ورخصوا في الكحل عند الضرورة. (وعن فريعة) بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري، شهدت بيعة الرضوان رضي الله عنها (أن زوجها قتل) وكان خرج في طلب أعلاج له فأدركهم في طرف القدوم فقتلوه، وهي في دار شاسعة من دور أهلها (فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ترجع إلى أهلها) لتسكن عندهم (فإنه لم يترك لها مسكنًا) كان يملكه (ولا نفقة) قالت فلو تحولت إلى أهلي وإخواتي لكان أرفق لي في بعض شأني، وفي لفظ قال (نعم) فلما كنت في الحجرة ناداني (فقال امكثي في بيتك) الذي أتاك نعيه فيه (حتى يبلغ الكتاب أجله) وهو قوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} مع ما يأتي (قالت: فاعتددت فيه) أي في بيتها الذي توفي وهي فيه (أربعة أشهر وعشرًا) فدل الحديث على وجوب لزوم المعتدة المسكن الذي توفي زوجها وهي ساكنة فيه وهو مذهب جمهور العلماء (وقضى به عثمان) ابن عفان الخليفة الراشد رضي الله عنه بمحضر من

المهاجرين والأنصار وقضى به ثاني الخلفاء الراشدين عمر وابنه وابن مسعود وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم (رواه الخمسة) ومالك والشافعي وغيرهم (وصححه الترمذي) وابن حبان والحاكم والذهلي وغيرهم وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وقال بهذا الحديث فقهاء الحجاز والشام والعراق ومصر وغيرهم، وذكر ابن عبد البر أنه معروف مشهور عندهم. وقد دل مع ما تقدم على أن المتوفى عنها تعتد في بيتها الذي مات زوجها وهي به، لا تخرج منه إلى غيره، فلا يجوز أن تتحول منه بلا عذر لقوله: «امكثي في بيتك» مع قولها إنه لم يتركها في منزل يملكه ولا نفقة، وأن لها السكنى مدة العدة، ولما تقدم من قوله {وَلَا يَخْرُجْنَ} وقوله {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} والجمهور يقولون لا تخرج من منزلها إلا لضرورة فيجب عليها بذل الأجرة من مالها إن قدرت. وإلا {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ومتى تحولت خوفًا على نفسها أو مالها أو حولت قهرًا، أو حولت بحق يجب عليها الخروج من أجله، أو بتحويل مالك المنزل، أو نحو ذلك مما ليس في وسعها انتقلت حيث شاءت لسقوط الواجب ولم يرد الشرع بالاعتداد في معين غيره، ويلزم منتقلة بلا حاجة العود استدراكًا للواجب قال الشيخ: وليس للمرأة أن تسافر في عدة الوفاة للحج عند الأئمة الأربعة. (وروى مجاهد) ابن جبر رحمه الله تعالى أن نساء من

استشهد بأحد (قلن يا رسول الله نستوحش) وذلك أن رجالاً استشهدوا بأحد فقالت نساؤهم يا رسول الله إنا نستوحش في بيوتنا يعني منفردات، وكان من المعلوم عندهن وجوب اعتدادهن في بيوتهن (قال: تحدثن عند إحداكن) من أول الليل (حتى إذا أردتن النوم) يعني بالليل (فلتؤب) وفي لفظ تأوي (كل واحدة منكن) يعني المعتدات (إلى بيتها) التي استشهد زوجها وهي به رواه الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما مرسلاً، فدل الأثر على أنه - صلى الله عليه وسلم - أذن لهن بالخروج نهارًا لحاجتهن إليه من أجل الاستيحاش، لا ليلاً لأن الليل مظنة الفساد. (وعن جابر) ابن عبد الله رضي الله عنهما (قال طلقت خالتي) لم يوقف على اسمها وذكرت في المبهمات، وفي لفظ ثلاثًا (فأرادت آن تجد) أي تقطع ثمر (نخلها فزجرها رجل أن تخرج) وفي لفظ فخرجت تجذ نخلاً لها فلقيها رجل فنهاها (فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -) فذكرت ذلك له (فقال) اخرجي و (جذي نخلك) أي اصرمي نخلك (فإنك عسى أن تصدقي) منه بحذف أحدى التائين (أو تفعلي معروفًا) وفي لفظ أو تفعلي خيرًا من التطوع والإحسان وأداء واجب الزكاة (رواه مسلم). فدل الحديث على جواز خروج المطلقة البائن لجذ النخل ونحو ذلك، سواء كان الخروج لغرض ديني أو دنيوي، وقياسًا على المتوفي عنها ومخصص لعموم الآية وهو مذهب الجمهور. (ولهما عن فاطمة بنت قيس) ابن خالد القرشية الفهرية

أخت الضحاك رضي الله عنهم (أن زوجها) عمرو بن حفص وجاء أنه أبو عمرو بن حفص المخزومي (طلقها البتة) أي البائنة أو المطلقة ثلاثًا فلا رجعة له عليها، يوضحه روايات الحديث فلمسلم من حديثها أنه طلقها ثلاثًا وفي رواية كانت عند أبي حفص بن المغيرة وكان خرج مع علي إلى اليمن فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها (وأرسل إليها بشيء) ولمسلم بخمسة آصع من شعير (فسخطته) فقال ما لك علينا من شيء (وذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ليس لك عليه نفقة) أي مدة العدة (ولا سكنى) حيث لا رجعة له عليها قال الحافظ المتفق عليه في جميع طرق الحديث أن الاختلاف كان في النفقة اهـ. وفي رواية "إلا أن تكوني حاملاً" ففيه: وجوب النفقة لها إذا كانت حاملاً ودل على أنها لا تجب لمن كانت على صفتها في البينونة (وأمرها أن تعتد عند أم شريك) الأنصارية النجارية وكانت غنية ثم قيل لها: عند ابن أم مكتوم ولأحمد والنسائي وغيرهما من حديث فاطمة "إنما النفقة والسكنى لمن لزوجها عليها الرجعة" والحديث نص صحيح صريح على أن المطلقة ثلاثًا ليس لها نفقة ولا سكنى، وهو مفهوم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إلى قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} فأي أمر بعد الثلاث، وهذا مذهب أحمد وأهل الحديث.

وقال أحمد ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - إيجاب النفقة والسكنى للمطلقة ثلاثًا وقال الدارقطني السنة بيد فاطمة قطعًا، قال ابن القيم: ونحن نشهد بالله شهادة نسأل عنها إذا لقيناه أن ما روي عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا «لها السكنى والنفقة» كذب على عمر وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينبغي أن لا يحمل الإنسان فرط الانتصار للمذاهب والتعصب على معارضة السنن النبوية الصحيحة الصريحة اهـ، فللمطلقة ثلاثًا أن تعتد بمأمون من البلد حيث شاءت، ولا تبيت إلا به، ولا تسافر، لما في البيتوتة بغير منزلها، وسفرها إلى غير بلدها من التعرض للريبة. وإن أراد إسكانها بمنزله أو غيره تحصينًا لفراشه ولا محذور فيه لزمها، (ولمسلم) قالت فاطمة بنت قيس يا رسول الله (أخاف أن يقتحم علي) أي يهجم علي أحد بغير شعور (فأمرها فتحولت) أي عند أم شريك أو ابن أم مكتوم، كما تقدم، فدل الحديث على جواز انتقال المطلقة ثلاثًا من المنزل الذي وقع عليها الطلاق فيه، فيكون مخصصًا لعموم (ولا يخرجن) قال الحافظ: وإذا جمعت ألفاظ الحديث خرج منها، أن سبب استئذانها في الانتقال ما ذكر من الخوف عليها وأما وجوب السكنى فعند بعضهم تجب ومذهب أحمد وغيره لا نفقة لها ولا سكنى على ظاهر حديث فاطمة رضي الله عنها.

باب الاستبراء

باب الاستبراء الاستبراء من البراءة وهي التمييز والقطع، يقال برئ اللحم من العظم إذا قطع عنه وفصل، وشرعًا تربص يقصد منه العلم ببراءة رحم ملك يمين، سواء كانت قنًا أو مكاتبة أو مدبرة أو أم ولد أو معلقًا عتقها. (قال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي من كانت حاملاً فعدتها بوضع حملها ولو بفواق ناقة عند الجمهور كما تقدم، فدلت الآية على أنه يحصل استبراء الأمة بوضع حملها، ولو بفواق ناقة سواء كانت مسبية أو مشتراة أو غير ذلك من سائر التملكات، أو بعد طلاق أو موت. (وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في سبايا أوطاس) واد في بلاد هوازن بحنين معروف بين مكة والطائف لا توطأ حامل حتى تضع) حملها وعن أبي هريرة «لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره» رواه أحمد وثبت أنه مر بامرأة محج، فسأل عنها فقالوا أمة لفلان، فقال: «أيلم بها» قالوا: نعم، فقال: «لقد هممت أن ألعنة لعنًا يدخل معه في القبر كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ أم كيف يورثه وهو لا يحل له؟». قال: (ولا غير حامل حتى تحيض حيضة) ليتحقق براءة رحمها (رواه أبو داود) وأحمد وصححه الحاكم، وله شواهد من حديث

ابن عباس وأبي هريرة والعرباض بن سارية وغيرهم. فدل الحديث وما في معناه على أنه يحرم على لارجل أن يطأ الأمة المسبية إذا كانت حاملاً حتى تضع حملها وإذا كانت حائلاً حتى تستبرأ بحيضة، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء، واتفقوا على أنه يحرم وطؤها زمان الاستبراء وقياس المسبية المشتراة أو المتملكة بأي وجه من وجوه التملك بجامع ابتداء التملك، ويدل قوله: «حتى تحيض حيضة» أنه إذا اشتراها وهي حائض لم يعتد بتلك الحيضة حتى يستبرئها بحيضة مستأنفة، ومن وطئ أمته ثم أراد بيعها أو تزويجها حرما حتى يستبرئها، وإن عتقت لزمها استبراء نفسها، ومن علم براءة رحمها فلا استبراء عليها كما سيأتي، وفيه جواز وطء السبايا بعد الاستبراء وإن لم يدخلن في الإسلام، وعمل به الصحابة في عصر النبوة وفيه جواز الاستمتاع قبل الاستبراء، بدون جماع ولفعل ابن عمر وغيره. (وله) أي لأبي داود وأحمد والترمذي وغيرهم وصححه ابن حبان وغيره (عن رويفع) تصغير رافع بن ثابت من بني مالك بن النجار المتوفى سنة ست وأربعين (مرفوعًا: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره) يعني إتيان الحبالى وفي لفظ «ولد غيره» زاد أبو داود «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها» ولأحمد «فلا ينكحن شيئًا من السبايا حتى تحيض» وللنسائي نحوه فمن ملك أمة

يوطأ مثلها حرم عليه وطؤها قبل استبرائها إن لم يعلم براءة رحمها. قال الشيخ: لا يجوز لمن اشترى جارية وطؤها قبل استبرائها باتفاق العلماء، والجمهور على وجوب الاستبراء على المشتري والمتهب ونحوهم بجامع تجدد الملك، وقال علي: من اشترى جارية فلا يقربها حتى تستبرأ بحيضة، وظاهر عموم الأحاديث شمول من لم يجر عليها الحمل، وذهب جماعة من العلماء إلى أن الاستبراء إنما يكون في حق من لم يعلم براءة رحمها وأما من علم براءة رحمها فلا استبراء عليها، قال الشيخ لا يجب استبراء الأمة البكر سواء كانت كبيرة أو صغيرة وهو مذهب ابن عمر واختيار البخاري، وكذا الآيسة، ومن اشتراها من رجل صادق وأخبره أنه لم يطأها أو وطئ واستبرأ. اهـ. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال إذا وهبت الوليدة) أي القينة وقيده بعضهم بمن تولد في الرق (التي توطأ) أي فلتستبرأ (أو بيعت) يعني الوليدة (أو أعتقت فلتستبرأ بحيضة) ليعلم براءة رحمها، واستبراء من ارتفع حيضها عشرة أشهر، وتصدق الأمة إذا قالت حضت وأمكن، قال رضي الله عنه (ولا تستبرأ العذراء) يعني البكر لم توطأ (رواه البخاري) وله نحوه عن علي رضي الله عنه ويؤيده مفهوم ما تقدم، قال المازري القول الجامع في ذلك أن كل أمة أمن عليها الحمل فلا يلزم فيها الاستبراء وكل من غلب على الظن كونها حاملاً

باب الرضاع

أو شك في حملها، أو تردد فيها فالاستبراء لازم فيها، والأحاديث تشير إلى أن العلة الحمل أو تجويزه. باب الرضاع هو لغة مص اللبن من الثدي، وشرعًا مص من دون الحولين لبنًا ثاب عن حمل أو شربه أو نحوه، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع. (قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} أمك هي التي ولدتك وكما حرمها عليك حكم تعالى بتحريم المرضعة وسماها أما، ويدخل فيهن الجدات، وإن علون من قبل الأم، ومن قبل الأب، كما تقدم في باب المحرمات في النكاح ويأتي «أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة» {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} جمع أخت سواء كانت من قبل الأب والأم. أو من قبل أحدهما سماهن أخوات وحكم بتحريمهن، فدلت الآية على أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، واتفق عليه أهل العلم، وحكمه حكم التناكح بشرطين، أن تكون قبل استكمال المولود حولين، وأن يوجد خمس رضعات، والسعوط والوجور محرم لما يأتي، وقال الوزير: اتفقوا على أنه يتعلق التحريم بالسعوط والوجور إلا في إحدى الروايتين عن أحمد، وأنه مقصور على الآدميات. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» متفق عليه، وفي لفظ

«يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» وقال الترمذي: العمل عليه عند عامة أهل العلم، فدل الحديث على أن محارم المرتضع محارم المرضعة والواطئ وبه استدل العلماء على أنه يحرم من الراضع ما يحرم من النسب وذلك بالنظر إلى أقارب المرضع لأنهم أقارب للرضيع وأما أقارب الرضيع فلا قرابة بينهم وبين المرضع. (ولهما عن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) أي مثله في التحريم. وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أريد على ابنة حمزة، فقال: «إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وإنما كانت ابنة أخيه لأنه رضع من ثويبة أمة أبي لهب، وقد كانت أرضعت عمه حمزة. قال الشيخ: هو حديث صحيح متلقى بالقبول، متفق على صحته، فدل مع ما تقدم على أن محارم المرضعة كآبائها وأمهاتها وأجدادها، وجداتها وإخوتها وأخواتها وأولادهم وأعمامها وعماتها وأخوالها وخالاتها محارم المرتضع وأن محارم الواطئ محارم المرتضع كذلك، ولا نزاع في ذلك يعتد به، فإن أقاربهما أقارب الرضيع لما تقدم وغيره، وأما أقارب الرضيع ما عدا أولاده فلا علاقة بينهم وبين المرضع فلا يثبت لهم شيء من الأحكام فتباح المرضعة لأبي المرتضع وأخيه من النسب وتباح أمه وأخته من النسب لأبيه وأخيه من رضاع إجماعًا، كما يحل لأخيه من أبيه، وأخته من أمه. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن أفلح) أخا أبي القعيس

واسمه وائل بن أفلح الأشعري مولى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (جاء يستأذن عليها) أي على عائشة رضي الله عنها بعد الحجاب (قالت فأبيت) أي أن تأذن له (فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرته) بالذي صنعت وهو أنه استأذن عليها فأبت أن تأذن له (فأمرني أن آذن له علي) أي إذا استأذن ولا تحتجب منه (وقال إنه عمك) أي من الرضاعة (متفق عليه) ولأبي داود قلت دخل علي أفلح فاستترت منه فقال أتستري مني وأنا عمك، قلت من أين؟ قال أرضعتك امرأة أخي، قالت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل. فدل الحديث مع ما تقدم على ثبوت حكم الرضاع في حق زوج المرضعة وأقاربه كالمرضعة وذلك لأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا فوجب أن يكون الرضاع منهما كالجد لما كان سبب ولد الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده، وكذلك قال ابن عباس اللقاح واحد، فإن الوطء يدر اللبن فللرجل منه نصيب، وهذا مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، حكاه عنهم غير واحد من أهل العلم، وقال الوزير اتفقوا على أن لبن الفحل محرم، وهو أن ترضع المرأة صبية فتحرم هذه الصبية على زوج المرضعة وآبائه وأبنائه ويصير الزوج الذي در اللبن علاقة أبا للمرضعة. (ولمسلم عنها) أي ولمسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات

يحرمن) أي إذا ارتضع الطفل من المرأة عشر رضعات (ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن) أي إذا ارتضع الطفل من المرأة خمس رضعات (وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي فيما يقرأ من القرآن) أي أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدًا أنه توفي صلوات الله وسلامه عليه وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أنه لا يتلى. وهذا من نسخ التلاوة دون الحكم، كما هو معلوم مقرر في مواضعه، وهو أحد أنواع النسخ المعلومة المتفق عليها بين أهل العلم، وهذا الخبر مبين لما أجمل من الآية والأحاديث السابقة ويشهد له، حديث سهلة وغيره فإنها أرضعت سالمًا خمس رضعات، والرضعة هي المرة من الرضاع فمتى التقم الصبي الثدي وامتص منه ثم تركه لتنفس أو انتقال إلى ثدي آخر ونحو ذلك باختياره من غير عارض كان ذلك رضعة، فإن عاد ولو قريبًا فرضعتان كما هو المعهود، فإذا حصل خمس رضعات على هذه الصفة حرم إذا كان في الحولين قبل الفطام وحكاه الوزير وغيره اتفاقًا. (وله) أي ولمسلم في صحيحه (عنها) أي عن عائشة رضي الله عنها (أن سهلة) بنت سهيل القرشية العامرية (قالت يا رسول الله إن سالمًا) قيل ابن معقل (مولى أبي حذيفة) بن عتبة

ابن ربيعة بن عبد شمس (معنا في بيتنا) وقالت نراه ولدًا يأوي معي ومع أبي حذيفة ويراني فضلاً (وقد بلغ ما يبلغ الرجال) يعني الحلم وذلك أن أبا حذيفة قد تبنى سالمًا وزوجه، وكان سالم مولى لامرأة من الأنصار فلما أنزل الله {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} الآية كان من له أب معروف نسب إلي أبيه، ومن لا أب له معروف كان مولى وأخا في الدين فعند ذلك جاءت سهلة تذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال: «ارضعيه تحرمي عليه) فلا تحتجبي عنه رخص لها لما في ذلك من مشقة الاحتجاب. فدل الحديث على أن إرضاع الكبير يحرم عند الحاجة ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال، ويروى عن علي، ويدل: عموم قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} فإنه مطلق غير مقيد بوقت، ولما قالت أم سلمة لعائشة إن الحكم خاص بسالم، قالت عائشة أما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ فسكتت أم سلمة ولو كان خاصً لبينه - صلى الله عليه وسلم - ولما قالت سهلة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أرضعه وهو رجل كبير؟ قال لها - صلى الله عليه وسلم - «ارضعيه تحرمي عليه وإن كان الجمهور أنه لا يحرم لما يأتي. فهذا الحديث صحيح غير منسوخ، لما عرفت من قول سهلة وعائشة، وأنه متقرر عندهم أن الإرضاع للصغير وإنه إنما يعتبر الصغر إلا إذا دعت الحاجة لرضاع الكبير الذي لا

يستغنى أهل البيت عن دخوله عليهم، وأنه يشق احتجاب المرأة عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة فمثل هذا يحرم رضاعه لهذا الخبر، وقال الشيخ: ينشر الحرمة بحيث يبيح الدخول والخلوة إذا كان قد تربى في البيت، بحيث لا يحتشمون منه للحاجة، لقصة سالم، وما عداه فلا بد أن يكون الرضاع في حال الصغر. (ولأبي داود) من حديث عائشة في قصة سالم وسهلة، قال - صلى الله عليه وسلم - لها «ارضعيه خمس رضعات» فدل على اعتبار الخمس كما تقدم، وأن ما دونها لا ينشر الحرمة، وهو مذهب جماهير العلماء، وإن شك في الرضاع أو شك في كماله، أو شكت المرضعة ولا بينة فلا تحريم، لأن الأصل عدم الرضاع المحرم، وإن قال الزوج لزوجته أنت أختي لرضاع بطل النكاح، وإن قالته وأكذبها فهي زوجته حكمًا، وأما بينها وبين الله تعالى فلا يحل لها مساكنته إن كانت صادقة، ولا تمكنه من وطئها ولا من دواعيه، لأنها محرمة عليه وعليها أن تفتدي منه وتفر عنه. (وله) أي لأبي داود وغيره (عن ابن مسعود) رضي الله عنه (مرفوعًا «لا رضاع إلا ما أنشز») أي شد وقوى (العظم وأنبت اللحم) وإنما يكون ذلك لمن هو في سن الصغر فإنه ينمو باللبن، ويقوى به عظمه وينبت عليه لحمه. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا لا يحرم من

الرضاع) يعني الذي تقدم أنه يحرم منه ما يحرم منه ما يحرم من النسب (إلا ما فتق الأمعاء) أي شق أمعاء الصبي ووقع موقع الغذاء فوصل إليها فلا يحرم القليل الذي لا ينفذ إليها، وتقدم أن المحرم خمس رضعات (وكان قبل الفطام) أي قبل أوان فطام الرضيع (صححه الترمذي) والحاكم ولأبي داود وغيره عن ابن مسعود نحوه، وفيه «وأنشز العظم» وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا رضاع إلا في الحولين، وروي عن عمر وابن مسعود قال الترمذي والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الصغر، وقالوا مهما كان في الحولين فإن رضاعه يحرم، ولا يحرم ما كان بعدهما لقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فتمام الرضاعة الحولان وما بعدهما لا يحرم وفي الاختيارات، الارتضاع بعد الفطام لا ينشر الحرمة وإن كان دون الحولين، واختار الشيخ أيضًا ثبوت الحرمة بالرضاع إلى الفطام ولو بعد الحولين أو قبلهما. (وفي الصحيحين من حديث عائشة) رضي الله عنها يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الرضاعة» أي المعتبرة المغنية أو المطعمة (من المجاعة) وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها رجل فكأنه تغير وجهه فقالت إنه أخي فقال «انظر من إخوانكن» أي تحققن في أمر الرضاعة هل هو رضاع صحيح

«فإنما الرضاعة من المجاعة» أي الواقعة في زمن الإرضاع بحيث إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع وهو كما قال أبو عبيدة وغيره تعليل لإمعان التحقق في شأن الرضاع، وأن الرضاع الذي تثبت به الحرمة وتحل به الخلوة هو حيث يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن جوعه، لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن، وينبت بذلك لحمه، فيصير جزءًا من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها ومحارمها، وتعليل أيضًا لمقدار الإرضاع، فإن الحكم الذي ينشأ من الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع بشرطه من وقوعه في زمن الرضاع، ومقدار الإرضاع كما تقدم. وفيه دليل على أن التغذي بلبن المرضعة محرم، سواء كان شربًا أو وجورًا أو سعوطًا أو حقنة حيث كان يسد جوع الصبي وهذا مذهب جمهور العلماء وتقدم ذكر الاتفاق عليه، ومن أفسدت نكاح نفسها بسبب رضاع ونحوه قبل الدخول فقيل لا مهر لها، وبعد الدخول مهرها بحاله، وقال ابن القيم: يتوجه سقوطه بإفسادها وكان الشيخ يذهب إليه وهو منصوص أحمد واقوى دليلاً ومذهبًا وإن أفسده غيرها فلا نصفه قبله، وجميعه بعده يرجع به الزوج على المفسد، جزم به الشيخ وغيره. (وعن عقبة بن الحارث) بن عامر القرشي النوفلي أسلم يوم الفتح (أنه تزوج بنت أبي إهاب) يقال لها أم يحيى (فجاءت امرأة) وفي الترمذي امرأة سوداء قال الحافظ لا أعرف اسمها

(فقالت قد أرضعتكما) قال وهي كاذبة مرارًا وهو يعرض عنه (فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) عن تزوجه بها وقول تلك المرأة إنها أرضعتهما (فقال: كيف وقد قيل) أي كيف تباشرها وتفضي إليها وقد قيل بأنك وهي قد ارتضعتما من ثدي واحد، ولفظ الترمذي وغيره «كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما دعها عنك» (ففارقها) عقبة رضي الله عنه فنكحت زوجًا غيره (رواه البخاري). فدل الحديث وما في معناه على قبول شهادة المرضعة وحدها، وهو مذهب أحمد وجماعة من السلف، لهذا الحديث وقد تكرر سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعقبة أربع مرات وأجابه بقوله: «كيف وقد قيل» وفي لفظ «دعها» وللدارقطني «لا خير لك فيها» وذلك قلما يطلع الرجال على ذلك فالضرورة داعية إلى اعتبارها قال ابن القيم: إذا شهدت امرأة عدل بأنها قد أرضعته وزوجته فقد لزمت الحجة من الله في اجتنابها، ونوجب عليه مفارقتها لقوله - صلى الله عليه وسلم - «دعها عنك» وليس لأحد أن يفتي غيره، وقال الشيخ: إذا كانت المرأة معروفة بالصدق وذكرت أنها أرضعت طفلاً خمس رضعات قبل ذلك، وثبت على الصحيح اهـ، وإن شك في الرضاع أو كماله أو شكت المرضعة ولا بينة فلا تحريم، لأن الأصل عدم الرضاع المحرم. (ولأبي داود) والبيهقي (عن زياد) السهمي (نهى - صلى الله عليه وسلم - أنه تسترضع الحمقاء) أي خفيفة العقل فإن اللبن يشبه وذلك لأن

باب النفقات

للرضاع تأثيرًا في الطباع، فيختار للطفل حسنة الخلق، ويكره استرضاع سيئة الخلق والفاجرة، وكذا الجذماء والبرصاء، وروى البيهقي عن عمر وابنه وعمر بن عبد العزيز أن اللبن يشبه وحكى القاضي أن من ارتضع من امرأة حمقاء خرج الولد أحمق ومن ارتضع من سيئة الخلق تعدى إليه ومن ارتضع من بهيمة كان بليدًا كالبهيمة. باب النفقات جمع نفقة وهي كفاية من يمونه طعامًا وكسوة ومسكنًا، وتوابع ذلك من ماء شرب، وطهارة وغير ذلك من زوجة وأقارب ومماليك وغيرهم، وأحقهم في ذلك الزوجة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على وجوب نفقتها على الزوج وكذا الولد الصغير والأب والرقيق وغيرهم مما سيأتي تفصيله. (قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}) أي لينفق على المولود والده أو وليه بحسب قدرته وعموم الآية يدل على وجوب نفقة الزوج على زوجته وأقاربه بشرطه بحسب سعته {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} ضيق عليه في المال {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} على قدر ذلك فكل بحسبه {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} أي لا يكلف الله نفسًا في النفقة إلا ما أعطاها من المال، كما قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ثم قال تعالى: {سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} أي بعد ضيق وشدة غني وسعة، فدلت الآية على وجوب نفقة المولود على والده أو وليه بحسب قدرته. والآيات والسنة أيضًا

دلت على أحقية نفقة الزوجة، فعموم الآية دال على وجوبها للزوجة والأقارب بقدر اليسر والعسر فيطعمها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسى بالمعروف، وعليه عمل المسلمين. (وقال) تعالى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} أي أوجبنا على المؤمنين في أزواجهم من الأحكام، فدلت الآية الكريمة وغيرها على وجوب نفقة الزوجة ولا نزاع في ذلك، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه على أن على العبد نفقة زوجته. (وقال) تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} هو الاحتمال في القول والمبيت والنفقة، فدلت الآية على وجوب نفقة الزوجة وكان - صلى الله عليه وسلم - يتلطف بأهله ويوسعهم نفقة وقال: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» ولا نزاع في مشروعية المعاشرة بالمعروف. (وقال) تعالى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} المعروف كل ما يعرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة (أو تسريح بإحسان) فلا يضار امرأته ولا يضاجرها لتفتدي منه بل يحسن عشرتها وينفق عليها كما في قوله {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ} (وقال) تعالى {وَلَهُنَّ} أي للزوجات على الأزواج من الحق {مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} للأزواج من الحق (بِالْمَعْرُوفِ) الذي لا ينكر في الشرع فليؤد كل واحد

منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، ويدخل في ذلك جميع الحقوق التي للمرأة وعليها، وأن مرد ذلك إلى ما يتعارفه الناس بينهم ويجعلونه معدودًا. وقال الشيخ في النفقة والكسوة والسكنى، وكغطاء وماعون الدار ونحو ذلك يكون بقدر الحاجة والعمل عليه، فمتى تسلمها أو بذلت نفسها ولو مع صغره وجبت نفقتها، ووجوب نفقة المطلقة الرجعية وكسوتها وسكناها كالزوجة لما تقدم والبائن بفسخ أو طلاق إن كانت حاملاً، والنفقة للحمل نفسه، ولا نفقة ولا سكنى لمتوفى عنها، لأن المال انتقل عن الزوج إلى الورثة، فإن كانت حاملاً فالنفقة من حصة الحمل من التركة أو على وارثه الموسر، ومن نشزت أو تطوعت بصوم أو صلاة أو حج بلا إذنه، أو سافرت لحاجتها ونحو ذلك سقطت نفقتها مدته لمنعها نفسها عنه بسبب من جهتها، بخلاف من أحرمت بحج فرض أو صوم فرض أو صلاة فرض أو صامت قضاء رمضان في شعبان، لوجوب ذلك بالشرعِ. (وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته) للناس بمنى (في حجة الوداع) سنة عشر سميت حجة الوداع لأنه ودع الناس فيها، قال لما ذكر النساء (ولهن عليكم) أي يجب لنسائكم عليكم (نفقتهن) بالمعروف {وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الذي عرفه الشارع ويتعارفه الناس بينهم كل ينفق على قدر حاله، لما تقدم من قوله {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ} (رواه

مسلم) والحديث دليل على وجوب النفقة والكسوة للزوجة، ولا نزاع في ذلك، والواجب عند الجمهور طعام مصنوع، لأنه الذي يصدق عليه أنه نفقة، ولا تجب القيمة إلا برضى من يجب عليه الإنفاق. قال ابن القيم أما فرض الدراهم فلا أصل له في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من الصحابة البتة ولا التابعين ولا تابعيهم، ولا نص عليه أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الإسلام، والله تعالى أوجب نفقة الأقارب والزوجات والرقيق بالمعروف، وليس من المعروف فرض الدراهم، بل المعروف الذي نص عليه الشرع أن يكسوهم مما يلبس ويطعمهم مما يأكل، وليست الدراهم من الواجب ولا عوضه ولا يصح الاعتياض عما لم يستقر ولم يملك، فإن نفقة الأقارب يومًا فيومًا، ولو كانت مستقرة لم تصح المعاوضة عنها بغير رضى الزوج والقريب. فإن الدراهم تجعل عوضًا من الواجب الأصلي، وهو إما البر عند الشافعي أو المقتات عند الجمهور فكيف يجبر على المعاوضة على ذلك بدراهم من غير رضا ولا إجبار الشرع له على ذلك، فهذا مخالف لقواعد الشرع، ونصوص الأئمة ومصالح العباد ولكن إن اتفق المنفق والمنفق عليه جاز باتفاقهما انتهى. وللزوجة وكذا القريب نفقة كل يوم من أوله، وإن اتفقا على تعجيلها أو تأجيلها جاز، وكذا الكسوة ونحوها.

(وعن أبي هريرة مرفوعًا «امرأتك تقول أطعمني أو فارقني» رواه أحمد وصححه المجد ووثقه الحافظ، (وللخمسة إلا الترمذي) وصححه ابن حبان والحاكم (عن حكيم بن معاوية) القشيري عن ِأبيه معاوية بن حيدة، ومعاوية صحابي روى عنه ابنه وحفيده بهز (قلت: يا رسول الله ما حق زوج أحدنا عليه) زوج بلا تاء هي اللغة الفصحى. وجاء بالتاء (قال: أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت) فدل الحديث مع ما تقدم على وجوب نفقة الزوجة وكسوتها وأن النفقة بقدر سعته لا يكلف فوق وسعه، لقوله «إذا طعمت» فمتى قدر على تحصيل النفقة وجب عليه أن لا يختص بها دون زوجته بما زاد على سد خلته لخبر «ابدأ بنفسك» ولا يلزمه تمليك الزوجة النفقة والكسوة. قال الشيخ: بل ينفق ويكسو بحسب العادة، لقوله: «إن حقها عليك أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت» كما قال عليه الصلاة والسلام في المملوك اهـ، ويعتبر الحاكم ذلك بحالهما عند التنازع كما هو مذهب جمهور العلماء مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم، فيفرض للموسرة تحت الموسر وهو من يقدر على النفقة بماله أو كسبه قدر كفايتها ومثل بعضهم خبزًا من أرفع خبز البلد وأدمه ولحمًا عادة الموسرين بمحلهما وما يلبس مثلها من حرير وغيره، وللنوم فراش ولحاف، ونحوه مما جرت العادة لمثلهما ويفرض للفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد

ومن أدم يلائمهما، ومن الكسوة ما يلبس مثلها، ويجلس وينام عليه وللمتوسطة والغنية مع الفقير والفقيرة تحت الغني ما بين ذلك عرفًا. (وعن ابن المسيب) سعيد بن المسيب رضي الله عنه (في الرجل لا يجد ما ينفق على أهله) قوتًا وكسوة ومسكنًا (قال السنة أن يفرق بينهما) قال بعض أهل العلم له حكم الرفع وله شواهد (رواه سعيد) ابن منصور في سننه عن سفيان عن أبي الزناد عن سعيد قال: قلت لسعيد سنة قال سنة. قال الحافظ وهذا مرسل قوي ومراسيل سعيد معمول بها لما عرف من أنه لا يرسل إلا عن ثقة، قال الشافعي والذي يشبه أن يكون قول سعيد سنة سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه إنما سأل عما هو حجة وهو سنته - صلى الله عليه وسلم -، وللدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعًا في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: «يفرق بينهما» ومذهب جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم أنه متى أعسر الزوج بنفقة القوت أو بالكسوة أو بالمسكن أو ببعض ذلك فلها فسخ النكاح بإذن الحاكم، ولها الصبر مع منع نفسها وبدونه ولا يمنعها تكسبًا ولا يحبسها. (وله) أي لسعيد بن منصور في سننه والشافعي بسند جيد وصححه أبو حاتم الرازي (أن عمر) ابن الخطاب رضي الله عنه (كتب إلى أمراء الأجناد) جمع جندي وجمعه جند أيضًا وجنود العسكر والأعوان (في رجال غابوا عن نسائهم) من الأجناد (أن

يأخذوهم) فيلزموهم (بأن ينفقوا) على أزواجهم مدة غيابهم (أو يطلقوا) أي إن لم ينفقوا عليهن (فإن طلقوا) بعد غيابهم (بعثوا بنفقة ما حبسوا) أزواجهم وحكى إجماع الصحابة على ذلك للزوم نفقة ما مضى. ولو لم يفرضها الحاكم سواء ترك الإنفاق لعذر أو لا مع اليسار أو الإعسار. فإن فرضها الحاكم لزمت بالاتفاق. وكذا إن اتفقا على قدر معلوم. فتصير ديناً باصطلاحها. ومتى غاب زوج موسر ولم يدع لها نفقة وتعذر أخذها من ماله أو من وكيله وتعذرت استدانتها عليه فلها الفسخ بإذن الحاكم. وكذا امرأة المفقود لها الفسخ إذا لم يكن له مال ينفق على زوجته منه. وإن أنفقت في غيبته من ماله فبان ميتا غرمها الوارث ما أنفقته بعد موته. وإن اختلفا في أخذ نفقة ونحوها فقول من يشهد له العرف. وهو مذهب مالك. ويخرج على مذهب أحمد في تقديم الظاهر على الأصل. وقال ابن القيم: وقول إنه لا يقبل قول المرأة إن زوجها لم يكن ينفق عليها ويكسوها فيما مضى هو الصواب. لتكذيب القرائن الظاهرة لها. وقولهم هو الذي ندين الله به. ولا نعتقد سواه والعلم الحاصل بإنفاق الزوج وكسوته في الزمن الماضي اعتمادا على الإمارات الظاهرة أقوى من الظن الحاصل باستصحاب الأصل. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن هندًا) هي: بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف أسلمت عام الفتح بعد

إسلام زوجها. وتوفيت سنة أربع عشرة (قالت يا رسول الله إن أبا سفيان) ابن حرب واسمه صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس. من رؤسا قريش. أسلم عام الفتح حين أخذته جند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأجاره العباس ثم غدا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وتوفي سنة اثنتين وثلاثين (رجل شحيح) الشح البخل مع الحرص. فهو أخص من البخل. والبخل يختص بمنع المال والشح يعم كل شيء في جميع الأحوال أي هو بخيل حريص (لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي) أي مقدار ما يكفيني من النفقة ويكفي ولدي (إلا ما أخذت من ماله بغير علمه) أي بغير علم منه بذلك ولا إذن فهل عليَّ في ذلك من جناح؟. (فقال خذي) أي: من مالِهِ (ما يكفيك وولدك بالمعروف) أي ما يعرفه الشرع يأمر به. وهو الوسط العدل. وقال الحافظ القدر الذي عرف بالعادة أنه الكفاية (متفق عليه) وفي البخاري " لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف" وتقدم أنه الوسط العدل وما عرف أنه الكفاية. فدل الحديث على وجوب نفقة الزوجة والأولاد على الزوج. وأن الواجب الكفاية من غير تقدير النفقة. وهو مذهب جمهور العلماء وأن من تعذر عليه استيفاء ما يجب له من نفقة: أن يأخذه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أقرها على الأخذ في ذلك لاسيما مع تمرد الأب. وأن للأم ولاية الإنفاق على أولادها. وغير ذلك مما هو مذكور في مواضعه. والمراد هنا جواز الأخذ من ماله إن لم يقم

فصل في نفقة الأقارب

بكفايتها وولدها بالمعروف بلا إذنه. فإن لم تقدر أجبره الحاكم. فصل في نفقة الأقارب من أم وأب وولد وأخ وأخت وغيرهم بشرطين. حاجة المنفق عليه من الأقارب. وغنى المنفق. قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: وأحسنوا بالوالدين إحسانًا، برًا بهما وإعطافًا عليهما. لأن الله تعالى جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود وربياك. وكثيرًا ما يقرن تعالى حقه وحقهما في غير موضع من كتابه. فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} وغير ذلك. فحق الله أوكد الحقوق. وهو عبادته وحده وأعظمها. ثم بعد حقه تعالى حقوق المخلوقين وأوكدها حق الوالدين فثنى به. وعطف بذي القربى غير ما آية ووصى بذلك سبحانه وتعالى فقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى قوله {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}. ووصى به بني إسرائيل. بل أخذ عليهم الميثاق: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى} الآية. ومن أعظم الإحسان بالوالدين إذا كانا أو أحدهما لا يملك نفقة. أن ينفق ولده عليه. ويأتي " ابدأ بمن تعول أمك وأباك" قال شيخ

الإسلام: وعلى الولد الموسر أن ينفق على أبيه المعسر وزوجة أبيه. الآية دلت مع ما يأتي كعلى أنها تحب النفقة أو تتمتها للوالدين وإن علوا مع حاجتهم وغنى الولد. (وقال) تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} أما إذا كن مع الأزواج. فقال الشيخ: إرضاع الطفل واجب على الأم. بشرط أن تكون مع الزوج. وهو قول غير واحد من السلف. ولا تستحق أجرة المثل زيادة على نفقتها وكسوتها. وهو اختيار القاضي والحنفية. ولم يوجب لهن إلا الكسوة والنفقة. وهو الواجب بالزوجية كما قال في الحامل. فدخلت نفقة الولد في نفقة أمه وكذا المرتضع. فتكون النفقة هنا واجبة بشيئين: حتى لو سقط الوجوب بأحدهما ثبت بالآخر. وقال: لا تستحق شيئًا إذا كانت تحته. وقال الشيرازي لو استأجرها لرضاع ولده لم يجز لأنه استحق نفعها. وكذا قال القاضي وغيره. وأما الوالدات المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} خبر بمعنى الأمر. وهو أمر استحباب. لأنه لا يجب عليهن الإرضاع إذا كان يوجد من يرضع الولد. لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فمتى رغبت الأم في الإرضاع فهي أولى من غيرها. والحولين السنتين. وذكر الإكمال للتأكيد. وفيها دليل على أنه لا يعتبر

الإرضاع بعد كمال السنتين. وهو مذهب الجمهور كما تقدم {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} أي هذا منتهى الرضاعة. وليس فيما دون ذلك حد محدود. وإنما هو على مقدار صلاح الصبي وما يعيش به. {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} أي الأب {رِزْقُهُنَّ} أي طعام الوالدات {وَكِسْوَتُهُنَّ} أي لباسهن {بِالْمَعْرُوفِ} أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن على قدر الميسرة من غير إسراف ولا إقتار فالمقتدر بحسب فقدرته والمتوسط بحسبه والفقير بحسبه {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} أي طاقتها. قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته. وليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبأ الذي لا يعيش بدون تناوله غالبا. ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت. وإن كان مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك. {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} أي لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها. وقيل لا تكره على إرضاعه. فليس لكل واحد منهما أن يضار صاحبه بسبب الولد. ولا يضاران الصبي. {وَعَلَى الْوَارِثِ} أي وعلى وارث الصبي الذي لو مات الصبي. وله مال ورثه. {مِثْلُ ذَلِكَ} أي مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على الطفل وكسوته، وعلى والدة الطفل، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها. وهذا قول جمهور العلماء. واستدل بهذه الآية

الحنابلة والحنفية وغيرهم على وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض ممن يرثهم بفرض أو تعصيب. وهو قول عمر وجمهور السلف والخلف. واستأنسوا بحديث الحسن عن سمرة مرفوعًا " من ملك ذا رحم محرم عتق عليه " وغيره من الأحاديث الآتية وغيرها. وقالوا إذا لم يكن للصبي ونحوه مال ينفق عليه أجبر ورثته الذين يرثونه على أن يسترضعوه. كل منهم على قدر ميراثه نساًء كانوا أو رجالاً. عصبة أو غيرهم فيعتبر كون المنفق غنيا وارثا. سوى عمودي النسب فتجب سواء كان وارثا أو لا، ويعتبر كون المنفق عليه فقيرا من عمودي النسب وغيرهم من الأقارب. وقال الشيخ: تجب النفقة لكل وارث ولو كان مقاطعا من ذوي الأرحام وغيرهم. لأنه من صلة الرحم. وهو عام. كعموم الميراث في ذوي الأرحام. وهو رواية عن أحمد. والأوجه وجوبها مرتبًا. وإن كان الموسر القريب ممتنعا فينبغي أن يكون كالمعسر. كما لو كان للرجل مال وحيل بينه وبينه لغصب أو بعد. لكن ينبغي أن يكون الواجب هنا القرض. رجاء الاسترجاع. وعلى هذا فمتى وجبت عليه النفقة وجب علية القرض إذا كان له وفاء. {فَإِنْ أَرَادَا} يعني الوالدين {فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا} أي اتفاق على فطام قبل الحولين {وَتَشَاوُرٍ} أي يشاورون أهل العلم به حتى يعلموا أن الفطام في ذلك الوقت لا يضر بالولد.

أو تشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، والمشاورة استخراج الرأي {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي لا حرج عليهما في الفطام قبل الحولين إذا رأيا ذلك مصلحة للولد. {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ} أي تجعلوا لأولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم إرضاعهم، أو تعذر لعلة بهن أو انقطاع لبن، أو أردن النكاح {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي لا جناح على الوالد والوالدة إذا اتفقا على أن يستلم منها الولد في بذله، ولا عليه في قبوله منها إذا أسلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، دون إضرار، واسترضع لولده غيرها بالأجرة. {وَاتَّقُوا اللهَ} في جميع أحوالكم {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *} فلا يخفى عليه خافية وهذه كقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي أرضعن أولادكم فآتوهن أجورهن على إرضاعهن {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} فأمرهم أن يأتمروا بالمعروف وبما هو الأحسن، ولا يقصدوا المضارة فلها أن تعاقد أباه أو وليه على ما يتفقان عليه من أجرة بالمعروف، ولها طلب أجرة المثل لرضاع ولدها، ولو أرضعه غيرها مجانًا لأنها أشفق من غيرها ولبنها أمرى لولدها. (وقال) تعالى {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} أي في الإرضاع والأجرة بأن طلبت أم الطفل في أجرة الرضاع كثيرًا ولم يجبها الرجل إلى ذلك أو بذل لها قليلاً ولم توافقه عليه (فسترضع له أخرى) أي فليسترضع له غيرها، وليس له إكراهها على إرضاعه، وإن

رضيت الأم بما استؤجرت به الأجنبية فهي أحق بولدها لما تقدم من قوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} ولا يلزمها إرضاع ولدها إلا لضرورة ثم قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا *}. فدلت الآيات على وجوب النفقة لولده، وإن سفل، ذكرًا كان أو أنثى، وفي قوله {وَذِي الْقُرْبَى} وقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} دليل على أن للقريب حقًا على قريبه، وأنه مع حاجته وغنى قريبه تجب عليه النفقة ومع عدمها فحقه البر والإكرام ويأتي تفصيل ذلك في السنة. (وقال - صلى الله عليه وسلم - لهند) لما قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي وتقدم (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) فدل على وجوب نفقة الولد، وأنه يختص بها الأب ولأحمد "يقول إلى من تتركني" وهو في الصغير إجماع وأما الكبير فبشرطه، ومن وجبت نفقته على شخص ومنعه فقال الشيخ، ومن كان له عند إنسان حق ومنعه إياه جاز له الأخذ من ماله بغير إذنه إذا كان سبب الحق ظاهرًا لا يحتاج إلى إثبات. مثل استحقاق المرأة النفقة على زوجها واستحقاق الأقارب النفقة على أقاربهم واستحقاق الضيف الصيافة على من نزل به، وإن كان سبب الحق خفيًا يحتاج على إثبات لم يجز وهذه

الطريقة المنصوصة عن أحمد، وهي أعدل الأقوال اهـ، ومع عدم الأب فعلى القريب كما تقدم. (وقال) - صلى الله عليه وسلم - في حديث طارق المحاربي، وكان قدم المدينة فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر يخطب الناس ويقول: "يد المعطي العليا و (ابدأ بمن تعول) أي تمون بمعنى بمن تلزمك مؤونته وفيه وجوب النفقة على القريب المحتاج، وفصله بقوله (أمك وأباك) فبدأ بذكر الأم قبل الأب فدل على أن الأم أحق من الأب، وفي الصحيح من أبر؟ قال «أمك» ثلاثًا ثم ذكر الأب معطوفًا بثم، فمن لم يجد إلا كفاية أحدهما بدأ بالأم، وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} الآية قال القاضي عياض هو مذهب جمهور العلماء. ثم الأب، فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن لي مالا وإن والدي يحتاج على مالي قال: «أنت ومالك لأبيك» «إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم» وفيه: وجوبها على الولد إذا كان واجدًا لها. ثم قال - صلى الله عليه وسلم - «وأختك وأخاك» فيعم الإخوة لأبوين أو لأب أو لأم، فدل على وجوب الإنفاق على القريب المعسر، لجعله - صلى الله عليه وسلم - الأخت والأخ ممن يعول، وهو قول جمهور العلماء أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم قال - صلى الله عليه وسلم - «ثم أدناك أدناك» الأقرب

فصل في نفقة المملوك

فالأقرب فيحصل بذلك الأجر بالمواساة وصلة الرحم (رواه النسائي) وصححه ابن حبان والدراقطني وللنسائي وغيره من حديث جابر ابدأ بنفسك أي بما تحتاجه من مؤونة وغيرها فإن فضل فلأهلك فإن فضل فلذي قرابتك، فإن حمل على التطوع شمل كل قريب أو الواجب اختص به من تجب نفقته من أصل وفرع. وهذان الحديثان وما في معناهما مفسران لقوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} وغيرها، فيجب الإنفاق للقريب المعسر على قريبه الغني على الترتيب في الحديث، ونحوه والزوجة تقدم ذكرها، وأنها لا تسقط نفقتها بمضي الزمان، وأما الأقارب فهي إنما شرعت للمواساة لأجل إحياء النفس، وقد انتفى بالنظر إلى الماضي. قال ابن القيم: تسقط النفقة بمضي الزمان عند الأكثر في نفقة الأقارب، واتفقوا عليه في نفقة العبد والحيوان البهيم. فصل في نفقة المملوك أي في حكم نفقة المملوك على سيده ونفقة البهائم على مالكها وما يتعلق بذلك والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع في الجملة. (قال تعالى: {وَمَوَالِيكُمْ}) أول الآية {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} فهذا في التسمية عوضًا عمًا فاتهم من النسب وقال {قَدْ عَلِمْنَا مَا

فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين مما بينه الشارع وغير ذلك من الأصول الشرعية الدالة على وجوب نفقة المملوك. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للموك) وكذا المملوكة على مالكهما (طعامه) من غالب قوت البلد ويقتاته مثله (وكسوته) من غالب كسوة البلد، وكذا سكناه (بالمعروف) وهو ما عرفه الشارع وتعارفه الناس بينهم. قال ابن المنذر أجمعوا على أن الواجب إطعام الخادم من غالب قوت البلد الذي يأكل مثله في تلك البلد، وكذا كسوته وسكناه (ولا يكلف من العمل ما لا يطيق) أي لا يكلفه مالكه من العمل ما لا يطيقه رقيقه (رواه مسلم). فدل الحديث: على وجوب طعام الرقيق وكسوته بالمعروف ولا نزاع في ذلك وظاهر هذا اللفظ مطلق الطعام والكسوة فلا يجبان من عين ما يأكل المالك ويلبس، وفي مسلم أيضًا وغيره الأمر بإطعامهم مما يطعم وكسوتهم مما يلبس كما سيأتي، فلعله للندب للإجماع على أنه لا يجب ذلك على المالك، ودل على أنه لا يكلف المملوك من العمل ما لا يطيقه، ولا نزاع في ذلك أيضًا وينبغي أن يريحه وقت القائلة والنوم والفرائض لخبر «لا ضرر ولا ضرار» وعليه أن يركبه في السفر عقبة، وإن اتفق المالك والرقيق على المخارجة كل يوم أو كل شهر على شيء

معلوم جاز إن كان بقدر كسبه فأقل، بعد نفقته بالمعروف وكسوته وسكناه، لفعل الزبير. (ولهما عن أبي ذر) رضي الله عنه (مرفوعًا إخوانكم) أي مماليككم جمع أخ وهو الناشئ مع أخيه منشأ واحدًا (خولكم) الخول حشم الرجل وأتباعه، أي خدمكم جمع خائل أي خادم سمي به لأنه يتخول الأمور أي يصلحها (جعلهم الله) قنية بكسر القاف (تحت أيديكم) يعني قدرتكم تتصرفون فيهم، وقال في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - «الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم» أي أحسنوا إليهم، فيتأكد حق المملوك على سيده (فمن كان أخوه تحت يده) أي فمن كان مملوكه تحت يده في قبضته وتحت حكمه وسلطانه. (فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس) وتقدم أن المراد هنا والله أعلم الندب أو أنه خطاب مع من ألبستهم وأطعمتهم غليظة وخشنة، إذ العرب إذ ذاك كذلك ولا منافاة بينه وبين قوله «طعامه وكسوته بالمعروف» لأن ما هنا في حق العرب إذ ذاك، وأما من طعامهم رقيق الطعام ولباسهم رقيق الثياب فإن واسى رقيقه كان أحسن، وإن لم يفعل فلا يجب عليه لرقيقه إلا المعروف من نفقة أرقاء أمثاله وأهل بلده وكسوتهم، لما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - «بالمعروف» وهو ما يتعارفه الناس بينهم، وأكثر طعام العرب إذ ذاك ولباسهم غليظ خشن. ويدل على أنه للندب ما في الصحيحين «إذا أتى أحدكم

خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليضع في يده أكلة أو أكلتين». وحكى ابن المنذر وغيره الإجماع على أن الواجب إطعام الخادم من غالب القوت الذي يأكل منه مثله في تلك البلد، وكذا الكسوة (ولا تكلفوهم ما يغلبهم) أي ما لا يطيقون الدوام عليه لا ما لا يطيق يومًا أو يومين أو ثلاثة، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه بنفسه أو بغيره، فيحرم عليه أن يكلفه على الدوام ما لا يطيقه ومثل القن نحو خادم وأجير ودابة وفيه العطف على المملوك والشفقة عليه، وإن طلب الرقيق نكاحه زوجه أو باعه، لقوله تعالى: {وَإِمَائِكُمْ} وإن طلبته الرقيقة وطئها أو زوجها أو باعها ويزوج أمة صبي أو مجنون من يلي ماله، وله تأديب رقيقه لما تقدم وقيده إن خاف إباقه. (ولمسلم عن عبد الله بن عمرو) ابن العاص رضي الله عنه (مرفوعًا كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته) وفي رواية للنسائي «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت» فدل الحديث على وجوب نفقة الإنسان لمن يملكه فإنه لا يكون آثمًا إلا على تركه لما يجب عليه، وقد بالغ - صلى الله عليه وسلم - في إثمه فقال: «كفى به إثمًا أي عن كل إثم سواه، ولفظ النسائي عام لمن يجب عليه الإنفاق عليه وهم أهله وأولاده وعبيده. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا) أي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جاريتك» أيها الإنسان «تقول أطعمني» مما تطعم (واستعملني) في أي عمل أقدر عليه (وإلا فبعني) حتى أحصل

على ذلك. (رواه أحمد) وعن أبي ذر مرفوعًا من لاءمكم من مملوككم فاطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تكتسون ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله" يعني بالضرب والشتم، ولا يلزم بيعه بطلبه مع القيام بحقه. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عذبت امرأة» روي أنها حميرية وروى مسلم أنها من بني إسرائيل طائفة من حمير، دخلوا في اليهودية، وقال الحافظ لم أقف على اسمها «في هرة» هي انثى السنور «حبستها» عن الطعام والشراب «حتى ماتت جوعًا» لحبسها «لا هي أطعمتها» وسقتها إذ هي حبستها «ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض» أي من هوام الأرض (متفق عليه) ولهما عن أبي هريرة نحوه، فدل الحديث على تحريم تعذيب الهرة ونحوها بمثل هذا الفعل من دون طعام ولا شراب لأن ذلك من تعذيب خلق الله، وقد نهى الشارع عنه. ودل على وجوب النفقة على الحيوان المملوك، لأن السبب في دخول تلك المرأة النار ترك الهرة عن الإنفاق عليها وحبسها، وإذا كان هذا الحكم ثابتًا في مثل الهرة فثبوته في مثل الحيونات التي تملك أولى، لأنها مملوكة محبوسة مشغولة بمصالح المالك، وهذا مذهب جمهور العلماء، وقال الوزير للإمام أن يجبره على نفقتها أو بيعها عند مالك والشافعي وأحمد اهـ. لأن مالك البهيمة إذا أخل بعلفها أو حملها ما لا تطيق ولم يسيبها

بمكان تتمكَّن فيه من تناول ما يقوم بكفايتها أجبر كما يجبر المالك للرقيق لهذا الخبر وغيره، ولكون كل منهما مملوكًا ذا كبد رطبة، مشغولاً بمصالح مالكه، محبوسًا عن مصالح نفسه. (ومسلم عن أبي هريرة) رضي الله عنه (في الذي سقى الكلب فغفر له) وذلك أنه كان يمشي في طريق فاشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فنزل ثم سقاه فغفر له (قالوا يا رسول الله إن لنا في البهائم أجرًا) عام لكل بهيمة (فقال في كل كبد رطبة أجر) ضد يابسة وأريد بها هنا الحياة، لأن الرطوبة في البدن تلازمها، فدل الحديث على عظم أجر من أطعم أو سقى شيئًا من الحيوان فما يملكه أولى. (ويأتي) أي في باب الذكاة من حديث شداد عن مسلم وغيره «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته، وله عن جابر "نهى أن يقتل شيء من الدواب صبرًا". وعن سهل بن الحنظلية قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: «اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة»، فدلت هذه الأحاديث وما في معناها من أصول الشرع: أنه يجب على مالك البهيمة أن لا يحملها ما تعجز عنه، ويلزمه علفها وسقيها وسائر ما يصلحها، وإن امتنع أجبره الحاكم عند جمهور العلماء على نفقتها أو بيعها، أو إجارتها إن لم يبعها لمن يصلحها، أو ذبحها إن أكلت، لأن

باب الحضانة

بقاءها في يده مع ترك الإنفاق عليها ظلم ويستحب نفقته على ماله غير الحيوان، للنهي عن إضاعة المال. باب الحضانة من الحضن وهو الجنب، ومصدر من حضن الصبي حضنًا جعله في حضنه أو رباه فاحتضنه، سميت بذلك لأن المؤوي يضم الطفل إلى حضنه، وهي حفظ صغير ونحوه عما يضره، وتربيته بعمل مصالحه، ووقايته عما يرضه، والأصل فيها السنة والإجماع. (عن عبد الله بن عمرو) رضي الله عنهما (أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء) بكسر الواو والمد الظرف (وثديي له سقاء) ككساء جلد السخلة إذا جذع يكون للماء واللبن كما فيه أيضًا (وحجري له حواء) أي حضنها له حواء بزنة كساء اسم للمكان الذي يحوي الشيء، أي مكانًا يحويه ويضمه ويحرسه، (وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني) أي يأخذه وأنا قد ساويته في الولادة وزدت عليه بهذه الخصوصيات: فهو آنس بي وأقرب رحمًا، فأنا أستحق التقديم (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت أحق به) أي بحضانة ولدك «ما لم تنكحي» أي تزوجي فإذا تزوجت فأبوه أحق به منك لكونها كانت في حكم غير أبيه، وقد يشتد بغضها للمطلق ومن يتعلق

به كما سيأتي (رواه أبو داود) ورواه أحمد والحاكم وصححه. فدل الحديث على أن الأم أحق بحضانة ولدها إذا أراد الأب انتزاعه منها، وذكرت هذه المرأة صفات اختصت بها تقتضي استحقاقها، وأولويتها بحضانة ولدها وأقرها - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وحكم لها، وقضى بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وحكى ابن المنذر الإجماع عليه، وقال أبو بكر: ريحها وفراشها وحجرها خير له منك، حتى يشب ويختار لنفسه، وقيل لا خلاف فيما دل عليه هذا الحديث وقال الشيخ أما الصغير فالأم أصلح له من الأب، لأنها أوثق بالصغير وأخبر بتغذيته وحمله وتنويمه وتنويله وأصبر وأرحم به، فهي أقدر وأخبر وأرحم وأصبر في هذا الموضع، فتعينت في حق الطفل غير المميز بالشرع، وقال: تقديم الأم على الأب في حق الصغير متفق عليه. ودل الحديث على أنها إذا نكحت سقط حقها من الحضانة وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه، والمراد مع طلب من تنتقل إليه الحضانة ومنازعته، وإلا فللأم المزوجة أن تقوم بولدها بالاتفاق، فإن خالة بنت حمزة مزوجة، وولد أم سلمة في كفالتها، وأنس وغيرهم مما هو أشهر من أن يذكر. (وللخمسة) وصححه الترمذي وغيره (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال جاءت امرأة) وذلك أنه أتى إلى أبي هريرة

امرأة فارسية قد طلقها زوجها وأراد أن يذهب بابنها قال فجاءت (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت إن زوجي يريد أن يذهب بابني) ويختص به دوني (وقد سقاني من بئر أبي عنبة) بكسر العين واحدة حبات العنب، بئر معروفة بالمدينة قالته إظهار لحاجتها إليه، ولعله بعد مدة الحضانة (وقد نفعني) أي بغير سقي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «استهما عليه» فقال زوجها من يحاققني في ولدي (فقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يا غلام هذا أبوك» وأجلسه ناحية «وهذه أمك» ناحية «فخذ بيد أيهما شئت». قال الخطابي هذا في الغلام الذي قد عقل واستغنى عن الحضانة (فأخذ بيد أمه) اختار أمه لعله لأجل رأفتها به وشفقتها عليه (فانطلقت به) فدل الحديث على أن الابن بعد استغنائه بنفسه يخير بين الأم والأب، وهو عمل الخلفاء ومذهب جمهور العلماء، وينبغي أنه إن كان عند الأب كان ليلاً ونهارًا، ولا يمنع زيارة أمه، وإن اختارها كان عندها ليلاً وعند أبيه نهارًا ليعلمه ويؤدبه، وإن عاد الصبي فاختار الآخر نقل إليه، وإن لم يختر أو اختارهما معًا أقرع، وقيل يقرع بينهما لما تقدم، ولما في السنن للبيهقي من حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال «استهما» فقال الرجل: من يحول بيني وبين ولدي فقال - صلى الله عليه وسلم - «اختر أيهما شئت» فاختار أمه فذهبت به، وإنما قدم الجمهور الاختيار للأخبار، ولعمل الخلفاء الراشدين به. وقال الشيخ: تخيير شهوة حيث كل من الأبوين نظير

الآخر، ولا يمكن أن يعتبر أحدهما، فإنه قد يكون أصلح له من الآخر، وقال هو وابن القيم: التخيير والقرعة لا يكونان إلا إذا حصلت به، مصلحة الولد، فلو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قدمت عليه، ولا التفات إلى قرعة ولا اختيار الصبي في هذه الحالة، فإنه ضعيف العقل، يؤثر البطالة واللعب، فإذا اختار من يساعده على ذلك فلا التفات إلى اختياره، وكان عند من هو أنفع له، ولا تحتمل الشريعة غير هذا. والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع» والله تعالى يقول: {قُو أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فإذا كانت الأم تتركه في المكتب أو تعلمه القرآن والصبي يؤثر اللعب ومعاشرة أقرانه وأبوه يمكنه من ذلك فإنها أحق به، ولا تخيير ولا قرعة وكذلك العكس. (وعن البراء) ابن عازب رضي الله عنه (أن عليًا) يعني ابن أبي طالب (وجعفرًا) يعني ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم (وزيدًا) يعني ابن حارثة بن شراحيل الكلبي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحبه (اختصموا في حضانة ابنة حمزة) عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بعد أن دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة بعد صلح الحديبية، ثم خرج فتبعته ابنة حمزة، واسمها عمارة وتكنى أم الفضل تنادي: يا عم يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها، وقال لفاطمة دونك ابنة عمك احمليها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر (فقال

علي) ابن أبي طالب أنا أخذتها وهي (ابنة عمي) حمزة بن عبد المطلب (وقال زيد) ابن حارثة (ابنة أخي) حمزة وكان - صلى الله عليه وسلم - آخى بينه وبينه (وقال جعفر) ابن أبي طالب (ابنة عمي) حمزة وتساوى مع علي (و) زاد (خالتها) أسماء (تحتي) يعني زوجة جعفر. (فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخالتها) أسماء امرأة جعفر (وقال الخالة بمنزلة الأم) في الحنو والشفقة ولأحمد من حديث علي «فإن الخالة والدة» ثم قال - صلى الله عليه وسلم - تطيبا لنفوسهم وبدأ بعلي فقال: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر «أشبهت خلقي وخلقي» وقال لزيد «أنت أخونا ومولانا» (متفق عليه) فدل الحديث على ثبوت الحضانة للخالة وأنها كالأم، وابنة حمزة لم يكن لها أم ولا جدة، وأبوها قتل رضي الله عنه وقال الشيخ في قوله تعالى: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} إذا احتاجت مريم إلى من يكلفها ويحضنها حتى اقترعوا على كفالتها، فكيف بمن سواها من النساء وهذا أمر يعرف بالتجربة أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة إلى ما لا يحتاج إليه الصبي، وكلما كان أصون لها وأستر كان أولى. ورجح أن المميزة عند الأب، ومن عين الأم وهم الجمهور: لا بد أن يراعوا مع ذلك صيانتها لها، فإذا لم تكن في موضع حرز وتحصين، أو كانت غير مرضية فللأب أخذها منها بلا ريب، لأنه أقدر على حفظها وصيانتها من الأم، وهي مميزة لا تحتاج في بدنها إلى أحد، والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس

للأم، قال: وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها ضرر في ذلك، فلو قدر أنه عاجز عن حفظها وصيانتها ويهملها لاشتغاله عنها، والأم قائمة بحفظها وصيانتها، فإنها تقدم في هذه الحال، فمع وجود فساد أمرها مع أحدهما فالآخر أولى بها بلا ريب. ودل الحديث على أن المرأة المزوجة أولى من الرجال، فإن عصبة ابنة حمزة طالبون للحضانة، وقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للخالة زوجة جعفر وحق المزوجة للزوج فلم تسقط حضانتها لأنها تشتغل بالقيام بحقه وخدمته، فإذا رضي بأنها تحضن من لها حق في حضانته وأحب بقاء الطفل في حجره لم يسقط حق المرأة من الحضانة بالتزويج وإنما يسقط حضانة الأم وحدها حيث كان المنازع لها الأب، ويؤيده أن المرأة المطلقة يشتد بغضها للزوج المطلق، ومن يتعلق به، فقد يبلغ بها الشأن إلى إهمال ولدها منه قصدًا لإغاضته، ومبالغة في التحبب عند الزوج الثاني لتوفير حقه. وإلا فقوله - صلى الله عليه وسلم - «الخالة بمنزلة الأم» دليل على أن الأم لا تنازع في حضانة ولدها، وأنه لا حق لغيرها مع وجودها، قال الشيخ: وجنس النساء مقدم على جنس الرجال كما قدمت الأم على الأب، وقال: تقديم أخواته على إخوته وعماته على أعمامه وخالاته على أخواله هو القياس الصحيح وأما تقديم جنس نساء الأم على نساء الأب فمخالف للأصول والمعقول وقال: مجموع

أصول الشرع تقديم أقارب الأب على أقارب الأم، فمن قدمهن في الحضانة فقد خالف الأصول والشريعة اهـ. ثم لذوي الأرحام غير من تقدم، وإن كانت أنثى وتم لها سبع سنين فيعتبر أن يكون جنس الرجال من محارمها، ولو برضاع وإلا سلمها لثقة أو محرمه، ثم الحاكم لعموم ولايته، ويتوجه لمن سبقت إليه اليد كاللقيط كما في الاختيارات. (وعن جعفر) ابن رافع (أن أبا رافع) ابن سنان الأنصاري رضي الله عنه (أسلم وأبت امرأته أن تسلم) وكان في أول الأمر، وأما في آخر الأمر فأسلم جميع نساء الأنصار، قال الشيخ فلم يكن فيهن إلا مسلمة، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولنساء الأنصار» (فأقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الأم ناحية والأب ناحية والصبي بينهما فمال إلى أمه) وذلك قبل أن تسلم، وكان - صلى الله عليه وسلم - أول ما قدم المدينة لم يكن يكره أحدًا على الإسلام (فـ) لما مال الصبي على أمه ولم تكن تحت حكمه - صلى الله عليه وسلم - (قال اللهم اهده) وذلك لأنهم لم يكونوا إذ ذاك ملتزمين لحكم الإسلام. قال الشيخ: إذ التزامه إنما يكون بالإسلام، أو بالعهد الذي التزموا فيه ذلك، ولهذا لم يلزم المرأة بحكم الإسلام بل دعا الله أن يهديه فاستحباب الله دعاءه وهداه أن يكون عند المسلم، لكن لم يمكنه ذلك بالحكم الظاهر، لعدم دخول حكم الكافرة تحت حكمه فطلبه بدعائه (فمال إلى أبيه فأخذه رواه

أبو داود) وهذا يدل على أنه متى أمكن أن يجعل مع المسلم لا يجعل مع الكافر، وكان هذا حكم الله ورسوله بأهل الذمة الملتزمين جريان حكم الله ورسوله عليهم، يحكم بينهم بذلك نعم لو كان النزاع بين من هو مسلم ومن هو من أهل الحرب الذين لم يلتزموا جريان حكم الله ورسوله عليهم، فهنا لا يمكن الحكم فيهم بحكم الإسلام بدون رضاهم، فيسعى حينئذ في تغليب الإسلام بالدعاء، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الشيخ فالحديث إن كان ثابتًا دليل على التخيير في الجملة، والقائلون بالتخيير لا يخيرون بين المسلم والكافر، وهو في الدين يتبع خيرهما دينًا اهـ والحديث (رواه) أحمد والنسائي و (أبو داود) وغيرهم لكن بلفظ الأنثى وتقدم الكلام في الأنثى ولأبيها وعصبتها منعها من الانفراد خشية الوقوع في المحرمات، وإن لم تمتنع إلا بالحبس حبسوها وإن احتاجت إلى القيد قيدوها، والمعتوه ولو أنثى عند أمه مطلقًا، لحاجته لمن يخدمه ويقوم بأمره والنساء أعرف بذلك.

