الإبانة عن أسباب الإعانة على صلاة الفجر وقيام الليل

رقية المحارب

مقدمة

الإبانة عن أسباب الإعانة على صلاة الفجر وقيام الليل د. رقية بنت محمد المحارب. بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه، ونستعينُه، ونستهديه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضِلَّ له، ومَن يُضللْ فلا هاديَ له؛ وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه (¬1) . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71] أمَّا بعد.. فإنَّا في زمانٍ كَثُرت في الفتنُ، وفشت فيه الذنوبُ، وتجافى الناسُ عن دينِهم إلا من رحِمَ ربُّك، حتَّى صارَ القابضُ على دينِه كالقابضِ على الجمرِ. ¬

_ (¬1) خُطبة الحاجة من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

وبُعدُ الناسِ عن دينهم شرٌ لهم، ووبالٌ عليهم، وتقرُّبهم إلى اللهِ بالطاعاتِ وعملِ الخيراتِ والحرصِ عليها خيرٌ لهم، ونجاةٌ من عذابِ اللهِ وسخطِه، ولن يزيدوا في مُلكِ الله شيئًا؛ إنما يُنقذون أنفسَهم من النَّارِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6] ولقد اقتضت حكمةُ العليم ِالخبيرِ أن يخلقَ الجنةَ والنارَ، ويخلقَ لكلٍّ أهلاً؛ فأهلُ الجنةِ هم أهلُ الطاعةِ والإيمانِ، وأهلُ النارِ هم أهلُ الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ، وذلك غايةُ العدلِ من اللهِ، فما كان اللهُ ليُضيعَ إيمانَ المؤمنين، ويُهملَ الكفارَ دون عقابٍ ولا جزاءٍ. ولكنَّ اللهَ سبحانه إذ خلق جنَّتَه وجعل لدخولِها عملاً؛ جعل هذا العملَ ميسورًا سهلاً وهو كذلك لمن يسَّره اللهُ عليه، وأخذَ بأسبابِه، أما مَن اتَّبعَ هواه، واقتفى أثرَ الشيطانِ، وتمنَّى على اللهِ الأمانيَّ؛ فليس بميسورٍ، إلا أن يتوبَ إلى اللهِ، ويحاربَ الشيطانَ بكلِّ الوسائلِ التي يستطيعها. والعملُ الصالحُ ينقسمُ قسمين: قسمٌ لا ينفكُّ المسلمُ عنه، فلا بدَّ من الإتيانِ به، ولا يُعذَرُ المرءُ بتركِه، وهذا عليه المعوَّلُ في دخولِ الجنَّةِ والنجاةِ من النَّارِ، وذلك كالإيمانِ باللهِ سبحانَه، وملائكتِه، وكتبِه، ورسلِه، واليومِ الآخرِ، وبالقدرِ خيرِه وشرِّه، وإقامةِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وصومِ رمضانَ، وحجِّ بيتِ اللهِ الحرامِ لمن استطاعَ إليه سبيلاً.

وقسمٌ يأتي به المسلمُ على قدرِ طاقتِه، وليس بمكلَّفٍ به حتمًا، ولا يأثمُ بتركِه، وإنما يزدادُ بفعلِه عند اللهِ قُربًا، وجزاءُ هذا العملِ الازديادُ في الأجرِ والثوابِ والارتقاءُ في درجاتِ الجنَّةِ، فإنَّها درجاتٌ؛ مابين الدرجةِ والتي تليها كما بينَ السماءِ والأرضِ. وهذا القسمُ يتمثَّلُ في النوافلِ والسُّننِ ومكارمِِ الأخلاقِ. وقد قدَّم اللهُ القسمَ الأولَ على الثَّاني وجعلَ القربَ من اللهِ لا يكون إلا به، ثم يزدادُ بالثَّاني محبةً وقربةً، وقد بيَّن ذلك الحديثُ النبويُّ القدُسيُّ الصحيحُ الذي يرويه المصطفى صلى اللهُ عليه وسلم عن ربِّه فيقول: (يقول اللهُ عزَّ وجلَّ: ماتقرَّب إليَّ عبدي بأحبَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزالُ عبدي يتقرُّبُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يبصرُ به، ويدَه التي يبطشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، ولَئِن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه) متفق عليه. فمن ذا الذي لا يريدُ قربَ اللهِ، ومن ذا الذي لا يريدُ أن يكونَ اللهُ لهُ مُحبًّا؟!، وهل يفرطُ الحبيبُ في حفظِ حبيبِه أو نصرتِه أو عطائِه؟!، الكُلُّ يتمنى ذلكَ، ولكن؛ هل كلٌّ يستطيعُ أن يتقرَّبَ إلى اللهِ بالفرائضِ، ويزدادَ تنفُّلاً حتى يُحِبَّه اللهُ ويكونَ سمعَه وبصرَه فلا يسمعُ إلا باللهِ، ولايبصرُ إلا به؟! إنَّ هذا الفضلَ لا يمكن أن يُسدى هكذا دون بذلٍ أو تعبٍ، وهل يتفوقُ الكسلانُ، أو هل ينجحُ المهملُ؟! لا بدَّ من البذلِ، لا بدَّ من الجهادِ للنفسِ والشيطانِ. وإنِّي لأهمسُ في آذانِ إخواني.. الحياةُ كلُّها تعبٌ، ولا راحةَ فيها لأحدٍ، ويؤكد ذلكَ قولُه تعالى: (فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) [طه:117] .

فلمَ لا يكونُ تعبُنا محقِّقًا لنتيجةٍ ... ؟! نتيجةٍ عظيمةٍ، لا تزولُ ولا تحولُ، إنَّها الجنَّةُ، الجنَّةُ التي لم ترَ عينٌ ولم تسمعْ أُذنٌ ولم يخطرْ على قلبِ بشرٍ نعيمُها. ومن كان تعبُه للدُّنيا كثيرًا فتعبُه للآخرةِ قليلٌ، ومن هذه حالُه؛ ضَحِكَ قليلاً، وبكى كثيرًا. إنَّ الناسَ اليومَ قد قصَّروا كثيرًا في طلبِ الآخرةِ، وأكبُّوا على الدُّنيا وتعبوا في طلبِها. فكم من عبدٍ يسهرُ ليلَه في التفكيرِ في مشروعِه التجاريِّ، ويقومُ الفجرَ لمتابعةِ بنيانِه أو تجاراتِه. وكم من شابٍّ وشابةٍ يقومان قبلَ الفجرِ للمذاكرةِ للامتحانِ!! ولكنَّهم ينامون ملءَ جفونِهم عن صلاةِ الفجرِ، بل ولا يفكَّرون أن يقوموا من الليلِ ساعةً أو عشرَ ساعةٍ. إذا لم يستدعِهم إلى القيامِ شيءٌ من أمورِ الدُّنيا. لقد قصَّرَ الناسُ في هذه الأيامِ في طاعةِ ربِّهم!! ومن مشاهِدِ هذا التقصيرِ، التقصيرُ في صلاةِ الفجرِ.. فلا تكاد ترى شابًّا مستيقظًا مع الأذانِ لصلاةِ الفجرِ يريد أن يُدركَ تكبيرةَ الإحرامِ أو يدركَ ركعتي الفجرِ التي هي خيرٌ من الدُّنيا وما فيها. فضلاً على أن ترى شابًّا صافًّا قدميه في مصلَّاه قبلَ الفجرِ بساعةٍ يرجو رحمةَ ربّهِ ويحذرُ الآخرةَ، يُناجي مولاه ويشكو إليه حالَه وفقرَه وضَعفَه، ويسألُه من خيرِ الدُّنيا والآخرةِ. إنَّ هذا التقصيرَ في صلاةِ الفجر وحضورِها، وهذا التفريطُ في قيامِ الليلِ الذي هو خيرُ عبادةٍ بعدَ الفرائضِ، جعلني أحاولُ نصحَ إخواني وأخواتي خلالَ هذه الرسالةِ لنناقشَ معًا أسبابَ هذا التقصيرِ، وكيفيةَ تحاشيه، لعلَّ اللهَ أن يرفعَ عن هذه الأمةِ ما حلَّّ بها من الفُرقةِ والفتنِ، أو يقبضنا على خيرٍ ويلحقنا بالصَّالحين. وسأتناولُ في رسالتي هذه النقاطَ التاليةَ: - تهاونَ النّاس في صلاةِ الفجرِ. - الترغيبَ في حضورِ الفجرِ جماعةً والترهيبِ من تركِها. - فضلَ قيامِ اللَّيلِ.

فصل في تهاون الناس في صلاة الفجر

- فيما يعودُ على المسلمِ من قيامِ الليلِ في الدُّنيا والآخرةِ. - الأسبابَ المعينةَ على قيامِ الليلِ. - الترهيبَ من تركِ قيامِ الليلِ. - ما جاء عن رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- في قيامِ الليلِ. - بعضَ الآثارِ عن السَّلفِ الصَّالحِ في قيامِ الليلِ. فصلٌ في تهاونِ النَّاسِ في صلاةِ الفجرِ أعتقد أنَّه لا يُخالفني أحدٌ في أنَّ حضورَ صلاةِ الفجرِ جماعةً، أو أداءَها في وقتها أقلُّ من غيرِه من الفروضِ؛ فمن يرى المصلين في صلاةِ المغربِ أو العشاءِ، ويراهم في صلاةِ الفجرِ؛ يدركْ مدى التهاونِ في صلاةِ الفجرِ، وكم نسبة المتهاونين فيها. إنّ مؤدِّي صلاةِ الفجرِ لا يبلغون ربعَ (¬1) مؤدِّي صلاةِ المغربِ - مثلاً- فلمَ ذلك؟! أليستا في الفرضيِّةِ سواءٌ؟ أليستا في الأجرِ سواءٌ؟! بل خُصَّت صلاةُ الفجرِ بشرفِ شهودِ اللهِ لها، وبأنَّها صلاةٌ مشهودةٌ، ومن صلَّاها جماعةً فكأنَّما صلَّى الليلَ كلَّه، كما أخبرَ بذلك المصطفى صلى اللهُ عليه وسلم، وشرفُ شهودِ صلاةِ الفجرِ أخبر عنه سبحانه بنصِّ الآيةِ، حيث قال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78] ، قال المفسرون: قرآنُ الفجرِ، صلاةُ الصبحِ، وسمِّيت بذلك لكثرةِ ما يُقرأ فيها من القرآنِ، ومشهودًا: أي تشهده ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ (¬2) . إنَّ هذا التفريطَ مدعاةٌ لغضبِ الربِّ سبحانه، فإنَّه ينزلُ إلى السماءِ الدُّنيا في ثُلثِ الليلِ الأخيرِ حتى يُصلَّى الفجرُ. فكيف لا يغضبُ اللهُ تعالى وهو يرى من عبادِه الزهدَ في لقائِه، وإيثارَ النومِ والراحةِ على القيامِ لمناجاتِه وسؤاله، وهو المتفضلُ ذو الجلالِ والإكرامِ. ¬

_ (¬1) نشرت مجلة الدعوة بتاريخ 20/10/1411 تحقيقًا بعنوان "صلاة الفجر الحد الأعلى ربع المصلين" وقد أجريت مقابلات مع عدد من أئمة المساجد شهدوا بذلك. فراجعه إن شئت العدد 1290 (¬2) تفسير الشوكاني

أين نحنُ من رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-؟ الذي غُفرَ له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّرَ، وكان يقومُ حتى تتفطَّرَ قدماه، فيُقالُ له، فيقولُ: أفلا أكونُ عبدًا شكورًا. روى المغيرةُ بنُ شعبةَ –رضي اللهُ عنه- قال: (قام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حتى تفطرت قدماه فقيل له: أمَا قد غُفر لك ما تقدم من ذنبِك وما تأخر؟، قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا) متفق عليه، قال الغزاليُّ –رحمه اللهُ-:" يظهرُ من معناه أنَّ ذلك كنايةٌ عن زيادةِ الرُّتبةِ، فإنَّ الشكرَ سببُ المزيدِ، قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7] " (¬1) . يظهرُ من هذا الحديثِ مدى حرصِ المصطفى – صلى اللهُ عليه وسلم- على عبادةِ ربِّه، ومع هذا فلم تزل تتنزَّلُ عليه الآياتُ التي هي أشدُّ على صدرِه من وقعِ الجبالِ (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا) [المزمّل:5] . اللهُ أكبرُ!! كيف نتصوَّرُ تلقِّي رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- لقولِه تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) [الإسراء:73-75] كيف نتصوَّرُ تلقِّي رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- لقولِه تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الزمر:65] كيف نتصوَّرُ تلقِّيه -صلى اللهُ عليه وسلم- لقولِه تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة:67] ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين (1/353)

بل كيف نتصوَّرُ تلقِّيه -صلى اللهُ عليه وسلم- لقولِه تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال:67،68] اللهُ أكبرُ؛ كيف يتحمَّلُ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- تلقّيَ هذه الآيةِ؟! إنَّه الصبرُ.. إنَّه الصلاةُ.. إنَّه الإيمانُ العظيمُ الراسخُ.. إنَّه الاجتهادُ والمجاهدةُ لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا، وليقامَ شرعُ اللهِ في الأرضِ.. إنه كمالُ المحبةِ.. وكفى!!. كمالُ المحبةِ الذي يجعله -صلى اللهُ عليه وسلم- يقومُ الليلَ وثلثيه ونصفَه وثُلثَه.. يرتل القرآنَ ترتيلاً، باكيًا، خاشعًا، خائفًا على أمتِه. إنَّ هذا الوقوفَ بين يدي اللهِ في هدأةِ العيونِ وظُلَمِ الليالي والسكونِ؛ لهو أكبرُ دليلٍ على محبةِ الرسولِ -صلى اللهُ عليه وسلم- لربِّه تعالى، مع أنَّه غَفرَ له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّرَ. إنَّها لذةُ المناجاةِ للحبيبِ التي لا يعرفُها إلا من ذاقَها. إنّ هذه الوقفةَ والمناجاةَ تحقِّقُ لذةً في القلبِ أثناءَها وبعدَها، ونورًا في الوجهِ على الرغمِ من السَّهَرِ؛ حيث يشعرُ العبدُ بالغِبطةِ والسَّعادةِ. وسرُّ ذلك رضا اللهِ سبحانه وتعالى حيث يضحكُ ويعجبُ لمن يترك فراشَه الوثيرَ، وزوجتَه الحسناءَ، رغبةً فيما عند اللهِ وطلبًا لمرضاته. وكيف لا يرضى وهو الذي يقولُ: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء:147] إن شكرتمُ!! تأملي أختي، وتأملْ أخي هذه الكلمةَ وتأملْ قولَه -صلى اللهُ عليه وسلم-: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) .

فصل في الترغيب في حضور الفجر جماعة والترهيب من تركها

شكورًا بماذا؟ بالقيامِ بالعبادةِ والعملِ لا باللسانِ والقلبِ فقط، فهل نحنُ نشكرُ اللهَ على نعمِه التي لا تُحصى بالقيامِ ولو ساعةً أو ربعَ ساعةٍ؟! كثيرٌ منا يردد الشكرَ بقلبِه وعلى لسانِه فإذا ذكَّرَ بالشكرِ بالعملِ قال: اللهُ يهدينا ويعفو عنا. نعم.. الدعاءُ بالهدايةِ والعفوِ مطلوبٌ.. ولكن هل بذلنا أسبابَ الهدايةِ والعفوِ.. وهل نريد أن نبذلَها؟! إن كُنَّا نريد أن نبذلَها حقًّا, فلنتعاونْ على بيانِ أسبابِ القيامِ، ونتعاون كذلك على العملِ بها، ونسألُ المولى الغنيَّ الكريمَ أنْ يعلِّمَنا ما ينفعُنا وينفعَنا بما علَّمنا، ولا يكون همُّنا نيلَ العلمِ لمماراةِ السفهاءِ، والرياءَ والسمعةَ. فصلٌ في الترغيبِ في حضور الفجر جماعةً والترهيبِ من تركها أخي المؤمنُ إنَّ من أعظمِ الأسبابِ المعينةِ على القيامِ لصلاةِ الفجرِ؛ معرفتَك للأجرِ العظيمِ الذي يحظى به مُصلِّي الفجرِ شاهدًا.. أيُّ في أولِ الوقتِ.. وكذلك في الجماعةِ. وقد جاءت النصوصُ بالحثِّ على إقامةِ الصلواتِ في وقتِها جماعةً في المساجدِ، وتفضيلِ صلاةِ الجماعةِ على صلاةِ المنفردِ، وفضلِ الخطى إلى المساجدِ. ومن هذه النصوصِ: قولُ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (صلاةُ الرجلِ في جماعةٍ تضعُف على صلاتِه في بيتِه وفي سوقِه خمساً وعشرين ضعفًا، ذلك إذا توضأ فأحسنَ الوضوءَ ثم خرجَ إلى المسجدِ لا يخرجُه إلا الصلاةُ لم يخطُ خطوةً إلا رُفعت له بها درجةٌ، وحُطَّ عنه بها خطيئةٌ، فإذا صلَّى لم تزلِ الملائكةُ تصلِّي عليه، ما دام في مصلَّاه ما لم يحدث، اللَّهم ارحمه، ولا يزال في صلاةٍ ما انتظر الصلاةَ) متفق عليه. وعن ابنِ مسعودٍ - رضي اللهُ عنه- يرفعه: (من سرَّه أن يلقى اللهَ غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاءِ الصلواتِ حيث يُنادى بهنَّ، فإنَّ اللهَ تعالى شرع لنبيِّكم -صلى اللهُ عليه وسلم- سنَنَ الهدى وإنهنَّ من سننِ الهدى) رواه مسلم.

