الأندلس من الفتح إلى السقوط

راغب السرجاني

الطريق إلى الأندلس

سلسلة الأندلس_الطريق إلى الأندلس دراسة تاريخ الأندلس خاصة والتاريخ الإسلامي عامة تمد المطلع برؤية واضحة لمسيرة الإسلام ومعرفة أسباب القوة والضعف وتدارك الأخطاء؛ ففي تلك الأخبار عبرة لأولي الألباب وعظة لذوي البصائر.

سنن الله في خلقه لا تتبدل ولا تتغير

سنن الله في خلقه لا تتبدل ولا تتغير أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. تاريخ الأندلس من أهم الحقبات في تاريخ المسلمين. قد يسأل سائل: لماذا الحديث عن التاريخ أصلاً؟ وكثير من الناس يلومون المسلمين عن كثرة الخوض في الحديث عن التاريخ، يقولون: أنتم تبكون على اللبن المسكوب، فهذا ماضٍ قد انتهى فلنعش في حاضرنا ولننظر إلى مستقبلنا. إن ثلث كتاب الله سبحانه وتعالى قصص بأسلوب رباني فريد في التربية، وأنا أنصح أن تشتمل مناهج التربية على ثلث المنهج في صورة قصص حتى تحاكي أسلوب رب العالمين سبحانه وتعالى في تربية الخلق أجمعين. فلماذا ثلث القرآن قصص؟ وما هو أسلوب الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم في تعليم الناس وتربيتهم وإرشادهم إلى الطريق؟ قص الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قصصاً كثيرة من قصص الصالحين والطالحين، وقصص الأنبياء ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وقصص الذين خرجوا عن منهج الله سبحانه وتعالى، وكيف عاقبهم ربهم سبحانه وتعالى؟ وكيف كانت النهاية والخاتمة لهم ولمن كان على شاكلتهم؟ والقرآن الكريم فيه آيات تشير إلى منهج المسلم في تلقي القصص، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]، كما يقول سبحانه وتعالى في آية أخرى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] أي: لأصحاب العقول والأفهام. وعندما نقص القصص بصفة عامة سواء قصص القرآن، أو التاريخ الإسلامي، أو التاريخ غير الإسلامي لا بد أن نأخذه بمنطلق التفكّر والدراسة والتدبر والنظر في الأمور. فالتحدث عن تاريخ الأندلس، ليس الغرض منه تحريك العواطف، ولا إلهاب المشاعر، ولا البكاء على ما سبق من الحضارات أو البكاء على اللبن المسكوب أو غيره؛ لكن هو دعوة للتفكر وللتدبر، وهي بداية الطريق لدراسة هذا التاريخ العظيم هو وغيره إن شاء الله من المجموعات اللاحقة. نحاول في هذه المجموعة التي هي بعنوان: الأندلس من الفتح إلى السقوط أن نحلل التاريخ تحليلاً دقيقاً، وأن نقلب صفحات علا عليها التراب أعواماً، وأن نرى أشياء حاول الكثيرون أن يطمسوها، وأن يظهروها الحق في صورة الباطل، أو يظهروا الباطل في صورة الحق، كثير من الناس يحاولون تزوير التاريخ الإسلامي، وهي جريمة خطيرة جداً يجب أن يقف لها المسلمون. وفي هذه المجموعة نتعرف على سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه، وفي أرضه، فالله سبحانه وتعالى له سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل كما يقول سبحانه وتعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، فمثلاً: الماء يغلي عند درجة مائة، وسيظل يغلي إلى يوم القيامة عند نفس الدرجة، ومن رحمة ربنا سبحانه وتعالى أن ثبت هذا الأمر، فلو كان هذا اليوم يغلي عند ثلاثين وغداً عند خمسين، وبعد غد عند سبعين، فإن الناس لا تستقيم حياتهم مع هذا الأمر، لأن في كل يوم تغير، والنار تحرق وستظل تحرق إلى يوم القيامة، وهناك استثناءات، والمؤمن الحصيف لا يبني على الاستثناءات، إنما يبني على القواعد الأصولية، وإذا كانت النار لم تحرق إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فليس معنى ذلك أن يضع المؤمن يده في النار ويقول: قد يحدث لي مثل ما حدث لإبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فلا يقول بهذا أحد. والإنسان بصفة عامة لا يستطيع أن يعيش بغير طعام وشراب، ولو عاش بغير طعام وشراب أياماً كثيرة فلا محالة مآله إلى الموت، فهذه من سنن الله سبحانه وتعالى الثوابت. كذلك تغيير الأمم هي سنن ثابتة، والله سبحانه وتعالى جعل سنناً ثابتة لتغيير الأمم من الفاسد إلى الصالح، ومن الصالح إلى الفاسد، إن سارت في طريق معين كانت الخاتمة واضحة جداً، وثابتة عند الله سبحانه وتعالى وعلمها الناس. وعندما تقرأ التاريخ، وتقلب في صفحاته تشاهد سنن الله سبحانه وتعالى في التغيير، فالتاريخ يكرر نفسه بصورة عجيبة، وحين تقرأ أحداثاً حدثت منذ ألف عام أو أكثر فإنك تشعر وكأنها هي نفس الأحداث التي تحدث في هذا الزمن مع اختلاف في الأسماء فقط، وعندما تقرأ التاريخ كأنك تقرأ المستقبل، فالله سبحانه وتعالى بسننه الثوابت قرأ لك المستقبل، وحدد لك كيف ستكون العواقب، والمؤمن الحصيف لا يقع في أخطاء السابقين، والمؤمن الناجح العاقل يكرر ما فعله السابقون ونجح معهم، ولا يقع في أخطاء من عارض منهج الله سبحانه وتعالى أو وقع في خطأ من الأخطاء وإن كان غير مقصود.

سبب اختيار دراسة تاريخ الأندلس

سبب اختيار دراسة تاريخ الأندلس والمسلم يدرس التاريخ بصفة عامة وتاريخ الأندلس بصفة خاصة لما يلي: أولاً: الأندلس تاريخ يشمل (805) سنوات كاملة مرت بالتاريخ الإسلامي، من سنة (92 هـ إلى سنة 897 هـ) وكان له تداعيات بعد فترة 897 هـ. ومن العجيب أن المسلمين لا يعرفون هذه الفترة الكبيرة جداً، والتي تمثل أكثر من ثلثي التاريخ الإسلامي، ولا يعرفون بتفاصيل هذا التاريخ. ثانياً: إن تاريخ الأندلس لكبر حجمه وجد فيه كثير من دورات التاريخ، فسنن الله فيه واضحة تماماً، ففيه كثير من الدول قامت وسقطت، وكثير من الدول أصبحت قوية وفتحت ما حولها من البلاد، وكثير منها سقطت وتهاوت وأصبحت مع الدول المنهزمة التي نسمع عنها في هذه الآونة. وظهر في تاريخ الأندلس المجاهد الشجاع، والخائف الجبان، والتقي الورع، والمخالف لشرع ربه سبحانه وتعالى، والأمين على نفسه وعلى دينه وعلى وطنه، والخائن لنفسه ولدينه ولوطنه فقد ظهرت كل هذه النماذج، سواء في الحكام أو المحكومين، أو العلماء أو عوام الناس. إذاً: دراسة هذه الأمور تفيد كثيراً في استقراء المستقبل القادم على المسلمين. فالكثير من المسلمين لا يعرفون تفاصيل موقعة وادي برباط، وهي من أهم المواقع في التاريخ الإسلامي، فقد فتحت فيها الأندلس، فهي موقعة ضارية تشبّه بموقعتي اليرموك والقادسية، ولا يعرفون عن حرق السفن التي حدثت في عهد طارق بن زياد رحمه الله، وكثير من الناس لا يعلم من هو عبد الرحمن الداخل رحمه الله، الذي قال عنه المؤرخون: لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام بالكلية من بلاد الأندلس. ولا يعرفون تفاصيل حياة عبد الرحمن الناصر أعظم ملوك أوروبا في القرون الوسطى على الإطلاق، وكيف وصل إلى هذه الدرجة العالية، وكيف أصبح أكبر قوة في العالم في وقته. وكذا يوسف بن تاشفين رحمه الله القائد الرباني وصاحب موقعة الزلاقة، الذي نشأ نشأة إسلامية وربى الناس على حياة الجهاد، وتمكن من الأمور، وساد دولة ما وصل المسلمون إلى أبعادها في كثير من الفترات. وأبو بكر بن عمر اللمتوني المجاهد الذي أدخل الإسلام في أكثر من خمس عشرة دولة إفريقية. وأبو يوسف يعقوب المنصور صاحب موقعة الأرك الخالدة، التي دُكّت فيها حصون الصليبيين وانتصر فيها المسلمون انتصاراً ساحقاً. فمن يسمع عن دولة المرابطين المجاهدة؟ ومن يسمع عن دولة الموحدين وكيف قامت؟ ومن يعرف مسجد قرطبة؟ وكيف كان أوسع المساجد في العالم في زمانه ولأزمان متلاحقة بعد ذلك؟ وكيف حوّل إلى كنيسة؟ وما يزال إلى اليوم كنيسة. ومن يسمع عن مسجد إشبيلية العجيب؟ ومن يسمع عن جامعة قرطبة والمكتبة الأموية؟ ومن يسمع عن قصر الزهراء، ومدينة الزهراء، ومدينة الزاهرة، وقصر الحمراء، وغيرها من الأماكن الخالدة في الأندلس والتي إلى الآن تزار من عموم الناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. ومن يسمع عن موقعة العقاب التي هزم فيها المسلمون هزيمة ساحقة، وكانوا يفضلون غيرهم في العدد والعدة، وكأن حنيناً تتكرر من جديد؟ قال عنها المؤرخون: بعد موقعة العقاب لم يُر في الأندلس أو في المغرب شاب صالح للقتال. فقد هلك فيها أكثر من ثمانين ألف مسلم. كيف سقطت الأندلس؟ وما هي عوامل السقوط التي إن تكررت في أمة المسلمين سقطت لا محالة؟ لأن لله سنناً ثابتة كما ذكرنا. ثم كيف سطعت شمس الإسلام في القسطنطينية بعد سقوط الأندلس؟ وكيف كان التزامن بين سقوط الأندلس في الغرب وانتشار الإسلام في الشرق عند أوروبا من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده؟ وما هي مأساة بلنسية وقتل ستين ألف مسلم في يوم واحد؟ وما هي مأساة أبدة وقتل ستين ألف مسلم آخرين في يوم واحد؟ وما هي مأساة بربشتر وقتل أربعين ألف مسلم في يوم واحد، وسبي سبعة آلاف بكر من فتيات بربشتر، وكأنها البوسنة والهرسك في تاريخنا، نشاهدها الآن لكن لا نعرف أن لها أصولاً وجذوراً قديمة، وكيف تصرف المسلمون وتخلصوا من هذه المآسي الضخمة؟ لو عرفنا لاستطعنا أن ننهض بأمتنا الآن. تاريخ الأندلس ثروة حقيقية ضخمة جداً من العلم والخبرة والعبرة، وصفحات طويلة جداً أكثر من 800 سنة. تحتاج أن تقرأها في سنوات كثيرة، والأندلس ركن صغير بعيد في الدولة الإسلامية الضخمة، والعمل الذي يجب أن تفعله هو ألا تركن أبداً إلى الدعة والسكون، فأمامك مشوار طويل جداً حتى تتعرف على سنن الله سبحانه وتعالى. وقبل الخوض في تاريخ الأندلس من حيث ترتيب الأحداث منذ الفتح وحتى السقوط، منذ عام (92 هـ) إلى سنة (897 هـ) هناك بعض الأسئلة قد تجول في خاطر الناس، وهي ما يلي:

الرد على من قال بأن الإسلام انتشر بالسيف

الرد على من قال بأن الإسلام انتشر بالسيف Q الأندلس دولة مستقلة تُحكم بحكم النصارى في ذلك الزمن السحيق، والمسلمون دولة أخرى كبيرة جداً مجاورة لهذه البلاد، فلماذا حمل المسلمون سيوفهم واتجهوا إلى فتحها ليعرضوا عليها الإسلام أو الجزية أو القتال، وهذا في الأعراف الدولية والشرعية الدولية يعتبر تجنياً على حدود دولة مجاورة؟ وأصحاب المناهج العلمانية يقولون: كيف أن الإسلام انتشر بحد السيف وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]؟ فكيف توفق بين هذا الأمر وذاك الأمر؟ لتفسير هذا الأمر نقول: إن الجهاد في الإسلام نوعان: جهاد الدفع، وجهاد الطلب. النوع الأول: جهاد الدفع، وهو الدفاع عن الأرض، فلو أن أحد الأعداء هجم على أرضك فيجب عليك أن تدافع عن أرضك، وهذا أمر مقبول ومفهوم عند عوام الناس، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. النوع الآخر من الجهاد لا يستوعبه كثير من الناس حتى المسلمين، اسمه: جهاد الطلب، أو جهاد نشر الدعوة، أو تعليم الآخرين هذا الدين، والإسلام هو الدين الخاتم، وهو كلمة الله سبحانه وتعالى الأخيرة للناس، والله سبحانه وتعالى كلّف أمة الإسلام أن تنشر هذا الدين في ربوع العالم، وأن تعلم الناس ما طلبه ربهم منهم سبحانه وتعالى على لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. ومن سنن الله سبحانه وتعالى أن هناك أقواماً يحكمون الشعوب التي لا تدين بالإسلام، فهذه الأقوام -لا محالة- ستقف أمام هذه الدعوة، وستمنع وصول هذه الدعوة إلى غيرها من الناس، فالإسلام شرع للمسلمين أن يتجهوا بسيوفهم وجيوشهم لحماية الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى لنشر هذا الدين وتعليمه للآخرين. فمن لهؤلاء الذين يولدون في بلاد يعلمونهم أن المسيح هو الله؟ ومن لهؤلاء الذين يولدون في بلاد يعلمونهم أن البقرة هي الإله؟ ومن لهؤلاء الذين يولدون في بلاد يتعلمون أنه ليس للكون خالقاً، وأنه خلق من العدم، أو أن الطبيعة هي رب الكون؟! فمن يعلمهم إذا لم يعلمهم المسلمون أصحاب الرسالة الخاتمة؟ وقد جُعل محمد صلى الله عليه وسلم نبينا الكريم خاتم الأنبياء والرسل، وليس هناك مبعوث من بعده صلى الله عليه وسلم. فهذه هي مهمة هذه الأمة الشاهدة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، ستشهد هذه الأمة على الأمم عند الله سبحانه وتعالى أنها شرحت لهم دين الإسلام وعلمّتهم وذهبت إليهم وجاهدت في سبيل الله، فهذه الأمة شاهدة لهذا الجهاد ولإيصال هذه الدعوة. لكن المشكلة أن الحكام سيقفون بسيوفهم وجيوشهم لمنع وصول الدعوة إلى هؤلاء الناس؛ لأنهم مستفيدون من عبادة هؤلاء الناس لغير الله سبحانه وتعالى، فإذا حُكّم شرع الله سبحانه وتعالى انتقلت الحاكمية من هؤلاء الناس إلى الله سبحانه وتعالى، وهم لا يريدون ذلك، فعلى المسلمين أن يقفوا أمامهم بسيوفهم وجيوشهم حتى تنشر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. والمسلمون لا يقاتلون الشعوب، كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يقول للجيوش الفاتحة: اتقوا الله في الفلاحين، اتقوا الله في عموم الناس التي لا تقاتل، التي لا يهمها مصلحة الحاكم هذا أو ذاك، لكن تعيش لتعلم أين الخير وتتبعه، لا تقتلوا إلا من قاتلكم فكان المسلمون يتجنبون أن يؤذوا ولو أذى بسيطاً أحد الناس الذين لا يقاتلون؛ كالنساء والأطفال، والمعتكفين للعبادة، والضعفاء عن القتال، والأقوياء الذين لا يشاركون في قتال المسلمين، والمسلمون في حروبهم يقاتلون الجيوش فقط، ويقاتلون الحكام الذين عبّدوا الناس لغير الله سبحانه وتعالى. وقد يقول قائل: وإذا سمحوا بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في بلادهم فلماذا الجيش؟ ولماذا لا نبعث مجموعة من الدعاة يدعون إلى الله سبحانه وتعالى في بلادهم بالتي هي أحسن، ولا داعي للجيوش لعرض الإسلام أو الجزية أو القتال، اتركوا الناس أحراراً تختار كما تشاء؟! لماذا المسلمون لم يبعثوا مجموعة من الدعاة لفارس أو الأندلس أو الروم؟ ألم يكف الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أن الإسلام انتشر بالتجارة في أندونيسيا والفلبين وماليزيا وما إلى ذلك، فلماذا ينشر بالجيوش والحروب وما إلى ذلك؟ الحقيقة أن هذا افتراض غير واقعي أنهم يذهبون إلى هذه الأماكن بدون جيوش، فهذا افتراض غير عملي مخالف لسنن الله تعالى في أرضه وفي خلقه، حتى مع دراسة التاريخ والواقع، فنجد أن دولاً ضخمة جداً دخلت في الإسلام عن طريق الفتوحات الإسلامية، والقلة الاستثنائية هي التي دخلت الإسلام عن طريق التجارة، مع أن بعض الناس يصورون الأمر بغير ذلك، حتى من المسلمين حياءً من فتح المسلمين للبلاد الأخرى، فدين الإسلام كامل شامل من عند الله سبحانه وتعالى، ليس فيه ثغرات، وليس فيه شيء نستحيي منه، أو نخفيه عن الآخرين فدولة فارس بكاملها والتي كانت تضم العراق وإيران وباكستان وأفغانستان وكل دول الإتحاد السوفييتي ا

الرد على شبهة من قال بأن الوقت الحاضر هو وقت السياسة والدبلوماسية لا السيف والمدفع

الرد على شبهة من قال بأن الوقت الحاضر هو وقت السياسة والدبلوماسية لا السيف والمدفع وبعض الناس يقولون: إن هذا الزمن ليس زمن الحروب العسكرية والتغيير العسكري والفتوحات، بل هو زمن الكلام والسياسات، لكن واقع الأمر أنك تشاهد حروباً عسكرية في كل وقت، يلام المسلمون على فتوحاتهم الإسلامية السابقة في بلاد الشمال الإفريقي وفي فارس والروم والأندلس وفي غيرها، ولا تلام إسرائيل مثلاً على ما تفعله في فلسطين وعلى ما فعلته في 1967م في مصر وسوريا، وعلى ما فعلته في لبنان على مدى 18 سنة، لكن المسلمون دخلوا إلى البلاد لينشروا فيها العدل والرحمة والدين، ويعبّدوا الناس لرب العالمين، وهؤلاء دخلوا ليقتلوا ولينهبوا وليسرقوا وليفعلوا كذا وكذا من الموبقات. أيلام المسلمون على هذا الفتح المجيد الذي علموا الناس فيه دينهم، ولا تلام إسرائيل على ضرب المفاعل النووي في العراق أو على ضرب تونس، أو على ضرب أمريكا لمصنع الأدوية في السودان؟ ألا تلام أمريكا ودول الغرب على حروب متتالية ضد دولة العراق؟ ولا يتخيل أحد من المسلمين أو غير المسلمين أن الأمريكان دخلوا إلى العراق شفقة على الكويت، وغير معقول أنهم أتوا بنصف مليون جندي شفقة على شعب الكويت أبداً! ألا تلام أمريكا على كل هذه الموبقات التي فُعلت في العراق وعلى تدمير كل الناس وكل البنية التحتية، وعلى وفاة أكثر من نصف مليون طفل عراقي لنقص التطعيمات والغذاء، ويلام المسلمون على نشرهم العلم والدين والرحمة والعدل في ربوع العالم أجمع؟! أيلام الصرب على ما فعلوا في البوسنة والهرسك، وعلى ما فعلوا في كوسوفا من قتل مائتين ألف أو أكثر، وعلى هتك عرض خمسين ألف فتاة مسلمة ويلام المسلمون على الحريات العظيمة التي أعطوها للنصارى ولليهود في زمن حكم الدولة الإسلامية؟ ألا تلام روسيا على اجتياح الشيشان وأفغانستان، وتدمير الكثير من المنشآت المدنية في هذه البلاد، وقتل المدنيين ليل نهار، ويلام المسلمين على نشر العلم في ذات البلاد وكانت من قبل تعبد النار؟ أيلام المسلمون على فتحهم لجمهوريات جنوب روسيا بصفة عامة ولا يلام الروس والصين الذين احتلوا أجزاء كثيرة وحكموا الناس بالحديد والنار أعواماً، وقتلوا كل من كان يخفي في بيته مصحفاً؟ أهذا اللوم يتوجه للمسلمين أو لهؤلاء الذين حكموا باسم الحضارة الحديثة والمدنية والتقدم وما إلى ذلك؟ تاريخ المسلمين فيه أشياء كثيرة جداً من الشرف والعزة والمجد، وهؤلاء يغيّرون من التاريخ حتى يشعر المسلمون بشيء من الاستحياء من تاريخهم، مع أن التاريخ يشرف المسلمين ويعلي من قدرهم، والاستحياء كل الاستحياء يجب أن يكون في صف هؤلاء الذين ادّعوا الحضارة وفعلوا كل هذه الموبقات.

الرد على شبهة من قال أن الأصل ترك الناس يعبدون ما يشاءون ولا حاجة لدعوتهم

الرد على شبهة من قال أن الأصل ترك الناس يعبدون ما يشاءون ولا حاجة لدعوتهم كثير من الناس يقولون: نترك الناس يعبدون ما يشاءون؛ لأنهم لا يريدون الدخول في هذا الدين، فنقول: إن الله سبحانه وتعالى جعل للمسلم رسالة، لخصها لنا سيدنا ربعي بن عامر رضي الله عنه وأرضاه في حواره اللطيف الذي دار بينه وبين رستم قائد الفرس في موقعة القادسية، فقال: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وهكذا تحرك الجيش المسلم لمصلحة ومنفعة الناس، وفي صحيح البخاري يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه معلقاً على الآية الكريمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام. فمعظم الناس يريدون الدخول في الإسلام، لكن يأتي بهم في السلاسل حتى يدخلوا في الإسلام، فينقذوا من الخلود في جهنم، ومن أن يعيشوا في جور الأديان وفي ظلم الحكام فيدخلوا في عدل الإسلام وفي سعة الدنيا والآخرة، فلو أن رجلاً رمى بنفسه من الدور العاشر، وأتيت بسرعة وأخذت بيده وأنقذته من أن يرمي بنفسه من الدور العاشر، فهل يلام عليك أنك مسكت يده بقوة حتى آلمته وآذيته؟ أبداً لا، فأنت أنقذت حياته، فالكافر كان سيتردى في هاوية الجحيم، وأنت أنقذته من أن يدخل جهنم وأن يُخلّد فيها، وعلمته هذا الدين، وأتيته بجيش يؤثر فيه حتى يسمع كلام الله سبحانه وتعالى، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وكثير من الناس لا يسمعون منك إلا إذا كنت محاطاً بقوة وبجيش، فتبدأ تسمع وتفكر، فتجد أن ما كانت ترفضه هو النجاة، وما كانت تريد اتباعه هو الهلكة المحققة التي لا فكاك منها، فكثير من الأمم دخلت في الإسلام لما فتحها الفاتحون غير مكرهين وغير مضطرين، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] فهذه الآية الكريمة لا تتعارض مطلقاً مع هذا الفتح الإسلامي، والمسلمون كانوا يخيرون أهل تلك البلاد بأن يظلوا على إيمانهم بمعتقداتهم كما يريدون أو يعبدوا الله سبحانه وتعالى، وكانوا يعلمونهم في البداية دين الله سبحانه وتعالى، فإن أرادوا البقاء في ظل الشرك وفي ظلم الجاهلية يتركوا فيها، وإن أرادوا الدخول في نور الإسلام دخلوا فيه وكانت السعادة لهم في الدنيا والآخرة. وعموم الناس في حاجة إلى الإسلام وإن أبت هذا الأمر، والعالم يتجه إلى كارثة محققة، والدول العظمى التي تتحكم في هذه الأمم في هذا الزمن الذي نعيش فيه تكيل بأكثر من مكيال، وتجعل الظلم قاعدة من القواعد التي ترسّخها في العالم، والأدواء والأمراض الأخلاقية لا حصر لها، ولعلكم قرأتم آخر مؤتمر عُقد عن مرض الإيدز أنه في غضون العشرين سنة السابقة من سنة 1980م إلى سنة 2000م قُتل من البشر عشرين مليون نسمة، وهذا مرض أخلاقي نتج عن غياب دين الله سبحانه وتعالى عن الناس، وإنكارهم منهج الله، وبعدهم عن شرعه سبحانه وتعالى، وأقل معدلات الإيدز في البلاد الإسلامية لأن المسلمين مرتبطون بشرع الله سبحانه وتعالى وإن كان هذا الارتباط ضعيفاً، وكل الفتوحات والمعارك الإسلامية وما إلى ذلك لا تجد الرقم يقترب من واحد على عشرين أو واحد على مائة من هذه الأرقام المبالغ فيها في الإيدز فقط، غير السبعة والثلاثين مليون حاملي الفيروس، الذين ينتظرون الموت من الإيدز. والمذابح التي تحدث في أفريقيا وفي أمريكا الجنوبية وفي غيرها من البلاد، بسبب الظلم والانقلابات والقتل في بشاعة منقطعة النظير؛ لأنه ليس هناك إسلام يحكم هذه البلاد، فالإسلام دين رحمة وعدل وتقريب للناس أن يعيشوا في سعادة في دنياهم وآخرتهم، وفوق كل هذه الأمور ظلم الإنسان لنفسه بأنه يُشرك بربه غيره سبحانه وتعالى، قال تعالى: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].

الاسم المعاصر للأندلس، ومن أول من سكنها، وسبب تسمية الأندلس

الاسم المعاصر للأندلس، ومن أول من سكنها، وسبب تسمية الأندلس أما الأندلس فتسمى الآن أسبانيا والبرتغال، أو ما يسمى بشبه الجزيرة الأيبيرية، ومساحتها ستمائة ألف كيلو متر مربع، أي: أقل من ثلثي من مصر، ثم تناقصت الأرض عليهم مع مرور الزمان، أما مساحة فرنسا فهي حوالي نصف مليون كيلو متر مربع، وإن شاء الله سيكون للمسلمين أيضاً فتوحات مرتبطة بفرنسا، وفرنسا في ذلك الزمن كان اسمها مملكة الفرنجة، أو مملكة غاليا. سكن الأندلس منذ القرن الأول الميلادي بعض القبائل الهمجية التي جاءت من شمال اسكندنافا من بلاد السويد والدنمارك والنرويج وما إلى ذلك، وهجمت على منطقة الأندلس وعاشت فيها فترة من الزمان، ويقال: إن هذه القبائل جاءت من ألمانيا، وهذه القبائل كان اسمها قبائل الفندال، وباللغة العربية تحرف أحياناً إلى الوندال، فسميت هذه البلاد بفندلسيا لأن قبائل الفندال عاشت فيها فترة من الزمان، ثم حُرّف الاسم بعد ذلك إلى أندلسيا، وهذه القبائل كانت وحشية حتى يعلم الناس كيف انصلح الحال في هذه البلاد بعد دخول الإسلام، وفي اللغة الإنجليزية فإ، كلمة فندلزم تعني همجية أو وحشية أو أسلوب غير حضاري أو بدائي في الحياة، فقبائل الفندال عاشت فترة من الزمان فسميت هذه البلاد بفندلسيا، ثم خرجت هذه القبائل وحكم الأندلس طوائف أخرى من النصارى عُرفت في التاريخ باسم القوط الغربيين، وهي التي كانت تعيش فيها حتى دخول المسلمين. واتجه المسلمون لفتح بلاد الأندلس في ذلك الوقت، لأنهم وصلوا في الفتح إلى المغرب الأقصى، أي: أنهم فتحوا الشمال الأفريقي كله: مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، والناظر إلى خريطة هذه المنطقة يجد أنه بعد دولة المغرب مباشرة المحيط الأطلسي، فإما أن تصعد شمالاً وتعبر مضيق جبل طارق وتدخل في بلاد أسبانيا والبرتغال التي كان اسمها الأندلس، وإما أن تنزل جنوباً في الصحراء الكبرى، والمسلمون ليس من همّهم جمع الأراضي والممتلكات -والصحراء الكبرى قليلة السكان جداً- وإنما يبحثون عن البشر حتى يعلموهم دين الله سبحانه وتعالى، فلما انتهوا من المغرب انتقلوا إلى الدولة المجاورة مباشرة التي هي دولة الأندلس، وعندما انتهوا من الأندلس انتقلوا إلى الدولة المجاورة التي هي فرنسا، وكان عندهم العزم -لو ربنا سبحانه وتعالى فتح عليهم وأكملوا الفتوح- أن يفتحوا الدول المجاورة التي هي: إيطاليا وألمانيا وهكذا، فالمسلمون كانوا قد وصلوا إلى الأندلس واستتب لهم الأمر أواخر الثمانيات من الهجرة، كما سيأتي بالتفصيل إن شاء الله في شرح الطريق إلى الأندلس. والله سبحانه وتعالى يقول لنا في كتابه الكريم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، ومعنى: {الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [التوبة:123] أي: البلاد المجاورة لكم. وقد دار حوار لطيف بين معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ملك الروم قبل موقعة اليرموك عن طريق المفاوضات بين الفريقين والرسل، فسأل ملك الروم معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال له: ما الذي دعاكم إلى الولوغ في بلادنا، وبلاد الحبشة أسهل عليكم؟ فالعالم القديم كان مقسماً بين الروم وفارس، أي: أنها القوة العظمى في ذلك الزمن. فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: قال لنا ربنا في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، وأنتم البلاد التي تلينا، ثم بعد الانتهاء من بلاد الروم سنفتح الحبشة وغيرها من البلاد، فالمسلمون كانوا قد وصلوا إلى المغرب الأقصى، وأول بلاد مجاورة هي بلاد الأندلس، وهي الخطوة التالية للفتح مباشرة.

زمن فتح الأندلس

زمن فتح الأندلس وقد فتحت الأندلس في سنة (92 هـ) في الدولة الأموية، خصوصاً في خلافة الوليد بن عبد الملك رحمه الله الخليفة الأموي الذي حكم من سنة 86 هـ إلى سنة 96 هـ، أي: أن فتح الأندلس كان في منتصف خلافة الوليد بن عبد الملك رحمه الله. والدولة الأموية مظلومة في التاريخ الإسلامي، فقد أشيع عنها كثيراً من الذين شوهوا التاريخ الإسلامي فقالوا: إنه ما كان تاريخ إلا في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى أن كثيراً من الناس يطعنون في تاريخ أبي بكر وعمر مع علم الجميع بفضلهما، وغرضهم في ذلك عدم إقامة دولة إسلامية، فإذا كان السابقون القريبون من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم دولة بني أمية والدولة العباسية وغيرها من الدول لم تستطع أن تقيم حكماً إسلامياً صالحاً ناجحاً، فكيف بالمتأخرين؟ وهذه الرسالة يريدون أن يصلوا بها إلى كل المسلمين، فالدولة الأموية كانت دولة لها كثير من الأيادي البيضاء على المسلمين، فقد دخلت كثير من البلاد في الإسلام في عهد بني أمية، كشمال أفريقيا ابتداء من ليبيا إلى أواخر المغرب، نعم بدأت الفتوحات لهذه البلاد في عهد عثمان بن عفان ثم انتقضت وارتدت على عاقبها، وفُتحت من جديد في عهد بني أمية، وأفغانستان وجمهوريات جنوب روسيا دخلت في الإسلام في عهد بني أمية، وكثير من البلاد وكثير من الناس دخلوا في الإسلام في عهد هذه الفترة الناجحة جداً في تاريخ الأمة الإسلامية، ودوّنت السنة في عهد بني أمية، ورُغّب في الجهاد في عهد بني أمية حتى صار الجهاد أمراً طبيعياً، وأنه في كل سنة سيكون جهاد في الصيف وجهاد في الشتاء فالمجاهدون كانوا يخرجون للجهاد كما يخرجون إلى أعمالهم، والشرع كان مطبّق في عهد بني أمية، ولا نقول أنهم كانوا بلا أخطاء ولا عيوب، ومن المؤكد أن كل البشر يخطئون، ومن المؤكد أن هناك أخطاء كثيرة في تاريخ بني أمية، لكن بلا شك أن هذه الأخطاء تذوب في بحر حسناتهم وأفضالهم على المسلمين. حكمت دولة بني أمية من سنة (40 هـ إلى سنة 132 هـ) أي: أنه استمر الحكم في بني أمية 92سنة، ومؤسس دولة بني أمية الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وكثير من الناس يطعنون في خلافة معاوية بن أبي سفيان وفي تاريخه وكذبوا، وليتهم يصلون إلى معشار ما فعله معاوية بن أبي سفيان للإسلام والمسلمين، وإن شاء الله تكون بيننا محاضرات وجولات مع تاريخ معاوية بن أبي سفيان وتاريخ الدولة الأموية، وليس المجال الآن في الخوض والحديث بالتفصيل عن تاريخ بني أمية لكن نذكر مقدمة قد تفيد إن شاء الله في الحديث عن الأندلس. تتابع الحكام بعد معاوية بن أبي سفيان وأشهرهم عبد الملك بن مروان رحمه الله، وتبعه من أولاده: الوليد وسليمان ويزيد وهشام، ثم الخليفة الخامس الراشد المشهور عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، الذي ملأ الأرض عدلاً ورحمة وأمناً ورخاء، وآخر سبع سنوات فقط في بني أمية هي التي كانت فيها الكثير من المآسي والاختلافات عن المنهج الإسلامي، وكسنة من سنن الله سبحانه وتعالى قامت دولة أخرى لما فسد الأمر في بني أمية وهي دولة بني العباس، لكن فتح الأندلس حسنة من حسنات بني أمية.