كتاب الجنايات

كتاب الجنايات جمع جناية مصدر من جنى الذنب يجنيه جناية جره إليه، وجمعت وإن كانت مصدرًا لاختلاف أنواعها وهي لغة التعدي على بدن أو مال أو عرض، واصطلاحًا التعدي على البدن بما يوجب قصاصًا أو مالاً، والجنايات عند الجمهور على ثلاثة أضرب "عمد" يختص القود به، وهو أن يقصد آدميًا معصومًا بما يقتل غالبًا "شبه عمد" وهو أن يقصد جناية لا تقتل غالبًا ولم يجرحه بها و "خطأ" وهو أن يفعل ما له فعله كأن يرمي صيدًا فيصيب آدميًا معصومًا، والأصل في تحريم القتل بغير حق الكتاب والسنة والإجماع. (قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} تعالى عن قتل النفس بغير حق شرعي فقال: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ} قتله {إِلَّا بِالْحَقِّ} بردة أو زنا بعد إحصان أو قتل معصوم عمدًا، ويأتي قوله - صلى الله عليه وسلم - «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» وفي السنن «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم» ومن قتل مسلمًا عمدًا عدوانًا فسق عند أهل السنة

والجماعة، وغلت الخوارج فكفروه بذلك، وعند أهل السنة أمره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذَّبه. (وقال) تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} أي ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه إلا خطأ أي لكن إن وقع خطأ فجزاؤه ما يذكر من قوله {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} أي يعفو ولا قود في قتل الخطأ إجماعًا، وقال - صلى الله عليه وسلم - في الذي قال ما قصدت قتله قال: «إن كان صادقًا فقتلته دخلت النار». (وقال) تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} بما يغلب على الظن موته به {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن قتل مؤمنًا متعمدًا بل قرن تعالى قتل النفس المؤمنة بغير حق بالشرك فقال: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} وفي الوعيد على قاتل النفس بغير حق أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن وغيرها، حتى قال ابن عباس وغيره: لا توبة له، ولأحمد وغيره "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمناً متعمدًا" ومذهب أهل السنة والجماعة وجمهور السلف والخلف أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله تعالى، فإن تاب وأناب وعمل صالحًا بدل الله سيئاته حسنات وعوض المقتول من ظلامته كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ

سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}. وهذا عام في جميع الذنوب فكل من تاب تاب الله عليه قال تعالى، في الذين قالوا إن الله ثالث ثلاث: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ} وقد قال {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وهي في هذه السورة قبل آية القتل وبعدها وقال - صلى الله عليه وسلم - «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة» وثبت في صحيح مسلم في الذي قتل تسعة وتسعين وسأل هل له من توبة وفيه: ومن يحول بينك وبين التوبة، قال بعض السلف في الآية هذا والله أعلم جزاؤه إن جازاه الله. ومذهب أهل السلف: أن التوبة ليست مانعة من وجوب القصاص ولا يسقط حتى المقتول في الآخرة بمجرد التوبة كسائر حقوقه بل يأخذ المقتول من حسنات القاتل بقدر مظلمته إلا أن يعطيه الله من عنده، وكذا القصاص أو العفو لا يكفر ذنب القاتل بالكلية، وإن كفر ما بينه وبين الله، بل يبقى حق المقتول كما تقدم. وقال ابن القيم: التحقيق: أن القتل تتعلق به ثلاثة حقوق حق لله، وحق للمقتول وحق للولي، فإذا أسلم القاتل نفسه طوعًا إلى الولي ندمًا وخوفًا من الله وتوبة نصوحًا سقط حق الله بالتوبة وحق الأولياء بالاستيفاء أو الصلح أو العفو.

وبقي حق المقتول يعوضه الله يوم القيامة عن عبده التائب ويصلح بينه وبينه. (وعن ابن مسعود) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل دم امرئ») أي إراقته (مسلم) فأخرج الكافر فإنه يحل دمه لغير الثلاث المذكورة (يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) وهذا وصف كاشف للحكم لأن المرء لا يكون مسلمًا إلا إذا كان يشهد تلك الشهادة فهي العمدة في حقن الدم ثم لا يحل دمه (إلا بإحدى ثلاث) أي خصال ذكرها وعمومه مخصص بما ورد من الأدلة الدالة على أنه يحل بغير هذه الثلاث المذكورة قتل نفس بغير حق وزنا المحصن والارتداد، فصل ذلك بتعداد المتصفين به فقال: (الثيب الزاني) أي المحصن بالرجم وهذا لا نزاع في حل دمه بالزنا كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. (والنفس) أي المقتولة (بالنفس) والمراد به القصاص بشرطه أي يحل قتل نفس القاتل عدوانًا قصاصًا بنفس المقتول عدوانًا، وهو الشاهد من الحديث ومخصوص بولي الدم (والتارك لدينه) أي المرتد عن الإسلام بأي ردة كانت يحل دمه بأي نوع كان من أنواع الكفر إن لم يرجع إلى الإسلام، ولمسلم «أو كفر بعد إسلام» وفي لفظ «أو رجل يخرج من الإسلام» (المفارق للجماعة) أي جماعة المسلمين ولا يكون ذلك إلا بالكفر لا بالبغي والابتداع ونحوهما من الخصال للإجماع على أنه لا يجوز قتل العاصي بترك أي خصلة من

خصال الإسلام فإنه، وإن كان في ذلك مخالفة للجماعة فليس فيه ترك للدين فإن المراد الكفر كما يدل عليه قوله "أو كفر بعد إسلام" وقوله "أو رجل يخرج من الإسلام" ويتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي كالخوارج إذا قاتلوا وأفسدوا وسيأتي والحديث (متفق عليه). فدل الحديث على أنه لا يباح دم المسلم إلا بإتيانه بإحدى الثلاث، والمراد هنا النفس بالنفس، ولمسلم وغيره نحوه من حديث عائشة ولفظه: "ورجل يقتل مسلمًا متعمدًا فيقتل" وهذا فيه قيد لمطلق الحديث، واتفق أهل العلم على أن الذي يجب به القصاص هو العمد، وهو أحد شروط القصاص التي لا يقتص إلا بحصولها. (ولهما عنه) أي عن ابن مسعود رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أول ما يقضى بين الناس في الدماء» فدل على عظيم أمر الدماء وتأثير خطرها وجاء في الخبر «لو اجتمع أهل السماء والأرض في دم مؤمن لأكبهم الله في النار» «ويأتي كل قتيل قد حمل رأسه يقول يا رب سل هذا فيم قتلنى؟» ومن حديث ابن عباس: «ويأتي المقتول معلقًا رأسه بإحدى يديه، ملببًا قاتله بيده الأخرى، يتشحط أوداجه دمًا حتى يقفا بين يدي الله عز وجل». وفيها أيضًا دليل على عظم شأن دم الإنسان فإنه لا يقدم

فصل في القصاص

في القضاء إلا الأهم وإن كان في السنن "أول ما يحاسب العبد عليه صلاته" فإن هذا الحديث فيما يتعلق بحقوق المخلوق، وفي أولية القضاء، وكذا في الحساب، وللنسائي من حديث ابن مسعود «أول ما يحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء» وفي الصحيح «أول من تجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة في قتلى بدر» فدل ما تقدم وغيره على عظيم قتل المسلم بغير حق وأنه من أكبر الكبائر. فصل في القصاص أي في أحكام القصاص في النفس، والقصاص المساواة والمماثلة في الجراحات والديات، وأصله من قص الأثر إذا اتبعه، فالمفعول به يتبع من فعل به فيفعل مثله، ومن حكمة القصاص ما قاله ابن القيم وغيره: أنه زجر للنفوس عن العدوان وأشفى لغيظ المجني عليه، وأحفظ للنفوس والأطراف، وطهرة للمقتول، وحياة للنوع الإنساني وعدل بين القاتل والمقتول، فإن الجناية على النفوس والأعضاء تدخل من الغيظ والحنق والعداوة على المجني عليه وأوليائه ما لا تدخله جناية المال، بل وتدخل عليهم من الغضاضة والعار واحتمال الضيم والحمية والتحرق لأخذ الثأر ما لا يجبره المال أبدًا، حتى إن أولادهم وأعقابهم لعيرون بذلك، ولأولياء القتل من القصد في القصاص، وإذاقه الجاني وأوليائه ما أذاقه المجني عليه

وأولياءه ويجرعونه من الألم والغيظ ما يجرعه الأول، وكانت العرب في جاهليتها تعيب على من يأخذ الدية ويرضى بها من درك ثأره وشفاء غيظه. (قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} أي فرض عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون ثم بين المساواة والمماثلة فقال: (الحر بالحر) أي حركم يقتل بحرِكم بلا نزاع، وتعريف المبتدأ يفيد الحصر وأنه لا يقتل الحر بغير الحر، وقوله تعالى {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} مطلق وهذه الآية مقيدة ومبينة وصريحة لهذه الأمة {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} أي وعبدكم يقتل بعبدكم واتفق أهل العلم على ذلك {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} أي وأنثاكم تقتل بأنثاكم بلا نزاع، ولا تجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم. قيل نزلت في حيين من العرب كان لأحدهما على الآخر كثرة وشرف فأقسموا لنقتلن بالعبد الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين، وجعلوا جراحاتهم ضعف جراحات أولئك فأنزل الله هذه الآية، فأمروا بالمساواة فرضوا وأسلموا وقيل نزلت في بني قريظة وبين النضير كانوا إذا قتل القرظي النضري قتل وإذا قتل النضري القرظي ودي بمائة وسق فأمر الله بالعدل في القصاص، فدلت الآية على أنه إذا تكافأ الدمان من الأحرار المسلمين والعبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم قتل من كل صنف منهم

الذكر إذا قتل بالذكر وبالأنثى قال الموفق: في قول عامة أهل العلم، وتقتل الأنثى إذا قتلت بالأنثى وبالذكر بلا نزاع. ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا حر بعبد، ولا مسلم بذمي، ويقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر، وهو مذهب أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم وقالوا: العبد سلعة، لو قتل خطأ لم يجب فيه دية وإنما تجب فيه قيمته، ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى ويقتل الصحيح السوي بالمريض والزَمِن على الصحيح لا الطرف الصحيح بالأشل ونحو ذلك {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي ترك وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد ورضي بالدية من دم أخيه المقتول {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أي على الطالب بالدية أن يتبع بالمعروف فلا يطالب بأكثر من حقه. {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يعني من القاتل من غير ضرر ولا مدافعة، قال ابن عباس وغيره، العفو أن يقبل في العمد الدية، والاتباع بالمعروف يتبع الطالب بالمعروف، ويؤدي إليه المطلوب (بإحسان) يعني بلا مماطلة كل واحد منهما بإحسان فيما له وعليه، والجمهور من الصحابة والتابعين أن ولي الدم إذا عفا عن القصاص إلى الدية فله أخذ الدية وإن لم يرض به القاتل وهو ظاهر الخبر الآتي {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أي ذلك الذي ذكرت من العفو عن القصاص وأخذ الدية تخفيف من ربكم ورحمة.

وذلك أن القصاص في النفس والجراح كان حتمًا في التوراة ولم يكن لهم أخذ الدية، وكان في الإنجيل الدية ولم يكن لهم القصاص، فخير الله هذه الأمة، وبين أن العفو عن الدية تخفيف {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد العفو وقبول الدية {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهو أن يقتل قصاصًا وعن سَمُرة مرفوعًا «لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية» أي لا أقبلها منه بل أقتله، وأوجبه بعضهم ولم يجعله إلى الأولياء كما سيأتي. {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أي في شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل بقاء وهذه حكمة عظيمة من الله تعالى، فإن القاتل إذا علم أنه يقتل انكف عن صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس، وفي الكتب المتقدمة وقيل في المثل: «القتل أنفى للقتل» وقال الشاعر: بالدما يا جارتي تحقن الدما ... وبالقتل ينجو الناس من القتل {يَا أُولِي الألْبَابِ} أي يا أولي العقول والأفهام والنهى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تنزجرون وتنتهون عن القتل مخافة القود فما شرعه الله من القصاص أكمل وأصلح للعباد، وأشفى للغيظ وأحفظ للنفوس، والمصلحة به أضعاف أضعاف تلك المفسدة. (وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} أي أوجبنا عليهم (فيها) أي في التوراة وشرع من قبلنا شرع لنا إذا حكي مقررًا ولم ينسخ كما هو المشهور عند الجمهور لهذه الآية، وأجمعوا على الاحتجاج بما دلت عليه {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي أن نفس القاتل بنفس المقتول وفاءً يقتل به، والجمهور على أن الرجل يقتل بالمرأة

لعموم هذه الآية ولما يأتي، وأما المسلم فلا يقتل بالكافر لما في الصحيحين وغيرهما «لا يُقتل مسلمٌ بكافرٍ» وأما العبد ففيه عن السلف آثار كثيرة أنهم لم يكونوا يقيدون الحر بالعبد، وحكى الشافعي الإجماع على ذلك كما لا يقيدون المسلم بالكافر، لأن الآية أريد بها الأحرار المسلمون، لأن اليهود كانوا ملة واحدة ولا عبيد فيهم، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (إلى قوله {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} أي بالقصاص {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} أي للمتصدق يهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدق به، قال الشيخ: ومن توهم أن بالعفو قد يسقط حقه أو ينقص قدره أو يحصل له ذل فهو غالط كما في الصحيح "وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا" وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه قط، والكامل هو الذي ينتصر لحق الله ويعفو عن حق نفسه عند القدرة، ثم توعد تعالى من خالف حكمه فقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *} لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم بالعدل، نزلت لما اصطلح اليهود أن لا يقتل شريف بوضيع ورجل بامرأة. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قتل له قتيل) أي من قتل له قريب كان حيًّا فصار قتيلاً بذلك القتل (فهو بخير النظرين) أي مخير بين أمرين (إما أن يفتدي وإما أن يقتل) وفي رواية "إما أن يفدي وإما أن يقاد" وظاهره أن الخيار لورثة القتيل سواء كانوا يرثونه بسبب أو

نسب. وقال الخطابي وغيره: الخيرة إلى ولي الدم في القصاص وأخذ الدية، ولو قتله جماعة كان لولي الدم أن يقتل منهم من شاء، ويطالب بالدية من شاء، وهو قول الشافعي وأحمد وغيرهما، وعند الجمهور أنه يتعلق الحق بورثة المقتول فلو كان بعضهم غائبًا أو طفلاً لم يكن للباقين القصاص حتى يبلغ الطفل ويقدم الغائب، والحديث (متفق عليه) ورواه أهل السنة وغيرهم بألفاظ متقاربة. (زاد أبو داود عن أبي شريح) واسمه خويلد بن عمرو رضي الله عنه (أو يعفو) إلى الدية أو مجانًا، وله "وإن أراد الرابعة فخذوا على يديه" ولفظ الترمذي من حديث أبي هريرة "إما أن يعفو وإما أن يقتل" فدلت هذه الأحاديث وغيرها على أنه يخير الولي بين القود أو الدية وعفوه مجانًا أفضل لما تقدم ولقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وإن عفا عن القصاص فله أخذ الدية وإن عفا عن الدية فقط فله أخذها وإن اختارها فليس له غيرها، وإن قال عفوت ولم يقيد فله الدية لانصراف العفو إلى القصاص لأنه المطلوب الأعظم، وإن هلك الجاني فليس للولي سوى الدية. وقال ابن القيم الواجب أحد شيئين إما القصاص وإما الدية والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء العفو مجانًا أو العفو إلى الدية أو القصاص ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة، والرابعة المصالحة إلى أكثر من الدية، وقال الوزير:

اتفقوا على أنه إذا عفا أحد الأولياء من الرجال سقط القصاص وانتقل الأمر إلى الدية، وإن عفت امرأة فقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد يسقط القود واختلفت الرواية عن مالك، وقال ابن رشد ومن له العفو بالجملة فهم الذين لهم القيام بالدم، والذين لهم القيام بالدم هم العصبة عند مالك، وعند غيره كل من يرثه، وعمدتهم اعتبار الدم بالدية. وقال الشيخ: ولاية القصاص والعفو ليست عامة لجميع الورثة بل تختص بالعصبة، وهو مذهب مالك وتخرج رواية عن أحمد، وقال: إذا اتفق الكبار من الورثة على القتل فلهم ذلك عند أكثر العلماء، وإذا اتفق جماعة على قتل شخص فلأولياء الدم أن يقتلوهم، ولهم أن يقتلوا بعضهم، وإذا عفا أولياء المقتول عن القاتل، بشرط أن لا يقيم في هذا البلد ولم يف بهذا الشرط لم يكن العفو لازمًا، بل لهم أن يطالبوه بالدية في قول أكثر العلماء. (وله) أي لأبي داود وغيره (عن أنس) رضي الله عنه أنه قال: (لا يرفع إليه - صلى الله عليه وسلم - أمر في القصاص) شمل القصاص في النفس فما دونها من الشجاج وكسر العظام (إلا أمر فيه بالعفو) ولمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «ما من رجل يصاب في جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة، وحط به عنه خطيئة» ولأحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه - صلى الله عليه وسلم - أقسم على ثلاث منها "ولا يعفو عبد

عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها عزًا يوم القيامة. فدلت هذه الأحاديث وما في معناها مع ما تقدم من الأحاديث الصحيحة وما تقدم من نص القرآن الكريم على مشروعية العفو في الجملة والترغيب فيه واستحبابه، ولا نزاع في مشروعيته في الجملة، والجمهور على أنه أولى من الترك، فإنه تعالى إنما ندب عباده لما لهم فيه مصلحة راجحة على مصلحة الانتصاف من الظالم، فالعافي له من الأجر بعفوه عن ظالمه فوق ما يستحقه من العوض عن تلك المظلمة من أخذ أجر أو وضع وزر لو لم يعف عن ظالمه، لا سيما وقد نص الشارع على أنه من موجبات رفع الدرجات، وحط الخطيئات وزيادة العز. (وفي حديث عمرو بن حُريث) ابن عمرو بن عثمان القرشي المتوفى سنة خمس وثمانين رضي الله عنه يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ومن اعتبط مؤمنًا» أي قتله بلا جناية منه ولا جريرة توجب قتله، وأصله من اعتبط الناقة إذا ذبحها من غير داء (قتلاً) تأكيد (عن بينة) لا خطأ وقامت عليه البينة (فإنه قود) مأخوذ من قود الدابة لأنه يقاد إلى القتل بمن قتله أي يقتل القاتل بمن قتله، ولا نزاع في ذلك بشرطه (إلا أن يرضى أولياء المقتول) أي بالدية أو يقع منهم العفو، فدل الحديث وغيره على وجوب القصاص على من قتل مسلمًا بغير حق إن لم يعف المجني عليه أو وليه (صححه أحمد).

(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال «من قتل عمدًا» أي متعمدًا معتديًا بغير تأويل قاصدًا الجناية (فهو قود) وإن لم يقصد الجناية أو قصد بما لا يقتل غالبًا فلا، فالقتل العمد هو أن يقصد من يعلمه آدميًا معصومًا فيقتله بما يغلب على الظن موته به، وصوروا له صورًا منها أن يجرحه بما له مور في البدن كسكين، أو بمثقل، أو يلقي عليه حائطًا أو يلقيه من شاهق أو في ماء أو نار لا يمكنه التخلص، أو غير ذلك مما سيأتي. ويشترط عصمة المقتول، وكون القاتل مكلفًا، والمساواة في الدين والحرية والرق وعدم الولادة واشترط بعضهم كون مستحقه مكلفًا وإلا حبس الجاني إلى البلوغ والإفاقة، فإن معاوية حبس هدبة حتى بلغ ابن القتيل ولم ينكر، واتفاق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه وليس لبعضهم أن ينفرد به، وأن يؤمن في الاستيفاء أن يتعدى على الجاني، قال الوزير: اتفقوا على أن من قتل نفسًا مؤمنة مكافئة له في الحرية ولم يكن المقتول ابنًا للقاتل وكان قتله متعمدًا متعديًا بغير تأويل واختار الولي القتل فإنه يجب، وكذا قال ابن رشد: الذي يجب به القصاص هو العمد. وذلك أنهم أجمعوا على أن القتل صنفان عمد وخطأ واختلفوا هل بينهما وسط وهو الذي يسمونه شبه العمد، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار، وبإثباته قال عمر وعلي وعثمان

وغيرهم ولا مخالف لهم من الصحابة، ثم قال عليه الصلاة والسلام «ومن حال دونه» أي دون القود «فعليه لعنة الله» رواه أبو داود) وفي رواية " ومن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه لا يقبل منه صرف ولا عدل" وهذا وعيد شديد لمن حال دون إقامة الحدود. (ولأحمد) والترمذي وابن ماجه (عن عمر) رضي الله عنه (مرفوعًا) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقاد الوالد بالولد» أي لا يقتل أحد الأبوين بالولد لأن الولد بضعة منه وهو سبب وجوده فلا يكون ولده سببًا لإعدامه، وقال الشافعي: حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم أنه لا يقتل الوالد بالولد، وهو مذهب الجماهير من الصحابة وغيرهم، وقضى به عمر في قصة المدلجي، وألزم الأب الدية ولم يعطه منها شيئًا وقال: ليس للقاتل شيء فلا يرث من الدية ولا من غيرها عند الجمهور، ومذهب أحمد وأبي حنيفة والشافعي، أنه لا يقاد الوالد وإن علا بالولد وإن سفل، وهذا الحديث قال ابن عبد البر وغيره فيه هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض عندهم وصححه البيهقي وابن الجارود وعليه العمل عند أكثر أهل العلم وقال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقاد به. وأما الجد فقال شيخ الإسلام السنة إنما جاءت «لا يقتل والد بولده» فإلحاق الجدُ بذلك وأبي الأم بعيد اهـ وأما الولد

فيقتل بكل من الأبوين وإن علوا لعموم {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وخص منه ما تقدم بالنص من أنه لا يقتل والد بولده، وبقي من سواه، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن الابن إذا قتل أحد أبويه قتل به، وإن شارك الأب في قتل ولده أجنبي فمذهب مالك والشافعي وأحمد يجب القصاص على المشارك في القتل العمد العدوان، وكذا حر ورقيق في قتل رقيق، ومسلم وكافر في قتل كافر، لما خص الله به الأب، وأما المسلم فلإسلامه وعن الحر لحريته. (وعن علي) رضي الله عنه (مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقتل مسلم بكافر» رواه البخاري وذلك أن أبا جحيفة وغيره سألوا عليًا رضي الله عنه: هل عندكم – يعني أهل البيت- شيء من الوحي ما ليس في القرآن؟ فقال علي رضي الله عنه: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، يعني من السنة، قال أبو جحيفة وما في هذه الصحيفة، يعني الورقة المكتوبة قال: "العقل" أي فيها الدية، وأصله أن القاتل يجمع الدية فيعقلها بفناء أولياء المقتول، فسميت عقلاً بالمصدر، وكان أصلها الإبل: "وفكاك الأسير" أي ومن جملة ما فيها حكم تخليص الأسير من يد العدو والترغيب في ذلك "وأن لا يقتل مسلم بكافر". فدل الحديث وما في معناه على أنه لا يقتل مسلم بكافر، أما الحربي فإجماع وأما الذمي فمذهب الجمهور أن المسلم لا

يقاد بالكافر الذمي لصدق اسم الكافر عليه، وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم الفتح بسبب قتيل قتلته خزاعة، وكان له عهد «لا يقتل مسلم بكافر» وقال: «لو قتلت مسلمًا بكافر لقتلته به» فأشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله لا يقتل مسلم بكافر إلى ترك القصاص من الخزاعي بالمعاهد الذي قتله وقال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا *} ولو كان للكافر أن يقتص من المسلم لكان في ذلك أعظم سبيل. وفي الاختيارات: لا يقتل مسلم بذمي إلا أن يقتله غيلة لأخذ ماله، وهو مذهب مالك، قال ابن القيم: وقياس الكافر الذمي والمعاهد على المسلم في قتله بعيد، وقياسه على الحربي أشبه قطعًا، لأن الله سوى بين الكفار في جهنم وفي قطع الموالاة وغير ذلك، وقال مالك والشافعي وأحمد وغيرهم لا يقتل المسلم بالذمي أو المعاهد، واتفق أهل العلم على أن الكافر يقتل بالمسلم. (ولأبي داود) وأحمد والنسائي وصححه الحاكم (عنه) أي عن علي رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «المؤمنون تتكافأ دماؤهم» أي تتساوى في القصاص والديات، والكفء النظير والمساوي، أي لا فرق بين الشريف والوضيع في الدم، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية من المفاضلة وعدم المساواة، وفي الحديث «ألا لا يُقتل مؤمن بكافر» يعني قودًا وهو مذهب جماهير العلماء كما تقدم وفيه «ولا يقتل ذو عهد في عهده» أي لا

يقتل من دخل إلينا من أهل دار الحرب بأمان، فإن قتله محرم على المسلم حتى يرجعُ إلى مأمنه. وفيه «وهم يد على من سواهم» أي مجتمعون على أعدائهم لا يحل لهم التخاذل بل يعين بعضهم بعضًا على جميع من عاداهم من أهل الملل، فدل الحديث مع ما تقدم أنه لا يقتل مسلم بكافر، إذ من شرط القود المكافأة، وليس الكافر كفوًا للمسلم فيقاد به. (ولأحمد) والبيهقي (عن بكير) رحمه الله قال (مضت السنة بأن لا يقتل حر بعبد) وإن قتله عمدًا وعن علي نحوه رواه البيهقي وأخرج هو وابن عدي عن عمر مرفوعًا «لا يقاد مملوك من مالك» وللبيهقي أيضًا عن ابن عباس لا يقتل حر بعبد، وفيهما ضعف، ولأحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد، وحكي إجماعًا أنه لا يقتل السيد بعبده، إلا ما روي عن النخعي، وقال الوزير: اتفقوا على أن السيد إذا قتل عبد نفسه فإنه لا يقتل به، ولو كان متعمدًا، وقال مالك والشافعي وأحمد: ولا يقتل بعبد غيره. وحكي أنه ليس بين العبد والحر قصاص لا في النفس ولا فيما دون النفس، وهو مذهب جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وتأولوا ما روى الحسن عن سَمُرة «من قتل عبده قتلناه» بالمقال المذكورة في سماع الحسن من سمرة،

وبالأحاديث القاضية بأنه لا يقتل حر بعبد، فإنها قد رويت من طرق متعددة يقوي بعضها بعضًا، وبمفهوم قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وبالإجماع على أنه لا يقتص من الحر بأطراف العبد، فكذا النفس، ولأنه إنما تجب فيه قيمته لو قتل خطأ لا تجب فيه دية بل قيمة. فالآية والأحاديث وقول جل علماء الأمصار قاضية بأنه لا يقتل الحر بالعبد، وإنما تجب قيمته واتفقوا على أنه يقتل العبد بالحر والعبد بالعبد، وأنه يجري القصاص بين العبيد بعضهم على بعض، إلا ما يروى عن أبي حنيفة، وحكاه ابن المنذر إجماعًا إلا ما روي عن علي والحسن قال: وهو شاذ لعموم (النفس بالنفس) وهذه أحد شروط القصاص الأربعة التي أحدها عصمة المقتول وثانيها التكليف وثالثها المكافأة في الدين كما تقدم وفي الحرية لهذا الخبر والرق فلا يقتص إذا فضل القاتل المقتول بإسلام أو حرية أو رق والرابع عدم الولادة وتقدم. (وعن أنس) رضي الله عنه قال: (أن يهوديًا) لم يصرح بأنه ذمي أو معاهد أو مستأمن (رضى رأس جارية بين حجرين) ولمسلم قتلها بحرج فجيء بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبها رمق، وفي بعض طرقه: من الأنصار (فقيل لها من فعل بك هذا) يعني الرض (فلان فلان) وللترمذي: من قتلك أفلان؟ فقالت برأسها لا قال: ففلان؟ (حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها) نعم (فجيء به فاعترف) أي أنه الذي رض رأسها (فأمر به

النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض رأسه بين حجرين متفق عليه). فدل الحديث على أنه يجب القود بالمثقل كالمحدد، وإلا كان ذريعة إلى إزهاق الأرواح، فقضت الأدلة بذلك وفيه دليل على أنه يقتل الرجل بالمرأة، وهو مذهب الجمهور، ورواه البخاري وغيره عن أهل العلم، وحكى ابن المنذر الإجماع عليه إلا ما روي عن علي والحسن وروي عن غيرهما، وحكى أبو الزناد عمن أدركه من أهل العلم الذين ينتهي إلى أقوالهم أن المرأة تقاد من الرجل عينًا بعين وأذنًا بأذن، وكل شيء من الجراح على ذلك، وأنه إن قتلها قتل بها، وقال الوزير: اتفقوا على أن الرجل يقتل بالمرأة والمرأة بالرجل، وأنه يجري القصاص بين الرجل والمرأة فيما دون النفس. فالأحاديث والآثار وقول الجمهور قاضية بأنه يقتل الذكر بالأنثى، ويتأيد بمفهوم (النفس بالنفس) وفيه جواز القود بمثل ما قتل القاتل وهو مذهب الجمهور، ويؤيده عموم {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فيفعل مجني عليه أو وليه بجان مثل ما فعله أو شبهه، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد فإن كان رض رأس المجني عليه، أو حرقه بالنار، أو ألقاه في الماء، أو منعه الطعام أو الشراب حتى مات فعل بالجاني كذلك وأنه لا فرق بين الجرح المزهق ونحوه.

وعن أحمد وأبي حنيفة يقتل بالسيف قال ابن القيم: والكتاب والميزان مع من يقول يفعل به كما فعل، وبه جاءت السنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رض رأس اليهودي كما فعل بالجارية وفي أثر مرفوع «من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه» والثابت عن الصحابة رضي الله عنهم أنه يفعل به كما فعل، فقد اتفق على ذلك الكتاب والسنة والقياس وآثار الصحابة واسم القصاص يقتضيه لأنه يستلزم المماثلة. وما ذهب إليه أحمد وغيره أنه لا يقتل إلا بالسيف استدلوا بحديث النعمان بن بشير عند ابن ماجه وغيره "لا قود إلا بالسيف" ويؤيده حديث «إذا قتلتم فاحسنوا القتلة» والنهي عن المثلة وكونه - صلى الله عليه وسلم - يأمر بضرب عنق من أراد قتله حتى صار هو المعروف في أصحابه، فإذا رأوا رجلاً يستحق القتل قال أحدهم: دعني أضرب عنقه، ولعل ذلك فيما لا يحتاج فيه إلى المماثلة ودل على أنه لا يستوفى القصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه لافتقاره إلى اجتهاده وخوف الحيف، وفيه أن القتل غيلة لا يشترط فيه إذن الولي، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدفعه إلى أوليائها، ولم يقل إن شئتم فاقتلوه، بل قتله حتمًا وهو مذهب مالك واختيار الشيخ. (وفي كتاب عمرو بن حزم) الذي كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم (أن الرجل يقتل بالمرأة) وقد صححه الحفاظ حتى قال الحافظ يعقوب بن سفيان لا أعلم في جميع الكتب كتاًبا أصح

من كتاب عمرو بن حزم، كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجعون إليه ويدعون آراءهم وفي حديث عمرو بن شعيب "وهم يقتلون قاتلها" وتقدم أنه قول الجمهور. (وعن معاذ بن جبل وغيره رضي الله عنهم (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قتلت المرأة) عمدًا أي إذا وجب عليها القتل: "لا تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملاً" وكذا لو وجب على حائل فحملت، ويؤيده قوله تعالى: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} فإنه إذا قتلها وما في بطنها كان إسرافًا في القتل قال (وحتى تكفل ولدها) أي تقوم بأمره مثل: إن لم يوجد له مرضعة فحتى ترضعه (رواه ابن ماجه). فدل الحديث وما في معناه على أحد شروط القصاص، وهو الأمن في الاستيفاء من التعدي على الجاني فإذا وجب على الحامل القتل لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ، فإنه لا يعيش في الغالب بدونه، ثم إن وجد من يرضعه وإلا تركت حتى تفطمه. وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه إن كان الأولياء حضورًا بالغين وطالبوا بالقصاص لم يؤخر إلا أن يكون القاتل امرأة وتكون حاملاً فيؤخر حتى تضع، وإذا كان فيهم غائب يؤخر حتى يقدم، وكذا لا يقتص منها في الطرف كاليد، والرجل حتى تضع، والحد في ذلك كالقصاص، وذكر غير واحد الإجماع على أن من وجب عليها القتل وهي حامل لم تقتل حتى تسقيه اللبأ،

وحتى ترضعه إن لم يوجد من يرضعه (ولأبي داود عنه) أي عن أنس رضي الله عنه (أن يهودية أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة) قال أبو داود: هي أخت مرحب، وقال غيره: اسمها زينب بنت الحارث ابنة أخي مرحب، وفيه: فأكل منها النبي - صلى الله عليه وسلم - فجيء بها فسألها، فقالت: أردت لأقتلك الحديث (فمات بشر، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها فقتلت) وأجمع أهل الحديث على أنه - صلى الله عليه وسلم - قتلها، وفي حديث أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقتلها في الحال، ورواية غيره إنما قتلها بعد موت بشر. فدل الحديث على أن من سقى شخصًا سما لا يعلم به، أو خلطه بطعام يطعمه له أو بطعام فيأكله جهلاً قتل به، قال ابن رشد والجمهور على وجوب القصاص به، وهذا أحد موجبات القصاص، ويختص بالقصاص مباشر للقتل، عالم بأنه ظلم، ثم ولي عالم بذلك، فبينة وحاكم علموا ذلك قال بعضهم ومثله العاين إذا كانت عينه يستطيع أن يقتل بها وفعله باختياره وجب القصاص وإن فعله بغير اختياره توجه القول بضمانه، لا إن وقع بغير اختياره، وإذا علم منه ذلك حبس حتى يتوب أو يموت. (وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه، عن جده (يرفعه) يعني يرفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تطبب» أي عانى الطب وهو لا يعرفه «ولم يكن بالطب معروفًا» قبل تطببه حاذقًا في معالجته المرضى (فأصاب نفسًا فما دونها) من أعضاء من تطبب

فيه (فهو ضامن) ما أتلفه من نفس فما دونه (صححه الحاكم) فدل الحديث على أن من تطبب ونحوه وهو لا يعرف ما تقبله يضمن ما أتلفه. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أمسك الرجلُ الرجلَ» لآخر ليقتله (وقتله الآخر) منفردًا بالقتل (يقتل الذي قتل) قصاصًا بالإجماع (ويحبس الممسك) لتمكينه من قتله وإن لم يفعل سوى الإمساك (رواه الدارقطني) وصححه ابن القطان، وقال الحافظ رجاله ثقات. فدل الحديث على أن القاتل يقتل ولا نزاع في ذلك بشرطه، وأن الممسك يحبس ولا يعد فعله مشاركة حتى يكون من باب قتل الجماعة بالواحد، بل الواجب حبسه فقط، والمدة راجعة إلى نظر الحاكم إذ الغرض تأديبه، والشارع لم يذكر قدر المدة فرجع فيه إلى نظر الحاكم، وهذا مذهب جمهور العلماء، وإن أمر مكلف بالقتل فقتل فالقود عليه لمباشرته القتل مع عدم العذر، وكذا إن أمره السلطان قال الشيخ: لا يطاع في قتل المجهول، بل حتى يعلم جواز قتله، وإلا فالطاعة له معصية، لا سيما إذا كان معروفًا بالظلم فهنا الجهل بالحرمة كالعلم بالحرمة. وإن كان الآمر غير السلطان فالقود على القاتل بكل حال، وحيث وجب القصاص على المأمور أدب آمره بما يردعه من

ضرب وحبس لينكف عن العود، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ومن أكره مكلفًا على قتل معين فقال الشيخ: القود عليهما عند أكثر العلماء كأحمد ومالك والشافعي. (وعنه) أي ابن عمر رضي الله عنهما (قال قتل غلامًا غيلة) بكسر الغين المعجمة أي سرًا خفية حيث لا يراه أحد (فقال عمر) رضي الله عنه (لو اشترك فيه أهل صنعاء) البلد المشهورة باليمن قاله لكون القتل فيها (لقتلتهم به) أي لقتل من اشترك في قتل الغلام وإن كانوا أهل صنعاء جميعًا (رواه البخاري) وروي من طرق وفيه قصة أخرجها الطحاوي، فدل أثر الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تقتل الجماعة اثنان فأكثر بالشخص الواحد إن صلح فعل كل واحد لقتله أو تواطؤا على قتله، لإجماع الصحابة رضي الله عنهم، قال سعيد بن المسيب: قتل عمر سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعًا وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إلا أن مالكًا استثنى القسامة. وقال ابن القيم: اتفق الصحابة وعامة الفقهاء على قتل الجمع بالواحد وإن كان أصل القصاص يمنع ذلك، لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء، قال ابن رشد: فإن مفهومه أن القتل إنما شرع لنفي القتل، كما نبه عليه

القرآن فلو لم تقتل الجماعة بالواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة، فإن لم يتواطؤا على قتله وفعل أحدهم بما لا يقتل غالبًا والآخر بما يقتل فالقصاص على الثاني، وإن لم يصلح فعل كل واحد للقتل فلا قصاص لأنه لم يوجد من أحدهم ما يوجبه ولم يتواطؤا على القتل. (وعن الحسن) البصري (عن جابر) رضي الله عنه (مرفوعًا لا أعفي) أي لا أدع ولا أترك (من قتل بعد أخذ الدية) بل أقتص منه ولأبي داود الطيالسي بلفظ «لا أعافي أحدًا قتل بعد أخذ الدية» وكان الولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبول الدية ثم يظفر به فيقتله فيرد الدية فزجر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الشيخ: فمن قتل بعد العفو أو أخذ الدية فهو أعظم جرمًا ممن قتل ابتداء وقال بعض الفقهاء: إنه يجب قتله حدًا ولا يكون أمره إلى أولياء المقتول قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} على قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال: وربما لم يرضوا بقتل القاتل بل يقتلوا كبيرًا من أصحاب القاتل كنسيب القبيلة، ومقدم الطائفة، فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء، وتعدى هؤلاء في الاستيفاء، كما كان يفعله أهل الجاهلية الخارجون من الشريعة، وفي هذه الأوقات من الأعراب والحاضرة وغيرهم، وسببه خروجهم عن العدل الذي هو القصاص في القتلى.

فصل في الجراح

فصل في الجراح جرحه كمنعه كلمه، والاسم الجرح، والجراح بالكسر جمع جراحة بالكسر، ورجل جريح جمعه جرحى، وتقدم حكم القصاص في النفس وأعقبه بحكم القصاص في الجروح وفي الأطراف، ومن أقيد بأحد في النفس أقيد به في الجراح والأطراف، ومن لا فلا ويشترط عند الجمهور في الجارح أن يكون مكلفًا كما يشترط في القاتل، وهو أن يكون بالغًا عاقلاً، والبلوغ يكون بالاحتلام والسن بلا خلاف، والمجروح يشترط فيه أن يكون مكافئًا لدم الجارح. ويشترط في الجرح أن يكون على وجه العمد بما يجرح غالبًا فإذا ضربه على العضو نفسه فقطعه، أو ضربه بآلة تقطع العضو غالبًا، أو ضربه على وجه النائرة، فلا خلاف أن فيه القصاص أما إن ضربه بلطمة أو سوط أو ما أشبه ذلك مما الظاهر منه أنه لم يقصد إتلاف العضو مثل أن يلطمه فيفقأ عينه فالذي عليه الجمهور أنه شبه العمد، ولا قصاص فيه، وفيه الدية مغلظة في ماله. (قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} تقاد بها وتقدم {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} أي تفقأ عين المتعمد بعين الفاقيء إجماعًا {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} أي يجدع به إذا تعمد الجاني إجماعًا {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} أي تقطع بها إذا تعمد إجماعًا {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}

أي تقلع بها بشرطه في الكل إجماعًا وسائر الجراح قياسًا عليها فيؤخذ الجفن بالجفن والشفة بالشفة واليد والرجل والأصبع والكف والمرفق والذكر والخصية والإلية والشفر ونحو ذلك كل واحد من ذلك بمثله، ولا تؤخذ شمال بيمين ولا يمين بشمال ولا صحيحة بقائمة. (والجروح قصاص) تعميم بعد تخصيص لأنه ذكر العين والأنف والأذن والسن ثم قال {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أي فيما يمكن الاقتصاص منه كاليد والرجل واللسان، وكالموضحة وجرح العضد والساق والفخذ والقدم ونحوها، فيقاد في الطرف والجرح من يقاد في النفس، أحرار المسلمين فيما بينهم رجالهم ونساؤهم والعبيد فيما بينهم رجالهم ونساؤهم كما قاله ابن عباس وغيره، وذلك فيما يمكن الاقتصاص منه بلا حيف، وهو قول جماهير العلماء لهذه الآية، وأما ما لا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم أو جرح لحم كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه، غير كسر سن ونحوه لإمكان الاستيفاء منه بغير حيف، كبرده ونحوه، وكأن يقتص موضحة من الهاشمة والمنقلة والمأمومة ويأخذ أرش الزائد، لأنه لا يمكن الوقف على نهاية سوى ذلك. قال ابن رشد: القصاص فيما أمكن القصاص فيه منها، وفيما وجد منه محل القصاص ولم يخش منه تلف النفس، وإنما صاروا لهذا لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع القود في المأمومة

والمنقلة والجائفة اهـ، ويشترط أيضًا المماثلة في الاسم والموضع فلا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين، ونحو ذلك حكاه الوزير اتفاقًا، ويشترط استواؤها في الصحة والكمال فلا تؤخذ صحيحة بشلاء ولا كاملة الأصابع مثلاً بناقصتها ولا عين صحيحة بقائمة، ويؤخذ عكسه، وإن قطع جماعة طرفًا أو جرحوا جرحًا يوجب القود فعليهم القود، لقول علي في شاهدين رجعًا فقال: لو علمت أنكما تعمدتما الكذب لقطعكما. قال تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} أي ومن تصدق بالقصاص بأن عفا عنه فالتصدق به كفارة للمتصدق، يكفر الله به ذنوبه، أو للجاني لا يؤاخذه به، كما أن القصاص كفارة له {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} في كتابه العزيز وما أوحاه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنهم لم ينصفوا المظلوم بالعدل من الظالم، وذلك أنه يقاد قرظي بنضري، ولا يقاد نضري بقرظي (وقال) تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقال أحمد: إنه لأهل أن يفعل به كما فعل، وتقدم خير رض رأس اليهودي، ولأن القصاص موضوع على المماثلة ولفظه مشعر به فيجب أن يستوفى منه مثل ما فعل. (وعن أنس) رضي الله عنه (أن الرُبَيع) بنت النضر أخت أنس بن النضر الأنصاري وعمة أنس بن مالك رضي الله عنهم،

(كسرت ثنية جارية) وفي رواية كسرت ثنية امرأة فدل على أنها امرأة حرة لا رقيقة (فعرضوا عليهم الأرش) وللنسائي وغيره: فطلبوا إليهم العفو فأبوا، فعرضوا عليهم الأرش (فأبوا إلا القصاص) وهو أن تكسر سن الرُبَيع فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو إلا القصاص، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، ولم يرد رد الحكم الشرعي، وإنما أراد التعريض بالشفاعة. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أنس) يعني ابن النضر (كتاب الله القصاص متفق عليه) أي فرض الله على لسان نبيه وأنزل من وحيه، أو أراد بذلك قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} إلى قوله {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وغيرها فدل الحديث على وجوب القصاص في السن وهو نص القرآن، وحكي الإجماع على ذلك، ولو كان كسرًا لا قلعًا إذا أمكن أن يعرف مقدرًا المكسور، ويمكن بأن تبرد سن الجاني إلى الحد الذاهب من سن المجني عليه، كما قال أحمد وغيره وحكي على أنه لا قصاص في العظم الذي يخاف منه الهلاك، وحكى الطحاوي الاتفاق على أنه لا قصاص في عظم الرأس، فيلحق به سائر العظام مما تعذر فيه المماثلة من الشجاج، كالهاشمة والمنقلة والمأمومة، والجروج كالجائفة، لعدم أمن الحيف والزيادة، لكن له أن يقتص موضحة ويأخذ أرش الزائد.

وسراية الجناية مضمونة في النفس فما دونها وسراية القود مهدورة قال الوزير: اتفقوا على أن الإمام إذا قطع يد السارق وسرى إلى نفسه فلا ضمان عليه، وقال مالك والشافعي وأحمد إذا قطع مستقص فسرى إلى نفسه فالسراية غير مضمونة، وإن جرحه فعفا المجروح فسرت الجناية إلى النفس فله تمام الدية، عند الجمهور، وسقط أرش ما جني عليه لعفوه عنه، وإن قال عفوت عن هذه الجناية فلا شيء له، بخلاف عفوت عن هذا الجرح. (وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده (أن رجلاً طعن رجلا) أي ضربه ووخزه (بقرن) زيادة معروفة في رءوس بعض الحيوانات كالبقر (في ركبته) جرحه به (فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقدني) أي اقتص لي منه (فقال حتى تبرأ) أي من الجرح الذي حصل منه في ركبتك (فقال: أقدني فأقاده) لما عصاه في الأولى والثانية (ثم جاء إليه) أي المقتص (فقال يا رسول الله عرجت) أي من تلك الطعنة (فقال: قد نهيتك) أي تقاد حتى تبرأ (فعصيتني) واستعجلت (فأبعدك الله) دعاء عليه (وبطل عرجك) بلا مقابل (ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتص من جرح) مطلقًا (حتى يبرأ صاحبه، رواه أحمد) والدارقطني وله عن جابر أن رجلاًا جرح فأراد أن يستفيد فنهى - صلى الله عليه وسلم - أن يستفاد من الجارح حتى يبرأ المجروح. واستدل بهما الجمهور على وجوب الانتظار حتى يبرأ

باب الديات

وللبيهقي تقاس الجراحات ثم يتأنى بها سنة ثم يقضى فيها بقدر ما انتهت إليه، والحديث وما في معناه يدل على تحريم الاقتصاص قبل الاندمال، لأن لفظ "ثم" يقتضي الترتيب، وروي أن رجلا طعن حسان بن ثابت فاجتمعت الأنصار ليأخذ لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - القصاص، فقال: انتظر حتى يبرأ صاحبكم ثم اقتص لكم، ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وجوب الانتظار فلا يجوز أن يقتص من عضو وجرح قبل برئه، كما لا يجوز أن تطلب له دية لاحتمال السراية، وتقدم أنه إن اقتص قبل فسرايتها بعد هدر. باب الديات جمع دية مصدر مسمى بها المال المؤدى إلى المجني عليه أو وليه بسبب جناية، يقال وديت القتيل إذا أعطيت ديته، فكل من أتلف إنسانًا بمباشرة أو سبب لزمته ديته، فإن كانت عمدًا محضًا ففي مال الجاني حالة، وشبه العمد والخطأ على عاقلته. (قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} لما ذكر تعالى تعمد القتل وأنه لا يقتل مؤمن مؤمنًا إلا خطأ ذكر الخطأ وما يجب فيه فقال: (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) أي فعليه إعتاق رقبة مؤمنة كفارة وهو إجماع، وكذا تجب في شبه العمد عند الجمهور. {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} كاملة {إِلَى أَهْلِهِ} أي إلى أهل القتيل الذين يرثونه، فأوجب تعالى في قتل الخطأ هذين الواجبين أحدهما

الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم وإن كان خطأ أو شبه عمد، ومن شرطها أن تكون الكفارة عتق رقبة مؤمنة فلا تجزئ الكافرة ويجزئ عند الجمهور المسلم صغيرًا كان أو كبيرًا، والواجب الثاني الدية على أهل المقتول عوضًا لهم عما فاتهم من قتيلهم وهذه إنما تجب أخماسًا على عاقلة القاتل. قال الشافعي وغيره، لا نعلم خلافًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدية على العاقلة وهو أكثر من حديث الخاصة، ثم قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} أي إلا أن يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية {فَإِنْ كَانَ} أي القتيل {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} أي في دار الحرب منفردًا مع الكفار {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وقاتله لم يعلم بإسلامه فلا دية عليه، وعليه ما قال الله فيه {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أي إذا كان القتيل مؤمنًا ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب فلا دية لهم، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير، ولا نزاع في ذلك، وكذا إن كان القتل شبه عمد لا عمدًا محضًا، فلا كفارة كما يأتي {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} أي فلهم دية قتيلهم كاملة، وقيل وإن كان كافرًا والجمهور أنه إنما يجب في الكافر نصف دية المسلم. {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} سواء كان المقتول مسلمًا أو معاهدًا، رجلاً كان أو امرأة حرًا كان أو عبدًا، وسواء كان القتل مباشرة أو تسببًا وسواء انفرد بالقتل أو شارك فيه، فعليه

الكفارة قال الموفق هذا قول أكثر أهل العلم وأما القن فيكفر بصوم {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أي لا إفطار بينهما بل يسرد صومهما كما تقدم في كفارة الظهار. قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن كفارة القتل الخطأ عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين اهـ وإن أفطر من غير عذر استأنف (توبة من الله) أي هذه جعلت توبة للقاتل خطأ يعتق رقبة مؤمنة، فإذا لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع الصوم أطعم ككفارة ظهار} {وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا} بمن قتل خطأ {حَكِيمًا} فيما حكم به عليكم. فدلت الآية على وجوب عتق رقبة مؤمنة وأنه إن كان واجدًا للرقبة أو قادرًا على تحصيلها بوجود ثمنها فاضلاً عن نفقته ونفقة عياله، وحاجته عن مسكن ونحوه، عند جمهور العلماء، فعليه الإعتاق ولا يجوز أن ينتقل إلى الصوم، ولا يجزئ عنه، فإن عجز عن تحصيل الرقبة فعليه صوم شهرين متتابعين فإن أفطر يومًا متعمدًا أو ناسيًا أو نوى صومًا آخر وجب عليه استئناف الشهرين، وإن فصل يومًا فأكثر بعذر مرض أو سفر أو حاضت أو نفست ونحو ذلك أو تخلله يوم عيد أو أيام تشريق لم ينقطع التتابع فإن عجز عن الصوم أطعم ستين مسكينًا وهو قول أكثر أهل العلم، وإنما لم يذكر ههنا لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص، وقيس على الظهار وغيره.

والكفارة على من قتل حرًا مسلمًا خطأ أو مباشرة أو تسببًا، لا عمدًا عدوانًا فلا كفارة لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قال الشيخ: لا كفارة في قتل العمد، ولا في اليمين الغموس، وليس ذلك تخفيفًا عن مرتكبها. (وعن عمرو بن الأحوص) الجشمي من حشم بن سعد رضي الله عنه، كان شهد حجة الوداع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروى الحديث (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يجني جان إلا على نفسه» لأن موجب الجناية أثر فعله فوجب أن يختص بضررها «لا يجني والد على ولده» أي لا يؤاخذ بجنايته «ولا مولود على والده» أي لا يؤاخذ بجنايته، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم و (صححه الترمذي) ولأحمد وابن ماجه من حديث الخشخاش العنبري قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعي ابن لي، فقال «ابنك هذا» فقلت نعم قال: «لا يجني عليك ولا تجني عليه» ونحوه عند أحمد وأبي داود من حديث أبي رمثة، ولأحمد والنسائي عن رجل من بني يربوع وفي حديثه لا تجني نفس على نفس، وللنسائي عن ابن مسعود يرفعه «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه» وقال تعالى: {لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} والمراد والله أعلم جناية العمد، ويأتي أن العاقلة لا تحمله. وأما ضمان العاقلة لجناية الخطأ فحكى الحافظ وغيره الإجماع على ذلك، وأنها مخصصة بأحاديث وآثار من عموم هذه

الآية، والأخبار، وحكى أن الأب والابن لا يحملان في الخطأ، وقال الشيخ: أبو الرجل وابنه من عاقلته عند جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال اقتتلت امرأتان) من هذيل وكانتا ضرتين تحت حمل بن النابغة الهُذلي (رمت إحداهما الأخرى بحجر) فأصاب بطنها وهي حامل (فقتلتها) وفي رواية فضربت الهذلية بطن العامرية فقتلتها (وما في بطنها) وفي رواية وجنينها (فقضى - صلى الله عليه وسلم - في جنينها بغرة) الجنين هو حمل المرأة ما دام في بطنها سمي بذلك لاستتاره فإن خرج حيًا فهو ولد وإلا فسقط، والغرة أصلا البياض في وجه الفرس، قال الجوهري: كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله كما قالوا: اعتق رقبة، وفي لفظ "عبد أو أمة" والجمهور أن أقل ما يجزئ من العبد والأمة ما سلم من العيوب التي يثبت بها الرد في البيع، لأن المعيب ليس من الخيار، وقيل قيمتها خمس من الإبل إن كان حرًا مسلمًا وإن كان مملوكًا فعشر قيمة أمه، وإن سقط حيًا فدية كاملة. (وبدية المرأة على عاقلتها) أي قرابتها من قبل الأب وهم عصبتها وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب ولي المقتول (متفق عليه) فدل الحديث على أن دية الخطأ على العاقلة، وأجمع العلماء على ذلك حكاه الحافظ وغيره وحكاه الوزير وابن رشد اتفاقًا، وقال ابن القيم: إنما تحمل الخطأ لا العمد بلا نزاع، وفي شبه العمد نزاع الأظهر أنها

لا تحمله وليس كالعمد، فإن العامد ظالم مستحق للعقوبة، والخطأ يعذر فيه الإنسان فإيجاب الدية في ماله ضرر عظيم به، من غير ذنب تعمده، ولا بد من إيجاب بدل المقتول، فالشارع أوجب على من عليهم موالاة القاتل ونصرته أن يعينوه على ذلك، فكان كإيجاب النفقات وفكاك الأسير اهـ. وخصصت عموم قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وأخبار: «لا يجني جانٍ إلا على نفسه» لما في ذلك من المصلحة لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله، لأن تتابع الخطأ لا يؤمن، ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول، وجمهور العلماء على أن عاقلة الرجل عشيرته، وقال الشافعي لا أعلم إلا أنهم عصبته، وهم القرابة من قبل الأب، وفسر بالأقرب فالأقرب، فيبدأ بفخذه الأدنى فإن عجزوا ضم إليهم الأقرب فالأقرب، المكلف الذكر الحر من عصبة النسب، ثم السبب، ثم في بيت المال، وفرضها عمر في ثلاث سنين. وقال الترمذي: أجمع أهل العلم على أن الدية تؤخذ في ثلاث سنين، في كل سنة ثلث الدية، وإن أدب الرجل ولده أو سلطان رعيته، أو معلم صبيه ولم يسرف لم يضمن ما تلف به، لأنه فعل ما له فعله شرعًا ولم يتعد فيه، وإن أسرف أو زاد على ما يحصل به المقصود أو ضرب من لا عقل له من صبي أو غيره ضمن لتعديه، وإن أمر شخصًا مكلفًا أن ينزل بئرًا أو يصعد شجرة ونحو ذلك فهلك به لم يضمنه، كما لو استأجره لذلك.

فصل في أصول الدية

فصل في أصول الدية الأصول جمع أصل والأصل الأساس أي هذا فصل في بيان أصول دية النفس ومقاديرها بالإسلام والحرية والذكورة وضدها وكونه موجودًا للعيان أو جنينًا وغير ذلك. (وفي كتاب عمرو بن حزم) الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في النفس الدية) أي المقتولة عمدًا وآل الأمر إلى الدية، أو خطأ والمقتول مسلم حر ذكر ففيه (مائة من الإبل) وقال الوزير. اتفقوا على أن دية المسلم مائة من الإبل في مال القاتل العامد إذا آل إلى الدية، وقال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا وعلى العاقلة في الخطأ إجماعًا وشبه العمد عند الجمهور (وعلى أهل الذهب ألف مثقال) فهو نوع من أنواع الدية الشرعية قال أحمد، وأبو حنيفة وغيرهما في الدراهم والدنانير هي مقدرة يجوز أخذها مع وجود الإبل. والحديث رواه أهل السنن وغيرهم من طرق و (صححه أحمد) وابن حبان والحاكم والبيهقي، وصححه أيضًا من حيث الشهرة الشافعي وجماعة من الأئمة، وقال لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم، يستغنى بشهرته عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر في مجيئه، لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة، وقال العقيلي: هذا حديث

ثابت معروف محفوظ، وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابًا أصح من كتاب ابن حزم هذا فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين يرجعون إليه، وقال الحاكم شهد له عمر بن عبد العزيز بالصحة، وهذا قطعة منه، وتقدم بعضه، ويأتي بقيته إن شاء الله تعالى. (وعن جابر) رضي الله عنه (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل) ولا نزاع في ذلك (وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة) عند جمهور العلماء (رواه أبو داود وغيره) من طريق ابن إسحاق وفيه: وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وفي السنن من حديث عمرو بن شعيب مرفوعًا «قضى أن من كان عقله في البقر على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان عقله في الشاء ألفي شاة» ولأبي داود فرض عمر على أهل الذهب ألف دينار. وعلى أهل الورق إثني عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، واستدل بعض أهل العلم بهذه على أنها أصول، وقال أحمد البقر والغنم أصلان مقدران على من لزمته الدية، وهو مذهب فقهاء المدينة. (وفي السنن عن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال: قتل رجل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل ديته اثني عشر ألف درهم) وعليه فهو أصل، وقال بعضهم تقويم، وروي مرسلاً وجاء عن عمر أنه لما غلت الإبل قدرها بذلك، ومذهب مالك

والشافعي وأحمد أن مبلغ الدية من الدراهم اثنا عشر ألف درهم، ودلت هذه الأحاديث وما في معناها على تسهيل الأمر، وأنه ليس يجب على من لزمته الدية إلا من النوع الذي يجده ويعتاد التعامل به في ناحيته، والحاصل أن أصول الدية عند بعض أهل العلم مائة من الإبل أو ألف مثقال ذهبًا أو اثنا عشر ألف درهم فضة أو مائتا بقرة أو ألفا شاة أيها أحضر من تلزمه الدية لزم الولي قبوله، سواء كان ولي الجناية من أهل ذلك النوع أو لم يكن لأنه أتى بالأصل في قضاء الواجب عليه وهو مذهب مالك وأحمد. وعن أحمد أصول الدية الإبل وهو مذهب أبي حنيفة ورأى عمر رضي الله عنه أن أصول الدية الإبل، ولما استخلف وغلت رفع قيمتها، ويؤيده ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «دية النفس المؤمنة مائة من الإبل» واقتصر عليه فدل على أنه الأصل في الوجوب، ويؤيده أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - فرق بين دية العمد، والخطأ فغلظ بها بعضها وخفف بعضها، ولا نزاع في ذلك إلا ما روي عن أبي ثور، والسنة تخالف قوله فلا يعول عليه، ولا يتحقق التغليظ في غير الإبل فكانت الأصل، وغيرها معتبر بها وقال أبو حنيفة والشافعي هي من الإبل للنص ومن النقدين تقويمًا وما سواهما صلح. (ولهم) أي لأهل السنن الأربعة والبزار، والبيهقي والدارقطني وغيرهم (عن ابن مسعود) رضي الله عنه (مرفوعًا)

وموقوفًا والموقوف أشبه قال رضي الله عنه (دية الخطأ أخماس عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون بني لبون) قال ابن القيم روي من وجوه متعددة وذكر الاختلاف في الأسنان ثم قال: كل هذا يدل على أنه ليس في الأسنان شيء مقدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر أقوال التابعين ثم قال: قول صحابي من فقهاء الصحابة أولى من قول التابعين اهـ. وهذا مذهب جمهور العلماء مالك وأحمد والحنفية والشافعية، وهذه الدية مخففة، ولا تعتبر القيمة في الإبل ولا في البقر أو الشياه دية النقد لإطلاق الأحاديث في ذلك بل تعتبر فيها السلامة من العيوب، وتغلظ دية طرف وجرح كدية قتل لاتفاقهما في السبب، مثل أن يوضحه عمدًا أو شبه عمد فإنه يجب أرباعًا والخامس من أحد الأربعة وخطأ يجب من الأنواع الخمسة. (وفيها) أي في السنن أيضًا (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) وفي لفظ يوم الفتح على درجة الكعبة (ألا إن القتل الخطأ شبه العمد، قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها) فدل على تغليظ دية شبه العمد كالعمد، إذا آل إلى الدية وفي السنن أيضًا عن عبد الله بن عمرو نحوه، وعن عمرو بن شعيب مرفوعًا عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه، وذلك أن

ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح" رواه أبو داود وغيره وروى الزهري عن السائب بن يزيد قال: كانت الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرباعًا، خمسًا وعشرين جذعة، وخمسًا وعشرين حقة خمسًا وعشرين بنت لبون وخمسًا وعشرين بنت مخاض، وهو مذهب الجمهور، ولا تغليظ في غير إبل بلا نزاع بين أهل العلم. (وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده (مرفوعًا: من قتل متعمدًا) أي قتل مسلمًا متعمدًا (دفع إلى أولياء المقتول) وهو في الصحيح بلفظ "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين" وتقدم (فإن شاءوا قتلوا) يعني القاتل عمدًا (وإن شاءوا أخذوا الدية) وفصلها في هذه الرواية فقال: (وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة) ولابن ماجه في بطونها أولادها (وما صولحوا عليه فهو لهم) وذلك لتشديد العقل، أي فلو صولحوا على أكثر مما ذكر فهو لهم (حسنه الترمذي). فدلت هذه الأحاديث لجمهور العلماء أن القتل على ثلاثة أضرب عمدٌ وخطأٌ وشبهُ عمدٍ، وجعلوا في العمد القصاص ولا نزاع في ذلك، وفي الخطأ الدية كما تقدم، وفي شبه العمد وهو ما كان بما مثله لا يقتل في العادة كالعصا، والسوط، مع كونه قاصدًا للقتل دية مغلظة وهي مائة من الإبل، ولا تغليظ في غير إبل إجماعًا، وهو أحد المرجحات أن الإبل هي الأصل في الدية، وتقدم أن عمر رضي الله عنه رفع الدية لما غلت الإبل،

وهو مذهب الإمام أحمد ورواه أبو داود وغيره عن علي وابن عباس. (وللخمسة) وصححه ابن خزيمة وابن القيم، وقال: احتج به الأئمة كلهم في الديات (عنه) أي عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده (مرفوعًا) عقل أهل الذمة، وفي لفظ "عقل أهل الكتاب" أي دية أحدهم إذا قتل، ذميًا كان أو معاهدًا أو مستأمنًا (نصف عقل المسلمين) أي نصف دية المسلمين سميت الدية عقلاً تسمية بالمصدر لأن الإبل تعقل بفناء ولي القتيل، وكذا جراحه بالنسبة من ديته لأن الجرح تابع للقتل، ودية المجوسي والوثني معاهدًا كان أو مستأمنًا ثمان مائة درهم كسائر المشركين، لما روي عن عمر، وعثمان وابن مسعود وغيرهم أنهم أفتوا به، وقال الموفق: لا نعلم لهم مخالفًا فكان إجماعًا وجراحة كل واحد منهم بالنسبة من ديته. (وعقل المرأة مثل عقل الرجل) أي أرش المرأة يساوي أرش الرجل في الجراحات التي لا يبلغ أرشها إلى ثلث دية الرجل، وقال سعيد بن المسيب، إنه السنة (حتى تبلغ الثلث من ديتها) فدل على أن أرش المرأة في الجراحات يساوي أرش الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها، وما زاد يكون أرشها فيها كنصف أرش الرجل، وهذا مذهب مالك وأحمد والشافعي في قول، قال ابن القيم، خالف فيه أبو حنيفة والشافعي وجماعة، وقالوا هي على النصف في القليل والكثير، ولكن السنة أولى،

والفرق فيما دون الثلث وما زاد عليه: أن ما دونه قليل فجبرت مصيبة المرأة بمساواتها للرجل، ولهذا استوى الجنين الذكر ولأنثى في الدية لقلة ديته، وهي الغرة فنزل ما دون الثلث منزلة الجنين اهـ. وأما ما زاد على الثلث فهي على النصف لهذا الخبر، ولما في كتاب عمرو بن حزم "دية المرأة على النصف من دية الرجل" وحكي إجماعًا وقال الوزير: أجمعوا على أن دية المرأة الحرة في نفسها على النصف من دية الرجل الحر المسلم. وقال ابن القيم: لما كانت المرأة أنقص من الرجل والرجل أنفع منها، ويسد ما لا تسده المرأة من المناصب الدينية والولايات وحفظ الثغور والجهاد، وعمارة الأرض، وعمل الصنائع التي لا تتم مصالح العالم إلا بها، والذب عن الدنيا والدين، لم تكن قيمتهما متساوية وهي الدية، فإن دية الحر جارية مجرى قيمة العبد وغيره من الأموال، فاقتضت حكمة الشارع أن جعل قيمتها على النصف من قيمته لتفاوت ما بينهما، وكذا نساء أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان وسائر المشركين على النصف من دية ذكرانهم كدية نساء المسلمين، عند جماهير العلماء الأئمة الأربعة وغيرهم، ويستوي الذكر والأنثى فيما دون ثلث الدية لما تقدم، وقال ابن عبد البر هذا قول فقهاء المدينة وهو مذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي. ودية خنثى مشكل نصف دية كل منهما، ودية قن قيمته

فصل في دية الأعضاء

عمدًا كان القتل أو خطأ، ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا كان أو كبيرًا قال الموفق: أجمع أهل العلم على أن في العبد الذي لا تبلغ قيمته دية الحر قيمته، فإن بلغت أو زادت فمذهب أحمد فيه قيمته بالغة ما بلغت اهـ وفي جراحه ما نقصه مطلقًا اختاره الشيخ وغيره. فصل في دية الأعضاء ودية منافعها والجروح وغيرها التالفة بالجناية عليها، فما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية وكذا اثنان فأكثر، وقيل في الآدمي خمسة وأربعون عضوًا (وفي كتاب عمرو بن حزم) الذي تقدم التنويه به، يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية» أي قطع جميعها فتجب فيه الدية كاملة أما إن استؤصل من أصل القصبة فحكي إجماعًا، قال الوزير: أجمعوا يعني الأئمة الأربعة على أن في الأنف إذا استوعب جدعه الدية، وفي المنخرين ثلثا الدية وفي الحاجز بينهما ثلثها اهـ، أي ثلث ديته إن كان حرًا مسلمًا أو حرة مسلمة فديتها وهكذا على ما يأتي. وتجب الدية في الأنف ولو من أخشم أو مع عوجه، حكاه الوزير وغيره إجماعًا (وفي اللسان الدية) أي إذا قطع جميعه من أصله أو ما يمنع منه الكلام إجماعًا وكذا إن جنى على ما أبطل كلامه ففيه الدية، وإن أبطل بعضه فحصته وفي لسان

الأخرس حكومة، إذا لم يذهب الذوق بقطعه (وفي الشفتين) إذا أتلفهما (الدية) وهو مذهب جمهور العلماء وحكي إجماعًا وحد الشفتين من تحت المنخرين إلى منتهى الشدقين في عرض الوجه. (وفي الذكر) إذا قطع من أصله (الدية) بلا نزاع سواء كان من صغير أو كبير، وكذا إن قطع نصفه بالطول ففيه الدية كاملة لأنه ذهب بمنفعة الجماع، وصوبه في الإنصاف، وأما ذكر العنين والخصي فمذهب الجمهور أن فيه حكومة. (وفي البيضتين الدية) وفي رواية "وفي الأنثيين الدية" وحكي إجماعًا ومعناهما واحد كما في الصحاح وغيره، وفي كل واحدة نصف الدية، وهو مذهب الجمهور، وفيه «وفي العينين الدية» ولا نزاع في ذلك، وفي اليدين الدية، وفي الرجلين الدية وفي كل عين نصف الدية، وفي اليد الواحدة نصف الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية وفي الأجفان الأربعة الدية إجماعًا وفي كل جفن ربعها، وفي الأذنين الدية، وفي أشراف الأذنين وهو الجلد القائم بين العذار والبياض الذي حولها الدية اتفاقًا وفي اللحيين الدية، وفي ثديي المرأة الدية، وفي ثندوءتي الرجل الدية، وفي الإليتين الدية، وفي إسكتي المرأة الدية، حكاه ابن رشد قول الجمهور، والوزير إجماعًا وفي أحدها نصف الدية.

(وفي الصلب الدية) وحكي إجماعًا والصلب بالضم عظم من لدن الكاهل إلى العجب، وقيل إنه المنحدر من الدماغ لما روي عن علي أنه قال: في الصلب الدية إذا منع من الجماع، فيعتبر مع كسر المتن الإفضاء إلى منع الجماع، لا مجرد الكسر مع إمكان الجماع، وكسر الصلب هو الخامس مما في الإنسان منه شيء واحد تجب فيه الدية، لأن في إذهاب أحد الخمسة إذهاب منفعة الجنس وإذهابها كالنفس فوجبت دية النفس. (وفي الجائفة ثلث الدية) وهي الطعنة التي تبلغ الجوف أو تنفذه والجوف البطن من ثغرة النحر إلى المثانة حكاه أهل اللغة، وحكى ابن رشد الإجماع على ذلك، وفي الدامغة ثلث الدية، وهي أبلغ من المأمومة، والمأمومة فيها ثلث الدية، وحكاه الوزير إجماعًا فيهما (وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل) إجماعًا والمنقلة الشجة التي تنقل العظام وتخرجها من أماكنها، ودونها الهاشمة وفيها عشر من الإبل، وهو مذهب جمهور العلماء أبي حنيفة والشافعي وأحمد وبعض أصحاب مالك، وروي عن زيد بن ثابت. (وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل) ونحوه من حديث عمرو بن شعيب وغيره، وهذا مذهب جمهور العلماء، ويأتي أنها سواء، وفي كل أنملة ثلث عشر الدية، والإبهام مفصلان، وفيهما عشر الدية، وفي كل مفصل منها

نصف عشرها، وفي أصابع اليدين الدية، وفي أصابع الرجلين الدية إجماعًا. (وفي السن خمس من الإبل) ونحوه من حديث عمرو بن شعيب وغيره، ولا فرق بين الثنايا والأنياب والأضراس لأنه يصدق على كل منها أنه سن وهذا مذهب جمهور العلماء، وسواء كان سن كبير أو صغير ولم يعد أو عاد أسود أو أبيض ثم أسود بلا علة. (وفي الموضحة خمس من الإبل) وهي التي توضح العظم وتكشفه بلا هشم وتبرزه، وللخمسة من حديث عمرو ابن شعيب نحوه، والمراد موضحة الرأس والوجه دون ما عداهما من البدن، وللبيهقي عن أبي بكر وعمر قالا في الموضحة في الوجه والرأس سواء خمس خمس، وهو مذهب جمهور الصحابة وغيرهم من أهل العلم، وحكاه ابن رشد عن جميع الفقهاء. (صححه أحمد) وغيره وتقدم قريبًا ذكر اشتهاره عند أهل العلم. والحديث دليل على وجوب الدية أو بعضها فيما تقدم، ووجوب الأرش في الموضحة إذا وقعت خطأ أو عفي عن القود فيها وأن أرشها خمس من الإبل، وأن الإبل: أصل الدية كما تقدم، ويلي الموضحة السمحاق بينها وبين العظم قشرة، ثم المتلاحمة الغائصة في اللحم، ودونها الباضعة الشاقة للحم، ودون الباضعة البازلة الدامية، ودون البازلة الحارصة قال

الوزير وغيره: هذه الخمس ليس فيها تقدير شرعي بإجماع الأئمة الأربعة. إلا ما روي عن أحمد من أنه ذهب إلى حكم زيد في ذلك، وهو أن زيدًا حكم في البازلة ببعير، وفي الباضعة ببعيرين وفي المتلاحمة بثلاثة، وفي السمحاق بأربعة، قال أحمد: فأنا أذهب إليه، وأجمعوا على أن في كل واحدة منها حكومة بعد الإندمال وكذا حكاه ابن رشد قال: وذلك لأن الأصل في الجراح الحكومة إلا ما وقتت فيه السنة حدًا والحكومة أن يقوم المجني عليه قبل الجناية كأنه كان عبدًا ويقال كم قيمته قبل الجناية وكم قيمته بعدها، فيكون بقدر التفاوت من ديته. (وله) أي لأحمد في مسنده وأبي داود في سننه وابن ماجه والبيهقي وغيرهم (عن عمرو بن شعيب) عن أبيه، عن جده (قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما إذا جدعت أرنبة الأنف) ولفظ أبي داود ثندوته، وهي الغضروف الذي يجمع المنخرين، وفي القاموس وغيره أن الأرنبة طرف الأنف، وفي النهاية الثندوة ورثة الأنف، وهي طرفه ومقدمه، وفيها (نصف العقل) أي نصف الدية، ولأبي داود والبيهقي "خمسون من الإبل أو عدلها من الذهب والورق، أو مائة بقرة أو ألف شاة" وإن أوعب جدع الأنف فتقدم أن فيه الدية كاملة، وفي المنخرين ثلثًا الدية، وفي الحاجز ثلثها.