ومن كان شديدَ التعلُّقِ بالمساجدِ لأداءِ الصلاةِ مع الجماعةِ فيها، فإنَّ اللهَ سيظلُّه بظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه. فعن أبي هريرةَ –رضي اللهُ عنه- عن النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: (سبعةٌ يظلهم اللهُ بظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه،.. وذكر منهم ... ورجلٌ قلبُه معلَّقٌ بالمساجدِ) متفق عليه. ويزيدُ فضلُ الجماعةِ بزيادةِ المصلين، فقد قال الرسولُ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (وإنّ صلاةَ الرجلِ مع الرجلِ أزكى من صلاتِه وحدَه، وصلاتُه مع الرجلين أزكى من صلاتِه مع الرجلِ، وما هو أكثرُ فهو أحبُّ إلى اللهِ تعالى) أخرجه أبو داوود وحسنه الألباني. وكان اهتمامُ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم- بصلاةِ الجماعةِ اهتمامًا شديدًا. فلم يتركها حتى في ساحاتِ القتالِ في أشدِّ الأحوالِ وأخطرِها، ولكن كانت هيئةُ الصلاةِ وكيفيتُها تتكيَّفُ بحسب الأوضاعِ، وكان حريصًا عليها حتى مع شدةِ مرضِه –صلى اللهُ عليه وسلم- فقد كان يوصي بها ويسألُ عنها، وقال: (من صلَّى أربعين يومًا في جماعةٍ يدركُ التكبيرةَ الأولى كتب اللهُ له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق) أخرجه الترمذي وصححه الألباني. أما صلاةُ الفجرِ خاصةً فقد تميَّزتْ بفضائلَ عديدةٍ، زيادةً في الترغيبِ في حضورِها، فمن كان عليها محافِظًا كان لغيرِها أحفظ. قال تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:77] ، فأمرَ بإقامةِ الصلواتِ ثم خصَّ بالذكرِ صلاةَ الفجرِ بأنَّها مشهودةٌ، تشهدها وتحضرها ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ، وذلك زيادةٌ في فضلِها وبركتِها.

وقال سبحانه: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238] . والصلاةُ الوسطى اختُلف فيها على أقوالٍ؛ منها أنَّها صلاةُ الفجرِ، ومنها أنَّها صلاةُ العصرِ وهو رأيُ الجمهورِ لما ثبت عند البخاريِّ ومسلمٍ وأهلِ السننِ وغيرِهم من حديثِ عليٍّ –رضي اللهُ عنه- قال: (كنَّا نراها الفجرَ حتى سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- يقول يومَ الأحزابِ: (شغلونا عن الصلاةِ الوسطى صلاةِ العصرِ ملأَ اللهُ أجوافَهم وقبورَهم نارًا) . وقال النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (من صلَّى الصبحَ فهو في ذمةِ اللهِ، فلا يطلبنَّكم اللهُ من ذمتِه بشيءٍ، فإنَّ من يطلبه من ذمتِه بشيءٍ يدركه، ثم يكبّه على وجهِه في نارِ جهنمَ) رواه مسلمٌ، أي: هو في أمانِ اللهِ وجوارِه، فلا ينبغي لأحدٍ أن يتعرَّضَ له بضرٍّ أو أذىً، فمن فعل ذلك فاللهُ يطلبه بحقِّهِ، ومن يطلبه لم يجد مفرًّا ولا ملجأ (¬1) . وقال النبيُّ –صلى اللهُ عليه وسلم-: (من صلَّى العشاءَ في جماعةٍ فكأنمَّا قام نصفَ الليلِ ومن صلَّى الصبحَ في جماعةٍ فكأنَّما قام الليلَ كلَّه) رواه مسلم. وقال -صلى اللهُ عليه وسلم-: (من صلَّى البردين دخلَ الجنةَ) متفق عليه، والبردان: الفجرُ والعصرُ. وقال: (لن يلجَ النارَ أحدٌ صلَّى قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غروبِها) رواه مسلم. وقال: (بشِّر المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجدِ بالنورِ التامِّ يومَ القيامة) أخرجه أبو داوود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني. وعن عائشةَ -رضي اللهُ عنها- قالت: قال رسولُ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم-: (لو يعلم الناسُ ما في النداءِ والصفِّ الأولِ ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا ولو يعلمون ما في التَّهجيرِ لاستقبوا إليه ولو يعلمون ما في صلاةِ العشاءِ –العتمةِ-، وصلاة الفجرِ – الصبحِ-، لأتوهما ولو حبوًا) متفق عليه. ¬

_ (¬1) المفهم لما أشكل من صحيح مسلم

ومن حافظَ على صلاةِ الفجرِ جماعةً فإنَّه يبرأ من صفاتِ المنافقين وأن يكونَ منهم، لأنَّ صلاةَ الفجرِ ثقيلةٌ على المنافقين. لحديثِ: (إن أثقلَ صلاةٍ على المنافقين صلاةُ العشاء وصلاةُ الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا) متفق عليه. كما أنَّ الحفاظَ على صلاةِ الفجرِ سببٌ معينٌ رؤيةِ اللهِ تعالى يومَ القيامةِ، فعن جريرٍ –رضي اللهُ عنه- قال: كنَّا جلوسًا عندَ النبيِّ – صلى اللهُ عليه وسلم- إذ نظرَ إلى القمرِ ليلةَ البدرِ فقال: (أمَا إنَّكم سترون ربَّكم كما ترون هذا لا تضامون ولا تضاهون في رؤيتِه، فإن استطعتم أن لا تُغلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غروبِها فافعلوا، ثم قال: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) رواه البخاري. وقد أخبرَ النبيُّ – صلى اللهُ عليه وسلم- بأنَّ سنةَ الفجرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، فكيف بصلاةِ الفجرِ نفسِها؟! قال رسولُ اللهِ – صلى اللهُ عليه وسلم-: (ركعتا الفجرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها) رواه مسلم. ومن أراد التكثُّرَ من الخيراتِ وزيادةَ الحسناتِ، جلس بعد أن يصليَ الفجرَ يذكرُ اللهَ تعالى حتى تطلعَ الشمسُ وهو في مصلَّاه، فقد قال النبيُّ – صلى اللهُ عليه وسلم- (من صلَّى الفجر في جماعةٍ ثم قعد يذكر اللهَ حتى تطلعَ الشمسُ ثم صلى ركعتين كانت له كأجرِ حجةٍ وعمرةٍ تامة تامة تامة) رواه الترمذي وحسنه الألباني. ونلحظ في هذا الحديثِ أن النبيَّ –صلى اللهُ عليه وسلم- قد نصَّ على أنَّ الصلاةَ تكون في جماعةٍ ليتمَّ له الأجرُ المذكورُ. كلُّ هذه الأجورِ لمن أقام صلاتَه وأحسنها كما أراد اللهُ؛ واللهُ يضاعفُ لمن يشاء.

أما أصحابُ نومِ اللَّيالي والكُسالى عن صلاةِ الفجرِ، فهؤلاءِ وصفَهم القرآنُ بالنفاقِ، قال تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا) [النساء:142] . وعليك أن تنظرَ في عقوبةِ تاركِ حضورِ الجماعةِ، وصلاةِ الفجر، وكيف رهَّب رسولُ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم- من ذلك ليَجِلَ قلبُك وتخافَ من التفريطِ، وقد جمعتُ بعضَ النصوصِ المفيدةِ في ذلك، منها: 1- قولُه تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59] ، واختلفَ أهلُ العلمِ في المرادِ بإضاعتِهم الصلاةَ فقال بعضُهم: تأخيرُها عن وقتِها وقال بعضُهم: الإخلالُ بشروطِها وقيل: إضاعتُها في غيرِ الجماعاتِ، وكلُّ هذه الأقوالِ تدخلُ في الآيةِ (¬1) . 2- قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون:4،5] ، ساهون:إما عن وقتِها الأولِ فيؤخِّرونها إلى آخرِه دائمًا أو غالبًا، وإما عن أدائِها بأركاِنها وشروطِها على الوجهِ المأمورِ به، وإما عن الخشوعِ فيها والتدبُّرِ لمعانيها فاللَّفظُ يشملُ ذلك كلَّه (¬2) . 3- عن أبي هريرةَ –رضي اللهُ عنه- قال: قال رسولُ اللهِ – صلى اللهُ عليه وسلم-: (لقد هممتُ أن آمرَ فِتيتي فيجمعوا لي حُزمًا من حطبٍ، ثم آتي قومًا يصلُّون في بيوتِهم ليست بهم عِلَّةٌ فأحرِّقُها عليهم) رواه مسلم. 4- عن ابن عباسٍ –رضي اللهُ عنهما- قال: قال رسولُ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم-: (من سمع النداءَ فلم يمنعْه من اتباعه عذرٌ، قالوا: وما العذرُ؟ قال: خوفٌ أو مرضٌ. لم تُقبل منه صلاتُه التي صلَّى) رواه أبو داوود وابن حبان في صحيحه وصححه الألباني. ¬

_ (¬1) أضواء البيان للشنقيطي، تفسير سورة مريم. (¬2) ابن كثير، تفسير سورة الماعون 4/681

5- وفي حديثٍ لابن مسعودٍ –رضي اللهُ عنه- مرفوعًا قوله: (ولو أنَّكم صلَّيتم في بيوتِكم كما يصلِّي هذا المتخلِّفُ في بيتِه لتركتم سنةَ نبيِّكم ولو تركتم سنَّةَ نبيِّكم لضللتُم) رواه مسلم. 6- وفي حديثِ الرُّؤيا التي رآها النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم- وقال فيه: (..وإنَّا أتينا على رجلٍ مضطجعٍ وإذا آخرُ قائمٌ عليه بصخرةٍ وإذا هو يهوي بالصخرةِ لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجرُ ... أما الرجلُ الأولُ الذي أتيت يُثلغ رأسُه بالحجرِ فإنَّه الرجلُ يأخذُ القرآنَ فيرفضه وينامُ عن الصلاة المكتوبة) رواه البخاري. 7- وعن أبي الدَّرداءِ – رضي اللهُ عنه- قال: سمعتُ رسولَ اللهِ – صلى اللهُ عليه وسلم- يقول: (ما من ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بدوٍ لا تقام فيهم الصلاةُ إلا قد استحوذ عليهم الشيطانُ فعليك بالجماعةِ، فإنما يأكل الذئبُ القاصيةَ) رواه أبو داوود والنسائي وحسنه الألباني. فاحذر يا عبدَاللهِ أن تلحقَ بك هذه العقوباتُ، وتبوء بالإثمِ والضلالِ، وإنَّ الخيرَ كلَّ الخيرِ في متابعةِ رسولِ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم-، والشرُّ كلُّ الشرِ في مخالفةِ أمرِه (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]

فإلى أيِّ الفريقين تريد أن تنضمَّ ومعَ أيِّهم تريد أن تحشرَ؟! هما فريقان لا ثالثَ لهما، ليسوا سواءً في العملِ؛ وليسوا سواءً في الجزاءِ، قال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة:18-21] تنبَّه يا أخي لهذا، فإنَّه موعظةٌ لك. فإن لم تتذكرْ وتَعُدْ إلى ربِّك وتحافِظْ على صلاتِك وتتقرب إليه بذلك؛ فاحذر أن تكونَ ممَّن قال اللهُ فيه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) [السجدة:22] ولو تأملنا حالَ السلفِ –رضوانُ اللهِ عليهم- لرأينا شدةَ عنايتِهم بحضورِ الجماعةِ؛ فلا تكاد تفوتُ أحدَهم تكبيرةُ الإحرام، ثم نرى عنايتَهم كذلك بقيامِ الليلِ. فبعد أن أتمُّوا الفرائضَ جعلوا يتلمَّسون النوافلَ، بل ويُعاتبُ بعضُهم بعضًا على تركِ قيامِ الليلِ. فضلاً عن صلاةِ الفجرِ، لذا كانت لهم قيادةُ العالمِ، والعزةُ والسِّيادةُ، فلو عادَ المسلمون اليومَ إلى سالفِ عهدِهم؛ لعادت لهم السيادةُ، وذلك بعدَ أن تكتملَ الصفوفُ في صلاةِ الفجرِ. يمشون نحو بيوتِ اللهِ إذ سمعوا ... اللهُ أكبرُ في شوقٍ وفي جَذَلِ أرواحُهم خشعت للهِ في أدبٍ ... قلوبهم من جلال الله في وَجلِ نجواهمُ ربّنا جئناك طائعة ... نفوسُنا وعصينا خادعَ الأملِ إذا سجى الليلُ قاموهُ وأعينُهم ... من خشية اللهِ مثل الجائدِ الهطِلِ

فصل في فضل قيام الليل

هم الرجالُ فلا يُلهيهمُ لعبُ ... عن الصلاةِ ولا أكذوبةُ الكسلِ. فصلٌ في فضلِ قيامِ اللَّيلِ من رحمةِ اللهِ تعالى أنْ شرعَ لنا النوافلَ لتكمِّلَ ما في الفرائضِ من نقصٍ، ولتزيدَ في الموازين من الحسناتِ، فجعل اللهُ للفرائضِ من جنسِها نوافلَ، فالصلاةُ -وهي عمودُ الدِّينِ كانت خمسَ صلواتٍ مفروضة، لا يجب علينا غيرُها إلا أن نطَّوع-جعل اللهُ لها نوافلَ تكمِّلها، فأفضلُ الصلاةِ بعدَ المكتوبةِ قيامُ اللَّيلِ، ومن الذي يدَّعي أنَّ فرائِضَه قد كَمُلت حتى يستغنيَ عن التنفُّلِ. فعن أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه- قال: سمعت رسولَ الله -صلى اللهُ عليه وسلم-، يقول: (إنَّ أوَّلَ ما يُحاسب به العبدُ يومَ القيامةِ من عملِه صلاتُه، فإنَّ صلحت فقد أفلحَ وأنجحَ، وإن فسدت فقد خاب وخسر فإن انتَقَصَ من فريضتهِ شيءٌ قال الرَّبُّ عزَّ وجلَّ: انظروا هل لعبدِي من تطوُّعٍ، فيكمل بها ما انتَقَصَ من الفريضةِ ثم يكونُ سائرُ عملِه على ذلك) رواه الترمذي وأبو داوود وابن ماجه وصححه الألباني. وقال -صلى اللهُ عليه وسلم- فيما يرويه عن ربِّه عزَّ وجلَّ: (وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقربُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّه فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به ... ) رواه البخاري.

وقد افترضَ اللهُ سبحانَه وتعالى في أوَّلِ الأمرِ قيامَ اللَّيلِ، فقام النبيُّ – صلى اللهُ عليه وسلم- وأصحابُه حولاً، وذلك في قولِه تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا) [المزمل:1،2] ، كما قالت عائشةُ –رضي اللهُ عنها-: (فإنَّ اللهَ افترض قيامَ الليلِ في أوَّلِ هذه السورةِ فقام نبيُّ الله –صلى اللهُ عليه وسلم- وأصحابُه حولاً وأمسك اللهُ خاتمتَها اثني عشر شهرًا، حتى أنزلَ اللهُ في آخرِ هذه السورةِ التخفيفَ، فصار قيامُ الليلِ تطوعًا بعدَ فريضةٍ) رواه مسلم. وقال تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) [الإسراء:78،79] بعدَ الأمرِ بالصلواتِ الخمسِ، ذكر اللهُ الأمرَ بالتهجُّدِ في الليلِ، أي: قم بعدَ نومِك. والتهجُّد لا يكون إلا بعدَ النومِ، (نافلةً لك) أي: زيادةً لك،يريد فضيلةً زائدةً على سائرِ الفرائضِ فرضها اللهُ عليك، وذهبَ آخرون إلى أنَّ الوجوبِ صار في حقِّه منسوخًا كما في حقِّ أمَّته، فصارت نافلةً، وهو قولُ مجاهدٍ وقتادةَ، لأنه الله قال: (نَافِلَةً لَكَ) ولم يقل عليك (¬1) . وقال تعال: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) [الطور:49] وقال تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا) [الإنسان:26] ¬

_ (¬1) مختصر تفسير البغوي

هذه كلُّها أوامرُ للنَّدبِ في قيامِ الليلِ كما دلت عليه السنةُ المطهرةُ؛ فعليك أن تسارعَ إلى القيامِ بما أوجبَ اللهُ عليك، فإنَّه أحبُّ ما تقربتَ به إليه، وأنتَ عبدٌ ضعيفٌ فقيرٌ إلى عفوِ ربِّك وغناه وجزائِه ومثوبتِه، فبادر إلى التنفُّلِ في جوفِ الليلِ فإنَّه أفضلُ الصلاةِ بعدَ الفريضةِ، وتذكَّر أنَّ قيامَ الليلِ صفةُ عبادِ اللهِ المؤمنين الذين امتدحهم وأثنى عليهم. ووصفَ ما أعدَّه اللهُ لهم من نعيمٍ وما لهم من ثوابٍ في محكمِ كتابِه في آياتٍ متعددةٍ منها قولُه تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) هذه صفتُهم وهذا عملُهم، أما جزاؤهم فإنَّه أعظمُ مما قدَّموا: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:16،17] فأيُّ نعيمٍ هذا وأيُّ جزاءٍ وأيُّ مثوبةٍ، العملُ لها سهلٌ ميسورٌ، وقليلٌ إذا قرن بما له من جزاءٍ. وحينما يقومُ المرءُ المسلمُ بهذا العملِ ويستحضرُ ذلك الجزاءَ فإنه لا يجدُ تعبًا ولا كللاً، بل يجد اللَّذةَ التي تحلِّقُ به في جوِّ السماءِ ليعيشَ في السعادةِ التي لا ينالها إلا أصحابُ الليالي الساهرةِ في عبادةِ اللهِ. أصحاب هذه الليالي أخبرنا الله عن مشهد من مشاهد لياليهم، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء:107-109] .