حال أوروبا أثناء الفتح الإسلامي للأندلس

حال أوروبا أثناء الفتح الإسلامي للأندلس سؤال آخر قد يخطر على الذهن وهو: كيف كان الوضع في بلاد الأندلس وأوروبا؟ وكيف تغيرت بعد دخول المسلمين إليها؟ الواقع أن أوروبا في ذلك الوقت كانت تعيش في فترة من فترات الجهل العظيم المنتشر في كل الأرض، وبعد كبير جداً عن كل مناهج العدل التي نشرها الإسلام بعد ذلك، وظلم بيّن من الحكام للمحكومين فالأموال الكثيرة والخيرات في يد الحكام أما الشعوب فهي تعيش في بؤس كبير. والحكام اهتموا كثيراً ببناء القصور والقلاع والحصون بينما يعيش عامة الشعب في فقر شديد، وعموم الناس يزرعون الأراضي وكانوا يباعون ويشترون كالمتاع في هذا الزمان، وهناك انتهاك للحرمات وأخلاق متدنية، وبعد حتى عن مقومات الحياة الطبيعية، فالنظافة مختفية بالمرة، لدرجة أن الناس كانوا يتركون شعورهم تنسدل على وجوههم ولا يقصونها، ولا يغتسلون في العام إلا مرة أو مرتين، ويظنون أن هذه الأوساخ التي تتراكم على أجسادهم هي صحة لهذا الجسد، وهي خير وبركة لهذا الجسد! والمشكلة الكبيرة جداً هي عندما يذهب أحدهم ليغتسل، والرحالة المسلمون الذين دخلوا إلى اسكندنافا وجدوا الناس يتفاهمون بالإشارة، أي: ليست لهم لغة منطوقة فضلاً عن أن تكون مكتوبة، فهذه البلاد كانت تعيش في جهل وفي ظلم وفي فقر، وكان في هذه البلاد بعض أفعال الهنود والمجوس من حرق للمتوفى عند موته، وحرق لزوجة المتوفى معه وهي حية، أو الحرق لجاريته، أو من يحبه من الناس معه وهو حي والناس تشاهد وتعلم هذا الأمر، وكانت هذه البلاد تعيش في ظلم وفقر وضياع كبير جداً عن أي وجه من وجوه الحضارة، ثم لننظر ماذا فعل الإسلام في هذه البلاد؟ كانت هذه مقدمة لدراسة تاريخ الأندلس، وبإذن الله من الحلقة القادمة نتحدث عن تاريخ الأندلس بالترتيب الزمني منذ الفتح سنة 92 هـ إلى السقوط في سنة 897 هـ. وكما ذكرنا نؤكد ونعيد ونقول أن هذه المحاضرات ما هي إلا فتح الطريق لدراسة تاريخ الأندلس وليست هي كل تاريخ الأندلس، فتاريخ الأندلس يضم أكثر من 800 سنة كما ذكرنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.

عهد الفتح الإسلامي

سلسلة الأندلس_عهد الفتح الإسلامي موسى بن نصير من قواد المسلمين الفاتحين المشهورين في التاريخ الإسلامي، فقد فتح شمال أفريقيا وبلاد الأندلس، وكان من أبرز قواده طارق بن زياد البربري القائد الفعلي والمباشر لفتح الأندلس والذي قاتل النصارى القوط في الأندلس وانتصر عليهم في معركة وادي برباط الشهيرة مع قلة عدد المسلمين وعدتهم.

نبذة يسيرة عن موسى بن نصير ووالده

نبذة يسيرة عن موسى بن نصير ووالده أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. مع الحلقة الثانية من حلقات الأندلس من الفتح إلى السقوط. تحدثنا في الحلقة السابقة عن بعض المقدمات الخاصة بفتح الأندلس والآن ندخل في تفصيلات هذا الفتح، واليوم نتحدث عن أول فترات الأندلس ما يسمى: بعهد الفتح الإسلامي الأندلسي الذي بدأ في سنة 92 من الهجرة، ولكي نفهم الفتح الإسلامي للأندلس في سنة 92 من الهجرة لا بد أن نفهم الوضع في الشمال الأفريقي الملاصق للأندلس في ذلك الزمن، فبلاد الشمال الأفريقي دخلها الإسلام عبر سنوات عديدة تصل إلى 70 سنة، ابتداء من سنة 23 من الهجرة، وهناك فتوحات في الشمال الأفريقي، لكن كانت دائمة الارتداد عن دين الله سبحانه وتعالى. يسكن في هذه المناطق قبائل ضخمة جداً اسمها: قبائل البربر وسنفصل إن شاء الله عنها خلال الحلقات اللاحقة، كانت قبائل البربر كثيرة الارتداد عن الإسلام، حتى دارت بينها وبين المسلمين جولات كثيرة حتى استقر الإسلام فيها في أواخر سنة 85 أو 86 من الهجرة على يد موسى بن نصير رحمه الله، وموسى بن نصير رحمه الله ذلك القائد المسلم البارع التقي الورع الذي ثبت أقدام الإسلام في هذه البلاد المترامية الأطراف في الشمال الأفريقي. كان من التابعين، روى عن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه نصير كان غلاماً نصرانياً، أسر في موقعة عين التمر، وكان قائد المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وكان نصير يتعلم الإنجيل والدراسات النصرانية في كنيسة من الكنائس، ثم عرض عليه الإسلام، فأعجب بالإسلام ودخل فيه، ونصير هو أبو موسى بن نصير وكان معه أيضاً في نفس الفترة وفي نفس المكان سيرين والد محمد بن سيرين التابعي المشهور. فانظر كيف فعل الإسلام بهؤلاء؟ فلو كان نصير نصرانياً لظل على ما هو عليه في زمانه، ولأصبح راهباً من الرهبان موجوداً في منطقة في العراق أو في فارس، لكن انظر كيف من الله عليه وعلى ابنه بعد ذلك وأصبح في حسنات خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، فبعد وفاته بسنوات فتحت بلاد الأندلس والشمال الأفريقي على يد موسى بن نصير رحمه الله، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. وهذه ثمرة من ثمرات الجهاد الإسلامي في فارس أن فتحت بلاد الأندلس بعد ذلك بعشرات الأعوام، وخالد بن الوليد إن شاء الله مشارك في الأجر لمن فتح بلاد الأندلس، ونصير لما أسلم أخذ يتدرج في الإسلام حتى أصبح عالماً ومجاهداً من المجاهدين، وكان فارساً مغواراً حتى أنه ترقى في المناصب حتى أصبح في زمن الدولة الأموية هو قائد جيوش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه، فتولى القيادة لمدة سنوات كثيرة حتى أن ابنه موسى بن نصير أصبح يتربى في بيت الخلافة مع أولاد معاوية وأولاد الأمراء والخلفاء، فتربى موسى بن نصير على حياة الجهاد والدين ونشر الإسلام وما إلى ذلك، ثم كبر بعد ذلك وأخذ يتولى المناصب حتى أصبح قائد جيوش الأمويين في منطقة مصر، وكان الوالي على مصر عبد العزيز بن مروان أخو عبد الملك بن مروان، ثم بعد ذلك أصبح والياً على أفريقيا في سنة 85هـ، وهو الذي ثبت أقدام الإسلام في أفريقيا بعد ارتداد الناس عن الإسلام، وقد كانوا دخلوا في الإسلام من قبل على يد عقبة بن نافع رحمه الله.

الأخطاء التي وقعت أثناء فتح بلاد المغرب العربي والتي تجنبها موسى بن نصير

الأخطاء التي وقعت أثناء فتح بلاد المغرب العربي والتي تجنبها موسى بن نصير ارتد الناس عن الإسلام فترة من الزمان بعد أن اغتيل عقبة بن نافع في القيروان على يد البربر وهو في طريق عودته من المغرب الأقصى، فنظر موسى بن نصير في سبب ارتداد الناس عن الإسلام بصورة متكررة، فوجد خطأين للسابقين وتجنبهما رحمه الله موسى بن نصير ولذلك ثبت الإسلام في عهده في تلك البلاد بعد ذلك. الأمر الأول: أن عقبة بن نافع ومن معه كانوا يفتحون البلاد فتحاً سريعاً، ولا يحمون ظهورهم في أماكن كثيرة إذا توغلوا فيها، فانقلب عليه الناس وأحاطوا به وقتلوه، فبدأ موسى بن نصير يفتح البلاد في هدوء وفي حذر، وبدأ يتقدم خطوة خطوة ويؤمن ظهره ثم يدخل خطوة أخرى ويؤمن ظهره فتم فتح البلاد في 7 سنوات أو في 6 سنوات، بينما عقبة بن نافع فقد تم له الأمر في شهور معدودة. الأمر الثاني: أن هؤلاء القوم لم يعرفوا الإسلام حق المعرفة، فبدأ يعلمهم الإسلام، فأتى بالتابعين من منطقة الشام والحجاز ليعلموا الناس الإسلام، فأحب الناس الإسلام ودخلوا في دين الله سبحانه وتعالى أفواجاً، وبدأ يأخذ في صبر شديد يعلم الناس هذا الدين حتى أصبح البربر في المنطقة هم جند الإسلام وأهله. موسى بن نصير رحمه الله بعد أن استتب له الأمر في شمال أفريقيا فكر في قوله سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، فقال: البلاد المجاورة لشمال أفريقيا هي بلاد الأندلس، إذاً: لابد أن أفتح بلاد الأندلس، كان موسى بن نصير رحمه الله قد أتم فتح الشمال الأفريقي كله إلا مدينة سبتة، وهي مدينة من المدن المغربية، تقع على مضيق جبل طارق مباشرة، وبلاد الأندلس يفصل بينها وبين المغرب مضيق جبل طارق، ومضيق جبل طارق ليس مضيقاً هيناً بسيطاً، فإن عرضه في بعض المناطق 13 كيلو ويصل عرضه في بعض المناطق الأخرى 37 كيلو، وعلى ساحله ميناءان شهيران كبيران هما: ميناء طنجة وميناء سبتة. فتح كل الشمال الأفريقي ما عدا ميناء سبتة، وميناء طنجة فتح في الإسلام، ولخطورة هذا المكان ولى على ميناء طنجة رجل من القواد المهرة المشهورين جداً في التاريخ الإسلامي وهو طارق بن زياد رحمه الله، وطارق بن زياد من قبائل البربر الأصلية التي تعيش في مناطق الشمال الأفريقي أي: أنه ليس بعربي رحمه الله، ونحن لما تأتي في رءوسنا كلمة البربر نظن أن وجوههم سوداء وأنهم من الزنوج أو ما إلى ذلك. فالبربر شعوب شعورهم شقراء وأعينهم زرقاء وألوانهم أبيض حتى أن بعض المحللين يقول: أنهم من أصول أوروبية لأنهم شديدي الشبه بالأوروبيين، كان طارق بن زياد رحمه الله ضخم الجثة، شعره أشقر، عيناه زرقاوان، ومع ذلك فإن كل هذه الأمور لم تقف في طريق جهاده إلى الله سبحانه وتعالى، فتولى طارق بن زياد رحمه الله ولاية مدينة طنجة القريبة جداً من سبتة التي لم تفتح والقريبة من بلاد الأندلس، وموسى بن نصير رحمه الله لما فكر في فتح الأندلس لم تكن هذه الفكرة فكرة جديدة بل هي فكرة قديمة جداً من أيام سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. فالقسطنطينية كانت قد استعصت على الحملات الإسلامية في أيام سيدنا عثمان بن عفان عندما وصل الفتح إلى كل آسيا الصغرى، واستمرت القسطنطينية فترات طويلة لم تفتح إلا بعد قدوم الخلافة العثمانية الراشدة، فقد تم فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح رحمه الله، يقول سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل البحر وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر، يعني: يريد أن يفتح المسلمون الأندلس ومن ثم يتجه الفاتحون إلى أقصى غرب أوروبا حتى يفتحوا القسطنطينية من الغرب وليس من الشرق من قبل البحر الأسود في ذلك الوقت. إذاً: فكرة فتح الأندلس فكرة قديمة راودت المسلمين منذ عهد سيدنا عثمان بن عفان، لكن المسلمون لم يستطيعوا أن يصلوا إلى هذه المنطقة في المغرب العربي إلا في زمن الدولة الأموية في فترة حكم موسى بن نصير على الشمال الأفريقي.

العقبات والعراقيل التي اعترضت موسى بن نصير في فتح بلاد الأندلس

العقبات والعراقيل التي اعترضت موسى بن نصير في فتح بلاد الأندلس كانت المشكلة الأولى عند موسى بن نصير أن المسافة بين المغرب والأندلس 13 كيلو متر على الأقل، وليس عند المسلمين سفن كافية لعبور هذه العقبة المائية الكبيرة، ومعظم فتوحاتهم كانت برية باستثناء بعض المواقع مثل ذات الصواري وفتح قبرص وما إلى ذلك، وليست لهم سفن ضخمة تحمي الجيوش وتعبر بها مضيق جبل طارق في ذاك الوقت. أما المشكلة الثانية: أن جزر البليار في شرق الأندلس كانت مملوكة للنصارى، ولو أن موسى بن نصير فتح الأندلس ستكون هذه الجزر من وراء ظهره، وهو يريد أن يحمي ظهره حتى لا يقع في أخطاء السابقين، فجزر البليار مشكلة بالنسبة له، لازم أن يحلها قبل أن يدخل على بلاد الأندلس. المشكلة الثالثة: أن ميناء سبتة الذي يطل على مضيق جبل طارق لم يفتح، ويحكمه رجل اسمه: يوليان أو جوليان، وهو رجل نصراني، وكانت له علاقات طيبة بملك الأندلس الأسبق غيطشة، والذي حدث عليه انقلاب وتولى الحكم في الأندلس من بعده رجل اسمه: لذريق أو ردريكو، لكن العرب كانوا يسمونه لذريق. ولم يستطع موسى بن نصير أن يعبر إلى منطقة الأندلس ومن خلفه يوليان الذي كان على خلاف مع لذريق لكن الذي يخشاه هو أنه ينقلب عليه ويساعد لذريق في حربه مقابل أجر مادي أو ما إلى ذلك. المشكلة الرابعة: أن قوات الفاتحين المسلمين التي جاءت من جزيرة العرب والشام واليمن قوات محدودة قليلة منتشرة في كل بلاد الشمال الأفريقي، فكيف يأخذ من هذه القوات وينتقل إلى منطقة الأندلس؟ قد تنتقض عليه بلاد الشمال الأفريقي وقد لا يستطيع أن يفتح بلاد الأندلس بهذا العدد القليل من المسلمين. المشكلة الخامسة: أن قوات النصارى في الأندلس ضخمة جداً، فقد كانت النصارى تحكم بلاد الأندلس تحت قيادة لذريق، وكانت كميات الجيوش فيها كبيرة، والرجل كان قوياً ومتكبراً، والقوات ضخمة ومعهم عدة كبيرة وقلاع وحصون. والمشكلة السادسة: أن أرض الأندلس بالنسبة لـ موسى بن نصير ومن معه مجهولة تماماً، فهي أرض لم تعبرها سفن المسلمين من قبل، فلا يعرفون أي شيء عن أرض الأندلس أو جغرافية الأندلس وما إلى ذلك، وإن كانت الأنباء تترامى أن هذه البلاد صعبة جداً في الفتح؛ لأن الأندلس أرض كلها جبال، والجبال شاقة جداً على الجيوش وبالذات في تلك الآونة لأنهم كانوا يعتمدون على نقل عتادهم بالخيول والبغال والحمير وما إلى ذلك، فكان من الصعب جداً حركة هذه الدواب في الجبال، إضافة إلى أن فيها أنهار وبحيرات كثيرة وهذه تعتبر عوائق ضخمة في عبور الجيوش.

فتح بلاد الأندلس

فتح بلاد الأندلس فهذه مشاكل ضخمة جداً أمام موسى بن نصير رحمه الله، ومع ذلك فهو يصر على فتح بلاد الأندلس، فقد واجه كل هذه المشاكل الضخمة التي أمامه، ولم يكسل أبداً عن فتح بلاد الأندلس مع كل هذه العوائق، فبدأ في أناة يرتب الأمور، فأول شيء بدأ ينشئ سفناً ويبني مواني، وهذا أمر قد يطول لكن سبحان الله! كان عنده همة عالية جداً، فقد بنى أكثر من ميناء في منطقة الشمال الأفريقي أشهرها ميناء القيروان التابع لمدينة القيروان والتي أسسها قبل ذلك عقبة بن نافع رحمه الله، ثم بدأ يعلم البربر الإسلام في مجالس خاصة، ويعطيهم دورات مكثفة لتعليم الإسلام، وبدأ يكون فرقاً من البربر حتى تكون جيش الإسلام. وسبحان الله! فإن أي دولة من الدول حاربت غير دول الإسلام مستحيل أن تغير من طبائع الناس وولائهم وحبهم حتى يقاتلوا معها بعد سنتين أو ثلاث سنوات فقط من فتح الإسلام حتى أصبح كل هم معتنقيه أن ينصر هذا الدين، فإن فرنسا استمرت 130 سنة في الجزائر وخرجت منها والناس ما زالوا مسلمين وما زالوا متحمسين للإسلام والصحوة الإسلامية، ونسأل الله سبحانه وتعالى لهم العافية في هذه المشاكل التي تقابلهم في هذه الآونة الأخيرة. أما الإسلام فقد انتشر في البربر وبدأ موسى بن نصير يعلم الناس الجهاد في سبيل الله، وبذل النفس لله سبحانه وتعالى، فكثر المسلمون، وصار معظم الجيش الإسلامي الموجود في الشمال الأفريقي من البربر في مدة تتراوح من خمس إلى ست سنوات، فأصبحوا محاربين لهذا الدين، وأصبحوا عماده وجنده. الأمر الثالث: ولى طارق بن زياد على قيادة الجيش الإسلامي المتجه إلى فتح بلاد الأندلس، لأنه جمع بين التقوى والورع والكفاءة الحربية والجهاد في سبيل الله والرغبة في أن يموت في سبيل الله، وهو بربري ليس بعربي، فليس لعربي على أعجمي وليس لأعجمي على عربي فضل إلا بالتقوى. وقد قدمه موسى بن نصير على العرب لما له من الكفاءة والفضل، إذ ليست دعوة الإسلام دعوة عنصرية أو قبلية، إنما هي دعوة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] صلى الله عليه وسلم. ثم إن طارق بن زياد لكونه كان من البربر يستطيع أن يقود البربر، فليس هناك أي موانع نفسية لديه تجاه الإسلام، ثم إنه يفهم لغة البربر ويتقن الحديث باللغة العربية. الأمر الرابع: الذي عمله موسى بن نصير والذي يدل على حنكة وحكمة هذا القائد الذي أغفل دوره في التاريخ الإسلامي، هو أنه فتح جزر البليار لأجل أن يأمن ظهره قبل أن يدخل بلاد الأندلس، ففتح جزر البليار وضمها لأملاك المسلمين وأصبح ظهره محمياً من ناحية الشرق إذ أن جزر البليار تقع في شرق بلاد الأندلس في البحر الأبيض المتوسط. لكن بقيت عنده مشكلة سبتة، وكان يحكمها يوليان، وسبتة ميناء حصين جداً، ومشكلة أخرى هي مشكلة الجيش البربري، ومشكلة السفن فهو يحتاج إلى سفن كثيرة، فبدأ في بناء السفن في سنة 87 أو 88هـ، وهو لا يعرف أرض الأندلس فإنها مجهولة لديه فيريد يحل كل هذه المشاكل، ولما استنفذ موسى بن نصير الوسع والطاقة وفعل كل ما عليه تدخلت عناية رب العالمين سبحانه وتعالى وتدبيره، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، ففي قلب يوليان حقد كبير على لذريق حاكم الأندلس في ذلك الوقت؛ لأن لذريق قتل غيطشة الذي كان قبله وكانت هناك علاقات طيبة بين غيطشة ويوليان، وأولاد غيطشة استنجدوا بـ يوليان لكي يساعدهم في حرب لذريق، إذ ليست لهم طاقة بـ لذريق وكذلك يوليان ليست له طاقة بـ لذريق. وأيضاً أن أولاد غيطشة كانت لهم ضياع ضخمة في أرض أسبانيا وقد صودرت وأخذها لذريق، الذي أذاق الشعب سوء العذاب، فقد فرض عليهم كثيراً من الضرائب حتى أن شعب أسبانيا كان يكرهه، لأن لذريق كان متنعماً وشعبه في بؤس شديد. كل تلك الأفكار خالجت ذهن يوليان، فأرسل رسلاً إلى والي طنجة طارق بن زياد رحمه الله من أجل تتفاوض معه، وهذا من تدبير رب العباد سبحانه وتعالى، فعرض عليه ثلاثة أمور وهي: الأمر الأول: أن يسلمه ميناء سبتة، والأمر الثاني: أن يمده ببعض السفن لتساعد الجيش في عبور مضيق جبل طارق إلى الأندلس، فـ موسى بن نصير ما كانت عنده سفن كافية، الأمر الثالث: أن يعطيه معلومات كافية عن أرض الأندلس، فانحلت كل المشاكل التي كانت تعيق طارق بن زياد والي طنجة وكذا

معركة وادي برباط الشهيرة

معركة وادي برباط الشهيرة ثم بدأ هذا الجيش يعبر مضيق جبل طارق في شعبان سنة 92 من الهجرة، ونزلوا على جبل عرف في التاريخ بعد ذلك بجبل طارق والمضيق جبل طارق، ويعرف بهذا الاسم إلى زماننا الحاضر حتى في اللغة الأسبانية بمضيق جبل طارق، ثم انتقل منه إلى الجزيرة الخضراء وهناك قابل الجيش الجنوبي للأندلس وجيش النصارى الضخم، وقد كانت هناك حامية في منطقة الجنوب فقابلها طارق بن زياد رحمه الله وعرض عليهم أموراً وهي: إما أن تدخلوا في الإسلام ولكم ما لنا وعليكم ما علينا ونترك كل أملاككم في أيديكم على أن تدينوا بدين الله سبحانه وتعالى، أو تدفعوا الجزية للمسلمين ونترك لكم أيضاً كل ما في أيديكم، أو أن تدخلوا معنا في قتال ولا نؤخركم إلا ثلاثة أيام، هكذا كانت دعوة المسلمين. فالنصارى القوط الموجودين في ذاك المكان أخذتهم العزة فتجهزوا لقتال المسلمين، فقاتلهم طارق بن زياد رحمه الله فانتصر عليهم، وقد كانت الحرب إلى حد ما سجالاً بين الفريقين، وقوة النصارى أو قوة القوط في ذاك الزمن لم تكن بالقوة الكبيرة، ولم يكن هو جل الجيش القوطي في هذه المنطقة فانتصر عليهم طارق بن زياد، فأرسل زعيم القوط في تلك المنطقة رسالة سريعة إلى لذريق في طليطلة عاصمة الأندلس في ذلك الزمن، وكانت تقع في منتصف بلاد الأندلس كالقاهرة بالنسبة لجمهورية مصر العربية فإنها تقع في منتصف البلد، فقال في رسالته: أدركنا يا لذريق فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟! والشيء الغريب عند أهل الأندلس أنهم يدخلون في دين الإسلام وأن يترك لهم كل شيء، وما كانوا متعودين على ذلك، فهذه السياسة ليست معروفة عندهم، والمعروف عندهم هو أن الفاتح أو المحتل لبلد ما يأخذ من خيراته وأمواله ثم يترك هذا البلد بعد أن يقتل ويذبح أبناء هذا البلد، أما أن يدخلوا ويترك لهم في دينهم كل شيء أو يدفعوا الجزية لهم ويترك لهم كل شيء فهذا لم يعهدوه من قبل، ثم إن المسلمين في ليلهم من القوام لله سبحانه وتعالى، يعني: أنه وجد طائفة عجيبة جداً من البشر فإنهم في الصلاة وكأنهم من الرهبان، وفي القتال وكأنهم من المحاربين الأشداء الذين تمرسوا على القتال طيلة حياتهم، فلا يدري أهل الأندلس أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟ وصلت الرسالة إلى لذريق فجن جنونه وأخذه الغرور وجمع من الناس مائة ألف مقاتل، وجاء بهم من الشمال إلى الجنوب، أما طارق بن زياد فإن عدد جيشه سبعة آلاف رجل ليست معهم إلا خيول قليلة، فأرسل رسالة إلى موسى بن نصير يطلب منه المدد، فأرسل له موسى بن نصير خمسة آلاف رجل آخرين رجالة على رأسهم طريف بن مالك رحمه الله الذي اكتشف أرض الأندلس منذ عام قبل ذلك. فأصبح جيش المسلمين قوامه 12000 مقاتل، فأخذ طارق بن زياد رحمه الله يتجول في المنطقة ويبحث عن أرض تصلح للقتال حتى وصل إلى منطقة عرفت في التاريخ: بوادي برباط، وتسمى في بعض الكتب: وادي لبتة أو وادي لكة أو وادي لكة، فوجد أن هذا المكان مناسب؛ لأن في خلفه وعن يمينه -أي: في الجنوب والشرق- جبلاً ضخماً يحمي خلفه ويحمي الميمنة فلا يستطيع أحد أن يلتف من حوله، وفي ميسرة الوادي بحيرة عظيمة جداً فلا يستطيع أحد أيضاً أن يلتف من جهة اليسار ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي فرقة لحمايته بقيادة طريف بن مالك حتى لا يدخل أحد عليهم من هذا المدخل الجنوبي فيباغت ظهر المسلمين، وأصبح أمامه الشمال مفتوحاً للنصارى حتى يستدرج قوات النصارى للحرب في هذه المنطقة فلا يلتف أحد من حوله في هذه الأرض التي تعتبر إلى حد كبير مجهولة بالنسبة للمسلمين مهما درسوها أو عرفوها. جاء لذريق ومعه مائة ألف فارس، جاء ومعه البغال محملة بالحبال، لتقييد المسلمين وأخذهم عبيداً بعد موقعة وادي برباط، وقد جلس على سرير محلى بالذهب يحمل على بغلين، وهو يلبس التاج الذهبي والثياب المغشاة بالذهب، فهو لم يستطع أن يتخلى عن دنياه حتى في لحظات القتال والحروب. وقد تم اللقاء بينهما في 28 رمضان سنة 92 من الهجرة، والحقيقة أن شهر رمضان شهر معارك أو فتوحات وانتصارات وشهر قيام وصيام وقرآن، ولا يدري الإنسان لماذا تحول شهر رمضان إلى شهر مسلسلات وأفلام جديدة، وفوازير وسهر للفجر، ونوم إلى حد منتصف النهار، وهروب من العمل ومضاربات ومشاكل؟ وأصبحت نفسية الصائم ضيقة، بخلاف المسلمين في ذلك الزمان، فإن رمضان لديهم شهر جهاد، فقد دارت معركة من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين وهي موقعة وادي برباط في 28 رمضان لسنة 92هجرية. وقد يشفق الناظر إلى الجيشين على جيش المسلمين البالغ عددهم 12000 مقاتل في مقابل 100000 مقاتل من النصارى القوط، لكن الناظر المحلل يجد أن الشفقة كل الشفقة على جيش النصارى في تلك الموقعة، قال تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَ

مناقشة قضية حرق طارق بن زياد للسفن الحربية

مناقشة قضية حرق طارق بن زياد للسفن الحربية وقبل الانتقال من موقعة وادي برباط إلى ما بعدها من المواقع في الأندلس نناقش قضية اشتهرت كثيراً في التاريخ الإسلامي والتاريخ الأوروبي وهي قضية حرق طارق بن زياد رحمه الله للسفن التي عبر عليها من المغرب إلى بلاد الأندلس قبل موقعة وادي برباط. يقولون: إن طارق بن زياد حرق السفن كلها حتى يحمس الجيش على القتال وقال لهم: البحر من ورائكم والعدو من أمامكم فليس لكم نجاة إلا في السيف، هكذا تصور الرواية. وبعض المؤرخين يصدقون الرواية والبعض الآخر يبطلونها، والحق أن هذه الرواية لا يجب أبداً أن تستقيم، فهذه رواية من الروايات الباطلة التي أدخلت على تاريخ المسلمين، والرد عليها كما يلي: أولاً: أن هذه الرواية ليس لها سند صحيح بالنظر إلى الروايات الإسلامية الأخرى، فهناك علم اسمه: علم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، ولابد أن تكون الروايات عن أناس موثوقين، فهذه الرواية لم ترد أبداً في كتابات المسلمين الموثوق في تاريخهم، إنما جاءت فقط في الروايات الأوروبية التي كتبت عن موقعة وادي برباط، فهذه الرواية ليس لها سند صحيح. ثانياً: أنه لو حدث حرق لهذه السفن كان سيكون هناك رد فعل من موسى بن نصير أو الوليد بن عبد الملك؛ لأن هذا أمر غريب جداً أن قائداً يحرق سفنه، وقد يكون هنالك حوار بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حول هذه القضية، أو يكون هناك تعليق من الوليد بن عبد الملك أو من علماء المسلمين، هل يجوز هذا الفعل أم لا؟ فلذلك خفي تماماً رد الفعل لهذه الحادثة في كتب العلماء مما يعطي شكاً كبيراً في حدوثها. ثالثاً: أن المصادر الأوروبية أشاعت هذا الخبر لأمر واضح جداً، وهو أن المحللين الأوبيين ما استطاعوا أبداً أن يفسروا كيف ينتصر 12000 من الرجال الذين ليس معهم خيول على 100000 فارس وهم في بلادهم وفي عقر دارهم وفي أرض عرفوها وألفوها، وكيف ينتصر هؤلاء القلة على هذه الكثرة العظيمة جداً من البشر؟ فقالوا: إن طارق بن زياد حرق سفنه وأصبح أمام المسلمين حل واحد فقط للهروب من الموت، ولذلك استماتوا في القتال فانتصروا، أما لو لم يحرق السفن فإنهم قد ينسحبون من البلاد ويرجعون إلى بلادهم، وهذا لأن الأوروبيين لا يستطيعون أبداً أن يفقهوا القاعدة الإسلامية المشهورة والمعروفة والمسجلة في كتابه سبحانه وتعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]. والناظر إلى صفحات التاريخ الإسلامي يجد أنه من الطبيعي جداً أن ينتصر المسلمون بأعداد قليلة على غيرهم من الجيوش، بل إن الأصل المتكرر في معظم المعارك الإسلامية أن يكون المسلمون أقلة والكافرون كثرة، ويهزم أعداء المسلمين بهذا العدد القليل من المسلمين، بل إنه من العجب العجاب أنه لو زاد المسلمون في العدد كتبت عليهم الهزيمة كما حدث في حنين، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، وهذا الأمر سوف نتعرض له إن شاء الله في حوادث الأندلس اللاحقة. إذاً: الأوروبيون يحاولون أن يشيعوا هذه الشائعة حتى يدخلوا في روع الناس أن المسلمين ما انتصروا إلا لظروف خاصة جداً، وليس من الطبيعي أن ينتصروا. رابعاً: أن المسلمين ما هم محتاجون للتحميس بحرق السفن، فقد جاءوا إلى هذه الأماكن راغبين في الجهاد في سبيل الله، وطالبين للموت في سبيل الله، فما يحتاج القائد أن يحرق السفن لكي يشجعهم في سبيل الله! وبعض الناس يقولون: هذا الحدث مسبوق بما حدث قبل هذا في فتح الفرس لليمن، فإن القائد الفارسي الذي فتح اليمن حرق السفن لكي يحمس الجنود الفرس، و A هذا ممكن يحصل من القائد الفارسي أن يحمس الناس بحرق السفن، وقد كان الفرس يجبرون جنودهم على الحرب ضد المسلمين بربطهم في سلاسل كما حصل في موقعة ذات السلاسل المشهورة، وقد كان قائد جيش المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه. وهذا ممكن أن يحصل بالنسبة لأهل الدنيا، أما جيش المسلمين فما هو محتاج لهذا التحميس عن طريق هذا الحرق. خامساً لا يعقل أن قائداً محنكاً مثل طارق بن زياد رحمه الله يحرق سفنه، ويحرق خط الرجعة عليه، وماذا يصنع لو هزم في هذه الموقعة؟ وهذا أمر وارد جداً، فالأيام دول، فقد تحدث الكرة على المسلمين لفترة من الفترات، وربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال:15 - 16]، وننتبه هنا للاستثناء: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُ

بيان القول في الجزية

بيان القول في الجزية والجزية: هي ضريبة يدفعها أهل الكتاب بصفة عامة أو يدفعها المجوس أو المشركون في رأي بعض الفقهاء وإن كان هذا هو الرأي الغالب أنهم يدفعونها مقابل أن يدافع عنهم المسلمون، ولا يحمل الذين يدفعون الجزية سلاحاً ليدافعوا به عن أنفسهم، لكن على المسلمين أن يدافعوا عنهم مقابل هذه الجزية، بل إن فشل المسلمون في الدفاع عنهم ردت إليهم الجزية، وقد تكرر ذلك في بعض المواقف في التاريخ الإسلامي وسنتعرض لها إن شاء الله في أحاديث لاحقة. والجزية تؤخذ فقط من الرجال والبالغين لا النساء والأطفال، وتؤخذ من الأصحاء لا المرضى الغير قادرين على القتال وأصحاب العاهات كالأعمى والكسيح، ولا تؤخذ من المعتكف للعبادة والذي لا يقاتل، ولا تؤخذ إلا من القادرين على القتال والغني لا الفقير، بل إن الفقير الذي هو من أهل الكتاب نصرانياً كان أو يهودياً أو مشركاً قد يأخذ من بيت مال المسلمين إن كان في بلد تحكم بالإسلام، والجزية في مقابل الزكاة التي يدفعها المسلمون ومع ذلك فهي أقل بكثير مما يدفعه المسلمون، إذا أن الرجل الذمي يدفع ديناراً واحداً في السنة الكاملة جزية للمسلمين بينما المسلم يدفع زكاة 2. 5% من إجمالي الدخل الذي عنده إن كان قد بلغ نصاباً وحال عليه الحول. فالمبالغ التي يدفعها المسلمون في الزكاة أضعاف ما يدفعه أهل الكتاب وغيرهم من الجزية، وفي حالة إذا أسلم الذمي سقطت عنه الجزية، وإذا شارك مع المسلمين في حروبهم دفعوا له أجرة على حربه مع المسلمين، والجزية أقل بكثير من الضرائب التي كان يفرضها عليهم أصحاب الحكم في بلادهم والذين كانوا من أبناء جلدتهم ومن أبناء شعوبهم، والجزية أقل من أي ضريبة في العالم، بل إن الزكاة نفسها أقل من أي ضريبة في العالم، فلا يوجد في الدنيا من يدفع ضريبة 2. 5% فقط، بل الناس إن يدفعون 10 و20 و30 و50% وأحياناً 70% ضرائب، بينما الزكاة والجزية في الإسلام أقل من ذلك، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ألا يكلف أهل الكتاب فوق طاقتهم، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالإسلام دين رحمة، لغير المسلمين فهو يدافع عنهم، وكانوا يستفيدون من كل مقدرات البلد في مقابل هذه الجزية البسيطة التي يدفعونها للمسلمين. وإن شاء الله في الدرس القادم نكمل الفتوح مع طارق بن زياد وموسى بن نصير كيف تم لها فتح بلاد الأندلس؟ وكيف كان رد فعل موسى بن نصير من هذه الانتصارات المتتالية لـ طارق بن زياد؟ وكيف دخل المسلمون بلاد فرنسا وكانت لهم فيها صولات وجولات؟ وكيف وصلوا إلى مسافة 30 كيلو متر فقط من باريس التي هي في أقصى شمال فرنسا؟ وكيف تأسس ما يسمى في التاريخ بعهد الولاة؟ هذا ما نتحدث عنه إن شاء الله في الحلقة القادمة. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وجزاكم الله خيراً كثيراً.