(وفي العين نصف العقل) ولا خلاف في ذلك، ومذهب الحنفية والشافعية، وإن كانت عين أعور، وقضى عمر وعثمان وعلي وابن عمر فيها بدية كاملة لعماه بذهابها وأنه لا يقتص منه، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة، وهو مذهب مالك وأحمد، لأن القصاص يفضي إلى استيفاء جميع البصر من الأعور، وهو إنما أذهب بصر عين واحدة، وإن كان خطأ فنصف الدية، وإن قلع الصحيح عين الأعور، أقيد بشرطه وعليه نصف الدية (و) في (اليد نصف العقل) وفيه: وفي الرجل نصف العقل إذا قطعت من مفصل الساق وفي المأمومة ثلث العقل، وهي الجائفة التي تبلغ أم الرأس وهي الدماغ، أو تبلغ الجلدة الرقيقة عليها، وفي الجائفة مثل ذلك، وهي الطعنة تبلغ الجوف، وفي الأصابع في كل إصبع عشر من الإبل، كما تقدم في حديث عمرو بن حزم. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (هذه وهذه سواء يعني الخنصر والإبهام) في الخنصر عشر والإبهام عشر (رواه البخاري) وأهل السنن وغيرهم، فدل على استوائهما في أرش الجناية عليهما عمدًا إن آل إلى الدية، أو شبه عمد أو خطأ (ودية أصابع اليدين والرجلين سواء) عشر من الإبل لكل أصبع (صححه الترمذي) فدل على استوائها في أرش الجناية. و (لأبي داود) وابن ماجه (عنه مرفوعًا: الأسنان سواء الثنية

والضرس) فدل أيضًا على استوائها، وفي السنن من حديث عمرو بن شعيب "الأصابع سواء، والأسنان سواء" وهذا ونحوه نص صحيح صريح يرد القول بالتفاضل بين الأصابع والأسنان، ولا خلاف في ذلك عن السلف إلا ما روي عن عمر وروي عنه الرجوع عنه، وفي كل أنملة من أصابع اليدين والرجلين ثلث عشر الدية، لأن في كل إصبع ثلاث مفاصل، والإبهام فيها مفصلان فتقسم دية الإصبع عليهما. (وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه، عن جده أنه قال (قضى) النبي - صلى الله عليه وسلم - في العين العوراء السادة لمكانها) أي التي هي باقية لم يذهب إلا نورها (إذا طمست) أي ذهب جرمها (بثلث ديتها) لأنها كانت بعد ذهاب بصرها باقية الجمال، فإذا قلعت أو فقئت ذهب ذلك. (وفي اليد الشلاء) أي التي لا نفع فيها (إذا قطعت بثلث ديتها) لذهاب الجمال بها (وفي السن السوداء إذا نزعت) أي قلعت (بثلث ديتها) لأن نفع السن السوداء باق، وإنما ذهب منها مجرد الجمال، فذهاب الجمال كذهاب النفع (رواه النسائي) ورواه أبو داود ورجال إسناد إلى عمرو ثقات. (ولأحمد) وابن أبي شيبة وغيرهما (أن عمر) رضي الله عنه (قضى في رجل ضرب رجلاً فذهب سمعه وبصره ونكاحه وعقله بأربع ديات) فدل على أن في كل منفعة من هذه المنافع

ونحوها الدية، مفردة كانت أو معها غيرها، ولأن كلا منها مختص بنفع أشبه السمع المجمع عليه وروي نحوه مرفوعًا وموقوفًا، وحكي أنه لم ينكره أحد من الصحابة، فكان إجماعًا، وحيث ورد النص بإيجاب الدية في بعض الحواس الخمس الظاهرة، يقاس عليه ما لم يرد فيها. (وقضى) يعني عمر رضي الله عنه (في السمع الدية) ولا نزاع في ذلك وحكى الإجماع عليه غير واحد، ورواه البيهقي عن علي، وفي التلخيص، وفي حديث معاذ في السمع الدية، وقال الوزير: أجمعوا على أن في ذهاب السمع الدية (و) قضى (في المشام الدية) لأنه حاسة يختص بمنفعة فكان في ذهابه الدية ولا خلاف في ذلك، وفي منفعة المشي الدية، وفي منفعة الأكل الدية وفي منفعة النكاح الدية، وفي عدم استمساك البول الدية، وفي عدم استمساك الغائط الدية لأن في كل واحد من هذه الأشياء منفعة كبيرة ليس في البدن مثلها كالسمع والبصر وفي ذهاب بعض ذلك إذا علم بقدره. ويجب في كل واحد من الشعور الأربعة الدية، شعر الرأس أو اللحية أو الحاجبين أو أهداب العينين، كما روي عن علي وزيد وغيرهما، ولأنه إذهاب جمال على الكمال فإن عاد فنبت سقط موجبه (و) قضى (في الإفضاء بثلث الدية) وهو خرق بين مخرج البول والمني أو ما بين السبيلين وإن لم يستمسك البول فدية كاملة إن كانت ممن لا يوطأ مثلها (و) قضى (في الضلع)

إذا جبر كما كان (و) قضى في (الترقوة) وهو العظم المستدير حول العنق (جمل جمل) أي في الضلع جمل وفي الترقوة جمل، ولكل إنسان ترقوتان. (و) قضى (في الزند) إذا جبر مستقيمًا (بعيران) ولم يظهر له مخالف من الصحابة فكان إجماعًا رواه البيهقي وسعيد وغيرهما، وكذا في الفخذ والساق بعيران، وإن انجبر غير مستقيم فحكومة، وتقدمت صفتها، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، وما عذا ذلك من الجراح وكسر العظام فحكومة، قال الموفق: لا نعلم فيه مخالفًا، لأن التقدير إنما يكون بتوقيف أو قياس صحيح، وحيث، وجب بعير أو بعيران فيجوز دفع قدره من غيره من بقية الأصول المتقدم ذكرها على ما تقدم. (وروي عن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا) ورواه أحمد والبيهقي موقوفًا وهو المشهور (لا تحمل العاقلة عمدًا) محضًا لا شبهة فيه ولو لم يجب به قصاص كجائفة ومأمومة لأن العامد غير معذور، وقال الزهري: مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئا من دية العمد إلا أن يشاءوا، رواه مالك وحكاه أبو الزناد عن فقهاء المدينة، وقال ابن القيم: بلا نزاع وجاءت الأحاديث بحملها الخطأ ومفهومها عدم حمل العمد، ومفهوم هذا الأثر حملها الخطأ، ومذهب أحمد وغيره أن جناية العمد على

نفس الجاني لما تقدم مضمونة على عاقلته وأن دية العمد حالة إلا أن يصطلحا على التأجيل. وأجمعوا على أن دية الخطأ مؤجلة على العاقلة، والجمهور في ثلاث سنين، وروي مرفوعًا وحكي إجماع الصحابة، وقال الشافعي: لا أعلم خلافًا أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين، ونقل الإجماع الترمذي وابن المنذر، والاتفاق الوزير وابن رشد، وتقدم أن عاقلة الإنسان عصباته من النسب والولاء، قريبهم كالإخوة وبعيدهم كابن ابن عم جد الجاني حتى عمودي نسبه، وإن اتسعت أموال الأقربين لم يتجاوزوهم، وإن لم يتسعوا دخل من هو أبعد منهم، وهكذا حتى يدخل فيهم أبعدهم درجة على حسب الميراث، ولا عقل على رقيق، ولا غير مكلف ولا فقير يعجز عنها، وتؤخذ من بيت المال، وقال الشيخ: تؤخذ من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء. و (لا عبدًا) أي قيمة عبد قتله الجاني أو قطع طرفه، قال ابن القيم: لأنه سلعة من السلع ومال من الأموال (ولا صلحًا) أي ولا تحمل صلحًا عن إنكار لأنه إنما يثبت بفعله واختياره فلم تحمله (ولا اعترافًا) أي ولا تحمل اعترافًا لم تصدق به، وكذا لا تحمل إقرارًا، ونحوه عند الدارقطني وغيره عن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة فكان إجماعًا. قال ابن القيم: فإن الجاني ظالم مستحق للعقوبة ليس أهلاً أن يحمل عنه بدل القتيل، وبخلاف

شبه العمد لأنه قاصد للجناية متعمد لها فهو آثم معتد، ولا ريب أن من أتلف مضمونا كان ضمانه عليه {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ولا تؤخذ النفس بجريرة غيرها، وبهذا جاء شرع الله وجزاؤه، وقال في الاعتراف: وذلك أن المدعي والمدعى عليه قد يتواطآن على الإقرار بالجناية، ويشتركان فيما تحمله العاقلة، ويتصالحان على تغريم العاقلة، فلا يسري إقراره ولا صلحه فلا يجوز إقراره في حق العاقلة، لا يقبل قوله فيما يجب عليها من الغرامة. (وقال عمر) رضي الله عنه (لا تحمل) يعني العاقلة (شيئًا) أي مما دون ثلث دية ذكر حر مسلم (حتى يبلغ عقل المأمومة) أي ونحوها مما فيه ثلث الدية فأكثر، لأن ما دونها خفيف لقلته واحتمال الجاني حمله، فلا يجحف به ولأنه موجب جنايته، فكان عليه كسائر الجنايات وإنما خولف في الثلث تخفيفًا عليه، وهذا مذهب أحمد ومالك. (إلا غرة جنين) أي إلا أرش غرة الجنين وهو حمل المرأة ما دام في بطن أمه (مات بعد أمه) بجناية واحدة فتحملها العاقلة. (أو معها بجناية واحدة) أي أو إلا غرة جنين مات مع أمه بجناية واحدة فتحملها العاقلة لأن الجناية واحدة فتبعها ما زيادتها على الثلث كالدية الواحدة لا إن مات قبلها فلا تحملها العاقلة لنقصه عن الثلث ولا تبعية لموته قبلها.

باب القسامة

قال الشيخ: وإسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين ولو عاندت فأسقطت جنينها وجب عليها غرة لورثتها غير أمه. باب القسامة بفتح القاف وتخفيف السين، وهي لغة: اسم القسم أقيم مقام المصدر من قولهم أقسم إقسامًا وقسامة، وأيضًا عند أهل اللغة اسم للحالفين، وشرعًا أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم، ودلت السنة على مشروعيتها وأنها أصل مستقل، وهو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين، وقال الوزير: اتفقوا على أن القسامة مشروعة في الوقت إذا وجدوا القتيل ولم يعلم قاتله. (روى مسلم) في صحيحه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ القسامة على ما كانت عليه) يعني القسامة (في الجاهلية) قال ابن عباس: أول قسامة كانت فينا بني هاشم رجل منا قتله رجل من قريش فقال أبو طالب: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل أو يحلف خمسون من قومك، وإلا قتلناك به، فحلفوا إلخ، (وقضى) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بها) أي بالقسامة (بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود) وهذا على معين وهو قول الجمهور. فلا قسامة على مبهم، ولا في دعوى قطع طرف أو جرح ونحوهما، وللبيهقي عن أناس من الصحابة أن القسامة كانت في الجاهلية قسامة الدم فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت عليه في الجاهلية

وقضى بها بين ناس من الأنصار من بني حارثة في قتيل ادعوه على اليهود. (ولهما) أي البخاري ومسلم (عن سهل بن أبي حثمة) بن عامر بن ساعدة الأوسي الأنصاري، وفي رواية عن رجال من كبراء قومه (أن عبد الله بن سهل) بن زيد الأنصاري (ومحيصة بن مسعود) بن زيد بن كعب بن عامر الأوسي (خرجا إلى خيبر) وهو يومئذ صلح بعد فتحها في أصحاب لهما يمتارون تمرًا، وفي رواية هو وابن عم له، فتفرقا في خيبر (فأتى محيصة) بن مسعود بن زيد (إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه) أي يضطرب فيه "قتيلاً فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا أحد ألفاظ الحديث (فأتى) محيصة (يهود فقال: أنتم قتلتموه) يعني عبد الله بن سهل (فقالوا: لا، فأقبل هو وأخوه حويصة) بن مسعود بن زيد (وعبد الرحمن بن سهل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وتكلموا في أمر صاحبهم. (فقال): (أتحلفون وتستحقون قاتلكم) أو صاحبكم في لفظ "دم صاحبكم" أمرهم أن يستوجبوا الحق الذي يدعونه على اليهود بأيمانهم، لأن اللوث وخمسين يمينًا بمنزلة الشهادة أو أقوى، وامتازت القسامة بكون الأيمان فيها خمسين تغليظًا لشأن الدم (وفي رواية: تأتون بالبينة) على من قتله (قالوا: ما لنا بينة) ولأبي داود "شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم" والجمع بين

الروايتين أن هذه الرواية مشتملة على زيادة وهي طلب البينة أولاً ثم اليمين ثانيًا (فقال: أتحلفون) وذلك أن قاعدة الشرع أن تكون اليمين في جانب أقوى المتداعيين (فقالوا: وكيف نحلف) أي على قاتله (ولم نشهد ولم نر) وفي رواية ما شهدنا ولا حضرنا قدمهم لتقوية جانبهم باللوث. (قال: فتبرئكم يهود) وفي رواية قال: فيحلفون يعني اليهود (بخمسين يمينًا) أي يخلصونكم عن الأيمان بأن يحلفوا خمسين يمينًا، لا قتلت ولا شاركت في قتله، ولا كنت سببًا في موته، ولا معينًا على موته، فإذا حلفوا انتهت الخصومة فلم يجب عليهم شيء (فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار) وفي رواية ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون. (فوداه بمائة من الإبل) وفي رواية فكره أن يبطل دمه، وفي رواية: أن يطل دمه أي يهدر فوداه بمائة من الإبل أي من إبل الصدقة، وفي رواية فعقله أي أعطى ديته، وفي رواية: من عنده، أي من بيت المال المرصد للمصالح (متفق عليه) من وجوه بألفاظ، ورواه أهل السنن وغيرهم، وفي رواية متفق عليها "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته" فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم" الحديث، في الصحيحين "إما أن يدوا أو يأذنوا بحرب" وهو لا يعرض إلا ما كان شرعًا. فدلت هذه الأحاديث على مشروعية القسامة، وأنها أصل

من أصول الشرع مستقل بنفسه، ولا نزاع في ذلك فتخصص به الأدلة العامة، وقال البيهقي: أصح ما روي بعد حديث سهل حديث خارجة بن زيد أنه قتل رجل من الأنصار وهو سكران رجلاً آخر من الأنصار من بني النجار في عهد معاوية ولم يكن شهادة إلا لطيخ وشبهة، فاجتمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلونه، قال فركبنا إلى معاوية فكتب إلى سعيد بن العاص، فقال: أنا منفذ كتاب أمير المؤمنين فأعدوا على بركة الله، فأسلمه بعد أن حلفنا عليه خمسين يمينًا وفي الناس يومئذ من الصحابة والفقهاء ما لا يحصى، فما اختلف اثنان منهم، وللبيهقي وغيره عن عمر في قتيل وجد بين وادعة وشاكر، فأمرهم أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب وقال: قضيت لكم بقضاء نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ونحوه في رجل من جهينة. ودل قوله - صلى الله عليه وسلم - "فيدفع برمته" مع قوله "تستحقون" على وجوب القصاص بالقسامة، وهو قول الجمهور مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه، وأنها تكون على معين، قال الحافظ اتفقوا على أنها لا تجب بمجرد دعوى الأولياء حتى يقترن بها شبهة يغلب على الظن الحكم بها، وقال أحمد: أذهب إلى القسامة إذا كان ثم لطخ، وإذا كان ثم سبب بين، وإذا كان ثم عداوة وإذا كان مثل المدعي عليه يفعل هذا قال الشيخ: فذكر أربعة أمور اللطخ وهو التكلم في عرضه كالشهادة المردودة

والسبب البين كالتعرف عن قتيل، والعداوة وكون المطلوب من المعروفين بالقتل، وهذا هو الصواب. فإذا كان ثم لوث يغلب على الظن أنه قتل من اتهم بقتله جاز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينًا ويستحقوا دمه، وقال ابن القيم: وهو من أحسن الاستشهاد فإنه اعتماد على ظاهر الإمارات المغلبة على الظن بصدق المدعي فيجوز له أن يحلف بناء على ذلك، ويجوز للحاكم بل يجب عليه أن يثبت حق القصاص. قال: وليس إعطاء بمجرد الدعوى، وإنما هو بالدليل الظاهر الذي يغلب على الظن صدقه، فوق تغليب الشاهدين وهو اللوث والعداوة والقرينة الظاهرة من وجود العدو مقتولاً في بيت عدوه، فقوى الشارع هذا السبب باستحلاف خمسين يمينًا من أولياء المقتول الذين يستحيل اتفاقهم كلهم على رمي البريء بدم ليس منه. وإن نكلوا أو كانوا نساء حلف المدعي عليه خمسين يمينًا وبرئ إن رضي الورثة وإلا فداه الإمام اهـ، وإن نكل المدعي عليه القتل خطأ أو شبه عمد قضي عليه بالنكول، وكذا عمدًا لكن بالدية، وإذا ثبت اللوث فيشترط تكليف مدعى عليه القتل، وإمكان القتل منه، ووصف القتل في الدعوى، وطلب جميع الورثة، واتفاقهم على الدعوى، وعلى عين القاتل، وكون فيهم ذكور مكلفون، وكون الدعوى على واحد معين، ويقاد فيها إذا تمت هذه الشروط وشروط القود لما تقدم.

كتاب الحدود

كتاب الحدود الحد في اللغة المنع، ومنه يقال للبواب حداد، لأنه يمنع الناس من الدخول، وحدود الله هي ما يمنع الناس من مخالفتها، والحدود في الشرع عقوبة مقدرة لأجل حق الله تعالى أوجبها تعالى على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطبائع، وليس عليها وازع طبيعي زواجر للنفوس وعقوبة ونكالاً فهي من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد، بل لا تتم سياسة ملك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم، قال الشيخ: العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله بعباده، فهي صادرة عن رحمة الخلق، وإرادة الإحسان إليهم ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض. (قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} أي هذه الشرائع التي شرع الله هي حدوده فلا تتجاوزها فحدوده، ما منع المجاوزة عنه، وقد توعد من تعدى حدوده بدخول النار

وأخبر أن من تعدى حدوده فقد ظلم نفسه وفي الصحيح "إن الله حد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم محارم فلا تنتهكوها" ثم قال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *}. (وقال) تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} أي أوامره ونواهيه {فَلَا تَقْرَبُوهَا} أي فلا تأتوها {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *} أي يتقون تلك الحدود فينجون من العذاب، وقال الشيخ: معنى حدود الله أي معصية الله فليست الحدود المقدر فيها حد، بل المحرمات لأن حدود الله محارمه. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حد يعمل به الأرض) أي يقام على من استوجبه (خير لأهل الأرض من أن يمطروا) أي أنفع من ذلك (أربعين صباحًا) وذلك لئلا تنتهك حقوق الله (رواه أحمد) والنسائي وابن ماجه، وللطبراني نحوه من حديث ابن عباس بلفظ "حد يقام في الأرض بحقه أزكى من مطر أربعين صباحًا" فدل على الترغيب في إقامة الحدود ووجوب تنفيذها، ولا تجب إقامتها: إلا على بالغ عاقل ملتزم أحكام المسلمين عالم بالتحريم، ولا يقيمها إلا الإمام أو نائبه، ليؤمن الاستيفاء من الحيف، ولا يحد الخليفة ولو لقذف، لأن الحد له وإقامته إليه دون غيره، ولا يمكنه على نفسه، ويقتص ويؤخذ بالمال لأنهما من حقوق العباد، ويستوفي ولي الحق إما بتمكينه أو الاستعانة بمنعة المسلمين.

وقال الشيخ: الحقوق التي ليست لقوم معينين تسمى حدود الله، وحقوق الله، مثل قطاع الطريق والسراق والزناة ونحوهم، ومثل الحكم في الأموال السلطانية، والوقوف والوصايا التي ليست لمعين، فهذه من أهم أمور الولايات يجب على الولاة البحث عنها وإقامتها من غير دعوى أحد بها وتقام الشهادة فيها من غير دعوى أحد بها، وإن كانوا اختلفوا في القطع، لكنهم متفقون على أنه لا يحتاج إلى مطالبة المسروق منه بالحد بل اشترط بعضهم المطالبة بالمال، لئلا يكون للسارق شبهة، وهذا القسم تجب إقامته على الشريف والوضيع والقوي والضعيف. (وله) أي لأحمد -رحمه الله- (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا) أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من حالت شفاعته) أي طلبه التجاوز (دون حد من حدود الله) أي دون عقوبات وزواجر (فهو مضاد لله في أمره) ورواه أبو داود والحاكم، وصححه، وابن أبي شيبة موقوفًا، ونحوه للطبراني من حديث أبي هريرة وفيه: "فقد ضاد الله في ملكه" وفي الصحيحين في قصة المخزومية قال: "أتشفع في حد من حدود الله؟ " وفي لفظ "لا أرك تشفع في حد من حدود الله". فدل الحديث على تحريم الشفاعة في الحدود قال الشيخ لا يحل تعطيل حد من حدود الله بشفاعة ولا هدية ولا غيرهم ولا تحل الشفاعة فيه، ومن عطله لذلك وهو قادر على إقامته

فعليه لعنة الله، قال: والمال المأخوذة لتعطيل حد سحت خبيث، وإذا فعل ولي الأمر ذلك جمع بين فسادين عظيمين، تعطيل الحد، وأكل السحت وترك الواجب وفعل المحرم، وأجمعوا على أن المال المأخوذ من السارق والزاني والشارب ونحو ذلك لتعطيل الحد سحت خبيث، وأكثر ما يوجد من إفساد أمور المسلمين هو تعطيل الحد بمال أو جاه، وهذا من أكبر الأسباب في فساد البوادي والقرى والأمصار. وهو سبب سقوط حرمة المتولي وسقوط قدره من القلوب، وانحلال أمره فإنه إذا ارتشى وتبرطل على تعطيل حد ضعفت نفسه أن يقيم حدًا آخر، وصار من جنس اليهود الملعونين، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله ورسوله في أمره» فكيف بمن منع الحدود بقدرته ويده، واعتاض عن المجرمين بسحت مال يأخذه، سواء كان المأخوذ لبيت المال أو للولي سرًا أو علانية، فذلك حرام بإجماع المسلمين اهـ. وينبغي أن يقيد المنع من الشفاعة بما إذا كان بعد الرفع إلى ولي الأمر، لقوله "هلا كان قبل أن تأتيني به" ولخبر «إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع» ووجوب إقامتها إذا بلغت السلطان لا نزاع فيه. (وفي الصحيحين) أن أبا شريح الخزاعي قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث لمكة: "إن مكة حرمها الله" الحديث

فقال عمرو أنا أعلم منك بذلك. (إن الحرم لا يعيذ عاصيًا) فيخلي سبيله ومعصيته، بل يردع أو يعزر بما يستوجبه (ولا فارًا بدم) وجب عليه حد القتل فهرب على مكة مستجيرًا بالحرم (ولا خربة) أصلها سرقة الإبل ثم استعملت في كل سرقة، وقال الخليل: الخربة الفساد، وقال السهيلي: فيه أن الكعبة لا تعيذ عاصيًا، ولا تمنع من إقامة حد واجب، واستدل بعضهم بقصة ابن خطل على جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة، ونقل ابن الجوزي وغيره الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها، وخص الخلاف عمن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم. وعن مالك والشافعي يجوز إقامة الحد مطلقًا فيها لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن، فأما من أوقع فيها فلو لم يقم الحد عليه لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى صيانة نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، وأما من أوقع في الحل ولجأ إلى الحرم فالأولى أن لا يقام عليه فيه، لأنه لم يزل يعيذ العصاة من لدن الخليل، وقام الإسلام على ذلك، وقال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وفي الحديث "إن الله حرم مكة" فاللاجئ إليه لا يتعرض له ما دام فيه، وذكر عن عمر وابن عباس أن أحدهما لو لقي فيه قاتل أبيه ما هيجه، وأنه قول جمهور التابعين.

باب حد الزنا

باب حد الزنا الزنا هو فعل الفاحشة، قال ابن رشد هو كل وطء وقع على غير نكاح صحيح ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين، وهو من أكبر الكبائر وأعظم المعاصي، لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل معه التناصر على إحياء الدين، وفيه هلاك الحرث والنسل، ولذلك زجر عنه بالقتل والجلد ليرتدع عن مثل فعله من يهم به فيعود ذلك بعمارة الدنيا وصلاح العالم، والأصل في تحريمه الكتاب والسنة والإجماع. (قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} بالعزم والإتيان بالمقدمات فضلاً عن أن تباشروه {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} فعلة ظاهرة القبح ومعصية مجاوزة حد الشرع والعقل {وَسَاءَ سَبِيلًا} وبئس طريقا طريقه، لاشتماله على أنواع من الفساد منها المعصية وإيجاب الحد، واختلاط الأنساب وضياع الأولاد، وانقطاع النسل، بل وخراب العالم، ,خص الزنا بالنهي وإن كان اللواط أقبح منه لأنه كان ساريًا في العرب، بخلاف اللواط فقد كان في قوم لوط وتنوسي ثم ظهر في هذه الأمة بعد قرن الصحابة والتابعين، وفي الخبر " ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له". (وقال: الزانية والزاني) قيل رفعهما على الابتداء والخبر محذوف، أي جلدوهما فيما فرض عليكم، أو خبره قوله {فَاجْلِدُوا

كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} الجلد ضرب الجلد لغير المحصن، وهذا مطلق محمول على بعض هو: حر بالغ عاقل ما جامع في نكاح شرعي، فإن حكم من جامع فيه الرجم، للأحاديث الصحاح، ولآية الرجم المنسوخ لفظها دون معناها. {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ} في طاعته وإقامة حده {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فإن الإيمان يقتضي الصلابة في الدين والاجتهاد في إقامة أحكامه، لا التسامح في ذلك قال - صلى الله عليه وسلم - «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» (وليشهد عذابهما طائفة) فرقة (من المؤمنين) أي يجلد بحضرة طائفة من المؤمنين، وأقلها أربعة أو ثلاثة للشهرة والتخجيل، وقيل أو اثنان أو واحد، فإن الفاسق بين المؤمنين الصالحين أخجل وقد ينكل التفضيح أكثر مما ينكل التعذيب. (وقال فعليهن) أي على المماليك من العذاب، وسياق الآية في الفتيات {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي تزوجن كما فسره ابن عباس وغيره {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} أي زنا {فَعَلَيْهِنَّ} أي من العذاب الذي يمكن تبعيضه وهو الجلد لا الرجم {نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} أي الحرائر الأبكار، إذا زنين {مِنَ الْعَذَابِ} يعني الجلد فيجلد الرقيق إذا زنا خمسين جلدة، ولا نزاع بين العلماء أنه لا رجم على مملوك ومفهوم الآية أن غير المحصنة لا حد عليها، وقال الجمهور لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم

وقد وردت أحاديث عامة فيها إقامة الحد على الإماء، فقدموها على المفهوم، كما في صحيح مسلم أن عليًا قال: أقيموا الحدود على إمائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن "فإن أمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت فأمرني أن أجلدها". وفي حديث زيد بن خالد أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: إن زنت فاجلدوها وغير ذلك من الأحاديث وليس فيها تفريق بين المحصنة وغيرها، بل فيها النص على التي لم تحصن، وخطب علي رضي الله عنه فقال: أقيموا الحدود على أرقائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن العبد والأمة لا يكمل حدهما إذا زنيا، وأن حد كل واحد منهما إذا زنا خمسون جلدة، وأنه لا يفرق بين الذكر والأنثى، وأنهما لا يرجمان وأنه لا يعتبر في وجوب الجلد عليهما أن يكونا تزوجا، بل يجلدان سواء كانا تزوجا أو لم يتزوجا. (وخطب عمر) رضي الله عنه على المنبر لما رجع من الحج وقدم المدنية (فقال: إن الله بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحق) كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} (وأنزل عليه الكتاب) يعني القرآن (فكان فيما أنزل عليه آية الرجم) وهي الآية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) (قرأناها) يعني قوله الشيخ والشيخة إلى آخرها (ووعيناها) أي حفظناها (وعقلناها) فهمناها وتدبرناها (فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وأمر به وسيأتي (ورجمنا بعده) أي رجم

عمر رضي الله عنه واستمر عمل المسلمين عليه (فأخشى إن طال بالناس زمان) وقد وقع ما خشية من الخوارج وبعض المعتزلة وغيرهم، أنكروا مشروعية الرجم. وهذا من المواضع التي وافق حدس عمر رضي الله عنه فيها الصواب، وقد قال فيه - صلى الله عليه وسلم - إن كان في أمتي محدثون فعمر، ولذا خشي رضي الله عنه (أن يقول قائل) أي جاهل أو مبتدع (والله ما نجد الرجم في كتاب الله) وفي رواية عبد الرزاق سيجيء قوم يكذبون بالرجم، وللنسائي، وإن ناسًا يقولون ما بال الرجم، فإن في كتاب الله الجلد (فيضلون بترك فريضة) من فرائض الله (أنزلها الله) على رسوله - صلى الله عليه وسلم - (وإن الرجم حق في كتاب الله) ثابت الحكم منسوخ اللفظ (على من زنى إذا أحصن) أي تزوج ووطئ مباحًا، وكان بالغًا عاقلاً (ومن الرجال والنساء) بشرطه وهو قول أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار إلا الخوارج. وذلك (إذا قامت البينة) أي شهادة أربعة شهود ذكور بالإجماع عدول، ليس فيهم مانع، يصفون وقال تعالى {لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وقال {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا لم يكن شهود الزنا أربعة فإنهم قذفة يحدون، وإذا شهد اثنان أنه زنى بها وهي مطاوعته، وآخران أنه زنى بها وهي مكرهة، فلا حد على واحد منهم، وإن

كان أحدهم الزوج فقال الشافعي وأحمد: عليهم الحد إلا الزوج له إسقاطه باللعان، واتفقوا على أنها تسمع في الحال. (أو كان الحبل) بفتحتين وفي رواية الحمل: واستدل به على أن المرأة تحد إذا وجدت حاملاً ولا زوج لها ولا سيد، ولم تذكر شبهة، واختاره الشيخ، وقال هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، وهو الأشبه بأصول الشريعة، وهو مذهب أهل المدينة، فإن الاحتمالات الباردة لا يلتفت إليها، وقال ابن القيم: حكم عمر برجم الحامل بلا زوج ولا سيد، وهو مذهب مالك وأصح الروايتين عن أحمد، اعتمادًا على القرينة الظاهرة. (أو الاعتراف) أربع مرات في مجلس أو مجالس كما سيأتي، فيشترط لوجوب الحد ثلاثة شروط أحدها ثبوته بأربعة شهود أو بإقراره كما سيأتي، وتغييب حشفة أصلية في قبل أو دبر أصليين وانتفاء الشبهة فلا يحد بوطء أمة له فيها شرك أو لولده أو وطء امرأة ظنها زوجته أو سريته، أو في نكاح باطل اعتقد صحته أو نكاح أو ملك مختلف فيه أو أكرهت المرأة على الزنا، فإنه لا خلاف بين أهل الإسلام أن المكرهة لا حد عليها، وهي من غلبها الواطئ على نفسها. (قال) عمر رضي الله عنه (وقرأناها) ثم نسخ لفظها وبقي حكمها (و) هي (الشيخ والشيخة) قال مالك: يعني الثيب والثيبة وإن كانا شابين، لا حقيقة الشيخ، وهو من طعن في

السن فإن الرجم لا يختص بالشيخ والشيخة، وإنما المدار على الإحصان لقوله - صلى الله عليه وسلم - لماعز «أحصنت» قال: نعم ولأهل ما عز «أبكر أم ثيب» فقالوا: بل ثيب «إذا زنيا» فعلا الفاحشة «فارجموهما» أي ارموهما بالحجارة «ألبتة» بهمزة قطع أي جزما «نكالا من الله» عقوبة من الله وردعًا عن فعل الفاحشة «والله عزيز» لا يغالب «حكيم» في أمره ونهيه (متفق عليه). ولأحمد وغيره من حديث أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء أن فيما أنزل الله من القرآن "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة" ولابن حبان من حديث أبي بن كعب كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، وكان فيها آية الرجم "الشيخ والشيخة" إلى آخره. فالرجم ثابت بنص القرآن، لهذا الحديث وللسنة المتواترة المجمع عليها، وأجمع عليه أهل العلم إلا ما حكي عن الخوارج وبعض المعتزلة، ولا مستند لهم إلا أنه لم يذكر في القرآن، وما ذهبوا إليه باطل لما ترى، فالمحصن إذا زنا رجم حتى يموت، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله، والمحصن هو من وطئ امرأته المسلمة أو الذمية في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران، فإن اختل شرط منها في أحدهما فلا إحصان لواحد منهما، قال الوزير وغيره: أجمعوا على أن من شرائط الإحصان الحرية والبلوغ، والعقل، وأن يكون تزوج امرأة على مثل حاله، تزويجًا صحيحًا، ودخل بها وهو على هذه الصفات الخمس مجمع عليها.

وأجمعوا على أن من كملت فيه شرائط الإحصان وزنا بامرأة مثله في شرائط الإحصان، وهي أن تكون حرة بالغة عاقلة متزوجة تزويجًا صحيحًا، مدخولاً بها في التزويج الصحيح بالإجماع، فإنهما زانيان محصنان عليهما الرجم حتى يموتا اهـ. وقال الشيخ في الذمي إذا زنا بالمسلمة قتل، ولا يصرف عنه القتل الإسلام، ولا يعتبر فيه أداء الشهادة على الوجه المعتبر في المسلم، بل يكفي استفاضته واشتهاره اهـ، وخص الثيب بالرجم لكونه تزوج، فعلم ما يقع به من العفاف عن الفروج المحرمة، واستغنى به عنها، وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنا، فزال عذره من جميع الوجوه في تخطي ذلك إلى الحرام. (ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رجلاً) من الأعراب (قال يا رسول الله إن ابني) قيل ابن الأعرابي كما في رواية للبخاري، وقيل الذي وصفه الراوي بأنه أفقه كما سيأتي، ورجحه الحافظ (كان عسيفًا) أي أجيرًا والعسف في اللغة الجور، وسمي الأجير بذلك لأن المستأجر يعسفه على العمل أي يجور عليه (على هذا) أي عنده، أو على بمعنى اللام (فزنى بامرأته) لم يعرف اسمها (وإني أخبرت) وفي رواية فسألت من لا يعلم فأخبرني (أن على ابني الرجم) أي بالحجارة (فافتديت منه) أي بدل الرجم (بمائة شاة ووليدة) وفي رواية وبجارية لي (فسألت أهل العلم) قال الحافظ لم أقف على أسمائهم (فأخبروني أنما على ابني جلد مائة)

بالإضافة لأنه بكر (وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم) لأنه محصنة. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأقضين بينكما بكتاب الله) وذلك أن الأعرابي قال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لنا بكتاب الله؛ وقال: الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، فقال: «قل» قال: إن ابني إلى آخره، والمراد بكتاب الله ما حكم الله به على عباده، سواء كان من القرآن، أو على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - «الوليدة والغنم رد عليك» أي مردودة عليك «وعلى ابنك جلد مائة» حكمه بالجلد من دون سؤال عن الإحصان يشعر أنه عالم بذلك من قبل، وفي رواية وابني لم يحصن، ثم قال: (وتغريب عام) عن وطنه، وقد ورد التغريب في الأحاديث الصحيحة الثابتة باتفاق أهل العلم بالحديث، من طريق جماعة من الصحابة، وقد جاوزت حد الشهرة المعتبرة، وحكى ابن نصر الاتفاق على نفي الزاني البكر إلا عن الكوفيين. وقال ابن المنذر: أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقضي بكتاب الله ثم قال: إن عليه جلد مائة وتغريب عام، وهو المبين لكتاب الله، وخطب عمر بذلك على رءوس المنابر، وعمل به الخلفاء الراشدون، فلم ينكره أحد فكان إجماعًا وقال ابن القيم: لما رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - المحصن علم أن قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} للبكرين، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن

البكرين الحرين إذا زنيا فإنهما يجلدان كل واحد منهما مائة جلدة، وحكى ابن رشد إجماع المسلمين، وخفف عنه القتل لما حصل له من العذر ما أوجب له التخفيف، فحقن دمه، وزجر بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد، ردعًا عن المعاودة بالاستمتاع بالحرام اهـ. وأما تغريبه فهو إخراجه عن محل إقامته، بحيث يعد غريبًا، وظاهر الأحاديث أنه سنة، وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد، وغرب عمر من المدينة إلى الشام وغرب عثمان إلى مصر وغرب ابن عمر أمته إلى فدك، (واغد) أي اذهب (يا أنيس) قال ابن عبد البر: هو ابن الضحاك الأسلمي، ووقع في رواية التصريح به، (إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) أي فإن اعترفت بالزنى فارجمها، وفيه جواز قبول الواحد فيما طريقه الخبر، وبعثه إليها لم يكن لإثبات الحد عليها، بل لأنها لما قذفت بالزنا بعث إليها لتنكر فتطالب بحد القذف أو تقر بالزنا فيسقط حد القذف ويجب الرجم (فاعترفت فرجمها) وفي رواية فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت قال الحافظ والذي يظهر أن أنيسًا لما اعترفت أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - مبالغة في الاستثبات مع كونه علق له رجمها على اعترافها. ودل الحديث على جلد البكر مائة، وهو إجماع وتغريبه عند الجمهور، وعلى أن المحصن يرجم، وأنه لا يجب الجمع بين الجلد والرجم، وهو مذهب جمهور العلماء، لهذا الخبر وغيره

كقصة ماعز وهي متأخرة، ولم يرو أنه جلد أحدًا ممن رجم، ولأن الحد الأصغر ينطوي في الحد الأكبر، ولأن الحد إنما وضع للزجر، فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم، وقال ابن رشد: أجمع المسلمين أن الثيب الأحرار المحصنين، حدهم الرجم لثبوت أحاديث الرجم، فخصصوا الكتاب بالسنة. (وفيهما عنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه (قال أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل) هو ماعز بن مالك الأسلمي، وفي رواية وهو في المسجد فناداه، (فقال إني زنيت فأعرض عنه) - صلى الله عليه وسلم - (فتنحى) ماعز الأسلمي (تلقاء وجهه) الذي أعرض عنه قبله (فقال: إني زنيت فأعرض عنه حتى ثنى ذلك أربع مرات) وفي رواية حتى إذا أكثر عليه (فلما شهد على نفسه أربع شهادات) أي أنه زنى، وفي لفظ قال: إني زنيت فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات، ولمسلم من حديث جابر فشهد على نفسه أربع مرات، وله عن ابن عباس نحوه، ورواه جماعة من الصحابة من طرق وتطابقت الروايات أنه أقر أربع مرات. (قال أبك جنون؟) ولمالك بعث إلى أهله فقال: «أيشتكي أم به جنون؟» فقالوا: يا رسول الله والله إنه لصحيح، أي في العقل والبدن، وفي لفظ «أبه جنون؟» قالوا: لا، وفي لفظ: دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أبك جنون؟» قال: لا، «فهل أحصنت؟» بفتح الهمزة والصاد أي تزوجت (قال: نعم) ولمالك قال أي لهم: أبكر أم ثيب فقالوا بل ثيب (قال: اذهبوا به فارجموه) فدل

الحديث على وجوب رجم الثيب إذا أقر أربع مرات قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلي، فلما أذلقته، الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة فرجمناه، وذكر ابن سعد أن الصديق رأس الذين رجموه. وإن رجع عن إقراره أو هرب كف عنه قال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه إذا أقر بالزنى ثم رجع عنه فإنه يسقط الحد عنه، ويقبل رجوعه إلا مالكًا إن كان بشبهة قبل، قال ابن رشد: وإنما صار الجمهور إلى تأثير الرجوع في الإقرار، لما ثبت من تقريره - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا وغيره مرة بعد مرة لعله يرجع، ولقوله لما هرب فهلا تركتموه، لعله يتوب فيتوب الله عليه. (وللبخاري عن ابن عباس) رضي الله عنهما يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لماعز: «لعلك قبلت» أي تلك المرأة فظننته زنى (أو غمزت) أي جسيتها باليد (أو نظرت) أي إليها فحملته على الزنى (قال: لا) أي بل فعل الفاحشة، والمراد لعلك وقع منك هذه المقدمات فتجوزت بإطلاق لفظ الزنا عليها؛ فدل على وجوب التثبت والتلقين المسقط للحد، وأنه لا بد من اللفظ الصريح الذي لا يحتمل سواه. وفي رواية «أفنكتها» لا يكني، قال: نعم، ولأبي داود "كما يدخل الميل في المكحلة والرشاء في البئر" قال: نعم قال: «فهل تدري ما الزنى» قال: نعم أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من

امرأته حلالاً قال: «فما تريد بهذا القول؟» قال: أريد أن تطهرني فأمر برجمه. وفيه دليل على وجوب الاستفصال والبحث عن حقيقة الحال، فقد بالغ - صلى الله عليه وسلم - في الاستثبات، ولم يكتف بإقراره بالزنى، بل استفهم بلفظ لا أصرح منه في المطلوب، ثم صوره تصويرًا حسيًا ولا شك أن تصوير الشيء بأمر محسوس أبلغ في الاستفصال. (وعن عمران بن حصين) رضي الله عنه (أن امرأة من جهينة) ولمسلم من غامد وغامد بطن من جهينة (أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى) ولمسلم حامل ويقال حبلت المرأة فهي حابل حملت (من الزنى فقالت: أصبت حدًا) أي ذنبًا أوجب علي حدًا أي عقوبة (فأقمه علي) أي فأقم علي الحد، وفي حديث بريدة طهرني فقال: «ويحكِ ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه» فقالت أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك، فقال: «وما ذاك؟» قالت إنها حبلى من الزنى، قال: أنت؟ قالت نعم، قال «حتى تضعي ما في بطنك» (فدعا وليها) أي دعا - صلى الله عليه وسلم - متولي أمر المرأة (فقال: أحسن إليها) لأن سائر قراباتها ربما حملتهم الغيرة وحمية الجاهلية على أن يفعلوا بها ما يؤذيها، فأمره بالإحسان إليها تحذيرًا من ذلك. (فإذا وضعت) أي ولدت (فائتني بها ففعل) ولمسلم فلما

وضعت جاءته كما يأت (فأمر بها) ولمسلم فحفر لها إلى صدرها (فشدت عليها ثيابها) وفي رواية شكت عليها ثيابها، ومعناهما واحد، والمراد أن لا تتكشف عند وقوع الرجم عليها، لما جرت به العادة من الاضطراب عند نزول الموت، وعدم المبالاة بما يبدو من الإنسان، ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن المرأة ترجم قاعدة والرجل قائمًا، لما في ظهور العورة من الشناعة. وحكى النووي الاتفاق على أنها ترجم قاعدة، ولا شك أنه أقرب إلى الستر ولمسلم وغيره: فلما وضعت جاءته فقال: «اذهبي حتى ترضعيه» وفيه: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه» والروايتان كما قال النووي صحيحتان، والثانية صريحة في أنه أمرها أن ترضعه، وفيها أنه قال: «إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه» ثم قالت: قد فطمته وقد أكل الطعام. (ثم أمر بها فرجمت) أي بالحجارة جالسة بعد أن شدت عليها ثيابها لئلا تنكشف (ثم صلي عليها) بفتح الصاد واللام وروي بضم الصاد، وأكثر رواة مسلم بفتحها (فقال عمر تصلي عليها وقد زنت) أي أصابت الفاحشة (فقال: لقد تابت توبة لو قسمت) أي توبتها (بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم) لعظمها وفي حديث بريدة لو تابها صاحب مكس أي متولي الضرائب التي تؤخذ من الناس لغفر له (وهل وجدت) أي توبة أو عملاً (أفضل من أن جادت بنفسها) سمحت بها فدفعتها (لله عز وجل) وبذلتها له، والجود ليس فوقه شيء

(رواه مسلم) ورواه من حديث بريدة بنحوه، وجاء من طرق عن جماعة من الصحابة، ولمسلم عن علي أمره أن يجلد أمة زنت، فإذا هي حديثة عهد بنفاس فقال: «اتركها حتى تماثل» أي تقارب البرء. فدلت الأحاديث على إمهال الحامل من الزنى إلى أن تضع وترضع ولدها، وفي هذه الأحاديث ونحوها دليل على أن المريض يمهل حتى يبرأ أو يقارب البرء، وحكي الإجماع على أنه يمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد والمرض المرجو زواله، بخلاف الرجم لأنه لقصد إتلافه. (ولهما عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن اليهود) ومنهم كعب بن الأشرف وكعب بن الأسعد وسعيد بن عمرو (أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل وامرأة) منهم (قد زنيا) ولأبي داود وغيره قد أحصنا (فقال: ما تجدون في كتابكم؟) وفي لفظ «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» أي في حكمه إلزامًا لهم بما يعتقدونه (فقالوا: نحمم وجوهما) وفي لفظ: تسخم وجوههما أي تسود (ويخزيان) أي يفضحان ويشهران، وفي لفظ: نفضحهم ويجلدون (قال: كذبتم إن فيها الرجم) أي على الزاني المحصن، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «فائتوا بالتوراة» ليظهر كذبهم {فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وفي حديث البراء عند مسلم: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولكن كثر في أشرافنا، وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه

وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد، مقام الرجم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» (فجاءوا بالتوراة) فنشروها (وجاءوا بقارئ لهم) ممن يرضونه وقال: اقرأ (فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها) فيه آية الرجم (وضع يده عليه) ثم قرأ ما قبلها وما بعدها (فقيل له ارفع يدك) قاله عبد الله بن سلام (فرفع يده) عن تلك الآية. (فإذا هي تلوح) ولفظها المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما (فقالوا يا محمد) أو قال: يا محمد صدق (إن فيها الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا) وفي رواية فما منعكم أن ترجموهما قالوا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، وفي رواية كثر في أشرافنا فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم (فأمر بهما فرجما) عند البلاط مكان بين السوق والمسجد النبوي. فدل الحديث وما في معناه، على أن الذمي يحد كما يحد المسلم، والحربي والمستأمن يلحقان بالذمي بجامع الكفر، ونزلت {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} على قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ *} وهذا حكم شرعه الله لأهل الكتاب، وقرره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا سيما وهو مأمور أن يحكم بينهم بما أنزل الله ورجم اليهودية مع اليهودي. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا زنت أمة أحدكم) لم تقيد ببكارة ولا إحصان (فليجلدها

الحد) وهو نصف ما على المحصنة (ولا يثرب عليها) أي ولا يوبخها بعد الضرب، فدل على جلد البكر، والآية دلت على جلد المحصنة، إذ الرجم لا يتنصف فتجلد ولو متزوجة عملاً بالكتاب والسنة وإجماع الأمة (ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها) وللنسائي ولا يعنفها أي لا يضم إلى الحد التعنيف واللوم (ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر) وفي رواية "فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير" مبالغة في التنفير عنها، والحض على مباعدة الزانية (متفق عليه) ولأحمد وأبي داود أنه ذكر في الرابعة الحد والبيع، ورجح الحافظ أنه يجلدها قبل البيع. وظاهر الأمر بالبيع الوجوب، والجمهور على الاستحباب وقال ابن بطال: حمل الفقهاء الأمر بالبيع على الحض على مباعدة من تكرر منه الزنى، لئلا يظن بالسيد الرضى بذلك ولما فيه من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنى، قال: وحمله بعضهم على الوجوب ولا سلف له، ودل على أن السيد يقيم الحد على مملوكه، وهو مذهب الجمهور، وأنه يجلد سواء كان محصنًا أو لا. (ولأبي داود عن علي) رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» بالسبي أو الشراء أو غيره، وأصله في صحيح مسلم وغيره.

فدل مع ما قبله على أن السيد يقيم على مملوكه الحد، ولا تقف إقامته على ولي الأمر، ولأنه يملك تأديبه وضربه على الذنب، وهذا من جنسه، ولو كان مكاتبًا أو مرهونًا أو مستأجرًا للعموم ولتمام ملكه عليه دون المشترك. (وأمر عمر) رضي الله عنه (بجلد ولائد) جمع وليدة والوليدة الأمة وإن كانت كبيرة والوليد الرقيق (خمسين خمسين) أي كل وليد أو وليدة خمسين جلدة (رواه مالك) وللبيهقي عن ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم في مجالسهم إذا زنت، قال الشافعي: وكان ابن مسعود يأمر به، وأبو برزة يحد وليدته، ولأحمد عن علي مرفوعًا إذا تعالت من نفاسها فاجلدوها خمسين، وروي عن فاطمة رضي الله عنها أنها كانت تجلد وليدتها إذا زنت خمسين؛ وتقدم قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ولا قائل بالفرق بين الأمة والعبد. قال الشيخ: إذا زنى الرقيق علانية وجب على السيد إقامة الحد عليه، وإن كان سرًا فينبغي أن لا يجب عليه إقامته، بل يخير بين ستره واستتابته، بحسب المصلحة في ذلك، كما يخير الشهود على من وجب عليه الحد بين إقامتها عند الإمام، وبين الستر عليه واستتابته بحسب المصلحة، فإنه يرجح أن يتوب إن ستره وإن كان في إقامة الحد عليه ضرر على الناس كان الراجح فعله.

(وله) أي لمالك في الموطأ (عن زيد بن أسلم) العدوي مولاهم ورواه عبد الرزاق (أن رجلاً اعترف) على نفسه بالزنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوط) ليجلد به لأنه غير محصن (فأتي بسوط مكسور فقال (فوق هذا) لخفة إيلامه (فأتى بسوط جديد) لم يمتهن ولم يلن (لم تقطع ثمرته) أي طرفه (فقال بين هذين) أي سوط متوسط بين المكسور والجديد (فأتى بسوط قدلان) ولم ينكسر (وركب به) الراكب على الدابة وضربها به حتى لان (فأمر به فجلد به) أي جلد الرجل المعترف على نفسه بالزنا. فدل الحديث على أنه ينبغي أن يكون السوط الذي يجلد به الزاني متوسطًا بين الجديد والعتيق، وإذا كان بعود فينبغي أن يكون متوسطًا بين الكبير والصغير، فلا يكون من الخشب التي تكسر العظم وتجرح اللحم، ولا من الأعواد الرقيقة التي لا تؤثر في الألم، بل يكون متوسطًا، ويفرق الضرب على بدنه ليأخذ كل عضو منه حظه، ولأن توالي الضرب على عضو واحد يؤدي إلى القتل، ويتقي الرأس والوجه والمقاتل، ولا يمد ولا يربط ولا يجرد بل يكون عليه قميص أو قميصان، وروي عن علي أنه قال: يضرب الرجل قائمًا والمرأة جالسة. (وعن سعيد) بن سعد (بن عبادة) الأنصاري الخزرجي قال ابن عبد البر: صحبته صحيحة (قال: كان بين أبياتنا

رويجل) تصغير رجل للتحقير (ضعيف) يعني سقيم ناقص الخلق، فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم، قال سعد (فخبث) أي زنى (بأمة من إمائهم فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ذكره له سعد بن عبادة رضي الله عنه (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اضربوه حده» أي اجلدوه مائة جلدة. (فقال: يا رسول الله إنه أضعف من ذلك) وفي لفظ أضعف مما تحسب، لو ضربناه مائة قتلناه (قال: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ) وهو العذق الذي يكون فيه البسر والمشراخ غصن دقيق منه (ثم اضربوه به) أي بالعثكال (ضربة واحدة) لقوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (ففعلوا) أي جلدوه بالعثكال، رواه أحمد وابن ماجه و (حسنه الحافظ) ولأبي داود معناه عن بعض الصحابة، وفيه: ولو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، وله شواهد يشد بعضها بعضًا. فدل على أن نضو الخلقة والمريض إذا لم يحتمل الجلد ضرب بعذق فيه مائة شمراخ أو ما يشبه، مما يحتمله بدن المجلود، وينبغي أن تباشره جميع الشماريخ، ويكفي الاعتماد، وهذا من الحيل الجائزة شرعًا، وقال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ}.

فصل في اللواط

فصل في اللواط أي هذا فصل في بيان حكم الحد في اللواط، يقال لاط الرجل يلوط لوطًا عمل عمل قوم لوط، وكذا اللوطية، فلما أحدثوا هذا الفعل القبيح اشتق الناس من اسمه فعلاً لمن فعل فعل قومه، ولاط الشيء أخفاه، ولاط الشيء بالقلب أخفى إليه. (قال تعالى: {وَلُوطًا}) أي وأرسلنا لوطًا أو: اذكر يا محمد لقومك لوطًا، وهو لوط بن هارون بن تارخ يعني آزر، فهو ابن أخي الخليل عليهما السلام، وكان قد آمن مع إبراهيم وهاجر معه إلى أرض الشام، فنزل إبراهيم فلسطين، ونزل لوط الأردن، فبعثه الله إلى أهل سدوم وعامورا المؤتفكة، وما حولها، يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من الفواحش {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} وهم أهل سدوم {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} يعني إتيان الذكور، توبيخ وتقريع على تلك الفعلة القبيحة. {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} من بني آدم ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور دون الإناث، وهذا شيء لم تكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ولا يخطر لهم ببال، حتى صنع ذاك أهل سدوم عليهم لعائن الله المتتابعة، قال غير واحد من السلف: ما نزا ذكر على ذكر قبل قوم لوط، وقال الوليد بن عبد الملك: لولا أن الله قص علينا خبر قوم لوط ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا، ولهذا قال لوط عليه السلام {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ

مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} أي في أدبارهم {شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} أي عدلتم عن النساء وما خلق لكم ربكم منهن، وهذا إسراف منكم وجهل وفي الآية الأخرى {أتأتون الرجال} وفي الآية الأخرى {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ}. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} مجاوزون الحلال إلى الحرام، اضرب عن الإنكار إلى الإخبار عن حالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها (وقال: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} يعني سدوم، فقلبناها عليهم، قيل إن جبرائيل أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط، وهي المؤتفكات قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ} أي المنقلبة (أهوى) أي أهواها جبرائيل بهم بعدما رفعها إلى السماء فقلبها عليهم، ثم قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} قال الوزير وابن رجب وغيرهما الصحيح قتله محصنًا كان أو غير محصن لهذه الآية ووصفها في أخرى فقال: {مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ *} وفي الآية الأخرى {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} أي حجارة من سجيل {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أي من يجترئ على معاصي الله ويكذب رسله، وفي الآية الأخرى {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} يريد السجيل فإنه طين متحجر ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أي المعتبرين بآثار هذه النقمة الظاهرة على تلك البلاد {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} ثابت يسلكه الناس {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} بالله ورسله.

(وعن ابن عباس مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من وجدتموه» ظاهره مسلمًأ كان أو ذميًا (يعمل عمل قوم لوط) أي يأتي الرجال في أدبارها كما فعله قوم لوط (فاقتلوا الفاعل والمفعول به، رواه الخمسة) والحاكم والبيهقي وقال: رجاله موثقون، ولابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة نحوه وفيه أحصنا أو لم يحصنا وفيه ضعف، لكن قال ابن القطان ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» واتفقوا على أن البينة لا تثبت عليه إلا بأربعة شهود كالزنى، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه يثبت بشاهدين وعن أحمد نحوه. (ولأبي داود) وابن ماجه وغيرهما (فارجموا الأعلى والأسفل) وفيه ضعف (وقال علي: حده الرجم) وأخرج البيهقي عن علي أنه رجم لوطيًا قال الشافعي: وبهذا نأخذ: يرجم اللوطي محصنًا كان أو غير محصن، وللبيهقي أيضًا عن علي وكان أبو بكر جمع الناس في رجل كان ينكح كما تنكح النساء، فسأل الصحابة فقال علي: هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع الصحابة على أن يحرقه بالنار، وفي رواية: يرجم ويحرق، وعن ابن عباس: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به، ثم يتبع الحجارة، وكذا عن عمر وعثمان أنه يلقى عليه حائط، لأن الله قلب على قوم لوط بلادهم. فدلت الأحاديث والآثار على قتل اللوطي محصنًا كان أو

غير محصن، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين، وحكي في الشفاء إجماع الصحابة على القتل، ومذهب مالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد في أصح الروايتين عنه حده القتل بكل حال بل أطبق الصحابة على قتله، فحق مرتكب هذه الجريمة العظيمة أن يعاقب بما عاقب الله به من سبق، بكرًا كان أو ثيبًا، وقال الشيخ: الصحيح الذي عليه الصحابة أنه يقتل الأعلى والأسفل إن كان محصنين أو غير محصنين، فإن أهل السنن رووا عن ابن عباس: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به وعن ابن عباس يرجم، وعن علي نحوه. ولم يختلف الصحابة في قتله وأمر أبو بكر وغيره بتحريقه، وغيره بقتله، وعن بعضهم يلقى، وبعضهم يرفع على أعلى جدار في القرية فيرمى منه، ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط، وهو رواية عن ابن عباس، والثانية يرجم، وعليه أكثر السلف، قالوا لأن الله رجم قوم لوط، ورجم الزاني مشبهًا برجم قوم لوط، وقال أيضًا: ويجب قتل الفاعل والمفعول به رجمًا بالحجارة، سواء كان محصنين أو غير محصنين، فيرجم الاثنان سواء كانا حرين أو مملوكين أو كان أحدهما مملوكًا والآخر حرًا، إذا كان بالغين، وإن كان أحدهما بالغًا والآخر غير بالغ عوقب بما دون القتل ولا يرجم إلا البالغ. (وعنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما (مرفوعًا: ادرءوا الحدود بالشبهات) أي ادفعوا إيجاب إقامة الحدود بالشبهات:

الإلباس، يقال: تشابهت الأمور واشتبهت التبست، لاشتباه بعضها ببعض، فلا تحدوا إلا بأمر متيقن لا يتطرق إليه التأويل (رواه البيهقي) وفيه ضعف، ويتأيد بخبر عائشة وغيره، فلابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعًا «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعًا» وللترمذي من حديث عائشة «ادرءوا الحدود والقتل عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة». وذكر الموفق أن الموقوف أصح قال: وروي عن غير واحد من الصحابة، أنهم قالوا مثل ذلك، مما يعتضد به مشروعية: ادرؤا الحدود بالشبهات المحتملة، لا المطلقة، وعذر عمر رجلاً زنا بالشام وادعى الجهل بتحريم الزنا، وكذا عثمان عذر جارية ادعت الجهل بتحريمه، وتقدم أن اتقاء الشبهة شرط من شروط إقامة الحد على الزاني، فلا يحد بوطء أمة له فيها شرك أو محرمة برضاع أو نحوه أو لولده فيها شرك أو وطئ امرأة ظنها زوجته أو سريته ونحو ذلك مما تقدم وغيره وكذا ملوط به أكره عليه بالجاء أو تهديد أو منع طعام أو شراب مع اضطرار إليه وكذا الزنا لو أكرهت أو وطئت بشبهة. (وللحاكم) ومالك والبيهقي وغيرهم وصححه ابن السكن (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا: اجتنبوا هذه القاذورات) جمع قاذورة كل فعل أو قول يستقبح كالزنى والشرب والقذف سميت قاذورات لأن حقها أن تقذر

فوصفت بما يوصف به صاحبها، وفيه: التي نها الله عنه (فمن ألم) بالتشديد أي نزل (بشيء) من القاذورات المنهي عنها (فليستتر بستر الله) الذي أسبله عليه ولا يظهره لنا (وليتب إلى الله) بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود قاله - صلى الله عليه وسلم - بعد رجم ماعز، وجلد بكرًا اعترف بالزنا، وقال هزال الأسلمي لما وقع ماعز على جارية له أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا هزال لوسترته بردائك لكان خيرًا لك» أي من أمرك به بإخباري لما في الستر على المسلم من الثواب الجزيل، المذكور في كثير من الأحاديث. (فإن من أدى لنا صفحته) أي فإن من يظهر لنا معاشر الحكام جانبه ووجهه وناحيته مما ستره الله عليه (نقيم عليه كتاب الله) أي الحد الذي حده في كتابه، والسنة من الكتاب، فعلى الشخص إذا فعل ما يوجب حدًا الستر على نفسه والتوبة، فهو أفضل من حد أو تعزير، فإن خالف واعترف عند الحاكم أقامه عليه، ويؤخذ من الحديث أنه لا ينبغي التجسس عليه، فلا يسترق السمع على داره ليسمع صوت الأوتار، ولا الدخول عليه لرؤية المعصية، إلا أن يظهر عليه ظهورًا يعرفه من هو خارج الدار، كصوت آلة اللهو والسكارى، ولا أن يستخبر جيرانه ليخبروه بما يجري في داره، وأنشد الغزالي. لا تلتمس من مساوي الناس مستترًا ... فيكشف الله سترً عن مساويكا وقال الماوردي: ليس له أن يقتحم ويتجسس، إلا أن

باب حد القذف

يخبره من يثق بقوله أن رجلا خلا برجل ليقتله، أو امرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرًا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات. باب حد القذف القذف هو الرمي بزنى أو لواط، فهو في الأصل الرمي ثم استعمل في السب والرمي بالزنى أو ما كان في معناه حتى غلب عليه، وقد دل على تحريمه الكتاب والسنة والإجماع، وإيجاب الحد دون الكفر تكذيبًا له وتبرئة للمقذوف، لا سيما إن كان امرأة، وأما الكفر فإن شاهد حال المسلم كاف في تكذيبه. (قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}) أي: والذين يقذفون بالزنى المحصنات المسلمات الحرائر العاقلات العفيفات {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي ثم لم يأتوا على ما رموهن به بأربعة شهداء يشهدون عليهن بما رموهن به {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} أي فاجلدوا كل واحد من الرامين ثمانين جلدة، ولا فرق بين الذكر والأنثى، وإنما خصهن لخصوص الواقعة، ولأن قذفهن أغلب وأشنع {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} في أي واقعة كانت {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} عند الله {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

قال ابن رشد وغيره: اتفقوا على أن القذف الذي يجب به الحد أن يرمي القاذف المقذوف بالزنى، أو ينفيه عن نسبه إذا كانت أمه حرة مسلمة، وأن القذف إذا كان بهذين المعنيين أنه إذا كان بلفظ صريح أوجب الحد واتفقوا على أن حد القذف ثمانون جلدة للقاذف الحر والعبد على النصف للآية وغيرها، ولأن الله لم يجعله كالحر من كل وجه، واتفقوا على أنه يثبت بشاهدين عدلين حرين ذكرين، ولا خلاف أن الإمام يقيمه، وأنه يجب على القاذف مع الحد سقوط شهادته ما لم يتب. واتفقوا على أن التوبة لا ترفع الحد وقال الشيخ: إذا تاب قبل علم المقذوف هل تصح توبته؟ الأشبه أنه يختلف باختلاف الناس، وقال أكثر العلماء إن علم به المقذوف لم تصح توبته وإلا صحت، ودعا له واستغفر، وعلى الصحيح من الروايتين لا يجب له الاعتراف لو سأله فعرض ولو مع استحلافه لأنه مظلوم، وتصح توبته وفي تجويز التصريح بالكذب المباح هنا نظر، ومع عدم توبته وإحسان تعريضه كذب ويمينه غموس، واختيار أصحابنا لا يعلمه، بل يدعو له في مقابلة مظلمته. (وقال) تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ} أي يقذفون بالزنى {الْمُحْصَنَاتِ} العفائف {الْغَافِلَاتِ} عما قذفن به من الفواحش، لم يقع فعلها في قلوبهن {الْمُؤْمِنَاتِ} بالله ورسوله وما يجب الاعتقاد به {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} يلعنهم المؤمنون في الدنيا والملائكة في الآخرة، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لعظيم ذنوبهم، فعظم

العذاب بالكم والكيف، وسجل عليهم {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} أي جزاءهم الواجب الذي هم أهله {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} حيث حقق لهم الجزاء الذي يشكون فيه. (وقال - صلى الله عليه وسلم - اجتنبوا السبع الموبقات) أي المهلكات، سميت موبقات لأنها تهلك فاعلها في الدنيا، لما يترتب عليها من العقوبات وفي الآخرة من العذاب (وذكر) من السبع (قذف المحصنات الغافلات المؤمنات) القذف الرمي البعيد، وفي الشرع الشتم والعيب والبهتان، والمحصنات هن اللاتي أحصنهن الله وحفظهن من الزنى، والمراد الحرائر العفيفات، ولا يختص بالمتزوجات، بل حكم البكر كذلك إجماعًا إلا من دون تسع، وقذف غير المحصن يوجب التعزير، والقذف الرمي بزنى أو لواط، وكذا من شتم شخصًا فقال: أنت ملعون ولد زنى، وعليه الحد إن لم يقصد بهذه الكلمة ونحوها ما يقصده كثير من الناس من أنه المشتوم فعله خبيث كفعل ولد الزنا. (وعن عائشة) رضي الله عنها (قالت: لما نزل عذري) أي الآيات الدالة على براءتها، شبهتها بالعذر الذي يبرئ المعذور، وأولها {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر) فذكر ذلك (وتلا القرآن) أي تلا الآيات الواردة في شأنها (فلما نزل أمر برجلين) وهما حسان ومسطح (وامرأة) وهي

حمنة بنت جحش (فضربوا الحد) أي حد القذف ثمانين جلدة. (رواه الخمسة) وحسنه الترمذي. قال ابن رشد: اتفقوا على أن من شرط المقذوف أن يجتمع فيه خمسة أوصاف البلوغ والحرية والعفاف والإسلام، وأن يكون معه آلة الزنى فإن انخرم من هذه الأوصاف وصف لم يجب الحد، والجمهور بالجملة على اشتراط الحرية في المقذوف، واتفقوا على أن من شرط القاذف البلوغ والعقل، سواء كان ذكرًا، أو أنثى حرًا أو عبدًا، مسلمًا أو غير مسلم، ويسقط بالعفو، ولا يستوفى بدون الطلب، ولا يقيمه إلا الإمام أو نائبه. قال شيخ الإسلام: وقذف نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كقذفه، لقدحه في دينه، وإنما لم يقتلهم لأنهم تكلموا قبل علمه ببراءته، اهـ، وقذف نبي من الأنبياء كفر، وكذا قذف أمه لأنه ردة عن الإسلام وخروج عن الملة ويقتل ولو تاب، وكذا السب بغير القذف يسقط الإسلام إلا أنه من الكافر يسقط بالتوبة لإسلامه فتقبل التوبة كمن سب الله ثم تاب. (وعن أنس) رضي الله عنه (أن شريك بن سحماء) سحماء هي أمه، وأبوه عبدة بن معتب العجلاني البلوي، حليف الأنصار (قذفه هلال بن أمية) أي قال هلال إن شريكًا زنى (بامرأته) أي امرأة هلال، ولا بينة له (فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: البينة) أي أقم البينة أربعة شهداء كما نص عليه القرآن (وإلا

فحد) أي وإلا فعقوبة قذفك حد (في ظهرك) ثمانين جلدة رواه أبو يعلى و (حسنه الحافظ) وفي الصحيح نحوه من حديث ابن عباس، فدل الحديث على وجوب الحد على من قذف مسلمًا، وأن الزوج يجب عليه الحد على ما ادعاه، إذا عجز عن إقامة البينة، أو يشهد أربع شهادات بالله مقام البينة، كما تقدم في اللعان قال ابن رشد. وإن قذف جماعة فقالت طائفة: ليس عليه إلا حد، جمعهم في القذف، أو فرقهم وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم، وحجتهم قصة هلال، لاعن بينهما ولم يجد لشريك وذلك إجماع، وقال: اتفقوا على أنه إذا قذف شخصًا واحدًا مرارًا فعليه حد واحد، إذا لم يحد لواحد منها، وأنه إن قذفه فحد ثم قذفه ثانية حد ثانيًا. (وحد عمر) رضي الله عنه (الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة) وهم أبو بكرة، وشبل بن معبد، ونافع بن الحارث وزياد لم يشهد بما شهدوا وحيث لم يكمل النصاب على الفعل حدوا، ولم يحد المغيرة، فدل على أن من قذف مسلمًا ولم يكمل على أنه إذا لم يكن شهود الزنا أربعة فإنهم قذفة يحدون إلا ما روي عن الشافعي في أحد قولية أنهم لا يحدون. (وتقدم) في باب اللعان (أن من رمى ولد الملاعنة) أي قال

باب حد المسكر

إنه ولد زنية ونحو ذلك (فعليه الحد) أي حد القذف ثمانين جلدة، وفي رواية: ومن دعاه ولد زنى جلد ثمانين، فدل على أن ولد الزنى كغيره إذا قذف حد قاذفه. باب حد المسكر أي الذي ينشأ عنه السكر، وهو أن يخلط في كلامه خلاف عادته، هذا مذهب الشافعي وأحمد، وقال مالك لا يعرف الحسن من القبيح، وقال أبو حنيفة: لا يعرف المرأة من الرجل وما أسكر فخمر، والخمر محرم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، واتفقوا على أن الخمرة حرام كثيرها وقليلها، وفيها الحد، واتفقوا على أنها نجسة، وأجمعوا على أن من استحلها حكم بكفره. (قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} وهو كل ما خامر العقل {وَالْمَيْسِرُ} وهو القمار {وَالْأَنْصَابُ} يعني الأوثان {وَالْأَزْلَامُ} وهي القداح كانوا يستقسمون بها {رِجْسٌ} أي خبيث مستقذر، وإثم وشر {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} من تزين الشيطان {فَاجْتَنِبُوهُ} أي اتركوه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ} يعني في الخمر إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} أي عن إتيانها فأخبر تعالى: أن ذلك من الشيطان بتزيينه وتسويله، أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في

الخمر، وذلك أنه إذا شرب سكر فعربد وشاجر؛ وأما الميسر فالعداوة فيها والبغضاء أنه إذا قامر بقي حزينًا مسلوب المال مغتاظًا على حرمانه {وَيَصُدَّكُمْ} يعني الخمر والميسر والأنصاب والأزلام {عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} وذلك أن من اشتغل بشرب الخمر وفعل القمار ألهاه عن ذكر الله وشوش عليه صلاته {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وهذا تهديد وترهيب عن شرب الخمر وهو ما أسكر كما يأتي «كل مسكر خمر وكل خمر حرام». (وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه (مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «كل مسكر خمر» ورجح الراغب وغيره أن كل شيء يستر العقل يسمى خمرًا، لأنها سميت بذلك لمخامرتها للعقل وسترها له، وهو قول جمهور أهل اللغة، وحكى ابن عبد البر عن أهل الحجاز وأهل الحديث وغيرهم أن كل مسكر خمر، وذكر القرطبي أن الأحاديث تبطل قول الكوفيين أن الخمر لا يكون إلا من العنب، وأنه قول مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة وللصحابة، فإنهم فهموا من الأمر بالاجتناب تحريم كل ما يسكر، قال - صلى الله عليه وسلم - «وكل خمر حرام» فحده - صلى الله عليه وسلم - بحد يتناول كل فرد من أفراد المسكر (رواه مسلم) وهو أيضًا في الصحيحين من غير وجه بهذا اللفظ وبلفظ: «كل مسكر خمر» «كل مسكر حرام» «كل شراب أسكر فهو حرام» فكل مسكر يقال له خمر ويحكم بتحريمه، ولا يباح شربه للذة ولا لتداو ولا عطش ولا غيره، واستثنى بعضهم دفع لقمة غص بها ولم يحضره غيره

(وللخمسة عن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه (مرفوعًا: ما أسكر كثيره) من عنب أو غيره (فقليله حرام) لعلة سكره، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن كل شراب يسكر قليله وكثيره: حرام، ويسمى خمرًا وفيه الحد وسواء كان ذلك من عصير العنب النيء، أو مما عمل من التمر والزبيب والحنطة والشعير والذرة والأرز والعسل والجوز ونحوها، مطبوخًا كان ذلك أو نيئًا، إلا أبا حنيفة فيسمى بعضها نقيعًا وبعضها نبيذًا لا خمرًا، ويحرم المسكر منه، ويجب به الحد، واتفقوا على أن المطبوخ من عصير العنب، إذا ذهب أقل من ثلثيه فإنه حرام، وإذا ذهب ثلثاه فإنه حلال، إلا ما أسكر فإنه إذا كان يسكر حرام قليله وكثيره، وأن عصير العنب إذا اشتد وقذف بالزبد فهو خمر. (وعن عائشة) رضي الله عنها (قال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أسكر كثيره (فملء الكف منه حرام) أي شربه إذا كان فيه صلاحية الإسكار حرم تناوله ولو لم يسكر المتناول بالقدر الذي تناوله منه لقلته، وفيه أيضًا تحريم كل مسكر سواء كان من عصير العنب أو غيره، وقال المازري: أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال، وعلى أنه إذا اشتد وقذف بالزبد حرم قليله وكثيره، ثم لو تخلل بنفسه حل إجماعًا، فغلب التحريم الإسكار، وكل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناوله قليله

وكثيره، والحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. (وقال عمر) رضي الله عنه في تعريف الخمر (الخمر ما خامر العقل) أي ستره وغطاه وخالطه حتى غلب عليه، والخمر في الأصل الستر، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها والتغطية ومنه «خمروا آنيتكم» أي غطوها، والمخالطة ومنه «خامره داء» أي خالطه، ومنه اختمر العجين، قال: ابن عبد البر، الأوجه كلها موجودة في الخمر لأنها تركت حتى خمرت وسكتت فإذا شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا لعن الله الخمر) اللعن الطرد والإبعاد وبالقول كما تقدم (وشاربها) أي ولعن الله شاربها (وساقيها) أي لغيره (وبائعها) فيحرم بيع المسكر (ومبتاعها) أي مشتريها (وعاصرها) له أو لغيره (ومعتصرها) أي من عصرت له (وحاملها) لمشتر أو شارب (والمحمولة إليه) وآكل ثمنها، وكذا بائع العنب من العاصر (رواه أبو داود) والحاكم، ورواه ابن ماجه عن أنس، وقال المنذري رواته ثقات، وتحريم الخمر جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أوجه بلغت حد التواتر وأعظمهم إثمًا الشارب، ثم الآكل ثمنها، ثم البائع، ثم الساقي، ودل الحديث على تحريم بيع المسكر، وفيه النبي عن التسبب إلى الحرام، قال الشيخ: ويحرم بيع الحشيشة ويعزر بائعها وآكلها.