ويكشفُ القرآنُ عن مشهدٍ آخرَ يبيِّنُ حالَ هؤلاءِ بأنَّهم (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:17،18] وبأنهم (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) [الفرقان:74] . أخي.. أختي: لتعلما أنَّ هذه صفاتُ المؤمنين المحبين لربِّهم. فقد وصفهم اللهُ تنويهًا بعظم عَملِهم، ودلالة على أنَّ قيامَ الليلِ من أعظمِ القُربِ إلى اللهِ سبحانَه وتعالى، وكان أولَّ الموصوفين بهذا رسولُنا الكريمُ –صلى اللهُ عليه وسلم- قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) [المزمل:20] فلَنَا في هؤلاء أسوةٌ حسنةٌ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21] ولأجلِ أن تحبَّ قيامَ الليلِ وترغبَ في أدائِه والمحافظةِ عليه؛عليك أن تبحثَ في فضلِه ومنزلتِه عند اللهِ، ولأجلِ أن لا تتكلَّفَ البحثَ فقد جمعت لك عددًا من الأحاديثِ الثابتةِ عن رسولِ الله – صلى اللهُ عليه وسلم- في فضلِ قيامِ الليلِ، وذلك مثلاً لا حصرًا: 1- عن أبي هريرةَ –رضي اللهُ عنه- قال: قال رسولُ اللهِ – صلى اللهُ عليه وسلم-: (أفضلُ الصيامِ بعدَ رمضانَ شهرُ اللهِ المحرمُ، وأفضلُ الصلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ الليلِ) رواه مسلم. 2- عن عبدِ اللهِ بن عمرِو بن العاصِ –رضي اللهُ عنهما- أنَّ رسولَ الله-صلى اللهُ عليه وسلم- قال: (أحبُّ الصلاةِ إلى اللهِ صلاةُ داوودَ، كان ينامُ نصفَ الليلِ ويقومُ ثلثَه وينامُ سدسَه، ويصومُ يومًا ويفطر يومًا) متفق عليه.

3- عن سالمِ بن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ -رضي اللهُ عنهم- عن أبيه أنَّ رسولَ الله -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: (نعمَ الرجلُ عبدُ اللهِ لو كان يصلِّي من الليلِ) قال سالمٌ: فكان عبدُ الله بعد ذلك لا ينام من الليلِ إلا قليلاً. متفق عليه. 4- وعن سهلِ بن سعدٍ -رضي اللهُ عنهما- قال: جاء جبريلُ إلى النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم- فقال: (يا محمدُ عش ما شئتَ فإنك ميتٌ، واعمل ماشئت فإنك مجزيٌّ به، وأحببْ من شئتَ فإنك مفارقُه، واعلم أنَّ شرفَ المؤمنِ قيامُ الليلِ، وعزُّه استغناؤه عن الناس) رواه الحاكم والطبراني وحسنه الألباني. 5- عن جابرٍ - رضي اللهُ عنه- قال: سُئل رسولُ الله -صلى اللهُ عليه وسلم-: أيُّ الصلاةِ أفضلُ؟ قال: (طولُ القنوتِ) رواه مسلم. والقنوتُ: القيامُ. 6- قربُ اللهِ سبحانه وتعالى من عبدِه الذي يقوم الليلَ ففي الحديثِ: (أقربُ ما يكون الربُّ من العبدِ في جوفِ الليلِ الآخرِ فإنَّ استطعتَ أن تكونَ ممن يذكرُ للهَ في تلك الساعة فكُن) رواه الترمذي وصححه الألباني. 7- ويخبرُ النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم- أنَّ صاحبَ القرآنِ الذي يقوم به ويتلوه يُغبَط لعِظَمِ أجرِه، فعن ابنِ عمرَ -رضي اللهُ عنهما- أن النبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: (لا حسدَ إلا في اثنتين رجلٍ آتاه اللهُ القرآن فهو يتلوه آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ ... ) متفق عليه. إنَّ العالمَ بفضلِ قيامِ الليلِ لا يستوي معَ من لا يعلم، (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) [الزمر:9] فلتكن من أولي الألبابِ الذي يتذكَّرون فإنَّ هذه الآياتِ والأحاديثَ في قيامِ الليل ذكرى لنا، فهل نكونُ من أولي الألباب؟!

فصل فيما يعود على المسلم من قيام الليل في الدنيا والآخرة

فصلٌ فيما يعُودُ على المسلم من قيامِ الليل في الدُّنيا والآخِرةِ ذُكرت الدُّنيا قبلَ الآخرةِ لأنَّ جزاءَ الدُّنيا ولذَّتَها قريبةٌ ملموسةٌ نعيشُها الآنَ، وهذه الدارُ زمنًا تُقدَّمُ على الآخرةِ، وإلَّا فإنَّ عِظَمَ جزاءِ الآخرةِ وخلودَها أدعى للتَّقديمِ، ولكن لعلَّ التأخيرَ يكونُ أقوى ليبقى في الذِّهنِ الجزاءُ والثوابُ الأُخرويُّ. ما يعود على المسلمِ من قيامِه في الدُّنيا: 1- القيامُ ينهى صاحبَه عن الذنوبِ والمعاصي وفعلِ المنكراتِ، ودليلُ ذلك قولُه تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت:45] وقيل لرسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (إن فلانًا يصلي بالليلِ فإذا أصبح سرق، قال: سينهاه ما يقول) رواه أحمدُ وابنُ حبان وصححه الألباني. والصلاةُ مطلقاً تنهى عن الفحشاءِ، ولكنَّ قيامَ الليلِ له ميزةٌ في نهي صاحبِه، لأنَّه حين يقومُ يناجي ربَّه تعرضُ له أعمالُه فيخاف أن لا يقبلَ منه بسببِها فيتركَ ما يعملُ من المعاصي. 2- أنه يطرد الداءَ من الجسدِ، وأولُ داءٍ يطردُه داءُ العجزِ والكسلِ، قال -صلى اللهُ عليه وسلم-: (عليكم بقيامِ الليلِ فإنَّه دأبُ الصالحين قبلَكم، فإنَّ قيامَ الليلِ قربةٌ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ وتكفيرٌ للذنوبِ ومطردةٌ للداءِ عن الجسدِ ومنهاةٌ عن الإثمِ) أخرجه الترمذي والبيهقي، وقال العراقي: إسناده حسن، وحسنه الألباني.

3- في قيامِ الليلِ يحصل العبدُ على كلِّ خيرٍ لدنياه، فإنَّ في الليلِ ساعةً لا يوافقها عبدٌ يسأل الله تعالى خيرًا من أمرِ دنياه وآخرتِه إلا أعطاه إيَّاه، فعن جابرٍ –رضي اللهُ عنه- أنَّ رسولَ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم- قال: (إنَّ من الليلِ ساعةً لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ يسأل اللهَ خيرًا إلا أعطاه إيَّاه، وذلك كلَّ ليلةٍ) أخرجه مسلم. فانظروا يا عبادَ الله كم في قيامِ الليلِ من مصالحِ دنياكم،بل فيه مصالحُ دنياكم كلُّها، لأنَّك يا عبدَ اللهِ لا تعلمُ ما سينفعُك من دنياك مما سيضرُّك، فكم من تجارةٍ تساهمُ فيها وتتحسَّرُ عندما تخسرها، وكم من بيتٍ تبنِيه ويخربُ، وكم من تعبٍ في مذاكرةٍ لامتحانٍ ترسبُ فيه، أو يلغى، وكم من زوجةٍ تدفع مهرَها وتُمنِّي نفسَك بها، لا تُوفَّقُ فيها.. وهكذا حالُ دنياك. فلو سألتَ اللهَ في ساعةِ الاستجابةِ التوفيقَ في أمورِكَ كلِّها، وقمتَ بين يدَي ربِّك قبلَ أن تُقدمَ على عملِك سائلاً إيَّاه أن لا يضيعَ تعبَك، وأن يوفِّقَك لما يرضيك، لَمَا ندِمتَ أبدًا، حينئذٍ تطمئنُّ إلى أنَّ مالِكَ الدُّنيا المعطي الباسطَ وليُّك وكافيك وحسبُك، فكيف تحزنُ أو كيف تقلقُ وإيِّاه دعوتَ وعليه توكَّلتَ؟! فهو مُجري السَّحابِ ومذلِّلُ الصِّعابِ ومدبِّرُ الكونِ ومقسِّمُ الأرزاقِ. فيا عزبًا تريدُ الزواجَ،؛ قم فاسأل ربَّك زوجةً صالحةً تسعدك..ويا مريضًا؛ قم فاسأل ربََّك شفاءً من مرضِك.. ويا متاجرًا؛ قم فاسأل ربك أن يُربِحَك.. وهل يستغني أحدٌ عن اللهِ؟! ومن يستغني يستغنِ اللهُ عنه، واللهُ الغنيُّ ونحنُ الفقراءُ إليه. أيعلمُ عبدٌ أنَّ اللهَ هو الغنيُّ ويؤمنُ بذلك ثم يزهدُ فيما عندَه!! لا والله أبدًا. أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... وما تدري بما صنع الدعاء سهام الليل لا تخطي ... ولكن لها أمد وللأمد انقضاء

4- قيامُ الليلِ يورثُ صاحبَه لذةً في القلبِ، وقد حكى ذلك كثيرٌ من السلف: قال ابنُ المنكدرِ: ما بقي من لذَّاتِ الدُّنيا إلا ثلاثٌ: قيامُ الليلِ، ولقاءُ الأخوانِ، والصلاةُ في جماعةٍ. وقال أبو سليمانَ –رحمه اللهُ-: أهلُ الدُّنيا في ليلِهم ألذُّ من أهلِ اللَّهوِ في لهوِهم، ولولا الليلُ ما أحببتُ البقاءَ في الدُّنيا. وقال آخرُ: لو يعلمُ الملوكُ ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: إن لي وردًا بالليل لو تركته لخارت قواي. قال الغزالي-رحمه الله- في بيان ما يعود على قائم الليل من اللَّذة: "وأما النقل فيشهد له أحوالُ قوّام الليل في تلذذهم بقيام الليل واستقصارِهم له كما يستقصرُ المحبُّ ليلةَ وصالِ الحبيب، حتى قيل لبعضهم: كيف أنت والليل؟ قال: ماراعيته فقط يريني وجهه ثم ينصرف وما تأملتُه بعدُ. وقال آخر: أنا والليل فرسا رهان؛ مرة يسبقني إلى الفجر، ومرة يقطعني عن الفكر، وقيل لبعضهم: كيف الليل عليك؟ فقال: ساعة أنا فيها بين حالتين، أفرح بظلمته إذا جاء وأغتم بفجره إذا طلع ما تم فرحي به قط. وقال علي ابن بكار: منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء سوى طلوع الفجر، قال الفضيل بن عياض: إذا غربتْ الشمسُ فرحتُ بالظلام لخلوتي بربي، وإذا طلعتْ حزنتُ لدخول الناس عليّ" (¬1) . 5- صاحبُ قيامِ الليلِ يصبحُ طيِّبَ النفسِ نشيطًا يُعان على عملِه سائرَ يومِه. قال رسولُ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم-: (يعقد الشيطانُ على قافيةِ رأسِ أحدِكم إذا هو نام ثلاثَ عقدٍ، يضرب مكانَ كلِّ عقدةٍ: عليك ليلٌ طويلٌ فارقد، فإن استيقظ ذكرَ اللهَ انحلت عقدةٌ، فإن توضأ انحلت عقدةٌ، فإن صلى انحلت عقدةٌ، فأصبح نشيطاً طيبَ النفسِ، وإلا أصبح خبيثَ النفسِ كسلانَ) متفق عليه. ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين

وصدَقَ الصادقُ المصدوقُ، فترى أصحابَ القيامِ لا يبدو عليهم الكسلُ بل يبدون ذووا نشاطٍ وحيويةٍ، بينما ترى أصحابَ النومِ إلى الصباحِ وقد تورَّمت أعينُهم من النومِ لا يكادون يمدُّون أيديَهم أو يثنون أرجلَهم إلا شعروا بالكسلِ والتعبِ، وما ذاك النشاطُ لصاحبِ القيامِ إلا عونٌ من اللهِ تعالى لمناجاتِه وتقرُّبِه إليه حتى أصبحَ بصرَه وسمعَه ويدَه ورجلَه.. قوةٌ يمنحها اللهُ له لا يجدُها غيرُه. لذا فلا تعجب إذا قرأتَ عن الصحابةِ وتبعهِم من السلفِ الصالحِ الذين يبيتون لربِّهم سجدًا وقيامًا، وإذا أصحبوا كانوا فرسانًا يخوضون غمارَ المعاركِ ويركبون الصِّعابَ لا يغلبهم أحدٌ من أصحابِ النومِ الطويلِ والرقادِ المريحِ. 6- صلاحُ الأبناءِ من نتائجِ قيامِ الآباءِ في الليالي الباردةِ، فإذا قام العبدُ يصلِّي يسأل اللهَ أن يصلحَ له في ذرِّيتهِ ويحفظَهم حتى بعدَ مماتِه، قال تعالى: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) [الكهف:82] نعم.. رحمهما اللهُ برحمةِ أبيهما الذي كان يسألُ اللهَ لهما –طوالَ حياتِه- الحفظَ والصلاحَ. 7- أصحابُ القيامِ والتهجدِ على الرُّغم من أنَّهم أقلُّ نومًا من غيرِهم؛ إلا أنَّهم يكتسبون نورًا في وجوهِهم سائرَ يومِهم وعندَ موتِهم. وقد حكى كثيرٌ من السَّلفِ أنَّهم يجدون النورَ في وجهِ صاحبِ القيامِ في حياتِه وعندَ مماتِه. قيل للحسنِ –رحمه اللهُ-: ما بالُ المتهجِّدين من أحسنِ النَّاسِ وجوهًا؟ قال: لأنَّهم خَلَوا بالرَّحمنِ فألبسَهم نورًا من نورِه.

8- سعةُ الرزقِ سمةُ أصحابِ القيامِ، يرزقهم اللهُ من حيث لا يحتسبون، ذلك لأنَّهم صبروا على قيامِ الليلِ واحتسبوه واتقوا اللهَ سبحانَه وتعالى، وقد وعدَ اللهُ من اتَّقاه واحتسبَ عندَه الأجرَ أن يرزقَه من حيث لا يحتسب ولا يشعر. ويجعل له مخرجًا من الضِّيقِ الذي يلمُّ به، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:2،3] . 9- القيامُ بالليلِ بالقرآنِ معينٌ على تثبيتِ القرآنِ في الصدرِ، فعن ابنِ عمرَ –رضي اللهُ عنهما- قال رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وسلم-: (وإذا قام صاحبُ القرآنِ فقرأه بالليلِ والنهارِ ذكَرَه وإذا لم يقُم به نسِيَه) رواه مسلم. ويقول اللهُ تعالى: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل:6] بعد قوله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا) [المزمل:5] قال الحسنُ: أثبتُ في القراءةِ وأقوى في القراءةِ (¬1) . 10- أصحابُ القيامِ مجابوا الدعوةِ إذا استنصروا اللهَ نصَرَهم،وإذا استعاذوه أعاذَهم، لأنَّهم تقرَّبوا إلى اللهِ بالفرائضِ والنوافلِ، وأحبُّ النوافلِ إلى اللهِ قيامُ الليلِ، وقد وعَدَ من تقرَّب إليه بالنَّصرِ والعوذِ. وعن عبادةِ بنِ الصامتِ –رضي اللهُ عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (من تعارَّ من الليلِ فقال: لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، الحمدُ للهِ وسبحانَ اللهِ ولا إله إلا اللهُ واللهُ أكبرُ ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ ثم قال: اللَّهم اغفر لي أو دعا استُجيب له فإن توضَّأ وصلَّى قُبلت صلاتُه) رواه البخاري ¬

_ (¬1) مختصر قيام الليل للمروزي .