عهد الولاة

سلسلة الأندلس_عهد الولاة تم فتح الأندلس بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد رحمهما الله تعالى غير نزر يسير منها لم يتسن فتحه لعودتهما إلى دمشق عاصمة الخلافة الإسلامية، بأمر الوليد بن عبد الملك، وبرجوعهما يبدأ عهد جديد سمي بعهد الولاة، وفيه تم استكمال الفتح الكامل لبلاد الأندلس، والزحف باتجاه فرنسا.

فتح طارق بن زياد لمدينة إشبيلية وإستجة وغيرهما

فتح طارق بن زياد لمدينة إشبيلية وإستجة وغيرهما أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فمع الحلقة الثالثة من حلقات الأندلس من الفتح إلى السقوط. تحدثنا في الحلقة السابقة عن حلقة مجيدة جداً من حلقات التاريخ الإسلامي، ورأينا صفحة من صفحات التاريخ المشرق للمسلمين، وكيف أنهم انتصروا انتصارات باهرة على قوات النصارى الموجودة في الأندلس؟ فقد استطاع طارق بن زياد رحمه الله باثني عشر ألفاً من الرجال عديمي الخيول أن ينتصروا على مائة ألف فارس من النصارى في موقعة وادي برباط الشهيرة؛ واستشهد من المسلمين (3000) رجل، وهذا يمثل ربع الجيش المسلم، ومع ذلك لم يفت ذلك في عضد طارق بن زياد رحمه الله، بل انطلق من وادي برباط إلى الشمال ليفتح المدينة تلو المدينة، وكانت المدينة العظيمة التالية لمنطقة وادي برباط هي مدينة إشبيلية، وهذه المدينة مع حصانتها وقوتها ومجدها وحاميتها دفعت الجزية وفتحت أسوارها لـ طارق بن زياد رحمه الله؛ وذلك مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر). وبعد فتح إشبيلية توجه طارق بن زياد رحمه الله إلى مدينة إستجة، وهي أيضاً من مدن الجنوب، أي: وادي برباط وإشبيلية وإستجة وغيرها من المدن في منطقة الجنوب، ونحن نعلم أن منطقة الجنوب الأندلسي هي المنطقة الملاصقة لمنطقة المغرب العربي، وفي منطقة إستجة قاتل المسلمون قتالاً عنيفاً، ولكنه بلا شك أقل من قتال وادي برباط؛ لأن معظم قوة النصارى كانت قد هلكت في وادي برباط، ثم قبل أن ينتصر المسلمون في أواخر الموقعة فتح النصارى أبوابهم وصالحوا على الجزية، وهناك فرق بين أن يصالح النصارى على الجزية وبين أن يفتح المسلمون المدينة فتحاً؛ لأنه لو فتح المسلمون هذه المدينة لأخذوا كل ما فيها وملكوا البلد، أما إن صالح النصارى على الجزية، فإنهم يملكون ما يملكون ولا يدفعون إلا الجزية، والتي تقدر بدينار واحد في كل عام على الرجل القادر المستطيع للقتال الغني، فلا تفرض الجزية على المرأة، والوليد الصغير، والمعتكف للعبادة، والضعيف غير القادر على القتال، والأعمى، والكسيح، وهكذا فإنها لا تفرض إلا على المستطيعين للقتال فقط. وكان عدد جيش طارق بن زياد 9000 مقاتل فقط، فأرسل السرايا لفتح المدن الجنوبية الأخرى، وانطلق بقوة الجيش الرئيسية في اتجاه الشمال، حتى وصل إلى طليطلة عاصمة الأندلس في ذلك الزمان، فبث سرية إلى قرطبة، وسرية إلى غرناطة، وسرية إلى ملقة، وسرية إلى مرسية، فهذه مدن الجنوب المنتشر على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والموجودة بالقرب من مضيق جبل طارق، مع العلم أن كل سرية لا يزيد عدد الرجال فيها عن (700) رجل، ومع ذلك فقد فتحت قرطبة -على الرغم من عظمتها وكبرها- بسبعمائة رجل فقط من المسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، وقال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. ثم توجه طارق بن زياد رحمه الله اتجاه الشمال حتى فتح مدينة أخرى تسمى مدينة جيان، وهي من المدن الحصينة جداً للنصارى في ذلك الزمن. ويبدو أن موسى بن نصير رحمه الله كان قد أوصى طارق بن زياد ألا يتجاوز مدينة جيان وقرطبة، وأمره ألا يسرع في الفتح حتى يصل إلى طليطلة؛ وذلك حتى لا يحاصره جيش النصارى بعد أن يتقدم بجيشه القليل البسيط في العدة والعتاد والذي يبلغ (9000) رجل فقط، لكن طارق بن زياد وجد الطريق أمامه مفتوحاً إلى طليطلة العاصمة، وهي أحصن مدن النصارى على الإطلاق، وفيها من الضعف الشديد للنصارى، فلو هاجمها فقد تفتح، وإن امتنع عن فتحها كما هو رأي موسى بن نصير فقد لا يستطيع أن يفتحها مرة أخرى، فاجتهد طارق بن زياد رحمه الله فخالف رأي الأمير الأعلى موسى بن نصير، والأفضل في هذا الموقف أن يستشير طارق بن زياد مرة أخرى موسى بن نصير، ويرسل له رسالة يبين له فيها أنه يرى أن الطريق مفتوح، وأنه سوف يفتح طليطلة، فما رأيه وما رده على ذلك، لكن طارق بن زياد أسرع في اتجاه طليطلة دون استئذان من موسى بن نصير رحمه الله، فعلم موسى بن نصير بتقدم طارق بن زياد إلى طليطلة، ولكن لطول المسافات لم يستطع أن يلحق بـ طارق بن زياد إلا بعد أن وصل إلى طليطلة، فوجد طارق بن زياد طليطلة المدينة الحصينة جداً من أحسن وأحصن مدن الأندلس على الإطلاق، محاطة بجبال طبيع

رسالة الوليد بن عبد الملك لموسى بن نصير بالعودة مع طارق بن زياد إلى دمشق

رسالة الوليد بن عبد الملك لموسى بن نصير بالعودة مع طارق بن زياد إلى دمشق كان موسى بن نصير رحمه الله يريد أن يفتح منطقة الصخرة، لكن وصلته رسالة من دمشق من الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين في ذلك الوقت، يطلب منه ومن طارق بن زياد أن يعودا إلى دمشق ولا يستكملا الفتح، فحزن موسى بن نصير حزناً شديداً لهذا الطلب؛ لأنه لم يكمل الفتح، وكان رأي الوليد بن عبد الملك أن المسلمين قد توغلوا كثيراً في بلاد الأندلس في وقت قليل، وخشي رحمه الله أن يلتف النصارى من جديد حول المسلمين، فإن قوة المسلمين مهما تزايدت في تلك البلاد فهي قليلة، فلا يريد أن يتوغل المسلمون أكثر من ذلك. وهناك أمر آخر وهو صحيح: وهو أن سبب إصرار الوليد بن عبد الملك على استجلاب موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق، هو أنه قد وصل إلى علمه أن موسى بن نصير رحمه الله يريد بعد أن ينتهي من فتح بلاد الأندلس أن يفتح كل بلاد أوروبا، حتى يصل إلى القسطنطينية من الغرب، فإن مدينة القسطنطينية كانت قد استعصت على المسلمين من الشرق، فإن جيوش الدولة الأموية لم تستطع أن تفتحها. وفعلاً فإن موسى بن نصير هذا الرجل العجيب كان يفكر في أن يخوض كل بلاد أوروبا؛ فيفتح فرنسا ثم إيطاليا ثم يوغسلافيا ثم رومانيا ثم بلغاريا ثم تركيا حتى يصل إلى القسطنطينية، فيفتحها من الغرب، ويتوغل بكل هذا الجيش الإسلامي في هذا العمق العجيب في قارة أوروبا، منقطعاً عن كل مدد، وهذا أمر أرعب الوليد بن عبد الملك، فإن هذا الجيش لو احتاج إلى مدد، فإنه سيحتاج إلى شهور، بل وسنوات حتى يصله هذا المدد، لما يفصل بينها وبين المسلمين من مسافات ضخمة من بحار وجبال وأراض واسعة، وخشي الوليد بن عبد الملك على جيش المسلمين من الهلكة. وقد كان موسى بن نصير يبلغ من العمر (75) سنة، فهو شيخ كبير، ومع ذلك كان يركب الخيول ويجاهد في سبيل الله، ويفتح المدينة تلو المدنية ويحاصر إشبيلية شهوراً، ثم يحاصر مردا شهوراً، ثم يفتح برشلونة وسرقسطة والشمال الشرقي، ثم يتجه إلى الشمال الغربي ويحاصر الصخرة، ثم يريد أن يفتحها ويتجه إلى فرنسا وإيطاليا وغيرها، حتى يصل إلى القسطنطينية، فأي همة عند هذا الشيخ الكبير موسى بن نصير؟ أما في زماننا فإن من بلغ هذا السن فإنه يصبح مقعداً غير عامل في المجتمع، ويعتبر أن رسالته قد انتهت، فمن لتعليم الأجيال، ولتوريث الخبرات، ولتصحيح المفاهيم؟ إذاً: حزن موسى بن نصير حزناً شديداً على أمر الوليد بن عبد الملك له بتركه لأرض الجهاد، فقد كان متشوقاً جداً إلى الجهاد؛ ولأن الصخرة التي في أقصى الشمال الغربي من بلاد الأندلس لم تفتح بعد؛ ولأنه لم يستكمل فتح القسطنطينية من قبل الغرب، ثم لم يجد إلا أن يسمع ويطيع للوليد بن عبد الملك رحمه الله، فقطع المسافات الطويلة في شهور حتى وصل إلى دمشق، وهناك وجد الوليد بن عبد الملك في مرض الموت، وما هي إلا ثلاثة أيام ومات الوليد بن عبد الملك رحمه الله، وتولى الخلافة من بعده سليمان بن عبد الملك والذي كان على فكر أخيه؛ فقد رفض أن يعيد موسى بن نصير خشية أن يستكمل الفتوح داخل بلاد أوروبا ويصل إلى القسطنطينية في حركة عسكرية قد تؤدي إلى هلاك الجيش الإسلامي، فأبقاه عنده في دمشق، وأبقى طارق بن زياد كذلك. وبعدها بعام ذهب سليمان بن عبد الملك إلى مكة للحج، فـ موسى بن نصير اشتاق للحج، لأنه منذ سنوات طويلة وهو في أرض الجهاد، يفتح البلاد ويعلم الناس الإسلام أكثر من عشر سنين، فتشوق للحج فرافق سليمان بن عبد الملك إلى الحج في عام (97) من الهجرة، وفي طريقه إلى هناك قال: اللهم إن كنت تريد لي الحياة، فأعدني إلى أرض الجهاد وأمتني على الشهادة، وإن كنت تريد لي غير ذلك فأمتني في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحج ثم سافر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات فيها. فهذا حال القلوب الموصولة برب العالمين سبحانه وتعالى، وهذا من حسن الخواتيم، فقد وصل إلى هذه المرتبة العظيمة بحيث يدعو ربه سبحانه وتعالى فيستجيب لدعائه، فيموت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدفن هناك مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه همة عظيمة جداً، فهو نبراس لكل المسلمين. الأمر اللافت للنظر في التاريخ أن طارق بن زياد رحمه الله انقطعت أخباره بالكلية عند هذه المرحلة، فقد عاد إلى دمشق مع موسى بن نصير، لكن لا أحد يدري هل عاد مرة أخرى إلى بلاد الأندلس، أم أنه بقي في بلاد دمشق؟ وإن كان هناك بعض الروايات التي لا يثق المؤرخون من صحتها أنه قد مات في عام 102 من الهجرة، يعني بعد هذا الرجوع بحوالي بخمس أو ست سنوات، لك

عهد الولاة في بلاد الأندلس

عهد الولاة في بلاد الأندلس بعد فترة عهد الفتح بدأ عهد جديد يسمى: عهد الولاة، بدأ بعد رجوع موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق، أي: من سنة (96) من الهجرة ويستمر حتى سنة (138) من الهجرة، أي: حوالي (42) سنة، وعهد الولاة هو أن يتولى حكم الأندلس في هذه الفترة وال يتبع الحاكم العام للمسلمين وهو الخليفة الأموي الموجود في بلاد الشام في دمشق، ويعتبر سليمان بن عبد الملك في أول عهد الولاة، ثم توالى من بعده الحكام من بني أمية؛ عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك وهكذا إلى آخر الدولة الأموية. وكان أول الولاة على منطقة الأندلس هو عبد العزيز بن موسى بن نصير بأمر من سليمان بن عبد الملك رحمه الله، وهذا الرجل كان كأبيه في جهاده وتقواه وورعه كما يقول عنه أبوه موسى بن نصير: لقد عرفته صواماً قواماً، وكان مجاهداً في سبيل الله، ووطد الأركان بشدة في منطقة الأندلس، وتوالى من بعده الولاة. تولى من الولاة على منطقة الأندلس خلال (42) سنة حوالي (22) أو (20) والياً، يعني: أن كل وال لا يحكم إلا سنتين أو ثلاثاً، فلماذا هذا التغيير المفاجئ للولاة والتغيير الكثير في الولاة؟ مما لا شك فيه أن هذا التغيير الكثير بسبب استشهاد كثير من الولاة في معاركهم في بلاد فرنسا، وأما في الفترة الثانية من عهد الولاة، فكان الولاة يغيرون بالمكائد والانقلابات والمؤامرات وما إلى ذلك، فالفترة الأولى تختلف بالكلية عن الفترة الثانية.

تقسيم عهد الولاة

تقسيم عهد الولاة نستطيع أن نقسم عهد الولاة بحسب طريقة الإدارة والحكم إلى فترتين رئيسيتين: الفترة الأولى: هي فترة جهاد وفتوح وفترة عظمة للإسلام والمسلمين، وهذه تمتد من سنة (96) هجرية إلى سنة (123) من الهجرة، أي: أنها استمرت (27) سنة. الفترة الثانية: هي فترة ضعف ومؤامرات ومكائد وما إلى ذلك، فتستمر من سنة (123) من الهجرة إلى سنة (138) من الهجرة، يعني: (15) سنة.

مميزات الفترة الأولى وأبرز سماتها

مميزات الفترة الأولى وأبرز سماتها تميزت الفترة الأولى من فترة الولاة ببعض الصفات: أولاً: نشر الإسلام في بلاد الأندلس، بعد أن تمكن المسلمون من توطيد أركان الدولة في بلاد الأندلس، بدأ المسلمون يعلمون الناس الإسلام، والفطرة السوية تختار هذا الدين بلا تردد، فقد وجد الأستان في هذا الدين ديناً متكاملاً شاملاً ينظم كل أمور الحياة؛ وعقيدة واضحة، وعبادات منتظمة، وتشريعات في السياسة وفي الحكم وفي التجارة وفي الزراعة وفي المعاملات، وتواضعاً للقادة، وتفاصيل عن كيفية التعامل مع الوالدين والأقارب والأولاد والجيران والأصدقاء، ومن عرفت ومن لا تعرف، وكذا مع الأعداء والأسرى، فهذه تفاصيل عجيبة جداً ما تعودوا عليها من قبل، هم تعودوا فصلاً كاملاً بين الدين والدولة؛ فالدين عندهم عبارة عن بعض المفاهيم اللاهوتية غير المفهومة، فيأخذونها ولا يستطيعون أبداً تطبيقها، أما التشريعات والحكم فيشرعها لهم من يحكمهم من الناس، أما الإسلام فقد وجدوا فيه أمراً عجيباً لم يستطيعوا أبداً أن يتخلفوا عن الارتباط بهذا الدين، فدخلوا في الإسلام أفواجاً، وفي فترات قليلة جداً من فتح الأندلس أصبح عموم أهل الأندلس من المسلمين، حتى إن غالبية المسلمين في بلاد الأندلس من أهل الأندلس الأصليين، وأصبح العرب والبربر قلة في هذه البلاد، لكن هذا أبداً ما غير الحكم في بلاد الأندلس، بل أصبح أهل الأندلس هم جند الإسلام وأعوان هذا الدين، وهم الذين اتجهوا إلى فتوحات بلاد فرنسا بعد ذلك، وبدأ المسلمون يتزوجون من الأندلسيات، فتكون جيل جديد؛ الأب من العرب أو البربر والأم من الأندلسيات، ونشأ جيل عرف في التاريخ باسم جيل المولدين، الأب عربي أو بربري والأم أندلسية. ثانياً: بدأ المسلمون في الأندلس يلغون الطبقية، فقد جاء الإسلام وساوى بين الناس، حتى إن الحاكم والمحكوم كانا سواء بسواء أمام القضاة للتحاكم في المظالم، وقد أتاح المسلمون في هذه الفترة الحرية العقائدية للنصارى وتركوا كنائسهم، وإذا وافق النصارى على بيع كنيسة من الكنائس اشتراها المسلمون ولو بأثمان باهظة ثم يحولونها إلى مسجد، أما إن رفضوا أن يبيعوا كنائسهم تركوها لهم وما هدموها أبداً، فانظر إلى هذا الأمر من أجل أن تقارن بين ما سيفعله النصارى في آخر عهد المسلمين في بلاد الأندلس، فيما عرف بمحاكم التفتيش بعد انتهاء الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس. ثالثاً: اهتم المسلمون أيضاً في هذه الفترة الأولى بتأسيس الحضارة المادية، وبتأسيس الإدارة والعمران، وبنشر الكباري والقناطر، وأنشئوا قنطرة عجيبة جداً تسمى قنطرة قرطبة، وهي من أعجب القناطر الموجودة في أوروبا في ذلك الزمن، وأنشئوا مصانع كبيرة للأسلحة، ومصانع لصناعة السفن، وبدأت القوى الإسلامية تقوى في هذه المنطقة. رابعاً: من السمات المهمة جداً في عهد الولاة: أن الأسبان بدءوا يقلدون المسلمين في كل شيء، حتى أصبحوا يتعلمون اللغة العربية، وكذا الأسبان النصارى واليهود الذين كانوا يعيشون في هذه الفترة بدءوا يفتخرون بتعليم اللغة العربية في مدارسهم، وهذا لأن الأمم المهزومة تقلد الأمم المنتصرة، أما الآن فنحن نتلقى في بعض المدارس تعلم اللغة الإنجليزية، بل إن بعض المدارس الإسلامية بدأت تقيم مدارس لتعليم الأولاد اللغات في داخل البلاد الإسلامية، وتعلم الناس كل المناهج باللغة الإنجليزية؛ وهذه فتنة الحضارة الغربية والتقدم الغربي الآن، فيتركون اللغة التي شرفها الله سبحانه وتعالى بأن جعلها لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة. أما الأسبان فهم معذورون في تعلم اللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن، ووجدوا أمة غالبة ومتحضرة تتكلم بهذه اللغة، أما نحن فلا عذر لنا وقد تعلمنا اللغة التي شرفها الله سبحانه وتعالى بالقرآن الكريم. خامساً: من سمات هذه الفترة: أنهم اتخذوا قرطبة عاصمة لهم، بدلاً من طليطلة عاصمة بلاد الأندلس سابقاً؛ لأن منطقة طليطلة كانت في الشمال وهي قريبة من بلاد فرنسا ومن منطقة الصخرة، فكانت غير آمنة أن تكون هي العاصمة، فاختار المسلمون مدينة قرطبة؛ لأنها في الجنوب؛ ولأنها قريبة من المدد في بلاد المغرب. ومن الأشياء الهامة جداً في هذه الفترة والمميزة لهذه الفترة الأولى في عهد الولاة هو الجهاد في فرنسا، فقد كان له خطوات كبيرة في تاريخ المسلمين في الفترة الأولى من عهد الولاة.

ذكر ولاة الفترة الأولى وجهادهم

ذكر ولاة الفترة الأولى وجهادهم نذكر في هذه الفترة بعض الولاة الذين كان لهم السبق في موضوع الجهاد في بلاد فرنسا، وعلى سبيل المثال: السمح بن مالك الخولاني رحمه الله، كان والياً في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، الذي حكم المسلمين من سنة (99هـ - 101هـ) أي: سنتين وستة أشهر على الأكثر، وفي هذه الفترة القليلة عم الرخاء والأمن والعدل في بلاد المسلمين، وكانت اختيارات عمر بن عبد العزيز موفقة رحمه الله؛ فاختار السمح بن مالك الخولاني القائد الرباني المشهور في التاريخ الإسلامي، وهو الذي انطلق إلى بلاد فرنسا، والتي كان فيها مدينة واحدة إسلامية وهي مدينة أرجونة التي فتحها موسى بن نصير بسرية من السرايا، ففتح السمح بن مالك الخولاني كل منطقة الجنوب الغربي لفرنسا، وأسس مقاطعة: ضخمة جداً اسمها مقاطعة سبتمانيا، وتعرف هذه المقاطعة الآن بساحل الريفيرا الموجود في فرنسا، وكثير من المسلمين الآن يذهبون إلى منطقة الريفيرا للتنزه وللجلوس على شواطئ هذه المناطق، التي تعتبر من أشهر المنتجعات السياحية في العالم، لكن انظر ماذا فعل المسلمون في السابق؟ فقد دخلوا هذه البلاد فاتحين، وحكموا منطقة الريفيرا بشرع الله سبحانه وتعالى، ودامت لهم السيطرة عليها سنوات عديدة. واستكمل السمح الفتوح، وأرسل من يعلم الناس الإسلام سواء في فرنسا أو في منطقة الأندلس، ثم لقي ربه شهيداً رحمه الله، وكان استشهاده في يوم عرفة سنة (102) هجرية. وتولى من بعده بعض الولاة، ومنهم عنبسة بن سحيم رحمه الله، وكثير من الناس لا يسمعون عن هذا الرجل القائد التقي الورع الإداري العسكري المسلم المشهور في التاريخ الإسلامي، كان مجاهداً حق الجهاد، حكم المسلمين في بلاد الأندلس من سنة (103) إلى سنة (107) هجرية، ووصل في جهاده إلى مدينة سانس، والتي تبعد (30) كيلو متر من باريس في أقصى شمال فرنسا، ومعنى ذلك أن عنبسة بن سحيم رحمه الله قد فتح (70%) من أراضي فرنسا، ومن قبله السمح بن مالك الخولاني رحمه الله، ثم استشهد عنبسة بن سحيم وهو في طريق عودته. ثم بدأت الأمور تتغير في بلاد الأندلس، فقد تولى من بعد عنبسة بن سحيم مجموعة من الولاة، كان آخرهم الهيثم الكلابي، كان متعصباً لقومه ولقبيلته، فبدأت تحدث خلافات بين المسلمين العرب والمسلمين البربر بحسب العرق والعنصر، وهذا أمر لم يحدث في تلك المناطق من قبل، فدارت مشاحنات، ومعارك بين العرب والبربر في هذه المنطقة. ثم من الله على المسلمين بـ عبد الرحمن الغافقي رحمه الله، الذي ألغى العصبيات، وأعاد الدين من جديد، ووحد الصفوف، وبدأ يبث في الناس روح الإسلام الأولى التي جمعت بين البربر والعرب، والتي لم تفرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى.

معركة بلاط الشهداء وأسباب هزيمة المسلمين فيها

معركة بلاط الشهداء وأسباب هزيمة المسلمين فيها بعد أن وحد عبد الرحمن الغافقي الناس وظن أن القوة قد اكتملت أخذ هؤلاء الناس وانطلق بهم ناحية فرنسا ليستكمل الفتوح من جديد، ودخل مناطق لم يدخلها السابقون، فقد فتح أقصى غرب فرنسا، وأخذ يفتح المدينة تلو المدينة؛ وفتح مدينة آرل، ثم مدينة بوردو، والتي تسمى الآن بهذا الاسم، ثم مدينة طلوشة، ثم مدينة تور، ثم وصل إلى بواتييه غرب باريس، والتي تبعد عنها حوالي مائة كيلو متر، وتبعد من قرطبة حوالي (1000) كيلو متر، فقد توغل جداً في بلاد فرنسا في اتجاه الشمال الغربي، وهناك في مدينة بواتييه عسكر عند منطقة تسمى البلاط، والبلاط في اللغة الأندلسية تعني القصر، فإن هذه المنطقة كان فيها قصر قديم مهجور، وبدأ ينظم جيشه ليلاقي جيش النصارى، وكانت حملة عبد الرحمن الغافقي أكبر حملة تدخل بلاد فرنسا، فقد وصلت إلى خمسين ألف مقاتل، ما وصل إليها المسلمون قبل ذلك الوقت. والمشكلة الخطيرة في جيش عبد الرحمن الغافقي هي تعلق قلوبهم بالغنائم الكثيرة التي غنموها، وافتتانهم بتلك الأموال الضخمة التي حصلوها من بلاد فرنسا، واشتهرت بين الناس فكرة العودة إلى أرض الأندلس لوضع هذه الغنائم هناك حتى لا يأخذها الفرنسيون، لكن عبد الرحمن الغافقي رحمه الله جمع الناس وقال لهم: ما جئنا لأجل هذه الغنائم، ما جئنا إلا لتعليم هؤلاء الناس هذا الدين، ولتعبيد العباد لرب العباد سبحانه وتعالى، وأخذ يحفز الجيش ويحضهم على الجهاد في سبيل الله، وعلى الموت في سبيله سبحانه وتعالى، وأخذ الجيش وانطلق إلى بواتييه رغماً عن أنف الجنود، وعندما وصل إلى منطقة بواتييه ظهرت أمور جديدة في الجيش وهي العصبيات التي كانت في بلاد الأندلس بين العرب والبربر، فقد تجددت من جديد، بسبب الغنائم الكثيرة التي لم توزع. فبدأ الناس يختلفون، وكل واحد ينظر إلى ما في يد أخيه، وكل واحد يريد الشيء الأكثر، وكل واحد يرى نفسه أو نسبه أفضل من الآخر، فالعربي يقول: أنا عربي وأنت بربري والعربي أفضل، والبربر قالوا: نحن الذين فتحنا البلاد، ونسي الناس أن الفاتحين السابقين ما فرقوا أبداً عند الفتح وعند الدعوة إلى الله سبحانه في تلك البلاد بين عربي وبربري، وبين هؤلاء الفاتحين وبين الأندلسيين الذين دخلوا في الإسلام بعد ذلك، فلم يفرقوا إلا بحساب التقوى. فبدأت هذه المشاكل تظهر في الجيش، فاجتمعت العصيبة، واجتمع حب الغنائم والخوف عليها، كما اجتمع إلى جوار ذلك الاعتداد بالعدد الضخم؛ الذي لم يسبق في تاريخ الأندلس، فأخذتهم العزة بهذا العدد، وظنوا أنهم لن يغلبوا. ومن جديد تعود موقعة حنين الجديدة، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، وللأسف الشديد مع وجود هذا القائد الرباني المجاهد التقي الورع، إلا أن عوامل الهزيمة الكثيرة كانت موجودة في داخل جيش المسلمين، من حب الغنائم، والعصيبة القبلية العنصرية، والاعتداد بالأرقام والأعداد والعدة والعتاد، والمسلمون ما انتصروا أبداً بعدتهم ولا عتادهم، وإنما بطاعتهم لله ومعصية عدوهم لله سبحانه وتعالى. أما جيش النصارى فقد أتى من باريس بقيادة شارل مارتل، ويلقب عند العرب بقارلة، وينطقونه تشار قارلة، وكلمة مارتل لقب وتعني المطرقة، وقد سماه بها بابا إيطاليا؛ لأنه كان شديداً على أعدائه، وكان من أقوى حكام فرنسا على الإطلاق، وأتى شارل مارتل بأربعمائة ألف مقاتل من النصارى، أي: ثمانية أضعاف الجيش المسلم، والمسلمون أبداً ما كانت تهزهم هذه الأرقام، لكن جيش المسلمين فيه عوامل الضعف. والتقى الجيشان في موقعة من أشرس المواقع الإسلامية على الإطلاق في منطقة بواتييه؛ دارت الموقعة بينهما عشرة أيام كاملة، وكانت في رمضان سنة (114) هجرية، وكانت في بداية الموقعة الغلبة للمسلمين على قلة عددهم، لكن النصارى في آخر الموقعة فطنوا إلى كمية الغنائم الضخمة المحملة خلف الجيش الإسلامي، فالتفوا حول الجيش وهاجموا الغنائم، وبدءوا يسلبون غنائم المسلمين، فارتبك المسلمون وأسرعوا ليحموا الغنائم الكثيرة؛ لأن حب الغنائم دخل في قلوبهم. فحدث ارتباك شديد في صف المسلمين، وبدأت تحدث هزة أدت إلى هزيمة للجيش الإسلامي في هذه الموقعة العجيبة موقعة بواتييه أو موقعة بلاط الشهداء، وسميت بذلك لكثرة شهداء المسلمين في موقعة بواتييه بالقرب من البلاط وهو القصر، ولم يرد في الروايات الإسلامية حصر دقيق لشهداء المسلمين في موقعة بلاط الشهداء، لكن الروايات الأوروبية تبالغ كثيراً حتى تقول: أنه قتل من المسلمين في موقعة بلاط الشهداء ثلاثمائة وخمسة وسبعون ألف مسلم، وهذا مبالغ فيه جداً؛ لأن جيش المسلمين كان خمسين ألفاً. يقول النصارى في رواياتهم: أنه لو هزم الفرنسيون في موقعة بواتييه لفتحت أوروبا جميعاً، ولدرس القرآن في جامعات

عبد الرحمن الداخل صقر قريش

سلسلة الأندلس_عبد الرحمن الداخل صقر قريش بعد سقوط دولة بني أمية عام (132هـ) على يد العباسيين استطاع عبد الرحمن بن معاوية الملقب بعبد الرحمن الداخل أن يفلت من العباسيين، واتجه وحده جهة المغرب حتى وصل إلى البربر، ثم إلى بلاد الأندلس، وهناك أسس إمارة إسلامية مستقلة عن الدولة العباسية.

فترات حكم الإسلام في الأندلس منذ 92هـ - 138هـ

فترات حكم الإسلام في الأندلس منذ 92هـ - 138هـ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فمع الحلقة الرابعة من حلقات الأندلس من الفتح إلى السقوط. ذكرنا في الحلقات السابقة أن فترة الأندلس تقسم إلى عهود بحسب طريقة الحكم والإدارة. فالعهد الأول: وهو عهد الفتح، واستمر ثلاث سنوات وبضعة شهور، فقد بدأ من سنة (92هـ) وانتهى في أواخر (95هـ). العهد الثاني: عهد الولاة، وهو أن الحاكم على بلاد الأندلس يعتبر والياً يتبع الخلافة الأموية للمسلمين، والتي كان مقرها في دمشق، واستمر هذا العهد من أواخر سنة (95هـ) وأوائل (96هـ) إلى سنة (138هـ)، بمعنى أنه استمر مدة 42 سنة متصلة، وهذا العهد قسمناه إلى فترتين رئيسيتين: الفترة الأولى: فترة قوة وجهاد ونشر للدعوة وتعليم للإسلام، وهذه الفترة استمرت من 96هـ إلى سنة 123هـ، أي: حوالي 27 سنة متصلة. الفترة الثانية: فترة ضعف وانحطاط للمستوى الإيماني، والمستوى الحضاري في بلاد الأندلس، واستمرت هذه الفترة من سنة (123هـ) إلى سنة (138هـ) أي أنها استمرت (15) سنة متتالية. وفي الدرس السابق تحدثنا عن الفترة الأولى منذ (96هـ) إلى سنة (114هـ)، وانتهى الحديث عند موقعة بلاط الشهداء والتي كانت في منطقة تسمى بواتييه في فرنسا، ومني المسلمون فيها بهزيمة، وتوقفت الفتوح في تلك المنطقة وانسحب الجيش الإسلامي، واستشهد فيها عبد الرحمن الغافقي رحمه الله تعالى.