(وله عنه) أي عن ابن عمر رضي الله عنهما (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من شرب الخمر فاجلدوه» أي إذا شربه المسلم مختارًا عالمًا أن كثيره يسكر، فدل الحديث على وجوب جلد شارب الخمر، ويثبت بإقراره مرة أو بشاهدين عدلين، قال ابن القيم: وحكم عمر وابن مسعود بوجوب الحد برائحة الخمر في الرجل، أو في قيئه، ولم يعلم لهما مخالف، وقال الشيخ: فمن قامت عليه شواهد الحال بالجناية كرائحة الخمر أولى بالعقوبة ممن قامت عليه شهادة به، أو إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب، وهذا متفق عليه بين الصحابة. (وللترمذي) والنسائي (عن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه (مرفوعًا إن شرب الخمر فاجلدوه) أي حدوا شارب الخمر، وقال: «إن شرب الثانية فاجلدوه، وإن شرب الثالثة فاجلدوه» أي حد الشارب (فإن عاد في الرابعة فاقتلوه) ولأحمد وأبي داود وابن ماجه من حديث معاوية نحوه، ولأحمد أيضًا نحوه من حديث عبد الله بن عمرو، ولأبي داود من حديث قبيصة مثله، ففي هذه الأحاديث الأمر بقتله، بعد الرابعة (قال ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه ولم يقتله) ولأحمد وغيره من حديث أبي هريرة نحو ما تقدم، وزاد: قال الزهري: فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسكران في الرابعة فخلى سبيله، أي لم يقتله. وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يقتل، وأن القتل منسوخ،

وقال الشافعي منسوخ بهذا الحديث وغيره، وذكر أنه لا خلاف في ذلك بين أهل العلم، وحكى المنذري عن بعض أهل العلم أنه قال: أجمع المسلمون على وجوب الحد في الخمر، وأجمعوا على أنه لا يقتل إذا تكرر منه، إلا طائفة شاذة قالت يقتل بعد حده أربع مرات للحديث، وهو عند الكافة منسوخ، وذكر الترمذي أنه لا يعلم في ذلك اختلافًا بين أهل العلم، وقال الشيخ: يقتل شارب الخمر في الرابعة عند الحاجة إلى قتله إذا لم ينته الناس بدونه. (وعد علي) بن أبي طالب رضي الله عنه (أربعين) جلدة وذلك أنه أتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، ثم قال عثمان: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ولِّ حارها من تولى قارها، فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك (ثم قال: جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين) فلمسلم عن أنس نحو أربعين. (و) جلد (أبو بكر أربعين) وهو في الصحيحين من حديث أنس (و) جلد (عمر ثمانين) بعد أن استشار فيه الناس (والكل سنة) أي كل واحد من الأربعين والثمانين سنة. (وهذا أحب إلي رواه مسلم) وأبو داود وابن ماجه وغيرهم، وقد قيل الإشارة إلى فعل عمر وهو الثمانون وظاهر

قوله أمسك بعد الأربعين دال على أنه لم يفعل الأحب إليه، وفي صحيح البخاري: أن عليًا جلد الوليد ثمانين، والقصة واحدة، وكأنه بعد أن قال: وهذا أحب إلي، أمر عبد الله بتمام الثمانين، فهو أحب إليه مع جرأة الشاربين، لا أن فعل عمر أولى من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر. (ولهما) أي البخاري ومسلم (عن أنس) رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى برجل قد شرب الخمر) وتقدم أن الخمر كل مسكر (فجلده بجريدتين) والجريد سعف النخل ويجوز بالعود غير الجريد، فجلده بها (نحو أربعين) وفي رواية لأبي داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر بالجريد والنعال، وقد استقر الإجماع على ثبوت حد الخمر (وفعله أبو بكر) أي ضرب أبو بكر في الخمر أربعين، وهو مذهب جماهير العلماء (فلما كان عمر) رضي الله عنه (استشار الناس) وقال: إن الناس قد دنوا من الريف، وغالب الناس قد انهمكوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة، وعنده المهاجرون والأنصار، فسألهم (فقال عبد الرحمن بن عوف) نرى أن تجعله كأخف الحدود، وقال: (أخف الحد ثمانون) ولأبي داود: فأجمعوا على أن يضرب ثمانين، وهو أخف الحدود (فأمر به عمر) تغليظًا عليهم وزجرًا لهم عن شرب الخمر. فدل الحديث أولاً على ثبوت الحد على شارب الخمر بالجريد ونحوه، وهو مذهب الجمهور، وقال النووي: أجمعوا

على جواز الاكتفاء بالجريد والنعال وأطراف الثياب، والأصح جوازه بالسوط، وقال الوزير: اتفقوا على أنه يقام بالسوط، إلا ما روي عن الشافعي، وإن مات من ضربه فقال مالك وأحمد لا ضمان على الإمام، وقال الشافعي، إذا كان بأطراف الثياب ونحوها لا يضمن واتفقوا على أن الواجب المقدر لا تضمن سرايته، لأنه واجب عليه ويأتي تمام الكلام فيه، وأما أمر عمر بالثمانين فلانهماك أكثر الناس فيه وتهالكهم عليه، فرآه رضي الله عنه عقوبة، وزجرًا ليرتدعوا عنه. (ولأبي داود) نحو ما تقدم (عن ابن أزهر) هو عبد الرحمن بن أزهر القرشي، وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، وفيه قال: (ثم أثبته معاوية) بن أبي سفيان أمير المؤمنين رضي الله عنه، أي عين الحد ثمانين وأقره ولم ينكر عليه، وفي رواية لأبي داود عنه: لما كان عمر كتب إليه خالد: إن الناس قد انهمكوا في الشرب، وتحاقروا العقوبة وعنده المهاجرون والأنصار، فسألهم فأجمعوا على أن يضربه ثمانين. (وللبخاري) في صحيحه بسنده (عن السائب) بن يزيد رضي الله عنه (حتى إذا عتوا فيها) أي انهمكوا وبالغوا في شرب الخمر (وفسقوا) أي خرجوا عن الطاعة، وأول الخبر قال السائب: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإمرة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين حتى إذا عتوا وفسقوا (جلد عمر) رضي الله عنه (ثمانين) وجمهور العلماء أبو حنيفة

ومالك وأحمد وأحد قولي الشافعي أنه يجب الحد على السكران ثمانين جلدة، وقالوا: لقيام الإجماع عليه في عهد عمر، فإنه لم ينكر عليه أحد. وقال ابن القيم: الحق عمر حد الخمر بحد القذف، وأقره الصحابة وقال الشيخ: الصحيح أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإطلاق، ولا محرمة على الإطلاق بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه بالجريد والنعال وأطراف الثياب، بخلاف بقية الحدود واستظهر أن الأربعين الأخر في حد الشرب تعزير للإمام أن يفعله، وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية الثانية، وقال أيضًا: حد الشرب ثابت بالسنة وإجماع المسلمين أربعين، والزيادة يفعلها الإمام عند الحاجة إذا أدمن الناس الخمر. وكان ممن لا يرتدع بدونها ونحو ذلك وأما مع قلة الشاربين وقرب أمر الشارب فتكفي الأربعون، وهذا أثبت القولين (وقال ابن شهاب) الزهري رحمه الله (بلغني أن عمر وعثمان) بن عفان في حال واليتهما (وابن عمر جلدوا عبيدهم) أي بأنفسهم (نصف الحد في الخمر رواه مالك) وأجمعوا على أنهم على النصف من حد الأحرار على أصل كل منهم. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينبذ له الزبيب) أي يترك عليه الماء (في السقاء) ليصير نبيذًا، وانتبذ اتخذ نبيذًا 0فيشربه يومه ذلك) أي اليوم الذي ينبذ فيه (والغد) أي من اليوم الثاني (وبعد الغد) أي مساء اليوم

باب التعزير

الثاني، وأول اليوم الثالث (فإذا كان مساء الثالثة) من نبذه في السقاء (شربه وسقاه فإن فضل منه شيء أهرقه) أي يصب، وفي رواية سقاه الخادم، أو أمر بصبه، وذلك بأنه بدأ فيه بعض تغير في طعمه من حموضة أو نحوها فيسقيه الخادم مبادرة لخشية الفساد ما لم يشتد وإن اشتد أمر بإهراقه. (رواه مسلم) ونحوه في السنن، وفي لفظ من حديث عائشة ينبذ في سقاء يوكأ أعلاه ينبذ غدوة فيشربه عشاء، وينبذ عشاء فيشربه غدوة، وله ألفاظ أخر فدل الحديث على جواز الانتباذ، ولا نزاع في جوازه، وأنه لا يجوز متى اشتد، وأجمعوا على جواز شرب عصير العنب ما لم يشتد ويقذف بالزبد، فإذا اشتد حرم شربه للعلة التي لأجلها حرم الخمر. باب التعزير التعزير مصدر عزره يعزره تعزيرًا من العزر وهو الرد والمنع واللوم وشرعًا تأديب على ذنب لا حد فيه، ويسمى تعزيرًا لدفعه، ورده عن فعل القبيح، ويكون بالقول والفعل على حسب ما يقتضيه حال الفاعل، بخلاف الحد، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فتعزير ذوي الهيئات أخف، ويستوون في الحدود مع الناس، وتجوز فيه الشفاعة دون الحدود، والتألف به مضمون عند الشافعي وأحمد، وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، راجع إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور، بحسب الحاجة والمصلحة في كل زمان ومكان، وهو أصل من

أصول الشريعة الآتية بالحكم والمصالح، والغايات المحمودة في المعاش والمعاد. (عن أبي بردة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يجلد) روي مبنيًا للمجهول وللمعلوم ومجزومًا ومرفوعًا (فوق) أي أعلى من (عشرة أسواط) وفي رواية: عشر جلدات، وفي رواية: لا عقوبة فوق عشر ضربات، (إلا في حد من حدود الله) أي إلا ما عين الشارع فيه عددًا من الضرب (متفق عليه) فدل الحديث على أنه لا يجوز التعزير بما فوق عشرة أسواط، وهو مذهب أحمد وغيره، وذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى جواز الزيادة، وهو رواية عن أحمد إلا أنه لا يبلغ بها أدنى الحدود ويحتمل كلام أحمد أنه لا يبلغ بكل جناية حدًا مشروعًا في جنسها. ورجح الشيخ وابن القيم وغيرهما أن التعزير بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة، فيجوز قتل الجاسوس المسلم إذا اقتضت المصلحة قتله، فقد قتل عمر بن عبد العزيز غيلان القدري، وكذا من لا يزول فساده إلا بالقتل، قال ابن القيم: والمنقول عنه - صلى الله عليه وسلم - يوافق ذلك، فإنه أمر بالذي وطئ جارية امرأته، وقد أحلتها له مائة جلدة، وأبو بكر وعمر أمرا بجلد من وجد مع امرأة أجنبية في فراش مائة، وعمر ضرب الذي زور عليه خاتمه، فأخذ من بيت المال مائة ثم مائة، ثم في اليوم

الثالث مائة، وعليه يحمل خبر «من شرب الخمر في الرابعة فاقتلوه» اهـ. ومما يجب فيه التعزير كمباشرة دون فرج، وسرقة لا قطع فيها، وجناية لا قود فيها، والقذف بغير الزنى، وشتم بغير الزنى، وإتيان المرأة المرأة، وكالغضب والنهب والاختلاس ونحو ذلك، ولا يحتاج في إقامته إلى مطالبة، وأما الحدود المتفق عليها فحد الزنى والسرقة، وشرب الخمر، وحد المحارب وحد القذف بالزنى، والقتل في الردة، والقصاص في النفس، وأما سوى ذلك، كالقصاص في الأطراف واللواط ونحوه فاختلف فيه أهل العلم وتقدم. (وللبخاري) في صحيحه (عن علي) رضي الله عنه (قال: ما كنت لأقيم على أحد حدًا) ممن اقترف ما يوجبه (فيموتَ) بالنصب وكذا (فأجد في نفسي) أي حزنًا عليه (إلا صاحب الخمر) أي شاربها (فإنه لو مات وديته) بتخفيف الدال وسكون الياء، أي غرمت ديته لمن يستحق قبضها، فدل الحديث على أن الخمر لم يكن فيه حد محدود من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من باب التعزيرات فإن مات ضمنه الإمام، وكذا كل معزر يموت بالتعزير يضمنه الإمام، وهذا مذهب جمهور العلماء، فإنه إذا أعنت في التعزير وهو غير مأذون فيه من أصله يضمن، بخلاف الإعنات في الحد، للإذن فيه من أصله لأن الإعنات للخطأ في صفته، وفي آخر الحديث: «لأن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسنه» يريد والله أعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - جلد جلدًا غير مقدر، ولا تقررت صفته بالجريد والنعال والأيدي، وأما من مات في حد من الحدود غير الشرب، فقال النووي: أجمع العلماء على أنه إذا جلد الإمام أو جلاده فمات فإنه لا دية ولا كفارة على الإمام ولا على جلاده، ولا بيت المال. (وخبر النعمان) بن بشير الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه جاء من طرق بألفاظ متعددة (فيمن وطئ جارية امرأته) قال - صلى الله عليه وسلم - «إن كانت أحلتها لك» أي جعلت جاريتها حلالاً لك وأذنت لك فيها «جلدتك مائة» قال ابن العربي: يعني أدبته تعزيزًا وأبلغ به الحد تنكيلا، وفي لفظ لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه فوجدوها قد أحلتها له فجلد مائة. (رواه أبو داود) وأحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه، وروي عن غير واحد أن عليه الرجم، وقال ابن مسعود: ليس عليه حد ولكن يعزر وذهب الإمام أحمد إلى ما رواه النعمان وقال الشوكاني، هو الراجح لأن الحديث وإن كان فيه مقال فأقل أحواله أن يكون شبهة: يدرأ بها الحد اهـ ولا يسقط حد بإباحة في غير هذا الموضع، قال الشيخ: لو أحلت المرأة لزوجها أمتها إن ظن جوازه لحقه الولد، وإلا فروايتان، ويكون حرًا على الصحيح إن ظن حلها بذلك. (وقال عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (في رجل وطئ أمة له فيها شرك) أي حصة ونصيب (يجلد الحد إلا سوطًا) أي

فلا يبلغ به الحد كاملاً، لشبهة الشركة، فجعله تعزيزًا رادعًا لهذا وأمثاله، وتقدم أن التعزير بحسب المصلحة. (وروي أنه) أي أن عمر رضي الله عنه (ضرب رجلاً مائة) أي مائة جلدة (على عملة خاتمًا على نقش خاتم بيت المال) وأخذ من بيت المال (وكلم فيه) إذا لم ينته (فضربه أخرى) فلم ينته عن الأخذ من بيت المال (ثم نفاه) فدل على أن التعزير بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة، قال الشيخ وتلميذه وغيرهما من السلف: التعزير منه ما يكون بالتوبيخ، ومنه ما يكون بالحبس ومنه ما يكون بالنفي من الوطن، ومنه ما يكون بالضرب، وإذا كان على ترك واجب كأداء الديون والأمانات والزكاة والصلاة فإنه يضرب مرة بعد مرة، حتى يؤدي الواجب، وعلى جرم ماض فعل منه مقدار الحاجة، وليس لأقله حد. واختلف في أكثره على أقوال، أحدها أنه عشر جلدات، والثاني أقل الحدود، والثالث أنه بحسب المصلحة، وعلى قدر الجريمة، فيجتهد فيه ولي الأمر، والرابع وهو أحسنها أنه لا يتقدر لكن إن كان التعزير فيه مقدر فلا يبلغ على المباشرة حد الزنا، ولا السرقة من غير قطع حد القطع ونحو ذلك، وهذا أعدل الأقوال، وعليه دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين، فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بضرب الذي أحلت له امرأته جاريتها مائة جلدة، ودرأ عنه الحد بالشبهة، وأمر أبو بكر وعمر بضرب رجل وامرأة وجدا في لحاف واحد مائة مائة، وأمر بضرب الذي

نقش على خاتمه وأخذ من بيت المال مائة، ثم في اليوم الثاني مائة، وفي الثالث مائة، وضرب صبيغًا ضربًا كثيرًا لم يعد. ومن لم يندفع فساده في الأرض، إلا بالقتل يسوغ بالقتل مثل المفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى غير كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقال «العمل في السلطنة الشرعية بالسياسة هو الحزم، فلا يخلو منه إمام ما لم يخالف الشرع، فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهه بأي طريق فثم شرع الله، فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحكم، وإنما هي شرع حق، فقد حبس - صلى الله عليه وسلم - في التهمة وعاقب في التهمة لما ظهرت آثار الريبة، فمن أطلق كلا منهم وخلا سبيله أو حلفه مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض، فقوله مخالف للسياسة الشرعية». وقال: يجوز التعزير بأخذ المال وإتلافه، فالتعزير بالعقوبات المالية مشروع في مواضع مخصوصة، كسلب الذي يصطاد في حرم المدينة، وكسر دنان الخمر، وشق ظروفه، وكهدم مسجد الضرار، وتضعيف الغرم على من سرق من غير حرز، وإحراق متاع الغال، وحرمان القاتل سلبه لما اعتدى على الأمير، قال: ومن ادعى أنه منسوخ بالإجماع فقد غلط، ومحال أن الإجماع ينسخ السنة، ولو ثبت لكان دليلاً على نص ناسخ، وقول عمر وعلي والصحابة ومالك وأحمد أولى بالصواب بل

هو إجماع الصحابة، فإن ذلك اشتهر عنهم في قضايا متعددة جدًا ولم ينكره منهم منكر. وعمر يفعله بحضرتهم وهم يقرونه ويساعدونه عليه، ويصوبونه في فعله، وذلك في تحريقه قصر سعد بن ابي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية، وتحريقه هو وعلي المكان الذي يباع فيه الخمر، وقال ابن القيم وغيره: من استمنى بيده بغير حاجة عزر إذا قدر على التزوج أو التسري، وقال ابن عقيل: إذا كان بغير شهوة حرم عليه، لأنه استمتاع بنفسه، والآية تمنع منه، وإن كان مترددًا بين الفتور والشهوة كره، وإن كان مغلوبًا يخاف العنت كالأسير والمسافر والفقير جاز، نص عليه أحمد، وروى أن الصحابة كانوا يفعلونه في غزواتهم وأسفارهم. قال ابن القيم: والصحيح أنه لا يباح أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أرشد صاحب الشهوة إلى الصوم، وكذا قال الشيخ يحرم عند عامة العلماء، لكن إن اضطر إليه مثل أن يخاف الزنا أو المرض إن لم يفعله فرخص فيه في هذه الحال طوائف من السلف، وذكر غير واحد من الفقهاء أنه يحبس العائن وجوبًا، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف، لأنه من نصيحة المسلمين وكف الأذى عنهم. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أقيلوا) أمر من الإقالة أي أعفوا (ذوي الهيئات) أي ذوي الأقدار بين الناس، وأصحاب المروءات، والخصال الحميدة

(عثراتهم) أي زلاتهم والهيئة الحالة التي تكون على الإنسان من الأخلاق المرضية، فإن الله خصهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم فمن كان منهم مستورًا مشهورًا بالخير، حتى كبا جواده، ونبا عضب صبره، وأديل عليه، غلبة شيطانه، فلا يسارع إلى تأديبه وعقوبته، بل تقال عثرته (إلا الحدود) أي إلا ما يوجب الحدود فإنه يتعين استيفاؤها من الشريف، كما يتعين أخذها من الوضيع (رواه أبو داود) وأحمد والنسائي والبيهقي وله طرق يشد بعضها بعضًا. (وقال) - صلى الله عليه وسلم - (لرجل) قيل هو كعب بن عمرو (أصاب من امرأة ما دون الوطء) ولفظه: أصبت منها ما دون الوطء (فقال: أصليت معنا؟) وفي لفظ: أليس قد صليت معنا؟ (قال: نعم) أي صليت معكم (فتلى عليه) {أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الليْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فقال رجل من القوم أله خاصة أم للناس كافة؟ فقال: «للناس كافة» وأصله في الصحيحين وغيرهما إن كانت القصة واحدة. وما في الصحيحين من حديث أنس: أصبت حدًا ولم يسمه ولم يسأله، ومن حديث أبي أمامة نحوه ومن حديث ابن مسعود معناه ما تقدم، ومذهب الجمهور أن المراد بالحد المطلق غير حد الزنا ونحوه، وحديث ابن مسعود مفسر ما أبهم وإن كانت متعددة فظاهر الحديث الصحيح يوجب العمل بالظاهر، وأن الصلاة تكفر ما يصدق عليه أنه يوجب الحد وأن من أقر

باب القطع في السرقة

بحد ولم يفسره لا يطالب بالتفسير، ولا يقام عليه الحد. باب القطع في السرقة وهي أخذ مال على وجه الاختفاء من مالكه أو نائبه، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع واتفقوا على وجوبه في الجملة إذا جمع أوصافًا منها المسروق الذي يقطع في جنسه، ونصاب السرقة، وأن يكون السارق على أوصاف مخصوصة، وأن تكون السرقة على أوصاف مخصوصة، وأن يكون المسروق منه مخصوصًا، ومن حكمته تعالى أنه كلما كانت نعمه على العبد أتم، كانت عقوبته، إذا ارتكب الجرائم، أكبر جمعًا بين حكمة الزجر وحكمة نقصه، فحيث كانت الجناية بسرقة الأموال دون الجناية على الأبدان، وهي دونه، جعل عقوبتها قطع الطرف، كما أن القذف لما كان دون ذلك جعلت عقوبته الجلد، وحيث كان شرب المسكر أقل مفسدة، جعلت عقوبته دون ذلك. والسارق إنما قطع دون المنتهب والمختلس، لأنه لا يمكن التحرز منه، فصان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها، وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها من الانتهاب والغصب. (قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} قدم السارق لوجود السرقة غالباً في الذكور، وقال {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقرأ ابن مسعود "فاقطعوا أيمانهما" قال الشيخ: وبذلك مضت السنة اهـ. والحكم عند جميع أهل العلم موافق لهذه القراءة لا بها،

فالقراءة عند الجمهور {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} واتفق أهل العلم على وجوب قطع السارق والسارقة إذا جمع أوصافًا تأتي إن شاء الله تعالى. فتقطع يمناه من مفصل الكف، لقول أبي بكر وعمر: تقطع يمين السارق من الكوع، وتحسم وجوبًا لما روي مرفوعًا «اقطعوه واحسموه» وذلك بغمسها في زيت مغلي لينقطع الدم؛ واختار الشيخ وغيره عدم اشتراط مطالبة المسروق منه بماله لهذه الآية، وهو مذهب مالك، كإقراره بالزنا بأمة غيره، وقال: الذي غرضه سرقة أموال الناس ولا غرض له في شخص معين، فإن قطع يديه واجب ولو عفا عنه رب المال. وقال الوزير: أجمعوا على أن السارق إذا وجب عليه القطع وكان ذلك أول سرقته، وهو صحيح الأطراف أنه يبدأ بقطع يده اليمنى من مفصل الكف ثم يحسم اهـ، ولهذا قال تعالى {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} أي مجازاة على صنيعهما {نَكَالًا مِنَ اللهِ} أي تنكيلاً من الله بهما، على ارتكاب ذلك العمل السيء {وَاللهُ عَزِيزٌ} في انتقامه {حَكِيمٌ} في أمره وشرعه وقدره. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لعن الله السارق) تقدم أن اللعن يكون بالفعل ويكون بالقول (يسرق البيضة) وللكشميهني بيضة الحديد (فتقطع يده) من أجلها (ويسرق الحبل فتقطع يده أي من أجل سرقته (متفق

عليه) ولمسلم «إن سرق بيضة قطعت يده، وإن سرق حبلاً قطعت يده» وذلك أنها لما خانت هانت، وإن كانت في باب الجنايات بخمسمائة دينار، فإنها لما كانت أمينة كانت ثمينة وذلك من حكمة الله تعالى والمصلحة ففي باب الجنايات ناسب أن تعظم، لئلا يجني عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار، لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فاحتاط الشارع للموضعين، للأموال والأطراف، وظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين، قال الشافعي رحمه الله: هناك مظلومة غالت بقيمتها ... وههنا ظلمت هانت على الباري فدل الحديث على أنها تقطع يد السارق في نحو البيضة والحبل، إذا بلغت قيمته ربع دينار فصاعدًا وفيه تحقير شأن السارق وتهجين فعله، وتعظيم ما جني على نفسه وخسارة ما ربحه من السرقة، بما تقل قيمته، وأنه إذا تعاطى هذه الأشياء الحقيرة، وصار ذلك خلقًا له، جرأه على سرقة ما هو أكثر من ذلك مما يبلغ قدره أضعاف أضعاف ما قدره الشارع. (ولهما عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن) بكسر الميم وفتح الجيم الترس، أي أمر بقطع سارق مجن (قيمته ثلاثة دراهم) وفي لفظ لهما عن عائشة: لم تقطع على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في ثمن مجن حجفة أو ترس، فالمعتبر قيمته، وفي لفظ ثمنه ثلاثة دراهم، ولعله لتساويهما في ذلك

الوقت، أو في عرف الراوي، أو باعتبار الغلبة، وإلا فالمعتبر القيمة، ولابن أبي شيبة عن عروة، كان السارق في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع في ثمن المجن، وكان المجن يومئذ له ثمن، ولم يكن يقطع في الشيء التافه. (وفيهما عن عائشة) رضي الله عنها (مرفوعًا: لا تقطع يد سارق) وفي رواية لم تكن تقطع (إلا في ربع دينار فصاعدًا) وهذا مذهب الجمهور، ولا تقطع فيما لا تبلغ قيمته ربع دينار، ولأحمد «ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» وفي تخصيص القطع بهذا القدر حكمة ظاهرة، فإنها كفاية المقتصد في يومه، له ولمن يمونه غالبًا؛ ولأنه لابد من مقدار يجعله ضابطًا لوجوب القطع، والجمهور على اشتراط النصاب، ربع دينار من الذهب، وثلاثة دراهم من الفضة، لهذا الحديث، وحديث ابن عمر وغيرهما. وأتى عثمان بسارق سرق أترجة قومت بثلاثة دراهم، من حساب الدينار باثني عشر، فقطع وعلي قطع في ربع دينار، قال الشافعي: ربع الدينار موافق الثلاثة الدراهم، وذلك أن الصرف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر درهمًا بدينار، وكان كذلك بعده، ولهذا قومت الدية اثنى عشر ألفًا من الورق، وألف دينار من الذهب. قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا اشترك جماعة في سرقة يحصل لكل واحد منهم نصاب، أن على كل واحد منهم القطع.

(وعنها) أي عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأسامة) بن زيد رضي الله عنهما، وذلك أن قريشًا أهمهم أمر المخزومية التي سرقت، فقالوا من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من يجترئ عليه إلا أسامة، فكلمه فيها، فقال: «أتشفع في حد من حدود الله» أي أن يترك وكان قد سبق علم أسامة بأنه لا شفاعة في حد. فاستفهامه استفهام إنكار (ثم خطب فقال: أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم) من الأمم الماضية (أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه) فلم يقيموا عليه الحد (وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) وجاء "وإذا سرق فيهم الوضيع قطعوه" (متفق عليه) وفيه "وأيم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها" وهي رضي الله عنها قد أعاذها الله من أن تسرق، وإنما قاله مبالغة في تثبيت إقامة الحد. فدل الحديث على النهي عن الشفاعة في الحدود وفي رواية أنه قال لأسامة لما شفع «لا تشفع في حد، فإن الحدود إذا انتهت إلي فليست بمتروكة» ولأبي داود من حديث عمرو بن شعيب «تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب» ومن حديث ابن عمر «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره». وقال الوزير: إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع، ويأتي قوله لصفوان «هلا كان ذلك قيل أن تأتيني به» وغير ذلك مما فيه النهي عن الشفاعة في الحدود إذا

بلغت السلطان، مما تعاضدت على تحريم الشفاعة بعد البلوغ إلى الإمام وأنه يجب على الإمام إقامة الحد، وحكى ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك. وحكى الاتفاق على جواز الشفاعة في التعزيرات لا في الحدود وقال: لا أعلم خلافًا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة، ما لم تبلغ السلطان، وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته، وذكر عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذى الناس ومن لم يعرف بأذاهم أنه لا بأس بالشفاعة فيه ما لم تبلغ السلطان. (ولمسلم عنها) رضي الله عنها قالت: (كانت امرأة تستعير المتاع) هي المخزومية واسمها فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد، عمها أبو سلمة، وكانت تستعير الحلي كما في النسائي وغيره (وتجحده فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها). وفي مصنف عبد الرزاق: أن فلانة تستعير حليًا فأعارتها إياه فمكثت لا تراه فجاءت إلى التي استعارت لها فسألتها، فقالت: ما استعرتك شيئًا، فرجعت إلى الأخرى فأنكرت فجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألها فقالت: ما استعرت منها شيئًا فقال: «اذهبوا إلى بيتها تجدوه تحت فراشها» فأتوه وأخذوه فأمر بها فقطعت. فدل الحديث على أنه يجب القطع على جحد العارية، وهو مذهب أحمد، وقال لا أعرف شيئًا يدفعه، والجمهور على خلافه

ورده ابن القيم، وقال الجحد داخل في اسم السرقة، وهو الصحيح لموافقة القياس والحكمة فلا يمكن المعير الإشهاد، ولا الإحراز بمنع العارية شرعًا وعادة وعرفًا ولا فرق بين من توصل إليه بالسرقة أو العارية وجحدها، وقال: ضرره مثل ضرر السارق أو أكثر، وترتيب القطع على جاحدها طريق إلى حفظ أموال الناس. (وعن أبي أمية) المخزومي رضي الله عنه، عداده في أهل الحجاز، روى عنه أبو المنذر هذا الحديث (قال أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلص) أي جيء بسارق (قد اعترف) اعترافًا أي أقر إقرارًا صحيحًا (ولم يوجد معه متاع) أي من المسروق منه (فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما إخالك) بكسر الهمزة أي ما أظنك (سرقت) قاله درءًا للقطع وتلقينًا للرجوع عن الاعتراف (قال: بلى) أي قال: سرقت (فأعاد عليه) النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين أو ثلاثًا) شك من الراوي، وجيء بالسارق (فأمر به فقطع) وقال: استغفر الله (رواه أبو داود) وأحمد والنسائي وابن ماجه، وقال الحافظ: رجاله ثقات. فدل الحديث على الاستثبات في حقه، لاحتمال ظنه القطع، ومذهب أحمد أنه لا يقطع إلا بإقراره مرتين، ويأتي أن سارقًا أقر عند علي مرتين فأمر بقطعه. وعن أحمد يثبت بإقراره مرة، وهو مذهب الجمهور أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم، فلا يفتقر إلى التكرار لقصة

سارق رداء صفوان وغيره، لكن يعتبر أن يصف السرقة فيذكر شروطها من النصاب والحرز وإخراجها منه، وأنه لا شبهة له في المسروق، ولا يقطع إلا بشهادة عدلين يصفان السرقة، بذكر شروطها، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه على أن قطع السارق يجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان، ووصفا ما يوجب القطع. وقال ابن القيم: ولم يزل الخلفاء والأئمة يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال معه نص صريح، لا يتطرق إليه شبهة، وذكر في قصة حيي إقرار المكره إذا ظهر معه المال، وأنه إذا عوقب وظهر عنده قطعت يده، قال: وهو الصواب بلا ريب، لوجود المال، وقال الشيخ في تقديم القيافة، مثل أن يدعي أنه ذهب من ماله شيء، ويثبت ذلك، فيقص القائف أثر الوطء من مكان إلى آخر، فشهادة القائف أن المال دخل إلى هذا الموضع، توجب أحد أمرين، إما الحكم وإما أن يكون لوثًا يحكم به مع اليمين للمدعي، وهو الأقرب. فإن هذه الأمارة ترجح جانب المدعي، واليمين مشروعة في أقوى الجانبين اهـ. وإن ادعى السارق أن ما أخذه من الحرز ملكه، بعد قيام البينة، فقال أحمد وأبو حنيفة لا يقطع، وسماه السارق الظريف، قال أحمد: ما لم يكن معروفًا بالسرقة.

(وللحاكم من حديث أبي هريرة) أي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اذهبوا به)» أي بالسارق «فاقطعوه» أي اقطعوا يده اليمنى لما تقدم «ثم احسموه» بالمهملتين، والحسم الكي بالنار، أي يكوي محل القطع لينقطع الدم، لأن منافذ الدم تنسد، وإذا ترك فربما استرسل الدم فأدى إلى التلف، ويحسم بزيت أو دهن مغلي، لتنسد أفواه العروق فينقطع الدم، والحديث أيضًا رواه البزار، وقال: لا بأس بإسناده وله شواهد. وهو دليل على مشروعية الحسم حفظًا للنفس، وينبغي أن يقطع بأسهل ما يمكن، بأن يضبط لئلا يتحرك فيجني على نفسه، وتشد يده، وتجر حتى يتعين المفصل، ثم يوضع نحو سكين ويجر بقوة ليقطع في مرة واحدة، وإن علم قطع أو هي من هذا قطع به، لأن الغرض التسهيل عليه، وأجرة القاطع والحاسم من بيت المال، وقيمة الدواء الذي يحسم به منه لأن ذلك واجب على غيره. (وفي السنن) الأربعة والسنن الكبرى للبيهقي (عن فضالة) بن عبيد رضي الله عنه (ثم أمر بها) أي يد السارق بعد أن قطعت وحسمت (فعلقت في عنقه) وفي لفظ أن فضالة سئل عن تعليق يد السارق في عنقه من السنة فقال: نعم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع سارقًا ثم أمر بيده فعلقت في عنقه، وله عنه أن عليًا قطع سارقًا فمر به ويده معلقة في عنقه، وفي رواية أنه

أقر عنده سارق مرتين فقطع يده وعلقها في عنقه فكأني أنظر إلى يده تضرب صدره. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا إن سرق) أي شخص (فاقطعوا يده) أي اليمنى (ثم إن سرق) أي مرة أخرى (فاقطعوا رجله) أي اليسرى (رواه الدارقطني) وهو قول أبي بكر وعمر، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، فكان إجماعًا وقال الوزير: أجمعوا على أنه إن عاد فسرق ثانيًا ووجب عليه القطع أنه تقطع رجله اليسرى من مفصل الكعب ثم تحسم، ومذهب أحمد إن عاد حبس حتى يتوب. وعنه يقطع في الثالثة والرابعة وهو مذهب مالك والشافعي، فتقطع في الثالثة يسرى يديه، وفي الرابعة يمنى رجليه، ولأبي داود جيء بسارق فقال: «اقتلوه» فقالوا: إنما سرق ثم جيء به في الثانية، ثم في الثالثة، ثم في الرابعة، فقال: «اقتلوه» فقتلوه وقال محمد بن المنكدر: قد أتي بابن النعمان في الرابعة فلم يقتله، وقال الشافعي: القتل منسوخ بهذا الحديث وغيره، وأنه مما لا اختلاف فيه. وعند بعضهم يباح، بحيث يكون من المفسدين في الأرض، وقياس قول الشيخ إن السارق كالشارب في الرابعة يقتل عنده إذا لم يتب، بل هو أولى عنده لأن ضرره أعظم، وأجمعوا على أنه من لم يكن له الطرف المستحق قطعه قطع ما

بعده، وكذلك إن كان شل من الطرف المستحق قطعه، بحيث لا يقطع فيها، قطع ما بعده، إلا ما روي عن أبي حنيفة واشتراط مطالبة المسروق منه بماله فيه نظر، عملاً بإطلاق الآية والأحاديث وهو اختيار شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما. (وعن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه (مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس على خائن» قطع والخائن هو الآخذ المال خفية من مالكه، مع إظهاره له النصيحة والحفظ «ولا منتهب» أي وليس على منتهب قطع، والمنتهب هو المغير، من النهبة وهي الغارة والسلب والمراد هنا هو ما كان على جهة الغلبة والقهر ومرأى من الناس فيمكنهم أن يأخذوا على يديه ويخلصوا حق المظلوم، أو يشهدوا له عند الحاكم. (ولا مختلس قطع) والمختلس هو السالب للشيء الخاطف له من غير غلبة، ولو مع معاينة المالك، من اختلسه إذا سلبه، فإنه لا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ لا يمكنه الاختلاس. والمقصود أنه ليس على هؤلاء المذكورين قطع بخلاف السارق، وهو الآخذ المال خفية فيقطع بشرطه (رواه الخمسة) فدل الحديث على أن الخائن والمنتهب والمختلس لا قطع عليه، وإنما القطع على آخذ المال خفية كما هو مفهوم الحديث مع ما تقدم وغيره قال الوزير: اتفقوا على أن المختلس والمنتهب والغاصب على عظم جنايتهم وآثامهم لا قطع على

واحد منهم اهـ. لكن يسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال، والحبس الطويل والعقوبة بما يراه الحاكم، وقال ابن القيم: إنما قطع السارق دون المنتهب والمغتصب لأنه لا يمكن التحرز منه، فإنه ينقب الدور، ويهتك الحرز ويكسر القفل، فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضًا وعظم الضرر واشتدت المحنة. ولهذا قطع النباش، وجاءت السنة بقطع جاحد العارية وتقدم وقال: قصر طائفة في لفظ السارق حيث أخرجوا منه نباش القبور، ولو أعطوا لفظ السارق حقه لرأوا أنه لا فرق في حده ومسماه بين سارق الأثمان، وسارق الأكفان، وأن إثبات هذا ونحوه بالنصوص اهـ. وقطع النباش هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وقالا يجب على من سرق من أستار الكعبة ما يبلغ ثمنه نصابًا، وقال الوزير: لا خلاف أنه لا يحل أخذ شيء من ذلك فهذا الذي يأخذ منه الجهال يزعمون أنهم يتبركون به فإنهم يأثمون به، وهو من المنكرات التي يجب إنكارها والأمر بردها إلى حيث أخذت منه. (ولهم) أي لأهل السنن وأحمد (عن رافع) بن خديج رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن عبدًا سرق وديًا فرفع إلى أمير المدينة، فجاء سيده إلى رافع فمشى معه إلى مروان وأخبره أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا قطع في ثمر» المراد ما كان معلقًا في النخل قبل أن يجذ ويحرز، كما قال الشافعي وغيره، وقال:

حوائط المدينة ليست بحرز وأكثرها تدخل من جوانبها، والثمر اسم جامع لليابس والرطب، من الرطب والعنب وغيرهما (ولا كثر) بفتح الكاف والثاء وبضم الكاف طلع النخل أول ما يبدو، أو جمار النخل وهو شحمه الذي في وسط النخلة، وللنسائي: ولا جمار، والجمار شحم النخل (صححهما) أي صحح حديث جابر وحديث رافع (الترمذي) وابن حبان وغيرهما، وقال الطحاوي في حديث رافع: تلقته الأمة بالقبول. فدل الحديث على أنه لا قطع في سرقة الثمر والكثر والجمار، ومذهب الجمهور ما لم يحرز، فإن أحرز فعليه القطع، سواء كان على أصله باقيًا أو قد جذ وسواء كان أصله مباحًا كالحشيش ونحوه، أو لا لعموم الآية والأحاديث الواردة في اشتراط النصاب، وهذا الحديث أخرج على ما كان عليه عادة أهل المدينة من عدم إحراز حوائطها، فترك القطع لعدم الحرز فإذا أحرزت الحوائط كانت كغيرها، قال الوزير: أجمعوا على أنه يسقط القطع عن سارق الثمر المعلق على رءوس النخل، إذا لم يكن محرزًا اهـ وكالثمر والكثر البطائح والشواء والهرائس ونحوها، إذا لم تحرز وأما إذا أحرزت فيجب فيها القطع، وهو مذهب الجمهور. (ولهم) أي للخمسة وغيرهم (عن عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنه (مرفوعًا ليس في شيء من الماشية قطع) سواء كانت في المرعى أو غيره (إلا فيما أواه المراح) أي إلا فيما

ضمه المبيت والمأوى (فبلغ ثمن المجن) الترس سمي بذلك لأنه يواري حامله (ففيه القطع) أي قطع السارق ما أواه المراح (وما لم يبلغ) أي ثمن المجن (ففيه غرامة مثليه) على الأخذ (وجلدات) نكال وفي رواية وضرب نكال. (وقال في الثمر المعلق) يعني من خرج بشيء منه فعليه (هو ومثله معه) وفي لفظ: "غرامة مثليه (والنكال) وفي لفظ "غرامة مثليه والعقوبة" (وليس في شيء منه قطع) أي ليس من الثمر المعلق قطع وحكاه الوزير إجماعًا واختاره الشيخ وغيره (إلا فيما أواه الجرين) وهو موضع تجفيفه لكونه معدًا حرزًا له (فأخذ منه ثمن المجن ففيه القطع) لكمال شروط القطع (وما لم يبلغ ففيه غرامة مثليه) والعقوبة، وهو قول الجمهور، وذهب بعض أهل العلم، إلى أن التضعيف خاص بالثمر والكثر والجمار والماشية، للأخبار، وما عداها يضمن بمثله إن كان مثليًا أو بقيمته إن كان متقومًا، لأنه الأصل، كالمتلف والمغصوب وغيرهما مما تجب غرامته. واختار الشيخ وجوب غرامة المثلين في كل سرقة لا قطع فيها، وأما المختلس والمنتهب والخائن وغيرهم فلا يغرم إلا مثله أو قيمته، لأنه الأصل فدل الحديث على أن لكل مال حرز يخصه، فحرز الماشية الصير، وفي المرعى بالراعي ونظره إليها، وحرز الثمار الجرين ونحوه، وحرز البقل ونحوه الشرائج والحطب الحظائر ويعتبر العرف في الكل، غير حرز الذهب والفضة ففي الأبنية الحصينة.

وأسقط عمر القطع زمن المجاعة وقال: لا تقطع اليد في الغزو، ولا عام سنة، وأسقط القطع عن غلمان حاطب، لما سرقوا ناقة لرجل من مزينة، وقال: إنكم تستعملونهم وتجيعونهم، وأضعف قيمتها، ووافق أحمد على سقوط الحد في المجاعة، قال ابن القيم: وهو محض القياس ومقتضى قواعد الشرع، وهي شبهة قوية، تدرأ القطع عن المحتاج ونص العلماء، على أن الحدود لا تقام في أرض العدو وحكى أبو محمد المقدسي إجماع الصحابة. (ولهم) أي وللخمسة (عن صفوان) بن أمية رضي الله عنه ومالك والشافعي، وصححه ابن الجارود والحاكم (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أمر بقطع الذي سرق رداءه) وكان نائمًا عليه في المسجد وسرق (فشفع فيه) بعد أن رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «هلا كان ذلك» أي شفاعتك. وفي رواية قال: أنا أهبها له أو أبيعها له، قال: فهلا كان ذلك (قبل أن تأتيني به) ولأحمد وغيره فقطعه، وذلك أن صفوان اضطجع بالبطحاء، إذ جاء إنسان فأخذ بردة من تحت رأسه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقطعه فقال: إني أعفو وأتجاوز، فقال: فهلا قبل أن تأتيني به. فدل على أن يد السارق تقطع فيما إذا كان مالك المسروق حافظًا له، وإن لم يكن مغلقًا عليه في مكان وهو مذهب الجمهور، قال ابن رشد: إذا توسد النائم شيئا فتوسده، حرز على ما جاء في رداء صفوان، ويقطع الطرار وهو الذي

يبط الجيب ويأخذ ما فيه، وقال الوزير: اتفقوا على أن الحرز معتبر في وجوب القطع اهـ، ومذهب مالك والشافعي وأحمد أن الحرز يختلف باختلاف الأموال، وأن العرف معتبر في ذلك، ويختلف بعدل السلطان وجوره، وقوته وضعفه، وهذا أحد شروط وجوب القطع في السرقة. والثاني أن تنتفي الشبهة، فلا يقطع بالسرقة من مال أبيه أو ولده أو مال له فيه شرك، وأن يكون المسروق محترمًا فلا قطع بسرقة آلة لهو ولا محرم كالخمر، وأن يكون المسروق نصابًا وهو كما تقدم ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، وأن يثبت بشهادة عدلين، أو بإقراره، واشترط بعضهم مطالبة المسروق منه بماله، وتقدم قول الشيخ، وإذا تمت الشروط قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت كما تقدم مفصلاً واتفقوا على أنه إذا كانت العين قائمة، فإنه يجب ردها، وإن كانت تالفة وجب الغرم والقطع عند الشافعي وأحمد. (ولأبي داود) وغيره (عن النعمان) بن بشير رضي الله عنه (في الذين اتهموا قومًا) من الحاكة وذلك أن طائفة من الكلاعيين سرق لهم متاع، فأتوا النعمان فحبس الحاكة أيامًا ثم خلى سبيلهم، فقال الكلاعيون: خليت سبيلهم من غير ضرب ولا امتحان، فقال: إن شئتم (اضربهم) وفي رواية ما شئتم إن شئتم أن أضربهم (فإن خرج متاعكم) فذاك (وإلا أخذت لهم من ظهوركم) مثل ما أخذت من ظهورهم فقالوا:

باب حد قطاع الطريق

هذا حكمك، فقال: هذا حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مستدلاً بما رواه النسائي وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - حبس ناسًا في تهمة وفي رواية: رجلاً في تهمة. فدل الحديث على أنه لا يجوز امتحان السارق بالضرب، بل يحبس بحسب ما يراه الحاكم، لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن فتش عليه لقصة المخزومية جاز، أو دلت قرائن عوقب لما تقدم. باب حد قطاع الطريق وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح أو غيره، في الصحراء أو البنيان فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة، والأصل في حكمهم الكتاب والسنة والإجماع في الجملة (قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} المحاربة هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطاع الطريق وإخافة السبيل، يقال حرب الرجل، سلبه ماله، وحاربه قاتله، والآية، نزلت في قطاع الطريق، عند أكثر السلف، لقصة العرنيين، بل هذه الآية هي الأصل في حكمهم، وظاهر القرآن ومقتضى ما عليه عمل المسلمين يدل على أن هذه الحدود نزلت في المسلمين. قال الوزير: اتفقوا على أن من أبرز وشهر السلاح مخيفًا للسبيل خارج المصر، بحيث لا يدركه الغوث فإنه محارب، قاطع الطريق، جارية عليه أحكام المحاربين، وقال الشيخ: ولو

شهر السلاح في البنيان أو الصحراء فواحد، هو قول مالك، والمشهور عن الشافعي وأكثر أصحاب أبي حنيفة، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء، لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، لا محل تقاتل الناس وتعاديهم، وإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، لأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالبًا إلا بعض ماله، وهذا هو الصواب، لا سيما هؤلاء المتحزبون. ولو حاربوا بالحصى والحجارة المقذوفة بالأيدي والمقاليع ونحوها، فهم محاربون أيضًا، فالصواب ما عليه جماهير المسلمين، على أن من قاتل على أخذ الأموال بأي نوع من أنواع القتال فهو حربي، وقال: وإذا كان يقتل سرًا لأخذ المال، مثل أن يجلس في خان يكري لابن السبيل، وإن انفرد في قوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم، أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة، أو طب ونحو ذلك فيقتله، ويأخذ ماله. قال: وقد يكون ضرره أشد، لأنه لا يدري به، ولأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة، وكلاهما لا يمكن الاحتراز منه، وذكر أنه أشبه بأصول الشريعة، قال تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} الفساد ضد الصلاح والإفساد يطلق على أنواع: منها أخذ المال ظلمًا، حتى قال كثير من السلف: قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقيل نزلت في المشركين وقيل في الحرورية، وقيل غير ذلك، وقال ابن كثير:

الصحيح أنها عامة في المشركين وغيرهم، ممن يرتكب هذه الصفات، وقال غير واحد: إن كانوا كفارًا فقد قال الله {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وأن الإمام مخير في الأمور الثلاثة {أَنْ يُقَتَّلُوا} أي فجزاؤهم أن يقتلوا، يعني إن قتلوا مكافئًا أو غير مكافئ، كالولد يقتله أبوه، وكالعبد يقتله الحر، وكالذمي يقتله المسلم. {أَوْ يُصَلَّبُوا} فإذا قتل أحدهم، وأخذ المال صلب حتى يشتهر أمره، ولا يقطع مع ذلك، وإن وقع منه سرقة وزنى، ونحوه لأنها حقوق الله، فأتى عليها القتل، وهو الغاية، وإن قذف وقطع يدًا وقتل قطع وجلد وقتل، لأن حقوق الآدميين مبنية على التضييق، ولا تتداخل وإن قتل أحدهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، للخبر الآتي. {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} أي إن أخذوا مالاً قطع من كل واحد منهم يده اليمنى {وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} أي وقطع من كل واحد منهم رجله اليسرى أي إن أخذوا ما يبلغ نصاب السرقة أو أخذ بعضهم نصابًا تحتم قطع جميعهم ولو لم يأخذ إلا واحد منهم، وهو أولى من ثبوت القتل في حق جميعهم إذا قتل بعضهم، فتحتم قطعهم بأخذ أحدهم النصاب أولى. قال الشيخ: وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل فإن الأعراب، وفسقة الجند وغيرهم إذا رأوا دائمًا بينهم من هو مقطوع اليد والرجل، تذكروا بذلك جرمه فارتدعوا بخلاف القتل، فإنه قد ينسى، وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على

قطع يده ورجله من خلاف، فيكون هذا أشد تنكيلاً لأمثاله {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} إن أخافوا السبيل، ولم يأخذوا ما لا يبلغ نصاب السرقة، وشردوا متفرقين، فلا يتركون يأوون إلى بلد حتى تظهر توبتهم، وهذا مذهب الجمهور إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وتمام الآية (ذلك) أي الذي ذكر تعالى من الحدود {لَهُمْ خِزْيٌ} شر وعار وذلة وهوان وفضيحة {فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ *}. {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} أما من الشرك فظاهر، وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا من قبل القدرة عليهم، فإنه يسقط عنهم انحتام القتل، والصلب وقطع الرجل، والجمهور واليد، وعليه عمل الصحابة، فإن عليًا أمن ابن بدر، وأبا موسى أمن المرادي، في زمن عثمان، وأبا هريرة قال في علي الأسدي: لا سبيل لكم عليه؛ ولكهم جاءوا تائبين قبل القدرة عليهم، أما من تاب بعد القدرة عليه فلا يسقط عنه شيء قال الشيخ: اتفق العلماء على أن قاطع الطريق واللص ونحوهما، إذا رفعوا إلى ولي الأمر ثم تابوا بعد ذلك لم يسقط الحد عنهم، بل تجب إقامته وإن تابوا، وإن كانوا صادقين في التوبة. فاستثناء التوبة قبل القدرة عليهم فقط، فالتائب بعد القدرة عليه باق فيمن وجب عليه الحد للعموم والمفهوم والتفصيل ولئلا يتخذ ذريعة إلى تعطيل حدود الله إذ لا يعجز من وجب عليه الحد أن يظهر التوبة ليتخلص من العقوبة وإن

تاب توبة نصوحًا سدًا لذريعة السكوت بالكلية؛ قال الوزير: اتفقوا على أن حقوق الآدميين من الأموال والأنفس والجراح يؤخذ بها المحاربون، إلا أن يعفى لهم عنها، وقال: اتفقوا على أن من قتل وأخذ المال منهم وجب إقامة الحد عليه، وإن عفا ولي المقتول، والمأخوذ المال منه، فإنه غير مؤثر في إسقاط الحد عنه. وقال الشيخ: فمن كان قتل من المحاربين فإنه يقتله الإمام حدًا ولا يجوز العفو عنه بإجماع العلماء، حكاه ابن المنذر، ولا يكون رده إلى وارث المقتول، بخلاف ما لو قتل رجل رجلاً لعداوة بينهما أو خصومة ونحو ذلك من أسباب المخاصمة؛ فإن هذا دم لأولياء المقتول، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا عنه، وإن أحبوا أخذوا الدية، لأن قتله لغرض خاص، وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس، فضررهم عام بمنزلة السُّراق، فكان قتلهم حدًا لله، وهذا متفق عليه بين الفقهاء، حتى لو كان ذميًا أو مستأمنًا، فقد اختلف العلماء هل يقتل في المحاربة لأنه قتل لفساد العالم كما يقطع إذا أخذ أموالهم وكما يحبس بحقوقهم. (قال ابن عباس) رضي الله عنهما (إذا قتلوا وأخذوا المال) يعني المحاربين (قتلوا وصلبوا) وقتلهم متحتم لا يدخله عفو قال الموفق وغيره: أجمع على هذا كل أهل العلم (وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا) قال الموفق: وهي أصح لأنه الخبر المروي فيهم، قال فيه: ومن

قتل ولم يأخذ المال قتل، ولم يذكر صلبًا (وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم) في مقام واحد وحسمتا، ولا خلاف في أنه لا يقطع منه غير يد ورجل، إذا كانا صحيحتين (من خلاف) تقطع يمنى يديه، ثم يسري رجليه، (وإذا خافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض) وشردوا حتى تظهر توبتهم (رواه الشافعي). وروي عن ابن عباس قال: وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بردة الأسلمي، فجاء ناس يريدون الإسلام، فقطع عليهم أصحابه فنزل جبرائيل بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ المال، قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف؛ وقيل إنه رواه أبو داود، وهو كالمسند وإن كان المحاربون جماعة، وإنما باشر القتل أحدهم والباقون أعوان له وردء. فقال الشيخ: قيل إنه يقتل المباشر فقط، والجمهور على أن الجميع يقتلون، ولو كانوا مائة، والردء والمباشر سواء، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، فإن عمر قتل ردء المحاربين، والردء هو الناظر، الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء، والمباشر إنما تمكن من قتله بقوة الردء والمعونة من قتله بقوة الردء، والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض، حتى صاروا ممتنعين، فهم مشتركون في الثواب والعقاب. قال: وإذا ظفر السلطان بالمحابين وقد أخذوا الأموال، فعليه أن يستخرج منهم الأموال، مع إقامة الحد على أبدانهم،

وكذا السارق، فإذا امتنعوا بعد ثبوته، عاقبهم بالحبس والضرب، حتى يمكنوا من إحضاره والإخبار بمكانه، وكما يعاقب كل ممتنع من الحق الواجب عليه أداؤه، وهذه المطالبة حق رب المال، بخلاف إقامة الحدود عليهم، ولا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلاً على طلب السارقين، لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد، وإن كان لهم شوكة تحتاج إلى تأليف أعطاهم من الفيء وغيره لبعض رءوسائهم ليعينه على إحضار الباقين، أو لتركهم فيضعف الباقون، وهو ظاهر الكتاب والسنة وأصول الشريعة. (وعن أنس) رضي الله عنه (أن ناسًا من عكل) قبيلة من عبد مناة، وفي لفظ "أو عرينة" وفي لفظ: وعرينة: قبيلة من بجيلة حي باليمن من معد، وهم عرينة بن نذير بن قيس بن عبقر الذين استاقوا إبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وللطبراني "أربعة من عرينة وثلاثة من عكل من الرباب" (استوخموا المدينة) أي لم يستمرؤها فلم يوافق هواءها أبدانهم، واستوبؤها (فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوا إلى إبل الصدقة) وكانت خارج المدينة (فيشربوا من أبوالها) فدل على طهارتها (وألبانها) فانطلقوا إليها وفعلوا فصحوا وارتدوا (فقتلوا الراعي) وفي رواية، فقتلوا رعاتها (واستقاوا الإبل) وفي رواية "واستاقوا الذود". (فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم) أي عقبهم وفي

حديث سلمة خيلاً من المسلمين، فما ارتفع النهار حتى جيء بهم (فأمر بهم) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (فسمروا أعينهم) وفي لفظ "سملوا أعينهم" (وقطعوا أيديهم) وفي رواية "وأرجلهم" (وتركوا في ناحية الحرة) وهي أرض بالمدينة ذات حجارة سود (حتى ماتوا على حالهم) وفي لفظ "يستسقون فلا يسقون" (متفق عليه). قال الشيخ: واختلفوا فيمن يقتل السلطان كقتلة عثمان، هل هم كالمحاربين فيقتلون حدًا أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم؟ هذا إذا قدر عليهم فأما إذا طلبهم السلطان ونوابه لإقامة الحد بلا عدوان، فإن امتنعوا عليه، فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء، حتى يقدر عليهم كلهم، وإن لم ينقادوا والقتال يفضي إلى قتلهم كلهم قوتلوا إلى أن قال: إلا أن قتالهم ليس كقتال الكفار، إذا لم يكونوا كفارًا، ولا تؤخذ أموالهم إلا إن أخذوا أموال المسلمين بغير حق، فيؤخذ منهم بقدر ما أخذوا، والمقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود، ومنعهم من الفساد. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) يسأله (فقال: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي) وللنسائي: إن عد على مالي (قال: لا تعطه) وله قال فانشده بالله (قال: أرأيت إن قاتلني) أي دون مالي (قال: قاتله) أي دون مالك (قال: أرأيت: إن قتلني) أي لأجل مالي (قال: فأنت

شهيد) تقدم تعريف الشهيد (قال: أرأيت إن قتلته) أي دون مالي (قال: فهو في النار) أي أنه يستحق ذلك. وقد يجازي وقد يعفى عنه (رواه مسلم) وقال الحسن: من عرض لك في مالك فإن قتلته فإلى النار، وإن قتلك فشهيد، ونحوه عن أنس وغيره وقال أحمد في اللصوص يريدون نفسك ومالك: قاتلهم تمنع نفسك ومالك، وقال عمر في امرأة أرادها رجل على نفسها فقتلته: والله لا يؤدي أبدًا. فدل الحديث وما في معناه على أن من صال عليه شخص يريد أخذ ماله أن له الدفع عنه بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به، فإن اندفع بالعصا مثلاً فليس له ضربه بالحديد، وإن ذهب هاربًا لم يكن له قتله، ولا اتباعه فإن لم يندفع إلا بالقتل فله ذلك. قال النووي: وهذا قول الجماهير من العلماء وصوَّبه، ولا ضمان عليه إلا أنه لا بد من بينة على أنه لا يندفع إلا بالقتل، وإلا ضمنه، ويلزمه الدفع عن نفسه في غير فتنة، فله التولي عنهم، وقال الشيخ: لا يلزمه الدفع عن مال الغير، وقال في جند قاتلوا عربًا نهبوا أموال تجار ليردوها لهم: هم مجاهدون في سبيل الله، ولا ضمان عليهم، بقود ولا دية ولا كفارة اهـ، وأما المدافعة عن الحريم فواجبة قال النووي: بلا خلاف، وعن المال جائزة غير واجبة، فقوله لا تعطه، أي لا يلزمك أن تعطيه وليس المراد تحريم الإعطاء. (وعن عمران بن حصين) رضي الله عنه (أن رجلاً عض

يد رجل) ولمسلم: قاتل يعلى رجلاً فعض أحدهما صاحبه (فنزع يده من فيه فوقعت ثناياه) فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل؟ أي الذكر من الإبل ويطلق على غيره (لا دية لك) وفي رواية: فأبطله وقال: "أردت أن تأكل لحمه" (متفق عليه) ومن حديث يعلى بن أمية: فعض رجل فانتزع ثنيته، فأبطلها النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل الحديث على أن من عض إنسانًا فانتزع يده من فيه، فسقطت بعض أسنانه فهدر، ويروى أن رجلاً عض رجلاً فانتزع يده من فيه فسقطت بعض أسنان العاض فاختصما إلى شريح، فقال: أنزع يدك من في السبع، وأبطل أسنانه، وهذا مذهب جمهور العلماء أبي حنيفة والشافعي وأحمد. (ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا لو أن امرءًا اطلع عليك) أي نظر إليك من علو (بغير إذن فحذفته بحصاة) أي رميته بحصاة (ففقأت عينه) أي شققت عينه (لم يكن عليك جناح) ولمسلم "فقد حل لهم أن يفقئوا عينه" ولأحمد والنسائي وغيرهما: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فلا دية ولا قصاص" وفي رواية "فهدر". وفيهما من حديث سهل أن رجلا اطلع في جحر من باب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يحك رأسه بمدري في يده، فقال: «لو علمت أنك تنظرني لطعنت به في عينك» فدل الحديثان على أن من نظر

باب قتال أهل البغي

في بيت غيره من خصاص باب مغلق ونحوه، فحذف عينه أو نحوها فتلفت فهدر، ولو أمكن دفعه بدون ذلك، وهو مذهب الشافعي وأحمد، فإن ترك الإطلاع ومضى لم يجز رميه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يطعن الذي اطلع ثم انصرف، وسواء كان المطلع منه صغيرًا كثقب أو شق، أو واسعًا كنقب كبير، لا من باب مفتوح، لأن التفريط من تارك الباب مفتوحًا وليس لصاحب الدارمي الناظر بما يقتله ابتداء، لأن له ما يقلع به العين ونحوه، فإن لم يندفع إلا بما يقتل فله ذلك. باب قتال أهل البغي البغي مصدر بغى عليه بغيًا علا وظلم وجار وعدل عن الحق، وما عليه أئمة المسلمين، فإذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة على إمام المسلمين، بتأويل سائغ فهم بغاة والأصل في قتالهم الكتاب والسنة والإجماع في الجملة، وإن كانوا جمعًا يسيرًا كالعشرة، لا شوكة لهم، أو لم يخرجوا بتأويل، أو بتأويل غير سائغ، فقطاع طريق، تقدم حكمهم. (قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} أي تقاتلوا سماهم مؤمنين مع القتال، وفي الصحيح "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فأصلح الله به بين أهل الشام، وأهل العراق بعد الحروب الطويلة {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} بالنصح وبالدعوة إلى حكم كتاب الله

تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - والرضا بما فيهما لهما وعليهما {فَإِنْ بَغَتْ} تعدت {إِحْدَاهُمَا} أي التي صدر منها البغي، وأبت الإجابة إلى حكم كتاب الله {عَلَى الْأُخْرَى} أي التي لم تبغ {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} على الطائفة الأخرى {حَتَّى تَفِيءَ} الباغية {إِلَى أَمْرِ اللهِ} حكم الله عز وجل {فَإِنْ فَاءَتْ} رجعت إلى الحق، ورضيت بحكم الله {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} بحملهما على الإنصاف وقيده ههنا بالعدل لأنه مظنة بالحيف. فإن الناصح المصلح لما تقاتل مع الباغي، ربما ثار غضبه، فحين الإصلاح قد لا يراعي العدل، فيحيف على إحدى الطائفتين إن قاتلها، ثم قال تعالى {وَأَقْسِطُوا} أي اعدلوا بينهما فيما أصاب بعضهم لبعض، بالقسط وهو العدل {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} العادلين في الأمور ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} في الدين والولاية {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} إذا اختلفا واقتتلا {وَاتَّقُوا اللهَ} ولا تعصوا أمره {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. فأوجب تعالى على المؤمنين قتال الباغين، وأجمع على ذلك الصحابة وجماهير العلماء، وقالوا يجب على الإمام أن يراسل البغاة فيسألهم عما ينقمون منه، إذ هو الطريق إلى الصلح، فإن ذكروا مظلمة أزلها، وإن ادعوا شبهة كشفاها لهم، ليرجعوا إلى الحق، ولا يجوز قتالهم قبل ذلك، إلا أن يخاف كلبهم، فإن كان ما ينقمون منه مما لا يحل أزاله، وإن كان حلالاً لكن التبس عليهم، فاعتقدوا أنه مخالف للحق بين لهم دليله، وأظهر لهم وجهه، كما فعل علي

رضي الله عنه، فإن بعث ابن عباس إلى الخوارج فبين لهم وجه الحجة التي تمسكوا بها. فإن رجعوا تركهم وإن أبوا وعظهم وخوفهم القتال، وإن أبوا قاتلهم وجوبًا، للأمر بذلك، وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا خرج على إمام المسلمين طائفة، ذات شوكة، بتأويل مشتبه فإنه يباح قتالهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله اهـ والأفضل ترك قتال أهل البغي حتى يبدءوا الإمام، وهو مذهب مالك، وله قتل الخوارج ابتداء أو متممة تخريجهم، صرح به الشيخ، وقال: جمهور العلماء يفرقون بين الخوارج والبغاة المتأولين وهو المعروف عن الصحابة، ويأتي تمام الكلام في حكم الخوارج. (وقال) تعالى {أَطِيعُوا اللهَ} أي اتبعوا كتابه {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي خذوا بسنته، وقد أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله في غير موضع من كتابه، ثم قال تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} أي وأطيعوا أولي الأمر منكم، فيما يأمرون به من طاعته تعالى وتقدس، قيل أولى الأمر الأمراء والولاة، وقيل والعلماء، والآية عامة في أولي الأمر من العلماء والولاة والأمراء وجاءت أحاديث كثيرة في الأمر بطاعة ولاة الأمر، ما لم يأمروا بمعصية، فإن أمروا بمعصية فلا سمع لهم ولا طاعة، وتقدم: «من يعص الأمير فقد عصاني» "ومن عصاني فقد عصى الله" وقال علي: حق الله على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك، فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا.