وهذا ليس كلُّ ما يناله أصحابُ قيامِ الليلِ من خيرِ الدُّنيا بل جزءٌ منه وما عندَ اللهِ خيرٌ، ولكني ذكرتُه ليستحضرَه المؤمنُ حين يغالبه الشيطانُ ويكسله ويأمره بالنومِ والتفريطِ في القيامِ، فإنَّ استحضارَه آنذاك منفعةٌ عظيمةٌ مجديةٌ لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيدٌ. أمَّا ما ينالُه أصحابُ القيامِ في الآخرةِ فأعظمُ وأعظمُ، بل لا يساوي ما ناله في الدُّنيا شيئًا بجانِبِه، ومما يناله القائمُ في الآخرةِ: 1- رضا اللهِ سبحانه وتعالى، فإنَّ اللهَ يضحكُ للعبدِ يتركُ فراشَه الوثيرَ وزوجَه الحسناءَ يقوم يصلِّي وقد وردَ ذلك في الحديثِ، عن أبي الدرداءِ- رضي اللهُ عنه- قال: قال رسولُ الله –صلى اللهُ عليه وسلم-: (ثلاثةٌ يحبُّهمُ اللهُ ويضحكُ إليهم ويستبشرُ بهم.. وذكرَ منهم والذي له امرأةٌ حسناءُ وفراشٌ لينٌ حسنٌ فيقومُ من الليلِ، فيقول: يذر شهوتَه ويذكرني ولو شاء رقد) رواه الطبراني وقال المنذري إسناده حسن. وضَحِكَه دليلُ رضاه، جعلنا اللهَ وإيَّاكم ممن تقرُّ أعينُهم برؤيةِ ربِّهم ورضاه وضَحِكِه. كما أنَّ اللهَ يَعجب ويباهي الملائكةَ بقائمِ الليلِ: فعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ –رضي اللهُ عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- (عجب ربُّنا من رجلين: رجلٍ ثار عن وطائِه ولحافِه من بين حبِّه وأهلِه إلى صلاتِه فيقول اللهُ لملائكتِه: انظروا إلى عبدي ثارَ عن فراشِه ووطائِه من بين حبِّه وأهلِه إلى صلاتِه رغبةً فيما عندي وشفقةً مما عندي) رواه الطبراني والبيهقي وابن حبان وصححه الألباني والأرنؤوط.

2- جنةُ المأوى التي لا يُعلم ما أُخفي فيها مِمَّا لم ترَ عينٌ ولم تسمع أذنٌ ولم يخطر على قلبِ بشرٍ، ذلك هو النعيمُ الحقُّ الذي ينتظرُه، قال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:15،16] وعن عبدِ اللهِ بنِ سلامٍ –رضي اللهُ عنه- أنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (يا أيُّها الناسُ أفشوا السَّلامَ، وأطعموا الطعامَ، وصلُّوا بالليلِ والناسُ نيامٌ تدخلوا الجنَّةَ بسلامٍ) رواه الترمذي وصححه الألباني. وعن عليٍّ –رضي اللهُ عنه- قال: قال رسولُ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم-: (إنَّ في الجنةِ غرفًا يُرى ظاهرُها من بطونِها وبطونَها من ظهورِها فقام أعرابيٌّ فقال: لمن هي يا رسولَ الله؟ قال: لمن أطابَ الكلامَ وأطعمَ الطَّعامَ وأدامَ الصِّيامَ وصلَّى بالليلِ والناسُ نيامٌ) رواه الترمذي وحسنه الألباني. وهل أعظمُ من هذا شيءٌ..؟! أيُّ لذةٍ تحصل عليها ساعةً من الليلِ تنام فيها عن القيامِ لربِّك حين ينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا. أي لذةٍ هذه تستحقُّ أن تضيعَ بها لذةَ النعيمِ والخلدِ في دارِ المقامةِ. الدارُ التي من دَخَلها نَعِمَ فلم يبأس، وفَرِحَ فلم يحزن، وسَعِدَ فلم يشقَ، ورَضِيَ فلم يسخط (أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران:170]

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء:101-103] إنَّك أخي لو قرأتَ شيئًا عن نعيمِ الجنَّةِ الذي يفوق الوصفَ لطار قَلبُك ترجو أن تكون من أهلِها، فلِمَ لا تكونُ من أهلِها؟! ما الذي يمنعك؟! إنَّه الشيطانُ الذي توعدَّكَ حسدًا لتكونَ معه في الأسفلين، فشَمِّر عن ساعِد الجدِّ بعداوتِه، وإيَّاكَ أنْ تستجيبَ له أو تقبلَ إغراءَه فتتركَ القيامَ فتكونَ من النادمين. 3- رحمةُ اللهِ تعالى للعبدِ الذي يقوم من الليلِ يصلِّي.. قال -صلى اللهُ عليه وسلم-: (رَحِم اللهُ رجلاً قام من اللَّيل فصلَّى وأيقظَ امرأتَه، فإن أبت نضحَ في وجهِها الماءَ، ورَحِم اللهُ امرأةً قامت من الليلِ فصلَّت وأيقظت زوجَها، فإن أبى نضحت في وجهِه الماءَ) رواه أبو داوود وقال الألباني (حسن صحيح) . فهذا الحديثُ يدلُّ على تساوي الرجلِ والمرأةِ في العبادةِ أداءً لحقِّ اللهِ، وتساويهما في الجزاءِ استحقاقًا لرحمةِ اللهِ. 4- من يصلِّي ركعتين يُكتب في الذاكرين اللهَ كثيرًا. فانظر يا رعاك اللهُ عِظم القيامِ، حيث صلاة ركعتين في جوفِ الليلِ تُلحقُ صاحبَها بالذاكرين اللهَ كثيرًا، فما ظنُّك بمن صلَّى أكثرَ من ذلك. قال رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (إذا أيقظ الرجلُ أهلَه من الليلِ فصلَّيا –أو صلَّى- ركعتين جميعًا، كُتبا في الذاكرين والذاكرات) رواه أبود داوود وصححه الألباني.

5- قيامُ الليلِ بالقرآنِ يُخرجُ صاحبَه من مسمَّى الغافلين، ويُكسبه الأجرَ الوفيرَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ –رضي اللهُ عنهما- قال: قال رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (من قام بعشرِ آياتٍ لم يكتبْ من الغافلين، ومن قام بمائةِ آيةٍ كُتب من القانتين، ومن قام بألفِ آيةٍ كُتب من المقنطرين) رواه أبو داوود وصححه الألباني. المقنطرين: أي المالكين مالاً كثيرًا والمرادُ كثرةُ الأجرِ (¬1) . قال ابنُ حجر: من سورةِ تباركَ إلى آخرِ القرآنِ ألفُ آيةٍ. 6- الهمُّ بالصلاةِ والقيامِ، والعزمُ عليه، وبذلُ الأسبابِ له موجبٌ للأجرِ والثوابِ، ولو لم يقم صاحبُه، بل ونومُه عليه صدقةٌ، قال -صلى اللهُ عليه وسلم-: (ما من امرئٍ تكون له صلاةٌ بالليلِ فغلبه عليها النومُ إلا كُتب له أجرُ صلاتِه وكان نومُه صدقةً عليه) رواه أبو داوود وصححه الألباني. 7- نيلُ ما يرجوه العبدُ في الآخرةِ من المغفرةِ والرحمةِ والنعيمِ والخلدِ وكلِّ ما سألِ، لأنَّ في الليلِ ساعةً لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ يسأل الله خيرًا من أمرِ الدُّنيا والآخرةِ إلا أعطاه. كما وردَ ذلك في الحديثِ الصحيحِ: (إنَّ في الليلِ لساعةً لا يوافقها رجلٌ مسلمٌ يسأل اللهَ خيرًا من أمرِ الدُّنيا والآخرةِ إلا أعطاه إيَّاه وذلك كُلَّ ليلةٍ) رواه مسلم. 8- قائمُ الليلِ يشهدُ نزولَ اللهِ إلى السماءِ الدُّنيا في ثلثِ الليلِ الأخيرِ، حيث ينزلُ إلى السماءِ الدُّنيا فيسأل سبحانه: هل من سائلٍ فأعطيَه؟ هل من مستغفرٍ فأغفرَ له؟. وهناك الفوزُ في دارِ الخلدِ حيث يجد العبدُ ما سأله في جوفِ الليلِ من المغفرةِ والرحمةِ. ¬

_ (¬1) عون المعبود

9- وقيامُ الليلِ مكفِّرٌ للسيئاتِ والخطايا، كما قال -صلى اللهُ عليه وسلم- لمعاذٍ –رضي اللهُ عنه-: (ألا أدلُّكَ على أبوابِ الخيرِ الصومُ جنةٌ والصدقةُ تطفئُ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النارَ وصلاةُ الرجلِ من جوفِ الليلِ ثم تلا (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حتى بلغ (يَعْمَلُونَ)) رواه الترمذي وصححه الألباني. 10- النورُ يومَ القيامةِ، عن أبي الدرداءِ، عن النبيِّ –صلى اللهُ عليه وسلم- قال: (من مشى في ظلمةِ الليلِ إلى المساجدِ لقي اللهَ عزَّ وجلَّ بنورٍ يومَ القيامةِ) رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه وصححه الألباني. 11- حين يجدُ أصحابُ النومِ والتفريطِ الضَّنكَ والضِّيقَ في قبورِهم، يجد صاحبُ الليلِ والتهجدِ والقرآنِ السعةَ والراحةَ والسرورَ في قبرِه، فإنَّه يجيءُ إليه عملُه الصالِحُ في أحسنِ صورةٍ يجالسُه ويؤانسُه ويجد ما كان يقرأه من قرآنٍ أنسًا ونعيمًا في قبرِه. عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ... إلى أن قال – في وصف حال المؤمن في القبر -: فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ.

فصل في الأسباب المعينة على قيام الليل

قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي) رواه أحمد (4/362) وصححه الألباني في "أحكام الجنائز" (156) . هذه بعضُ عوائدِ وفوائدِ قيامِ الليل، إذا استحضرها العبدُ قبلَ نومِه عزمَ على القيامِ، وإن استحضرها عندَ إفاقتِه نشطَ عليه. فصل في الأسباب المعينة على قيام الليل إنَّ اللهَ تعالى جعل لكلِّ شيءٍ سببًا، وقيامُ الليلِ له أسبابٌ تعين عليه، فمن أراد أن يقومَ فلا بدَّ أن يأخذَ بالأسبابِ التي تعينه وتمكِّنُه من القيامِ بعونِ اللهِ. وسأذكرُ في هذه الرسالةِ جملةً من الأسبابِ بالدليلِ والبرهانِ قدرَ ما أستطيعُ، وأسألُ اللهَ أن ينفعَ بها من قرأها: 1- الاستعانةُ باللهِ تعالى: كما أنَّ جميعَ الأمورِ من عباداتٍ وأخلاقٍ وأمورِ معاشٍ تتطلبُ الاستعانةَ باللهِ سبحانه، فإنَّ قيامَ الليلِ من ألزمها، وذلك أنَّ صاحبَه ومريدَه يهمُّ به وهو مستيقظٌ فإذا نامَ تمكَّنَ الشيطانُ منه وعقد على قافيتِه بثلاثِ عقدٍ، فإذا كان العبدُ مستعينًا باللهِ، كان اللهُ له عونًا على عدوِّه إبليس فلا يجعلُ له سلطانًا عليه ما دام على ربِّه متوكلاً وبه مستعينًا، قال تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل:99]

وإن العبدَ ليستعينُ باللهِ عدةَ مراتٍ في اليومِ والليلةِ حينما يقرأُ الفاتحةَ ويقول: إيَّاك نعبدُ وإيَّاك نستعينُ، فعليك أن تستحضرَ طلبَ الاستعانةِ حين تقرأُ هذه الآيةَ ولا سيَّما في أولِ القيامِ فإنَّه شاقٌّ إلا على من استعان باللهِ، وليتذكَّرْ قولَه تعالى وهو يجاهدُ نفسَه على القيامِ: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69] 2- تصحيحُ العقيدةِ والنظرُ في سلامتِها، فعلى مريدِ القيامِ أن ينظرَ في مدى إيمانِه باللهِ سبحانه، وينظر في هذا الإيمانِ هل اكتملت جوانبُه وأركانُه حقًّا حقًّا، وصدقًا صدقًا، فلا يكون الأمرُ مجردَ كلامٍ وتلفُّظٍ باللسانِ، وإنما يَقِر في القلبِ، فيكون بالله مُعلقًا قلبه، يعيش دنياه لآخرتِه، يؤمنُ برسلِ اللهِ ويصدِّقُ ما جاؤوا به، فلا ينكرْ أحدًا منهم أو آيةً من آياتِهم ومعجزةً من معجزاتِهم، ويؤمنُ بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ويحبُّه ويحبُّ ما جاء به، يحبُّه اتباعًا لا هَوَسًا شعرًا ونثرًا وعِشقًا!! فإنَّ أصحابَ المحبةِ الصادقةِ هم أهلُ العملِ والمتابعةِ والاقتداءِ، وليسوا أهلَ البدعِ والمخالفةِ والأهواءِ. وينظر في إيمانِه بالملائكةِ، هل يستحضرُ رقابتَهم له، ويتذكرُ أنَّ عليه مَلَكينِ مكلَّفَين به يكتبان حسناتِه وسيئاتِه، فلا ينطق بغيرِ رضا اللهِ وذكرِه، وإذا نطق بغيرِ ذلك تذكَّر واستغفر، ويؤمن بالملائكةِ جميعًا وخلقِهم وصفتِهم كما أخبر اللهُ عنهم، ولا يُنكرْ مما دلَّ عليه الشرعُ شيئًا؛ فمثلاً يؤمنُ بأنَّ الذي يتوفَّى الأنفسَ بإذنِ ربِّه الملكُ، ملَكُ الموتِ الموكَّلُ بها فإذا وضع جنبَه واستشعر أنَّ الملكَ يقبض روحَه وقد لا ترجع، واستحضر كم من عبدٍ نام فلم يستيقظ، وَجِل قلبُه وارتعدت أطرافُه، ووجد همًّاً يبعثُه على الاهتمامِ بطاعةِ ربِّه والمسارعةِ للعملِ له والقيامِ لملاقاتِه ومناجاتِه ورجاءِ ثوابِه.

يؤمنُ باليومِ الآخرِ فيرجو الجنةَ ويحذر الآخرةَ وعقابَها، وهذا الإيمانُ من أعظمِ الدوافعِ على قيامِ الليلِ. قال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر:9] . يؤمنُ بالقدر خيرِه وشرِّه، فلا يجزع لما فاته ولا ما أصابه، ولا يسبّ قدرَ الله، ولا يعترضُ عليه أو يشكوه، فإنما يسبُّ ربَّه ويشكو ربَّه، وهل قدَّر عليه إلا الله؟! وكلُّ هذا الإيمانِ يكون نابعًا من إيمانِه بكتابِ ربِّه وما جاء فيه من الخبرِ والأمرِ، فإذا قام وقرأ القرآنَ، وكان على يقينٍ وإيمانٍ بأنه كلامُ ربِّه واستحضر أن اللهَ يحادثُه ويُكَلِّمُه؛ خشعَ له واقشعرَ له جلدُه، قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر:23] 3-محبةُ اللهِ والتعلُّقُ به سبحانَه، لأنَّ من أحبَّ أحدًا حرص على لقائِه وحديثِه والاستماعِ إليه، فلا يشكو إلا له، ولا يأنسُ إلا بحديثِه، فإذا تحدَّث غيرُه لم يزدْ لحديثِ ربِّه إلا حبًّا وتعلقًا وشوقًا. باللهِ عليك يا أخي أليس لك أحدٌ تحبُّه وتحبُّ مجلسَه وحديثَه؟ تجده قريبًا إلى قلبِك.. سلْ ... نفسَك إلى أيِّ مدىً تحترم موعدَه لك.. هب أنه غاب عنك ووعدَك لقاءً بعدَ حينٍ. ألستَ تنتظرُ حين موعده وتذكرُه وتهيءُ نفسَك لاستقبالِه؟! لو طلبَ منك أحدٌ سواه أن تأتيَه في هذا الوقت اعتذرتَ إليه ولم تُجب دعوتَه.. بل قد تُحرِّصُ أهلَك أن يذكِّروك أو يوقِظوك إن كان وقتَ نومٍ، لحرصِك على أن لا تفِّوتَ لحظةَ لقائِه.. سلْ نفسَك يا أخي.. من هذا الذي تحرصُ عليه هذا الحرصَ؟!

أهو رزَقَك؟! أهو يشفيك؟! أهو يؤمِّنُك من فزعِك؟! أهو سببُ وجودِك وخالقُك؟! أهو أبدعَكَ وسوَّاك وعدلَك، وفي أحسنِ صورةٍ ركَّبك؟! أهو وعدَك أنَّ ما سألتَه أعطاك؟! .. لا واللهِ لا يفعلُ ذلك لك، وماله من ذلك من شيءٍ بل هو مخلوقٌ مثلُك، يحتاجُ إلى ما تحتاجُ إليه. بل إن وعدَك الليلَ فكَّرتَ في لقائِه النهارَ، وإن وعدَك النهارَ فكَّرت في لقائِه الليلَ.. هذا إذا كان لك حبيبًا وقريبًا، ويزيدُ حرصُك وينقصُ بحسب محبتِكَ له وقربِه منك.. وعلى هذا فإنَّ من يحبُّ اللهَ ويحرصُ على لقائِه، وعلى مقدارِ ما يُكِنُّ العبدُ من محبةٍ لربِّه، وما يَقِر في قلبِه من حبِّ اللهِ؛ يكونُ حبُّه للقائِه وشوقُه لموعدِ نزوله.. وأنسُه بحديثه. وكلُّ واحدٍ يختلفُ عن الآخرِ في حرصِه على لقاءِ الله فمنهم من يقومُ له ثُلُثَ الليلِ، ومنهم من يقومُ رُبُعَه، ومنهم من يقومُ ساعةً، ومنهم من يقومُ نصفَها وربعَها وعشرَها، وهؤلاء يختلفون في محبَّتِهم للهِ كلٌّ بحسبِ عملِه. وكيف يُثبِتُ العبدُ محبتَه للهِ ويدَّعي ذلك وهو عن لقائِه غافلٌ ولمناجاتِه قالٍ، ولكلامِه هاجرٌ؟! فالكلُّ عند الادِّعاءِ يدَّعي محبةَ اللهِ. ولكن عند الجزاءِ لا يقرُّ اللهُ لمدَّعي محبتِه، وإنما يقرُّ لأهلِ طاعتِه ورضاه، جعلنا اللهُ منهم. وسأضربُ لك أخي مثالاً يقرِّبُ ما أقول ويثبته: سافرت إلى بلدٍ غيرِ بلدك، ولك في بلدِك أهلٌ وأقاربٌ وأصدقاءُ وأخبرتَهم بيومِ عودتِك، وأنَّك تنتظر منهم لقياهم لك.