الأسئلة

الأسئلة أود أن أجيب عن بعض الأسئلة التي جاءت بخصوص الحلقات الثلاث السابقة.

سبب عدم وجود ثورات في الأندلس ضد المسلمين الفاتحين

سبب عدم وجود ثورات في الأندلس ضد المسلمين الفاتحين Q لماذا لم يثر أهل الأندلس على المسلمين الفاتحين في فترة عهد الفتح وأوائل عهد الولاة، مع أن الجيش الإسلامي الموجود في بلاد الأندلس كان (12) ألف مقاتل بقيادة طارق بن زياد رحمه الله، واستشهد منه ثلاثة آلاف مقاتل في موقعة وادي برباط، ثم استشهد ثلاثة آلاف آخرون في الطريق من وادي برباط إلى طليطلة، فوصل طارق بن زياد إلى طليطلة بستة آلاف فقط من الرجال. ثم عبر موسى بن نصير بثمانية عشر ألفاً من الرجال، وأصبح قوام الجيش الإسلامي كله في بلاد الأندلس (24) ألف مقاتل موزعين على كل مناطق الأندلس، والأندلس بلاد واسعة جداً، وتضم الآن أسبانيا والبرتغال، بل وفتح المسلمون بعض المناطق في جنوب فرنسا، فكان في كل مدينة من المدن حامية صغيرة جداً؟ فلماذا لم يثر أهل البلاد على المسلمين والطاقة الإسلامية في هذه البلاد قليلة، والجيش لا يقارن بعدد سكان المنطقة؟ A من العجب أن يثور أهل الأندلس، وليس من العجب ألا يثوروا. كان أهل الأندلس قبل دخول الإسلام يعيشون في ذل عميق، وفي ضنك شديد، تنهب أموالهم فلا يتكلمون، وتنتهك أعراضهم فلا يعترضون، يتنعم حكامهم بالقصور والثروات، وهم لا يجدون ما يسد الرمق، يباعون ويشترون مع الأرض التي زرعوها بكدهم، وأكل غيرهم ثمارها. أيثور شعب الأندلس من أجل هذا الذي أذاقه العذاب ألواناً؟ أيثور من أجل ظهور لذريق جديد أو غيطشة جديد أو ألفونسو جديد؟ إذا كان من فطرة الناس الطبيعية أنهم يحبون أوطانهم؛ لما فيها من ذكريات جميلة منذ الطفولة حتى الممات، لكن في بلاد الأندلس كانت الذكريات مليئة بالجوع والعطش والسياط والتعذيب والظلم والفساد والرشوة والجبروت والكبر والسرقة والنهب وما إلى ذلك من الأمور التي تكره الناس في حياتهم وأوطانهم. ثم إن البديل المطروح البديل هو الإسلام الذي دخل على أيدي هؤلاء الفاتحين، عندما تجد رجلاً يقول لك: تعال أعطك بدلاً من الظلم عدلاً ليس هبة مني، ولكنه حق مكتسب لك ولقومك ولأهلك ولأولادك ولذريتك من بعدك، لا فرق فيه بين حاكم ومحكوم إن حدثت لك أو عليك مظلمة، والقاضي لا يفرق بين مسلم ويهودي ونصراني في الحكم، فالدين لا يرفع من قيمة الأشخاص بقدر أموالهم، ولكن يرفع بقدر أعمالهم، والأعمال مفتوحة للجميع، للغني والفقير والحاكم والمحكوم، والحاكم في الإسلام لا يفرض الضرائب على الناس وإنما الزكاة إن كانوا من المسلمين، ومقدارها ربع العشر، أي: (2. 5%) في العام إن حال الحول على المال، ووجد نصاب الزكاة، والفقير المعدم لا يدفع شيئاً، بل يأخذ من بيت مال المسلمين، كيف يكون شعورك وأنت فقير معدم تدفع عشرين أو ثلاثين أو أربعين في المائة من مالك لحاكمك أو السلطان المتولي عليك، ثم تجد من يقول لك: ليس عليك أن تدفع من مالك للحاكم، بل هو لك ولأهلك ولعشيرتك إلى أن تغتني، ويكتمل الحول على مالك وكنت غنياً فتدفع الزكاة، أما إن كنت غير ذلك فستأخذ المال من بيت مال المسلمين. فالإسلام كان خلاصاً للشعوب، والناس في بلاد الأندلس لما رأوا هذا الإسلام تمسكوا به واعتنقوه اعتناقاً، ولم يرضوا عنه بديلاً، فكيف يحارب هؤلاء الناس من أجل من أذاقهم هذا العذاب السابق، ويضحون بهذا النعيم المقيم في الدنيا وفي الآخرة؟

سبب خوف الكفار أصحاب المصالح في الأندلس

سبب خوف الكفار أصحاب المصالح في الأندلس Q هل من المعقول أن أهل الأندلس جميعاً قد أعجبوا بهذا الدين ودخلوا في الإسلام راغبين، ولم يوجد فيهم رجل واحد يثور ويعترض ويحب ما كان له من السلطان والمصلحة؟ A نعم، كان هناك كثير من الرجال أصحاب المصالح، الذين كان لهم كثير من الأعوان، يريدون أن يثوروا على حكم الإسلام، ويحققوا المصالح السابقة التي كانت لهم، وإنما لم يثر هؤلاء القوم؛ لأن رب العالمين سبحانه وتعالى يقول: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13]، فالمجاهد المؤمن في الفتوحات الإسلامية كانت له رهبة في قلوب النصارى واليهود والمشركين بصفة عامة، والمؤمن يلقي الله عليه جلالاً، فيخافه القريب والبعيد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر). ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2]، هذا الرعب لم يكن متولداً عن بشاعة الحرب، ولا عن إجرام منقطع النظير، ولكن هو هبة ربانية لجنده ولأوليائه ولحزبه سبحانه وتعالى، بل على العكس من ذلك تماماً، كانت حرب الإسلام رحمة للناس، ففي صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يودع الجيوش كان يقول: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا -أي: تأخذوا من الغنيمة قبل قسمتها- ولا تغدروا -أي: في عهد مع المشركين- ولا تمثلوا -أي: ولا تمثلوا بجثة بعد أن تقتل- ولا تقتلوا وليداً) وفي رواية: (ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة). أين هذا من حروب غير المسلمين مع المسلمين؟ أين هذا من قتل مائتي ألف رجل من المدنيين في البوسنة والهرسك وفي كوسوفو؟ أين هذا من فعل الروس في الشيشان، والهنود في كشمير، واليهود في فلسطين؟! إذاً: كانت حروب المسلمين رحمة للناس، ولكن الله سبحانه وتعالى ألقى على أعدائهم رهبة ورعباً من المسلمين، لا لبشاعة في الحرب، ولكن لجلال ألقي على المسلمين، لذلك اعتنق الناس الإسلام اعتناقاً، حتى من لم يدخل في دين الإسلام من اليهود والنصارى، فقد سعدوا في ظل الإسلام سعادة وأي سعادة، قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، فقد تركت لهم كنائسهم، وكان لهم قضاء خاص بهم، ولم يفرق بين مسلم ونصراني أو يهودي في مظلمة. والعجب كل العجب أن يرفض هؤلاء الناس الإسلام وحكم الإسلام، وقد جاء من عند حكيم خبير، فهو سبحانه وتعالى يعلم ما يصلح عبيده وكونه وأرضه.

وجه تعلق الجيش الإسلامي في موقعة بلاط الشهداء بالغنائم ودخول العنصرية القبلية فيه

وجه تعلق الجيش الإسلامي في موقعة بلاط الشهداء بالغنائم ودخول العنصرية القبلية فيه Q كيف تعلق الجيش الإسلامي في موقعة بلاط الشهداء بالغنائم، وتحدث مشاكل عنصرية وقبلية فيه، مع أنهم من التابعين أو تابعي التابعين، وهم قريبو عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين؟ A قد حدث ذلك في غزوة أحد في السنة الثالثة للهجرة، وبلاط الشهداء كأنها أحد أخرى، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، هذه الآية نزلت في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقعة أحد، ألم يترك الرماة مواقعهم في موقعة أحد طلباً للغنيمة بعد أن أيقنوا بالنصر، ونزلوا وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً للغنيمة؟ قال عنهم ربهم سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، حتى إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كان يقول: ما كنت أحسب أن منا من يريد الدنيا حتى نزلت الآية: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران:152]. فهزم المسلمون بعد النصر، وهكذا أيضاً في بلاط الشهداء، فقد دخل المسلمون في أول يومين أو ثلاثة أيام من أيام المعركة وكان النصر حليفاً للمسلمين، ثم انقلبت المعركة لما التف النصارى حول غنائم المسلمين وأخذوها، فحدثت الانكسارة لجيش المسلمين ثم هزموا. {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران:152]، يقول ابن كثير على هذه الآية: أي: لم يستأصلكم في هذه الموقعة، بل أعطاكم الفرصة للقيام من جديد، وهكذا أيضاً في بلاط الشهداء لم يستأصل الجيش الإسلامي، ولكنه عاد وانسحب ليقوم من جديد، فبلاط الشهداء كأنها أحد بل أكثر من ذلك، ففي غزوة بدر بعد أن انتصر المسلمون على الكفار اختلفوا على الغنائم، وهم الرعيل الأول والجيل المصاحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سورة الأنفال بعد هذا النصر المجيد جاء تعظيم أمر الاختلاف على الغنائم، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]، وهذا كلام شديد جداً على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هكذا أمر النفس البشرية. إذاً: هذه عيوب موجودة في الناس. والدرس والعبرة من بلاط الشهداء ومن أحد وبدر تدارك الأمر بسرعة بعد المعركة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تدارك الأمر بسرعة بعد غزوة أحد، وحمس المسلمين وذكرهم بالآخرة حتى واصلوا المسير خلف الكفار إلى حمراء الأسد، وهكذا أيضاً في بلاط الشهداء قام رجل من جديد يحمس المسلمين هو عقبة بن الحجاج رحمه الله، لكن هذا لم يكن في أرض بواتييه، إنما كان بعد العودة إلى أرض الأندلس، لذلك لم تحدث موقعة مثل موقعة حمراء الأسد مباشرة بعد بلاط الشهداء، والسبب في اختلاف موقعة بلاط الشهداء عن غزوة أحد أن غالب جيش المسلمين في بلاط الشهداء كانت الدنيا والغنائم في قلوبهم، ولذلك لم يعودوا مباشرة كما عادوا في أحد، أما في أحد فقد قال عنهم ربهم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، ولما أشيع في غزوة أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، حدث الفرار والهزيمة والانكسار الكبير، وكذلك لما قتل عبد الرحمن الغافقي رحمه الله انسحب المسلمون من غزوة بلاط الشهداء. لذلك الشبه كبير جداً، والتكرار في التاريخ أمر طبيعي جداً، والهزائم شديدة الشبه، وعلى المسلمين أن يتعظوا ويعتبروا. أما ظهور العنصرية والقومية في ذلك الجيش، وفي ذلك الوقت المتقدم من الزمان، فإن العنصرية والقبلية قد ظهرت أيضاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلكم تذكرون الحادثة المشهورة بين أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه وبين بلال لما قال أبو ذر لـ بلال: يا ابن السوداء! فسبه بشيء في شكله ولونه، وغضب بلال رضي الله عنه وأرضاه، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وقال لـ أبي ذر: (يا أبا ذر! طف الصاع إنك امرؤ فيك جاهلية، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى)، هكذا صلى الله عليه وسلم أخذ يذكره بالتقوى، فاستجاب أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه لذلك، فوضع رأسه على التراب، وأصر على بلال رضي الله عنه وأرضاه أن يطأ وجهه بقدمه حتى يكفر عن خطاياه، لكن لم يفعل

حال المسلمين في الأندلس في آخر الفترة الأولى من عهد الولاة

حال المسلمين في الأندلس في آخر الفترة الأولى من عهد الولاة بعد موقعة بلاط الشهداء وانسحاب الجيش الإسلامي وعودته إلى الأندلس، قامت للمسلمين قائمة جديدة، فقد قام فيهم عقبة بن الحجاج السلولي رحمه الله، وتولى الولاية من سنة (116هـ) إلى سنة (123هـ)، وكان عقبة بن الحجاج السلولي رحمه الله آخر المجاهدين بحق في فترة عهد الولاة الأول، ولقد خير بين إمارة الشمال الإفريقي كله وبين إمارة الأندلس، فاختار إمارة الأندلس؛ لأنها الملاصقة لبلاد النصارى، فهي أرض جهاد، فاختار أرض الأندلس، وقاد المعارك في بلاد فرنسا في خلال سبع سنوات أكثر من سبع حملات، ثم كان ينزل إلى الأسرى بنفسه ويعلمهم الإسلام، حتى إنه أسلم على يديه ألفان من الأسرى بصورة مباشرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فكيف بألفين من الرجال الذين أسلموا على يد هذا المجاهد عقبة بن الحجاج السلولي رحمه الله؟! ثم استشهد في سنة (123هـ)، وباستشهاده انتهت الفترة الأولى من عهد الولاة.

حال المسلمين في الأندلس في الفترة الثانية من عهد الولاة

حال المسلمين في الأندلس في الفترة الثانية من عهد الولاة في الفترة الثانية من عهد الولاة من سنة (123هـ - 138هـ) يبدأ عهد جديد، وبذور هذه الفترة بدأت في موقعة بلاط الشهداء من حب للغنائم، ومن تفضيل للعنصرية والقبلية. وفي أول هذا العهد كانت الأموال كثيرة جداً، والغنائم ضخمة جداً، فقد فتحت الدنيا وكثرت الأموال، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)، فحين فتحت زهرة الدنيا على المسلمين وانخرطوا فيها تأثر الإيمان، وتبعاً لتأثر الإيمان ظهرت العنصرية بصورة كبيرة جداً، وحدثت انقسامات كثيرة في الأندلس، فحدثت انقسامات بين العرب والبربر، وهذه البذور كانت موجودة منذ بلاط الشهداء، ثم حدثت انقسامات بين العرب أنفسهم، فحدثت انقسامات بين المضريين والحجازيين، وحدثت انقسامات بين العدنانيين والقحطانيين، فالعدنانيون هم أهل الحجاز، والقحطانيون هم أهل اليمن، فكانت هناك حروب وخلافات وشقاقات كثيرة بين أهل اليمن وبين أهل الحجاز، ثم حدثت انقسامات أخرى بين أهل الحجاز أنفسهم، أي: بين الفهريين والأمويين، وبين بني قيس وبني ساعدة، وهكذا انقسم أهل الحجاز أنفسهم بعضهم على بعض، وكخطوة لاحقة لأمر حب الدنيا وظهور العصبية ظهر أمر جديد وهو تولي ولاة ظلموا الناس، وألهبوا ظهورهم بالسياط. فهذه تداعيات يوصل بعضها إلى بعض، فظهر على سبيل المثال رجل اسمه عبد الملك بن قطن، ملأ الأرض ظلماً وجوراً، فقسم الناس بحسب العنصرية والقبلية، وأذاق الآخرين ألواناً من العذاب، ولم يعط من الغنائم للبربر، ولم يعط لغير المضريين، فانقسم الناس عليه وانقلبوا، وظهر يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وتولى الحكم من سنة (130 هـ - 138هـ) يعني: آخر ثمان سنوات في عهد الولاة، فانفصل بالكلية عن الخلافة الأموية، وادعى أن الإمارة في الأندلس إمارة مستقلة، وأذاق الناس العذاب ألواناً، فحدثت انكسارات كثيرة جداً، وثورات عديدة في أرض الأندلس، وتفككت إلى أكثر من عشرين أو ثلاثين ثورة في داخل بلاد الأندلس. وسبحان الله! فقد كنت منذ قليل أتحدث عن الانتصارات الإسلامية والتاريخ المجيد، وفتح الأندلس وفرنسا، ثم ها هي العنصرية وها هو ظلم الولاة يسلم الناس إلى هذه الثورات، وكرد فعل طبيعي جداً ترك الناس الجهاد، وتوقفت الفتوحات في فرنسا، وتوقفت الحروب ضد النصارى في الشمال الغربي في منطقة الصخرة، والتي كان فيها مجموعة من النصارى متمركزين منذ الفتح الأول لبلاد الأندلس، وهذه قاعدة وسنة من سنن الله سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا). وجاء في حديث أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). وهكذا لما ترك المسلمون الجهاد سلط الله عليهم ذلاً، فانقسموا على أنفسهم وانشغلوا بأنفسهم، وتركوا الجهاد في فرنسا، والأندلس. وباختصار شديد فإن خلاصة النصف الثاني من عهد الولاة، ونظراً لتفاعل أمور الدنيا والقبلية وظلم الولاة وترك الجهاد كان الوضع في سنة (138هـ) كما يلي: أولاً: فقدان كل الأراضي الإسلامية في فرنسا باستثناء مقاطعة سبتمانيا، والتي فتحت بسرية من سرايا موسى بن نصير أول الفتح. ثانياً: ظهور مملكة نصرانية اسمها مملكة ليون في المنطقة الشمالية الغربية عند منطقة الصخرة. ثالثاً: ظهور يوسف بن عبد الله الفهري الذي أعلن انفصال الأندلس عن الخلافة العباسية القائمة في ذلك الوقت. رابعاً: انقسام الأندلس إلى فرق عديدة متناحرة وثورات لا نهائية، كل يريد التملك والتقسيم بحسب العنصر والقبيلة. خامساً: ظهور فكر الخوارج عن طريق الذين جاءوا من الشام، وانضم إليهم البربر، فالبربر كانوا يعانون من الظلم الشديد من يوسف بن عبد الرحمن الفهري؛ بسبب العنصرية بين العرب والبربر، فاضطروا إلى اتباع هذا الفكر الخارج عن المنهج الإسلامي الصحيح، فأجمع المؤرخون نتيجة هذه العوامل جميعاً أن الإسلام بالفعل كاد أن ينتهي من الأندلس، وذلك في عام (138هـ).

قصة دخول عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس

قصة دخول عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس مما زاد من خطورة الموقف الحدث الجسيم الذي حدث في الأمة الإسلامية في سنة (132هـ) وهو سقوط الخلافة الأموية وقيام الخلافة العباسية، وكان قيام الخلافة العباسية قياماً دموياً رهيباً، وانشغل العباسيون بحرب الأمويين، وضاعت قضية الأندلس تماماً من الأذهان، وهكذا أصبح أمر الأندلس يحتاج إلى معجزة حتى ينصلح الحال، ومن فضل الله ومنّه وجوده وكرمه على المسلمين أن حدثت المعجزة بالفعل في ذي الحجة من سنة (138هـ)، والتي منّ الله بها على المسلمين، وهي دخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك رحمه الله إلى أرض الأندلس. لقد دخل إلى أرض الأندلس حين سقوط خلافة بني أمية سنة (132هـ) كما ذكرنا، فقد حدث في ذلك العام قتل لكل مرشحي الخلافة من الأمراء وأبنائهم وأحفادهم من قبل العباسيين إلا قليلاً، ومن هؤلاء القليل عبد الرحمن بن معاوية حفيد هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي المشهور، الذي حكم من سنة (105هـ - 125هـ)، كان عمر عبد الرحمن بن معاوية في ذلك الوقت 19 سنة فقط، وكان يعيش في منطقة العراق، وكان لديه أخ صغير يبلغ من العمر (13) سنة، وكان عبد الرحمن بن معاوية وأخوه الوليد بن معاوية مطلوبين للقتل. وفي يوم من الأيام يجلس عبد الرحمن بن معاوية في بيته في العراق، فدخل عليه ابنه وكان عمره أربع سنوات، وهو يبكي فزعاً وكان عبد الرحمن بن معاوية في عينه رمد، وكان معتزلاً في غرفة داخل البيت، فأبعد الطفل عنه وأخذ يسكنه فلم يسكن الطفل بما يسكن به الأطفال، ولكنه ظل فزعاً مرعوباً، فقام معه عبد الرحمن بن معاوية فوجد في خارج البيت رايات الدولة العباسية السود تعم القرية جميعاً، فعلم أنه مطلوب، فأخذ معه النقود وأخذ الوليد بن معاوية، وترك النساء والأطفال وكل شيء وراء ظهره؛ لأن العباسيين لم يقتلوا نساء ولا أطفالاً، إنما كانوا يقتلون كل من بلغ وكان مؤهلاً للخلافة، ثم هرب عبد الرحمن بن معاوية وأخوه حتى وصلا إلى نهر الفرات، فوجدوا القوات العباسية تحاصر النهر، فألقيا بأنفسهما في النهر وأخذا يسبحان، فناداهما العباسيون أن ارجعا ولكما الأمان، فـ الوليد بن معاوية أخو عبد الرحمن بن معاوية كان قد تعب من السباحة في نهر الفرات، فقال له عبد الرحمن بن معاوية: لا تعد يا أخي! أخشى أن يقتلوك، فقال: قد أعطونا الأمان، فعاد إليهم، فأمسك به العباسيون وقتلوه أمام أخيه عبد الرحمن بن معاوية، فعبر عبد الرحمن بن معاوية النهر وهو لا يستطيع أن يتكلم أو يفكر من شدة الحزن، ثم اتجه نحو المغرب إلى بلاد القيروان؛ لأن أخواله كانوا من البربر، فهرب إلى أخواله، وقصة هروبه طويلة جداً، فقد عبر بلاد الحجاز ومصر ثم ليبيا ثم القيروان، ولما وصل إلى القيروان وهو يبلغ من العمر (19) عاماً، وجد هناك ثورة كبيرة جداً للخوارج على رأسها عبد الرحمن بن حبيب في الشمال الإفريقي كله، وقد استقل بالشمال الإفريقي عن الدولة العباسية التي قامت في سنة (132هـ)، وكان عبد الرحمن بن حبيب أيضاً يسعى للقضاء على عبد الرحمن بن معاوية؛ لأن هناك كراهية شديدة بين الخوارج وبين الأمويين، لأن أصل ظهور الخوارج هو خلاف بين سيدنا علي بن أبي طالب وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما؛ لأن علي بن أبي طالب ارتضى أن يحكم كتاب الله سبحانه وتعالى بينه وبين معاوية بن أبي سفيان في موقعة صفين المشهورة، فظهر فكر الخوارج من ساعتها، فهم يكرهون بني أمية بشدة، فبمجرد أن وصل عبد الرحمن بن معاوية إلى القيروان اجتمع عليه الخوارج وكادوا أن يقتلوه، فهرب من جديد إلى برقة في ليبيا، ومكث هناك أربع سنوات كاملة مختبئاً عند بعض أخواله، حتى سنة (136هـ)، وكان عمره آنذاك (23) سنة، فجلس يفكر: ماذا أعمل؟ هل أظل مختفياً طيلة العمر، أم ظهر من جديد؟ وإن ظهر في أي قطر من أقطار المسلمين فهو مطلوب الرأس، إن ظهر في الشام قتله العباسيون، وإن ظهر في الشمال الإفريقي قتله عبد الرحمن بن حبيب. أيظل مختبئاً في مكانه وهو سليل الخلفاء والأمراء؟! أيظل مختبئاً في مكانه والأمويون في كل مكان يقتلون ويذبحون إن عرف بمكانهم، أم يحاول أن يقيم للأمويين مجداً من جديد؟!

أسباب اختيار عبد الرحمن بن معاوية لبلاد الأندلس

أسباب اختيار عبد الرحمن بن معاوية لبلاد الأندلس لقد خطر في ذهن عبد الرحمن بن معاوية أن يذهب إلى الأندلس، لأنها أصلح الأماكن لاستقباله وذلك لعدة أسباب: أولاً: أن الأندلس أبعد رقعة في بلاد المسلمين عن الدولة العباسية. ثانياً: أنه يفصل بين الأندلس وبين العباسيين مضيق جبل طارق والبحر الأبيض المتوسط، وهي في قارة مختلفة تماماً، فمن الصعب أن يصل إليها العباسيون إلا بعد فترة من الزمان. ثالثاً: أن الوضع في الأندلس ملتهب جداً، وقد تحدثنا عنه في الفترة الثانية من عهد الولاة، وهي الفترة التي هرب فيها عبد الرحمن بن معاوية إلى برقة في ليبيا، ففي هذه الفترة كانت ثورات كبيرة جداً في أرض الأندلس، وخلافات كبيرة جداً بين كل القبائل، والناس تكره بشدة يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي يحكم هذه البلاد مستقلاً بها عن الدولة الأموية ثم عن الدولة العباسية بعد قيام الدولة العباسية، ثم ظهرت مملكة ليون في الشمال، وهي أيضاً تحارب المسلمين، ثم ظهر الخوارج في الشمال الإفريقي وهم يحاربون الأندلس، وهكذا أصبحت أرض الأندلس أرضاً ملتهبة تماماً، وفي هذا الجو استطاع عبد الرحمن بن معاوية أن يدخل هذه البلاد، فلو كانت البلاد تبايع الخلافة العباسية أو الخوارج ما استطاع أن يدخلها. إذاً: الأندلس أنسب الأماكن لاستقبال عبد الرحمن بن معاوية على وعورتها.

خطة عبد الرحمن بن معاوية لدخول الأندلس

خطة عبد الرحمن بن معاوية لدخول الأندلس بدأ عبد الرحمن بن معاوية يخطط لدخول الأندلس في سنة (136هـ) بما يلي: أولاً: أرسل مولاه بدر إلى الأندلس لدراسة الموقف، ومعرفة القوى المؤثرة في الحكم في بلاد الأندلس. ثانياً: راسل كل محبي الدولة الأموية في أرض الأندلس عن طريق مولاه بدر. والحق أن كثيراً من الناس كانوا يحبون الدولة الأموية منذ عهد ولاية معاوية بن أبي سفيان على الشام في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب، وخلافة عثمان بن عفان وخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، فقد كان أهل الشام جميعاً، وكان المسلمون في أقطار العالم الإسلامي المختلفة يحبون بني أمية حباً شديداً على مر العصور، فقد اشتهر بنو أمية بالسخاء الشديد، والسياسة والحكمة واكتساب الناس، وحسن معاملتهم والجهاد في سبيل الله، ونشر الدين، وفتح البلاد وما إلى ذلك من الأمور، فكان لبني أمية في داخل بلاد الأندلس كثير من المريدين والمحبين من القبائل الأخرى المختلفة. ثالثاً: في ذكاء شديد راسل البربر يطلب معونتهم ومساعدتهم. وقد كان البربر على خلاف كبير جداً مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري؛ لأنه فرق بين العرب والبربر، فالبربر يريدون أن يتخلصوا من حكم يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي عاملهم بهذه العنصرية. رابعاً: بدأ يراسل كل الأمويين في الحجاز وفي مصر وفي السودان وفي أماكن كثيرة جداً من الأرض التي هربوا إليها، ويعرض عليهم فكرته، وأنه يعزم على دخول بلاد الأندلس، ويطلب معونتهم ومددهم وهكذا بدأ يجمع الناس ويجمع الأفكار معه لتنفيذ فكرة عجيبة جداً، وهي أن يدخل وهو وحيد بمفرده مستصحباً لعزمه فقط إلى أرض الأندلس، وهذا أمر في منتهى الغرابة جداً، وهذا كان في سنة (136هـ) وكان قد بلغ من العمر (23) عاماً. وبالفعل بدأ في تجميع الأعوان حتى سنة (138هـ) أي: أن مدة التجميع استغرقت سنتين. وفي سنة (138هـ) يأتي له رسول من عند مولاه بدر من الأندلس يقول له: إن الوضع قد تجهز لاستقبالك هناك في بلاد الأندلس، فيقول له: ما اسمك؟ فيقول: اسمي غالب التميمي، فاستبشر باسمه فقال: الحمد لله! غلبنا وتم أمرنا. وبدأ يعد العدة ويجهز السفينة التي تأخذه منفرداً إلى بلاد الأندلس، فركب السفينة ونزل على ساحل الأندلس بمفرده، فاستقبله مولاه بدر، وانطلق معه إلى قرطبة، وكان يحكم هذه البلاد في هذه الآونة يوسف بن عبد الرحمن الفهري.

موقعة المسارة بين عبد الرحمن بن معاوية ويوسف بن عبد الرحمن الفهري

موقعة المسارة بين عبد الرحمن بن معاوية ويوسف بن عبد الرحمن الفهري لما دخل عبد الرحمن بن معاوية أخذ في تجميع الناس من حوله من محبي الدولة الأموية من البربر وكثير من القبائل المعارضة لـ يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وقد جاءه بعض الأمويين من بقاع الأرض المختلفة، ومع ذلك لم يكن العدد كافياً يستطيع به أن يغير من الأوضاع، ففكر في اليمنيين؛ لأنهم كانوا على خلاف مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري، فـ يوسف بن عبد الرحمن الفهري من مضر من الحجاز، وعبد الرحمن بن معاوية أيضاً من مضر من بني أمية، أي: أن كلاهما من الحجاز. فبدأ يراسل اليمنيين، فقبلوا أن يتحدوا مع عبد الرحمن بن معاوية، وكان على رئاسة اليمنيين في ذلك الوقت أبو الصباح اليحصبي، وكان المقر الرئيسي لهم إشبيلية، وكانت إشبيلية مدينة كبيرة جداً من حواضر الإسلام في ذلك الوقت، فذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى إشبيلية، واجتمع طويلاً مع أبي الصباح اليحصبي، واتفقا على أن يقاتلا سوياً ضد يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وقبل القتال أرسل عبد الرحمن بن معاوية رسائل إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري يطلب وده، ويطلب منه أن يسلِّم له الإمارة؛ لأنه حفيد هشام بن عبد الملك أصل الخلافة الأموية، ويكون رجلاً من رجاله في بلاد الأندلس، ولكن يوسف بن عبد الرحمن الفهري رفض ذلك كلياً، وجمع جيشاً له، وجاء ليحارب عبد الرحمن بن معاوية، فاجتمع عبد الرحمن بن معاوية مع اليمنيين ومن معه من القبائل المختلفة في حرب يوسف بن عبد الرحمن الفهري وذلك في موقعة كبيرة عرفت في التاريخ باسم موقعة المسارة، وفي لفظ: موقعة المصارة، (بالسين أو بالصاد)، وقد كان هذا في ذي الحجة سنة (138هـ). وكان من المؤسف جداً أن يلتقي المسلمون بسيوفهم، لكن كثرة الثورات والفتن والانقلابات جعل الحل العسكري والحل بالسيف هو الحل الحتمي في ذلك الوقت. دارت موقعة كبيرة بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري ومعه جيش كبير، وجيش عبد الرحمن بن معاوية ويعتمد في الأساس على اليمنيين، فسمع أبو الصباح اليحصبي بعض المقالات من اليمنيين أن عبد الرحمن بن معاوية غريب على البلاد، وهو على فرس أشهب وعظيم، وإن حدثت هزيمة هرب من ساحة القتال وتركنا للفهريين، فبلغ عبد الرحمن بن معاوية هذا الكلام، وكان عمره آنذاك (25) عاماً، فذهب بنفسه إلى أبي الصباح اليحصبي وقال له: إن هذا الجواد سريع الحركة ولا يمكنني من الرمي، فإن أردت أن تأخذه وتعطيني بغلتك فعلت، فأعطى الجواد السريع إليه وأخذ البغلة يقاتل عليها، فقال اليمنيون: هذا ليس بمسلك رجل يريد الهرب، هذا رجل يريد أن يموت في ساحة المعركة، فبقي معه اليمنيون وقاتلوا قتالاً شديداً، ودارت موقعة عظيمة جداً، وانتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية ومن معه، وهزم يوسف بن عبد الرحمن الفهري من أرض المعركة بجيشه الكبير، وفر يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكعادة الناس في ذلك الزمن أن يتابع المنتصرون المنهزمين حتى يقتلوهم ويقضوا على الثورة، فبدأ اليمنيون يجهزون أنفسهم حتى يتتبعوا الجيش الفار، لكن عبد الرحمن بن معاوية يقف لهم ويمنعهم من تتبع الفارين ويقول قولة خالدة: لا تتبعوهم، اتركوهم، لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوة منهم. يقصد أن يستبقوهم للنصارى، فإن الموقعة الرئيسية ستكون مع النصارى، فإن هؤلاء الذين قاتلوننا في يوم من الأيام سيصبحون من جنودنا، وسيصبحون أعواننا على غيرنا من النصارى في ليون وفي فرنسا وما إلى ذلك. كان عنده فكر واسع وجديد جداً، ونظرة متسعة تشمل كل بلاد الأندلس، وتشمل كل أوروبا، بل وفي نظري أنه ينوي إعادة بلاد الشام بعد ذلك إلى أملاك الأمويين، وقد امتاز في حربه ضد يوسف بن عبد الرحمن الفهري بما يلي: أولاً: ليس في قلبه غل ولا حقد على من كان حريصاً على قتله منذ دقائق معدودات. ثانياً: الفهم العميق للعدو الحقيقي وهم النصارى في الشمال. ثالثاً: إذا جاز له شرعاً أن يقاتلهم لتجميع الناس حول راية واحدة، فلا يجوز له شرعاً أن يتتبعهم وأن يقتل الفار منهم، أو يجهز على جريحهم، أو يقتل أسيرهم؛ لأن حكمهم حكم الباغين في الإسلام، وليس لهم حكم المشركين، والباغي في الإسلام لا يتتبع الفار منه، ولا يقتل أسيره، ولا يجهز على جريحه، بل ولا تؤخذ منه الغنائم وهكذا، فقد كان عنده فقه وعلم وسعة اطلاع وفهم عميق جداً، وهو لم يبلغ من العمر إلا خمسة وعشرين سنة. وبعد انتهاء موقعة المسارة، قام أبو الصباح اليحصبي في قومه من اليمنيين وقال: الآن قد انتصرنا على يوسف بن عبد الرحمن الف