وللبخاري مرفوعًا «اسمع وأطع، وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة» ولمسلم «وإن كان عبدًا حبشيًا مجدع الأطراف» ولابن جرير وغيره "سيليكم ولاة بعدي، فيله البر ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق" ثم قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} فكل ما تنازع الناس فيه يجب أن يرد التنازع إلى الكتاب والسنة. كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فمن لم يرد التحاكم إليهما في محل النزاع، ولا يرجع إليهما في ذلك فليس بمؤمن بالله ولا باليوم الآخر (ذلك) أي التحاكم إلى الكتاب والسنة {خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} عاقبة ومآلاً وأحسن جزاء. واستدل القرطبي وغيره بقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} على وجوب نصب الخليفة، ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام، ونصبه فرض كفاية لحماية البيضة، والذب عن الحوزة وغير ذلك وقال الشيخ: يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا الدنيا إلا بها، وقد أوجبه الشارع في الاجتماع القليل العارض، تنبيهًا بذلك على أنواع الاجتماع. وقال: من المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة، ولو

تولى من الظلمة، فهو خير من عدمهم اهـ، ويخاطب بذلك من توجد منه شرائط الإمامة، ويجبر من تعين لذلك، وتعتبر إمامته بالإجماع عليه، كأبي بكر، أو بنص عليه كفعله، أو شورى في عدد كفعل عمر، أو بقهر الناس بسيفه، حتى تثب له، وشرطه أن يكون حرًا ذكرًا عدلاً عالمًا كافيًا ابتداءً ودوامًا، ويجب على رعيته ومعونته لهذه الآية وغيرها. (وعن عبادة) بن الصامت رضي الله عنه (قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة) أي عاهدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع له فيما يأمرنا به، والطاعة مذعنين منقادين له (في المنشط) الذي ننشط له، ونؤثر فعله (والمكره) أي الذي نكره ويشق علينا أي بايعناه على المحبوب والمكروه (وأن لا ننازع الأمر أهله) أي لا ننازع ولاة الأمور ولايتهم، ونخرج عليهم (متفق عليه) وللبخاري من حديث أنس "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عبد حبشيء، رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله". فدل الحديث وغيره على وجوب طاعة ولي الأمر، في حال النشاط، وحال الكراهة، والعجز عن العمل بما يأمر به، ولو منع حقنا (ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رأى من أميره» أي سلطانه وإمامه (ما يكره) ولو أخذ ماله، وضرب ظهره (فليصبر) وللبخاري "فليصبر عليه" (فإنه من فارق الجماعة) أي جماعة المسلمين، المتفقين على إمام واحد انتظم به

جمعهم، واجتمعت به كلمتهم، وحاطهم من عدوهم، (فمات فميتته جاهلية) أي منسوبة إلى أهل الجهل، والمراد به من مات على الجهل قبل الإسلام، وهو تشبيه لميتة من فارق الجماعة بمن مات على الكفر، بجامع أن الكل لم يكن تحت إمام. فإن الخارج عن الطاعة كأهل الجاهلية، لا إمام له، ولمسلم من حديث أبي هريرة "من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، ومات فميتته جاهلية" أي حالته في الموت كموت أهل الجاهية على ضلال، وتقدم الدليل على وجوب طاعة أولي الأمر، وهو يقتضي تحريم الخروج عليهم، وهذه الأحاديث وما في معناها دليل على أنه إذا فارق الجماعة، ولم يخرج عليهم ولا قاتلهم أنا لا نقاتله لنرده إلى الجماعة، ويذعن للإمام بالطاعة، بل نخليه وشأنه، لأنه لم يأمر - صلى الله عليه وسلم - بقتاله، بل أخبر عن حال موته، وأنه كأهل الجاهلية، ولا يخرج بذلك عن الإسلام، وقال علي للخوارج: كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دمًا حرامًا، ولا تقطعوا سبيلاً، ولا تظلموا أحدًا، فإن فعلتم نفذت إليكم بالحرب؛ ولم يقاتلهم رضي الله عنه حتى قطعوا السبيل، وسفكوا الدم الحرام. (ولأبي داود) وغيره أنه قال: (من فارق الجماعة شبرًا) تنبيه بالأدنى على ما فوقه (فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) وللترمذي: "من فارق الجماعة شبرًا فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه".

(وعن عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أعطى إمامًا) أي سلطانًا أو أميرًا (صفقة يده) أي عقد بيعته بيده (وثمرة قلبه) أي أعطاه الإخلاص الذي في القلب في الطاعة (فليطعه ما استطاع) وفي الحديث "من أطاع أميره فقد أطاعني"، "ومن أطاعني فقد أطاع الله (فإن جاء آخر ينازعه) الأمر ويخرج عليه (فاضربوا عنق الآخر) ولا خلاف في ذلك (رواه مسلم). وله أيضًا: «من خلع يدًا من طاعة لقي الله ولا حجة له» فمن فارق الجماعة جرى له كذلك، فدلت هذه الأحاديث على تحريم معصية الإمام ومحاربته والخروج عليه، وعلى جواز قتال البغاة، وهو إجماع. (وله) أي لمسلم في صحيحه (عن عرفجة) بضم فسكون، ابن شريح (مرفوعًا: من أتاكم وأمركم جميع) على رجل واحد قد أجمع عليه (يريد أن يفرق جماعتكم) وفي لفظ "فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع (فاضربوا عنقه بالسيف) كائنًا من كان" وفي لفظ "فاقتلوه" وجاء معناه من طرق، دلت على أن من خرج على إمام قد اجتمعت عليه كلمة المسلمين، والمراد أهل قطر فإنه قد استحق القتل، لإدخاله الضرر على العباد، وظاهره سواء، كان جائرًا أو عادلاً وجاء تقييده بـ "بما أقاموا الصلاة" وفي لفظ: "ما لم تروا كفرًا بواحًا، عندكم فيه من الله برهان". قال ابن القيم: ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الأمراء والخروج على الأئمة، وإن ظلموا أو جاروا، ما أقاموا الصلاة، سدًا لذريعة

الفساد العظيم، والشر الكثير، بقتالهم كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم، والخروج عليهم أضعاف أضعاف ما هم عليه، ولم تزل الأمة في بقايا تلك الشرور، وقال - صلى الله عليه وسلم - «إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما» سدًا لذريعة الفتنة اهـ، وإن تنازعها اثنان متكافئان، قدم أحدهما بقرعة، وإن بويع لهما معًا، أو جهل السابق منهما فالعقد باطل فيهما، صرح به في الإقناع وغيره. (ولهما) أي البخاري ومسلم (من حديث علي في الخوارج) الذين يخرجون على جماعة المسلمين، كما خرجوا على الصحابة، وفي عصر الأمويين والعباسيين، وأحاديثهم جاءت من طرق قال: (أينما لقيتموهم) أي حيث وجدتموهم (فاقتلوهم) وقد قتلهم الصحابة رضي الله عنهم، كما هو مشهور (فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة) وجاء بروايات تدل على فضل قتلهم، وتقدم أنه ينبغي لولي الأمر أن يبين لهم وجه الحجة، كما فعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الشيخ: أهل السنة متفقون على أن الخوارج مبتدعة ضالون، وأنه يجب قتالهم بالنصوص الصحيحة، "أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة" "لو يعلم الذين يقاتلون ماذا لهم على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - لنكلوا عن العمل" "خير قتلى من قتلوه" فأمر بقتالهم، وقاتلهم علي وسائر الصحابة الذين معه، بل اتفق الصحابة على قتالهم،

ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل، وهل يقاتلون مع أئمة الجور؟؟ نقل عن بعض أهل العلم أنهم يقاتلون، وكذلك من نقض العهد من أهل الذمة، وهو قول الجمهور. وقالوا يغزى مع كل أمير برًا كان أو فاجرًا، إذا كان الغزو الذي يفعله جائزًا فإذا قاتل الكفار، أو المرتدين أو ناقضي العهد، أو الخوارج قتالًا مشروعًا قوتل معه، وإن قاتل قتالاً غير مشروع لم يقاتل معه، ومن أظهر رأي الخوارج ولم يخرج عن قبضة الإمام لم يتعرض لهم، وهو مذهب جماهير العلماء أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، وتجري الأحكام عليهم فيما لهم وعليهم كأهل العدل. (وللبزار) الحسن بن الصباح الحافظ، روى عنه البخاري وأبو داود وغيرهما، مات سنة تسع وأربعين ومائتين (عن ابن مسعود) رضي الله عنه (مرفوعًا: لا يتبع مدبرهم) ليقتل (ولا يجهز على جريحهم) أي لا يتمم قتل من كان جريحًا من البغاة (ولا يقتل أسيرهم) بل يحبس حتى لا شوكة ولا حرب، لأن قتالهم لكفهم عن المحاربة، (ولا يقسم فيئهم) لأنه مال مسلم؛ وروى سعيد أنه صرخ صارخ لعلي يوم الجمل، لا يقتل مدبرهم ولا يذفف على جريحهم، ومن ألقي السلاح فهو آمن ومن وجد ماله بيد غيره أخذه لأن أموالهم كأموال غيرهم من المسلمين.

وقال الوزير: اتفقوا على أن أموالهم لهم؛ وقال مالك والشافعي وأحمد لا يستعان بسلاحهم وكراعهم على حربهم، ويحرم قتالهم بما يعم إتلافهم، لأن إتلاف أموالهم، وقتل غير المقاتلة لا يجوز إلا لضرورة تدعو إليه، وما تلف حال الحرب غير مضمون. وقال الوزير: اتفقوا على أن ما يتلفه أهل العدل على أهل البغي فلا ضمان فيه، وما يتلفه أهل البغي كذلك، وهو مذهب جمهور العلماء أبي حنيفة ومالك وأحمد، وظاهر كلام شيخ الإسلام أن من قتل باغيًا في غير حرب متأولاً فلا شيء فيه، وأن قتل الباغي العادل كذلك، وقال: الأمة يقع منها التأويل في الدم والمال والعرض، وذكر قصة أسامة وخبر المقداد وخالد ومع ذلك لم يضمن المقتول بقود ولا دية ولا كفارة، لأنه متأول، وقال أسيد لسعد في قصة الإفك: إنك منافق، والذي لعن رجلاً بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعاقبهما. فالمتأول المخطئ مغفور له خطؤه بالكتاب والسنة، وقال هو وغيره: إن اقتتلت طائفتان لعصبية أو طلب رئاسة فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة منهما ما أتلفته على الأخرى، قال: فأوجب الفقهاء الضمان على مجموع الطائفة، وإن لم يعل عين المتلف، وإن تقاتلتا تقاصتا لأن المباشر والمعين سواء عند الجمهور، وإن جهل قدر ما نهبه كل طائفة من الأخرى تساويا،

باب حكم المرتد

ومن دخل بينهما لصلح فقتل وجهل قاتله أو أتلف ماله وجهل متلفه ضمنتاه على السواء باب حكم المرتد أي باب بيان حكم المرتد وما يوجب الردة من الأقوال والأفعال وغيرها، ومن يجب استتابته ومن يجوز قتله بدونها، وغير ذلك، والأصل في قتل المرتد الكتاب والسنة والإجماع والمرتد لغة الراجع واصطلاحًا الكافر بعد إسلامه طوعًا ولو هازلاً بنطق أو اعتقاد أوشك أو فعل (قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِد} أي يرجع {مِنْكُمْ} أيهما المسلمون {عَنْ دِينِهِ} إلى دين اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، أو الوثنية أو على غير دين {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} أي يرجع عن دين الإسلام ثم يموت على الكفر {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} النافعة {فِي الدُّنْيَا} لما يفوتهم بالردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام {وَالْآخِرَةِ} بسقوط الثواب {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. فدلت الآية على كفر من ارتد عن دين الإسلام بأي نوع مما يوجب الردة، ولو كان إسلامه بحق، كمن أكره على النطق بالشهادتين فنطق بهما ثم ارتد، وسواء كان رجلاً أو امرأة لقصة أم مروان، وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد إن لم يتب.

(وقال) تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} أي ويغفر تعالى ما دون الشرك أكبره وأصغره {لِمَنْ يَشَاءُ} من عباده ثم قال {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا *} وقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وفي الصحيحين لما قيل له: أي الذنب أعظم؛ قال " أن تجعل لله ندًا وهو خلقك" وقال "أكبر الكبائر الإشراك بالله" ولأحمد " الدواوين ثلاثة؛ فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله" وله أيضًا "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا". (وقال) تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ} فيعبد معه غيره {فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} فلا يدخلها من أشرك بالله {وَمَأْوَاهُ النَّارُ} أي فقد أوجب له النار، وحرم عليه الجنة {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ *} أي وما للمشرك بالله الظالم المعتدي من ناصر ولا معين، ولا منقذ مما هو فيه، وفي الصحيح «من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار» وروى عبد بن حميد من حديث جابر قال رجل: يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال: "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك به شيئًا دخل النار" فدلت هذه الآية والأحاديث وما في معناها على عظم الشرك، وأن من أشرك بالله فقد كفر، ومن كفر بعد إسلامه وجب قتله إن لم يتب. وقال الشيخ: ومن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم

ويسألهم أو يتوكل عليهم كفر إجماعًا ومن جحد ربوبيته أو وحدانيته أو صفة من صفاته كفر؛ وقال: ومن شك في صفة من صفاته ومثله لا يجهلها فمرتد، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد، ولهذا لم يكفر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل الشاك في قدرة الله وإعادته لأنه لا يكون إلا بعد الرسالة. (وقال) تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ} أي فأولئك هم الكافرون حقًا {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ} بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} أي يؤمنون ببعض رسله ويكفرون ببعضهم بمجرد التشهي والعادة، وما ألْفوا عليه آباءهم، قيل نزلت في اليهود آمنوا بموسى، وكفروا بعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض واجب فمن رد نبوة نبي من الأنبياء حسدًا أو عصبية أو تشهيًا تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا شرعيًا إنما هو عن غرض وهوى وعصبية. ولهذا وسمهم الله تعالى بالكفر به وبرسله، وأنهم يريدون أن يفرقوا بين الله وبين رسله في الإيمان، فيقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} دينًا ومذهبًا يذهبون إليه، وطريقًا غير طريق الرسل، ومسلكًا، سوى مسلكهم {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} أي كفرهم محقق لا محالة.

بمن ادعوا الإيمان به، لأنه ليس إيمانًا شرعيًا، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسوله، لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهانًا منه، وإنما حقق تعالى كفرهم ليعلم أن الكفر ببعضهم كالكفر بجميعهم، ثم قال: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} كما استهانوا بمن كفروا به. فدلت الآيات وما في معناها على أن من كفر برسول من رسله، أو سبه فقد كفر، وقال الشيخ: بالإجماع، وقال: معلوم بالاضطرار من دين المسلمين، وباتفاق جميع المسلمين، أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وقال من أطلق لعن التوراة يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وأما إن لعن دين اليهود الذي هم عليه في هذا الزمان فلا بأس عليه، ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي بإيمانهم بالله وكتبه ورسله، وهم المؤمنون كما ذكر الله عنهم، يقولون: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. (وقال) تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ} أي لا يريدونه ولا يحبونه {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وسماهم تعالى كفارًا، فأول الآية قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} أي سقوطًا لهم وشقاءً لهم وهلاكًا ثم قال: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أحبطها وأبطلها بسبب كراهتهم لما أنزل الله، وقال الشيخ: أو كان مبغضًا

للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما جاء به فقد كفر، وقال: ومن شفع عنده في رجل فقال: لو جاءني محمد يشفع فيه ما قبلت منه، إن تاب بعد القدرة عليه قتل، لا قبلها في أظهر قولي العلماء. (وقال) تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} أي المنافقين في غزوة تبوك لما قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء، وقيل غير ذلك، فأنزل الله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، فقال الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم - {كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} توبيخ وتقريع لهم، فإنهم كاذبون في اعتذارهم وقولهم: نخوض ونلعب ونتحدث نقطع به الطريق {لَا تَعْتَذِرُوا} فإني أعلم كذبكم {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي بهذه المقالة التي استهزأتم بها، وأظهرتم الكفر بعدما أظهرتم الإيمان. (إن نعف عن طائفة منكم) فنتوب عليهم قيل إنه مخشي ابن حمير، كان يضحك ولا يخوض، وينكر بعض ما يسمع، فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه، وسأل الوفاة قتلاً في سبيل الله {نُعَذِّبْ طَائِفَةً} منكم أي: لا يعفى عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم {بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة. فمن أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين كفر بالإجماع، وقال الموفق: ينبغي أن لا يكتفى من الهازل بذلك

بمجرد الإسلام حتى يؤدب أدبًا يزجره عن ذلك. (وقال) تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} لما نبه تعالى على قدرته العظيمة وأن {مِنْ آيَاتِهِ} الدالة على ذلك {الليْلُ} الباهر بظلامه {وَالنَّهَارِ} بضيائه {وَالشَّمْسُ} بنورها {وَالْقَمَرُ} بضيائه وكانا أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي، نبه على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده، تحت قهره تعالى وتسخيره، ونهى عن السجود لهما، وإشراكهما في عبادته. ثم قال {وَاسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} فهو المستحق أن يعبد وحده {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فلا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، ثم قال: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} عن إفراده بالعبادة، وأبو إلا أن يشركوا معه غيره {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} كما قال {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}. فمن سجد للشمس أو للقمر أو للصنم أو نحوهما كفر بإجماع المسلمين. (وقال) تعالى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ} أي من دون الله (أولياء) يعني الأصنام {مَا نَعْبُدُهُمْ} أي قالوا ما نعبدهم {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} تقريبًا ويشفعوا لنا عند الله إلى قوله {إِنَّ

اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} أي لا يرشد لدينه من كذب فقال إن الآلهة تشفع، وكفى باتخاذه الآلهة من دون الله كذبًا وكفرًا، فكفرهم تعالى باتخاذهم الشفعاء وسائط بينهم وبينه، وأخبر أنه يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، فيفصل بين الخلائق يوم معادهم، ويجزي كل عامل بعمله، ولا يهدي من كفر بآياته وحججه، وتقدم قول الشيخ: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم، ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم، كفر إجماعًا. (وقال) تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسله {ثُمَّ كَفَرُوا} أي ارتدوا عن الإسلام {ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} ثم ارتدوا {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} على كفرهم بتكرر ردتهم، واستمرارهم على ضلالهم، وموتهم عليه، ولهذا قال: {لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} لموتهم على كفرهم، أو لإقامتهم عليه بدون توبة، وحكي أنه لا تقبل توبتهم، وأكثر أهل العلم على قبول توبتهم، وإنما المراد لا يغفر الله لهم ما أقاموا على كفرهم، وتقدم قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ولا يجعل لهم فرجًا ولا مخرجًا {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} طريقاً إلى الحق، قال ابن عباس: {ازْدَادُوا} تمادوا على كفرهم حتى ماتوا. ثم قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} من كفرهم ونفاقهم {وَأَصْلَحُوا} أعمالهم

{وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ} اتقوا الله {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلهِ} الآية أراد تعالى الإخلاص بالقلب، لأن النفاق كفر القلب، فزواله يكون بإخلاص القلب {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} وفي زمرتهم يوم القيامة {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله {وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا *} بمن شكره، ومن آمن به جازاه أوفر الجزاء والشكر ضد الكفر، وهذه الآيات كقوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إلى قوله {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. (وقال) تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ} يعني هاروت وماروت {مِنْ أَحَدٍ} من الناس {حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} امتحان وابتلاء {فَلَا تَكْفُرْ} ففيها أن تعلم السحر وعمله كفر، فمن أراد الله شقاوته تعلم السحر منهما فيكفر به، ومن سعد يتركه فيبقى على الإيمان بالله، قال ابن العباس: إذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي، وقالا له {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} وذلك أنهما علما الخير والشر، والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر، قال فإذا أبي عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه، فإذا تعلمه خرج من النور، فنظر إليه ساطعًا في السماء، فيقول يا حسرتاه يا ويله ماذا صنع. {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} أي فيتعلم

الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون به {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون بين الزوجين ويؤخذ كل منهما عن صاحبه، ويبغض كل منهما إلى صاحبه، مع ما بينهما من الائتلاف وهذا من صنيع الشياطين، وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء المنظر أو الخلق ونحو ذلك أو عقدًا وبغضه ونحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة. {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} بقضاء الله وقدره، ثم أخبر أنهم {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} أي يضرهم في دينهم وليس له نفع {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} حظ ولا نصيب {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. (وقال) تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} وتبصره وشرح صدره بالكفر واطمئنانه به، فله العذاب العظيم في الدنيا والآخرة، لارتداده عن دين الإسلام بعد الدخول فيه، لاستحباب الدنيا على الآخرة، وأخبر أنه طبع على قلبه وسمعه وبصره وأنه من الغافلين، وفي الآخرة هم الخاسرون {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} فهو استثناء ممن كفر بلسانه، ووافق المشركين بلفظه مكرهًا، لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله والرسول.

نزلت في عمار بن ياسر أخذه المشركون فعذبوه، فوافقهم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان وأجمع أهل العلم على أن من أكره على كلمة الكفر، يجوز له أن يقول بلسانه غير معتقد بقلبه، وإن أبى حتى يقتل كان أفضل. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من بدل دينه فاقتلوه) أي من بدل دين الإسلام، لأن الدين في الحقيقة هو دين الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ} وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} وللطبراني من حديث ابن عباس: من خالف دينه دين الإسلام فاضربوا عنقه، وتقدم ما يحل به دم المرء وهو التارك لدينه. فدل الحديث على أن كل من وقع منه التبديل يقتل، ومن ترك دينه يجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، قال النووي هو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت، فأما من بدله في الظاهر بلا إكراه فلا نزاع في قتله، ومن بدل في الباطن ولم يثبت عليه في الظاهر فإنها تجري عليه أحكام الظاهر، ومن بدل دينه في الظاهر لكن مع الإكراه على ما تقدم فتقدم. واستدل الجمهور بالحديث على قتل المرتدة كالمرتد، وخالفت الحنفية، وتمسكوا بحديث النهي عن قتل النساء، وحمله الجمهور على الكافرة الأصلية، إذا لم تباشر القتال، لقوله «ما كانت هذه لتقاتل» ثم نهى عن قتل النساء، وابن عباس راوي الحديث أمر بقتل المرتدة، وقتل أبو بكر في خلافته امرأة

ارتدت والصحابة متوافرون، فلم ينكر ذلك أحد منهم، وفي حديث معاذ وحسنه الحافظ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال له لما أرسله إلى اليمين أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وايما امرة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها، ويؤيده اشتراك الرجال والنساء في الحدود كلها، كالزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف، وقال الوزير: اتفقوا على أن المرتد عن الإسلام يجب قتله، ومذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي أنه يستتاب، فإن تاب في الحال قبل منه وإلا أجل للاستتابة ثلاثًا، فإن تاب وإلا قتل. قال: (ولا تعذبوا بعذاب الله) أي فلا تحرقوا بالنار (رواه البخاري) قال الشيخ: إذا أسلم المرتد عصم دمه وماله، وإن لم يحكم بصحة إسلامه حاكم باتفاق الأئمة، بل مذهب أحمد المشهور عنه وأحد قولي أبي حنيفة والشافعي، أن من شهد عليه بالردة فأنكر حكم بإسلامه، ولا يحتاج أن يقر بما شهد به عليه، بل بين تعالى أنه يتوب على أئمة الكفر. (وعن معاذ بن جبل) رضي الله عنه (في رجل أسلم ثم تهود) قال الحافظ لم أقف على اسمه، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا موسى إلى اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه إذا عند رجل موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًا فأسلم ثم تهود؛ فقال معاذ (لا أجلس حتى يقتل) وذلك أنا أبا موسى وضع له وسادة وقال: أنزل. فأبى حتى يقتل (قضاء الله

ورسوله) وفي رواية لأحمد: قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه، ولأبي داود أن أبا موسى دعاه عشرين ليلة أو قريبًا منها، فجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه، ولفظ الصحيحين وغيرهما (فأمر به فقتل متفق عليه) وتقدم حكاية الإجماع على قتل المرتد عن الإسلام، واختلفوا في استتابة من تكررت ردته، وفي الزنديق وهو المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ومذهب مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وأحمد أنه يقتل بكل حال، لفساد عقيدته، وقلة مبالاته بالإسلام. (وقال عمر) بن الخطاب رضي الله عنه لما أتاه رجل من قبل أبى موسى، في رجل كفر بعد إسلامه – ما فعلته؟ قالوا: قربناه فضربنا عنقه. فقال عمر (فهلا حبستموه) ثلاثًا وأطعمتموه كل يوم رغيفًا (واستتبتموه) لعله يتوب ويراجع أمر الله، اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني؛ رواه مالك والشافعي، وللبيهقي قال عمر: يا أنيس ما فعل الستة الرهط من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين قال: يا أمير المؤمنين قتلوا بالمعركة فاسترجع قلت: وهل كان سبيلهم إلا القتل؟ قال: نعم كنت أعرض عليهم الإسلام، فإن تابوا وإلا أودعهم السجن. فدل خبر عمر مع ما تقدم على استتابة المرتد، وهو قول الجمهور وحكي إجماعًا سكوتيًا، لأن عمر كتب في أمر المرتد، هلا حبستموه ثلاثة أيام، وخبر "من بدل دينه فاقتلوه" وللآية

المتقدمة وغيرها، فكأن الصحابة فهموا من الخبر وغيره إن لم يرجع لقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا} وغيرها. وعلى هذا فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف مختار، رجل أو امرأة، دعي إليه ثلاثة أيام، وضيق عليه وحبس لعله أن يتوب ويراجع، فإن أسلم لم يعزر، وإن لم يسلم قتل بالسيف، إلا رسول كفار فلا يقتل للخبر، ولا يقتل المرتد إلا إمام أو نائبه. وتوبة المرتد وكذا كل كافر بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لقصة اليهودي وغيره، ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه فتوبته إقراره بالمجحود به أو براءته من كل دين يخالف دين الإسلام. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما قال (إن أعمى كانت له أم ولد) أي غير مسلمة (تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم -) تسبه (وتقع فيه) أي تعيبه وتذمه (فينهاها فلا تنتهي) وفي لفظ: يزجرها فلا تنزجر والمراد أنه يمنعها فلا تمتنع (فلما كان ذات ليلة) أي لما كان الأمر في ذات ليلة (أخذ المعول) بكسر فسكون المهملة سيف قصير يشتمل به الرجل تحت ثيابه، أو حديدة دقيقة لها حد ماض (فجعله في بطنها واتكأ عليه) أي تحامل عليه (فقتلها) من أجل شتمها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألا اشهدوا) أي على ما أحكم به (أن دمها هدر) باطل لا قصاص

فيه ولا دية (رواه أبو داود) والنسائي وغيرهما، وقال الحافظ رواته ثقات. فدل الحديث على أن من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتل، أما إذا فعل ذلك المسلم فقال الخطابي: لا أعلم فيه خلافًا وأما الذمي فإنه إذا لم يكف لسانه عن الله ورسوله فلا ذمة له؛ فيحل قتله، وكذا من سب نبيًا أو رسولاً أو ملكًا، لما تقدم، وقال الشيخ: من سب الصحابة أو أحدًا منهم أو اقترن بسبه دعوى أن عليًا إله أو نبي أو أن جبرائيل غلط، فلا شك في كفره. (وعن جندب) بن عبد الله رضي الله عنه (مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «حد الساحر ضربه بالسيف» وجاء من طريق آخر أن جندب الخير جاء إلى ساحر فضربه بالسيف، وقال: سمعت رسول الله، الحديث (رواه الترمذي) وروي من حديث بريدة «حد الساحر ضربة واحدة» وبهذا الحديث أخذ أبو حنيفة ومالك وأحمد، وقال الشافعي: إن عمل ما يبلغ به الكفر، وقول الجمهور أسعد بالدليل. (وكتب عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، رواه البخاري) عن بجالة بن عبدة، وزاد فيه قال: فقتلنا ثلاث سواحر، وقال أحمد: صح عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني عمر وجندب وحفصة، فإنها أمرت

بقتل جارية لها سحرتها، والسحر عقد ورقي وكلام يتكلم به فاعله أو يكتبه، أو يعمل شيئًا يؤثر في بدن المسحور، أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له، وله حقيقة، فمنه ما يقتل ومنه ما يمرض ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه كما تقدم، وتعلمه وتعليمه وفعله حرام بلا نزاع، ويقتل الساحر المسلم، ومعتقد حله لا ذميًا إلا أن يقتل بسحره. ويحرم طلسم، وهو خطوط وكتابة يستعملها الساحر يزعم أنها تدفع عنه كل مؤذ، ورقية بغير العربية، قال الشيخ: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به، ولو عرف معناه وجعل الألفاظ الأعجمية شعارًا ليس من دين الإسلام. (ولهما عن ابن عمر) رضي الله عنه (مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (أمرت أن أقاتل الناس) أي المشركين منهم (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) والمراد العلم بمعناها، والعمل بمقتضاها (وأن محمدًا رسول الله) ومن قال: إنه مسلم ولم ينطق بالشهادتين لم يحكم بإسلامه {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} فهما ركنان لا يستقيم إسلام العبد إلا بهما (فإذا فعلوا ذلك) أي شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة (عصموا مني دماءهم وأموالهم) فلا يحل قتالهم حتى يأتوا بمناف للشهادتين (إلا بحق الإسلام) وهو التزام شرائعه قال أبو بكر: لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على ذلك.

ولأحمد من حديث ابن مسعود في قصة اليهودي الذي يقرأ التوراة حتى أتى على صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته وقال هذه صفتك وأمتك أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله فقال: «آووا أخاكم» ومن كانت ردته بجحد رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى غير العرب، فلا بد أن يشهد أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الناس كافة، ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه فتوبته مع الشهادتين إقراره بما جحده من ذلك، وإن قال: أنا مسلم، ولا أنطق بالشهادتين لم يحكم بإسلامه، وإن أسلم المرتد وإلا صار ماله فيئًا من موته مرتدًا. ومن جحد عبادة من الخمس أو حكمًا ظاهرًا مجمعًا عليه إجماعًا قطعيًا كفر، ومن جحد شيئًا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها، أو شيئًا من الحلال المجمع عليه ومثله لا يجهله كفر، لمعاندته الإسلام، وامتناعه من التزام أحكامه، وعدم قوله لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإجماع الأمة وإن كان مثله يجهله عرف حكم ذلك ليرجع عنه، قال الشيخ أو ترك إنكار منكر بقلبه.

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة جمع طعام وهو ما يؤكل ويشرب، قال تعالى في النهر {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} والأصل في الأطعمة الحل، وقال الشيخ للمسلم، لأن الله أحل الطيبات لمن يستعين بها على طاعته لا على معصيته، لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فلا يستعان بالمباح على الفواحش، كمن يعطي الخبز واللحم لمن يشرب عليها الخمر، ويستعين بها على الفواحش، ومن أكل من الطيبات ولم يشكر فمذموم قال تعالى: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} أي عن الشكر عليه. (قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ}) لأجل انتفاعكم {مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} مطعومًا كان أو مشروبًا أو غيرهما لما إحتج تعالى على وجوده وقدرته، وأنه الخالق المتصرف المحيي المميت، قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} تشاهدون ذلك، ولكي تعتبروا وتستدلوا ولكي تنتفعوا بما خلقه لكم فيها. (وقال) تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} لما بين تعالى

أنه لا إله إلا هو وأنه المستقل بالخلق والتدبير، بين أنه الرازق لجميع خلقه، وذكر في مقام الامتنان على خلقه أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض، في حال كونه حلالاً من الله طيبًا أي مستطابًا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول، ولمسلم " يقول الله إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال " وفي طيب المطعم أحاديث كثيرة، وتأثيره عظيم في صفاء القلب، واستجابة الدعاء وغير ذلك وأكل الحرام ضرره عظيم، وأي لحم نبت على الحرام فالنار أولى به، ولو دعا لم يستجب له، كما تواترت بذلك الأخبار. ثم قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي في تحريم ما أحل الله وغيره {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تنفير وتحذير منه، وفي صحيح مسلم " يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما حللت لهم " قيل نزلت هذه الآية في الذين حرموا على أنفسهم ما أباح لهم الله من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، إلى أن قال تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} من تحريم الحلال من الطيبات وغير ذلك، وقال الوزير: اتفقوا على أن ما لا يحتاج من الأطعمة إلى ذكاة كالنبات وغيره من الجامدات والمائعات، فإنه يحل أكله ما لم يكن نجسًا بنفسه أو مخالطا لنجس أو ضارًا اهـ. أي كالسم ونحوه لقوله: {وَلَاتُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.

(وقال) تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} ما يصاد منه طريًا مما لا يعيش إلا في الماء في جميع الأحوال (وطعامه) أي ما يتزود منه يابسًا مالحًا، أو ما لفظ ميتًا، وقال ابن عباس صيده ما أخذ منه حيًا، وطعامه ما لفظه ميتًا، وقال أبو بكر: طعامه كل ما فيه، ثم قال تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} أي منفعة وقوتًا لكم أيها المخاطبون، والمراد بالبحر جميع المياه. واستثنى بعض أهل العلم الضفدع ويأتي، والسرطان، وذكر البغوي أن غير السمك قسمان، قسم يعيش في البر كاضفدع والسرطان، فلا يحل أكله، وقسم لا يعيش في البر إلا عيش المذبوح، وذكر منه حية الماء، وهي على شكل حية، قال: وأكله مباح بالاتفاق، وذكره قول أبي بكر وعمر وغيرهما، ومالك وظاهر مذهب الشافعي، واستثنى أخرون التمساح والحية، لأن التمساح ذو ناب، والحية مستخبثة. (وقال) تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} أي ويحل الرسول - صلى الله عليه وسلم - للذين يتبعونه، ما كان أهل الجاهلية حرموه على أنفسهم، من البحائر والسوائب والوصائل والحام، ونحو ذلك مما ضيقوا به على أنفسهم، وما حرم عليهم في التوارة من لحوم الإبل والشحوم وغير ذلك، من الطيبات، وكل ما أحل الله من المأكل والمشرب فهو طيب نافع في البدن والدين، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وقال - صلى الله عليه وسلم - ‘" إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين " فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ

الطَّيِّبَاتِ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}. وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وقال - صلى الله عليه وسلم - " وما سكت عنه فهو عفو " ثم قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} كالميتة والدم ولحم الخنزير والزنى وغير ذلك من المحرمات، وكل ما حرم الله فهو خبيث ضار في البدن والدين، ثم قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فقد جاءنا صلوات الله وسلامه عليه بالتيسير والسماحة، وقال: " بعثت بالحنيفية السمحة " وكانت الأمم قبلنا في شرائعهم ضيق، فوسع الله على هذه الأمة ببركة نبيها - صلى الله عليه وسلم -، {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في الدنيا والآخرة. فدلت الآية على أن الله تعالى أحل لنا الطيبات، وهي كل طيب من المطاعم والمشارب والملابس والفروج، وحرم الخبائث كالميتة والدم ولحم الخنزير والنجاسات، وما لم يرد فيه نص تحريم أو تحليل، وكان مما أمر الشرع بقتله كالفواسق، أو نهى عن قتله كالنحلة والنملة فهو حرام، وقال بعض أهل العلم: وما سوى ذلك فالمرجع فيه إلى الأغلب من عادات العرب، فما يأكله الأغلب منهم فحلال، وإلا فحرام لأن الله خاطبهم بهذه الآية فما استطابوا حلال.

وقال الشيخ: وعند أحمد وقدماء أصحابه لا أثر لاستخباث العرب، وأن ما يحرمه الشرع حلال، واختاره وقال: أول من قال يحرم الخرقي، ولعل مراده ما يأكل الجيف، لأن الشافعي حرمه بهذه العلة، قال الشيخ: وما يأكل الجيف فيه روايتا الجلالة، وعامة أجوبة أحمد ليس فيها تحريم. (وقال) تعالى: (قل) أي يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} أي لا أجد شيئًا مما حرمتم على أنفسكم حرامًا {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} أي آكل يأكله {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} وهي ما مات حتف أنفه من غير ذكاة ولا اصطياد، لما فيها من المضرة من الدم المحتقن، فهي ضارة للدين وللبدن، ولهذا حرمها الله عز وجل، ويستثني من ذلك الجراد والحوت. ثم قال: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} يعني مهراقًا سائلاً، وجاء عن ابن عباس إنما حرم عليكم الدم المسفوح، وعن عائشة إنما نهي عن الدم السافح، وقال ابن عباس أيضًا: يريد ما خرج من الحيوان وهن أحياء، وما خرج من الأوداج عند الذبح، ولا يدخل فيه الكبد والطحال، لأنهما جامدان، وقد جاء الشرع بإباحتهما، ولا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل. وقال الشيخ: إنما حرم الله الدم المسفوح المصبوب الهراق، فأما ما يبقى في عروق اللحم فلم يحرمه أحد من

العلماء (أو لحم خنزير) أي وحرم عليكم لحم الخنزير، وهو حيوان خبيث، حرم على لسان كل نبي، (فإنه) أي لحم الخنزير (رجس) حرام (أو فسقًا) عطف على لحم خنزير {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ} صفة له موضحة لتوغله في باب الفسق، أو هو ما ذبح على غير اسم الله. وجمهور أهل العلم على أن التحريم لا يختص بهذه الأشياء، بل المحرم بنص الكتاب ما ذكر هنا، وقد حرمت السنة أشياء يجب القول بها مما سيأتي وغيره. (وعن سلمان) الفارسي رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن السمن) وهو ما يخرج من اللبن بالمخض (والجبن) وهو ما يجمد من اللبن (والفراء) وهو حمار الوحش، صيد معروف (فقال: الحلال) أي ما جعله الله لنا حلالاً هو (ما أحل الله في كتابه) ضد ما حرمه (والحرام ما حرمه الله في كتابه) كالميتة والدم ولحم الخنزير وغيرهما مما حرمه الله (وما سكت عنه) فلم يحرمه (فهو مما عفا لكم، رواه الترمذي) والحاكم وغيرهما وفيه مقال، وله شواهد تدل على حصر التحريم والتحليل على الكتاب العزيز، وهو باعتبار اشتماله على جميع الأحكام، ولو بطريق العموم أو الإشارة، أو باعتبار الأغلب، لحديث "أوتيت القرآن ومثله معه" وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}.

فكل ما لم يبين الله ولا رسوله تحريمه من المطاعم والمشارب والملابس والعقود والشروط فلا يجوز تحريمها، فإن الله قد فصل لنا ما حرم علينا، فما كان من هذه الأشياء حرامًا فلا بد أن يكون تحريمه مفصلاً، وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرم الله فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا الله عنه ولم يحرمه، فيباح كل طاهر لا مضرة فيه، وقال الوزير: اتفقوا على أن ما لا يحتاج من الأطعمة إلى ذكاة كالنبات وغيره من الجامدات والمائعات، فإنه يحل أكله، ما لم يكن نجسًا بنفسه أو مخالطًا لنجس أو ضارًا أي كسم ونحوه وتقدم. (وعن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لحوم الحمر الأهلية) وفي لفظ الإنسية وفي رواية أنه وجد القدور تغلي بلحمها فأمر بإراقتها، وقال: "لا تأكلوا من لحومها شيئًا" وفي رواية "إنها رجس" وتقدم ما يدل على تحريم لحوم الحمر الأهلية، وهو مذهب جمهور العلماء، وما روي في خلاف ذلك لا يلتفت إليه مع صريح النهي من الشارع، ومنه إن الله ورسوله ينهيانكم عنها، وإنها رجس من عمل الشيطان" وقال ابن المنذر: لا خلاف اليوم بين أهل العلم في تحريمها، ومفهومه حل الحمر الوحشية، وهو إجماع ثم قال: (وأذن في لحوم الخيل متفق عليه) وللترمذي وصححه: أطعمنا لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر، فدل الحديث أيضًا على تحريم لحوم الحمر الأهلية، وحل لحوم الخيل.

(ولهما عن أسماء) بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: (ذبحنا فرسًا) وفي لفظ: نحرنا، وتقدم أن النحر في اللبة، والذبح قطع الأوداج في غير الإبل، وفي الكتاب العزيز {فَذَبَحُوهَا} وثبتا في السنة، والجواز مذهب الجمهور (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلناه) ولأحمد "نحن وأهل بيته" وورد فيها غير ذلك، فدل الحديثان وغيرهما على حل لحوم الخيل، وقال عطاء لابن جريج: لم يزل سلفك يأكلونه، قال ابن جريج: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "نعم"؛ ولم يثبت ما نقل عن ابن عباس في كراهتها، لاستدلاله بقوله {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية، وخالف أبا حنيفة صاحباه في كراهتها، فالجمهور على حلها للأخبار المتواترة في ذلك، وما تولد بين حمار وحشي وفرس فهو بغل حلال، بخلاف المتولد بين حمار إنسي وفرس فحرام. (ولهما) أي البخاري ومسلم أيضًا (عن أبي موسى) الأشعري رضي الله عنه قال (رأيته - صلى الله عليه وسلم - يأكل لحم دجاج) فدل الحديث على حله، ولا نزاع فيه، وفي الحديث قصة، وذلك أن رجلاً امتنع منه وحلف فأخبره أبو موسى بذلك. (وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه قال: أنفجنا أرنبًا وهي دويبة معروفة تشبه العناق، رجلاها أطول من يديها –بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا، فأدركتها فأخذتها فأتيت بها أبا

طلحة فذبحها قال: و (بعث أبو طلحة) زيد بن سهل الأنصاري إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بورك أرنب) الورك هو ما فوق الفخذ (وفخذها فقبله متفق عليه) ولفظ أبي داود: صدت أرنبًا فشويتها، فبعث معي أبو طلحة بعجزها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فدل الحديث على جواز أكل الأرنب، وهو إجماع إلا ما روي عن عبد الله بن عمر وأبي حنيفة، لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأكلها، وأمر أصحابه أن يأكلوها، ولا يدل على الكراهة لو صح، فما فعله - صلى الله عليه وسلم - لا كراهة فيه، ما لم ينسخ أو يكن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وقال النووي: أكلها حلال عند الأئمة الأربعة والعلماء كافة إلا ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه. (ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال أكل الضب) دويبة معروفة أكبر من الحرذون يقال إنه يعيش طويلا، حنذ ووضع (على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وذلك أنه لما أخبر به رفع يده، وفيه قال خالد: أحرام؟ قال: "لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه) قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر فلم ينهني ولمسلم من حديث ابن عمر "كلوا فإنه حلال" فدل الحديث على أن الضب حلال، وهو إجماع إلا ما روي عن بعض الحنفية من كراهته، وقال النووي: لا يصح كراهته عن أحد، وإن صح فمحجوج بالنصوص، وإجماع من قبله، وكونه - صلى الله عليه وسلم - عافه لا ينافي كونه لا يعيب طعامًا قط، لأن عدم العيب إنما هو فيما صنعه، وما ذكر أنه

مسخ فثبت أن الممسوخ لا عقب له. (وعن ابن أبي عمارة) واسمه عبد الرحمن بن عبد الله، وثقه النسائي وغيره (قلت لجابر) بن عبد الله رضي الله عنه (الضبع صيد) أي صيد حلال، يحل أكله والواحد هو الذكر والأنثى ضبعان وتقدم (قال: نعم) أي هو صيد (قلت: آكلها، قال: نعم) أي فهي حلال (قلت: قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم) أي قال هي صيد حلال (رواه الخمسة، وصححه الترمذي) والبخاري وابن حبان وغيرهم، ولفظ أبي داود عن جابر قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضبع، فقال: "هي صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم" ولأحمد من حديث جابر أمرنا بأكل الضبع، واحتج به أحمد. والحديث وغيره دليل على جواز أكل الضبع، وهو مذهب الشافعي وأحمد لهذا الحديث وغيره، وقال الشافعي مازال الناس يأكلونها ويبيعونها بين الصفا والمروة من غير نكير، وقال الشيخ: مباحة عند الجماهير مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ل قوله "إنها صيد وأمر بأكلها" اهـ. ولأن العرب تستطيبه وتمدحه، واستدل من منع منه بحديث: "كل ذي ناب من السباع" وجميع أسنانها عظم واحد، كصفيحة نعل الفرس، فلا يدخل في عموم النهي، وقال ابن القيم: إنما حرم ما له ناب من السباع العادية بطبعها كالأسد، وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين وهو كونها ذات ناب، وليست من السباع العادية

والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية، التي تورث المغتذي بها شبهها، ولا تعد الضبع من السباع، لا لغة ولا عرفًا. (وتقدم) أي في باب محظورات الإحرام من حديث أبي قتادة في قصة صيده الحمار الوحشي (أمره) أصحابه (بالأكل من الحمار الوحشي) قال أبو قتادة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه –وكانوا محرمين- " هل منكم أحد أمره أو أشار إليه؟ فقالوا: لا، قال: "فكلوه" والحديث متفق عليه ولا نزاع في حله. (وعن ابن أبي أوفى) رضي الله عنه (قال غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد، وهو معروف والواحدة جرادة (متفق عليه) وتقدم قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} واستثناء الجراد والحوت منها، والحديث دليل على حل الجراد وهو إجماع وللبخاري، نأكل الجراد معه، ولابن ماجه كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهادين الجراد في الأطباق. (وعن ابن عمر) رضي الله عنه (مرفوعًا) أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أحلت لنا ميتتان ودمان» وأخرجه ابن مردويه وغيره بلفظ "يحل من الميتة اثنتان، ومن الدم اثنتان" (أما الميتتان" أي المحللتان (فالجراد) واحدته جرادة وسمي بذلك لأنه يجرد الأرض من النبات، (والحوت) السمك، وقد غلب في الكبير منه. والجمهور على إباحة ميتة البحر، سواء ماتت بنفسها أو

ماتت بالاصطياد، وقال أبو بكر: الطافي على البحر حلال، ولا خلاف بين العلماء في حل السمك على اختلاف أنواع، لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وحديث "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" واستثنى الضفدع للخبر، والسرطان والتمساح ونحوه للاستخباث، والضرر اللاحق من السم، (وأما الدمان) أي المحللتان (فالطحال) لحمة معروفة كالغدة، لازقة في الجنب الأيسر من الحيوان (والكبد) معروفة من سائر الحيوان، وهما دمان مباحان (رواه أحمد) وابن ماجه والدارقطني وفيه مقال وصححه غير واحد موقوفًا وله حكم الرفع. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع) رواه البخاري، ولمسلم من حديث أبي ثعلبة " كل ذي ناب من السباع فأكله حرام" وله من حديث أبي هريرة نحوه، والناب السن خلف الرباعية جمعه أنياب، والسباع جمع سبع، وهو المفترس من الحيوان، قال ابن الأثير: نهى عن كل ذي ناب من السباع، وهو ما يفترس من الحيوان، ويأكله قهرًا وقسرًا، كالأسد والذئب والنمر ونحوه، وتقدم قول ابن القيم في اعتبار هذين الوصفين، وإسلام أبي هريرة بعد نزول: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} فالحديث مفسر ومبين لما حرم من السباع، وإليه ذهب جمهور العلماء، أبو حنيفة والشافعي وأحمد، وروي عن مالك الكراهة.

(و) نهى عن (كل ذي مخلب من الطير) المخلب بكسر الميم، وهو لما يصيد من الطير، قال النووي: وتحريمه مذهب الجمهور أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، وقال مالك يكره، والحديث (رواه مسلم) وغيره، وله نحوه من حديث أبي ثعلبة، وأبي هريرة، ولأحمد من حديث العرباض: "حرم يوم خيبر كل ذي مخلب من الطير" فاستفاضت السنة بالنهي عنه، والنهي يقتضي التحريم، وحكى بعض المالكية عن مالك مثل قول الجمهور، تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. وقال ابن القيم: وقد تواترت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وصحت صحة لا مطعن فيها، من حديث علي وابن عباس وأبي هريرة وأبي ثعلبة، وقال الشيخ: إن الغاذي شبيه بالمغتذي فيصير في نفسه من الظلم والعدوان بحسب ما اغتذى به اهـ. وما له مخلب يصيد به كالبازي والصقر والشاهين والباشق ونحوها فحرام، لهذه النصوص وغيرها. (زاد الترمذي من حديث جابر: ولحوم البغال) ولفظه: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني يوم خيبر- لحوم الحمر الإنسية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير" وسنده لا بأس به، وأصله في الصحيحين فدلت الأحاديث على تحريم ما ذكر، ومنها تحريم لحوم البغال، وهو

قول جمهور العلماء وروي عن الحسن خلافه، ولعله لم يبلغه النهي. (وله عنه) أي وللترمذي من حديث جابر (نهى عن أكل الهر) واسمه أيضًا السنور والقط، معروف وهو عند مسلم من حديث جابر أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن ثمن الكلب والسنور" وظاهر الأحاديث تحريم أكله، سواء كان أهليًا وفاقًا، أو وحشيًا عند الجمهور، وقد يقال؛ يعمها اللفظ ولأنه من ذوات الأنياب. وروي من طريق عيسى بن نميلة، وهو ضعيف أن أبا هريرة قال: ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - القنفذ، فقال: "خبيثة من الخبائث" فقال ابن عمر إن كان قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قال، وكرهه مالك وأبو حنيفة، ورخص فيه الشافعي، وقال بعض أهل العلم: الأصل الحل حتى يقوم دليل على الحرمة، وقيل أو يتقرر أنه مستخبث في غالب الطباع، وقال الشيخ حرم الله الخبائث من المطاعم إذ هي تغذي تغذية خبيثة، توجب للإنسان الظلم والعدوان. وقال الخبائث نوعان: ما خبثه لعينه ولمعنى قام به كالدم والميتة ولحم الخنزير، وما خبثه لكسبه، كالمأخوذ ظلمًا، أو بعقد محرم كالربا والميسر فالأول كل ما حرم ملامسته كالنجاسات حرم أكله، وليس كل ما حرم أكله حرم ملامسته كالسموم.

(وعن عبد الرحمن) بن عثمان بن عبد الله (التيمي) القرشي ابن أخي طلحة بن عبيد الله الصحابي، قيل إنه أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وليست له رؤية، أسلم يوم الفتح، وقتل مع ابن الزبير رضي الله عنهما، قال: (إن طبيبا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الضفدع) بزنة الخنصر، مائية معروفة (يجعلها في دواء) أي يجعل لحمها مع أشياء ترياقًا وكذا شحمها (فنهى عن قتلها، رواه أحمد) وصححه الحاكم، ورواه أبو داود والنسائي والبيهقي بلفظ: ذكر طبيب عند النبي - صلى الله عليه وسلم - دواء، وذكر الضفدع يجعلها فيه، فنهى عن قتل الضفادع، وللبيهقي أيضًا من حديث ابن عمرو: "لا تقتلوا الضفادع، فإن نقيقها تسبيح" وقال: إسناده صحيح، وهو دليل على تحريم قتل الضفادع، وتحريم أكلها، والتداوي بها، وفي الإنصاف محرمة بلا خلاف أعلمه. (وتقدم) أي في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها (قوله - صلى الله عليه وسلم -: خمس فواسق) فلا حرمة لهن بحال لفسقهن (يقتلن في الحل) ضد الحرم (و) يقتلن في (الحرم) وهو الذي لم يحل انتهاكه بقتل صيد ونحوه، ولفظه "الغراب والفأرة والعقرب والحدأة والكلب العقور" فدل الحديث على أن هذه الخمس محرمة، لأنه أباح قتلها في الحرم، ولا يجوز قتل صيد مأكول في الحرم، فدل على حرمتها، وسميت فواسق لخبثها، ولخروجها عن خلق معظم الحشرات ونحوها، بزيادة الضرر والأذى، فأما الغراب فالمراد منه ما يأكل الجيف، كالأبقع والغداف، والأسود.

الكبير لا غراب الزرع، والفأرة دويبة في البيوت معروفة، والعقرب وفي لفظ "والحية" مكان الفأرة والحدأة بكسر الحاء وفتح الدال وهي أيضًا من الجوارح. والكلب العقور وهو كل سبع يعقر أي يجرح ويقتل ويفترس كالأسد والنمر والذئب وغلب اسم الكلب على الحيوان النابح، وإلا فالكلب يقع على كل سبع يعض، وقال أبو المعالي: الأمر بقتل الكلاب منسوخ، وصح أنه أمر به ثم نهى عنه، واستقر الشرع على التفصيل، مثل إن كان عقورًا، وأمر بقتل الأسود البهيم، وهو في الابتداء، وهو الآن منسوخ، قال النووي: ولا مزيد عليه واتفقوا على أنه يحرم اقتناء الكلب لغير حاجة مثل أن يقتني كلبًا إعجابًا بصورته أو للمفاخرة فهذا حرام بلا خلاف وحكاه الوزير وغيره. والترخيص لثلاثة: الزرع والماشية والصيد، وهذا جائز بلا خلاف، وأما العقرب وكذا الحية فقال الشيخ: أكل الحيات والعقارب حرام مجمع عليه، فمن أكلها مستحلاً لها استتيب ومن اعتقد التحريم وأكلها فهو فاسق، عاص لله ورسوله. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل أربع من الدواب) وهن مما يدب من الحيوان، إحداهن (النملة) وحكي أن تحريمها إجماع، وذكر البغوي والخطابي أن المراد به السليماني لانتفاء الأذى منه، دون الصغير (والنحلة)

وهي نوع من الحيوان معروف، حريص على جمع الغذاء (والهدهد) وهو طائر معروف، ذو خطوط وألوان كثيرة، (والصرد) وهو طائر فوق العصفور (رواه أبو داود) ورواه أحمد، وصححه ابن حبان وقال البيهقي؛ هو أقوى ما ورد في هذه الباب، ورجاله رجال الصحيح، والحديث دليل على تحريم قتل الأربع المذكورة، ويؤخذ منه تحريم أكلها، لأنه لو حل لما نهى عن القتل، وفي الرعاية: ويحرم الخفاش وهو الوطواط وقال أحمد: ومن يأكل الخفاش؟ (وعن أم شريك) القرشية العدوية رضي الله عنها (مرفوعًا) أنه (أمر بقتل الوزغ) جمعه أوزاغ وهو من الحشرات المؤذية، قال ابن عبد البر؛ مجمع على تحريمه وسام أبرص جنس منه وهو كباره (متفق عليه) زاد البخاري: "وكان ينفخ على إبراهيم عليه السلام" يعني في النار، لما جبل عليه من العداوة لنوع الإنسان ولمسلم من حديث أبي هريرة من قتله في أول ضربة كان له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك، حسب المبادرة بقتله. وقال الوزير: اتفقوا على أن حشرات الأرض محرمة إلا مالكًا فإنه كرهها (ونهى) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس، وابن عمر، وعمرو بن شعيب وغيرهم (عن أكل الجلالة) وهي الحيوان الذي يأكل العذرة، وكذا بيضها

(وألبانها، ورواه الخمسة) وسواء في ذلك الإبل والبقر والغنم والدجاج والأوز وغيرها، مما يلتقط العذرة، وجزم النووي وغيره أنه إذا كان أكثر علفها، وإن كان أكثر الطاهر فليست جلالة، وقيل الاعتداد بالرائحة والنتن، فإن تغير ريح مرقها أو لحمها أو طعمها أو لونها فهي جلالة,. والنهي حقيقة في التحريم، والأحاديث الواردة في ذلك ظاهرة في تحريم أكل لحم الجلالة وشرب لبنها ومتى علفت طاهرًا، فطاب لحمها حل، لأن علة النهي التغير، وقال الجمهور: لا تؤكل حتى تحبس أيامًا، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد يباح أكل لحم الجلالة وأكل بيضها وإن لم تحبس مع استحبابهم حبسها، وكراهيتهم لأكلها بدون حبسها وكذا عند الجميع أكل الثمار والزروع والبقول، وإن كان سقيها بالماء النجس، وقال الشيخ وابن القيم وغيرهما: أجمع المسلمون على أن الدابة إذا أعلفت بالنجاسة، ثم حبست وأعلفت بالطاهرات حل لبنها ولحمها، وكذلك الزروع والثمار إذا سقيت بالماء النجس، ثم سقيت بالطاهر، حلت لاستحالة وصف الخبث، وتبدله بالطيب اهـ. وكره بعض أهل العلم أكل تراب وفحم وطين وغدة وأذن قلب، وبصل وثوم ونحوهما ما لم ينضج بطبخ، وقال الخلوتي: كدخان ما لم يضر، فإن ضر حرم إجماعًا، وقال بحرمته جماعة من أتباع الأئمة وأهل الطب.

فصل في المضطر

فصل في المضطر أي في بيان حكم ما يباح للمضطر تناوله مما حرم عليه، كالميتة ومال الغير، والمضطر من أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء من ذلك، والأصل في إباحته له الكتاب والسنة والإجماع (قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} أي جهد في مجاعة تخمص لها البطون، والاضطرار الوقوع في الضرورة، والمخمصة خلو البطن من الغذاء، يقال رجل خميص البطن، إذا كان طاويًا خاويًا، أي فمن وقع في ضرورة فله تناول شيء من المحرمات التي ذكر الله في هذه الآية. وهي قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية أبيحت له لضرورة الحاجة إلى ذلك تفاديًا من الموت، أو مبادية (غير متجانف لإثم) أي غير مائل إلى إثم، أو منحرف إليه، أو مختار له، أي فأكل مما تقدم تحريمه، عليه لضرورته {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لا يؤاخذه بأكله. (وقال) تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ} بكسر النون أي أحوج وألجئ وأصابته الضرورة إلى تناول شيء مما حرم عليه من الميتة ونحوها (غير باغ) أي في غير بغي، وأصله قصد الفساد (ولا عاد) أي متعد والعدوان مجاوزة الحد، قال ابن عباس وغيره: غير باغ في الميتة، ولا عاد في أكله، بأن يتعدى حلالاً إلى حرام يجد عنه مندوحة، وقيل: غير مجاوز القدر الذي أحل له، ولا مقصر فيما أبيح له فيدعه، حتى قيل: من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكله ولم يشرب حتى مات دخل النار، وحتى قيل:

إنه عزيمة. وقال ابن القيم: الباغي الذي يبتغي الميتة مع قدرته على مباح غيرها، والعادي الذي يتعدى قدر الحاجة، وقال الشيخ: غير باغ ولا عاد، صفة لضرورة الباغي، الذي يبتغي المحرم مع قدرته على الحلال، والعادي الذي يتجاوز قدر الحاجة، كما قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} وهذا قول أكثر السلف، وهو الصواب بلا ريب. وقال: وليس في الشرع ما يدل على أن العاصي بسفره لا يأكل الميتة، ولا يقصر، ولا يفطر بل نصوص الكتاب والسنة عامة مطلقة، كما هو مذهب كثير من السلف، وهو مذهب أبي حنيفة، وأهل الظاهر، وهو الصحيح اهـ، فدلت الآيتان على إباحة المحرمات عند الاضطرار، حضرًا وسفرًا، لأنها مطلقة غير مقيدة، ولأن الاضطرار يكون في الحضر والسفر، ولفظ {فَمَنِ اضْطُرَّ} عام في كل مضطر وفسر بعضهم غير الباغي أنه غير الطالب ما ليس له طلبه، بأن يأخذ ذلك من مضطر آخر مثله {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} لا يؤاخذه بذلك. قال الشيخ: والمضطر يجب عليه أكل الميتة في ظاهر مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم، لا السؤال قال: وليس له أن يعتقد تحريمها حينئذ ولا يكرهها، وإباحتها له لأن مصلحة بقاء النفس مقدم على دفع تلك المفسدة، مع أن ذلك عارض لا يؤثر اهـ، ومن محاسن الشريعة تحريم الميتة لما فيها من خبث التغذية، فإن اضطر إليها أبيحت له، وانتفى وجه الخبث منها

حال الاضطرار؛ لأنه غير مستقل بنفسه في المحل المغتذى به، بل هو متولد من القابل والفاعل، فإن ضرورته تمنع قبول الخبث الذي في المغتذى به، فلم تحصل تلك المفسدة، لأنها مشروطة بالاختيار الذي به يقبل المحل خبث التغذي فإذا زال الاختيار زال شرط القبول، فلم تحصل المفسدة أصلاً. (وقال) تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وقبلها قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ *} فجمعوا بين سهوهم عن صلاتهم فأخروها عن وقتها، وبين المرءات، ومنع الماعون، كالدلو والماء والملح والنار، وغير ذلك مما تشتد الحاجة إليه، فلا هم أحسنوا عبادة ربهم، ولا أحسنوا إلى خلقه حتى ولو بإعارة ما ينتفع به ويستعان به، ومع بقاء عينه ورجوع إليهم، قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما: الماعون هو ما يتعاطاه الناس بينهم، ويتعاونونه، من الفأس والقدر والدلو وأشباه ذلك، وقال: كنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتحدث أن الماعون والدلو والفأس والقدر، لا يستغنى عنهن. وقال عكرمة: رأس الماعون الزكاة، وأدناه المنخل والدلو والإبرة، ويجمع ذلك ترك المعاونة بمال أو منفعة، حتى قال بعضهم: الماعون المعروف، وفي الحديث " كل معروف صدقة" وروي فيه أحاديث مرفوعة، فيكون محظورًا شرعًا، وكذا عقلاً واستدل بعض الفقهاء بعموم الآية، والتي قبلها على أن من لم يجد إلا طعام غيره، لزم صاحب الطعام بذل ما يسد رمق

المضطر، ما لم يكن ربه مضطرًا إليه، أو خائفًا فإن أبى رب الطعام، مع عدم ضرورته، فللمضطر أخذه منه، بالأسهل فالأسهل، فإن منعه فله قتاله، فإن قتل المضطر ضمنه رب الطعام، بخلاف عكسه، وإن منعه إلا بما فوق القيمة أخذه ولم يلزمه إلا القيمة. وقال الشيخ: إن كان فقيرًا فلا يلزمه عوض، إذ طعام الجائع، وكسوة العاري، فرض كفاية، ويصيران فرض عين على المعين، إذا لم يقم به غيره اهـ وإن بادر رب الطعام فباعه أو وهبه قبل الطلب صح، ويستحق المضطر أخذه من المشتري أو المتهب، وبعد الطلب لا يصح البيع، قال ابن رجب وغيره، في الأظهر قال الشيخ: وإذا وجد المضطر طعامًا لا يعرف مالكه، وميتة فإنه يأكل الميتة، إذا لم يعرف مالك الطعام، وأمكن رده إليه بعينه، وأما إذا تعذر رده إلى مالكه، بحيث يجب أن يصرف إلى الفقراء كالغصوب، والأمانات التي لا يعرف مالكها فإنه يقدم ذلك على الميتة. (وعن أبي واقد) الليثي رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا المخمصة فما يحل لنا من الميتة قال إذا لم تصطبحوا) أي تأكلوا صباحًا وهو أول النهار، وهو الغداء، معروف عند العرب (ولم تغتبقوا) أي تأكلوا عشية والصبوح والغبوق شرب اللبن أول النهار وآخره، ثم استعملا في الأكل للغداء والعشاء (ولم تحتفئوا) بكسر الفاء أي تظهروا

(بها بقلا فشأنكم بها) البقل، هو: ما ينبت في بزره، وشأنكم بها أي: عليكم بها، وقال الأزهري: أراد إذا لم تجدوا ألبنة تصطبحونها أو شرابًا تغتبقونه، ولم تجدوا بعد عدم الصبوح والغبوق بقلة تأكلونها، حلت لكم الميتة، قال وهو الصحيح، وفي حديث العامري، قال: «ما طعامكم؟» قلنا: نغتبق ونصطبخ" قال عقبة: قدح غدوة، وقدح عشية "قال: ذاك وأبي الجوع، فأحل لهم الميتة على هذه الحال". والآية المتقدمة دلت على أنه يجوز أكل المعتاد للمضطر في أيام عدم الاضطرار والجمهور إلى أنها الحالة التي يصل بها الجوع فيها إلى حد الهلاك، أو إلى مرض يفضي إليه، وتقدم بيان انتفاء الخبث في نحو الميتة عند الاضطرار، وقال ابن أبي حمزة: الحكمة في ذلك أن في الميتة سمية شديدة، فلو أكل ابتداء لأهلكته، فشرع له أن يجوع، ليصير في بدنه بالجوع سمية، هي أشد من سمية الميتة، والحديث (رواه أحمد) ورواه الطبراني ورجاله ثقات. (وله) أي الإمام أحمد وأبي داود بسند جيد (عن جابر) بن عبد الله رضي الله عنهما (أن أهل بيت كانوا بالحرة) أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود (فماتت عندهم ناقة) لهم أو لغيرهم ولأبي داود أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها ولم يجد صاحبها فمرضت: فقالت: امرأته انحرها، فأبى فنفقت فقالت:

اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها، ونأكله فقال: حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه فسأله، فقال: هل عندك غنى يغنيك، قال: لا (فرخص لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكلها، قال فعصمتهم بقية شتائهم أو سنتهم) فدل الحديث على جواز تناول المضطر من الميتة ما يكفيه، كما هو نص القرآن ولا خلاف في ذلك. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» متفق عليه وفيه «أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته» أي الغرفة التي يجمع فيها الطعام "فينتثل طعامه؟ وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم. ولأحمد من حديث اليثربي " لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه". فدل الحديث وما في معناه على أنه لا يحل أن يحلب ماشية غيره إلا بإذنه لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وبالغ حتى شبه ما في ضروع المواشي من اللبن بالمشربة، وفي حفظها لما فيها من الطعام، فكما أن هذه يحفظ فيها الإنسان طعامه، فتلك تحفظ له شرابه، وهو لبن ماشيته، وكما أن الإنسان يكره دخول غيره إلى غرفة طعامه لأخذه كذلك يكره حلب غيره لماشيته، فلا يحل الجميع إلا بإذن المالك، والجمع بينه وبين ما يأتي أن النهي

متناول للمحتلب غير الشارب، كالمتخذ خبنة من الثمار، وأحاديث الإباحة للمحتلب الشارب فقط. (وعن سمرة) رضي الله عنه (مرفوعًا إذا أتى أحدكم على ماشية) أي ليحلب ويشرب (فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه) وظاهره الجواز، سواء كان مضطرًا إلى الشرب، أو لا، لعدم تقييده بحد، ولا تخصيصه بوقت، ثم قال: (فإن لم يجب فليحلب، وليشرب ولا يحمل) فأجاز التناول للكفاية فقط، ومنع من الحمل، رواه أبو داود وغيره و (صححه الترمذي) وقال ابن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، وفي معناه أحاديث تشهد لصحته. (ولأحمد عن أبي سعيد نحوه) ولفظه "إذا مر أحدكم بإبل فاراد أن يشرب من ألبانها، فليناد: يا صاحب الإبل أو يا راعي الإبل، فإن أجابه وإلا فليشرب. (وقال في الحائط نحو ذلك) أي "إذا أتى أحدكم حائطًا فأراد أن يأكل فليناد: يا صاحب الحائط، ثلاثًا فإن أجابه وإلا فليأكل" ووراه ابن ماجه وأبو يعلى وابن حبان والحاكم، وغيرهم، قال ابن القيم: وذهب إلى القول بهما أحمد في إحدى الروايتين، والحديث الثالث عن ابن عمر، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة، وأنه يسوغ الأكل من الثمار، وشرب اللبن، لضرورة وغيرها، ولا ضمان عليه وهذا المشهور عن أحمد، وقالت طائفة: لا لضرورة، مع ثبوت العوض، وهو المنقول

عن الثلاثة، لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وخبر إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" وهذا أكل بإباحة الشارع. وقيل إن احتلب للحمل كان حرامًا، وهذا المنهي عنه، وإن كان للشرب فلا، ويدل عليه قوله في حديث عمرو بن شعيب " من أصاب منه من ذي حاجة، غير متخذ خبنة، فلا شيء عليه" ويدل على الجواز حديث عباد بن شرحبيل، ورافع ابن عمرو. فلأبي داود والترمذي وغيرهما من حديث أبي رافع كنت أرمي نخل الأنصار، فأخذوني فذهبوا بي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رافع لم ترم نخلهم؟» قلت: الجوع، قال «لا ترم، وكل ما وقع» صححه الترمذي، ولأبي داود من حديث شرحبيل نحوه، وقال لصاحبه "ما علمته إذ كان جاهلاً ولا أطعمته إذا كان جائعًا". وأبي سعيد الخدري: روى عنه من يميز حديثه مع أنه موافق لغيره، مما يدل على أنه محفوظ وأن له أصلاً، ولذلك صححه ابن حبان، قال المقبلي: ووجه موافقته للقانون الشرعي، ظاهر فيمن له حق الضيافة، كابن السبيل وفي ذي الحاجة مطلقًا، وسياقات الحديث تشعر بالاختصاص بمن هو كذلك، فهو المتيقن وأما الغني الذي ليس له حق الضيافة،

فصل في الضيف

فمشكوك فيه، فيبقى على المنع الأصلي اهـ، وهذه الأحاديث مخصصة لحديث ابن عمر ونحوه، وحديث: "ليس في المال حق سوى الزكاة" كما ورد في الضيافة، وسد رمق المسلم ونحوه. فصل في الضيف أي في بيان حكم الضيف، وضيافته، ومن تجب عليه، وله، والضيف يطلق على الواحد والجمع، وقد يجمع على أضياف وضيوف وضيفان، والضيف هو المجتاز بالقرى والأمصار وغيرها فتجب للمسلم المجتاز بالقرى دون الأمصار عند الأكثر، لأن الأمصار يكون فيها السوق والمساجد وغيرها، فلا يحتاج مع ذلك إلى الضيافة، بخلاف القرى فإنه يبعد فيها البيع والشراء، فوجبت ضيافة المجتاز بها، وإيواؤه لوجوب حفظ النفس، ودل على مشروعية الضيافة الكتاب والسنة. (قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ} أي هل جاءك يا محمد {حَدِيثُ} أي خبر {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} سموا ضيفًا لأنهم كانوا في صورة الضيف، ولأن الخليل حسبهم كذلك، وسماهم مكرمين، أي عند الله لقوله {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} أو عند الخليل حين أكرمهم بنفسه، وعجل لهم القرى، وقرئ (مكرمين) بالتشديد {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا} أي نسلم عليك سلامًا {قَالَ سَلَامٌ} أي عليكم سلام قيل: أي نحن وأنتم سلم و {قَوْمٌ

مُنْكَرُونَ} أي للسلام الذي هو علم الإسلام، أو لأنهم ليسوا ممن عهدهم من الناس، أو قاله لهم للتعرف. (فراغ إلى أهله) أي ذهب إليهم على خفية من ضيفه (فجاء بعجل) هو ولد البقرة (سمين) ممتلئ الجسد من الشحم واللحم (فقربه إليهم) وضعه لديهم، ففيه أن من إكرام الضيف أن يقدم له أكثر مما يأكل، وأن لا يوضع بموضع ثم يدعي إليه (قال ألا تأكلون) قيل عرض للأكل، وقيل إنكار لعدم تعرضهم للأكل، ولا ريب أنه تلطف وعرض حسن، وتضمنت هذه الآية آداب الضيافة. (وقال) تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} يقدمون المهاجرين على أنفسهم، فيما عندهم من الأموال {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} حاجة إلى ما عندهم، نزلت في الأنصاري الذي قدم للضيف قوته وعياله، والإيثار هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة النفس، والصبر على المشقة، قال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} أي من سلم من الحرص الشديد، الذي يحمله على ارتكاب المحارم {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. (وفي الصحيح) أي صحيح البخاري (عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه قال: أتى رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه، فلم يجد عندهن شيئًا فقال:

"ألا رجل يضيفه الليلة يرحمه الله" إلى آخر الحديث، وذلك (أنها نزلت في أبي طلحة) زيد بن سهل الأنصاري، يعني قوله (ويؤثرون على أنفسهم) قال أبو طلحة: أنا يا رسول الله؛ ثم (قال لامرأته) أم سليم بنت ملحان الأنصارية (هذا ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي نزل به وليس عنده ما يضيفه، لا تدخريه شيئًا. (فقالت: والله ما عندي) أي ليس لدي (إلا قوت الصبية) أي ما يقوت الصغار (فقال: نومي صبيانك) أرقديهم يقال: نومه فنام سكن (وأطفئي السراج) لئلا يروا ما يصنعون ونطوي بطوننا الليلة (وقدمي ما عندك) من القوت (للضيف) وهو يقال للمفرد وللجمع، والنازل بك (ونوهمه أنا نأكل) ليأكل والوهم ما يقع في القلب من الخاطر، وفيه "لقد عجب الله من فلان وفلانة في صنيعهما البارحة". (وله عنه) أي وللبخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه (في قصة قدح اللبن) وكان قد اشتد به الجوع فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرف ما به فدعاه، وإذا قحد لبن أهدي إليه فقال له: ادع أهل الصفة وأخذوا مجالسهم فقال: "خذ فاعطهم" فجعل يعطي الرجل منهم فيشرب حتى يروى، حتى انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال له) أي قال لأبي هريرة «اقعد فاشرب فشربت» أي من ذلك القدح (فقال اشرب فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا أجد له مسلكًا) قال: «فأرنيه» فأعطيته

القدح فحمد الله وأثنى عليه، وشرب الفضلة. ففي الحديث علم من أعلام النبوة، وتقديم أهل الصفة، فهم كالضيوف. (وعن أبي شريح) خويلد بن عمرو الخزاعي (مرفوعًا) على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ} يعني الإيمان الكامل، المنجي من عذاب الله {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي بيوم القيامة، المستعد المجتهد في فعل ما يدفع به أهواله، فيأتمر بما أمر الله به، وينتهي عما نهى عنه، ومن جملة ما أمر به قوله (فليكرم ضيفه) وهو القادم من السفر، النازل عند المقيم، ويطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى، والضيافة من مكارم الأخلاق، ومحاسن الدين، واستدل الجمهور بقوله (جائزته) أنها ليست واجبة، وفسروها بالعطية، والصلة التي أصلها على الندب وأن معناه الاهتمام بالضيف في اليوم والليلة (قالوا) يا رسول الله (وما جائزته؟ قال: يومه وليلته). والحديث دليل على وجوبها، لتأكد ذلك بقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر» فإن فعل خلاف ذلك، فعل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وفروع الإيمان مأمور بها، ثم تعليق ذلك بإكرام الضيف، وهو أخص من مطلق الضيافة، فدل على لزومها، ولغير ذلك مما يأتي وغيره، قال: (والضيافة أي القرى ثلاثة أيام) أي طعام الضيف وشرابه، ومسكنه وعلف دابته

(فما كان وراء ذلك فهو صدقة) أي معروف، إن شاء فعل، وإن شاء ترك، فصرح أن ما قبل ذلك واجب شرعًا (ولا يحل له أن يثوي) أي يقيم (عنده حتى يحرجه، متفق عليه) أي حتى يوقعه في الحرج وهو الإثم، لأنه قد يكدره، فيقول: هذا الضيف ثقيل، أو قد ثقل علينا بطول إقامته، أو يتعرض له بما يؤذيه، أو يظن به ما لا يجوز. قال النووي: وهذا محمول على ما إذا أقام بعد الثلاثة بغير استدعائه، وأما إذا استدعاه وطلب منه إقامته، أو علم أو ظن منه محبة الزيادة على الثلاث أو عدم كراهته فلا بأس بالزيادة لأن النهي إنما جاء لأجل كونه يؤثمه فلو شك لم يحل له. (ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن عقبة) بن عامر رضي الله عنه قال: 0قلت يا رسول الله إنك تبعثنا) في العمل (فننزل بقوم لا يقرونا) أي لا يضيفونا (فما ترى) أي أن نفعل إذا لم يضيفونا (فقال: إن نزلتم بقوم، فأمروا لكم بما ينبغي للضيف) أي من الإكرام بما لا بد منه من طعام وشراب، وما يلتحق بهما (فاقبلوا) أي ما ينبغي للضيف من القرى (وإن لم يفعلوا) أي فلم يقروكم (فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم). فدل على وجوب حق الضيف مع ما تقدم، وقيل هذا حيث لم يكن بيت المال، وقيل حيث كانت المواساة واجبة، والتأويل وتخصيص ما شرع الله لأمته لا يقبل إلا بدليل وليس

باب الذكاة

في هذه الأدلة ما يخالف القواعد الشرعية، لأن مؤونة الضيافة بعد شرعتها قد صارت لازمة على المضيف، لكل نازل عليه، فللنازل المطالبة بهذا الحق الثابت شرعًا كالمطالبة بسائر الحقوق، فإذا أساء إليه وأهمل حقه، كان له مكافأته بما أباح له الشارع. (ولأحمد من حديث المقدام) أبي كريمة (سمعته) يعني رسول اله - صلى الله عليه وسلم - (يقول: ليلة الضيف) أي ويومه (واجبة على كل مسلم فإن أصبح بفنائه) أي المتسع أمام الدار وما امتد من جوانبها (محرومًا) أي من الضيافة (كان دينًا له عليه، إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه) أي الأخذ بمثل قراه (وله أن يعقبهم بمثل قراه) فيأخذه، ورواه أبو داود وغيره، وإسناده على شرط الصحيح، وله أيضًا "أيما رجل استضاف قومًا، فأصبح الضيف محرومًا، فإن نصره حق على كل مسلم، حتى يأخذ بقرى ليلته، من زرعه وماله" وله شواهد، وقال أحمد له أن يأخذ من أرضهم وزرعهم ما يكفيه بغير إذنهم، وفي رواية عنه على أهل القرى دون الأمصار. باب الذكاة الذكاة تمام الشيء، ومنه الذكاة في السن، أي تمامه، وسمي الذبح ذكاة لأنه إتمام الزهوق، ويأتي قوله {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} أي أدركتموه وفيه حياة فأتممتموه، ثم استعمل في الذبح

سواء كان بعد جرح سابق أو ابتداء، والذكاة شرعًا: ذبح أو نحر مقدور عليه مباح أكله من حيوان يعيش في البر بقطع حلقوم أو مرئ، أو عقر إذا تعذر، قال الوزير: أجمعوا على أن ما أبيح أكله من الحيوان البري لا يستباح إلا بالذكاة، وأما البحري فما أبيح منه كالسمك فلا يحتاج إلى ذكاة، وأجمعوا على أن الذبائح المعتد بها ذبيحة المسلم العاقل، والمسلمة العاقلة القاصدين للتذكية، اللذين يتأتى منهم الذبح، وأن ذبائح أهل الكتاب العقلاء معتد بها. وقال الشيخ وغيره: يشترط قصد التذكية، فلو لم يقصد الأكل وقصد حل يمينه لم تبح. (قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وهي ما مات من الحيوان حتف أنفه، من غير ذكاة ولا اصطياد لما فيها من المضرة، مضرة الدم المحتقن، فهي ضارة للدين والبدن، فلهذا حرمها الله عز وجل، ويستثنى من الميتة السمك، فإنه حلال، سواء مات بتذكية، أو غيرها كما سيأتي (والدم) يعني المسفوح منه لقوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} وهو المصبوب المهراق، وكان أهل الجاهلية إذا جاع أحدهم، أخذ محددًا ففصد به بعيره أو حيوانًا غيره، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشويه ويأكله، فلهذا حرم، وأما الطحال والكبد فحلال للأخبار (ولحم الخنزير) إنسيه ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، كما هو المفهوم من لغة العرب، ومن العرف المطرد، فدل على شمول اللحم لجميع الأجزاء، من الشحم وغيره.