فلمَّا قدمتَ في موعدِك وجدتَ أحدَهم ينتظرُك عندَ الطائرةِ بذَلَ كلَّ ما يستطيعُ حتى سُمحَ له بالدخولِ لذلك المكانِ، ووجدتَ آخرَ ينتظرك في صالةِ الانتظارِ قدم قبلَ موعدِك بساعةٍ.. وآخرُ وصل للتوِّ، ورابعٌ انتظرك في بيتِك، وخامسٌ جاءك بعدَ وصولِك، وسادسٌ جاءك بعدَ مضيِّ يومٍ من وصولِك.. وسابعٌ لقيتَه في السوقِ فسلَّم عليك وحيَّاك وادَّعى الشوقَ إليك والانتظارَ لقدومِك. ألستَ تصنِّفُ محبةَ هؤلاءِ بحسب إقدامِهم عليكَ؟! وهل تصدِّق ذاك الذي لقيتَه في السوقِ لو ادَّعى أنَّه يحبُّك أكثرَ ممن استقبلك عندَ الطائرة؟! لا أظنُّك تصدق.. إذن فمن ينامُ ملءَ جَفنيه ثم يدَّعي أنَّه يحبُّ اللهَ أكثرَ ممن يهجرُ فراشَه وراحتَه إلى لقاءِ ربِّه ومناجاتِه. إنَّ من تكون هذه حاله لا يمكن أن يكونَ يحبُّ ربَّه أكثر، واللهُ سبحانَه أعلمُ بأهلِ محبَّتِه. 4 - محبةُ الرسولِ –صلى اللهُ عليه وسلم- الصادقةُ، والحرصُ على متابعتِه والاقتداءِ به ورجاءُ الله بذلك (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21] وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31] . 5 - شدةُ الخوفِ من اللهِ سبحانَه وتعالى واستحضارُ غضبِه على من فرَّطَ في لقائهِ ومن تهاونَ في صلاةِ الفجرِ، وهذا الخوفُ يتأتَّى بالعلمِ بأحاديثِ الوعيدِ الذي يُكسبُ القلبَ خشيةَ اللهِ، وهذا سببٌ من الأسبابِ التي كانت تدفعُ السلفَ الصالحَ للقيامِ للهِ سبحانَه وتعالى. إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهمُ وهمُ ركوعُ أطار الخوفُ نومَهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع لهم تحت الظلام وهم سجودٌ ... أنينٌ منه تنفرج الضلوع

وهذا الخوف إذا قُرِنَ بقِصَرِ الأمل كان عونًا للعبد على ذكر القيام ومداومتِه. 6 - استحضارُ العبدِ شهودَ الله لصلاتِه وحضورَه إياها، وسماعَه لتلاوته واستجابتَه لدعائِه وقبولَ توبتِه واستغفارِه، فإنَّ اللهَ سبحانَه ينزلُ ثلثَ الليلِ الأخيرِ إلى السماءِ الدُّنيا، فيُعطي من سأل ويجيبُ من دعا ويغفرُ لمن استغفر، وقد ثبت ذلك في الحديثِ الذي رواه أبو هريرةَ –رضي اللهُ عنه- أنَّ رسولَ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم- قال: (ينزلُ اللهُ تباركَ وتعالى إلى السماءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ حين يمضي ثلثُ الليلِ الأولِ فيقول: أنا الملك أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيبَ له، من ذا الذي يسألني فأعطيَه من ذا الذي يستغفرني فأغفرَ له) أخرجه مسلم. 7 سلامةُ القلبِ للمسلمين فلا يحقد على أحدٍ بل ويبيت وهو لا يحمل على أحدٍ ضغينةً ولا وزرًا، فإذا وجد في نفسِه من ذلك شيئًا أحلَّهم قبل أن ينامَ وجعل ذلك صدقةً عليهم، فإذا تصدَّقَ بمظلمتِه على المسلمين تصدَّقَ اللهُ عليه ورَحِمَه وبعثَه ليحصِّلَ خيرًا مما تصدَّقَ به. 8 الابتعادُ عن المعاصي والذنوبِ، والإقبالُ على الطاعاتِ والحسناتِ، والإكثارُ منها سائرَ اليومِ، يسهِّلُ قيامَ الليلِ، لأنَّ من حفِظ اللهَ في يقظتِه حفظه اللهُ في منامِه، ومن كان على طاعةٍ سائرَ يومِه سهُل عليه القيامُ بالطاعاتِ في الليلِ، وقد قال أحدُهم: اليومُ الذي أصومُ فيه أيسر عليَّ في القيام بعدَه في الليلِ من الأيامِ التي لا أصومُ فيها، لأنَّي أشعرُ أنَّ قلبي أكثرُ رقةً. وكما قيل: الحسنةُ تجرُّ أختَها. 9 الإعراضُ عن فضولِ الدُّنيا، فإنَّ التعلُّقَ بالدُّنيا والنومَ معَ التفكيرِ فيها يُبعدُ التفكيرَ في الآخرةِ، فلا يجتمعُ ضدان. 10 اجتنابُ كثرةِ الأكلِ والشربِ والخلطةِ بلا حاجةٍ، لأنَّ ذلك يورثُ غفلةَ القلبِ، وامتلاءُ البطنِ يمنع من القيامِ، فالأكلُ الكثيرُ يستوجبُ النومَ الكثيرَ.*

11 الابتعادُ عن الأعمالِ الشاقةِ والمرهِقةِ للجسدِ بلا فائدة، والتي يحتاج الجسدُ بعدَها إلى راحةٍ ونومٍ مستغرقٍ. 12 إلزامُ النفسِ الهمَّ بالقيامِ وهذا الهمُّ لا يتأتَّى إلا بصدقِ الطلبِ والحرصِ، سُئل المحاسبي عن الدليلِ على أنَّ الهمَّ يوقظ صاحبَه، فقال: "الدليلُ على ذلك أنَّ العبدَ قد ينام الليالي الكثيرةَ، فلا يستيقظ إلا بقربِ وقتِ صلاةِ الفجرِ أو بعدَه، حتى إذا عرضت له حاجةٌ من حوائجِ الدُّنيا يهتمُّ بأن ينالَها، ويحذرُ أن تفوتَه إن لم يدلج لها، فإذا نام مهتمًا بالقيامِ وقد ألزم قلبَه الحذرَ من أن يذهبَ به النوم ُفيفوتَه البكورُ تيقَّظَ في الليلِ مرارًا لغيرِ الوقتِ الذي ينتبه له، يحرِّكه الاهتمامُ والحذرُ اللذان نام وهما في قلبِه، فإذا كان الاهتمامُ والحذرُ لأمرِ الدنيا يوقظان عقلَه وينبهانِه بعدَ ما نام وذهب عقلُه؛ فهما أولى أن يوقظاه لأمرِ الآخرةِ وهو يقظان لم ينم.

وشتانَ بين المطلوبين هذا يطلب قليلاً فانيًا مكدرًا بالغمومِ والأمراضِ والأسقامِ، ومن بعدِه يختمُ له بالموتِ، ومن بعدِ الموتِ ينظر فيه بعدَما ذهبت لذتُه ومنفعتُه، وبقي السؤالُ بين يدي اللهِ تعالى، حتى يُسألَ عنه: ماذا صنع فيه؟ ثم العفوُ أو العذابُ عليه، ومع هذه الأسبابِ المكدرةِ في الدُّنيا والآخرةِ لن ينالَ من ذلك إلا ماقدر له، وهذا يهتمُّ لطلبِ باقٍ كثيرٍ لا يفنى، مع نعيمٍ مقيمٍ وعيشٍ سليمٍ قد أُزيلت عنه الأمراضُ والأسقامُ، ورُفعت عنه الهمومُ والغمومُ والأحزانُ، ولا يختم بموتٍ أبدًا،ولا حسابَ ولا تبعةَ فيه عليه، والمولى راضٍ عنه، هو مسرورٌ بما يتقلَّبُ فيه من نعيمِ الآخرةِ، باقٍ فيه أبدًا، ولا يشاءُ إلا بلغت فيه مشيئتُه في حياةٍ ليس فيها موتٌ، ونعيمٌ لا يخاف عليه أبدًا الفوت، مجاورُ القدوسِ الأعلى في دارِه، لا يخاف سخطَه بعدَ رضاه ثم ما رضي له بذلك حتى أكملَ ذلك له بغايةِ الكرامةِ، وقرَّبه إليه في الزيارةِ، وأنجزَ له ما وعدَه من الرؤيةِ والنظرِ إلى وجهِهِ الكريمِ عزَّ وجلَّ، إذ يقول جلَّ من قائلٍ: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:54،55] فأعظِم به من مجلسٍ، وأكرِم به من زائرٍ ومزورٍ، وناظرٍ ومنظورٍ إليه، ومقبِلٍ ومقبَلٍ عليه، مترددٌ فيما بين نعيمِه ولذاتِه، والنظرِ إلى وجهِهِ جلَّ وعزَّ، فشتانَ ما بين الهمَّتين، وشتانَ ما بين الغايتين، فإذا كان هذا النائمُ يوقظُه اهتمامُه لهذا الفاني المنغَّصِ المكدَّرِ بعد ذهابِ عقلِه، فالهمُّ للباقي الهنيءِ السليمِ، والحذر من فوتِه مع الحلولِ في العذابِ الأليمِ؛ أولى أن يتيقَّظَ له العقلُ، ولم يذهب بنومٍ، فإذا اهتم وحذر تيقظ" (¬1) . ¬

_ (¬1) الرعاية لحقوق الله ص94، ص95

13 التيقُّنُ من القيامِ والقدرةِ عليه وعلى الوترِ بعدَ النومِ وذلك أفضلُ لقولِه تعالى: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا) [المزمل:6] . قال بعضُ المفسرين: " (إنَّ ناشئةَ الليلِ) : أي ساعات الليلِ وأوقاته التي فيها التفرغُ والصفاءُ، وما ينشئُه المرءُ من طاعةٍ وعبادةٍ يقوم لها من مضجعِه بعد هدأةٍ من الليل، (هي أشد وطئًا) أي: هي أشدُّ على المصلِّي وأثقلُ من صلاةِ النهارِ، لأنَّ الليلَ جُعل للنومِ والراحةِ، فقيامُه على النفسِ أشدُّ وأثقلُ، ومن شأنِ هذه الممارسةِ الصعبةِ أن تقويَ النفوسَ، وتشدَّ العزائمَ، وتصلبَ الأبدانَ" (¬1) . وصلاةُ الليلِ مشهودةٌ وذلك أفضلُ، فإن لم يتيقَّن العبدُ من القدرةِ على القيامِ فإنَّه يشرعُ له أن يصليَ قبلَ أن ينامَ. عن جابرٍ -رضي اللهُ عنه- قال رسولُ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم-: (من خافَ أن لا يقومَ من آخرِ الليلِ، فليوتر أولَه، ومن طَمِع أن يقومَ آخرَه فليوتر آخرَ الليلِ، فإنَّ صلاةَ آخرِ الليلِ مشهودةٌ وذلك أفضلُ) رواه مسلم. وما ذاك إلا لأنَّ من لم يتقين القيامَ وفاتَه الوترُ ليلتَه كلَّها فاته خيرٌ كثيرٌ، ومن ثم يتكرَّرُ هذا مراتٍ حتى يسهلَ عليه التفويتُ والتضييعُ،لأنَّ المرءَ حين يقصِّر لأولِ مرةٍ يجد في قلبِه غمًّا وهمًّا، فإن عاد مرةً أخرى خفَّ هذا الهمُّ والاغتمامُ، فإذا تكرَّر نقصَ ونقصَ حتى يذهب،فلا يحزنُ لفواتِ القيامِ فيُحرمَ القيامَ كلَّه. 14 أن يسعى إلى وضعِ ما ينبِّهُه كتوقيتِ الساعةِ المنبِّهةِ أو تكليفِ أحدٍ أهلِه أو جيرانِه أو أصدقائِه بإيقاظِه. ¬

_ (¬1) صفوة التفاسير 3/466

فإذا كان ممن لا يشعرُ بتصرفاتِه وهو نائمٌ فليُبعد منبِّهَهُ ويجعل بينه وبينه حائلاً فلا يستطيعُ إغلاقَه إلا ببذلِ جهدٍ، كوضعِه على نافذةٍ مرتفعةٍ أو خزينةِ ملابسٍ عاليةٍ فلا يتمكن من الوصول إليها إلا بالصعودِ على كرسيٍّ ونحوِه، فيكون بعد ذلك قد استيقظ تمامًا، وهذا بلا ريبٍ لا يضطرُ إليه إلا من تكررَ منه إغلاقُ المنبِّهِ والنومُ مرةٍ ومراتٍ، أو يستخدمُ التوقيتَ لإطفاءِ التكييفِ فيضبطه مثلاً قبلَ وقتِ قيامِه فيضايقه ذلك فيستيقظ. 15 أن يتعاونَ مع أحدٍ أهلِ بيتِه على القيامِ لأنَّ الشيطانَ أغلبُ على الواحدِ منه على الاثنين، والتعاونُ أدعى للتنافسِ، وأدومُ للعملِ لا سيما إذا كان التعاونُ بينَ الزوجِ وزوجتِه، قال رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وسلم-: (رَحِمَ اللهُ رجلاً قامَ من اللَّيلِ فصلَّى وأيقظَ امرأتَه فإن أبت نضَحَ في وجهِها الماءَ، ورَحِمَ اللهُ امرأةً قامت من اللَّيلِ فصلَّت وأيقظت زوجَها فإن أبى نضَحَت في وجهِه الماءَ) رواه أبو داوود وقال الألباني: حسن صحيح. وعن أمِّ سلمةَ زوجِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم -رضي اللهُ عنها-: أنَّه استيقظَ ليلةً فزعًا، يقول: (سبحانَ اللهِ، ماذا أنزل اللهُ من الخزائنِ؟ وماذا أُنزل من الفتنِ؟ من يوقظ صواحبَ الحجراتِ، يريد أزواجَه، لكي يصلِّين؟ رُبَّ كاسيةٍ في الدُّنيا، عاريةٌ في الآخرةِ) رواه البخاري. وكان أبو هريرةَ وامرأتُه وخادمُه يقَسِّمون الليلَ ثلاثًا. يصلِّي هذا، ثم يوقظُ هذا.