موقف العباسيين من الإمارة الأموية بالأندلس

موقف العباسيين من الإمارة الأموية بالأندلس لن نستفيض في شرح الثورات ضد عبد الرحمن الداخل وماذا حصل في كل ثورة؟ فالكتب فيها تفصيلات كثيرة، لكن أقف عند ثورة واحدة لأهميتها في فهم هذا الانفصال الذي حصل للأندلس عن الخلافة العباسية، هذه الثورة حدثت في سنة (146هـ)، أي: بعد حوالي ثمان سنوات من استلام عبد الرحمن بن معاوية للحكم في بلاد الأندلس، قام بها رجل اسمه العلاء بن مغيث الحضرمي، أرسله أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي كي يقتل عبد الرحمن بن معاوية ويضم الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية، وهذا بالنسبة لـ أبي جعفر المنصور أمر طبيعي، يريد أن يضم بلاد الأندلس؛ لأنها البلاد الوحيدة من بلاد المسلمين التي هي منشقة عن الخلافة العباسية الكبيرة. جاء العلاء بن المغيث الحضرمي من بلاد المغرب العربي، وعبر إلى الأندلس، وقام فيها بثورة ينادي بدعوة العباسيين، ويرفع الراية السوداء التي أرسلها الخليفة أبو جعفر المنصور الذي يعتبر الخليفة العباسي الثاني، أو المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية بعد أبي العباس السفاح. دارت حرب كبيرة بين العلاء بن مغيث الحضرمي وبين عبد الرحمن بن معاوية، انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية، ووصلت الأنباء إلى أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي أن العلاء بن المغيث الحضرمي قد قتل، وأن جيشه قد هزم هزيمة منكرة، فقال أبو جعفر المنصور: قتلنا هذا البائس، بتكليفه بحرب عبد الرحمن بن معاوية، ثم قال: ما لنا في هذا الفتى من مطمح، ويقصد به عبد الرحمن بن معاوية، وليس لنا أمل في حربه، والحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر. ومنذ هذه اللحظة والدولة العباسية لم تفكر ولا مرة واحدة في استعادة بلاد الأندلس، بل إن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي هو الذي سمى عبد الرحمن بن معاوية بـ صقر قريش، وقد اشتهر في التاريخ بـ صقر قريش، كان أبو جعفر المنصور جالساً مع أصحابه فسألهم: أتدرون من هو صقر قريش؟ فقالوا له: أنت، فقال: لا. فعددوا له أسماء حتى ذكروا له معاوية وعبد الملك بن مروان وأسماء من بني أمية. فقال: لا، بل عبد الرحمن بن معاوية، دخل الأندلس منفرداً بنفسه مؤيداً برأيه مستصحباً لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلداً أعجمياً، فجمع الأنصار وجند الأجناد، وأقام ملكاً بحسن تدبيره وشدة عزمه. هكذا كان أبو جعفر المنصور معجباً بـ عبد الرحمن بن معاوية، لكنه إعجاب اضطرار، لا بد أن في نفوسنا وفي نفوس جميع المسلمين أشياء وأشياء على هذا الانفصال الطويل بين دولة الأندلس وبين الخلافة العباسية على مر العصور، لماذا يحارب عبد الرحمن بن معاوية الرجل الورع التقي الزاهد الذي أقام دولة قوية جداً في بلاد الأندلس؟ ولماذا ينفصل عن الخلافة العباسية؟ والتحليل الصادق هو أن الدولة العباسية هي التي أخطأت خطأ فاحشاً في حق الأمويين بقتلهم، وتتبعهم في البلاد بهذه الصورة الوحشية، إذا كان الأمويون في آخر عهدهم قد فسدوا واستحقوا الاستبدال، فليكن هذا الاستبدال، ولكن على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من المفترض أن تحتوي الدولة العباسية هذه الطاقات الأموية وتوظفها لخدمة الإسلام والمسلمين، بدلاً من إجبارهم على خلق جيب من الجيوب في صقع بعيد من أصقاع البلاد الإسلامية في الأندلس أو غيرها من بلاد المسلمين، وكان من المفترض ألا تفرط في قتل المسلمين من بني أمية، وهي تعلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) كما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ما المانع أن تقيم الحد على من يستحق أن يقتل من بني أمية، ثم تترك وتستوعب الآخرين؟! ما المانع أن تعطي بني أمية بعضاً من الملك، كإمارة مدينة أو إمارة ولاية، فقد كانوا خلفاء وأبناء الخلفاء، حتى يستوعبوهم في داخل الصف؟ انظر إلى عبد الرحمن الداخل في موقعة المسارة وهو يقول للناس: اتركوهم لا تتبعوهم؛ لأنه كان يريد أن يضمهم إلى جيشه بعد ذلك، هكذا كان يجب على العباسيين أن يتركوا الأمويين تحت عباءتهم، حتى يستطيعوا أن يكونوا جنداً لهم، تخيل أن شخصاً مثل عبد الرحمن بن معاوية بهذا الفكر وهذا النضوج وهذا الجهاد يكون عوناً للخلافة العباسية، لكنه أصبح ضد الخلافة العباسية؛ بسبب هذا القتل المفرط من الدولة العباسية في بدء نشأتها، بل انظر إلى المثل الأعلى والقدوة ال

الإمارة الأموية

سلسلة الأندلس_الإمارة الأموية أقام عبد الرحمن الداخل إمارة أموية في بلاد الأندلس إبان الخلافة العباسية، واهتم بها اهتماماً بالغاً دينياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وقد استمر حكم بني أمية لبلاد الأندلس برهة من الزمن، ومر بمراحل قوة وضعف، وكان لكل مرحلة أسبابها.

موقف عبد الرحمن الداخل من الثوار في الأندلس

موقف عبد الرحمن الداخل من الثوار في الأندلس أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فمع صفحة جديدة من صفحات التاريخ الإسلامي والحلقة الخامسة من حلقات الأندلس: من الفتح إلى السقوط. ذكرنا فيما سبق كيف دخل عبد الرحمن الداخل رحمه الله أرض الأندلس، وكيف سيطر على الموقف هناك، وضم إليه جميع القبائل، كذلك سيطر على جميع الثورات، وأقام ملكاً لبني أمية في أرض الأندلس، بعد قصة فرار طويلة من العباسيين، ومن الخوارج في المغرب. ما زالت هناك بعض التعليقات على موقف عبد الرحمن الداخل رحمه الله من الثائرين، هل يجوز له أن يحارب الثائرين وإن كانوا من المسلمين؟ ف A أن موقفه سليم جداً في حرب الثائرين داخل أرض الأندلس؛ لأن جميع أهل الأندلس قد أجمعوا على أن يكون أميراً للبلاد، ودليل ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عرفجة رضي الله عنه في صحيح مسلم يقول: (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، فأراد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم، فاضربوا رأسه بالسيف كائناً من كان)، فلذلك كان موقف عبد الرحمن الداخل رحمه الله صارماً مع من أراد الثورة؛ ليقمع هذه الانقلابات المتكررة في أرض الأندلس في ذلك الزمن، لكن من الإنصاف أن نذكر أنه كان رحمه الله يبدأ دائماً بالصلح، وبالاستمالة إلى السلم، ويكره الحرب إلا إذا كان مضطراً رحمه الله، والثورات التي حدثت في بدء ولاية عبد الرحمن الداخل رحمه الله كان ثمنها غالياً في بداية دخوله، وفي أول أربع سنوات من دخوله من سنة (138) إلى سنة (142) من الهجرة سقطت كل مدن المسلمين في فرنسا، بعد أن حكمت بالإسلام مدة (47) سنة متصلة، منذ أيام موسى بن نصير وحتى هذه اللحظات، فإن من سنن الله الثوابت أنه إذا انشغل المسلمون بأنفسهم كانت الهزيمة أمراً حتمياً.

أعمال عبد الرحمن الداخل في الأندلس بعد قمعه للثورات

أعمال عبد الرحمن الداخل في الأندلس بعد قمعه للثورات لما دخل عبد الرحمن الداخل رحمه الله أرض الأندلس وقمع هذه الثورات بدأ يفكر فيما هو بعد ذلك. أولاً: اهتم بالأمور الداخلية في أرض الأندلس اهتماماً كبيراً جداً، فبدأ بإنشاء جيش قوي، واعتمد فيه على ما يلي: أولاً: اعتمد على أهل البلاد الملقبين بالمولدين؛ فإن عموم أهل الأندلس كانوا من أهل الأندلس الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام وأحبوا عقيدته، فـ عبد الرحمن الداخل لما رأى أن غالب الشعب من أهل الأندلس أنفسهم اعتمد في جيشه عليهم. ثانياً: اعتمد في جيشه على كل الفصائل والقبائل الموجودة في أرض الأندلس، وضم إليه كل الفصائل المضرية سواء من بني أمية أو من غير بني أمية، كما ضم إليه كل فصائل البربر، وهم قبائل كثيرة جداً، وكان يضم رءوس القوم حتى يؤثروا في أقوامهم، بل إنه ضم إليه اليمانية، مع علمه أن أبا الصباح اليحصبي يدبر له مكيدة، وصبر عليهم صبراً طويلاً حتى تمكن من الأمور تماماً، ثم تخلص منه بعد (11) سنة كاملة من توليه الحكم في البلاد. وكان في جيش عبد الرحمن الداخل رحمه الله الصقالبة، وهم أطفال نصارى اشتراهم عبد الرحمن الداخل من أوروبا ورباهم تربية إسلامية عسكرية صحيحة منذ أن اشتراهم، وليس في أفكارهم أي فكر أو اتجاه معين أو دين معين، فرباهم على الإسلام التربية الكاملة الشاملة، من حيث صحة العقيدة وصحة العبادات وصحة الفهم، والجهاد في سبيل الله، لذلك كان هؤلاء عماد الجيش عند عبد الرحمن الداخل ومن جاء بعده من خلفاء وأمراء بني أمية. وصل تعداد الجيش الإسلامي في أواخر عهد عبد الرحمن الداخل رحمه الله إلى مائة ألف فارس غير الرجالة، فهذا جيش ضخم جداً، على الرغم من أنه دخل البلاد وحيداً. ثالثاً: اهتم عبد الرحمن الداخل رحمه الله اهتماماً كبيراً بالجانب الديني ونشر العلم وتوقير العلماء، واهتم بالقضاء وبالحسبة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أعظم أعماله أنه بنى مسجد قرطبة الكبير، وأنفق على بنائه ثمانين ألفاً من الدنانير الذهبية، وتنافس الخلفاء من بعده في زيادة حجمه حتى اكتمل بناؤه على مدى عهد ثمانية من خلفاء بني أمية. رابعاً: اهتم كثيراً بالإنشاء والتعمير وبناء الحصون والقلاع والقناطر، وربط أول الأندلس بآخرها؛ وأنشأ أول دار لسك النقود الإسلامية في الأندلس، وأنشأ الرصافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وأنشأها على غرار الرصافة التي كانت موجودة في الشام، والتي أنشأها جده هشام بن عبد الملك رحمه الله، وأتى لها بالثمار العجيبة من كل بلاد العالم، فإن نجحت زراعتها فإنها ما تلبث أن تنتشر في بلاد الأندلس جميعاً. خامساً: كان عبد الرحمن الداخل رحمه الله يعلم أن الخطر الحقيقي من قبل دولة ليون في الشمال الغربي من بلاد الأندلس، وفرنسا في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فبدأ هذا الرجل العجيب في تنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشاً ثابتة في هذه الثغور الملاقية لهذه البلاد النصرانية، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأعلى، وهو ثغر سرقسطة في الشمال الشرقي مواجهاً لفرنسا، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأوسط، ويشمل مدينة سالم ويمتد حتى طليطلة، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأدنى، وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة ليون النصرانية. وكانت له عادة عظيمة جداً تعلمها من أجداده وآبائه في بلاد الشام، وهي عادة الجهاد المستمر بصورة منتظمة ودائمة في كل عام، حيث كانوا يجاهدون في الصيف حين يذوب الجليد، وكانت الجيوش تسمى الصوائف، كانت تخرج إلى الشمال كل عام لهدف الإرباك الدائم للعدو، وهذا ما يسمونه الآن في العلوم العسكرية بالهجوم الإجهاضي المسبق. وقد جعل الصوائف أمراً ثابتاً يتناوب عليه كبار قواد الجيش كل عام. سادساً: كان رحمه الله كبير الاهتمام بالجيش، فقد كان يقسم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم يعطيه بكامله للجيش، والقسم الثاني: لأمور الدولة العامة، من مؤن ومعمار ومرتبات ومشاريع وغير ذلك، والقسم الثالث: يدخره لنوائب الزمان غير المتوقعة. اهتم عبد الرحمن الداخل رحمه الله أيضاً بإنشاء دور الأسلحة؛ فأنشأ مصانع للسيوف، وللمنجنيق، وأشهرها مصانع طليطلة وبرديل. سابعاً: اهتم أيضاً رحمه الله بإنشاء أسطول بحري قوي، وإنشاء أكثر من ميناء، وفي عهده تم إنشاء ميناء طرطوشة وألمارية وإشبيلية وبرشلونة وغيرها من الموانئ. يقول المؤرخون: لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية.

صفات عبد الرحمن الداخل ورجاحة عقله

صفات عبد الرحمن الداخل ورجاحة عقله ذكر ابن حيان الأندلسي في وصف عبد الرحمن الداخل قال: كان عبد الرحمن الداخل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئاً من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدة، قليل الطمأنينة، بليغاً مفوهاً، شاعراً محسناً، سمحاً سخياً، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة من وليه وعدوه، وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها، ويصلي بالناس إذا كان حاضراً الجمعة والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى، فهو مثال رائع للقائد المسلم، فإنه مع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه رحمه الله. وهذه حياة المؤمنين الصادقين؛ فأعمال الخير دائماً أكثر من الأوقات، وقد يتعجب المرء أحياناً لما يجد شباباً في سن عبد الرحمن الداخل أو رجالاً أكبر من عبد الرحمن الداخل يقضون الساعات الطويلة أمام شاشات التلفاز وفي المقاهي والنوادي في غير مصلحة لا له ولا للمسلمين، وأتعجب أين وقت التعلم والتفكر في الدين والدنيا؟ أين وقت الصلاة والقيام والذكر والقرآن؟ أين وقت عيادة المرضى وشهود الجنائز وصلة الأرحام وبر الوالدين؟ أين وقت خدمة الناس والقيام على مصالحهم؟ أين وقت تتبع أخبار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ فـ عبد الرحمن الداخل كانت همومه عظيمة، ومع ذلك كان يقوم بكل هذا، ولو وكل أحداً ما لامه أحد، وكان مع شدته وحزمه وجهاده وقوته شاعراً محسناً رقيقاً مرهف المشاعر، ومع كونه ذا هيبة عظيمة عند أوليائه وأعدائه، فإنه يتبسط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويصلي بهم ومعهم، ومع كونه قليل الطمأنينة، وشديد الحذر لا يمنعه ذلك من الاختلاط بالناس، ومن السير في وسطهم دون حراس يعزلونه عن الشعوب، وكيف يمتنع من شعبه وهو المحبوب بينهم المقرب إلى قلوبهم؟ حتى خاطبه مقربوه في ذلك، وأشاروا عليه ألا يخرج وسط الناس كثيراً حتى لا يتبسطوا معه، لكنه تذكر عمر بن الخطاب حينما قال فيه القائل: حكمت فعدلت، فأمنت فنمت يا عمر انظر إلى همته وقد أتى مطارداً مشرداً مطلوب الرأس تجري وراءه قوى الأرض جميعاً من عباسيين في المشرق وخوارج في المغرب، ونصارى في الشمال وثورات في الداخل، فإذا به يؤسس هذا البنيات القوي المتين، وهذه الدولة العظيمة ذات المجد التليد. وكان رحمه الله يحافظ على شعور الناس جميعاً، يحكى أنه طلب منه أحد الناس أمراً أمام الناس، فقضاه له، ثم قال له: وإذا ألم بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك؛ كيما نستر عليك؛ وذلك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عز وجهه بإخلاص الدعاء وصدق النية. فكان يربي الناس على أن يرفعوا حاجتهم في البداية لرب العالمين سبحانه وتعالى، ويربيهم أن الله سبحانه وتعالى يملكهم جميعاً. وكان يأمرهم بأن ترفع الحاجة إليه في رقعة، حتى يستر عليه حاجته، ولا يشمت فيه أعداؤه. دخل عليه أحد الجنود في يوم انتصارهم على النصارى، فتحدث معه الجندي بأسلوب فيه إساءة أدب وفيه رفع صوت، فأخذ عبد الرحمن الداخل يعلمه، فقال له: يا هذا! إني أعلمك من جهل، إنه يشفع لك في هذا الموقف هذا النصر الذي نحن فيه، عليك بالسكينة والوقار، فإني أخاف أن تسيء الأدب في يوم ليس فيه نصر، فأغضب عليك، فإذا بالجندي يرد عليه رداً في منتهى الذكاء؛ فيقول له: أيها الأمير! عسى الله أن يجعل عند كل زلة مني نصراً لك فتغفر لي زلاتي، فقال الأمير عبد الرحمن الداخل رحمه الله: هذا ليس اعتذار جاهل، وقربه إليه ورفع من شأنه. فقد ألغى الضغينة تماماً من قلبه، واستفاد منه لما رأى من ذكائه وقدرته على التصرف في مثل هذه الأمور. وظل فترة طويلة يختبر أبناءه، أيهم يصلح للإمارة الابن الأكبر سليمان أم الأصغر هشام بن عبد الرحمن الداخل، وبعد اختبارات كثيرة واستشارات واستخارات استقر رأيه على الابن الأصغر هشام بن عبد الرحمن الداخل فولاه العهد مع كونه أصغر من أخيه، حيث كان هشام يشبه بـ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه في علمه وعمله وتقواه. وظل عبد الرحمن الداخل يحكم البلاد من سنة (138) هجرية إلى سنة (172) هجرية، أي: أنه حكم قرابة (34) عاماً. كانت بداية تأسيس ما يسمى بعهد الإمارة الأموية في بلاد الأندلس، والتي استمرت من سنة (138) هجرية إلى سنة (316) هجرية، وهذه الفترة تقسم إلى ثلاث فترات رئيسية: الفترة الأولى: فترة قوة ومجد وحضارة وعز وهيمنة على ما حولها من المناطق، واستمرت مائة عام أي: من سنة 138 إلى (238) هجرية. الفترة الثانية: فترة ضعف، واستمرت (62) سنة، أي: من سنة (238) إلى سنة (300). الفترة الأخيرة: وهي من سنة (300) إلى ما بعدها، وسنتحدث عنها بعد ذلك

الفترة الممتدة من ولاية عبد الرحمن الداخل إلى آخر ولاية حفيده الحكم

الفترة الممتدة من ولاية عبد الرحمن الداخل إلى آخر ولاية حفيده الحكم بدأ عهد القوة من سنة (138) إلى سنة (238) للهجرة، بدأ هذا العهد بإمارة عبد الرحمن الداخل رحمه الله، ثم خلفه من بعده ثلاثة أمراء، الأمير الأول: هشام بن عبد الرحمن الداخل؛ والذي حكم من سنة (172) إلى (180) هجرية، وكان رحمه الله عالماً محباً للعلم، أحاط نفسه رحمه الله بالفقهاء، وكان له أثر عظيم في بلاد الأندلس؛ لأنه نشر اللغة العربية بمجهود وافر وعظيم، حتى أصبحت اللغة العربية تدرس في معاهد اليهود والنصارى في داخل أرض الأندلس؛ ونشر المذهب المالكي بدلاً من مذهب الأوزاعي، وكانت له صولات وجولات كثيرة جداً مع ممالك النصارى الشمالية. الأمير الثاني: الحكم بن هشام فإنه تولى الإمارة من بعد والده هشام بن عبد الرحمن الداخل من سنة (180) إلى سنة (206)، لكنه لم يكن على شاكلة أبيه ولا على شاكلة جده، كان قاسياً جداً؛ فقد فرض الكثير من الضرائب، واهتم بالشعر، وبالصيد، وقاوم الثورات بأسلوب غير مسبوق في بلاد الأندلس في عهد الإمارة الأموية؛ وكان يحرق بيوت الثائرين، ويطردهم إلى خارج البلاد، ومن أشهر الثورات التي قمعها: ثورة قوم يسمون بالربض، والربض منطقة في جوار قرطبة، ثار أهلها ثورة كبيرة على الحكم بن هشام فأحرق ديارهم وطردهم خارج البلاد، ومن تدبير الله سبحانه وتعالى؛ أنه لما طردهم إلى خارج البلاد، انتقلوا بسفنهم إلى جزيرة كريت في البحر الأبيض المتوسط، فأسسوا فيها مملكة إسلامية ظلت قائمة مائة سنة متصلة، لكنه مع كل هذه الأمور لم يوقف حركة الجهاد في الشمال؛ لأن الجهاد كان عادة عند الإمارة الأموية، سواء في بلاد الشام أو في بلاد الأندلس، فقد كانت له انتصارات وعليه هزائم، وكنتيجة طبيعية تماماً لهذا الظلم الذي كان من قبل الحكم بن هشام، فإن العلاقة ساءت بين الحاكم والمحكوم، سقطت بعض البلاد الإسلامية في يد النصارى؛ كبرشلونة، وأصبحت إمارة نصرانية صغيرة جداً في الشمال الشرقي، وعرفت في التاريخ باسم إمارة أراجون، وكانت متاخمة لحدود فرنسا، بجوار جبال البرينيه في الشمال الشرقي للبلاد، لكن من فضل الله ومنّه وجوده وكرمه على الحكم بن هشام أنه في آخر عهده تاب وأناب واستغفر، واعتذر للناس عن ذنوبه، واختار من أبنائه أصلحهم وإن لم يكن الأكبر ليكون ولياً لعهده، ومن حسن خاتمته أنه قام بهذا الاعتذار وهو في كامل قوته وبأسه، وظل عامين على هذه التوبة قبل أن يموت.

ولاية عبد الرحمن الأوسط

ولاية عبد الرحمن الأوسط تولى من بعد الحكم بن هشام ابنه عبد الرحمن الثاني المعروف في التاريخ باسم عبد الرحمن الأوسط، فإن عندنا الأول هو عبد الرحمن الداخل رحمه الله، وهذا هو الثاني، والثالث هو المعروف في التاريخ بـ عبد الرحمن الناصر، حكم عبد الرحمن الأوسط بن الحكم من سنة (206) إلى سنة (238) من الهجرة، أي: استمر حكمه إلى آخر عهد القوة في عهد الإمارة الأموية، وكانت فترة حكم عبد الرحمن الأوسط فترة جيدة جداً في تاريخ الأندلس؛ فقد استأنف الجهاد من جديد ضد النصارى في الشمال، وألحق بهم هزائم عدة، وكان حسن السيرة، هادئ الطباع، ومحباً للناس رحمه الله. فقد تحققت في حياته ثلاثة أمور: الأمر الأول: ازدهار الحضارة العلمية في بلاد الأندلس؛ فقد انتشر العلماء في كل مجال، وكان أشهر هؤلاء العلماء عباس بن فرناس رحمه الله الذي يعتبر أول من حاول الطيران في العالم، وسبحان الله! فإنه صار ضحية هذه المحاولة، وقد كانت له اختراعات كثيرة؛ فقد اخترع آلة لتحديد الوقت، واخترع آلة تشبه قلم الحبر، ونحن قد نستصغر مثل هذا الاختراع، لكن كانت له أهمية كبيرة جداً في ذلك الزمن؛ أما هذا الزمن الذي انتشر فيه العلم والتعليم، فإن الجميع يحتاجون إلى مثل هذا الذي ينسخ لهم بسرعة مثل القلم الحبر، وهو أول من اخترع الزجاج من الحجارة. واستقدم عبد الرحمن الأوسط العلماء من كل بلاد العالم الإسلامي، حتى استقدمهم من بغداد، وجاءوا إلى بلاد الأندلس وعظمهم وكبرهم، ورفع من قيمتهم، وأسس في سنوات مكتبة قرطبة العظمية، وشاع التعليم في كل بلاد الأندلس. الأمر الثاني: اهتمامه الشديد بالحضارة العمرانية والاقتصادية، فقد ازدهرت التجارة في عهده جداً وكثرت الأموال، حتى إن جميع المؤرخين يذكرون أنه لم يكن هناك في الأندلس عادة التسول، فقد كانت عادة التسول منتشرة في بعض البلاد الإسلامية الأخرى، أما في الأندلس فلم تعرف أصلاً هذه العادة لكثرة الأموال. وتقدمت وسائل الري في عهد عبد الرحمن الأوسط بشكل رائع، وتم رصف الشوارع، في هذا العمق القديم في التاريخ، وكانت أوروبا في جهل وظلام عميق، فأقام عبد الرحمن الأوسط القصور المختلفة والحدائق الغناء، ووسع في المعمار حتى أصبحت المباني الأندلسية آية في المعمار في عهد عبد الرحمن الثاني رحمه الله. الأمر الثالث: هو ما يسمى بغزوات الفايكنج أو غزوات النورمن، وهم أهل إسكندنافيا في ذلك الوقت، وهذه بلاد تضم الدنمارك والنرويج وفنلندا والسويد، فقد كانت تعيش في همجية مطلقة، وكانوا يعيشون على حرب العصابات؛ وفعلت ما يسمى بغزوات الفايكنج، وهي غزوات إغارة على بلاد العالم في أماكن مختلفة متفرقة، ليس لها هم إلا جمع المال وهدم الديار وما إلى ذلك، فهجمت على أشبيلية في سنة (230) من الهجرة؛ في عهد عبد الرحمن الثاني وكان قوام الجيش الإسكندنافي في هذه الموقعة (54) سفينة؛ فدخلوا إشبيلية، فأفسدوا فيها فساداً كبيراً، وهذه هي طبيعة الحروب المادية بصفة عامة، كل الجيوش المادية تدخل أي بلاد فتفسد فيها إفساداً عظيماً، وشتان بين المسلمين في فتحهم للبلاد وبين غيرهم في معاركهم؛ فقد دخل هؤلاء فدمروا إشبيلية تماماً، ونهبوا ثرواتها، وهتكوا أعراض نسائها، وهكذا في غيرها من البلاد؛ كشذونة وألمارية ومرسية، حتى أشاعوا الرعب فيها. فجهز عبد الرحمن الثاني رحمه الله جيوشه، ودارت بينه وبينهم معارك ضارية استمرت أكثر من مائة يوم كاملة، ومنّ الله على المسلمين بالنصر، وغرقت (23) سفينة كاملة للفايكنج، وعادوا إلى بلادهم خائبين. فقد استفاد من الأخطاء التي كانت سبباً في دخول الفايكنج إلى هذه البلاد، فكان رد فعله لهذا الحدث الكبير ما يلي: أولاً: أنشأ سوراً ضخماً جداً حول أشبيلية، وأشبيلية تقع على نهر الوادي الكبير، ونهر الوادي الكبير يصب في المحيط الأطلنطي، ومن السهولة جداً أن تدخل سفن الفايكنج أو غيرها من السفن من المحيط الأطلنطي إلى أشبيلية، لذلك حصنها تحصيناً ظلت بعده من أحفظ حصون الأندلس بصفة عامة. ثانياً: أنشأ أسطولين قويين جداً، فجعل أحدهما في الأطلسي، والآخر في البحر الأبيض المتوسط، حتى يدافع عن سواحل الأندلس، فكانت هذه الأساطيل تجوب البحار؛ حتى تصل إلى أعلى حدود الأندلس في الشمال عند مملكة ليون، وتصل في البحر الأبيض المتوسط إلى إيطاليا، وكان من نتيجة ذلك أنه فتح جزر البليار للمرة الثانية، والذي فتحها للمرة الأولى هو موسى بن نصير رحمه الله؛ وكان ذلك قبل فتح بلاد الأندلس في سنة (91) من الهجرة، ثم سقطت جزر البليار في يد النصارى في عهد الوالي الثاني الحكم بن هشام لما انحدر حال المسلمين هناك، ثم أعاد من جديد عبد الرحمن الأوسط رحمه الله فتح جزر البليار في سنة (234) من الهجرة،

أسباب ضعف الدولة الأموية في الأندلس

أسباب ضعف الدولة الأموية في الأندلس

انفتاح الدنيا على المسلمين في الأندلس

انفتاح الدنيا على المسلمين في الأندلس أولاً: انفتاح الدنيا على المسلمين وكثرة الأموال في آخر عهد القوة من الإمارة الأموية، فقد زادت الأموال بشدة وازدهرت التجارة، ولم يوجد هناك في البلاد فقير، وفتن الناس بالمال، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخشى على المؤمنين من هذه الفتنة؛ كان يقول صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال)، وكان يقلل صلى الله عليه وسلم كثيراً من قيمة الدنيا؛ كان يقول: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع).

ظهور نجم زرياب وما صاحبه من ترف وحب للملاهي في المجتمع الأندلسي

ظهور نجم زرياب وما صاحبه من ترف وحب للملاهي في المجتمع الأندلسي ثانياً: السبب الثاني لضعف الإمارة الأموية في الفترة الثانية: هو زرياب، مطرب من مطربي بغداد، تربى في بيت الخلفاء في بغداد، وكان يغني لهم، وكان معلمه هو إبراهيم الموصلي، وهو كبير مطربي بغداد في ذلك الوقت، ومع مرور الوقت لمع نجم زرياب هناك في بغداد، فغار منه إبراهيم الموصلي فدبر له مكيدة، فطرد من البلاد، فخرج من بغداد متجهاً صوب المغرب، حتى وجد ضالته في الأندلس؛ أرض غنية جداً، فيها أموال كثيرة، وقصور، وحدائق، هذه البلاد هي التي تستقبل المطربين في ذلك الزمن، مع أن الأندلس إلى هذه الفترة لم يكن فيها غناء. فلما وصل زرياب أرض الأندلس استقبلوه وعظموه وأكرموه، وأدخلوه على الخلفاء، وفي بيوت عامة، ونواديهم؛ فأخذ يغني للناس، ويعلمهم ما قد تعلمه هناك في بغداد، ولم يكتف زرياب بتعليمهم الغناء، وتكوين ما يسمى بالموشحات الأندلسية المشهورة، لكنه بدأ يعلمهم فنون الموضة؛ فقال للناس: هناك لبس خاص بالصيف، ولبس خاص بالشتاء، ولبس خاص بالربيع، ولبس خاص بالخريف، ولبس خاص بالمناسبات العامة، كما هو الحال في أرض بغداد، ولم يكن الناس في الأندلس على هذه الشاكلة، فأخذوا يتعلمون من زرياب، وأخذ يعلمهم فنون الطعام، كل يوم أكلة جديدة، وصنف جديد وهكذا تعلم الناس ألواناً كثيرة من الطعام، ثم أخذ يحكي لهم حكايات الأمراء والخلفاء، وحكايات الأساطير والروايات وما إلى ذلك، حتى تعلق الناس به بشدة، وتعلق الناس بالغناء، وكثر المطربون في بلاد الأندلس، ثم بعد ذلك انتشر الرقص، وكان في البداية بين الرجال، ثم انتقل إلى غيرهم وهكذا. في هذا الوقت الذي دخل فيه زرياب إلى أرض الأندلس، كان في عهد عبد الرحمن الأوسط رحمه الله، الذي اهتم بالعلم والحضارة والعمران والاقتصاد وما إلى ذلك، لكنه للأسف ترك زرياب يفعل كل هذه الأمور؛ مع أن النهضة العلمية كانت موجودة وكان العلماء كثيرين، إلا أن كلام زرياب صرف الناس عن سماع العلماء إلى سماع زرياب، وصرف الناس عن سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصص السلف الصالح إلى سماع حكايات زرياب العجيبة وأساطيره الغريبة، بل صرف الناس عن سماع القرآن إلى سماع أغانيه، وهذا ليس عجيباً وليس جديداً، فإنه لما ظهرت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هناك رجل اسمه النضر بن الحارث، وكان من رءوس الكفر في مكة، ولما رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس بالقرآن فيتأثرون ويبكون ويؤمنون بهذا الدين، ذهب إلى بلاد فارس؛ وقطع أميالاً كثيرة، وقضى هناك فترة طويلة؛ ليتعلم هناك حكايات رستم وإسفنديار، ويتعلم الأساطير التاريخية، واشترى مغنيتين وعاد إلى بلاد مكة، فإذا وجد في قلب رجل ميلاً إلى الإسلام أرسل له المغنيتين تغنيان له مما عرفه في بلاد فارس من حكايات رستم وإسفنديار حتى تلهياه عن هذا الدين، وهكذا ظل يفعل كحرب مضادة للدعوة الإسلامية في بلاد مكة، فأنزل الله فيه قرآناً: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6]، ويقسم عبد الله بن مسعود رحمه الله أنها ما نزلت إلا في الغناء. فالشيطان لا ينام ولا يهدأ، حتى في وجود هذه النهضة العلمية، قال تعالى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، وكلما زاد الاهتمام بالدين كلما نشط الشيطان؛ عن طريق زرياب ومن سار على نهج زرياب إلى يومنا هذا، ونحن ننظر في رمضان كلما ارتقى مستوى الإيمان عند الناس، وكلما تعلقت قلوبهم بالمساجد زاد الشيطان في أثره وفي مفعوله، فيضع الناس على طريق غير التي أرادها الله سبحانه وتعالى لهم. فلو أخذنا عينة عشوائية من الناس وسألناهم إن كانوا يحفظون من الأغاني أكثر أم القرآن، أو يحفظون قصص الأفلام والمسلسلات أكثر أم قصص الأنبياء والصحابة والفتوح الإسلامية وما إلى ذلك؟ فالأمر خطير جد خطير. كنت أعطي هذه المحاضرة في مكان يحضر فيه كثير من المغاربة التونسيين والجزائريين، وفي أثناء إلقاء المحاضرة ذكرت قصة زرياب هذه، لكن الحقيقة أنني لم أكن أعرف اسمه معرفة جيدة، فذكرته زرياد بالدال وليس بالباء، وبعد المحاضرة جاء إلي أخ من تونس، فقال لي: إن الرجل اسمه زرياب ليس زرياد، فقلت: جزاك الله خيراً، ولكنني تعجبت أنه يعرف رجلاً مغنياً ميتاً من أكثر من (1200) سنة في بلاد الأندلس، فقلت في نفسي: إن هذا الرجل واسع الاطلاع، وبعد ذلك بقليل جاء إلي جزائري وقال لي:

ظهور شخصيات تحارب الإسلام

ظهور شخصيات تحارب الإسلام السبب الثالث: سبب متكرر في التاريخ وهو عمر بن حفصون الأندلسي شبيه جون قرنق، ولا أظن أنكم لا تعرفون جون قرنق! عمر بن حفصون هذا هو رجل من المولدين، أي: من أهل الأندلس الأصليين، ونحن عندما نلاحظ في الأسماء، ونجد في آخر الاسم واو ونون، نعرف أن هذا الرجل أندلسي من أهل الأندلس الأصليين؛ كانوا يضيفون واو ونون في آخر الكلمة؛ نحو: حفصون، سعدون، زيدون وما إلى ذلك، أو يضيفون واو وسين بدل واو ونون، نحو: عمروس أو ما إلى ذلك. فـ عمر بن حفصون كان رجلاً قاطع طريق من أهل الأندلس الأصليين، وكانت له عصابة كبيرة نسبياً، فقد كان معه أربعون من الرجال، واشتد خطره لما بدأ الناس يركنون إلى الدنيا ويتركون الجهاد في سبيل الله، وزاد حجمه جداً وبدأ يثور في منطقة الجنوب، والناس في هذه المنطقة كانت ترهبه بشدة، فأخذ يجمع حوله الأنصار، فزاد في الحجم جداً حتى سيطر على كل جنوب الأندلس، فقد كان مسلماً من أرض الأندلس، ولكي يؤيد قوته في آخر عهده عمل شيئاً لن يتكرر في تاريخ الأندلس إلا قليلاً؛ فقد تحول من الإسلام إلى النصرانية سنة (286) من الهجرة، أي: بعد حوالي (22) سنة من ثورته مسلماً انقلب إلى نصراني، وسمى نفسه صمويل، وبدأ يستعين ببلاد النصارى في الشمال، وسبب هذا الانقلاب كأنه يريد أن يأخذ التأييد من مملكة ليون الشمالية، فانقلب على عقبيه وأصبح نصرانياً، فتركه بعض المسلمين، لكن نال من تأييد مملكة ليون، وتزامن مع هذا الموقف توقف الجهاد في ممالك النصارى، فبدأت مملكة ليون تتجرأ على حدود الدولة الإسلامية؛ فبدأت تهاجمها من الشمال، وعمر بن حفصون أو صمويل من الجنوب، وهذا ما تفعله أمريكا واليهود الآن مع جون قرنق المتمرد في جنوب السودان، فإن هدفهم واضح جداً، وهو أنهم يمدون جون قرنق بالسلاح والخطط والخرائط والأغذية والأموال والمؤن وما إلى ذلك، وكل هذا يهدف إلى ضرب السودان من الداخل، من أجل أن تنشغل بنفسها فتضعف القوة التي في داخلها، ثم يوقفون المد الإسلامي من بلاد السودان إلى بلاد وسط إفريقيا. هذه خطة قديمة كما ذكرنا، فقد حدثت في بلاد الأندلس مع عمر بن حفصون ورغبوه في الانقلاب إلى النصرانية، فتحول إلى صمويل ليضرب الأندلس من الداخل، وحدثت من قبل ذلك بكثير في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما راسلت قريش عبد الله بن أبي ابن سلول في المدينة المنورة، وشجعته كثيراً على أن يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يطرده من بلاده وما إلى ذلك.