(وما أهل لغير الله به) أي ذبح فذكر عليه اسم غير الله، فهو حرام، لأن الله أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم، فمتى عدل بها عن ذلك، وذكر عليها اسم غيره، من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات فإنه حرام بإجماع المسلمين (والمنخنقة) وهي التي تموت بالخنق إما قصدًا وإما اتفاقًا بأن تتخبل في وثاقها فتموت به فهي حرام، وقال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، حتى إذا ماتت أكلوها. (والموقوذة) وهي التي تضرب بغير محدد، كخشب أو حجر أو غيرهما حتى تموت، قال بعض السلف: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي، حتى إذا ماتت أكلوها، ويأتي في باب الصيد "إذا أصابه بعرضه فهو وقيذ" فلا يحل بالإجماع، وما صدمه الجارح بثقله فلم يجرحه، فرجح ابن كثير وغيره عدم حله، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد قال: وهو أشبه بالصواب، لأنه أجرى على القواعد الأصولية، وأمس للأصول الشرعية واستدل بحديث " ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل" (والمتردية" وهي التي تتردى من مكان عال، أو في بئر فتموت. (والنطيحة) وهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرام، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم، ولو من مذبحها فعيلة بمعنى مفعولة، أي منطوحة، وإنما استعملت فيها تاء التأنيث لأنها أجريت مجرى الأسماء، أو لتدل على التأنيث (وما

أكل السبع) أي ما عدى عليها السبع فأكل بعضها فماتت بذلك، فهي حرام، وإن كان قد سال الدم من مذبحها فلا تحل بالإجماع، وكان أهل الجاهلية يأكلونه. (إلا ما ذكيتم) أي إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء، فذبحتموه، وفيه روح فكلوه فهو ذكي، وتقدم أن أصل التذكية الإتمام، ويقال: ذكيت النار إذا أتممت اشتعالها، والمراد هنا إتمام فري الأوداج وإنهار الدم، وأقل الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع المرئ والحلقوم، وكماله أن يقطع الودجين معهما، مع بقاء الحياة فيها مستقرة بأن تحرك بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح، فهي حلال، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، فأما متى صارت هذه الأشياء المذكورة في الآية إلى حالة المذبوح فهي في حكم الميتة، فلا تكون حلالاً وإن ذبحت، واعتبر بعضهم الحركة القوية. وقال الشيخ: إن خرج منه دم كعادة المذبوح حل، وقال بعد ذكر كلامهم في شروط تذكية المريضة ونحوها: الأظهر أنه لا يتشرط شيء من هذه الأقوال بل متى ذبح فخرج الدم الأحمر، الذي يخرج من الذكي في العادة، ليس هو دم الميت، فإنه يحل أكله، وإن لم يتحرك. (وما ذبح على النصب) قيل النصب جمع واحده نصاب، وقيل واحد وجمعه أنصاب، وهو الشيء المنصوب، قال:

قطرب: لأجل النصب، قال ابن جريج وغيره، وكانت النصب حجارة حول الكعبة ثلاث مائة وستون نصبًا كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم، ويضعونه على النصب، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله، فالذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. (وقال) تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} ذكر تعالى قبل هذه الآية ما أباحه لعباده، أن يأكلوا مما ذكر اسمه عليه، ومفهومه أنه لا يباح ما لم يذكر اسمه عليه، كما كان يستبيحه أهل الجاهلية، من أكل الميتة والمنخنقة والمقوذة والمتردية، ونحو ذلك، وما ذبح على النصب وغيرها، ثم قال: (وما لكم أن لا تأكلوا) أي وما يمنعكم أن تأكلوا {مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وهو ما تقدم في الآية قبلها، ثم نهاهم أن يأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ثم قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}. قال ابن القيم: وأما ذبيحة المجوسي والمرتد، وتارك التسمية، ومن أهل بذبيحته لغير الله، فنفس ذبح هؤلاء أكسب للمذبوح خبثًا، أوجب تحريمه، ولا ينكر أن يكون ذكر الأوثان والكواكب والجن على الذبيحة يكسبها خبثًا وذكر اسم الله

وحده يكسبها طيبًا، إلا من قل نصيبه من حقائق العلم والإيمان، وذوق الشريعة، وقد جعل الله ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح فسقًا، وهو الخبيث، ولا ريب أن ذكر اسم الله على الذبيحة يطيبها، ويطرد الشيطان عن الذابح والمذبوح فإذا أخل به لابس الشيطان الذابح والمذبوح، فأثر خبثًا في الحيوان اهـ. واستدل بعض أهل العلم بهذه الآية أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلمًا وهو رواية عن مالك وأحمد، وقيل مستحبة، وهو مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة وجماعة من السلف والخلف سقوط التسمية سهوًا لا عمدًا، لحديث عائشة: أن ناسًا قالوا يا رسول الله: إن قومًا حديثي عهد بجاهلية يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال: «سموا أنتم وكلوا» وقال ابن عباس إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل، فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله؛ وفي مراسيل أبي داود مرفوعًا، «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله». ونقل أبو الحسن في كتابه الهداية الإجماع قبل الشافعي على تحريم متروك التسمية عمدًا، حتى قالوا: لو حكم حاكم بجواز بيعه لم ينفذ، لمخالفته الإجماع، وتقدم الخلاف، وقال ابن جرير من حرم ذبيحة الناسي فقد خرج من جميع الحجة، وخالف

الخبر الثابت يعني " المسلم يكفيه اسمه" وفيه مقال، ومراده قول الجمهور، فإنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين مخالفًا لقول الجمهور فعده إجماعًا، ومما استدل به أصحاب هذا القول أن من تركها عامدًا لا تحل، وناسيًا تحل، قال المراد من الآية الميتات ونحوها، وما ذبح على غير اسم الله لقوله {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} والفسق في ذكر غير اسم الله كما في قوله {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ}. وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} وذلك أن المشركين قالوا: يا محمد تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؛ فنزلت هذه الآية {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في أكل الميتة {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} إن عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه، إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك، وهذه الآية تؤيد قول من قال إن المراد بالآية الميتات، وما ذبح على غير اسم الله. (وقال) تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث، الميتة والمنخنقة إلى آخر الآية، وما أحله لهم من الطيبات قال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} يعني الذبائح على اسم الله عز وجل، والآية عامة في جميع الطيبات ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ

لَكُمْ} أي ذبائحهم، وهذا بإجماع المسلمين أن ذبائحهم حلال للمسلمين لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه. قال ابن كثير: ولا يلزم من إباحة طعام أهل الكتاب إباحة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم، وهو متعبدون لذلك، ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك، ومن شابههم لأنهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة، بل يأكلون الميتة، بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة، ومن يتمسك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء، على أحد قولي العلماء، ونصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهرًا وجذام ولخم وعاملة، ومن أشبههم لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور، وأما المجوس فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعًا لأهل الكتاب، فإنهم لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم. وقال الشيخ: كل من يدين بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده قد دخل في دينهم، أو لم يدخل وسواء كان دخوله بعد النسخ والتبديل أو قبل ذلك، وهو المنصوص الصريح عن أحمد، وإن كان بين أصحابه خلاف، وهو الثابت عند الصحابة بلا نزاع بينهم، وذكر الطحاوي أنه إجماع قديم، وأجمعوا على أن ذبائح الكفار من غير أهل الكتاب غير مباحة.

وعن أحمد وغيره يحرم ما ذبحه أهل الكتاب لعيدهم، أو ليقربوه إلى شيء يعظمونه، ولو ذكروا اسم الله عليه، اختاره الشيخ، وقال ابن عقيل: يكون ميتة لقوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: لا يؤكل، وقال الشيخ: هذا أشهر نصوص أحمد إذا نوى بها التقرب إلى غير الله، وإن سمى الله عليها، وقال: يحرم ما ذبحه الكتابي لعيده، أو ليتقرب به إلى شيء يعظمه، نص عليه، وقال تعالى: {وَطَعَامُكُمْ} أي أيها المسلمون {حِلٌّ لَهُمْ} فيحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم، كما أكلتم من ذبائحهم وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة، وحديث: "لا تصحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي" محمول على الندب والاستحباب. (وقال) تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} أي ما يصاد منه طريًا وطعامه ما يتزود منه مليحًا يابسًا، والمراد بالبحر جميع المياه، مالحة كانت أو حلوة، وعن ابن عباس، صيده ما اصطيد وطعامه ما رمي به (وتقدم) أي حديث "أحلت لنا ميتتان ودمان" في كتاب الأطعمة "أما الميتتان فالجراد والحوت" فيحل بدون ذكاة بالاتفاق وكذا ما طفى منه، عند الجمهور، وكذا الدبا والجندب يحل بدون ذكاة، سواء مات بسبب كبسه، أو تغريقه، وهو قول عامة أهل العلم. (وقوله) أي وتقدم قوله "في البحر: هو الطهور ماؤه" يعني

في باب المياه (الحل ميتته) يعني السمك وتقدم أن الجمهور على إباحة ميتة البحر، سواء ماتت بنفسها أو ماتت بالاصطياد، وأنه لا خلاف في حل السمك، على اختلاف أنواعه، للآية واستثنى الضفدع للخبر، والسرطان والتمساح، ونحوه للاستخباث، والضرر اللاحق من السم. (وعن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: (ألقى البحر) أي طرح على جانبه (حوتًا) عظيمًا (ميتًا لم نر مثله) من حيتان البحر (يقال له العنبر) وهو حوت عظيم، قد يبلغ طوله ثلاثين ذراعًا، ضخم الرأس وله أسنان (فأكلنا منه نصف شهر) وقبله قال: غزونا جيش الخبط، وأميرنا أبو عبيدة، فجعنا جوعًا شديدًا فألقى البحر حوتًا، وفيه: فأخذ أبو عبيدة عظمًا من عظامه، فمر الراكب تحته (وذكرنا ذلك) أي ما وجدوا من الحوت (للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كلوا رزقًا) أي هذا الحوت (أخرجه الله لكم) "أطعمونا إن كان معكم" فأتاه بعضكم بشيء، فأكله (متفق عليه) فدل على حل حيتان البحر وإن طفت على جانبه. (ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن رافع) بن خديج رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدًا) لعله عرف ذلك بخبر أو قرينة وهم بصدد أن يغنموا منهم ما يذبحونه (وليس معنا مدي) جمع مدية وهي السكين، سميت بذلك لأنها تقطع مدي الحيوان أي عمره

(فقال: ما أنهر الدم) أي أساله وصبه بكثرة، من النهر سمي به لجريانه، أي فهو حلال (وذكر اسم الله عليه فكلوا) أي حلالاً فدل الحديث على اشترط إنهار الدم، واشتراط التسمية وعلق الأذان بمجموعهما والمعلق على شيئين لا يكتفي فيه إلا باجتماعهما، وينتفي بانتفاء أحدهما. (ليس السن) وهو العظم النابت في فم الحيوان (والظفر) مادة قرنية، تنبت في أطراف أصابع الحيوان، وفي لفظ "ما لم يكن سنًا أو ظفرًا، وسأحدثكم عن ذلك" (أما السن فعظم) أي ذلك عظم لا يحل الذبح به، ولعله قد تقرر كون الذكاة لا تحصل به، فاقتصر على قوله: "فعظم". قال النووي: أي لا تذبحوا بالعظم فإنها تنجس بالدم وقد نهيتم عن تنجيسها، لأنه زاد إخوانكم من الجن، وقال ابن القيم: هذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام إما لنجاسة بعضها، وإما على تنجيسه على مؤمني الجن، وقال ابن الجوزي: دل على أن الذبح بالعظم كان معهودًا عندهم أنه لا يجزئ وقررهم الشارع على ذلك. (وأما الظفر فمدى الحبشة) أي فسكين الحبشة، وهم قوم كفار، وقد نهيتهم عن التشبه بهم، وقيل لأن الذبح بهما تعذيب للحيوان، ولا يقع به غالبًا إلا الخنق، وتحريم الذبح بهما مذهب جمهور العلماء، وما روي عن أبي حنيفة مستدلاً بما روي "فر الدم بما شئت" فعلى تقدير صحته هو عوام مخصوص بحديث رافع وغيره، وقال الوزير: اتفقوا على أن الذكاة بالسن والظفر

المتصلين لا يجوز، وقال مالك والشافعي وأحمد والمنفصلين لا يجوز أيضًا وتقدم أن الذكاة تكون بالنحر للإبل وهو الضرب بالحديد في لبة البدنة حتى يفري أوداجها، والذبح لما عداها، وهو قطع الأوداج، وهما عرقان محيطان بالحلقوم، وتقع على الحلقوم والمريء، فسميت الأربعة أوداجًا واقتصر بعضهم على الثلاثة، وقال: المريء مجرى الطعام وليس به من الدم ما يحصل به إنهاره. وقال الشيخ: يقطع الحلقوم والمريء والودجان، والأقوى أن قطع ثلاثة من الأربع يبيح، سواء كان فيها الحلقوم أو لم يكن فإن قطع الودجين أبلغ من قطع الحلقوم، وأبلغ من إنهار الدم اهـ، وفيه أنه يجزئ محدد فيجزئ، السيف والسكين والحجر والخشبة والزجاج والقصب والخزف والنحاس وسائر الأشياء المحددة التي تنهر الدم، ويحصل بها القطع جرحًا وحكاه الوزير وغيره إجماعًا. (وللبخاري) وغيره (عن كعب) بن مالك رضي الله عنه (أن امرأة) كانت ترعى الغنم لكعب (ذبحت شاة بحجر) وذلك بحده لا بثقله (فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) عن حل ذبيحتها (فأمر بأكلها) فدل على صحة تذكية المرأة وهو قول جمهور العلماء، وفيه خلاف شاذ لا يلتفت له مع النص، ولا وجه له، ودل على صحة التذكية بالحجر الحاد إذا فرى الأوداج، لأنه جاء في رواية، أنها كسرت الحجر وذبحت به،

والحجر إذا كسر يكون فيه حد، ودل على جواز ذبح ما خيف، موته بغير إذن مالكه، وهو مذهب الجمهور، وعلى تصديق الأجير الأمين فيما اؤتمن عليه، حتى يتبين عليه الخيانة، فإن الأمة كانت راعية لكعب، فخشيت أن تموت فذبحتها. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن قومًا) أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه (قالوا: يا رسول الله إن قومًا) وقد دخلوا في الإسلام (يأتوننا باللحم) من الحيوانات المباحة (لا ندري أذكر اسم الله عليه) أي عند التذكية (أم لا) أو لم يذكروا اسم الله عليه عند ذكاته (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «سموا عليه أنتم وكلوا» أجاب - صلى الله عليه وسلم - السائل بغير ما يترقب كأنه يقول الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله عليه، وتأكلوا منه (قالت وكانوا حديثي عهد بكفر، رواه البخاري). وفي رواية: حديث عهدهم بالجاهلية؛ زاد مالك، وذلك في أول الإسلام؛ فدل الحديث على أنه لا يلزم أن تعلم التسمية فيما يجلب إلى أسواق المسلمين، ولا ما ذبحه الأعراب من المسلمين، لأنهم قد عرفوا التسمية، ولأن المسلم لا يظن به إلا الخير إلا أن يتبين خلاف ذلك. (ولمسلم) وغيره (عن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه قال (نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يقتل شيء من الدواب صبرًا) أي حبسًا، وهو إمساكه حيًا ثم يرمى به حتى يموت؛ ولمسلم وغيره أيضًا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا شيئًا

فيه الروح غرضًا» أي هدفًا ولعن من فعله. (وله) أي لمسلم أيضًا في صحيحه (عن شداد بن أوس) ابن ثابت النجاري، ابن أخي حسان، مات سنة ثمان وخمسين (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله كتب الإحسان» ضد الإساءة أي أوجب الإحسان (على كل شيء) من سائر الحيوانات (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) بكسر القاف، لتريحوا المقتول، وذلك من الإحسان به (وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) ليحصل راحة الذبيحة وخلاصها من الألم، والذبحة بالكسر ما يذبح من الحيوان، وبالفتح الفعل نفسه، فالإحسان يتناول الحسن شرعًا وعرفًا وذكر منه الإحسان في القتل لأي حيوان، بهيمي أو آدمي حتى في حد وغيره ثم وضع بعض كيفيته فقال: (وليحد أحدكم شفرته) بفتح الشين وسكون الفاء، أي سكينه، ولأحمد مرفوعًا "أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم" (وليرح ذبيحته) ويكون ذلك بإحداد السكين، والاتكاء عليها بقوة، وتعجيل إمرارها، وحسن الصنيعة في الذبح. قال النووي: ويستحب أن لا يحد السكين بحضرة الذبيحة وأن لا يذبح واحدة بحضرة أخرى، ولا يجرها إلى مذبحها وللدارقطني "ولا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق" أي لا تشرعوا في شيء من الأعمال المتعلقة بالذبيحة قبل أن تموت. وقال الشيخ: في هذا دليل على أن الإحسان واجب على كل حال، حتى في إزهاق النفس ناطقها وبهيمها فعلى

الإنسان أن يحسن القتلة للآدميين، والذبحة للبهائم اهـ. ولا يجوز الإحراق بالنار، لما روي «لا تعذبوا بالنار فإنه لا يعذب بها إلا ربها» فيحرم وقيل يحرم شيء: كل من السمك والجراد حيًا. (وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ذكاة الجنين ذكاة أمه، رواه الخمسة) وفي لفظ "ذكاة الجنين بذكاة أمه" وللبيهقي "في ذكاة أمه" معللاً بأن ذكاة الأم ذكاة له فإنه جزء من أجزائها، والذكاة قد أتت على جميع أجزائها وأجزاء المذبوح لا تفتقر إلى ذكاة مستقلة، وهذا هو القياس الجلي، لو لم يكن في المسألة نص، كيف وقد اتفق النص والأصل. وقال ابن القيم: من قال ذكاة أمه بالنصب فقوله باطل من وجوه والحديث له طرق وتكلم بعضهم فيه. وقال الجويني: لا يتطرق احتمال إلى متنه، ولا ضعف إلى سنده، وبمجموعها يحتج به، وصححه ابن حبان، وابن دقيق العيد، وفيه عن جماعة من الصحابة ما يؤيد العمل به، والجمهور على أنه إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتًا بعد ذكاتها فهو حلال، مذكى بذكاة أمه. وقال ابن المنذر: لم يرو عن أحد من الصحابة ولا من العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه، إلا ما يروى عن أبي حنيفة، وذلك لصراحة الحديث فيه أنه يحل بذكاة أمه مطلقًا سواء خرج حيًا أو ميتًا، وقال: كان الناس على إباحته، لا نعلم أحدًا منهم خالف ما قالوه

باب الصيد

إلى أن جاء النعمان فقال: لا يحل، واتفقوا على أنه إن خرج حيًا يعيش مثله لم يبح إلا بالذبح. (وعن رافع) بن خديج رضي الله عنه (قال: ند بعير) أي نفر من إبل القوم وكانوا في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن معهم خيل (فرماه رجل بسهم) السهم النبل) ونبله رماه به (فحبسه) أي أصابه السهم فوقف (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لهذه البهائم أوابد) أي توحشًا (كأوابد الوحش) أي شديد الهرب من حيوان البر (فما فعل منها هذا) أي فما ند منها كما يند أوابد الوحش (فافعلوا به هكذا) متفق عليه. فدل على جواز أكل ما رمي بالسهم فجرح في أي موضع كان من جسده، بشرط كونه متوحشًا كما نص عليه الشارع، أو كان وحشيًا، وهو مذهب الجمهور، وقالوا فيما إذا وقع بعير أو بقرة أو شاة في بئر، فلم يقدر عليه إلا أن يطعن في سنامه أو عقره، فإنها تنتقل ذكاته من الذبح والنحر إلى العقر، إلا أن مالكًا قال: لا يجوز إلا أن يذكي، وقال أحمد لعله لم يسمع حديث رافع. باب الصيد أي هذا باب يذكر فيه أحكام الصيد والصيد هو الحيوان الوحشي الذي يحل أكله، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع، وهو لحاجة جائز، وللهو واللعب مكروه، وإن كان

فيه ظلم للناس بالعدوان على زروعهم وأموالهم فحرام، وتقدم أن الله حرم صيد الحرم، ومنع منه، وأن المحرم لا يباح له أن يصيد، ولا يحل له ما صيد لأجله، واشترطوا لإباحة الصيد أربعة شروط، كون الصائد من أهل الذكاة، وكون الآلة محددة، والجارح معلماً وقصد الصيد، والتسمية ويأتي مفصلاً. (قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}) أي ما يصطاد منه طريًا {وَطَعَامُهُ} أي ما يتزوج منه مليحًا يابسًا، وقال ابن عباس وغيره: صيد البحر ما أخذ منه حيًا وطعامه ما لفظه ميتًا وقال أبو بكر: كل ما فيه {مَتَاعًا لَكُمْ} أي منفعة وقوتًا لكم أيها المخاطبون {وَلِلسَّيَّارَةِ} جمع سيار أي المسافرين، فدلت الآية على حل صيده وطعامه وميتته، وبحديث «الطهور ماؤه، الحل ميتته» وخبر الجيش الذي فيهم أبو عبيدة وهم ثلثمائة «انتهوا إلى البحر فإذا بحوت مثل الظرب، أكلوا منه ثمانية عشرة ليلة، وتزوجوا منه» وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «هو رزق أخرجه الله لكم». {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} أي في حال إحرامكم، وتقدم حكمه، ومفهوم الآية حله في غير حرم وإحرام. (وقال) تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ} أي من إحرامكم {فَاصْطَادُوا} أي إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه، فقد أبحنا لكم ما كان محرمًا عليكم في حال الإحرام من الصيد، فرد الحكم إلى ما

كان عليه قبل النهي، فإن كان واجبًا رده واجبًا، وإن كان مستحبًا فمستحب، أو مباحًا فمباح، قال جمع من أهل العلم: الأمر الوارد بعد النهي يرفع النهين فيعود الحكم إلى ما كان عليه في الغالب، وهو هنا إباحة الاصطياد واتفق أهل العلم أن الأمر هنا أمر إباحة لا أمر وجوب. (وقال) تعالى {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وفي سورة الأعراف {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} قيل: نزلت في عدي وزيد قالا: إنا نصيد بالكلاب والبزاة، فماذا يحل لنا؟ فنزلت {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} أي وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح، وهن الكلاب المعلمة، والبازي وكل طير يعلم للصيد. والجوارح هي الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها، وعامة العلماء أن المراد من الجوارح الكواسب من سباع البهائم، كالفهد والنمر والكلب، ومن سباع الطير، كالبازي والعقاب والصقر ونحوها مما يقبل التعليم، فيحل صيد جميعها، سميت جارحة لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد، أي كسبها، يقال: فلان جارحة أهله أي كاسبهم. (مكلبين) المكلب هو الذي يغري الكلب على الصيد، أي في حال تكليبكم هذه الجوارح، أي إغرائكم إياها على الصيد، ذكر الكلاب لأنها أكثر وأعم، والمراد جميع جوارح الصيد (تعلمونهن) تؤدبونهن آداب أخذ الصيد {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ} أي

من العلم الذي علمكم الله، وذلك أنه إذا أرسله استرسل، وإذا أشلاه استشلى، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه، ولا يمسكه لنفسه، فهذه ثلاثة أشياء إذا وجدت فيه كان معلمًا إذا أشلي استشلى، وإذا زجر انزرج، وإذا أخذ الصيد أمسكه ولم يأكل فمتى كان كذلك {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} من الصيد فالجارحة المعلمة إذا خرجت بإرسال صاحبها، فأخذت الصيد وقتلته كان حلالاً. ثم قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} أي عند إرساله، فيقول: بسم الله، ويسن والله أكبر؛ كما بينته السنة فالتسمية شرط حالة الذبح، وفي الصيد حالة إرساله الجارحة، أو السهم فمتى كان معلمًا وأمسك على صاحبه، وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله حل الصيد وإن قتل بالإجماع وقال الوزير: اتفقوا على أن من شرط تعليم سباع البهائم أن يكون إذا أرسله استرسل وإذا زجره انزجر. واشترط الجمهور ترك الأكل ولم يشترط مالك واتفقوا على أن سائر الجوارح سوى الكلب لا يعتبر في تعليمه ترك الأكل مما صاده، وإنما تعليمه هو أن يرجع إلى صاحبه إذا دعاه؛ قال الشيخ والتحقيق أن المرجع في تعليم الفهد إلى أهل الخبرة، فإن قالوا إنه من جنس تعليم الصقر بالأكل لحق به وإن قيل إنه يعلم بترك الأكل كالكلب لحق به، وإذا لحق بالكلب بعد تعلمه، لم يحرم ما أمسك من صيده، ولم يبح ما أكل منه

{وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. (وعن أبي ثعلبة) الخشني رضي الله عنه (قلت: يا رسول الله إنا بأرض صيد) أي يكثر فيها الصيد فـ (أصيد بقوسي) أي بالنبل (وأصيد بكلبي المعلم) وهو الذي يغرى فيقصد ويزجر فيقعد، وأما غير المعلم فهو الذي لا يمتثل الزجر، ولا يترك أكل ما أمسك، (والذي ليس بمعلم؟ فقال: ما صدت بقوسك) وتقدم صفة القوس، والمراد: بحده لا بعرضه، فمات (وذكرت اسم الله عليه) أي عند غرسال سهمك. (فكل) ما أمسك عليك بهذه الصفة، فدل على اشتراط التسمية عند إرسال السهم، وكذا عند إرسال الجارحة، وفي حديث عدي "وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله" وظاهر الكتاب والسنة وجوب التسمية، وهو قول الجمهور، وإنما تسقط سهوًا للأخبار. (وما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل) وفي رواية "إذا أرسلت كلبك المعلم" فلا يحل إلا إذا أرسله صاحبه فلو استرسل بنفسه، لم يحل ما يصيده إذا قتل، عند الجمهور، وظاهره إن لم يذكر اسم الله عليه فلا يأكل كما تقدم، وقيل لا تسقط بحال، بخلاف الذكاة فإن التسمية تسقط فيها سهوًا، والفرق بينهما كثرة الوقوع، وتكرره، بخلاف الصيد، ولا يضر إن تقدمت التسمية بيسير، أو تأخرت بيسير عرفًا، وبكثير في جارح، إذا زجره فانزجر، ولو سمى على صيد فأصاب غيره حل، لا على سهم ألقاه

ورمى بغيره، ثم قال: "والذي ليس بمعلم" أي وما صدت بكلبك غير المعلك "فأدركت ذكاته، متفق عليه" فالاعتماد هنا على التذكية لا على إمساك الكلب. ودل الحديث على إباحة الصيد بالكلاب المعلمة، وهو مذهب الجمهور، بشرط إرساله إذا أرسله، وانزجاره إذا زجره، وانصرافه بدعائه، وإمساك الصيد عليه، وأن لا يأكل منه، وأن الكلب غير المعلم لا يؤكل ما صاده إلا ما أدرك ذكاته والآية والسنة دلتا على شمول الجوارح الكواسب، ومن سباع البهائم والطير والفهد والنمر والعقاب والبازي والصقر والشاهين ونحوها، لأن العرب إذا ذاك تصيد بالكلاب والطيور، ولأن المكلب هو معلم الجوارح، ومضراها بالصيد لصاحبها، وارائضها لذلك، بما علم من الحيل، وطرق التأديب وحكي أنه قول فقهاء الأمصار. (ولهما) أي البخاري ومسلم (عن عدي) بن حاتم رضي الله عنه قال: (قلت يا رسول الله إنا نرسل الكلب المعلم فيمسك علينا) أي ولا ندركه إلا بعد موت الصيد (قال: كل) أي ما أمسكه عليك، وظاهره ولو أرسله على صيد فصاد غيره (قلت فإن قتل) أي ما صاده لنا (قال: وإن قتل) أي فكل لزهوقه بالجارح المعلم (ما لم يشركه كلب غيره) أي فإن شركه كلب غير كلبك المعلم فلا تأكل وفيه "فإن أخذ الكلب ذكاته" وذلك إذا لم يدركه الصائد إلا بعد الموت، سواء قتله

جرحًا أو خنقًا، وإلا فالتذكية واجبة اتفاقًا لقوله "فإن أدركته حيًا فاذبحه" وإن أدركته وفيه بقية حياة، فإن كان قد قطع حلقومه أو مريئه أو جرح أمعاءه أو أخرج حشوته حل بلا ذكاة قال النووي: بالإجماع. (فإنك إنما سميت على كلبك) فدل على وجوب التسمية عند الإرسال (ولم تسم على الآخر) نهى عنه لاحتمال تأثير كلب آخر غير المرسل، ترجيحًا لجانب الحظر، وفي رواية وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره. وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله، فدل الحديث على حل أكل ما صاده كلبه المعلم، وإن قتل الصيد، ودل على أنه لا يحل أكل ما يشاركه كلب آخر في اصطياد، ومحله إذا استرسل بنفسه أو أرسله من ليس من أهل الذكاة فإن تحقق أنه أرسل من هو من أهل الذكاة، حل، وإن لم يقتل فإباحته متوقفة على التذكية لا على الإمساك. (قال: وإن قتل) أعاده لما يأتي من قوله (إلا أن يأكل الكلب) أي الذي أرسلت، وفي رواية: "وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله (فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه) يعني الكلب، فدل على أنه يحرم ما أكل منه الكلب ولو كان معلمًا لتعليله بالخوف من أنه إنما أمسك على نفسه وهذا مذهب جمهور العلماء، ومن شرط المعلم أن لا يأكل، فأكله دليل على أنه غير كامل التعليم، وما ورد في خبر ثعلبة "وإن أكل منه" فحديث عدي أصح وأصرح، ومقرون بالتعليل

المناسب للتحريم، وهو خوف الإمساك على نفسه، متأيد بأن الأصل في الميتة التحريم، ويدل عليه ظاهر القرآن، وهو قوله {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أي صدن لكم. ولأحمد من حديث ابن عباس: "إذا أرسلت كلبك، فإن أكل الصيد فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل، فكل فإنما أمسك على صاحبه" فجعله - صلى الله عليه وسلم - علامة على أنه أمسك لنفسه لا لصاحبه، وقال ابن القيم: لا تعارض بين الحديثين على تقدير الصحة، ومحمل حديث عدي في المنع على ما إذا أكل منه حال صيده، لأنه إنما صاد لنفسه، ومحمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أكل منه بعد أن صاده ونهي عنه. ثم أقبل عليه فأكل منه، فإنه لا يحرم لأنه أمسكه لصاحبه، وأكله منه بعد ذلك: كأكله من شاة ذكاها صاحبها، أو من لحم عنده، فالفرق بين أن يصطاد ليأكل، أو يصطاد ثم يعطف عليه فيأكل منه، فرق واضح، فهذا أحسن ما يجمع به بين الحديثين. (وسئل) - صلى الله عليه وسلم - (عن صيد المعراض) قال ابن التين: إنه عصا في طرفه حديدة يرمي به الصائد، فما أصاب بحده ذكي، وما أصاب بعرضه فوقيذ، وقيل: هو السهم الذي لا ريش له، ولا نصل (فقال: ما خزق) أي بحده وقتل (فكل) فتلك ذكاته (وما قتل بعرضه) يعني المعراض (فهو وقيذ) أي موقوذ، والموقوذ ما قتل بعصا أو حجر أو ما لا حد فيه وقتل (فلا تأكل) فدل على أنه لا يحل صيد المثقل، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وبندق

الرصاص أقوى من كل محدد فيحل به الصيد. (ولهما عنه) أي عدي بن حاتم رضي الله عنه (مرفوعًا: إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين) وفي لفظ "ثلاث ما لم ينتن" أي تخبث رائحته (ليس به إلا أثر سهمك) أي نبلك (فكل) وفي رواية "فكل ما لم يبت" والتعليل بما لم ينتن، وما لم يبت، نص فيحمل ذكر الأوقات على التقييد به، ويترك الأكل على الاحتياط، وترجيح جانب الخطر، وإن وجد به أثر غير سهمه لم يأكل كما تقدم، فيما إذا خالط كلبه كلب آخر. قال الشيخ: إذا لم يكن فيه إلا سهمه فإنه يحل، على الصحيح من أقوالهم، وبه أفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عدي بن حاتم، وفي حديث أبي ثعلبة "فغاب عنك ثلاثة أيام، وأدركته فكل ما لم ينتن" فهذان الحديثان أفتى بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أفتى بغير ذلك فلم يبلغه الحديث، وأما إذا انتن فيكره أكله. (وإن وجدته غريقًا في الماء فلا تأكل) وهذا باتفاق العلماء إلا أن يتحقق أن سهمه أصابه فمات، ولم يقع في الماء إلا بعد أن قتله السهم، وظاهره، وإن وجد به أثر السهم، لأنه يجوز أنه ما مات إلا بالغرق، ما لم يتحقق موته قبل وقوعه في الماء. وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا وجده في ماء، أو قد تردى من جبل، فإنه لا يلح أكله، لأنه يجوز أن يكون الماء أو الجبل هما اللذان قتلاه.

باب الأيمان

باب الأيمان جمع يمين وضعت في الأصل لتوكيد المحلوف عليه، وهي القسم والإيلاء والحلف، واتفق أهل العلم على أن من حلف على يمين لزمه الوفاء بذلك، إذا كان طاعة، وقال الشيخ: الحالف لا بد له من شيئين، من كراهة الشرط، وكراهة الجزاء عند الشرط، ومن لم يكن كذلك لم يكن حالفًا، سواء كان قصده الحظ والمنع، أو لم يكن، قال: والعهود والعقود متقاربة المعنى أو متفقة، فإذا قال: أعاهد الله أني أحج العام فهو نذر وعهد ويمين، وإن قال: لا أكلم زيدًا فيمين وعهد لا نذر، فالأيمان تضمنته مع النذر، وهي أن يلتزم به قربة فيلزمه الوفاء، وهي عقد وعهد ومعاهدة لله، لأنه التزم لله ما يطلبه الله منه. وإن تضمنت معنى العقود التي بين الناس، وهو أن يلتزم كل من المتعاقدين للآخر ما اتفقا عليه، فمعاقدة ومعاهدة يلزم الوفاء بها، إن كان العقد لازمًا، وإن لم يكن لازمًأ خير، وهذه أيمان بنص القرآن، ولم يتعرض لها ما يحل عقدتها إجماعًا وما يقصد به الحظ أو المنع أو التصديق أو التكذيب، بالتزامه عند المخالفة ما يكره وقوعه، سواء كان بصيغة القسم أو الجزاء فهو يمين، عند جميع الخلق، والأصل في الأيمان الكتاب والسنة والإجماع.

(قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية، وهي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة، فإن اللغو كل مطرح من الكلام لا يعتد به، وروي أنه قول الرجل: لا والله بلى والله من غير قصد في الكلام، وقيل في الهزل، وقيل في المعصية، وقيل على غلبة الظن، وقيل في النسيان، وقيل هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك والمقصود أنه اليمين من غير قصد ولا عقد. {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} أي يعاقبكم ويلزمكم {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} أي بما صممتم عليه منها، وقصدتموها وتعمدتموها، وفي قراءة "عاقدتم" بالألف، وفي قراءة بالتشديد، أي وكدتم (وعقدتم) أصله عقد أحدهما يده بيد الآخر {فَكَفَّارَتُهُ} أي ما تعمدتموه {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إلى قوله {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} قال ابن القيم: فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة، فهذا كفارته ويأتي. (وقال) تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي عزمتم وقصدتم إلى اليمين، وكسب القلب العقد والنية، وقال ابن عباس: هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، وهذه الآية كالتي قبلها وهي قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ولا تنعقد اليمين إلا بالله أو باسم من أسمائه أو صفة

من صفاته كقول: والذي نفسي بيده والله والرحمن، وعزة الله وعظمته ولعمر الله: يمين وكذا أمانة الله. وأما قول الرجل: لعمرك جرى علي رسم اللغة، وذكر صورة القسم لتأكيد مضمون الكلام وترويجه فقط، لأنه أقوى من سائر المؤكدات، وأسلم من التأكيد بالقسم بالله، لوجوب البر به، وليس الغرض اليمين الشرعي، فصورة القسم على الوجه المذكور لا بأس به، ولهذا شاع بين المسلمين، وقال عليه الصلاة والسلام: "أفلح وأبيه". (وقال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فأقسم تعالى بربوبيته الكاملة الشاملة وخص السماء والأرض وهما من أكبر مخلوقاته ولا نزاع في أن القسم برب السماء والأرض، وكذا برب كل شيء ونحو ذلك، جائز ويمين منعقدة. وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي قسمًا غليظًا وذكر تعالى القسم باسمه الشريف في مواضع، وقال تعالى: {تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ *} سؤال توبيخ، من إثباتهم الشريك، وجعلهم له نصيبًا مما رزقهم الله وقال تعالى: {تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} وغير ذلك. وقال تعالى: {قُلْ بَلَى} تبعثون {وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} فأمره تعالى بالإقسام به على تصديق ما خبر به في ثلاثة مواضع من كتابه، ويستحب الحلف على

الخبر الديني الذي يريد تأكيده، وقد حفظ عنه صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثلاثين موضعًا. وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} أي لا تجعلوا أيمانكم بالله مانعة لكم من البر وصلة الرحم، إذا حلفتم على تركها، وذلك بأن يدعى أحدكم، إلى صلة رحمه أو بر، فيقول: حلفت بالله أن لا أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البر، قال تعالى: {أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ}. قال ابن عباس: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير، وفي الصحيحين " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" وقال لعبد الرحمن بن سمرة "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك" فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما سيأتي، قال الوزير: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يجعل اسم الله عز وجل عرضة للأيمان يمنع من بر أو صلة، وإن كان قد حلف فالأولى، أن يحنث إذا حلف على ترك البر، ويكفر، وقال تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ} أي لا يحلف من الألية وهي القسم {أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} أي الطول والصدقة والإحسان {وَالسَّعَةِ} أي الجدة {أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم المساكين، نزلت في الصديق حلف أن لا

ينفع مسطح بن أثاثه بعدما قال في عائشة. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} أي يستبدلون {بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ} الكاذبة {ثَمَنًا قَلِيلًا} أي شيئًا قليلا من حطام الدنيا {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *}. وقال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} وهو ادعاء الإسلام {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن الحلف عليه كذب، عنى بها المنافقين الذين تولوا قومًا غضب الله عليهم، أخبر أنهم كاذبون في حلفهم. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما قال: (أكثر ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحلف) أي بلفظ (لا ومقلب القلوب، رواه البخاري) فلا رد ونفي للكلام السابق، ومقلب القلوب هو المقسم به، والمراد تقليب أحوالها، وصرفها من رأي إلى رأي، وذكر الألفاظ التي كان - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يقسم بها، وفي رواية "لا ومصرف القلوب" "والذي نفسي بيده" "والذي نفس محمد بيده" "ورب الكعبة" ولابن أبي شيبة كان إذا اجتهد في اليمين قال: "والذي نفس أبي القاسم بيده" وفيها دليل على جواز الإقسام بها، وانعقاد اليمين. (ولهما عن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا: لما خلق الله الجنة) وزخرفت وأرسل جبريل إليها فقال: انظر إلى ما أعددت

لأهلها فيها (قال جبرائيل: لا وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها) لما رأى من النعيم ولذاتها، وذلك قبل أن تحف بالمكاره، والنار بالشهوات، وفيه جواز الحلف بعزة الله، وانعقاد اليمين به، وحكى الله عن إبليس أنه (قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وفي الصحيحين في الذي بين الجنة والنار فيقول: رب اصرف وجهي عن النار، لا وعزتك لا أسأل غيرها، وفي الخبر عن أيوب: بل وعزتك وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم -. (وعن قتيلة) بنت صيفي الأنصاري صحابية مهاجرة، قالت: (أمرهم - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة) فلا يقولوا والكعبة كما ذكر ذلك عنهم من أنهم يقولون والكعبة (رواه أحمد) والنسائي وذلك أن اليهودي قال: إنكم تنددون تقولون والكعبة، فأمرهم بما لا تنديد فيه ولا شرك، فدل على جواز الحلف برب الكعبة، وانعقاد اليمين به. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا: إن لله تسعة وتسعين اسمًا) عدها بعض الرواة (من أحصاها دخل الجنة) ففيه فضيلة حفظها، وجواز القسم بها (متفق عليه) وفي لفظ "من حفظها" وليس الحديث حصرًا لأسماء الله، لحديث "أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك".

قال الوزير: اتفقوا على أن اليمين بالله منعقدة بجميع أسماء الله الحسنى، كالرحمن والرحيم والحي وغيرها، وبجميع صفات ذات الله كعزة الله وجلاله. والمراد فيما إذا حنث فيها، تجب فيها الكفارة، قال ابن عبد البر وغيره، لا خلاف في ذلك إلا عمن لا يعتد بقوله. (ولهما عن عمر" رضي الله عنه (مرفوعًا: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - سمعه يحلف بأبيه فقال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» لأن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده: "فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" أي فلا يحلف إلا بالله أو أسمائه أو صفاته، وهذا باتفاق أهل العلم، وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على عدم جواز الحلف بغير الله، والجمهور على أن الحلف بغير الله لا ينعقد، لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه. (وللنسائي) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد» و (لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون) وفي لفظ "ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون" فدل الحديث- وكذا غيره- على تحريم الحلف بغير الله، ويأتي "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" ويحرم الحلف بالبراءة من الإسلام، أو من الدين أو بأنه يهودي ونحو ذلك. وقال ابن القيم: اتفق الناس أنه إن قال: إن فعلت كذا فهو

يهودي أنه لا يكفر إن قصد اليمين، ولأبي داود وغيره: "إن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا". (وعن عمر) رضي الله عنه (مرفوعًا: من حلف بغير الله بنبي أو ولي أو غيرهما (فقد كفر أو أشرك) وفي رواية: "فقد كفر" وفي رواية "فقد أشرك" ويحتمل أن يكون شكًا من الراوي، ويحتمل أن تكون أو بمعنى الواو (حسنه الترمذي) ورواه أبو داود وغيره، وصححه الحاكم. وقد يكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما يكون من الشرك الأصغر، ما لم يسو بينه وبينه أو يكون المحلوف به عند الحالف أعظم من الخالق جل وعلا، فهو أكبر ناقل عن الملة، والشرك الأصغر أكبر من الكبائر وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. (وعن ابن عمر) رضي الله عنه (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في زيد بن حارثة) رضي الله عنه حين أمر ابنه (وأيم الله إنه لخليق بالإمارة) أي لجدير بها يستحق أن يكون أميرًا، وقال في قصة سليمان "وايم الذي نفس محمد بيده" الحديث، وحديث "وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد" إلخ، قيل أصلها يمين الله، وقيل عوض عن واو القسم، وقيل كقول بالله، أو أحلف بالله، وحكي غير ذلك، ومذهب المالكية والحنفية والأصح عن أحمد أنها يمين تنعقد، وعند الشافعية إن نوى اليمين.

(وقال أسيد) بن حضير رضي الله عنه (لسعد) بن عبادة لما استعذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من عبد الله بن أبي (لعمر الله لنقتلنه) فتثاور الحيان، والحديثان (متفق عليهما) وذلك فيما قص الله علينا من قصة أهل الإفك، وتبرئة عائشة رضي الله عنها، فمن قال: لعمر الله فكأنه قال: أحلف ببقاء الله، واللام للتوكيد، أي: ما أقسم، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة. (وقال العباس) بن عبد المطلب رضي الله عنه (للنبي - صلى الله عليه وسلم - أقسمت عليك) وذلك في هجرة صفوان، وقد انطلق به العباس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليبايعه على الهجرة، فامتنع فقال العباس: أقسمت عليك (لتبايعنه) فبسط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده فقال: "هات أبر قسم عمي ولا أهجره" (رواه أحمد) وابن ماجه، فدل على أن قول الرجل: أقسمت عليك: يمين؛ وهو مذهب الكوفيين والمشهور عن أحمد. ويحرم الحلف بالله على الكذب، وأعظم منه الحلف بغير الله، وإن كان صادقًا، وقال ابن مسعود وغيره: لأن أحلف بالله كاذبًا، أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقًا؛ قال الشيخ: لأن حسنة التوحيد، أعظم من حسنة الصدق؛ وسبب الكذب أسهل من سبب الشرك. (ولأبي داود عن بريدة) رضي الله عنه (مرفوعًا من حلف بالأمانة) لكونها مخلوقة (فليس منا) ففيه الوعيد الشديد على من

حلف بالأمانة، حيث تبرأ منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأمانة تقع على الطاعة والعبادة، والوديعة والأمان وغير ذلك، وإذا قال الحالف: وأمانة الله كعهد الله، فيمين وتقدم. وإن حلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم تنعقد يمينه، وهو مذهب الجمهور أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحد القولين لأحمد لما تقدم من قوله: "من حلف بغير الله فقد كفر" وقوله "لا تحلفوا إلا بالله" وغيرهما، وأما الحلف بالعتاق والطلاق، فقال الشيخ في موضع: لا يكره لأنه لم يحلف بمخلوق، ولم يلتزم لغير الله شيئًا، وإنما التزم لله كما يلتزم بالنذر، والالتزام لله أبلغ من الالتزام به، بدليل النذر له واليمين به، ولهذا لم تنكر الصحابة على من حلف بذلك، كما أنكروا على من حلف بالكعبة. وقال ابن القيم في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الآية: فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة، فهذا كفارتها، وقد أدخلت الصحابة في هذا النص الحلف بالتزام الواجبات، والحلف بأحب القربات المالية إلى الله، وهو العتق كما ثبت ذلك عن ستة منهم، ولا مخالف لهم من بقيتهم، وأدخلت فيه الحلف بالبغيض إلى الله وهو الطلاق، كما ثبت ذلك عن علي، ولا مخالف له منهم، فالواجب تحكيم هذا النص العام والعمل بعمومه، حتى يثبت إجماع الأمة إجماعًا متيقنًا على خلافه، فإن الأمة لا تجتمع على خطأ ألبتة.

(وتقدم) في باب التأويل في الحلف (يمينك) أي إنما تنعقد يمينك (على ما يصدقك به صاحبك) أي واقع عليه، والحديث رواه مسلم، وفي رواية: "اليمين على نية المستحلف" بكسر اللام، والمراد المستحلف المظلوم، أي اليمين حصلت على نية المستحلف، وهو طالب اليمين، فالنظر في اليمين إلى نية طالب الحق واعتقاده، فالتأويل على خلاف قصد طالب اليمين لا يدفع إثم اليمين الكاذبة، فالاعتبار بقصد المحلف، سواء كان هو الحاكم أو الغريم، وأن يكون المحلف بفتح اللام ظالمًا. أما لو كان مظلومًا، والمحلف بكسر اللام كاذب فالاعتبار بنية الحالف، وكذا إذا حلف بغير استحلاف، وورّى فتنفعه التورية ولا يحنث سواء حلف ابتداء، أو حلفه غير القاضي، كما حكاه النووي وغيره، فاليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه، قال والتورية وإن كان لا يحنث بها، فلا يجوز فعلها، حيث يبطل بها حق المستحلف وهذا مجمع عليه. وحكى القاضي الإجماع على أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه له نيته، ويقبل قوله، وأما إذا كان لغيره حق عليه، فلا خلاف أنه يحكم بيمينه سواء حلف متبرعًا، أو باستحلاف، ولعل مستند الإجماع على أن الحالف له نيته في غير استحلاف القاضي ونحوه – خبر

حنظلة، حيث حلف للعدو أن وائلاً أخوه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "كنت أبرهم وأصدقهم". وقال الشيخ وغيره: لا يجوز التعريض لغير ظالم وهو قول جماعة، ولأنه تدليس كتدليس المبيع، ونص أحمد على أنه لا يجوز التعريض مع اليمين. (ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (لأن يستلج) أي يتمادى (أحدكم في يمينه) فيلج فيها ولم يكفرها زاعمًا أنه صادق (آثم له عند الله) أي أعظم إثمًا (من أن يؤدي الكفارة) وتقدم أنه قال: "ما حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني" فدل الحديث على أن أداء الكفارة، خير من التمادي فيما زعمه الذي يأثم من أجله. (وفي السنن عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا: من حلف على يمين) أي مطلقًا (فقال إن شاء الله، فلا حنث عليه) لأن الاستثناء بمشيئة الله، والتقيد به يمنع الحنث في اليمين، ورواه أحمد وغيره، وله طرق وللخمسة نحوه من حديث أبي هريرة، ولأبي داود "ولأغزون قريشًا" ثم قال: "إن شاء الله" وفي الثالثة، ثم سكت، ثم قال: "إن شاء الله" ولم يحنث من قصد تعليق الفعل على مشيئة الله وإرادته، بخلاف من قاله تبركًا أو سبق لسانه بلا قصد، والحديث وما في معناه دليل على

أن من قال في يمينه إن شاء الله، لم يحنث فإن التقييد بمشيئة الله مانع من انعقاد اليمين، وهو مذهب الجمهور. وقال ابن العربي: أجمع المسلمون على أن قول: إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين، بشرط كونه متصلاً، قال: ولو جاز منفصلاً كما روى بعض السلف لم يحنث أحد قط في يمين، ولم يحتج إلى كفارة، والجمهور هو أن يكون قوله إن شاء الله متصلاً باليمين من غير سكوت بينهما، ولا يضر سكتة النفس، وقوله: ثم سكت ثم قال: "إن شاء الله" ظاهره السكوت اختيارًا، فيدل على جوازه ما لم يطل الفصل، ولا فرق بين الحلف بالله أو بالطلاق أو العتاق أن التقييد بالمشيئة يمنع الانعقاد، وهو مذهب الجمهور، ومذهبهم أيضًا أن الاستثناء لا بد أن يكون باللفظ، فلا يكفي بالنية دون اللفظ. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أنه) يعني رسول الله (حلف) وورد بألفاظ (لن أعود) أي مرة أخرى (إلى شرب العسل) وذلك لما قال له بعض نسائه: أكلت مغافير، قال: "بل شربت عسلا" (فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} من شرب العسل {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} وصحح غير واحد أنها نزلت في شرب العسل لا تحريم مارية. (إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} قال القاضي عن عامة العلماء: عليه كفارة يمين بنفس التحريم (متفق عليه)

فصل في الكفارة

وقال أبو حنيفة إن تناوله، وذكر بعض أهل العلم عن مالك والشافعي وغيرهما أنه إذا قال هذا الطعام أو الشراب حرام علي أو هذا الثوب أو كلام زيد ونحو ذلك لا شيء فيه فالله أعلم. فصل في الكفارة أي في كفارة اليمين، وفيها تخيير وترتيب، فالتخيير بين الإطعام والكسوة والعتق، والترتيب فيها بين ذلك وبين الصيام، والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع (قال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ}) أي: كفارة ما عقدتم الإيمان إذا حنتثم {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} يعني محاويج من الفقراء من ولا يجد ما يكفيه، بشرط أن يعطيها لمسلم حر محتاج {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي من خير أو أمثل قوت عيالكم. قال أحمد: مد من بر أو مدان من غيره، سواء كان المطعم واحدًا أو عددًا، وسواء أطعم البعض برًا والبعض شعيرًا أو تمرًا أو زبيبًا أو غيرها مما يطعم أهله. (أو كسوتهم) قال مالك وأحمد وغيرهما: ما يصح أن يصلي فيه، فكل من لزمته كفارة يمين فهو فيها مخير، إن شاء أطعم عشرة مساكين، وإن شاء كساهم، وإن شاء أعتق رقبة، قال تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إذا اختار العتق، فيجب إعتاق رقبة مؤمنة، وكذا جميع الكفارات، كفارة القتل والظهار والجماع في نهار رمضان. وهو قول الجمهور، لأن الله قيدها في القتل بالإيمان، والموجب متحد، وإن اختلف السبب وجاء معاوية

ابن الحكم بجارية فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أين الله" قالت في المساء، قال: "من أنا" قالت: رسول الله، قال "أعتقها فإنها مؤمنة". ويشترط أن تكون سليمة من كل عيب يضر بالعمل ضررًا بينًا وتقدم. وهذه الخصال الثلاث في كفارة اليمين أيها فعل الحانث أجزأ عنه بالإجماع، وإنما بدأ تعالى بالأسهل فالأسهل، فالإطعام أسهل وأيسر من الكسوة، كما أن الكسوة أيسر من العتق، فترقى فيها من الأدنى إلى الأعلى، فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال، فقال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} أي إذا عجز الذي لزمته كفارة اليمين عن الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة، وجب عليه صوم ثلاثة أيام، والعجز أن لا يفضل له عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية ما يطعم أو يكسو أو يعتق، فإنه يصوم ثلاثة أيام. والجمهور على أنها متتابعات فإن في قراءة ابن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وإن لم يثبت أنها قرآن فلا أقل من أن يكون خبر واحد، أو تفسيرًا من الصحابة، وله حكم الرفع، واتفقوا على أنه إذا لم يجد شيئًا مما تقدم انتقل إلى صيام ثلاثة أيام (ذلك) أي الذي ذكر تبارك وتعالى من الحكم {كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} أي هذه كفارة اليمين الشرعية، إذا حنثتم،

فإن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} أي لا تحلفوا، أو إذا حلفتم فلا تحنثوا، وإذا حنثتم فلا تتركوها بغير تكفير. والمراد حفظ اليمين عن الحنث إذا لم تكن يمينه على ترك مندوب، أو فعل مكروه، فإن حلف على فعل مكروه، أو ترك مندوب فالأفضل أن يحنث نفسه ويكفر، كما تقدم، وكما سيأتي {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} يوضحها {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. قال ابن القيم: إذا حلف ليفعلن كذا، فهو حظ منه لنفسه، وليس إيجابًا، ولكن عقد اليمين ليفعلن فأباح الله له حل ما عقده بالكفارة، وسماها تحلة، وليست رافعة لإثم الحنث. (وعن عبد الله بن سمرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك متفق عليه) وفي لفظ "فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير" ولمسلم من حديث عدي " إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه، وله من حديث أبي هريرة نحوه، ولهما من حديث أبي موسى " لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" وفي لفظ "إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" ولأبي داود وغيره "فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير".

وهذه الأحاديث وما في معناها دالة على أن الحنث في اليمين أفضل من التمادي، إذا كان في الحنث مصلحة، ويختلف باختلاف حكم المحلوف عليه، فإن حلف على فعل واجب أو ترك حرام، فيمينه طاعة، والتمادي واجب، والحنث معصية، والعكس بالعكس، وعلى فعل مستحب، فالتمادي مستحب، والحنث مكروه، وعلى ترك مندوب فالعكس. وقال الوزير: اتفقوا على أن الكفارة تجب عند الحنث في اليمين على أي وجه كان، من كونه طاعة أو معصية أو مباحًا وأجمعوا على أن اليمين المكفرة المنعقدة هي أن يحلف بالله على أمر في المستقبل أن يفعله ولا يفعله، وإذا حنث وجبت عليه الكفارة، وقال أبو حنيفة ومالك في اليمين الغموس: لا تكفر لأنها أعظم من أن تكفر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختاره الشيخ. واليمين الغموس هي الحلف بالله على أمر ماض متعمد، الكذب فيه، ولفظ "ثم ائت الذي هو خير" يدل على وجوب تقديم الكفارة، والجمهور على الاستحباب وإجزائها قبل الحنث، إلا الصوم فبعده، وقال القاضي عياض: اتفقوا على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث، وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث. وذكر بعضهم لها ثلاث حالات، أحدها قبل الحلف فلا تجزئ اتفاقًا ثانيها بعد الحلف والحنث، فتجزئ اتفاقًا وثالثها بعد الحلف وقبل الحنث، والجمهور على الاستحباب كما تقدم،

فصل في النذور

والأحاديث دلت على وجوب الكفارة مع إتيان الذي هو خير. (ولهما عن البراء) بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بسبع) بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس (وذكر إبرار القسم) أي بفعل ما أراد الحالف ليصير بذلك، بارًا ثم قال: "ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام" وأمره بإبرار القسم ظاهره الوجوب، واقترانه ببعض ما هو متفق على عدم وجوبه كإفشاء السلام، قرينة صارفة عن الوجوب وقصة رؤيا أبي بكر، وقوله: فوالله لتحدثني بالذي أخطأت، قال: "لا تقسم" يشهد لذلك. فصل في النذور النذور جمع نذر وهو لغة التزام خير أو شر وشرعًا التزام المكلف شيئًا لم يكن عليه، منجزًا كان أو معلقًا قال الشيخ: ولا يشترط فيه لفظ معين، بل كل ما تضمن التزامه قربة فهو نذر، إذ النذر أن يلتزم لله شيئًا ولا يلزم الشيء إلا إذا كان قربة، والفرق بينه وبين اليمين أن الناذر التزم لله، والحالف التزم بالله، وإذا التزم لله بالله فهو نذر ويمين اهـ. فالنذر يعقده العبد على نفسه يؤكد به ما ألزمها به من الأمور، لله، وهو تعظيم للخالق ولأسمائه ولحقه، وأن تكون العقود به، وله، وهذا غاية التعظيم فلا يعقد بغير اسمه ولغير التقرب إليه، فإن حلف فباسمه تعظيمًا وتبجيلاً وتوحيدًا وإجلالاً.