16 العزيمةُ على من تكلِّفه بإيقاظِك أن لا يتركَك حتى تستيقظَ ويتأكدَ من استيقاظِك، ولو دعاه ذلك إلى نضحِ الماءِ في وجهِك لما في ذلك من طردٍ للشيطانِ وحضورٍ للعقلِ، وعليك أن لا تغضبَ إن فعلَ ذلك، حتى لا تفترَ عزيمتُه على إيقاظِك، فإنَّك لو تعلم مقدارَ ما أيقظك صاحبُك له لقبَّلت رأسَه أن أيقظَك ولو أراقَ عليك الماءَ. ولعلِّي أضربُ مثلاً يقرِّب المعنى للقلوبِ، بأصحابٍ ناموا في بيتِ ملِكٍ وعدَهم وعدًا، وهو منجزٌ وعدَه لهم أن يعطيَهم مسألتَهم ويسمع شكواهم فيُشكيهم ويأخذ حقَّهم ممن ظلمَهم، ويصفح عن حقوقِه التي قصَّروا فيها باعتذارِهم منه، فلما أدركَهم التعبُ وكان موعدُ الملكِ متأخرًا ناموا وأمروا من يستيقظُ منهم أن يوقظَهم، فلما قَرُب موعدُ الملكِ وجاء ينظر مَن بمجلسِه، إذا هذا المستيقظُ يوقظُ أصحابَه فلما غلبَهم النومُ تركهم خشيةَ أن ينغِّصَ عليهم نومَهم، فلما ذهب الملكُ وفات الموعدُ وأخذ كلُّ حاضرٍ نصيبَه ذهبوا يعاتبون هذا الذي لم يوقظهم وقصَّر في الإلحاحِ عليهم، ولو كان أراقَ عليهم الماءَ وهم مدركون لِما له سيقومون وما سينالهم من النصيبِ الوافرِ لما تضايقوا ولا عاتبوه، وإنما عاتبوه لتقصيرِه. وهكذا الحريصُ على قيامِ الليلِ يعزِمُ على صاحبِه أو أهلِه أن يوقظوه، ولو كان ذلك مزعجًا له، ولو فرَّطوا في إيقاظِه لعاتبَهم على ذلك. 17 اتباعُ السنةِ في النومِ، وذلك في وقتِ النومِ، وكيفيةِ الاضطجاعِ وغيرِها، كما يلي:

أالنومُ أولَ الليلِ فإنَّ في ذلك عونًا كبيرًا على قيامِ الليلِ، أما من ينام نصفَ الليلِ أو بعدَ ذلك فإنه يشقُّ عليه القيامُ لأنه لم يستوفِ راحةَ جسدِه وحقَّه من النومِ، وحقُّ المرءِ من النومِ في اليومِ والليلةِ ثمان ساعاتٍ، دلَّ على ذلك حديثُ وصفِ صلاةِ داوودَ –عليه السلامُ-، فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ –رضي اللهُ عنهما- أنَّ رسولَ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم- قال: (أحبُّ الصلاةِ إلى اللهِ صلاةُ داوودَ، وأحبُّ الصيامِ إلى اللهِ صيامُ داوودَ كان ينام نصفَ الليلِ ويقوم ثلثَه وينام سدسَه ويصوم يومًا ويفطر يومًا) متفق عليه. ولو جمعنا السدسَ إلى النصفِ لكان الثلثين، والثلثان ثماني ساعاتٍ إذا كان الليلُ اثنتي عشرةَ ساعةً، ولما كان المؤمنُ يتأخرُ عن النومِ في أولِ الليلِ لأداءِ العشاءِ كانت القيلولةُ عوضًا له عما ينقصه من النومِ ليتمَّ له ثماني ساعاتٍ أو قريبًا منها، فإذا جاء ثلثُ الليلِ الآخرِ إذا هو يقظٌ نشيطٌ. وقد كان رسولُ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم- يَقيلُ، وينام أولَ الليلِ، وقد ثبت ذلك عنه، روت عائشةُ –رضي اللهُ عنها-:" أنَّ النبيَّ–صلى اللهُ عليه وسلم- كان ينام أولَ الليلِ ويقوم آخرَه فيصلي". متفق عليه. وكان النبيُّ –صلى اللهُ عليه وسلم- يكرهُ الحديثَ بعدَ العشاءِ كما في البخاري. ب ألا ينامَ على فراشٍ وثير، بل يكتفي باليسيرِ، وذلك لما رُوى أنَّ رسولَ اللهِ-صلى اللهُ عليه وسلم-، نام وقد ثُني فراشُه أربعَ ثنياتٍ وكان يثني اثنتين فلما أصبحَ وقد فاته القيامُ سأل: ماذا صنعتم به؟ فلما أخبروه قال: (ردُّوه كما كان) أخرجه الترمذي في الشمائل، وضعفه الألباني. كذلك عليه أن لا يلتحفَ بأغطيةٍ كثيرةٍ لأنها تستدعيه إلى الدفءِ والكسلِ.

ج-أن ينامَ على وضوءٍ وذكرٍ، فمن توضأ ونام طاهرًا باتَ تحرسُه الملائكةُ وتدعو له وتستغفرُ له. عن ابنِ عمرَ –رضي اللهُ عنهما- قال: قال رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وسلم-: (من باتَ طاهرًا، بات في شِعارِه ملَكٌ، فلم يستيقظ إلا قال الملكُ: اللهم اغفر لعبدِك فلان فإنَّه بات طاهرًا) أخرجه ابن حبان في صحيحه وقال الألباني: حسن صحيح. ويحسن به أن يسألَ اللهَ قبلَ نومِه أن يوقظَه للصلاةِ. د-النومُ على الشِّقِّ الأيمنِ، كما أرشدَ النبيُّ –صلى اللهُ عليه وسلم- البراءَ بنَ عازبٍ فقال: (إذا أخذتَ مضجعَك فتوضأ وضوءَك للصلاةِ ثم اضطجع على شِقِّكَ الأيمنِ..) رواه مسلم. هـ-الحرصُ على أذكارِ النومِ التي وردت في السنةِ والآياتِ والسورِ التي كان يقرأ بها قبلَ نومِه، فهي حمايةٌ للعبدِ من الشيطانِ بإذن اللهِ، ويعينُ على القيامِ، والنومُ بعدَ القراءةِ يكون خفيفًا ويبات صاحبُه على القرآنِ ويستيقظُ عليه، وإنه لمشاهدٌ أنَّ من نام على القرآنِ قام يقرأ القرآنَ، ومن نام على الشعرِ قام يشعر، ومن نام على الغناءِ قام يغني.. وهكذا. ومما وردَ من الأذكارِ والسورِ التي تُقرأ قبلَ النومِ: قراءةُ سورتي الزُّمرِ والإسراءِ، فعن عائشةَ –رضي اللهُ عنها- قالت: "كان رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وسلم- لا ينام حتى يقرأ الزُّمرِ وبني إسرائيلَ". رواه الترمذي وصححه الألباني، و"بني إسرائيل" اسمٌ لسورةِ الإسراءِ. وعن عائشة -رضي اللهُ عنها-:" أنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلم- كان إذا أوى إلى فراشِه كلَّ ليلةٍ جمع كفَّيه ثم نفثَ فيهما يقرأ (قل هو اللهُ أحدٌ) و (قل أعوذ بربِّ الفلقِ) و (قل أعوذ بربِّ الناسِ) ثم يمسحُ بهما ما استطاعَ من جسدِه، يبدأُ بهما على رأسِه ووجهِه وما أقبلَ من جسدِه يفعلُ ذلك ثلاثَ مراتٍ". متفق عليه. وكذلك قراءةُ آيةِ الكرسيِّ.

وما ثبت من حديثِ أبي هريرةَ –رضي اللهُ عنه- أنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: (إذا أوى أحدُكم إلى فراشِه، فليأخذ داخلةَ إزارِه فلينفض بها فراشَه وليسمِّ اللهَ فإنَّه لا يعلمُ ما خلَفَه بعدَه على فراشَه، فإذا أرادَ أن يضطجعَ فليضطجِع على شِقِّه الأيمنِ وليقُل سبحانَك الَّلهم ربِّي وضعتُ جنبي وبك أرفعُه إن أمسكتَ نفسي فاغفر لها وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفظُ به عبادَك الصالحين) رواه مسلم. وما أرشد النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم-إليه ابنتَه فاطمةَ-رضي اللهُ عنهما- حينما اشتكت إليه ما تلقى في يدِها من الرَّحى فسألته خادماً. فقال صلى اللهُ عليه وسلم لها ولعليٍّ -رضي اللهُ عنهما-: (ألا أدلُّكما على خيرٍ مما سألتُما؟ إذا أخذتما مضاجعَكما، أو أويتما إلى فراشِكما، فسبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادمٍ) أخرجه البخاري وكذلك قراءةُ سورةِ الكافرون،فعن نوفلٍ رضي اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ-صلى اللهُ عليه وسلم- قال له:" اقرأ قل يا أيها الكافرون ثم نم عند خاتمتِها فإنها براءةٌ من الشركِ".أخرجه أبو داوود والترمذي وصححه الألباني. والاكتحالُ قبلَ النومِ من هديِ نبيِّنا –صلى اللهُ عليه وسلم-، عن ابنِ عباسٍ -رضي اللهُ عنهما – قال:"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتحلُ بالإثمدِ ثلاثاً قبلَ أن ينامَ كلَّ ليلةٍ " أخرجه الإمام أحمد وصحح إسناده أحمد شاكر. وله أثرٌ في القيامِ بيدَ أنَّ أكثرَ الناسِ عن هذا غافلون. والاكتحالُ بالإثمدِ يجلو البصرَ ويذهب الرمدَ، والرمدُ يجعل المرءَ ميالاً لإغماضِ عينيه بعدَ النومِ مما يكون مدعاةً لغلبةِ النومِ، وقد ورد في الحديثِ: (وكاءُ السّهِ العينان فمن نام فليتوضأ) رواه أبو داوود وحسنه الألباني. وحين الاستيقاظ:

أ-أن يذكرَ اللهَ أولَ ما يدركه وعيُه ويعقلُ يقظتَه، ويلزمُ نفسَه بذلك قبلَ النومِ ويستحضرُ أنَّه إن لم يفعل فإنَّ عدوَّه يتربصُ له بالكيدِ، بل قد أعدَّ الحبلَ ليوثِقَه به ويعقدُ عليه ثلاثَ عقدٍ، فإذا أرادَ العبدُ حلَّ العقدِ سارعَ الشيطانُ لعقدِها مرةً أخرى، وهذه العقدٌ تحَلُّ بإذنِ اللهِ، ولكن لكلِّ عقدةٍ حلٌّ: فالعقدةُ الأولى: حلُّها بذكرِ اللهِ. والعقدةُ الثانيةُ: حلُّها بالوضوءِ. والعقدةُ الثالثةُ: حلُّها بالصلاةِ. والشَّيطانُ ينتهزُ ويتحيَّنُ الفرصَ ليعيدَ العقدَ مرةً أخرى، فإذا قام العبدُ وذكر اللهَ وانحلت عقدةٌ عاد الشيطانُ ليعقدَها بقولِه: عليك ليلٌ طويلٌ فنَم، وقد تقولُ: إذا كان الشيطانُ يعود ليعقدَ عليَّ فكيف أحصِّنُ نفسي من عقدِه؟! إذا أردتَ أن تحصنَ نفسَك من عقدِه، فعليك أن لا تعطيَ الشيطانَ فرصةً لإعادةِ العقدِ وذلك بأن تستمرَّ في ذكرِ اللهِ وترفع به صوتَك رفعًا ليس بالقويِّ، وإنما تسمع نفسَك ومن كان مستيقظاً عندك وذلك هديُ نبيِّك محمدٍ –صلى اللهُ عليه وسلم-. عن ابنِ عباسٍ –رضي اللهُ عنهما- أنَّ رسولَ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم- كان يقول إذا قام إلى الصلاةِ من جوفِ الليلِ: (اللَّهم لك الحمدُ، أنتَ نورُ السماواتِ والأرضِ، ولك الحمدُ، أنتَ قيَّومُ السماواتِ والأرضِ، ولك الحمدُ، أنتَ ربُّ السماواتِ والأرضِ ومن فيهنَّ، أنتَ الحقُّ، ووعدُك الحقُّ، وقولُك الحقُّ، ولقاؤك الحقُّ، والجنةُ حقٌّ، والنارُ حقٌّ، والساعةُ حقٌّ، اللَّهم لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكَّلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفر لي ما قدَّمتُ وأخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنت إلهي، لا إله إلا أنتَ) رواه البخاري ومسلم. فلو لم يكن رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وسلم- يرفعُ صوتَه بهذا الدعاءِ لمَا سمِعَه عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ وحدَّثَ به.

وانظر يا عبد َاللهِ في هذه الكلماتِ التي يبادِرُ بها –صلى اللهُ عليه وسلم- أولَ ما يقومُ، إنها تجديدٌ للإيمانِ بعدَ البعثِ من المنامِ، وكأنَّها حياةٌ جديدةٌ تبدأها بالإيمانِ والاستسلامِ للهِ، ومَن هذا قولُه، وهذه حالُه عندَ يقظتِه فأنَّى للشيطانِ أن يجدَ إليه سبيلاً. كما يمكن أن تقرأَ شيئًا من القرآنِ عند يقظتِك ويُسنُّ قراءةُ العشرِ الأواخرِ من سورةِ آلِ عمرانَ، ولكن عليك أن تقرأَها جالسًا لئَلَّا يغلبك النومُ. عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ –رضي اللهُ عنه- أنَّه بات عندَ ميمونةَ زوجِ النبيِّ –صلى اللهُ عليه وسلم- وهي خالتُه. قال: (فاضطجعت في عرضِ الوسادةِ، واضطجع رسولُ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم- وأهلُه في طولِها، فنام رسولُ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم- حتى إذا انتصفَ الليلُ أو قبلَه بقليلٍ أو بعدَه بقليلٍ، استيقظ رسولُ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم-، فجلس يمسحُ النومَ عن وجهِه بيديه (¬1) ، ثم قرأَ العشرَ الآياتِ الخواتمَ من سورةِ آلِ عمرانَ، ثم قام إلى شنٍّ (¬2) معلقةٍ، فتوضأ منها فأحسنَ الوضوءَ، ثم قام يصلِّي. قال عبدُ اللهِ: فقمتُ فصنعتُ مثلَ ما صنع ثم ذهبتُ فقمتُ إلى جنبِه، فوضع رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- يدَه اليمنى على رأسي فأخذ بأُذُني يفتِلُها، فصلَّى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين ثم أوترَ ثم اضطجعَ حتى جاءَه المؤذِّنُ، فقامَ فصلَّى الصبحَ) متفق عليه. ¬

_ (¬1) 1.يمكن أن يكون مسح الوجه بعد النوم من الأسباب المعينة على القيام فتدبر ذلك. فيه طرد للكسل وإبعاد أثر النوم والاستعداد للنهوض وتجلية البصر، لأن النوم له أثر في إطباق الجفون، فعندما يصحوا النائم قد تراه مفتوح العينين ولكنه لا يرى شيئا أو لا يدرك ولا يتحقق ما أمامه ومن الناس من يستيقظ ويمشي وهو مفتوح العينين ولا يدري إلى أي اتجاه يذهب. (¬2) شن: القربة القديمة.

فرسولُ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم- قرأ بصوتٍ مسموعٍ سمِعه ابنُ عباسٍ –رضي اللهُ عنه-. ولا يجبُ لقراءتِك الوضوءُ ما دمتَ تقرأُ من صدرِك. ثم تسارعُ إلى الوضوءِ لتحُلَّ العقدةَ الثانيةَ، وأنتَ عندَ وضوئِك تستحضرُ أنَّ الشيطانَ قد بال في أذنيك ومنخريك، فتبالغ في المضمضةِ والاستنشاقِ، والمبالغةُ فيهما لا سيَّما عندَ القيامِ من النومِ مطردةٌ للنومِ ومبعدةٌ للشيطانِ. وإيَّاك أن ترجعَ إلى فراشِك بعدَ الوضوءِ، فإنَّ الشيطانَ يريد أن يعيدَك إلى قيدِه فيزيِّن لك الفراشَ ويغريك، ويوسوسُ لك تارةً بالاستدفاءِ وتارةً بالراحةِ. ب- السواكُ من أعظمِ ما يُذهبُ النومَ ويعينُ على القيامِ، فله فائدةٌ عجيبةٌ لا سيَّما قبلَ الوضوءِ، فإذا استقعدتَ في فراشِك فتناول سواكَك الذي أعددتَه قبلَ النومِ، وليكن قريباً منك، ثم استك به فإنَّه سنةُ نبيِّك ومطهرةٌ لفمِك ومرضاةٌ لربِّك. عن حذيفةَ-رضي الله عنه- قال: "كان رسولُ اللهِ- صلى اللهُ عليه وسلم-يشوصُ (¬1) فاه بالسِّواك".متفق عليه. ج- أن ينهضَ من الفراشِ مباشرةً، إن غلبَ عليك النومُ فمارس بعضَ التمارينِ الرياضيةِ الخفيفةِ لتستعيدَ نشاطَك، وذلك كالمشي والحركةِ والقيامِ والجلوسِ بسرعةٍ مراتٍ متكررةٍ. د- البدءُ بركعتين خفيفتين يُذهبُ عنك النومَ، لأنَّ البدءَ بركعتين طويلتين إذا كنت ناعساً قد يغلبك النومُ أثناءَها لقلةِ الحركةِ. فمن هديه –صلى اللهُ عليه وسلم- بدءُ القيامِ بركعتين خفيفتين،وأمرَ بذلك لما فيه من فائدةِ تنشيطِ الجسمِ وطردِ النومِ، فعن أبي هريرةَ –رضي اللهُ عنه-أنَّ النبيَّ –صلى اللهُ عليه وسلم-قال:" إذا قام أحدُكم من الليلِ فليبدأ الصلاةَ بركعتين خفيفتين" رواه مسلم. ¬

_ (¬1) يدلك أسنانه وينقيها

هـ-وحتى لا يملَّ قائمُ الليلِ أو يغلبَه الشيطانُ، فعليه أن ينوِّعَ في صلاتِه من حيث عددِ الركعاتِ وصفتِها، كما وردت السنةُ بذلك. فتارةً يصلي إحدى عشرةَ ركعةً، مثنى مثنى، وهي أكثرُ صلاتِه –صلى اللهُ عليه وسلم- ولم يزد على هذا العددِ، لا في رمضانَ ولا في غيرِه، ولكنَّها صلاةٌ بطمأنينةٍ وخشوعٍ. تقول عائشةَ –رضي اللهُ عنها- (ما كان رسولُ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم- يزيدُ في رمضانَ ولا في غيرِه على إحدى عشرةَ ركعة يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنِهن وطولِهن ثم يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنِهن وطولِهن ثم يصلي ثلاثًا) متفق عليه. وتارةً يصلي تسعَ ركعاتٍ، وعنها –رضي اللهُ عنها-: (وكان يصلي من الليلِ تسعَ ركعاتٍ فيهنَّ الوترُ) رواه مسلم. وإن شاء أوترَ بثلاثٍ وإن شاء أوترَ بخمسٍ وإن شاء أوترَ بواحدةٍ. وعلى المبتدئ في قيامِ الليلِ أن يتدرَّجَ فيه، فلا يثقلُ على نفسِه في بدايةِ الأمرِ حتى لا يملَّ أو يتركَ القيامَ، فيبدأُ بركعاتٍ قليلةٍ لمدةِ أشهر ثم إذا اعتاد عليها زاد وهكذا، وكذلك تطويلُ القيامِ يكون بالتدرجِ. ويرى في الجهرِ والإسرارِ في القراءةِ أيُّهما الأنسبُ له وأخشعُ لقلبِه. -وإذا غلبه نعاسٌ تركَ الصلاةَ ونام، فعن أبي هريرةِ –رضي اللهُ عنه- يرفعه: (إذا قام أحدُكم من الليلِ فاستعجمَ القرآنُ على لسانِه فلم يدرِ ما يقول فليضطجِع) رواه مسلم. -ولم يستكمل رسولُ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم- قيامَ ليلةٍ وقال لابنِ عمرَ –رضي اللهُ عنه-: (فإنَّك إذا فعلت ذلك هجمت عينُك ونفهت نفسُك وإنَّ لنفسِك حقًّا) رواه البخاري. ونفهت:بمعنى نهكت وتعبت.