الفترة الثانية في الدولة الأموية في الأندلس وأسباب ضعفها

الفترة الثانية في الدولة الأموية في الأندلس وأسباب ضعفها بوفاة عبد الرحمن الأوسط رحمه الله بدأ عهد جديد في بلاد الأندلس، وهو عهد الضعف في الإمارة الأموية، من سنة (238) إلى سنة (300) من الهجرة، أي: حوالي (62) سنة، تولى من بعد عبد الرحمن الأوسط ابنه محمد بن عبد الرحمن الأوسط ثم اثنين من أولاده: المنذر ثم عبد الله، لكن الإنسان في الحقيقة يتعجب كثيراً، كيف بعد هذه القوة العظيمة والبأس الشديد والهيمنة على أرض الأندلس وما حولها يحدث هذا الضعف وهذا السقوط وهذا الانحدار؟! إنه ليس من سنن الله أن تسقط الأمم فجأة، إن الأمر يكون متدرجاً على فترات طويلة، ففي العهد الثاني للولاة حصلت الثورات والمكائد والتي بدأت بوفاة عبد الرحمن الأوسط؛ والسبب وراء ضعف الولاة كان فيما يلي: أولاً: انفتاح الدنيا وكثرة الغنائم، ثانياً: القبلية والقومية، ثالثاً: ظلم الولاة، رابعاً: ترك الجهاد، لكن كل هذا كانت له بذور في أواخر عهد القوة من عهد الولاة، بدأت هذه البذور أثناء وبعد موقعة بلاط الشهداء. ولكي نفهم سبب ضعف الإمارة الأموية علينا أن ندرس الفترة الأخيرة من عهد القوة، ونبحث فيها عن بذور الضعف والأمراض التي أدت إلى هلكة أو ضعف الدولة الأموية في عهد الإمارة الثاني فبعد هذا الضعف الشديد، وهذه العوامل المتفاعلة، وهذه الفترة الطويلة نسبياً؛ (62) سنة من الضعف، نحلل الوضع في بلاد الأندلس في سنة (300)، أي: زمن انتهاء عهد الضعف أو أواخر عهد الضعف في بلاد الأندلس، فيما يلي: أولاً: وجود ثورات لا حصر لها في الأندلس؛ بل واستقلالات في كثير من المناطق، وأشهر هذه الاستقلالات استقلال صمويل أو عمر بن حفصون بجنوب الأندلس، حيث كون ما يشبه الدويلة في هذه الرقعة من بلاد الأندلس، وضم إليه الكثير من الحصون، حتى ضم إليه كل حصون إستجّة وجيان، التي كانت من أحصن المناطق الأندلسية على الإطلاق، وصارت غرناطة في حوزة عمر بن حفصون، واتخذ له عاصمة سماها ببشتر في الجنوب بجوار ألمارية على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ثانياً: الثورة الثانية الكبيرة في أشبيلية أثارها رجل اسمه ابن حجاج، وهذه الثورة كانت تمد وتساعد عمر بن حفصون أو صمويل في ثورته ضد قرطبة. ثالثاً: ثورة في شرق الأندلس في منطقة بلنسية. رابعاً: ثورة في منطقة سراقسطة في الشمال الشرقي، أدت إلى استقلال إمارة سراقسطة عن الإمارة الأموية في قرطبة، وثورة في غرب الأندلس يقودها رجل اسمه عبد الرحمن الزليقي، وثورة في طليطلة وهكذا. وكل هذه الثورات أدت إلى أن الحكومة المركزية للإمارة الأموية لا تسيطر في كل بلاد الأندلس إلا على مدينة قرطبة وما حولها من بعض القرى، وهكذا انفرط العقد تماماً في سنة 300 من الهجرة، وتوزعت البلاد بين كثير من القواد، كل يحارب الآخر، وكل يبغي ملكاً ومالاً ودنيا. خامساً: أنه في الشمال تكونت مملكة نصرانية ثالثة بالإضافة إلى مملكة ليون التي تكونت لما ضعف المسلمون في عهد الولاة الثاني، وكانت نواتها هي منطقة الصخرة التي لم تفتح لـ موسى بن نصير ومن معه في بدء الفتح، كانت مملكة ليون في الشمال الغربي من البلاد، وتكونت مملكة صغيرة اسمها مملكة أراجون في عهد الحكم بن هشام الذي تميز بالظلم فحدثت له هزائم، وكانت مملكة أراجون في الشمال الشرقي للبلاد، وعاصمتها برشلونة. وتكونت إمارة ثالثة انفصلت عن مملكة ليون وهي: إمارة نافار، وفي بعض الكتب العربية تكتب نبارة، وهي الآن ما يعرف في أسبانيا بإقليم الباسك الذي فيه خلافات كثيرة، ومحاولة الانشقاق عن أسبانيا الآن. هذه الثلاث الممالك النصرانية اجترأت كثيراً على البلاد الإسلامية، فقد كانت تخاف المسلمين في عهد الإمارة الأموية الأول، أما بعد ذلك فقد بدأت تهاجم شمال الأندلس، وبدأت تسيطر على بعض البلاد الإسلامية، بل وبدأت تقتل من المسلمين المدنيين في هذه المدن الشمالية في بلاد الأندلس. سادساً: أن ولي العهد للأمير الذي كان يحكم البلاد في ذلك الوقت قد قتل؛ واسم الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط، واسم ولي العهد المقتول هو محمد بن عبد الله قتله أخوه المطرف بن عبد الله، فعندما يتفرق المسلمون وينشغلون بدنياهم، وبالأغاني والطرب، وبأنفسهم هكذا تكون العاقبة، فقد قتل ولي العهد، وأصبح الوضع في منتهى الخطورة؛ ثورات في الداخل، وحكومات نصرانية في الشمال تهجم على المسلمين، وليس للبلاد ولي عهد، وزاد الأمور خطورة بظهور دولة جديدة في بلاد المغرب كانت من أشد الدول خطورة على بلاد الأندلس، وهي الدولة الفاطمية أو المسماة بالدولة العبيدية؛ التي ظهرت في سنة (296) من الهجرة، يعني: قبل سنة (300) بأربع سنوات فقط، ظهرت هذه الدولة في بلاد المغرب العربي وكانت دولة شيعية خبيثة جداً، وكان

الخلافة الأموية

سلسلة الأندلس_الخلافة الأموية تولى عبد الرحمن الناصر إمارة الأندلس بعد وفاة جده، فرفع من شأن الأندلس من الضعف إلى القوة ومن الذل إلى العزة ومن الهوان إلى المجد والسيادة، واستطاع أن يقضي على جميع الثورات الداخلية، واستطاع القضاء على الممالك النصرانية واسترداد الأراضي الإسلامية الأندلسية من تحت سيطرتها، وأعاد المجد والعز للإسلام والمسلمين.

الرد على من يقول: إن أمر الدولة الأموية بالجهاد كان تجنبا للثورات والانقلابات الداخلية

الرد على من يقول: إن أمر الدولة الأموية بالجهاد كان تجنباً للثورات والانقلابات الداخلية أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فمع الحلقة السادسة من حلقات الأندلس من الفتح إلى السقوط. نفتح سوياً صفحة جديدة في هذا التاريخ الطويل، وقبل أن ندخل في هذه الحلقة فإن بعض الإخوة اشتكوا من كثرة المعلومات في الدروس السابقة، وتلاحق الأسماء والتواريخ، فهذه دراسة لثمانمائة سنة من تاريخ الأمة الإسلامية، والحق أنك تحتاج إلى سماع الحلقة أكثر من مرة لاستنباط الدروس، وقد لا نقف أحياناً على بعض الدروس في بعض المواقف، ويترك للأفراد الاستفادة منها بقدر حاجتهم، فعلى سبيل المثال: صفات عبد الرحمن الداخل؛ فلو جلست مع نفسك أياماً ما استطعت أن تكفيه حقه، ولا أن تدرس صفاته دراسة كافية وافية. فبعض الأسئلة جاءت بخصوص الحلقات السابقة. فمنها هذا السؤال وهو: ما زال يعتقد أن الصوائف -وهي خروج الدولة الأموية للجهاد في سبيل الله كل صيف، كانت سواء في فترة الشام أو في فترة حكمهم لبلاد الأندلس، لم تكن إلا لإخراج الشباب من البلاد إلى الثغور وذلك لإفراغ الشحنات، وبذلك يتجنبون الثورات والانقلابات والتمرد في داخل البلاد، فهل هذا حقيقي وصحيح؟ أولاً: الرد على هذا السؤال هو أنني حزنت حزناً شديداً، أن أرى هذا الفهم لفتوحات الدولة الأموية الكثيرة، بأن يقلب كل حسن إلى قبيح، وكل خير إلى شر، فلماذا الطعن في فتوحات بني أمية، وأياديهم البيضاء على المسلمين لا تنقطع؟ ماذا كان سيقع لو أن بني أمية لم يدخلوا إلى ليبيا أو تونس أو الجزائر أو المغرب أو جمهوريات الاتحاد السوفييتي الإسلامية جميعاً؛ أوزباكستان وكازاخستان والشيشان وأذربيجان وأفغانستان والهند وغيرها من البلاد التي ظلت تحكم بالإسلام قروناً طويلة بفضل هذا الدخول؟ ولماذا الطعن في الأمثلة الجميلة والصور الرائعة، كـ موسى بن نصير، والقول بأنه ما ذهب إلى بلاد الأندلس بجيشه إلا غيرة من طارق بن زياد رحمه الله؟ ولماذا الطعن في عبد الرحمن الداخل، والقول بأنه لم يذهب إلى الأندلس إلا طلباً للملك وللسيادة والسلطان؟ ولماذا تشويه هذه الصور للشباب، وهي صور قلما تتكرر في تاريخ الأمم؟ ثانياً: أن المستشرقين ومن على شاكلتهم من أبناء المسلمين يقيسون التاريخ الماضي بأفكار الحاضر، فقد رأوا في هذه الآونة أن السياسة لا تستغني عن الغش والخداع والغدر والرشوة والمؤامرة والمكيدة، والعلمانيون لا يتخيلون أبداً أن يبذل الإنسان نفسه وماله وجهده ووقته من أجل الآخرين، أو من أجل شيء غير منظور، كالجنة مثلاً، لذلك من المستحيل عليهم أن يفهموا هذه النماذج الطاهرة، التي ما تكررت إلا في التاريخ الإسلامي فقط. ثالثاً: هناك سنة من سنن الله الثوابت، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، فلو كان سعي بني أمية كله في هذه الفتوح لمجرد إلهاء الشعوب عن الملك، وإلهاء الشباب عن الثورات والمؤامرات، وليس في نواياهم الجهاد والدعوة وحب الإسلام، أكان يصلحه الله؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)؛ فقد علمنا انهزام المسلمين عند الأخطاء القلبية، فقد هزم المسلمون في أحد لخطأ قلبي، قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، وهزم المسلمون في حنين لخطأ قلبي أيضاً، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25]، وهذا على كرامة هذا الجيش من وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، فإذا حقق الأمويون هذا النصر الراسخ لقرون خلت، أليس هذا دليلاً على خيريتهم؟ هل اطلع هؤلاء الطاعنون على قلوبهم، فوجدوا فيها خبثاً، قال تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148]. رابعاً: ليس معنى هذا أنه لا توجد في بني أمية أخطاء أبداً، بل يجب أن نشير إلى أخطائهم، ولكن في حجمها، وقد أشرنا في الدروس السابقة إلى أخطاء ملموسة في عهد الإمارة الأموية، أدت إلى ظهور عهد الضعف في الإمارة الأموية، وستظهر أخطاء أخرى، وقد تكون جسيمة وتؤدي إلى هلكة، وإلا لاستمر بنو أمية إلى هذه الآونة، لكن من سنن الله سبحانه وتعالى أنه من أفسد يهلك، فمن عدم الإنصاف أن ننظر بعين واحدة إلى الأخطاء ولو قلت، ونهمل الحسنات ولو تعاظمت.

موقف الشرع من الفن الغنائي

موقف الشرع من الفن الغنائي هذا سؤال بخصوص قصة زرياب وأثره على المجتمع الأندلسي؟ إن الفن ليس حراماً مطلقاً كما أنه ليس حلالاً مطلقاً، بل هناك شروط إن لم تتوافر في الفن أصبح حراماً، فالله سبحانه وتعالى ذكر في أواخر سورة الشعراء وهو يستثني الشعر الحلال من الحرام، يقول سبحانه وتعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226]. ثم يستثني سبحانه وتعالى فيقول: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227]. فالاستثناء ألا يتعارض العمل الأدبي شعراً كان أو غيره مع الإيمان والعمل الصالح، حتى لو وصل هذا الأدب أو هذا العلم أو هذا الشعر إلى أرقى جوائز الأدب في العالم، فإن كان يعارض الشرع والإيمان والعمل الصالح فإن الله سبحانه وتعالى سيحبطه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]. أما الاستثناء الثاني: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في نفس الآية أيضاً: {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء:227]، فلا يلهي هذا العمل الأدبي صاحبه أبداً عن ذكر الله في كل أحواله؛ لأن الأصل هو ذكر الله، والفرع هو قول الشعر أو ما شابهه من أعمال الفن الجائز. ثم يكمل سبحانه وتعالى فيقول: {وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227]، أي: أن يستخدم شعره وأدبه في الدفاع عن الإسلام والنفس والوطن، وتحسين الصورة للشرق والغرب، ودفع الشبهات وغيرها.

حال الحكام في فترة ضعف الإمارة الأموية في الأندلس

حال الحكام في فترة ضعف الإمارة الأموية في الأندلس هذا سؤال أخير عن طبيعة الحكام في فترة الضعف في عهد الإمارة الأموية في الأندلس والتي استمرت من (238هـ - 300هـ)؟ A أن الأمراء الذين حكموا في هذه الفترة ثلاثة وهم: محمد بن عبد الرحمن الأوسط، والمنذر بن محمد وعبد الله بن محمد، فقد كان محمد بن عبد الرحمن الأوسط عاقلاً رزيناً مجاهداً، خفف الأعباء المالية عن الناس واهتم بالعلماء، أما المنذر بن محمد فقد كان فارساً شجاعاً وقائداً متميزاً، ولم يحكم إلا سنتين فقط، ثم مات وهو في حصار إحدى حركات التمرد، أما عبد الله بن محمد فإنه كان متقشفاً عادلاً رحيماً محباً للناس ينظر في المظالم بنفسه. إذاً: كان الأمراء على درجة عالية جداً من التقوى والعدل والرحمة والجهاد، ومع ذلك ضعفت الأمة، والملحوظة الغريبة أنه يسأل: لم لم تسقط الأمة في عهد الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الذي تميز في معظم فترات حياته بالظلم والقسوة، ولكنها سقطت في عهد هؤلاء الذين تميزوا بالتقوى والعدل والرحمة والجهاد؟ ولتبرير هذا التباين أرى بعض الأمور، وقد يكون هناك تبريرات كثيرة جداً، لكن أكتفي باستنتاجين: الأول: أن هؤلاء الأمراء كانوا يتصفون بضعف القيادة، وسوء الإدارة باستثناء المنذر بن محمد، بينما تميز الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل -على الرغم من ظلمه- بحسن الإدارة وقوة الشخصية. إذاً: القائد لا بد أن تجتمع له مع التقوى الكفاءة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزع المهام على أصحابه، كان يعطي هذا قيادة الجيوش، وهذا قراءة القرآن، وهذا الأذان، وهذا إمامة الصلاة، وهكذا كان يوزع عليهم الأمور بحسب كفاءتهم وقدرتهم على العمل، مع أن الجميع من الأتقياء. إذاً: الكفاءة مطلوبة مع التقوى. الثاني وهو هام جداً: أن الشعب في عهد الحكم بن هشام كان قد ربي على أعلى درجات التربية، وذلك في عهد عبد الرحمن الداخل رحمه الله، وفي عهد ابنه هشام بن عبد الرحمن الداخل الذي شبهوه بـ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، فلم تسقط الإمارة في عهد الحكم بن هشام، بل إنه قد تاب من ظلمه في آخر عامين من حياته تأثراً بشعبه الذي كان غالبه على التقوى. بينما الشعب في عهد الضعف كان شعباً متراخياً، ربي على الدعة والخنوع والطرب والمال وحب الدنيا وكثرة الغنائم وما إلى ذلك، فحتى إن تولى الصالحون فإن الأمة ستسقط، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث). والخبث كثر في عهد الإمارة الأموية الثاني، حتى أصبح عموم الشعب من الخبثاء، ومن محبي الدنيا والدعة والخنوع، وهذا يبين دور تربية الشعوب على حب الله سبحانه وتعالى، وحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

ما كانت عليه الإمارة الأموية سنة 300هـ

ما كانت عليه الإمارة الأموية سنة 300هـ أما ما كانت عليه الإمارة الأموية في فترة الضعف سنة (300هـ)، فكان كما يلي: أولاً: وجود حركات تمرد في معظم مناطق الأندلس؛ كان من أشهرها حركة عمر بن حفصون أو صمويل بن حفصون الذي تنصر في سنة (286هـ). ثانياً: الحكومة الأموية المركزية لا تملك إلا قرطبة فقط، وما حولها من القرى، وهذا يمثل تقريباً أقل من عشر مساحة الأندلس في ذلك الوقت. ثالثاً: شمال الأندلس كانت به ثلاث ممالك نصرانية: أراجون، ونافار، وليون، وأكبرها مملكة ليون، وكانت هذه الممالك قد بدأت تجترئ على الحدود الشمالية الأندلسية وتهجم عليها، بل واحتلت بعض المدن الإسلامية في الشمال، مثل: مدينة سالم. رابعاً: أن الأمير عبد الله بن محمد وهو آخر الأمراء كان قد مات في سنة ثلاثمائة من الهجرة، وابنه الأكبر محمد الذي كان مرشحاً للخلافة كان قد قتل، وخلف وراءه طفلاً عمره ثلاثة أسابيع فقط. خامساً: الدولة العبيدية الشيعية المسماة بالفاطمية ظهرت وبقوة في المغرب، فقد بدأ ظهورها في عام (296هـ) وهي تؤيد عمر بن حفصون وتدعمه بالسلاح عن طريق مضيق جبل طارق. سادساً: روح سلبية رهيبة تستولي على الناس في كل ربوع الأندلس، أنه لا أمل في الإصلاح. سابعاً: الأمر في بلاد العالم الإسلامي لا يختلف كثيراً عن الأحوال في بلاد الأندلس، فقد تمزق العالم الإسلامي إلى دويلات كثيرة متفرقة. في هذا الجو المليء بالفتن، وهذه التركة المثقلة بالهموم حدث أمر غريب ولكنه متوقع، فقد زهد جميع أبناء عبد الله بن محمد المرشحين للخلافة عن الحكم، لأن الحكم تركة مثقلة بالهموم، ولا يصلح فيهم أحد لهذا الأمر، فقدموا حفيد عبد الله بن محمد، حفيد الأمير الأخير عبد الله بن محمد، وهو ابن القتيل محمد بن عبد الله، الذي قتل منذ اثنتين وعشرين سنة، وهذا الحفيد هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط رحمه الله، وكان يبلغ من العمر في ذلك الوقت اثنين وعشرين عاماً فقط، وهو الذي عرف في التاريخ باسم عبد الرحمن الناصر. يقوم عبد الرحمن الناصر بأمر الإمارة، فإذا به يغير الضعف إلى قوة، والذل إلى عزة، والفرقة إلى وحدة، والهوان إلى مجد وسيادة وسلطان، وهي خطوات بحق لا بد أن تدرس بعناية. فهذا الرجل لو كان في زماننا لكان في السنة الرابعة في الجامعة على أقصى تقدير، فقد كانت طاقة الشباب لديهم كبيرة جداً، وأحياناً قد يبخس الشباب نفسه، أو يبخس المجتمع، وسبحان الله! فإن الإسلام دين عجيب، وهذه الأمة أمة ولادة، فإن موسى بن نصير فتح الأندلس وهو في الخامسة والسبعين من عمره، ومع ذلك كانت له روح الشباب في هذا السن المتقدم. أما الشاب عبد الرحمن الناصر رحمه الله، فقد ضم إلى فورة الشباب حكمة الشيوخ، رحمه الله وأكثر من أمثاله.

خطوات عبد الرحمن الناصر في الإصلاح

خطوات عبد الرحمن الناصر في الإصلاح كانت خطوات عبد الرحمن الناصر في الإصلاح، فهي كما يلي:

تربية الناصر التربية الصحيحة من قبل جده عبد الله بن محمد

تربية الناصر التربية الصحيحة من قبل جده عبد الله بن محمد أولاً: يخطئ من يظن أن تاريخ عبد الرحمن الناصر رحمه الله بدأ منذ ولايته على البلاد، فقد ربي تربية جيدة لم تتكرر كثيراً في التاريخ؛ ليكون عبد الرحمن الناصر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). إن لم نكن نحن عبد الرحمن الناصر، فليكن أبناؤنا عبد الرحمن الناصر، فهل نحن نعلم أبناءنا الصلاة لسبع سنين، ونضربهم عليها لعشر؟! فإياك أن تضرب ابنك على الصلاة لعشر وأنت لم تأمره بها لسبع. وهل نحفظ أبناءنا القرآن؟ أم أن أبناءنا يحفظون أغاني فلان وعلان من المطربين والمطربات، الأحياء منهم والأموات؟ وهل نعلم أبناءنا السباحة، وألعاب القوى، والدفاع عن النفس، أو أنهم مشغولون بأفلام الكرتون والتلفزيون والكوتشينة؟! وهل يريد أبناؤنا أن يكونوا مثل خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، وعبد الرحمن الناصر، وعبد الرحمن الداخل، أم أنهم يريدون أن يكونوا مثل مارادونا ومايكل جاكسون ومن على شاكلتهم؟ الحقيقة أن المسئولية ضخمة جداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته). وعبد الرحمن الناصر رحمه الله قتل أبوه وعمره ثلاثة أسابيع فقط، فرباه جده الأمير عبد الله بن محمد ليفعل ما لم يستطع هو أن يفعله، رباه على سعة العلم وقوة القيادة والجهاد وحسن الإدارة، والتقوى والورع، والصبر والحلم، والعزة والكرامة، والعدل مع القريب والبعيد، والانتصار للمظلوم، رباه ليكون عبد الرحمن الناصر.

ثقة الناصر بربه ثم بنفسه في الإصلاح

ثقة الناصر بربه ثم بنفسه في الإصلاح ثانياً أمسك: عبد الرحمن الناصر رحمه الله زمام الإمارة وعنده ثقة شديدة بالله سبحانه وتعالى، ثم بنفسه أنه يستطيع أن يغير، فهو يثق بأن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، ويثق في قوله سبحانه وتعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160]، ثم يثق في نفسه أنه من الممكن أن يغير، فلو كان في قلبه إحباط من التغيير، وأنه لا أمل له في الإصلاح ما استطاع أن يتحرك خطوة واحدة، فهو مع صغر سنه أخذ على عاتقه مهمة تعتبر من أثقل المهام في تاريخ الإسلام، فبهذه المؤهلات، وبهذه التربية من جده عبد الله بن محمد التربية الشاملة لكل فروع كمال الشخصية، وبهذه الثقة الشديدة بالله ثم بالنفس غير عبد الرحمن الناصر من التاريخ، وأول شيء فعله عندما تملك الأمور في الأندلس بدأ ينظف المراكز المرموقة الموجودة في البلد من وزراء وقواد للجيش من رموز الفساد التي عمت، وبدأ ينتقي من يتصف بالتقوى والورع ونظافة اليد وسعة العلم، ويعطيه المراكز القيادية في قرطبة، وهو لا يملك من كل بلاد الأندلس إلا قرطبة وما حولها من القرى، وقرطبة كانت من أكبر بلاد الأندلس على الإطلاق؛ لأنها كانت العاصمة لسنوات طويلة، فكانت مركزاً ثقيلاً وكبيراً، لكنها لم تكن تمثل أكثر من عشر الأندلس، فبدأ يصلح في هذه المنطقة الصغيرة، ثم أعلى من شأن العلماء جداً، ورضخ لهم رضوخاً كاملاً، وطبق الشرع الإسلامي بحذافيره على نفسه قبل أن يطبقه على شعبه، ولم يتنازل أبداً عن مسألة واحدة من مسائل الشارع الكريم، سواء في كتابه سبحانه وتعالى أو في سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان هو أول من طبق عليهم ذلك. لما بنى عبد الرحمن الناصر قصراً من القصور، وحضر خطبة الجمعة، وكان الخطيب المنذر بن سعيد رحمه الله أكبر علماء قرطبة في ذلك الوقت، وكان شديداً في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، حتى على الأمير عبد الرحمن الناصر رحمه الله، فأسرف المنذر بن سعيد في الكلام وأفرط في التقريع على عبد الرحمن الناصر؛ لأنه بنى قصراً كبيراً، فقال عبد الرحمن الناصر عندما عاد إلى بيته: لقد تعمدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري، فأسرف علي وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسية في وعظي، فزعزع قلبي، وكاد بعصاه يقرعني. وأشار عليه رجل أن يخلع المنذر بن سعيد عن خطبة الجمعة، فقال الأمير عبد الرحمن الناصر: أمثل المنذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد، سالكة غير القصد؟ هذا والله لا يكون، وإني لأستحيي من الله ألا أجعل بيني وبينه سبحانه وتعالى في صلاة الجمعة شفيعاً مثل منذر في ورعه وصدقه، وأبقاه على مكانته، وأكثر منذر بن سعيد رحمه الله من تقريع عبد الرحمن الناصر، وما عزله حتى مات. فكان عبد الرحمن الناصر يربي أهل قرطبة على هذه المعاني، وكان في انصياعه للحق أفضل قدوة للناس جميعاً.

استعداد الناصر وتخطيطه للقضاء على ابن حفصون المرتد

استعداد الناصر وتخطيطه للقضاء على ابن حفصون المرتد ثالثاً: فكر عبد الرحمن الناصر رحمه الله أن يبدأ أولاً بالقضاء على ثورة عمر بن حفصون أو صمويل بن حفصون؛ لأن عمر بن حفصون ارتد عن الإسلام فأصبح قتاله فرضاً على المسلمين، فهذا الرجل لا يختلف عليه اثنان في أنه يستحق القتل؛ لأنه ارتد عن دين الله سبحانه وتعالى. الأمر الثاني: أن المعركة في منتهى الوضوح، فهي معركة بين المسلمين والمرتدين، فاستطاع أن يحفز أهل قرطبة الذين قد ألفوا الثورات لقتال المرتدين، فقاد حملة بعد شهرين فقط من توليه الإمارة، واسترد مدينة إستجة التي كانت من أحصن مدن الأندلس، ثم قاد حملة كبيرة جداً بنفسه على صمويل بن حفصون، استمرت ثلاثة شهور كاملة: شهر شعبان، ورمضان، وشوال في سنة (300) من الهجرة، أي: في نفس العام الذي تولى فيه عبد الرحمن الناصر رحمه الله، فاسترد جيان، وهي من المدن الحصينة جداً، واسترد فيها سبعين حصناً من حصون عمر بن حفصون، ثم ما زالت قوة عمر بن حفصون أو صمويل بن حفصون كبيرة جداً، حيث يأتيه المدد من ممالك النصارى في الشمال، ومن الدولة الفاطمية في الجنوب، ومن إشبيلية؛ لأن حاكمها من أولاد حجاج، وهو حاكم مسلم، لكنه متمرد على سلطة قرطبة، ومعه جيش إشبيلية المسلم وهو جيش كبير، فأراد عبد الرحمن الناصر رحمه الله أن يقطع عليه المدد القادم من هذه الأماكن الثلاثة، ولكن بمن يبدأ؟ هل يبدأ بالنصارى أو بالدولة الفاطمية أو بإشبيلية؟! فكر عبد الرحمن الناصر رحمه الله في أن يهجم على إشبيلية أكبر مدن الجنوب بعد قرطبة؛ لأن عبد الرحمن الناصر رحمه الله له نزعة إسلامية واضحة جداً، والتأثير الإسلامي للدعوة الإسلامية على القلوب كبير، فهو يؤمل أن يرغم حاكمها على الانضمام أو الانصياع له بالقوة، وأن ينضم إليه جيش إشبيلية المسلم، فبذلك تقوى جيوش الدولة الأموية في هذه الفترة، وهذا ما فعله بالفعل، فذهب إلى إشبيلية سنة (301هـ) أي: بعد أقل من سنة من ولايته، واستطاع بفضل الله سبحانه تعالى وكرمه ومنه وجوده على المسلمين أن يضم إشبيلية، فقويت شوكته جداً رحمه الله، ثم عاد إلى عمر بن حفصون بعد ذلك وقد قطع المدد الغربي عنه والذي كان يأتيه من إشبيلية، فاسترد منه جبال رندة، ثم شذونة، ثم قرمونة، وهذه جميعاً من مدن الجنوب، ثم تعمق في الجنوب أكثر حتى وصل إلى مضيق جبل طارق؛ فاستولى عليه، وبذلك قطع المساعدات الفاطمية التي تقدم عن طريق جبل طارق، والمساعدات التي تأتي من الدول النصرانية؛ إذ إنها تأتي من الشمال عن طريق المحيط الأطلسي، ثم مضيق جبل طارق، ثم البحر الأبيض المتوسط، ثم تدخل على عمر بن حفصون، وبذلك قطع الإمداد على عمر بن حفصون من جميع النواحي. ونتيجة لهذه الأمور فإن صمويل بن حفصون طلب من عبد الرحمن الناصر رحمه الله المعاهدة وصلح الأمان على أن يعطيه (162) حصناً، فوافق عبد الرحمن الناصر رحمه الله؛ لأن البلاد عنده متقلبة شديدة التقلب، وهو يريد أن يتفرغ لغيره، فلما أمن جانبه وضمن في يده (162) حصناً كاملة وافقه على المعاهدة، فعند وقت الحرب كان يحارب وعند وقت المعاهدة تجده رحمه الله من أفضل الساسة.