وإن نذر فله توحيدًا وطاعة ومحبة وعبودية. (قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} أي يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر. وللطبراني عن قتادة: كانوا ينذروا طاعات من الصلاة والصيام وسائر ما افترض الله عليهم، ويقويه ما ذكر في سبب نزول الآية. (وقال) تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ} أي أيها المؤمنون حضهم الله تعالى على الإنفاق من طيبات ما كسبوا {مِنْ نَفَقَةٍ} أي فيما فرض الله عليكم أو تبرعتم به في سائر الطاعات {أَوْ نَذَرْتُمْ} أي أوجبتم على أنفسكم {مِنْ نَذْرٍ} في طاعة الله فوفيتم به {فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ} فيحفظه لكم حتى يجازيكم به، فإنه تعالى عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات، من النفقات والمنذورات، وتضمن إخباره مجازاته على ذلك أوفر الجزءا، للعاملين لذلك ابتغاء وجهه، ورجاء موعده. (وقال) تعالى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي ليوفوا نذر الحج والهدي، وما ينذر الإنسان من شيء يكون في الحج، وقال بعضهم: المراد منه الوفاء بما نذر على ظاهره، على نحو ما تقدم وغيره. (وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من

نذر أن يطيع الله فليطعه) أي يجب عليه الوفاء بذلك النذر، فإن كان واجبًا كأن يصلي الصلاة في أول وقتها فيجب بقدر ما وقته أو مستحبًا من العبادات البدني أو المالية انقلب بالنذر واجبًا، وتقيد بما قيده به لقوله "فليطعه" فصرح بالوفاء به، إذا كان في طاعة، وذكر غير واحد الاتفاق على وجوب الوفاء به (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) أي لا يوفي بنذره لأنه معصية (رواه البخاري) ولم يذكر كفارة، وفي حديث عمر عند ابن ماجه "لا يمين عليك، ولا نذر في معصية الله" وقال الحافظ: اتفقوا على تحريم النذر في المعصية. (وله) أي وللبخاري في صحيحه (عن عمران) بن حصين رضي الله عنه (في خبر القرون) أي في الخبر الذي ذكر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (ثم يجيء قوم) أي بعد تلك القرون (ينذرون ولا يوفون) أي لا يوفون ما نذروه من الطاعات الواجبة أو المستحبة، وأما نذر اللجاج والغضب فيخير بين فعله أو كفارة اليمين، وأما المكروه كالطلاق فيستحب أن يكفر ولا يفعله، وأما نذر المعصية فيحرم كما تقدم. (ولهما عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا نهى عن النذر) تأكيدًا لأمره، وتحذيرًا عن التهاون به، وليس معنى النهي عنه أن يكون مأثمًا، فقد حث الشارع عليه، وأمر بالوفاء به،

ونقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء به، لقوله " من نذر أن يطيع الله فليطعه. (وقال إنه لا يأتي بخير) قيل معناه أن عقباه لا تحمد، وقد يتعذر الوفاء به، وأنه لا يكون سببًا لخير لم يقدر، فيكون مباحًا، وقيل مكروه لكونه لم يقصد به خالص القربة، وإنما قصد أن ينفع نفسه، أو يدفع عنها ضررًا بما التزم، وقيل لأنه يصير إخراج المال فيه من باب إضاعة المال، كما هو ظاهر قوله. (وإنما يستخرج به من البخيل) أي إنما يستخرج المنذور ونحوه من البخيل، بواسطة النذر، وأما غير البخيل فإنه يعطي باختياره بلا واسطة نذر، بخلاف البخيل، فإنه لا يعطي إلا إذا وجب عليه الإعطاء فثبت بهذا وجوب استخراجه به من ماله، ولأبي داود وغيره " النذر لا يأتي لابن آدم بشيء، ولكن يلقيه القدر فيعطي على النذر ما لا يعطي على غيره" وأما النذر بالصلاة والصيام والحج ونحو ذلك من الطاعات، فلا مدخل للنهي عنه للآية. قال الشيخ: وما وجب بالشرع إذا نذره العبد أو عاهد عليه الله أو بايع عليه الإمام أو تحالف عليه فإن هذه العهود والمواثيق تقتضي له وجوبًا ثانيًا غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول، فيكون واجبًا من وجهين، ويكون تركه موجبًا لترك

الواجب بالشرع، والواجب بالنذر، هذا هو التحقيق، ونص عليه أحمد، وقاله طائفة من العلماء. (وتقدم) أي في باب الاعتكاف (قول عمر) رضي الله عنه (للنبي - صلى الله عليه وسلم - إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام) وذلك أنه نذر في الجاهلية (فقال: أوف بنذرك) فدل على صحة النذر، وعلى وجوب الوفاء بنذر الطاعة، وإن وقع في حال الكفر، ولكن لا يخلو إما أن يكون مما يفتقر إلى نية كالصلاة والاعتكاف، فلا سبيل إلى الوفاء به إلا بعد إسلام الناذر، فصحته إلزامه به بعد إسلامه، ولخبر، «لا نذر ِإلا ما ابتغي به وجه الله» أو لا يفتقر النذر إلى نية كصدقة بدراهم، فيلزمه الوفاء به، ولو قبل إسلامه لصحته منه. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب) ذات يوم (إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل) رجل من قريش، قيل اسمه قشير ذكر ابن الأثير أنه من الصحابة (نذر أن يقوم في الشمس أي قائمًا (ولا يستظل) أي لا يقوم في ظلال (ولا يتكلم) أي يلزم الصمت (وأن يصوم) لعله ذلك اليوم (فقال) النبي - صلى الله عليه وسلم - «مروه فليجلس أو ليستظل» أي يجلس في الظل «وليتكلم وليتم صومه» لأن الصوم عبادة (رواه البخاري). فدل الحديث على أن كل ما يتأذى به الإنسان مما لم يرد

بمشروعيته كتاب ولا سنة، كالقيام في الشمس لأنه ليس من طاعة الله فلا ينعقد النذر به، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا إسرائيل في هذا الحديث بإتمام الصوم، دون غيره، وهو أنه علم أنه لا يشق عليه. وفيه دليل على أنه لا كفارة على من نذر معصية، ولا على من نذر ما لا طاعة فيه، قال مالك: لم أسمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بكفارة، وحديث «لا نذر في معصية الله» لم يذكر العدول فيه كفارة، وذكر الوزير أنه مذهب الثلاثة، واختاره شيخ الإسلام. (ولهما عن عقبة) بن عامر رضي الله عنه (قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية) وفي لفظ: إلى الكعبة (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتمش ولتركب) ولمسلم: حافية غير مختمرة وفيه أنه شكا إليه ضعفها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن الله غني عن نذر أختك» رواه أحمد (وللخمسة) عنه: «إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا» وهو مشيها حافية (مرها فلتختمر) فلا تكشف وجهها (ولتركب) ولا تمشي حافية (ولتصم ثلاثة أيام) كفارة لنذرها، ولأحمد "ولتهد بدنة" ولأبي داود "هديًا" ولأحمد وابي داود "ولتكفر عن يمينها" وقال البخاري: لا يصح الهدي، ولم يجيء في الأحاديث الصحيحة كفارة لما ليس بطاعة. فمن نذر المشي إلى بيت الله أو موضع من الحرم لزمه أن

يمشي في حج أو عمرة، فإن ترك المشي وركب لعذر أو غيره لزمه كفارة يمين، وقال الشيخ: أما لغير عذر فالمتوجه لزوم الإعادة، كما لو قطع التتابع في الصوم المشروط فيه التتابع، أو يتخرج لزوم الكفارة والدم، والأقوى أنه لا يلزمه مع البدل عن عين الفعل كفارة، لأن البدل قائم مقام المبدل. (وعنه) أي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه (مرفوعًا: كفارة النذر) أي فهو يمين كفارته (كفارة يمين. رواه مسلم) وزاد فيه الترمذي "إذا لم يسمه" وصححه. قال الشيخ: وأحاديث عقبة وابن عباس تدل على أن النذر يمين، وذكر النووي عن جماعة من فقهاء الحديث أنهم حملوا هذا الحديث على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخير في جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم، وبين كفارة اليمين، وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا كان النذر مشروطًا بشيء، فإنه يجب بحصول ذلك الشيء، وقال بعض أهل العلم، اختص الحديث بالنذر الذي لم يسم حملاً للمطلق على المقيد. وأما النذور المسماة فإن كانت غير مقدورة ففيها كفارة يمين، وإن كانت مقدورة وجب الوفاء بها، سواء كانت متعلقة بالبدن أو المال، وإن كانت معصية لم يجز الوفاء بها ولا تنعقد وإن كانت مباحة مقدورة ففيها الكفارة، وقال الشيخ: وما ليس بطاعة كمشيه حافيًا أو حاسرًا فلا يفعله، بل عليه كفارة يمين، وذكره الأصحاب قولاً واحدًا إذ لا بدل له وقال:

في موضع؛ إذا حلف بمباح أو معصية لا شيء عليه، كنذرهما، فإن ما لم يلزم بنذره لا يلزم به شيء إذا حلف به، فإن من يقول لا يلزم الناذر شيء، لا يلزم الحالف بالأولى. وقول الشخص، لئن ابتلاني الله لأصبرن، ولئن لقيت عدوًا لأجاهدن، ولو علمت أي العمل أحب إلى الله لعملته فهو نذر معلق بشرط، كقوله تعالى: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} قال ابن القيم: والملتزم الطاعة لله لا يخرج عن أربعة أقسام، إما أن يكون بيمين مجردة أو بيمين مؤكدة كقوله (ومنهم من عاهد الله) الآية فعليه أن يفي به، وإلا دخل في قوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} وهو أولى باللزوم من أن يقول: لله علي كذا، وقال: فرق بين من التزم الله، ومن التزم بالله، فالأول ليس فيه إلا الوفاء، والثاني يخير بين الوفاء والكفارة. (وعن بريدة) رضي الله عنه (أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال: أوفي بنذرك) أذن لها أن تفعل ما نذرته (صححه الترمذي) لأنه ليس من قبيل اللهو واللعب، بل نوعًا من أنواع البر لقصد الصحيح، وهو إظهار المسرة بمقدمه - صلى الله عليه وسلم - مصحوبًا بالسلامة مظفرًا على الأعداء، وإذا أبيح لأجل إعلان النكاح، فلأن يكون لإعلاء كلمة الله وإعزاز الداعي إلى الحق أولى.

فدل الحديث على صحة النذر بالمباح، ويشهد له نفي النذر في المعصية فيبقى ما عداه ثابتًا، ويمكن كما قال البيهقي أن من قسم المباح ما قد يصير القصد منه مندوبًا وأن إظهار الفرح بعود النبي - صلى الله عليه وسلم - سالمًا، معنى مقصود يحصل به الثواب. وقال الشيخ: لا بد لكل ناذر من فعل المنذور أو ما يقوم مقامه، أو الكفارة وكذا الحالف. (وعن ثابت) بن الضحاك رضي الله عنه (مرفوعًا: لا نذر في معصية الله) وللبخاري من حديث عائشة: «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ولا يجوز الوفاء به بإجماع العلماء، ولا فيما لا يملك العبد، رواه أبو داود) ودل الحديث على أن من نذر ما لا يملك لا ينفذ نذره، وكذلك لا ينفذ نذر المعصية، كما تقدم، والجمهور على أنه لا تجب فيه الكفارة، ولا نزاع في تحريمه، وإن قال: إن فعلت كذا فعلي ذبح ولدي أو معصية غير ذلك، وقصد اليمين فيمين، وإلا فنذر معصية، فيذبح في مسألة الذبح كبشًا وهو مذهب الجمهور. وإن نذر لغير الله كالأصنام فبمنزلة أن يحلف بغير الله، لا وفاء عليه، ولا كفارة، وكلاهما شرك، فعليه أن يستغفر الله، ويقول ما أمر به من حلف باللات والعزى أن يقول لا إله إلا الله، قال الشيخ: ومن أسرج بئرًا أو مقبرة أو جبلاً أو شجرة أو نذر لها أو لسكانها أو المضافين إلى ذلك المكان، لم يجز ولا يجوز

الوفاء به إجماعًا، ويصرف في المصالح، ما لم يعلم ربه، ومن الجائز صرفه في نظيره من المشروع، ومن نذر قنديلاً يوقد للنبي - صلى الله عليه وسلم - صرفت قيمته لجيرانه - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل من الختمة. (ولأحمد عن عمرو بن شعيب) عن أبيه، عن جده رضي الله عنه (مرفوعًا: لا نذر إلا ما ابتغى به وجه الله) فلا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد، كما تقدم (وفي قصة كعب) بن مالك رضي الله عنه، وكان من الثلاثة الذين تاب الله عليهم، فأراد كعب أن يتصدق بجميع أمواله شكرًا لله، على قبول توبته، فإنه قال: يا رسول الله (إن من توبتي) أي من تمامها أو من نفس توبتي (أن انخلع من مالي) أي أعرى منه كما يعرى الإنسان إذا خلع ثوبه وتجرد منه (صدقة لله ورسوله) أراد أن يؤكد أمر توبته بالتصدق بجميع ما يملك، شكرًا لله على ما أنعم به عليه، وليس بظاهر في صدور النذر منه. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمسك عليك بعض مالك) ولم يجز له الجميع وقال: (فهو خير لك، متفق عليه) فدل الحديث على أنه يشرع لمن أراد التصدق بجميع ماله، أن يمسك بعضه، ولا يلزم أنه لو نجزه لم ينفذ، وقيل: يختلف باختلاف الأحوال، فمن كان قويًا على ذلك، يعلم من نفسه الصبر لم يمنع، وعليه يتنزل فعل أبي بكر، وإيثار الأنصار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن لم يكن كذلك فلا، ويشهد لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا صداقة إلا عن ظهر غني» ونحوه.

باب القضاء

باب القضاء بالمد الولاية المعروفة، وهو في اللغة مشترك بين إحكام الشيء والفراغ منه، وبمعنى إمضاء الأمر، وبمعنى الحتم، والإلزام وفي الشرع إلزام ذي الولاية بعد الترافع بحكم الشرع في الوقائع الخاصة، لمعين أو جهة قال الشيخ: الواجب اتخاذ ولاية القضاء دينًا وقربة فإنها من أفضل القربات، وإنما فسد حال الأكثر لطلب الرئاسة والمال بها، واتفقوا على أنه من فروض الكفايات، ويتعين على المجتهد الدخول فيه إذا لم يوجد غيره، والأصل في القضاء الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على وجوب نصب القضاة للفصل بين الناس. (قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} أي بين اليهود، والآية عامة {بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} إليك من القرآن، وهذه الآية تأكيد للآية التي قبلها في الأمر بالحكم بما أنزل الله، والنهي عن خلافه، وقال تعالى بعد هذه الآية: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} والتي قبلها {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}. (وقال) تعالى {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} أي بالعدل، يأمر تعالى ولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده، ولا يعدلوا عنه فقال: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ}.

وتوعد من اتبع هواه بالعذاب الشديد، وقال {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي العدل {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي العادلين ويأتي في الحديث: "إن المقسطين على منابر من نور" والعدل محبوب باتفاق أهل الأرض، وهو من المعروف، الذي تعرفه القلوب، كما أن الظلم من المنكر الذي تبغضه القلوب وتذمه، قال الشيخ: ومن فعل ما يمكنه لم يلزمه ما يعجز عنه، والعبد إذا خلصت نيته لله، وكان قصده وهمه وعمله لوجه الله، كان الله معه، ومن كان الله معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء. (وقال) تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} أقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة قسمًا مؤكدًا، أنه لا يؤمن أحد منهم {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} أي حتى يجعلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكمًا {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} في جميع الأمور مما اختلفوا فيه، فما حكم به مما اختلفوا فيه فهو الحق الذي يجب اتباعه، والانقياد له باطنًا وظاهرًا ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينفي عنهم الحرج، وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضًا حتى يقابلوه بالرضى والتسليم. فقال: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي ينقادوا إلى الأمر انقيادًا وذلك لفرض طاعته على من أرسله إليهم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} أمره وقدره ومشيئته. وذكر الشيخ أنه صار لفظ الشرع في هذه الأزمنة ثلاثة

أقسام الشرع المنزل وهو الكتاب والسنة، واتباعه واجب، ومن خرج عنه وجب قتاله، ويدخل فيه أصول الدين وفروعه، وسياسة الأمراء، وولاة المال، وحكم الحاكم، وولاة الحسبة، وغير ذلك، وكلهم يجب عليهم أن يحكموه ولا يخرجوا عنه، والثاني المتأول، وهو مورد النزاع، وهو الاجتهاد بين الأئمة، فمن أخذ بما يسوغ فيه الاجتهاد أقر عليه، ولم يجب على جميع الناس موافقته، إلا بحجة شرعية لا مرد لها من كتاب الله وسنة رسوله؛ والثالث الشرع المبدل مثل ما ثبت بشهادات الزور، ويحكم فيه بالجهل، أو يؤمر فيه بإقرار باطل، مثل تعليم مريض أن يقر لوارث بما ليس له، والأمر به حرام، والشهادة عليه محرمة، والحاكم إذا علم باطن الأمر وأنه غير مطابق للحق، فحكم به كان جائرًا آثمًا. (وعن عمرو بن العاص) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا اجتهد الحاكم) أي اجتهد قبل الحكم (فأصاب) أي وقع اجتهاده موافقًا لحكم الله (فله أجران) أجر الاجتهاد وأجر إصابة الحكم، (وإذا اجتهد فأخطأ) أي لم يوافق ما هو عند الله من الحكم. (فله أجر) واحد على الاجتهاد في طلب الحق، لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط، وهذا فيمن كان جامعًا لأصل الاجتهاد عارفًا بالأصول، عالمًا بوجوه القياس، فأما من لم يكن محلاً للاجتهاد فهو متكلف ولا يعذر بالخطأ بل يخاف عليه الوزر للحديث

الآتي وهذا الحديث (متفق عليه). وفيه أن الحكم عند الله في كل قضية واحد معين، قد يصيبه من أعمل فكره، وتتبع الأدلة الشرعية، ووفقه الله، وفيه الترغيب في القضاء، ويأتي، وفيه أنه يشترط أن يكون الحاكم مجتهدًا وهو المتمكن من أخذ الأحكام من الأدلة الشرعية، وقال بعض المتأخرين: مجتهدًا ولو في مذهب إمامه، وقال الشيخ: والواجب أن يكون مجتهدًا في الأدلة الشرعية من الكتاب، والسنة وأن تكون هي إمامه، ويكون تتبعها عوضًا عن تتبع نصوص إمامه، فلهي أقرب إلى الأفهام وأدنى إلى إصابة المراد، فإنه أبلغ الكلام بالإجماع، وأعذبه في الأفواه والأسماع، وأقرب إلى الفهم والانتفاع. وقال: من اعتقد أنه يجب على الناس اتباع أحد بعينه، من هؤلاء الأئمة، دون الإمام الآخر، فإنه يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، قال: وغاية المتعصب لأحدهم أن يكون جاهلاً بقدر العلم والدين، وبقدر الآخرين فيكون جاهلاً ظالمًا، والواجب موالاة المؤمنين والعلماء وقصد الحق واتباعه. قال ابن رشد: وتولية القضاء شرط في صحة قضائه، لا خلاف أعرفه فيه، ولا خلاف في حكم الإمام الأعظم، قال الشيخ: والوكالة يصح قبولها على الفور والتراخي، بالقول والفعل، والولاية نوع منها اهـ. والحاكم فيه ثلاث صفات

فمن جهة الإثبات هو شاهد، ومن جهة الأمر والنهي هو مفت، ومن جهة الإلزام بذلك هو ذو سلطان، واتفقوا على أنه يحكم في كل شيء من الحقوق، سواء، كان الحق لله أو لآدمي، وأنه نائب عن الإمام الأعظم في هذا المعنى، وحقيق بمن أقيم بهذا المنصب أنه يعد له عدته، وأنه يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به. وقال ابن القيم: لما كان التبليغ عن الله يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية، والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق فيكون عالمًا بما يبلغ به صادقًا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله اهـ، وأقل ما يشترط فيه صفات الشاهد باتفاق العلماء، لأنه يجب عليه الحكم بالعدل، وذلك يستلزم أن يكون عدلاً في نفسه. (وفي السنن عن بريدة مرفوعًا: القضاة ثلاثة) أي ينقسم القضاة إلى ثلاثة اقسام (إثنان في النار وواحد في الجنة) وكأنه قيل: من هم؟ فقال: (رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة) فلا بد من العلم والعمل (ورجل عرف الحق فلم يقض به) وقضى بالظلم (وجار في الحكم) فتعدى الحكم الشرعي عامدًا (فهو في النار) لجوره (ورجل لم يعرف الحق) ليقضي به (فقضى للناس على جهل) وإن وافق الحق (فهو في

النار) لتعمده القضاء على جهل، فالعمدة العمل، فإن من عرف الحق ولم يعمل به، فهو من حكم بجهل سواء في النار، بل العامد أولى، ففيه أنه لا ينجو من النار من القضاة إلا من عرف الحق وعمل به، وفيه أعظم وازع عن الدخول في هذه المنصب، الذي ينتهي بالجاهل والجائر إلى النار، وفيه النهي عن تولية الجاهل القضاء. ويحرم الدخول فيه على من لا يحسنه، وقال الشيخ: من باشر القضاء مع عدم الأهلية المسوغة للولاية، وأصر على ذلك عاملاً بالجهل والظلم، فهو فاسق، ولا تنفذ أحكامه ولا عقوده كما تنفذ أحكام العالم العادل. (وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا: إن المقسطين) أي العادلين في أحكامهم (على منابر من نور عن يمين الرحمن) فيه إثبات صفة اليمين لله عز وجل، وعلو مرتبة (الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم) زوجاتهم وعيالهم (وما ولوا) من ولاية عامة وقضاء وغير ذلك (رواه مسلم) ففي الحديث فضل من يحكم بالعدل، وعلو منازلهم عند الله يوم القيامة؛ وفيه وفي حديث عمرو، ونحوهما الترغيب في القضاء لمن عدل في قضائه؛ ولأحمد من حديث عائشة "السابقون إلى ظل الله يوم القيامة، الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سألوه بذلوه، وإذا حكموا بين الناس حكموا كحكمهم لأنفسهم".

قال الشيخ: وليس لأحد أن يقلد في المسألة الواحدة غير مقلده إذا أن مذهب من يقلده، يجعل الحق عليه، بل عليه باتفاق الأئمة أن يعدل بين غيره وبين نفسه في الأقوال والأحكام، فإذا اعتقد وجوب شيء أو تحريمه اعتقد ذلك عليه وعلى من يماثله، وقال: من ألزم نفسه التزامه، فلا بد أن يلتزمه فيما له وعليه، كشفعة الجوار بلا نزاع، ولا يجوز أن يتتبع الرخص اهـ. وفي البزار من حديث أبي هريرة " من ولي من أمور المسلمين شيئًا وكل الله به ملكًا عن يمينه، وملكًا عن شماله، يوفقانه ويسددانه" وللترمذي وابن ماجه "إن الله مع القاضي ما لم يجر" والمراد القاضي العادل الذي لم يسأل القضاء، ولم يستعن عليه بالشفعاء، ولديه من العلم بكتاب الله وسنة رسوله ما يعرف به الحق من الباطل. وقال أحمد: لا ينبغي أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أن يكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه، وأن يكون له حلم ووقار وسكينة، وأن يكون قويًا على ما هو فيه، وعلى معرفته وكفايته، وإلا احتاج إلى الناس والخامسة معرفة الناس. (وعن أبي هريرة مرفوعُا من ولي القضاء) بين الناس (فقد ذبح بغير سكين) تحذير من تولي القضاء، لما فيه من الخطر العظيم (رواه الخمسة) وصحيحه ابن خزيمة وابن حبان

وغيرهما، كأنه يقول: من تعرض القضاء فقد تعرض لذبح نفسه، فليحذره وليتوقه، فإنه إن حكم بغير الحق مع علمه به، أو جهله له فهو في النار، والمراد من ذبح نفسه إهلاكها، أي فقد أهلكها بتوليه القضاء، وكونه بغير سكين حيث أنه لم يرد بالذبح فري الأوداج، وإزهاق النفس، وإراحتها بالسكين، وإنما ذبحها بما الألم فيه أكثر، فأشار إليه ليكون أبلغ في التحذير، أو أنه أراد إهلكها بالعذاب الأخروي، أو أنه إن أصاب الحق فقد أتعب نفسه، لإرادته الوقوف عليه، وموقفه مع الخصمين ونحو ذلك، وإن أخطأ لزمه عذاب الآخرة، فلا بد له من التعب والنصب. (وعن أبي ذر) رضي الله عنه (قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟) أي في ولاية من الولايات (قال: إنك ضعيف) أي فلا تصلح للاستعمال (وإنها أمانة) أي يصعب حملها على من فيه ضعف (وإنها يوم القيامة خزي وندامة) عند المحاسبة لمن أخذها بغير حقها، وتقدم "القضاة ثلاثة" ذكر منهم "اثنان في النار" (إلا من أخذها بحقها) وللطبراني من حديث زيد (نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحملها) (وأدى الذي عليه فيها) بأن عدل فيمن تولى عليه، وقد كان أهلاً فأجره عظيم (رواه مسلم) وفي معناه ما رواه البزار وغيره "أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل" ورواه الطبراني، وله نحوه أيضًا وفيه "نعم الإمارة لمن أخذها بحقها،

وبئس الإمارة لمن أخذها بغير حقها، تكون عليه حسرة يوم القيامة. وذكر النووي أن حديث أبي ذر أصل عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيما لمن كان فيه ضعف، وهو من دخل فيها بغير أهلية، ولم يعدل، فإنه يندم على ما فرط منه، إذا جوزي بالخزي يوم القيامة، وأما من كان من أهلها، وعدل فيها فأجره عظيم، كما تظاهرت به الأخبار، ولكن الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها. (وللبخاري عن أبي هريرة) رضي الله عنه أي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بعد قوله: «إنكم تحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة» (نعمت المرضعة) أي في الدنيا من حصول الجاه والمال، ونفاذ الكلمة، وتحصيل اللذات الحسية والوهمية، حال حصولها (وبئست الفاطمة) أي بعد الموت، لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك فهو كالذي يفطم قبل أن يستغني فيكون في ذلك هلاكه، أو لما يصيبه عند الانفصال عنها. (وعن أبي موسى) رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إنا والله لا نولي هذا العمل) أي مما ولاه عليه من إمارة أو قضاء أو غيرهما (أحدًا سأله) لأنه إذا سأله وكل إلى نفسه (أو أحدًا حرص عليه) أي على تولي العمل من أعمال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث أنه لا يعان عليه، والحديث متفق عليه،

كما سيأتي وذلك أن أبا موسى دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو ورجلان من بني عمه، فقال أحدهما: أمرنا على بعض ما ولاك الله، وقال الآخر مثل ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنا والله». فأقسم بالله وهو البار الراشد، أنه لا يولي هذا العمل أحدًا سأله أن يوليه إياه، أو حرص على ذلك، والحكمة والله أعلم أنه لا يولي من سأل الولاية، لأنه يوكل إليها، ولا يكون معه إعانة كما سيأتي، وإذا لم يكن معه إعانة، لا يكون كفؤًا ولا يولي غير الكفء. (وقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لعبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة) وفي لفظ "لا تتمن الإمارة" والإمارة عامة لكل إمارة من الإمامة العظمى، وما دونها من كل ولاية، ومنها القضاء (إنك إن أعطيتها من غير مسألة) أي عن غير سؤال (أعنت عليها) ولأبي داود وغيره "ومن لم يطلبه، ولم يستعن عليه، أنزل الله ملكًا يسدده" (وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها) أي صرفت إليها، ولا تكون حينئذ معانًا من عند الله (متفق عليهما). فمن طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها، من أجل حرصه، فيكره الدخول في القضاء ونحوه عن حرص أو مسألة لأن من حرص على ذلك لا يعان أن لا يحصل منه العدل إذا ولي، وإنما يخشى عليه حيث

كان مسلوب الإعانة أن يتورط فيما دخل فيه، فيخسر دنياه وآخرته، وفي السنن: "من طلب القضاء وكل إلى نفسه" وربما كان طلبه لذلك إرادة للظهور على عدو ونحو ذلك، فيكون في توليته مفسدة عظيمة. وهذا والله أعلم محمول على الأغلب، وإلا فقد قال الله عن يوسف (اجعلني على خزائن الأرض) وقال عن سليمان {هَبْ لِي مُلْكًا} ولأبي داود من حديث أبي هريرة " من طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب عدله جوره فله الجنة" ويجب على ولي الأمر أن يولي الأفضل، لما روى البيهقي وغيره "من استعمل رجلاً على عصابة، وفي تلك العصابة من هو أرض لله منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين". (ولأبي داود، من حديث أبي شريح) قال الحافظ: اسمه هانئ بن يزيد الكندي، وفي الخلاصة خويلد الخزاعي (قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء) نكرة عامة (أتوني فحكمت بينهم) حيث كان صاحب عدل، يصلح بينهم (فرضي كلا الفريقين) لأن مدار الصلح على الرضى (فقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحسن هذا» أي ما أحسن الصلح الذي يرضى به كلا الفريقين، وفي الحديث قال: «إن الله هو الحكم وإليه الحكم» يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه الذي أنزله، وإليه الحكم في الدنيا والآخرة، فدل على فضيلة الصلح إذا لم يجد

القاضي نصًا يعتمده وأن الاجتهاد من العالم جائز بشرطه. (وبعث) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضيًا (و) بعث عليًا رضي الله عنه قاضيًا وجابيًا في اليمن، رواه أبو داود وغيره (و) بعث (معاذًا) يعني ابن جبل رضي الله عنه قاضيًا في اليمن، وكذا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فكل هؤلاء بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قضاة) وكذا عتاب من أسيد بعثه قاضيًا في مكة. (وقال) - صلى الله عليه وسلم - (لمعاذ) بن جبل (بم تحكم؟) به بين الخصمين (قال: بكتاب الله) فهو أول ما ينظر فيه (قال: فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فينظر فيها بعد كتاب الله (قال: فإن لم تجد؟ أي فإن لم تجد حكم ما أدلى به إليك في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يمكنه استنباط الحكم منهما (قال اجتهد رأيي) ولا ريب أنه فيما لم يخالفهما، وفيه أن السلف استعملوا الرأي الصحيح، وعملوا به، وأفتوا به، وسوغوا القول به، وذموا الباطل، ومنعوا من العمل والقضاء والفتيا به، وأطلقوا ألسنتهم بذمه، وذم أهله، بل يحرم القضاء والإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص، والرأي هو الذي لم تشهد له النصوص بالقبول، والرأي الحق الذي لا مندوحة عند لأحد من المجتهدين هو ما يراه القلب بعد فكر وتأمل، وطلب لمعرفة وجه الصواب، مما تعارض فيه الأمارات.

فصل في آداب القاضي

فصل في آداب القاضي أي أخلاق القاضي التي يجب أو يسن له أن يتخلق بها، ويحفظ بها نفسه عن الميل، والأدب بفتح الدال، يقال أدب بكسرها، إذا صار أديبًا في خلق أو علم، ويقال الأدب الظرف وحسن التناول. (قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}) من شرعه المطهر {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} أول الآيات {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} قال ابن كثير: نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله، ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} اهـ والآية وإن كانت نزلت في أهل الكتاب فليست مختصة بهم، لأن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. فهذه الآية الكريمة متناولة لكل من لم يحكم بما أنزل الله، وهو الكتاب والسنة، ولما قيل لحذيفة نزلت في بني إسرائيل، قال: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن طريقهم قد الشراك، وعن ابن عباس نحوه، وإن كان ليس ككفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وحكى البغوي عن العلماء هذا إذا رد حكم الله عيانًا عمدًا، فأما من خفي عليه، أو أخطأ في تأويل فلا اهـ.

والتحقيق أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر مطلقًا كما سماه الله، فإما أن يكون كفر عمل، وإما كفر اعتقاد، ناقل عن الملة قال شيخنا: وهو أنواع: إما أن يجحد أحقية حكم الله ورسوله، أو يعتقد أن حكم غير الرسول أحسن من حكمه، أو أنه مثله، أو اعتقد جواز الحكم بما يخالفه، أو مضاهاة بالمحاكم الشرعية إعدادًا ومراجع وغيرها (¬1)، وأما كفر العمل الذي قال ابن عباس وغيره: كفر دون كفر، فهو الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله هو الحق، واعترافه بالخطأ. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} نزلت أيضًا في أهل الكتاب لما لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه فخالفوا وظلموا وتعدى بعضهم على بعض؛ قال الشيخ محمد ابن عبد الوهاب: إن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن إنه لنا، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الخارجون عن طاعة ربهم المائلون إلى الباطل، التاركون للحق. (وقال) تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أي استخرج آراءهم، واعلم ما عندهم، من قول العرب شرت الدابة وشورتها، إذا ¬

_ (¬1) وذلك لما انجر كلامه على القوانين الملعونة.

استخرجت جريها، أمره تعالى بمشاورتهم تطييبًا لقلوبهم فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم، فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم، ولذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه، كما شاورهم يوم بدر وأحد الحديبية واستشار عليًا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها وغير ذلك، ولابن مردويه سئل عن العزم فقال: مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم وقال: المستشار مؤتمن، وإذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه. وقالت عائشة: ما رأيت أحدًا أكثر استشارة للرجال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدلت الآية وفعله - صلى الله عليه وسلم - على سنية مشاورة ولي الأمر، وكذا القاضي ذا الرأي، وأهل العلم فيما يشكل، وسؤالهم إذا حدثت حادثة، ليذكروا رأيهم وأجوبتهم وأدلتهم، وإن اتضح للقاضي الحكم حكم وإلا أخره حتى يتضح له الحق. (وعن أبي بكرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحكم بين اثنين وهو غضبان) لأن الحكم حالة الغضب يحصل بسببه من التغير ما يختل به النظر، بل الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، بل يحول بينه وبين استيفاء النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد، وحيث أنه لا يستوفي الحكم على الوجه منع منه (متفق عليه) وهذا مذهب

فقهاء الأمصار وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين، وغلبة النعاس، وسائر ما يتعلق به القلب تعلقًا يشغله عن استيفاء النظر. وظاهر النهي التحريم، وحمله الجمهور على الكراهة، لكونه مظنة لتشويش الفكر، فقد يفضي إلى الخطأ، وليس بمطرد مع كل غضب، مع كل إنسان، أما إن أفضى إلى عدم تمييز الحق من الباطل، فلا خلاف في تحريمه، وإن لم يفض إلى هذا الحد فأقل أحواله الكراهة، وخصه بعضهم بما إذا لم يكن لله، لأن الغضب لله يؤمن معه التعدي، وإن خالف الحاكم فحكم في حال الغضب، فمذهب الجمهور صحة حكمه، وإن وافق الحق لأنه - صلى الله عليه وسلم - قضى للزبير بعد أن أغضبه الخصم، وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثر. (وعن) عبد الله (بن الزبير) رضي الله عنهما (قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم) فدل على وجوب تسويته بينهما في مجلسه، إذا ترافعا إليه رواه أحمد وأبو داود والبيهقي، وفي إسناده مقال و (صححه الحاكم) وروي عن علي رضي الله عنه أنه جلس إلى جنب شريح في خصومة له مع يهودي، وقال: لو كان خصمي مسلمًا جلست معه بين يديك؛ وفيه أيضًا مشروعية الجلوس بين يدي القاضي، إعزازًا للحكم الشرعي، وقال ابن رشد أجمعوا على أنه واجب

عليه أن يسوي بين الخصمين في المجلس اهـ. وإن كانت التسوية بين الخصمين ممكنة، بأن يقعد أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله أو أحدهما في جانب المجلس والآخر في الجانب الآخر جاز، وفيه مشروعية التسوية بين الخصمين لأنهما لما أمرا بالقعود جميعًا على تلك الصفة، كان الاستواء في الموقف لازمًا لهما، وفي قصة على تخصيص بالمساواة بين المسلمين، دون المسلم والكافر. (وعن أم سلمة) رضي الله عنها (مرفوعًا: من ابتلي بالقضاء بين المسلمين، فليعدل بينهم في لفظه) ولحظه ودخولهما عليه (وإشارته) فلا يخص أحدهما دون الآخر (ولا يرفع صوته على أحد الخصمين) ليكون ذريعة إلى انكسار قلب الآخر (رواه الدارقطني) وأبو يعلي (وفيه ضعف) فإن في إسناده عباد بن كثير وهو ضعيف، ويشهد له ما تقدم. وقال ابن القيم: نهى - صلى الله عليه وسلم - عن رفع أحد الخصمين عن الآخر، وعن الإقبال عليه، وعن مشاورته، والقيام له دون خصمه، لئلا يكون ذريعة إلى انكسار قلب الآخر، وضعفه عن القيام بحجته، وثقل لسانه بها، ولا يتنكر للخصوم، لما في التنكر لهم من إضعاف نفوسهم، وكسر قلوبهم، وإخراس ألسنتهم عن التكلم بحججهم، خشية معرة التنكر، ولا سيما لأحدهم دون الآخر، فإن ذلك الداء العضال.

(وعن علي) بن أبي طالب رضي الله عنه (مرفوعًا: إذا جلس إليك الخصمان) أي للحكم بينهما وفي لفظ "إذا تقاضي إليك رجلان" (فلا تقض بينهما) إذا سمعت من أحدهما (حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء) وفي لفظ "فسوف تدري كيف تقضي) رواه أحمد وأبو داود و (حسنه الترمذي) وصححه الحاكم، وله طرق عن البزار وغيره. وفيه دليل على أنه يحرم على الحاكم أن يحكم قبل سماع حجة كل واحد من الخصمين، واستفصال ما لديه، وإحاطته بجميعه، لجواز أن يكون مع خصمه حجة يدفع بها بينة، فإن قضى قبل السماع من أحد الخصمين كان حكمه باطلاً، فلا يلزم قبوله بل يتوجه عليه نقضه، ويعيده على وجه الصحة، أو يعيده حاكم آخر، وفيه دليل على أن الحاكم لا يقضي على غائب، وذلك لأنه إذا منع أن يقضي لأحد الخصمين وهما حاضران، حتى يسمع كلام الآخر، فقد دل على أنه في الغائب الذي لم يحضر ولم يسمع قوله أولى بالمنع، وإن امتنع أحد الخصمين عن الإجابة لخصمة جاز القضاء عليه، لتمرده، ولكن بعد التثبت المسوغ للحكم كما في الغائب. (وعن أم سلمة) رضي الله عنها (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما أنا بشر) أي مشارك، للبشر في أصل الخلقة، ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختص بها - صلى الله عليه وسلم - (وإنكم تختصمون إلي) فكل يدلي بحجته

(ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) أي أفطن للحجة، وأعرف بها من غيره، أو أبلغ في إيراد الكلام، وأحسن كما في رواية (فأقضي له بنحو مما أسمع) أي من الدعوى والإجابة والبينة أو اليمين، وقد تكون باطلة في نفس الأمر (فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا) أي قضيت له بحسب الظاهر إذا كان في الباطن لا يستحقه، فلا يأخذه (فإنما أقطع له قطعة من النار) أي فهو عليه حرام، يئول به إلى النار (متفق عليه). وذلك بحيث تكون حجته باطلة في نفس الأمر فيقتطع من مال أخيه قطعة من النار، باعتبار ما يئول إليه، وهذا تمثيل منه - صلى الله عليه وسلم - يفهم منه شدة التعذيب على ما يتعاطاه بكذبه وفجوره في دعواه على أخيه المسلم، واقتطاع ماله بذلك، وفي الحديث دليل على عظم إثم من خاصم في باطل، حتى استحق به في الظاهر شيئًا هو في الباطن حرام عليه، وأن من احتال الأمر باطل بوجه من وجوه الحيل، حتى يصير حقًا في الظاهر ويحكم له به، أنه لا يحل له تناول في الباطن، ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم له به. وفيه دليل أيضًا مع ما تقدم على أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم، بل يؤجر على اجتهاده كما في الصحيح "وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" قال الحافظ وفيه أن من ادعى مالاً ولم يكن له بينة فحلف المدعى عليه، وحكم الحاكم ببراءة

الحالف أنه لا يبرأ في الباطن، ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم، وحكى الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام، ويعلم من الحديث أيضًا كما قال ابن القيم أن ما علمه الحاكم في زمن ولايته ومكانها، وما علمه في غيرها، لا يحكم به، وهل هو إلا محل التهمة. ولو فتح هذا الباب – ولا سيما لقضاة الزمان – لوجد كل قاض له عدو: السبيل إلى قتل عدوه ورجمه وتفسيقه، والتفريق بينه وبين امرأته، ولا سيما إذا كانت العداوة خفية، لا يمكن عدوه إثباتها وحتى ولو كان الحق هو حكم الحاكم بعلمه لوجب منع قضاة الزمان من ذلك، وقد ثبت عن أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس ومعاوية المنع من ذلك، ولا يعرف لهم في الصحابة مخالف. (ولمسلم) والترمذي وصححه (أنه) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال: للحضرمي) وهو ربيعة بن عيدان (ألك بينة؟) وذلك أنه كان بينه وبين رجل من كندة يقال له امرؤ القيس بن عابس الشاعر الصحابي، خصومة في أرض، قال الحضرمي: غلبني على أرض كانت لأبي، وقال الكندي: هي أرضي في يدي، أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للحضرمي: «ألك بينة على دعواك على ما في يده؟» (قال: لا، قال: فلك يمينه) قال: الرجل فاجر، لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، قال: "ليس لك إلا ذلك" ففيه أنه لا يجب للغريم

على غريمه اليمين المردودة، ولا يلزمه التكفيل، ولا يحل الحكم عليه بالملازمة ولا بالحبس، وفيه: فانطلق ليحلف، فقال: «لئن حلف على ماله ليأكله ظلمًأ ليلقين الله وهو عنه معرض». وأما التهمة فلأبي داود أنه - صلى الله عليه وسلم - حبس في تهمة، طلبًا لإظهار الحق بالاعتراف، قال ابن القيم: والأصول المتفق عليها بين الأئمة توافق ذلك، فإنهم متفقون على أن المدعي إذا طلب المدعي عليه الذي يسوغ إحضاره، وجب على الحاكم إحضاره إلى مجلس الحكم، حتى يفصل بينهما، وقد يكون مشغولاً عن تعجيل الفصل، فيكون المطلوب محبوسًا من حين يطلب إلى أن يفصل بينه وبين خصمه، وهذا حبس بدون التهمة، ففيه التهمة أولى، فإن الحبس الشرعي ليس هو الحبس في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد أو كان بتوكيل الخصم، أو وكيله عليه وملازمته له. قال: فإذا جاز حبس المجهول، فحبس المتهم بالفجور والسرقة وقطع الطريق والقتل ونحو ذلك أولى، قال الشيخ: وما علمت أحدًا من الأئمة يقول إن المدعي عليه يحبس وذكر كثيرًا من الدعاوي ثم قال: في جميع هذه الدعاوي يحلف، ويخلى سبيله بلا حبس ولا غيره، ومن زعم أنه مذهب لأحد من الأئمة وأنه على إطلاقه وعمومه هو الشرع، فقد غلط غلطًا فاحشًا مخالفًا للنصوص وإجماع الأمة وبمثل هذا الغلط تجرأ

الولاة على مخالفة الشرع، وتوهموا أن الشرع لا يقوم بسياسة العالم، ومصلحة الأمة، وتعدوا حدود الله، والشرع لم يسوغ تكذيب صادق، ولا إبطال إمارة، وعلامة شاهدة بالحق. (ولهما قال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «شاهداك» فالأشعث هو المدعي فعليه البينة (أو يمينه) لأن خصمه أنكر دعواه، وتقدم "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" قال: (ليس لك إلا ذلك) فقلت إذا يحلف ولا يبالي، فقال: "من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم، وهو فيها فاجر لقي الله وهو علي غضبان". وتقدم أن ابن عمر باع غلامًا بثمانمائة درهم بالبراءة، فقال الذي ابتاعه، به داء لم يسم، فقضى عثمان باليمين على ابن عمر، فأبى فحكم عليه بالنكول، وإلى ذلك ذهب أبو حنيفة، وهو المشهور عن أحمد؛ واستلف المقداد سبعة آلاف درهم، وأتاه بأربعة، فقال عثمان: سبعة، فقال المقداد لعمر: ليحلف أنها كما يقول، وليأخذها فقال عمر: أنصفك وكان شريح إذا قضي باليمين على رجل فردها على الطالب، فلم يحلف لم يعطه شيئًا ولم يستحلف الآخر، وعبد الله بن عتبة إذا قضي على رجل باليمين فردها على المدعي، فأبى لم يجعل له شيئًا، وقال أبو عبيد: رد اليمين له أصل في الكتاب والسنة، قال تعالى {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} وفي القسامة ردها على المدعي

عليه فهذا هو الأصل في رد اليمين، قال ابن القيم: وهذا مذهب الشافعي ومالك وصوبه الإمام أحمد. وقال شيخ الإسلام: ليس المنقول عن الصحابة في النكول ورد اليمين بمختلف بل هذا له موضع، وهذا له موضع، فكل موضع أمكن المدعي معرفته والعلم به، فرد المدعي عليه اليمين فإنه إن حلف استحق، وإن لم يحلف لم يحكم له بنكول المدعي عليه، وهذا كحكومة عثمان والمقداد فإن المدعي هنا يمكنه معرفة ذلك والعلم به، فإذا لم يحلف لم يحكم له إلا ببينة أو إقرار، وأما إن كان المدعي لا يعلم ذلك، والمدعى عليه هو المتفرد بمعرفته، فإنه إذا نكل عن اليمين حكم عليه بالنكول، ولم ترد على المدعي كابن عمر. (وكتب عمر) بن الخطاب أمير المؤمنين ثاني الخلفاء الراشدين المحدث الملهم كتابه المشهور الذي قال فيه أبو إسحاق: هو أجل كتاب، فإنه بين آداب القضاة، وصفة الحكم وكيفية الاجتهاد، واستنباط القياس، وقال الشيخ: رسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى، تداولها الفقهاء، وبنوا عليها، واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه، وكلامه من أجمع الكلام وأكمله، فإنه محدث ملهم، كل كلمة من كلامه تجمع علمًا كثيرًا. وقال ابن القيم: هذا كتاب جليل، تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه، وروي

أن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه وقال - صلى الله عليه وسلم - «إن يكن في أمتي محدثون فعمر». وقال حذيفة: هو أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، وأعرفنا بالله، والله لهو أبين من طريق الساعين، وقال ابن مسعود: لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان، ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح عليهم، وقال الشعبي: من سره أن يأخذ بالوثيقة في القضاء، فليأخذ بقول عمر، وقال ابن المسيب: لا أعلم أحدًا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم من عمر، وهذا كتابه (إلى أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري، وكان - صلى الله عليه وسلم - استعمله على بعض اليمن. قال عمر رضي الله عنه: أما بعد فـ (إن القضاء فريضة محكمة) أحكمها الله في كتابه (وسنة متبعة) سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال - صلى الله عليه وسلم - «العلم ثلاثة، آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة» (فافهم إذا أدلي إليك) أي أدلى إليك الخصوم، وتنبه لما يقولونه، وافهم نفس الواقع، مما توصل به من الكلام الذي تحكم به بين الخصوم، واستنبط حقيقته بالقرائن والأمارات والعلامات، وافهم أحوال الناس وميز بين الصادق والكاذب، والمحق والمبطل، وافهم حكم الله الذي تحكم به فيه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وطابق بين هذا وهذا. وأعط الواقع حكمه من الواجب، ولا تجعل الواجب

مخالفًا للواقع بل توصل بمعرفة الواقع، والتفقه فيه إلى معرفة حكمة الله ورسوله، كما توصل نبي الله سليمان إلى معرفة عين الأم بشق الولد ونحو ذلك، ولم يزل الحذاق يستخرجون الحقوق بالأمارات، والفراسة، والفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الحق والباطل؛ والمحق والمبطل ويمده حسن القصد، وتحري الحق، وتقوى الله عز وجل، قال رضي الله عنه (فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له) إلى قلبك لتفهمه. وقال ابن القيم: مراد عمر تحريض على تنفيذ الحق إذا فهمه الحاكم، ولا ينفع تكلمه به إن لم يكن له قوة تنفيذه، فهو تحريض منه على العلم بالحق، والقوة على تنفيذه قال عمر (آس الناس في مجلسك) وقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم، قال عمر (و) آس الناس (في وجهك) وعليه أن يعدل بينهم في لفظه وإشارته (و) آس بينهم في (قضائك) وقد أمر الله بالحكم بالقسط وهو العدل، وبالحق، ومتى عدل الحاكم بين الخصمين فهو عنوان عدله، ومتى خص أحد الخصمين بمجلس أو قيام أو بشاشة أو نحو ذلك، كان عنوان ظلمه وجوره. (حتى لا يطمع شريف في حيفك) أي في ميلك معه لشرفه، والحيف الجور والظلم (ولا ييأس ضعيف من عدلك) حيث إنه لا يميل بك الهوى، فتجور عليه في الحكم (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) البينة هي لكل ما يبين الحق

ويدل عليه، ويأتي مرفوعًا. قال ابن القيم: فإن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به، من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له، ولا يرد حقًا قد ظهر دليله، ولا يقف ظهوره على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به، مع مساواة غيره في ظهور الحق، أو رجحانه عليه ترجيحًا لا يمكن جحده ودفعه كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد، في صورة من على رأسه عمامة، وبيده عمامة وآخر خلفه مكشوف الرأس يعدو أثره، ولا عادة له بكشف رأسه. وذكر النكول واليمين والشاهد الواحد، وفي الزنا بالحبل، وفي الخمر بالرائحة والقيء، وفي السرقة بوجود المسروق، وأن البينة في كلام الله، وكلام رسوله وكلام الصحابة أعم منها في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين، أو الشاهد واليمين وأن الحاكم يحكم بالحجة التي ترجح الحق إذا لم يعارضها مثلها، وأن يعلم ما يقع، ثم يحكم فيه بما يجب. قال: والحكم قسمان، إثبات وإلزام، وكلاهما له طرق متعددة، أحدها الحكم باليد المجردة، التي لا تفتقر إلى يمين والإنكار المجرد، وباليد مع يمين صاحبها، إذا سئل إحلافه، وبالنكول وحده، أو به مع رد اليمين، أو بشاهد وامرأتين، أو بشهادة امرأتين ويمين المدعي، أو امرأتين فقط، وبثلاثة واربعة وبالصبيان المميزين، والفساق والكفار في صور، وبالإقرار وبالتواتر وبالإستفاضة، وبأخبار الآحاد، والخط، وبالعلامات الظاهرة،

والقرعة والقافة وذكر نحو خمسة وعشرين طريقًا. قال عمر رضي الله عنه (والصلح جائز بين المسلمين) وليس بحكم لازم يقضي به، إن لم يرض به الخصم وقوله: بين المسلمين: خرج مخرج الغالب (إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالاً) وهذا لفظ حديث مرفوع تقدم صححه الترمذي وغيره، وندب تعالى عن الصلح في غير موضع من كتابه، وقال عمر: ردوا الخصوم حتى يطصلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن، وقال: ردوا الخصوم، ولعلهم أن يصطلحوا فإنه آثر للصدق، وأقل للخيانة، وقال: ردوا الخصوم إذا كان بينهم قرابة، فإن فصل القضاء يورث بينهم الشنآن. وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الصلح أفضل من درجة الصائم القائم، قال ابن القيم: والحقوق نوعان حق لله لا مدخل للصلح فيه، كالحدود والزكاة والكفارات ونحوها، وإنما الصلح بين العبدوربه في إقامتها، لا في إهمالها، وحقوق الآدميين هي التي تقبل الصلح، والإسقاط والمعاوضة عليها، والصلح العادل هو الذي أمر الله به ورسوله كما قال تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} والصلح الجائر، هو: الظلم بعينه قال وكثير من الظلمة والمصلحين يصلح بين القادر الظالم، والخصم الضعيف المظلوم بما يرضى به القادر الظالم، ويصلح بين الغريمين على دون الطفيف على حق أحدهما، والصلح الذي يحل الحرام ويحرم

الحلال كالصلح الذي يتضمن تحريم بضع حلال، وإحلال بضع حرام، أو إرقاق حر أو نقل نسب أو ولاء عن محل إلى محل أو أكل ربا أو إسقاط واجب، أو تعطيل حد وما أشبه ذلك. والصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى الله ورضى الخصمين يكون المصلح عالمًا بالوقائع، عارفًا بالواجب، قاصدًا للعدل، كما أصلح النبي - صلى الله عليه وسلم - بين كعب وغريمه وأرشد الخصمين اللذين كانوا بينهم مواريث، بأن يتوخيا الحق بحسب الإمكان ونحو ذلك قال رضي الله عنه: (ومن ادعى حقًا غائبًا) فاضرب له أمدًا ينتهي إليه (أو ادعى (بينة) غائبة (فاضرب له أمدًا ينتهي إليه) فإن المدعي قد تكون له حجة أو بينة غائبة فلو عجل عليه بالحكم بطل حقه. فإذا سأل أمدًا تحضر فيه حجته أجيب إليه، ويكون الأمد بحسب الحاجة (فإن بينه أعطيته بحقه وإن أعجزه ذلك) أي ما ادعاه من الحق، ومضى الأمد (استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلي للعمى) فإن ظهر عناده ومدافعته للحاكم لم يضرب له أمدًا، بل يفصل الحكومة فإن ضرب هذا الأمد إنما كان لتمام العدل، فإذا كان فيه إبطال للعدل لم يجب إليه الخصم، قال: (ولا يمنعك قضاء قضيته في اليوم) أي القريب لا فيما بعد (فراجعت فيه رأيك) معتقدك (فهديت فيه

لرشدك) والرشد الاستقامة على طريق الحق، ضد الغي (أن تراجع فيه الحق) يعني الصواب من الشرع. (فإن الحق قديم) سابق على الباطل (لا يبطله شيء) من الآراء وغيرها، فإذا اجتهدت في حكومة ثم وقعت لك مرة أخرى فلا يمنعك الاجتهاد الأول من إعادته (ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل) فإن الحق أولى بالإيثار، لأنه قديم سابق، ولو كان الاجتهاد الأول قد سبق الثاني، والثاني هو الحق فهو أسبق من الاجتهاد الأول، لأنه قديم سابق على ما سواه، ولا يبطله وقوع الاجتهاد الأول على خلافه، بل الرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول. وعمر رضي الله عنه قضى في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخويها لأبيها وأمها وأخويها لأمها، فأشرك عمر بين الإخوة، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم فأخذ رضي الله عنه في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق، ولم يمنعه القضاء الأول، من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض الأول بالثاني، قال ابن القيم: فجرى أئمة الإسلام على هذين الأصلين. قال رضي الله عنه (والمسلمون عدول بعضهم على بعض) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي عدلاً

خيارًا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فالمسلمون عدول، بعضهم على بعض بالإجماع إلا من قام به مانع الشهادة، كما قال أمير المؤمنين (إلا مجربًا عليه شهادة زور) فلا يوثق بعد ذلك بشهادته، وقالت عائشة: ما جر على أحد كذبًا فرجع إليه، حتى يعرف منه توبة، وقال - صلى الله عليه وسلم - «لا تزال قدمًا شاهد الزور حتى يقذف به في النار» وهي من الكبائر. (أو مجلودًا في حد) فلا تقبل شهادته، وهذا لا نزاع فيه، لأن الله تعالى نهى عن قبول شهادته قال: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} فتقبل عند الجمهور، قال عمر: (أو ظنينًا) أي متهمًا والشهادة ترد بالتهمة (في ولاء) كشهادة السيد لعتيقه بمال، أو شهادة العتيق لسيده إذا كان في عياله، أو منقطعًا إليه يناله نفعه، ولا ترد بالولاء قال: (أو قرابة) كشهادة القريب لقريبه، فلا تقبل مع التهمة. وتقبل بدونها، لعموم الآيات، وعدم الاستثناء في الآيات والأخبار، وخبر "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ظنين في ولاء، أو قرابة ولا مجلود" قال ابن القيم: وهو الصحيح حيث لا تهمة فالتهمة وحدها مستقلة بالمنع، سواء كان قريبًا أو أجنبيًا ولا ريب أن تهمة الإنسان في صديقه وعشيرته، ومن تعنيه مودته ومحبته، أعطم من تهمته في أبيه وابنه، والواقع شاهد بذلك، وكثير من الناس يحابي صديقه وعشيرته وذا وده

أعظم مما يحابي أباه وابنه وقال عمر: تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده، والأخ لأخيه إذا كانوا عدولاً لم يقل الله حين قال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} إلا والدًا وولدًا وأخًا، قال ابن القيم: هذا لفظه، وليس في ذلك عنه روايتان، بل إنما منع من شهادة المتهم في قرابته وولائه، وقال إسحاق بن راهويه، لم تزل قضاة الإسلام على هذا اهـ. فالتهمة هي الوصف المؤثر في الحكم، فيجب تعليق الحكم به وجودًا وعدمًا ولا تأثير لخصوص القرابة ولا عمومها، بل توجد القرابة حيث لا تهمة، وتوجد التهمة حيث لا قرابة والشارع إنما علق قبول الشهادة بالعدالة، وكون الشاهد مرضيًا وعلق عدم قبولها بالفسق. قال رضي الله عنه (فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر) وقال في خطبته: من أظهر لنا خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا شرًا ظننا به شرًا وأبغضناه عليه، وقال: إن الوحي قد انقطع ولا نؤاخذكم إلا بما ظهر لنا، ومراده من ظهر لنا من علانيته خير قبلنا شهادته، ووكلنا سريرته، إلى الله، وقال: لا نقبل إلا العدول فأحكام الدنيا على الظواهر والسرائر تبع لها. قال: (وستر عليهم الحدود) أي وستر على المسلمين المحارم، وهي حدود الله، والحد يراد به الذنب، ويراده به العقوبات قال: (إلا بالبينات) الأدلة والشواهد، فقد صح عنه الحد في الزنا، بالحبل قال: (والأيمان) والمراد بها أيمان الزوج في اللعان، وأيمان

أولياء القتيل في القسامة قال ابن القيم: وهي قائمة مقام البينة قال: (ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك) كرر الفهم لمسيس الحاجة إليه قال إياس بن معاوية: إنما القضاء فهم، وقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وهو الذي اختص به إياس وشريح وأمثالهما، مع مشاركتهما لأهل عصرهما في العلم. والمراد الفهم في الواقع، والاستدلال بالأمارات وشواهد الحال، قال ابن القيم: وهو الذي فات كثيرًا من الحكام، فأضاعوا كثيرًا من الحقوق، ثم قال: (مما ورد عليك) من القضايا وفي رواية " الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك" (مما ليس في قرآن ولا سنة) وفي لفظ "في كتاب ولا سنة) حثه على الأصل الثالث للأحكام وهو القياس وهو أن يلحق ما لم يعلم حكمه من الكتاب والسنة بما علم حكمه، لمشابهة بينهما في السبب الذي من أجله شرع الحكم فقال رضي الله عنه (ثم قايس الأمور عند ذلك) وقال لشريح: اجتهد رأيك، وفي خبر معاذ: اجتهد رأي ولا آلوا. وقال المزني: الفقهاء من عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا وهلم جرًا استعلموا المقاييس في الفقه، وفي جميع الأحكام في أمر دينهم، قال: وأجمعوا أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس، لأنه التشبيه بالأمور، والتمثيل عليها، قال الشيخ: القياس الصحيح هو الذي وردت به الشريعة وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين،

فالأول قياس الطرد، والثاني قياس العكس. وهو العدل الذي بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وهو الميزان الذي أنزل به الكتاب، وهو أن يكون الجامع هو العلة التي لأجلها شرع الحكم في الأصل. وقال ابن القيم: الأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة، قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شبه، وقد وردت في القرآن، فمن قياس العلة (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) وقياس الدلالة هو الجمع بين الأصل والفرع، بدليل العلة وملزومها ومنه {تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} الآية، وقياس الشبه حكاه عن المبطلين، وقال أحمد: القياس: الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، فإذا أشبهه في حال، وخالفه في حال، فأردت أن تقيس عليه فقد أخطأت. قال: (واعرف الأمثال) أي الأشباه والنظراء من القضايا الواردة عليك، وفي لفظ "ثم أعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك" أي على ما ورد في الكتاب والسنة، والأحكام الشرعية مشتملة على التسوية بين المتماثلين، وإلحاق النظير بالنظير، واعتبار الشيء بمثله، والله تعالى قد فطر عباده عليه، وعلى العقل والميزان، ومن قياس الشبه ما وقع في القرآن من الأمثال فإنها تشبيه شيء بشيء، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدهما بالآخر، وهي كثيرة، وقال تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}

والرسول - صلى الله عليه وسلم - ضرب الأمثال في كثير من الأحكام التي سئل عنها، ولا مراء في أنس النفس بضرب الأمثال. قال: (ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله) مما أمر به، وفي لفظ "وأعمد على أقربها إلى الله" أي إلى شرع الله وحكمه "والله يحب المقسطين" ويحب العدل، ويكره الظلم والجور، ثم قال: (وأشبهها بالحق) أي ثم أعمد في قضاياك إلى أشبهها بالحق ضد الباطل (وإياك) والغضب (والقلق) الانزعاج، ويروى بالغين المعجمة (والضجر) وعدم الصبر على تنفيذ الحق، فحذره عما يحول بينه وبين معرفة الحق، فالغضب غول العقل، يغتاله كما يغتاله الخمر، وتقدم النهي عنه، وهو نوع من القلق، فهو يغلق على صاحبه حسن التصور. (والتأذي بالناس) أي وإياك والتأذي بالناس، وفي لفظ "والتأذي بالخصوم " أمره أولاً بالمساواة بين الخصوم، ثم حضه على الصبر، وفيه الأجر الجزيل قال: وإياك (والتنكر من الخصوم) لما في التنكر لهم من إضعاف نفوسهم وكسر قلوبهم، وإخراس ألسنتهم، ولا سيما لأحدهم دون الآخر كما تقدم (فإن القضاء في مواطن الحق) حظه على تنفيذ الحق، والصبر عليه لأنه (مما يوجب الله به الأجر) الجزيل كما في الحديث "ورجل قضى بالحق" إلخ (ويحسن به الذكر) فيوصف بالعدل، ويثنى عليه، حثه على الصبر أولاً لما في التحلي به، والاحتساب والجهاد في إقامة الحق وتنفيذه، وإلزام من هو عليه، من الأجر

الجزيل عند الله، وحسن الذكر، ولسان الصدق. (فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه) قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} فمن فعل ذلك (كفاه الله ما بينه وبين الناس) وفي الحديث "من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس" والمخلص في العمل قد يجعل الله له ثواب إخلاصه: المحبة والمهابة في قلوب الناس، مع ما يدخره له في الآخرة (ومن تزين بما ليس فيه، شانة الله) أي بين الناس، لأنه شان باطنه عند الله، فعامله بنقيض قصده. (فإن الله لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصًا) له وموافقًا شرعه وقال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أخلصه وأصوبه، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة (فما ظنك بثواب عند الله) يجزيك به على عملك إذا كان خالصًا وذلك الثواب يكون (في عاجل رزقه) إما للقلب وإما للبدن أولهما فإن الله تعالى يجزيك من خير الدنيا (و) كذا (خزائن رحمته) يكون مدخرًا لك في الآخرة، وليس ما يحصل في الدنيا جزاء توفيه بل يكمل له أجره في الآخرة، قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} فمن أخلص لله في أعماله في القضاء بين الناس أو غيره، نال الثواب الجزيل في الدنيا والآخرة.

(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما وغيره (قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي) وهو من يعطي الذي يعينه على الباطل، وإن كان على حق مجمع عليه جاز (والمرتشي) الآخذ الرشوة في الحكم، وهو من حديث أبي هريرة فاستحقا اللعن جميعًا، لتوصل الراشي بماله إلى الباطل، والمرتشي للحكم بغير الحق (رواه الخمسة، وصححه الترمذي) وابن حبان وغيرهما، وزاد أحمد "والرائش" وهو الذي يمشي بينهما يعني السفير بين الدافع والآخذ وإن لم يأخذ على سفارته أجرًا فإن أخذ فهو أبلغ. والرشوة حرام بإجماع المسلمين، سواء كانت للقاضي، أو للعامل على الصدقة، أو لغيرهما، وقد قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. وقال الشيخ: أجمع المسلمون على أن الحاكم ليس له أن يقبل الرشوة، وما يأخذه القضاة من الأموال أربعة أقسام، رشوة وهي حرام بالإجماع، وهدية فإن كان لا يهدي إليه إلا بعد الولاية فإن كانت ممن لا خصومة بينه وبين أحد عنده جازت وكرهت، وإن كانت ممن بينه وبين أحد خصومة عنده، فهي حرام على الحاكم والمهدي، وأما الأجرة فإن كان للحاكم جراية من بيت المال ورزق حرمت بالاتفاق، لأنه إنما أجري له الرزق لأجل الاشتغال بالحكم، وإن كان لا جراية له فقيل بالجواز لأنه إنما يعطى لكونه يعمل عملاً لا لأجل كونه حاكمًا ولا

يستحق لأجل كونه حاكمًا بالاتفاق، فأجرة العمل أجرة مثله. ومن ادعى أن بعض الحكام أخذ منه شيئًا فقال الشيخ: إن كان الرجل معروفًا بالصدق، فله على الحاكم اليمين، وإن كان غيره من الصادقين قد قال مثل قوله، فينبغي عزل الحاكم، وإن كان الحاكم معروفًا بالأمانة، والرجل فاجر، لم يلتفت إلى قوله، وإن كان كل منهما متهمًا، فله تحليفه، ولا يعزر. (وعن جابر) رضي الله عنه (مرفوعًا: كيف تقدس أمة) أي كيف تطهر أمة (لا يؤخذ من شريفهم) أي لا يؤخذ الحق من شريف تلك الأمة وكريمهم وفي لفظ: " من شديدهم" (لضعيفهم) الذي تستضعفه تلك الأمة وتتجبر عليه لضعفه وفقره (رواه ابن حبان) وابن خزيمة وابن ماجه، وله شواهد كثيرة، والمراد أنها لا تطهر أمة من الذنوب، لا ينتصف لضعيفها من قويها فيما يلزم من الحق له، فإنه يجب نصر الضعيف حتى يأخذ حقه من القوي، وفي الحديث: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا". (وعن عمرو بن مرة) رضي الله عنه (مرفوعًا: من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين) سلطانًا كان أو أميرًا أو قاضيًا أو غيرهم ممن ولي (فاحتجب عن حاجتهم) وفقيرهم وفي حديث معاذ عند أحمد "فاحتجب عن أولي الضعف والحاجة" (احتجب الله دون حاجته) يوم القيامة (رواه أبو داود) ورواه الترمذي ولفظه.

"ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة، وإلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته" والحديث وما في معناه دليل على أنه يجب على من ولي من أمور المسلمين قضاء أو غيره أن لا يحتجب عنهم، وأن يسهل الحجاب ليصل إليه ذو الحاجة من فقير وغيره. (وكتب - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى) عظيم فارس "سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله فإني أنا رسول الله (و) كتب إلى (قيصر) عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الله، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، "ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، وبينكم، أن لا نعبد إلا الله إلخ (و) كتب إلى (النجاشي) ملك الحبشة وهو غير أصحمة. (و) كتب (إلى ملوك الأطراف) فكتب إلى المقوقس ملك الإسكندرية، وإلى المنذر بن ساوي العبدي، ملك البحرين، وإلى جيفر الجلندري، وعمار صاحبي عمان، وإلى هوذة بن علي صاحب اليمامة، وغيرهم. (و) كتب إلى (ولاته وسعاته وغيرهم) مما يطول عدهم وتقوم بها الحجة، ولم يكن يشافه رسولاً بكتابه، ولا جرى هذا

في مدة حياته، بل يدفع الكتاب مختومًا، ويأمر بدفعه إلى المكتوب إليه، وهذا معلوم بالضرورة لأهل العلم بسيره وأيامه، وفي الصحيح "ما حق امرئ، مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" ولو لم يجز الاعتماد على الخط، لم يكن لكتابة وصيته فائدة، فدلت كتبه - صلى الله عليه وسلم - المستفيضة وكتب الخلفاء والأمراء والقضاة والعمال وغيرهم بعضهم إلى بعض على قبول كتاب القاضي إلى القاضي، لدعاء الحاجة إليه، وأجمعت عليه الأمة في الجملة. وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب، فإنه لو لم يعمل بما فيها تعطلت الشريعة حتى قال الشيخ: الأمراء الذين يستدينون ما يحتاجون إليه، ويكتب الأمير خطه لصاحبه، أو يقيده وكيله أو نائبه في دفتره، أو يقرض دراهم وكل ذلك بغير حجج ولا إشهاد، ثم يموت فكل ما وجد بخط الأمير أو أقر به كاتبه أو وكيله في ذلك، فيجب العمل بذلك لأن خطه كلفظه، وإقرار وكيله فيما وكل فيه مقبول، فلا تحتاج أصحاب لحقوق إلى بينة، لأن في ذلك ظلمًا للأموات، وخروجًا عن العدل المعروف. وقال الوزير: اتفقوا على أن كتاب القاضي إلى القاضي من مصر إلى مصر، في الحقوق التي هي المال أو ما كان المقصود منه المال، جائز مقبول واتفقوا على أنه في الحدود والقصاص، والنكاح والطلاق والخلع غير مقبول، إلا مالكًا، وقال الشيخ:

يقبل في الحدود والقصاص، وهو مذهب مالك وأبي ثور والشافعي، أيضًا في القصاص، والمحكوم إذا كان عينًا في بلد الحاكم فإنه يسلمه إلى المدعي ولا حاجة إلى كتاب، وأما إن كان دينًا أو عينًا في بلد أخرى، فهنا يقف على الكتاب. وإذا كان المحكوم غائبًا فينبغي أن يكاتب الحاكم بما ثبت عندهن من شهادة الشهود، حتى يكون الحكم في بلد التسليم، ولو أوجب لكان متوجهًا وقال: وإخبار الحاكم أنه ثبت عنده بمنزلة إخباره أنه حكم به، أما إن قال: شهد عندي فلان أو أقر عندي فلان، فهو بمنزلة الشاهد سواء، فإنه في الأول تضمن قوله: ثبت عندي الدعوة والشهادة والعدالة أو الإقرار، وهذا من خصائص الحكم، بخلاف شهد عندي، أو أقر عندي، فإنما يقتضي الدعوى اهـ. ويقبل كتاب القاضي فيما حكم به لينفذه المكتوب إليه، وإن كان كل منهما في بلد واحد، لا فيما ثبت عنده ليحكم به إلا أن يكون بينهما مسافة قصر، فأكثر، ويجوز إلى قاض معين وإلى من يصل إليه من قضاة المسلمين من غير تعيين، واشترط بعضهم الإشهاد عليه، وقال ابن القيم وغيره: لم يزل الخلفاء والقضاة وغيرهم يعتمدون كتب بعضهم إلى بعض، ولا يشهدون حاملها على ما فيها، ولا يقرأونه عليه، هذا عمل الناس من زمن نبيهم إلى الآن قال: والقصد حصول العلم

باب القسمة

بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف وتيقن، كان كنسبة اللفظ إليه. وقد جعل الله في خط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره، كتمييز صورته وصوته، والناس يشهدون شهادة لا يستريبون فيها أن هذا فيه خط فلان، وقال: ومن عرف خطه بإقراره أو إنشاء أو عقد أو شهادة عمل به كالميت، فإن حضر وأنكر مضمونه فكاعترافه بالضرب، وإنكار مضمونه، وقال الشيخ: العمل بالخط مذهب قوي، بل هو قول جمهور السلف اهـ، ويلزم الحاكم أن يكتب للمدعي عليه إذا ثبتت براءته محضرًا بذلك، إن تضرر بتركه، وللمحكوم عليه أن يطالب الحاكم عليه بتسمية البينة ليتمكن من القدح فيها بالاتفاق. باب القسمة من قسمت الشيء إذا جعلته أقسامًا والقسم بالكسر النصيب. والقسمة نوعان قسمة تراض وهي قسمة الأملاك التي لا تنقسم إلا بضرر أو رد عوض، وقسمة إجبار، وهي ما لا ضرر فيه، ولا رد عوض، والأصل في القسمة الكتاب والسنة والإجماع والحاجة داعية إلى القسمة في المشترك، لدفع ضرر الشركة قال تعالى {وَنَبِّئْهُمْ} أي قومك (أن الماء قسمة بينهم)

أي يوم للناقة، ويوم لهم (كل شرب) نصيب (محتضر) يحضره من كانت نوبته، قال الشيخ: وإذا كان بينهما أشجار فيها الثمرة وأغنام فيها اللبن والصوف، فهو كاقتسام الماء الحادث والمنافع الحادثة وجماع ذلك انقسام المعدوم لكن لو نقص الحادث المعتاد فللآخر الفسخ. وقال الوزير: اتفقوا على جواز القسمة فيما لا ضرر فيه، فما أمكن قسمه بالأجزاء كبئر واسعة، يمكن أن يجعل نصفها لواحد، ونصفها للآخر ويجعل بينهما حاجز في أعلاها، أو يكون البناء كبيرًا يمكن أن يجعل لكل منهما نصفه، أو يكون في أحد جانبي الأرض بئر يساوي مائة مثلاً وفي الجانب الآخر مثلها فهو من قسمة الإجبار، إذا طلب شريكه القسمة أجبر عليها، وكذا كل ما لا ضرر في قسمه، ولا رد عوض، كالدور والبساتين والأرض الواسعة، والدكاكين، والمكيل والموزون من جنس واحد، وهي إفراز لا بيع. (وقال: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} يعني قسمة المواريث {أُولُو الْقُرْبَى} ممن لا يرث {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} أمر ندب أو وجوب، أو منسوخ بالميراث والوصية فعموم الآية يدل على مشروعية القسمة (وقسم - صلى الله عليه وسلم -) بعض (خيبر) على الغزاة، ووقف نصفها رواه أبو داود وغيره، فدل على جواز قسمة الأرضين، والوقف على جهة واحدة أو جهات لا تقسم عينه اتفاقًا لكن تجوز بالمهايات بلا مناقلة.