فصل في الأسباب الصارفة عن القيام

17- الحرصُ على قضاءِ القيامِ والوردِ إذا فات من الليلِ؛ لأنَّ من علم أن يقضيَه في النهارِ، وقد يكون مشغولاً بطلبِ رزقِه أو دراستِه أو وظيفتِه فلا يستطيعُ قضاءَه؛ من علم ذلك وكان حقًّا حريصًا على القيامِ لم يفوِّت القيامَ إلا مكرهًا، وقد نهى النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم- عن تركِ القيامِ بقولِه لعبدِ اللهِ بنِ عمرِو: (يا عبدَ اللهِ لا تكن مثلَ فلانٍ كان يقومُ الليلَ فتركَ قيامَ الليلِ) رواه البخاري. -وقضاء القيام ثبت عن رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلم- ولكن لم يكن يقضيه وترًا وإنما يقضيه شَفعًا، وجاء ذلك في حديثِ عائشةَ -رضي اللهُ عنها- قالت: (كان رسولُ الله -صلى اللهُ عليه وسلم- إذا فاتته الصلاةُ من وجعٍ أو غيرِه صلى من النهارِ ثنتيْ عشرةَ ركعة) رواه مسلم. فهذا رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- مع أنَّه غُفر له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّرَ يحرص على قضاءِ القيامِ إذا غلبه الوجعُ أو النومُ. ومن يفعل ذلك ينل نصيبَ القائمِ لأنَّ من نام عن حزبِه أو نسيه فصلَّاه مابين طلوعِ الشمسِ إلى الزَّوالِ فكأنما صلَّاه من الليلِ كما وردَ ذلك عنه -صلى اللهُ عليه وسلم- في صحيحِ مسلمٍ. وعليه أن يحاسبَ نفسَه ويعاتبَها عندَ فواتِ القيامِ. فصل في الأسباب الصارفة عن القيام كما أنَّ هناك ما يعينُ على قيامِ الليلِ كما قدَّمتُ فلا ريبَ أنَّ هناك ما يعوقُ القيامَ ويصرفُ صاحبَه عنه، ومن ذلك:

1- غفلةُ القلبِ عن اللهِ وعن نعيمِه وعقابِه وعن رضاه وسخطِه، فلا يتفكَّرُ العبدُ في دينِه ولا مولاه ولا أوامِره ولا نواهيه، إنما لا يعرف إلا أداءَ الصلاةِ كما يرى الناسُ يؤدونها ولا يحرص على اليقظِة لأدائِها فإذا كان نائمًا لم يسعَ إلى اليقظِة؛ بل قد يأبى إذا أوقظ، وهذا على خطرٍ عظيمٍ، إذ كيف يُفلحُ من هذه حاله، وإنما هذه حالُ المنافقين والعياذُ باللهِ، وقد قال عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ-رضي اللهُ عنه-: (ولقد رأيتُنا ولا يتخلَّفُ عنها إلا منافقٌ معلومُ النفاقِ) رواه مسلم. لما في القيامِ من المشقةِ التي لا يتحمَّلُها إلا الصابرون المحتسبون للأجرِ فيما عندَ اللهِ. 2- كثرةُ الذنوبِ والإصرارُ على المعاصي ولو كانت صغارًا؛ سببٌ في حرمانِ العبدِ من قيامِ الليلِ، وإنَّ العبدَ ليحرمُ الرزقَ بالذنبِ يصيبُه، وأيُّ رزقٍ أكبرُ من التوفيقِ للقيامِ لمناجاةِ اللهِ ولقائِه. قال رجلٌ للحسنِ: "يا أبا سعيدٍ إني أبيتُ معافى، وأحبُّ قيامَ الليلِ وأعدُّ طَهوري فمالي لا أقومُ؟ فقال: ذنوبُك قيَّدتْك." 3- اتباعُ الهوى والابتداعُ في الدينِ يقللُ القيامَ، فعلى المؤمنِ إذا كان في شِرةٍ (¬1) وقوةٍ أن يعملَ متبعًا السنةَ ولا يبتدع، فإن ممن تعلقوا بالقيامِ ولم يهتدوا للسنةِ فيه، من أُثرَ عنه أنه كان يصلي الليلَ ولا ينام. أو من أُثرَ عنه أنه يقرأُ القرآنَ كلَّه في قيامِ ليلةٍ، وهذا ابتداعٌ وخلافٌ للهدي النبوي، بل إنه -صلى اللهُ عليه وسلم- نهى عن ذلك وغضب على من أرادَ أن يفعلَ ذلك وقال: من رغبَ عن سنَّتي فليس منِّي. ¬

_ (¬1) الشرة: الحماس وهو ضد الفتور.

فمثلاً ما قيل عن وهبِ بن منبهٍ أنه ما وضع جنبَه إلى الأرضِ ثلاثين سنةً، وكان يقول: لئن أرى في بيتي شيطانًا أحب إليَّ من أن أرى في بيتي وسادةً لأنها تدعو إلى النومِ. هذا ولله الحمدُ غيرُ ثابت عنه فهو قولٌ مُمَرَّضٌ (أي منقولٌ بقيل) ولو صح عنه ذلك فإنا لا نقبلُه حتى لو كان وهبُ بنُ منبه من التابعين لأنَّ هذا العملَ خلافُ السنةِ، بل إنَّ رسولَنا –صلى اللهُ عليه وسلم- كان يضعُ جنبَه على الأرضِ وينامُ ويتكئُ على الوسادةِ ويكرهُ أن يكونَ الشيطانُ في بيتِه. وإنك حين تقرأ في بعضِ الكتبِ التي تذكر تكلَّفَ بعضِ السلفِ في العبادةِ تجد منها الكثيرَ من هذه المخالفاتِ ككتابِ "حليةِ الأولياءِ" لأبي نعيمٍ، و"إحياءِ علومِ الدين"ِ للغزاليِّ وغيرِها، مما لا يكون مؤلِّفُه متحريًا صحةَ المتنِ. وأنتَ يجبُ أن تكونَ بصيرًا بدينِك وأن تقبلَ من الأخبارِ عن السلفِ ما وافقَ السنةَ، وما خالفها فلا تأخذْ به ولا تغبْطهم عليه؛ فإنه بدعٌ ورهبانيةٌ، الإسلامُ منها براء، وإنما انتشرت حينما تقلدَّها المتصوفةُ ودعوا إليها ووضعوا فيها الأحاديثَ المناكيرَ. وقد نهى –صلى اللهُ عليه وسلم- عن المبالغةِ في العبادةِ بما يشقُّ على النفسِ مما لم يأمرِ اللهُ به، فعن أنسٍ -رضي اللهُ عنه- قال: دخل رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- المسجدَ وحبلٌ ممدودٌ بين ساريتين فقال: (ما هذا؟ ، قالوا: لزينبَ تُصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: حلّوه، ليصلِّ أحدُكم نشاطَه فإذا كسلَ أو فترَ قعد) رواه البخاري ومسلم.

وعن عائشةَ –رضي اللهُ عنها- أن النبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: (إذا نعسَ أحدُكم في الصلاةِ فليرقد حتى يذهبَ عنه النومُ، فإنَّ أحدَكم إذا صلَّى وهو ناعسٌ، لعلَّه يذهبُ يستغفرُ فيسبُّ نفسه) رواه البخاري ومسلم. وعن عائشةَ -رضي اللهُ عنها- زوجِ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- قالت: (إن الحوْلاءَ بنتَ تُوَيْت بنِ حبيبِ بنِ أسدِ بنِ عبدِ العزَّى مرَّت بها وعندها رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- فقلت: هذه الحوْلاءُ بنتُ تُوَيْت وزعموا أنها لا تنامُ الليلَ، فقال: لا تنام الليلَ؟ خذوا من العملِ ما تطيقون، فو اللهِ لا يسأمُ الله حتى تسأموا) متفق عليه واللفظ لمسلم. 4- التعلقُ بالدُّنيا، والنومُ وأنت تفكرُ فيها يقسِّي قلبَك ويطيلُ أملَك، وتقومُ من نومِك على ما نمتَ عليه، فكيف تريدُ أن تقومَ وأنت لا تستحضرُ الآخرةَ ولا العملَ لها؟! وسبحانَ اللهِ إنَّ من الملاحَظِ أن من نام يردِّدُ آيةً قام يرددها، ومن نام يردد أغنيةً قام يرددها. وكذلك التعلُّقُ بأحدِ المخلوقين يجعل المرءَ ينامُ وهو يفكِّر فيه، ويقومُ وهو يفكِّر فيه، ومَن هذه حالُه فأنّى له أن يتذكرَ ربَّه أو نعيمَه وعذابَه؟!

5- السهرُ والنومُ المتأخرُ من أكبرِ العوائقِ عن القيامِ لأنَّ العبدَ إذا لم يكتفِ جسدُه من النومِ فإنَّه يصعبُ عليه القيامُ ويثقل نومُه، ونحن الآن في هذا العصر كَثُر سهرُنا فأصبحنا لا ننامُ إلا بعد منتصفِ الليلِ، وليتَ هذا في خيرٍ أو طلبِ علمٍ أو سهرٍ على جهادٍ أو على الأقلِّ في مباحٍ، بل أكثرُ سهرِنا في اللهوِ واللَّعبِ؛ فمِن ساهرٍ على لَعِبِ الوَرقِ، ومِن ساهرٍ عندَ التلفازِ، ومِن ساهر على لغوٍ وغيبةٍ إلى غيرِ ذلك، وهذا لو لم يكن به تضييع الفريضة فهو محرم، فكيف وهو يعطل أداءَك لفريضةِ صلاةِ الفجرِ؟!! بل إنَّ المباحَ إذا كان السهرُ عليه يعطِّلُك عن أداءِ الفريضةِ صار محرمًا.. لذا كره النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- الحديثَ بعدَ صلاةِ العشاءِ. فعن أبي برزةَ قال: "كان النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم- يكرهُ النومَ قبلَ صلاةِ العشاءِ والحديثَ بعدَها". رواه البخاري، إلا طلب العلم وحديث الرجلِ مع أهلهِ (أي زوجه) والسفرِ، وهذه كلُّها مندوبةٌ ولكن بشرطِ أن لا تضيعَ عليك صلاةَ الفجرِ في وقتِها وإلا فهي محرمةٌ، واللهُ أعلم. وكان عمرُ بنُ الخطابِ يضربُ الناسَ بالدِّرةِ بعدَ صلاةِ العشاءِ ويقول: (أسَمَرٌ أولَّ الليل ونومٌ آخرَه) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه.

6- التعبُ في النهارِ وإرهاقِ الجسدِ بالأعمالِ التي لا فائدةَ منها مما يجعلُ العبدُ لا يستطيع القيامَ، فكثيرٌ من الشبابِ يلعبُ الكرةَ في النهارِ عدةَ ساعاتٍ فإذا نام نام مرهقًا، فإذا حضرتْه الصلاةُ لم يستطعِ القيامَ لتعبِه، وكذلك كثيراتٌ من الشابَّاتِ تتعبُ نفسَها في كثيرٍ من الأمورِ التي لا طائلَ منها أو هي عنها في غنىً، فإذا وضعتْ جنبَها لم تكد ترفعُه إلا بعدَ طلوعِ الفجرِ لتعبِها وإرهاقِها،كالتعبِ في الأسواقِ والإعدادِ للحفلاتِ والولائمِ التي قد تَذهبُ بنهارِها كلِّه، وهي تستطيع أن تقللَ من تعبِها هذا، فتعطي نفسَها راحةً تمكِّنها من القيامِ. 7- كثرةُ اللغوِ بالنهارِ وقلةُ الذكرِ تقسِّي القلبَ فلا يستطيعُ أن يذكرَ اللهَ بعد يقظتِه فيغلب عليه الشيطانُ فينام. 8- كثرةُ الأكلِ فإنَّ الشبعَ يكثرُ النومَ ويزيدُه. يقول أحدُ الشيوخِ لطلاَّبِه: لا تأكلوا كثيرًا فتشربوا كثيرًا فترقدوا كثيرًا فتتحسَّروا عند الموتِ كثيرًا. قال الغزاليُّ –رحمه اللهُ-: وهذا هو الأصلُ الكبيرُ وهو تخفيفُ المعدةِ عن ثقلِ الطعامِ. 9- أكلُ الحرامِ والخبيثِ يقسِّي القلبَ ويضربُ عليه القفالَ، فلا يستيقظُ صاحبُه، بل ويحرم الخيرَ، ومن أكبرِ الخيرِ القيامُ للهِ ومناجاتُه. 10- النومُ في الفراشِ الوثيرِ فإن يثقلُ صاحبَه عن القيامِ. وقد مرَّ الحديثُ عن هذا في الأسبابِ المعينةِ. قال الثوريُّ –رحمه اللهُ-: حُرمتُ قيامَ الليلِ خمسةَ أشهرٍ بذنبٍ أذنبتُه، قيل: وما ذاك الذنبُ؟ قال: رأيتُ رجلاً يبكي فقلت في نفسي: هذا مراءٌ. وقال بعضُهم: دخلتُ على كرزِ بنِ وبرةَ، وهو يبكي فقلت: أتاك نعيُ أهلِك؟ فقال: أشدُّ، فقلت: وجعٌ يؤلمك؟ فقال: أشدُّ، قلت: فما ذاك؟ قال: بابي مغلقٌ وستري مسبلٌ ولم أقرأ حزبي البارحةَ، وما ذاك إلا بذنبٍ أحدثتُه.

فصل في الترهيب من ترك قيام الليل

قال الغزاليُّ -رحمه اللهُ-: "وهذا لأنَّ الخيرَ يدعو للخيرِ والشرَّ يدعو للشرِ، والقليلُ من كلِّ واحدٍ منها يجرُّ إلى الكثيرِ". فالذنوبُ كلُّها تورثُ قساوةَ القلبِ وتمنع من قيامِ الليلِ، وأخصُّها بالتأثيرِ تناولُ الحرامِ، وتؤثرُ اللقمةُ الحلالُ في تصفيةِ القلبِ وتحريكِه إلى الخيرِ ما لا يؤثر غيرُها، ويعرف ذلك أهلُ المراقبةِ للقلوبِ بالتجربةِ بعد شهادةِ الشرعِ له، ولذلك قال بعضُهم: كم من أكلةٍ منعَتْ من قيامِ الليلِ سنةً، وكما أنَّ الصلاةَ تنهى عن الفحشاءِ والمنكرِ؛ فكذلك الفحشاءُ تنهى عن الصلاةِ وسائرِ الخيراتِ. وقال بعضُ السجَّانين: كنتُ سجَّانًا نيِّفًا وثلاثين سنةً أسألُ كلَّ مأخوذٍ بليلٍ أنه هل صلى العشاءَ في جماعةٍ؟ فكانوا يقولون: لا. وهذا تنبيهٌ على أنَّ بركةَ الجماعةِ تنهى عن تعاطي الفحشاءِ والمنكرِ" (¬1) . فصلٌ في الترهيبِ من تركِ قيامِ الليلِ إنه لا يوفَّقُ عبدٌ إلى قيامِ الليلِ ثم يتركه إلا كان ذلك بسببِ ذنوبِه وبعدِه عن اللهِ؛ لذا فإذا بدَرَ ذلك منك يا عبدَ اللهِ وتركتَ القيامَ ليالي أو شهرًا فحاسبْ نفسك، وسلْ قلبَك: ماذا فعلت؟! وسل جوارحَك: ماذا اقترفت؟!. واعلم أنَّ تركَ القيامِ لمن كان يقومُه منقصةٌ ومذمةٌ. فعن ابنِ مسعودٍ -رضي اللهُ عنه- قال: ذُكرَ عندَ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم- رجلٌ نامَ حتى أصبحَ. قال: (ذاك رجلٌ بال الشيطانُ في أذنيه -أو قال: في أذنه-) متفق عليه. واعلم أنَّ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- قد مقت مَن ينامُ الليلَ حتى يصبحَ لا يقومُ يصلي. ¬

_ (¬1) ينظر: إحياء علوم الدين الغزالي 1/356، 357 بتصرف

فصل فيما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قيام الليل

عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ -رضي اللهُ عنهما- قال: قال رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (يا عبدَ اللهِ، لا تكن مثلَ فلانٍ كان يقومُ الليلَ فترك قيامَ الليلِ) متفق عليه.، ويدلُّ الحديثُ على كراهةِ قطعِ ما يعتاده الإنسانُ من أعمالِ البرِّ لغيرِ عذرٍ. وليس أحدٌ يقومُ في الليلِ ويكتبُ اللهُ له القيامَ إلا والله يحبُّه، حيث جعله يناجيه ويتلو كتابَه، ويتغنَّى به، وهذا شرفٌ عظيمٌ لا يُحرمه إلَّا من حرَمه اللهُ، نعوذ بالله من الحرمان. فصلٌ فيما جاء عن رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- في قيامِ الليلِ لقد عقدتُ هذا الفصلَ لأبينَ حرصَ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- على القيامِ، وحالَه فيه من الخشوعِ والبكاءِ والتطويلِ، ولستُ أريدُ بعقدِه بيانَ هديِه في القيامِ وعددَ ركعاتِه وأحوالَ قنوتِه وغيرَها لأني لن أستوعبَها في هذه الصفحاتِ. والتطويلُ هنا مخالفٌ لجملةِ الرسالةِ، وإنما أُحيل القارئَ الكريمَ على بعضِ الكتبِ التي وصفت قيامَه -صلى اللهُ عليه وسلم-. وبينَّت أحكامَ هذا القيامِ سواءً أكان ذلك في كتابٍ مفردٍ أم في جزءٍ من كتابٍ قديمًا وحديثًا. فمِمَّن كتبَ فيه ابنُ القيَّمِ -رحمه اللهُ- في كتابِه القيمِ المشهورِ (زادِ المعادِ (¬1) ، وممن أفرد له كتابًا من المحدثين الدكتور فيحان المطيري في كتابِه (إسعافِ أهلِ العصرِ بما وردَ في أحكامِ الوترِ) . وأُورِد بعضَ الأحاديثِ التي تبيِّنُ حرصَه -صلى اللهُ عليه وسلم- على قيام الليل: 1- عن أبي ذرٍ -رضي اللهُ عنه- قال: قام النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم- حتى أصبحَ بآية (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة:118] رواه ابن ماجه وحسنه الألباني. ¬

_ (¬1) الجزء الأول ص322-241.