سياسة الناصر في القضاء على المتمردين حوله وممالك النصارى

سياسة الناصر في القضاء على المتمردين حوله وممالك النصارى كان الموقف في عهد عبد الرحمن الناصر كما يلي: أولاً: أصبحت قوة عبد الرحمن الناصر رحمه الله تضم قرطبة وإشبيلية وجيان وإستجة وهي جميعاً مدن الجنوب، بالإضافة إلى حصون مجاورة كثيرة، وهذا يمثل حوالي سدس الأندلس الإسلامية في ذلك الوقت. ثانياً: أن صمويل بن حفصون ما زال يملك حصوناً كثيرة، ويسيطر سيطرة كبيرة على الجنوب الشرقي من البلاد، لكن قطعت عنه الإمدادات الخارجية سواء من النصارى أو الدولة الفاطمية أو إشبيلية. ثالثاً: هناك تمرد في طليطلة وهي توجد في شمال قرطبة. رابعاً: هناك تمرد في سرقسطة في الشمال الشرقي. خامساً: هناك تمرد في شرق الأندلس ومقره بلنسية. سادساً: هناك تمرد في غرب الأندلس يقوده عبد الرحمن الجليقي. إذاً: الأندلس في سنة (302هـ) كانت مقسمة إلى ستة أقسام: قسم واحد في يد عبد الرحمن الناصر ويشمل قرطبة وإشبيلية وما حولها، وخمسة أقسام موزعة على خمسة من المتمردين. إذاً: المتوقع من عبد الرحمن الناصر رحمه الله أن يقاوم من جديد إحدى هذه التمردات من حوله، لكنه يفاجئنا ويفاجئ الجميع بأمر يجعل الواحد منا يقف فاغراً فاه لهذا الرجل المعجزة عبد الرحمن الناصر رحمه الله. يترك عبد الرحمن الناصر كل هذه المؤامرات، ويتجه إلى الشمال الغربي، ليقاتل قوات النصارى في مملكة ليون التي هجمت على منطقة من مناطق المتمردين في غرب الأندلس، فيحاربهم لمدة سنتين كاملتين في أرض المتمردين. ثم بعد أن ينتصر عليهم انتصارات كبيرة ويعود محملاً بالغنائم يترك البلاد ويعود إلى قرطبة وإشبيلية، وكأنه يعلم الناس أمراً في منتهى الوضوح، لكنه كان قد خفي عنهم، وهو أن العدو الحقيقي هم النصارى في الشمال وليست الأعداء من داخل المسلمين، وبهذا الفعل أحرج عبد الرحمن الناصر المتمردين إحراجاً كبيراً أمام شعوبهم، وحرك العاطفة في قلوب الشعوب نحوه، وكذلك تتحرك عواطف الشعوب تجاه من يدافع عن قضاياها الخارجية، ومن يقاتل أعداءها الحقيقيين. هي نصيحة لكل المسلمين أن يوجهوا الشعوب إلى الأعداء الحقيقيين، بدلاً من تصارع كل قطرين مسلمين على الحدود بينهما، فنركز على قضية فلسطين، أو الشيشان، أو كشمير أو البوسنة أو كوسوفا أو غيرها من قضايا المسلمين الحقيقية. وقد أتم عبد الرحمن الناصر رحمه الله في هاتين السنتين انتصارات عديدة بجيشه القليل نسبياً، فقد كان معه العلماء والمجاهدون يرغبون الناس في الجنة، والموت في سبيل الله. وانتهت هذه الحملات بحملة في سنة (304هـ)، وهي من أكبر الحملات التي قادها رحمه الله على النصارى، وعاد محملاً بغنائم كثيرة. وحدث بعد عودته إلى قرطبة وإشبيلية أن انضمت سرقسطة بدون قتال إلى عبد الرحمن الناصر، وهذه هدية من الله لمن جاهد وثبت على دينه، ثم هدية أخرى من رب العالمين سبحانه وتعالى في سنة (306هـ) وهي موت صمويل بن حفصون على نصرانيته مرتداً وقد بلغ من العمر ستاً وستين سنة، فيستغل عبد الرحمن الناصر الموقف ويضم إليه كل مناطق الجنوب الشرقي، واستتاب النصارى الذين انقلبوا من الإسلام إلى النصرانية لمدة ثلاثة أيام، فمن قبل منهم الإسلام قبله في جيشه، ومن أبى إلا أن يبقى على نصرانيته قتله ردة، وكان من بين هؤلاء ابنة عمر بن حفصون والتي كانت تحفز الناس على ألا يتركوا دين النصرانية، فقتلها ردة. وفي سنة (308هـ) تحرك عبد الرحمن الناصر إلى طليطلة، وما استطاع التمرد الذي كان فيها أن يقف أمام هذه القوة الإسلامية الجارفة فضمها إليه بسهولة، وكان عمره آنذاك ثلاثين سنة فقط. وأصبح الطريق آمناً للشمال الشرقي والذي به سرقسطة، فضم طليطلة للمسلمين، ثم وجه حملة ضخمة جداً للنصارى، تعرف بغزوة موبش الكبرى في سنة (308هـ)، ضد جيوش ليون ونافار المجتمعة، واستمرت الغزوة ثلاثة شهور كاملة وعبد الرحمن الناصر رحمه الله على رأس الجيوش، فتحققت انتصارات ضخمة وغنائم عظيمة، وضم إليه مدينة سالم والتي كان قد سيطر عليها النصارى من قبل. وفي سنة (312هـ) قاد عبد الرحمن الناصر حملة ضخمة أخرى بنفسه على مملكة نافار، واستطاع في أيام معدودات أن يكتسحها اكتساحاً، وضم إلى أملاك المسلمين مدينة دندلونة عاصمة نافار، وبدأ رحمه الله يحرر الأراضي التي أخذها النصارى في عهد ضعف الإمارة الأموية. وفي سنة (316هـ) قاد حملة على شرق الأندلس، وقمع التمرد الذي كان هناك، وضمها إلى أملاكه. ثم في نفس العام قاد حملة على غرب الأندلس فهزم عبد الرحمن الجليقي، وضمها إلى أملاكه من جديد، وبذلك وحد الأندلس كلها تحت راية واحدة بعد ست عشرة سنة من الكفاح المضني، ولم يبلغ من العمر إلا ثمانية وثلاثين سنة فقط. نظر إلى العالم الإسلامي من حوله، فوجد الخلافة العباسية قد ضعفت

التطور في شتى المجالات في عهد عبد الرحمن الناصر

التطور في شتى المجالات في عهد عبد الرحمن الناصر كان هذا هو التاريخ السياسي والعسكري لـ عبد الرحمن الناصر رحمه الله، لكن لم يكن كل جهد عبد الرحمن الناصر موجهاً إلى السياسة وإلى هذه الجيوش والحروب فقط، بل كان متكاملاً متوازناً في كل أموره رحمه الله. فقد أنشأ الحضارة العظيمة في بلاد الأندلس، وأنشأ هياكل إدارية على أعلى مستوى، أكثر مما عليه الآن الوزارات والهيئات، وجعل لكل أمر مسئولاً، ولكل مسئول وزارة كبيرة تضم عمالاً وكتبة وأفراداً كثيرين. وقام بالحضارة المعمارية، فأنشأ مدينة ضخمة جداً تسمى مدينة الزهراء في الشمال الغربي لقرطبة، واضطر لإنشاء هذه المدينة لاستقبال الوفود الكثيرة التي تأتي من كل بلاد العالم تطلب وده رحمه الله، فأنشأ مدينة الزهراء على طراز رفيع جداً، وعلى درجات مختلفة، فالدرجة السفلى للحراس والكتبة والعمال، ثم درجة أعلى منها للوزراء وكبار رجال الدولة، ثم أعلى الدرجات في منتصف المدينة وفيها قصر الخلافة الكبير، واستجلب لهذه المدينة المواد من القسطنطينية وبغداد وتونس وأوروبا، وأنشأ قصر الزهراء، ولم يكن في الإسلام قصر مثل قصر الزهراء، وبالغ في إنشائه حتى أصبح من معجزات زمانه، وكان الناس يأتون من أوروبا والعالم الإسلامي ليشاهدوا قصر الزهراء في مدينة الزهراء. أما مدينة قرطبة في عهد عبد الرحمن الناصر، فقد اتسعت جداً، وبلغ سكان قرطبة في عهد عبد الرحمن الناصر نصف مليون مسلم، وهي بذلك تعتبر ثاني أكبر مدينة في تعداد السكان في العالم بأسره، والمدينة الأولى هي مدينة بغداد إذ كان عدد سكانها مليونين. وفي مدينة قرطبة كان هناك ثلاثة عشر ألف دار، والدار بلغة ذلك الزمان عبارة عن بيت واسع فسيح ومن حوله حديقة، وكان فيها ثمان وعشرون ضاحية، وثلاثة آلاف مسجد، حتى أطلق عليها بحق جوهرة العالم، ووسع في مسجد قرطبة حتى أصبح من آيات الفن المعماري في زمانه، وكان المحراب عبارة عن قطعة رخام واحدة على شكل محارة أتى بها من إيطاليا. وأنشأ حدائق للحيوان في كل بلاد الأندلس، وكذا مسارح للطيور. ومن الناحية العسكرية فقد أنشأ أسطولاً بلغ أكثر من مائتي سفينة في زمانه، وبلغ الجيش أكثر من مائة ألف فارس، وزاد في مصانع الأسلحة حتى كثرت في كل مدينة. ومن الناحية الاقتصادية فقد اهتم جداً بالزراعة، حتى كثرت الفواكه، واهتم بزراعة القطن والكتان والقمح، واهتم جداً بقوانين الزراعة. وأيضاً في مجال الصناعة والمناجم، فقد اهتم باستخراج الذهب والفضة والنحاس، واهتم بصناعة الجلود والسفن وآلات الحرب والأدوية، وأنشأ كثيراً من الأسواق، وجعل هناك الأسواق التخصصية، فهناك مثلاً: سوق للنحاسين، وسوق للحوم، وسوق حتى للزهور. وكانت البلاد في عهده تعيش في رخاء منقطع النظير، وكثرت الأموال حتى بلغت ميزانية الدولة في عهده ستة ملايين دينار ذهبي، كان يقسمها كجده عبد الرحمن الداخل رحمه الله ثلاثة أقسام: ثلث للجيش، وثلث للبناء والمعمار والمرتبات وما إلى ذلك، والثلث الأخير للادخار لنوائب الزمن. أما من الناحية الأمنية فقد قويت الشرطة جداً في عهد عبد الرحمن الناصر، كانت هناك الشرطة التخصصية، شرطة للنهار، وشرطة لليل، وشرطة للتجارة، وشرطة للبحر، وهكذا وزع أقسامها حتى عم الأمن والأمان، ولم تقم ثورات أبداً في النصف الثاني من خلافته رحمه الله، وأنشأ ما يعرف بمحاكم المظالم، وهي شبيهة جداً بمحاكم الاستئناف في هذه الآونة، وطور المحاكم وأقام الشرع إقامة محكمة دقيقة، ما فرط قدر استطاعته في كلمة من كلمات الله، أو في كلمة من كلمات رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. أما البريد فقد ازدهر في عهده رحمه الله. أما من الناحية العلمية فقد شاع التعليم في عهده، واهتم بمكتبة قرطبة التي كانت قد أسست قبل ذلك الزمن، وزاد في حجمها حتى بلغ عدد الكتب فيها أربعمائة ألف كتاب، في زمن ليس فيه طباعة، وإنما فيه النسخ فقط، فقد جمعها من كل بلاد المسلمين. وظهرت للمسلمين وظائف عجيبة جداً في ذلك الزمن، وهي: وظيفة النساخين، فقد كان الكتاب الواحد من الصعب جداً طباعته أكثر من نسخة، فظهرت هذه الوظيفة، فمن أراد ينسخ كتاباً ليمتلكه في بيته يذهب إلى نساخ، فيذهب النساخ إلى مكتبة قرطبة فينسخ له ذلك، ولم يكن هناك حقوق طبع مثل الآن، فالكاتب أو المؤلف كان يكتب الكتاب ويتمنى أن ينتشر وينسخه كل العالمين؛ لأنه ما كان يكتب ذلك إلا لابتغاء وجهه سبحانه وتعالى. وظهرت أيضاً وظيفة الباحثين، فكان من الصعب على الواحد أن يبحث في أربعمائة ألف كتاب، فكان يذهب إلى الباحثين الخبراء ليبحثوا له عن مسألته، سواء كانت في الفقه أو العقيدة أو السيرة أو غيرها. وذاع صيت عبد الرحمن الناصر في الدنيا جميعاً، ورضيت عنه ممالك الشمال بالعهد والجزية، وجاءت السفارات من كل أوروبا تطلب وده، فقد جاءت من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا وبيزنطة في أقصى بلاد شرق أوروبا، وأهدت له الهدايا، ومن أشهرها جوهر

استخلاف الحكم بن عبد الرحمن الناصر بعد أبيه

استخلاف الحكم بن عبد الرحمن الناصر بعد أبيه استخلف عبد الرحمن على الحكم ابنه الحكم بن عبد الرحمن الناصر، والذي تولى من سنة (350هـ - 366هـ)، وفي عهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر حدثت في الأندلس نهضة علمية غير مسبوقة، فقد كان الحكم بن عبد الرحمن الناصر عالماً من العلماء، ولا غرو فهو ابن عبد الرحمن الناصر رحمه الله، تولى الحكم وهو يبلغ من العمر (47) سنة، وكانوا يلقبونه بعاشق الكتب، وهو الذي أنشأ المكتبة الأموية، أعظم مكتبات القرون الوسطى على الإطلاق، وكانت تنافس مكتبة قرطبة ومكتبة بغداد، واستجلب لها أعظم الكتب من كل مكان في العالم، وكان يدفع فيها الآلاف من الدنانير، وكان له عمال وظيفتهم فقط أن يجمعوا الكتب من مشارق الأرض ومغاربها، ومن بلاد المسلمين ومن غير بلاد المسلمين، فإن أتوا بكتاب في الطب، أو الفلك، أو الهندسة أو غيرها من أي بلد من بلاد غير المسلمين ترجم فوراً، وضم إلى المكتبة الأموية، وكان يشتري الكتب مهما بالغ الناس في أسعارها، حتى إنه أحضر النسخة الأولى من كتاب الأغاني للأصفهاني، وهو كتاب في الأدب، وأصفهان تقع الآن في إيران، وكثر النسخ في عصره رحمه الله، وكان النسخ في عصره وظيفة النساء في البيوت، واشتهرت نساء الأندلس بحسن خط اليد، أما الرجال فهم مشغولون في الجهاد، وفي نشر العلم، وفي البناء والمعمار، وكثرت صناعة الورق والكتب والتجليد والأحبار في الأندلس، حتى كان باباوات إيطاليات يشترون الورق من الأندلس؛ ليكتبوا عليها أناجيلهم، وكذلك كل دول أوروبا كانت تستورد أشياء كثيرة جداً من بلاد الأندلس، وقد وسع الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله المكتبة، وجعل لها أروقة عظيمة لتستوعب كثرة الحضور من المسلمين، وزاد التعليم للناس بشدة، حتى أصبح في ذلك الزمان، أي: قبل ألف عام كان كل أهل الأندلس يتعلمون القراءة والكتابة حتى اختفت الأمية تماماً في هذا العهد السحيق في تاريخ الإسلام، وأنشأ داراً لتعليم الفقراء بالمجان، وخصص المعونات والمكافآت للطلاب، وأنشأ جامعة قرطبة، وكان العلماء قبل إنشاء جامعة قرطبة يباشرون أعمالاً أخرى كالتجارة والزراعة والصناعة، ثم يتعلمون ويعلِّمون، لكن الحكم بن عبد الرحمن الناصر جعل وظيفة التدريس وظيفة خاصة، فجعلهم يتفرغون للتدريس وللتعليم حتى يبدعوا فيه، وظنت ممالك أوروبا الشمالية وممالك الأندلس النصرانية الشمالية أن هذا الرجل يهتم بالعلم فقط على حساب الجهاد، فهاجموا مناطق الشمال، وخالفوا عهدهم الذي كانوا قد أبرموه مع أبيه عبد الرحمن الناصر، فرد عليهم كيدهم في نحورهم، وهاجمهم بغزوات كغزوات أبيه رحمه الله، وانتصر عليهم في مواقع عدة حتى رضوا منه بالجزية من جديد. ومن منطلق إسلامي بحت، بدأ الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله في حرب الدولة الفاطمية ولم يكن يملك الأندلسيون إلا ميناء سبتة وطنجة فقط في عهد عبد الرحمن الناصر، لكن الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله ضم كل بلاد المغرب جميعاً إلى الأندلس تحت حكم الخلافة الأموية، وظل الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله يحكم من سنة (350هـ) - (366هـ) وهي أقوى فترات الأندلس على الإطلاق، وأعظم عهودها. فماذا حدث في آخر عهده رحمه الله؟! وكيف كانت الأمور من بعده؟! وكيف انتقلنا من هذا العهد إلى عهد جديد؟! هذا ما نتداوله بإذن الله من سنة (366هـ) بوفاة الحكم بن عبد الرحمن الناصر. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.

عهد الدولة العامرية والفتنة

سلسلة الأندلس_عهد الدولة العامرية والفتنة كانت زلة الحكم بن عبد الرحمن الناصر باستخلاف ابنه هشام للحكم وهو في الثانية عشرة النواة الأولى لضعف الإمارة الأموية في الأندلس، ونشوء الفتن بين المسلمين واستعانة بعضهم بالنصارى ضد بعض، وتقسيم بلاد الأندلس إلى دويلات ضعيفة مكنت الأعداء من القضاء على الإسلام والمسلمين آنذاك.

استخلاف هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر بعد موت والده

استخلاف هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر بعد موت والده إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فنبدأ بعون الله في الحلقة السابعة من حلقات الأندلس: من الفتح إلى السقوط. في الحلقة السابقة توقفنا عند آخر عهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله، وذكرنا الفترة العظيمة التي مرت في تاريخ الأندلس من سنة (300هـ) منذ ولاية عبد الرحمن الناصر رحمه الله إلى سنة (366هـ). في آخر عهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر، مع أنه كان من أفضل حكام المسلمين في هذه البلاد، إلا أنه أخطأ خطأً كبيراً جداً، فقد أصيب في آخر أيامه بالفالج، يعني: الشلل، فاستخلف ابنه هشام بن الحكم على حكم هذه البلاد العظيمة وعمره اثنتا عشرة سنة فقط، وقد كان أكبر أولاده، فاستخلفه على حكم الأندلس ومن فوقها بلاد النصارى في الشمال، ومن تحتها بلاد الدولة الفاطمية، وكل ممالك أوروبا تتشوق إلى هزيمة هذه البلاد وإلى الكيد لها. فهذه زلة خطيرة جداً من الحكم بن عبد الرحمن الناصر وكان عليه أن ينتقي خليفة مناسباً ولو من غير بني أمية، يستطيع أن يقوم بالأعباء الثقيلة لمهمة حكم دولة قوية مثل دولة الأندلس، دولة متسعة الأطراف ولها أعداء كثر. لكن الذي حدث هو أنه استخلف ابنه، ثم مات في سنة (366هـ) ليتولى هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر الحكم، وهو طفل صغير لا يستطيع أن يحكم البلاد، ولذلك جعل عليه مجلس وصاية. فمجلس الوصاية هذا كان مكوناً من ثلاثة: الأول: الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، والحاجب يعني: رئيس الوزراء، فهذا كان أحد الأوصياء على هشام بن الحكم. الثاني: قائد الشرطة: محمد بن أبي عامر، وقائد الشرطة في هذا الوقت مثل وزير الداخلية، ومحمد بن أبي عامر كان من اليمن ليس من بني أمية. الثالث: أم هشام بن الحكم وكان اسمها صبح. والمثل يقول: المركب الذي فيه سائقان يغرق، فقد كان محمد بن أبي عامر طموحاً في أن يكون والياً على هذه البلاد. فدبر مكيدة لسجن الحاجب جعفر بن عثمان ثم قتله بعد ذلك. فهذا الرجل الذي قام بمكائد عدة ومؤامرات عظيمة، حتى تظن أنه من أكثر الناس مجوناً وفساداً، ثم إذا به يقوم بحسنات عظيمة حتى تظنه أنه من أعظم المجاهدين، فأمره عجيب جداً وسنرى، فصلاً من حياته مع سيرة هشام بن الحكم. أما أم هشام بن الحكم فقد كانت ضعيفة بالنسبة لقائد الشرطة فلم تؤثر عليه في شيء فتركها في قصرها، لكنه تقلد الأمور وحده وبدأ يحكم في بلاد الأندلس باسم الخليفة الصغير هشام بن الحكم. وأراد أن يقوي منصبه أكثر من ذلك، فتزوج ابنة غالب بن عبد الرحمن أمير الجيش، وبذلك ضمن ولاء الجيش الأندلسي له، ثم دبر محمد بن أبي عامر مكيدة أخرى لـ غالب ثم قتله؛ لأنه اكتشف نواياه وعلم خطته. ثم بعد ذلك استدعى جعفر بن علي بن حمدون، قائد الجيش الأندلسي في المغرب في عهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر، فاستدعاه وقربه إليه واستفاد من قوته، ثم بعد ذلك دبر له مكيدة أخرى ثم قتله، وبذلك تمكن من كل الأمور، كان كلما قتل واحداً عين آخر برأيه هو، وهو الوصي الأساسي على هشام بن الحكم الذي هو صورة خليفة في قصر السلاح. الأمر الذي بعد هذا أنه بدأ يقنع الخليفة هشام بن الحكم بالاختفاء عن العيون في قصره خوفاً عليه من المؤامرات، وقال: إن الخلفاء يجب أن يتفرغوا للعبادة، ويتركوا أمور الناس لرئاسة الوزراء أو لقوة الشرطة أو ما إلى ذلك، فقام هو بإدارة كل شيء، وربي هشام بن الحكم الطفل الصغير على ترك الأمور لـ محمد بن أبي عامر، ومرت السنوات ومحمد بن أبي عامر يتولى كل شيء في بلاد الأندلس وهشام بن الحكم يكبر في السن ولكنه ربي على عدم تحمل المسئولية. وفي سنة (371هـ) أي: بعد حوالي خمس سنوات من تولي هشام بن الحكم الأمور ووصاية محمد بن أبي عامر عليه سمى محمد بن أبي عامر نفسه بـ الحاجب المنصور، ولأول مرة نسمع أن رئيس الوزراء أو الوصي يسمي نفسه باسم المنصور، وأصبح يدعى له على المنابر مع الخليفة هشام بن الحكم، وبدأ محمد بن أبي عامر ينقش اسمه على النقود والكتب، وأصبح هو كل شيء في بلاد الأندلس. نحن نعرف أن عبد الرحمن الناصر رحمه الله كان قد أسس مدينة الزهراء في الشمال الغربي من مدينة قرطبة، أما

الجوانب المشرقة من حياة الحاجب المنصور

الجوانب المشرقة من حياة الحاجب المنصور مع كل المكائد والمؤامرات والقتل من محمد بن أبي عامر، إلا أنه كانت له جوانب مضيئة في حياته، جعلت جميع المؤرخين يتعجبون جداً من سيرته، ومن ذلك ما يلي: أولاً: كان محمد بن أبي عامر مجاهداً من الطراز الأول، غزا في حياته أربعاً وخمسين غزوة لم يهزم في واحدة، فقد وصل في فتوحاته إلى أماكن لم يصل إليها أحد من قبل في بلاد النصارى في مملكة ليون، فاستطاع أن يغزو النصارى في عمق دارهم، ووصل إلى خليج بسكاي والمحيط الأطلنطي في الشمال. كان الحاجب المنصور يقاتل في سبيل الله في كل عام مرتين، عرفت بالصوائف والشواتي، أي: مرة في الصيف، ومرة في الشتاء، أو مرة في الربيع، ومرة في الخريف. ومما يذكر عنه أنه سير جيشاً كاملاً لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين أسيرات في مملكة نافار، ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية، وكان من ضمن هذه العهود: ألا يأسروا أحداً من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم. فذات مرة ذهب رسول من رسل محمد بن أبي عامر إلى مملكة نافار، فتجول فيها بعد أن أدى الرسالة إلى ملك نافار، ففي أثناء هذه الجولة وجد ثلاثاً من نساء المسلمين في كنيسة من الكنائس، فتعجب لوجودهن، فلما سألهن عن ذلك قلن: نحن أسيرات في هذا المكان، فغضب الرسول غضباً شديداً وعاد إلى الحاجب المنصور وأبلغه بذلك، فما كان منه إلا أن سير جيشاً كاملاً لإنقاذ هؤلاء النسوة، فلما ذهب الجيش إلى بلاد نافار، استغرب ملك نافار وقال: نحن لا نعلم لماذا جئتم وقد كان بيننا وبينكم معاهدة على ألا نتقاتل ونحن ندفع الجزية، قالوا: عندكم أسيرات مسلمات، فقال: لا نعلم بهن، فذهب الرسول إلى الكنيسة وأخرج النساء، فقال ملك نافار: إن هؤلاء النسوة لا نعرف بهن، وقد أسرهن جندي من الجنود، وقد تم عقاب هذا الجندي، وأرسل رسالة إلى الحاجب المنصور يعتذر فيها اعتذاراً كبيراً، فعاد الحاجب المنصور ومعه النساء الثلاث. وهذه عزة كبيرة جداً لجيش المسلمين ولدولة المسلمين أن يسير قائد المسلمين جيشاً كبيراً جباراً لمجرد إنقاذ ثلاث من نساء المسلمين. يذكر عنه أيضاً أنه عبر بجيشه مضيقاً في الشمال بين جبلين لفتح بلاد النصارى، فنصب له النصارى كميناً كبيراً وتركوه حتى دخل بكل جيشه، ثم قطعوا عليه طريق العودة. فلما رجع الحاجب المنصور ووجد المضيق مغلقاً بالجنود عاد مرة أخرى إلى الشمال واحتل مدينة من مدن النصارى في الشمال وأخرج أهلها وعسكر فيها، ووزع ديارها على جنده، وتحصن فيها وعاش فيها فترة واتخذها مركزاً له، وأخذ يرسل منها السرايا إلى أطراف ممالك النصارى ويأخذ الغنائم، ويقتل المقاتلين من الرجال، ثم يأتي بهؤلاء المقاتلين ويرمي بجثثهم على المضيق الذي احتله النصارى ومنعوه من العودة منه، فضج النصارى وذهبوا إلى قوادهم، وقالوا: لا نجد لنا حلاً في هذا الرجل إلا أن تفتحوا له الباب حتى يعود إلى بلاده مرة ثانية، فعرضوا عليه أن يخلوا بينه وبين طريق العودة فرفض، وقال لهم: سأمكث فيها ستة شهور وأقوم بالصوائف والشواتي من مركزي في هذه البلاد، فقال النصارى: ارجع إلى بلدك ولك ما تريد، فاشترط عليهم شروطاً وهي ما يلي: الشرط الأول: أن يفتحوا المضيق ولا يبقوا فيه نصرانياً واحداً. الشرط الثاني: أن ترفعوا جثثكم التي ألقيناها في المضيق. الشرط الثالث: أن تحملوا الغنائم من بلاد ليون في الشمال إلى قرطبة في الجنوب. وكان من عادته أن ينفض ثيابه بعد كل موقعة، ويرفع ما خرج منها من غبار ويضعه في قارورة ويجمعه معه، ثم أمر في نهاية حياته أن تدفن هذه القارورة معه حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى، وذلك متشبثاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم)، هذا حديث رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح. ومع كل هذه الحروب ومع كل هذا الجهاد، ومع أنه غزا (54) غزوة لم يهزم في واحدة منها، إلا أن سمت الحروب للحاجب المنصور لم يكن سمتاً إسلامياً، مثل: سمت الحروب في عهد عبد الرحمن الناصر أو الحكم بن عبد الرحمن الناصر، فكان الحاجب المنصور يخترق بلاد النصارى ويصل إلى العمق ويقتل منهم ويعود محملاً بالغنائم، لكن لم يكن من همه أبداً أن يضم هذه البلاد إلى بلاد المسلمين، أو أن يعلم أهلها الإسلام أو ينشر الدعوة في هذه البلاد، فبقي الحال كما هو عليه، بل إن النصارى ازداد في قلوبهم الحمية لدينهم والحقد على المسلمين. هذا جانب من جوانب حياة محمد بن أبي عامر الجانب الجهادي أو الجانب العسكري من حياته. وقد اهتم بالجانب المادي والحضاري في البلاد، فأسس مدينة الزهراء على أحدث طراز وزاد في مساحة مسجد قرطبة حتى أضاف إليه ضعف مساحته الأصلية، وكان يضيف هذه المساحات الزائدة إلى مسجد قرطبة بعد أن يشتر

وفاة الحاجب المنصور وتولية ابنه عبد الملك بن المنصور من بعده

وفاة الحاجب المنصور وتولية ابنه عبد الملك بن المنصور من بعده ظل الحاجب المنصور يحكم من وراء الستار من سنة (366هـ - 392هـ) ثم مات في هذه السنة، واستخلف على الحجابة ابنه عبد الملك بن المنصور فتولى الحجابة من سنة (392هـ - 399هـ) أي: سبع سنوات متصلة، وكان كأبيه في الجهاد، فقد كان يجاهد في كل عام مرة أو مرتين في بلاد النصارى، وظل عبد الملك بن المنصور يحكم من وراء الستار، وهشام بن الحكم كان عند بداية ولاية عبد الملك بن المنصور يبلغ من العمر (38) عاماً، ومع ذلك لم يطلب الحكم، ولم يحاول أن ينفذ أموره في بلاد الأندلس، فقد تعود على حياة الدعة واستماع الأوامر من الحاجب المنصور وهكذا من تلاه من أولاده. وقد كان بخلاف عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر الذي كان عمر كل واحد منهما (25) سنة أو (22) سنة، وكان كل واحد منهما يدير الأمة كأحسن ما تدار، لكن هشام بن الحكم تولى الحكم وعمره (12) سنة وربي على استماع الأوامر من غيره.

وفاة عبد الملك بن المنصور وتولية أخيه عبد الرحمن للحجابة

وفاة عبد الملك بن المنصور وتولية أخيه عبد الرحمن للحجابة في سنة (399هـ) توفي عبد الملك بن المنصور في حملة من الحملات في الشمال، وتولى أخوه عبد الرحمن بن المنصور الحجابة، وفي هذه الفترة بدأت الدولة العامرية تسيطر على الأمور، فبعد وفاة عبد الملك المنصور تولى عبد الرحمن بن المنصور الحجابة، وأخذ يدير الأمور من وراء الستار، لكن عبد الرحمن بن المنصور كان مختلفاً عن أبيه وعن أخيه. فقد كان شاباً ماجناً فاسقاً شارباً للخمر مكثراً من الزنا، وكان يفعل من المنكرات الكثير، وكان الشعب يكرهه بشدة، بالإضافة إلى أن أمه كانت بنت ملك نافار وكانت نصرانية، وكان الشعب يكره أن يتولى عليهم الحكم رجل تجري في عروقه دماء النصارى. فقام عبد الرحمن بن المنصور بإقناع الخليفة هشام بن الحكم بأن يجعله ولياً للعهد من بعده، بمعنى: أنه لو مات هشام بن الحكم سيصبح خليفة المسلمين في هذه البلاد عبد الرحمن بن المنصور، فضج بنو أمية لهذا الأمر وغضبوا وغضب الناس أجمعون، لكن لم تكن لهم قدرة على عبد الرحمن بن المنصور وقد جعل جميع الولايات في يد العامريين وفي يد البربر أتباع العامريين منذ أيام الحاجب المنصور. ومع كل هذا الفسق والمجون الذي كان فيه عبد الرحمن بن المنصور إلا أن الشعب كان قد تعود على أمور الجهاد والخروج كل عام إلى بلاد النصارى، فخرج عبد الرحمن بن المنصور على رأس جيش من الجيوش ليحارب في الشمال، فانتهز الناس فرصة وبدءوا يحاولون أن يغيروا من الأمر فذهبوا إلى هشام بن الحكم في قصره وخلعوه بالقوة وعينوا رجلاً آخر من بني أمية اسمه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، من أحفاد عبد الرحمن الناصر، ودبروا مكيدة لـ عبد الرحمن بن المنصور وقتلوه وانتهى بذلك عهد الدولة العامرية. منذ مقتل عبد الرحمن بن المنصور. وبعد ذلك انفرط العقد تماماً في بلاد الأندلس، سبحان الله! كنا نتكلم منذ قليل على قوة ومجد وعز وسلطان بلاد الأندلس، وكيف كانت بلاد النصارى في الشمال تدفع الجزية للمسلمين، وكيف كانت السفارات تأتي من كل بلاد العالم تطلب ود عبد الرحمن الناصر وتطلب ود ابنه الحكم بن عبد الرحمن الناصر، ثم بعد ذلك انفرط العقد تماماً، وبدأت البلاد تقسم والثورات تكثر، والمكائد تتوالى، وأمور عجيبة جداً تحدث في بلاد الأندلس. لا بد لنا من وقفة مع هذا الحدث، وكما ذكر بعض أساتذتي في التاريخ أن عبد الرحمن بن المنصور كان رجلاً ماجناً فاسقاً فأساء للإسلام والمسلمين، وبسببه سقطت الخلافة الأموية والدولة العامرية، وحدثت الهزة الكبيرة في بلاد الأندلس. ليس من سنن الله سبحانه وتعالى أن تهلك الأمم لمجرد ولاية رجل فاسق لفترة شهور معدودات، فـ عبد الرحمن بن المنصور لم يمكث في الحكم إلا شهور، فمهما كان من الفاسقين والظالمين لا يمكن أبداً أن تسقط البلاد هذا السقوط السريع، وتفشل هذا الفشل الذريع، إلا إذا كانت هناك بذور كبيرة جداً للضعف نمت من قبل، وبدأت تتزايد مع مرور الزمان، عندما حللنا عهد الإمارة الأموية، ورأينا كيف ضعفت الإمارة بعد عهد القوة، وجدنا أن هناك بذوراً للضعف في عهد الإمارة الأموية، وهكذا كانت بذور الضعف سبباً في هلاك الدولة الأموية أو الخلافة الأموية، بعد سنوات من نمو هذه البذور في حياة الأمويين في بلاد الأندلس.