(وقسم) - صلى الله عليه وسلم - (الغنائم) يوم خيبر، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه، وجاء أنه لم يسهم لخيل الرجل أكثر من اثنتين فيكون له خمسة واحد له، وأربعة لفرسيه، فما أمكن فيه التعديل بالأجزاء كالمكيلات والموزونات غير المختلفة، أو بالقيم إن اختلفت أو بالرد إن اقتضته القسمة، أجبر الممتنع عليه، قال ابن القيم: وتجوز قسمة الدين في الذمم ويختص كل بما قبضه، سواء كان في ذمة أو ذمم وهو أولى من قسمة المنافع بالمهايات، ولا يهدم ذلك قاعدة من قواعد الشريعة، ولا خالف نص كتاب ولا سنة، ولا قول صاحب، ولا قياسًا شهد له الشرع باعتبار، وليس في أصول الشريعة ما يمنعه. (وتقدم) في باب الشفعة (قوله: الشفعة فيما لم يقسم) من العقار وغيره، "فإذا وقعت الحدود" أي حصلت قسمة الحدود في المبيع، واتضحت بالقسمة مواضعها "فلا شفعة" الحديث متفق عليه، وفيه دليل على مشروعية القسمة إذا لم يحصل على أحدهما ضرر، لما يأتي (و) تقدم في باب الصلح (خبر: لا ضرر ولا ضرار) فيحرم على أي صفة كان من قسمة أو غيرها ومشروعية القسمة لإزالة الضرر الحاصل بالشركة، وحصول النفع للشريكين، لأن نصيب كل واحد منهما إذا تميز كان له أن يتصرف فيه بحسب اختياره. ومشروعيتها فيما لا ضرر في قسمته، وهو قسمة الإجبار،

باب الدعاوي والبينات.

وأما قسمة التراضي فلا تجوز قسمة الأملاك التي لا تنقسم إلا بضرر أو رد عوض من أحدهما على الآخر إلا برضى الشركاء كلهم وذلك كالدور الصغار، والحمام والطاحون الصغيرين، والأرض التي لا تتعدل بالأجزاء ولا بالقيمة، وهذه في حكم البيع، لا يجبر من امتنع منها، والضرر المانع نقص قيمة المقسوم بالقسمة، لأن نقص قيمته ضرر، وهو منتف شرعًا وسواء انتفعوا به مقسومًا أولا، فإذا وجد الضرر بالقسمة، لم يجبر الممتنع. وتجوز القسمة برضاهم، ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بينهم بأنفسهم، قال ابن القيم: ويجوز الاكتفاء بواحد، لقصة عبد الله بن رواحة، وتجب عليه إجابتهم لقطع النزاع، وأجرته على قدر الأملاك، فإذا اقتسموا واقترعوا لزمت القسمة، وكيفما اقترعوا جاز، وإن خير أحدهم الآخر لزمت برضاهم وتفرقهم ويواصل بين أنصباء الشخص لدفع الضرر. باب الدعاوي والبينات الدعاوي جمع دعوى، وهي اسم مصدر من ادعى شيئًا إذا زعم أنه له، حقًا كان أو باطلاً واطصلاحًا إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو ذمته، والمدعي هو من إذا سكت ترك، والمدعي عليه هو من إذا سكت لم يترك والبينات جمع بينة، وهي الحجة الواضحة، سميت الحجة بينة

لوضوح الحق وظهوره بها، وتكون بشاهد فأكثر، وتارة بشاهد ويمين الطالب، وتارة بامرأة فأكثر، وتارة بشاهد الحال، وتارة بعلامات يصفها المدعي، وتارة يختص بها أحدهما، وتارة شبهًا بينًا وتارة قرائن ظاهرة، وتارة بنكول وغير ذلك، فإن البينة في الشرع اسم لما يبين الحق ويظهره، وقد نصب تعالى عليه علامات وأمارات تدل عليه وتبينه. قال ابن القيم: فمن أهدر الأمارات والعلامات بالكلية، فقد عطل كثيرًا من الأحكام وضيع كثيرًا من الحقوق، وعلى المدعي أن يظهر ما يبين صحة دعواه، فإذا ظهر صدقه بطريق من الطرق حكم له به، ويرجع باليد العرفية، إذا استويا والحسية أو عدمها، وإذا كانت العين بيد أحدهما فمن شاهد الحال معه كان ذلك لوثًا، فيحكم له بيمينه (قال تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} يتمنون ويشتهون مهما طلبوا من جميع أصناف الملاذ في الجنة، فعموم الآية يؤخذ منه جواز دعوى من له شيء بيد غيره، فإن الدعوى لغة هي الطلب، ولا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف، قال الشيخ، ولا تقبل بما يناقض إقراره إلا أن يذكر شبهة تجري بها العادة. (وقال) تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي بالمعروف، وكلما يعرفه الشرع، قال ابن القيم: وقد أوجبت الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوي، وذكر أن مذهب أهل المدينة من أسد المذاهب وأصحها فيها، وهي عندهم على ثلاث

مراتب الأولى: دعوى يشهد لها العرف بأنها مشبهة، أي تشبه أن تكون حقًا، مثل أن يدعي سلعة معينة بيد رجل أو غريب وديعة أو مسافر أنه أودع أحد رفقته، والمدعي على بعض أهل الأسواق المنتصبين للبيع أنه باعه منه واشترى، وما أشبه ذلك، فهذه تسمع، وله أن يقيم البينة على مطابقتها، أو يستحلف المدعى عليه. والثانية أن يدعي على رجل عينا في ذمته، أو على رجل معروف بكثرة المال، أنه اقترض منه، أو على رجل أنه باعه بثمن في ذمته، ونحو ذلك فهذه تسمع، ولمدعيها أن يقيم البينة على مطابقتها، قالوا: ولا يملك استحلاف المدعى عليه على نفيها إلا بإثبات خلطة بينه وبينه، والثالثة: أن يكون رجل حائزًا الدار، متصرفًا فيها السنين العديدة، وينسبها إلى نفسه، وإنسان حاضر يراه، ويشاهد أفعاله فيها، ولا يعارضه ولا مانع من مطالبته، ولا بينه وبينه قرابة، ولا شركة في ميراث، وما أشبه ذلك مما يتسامح فيه القرابات ثم جاء يدعيها لنفسه. فدعواه غير مسموعة أصلاً فضلا عن بينته، لأن كل دعوى يكذبها العرف، وتنفيها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة واستدلوا بقوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} وأوجبت الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوي، كالنقد وغيره، كالدار بيد حائزها المدة الطويلة، وليس ذلك خلاف العادات، فإن الناس لا يسكتون على ما يجري هذا

المجرى من غير عذر، وكوصي على طفل وفي يده شيء انتقل إليه من أبيه، إذا ادعى على صاحب اليد دعوى يكذبه فيها الحس، فلا تسمع دعواه بل ولا يحلف له. وقالوا: ومن كانت دعواه ينفيها العرف، فإن الظن أسبق إليه في عدواه بالبطلان، كبقال يدعي على خليفة وأمير ما لا يليق بمثله شراؤه، أو يدعي رجل معروف بالفجر وأذى الناس على مشهور بالديانة والصلاح أنه سرق متاعه، أو تعرض لأهله بكلام قبيح أو فعل، فلا تسمع ويعزر المدعي بذلك، ونحو ذلك، من الدعاوي، التي يشهد الناس بفطرهم وعقولهم أنها من أعظم الباطل. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا: لو يعطى الناس بدعواهم) أي لا يقبل قول، أحد فيما يدعيه، وهذا نص واضح في أنه لا يعطى أحد بمجرد دعواه، ولو جاز ذلك (لادعى رجال دماء قوم وأموالهم) لما ركب في طباع غالب البشر إلا من حماه الله- من الطمع في حق الغير، مهما وجد إليه سبيلاً فقرر الشارع ما يحفظ على خلقه ما أعطاهم من نعمة، وبين - صلى الله عليه وسلم - الحجة المانعة فقال: (ولكن اليمين على المدعي عليه، متفق عليه) وفي رواية لهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين على المدعى عليه، فإذا ساغت الدعوى، ولا بينة للمدعي على ما ادعاه، حلف المدعي عليه وبرئ لضعف جانب المدعي،

والحجة القوية مع المدعي عليه، لأن الأصل فراغ ذمته مما ادعى عليه به فاكتفى منه باليمن. (وعنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما (مرفوعًا) البينة على المدعي واليمين على من أنكر) أي ما ادعي به عليه، رواه البيهقي وغيره و (صححه الحافظ) ولابن حبان نحوه من حديث ابن عمر، وللترمذي من حديث عمرو بن شعيب، وفي هذه الأحاديث دليل واضح أنه لا يقبل قول أحد فيما يدعيه لمجرد دعواه بل يحتاج إلى البينة أو تصديق المدعي عليه، فإذا تداعيا عينًا هي بيد أحدهما فهي لمن هي بيده مع يمينه في الجملة إذا سئل إحلافه ولم تكذبها القرائن الظاهرة. قال ابن القيم: والأيدي ثلاث يد يعلم أنها مبطلة ظالمة، فلا يلتفت إليها، ويد يعلم أنها محقة عادلة فلا تسمع الدعوى عليها، ويد يحتمل أن تكون محقة، وأن تكون مبطلة فهي التي تسمع الدعوى عليها، ويحكم بها عند عدم ما هو أقوى منها، فالشارع لا يعتبر يدًا شهد العرف والحس أنها مبطلة، ولا يهدر يدًا شهد العرف بكونها محقة، واليد المحتملة يحكم فيها بأقرب الأشياء. وهو الأقوى فالأقوى اهـ. فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك، وهذا مذهب سلف الأمة، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه طلب البينة من المدعي، واليمين من المنكر، في حكومات معينة كثيرة، وعموم حديث "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر".

قال ابن القيم: لم يقل بعمومه أحد من علماء الأمة إلا طائفة من فقهاء الكوفة، وأما سائر علماء الأمة فتارة يحلفون المدعى عليه، كما جاءت بذلك السنة، والأصل عندهم أن اليمين مشروعة في أقوى الجانبين وأجابوا عن ذلك الحديث تارة بالتضعيف، وتارة بأنه عام، وأحاديثهم خاصة، وتارة بأن أحاديثهم أصح وأكثر، فالعمل بها عند التعارض أولى اهـ. والحكمة والله أعلم في جعل اليمين على المدعى عليه هو قوله "لو يعطى الناس بدعواهم" الحديث. وقال بعضهم: الحكمة في ذلك أن جانب المدعي ضعيف، لأنه يقول بخلاف الظاهر، فكلف الحجة القوية، وهي البينة، لأنها لا تجلب لنفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضررًا فيقوى بها ضعف المدعي، وأما جانب المدعى عليه فهو قوي لأن الأصل فراغ ذمته، فاكتفي فيه باليمين، وهي حجة ضعيفة، لأن الحالف يجلب لنفسه النفع، ويدفع عنها الضرر، فكان في ذلك غاية الحكمة، وإن كان للمدعي بينة أقامها ولا يحلف معها، اكتفاء بها، وإن كانت بينته بشهادة وارتاب الحاكم فيها، فقال ابن القيم: ليس ببعيد، قد شرع تحليفهما من غير ملتنا. وقال ابن عباس فيمن شهدت بالرضاع، قال الشيخ: هذان الموضعان قبل فيهما الكافر والمرأة للضرورة فقياسه أن من قبلت شهادته للضرورة استحلف وقال ابن القيم: إذا

كان للحاكم أن يفرق الشهود إذا ارتاب بهم، فأولى أن يحلفهم إذا ارتاب بهم. (وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض على قوم اليمين) أي سألهم أن يحلفوا (فأسرعوا) كل منهم يريد أن يحلف ليستحق (فأمر أن يسهم بينهم) أي يقرع بينهم (أيهم يحلف) على ما ادعاه أي فمن خرجت له القرعة حلف وأخذ ما ادعى (رواه البخاري) ولأبي داود، أن رجلين اختصما في متاع ليس لواحد منهما بينة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «استهما على اليمين» وروي عن علي نحوه في نعل ادعاها اثنان، وأقام كل منهما بينة فقضى أن يحلف أحدهما أنه ما باعه ولا وهبه، وأنه نعله فإن تشاحا أيهما يحلف أقرع بينهما فأيهما قرع حلف وأخذ. فدلت هذه الأخبار على أن الخصمين إذا استويا في الدعوى ولا بينة لواحد منهما، وليست في يده، أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف واستحق، وذلك أن ترجيح أحد الخصمين بلا مرجح لا يسوغ، فلم يبق إلا المصير إلى ما فيه التسوية بين الخصمين وهو القرعة، وهذا نوع من التسوية المأمور بها بين الخصوم. وعند جمهور أهل المدينة، وقول الشافعي وأحمد أنه إذا أقام كل واحد منهما بينة، قضي بها للداخل، وهو الذي بيده العين ولغت بينة الخارج، وإن ادعى أنه اشترى من زيد شيئًا وادعى الآخر كذلك، وأقامة بينة، صحح أسبق التصرفين إن

علم التأريخ، وإلا تساقطتا وقال الشيخ: الأصوب أنهما لم يتعارضا فإنه من الممكن أن يقع العقدان لكن يكون بمنزلة لو زوج وليان وجهل السابق، فإما أن يقرع أو يبطل العقدان بحكم أو بغير حكم. (وعن أبي أمامة) الباهلي رضي الله عنه (مرفوعًا: من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه) وفي لفظ "حق امرئ مسلم بيمينه" (فقد أوجب الله له النار) بما اقتطعه من مال أخيه المسلم (وحرم عليه الجنة) وهذا وعيد شديد وأحاديث الوعيد تجري على ظاهرها (فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرا) أي ما اقتطع بيمينه (قال: وإن كان قضيبا من أراك) شجر معروف (رواه مسلم) فدل الحديث على عظم ذنب من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه وشدة الوعيد على ذلك، وسواء حلف ليأخذ حقًا لغيره، أو يسقط عن نفسه حقًا لغيره، والتعبير بحق المسلم يدخل فيه ما ليس بمال، وذكر المسلم خرج مخرج الغالب وإلا فالذمي مثله، في هذا الحكم. (ولهما عن الأشعث) بن قيس بن معدي كرب الكندي، رئيس وفد كندة سنة عشر، وكان مطاوعًا في قومه في الجاهلية والإسلام، مات سنة اثنتين وأربعين، روى هذا الخبر (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من حلف على يمين يقتطع بها) أي يأخذ بها (مال امرئ مسلم) وتقدم في رواية مسلم من حديث أبي أمامة "حق امرئ مسلم" (وهو فيها فاجر) أي متعمد عالم أنه

غير محق فالمراد باليمين في حديث أبي أمامة اليمين الفاجرة ولذلك قرن بين الحديثين. (لقي الله وهو عليه غضبان) فيه إثبات الغضب لله كما هو مذهب أهل السنة. وفي إثبات غضب الله عليه، وإيجاب النار له، وتحريم الجنة، إذا لم يتب ويتخلص من الحق الذي أخذه بالباطل، أعظم وعيد، وأدل دليل على أنه من الكبائر. وفيه أن اليمين الفاجرة في الحكم الظاهر، كيمين البر، لخبر الذي قال: لا يتورع من شيء؛ ليس لك إلا ذلك. (وللبخاري عن أبي هريرة) رضي الله عنه "ورجل حلف على يمين كاذبة" (بعد العصر) ليقتطع بها مال امرئ مسلم يعني فهو من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، وهذا وعيد شديد، وخص ما بعد العصر لشرفه، بسبب اجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار فيه، فدل الحديث على عظم إثم من حلف فيه كاذبًا ليقطتع مال امرئ مسلم بيمينه، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب. (وعن جابر) رضي الله عنه (قال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من حلف على منبري هذا» وكان ثلاث درجات ثم زيد إلى سبع (بيمين آثمة) أي كاذبة يستحل بها مال مسلم (تبوأ مقعده من النار) وهذا وعيد شديد، لمن استحل مال امرئ مسلم

بيمينه يجري على ظاهره، أبلغ في الزجر (رواه أبو داود) ورواه أحمد، وصححه ابن حبان، ورواه النسائي بلفظ "من حلف على منبري هذا بيمين كاذبة، يستحل بها مال امرئ مسلم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً" وهذا أعظم وعيد. والحديث دليل على عظم إثم من حلف على منبره - صلى الله عليه وسلم - كاذبًا ولأبي داود من حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل حلفه "إحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ما له عندي شيء يعني المدعي وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظيم إثم حلف الكاذب عند منبره، واستدل به بعضهم على جواز التغليظ على الحالف، بزمان معين كبعد العصر ويوم الجمعة، ونحو ذلك أو بمكان معين كالحرم والمسجد، ومنبره - صلى الله عليه وسلم - وبالتغليظ في لفظ اليمين، وهو مذهب جمهور العلماء. وقد ورد عن جماعة من الصحابة طلب التغليظ على خصومهم في الأيمان، بالحلف بين الركن والمقام، وعلى منبره - صلى الله عليه وسلم - وورد عن بعضهم الامتناع عن الإجابة إلى ذلك، وروي عن بعض الصحابة التحليف على المصحف وذكر ابن القيم من فوائد اليمين تخويف المدعي عليه سواء عاقبة الحلف الكاذب، فيحمله ذلك على الإقرار بالحق، ومنها القضاء عليه بنكوله عنها، ومنها انقطاع الخصومة والمطالبة في الحال، وتخليص كل من الخصمين من ملازمة الآخر، ولكنها لا تسقط

الحق، ولا تبرئ الذمة باطنًا ولا ظاهرًا، فلو أقام بينة سمعت وحكم بها، ومنها إثبات الحق بها، إذا ردت على المدعي، أو أقام شاهدًا واحدًا ومنها تعجيل عقوبة الكاذب، المنكر لما عليه من الحق، فإن اليمين الغموس تدع الديار بلاقع، فيتشفى بذلك المظلوم، عوضًا عن ظلمه بإضاعة حقه. (ولابن ماجه عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا: من حلف بالله فليصدق) فيما يحلف عليه، وتقدم عظم الوعيد على الكاذب (ومن حلف له بالله فليرض) تعظيمًا لله، حيث حلف باسمه تعالى أو صفة من صفاته، وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي قال إنه لا يبالي قال: "ليس لك إلا ذلك" أي إلا يمينه (ومن لم يرض فليس من الله) وعيد لمن لم يرض، ففيه الاكتفاء بمجرد الحلف بالله كما تقدم، أو صفة من صفاته، من دون تغليظ بزمان أو مكان، ولعل ما تقدم من التغليظ بزمان أو مكان، أو بزيادة قول الحالف مع يمينه: العظيم الذي لا إله إلا هو: فيما له وقع فالله أعلم. (وعن أبي موسى) الأشعري رضي الله عنه (أن رجلين اختصما في دابة) لعلها لم تكن في يد أحدهما ولا ثم قرينة و (ليس لواحد منهما بينة) ليحكم له ببينة ولعله ما ثم قرينة تقوي جانب أحدهما (فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما نصفين) وقيل يشبه أن تكون في أيديهما معًا فقضى بها بينهما لاستوائهما

(رواه أبو داود) ورواه النسائي وجود إسناده، فإذا لم تكن العين بيد أحدهما، ولا ثم ظاهر يعمل به ولا بينة لأحدهما فهي بينهما نصفين، وقال بعضهم: تحالفا وتناصفاها، وإن نكل أحدهما فهي للآخر، وإن وجد أمر ظاهر لأحدهما عمل به فيحلف ويأخذها فلو تنازع الزوجان في قماش البيت فما يصلح لرجل فله، وما يصلح لامرأة فلها وما يصلح لهما فلهما. (وللدارقطني) وضعفه ورواه البيهقي، ولم يضعف إسناده وأخرج نحوه عن الشافعي والحديث (عن جابر) رضي الله عنه (أن رجلين اختصما في ناقة) وما رواه البيهقي عن الشافعي في دابة (فقال كل واحد منهما) أي المتخاصمين (نتجت) أي وضعت (هذه الناقة عندي؛ وأقاما بينة) أي أقام كل من الخصمين بينة على أن هذه الناقة نتجت عنده (فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للذي هي في يده) فدل على أن اليد مرجحة للشهادة الموافقة لها، فإذا تداعيا عينًا هي بيد أحدهما، وأقام كل منهما بينة أنها له قضي بها لمن هي بيده، وإن تداعيا عينًا هي بيد أحدهما ولا بينة، فهي لمن هي بيده بيمينه، وإن كانت بيديهما تحالفا وتناصفاها.

باب الشهادات

باب الشهادات واحدتها شهادة مشتقة، من المشاهدة، لأن الشاهد يخبر عما شاهده، وهي الإخبار بما علمه، وقال بعضهم: بلفظ أشهد أو شهدت، وكثير من الفقهاء وهو رواية عن أحمد وغيره أنه لا يشترط لفظ أشهد، قال ابن القيم: الإخبار شهادة محضة في أصح الأقوال، وهو قول الجمهور، فإنه لا يشترط في صحة الشهادة لفظ أشهد، بل متى قال الشاهد رأيت كيت وكيت، أو سمعت ونحو ذلك كانت شهادة منه، وليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موضع واحد يدل على اشتراط لفظ الشهادة ولا عن رجل واحد من الصحابة، ولا قياس، ولا استنباط يقتضيه، بل الأدلة المتضافرة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة ولغة العرب تنفي ذلك، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وظاهر كلام أحمد. وذكر الأدلة ثم قال: قال شيخنا: لفظ الشهادة لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا أقوال أحد من الصحابة، ولا يتوقف إطلاق لفظ الشهادة لغة على ذلك، وقال: إقرار بالشهادة بمنزلة الشهادة، بدليل الأمة السوداء في الرضاع اهـ. والشهادة سبب موجب للحق، وحيث امتنع آداؤها، امتنع كتابتها وظاهر كلام الشيخ وغيره يحرم كتمانها ويقدح فيها ولو كان بيد إنسان شيء لا يستحقه، ولا يصل إلى مستحقه، إلا بشهادة لزمه أداؤها وتعين، ولو كان الشهود أكثر من نصاب

الشهادة، وطلب أحدهم وجب عليه أداؤها في أصح قولي العلماء، وأما إذا كان المطلوب لا يتم نصاب الشهادة إلا به فقد تعينت عليه إجماعًا والأصل في الشهادة الكتاب والسنة والإجماع، وكذا الاعتبار لدعاء الحاجة إليها، لحصول التجاحد بين الناس، فوجب الرجوع إليها. (قال تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} أي للتحمل، فعليهم الإجابة، ومذهب الجمهور أنه فرض كفاية، وفي الأداء إذا دعي للأداء فعليه الإجابة عينًا، إذا تعينت عليه، فإن الشاهد حقيقة فيمن تحمل، وقال ابن القيم: نعم التحمل والأداء فهي حق يأثم بتركه، قال الشيخ: يجب على من طلبت منه الشهادة أداؤها، بل إذا امتنع الجماعة من الشهادة أثموا كلهم، باتفاق العلماء، وقدح ذلك في دينهم وعدالتهم. قال ابن القيم: وقياس المذهب أن الشاهد إذا كتم الشهادة بالحق ضمنه، لأنه أمكنه تخليص حق صاحبه فلم يفعل، فلزمه الضمان، كما لو أمكنه تخليصه من هلكة فلم يفعل، وطرد هذا: الحاكم إذا تبين له الحق فلم يحكم لصاحبه به، فإنه يضمنه، لأنه أتلفه عليه، بترك الحكم الواجب عليه {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ} أي الحق {صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} أي إلى محل الحق {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ} أي أعدل {عِنْدَ اللهِ} لأنه أمر به وإتباع أمره أعدل من تركه {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} لأن الكتابة تذكر الشهود (وأدنى) أحرى وأقرب {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} تشكوا في الشهادة

والمراد: هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلاً هو أعدل عند الله، وأثبت للشاهد إذا وضع خطه، ثم رآه تذكر به الشهادة، لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه، كما هو الواقع غالبًا، وهو أقرب إلى عدم الريبة، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه، فيفصل بينكم بلا ريبة، واستثنى تعالى فقال: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} لانتفاء المحذور في ترك الكتابة. (وقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} أي أشهدوا على حقكم، سواء كان فيه أجل أو لم يكن، والجمهور أنه على الندب والإرشاد، لا على الوجوب لقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} قال: {وَلَا يُضَارَّ} أصله يضارر، فأدغمت إحدى الرائين في الأخرى، ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين، أي ولا يضار {كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} قيل معناه: لا يضار الكاتب فيأبى أن يكتب، ولا الشهيد فيأبى أن يشهد، أو يزيد الكاتب أو ينقص، أو يحرف ما أملي عليه، أو الشهيد بما لم يستشهد عليه، أو يكتمها. وقيل: لا يضر بهما، بأن يدعوهما إلى الكتاب والشهادة، فيقولان إنا على حاجة، فيقول إنكما قد أمرتما أن تجيبا فليس له أن يضارهما ثم قال: {وَإِنْ تَفْعَلُوا} أي ما نهيتكم عنه {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

وقال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} أي إذا دعيتم إلى إقامتها، فلا تخفوها ولا تغلوها، بل أظهروها قال ابن عباس شهادة الزور من أكبر الكبائر، وكتمان الشهادة كذلك {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} أي فاجر قلبه، وفيها من الوعيد الشديد، حتى قيل: ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة قال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وأراد به مسخ القلب، نعوذ بالله من ذلك، وخص القلب لأنه موضع العلم بها. فدلت الآية على أن أداء الشهادة فرض عين على من تحملها متى دعي إليها إن قدر بلا ضرر يلحقه في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله، لما تقدم من قوله {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} ثم قال تعالى: {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: بيان الشهادة وكتمانها {عَلِيمٌ} فلا يخفى عليه خافية، وإذا غلب على ظن الشاهد أنه يمتحن فيدعى إلى القول المخالف للكتاب والسنة، أو إلى محرم، فلا يسوغ له أداء الشهادة اتفاقًا اللهم إلا أن يظهر قولاً يريد به مصلحة عظيمة. (وقال) تعالى: {كُونُوا} أي أيها الذين آمنوا {قَوَّامِينَ} أي قائمين لله {بِالْقِسْطِ} أي بالعدل، فلا تعدلوا عنه يقينًا ولا شمالاً ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا يصرفكم عنه صارف {شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي قولوا الحق ولو على أنفسكم ولو ضرره عليك، فإن الله يجعل لمن أطاعه مخرجًا من كل أمر يضيق عليه، ثم قال: {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فلا تراع

أحدًا في الشهادة، قريبًا كان أو بعيدًا، بل أدها ابتغاء وجه الله، عادلة خالية من التحريف. (وقال) تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ} أي كونوا قوامين لله بالصدق قوالين به، لا لأجل الناس، ولا للسمعة وكونوا {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل لا بالجور، وقال - صلى الله عليه وسلم - في نحلة بشير لابنه النعمان "لا تشهدني على جور" فتقبل شهادة الأب على ابنه، والابن على أبيه ويأتي، ولهم إذا انتفت التهمة {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يحملنكم {شَنَآنُ قَوْمٍ} أي بغض قوم، وعداوة بينكم وبينهم، وخصومات وغير ذلك {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} أي على ترك العدل فيهم لعداوتهم، بل يجب العدل في كل أحد ثم قال: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه ثم قال: {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وسيجزي كل عامل على عمله. (وقال) تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} ضد الباطل {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي بقلوبهم ما شهدت به ألسنتهم فعموم الآية يدل على أنه لا يجوز أن يشهد إلا بما يعلمه، والعلم إما برؤية أو سماع من مشهود عليه كعتق وطلاق وعقد، أو سماع باستفاضة فيما يتعذر علمه بدونها، كنسب وموت وملك وطلاق ونكاح ووقف ونحو ذلك؛ قال الشيخ: تصح الشهادة بالمجهول، ويقضي له بالمتيقن، وللمجهول في مواضع كثيرة أما حيث يقع الحق مجهولاً فلا ريب فيها، كما لو شهد بالوصية

بمجهول، أو لمجهول، أو شهد باللقطة أو اللقيط، والمجهول نوعان: مبهم كأحد هذين ومطلق كثوب وعبد. قال: ويشهد بالاستفاضة، ولو عن واحد تسكن نفسه إليه، قال: ويتوجه أن الشهادة بالدين لا تقبل إلا مفسرة للسبب، ولو شهد شاهدان أن زيدًا يستحق من ميراث مورثة قدرًا معينًا، أو من وقف كذا وكذا جزءًا معينًا، أو أنه يستحق منه نصيب فلان ونحو ذلك، وفكل هذا لا تقبل فيه الشهادة إلا مع بيان السبب، لأن الانتقال في الميراث والوقف حكم شرعي، يدرك باليقين تارة، وبالاجتهاد أخرى، فلا تقبل حتى يتبين سبب الانتقال اهـ. ومن شهد بنكاح أو غيره من العقود فلا بد من ذكر شروطه، لاختلاف الناس في بعض الشروط، وإن شهد برضاع أو سرقة أو شرب مسكر أو قذف فإنه يصفه، ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزني بها، ويذكر ما يعتبر للحكم، ويختلف الحكم به في كل ما يشهد به فيه. (وقال) تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} البهت والكذب ولأحمد مرفوعًا " عدلت شهادة الزور الإشراك بالله" فهي كبيرة من كبائر الذنوب، ولما يأتي (وعن زيد بن خالد) الجهني رضي الله عنه (مرفوعًا: ألا أخبركم بخير الشهداء) جمع شهيد، ويجمع على شهود، أي ألا أخبركم بأكمل الشهداء في رتبة

الشهادة وأكثرهم ثوابًا عند الله (الذي يأتي بشهادته) يخبر بها (قبل أن يسألها) وفي رواية "قبل أن يستشهد " (رواه مسلم) فإذا كان عند شخص شهادة بحق، لا يعلمها صاحب الحق، فيأتي إليه فيخبره بها، أو يموت صاحبها، فيخلف ورثة فيأتي إليهم، فيخبرهم بأن عنده لهم شهادة. وقيل: المراد بها شهادة الحسبة، وهي ما لا تتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم محضًا ويدخل فيها ما يتعلق بحق الله، أو ما فيه شائبة منه، كالوقف والوصية العامة وغير ذلك، أو أن يأتي بالشهادة قبل أن يسألها، مبالغة في الإجابة فيكون في ذلك كالجواد يعطي قبل أن يسأل. قال الشيخ: والطلب العرفي أو الحالي في طلب الشهادة كاللفظي علم المشهود له أولا، وهو ظاهر الخبر، "يشهدون ولا يستشهدون" محمول على شهادة الزور، وإذا أدى الآدمي شهادة قبل الطلب، قام بالواجب، وكان أفضل، كمن عنده أمانة أداها عند الحاجة. (ولهما عن عمران بن حصين) رضي الله عنه (مرفوعًا: خير أمتي) وأفضلهم وأقلهم شرًا (قرني) لفضيلتهم في العلم والإيمان، والأعمال الصالحة (ثم الذين يلونهم) لفضيلتهم في ذلك، وهم دون القرن الأول (ثم الذين يلونهم لأنهم دون القرن الثاني. وفي رواية: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين، أو ثلاثة، والمشهود أن القرون المفضلة ثلاثة، وإن كان الثالث قد كثرت فيه البدع، لكن العلماء متوافرون، والإسلام ظاهر (ثم

إن بعدهم قومًا) أي بعد الثلاثة أو الأربعة (يشهدون ولا يستشهدون) لاستخفافهم أمر الشهادة وعدم تحريمهم للصدق، لقلة دينهم، وضعف أماناتهم، وقد وقع اليوم في ذلك الكثيره (ويخونون ولا يؤتمنون) فدل على أن الخيانة قد تغلب على كثير منهم أو أكثرهم كما يشهد له الواقع. (وللبخاري من حديث ابن مسعود) "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم" (تسبق شهادة أحدهم يمينه) استخفاف بالأيمان وبالشهادة (ويمينه شهادته) لضعف دينهم، وقلة مبالاتهم بالشهادة واليمين وتسرعهم إلى ذلك، وقد خف أمر الله عندهم، وأمر الشهادة واليمين وقل خوفهم من الله، ومبالاتهم بالشهادة واليمين، وإذا كان وقع في الصدر الأول، فما بالك بالناس اليوم، ولم يبق من الإسلام إلا اسمه؟ فالله المستعان. (وعن أبي بكرة مرفوعًا: ألا وقول الزور) الفجور والكذب والبهت (ألا وشهادة الزور) كررها لما فيها من قطع حقوق المسلمين، والضرر الحاصل بها عليهم (فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت، متفق عليه) وقد وقع ما خافه على أمته - صلى الله عليه وسلم - فلا يبالي الأكثر اليوم من قول الزور، وشهادة الزور، والكذب والفجور. (وعن عبد الله بن عمرو) رضي الله عنهما (مرفوعًا: لا

تجوز) أي لا تعتبر ولا تقبل (شهادة خائن ولا خائنة) قال أبو عبيدة تكون في حقوق الله، كما تكون في حقوق الناس، من دون اختصاص، فإذا كان خائنًا فليست له تقوى ترده عن ارتكاب محظورات الدين، التي منها الكذب، فليس عدلاً تجوز شهادته (ولا ذي غمر) بكسر فسكون الحقد والعداوة (على أخيه) أي المسلم المشهود عليه، وكذا الكافر لا يجوز أن يشهد ذو حقد عليه، إذا كانت العداوة بسبب غير الدين، فإن ذا الحقد مظنة عدم صدق خبره، لمحبته إنزال الضرر بمن يحقد عليه، وتقبل شهادة المسلم على الكافر إذا انتفى الحقد. فدل لحديث على أنه لا تقبل شهادة عدوه على عدوه، وهو مذهب الجمهور، ولخبر "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" لأنه موضع تهمة، وقد أجمع الجمهور على تأثيرها في الأحكام الشرعية. وقال ابن القيم: منعت الشريعة من قبول شهادة العدو على عدوه، لئلا يتحذ ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه، بالشهادة الباطلة، وقال الشيخ: الواجب في العدو أو الصديق ونحوهما أنه إن علم عنه العدالة الحقيقية تقبل، ويتوجه هذا في الأب ونحوه قال: (ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت) وهو الذي ينفق عليه أهل البيت، وأجازها لغير من هو تابع لهم، فالخادم المنقطع إلى الخدمة، لاتقبل شهادته، للتهمة بجلب النفع إلى نفسه، أشبه العبد. وقد حكى الإجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده،

وكذا الأجير لمستأجره، والوصي للميت، والوكيل لموكله، قال الشيخ في قوم آجروا شيئًا: لا تقبل شهادة أحدهم على المستأجر، لأتهم وكلاء أو ولاة (رواه أحمد) ورجاله ثقات، ورواه أبو داود، وفي رواية لأبي داود " ولا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا زان ولا زانية، ولا ذي غمر على أخيه " وللترمذي وغيره بسند ضعيف من حديث عائشة " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر لأخيه، ولا ظنين ولا قرابة " واعتمد الشافعي خبرًا ضعيفًا، إلا أن له طرقًا يتقوى بعضها ببعض " لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين " وللبيهقي " ذي الظنة والحنة ". فدلت هذه الأحاديث ونحوها على منع شهادة العدو على عدوه، لأن العداوة تورث التهمة، وتخالف الصداقة، فإن شهادة الصديق لصديقه بالزور، نفع غيره بمضرة نفسه، بالتشفي من غيره، بخلاف عداوة الدين لأنها لا تخل بالشهادة، وهذا مذهب جمهور العلماء، وأنها لا تقبل شهادة ظنين أي متهم، فدل على أنها ترد بالتهمة، وقال ابن رشد: اتفقوا على أنها لا تقبل شهادة الأب لابنه، والابن لأبيه، وكذا الأم لابنها، وابنها لها، وقال ابن القيم: القريب لقريبه لا تقبل مع التهمة، وتقبل بدونها، هذا الصحيح. وقال أيضًا: الصحيح أنها تقبل شهادة الابن لأبيه، والأب لابنه فيما لا تهمة فيه، نص عليه أحمد، والتهمة وحدها توجب

المنع، سواء كان قريبًا أو أجنبيًا، فشهادة القريب لا ترد بالقرابة، وإنما ترد بتهمتها، ولا ريب في دخولهم في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} كدخول الأجانب، وتناوله للجميع بتناول واحد، هذا مما لا يمكن دفعه، ولم يسثن الله ولا رسوله من ذلك لا أبًا ولا أخًا ولا قرابة، ولا أجمع المسلمون على استثناء أحد من هؤلاء، وإنما التهمة هي الوصف المؤثر في الحكم، فيجب تعليق الحكم به وجودًا وعدمًا. مما يدل على أن احتمال التهمة بين الوالد ووالده لا يمنع قبول الشهادة، أن شهادة الوارث لمورثه جائزة، وشهادة الإبنين على أبيهما بطلاق ضرتهما، فشهادة الوالد لولده وعكسه بحيث لا تهمة هناك أولى بالقبول، وهذا هو القول الذي ندين الله به، وقال عمر: تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده، والأخ لأخيه، إذا كانوا عدولاً، وإنما منع المتهم في قرابته أو ولائه، أي وإن كان عدلاً في الرواية، فإن الشهادة إلزام لمعين يتوقع منه العداوة، وحق المنفعة والتهمة الموجبة للرد، فاحتيط لها بالعدد والذكورية، وردت بالقرابة والعداوة، وتطرق التهم. ومن كان معروفًا من القرابة ونحوهم بمتانة الدين، البالغة إلى حد لا يؤثر معها محبة القرابة ونحوهم، فقد زالت عنه مظنة التهمة، ومن لم يكن كذلك فالواجب عدم قبول شهادته، لأنها مظنة للتهمة، قال ابن رشد: اتفقوا على إسقاط التهمة في

شهادة الأخ لأخيه، ما لم يدفع بذلك عن نفسه عارًا، كما قال مالك، وما لم يكن منقطعًا إلى أخيه يناله ببره أو صلته، ولأبي داود " ولا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية " لما فيهم من عدم العلم بإتيان الشهادة على وجهها، والمراد- والله أعلم- من لم تعرف عدالته، وإلا فقد قبل في الهلال بدويًا. وقال الشيخ: تقبل شهادة البدوي على القروي في الوصية في السفر، وهو أقوى من قول من قبل مطلقًا، أو منع مطلقًا، وقال: وإذا كان قاطنًا مع المدعيين في القرية، قبلت شهادته، لزوال هذا المعنى اهـ. وقد أجاز تعالى شهادة الكفار على المسلمين في السفر على الوصية للحاجة، واختار شيخ الإسلام قبول شهادة بعضهم على بعض، ومعلوم أن حاجة قبول شهادة بعضهم على بعض أعظم، ولو لم تقبل لأدى إلى ضياع حقوقهم، والكافر قد يكون عدلاً بين قومه، صادق اللهجة عندهم، فلا يمنعه كفره من قبول شهادته عليهم، إذا ارتضوه. (وقال عمر) رضي الله عنه (إن الناس كانوا يؤخذون بالوحي) لعله في الأغلب (على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -) ينزل عليه الوحي في ذلك (وإن الوحي قد انقطع) بوفاته - صلى الله عليه وسلم - (وإنما نأخذكم الآن) أي بعد النبوة (بما ظهر لنا من أعمالكم) أي وما خفي من سرائركم فإلى الله. فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته

شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة (رواه البخاري). وفيه دليل على قبول شهادة من لم يظهر منه ريبة، نظرًا إلى ظاهر الحال، وأنه يكفي في التعديل ما يظهر من حال المعدل، من الاستقامة من غير كشف عن حقيقة سريرته، لأن ذلك متعذر إلا بالوحي، وقد انقطع، وهذا وإن كان قول صاحب، فعمر خطب به وأقره من سمعه، فكان قول جماهير الصحابة، ولجريانه على قواعد الشرع، وظاهره لا يقبل المجهول، وشهد رجل عند عمر فقال: لست أعرفك، إئت بمن يعرفك، فقال رجل من القوم: أنا أعرفه. قال بأي شيء؟ قال بالعدالة. والفضل قال: هو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال: فعاملك بالدينار والدرهم الذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا. قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: لست تعرفه. ثم قال للرجل: إئت بمن يعرفك اهـ. وما يجرح به الشاهد وغيره مما يقدح في عدالته ودينه، فإنه يشهد به عليه، إذا علمه بالاستفاضة، ويكون ذلك قدحًا شرعيًا فيه، كما صرحوا بأنه يجرح بما سمعه أو رآه أو استفاض عنه، وقال شيخ الإسلام: وما أعلم في هذا نزاعًا بين الناس.

فصل في عدد الشهود

فصل في عدد الشهود لاختلاف الشهود باختلاف المشهود به، وعدها بعضهم سبعة تعلم بالاستقراء. (قال تعالى: لولا) أي هلا {جَاءُوا عَلَيْهِ} أي على ما قالوه {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} يشهدون على صحة ما جاؤا به {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} أي أربعة يشهدون على ما زعموه {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي في حكم الله كاذبون فاجرون فدلت الآية الكريمة على اعتبار أربعة شهداء يشهدون على وقوع الفعل، واعتبر العلماء صفة الفعل وزمانه ومكانه وغير ذلك، وتقدم في حد الزنا. قال ابن رشد وغيره: اتفق المسلمون على أنه لا يثبت الزنا بأقل من أربعة عدول ذكور اهـ، لأنه مأمور فيه بالستر ولهذا غلظ فيه النصاب، فإنه ليس هناك حق يضيع، وإنما حد وعقوبة، والعقوبات تدرأ بالشبهات، بخلاف حقوق الله، وحقوق عباده التي تضيع إذا لم يقبل فيها قول الصادقين. وقال ابن القيم: اشتراط الأربعة بالنص والإجماع، وأما اللواط فقالت طائفة: هو مقيس عليه في نصاب الشهادة، كما هو مقيس عليه في الحد، وقالت طائفة هو داخل في حد الزنا، لأنه وطء في فرج محرم، وقالت طائفة: بل هو أولى بالحد من الزنا فإنه وطء في فرج لا يستباح بحال، والداعي إليه قوي، فهو أولى بوجوب الحد فنصابه نصاب حد الزنا، قال:

وبالجملة فلا خلاف بين من أوجب عليه حد الزنا أو الرجم بكل حال، أنه لا بد فيه من أربعة شهداء أو إقرار، اهـ ويكفي على من أتى بهيمة رجلان، لأنه موجبه التعزيز، ومن عرف بغنى وأدعى الفقر ليأخذ من الزكاة لم يقبل إلا بثلاثة لخبر "حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى" وتقدم. (وقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أي أشهدوا من رجالكم يعني المسلمين المكلفين، وهو قول جمهور أهل العلم، واستثنى بعضهم العبيد، وقال أنس بن مالك: ما علمت أحدًا رد شهادة العبيد، وحكاه أحمد إجماعًا قديمًا وقال ابن القيم: قبول شهادة العبد هو موجب الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وصحيح القياس، وأصول الشرع، وليس مع من ردها كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}. فلا ريب في دخول العبد في هذا الخطاب، فهو عدل بنص القرآن وقد عدله الله ورسوله في قوله: "يحمل هذا الدين من كل خلف عدو له" والعبد من حملة العلم، فهو عدل بنص الكتاب والسنة، وأجمع الناس على أنه مقبول الشهادة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا روى عنه الحديث، فكيف يقبل عليه، ولا يقبل على الناس. (فإن لم يكونا رجلين) أي فإن لم يكن الشاهدان رجلين

{فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} أي فليشهد رجل وامرأتان، وأجمع المسلمون على أنه يقبل في المال وما يقصد به المال رجل وامرأتان، قال ابن القيم: إنما جعلت المرأة على النصف من الرجل لحكمة أشار إليها، وهي أنها ضعيفة العقل، قليلة الضبط لما تحفظه، وقد فضل الله الرجال عليهن في العقول والفهم والحفظ والتمييز، فلا تقوم المرأة في ذلك مقام الرجل، وفي منع قبولها بالكلية إضاعة لكثير من الحقوق، فكان من أحسن الأمور أن ضم إليها في قبول الشهادة نظيرتها، لتذكرها إذا نسيت فتقوم شهادة امرأتين مقام شهادة الرجل ويقع من العلم أو الظن بشهادتهما ما يقع بشهادة الرجل. وقال: قد جعل الله المرأة على النصف من الرجل في عدة أحكام (أحدها) هذا. و (الثاني) في الميراث و (الثالث) في الدية و (الرابع) في العقيقة و (الخامس) في العتق وقال: تنازعوا في العتق والوكالة في المال والإيصاء إليه فيه، ودعوى قتل الكافر، لاستحقاق سلبه، ودعوى الأسير الإسلام السابق لمنع رقه، وجناية الخطأ، والعمد التي لا قود فيها، والنكاح والرجعة هل يقبل فيها رجل وامرأتان؟ أم لا بد من رجلين على قولين، وهما روايتان عن أحمد، فالأول قول أبي حنيفة، والثاني قول مالك والشافعي. قال: وقد استقرت الشريعة على أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، فالمرأتان في الشهادة كالرجل الواحد، بل هذا

أولى، فإن حضور النساء عند الرجعة أيسر من حضورهن عند كتابة الوثائق بالديون، وكذلك حضورهن عند الوصية وقت الموت، فإذا سوغ فيها فهنا أولى، يوضحه أنه قد شرع في الوصية شهادة آخرين من غير المسلمين عند الحاجة، فلأن يجوز شهادة رجل وامرأتين بطريق الأولى والأحرى، بخلاف الديون، قال: "أليس شهادتها بنصف شهادة الرجل" فأطلق ولم يقيد. وقال للمدعي: "شاهداك أو يمينه" وقد عرف أنه لو أتى برجل وامرأتين حكم له، ولو لم يأت المدعي بحجة حلف المدعى عليه، وأن المقصود بالشهادة ثبوت المشهود به، وأنه حق، فإذا عقلت المرأة وحفظت، وكانت ممن يوثق بدينها، فإن المقصود حاصل بخبرها، ولهذا تقبل شهادتها وحدها في مواضع. قال شيخنا: ولو قيل يحكم بشهادة امرأة ويمين الطالب لكان متوجهًا، فالطرق التي يحكم بها الحاكم أوسع من الطرق التي أرشد الله صاحب الحق إلى أن يحفظ حقه بها، وقال: وهذا أصل عظيم يجب أن يعرف، غلط كثير من الناس فيه {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} يعني ممن كان مرضيًا في ديانته وأمانته. فدلت الآية على اشتراط العدالة في الشهود، تقيد بها كل مطلق في القرآن من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط، ثم قال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} قال ابن القيم: أي إن ضلت، وذلك لضعف العقل، قال الشيخ: فيه دليل على أن استشهاد امرأتين مكان رجل إنما هو لإذكار

إحداهما الأخرى إذا ضلت، وهذا إنما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة، وهو النسيان وعدم الضبط، فما كان فيه من الشهادات لا يخاف فيه الضلال في العادة لم تكن فيه على نصف الرجل، قال ابن القيم: وفيه دليل على أن الشاهد إذا نسي شهادته فذكره بها غيره لم يرجع إلى قوله حتى يذكرها، وليس له أن يقلده. (وقال) تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي صاحبي عدل من المسلمين في المقال، وهو الصدق والبيان الذي هو ضد الكذب والكتمان كما قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} وتقدم {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ} أيها الشهود عند الحاجة {لِلهِ} خالصة لوجهه {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. فدلت الآية على أنه يقبل في الرجعة اثنان عدلان، وتقدم أن العدل بحسبه في كل زمان ومكان، قال الشيخ: وشهادة الفاسق مردودة بنص القرآن، واتفاق المسلمين، وقد يجيز بعضهم الأمثل فالأمثل في الفساق عند الضرورة إذا لم يوجد عدول. (وقال) تعالى {اثْنَانِ} أي ليشهد ذكران، لفظ خبر ومعناه الأمر {ذَوَا عَدْلٍ} وصفهما بأن يكونا عدلين أهل أمانة وعقل {مِنْكُمْ} أي من المسلمين. فدلت الآية: أنه يقبل في الوصية عدلان، واتفقوا أنه لا

يقبل في الحدود والقصاص إلا رجلان عدلان، وأن جميع الحقوق ما عدا الزنى بشاهدين عدلين ذكرين، وأما الزنى فلعظم أمره اجتمع على ستره الشرع والقدر، فلم يقبل فيه إلا أربعة، ينتفى معها الاحتمال. (أو آخران) أي أو ليشهد مع عدم عدم حضور المسلمين يشهدون على وصية مسلم رجلان (من غيركم، الآية) أي من غير دينكم وملتكم، فيعم أهل الكتابين وغيرهم، وذلك فيما {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} والجمهور أنها ثابتة غير منسوخة، وعمل بها الصحابة وفقهاء الحديث، وبين تعالى جواز شهادة الآخرين فقال: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أي سافرتم {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} وهذا شرطان لجواز شهادة الذميين عند فقد المؤمنين، أن يكون ذلك في سفر وأن يكون في وصية. والجمهور أن يكونا شاهدين، فإن لم يكن معهما وصي اجتمع فيهما الوصفان، الوصاية والشهادة، كما في قصة تميم الداري وعدي بن بداء، أوصى إليهما رجل من المسلمين ومعه جام من فضة، يريد به الملك، فباعاه، ولما أسلم تميم تأثم ورد نصيبه، وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستحلفوا ابن بداء، فنزلت هذه الآية، وهو حكم مستقل بنفسه، لا يلزم أن يكون جاريًا على قياس جميع الأحكام، بل حكم خاص، بشهادة خاصة، في محل خاص، وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يغتفر في غيره، وقال

الشيخ: قول أحمد أقبل أهل الذمة إذا كانوا في سفر ليس فيه غيرهم، هذه ضرورة، يقتضي هذا التعليل قبولها في كل ضرورة، حضرًا وسفرًا، وصية وغيرها، كما تقبل شهادة النساء في الحدود إذا اجتمعن في العرس والحمام اهـ. فإذا قامت قرينة الريبة حلف هذا الشاهد لقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} قيل صلاة العصر، والمقصود صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم، قال ابن االقيم: فإن الله حكم بأنه إن اطلع على أن الشاهدين والوصيين ظلما وغدرا، أن يحلف اثنان من الورثة على استحقاقها، ويقضي لهم، فإن لوث الظلم والغدر أثرا في وصايتهماوشهادتهما، قال تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي ظهرت لكم منهما ريبة أنهما خانا أو غلا فيحلفان بالله {لَا نَشْتَرِي بِهِ} أي بأيماننا {ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي ولو كان المشهود عليه قريبًا لنا {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ} تعظيمًا لأمرها {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ}. {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أي فإن تحقق أنهما خانا {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أي لقولنا أنهما خانا أثبت، وهذا تحليف للورثة {وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} أي: أن يأتوا بها على وجهها {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي أقرب إلى أن يخافوا رد اليمين بعد يمينهم على المدعين، فيحلفوا على خيانتهم

فينفضحوا ويغرموا {وَاتَّقُوا اللهَ} أن تحلفوا أيمانًا كاذبة {وَاسْمَعُوا} الموعظة {وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. وذكر ابن القيم أن التحليف ثلاثة أقسام، تحليف المدعي، وتحليف المدعى عليه، وتحليف الشاهد، وتحليف المدعي في صور القسامة، وهي نوعان، قسامة في الدماء أن يبدأ بأيمان المدعي، وقسامة مع اللوث في الأموال، قال الشيخ: لما ادعى ورثة السهمي الجام المفضض، فأنكر الوصيان الشاهدان، وذكر المشتري أنه اشتراه منهما، صار لوثًا، فإذا حلف الأولياء بأن الجام كان لصاحبهم صدقًا، لكن هنا ردت اليمين على المدعي بعدما حلف المدعي عليه، وفي كلا الموضعين يعطي المدعي بدعواه مع يمينه، وإن كان المطلوب حالفًا أو باذلاً للحلف. قال ابن القيم: والحكم باللوث في الأموال أقوى منه في الدماء، وهو علامة ظاهرة لصدق المدعي، وقد أعتبرها الشارع في اللقطة والنسب، واستحقاق السلب، قال: والثانية إذا ردت عليه اليمين، والثالثة إذا شهد شاهد واحد، والرابعة في مسألة تداعي الزوجين والصانعين، والخامسة تحليفه مع شاهديه، وذكر أثارًا ثم قال: وهذا القول ليس ببعيد من قواعد الشرع، ولاسيما مع احتمال التهمة، وقال أحمد: فعله علي والصحابة قال ابن القيم: وهذا يقوى مع وجود التهمة، وأما بدونها فلا وجه له.

وإذا كان للحاكم أن يفرق الشهود إذا ارتاب بهم، كما صرح به الفقهاء، بأن الحاكم إذا ارتاب بالشهود فرقهم وسألهم كيف تحملوا الشهادة، وأين تحملوها، وإذا ارتاب بالدعوى، سأل المدعي عن سبب الحق، وأين كان، ونظر في الحال هل تقتضي صحة ذلك، وكذا إذا ارتاب بمن القول قوله، والمدعي عليه، وجب عليه أن يستكشف الحال، ويسأل عن القرائن التي تدل على صورة الحال. قال: ومنه لو ادعى عليه شهادة فأنكرها، فهل يحلف وتصح الدعوى بذلك؟ قال شيخنا: لو قيل إنه تصح الدعوى بالشهادة لتوجه، لأن الشهادة سبب موجب للحق، فإذا ادعى على رجل أنه شاهد له بحق، وسأل يمينه كان له ذلك، وإذا نكل عن اليمين لزمه ما ادعى بشهادته، إن قيل إن كتمان الشهادة موجب للضمان لما تلف، وما هو ببعيد، لكن لو ادعت الطلاق على زوجها، فقال: لا يحلف بدعواها، فإذا أقامت على ذلك شاهد واحدًا لم تحلف مع شاهدها، ولم يثبت الطلاق على زوجها، لا نعلم فيه نزاعًا بين الأئمة الاربعة، وهل يحلف لها زوجها فيه قولان أحدهما يحلف، وهو مذهب الشافعي ومالك، وأبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد. وإن نكل فهل يقضي عليه؟ فيه روايتان عن مالك "إحداهما" يطلق عليه بالشاهد والنكول، وهذا في غاية القوة، وهو مقتضى الأثر والقياس "والثانية" يحبس وقال الشيخ: من

قبلت شهادته للضرورة استحلف، وقاسه على الكافر في الوصية والمرأة في الرضاع. (وتقدم) في باب حد القذف (أربعة) كما في الآية، وفي قصة هلال "البينة" أي ائت بأربعة شهود، يشهدون على أن شريك بن سحماء زنا بامرأتك، وفي لفظ "أربعة وإلا حد في ظهرك" أي: حدًا لقذفه بالزنا، وشهد أربع شهادات بالله، قامت مقام البينة أربعة شهود، فدل على وجوب أربعة يشهدون، وأنه إن نقص العدد حدوًا حد القذف، كما فعله الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه. (وقوله) أي وتقدم قوله (شاهداك أو يمينه) في باب آداب القاضي، وذلك أنه كان بين الأشعث وبين رجل خصومة في بئر فقال - صلى الله عليه وسلم - للأشعث "شاهداك" لأن خصمه أنكر دعواه، ولما لم يكن للأشعث بينة، قال: "ليس لك إلا ذلك" أي ليس لك إلا يمينه، فدل على صحة البينة بشاهدين، وثبوت القضاء بهما وتقدم {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وإذا لم يكن للمدعي بينة فيمين المدعى عليه، وهذا قول أهل العلم من الصحابة والتابعين، إلاما ذكر في العبيد، وتقدم قبول شهادتهم. (وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال: قضي النبي - صلى الله عليه وسلم - بيمين وشاهد، رواه مسلم) ولأبي داود والترمذي نحوه

وصححه، وقال أبو حاتم: وهو صحيح، وقد أخرج الحديث عن أكثر من عشرين من الصحابة، فدلت على أنه يثبت القضاء بشاهد ويمين، وهو مذهب الجماهير من الصحابة والتابعين وغيرهم، وهو مذهب فقهاء المدينة قال الشافعي: وعمدتهم هذه الأحاديث، واليمين وإن كان حاصلها تأكيد الدعوى، لكن يعظم شأنها فإنها إشهاد لله تعالى أن الحقيقة كما يقول. ولو كان الأمر على خلاف الدعوى لكان مفتريًا على الله أنه يعلم صدقه، فلما كانت بهذه المنزلة هابه المؤمن بإيمانه، وعظمه شأن الله عنده، أن يحلف به كاذبًا، وهابه الفاجر لما يراه من تعجيل عقوبة الله لمن حلف يمينًا فاجرة، فلما كان بهذا الشأن، صلحت للهجوم على الحكم، كشهادة الشاهد، قال الخطابي: وهذا خاص بالأموال، ولا يخرج والله أعلم من الحكم بالشاهد واليمين إلا الحد والقصاص، للإجماع أنهما لا يثبتان بذلك، ولا تثبت دية، ويثبت بها المال في السرقة دون القطع، وقال ابن القيم: الذي يحكم فيه بالشاهد واليمين المال، وما يقصد به المال، كالبيع والشراء وتوابعهما، من اشتراط صفة في المبيع، أو نقد غير نقد البلد، والإجارة والجعالة والمساقاة والمزارعة والمضاربة والشركة والهبة. قال: والحكم بالشاهد واليمين حكم بكتاب الله فإن الله أمر بالحكم بالحق، والرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حكموا به، ولا

يحكمون بباطل، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} وهو مما حكم به فهو عدل مأمور به من الله ولا بد، ولا يعارض واليمين على المدعى عليه" فإن المراد به إذا لم يكن مع المدعي إلا مجرد الدعوى، فإنه لا يقضى له بمجرد الدعوى، فأما إذا ترجح جانبه بشاهد أو لوث أو غيره لم يقض له بمجرد دعواه، بل بالشاهد المجتمع من ترجيح جانبه ومن اليمين، قال: ومن شرطها تقدم الشهادة عليها، فيشهد الشاهد أولاً، ثم يحلف صاحب اليمين، وقال: الحكم بهما تقوية، فلو رجع الشاهد كان الضمان عليه. وقال: إذا عدمت امرأتان قامت اليمين مقامهما والشاهد واليمنى سكت عنه القرآن، وفسرته السنة، وقال: قد ذهب طائفة من قضاة السلف العادلين إلى الحكم بشهادة الواحد إذا ظهر صدقه من غير يمين، فإذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد، جاز له الحكم بشهادته، وإن رأى تقويته باليمين فعل، وإلا فليس ذلك بشرط، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما حكم بالشاهد واليمين لم يشترط اليمين بل قوى بها شهادة الشاهد. وأجاز شريح وزرارة شهادة شاهد واحد علما صدقة وعدل النبي - صلى الله عليه وسلم - شهادة خزيمة بشهادة رجلين، وقبل شهادة الأعرابي وحده على هلال رمضان، وأجاز شهادة الشاهد الواحد في قصة السلب، ولا استحلفه، وهو الصواب، ولا معارض لهذه السنة، ولا مسوغ لتركها، قال: فالبينة تطلق على الشاهد

الواحد، وهو أحد الوجوه في هذه المسألة، وهو الصواب، وقال: الحكم بشهادة امرأتين ويمين المدعي، في الأموال وحقوقها، وهو مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وحكاه شيخنا، واختار. وظاهر القرآن والسنة يدل على صحة هذا القول، فإن الله أقام المرأتين مقام الرجل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الصحيح «أليس شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل» ولا في القرآن ولا في السنة، ولا في الإجماع ما يمنع من ذلك، بل القياس الصحيح يقتضيه لأن ذكر البينة اسم لما يبين الحق، وهو أعم من أن يكون برجال أو نساء، أو نكول أو يمين أو أمارات ظاهرة، والحكم بشهادة امرأتين فقط من غير يمين، في إحدى الروايتين عن أحمد فيما لا يطلع عليه الرجال، وبشهادة واحدة، وهي أشهر والرجل فيه كالمرأة، ولم يذكروا يمينًا والفرق بين هذا وبين الشاهد واليمين، حيث اعتبرت، أن المغلب في هذا هو الإخبار عن الأمور الغائبة، التي لا يطلع عليها الرجال، فاكتفي بشهادة النساء، وبالشاهد واليمين في الشهادة على أمور ظاهرة، يطلع عليها الرجال في الغالب، فإذا انفرد الشاهد الواحد احتيج إلى تقويته باليمين. (وتقدم في الرضاع) يعني حديث عقبة بن الحارث، وهو في الصحيح، أن أمة سوداء قالت: قد أرضعتكما، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «كيف وقد زعمت ذلك» أي أن قد

أرضعتكما قال الزهري: قد مضت السنة أنها تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، وقال الوزير: اتفقوا على أنه تقبل شهادتهن فيما لا يطلع عليه الرجال، كالولادة والرضاع والبكارة وعيوب النساء، وما يخفى على الرجال غالبًا وقال ابن رشد: لا خلاف في هذا إلا في الرضاع فإن ابا حنيفة قال مع الرجال، لأنه عنده من حقوق الأبدان التي يطلع عليها الرجال والنساء والحديث حجة عليه. وقال ابن القيم: يجوز القضاء بشهادة النساء منفردات في غير الحدود والقصاص، عند جماعة من السلف والخلف، وذكر أنه أرجح الأقوال، وقال: ما كان لا يخاف فيه الضلال في العادة تقبل شهادتين فيه منفردات، إنما هو أشياء تراها بعينها، أو تلمسها بيدها، أو تسمعها بأذنها، من غير توقف على عقل كالولادة والرضاع والاستهلال والبكارة والثيوبة، والحيض وعيوب النساء تحت الثياب ونحو ذلك، فإن مثل هذا لا ينسى في العادة، ولا تحتاج معرفته إلى كمال عقل، كمعاني الأقوال التي تسمعها من الإقرار بالدين وغيره، فإن هذا له معان معقولة، ويطول العهد بها في الجملة، قال: والرجل فيه كالمرأة ولم يذكروا ههنا يمينًا. وظاهر نص أحمد أنه لا يفتقر إلى اليمين، والفرق بينه وبين الشاهد واليمين، حيث اعتبرت اليمين هناك، أن المغلب في هذا الباب هو الإخبار عن الأمور الغائبة، التي لا يطلع عليها

باب الإقرار

الرجال، فاكتفي بشهادة النساء، وفي باب الشاهد واليمين، الشهادة على أمور ظاهرة، يطلع عليها الرجال في الغالبن فإذا انفرد بها الشاهد الواحد احتيج إلى تقويته باليمين. باب الإقرار وهو الاعتراف بالحق، مأخوذ من المقر وهو المكان، كأن المقر يجعل الحق في موضعه، وقالوا: إنه إخبار عما هو ثابت في نفس الأمر من حق الغير على المقر، وقال الشيخ: التحقيق أن يقال: إن المخبر، إن أخبر بما على نفسه فهو مقر، وإن أخبر بما على غيره لنفسه فهو مدع، وإن أخبر بما على غيره لغيره، فإن كان مؤتمنًا عليه، فهو مخبر، وإلا فهو شاهد، فالقاضي والوكيل، والكاتب والوصي، والمأذون له، كل هؤلاء ما أدوه مؤتمنون فيه، فإخبارهم بعد العزل ليس إقرارًا وإنما هو خبر محض، وقد دل الكتاب والسنة وأجمع العلماء على صحة الإقرار في الجملة، ويصح من مكلف مختار، غير محجور عليه، ويلزم قبول الحكم به بلا خلاف. (قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} أي: لمهما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة، وبلغ، ثم جاءه رسول من بعده، ليؤمنن به، ولينصرنه (إلى قوله: قالوا {أَقْرَرْنَا} أي بالإيمان به ونصرته وذلك أنه قال) {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} أي قبلتم على ذلك عهدي وميثاقي

(قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا) أي على أنفسكم {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} عليكم فدل عموم الآية على صحة الإقرار وثبوت المقريه. (وقال) تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} أي ومن أهل المدينة أو الأعراب آخرون اعترفوا أي أقروا بذنوبهم {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} وهو إقرارهم بذنوبهم وتوبتهم {وَآخَرَ سَيِّئًا} أي بعمل آخر سيء، وذلك أن الله لما ذكر حال المتخلفين عن الغزو رغبة وشكًا، ثنى بالمتأخرين كسلاً وميلاً إلى الراحة مع إيمانهم وتصديقهم، فأخبر أنهم أقروا بذنوبهم، واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم، ولهم أعمال صالحة خلطوا هذه بهذه، فهم تحت عفو الله، والاعتراف إقرار، فعموم الآية يدل على صحة الإقرار، فإن الاعتراف إقرار منهم. (وقال) تعالى: {شُهَدَاءَ لِلهِ} أمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسم، وهو العدل، شهداء لله على من كانت له الشهادة {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} بالإقرار {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا} فأقيموها لله، فيجب أن يقول المرء الحق، ولو عاد ضرره عليه، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجًا ومخرجًا ثم قال: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} أي فلا يحملنكم الهوى والعصيبة على ترك العدل في أموركم، بل الزموا العدل على كل حال، في كل أحد.

(وقال) تبارك وتعالى لما أخذ (مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) أي أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالاً وقالاً، فالشهادة تكون بالقول تارة وبالحال تارة {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي لئلا تقولوا يوم القيامة {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أي عن هذا الميثاق والإقرار بالتوحيد غافلين، حتى قيل هو الفطرة التي فطروا عليها. (ورجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا) بإقراره على نفسه بالزنا والحديث متفق عليه، وتقدم في باب حد الزنا، (و) رجم (الغامدية) بإقرارها على نفسها بالزنا، وتقدم أيضًا في باب حد الزنا، فدلت الأحاديث وكذا الآيات على صحة الإقرار، وثبوت الأخذ به. (وقتل) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (اليهودي) الذي رض رأس الجارية وأقر، قتله بإقراره، ورجم الذين زنيا، بعدما أتوا بالتوراة، فأمر بهم (بإقرارهم) وتقدم ذكر ذلك في مواضعه، وتقدم أن من أقر على نفسه أخذ بما أقر به، وعلى غيره فإما أن يكون إقراره شهادة، أو إخبارًا على ما تقدم. ومن أقر في مرضه بشيء فكإقراره في صحته، إلا في إقراره بالمال لوارثه، وهو قول أكثر أهل العلم، وذكر ابن القيم من الحيل الباطلة إذا أراد أن يخص بعض ورثته ببعض الميراث أن

يقول كنت وهبت له كذا وكذا في صحتي، أو يقر له بدين فيتقدم به، وهذا باطل والإقرار في مرض الموت لا يصح، للتهمة عند الجمهور، بل مالك يرده للأجنبي إذا ظهرت التهمة، وقوله هو الصحيح، وأما إقراره أنه وهبه إياه في الصحة، فلا يقبل أيضًا، كما لا يقبل إقراره له بالدين، وأيضا هذا المريض لا يملك إنشاء عقد التبرع المذكور فلا يملك الإقرار به، لاتحاد المعنى الموجب لبطلان الإنشاء، فإنه بعينه قائم مقام الإقرار اهـ. وإن أقر لزوجته بالصداق فلها مهر المثل بالزوجية، ولو أقر أنه أبانها في صحته، لم يسقط إرثها، وإن أقر لوارث فصار عند الموت أجنبيًا لم يلزم ولغير وارث فصار عند الموت وارثًا صح، وإن أقر بنسب صغير مجهول النسب ثبت نسبه وإن ادعى على شخص فصدقه صح. وإن وصل بإقراره ما يسقطه كان مقرًا مدعيًا للقضاء، فلا يقبل إلا ببينة، فإن لم تكن بينة حلف المدعي أنه لم يقض ولم يبرئ واستحق، قال الوزير: هذا قول جماهير الفقهاء. (وعن أبي ذر) رضي الله عنه (مرفوعًا: قل الحق) والحق من أسماء الله تعالى، والحق ضد الباطل، والحق الواجب والثابت (ولو كان مرًا) وقل الحق ولو على نفسك فلا تأخذك في الله لومة لائم، ولا يصرفك عن الحق صارف فحث على

قول الحق ولو مع مرارته (صححه ابن حبان) وتقدم قوله {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وقالو {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} الآية، وأدلة وجوب الإقرار بما يجب على الشخص لغيره كثيرة، من مال أو غيره، وتقدم بعض تفاصيل من مسائل الإقرار، وبسطها كتب الفقه، والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

§1/1