2- عن المغيرةِ بنِ شعبةَ –رضي اللهُ عنه- قال: قام النبيُّ –صلى اللهُ عليه وسلم- حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: قد غُفرَ لك ما تقدَّم من ذنبِك وما تأخرَ؟ قال: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) متفق عليه. 3- - قالت عائشةُ -رضي اللهُ عنها-: (لا تدع قيامَ الليلِ، فإنَّ رسولَ الله –صلى اللهُ عليه وسلم- كان لا يدعه، وكان إذا مرضَ أو كسلَ صلَّى قاعدًا) رواه أبو داوود وابن خزيمة وصححه الألباني. 4- عن أنسٍ -رضي اللهُ عنه- قال:" كان رسولُ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم- يفطرُ من الشهرِ حتى نظنَّ أن لا يصومَ منه، ويصومُ حتى نظنَّ أن لا يفطرَ منه شيئًا، وكان لا تشاءُ أن تراه مصليًا إلا رأيتَه ولا نائمًا إلا رأيتَه". رواه البخاري. 5- عن عائشةَ -رضي اللهُ عنها-: (أنَّ رسولَ اللهِ –صلى اللهُ عليه وسلم- كان يصلي إحدى عشرة ركعةً –تعني في الليل- يسجدُ السجدةَ من ذلك قدرَ ما يقرأُ أحدُكم خمسين آيةً، قبل أن يرفعَ رأسَه ويركعُ ركعتين قبلَ صلاةِ الفجرِ، ثم يضطجعُ على شقِّهِ الأيمنِ حتى يأتيَه المنادي للصلاةِ) رواه البخاري. 6- عن ابنِ مسعودٍ –رضي اللهُ عنه- قال:"صليتُ مع النبيِّ –صلى اللهُ عليه وسلم- ليلةً، فلم يزل قائمًا حتى هممتُ بأمرِ سوءٍ، قيل: وما هممتَ؟ قال: هممتُ أن أجلسَ وأدعَه". متفق عليه.

فصل بعض الآثار عن السلف الصالح في قيام الليل

7- عن حذيفةَ -رضي اللهُ عنه- قال: " صليتُ مع النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم- ذاتَ ليلةٍ، فافتتحَ البقرةَ، فقلتُ: يركعُ عند المئةِ، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعةٍ، فمضى فقلتُ: يركعُ بها، ثم افتتحَ النساءَ فقرأَها، ثم افتتحَ آلَ عمرانَ فقرأَها، يقرأُ مترسلاً: إذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبَّحَ، وإذا مرَّ بسؤالٍ سأل، وإذا مرَّ بتعوذٍ تعوذ، ثم ركعَ فجعل يقولُ: سبحانَ ربي العظيمِ، فكان ركوعُه نحوًا من قيامِه، ثم قال: سمعَ اللهُ لمن حمدَه، ربَّنا لك الحمدُ، ثم قامَ طويلاً قريبًا مما ركعَ، ثم سجدَ فقال: سبحانَ ربي الأعلى، فكان سجودُه قريبًا من قيامِه". رواه مسلم. 8- عن أبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ أنَّه سألَ عائشةَ: " كيف كانت صلاةُ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- في رمضان؟ قال: فقالت: ما كان رسولُ الله -صلى اللهِ عليه وسلم- يزيدُ في رمضان ولا في غيرِه على إحدى عشرة ركعةٍ، يصلي أربعًا فلا تسألْ عن حسنهِنَّ وطولهِنَّ، ثم يصلي أربعًا فلا تسألْ عن حسنهِنَّ وطولهِنَّ، ثم يصلي ثلاثًا، قالت عائشةُ: فقلت: يا رسولَ الله أتنامُ قبل أن توترَ؟ فقال: (يا عائشةُ إنَّ عينيَّ تنامانِ ولا ينامُ قلبي) متفق عليه. فصلٌ بعضُ الآثارِ عن السلفِ الصالحِ في قيامِ الليلِ 1- روي أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ -رضي اللهُ عنه-: كان يمرُّ بالآيةِ من وردِه بالليلِ فيسقط حتى يُعاد منها أيامًا كثيرةً، كما يُعاد المريضُ (¬1) . 2- وكان ابنُ مسعودٍ -رضي اللهُ عنه- إذا هدأتِ العيونُ قام فيسمعُ له دويٌّ كدويِّ النحلِ حتى يصبحَ. (¬2) 3- وكان طاووس -رحمه اللهُ- إذا اضطجعَ على فراشِه تقلَّب عليه كما تقلب الحبةُ في المقلاةِ ثم يثِبُ ويصلي إلى الصباحِ، ثم يقول: طيَّر ذكرُ جهنمَ نومَ العابدين. (¬3) ¬

_ (¬3) حياء علوم الدين ...

4- وقال الحسنُ: ما نعلم شيئًا أشدَّ من مكابدةِ الليلِ، ونفقةِ هذا المالِ، فقيل: ما بالُ المتهجدينَ من أحسنِ الناسِ وجوهًا، قال: لأنَّهم خلوا بالرحمنِ فألبسهم نورًا من نورِه. (¬1) 5- قال الفضيلُ: إني لأستقبلُ الليلَ من أوَّلِه فيهولني طولُه فأفتتحُ القرآنَ فأصبحُ وما قضيتُ نهمتي. (¬2) فانظر يرعاك الله إلى اللذة التي يشعر بها حتى لا يشعر بالوقت بل يحسه قصيرًا في جانب مناجاته لربه. (¬3) وليس ذلك كل ليلة.. فحاشا أن يخالفوا سنةَ رسولِ اللهِ وإنما أخبر عن هذا الحديثِ ولو كان ليلةً. 6- وقال أيضًا: إذا لم تقدر على قيامِ الليلِ وصيامِ النهارِ فاعلم أنَّك محرومٌ وقد كثرت خطيئتُك. 7- كان للحسنِ بنِ صالحٍ جاريةٌ فباعها من قومٍ، فلما كان في جوفِ الليلِ قامت الجاريةُ فقالت: يا أهلَ الدارِ الصلاةَ الصلاةَ، فقال: أصبحنا؟ أطَلَع الفجرُ؟ فقالت: وما تصلون إلا المكتوبةَ؟! قالوا: نعم، فرجعَتْ إلى الحسنِ فقالت: يا مولاي بعتني من قومٍ لا يصلون إلا المكتوبةَ؛ رُدَّني، فرَدَّها. 8- قال الربيعُ: بتُّ في منزلِ الشافعيِّ –رحمه اللهُ- ليالي كثيرةً فلم يكن ينامُ من الليلِ إلا يسيرًا. 9- وكان أبو حذيفةَ يحيي نصفَ الليلِ فمرَّ بقومٍ، فقالوا: إنَّ هذا يحيي الليلَ كلَّه، فقال: إني أستحي أن أُوصفَ بما لا أفعلُ، فكان بعد ذلك يحيي الليلَ كلَّه. وقد سبق أن بيَّنتُ أنَّ إحياءَ الليلِ كلِّه كلَّ ليلةٍ منهيٌّ عنه، فلعلَّ من روى ذلك عن أبي حذيفةَ اعتقد ذلك كما وصفوه بذلك من قبلُ؛ولم يكن يقومُ إلا نصفَ الليلِ. ¬

_ (¬1) حياء علوم الدين ... (¬2) حياء علوم الدين ...

10- يقال إنَّ مالكَ بنَ دينارٍ –رضي اللهُ عنه- بات يردد هذه الآيةَ ليلةً حتى أصبحَ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [الجاثية:21] . 11- وقال المغيرةُ بنُ حبيبٍ: رمقتُ مالكَ بنَ دينارٍ –رحمه اللهُ- فتوضأ بعد العشاءِ ثم قام إلى مصلاه فقبضَ على لحيتِه فخنقته العبرةُ، فجعلَ يقول: اللهم حرّم شيبةَ مالكٍ على النارِ، إلهي قد علمتَ ساكنَ الجنةِ من ساكنِ النارِ فأيُّ الرجلين مالكٌ، وأيُّ الدارين دارُ مالكٍ فلم يزل يقولُ ذلك حتى طلعَ الفجرُ. 12- وقال مالكُ بنُ دينارٍ سهرت ليلةً عن وردي ونمتٌ، فإذا أنا في المنامِ بجاريةٍ كأحسنِ ما يكون وفي يدها رقعةٌ، فقالت لي: أتحسنُ تقرأ؟ فقلت: نعم فدفعتْ إليَّ الرقعةَ فإذا فيها: أألهتك اللذائذُ والأماني ... عن البيضِ الأوانسِ في الجنان تعيش مخلدًا لا موت فيها ... وتلهو في الجنان مع الحسان تنبَّه من منامك إن خيرًا ... من النوم التهجد بالقران (¬1) 13- عن نافعٍ أنَّ ابنَ عمرَ –رضي اللهُ عنه-: "كان إذا فاتته صلاةُ العشاءِ في جماعةٍ أحيا بقيةَ ليلِه" (¬2) . وكان -رضي اللهُ عنه-: "كلما استيقظَ من الليلِ صلى"1. 14- عن بردٍ مولى ابنِ المسيبِ قال: "ما نودي للصلاةِ منذ أربعين سنةٍ إلا وسعيدٌ في المسجدِ"1. ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين 1/355 (¬2) حلية الأولياء لأبي نعيم 1/163

15- عن مسلمةَ بنِ محاربٍ قال: قدم عروةُ بنُ الزبير على الوليدِ بنِ عبدِ الملكِ ومعه ابنه محمدُ بنُ عروةَ فدخل محمدُ بنُ عروةَ دارَ الدوابِّ فضربتْه دابةٌّ فخرَّ، فحُمل ميتًا، ووقعت في رجلِ عروةَ الأكلةُ، ولم يدع تلك الليلة وردَه، فقال له الوليد: اقطعها قال: لا، فترقت إلى ساقه، فقال له الوليد: اقطعها وإلا أفسدت عليك جسدك، فقطعت بالمنشار وهو شيخ كبير، فلم يمسكه أحد، وقال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا. وقال محمدُ بنُ عبيدٍ: لم يتركْ عروةُ بنُ الزبيرِ وردَه إلَّا في الليلِ التي قُطعت فيها رجلُه، قال: وتمثَّلَ بأبياتِ معنِ بن أوسٍ: لعمرك ما أهويتُ كفي لريبةٍ ... ولا حملتني نحو فاحشةٍ رجلي ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي وأعلم أني لم تصبني مصيبةٌ ... من الدهر ِإلا قد أصابت فتىً قبلي (¬1) 16-كان لأبي مسلمٍ الخولانيِ رحمه اللهُ سوطٌ يعلِّقه في مسجدِه فإذا كان السحرُ ونعسَ أو ملَّ أخذَ السوطَ وضربَ به ساقيه ثم قال: لأنتِ أولى بالضربِ من شرارِ الدوابِّ. 17- كان أيَّوبُ السختيانيُّ يقوم الليلَ كلَّه، فيُخفي ذلك، فإذا كان عند الصبحِ، رفع صوتَه كأنَّه قام تلك الساعةَ. 18- كان الحسنُ يصلي فإذا أعيي صلى قائماً فإذا فتر صلى مضطجعاً (¬2) . 19- كان سليمانُ التيميُّ مرةً يصلي بعد العشاءِ الآخرةِ فقرأ (تباركَ الذي بيدِه الملكُ) حتى أتى على قوله: (فلما رأوه زلفةً سيئت وجوهُ الذين كفروا) جعل يردِّدُها إلى الفجرِ، ولما ماتَ قالت جاريةٌ من جيرانِه لأمِّها: يا أمَّاه ما فعلَ المشجبُ الذي كان فوقَ ذلك السطحِ؟ تظن أنَّ سليمانَ التيميَّ-رحمه اللهً- كان المشجب (¬3) . ¬

_ (¬1) حلية الأولياء لأبي نعيم 2/17822 2مختصر قيام الليل للمروزي. (¬3) ختصر قيام الليل. ...

خاتمة

خاتمة وبعد أن أتمتتُ بعونِ اللهِ وفضلِه هذه الرسالةَ، فإنِّي أعتذرُ عمًّا جاء فيها من تقصيرٍ، وإنما كتبتُها إرشادًا لنفسي وعونًا لها على القيامِ، وحرصتُ أن يشاركَني إخواني في الفائدةِ، فرجوت ذلك بطباعتِها، علَّها تكونُ لي عذرًا بتبليغِ النصيحةِ للمسلمين عامةً، عسى اللهُ أن يهديَنا للقيامِ بما فرَضَ علينا، ويمنَّ علينا بالتقرُّبِ إليه بما يحبُّ ويرضى، ويتقبَّلها منا جميعًا، وأسألُه أن يرفعَ عن هذه الأمةِ ما حلَّ بها من فرقةٍ وفتنٍ وبلاء. ٍ وأذكِّرك -أخي- أن العملَ الصالحَ في هذا الزمانِ، بات شاقًّا على النفوسِ المولعةِ بالدنيا، فأغلبُ الناسِ اليومَ مُلقىً في قلبه الهوانُ، حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموتِ، لذا فإنَّ المتمسِّك بدينِه يجد نفسَه تتجاذبُه الفتنُ وتعرضُ عليه صباحَ مساءَ، وصدق رسولُ الله -صلى اللهُ عليه وسلم-: (يأتي على الناسِ زمانٌ القابضُ على دينِه كالقابضِ على الجمرِ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني. وأبشر يا أخي فهذا زمانُ الصبرِ، أجرُ المؤمنِ فيه كأجرِ خمسين من الصحابةِ بنصِ رسولِ الله -صلى اللهُ عليه وسلم-، فلنكن ممَّن يسارعُ في الخيراتِ، ويدعو اللهَ رغبًا ورهبًا. جعلنا اللهُ من المتقين وحَشَرنا في زمرتِهم وأوفَدَنا وفادتَهم، اللهم آمين. والحمدُ للهِ الذي تتم بنعمتِه الصالحاتُ. وصلى اللهُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين. وكتبته: د/ رقية بنت محمد المحارب.

ظهر الغلاف الخارجي أذكِّرك -أخي- أن العملَ الصالحَ في هذا الزمانِ، بات شاقًّا على النفوسِ المولعةِ بالدنيا، فأغلبُ الناسِ اليومَ مُلقىً في قلبه الهوانُ، حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموتِ، لذا فإنَّ المتمسِّك بدينِه يجد نفسَه تتجاذبُه الفتنُ وتعرضُ عليه صباحَ مساءَ، وصدق رسولُ الله -صلى اللهُ عليه وسلم-: (يأتي على الناسِ زمانٌ القابضُ على دينِه كالقابضِ على الجمرِ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني. وأبشر يا أخي فهذا زمانُ الصبرِ، أجرُ المؤمنِ فيه كأجرِ خمسين من الصحابةِ بنصِ رسولِ الله -صلى اللهُ عليه وسلم-، فلنكن ممَّن يسارعُ في الخيراتِ، ويدعو اللهَ رغبًا ورهبًا.

§1/1