أسباب ضعف الدولة الأموية وهلاكها في الأندلس

أسباب ضعف الدولة الأموية وهلاكها في الأندلس السبب الأول لضعف الدولة الأموية بدأ منذ أيام عبد الرحمن الناصر ذاته، هذا الخليفة القوي الذي أقام ملكاً لم يتكرر مثله في التاريخ، بدأت بعض بذور الضعف تنشأ في عهده. وأول هذه البذور: الترف الشديد والبذخ الشديد، وكثرة إنفاق الأموال في زخرفة الدنيا، وقد علم أن الدنيا مهلكة، وانشغال الناس بكثرة الأموال من الأمور المهلكة. فقد أنشأ عبد الرحمن الناصر قصر الزهراء، والذي أصبح أعجوبة من أعاجيب الزمان في ذلك الوقت، فقد كان على رغم اتساعه وكبر حجمه مبطناً من داخله بالذهب، بل وكان السقف لهذا القصر مبطناً أيضاً بخليط من الذهب والفضة بأشكال تخطف الأبصار وتذهل العقول، وهذا تجاوز خطير في أموال الدولة، رغم أنه كان يصرف على كل شيء حق الصرف، كان لا يقصر في نواحي التعليم والجيش، لكن هذا الترف الشديد وهذا البذخ الشديد جعلت القلوب تتعلق بهذه الدنيا. حتى إن القاضي المنذر بن سعيد رحمه الله دخل على عبد الرحمن الناصر في قصره لما بناه بهذه الفخامة وبهذا الترف الشديد، فقال له عبد الرحمن الناصر: ما تقول يا منذر! في هذا؟ فقال القاضي المنذر بن سعيد رحمه الله ودموعه تقطر على لحيته: ما ظننت الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ مع ما آتاك الله من النعمة، وفضلك به على كثير من عباده تفضيلاً، حتى ينزلك منازل الكافرين، فقال عبد الرحمن الناصر: انظر ما تقول؟ كيف أنزلني الشيطان منازل الكافرين؟ قال: أليس الله تعالى يقول في كتابه الكريم: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33]، أي: لجعلنا هذا الأمر، لكنا لم نجعله، أما عبد الرحمن الناصر فقد فعله وجعل سقف قصره من فضة، فوجم عبد الرحمن الناصر وسقطت عليه الكلمات كالصخر، ثم بدأت دموعه تنسال رحمه الله ثم قام ونقض السقف وأزال الذهب والفضة وبنى السقف كما كانت تبنى السقوف في ذلك الزمن، لكن مع مرور الوقت يعود من جديد ويبرز مظهر من مظاهر الترف بسبب كثرة الأموال، لدرجة أنه ينفق على أشياء لا ينفق فيها. والإسراف والترف مهلكان، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، وكأن الآية أنزلت في ذلك الزمن. ولما أسرف هؤلاء في الترف وعاشوا فيه أياماً وشهوراً وسنوات طويلة، بعد ذلك كتب الله عليهم الهلكة والتدمير الذي حل في بلاد الأندلس، بعد هذا الملك الكبير والعز العظيم الذي دام سنوات وسنوات، فسنن الله لا تتبدل ولا تتغير، قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]. السبب الثاني: توسيد الأمر لغير أهله، فـ الحكم بن عبد الرحمن الناصر كانت حياته الطويلة في الجهاد والعلم ونشر الدين في البلاد، ثم قبل أن يموت يوسد الأمر لغير أهله، ويكل الأمور إلى طفل لم يبلغ إلا اثنتي عشرة سنة من عمره، فيتحكم فيه الأوصياء وتحدث المكائد والمؤامرات، وقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمارات الساعة فقال: (أن تضيع الأمانة، فقال الرجل: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). هكذا إذا تولى من لا يستحق منصباً من المناصب حدثت الهزة في البلاد وحدث الانهيار، فما بالك لو كان هذا المنصب منصب الخليفة. ذكرت حادثة في الجرائد عن الإمساك برجل روسي جاسوس للأمريكان في بلاد الروس، فلما سألوه: ماذا كنت تفعل للأمريكان؟ قال: ما كنت أفعل شيئاً، إلا أنه إذا عرض علي خمسة من الرجال لمنصب من المناصب أختار أسوأهم، هذا الرجل كان له منصب كبير في الحكومة الروسية، فمع مرور الزمان كان يختار أسوأ الناس، فضيع الأمر وضيعت الأمانة وبالتالي سقطت البلاد بعد ذلك، فهذا أحد العوامل الذي أسقط البلاد بعد ذلك، فتوسيد الأمر إلى غير أهله علامة من علامات ضياع الأمم، هكذا تعلمنا من سيرة الأندلس في هذا الموقف. السبب الثالث المثير للانتباه: أن الفترة العامرية اعتمدت عليها الدولة في جهازها على القوة المادية من جند وعدد ومال ومعمار، ولم يصرفوا نواياهم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى، ولم يربوا الشعب على الجهاد في سبيله سبحانه وتعالى، وعلى طلب الجنة والموت في سبيل الله، لذلك حدث هذا الخلل على ممر ثلاث وثلاثين سنة في الدولة العامرية، أدى في النهاية إلى أن الشعب أصبح يفتقد روح الجهاد الحقيقي، ولا يبغي إلا جمع المال وجمع الغنائم، وسبحان الله! فإن للتاريخ دورات، كنا نتحدث عن عهد القوة، والآن سنبدأ عهداً جديداً من عهود الأندل

عهد محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر في الأندلس

عهد محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر في الأندلس انفرط العقد تماماً بعد خلع هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر وولاية محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، الملقب بـ المهدي، وكان فتىً لا يدرك الأمور، وليس له في الإدارة شيء، وأول شيء عمله لما تولى الحكم أنه ألقى القبض على كثير من العامريين، الذين كانوا يحكمون البلد من وراء هشام بن الحكم، فبدأ يقتل في العامريين في منتهى الرعونة. الأمر الثاني: بدأ ينتقم أيضاً من البربر، الذين كانوا العون الرئيسي لـ محمد بن أبي عامر ولمن خلفه من أولاده في ولاية الحكم في بلاد الأندلس، فبدأ يقتل في البربر ويقيم عليهم الأحكام حبساً وتشريداً، فأثار غضب البربر والعامريين بل والأمويين؛ لأن بني أمية الموجودين في أرض الأندلس ما كانوا يبتغون أبداً هذا القتل الشديد وهذه الرعونة في التصرف، فبدأ يحدث سخط كبير جداً من كل الطوائف على المهدي.

عهد سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر في الأندلس

عهد سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر في الأندلس لم يسكت البربر، إنما اجتمعوا وانطلقوا إلى الشمال وأتوا برجل اسمه سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر يعني: أخو هشام بن الحكم المخلوع، ونصبوا سليمان بن الحكم عليهم وأسموه بخليفة المؤمنين، وبدأ يحدث صراع بين سليمان بن الحكم ومن ورائه البربر وبين المهدي في قرطبة. لكن سليمان بن الحكم والبربر لما وجدوا أن قوتهم ضعيفة استعانوا بملك مملكة قشتالة، أحد أجزاء مملكة ليون في الشمال الغربي، فقد حدث في سنة (359هـ) حرب أهلية داخل مملكة ليون فانقسمت إلى قسمين: قسم غربي الذي هو مملكة ليون، وقسم شرقي وهو مملكة قشتالة، وقشتالة تحريف لكلمة كاستلا، والتي تعني: قلعة باللغة الأسبانية، فحرفت في العربية إلى قشتالة، فهذا كان أول ظهور لمملكة قشتالة، ثم بدأت مملكة قشتالة تكبر نسبياً في أول عهد ملوك الطوائف، فاستعان بها سليمان بن الحكم والبربر على حرب المهدي ودارت موقعة بين المهدي من ناحية وبين سليمان بن الحكم والبربر وملك قشتالة من ناحية أخرى، وهزم المهدي في الموقعة، وتولى سليمان بن الحكم الحكم في بلاد الأندلس. كانت مملكة قشتالة تتحين الفرصة لتضرب الأندلسيين بعضهم في بعض، وتضع جيوشها وجنودها في البلاد التي كثيراً ما دفعت الجزية لملوكها من قبل. تولى سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر الحكم ولقب نفسه بـ المستعين بالله، وهو ما كان مستعيناً بالله، بل كان مستعيناً بملك قشتالة، وتولى الحكم في سنة (400هـ)، وفي الفترة القادمة ما يقارب من اثنين وعشرين سنة سيتولى أمور المسلمين ثلاثة عشر خليفة، من سنة (399هـ) بداية بـ هشام بن الحكم ثم المهدي ثم سليمان بن الحكم إلى سنة (422هـ) يعني: في (22) سنة أو (23) سنة سينفرط العقد بصورة مؤسفة جداً.

استعانة المهدي بأمير برشلونة على سليمان بن الحكم

استعانة المهدي بأمير برشلونة على سليمان بن الحكم فر المهدي من سليمان بن الحكم إلى طرطوشة في الشمال، وهناك قابل رجلاً من بني عامر اسمه الفتى واضح، أقنع المهدي بأن يتعاون معه ليعيده إلى الملك من جديد، ويكون الفتى واضح على الوزارة، لكن الفتى واضح قال له: إنه ليس لنا طاقة بـ سليمان بن الحكم مع البربر ومعه أيضاً ملك قشتالة، ففكر الفتى واضح والمهدي بالاستعانة بأمير برشلونة في مملكة أراجون في الشمال الشرقي، والتي كانت تدفع الجزية لـ عبد الرحمن الناصر ولابنه وللحاجب المنصور، فوافق أمير برشلونة على أن يساعدهم في حربهم ضد سليمان بن الحكم الموجود في قرطبة، واشترط عليهم شروطاً وهي: أولاً: أن يدفعوا لأمير برشلونة مائة دينار ذهبية عن كل يوم في القتال. ثانياً: أن يدفعوا ديناراً ذهبياً لكل جندي عن كل يوم في القتال، فتطوع أناس كثيرون لحرب المسلمين. ثالثاً: أخذ كل الغنائم من السلاح وغيرها من قبل أمير برشلونة. رابعاً: أخذ مدينة سالم، وهي التي حررها عبد الرحمن الناصر منذ عهد الخلافة الأموية. فهذه شروط مخزية وقبيحة وفضيعة جداً، وافق عليها المسلمون، وبدأت بالفعل موقعة كبيرة في شمال قرطبة بين المهدي محمد بن هشام بن عبد الجبار ومعه الفتى واضح العامري وأمير برشلونة، وبين الأمير سليمان بن الحكم الملقب بـ المستعين بالله ومعه البربر، فانتصر المهدي ومن معه وهزم سليمان بن الحكم وفر ومن معه ومن بقي من البربر، وسلمت مدينة سالم والغنائم كلها لأمير برشلونة، وتولى المهدي الحكم من جديد في قرطبة. لكن الذي حصل أن الفتى واضح انقلب على المهدي، فقد كان المهدي أحمق في أنه يتفق مع الفتى واضح العامري، ومنذ شهور بسيطة كان المهدي يذبح العامريين في كل مكان، فكيف يأمن أن يعقد معاهدة مع الفتى واضح على أن يعاونه في تملك الحكم في بلاد قرطبة؟

استرداد هشام بن الحكم بن الناصر للحكم بعد الانقلاب على المهدي

استرداد هشام بن الحكم بن الناصر للحكم بعد الانقلاب على المهدي انقلب الفتى واضح على المهدي، وبدأ يتولى الأمور؛ لكن الفتى واضح كان أذكى من عبد الرحمن بن المنصور الذي طلب ولاية العهد من هشام بن الحكم قبل ذلك. فقد رفض أن يكون خليفة البلاد؛ لأنه سيحدث انقلاب من كل القبائل الموجودة، ولأن الناس غير متعودين أن يكون الخليفة عامرياً، فبحث عن رجل من بني أمية يكون هو الخليفة في الظاهر، فوجد الرجل الذي يناسبه ألا وهو هشام بن الحكم المخلوع من قبل، الذي ظل ألعوبة لمدة (33) سنة في يد محمد بن أبي عامر وعبد الملك بن المنصور ثم في يد عبد الرحمن بن المنصور، فعرض على هشام بن الحكم الخلافة من جديد بشرط أن يكون الفتى واضح هو الذي يدير الأمور في البلاد، فوافق هشام بن الحكم فوراً، وعاد من جديد هشام بن الحكم الذي كان ملقباً بـ المؤيد بالله للحكم ومن ورائه الفتى واضح. وسليمان بن الحكم كان موجوداً في البلاد وكان يدبر المكائد ويريد أن يعود للحكم من جديد، فاستعان بملك قشتالة من جديد، لكن ملك قشتالة أرسل إلى هشام بن الحكم أن سليمان بن الحكم يريد مساعدتي في قتالك وحربك، فماذا تعطيني حتى لا أساعده؟ فعرض عليه أموراً فاختار كل الحصون الشمالية للمسلمين في بلاد الأندلس، فتوسعت قشتالة جداً حتى أصبحت حدود قشتالة أكبر من حدود مملكة ليون، مع أن مملكة قشتالة كانت جزءاً صغيراً منفصلاً عن مملكة ليون، وتوحدت البلاد النصرانية في الشمال، فهذه كارثة كبيرة جداً تحل على الأمة الإسلامية، وكل هذه الأحداث والصراعات والاستعانة بالنصارى ودخولهم في بلاد المسلمين والقتل والسلب والنهب في ثلاث سنوات فقط.

استرداد سليمان بن الحكم بن الناصر للحكم من هشام

استرداد سليمان بن الحكم بن الناصر للحكم من هشام في سنة (403هـ) هجم سليمان بن الحكم ومن معه من البربر على قرطبة فعاثوا فيها فساداً، قتلاً واغتصاباً للنساء، وهذا أمر في منتهى الغرابة جداً، وهذه من بذور الضعف، والقشة التي قصمت ظهر البعير كانت في وفاة عبد الرحمن بن المنصور وخلع هشام بن الحكم، لكن لم يكن هذا هو السبب، وإنما هو تملك الترف في الناس وتوسع الدنيا، ووسد الأمر إلى غير أهله، وكل هذه الأمور أدت إلى هذه الهلكة العجيبة في البلاد، ومن جديد يتولى سليمان بن الحكم الحكم في بلاد الأندلس، ومقر الحكم قرطبة، لكن البلاد تفككت، كان في قرطبة هشام بن الحكم والعامريون، ففر العامريون إلى شرق الأندلس في منطقة بلنسية وما حولها، وطرد هشام بن الحكم من البلاد ثم قتل بعد ذلك. والمفاجأة الأخرى أن كل هذه المؤمرات والمكائد، وهشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر وسليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر أخوان، فهما من أولاد الحكم بن عبد الرحمن الناصر القائد المظفر الذي استخلف على الحكم من لا يملك مؤهلات الحكم، ووسد الأمر إلى غير أهله.

تولية علي بن حمود البربري للحكم من بعد سليمان بن الحكم ثم القاسم بن حمود

تولية علي بن حمود البربري للحكم من بعد سليمان بن الحكم ثم القاسم بن حمود تولى سليمان بن الحكم الحكم من سنة (403هـ - 407هـ) وكان الجيش الرئيسي له من البربر، وكانوا يريدون أن يستولوا على الحكم، فكونوا قوة أساسية كبيرة، واستعانوا بالبربر من بلاد المغرب وهجموا على سليمان بن الحكم وأخرجوه من الحكم وقتلوه، وتولى خلافة المسلمين في الأندلس في سنة (407هـ) رجل من البربر اسمه علي بن حمود الذي تسمى بـ الناصر بالله، استقر الأمر لـ علي بن حمود في قرطبة وعين أخاه القاسم بن حمود على إشبيلية في سنة (407هـ)، وبذا أصبح الذين يتملكون الأمور في قرطبة وما حولها هم البربر في ذلك الوقت سنة (407هـ). والعامريون الذين فروا إلى شرق الأندلس لم يسكتوا، بل بحثوا عن أموي آخر هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله من أحفاد عبد الرحمن الناصر، وبايعوه على الخلافة، وسمى نفسه المرتضي بالله، فأخذوه وذهبوا به إلى قرطبة لحرب علي بن حمود البربري، وبالفعل دارت حرب بين العامريين ومعهم المرتضي بالله وبين البربر وعلى رأسهم علي بن حمود كانت النتيجة بين الفريقين أن قتل في الموقعة علي بن حمود والمرتضي بالله. لكن تمكن البربر من الانتصار في الموقعة النهائية وتولى الحكم القاسم بن حمود حاكم إشبيلية سابقاً. ثم قامت بعد ذلك صراعات كثيرة وأتوا برجل آخر من بني أمية وهكذا استمر هذا الوضع إلى سنة (422) أي: أن (13) خليفة تولوا الحكم من سنة (399هـ - 422هـ) ثم يجتمع العقلاء من أهل الأندلس، والعلماء وكبار القوم، واتفقوا على عزل بني أمية تماماً عن الحكم؛ لأنه لم يعد هناك من بني أمية من يصلح لإدارة الأمور، فقد انتهى عهد الخلفاء والأمراء ومن تبعهم أبداً ليسوا على شاكلتهم، فاجتمعوا على خلعهم. وعملوا بالفعل مجلس شورى في قرطبة في سنة (422)، وولوا عليه رجلاً اسمه أبو الحزم بن جهور، وهذا الرجل كان من علماء القوم، وكان يشتهر بالتقوى والورع ورجاحة العقل، وظل الحال هكذا سنة أو سنتين أو ثلاث، لكن واقع الأمر أن أبا الحزم بن جهور لم يكن يسيطر هو ومجلس الشورى الذي معه إلا على قرطبة فقط، أما البلاد والأقاليم الأخرى في الأندلس فقد ضاع السيطرة عليها، وبالفعل بعد ثلاث أو أربع سنوات من هذا التاريخ بدأت الأندلس تقسم بحسب العنصر إلى دويلات مختلفة، ليبدأ ما يسمى بعهد دويلات الطوائف أو عهد ملوك الطوائف.

تقسيم بلاد الأندلس في عهد ملوك الطوائف

تقسيم بلاد الأندلس في عهد ملوك الطوائف قسمت بلاد الأندلس إلى سبع مناطق رئيسية في عهد ملوك الطوائف. فبنوا عباد أخذوا منطقة إشبيلية، وهم من أهل الأندلس الأصليين. وبنو زيري من البربر أخذوا منطقة غرناطة في جنوب الأندلس. وبنو جهور أخذوا منطقة قرطبة، والذي كان منهم أبو الحزم بن جهور زعيم مجلس الشورى، فصاروا حكاماً على منطقة قرطبة. وبنو الأفطس من البربر أخذوا غرب الأندلس وأسسوا إمارة اسمها: بطليوس، وقد تكاثروا فيها ووضعوا أنفسهم في هذه المنطقة. وبنو ذي النون من البربر أخذوا المنطقة الشمالية التي فيها طليطلة وما فوقها. وبنو عامر وهم العامريون وأصلهم من اليمن أخذوا شرق الأندلس، وكانت عاصمتهم في تلك المنطقة بلنسية. وأخيراً بنو هود أخذوا سرقسطة في الشمال الشرقي من البلاد، فقسمت البلاد إلى سبعة أقسام متساوية، كل قسم فيه عنصر من العناصر، إما قبيلة من البربر أو من العرب أو من الأندلس الأصليين. بل إن داخل كل منطقة من المناطق أكثر من دويلة، فبنو عامر كانوا مسيطرين على شرق الأندلس، وكانت شرق الأندلس مقسمة إلى أكثر من دويلة، وعلى كل دويلة رئيس من رؤساء بني عامر. وكذا بنو جهور قسموا قرطبة إلى أكثر من منطقة. وبنو الأفطس قسموا بطليوس إلى أكثر من منطقة وهكذا، حتى وصل تعداد الدويلات الإسلامية في الأندلس بلا مبالغة إلى (22) دويلة، بالرغم من أن (25%) من أرض الأندلس تحت سيطرة النصارى، و (75%) من أرض الأندلس يقسم إلى (22) دويلة، وأن مساحة الأندلس بكاملها ستمائة ألف كيلو متر مربع، أما المساحة التي يحكمها المسلمون فهي حوالي (450. 000 كيلو متر مربع) يعني: أقل من مساحة نصف مصر وهي مقسمة إلى (22) دولة كاملة، كل دولة لها رئيس ولها جيش ولها أمة ولها سفراء ولها وزارات، ولها كل مقومات الدولة أو الإمارة. فتفتت المسلمون تفتتاً لم يسبق في عهد الأندلس، وكان الهبوط على أشد ما يكون، ولو نقارن ما كان عليه الأندلس في عهد عبد الرحمن الناصر والحكم بن عبد الرحمن الناصر من العزة والقوة والوحدة، وما صار إليه من التفرق والتشتت وفقدان عنصر من أهم عناصر القوة عند المسلمين وهو عنصر الوحدة، لقلنا: ما أشبه اليوم بالبارحة. لقد كان هذا التفرق بعد حوالي (50 أو 60) سنة فقط من العزة والقوة والوحدة أيام الناصر وولده الحكم. ترى ماذا حدث بين هذه الدول المتصارعة في بلاد الأندلس؟ هل من قيام بعد هذا التفتت الشديد وهذا الانهيار المروع في بلاد الأندلس؟ هذا ما نتداوله إن شاء الله في الحلقة القادمة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.

عهد ملوك الطوائف

سلسلة الأندلس_عهد ملوك الطوائف تجزأت بلاد الأندلس إلى دويلات ضعيفة لا تمتلك أسباب ومقومات النصر على الأعداء المحيطين بها؛ وذلك بسبب حب الدنيا والركون إليها، وحب الجاه والسيادة، وأدى ذلك إلى التناحر والتباغض فيما بين أمراء هذه الدويلات، وتفاقم الأمر حتى بلغ إلى الاستعانة بالنصارى، فسقطت بسبب ذلك بعض الإمارات الإسلامية كطليطلة، والبعض الآخر فرض عليه الحصار كإشبيلية، فصارت هذه الدويلات تحت سلطة النصارى وحكمهم، وأصبح المسلمون يدفعون الجزية للنصارى وهم صاغرون.

سبب انتصار الأمة الإسلامية أو هزيمتها

سبب انتصار الأمة الإسلامية أو هزيمتها أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الحلقة الثامنة من حلقات الأندلس: من الفتح إلى السقوط. قبل: الدخول في الحلقة المعتادة هناك بعض التعليقات والأسئلة بخصوص الحلقات السابقة. شكوى متكررة من كثرة الأسماء والتواريخ والأرقام وما إلى ذلك، والحقيقة أن هذه المجموعة لتاريخ الأندلس هي مجموعة للتاريخ، فمن الضروري أن يذكر فيها كل الأسماء المؤثرة في تاريخ الأندلس، لكن ليس بالضرورة أن تحفظ كل الأسماء والتواريخ، وعلى سبيل المثال: ما حدث في الحلقة السابقة من صراع دامي وطويل بين مجموعة الملوك الأقزام من سنة (399) إلى سنة (422هـ)، أي: (13) خليفة، غير مهم أن تحفظ أسماء هؤلاء الخلفاء الذين ما حكموا إلا شهوراً معدودات، وما حكموا إلا لجمع الدنيا والمال وما إلى ذلك. وهذه الفترات كانت دامية في العصر الإسلامي في بلاد الأندلس، لكن المهم هو العبرة في هذه الفترة من الفرقة، وأثرها على المجتمع، والولاء للنصارى والتعاون معهم ضد المسلمين، وأثر ذلك على المجتمع الأندلسي، والترف وأثره على المجتمع والقواد والشعوب. وهناك على الجانب الآخر أسماء لابد أن تحفظ وأن تدرس بعناية وأن تتخذ نبراساً للأمة، أمثال: موسى بن نصير وطارق بن زياد وعبد الرحمن الغافقي وعبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر والحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمهم الله، ومما لا شك أن لهؤلاء أخطاء وعيوباً، لكنها قليلة جداً بالنسبة للحسنات الكثيرة التي فعلوها، فتدرس حياة هؤلاء بعناية، وتدرس العبر والدروس لهذا التاريخ الطويل. فنحن نلخص تاريخ (800) سنة، فعليكم أن تعذرونا في كثرة الأسماء والأحداث وتلاحقها؛ لأننا نريد أن نكمل هذه المجموعة في حوالي (11) أو (12) درساً، أي: أن تاريخ 100 سنة تقريباً أو أقل منها بقليل يكون في كل حلقة واحدة، وهذا الشيء يجعلنا نتغاضى عن كثير من الأحداث، ليس لقلة أهميتها، ولكن لضيق الوقت، والأمر محتاج لدراسة طويلة. أنا أنصح كل الإخوة الذين يسمعون هذه الحلقات أن يسمعوا الأشرطة أكثر من مرة، وأن يدونوا ذلك، ويجمعوا الأحداث والأفكار؛ لأن هذه دراسة لتاريخ الأندلس، ليس مجرد أخذ بعض المعلومات من هذا التاريخ، وهذه الدراسة متأنية، وأنا واثق أنه في كل سماع جديد للشريط ستوجد نتائج ودروس جديدة، فهذه دعوة مفتوحة للجميع. هذا سؤال يقول: لماذا كلما قام المسلمون على أقدامهم سقطوا، وكأنه ليس هناك أمل، أليس من قيام لا سقوط بعده، ولا تحصل فيه هذه الهزات المتتالية للمسلمين؟ A نحن رأينا في تاريخ الأندلس قياماً أثناء الفتح وعهد الولاة الأول، ثم تلاه سقوط في آخر عهد الولاة، وحللنا ذلك، ثم رأينا قياماً في أول الإمارة الأموية في عهد عبد الرحمن الداخل ومن تبعه من الأمراء والخلفاء، ثم تلاه سقوط في النصف الثاني من الإمارة الأموية في عهد الضعف، والذي استمر من سنة (238 - 300هـ) أي: قرابة 62 سنة، ثم صار قيام من جديد في عهد عبد الرحمن الناصر ووصول إلى الذروة والعلو، ثم سقوط بعد نهاية عهد الحاجب المنصور أو الدولة العامرية والدخول فيما يسمى بعهد ملوك الطوائف، والذي قد تحدثنا عنه في الحلقة السابقة، واعذروني في هذه الحلقة لأنه سيكون فيها أشياء قد تدمي القلب أكثر، لكن هذا واقع لا بد من دراسته. وللجواب عن السؤال الذي يقول: لماذا كلما نقوم نقع؟ ولماذا كلما ارتفعت الأمة سقطت؟ فهذه ملحوظة في منتهى الجمال، نقول: من سنن الله سبحانه وتعالى الارتفاع والهبوط، وهما بصفة مستمرة منذ نزول الرسالة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا هذا، بل وحتى يوم القيامة، فالمسلمون لا يقومون ولا ينهضون بأمتهم إلا إذا أخذوا بأسباب القيام، وأسباب القيام كثيرة جداً تحدثنا عنها في كل فترة من فترات القيام، ومن أهمها: الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والاعتقاد الجازم بنصرته وقدرته سبحانه وتعالى، والأخوة بين المسلمين والوحدة بين الصفوف والتجمع، ونبذ الفرقة، والعدل في التعامل بين الحكام والمحكومين، وانتشار العلم والدين بين الناس، والأخذ بالأسباب بصورة كاملة، من عدة وعتاد وعدد وخطط وعلم ومال، وكل ما هو مستطاع في اليد، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ

عهد ملوك الطوائف في الأندلس

عهد ملوك الطوائف في الأندلس ذكرنا في الدرس السابق أنه بعد موت عبد الرحمن المنصور الذي كان يتولى الحجابة في عهد هشام بن الحكم حدث انهيار مروع في أرض الأندلس، وقسمت البلاد إلى (22) دويلة، وهذا أمر في منتهى الغرابة، أن بلاداً صغيرة ليست بالمساحات الشاسعة قسمت إلى (22) دويلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإذا نظرنا إلى واقع المسلمين في الأندلس المجزأة إلى (22) دولة نجد أنها دول مفرقة ومفتتة، وكلها تنتمي إلى الإسلام، وكل واحد من هؤلاء الذين حكموا هذه الدويلات الصغيرة قد أعلن أنه أمير المؤمنين، ليس فقط أمير مدينة من المدن، إنما أمير كل المؤمنين وكأنه يستحق أن يكون أميراً للمؤمنين في جميع أنحاء الأرض. حتى إن الرجل في ذلك الوقت كان يمر على ثلاثة من أمراء المسلمين في يوم وليلة لصغر حجم الإمارات، فهي بلاد صغيرة جداً، وكل مدينة وما حولها من القرى تعتبر نفسها دولة ومملكة، ولها سياج من حولها ورئيس وإعلام وجيش وسفراء خاص بها، وهي لا تملك أي مقومات للدولة، ويا ليت كل واحد منهم ظل متحكماً في أرضه ولا ينظر إلى أرض أخيه المجاورة، بل إن كل واحد منهم يعتدي على حدود الآخر فينشأ الصراع بينهما. تخيل أن المدن الإسلامية وحواضر الإسلام في الأندلس كقرطبة تصارع إشبيلية، وبلنسية تصارع سرقسطة وهكذا كان العهد في تلك الفترة صراع بين الممالك الإسلامية أو الدويلات الإسلامية أو المحافظات الإسلامية داخل أرض الأندلس، وكل جيش يضرب الجيش الثاني. عندما نحلل الموقف نتعجب جداً عن حال الناس في ذلك الوقت، فقد يفهم الإنسان أن الخليفة شرير وخارج عن تعاليم الشرع، ويقاتل من أجل المال، لكن أين الشعوب؟ فالشعب يقاتل الشعب المجاور، وكيف زين للشعوب أن تقاتل إخوانها؟ والإعلام الموجود في تلك الفترة هو الشعر، فإن كثيراً من الشعراء يتحدثون شعراً عما يحدث في هذه البلاد، بل إن معظم أبيات الشعر في تلك الفترة هي تمجيد لهؤلاء القواد الذين يقودون الشعوب، حتى جعلوهم كأنهم إله له الحق أن يشرع، وكانت له أموال ضخمة وبناءات ضخمة، وإنجازات ضخمة، فيفتن الناس بهذا المال وهذا العلو في الأرض فيتبعونه فيما يقول. وكان هناك ضغط قوي من الجيوش التي تتبع هؤلاء الحكام، فقد كانت تحكم الناس بالحديد والنار، والناس لا تستطيع أن ترفع أصواتها في وجوه هؤلاء الطواغيت، وظهرت فتاوى خاصة تصرح لهؤلاء بالغزو على بعضهم البعض، فهذه صفات المجتمع الأندلسي في ذلك الوقت. وهناك كارثة أخرى حلت على المسلمين في ذلك الزمان وهي التعاون مع النصارى ضد بعضهم البعض، فمنهم من استعان بأمير قشتالة، ومنهم من ذهب إلى أمير أراغون، ومنهم من ذهب إلى أمير ليون، وكل واحد أخذ له نصير من الدول النصرانية الموجودة في شمال الأندلس، التي كانت في أول هذا العهد تسيطر على (25%) فقط من أرض الأندلس، والتي كانت تدفع الجزية لـ عبد الرحمن الناصر وللحكم بن عبد الرحمن الناصر وللحاجب المنصور. وأكثر من ذلك أن أمراء الطوائف دفعوا الجزية للنصارى، وقام ألفونسو السادس حاكم إمارة قشتالة أكبر الحكام النصارى في ذلك الوقت بالتوسع في بداية عهد الطوائف، وضم إليه مع مرور الوقت مملكة ليون، فأصبحت قشتالة وليون مملكة واحدة تحت زعامة ألفونسو السادس. وكان أمراء ملوك الطوائف يدفعون الجزية للأمير ألفونسو السادس من أجل أن يحافظ لهم على الحكم في بلادهم، وكان يسبهم في وجوههم، فما يزيدون على قول: ما نحن إلا جباة أموال لك في بلادنا، على أن تجعلنا حاكمين لهذا الشعب المسكين. انظر إلى قوله سبحانه وتعالى الذي يصور هذا الواقع، وكأن هذه الآية نزلت في أهل الأندلس في هذه الفترة من الزمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:51 - 52]، أي: نحن لا نستطيع أن نحارب الدول التي حولنا، لابد أن نأخذ معاونة ومساعدة من هؤلاء النصارى المحيطين بنا، فيرد عليهم رب العالمين بقوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]. انظر إلى تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى في آخر عهد ملوك الطوائف عندما يأتي النصر، فإن هؤلاء يسرون في أنفسهم ويندمون ويرجعون إلى دينهم بعد ذلك. وهذه الآية تصف وصفاً دقيقاً لواقع المسلمين في عهد الأندلس، ولابد أن ندرس القرآن بعناية، والقرآن ليس كتاباً يحفظ في السيارة أو البيت أو يحفظ للبركة، بل القرآن منهج ودستور يربي الأمة والمجتمع، وليس هناك

موقف المتوكل بن الأفطس من ملك قشتالة

موقف المتوكل بن الأفطس من ملك قشتالة كان كل أمراء الممالك الموجودين في فترة أمراء الطوائف يدفعون الجزية لـ ألفونسو السادس إلا أمير مملكة بطليوس المتوكل بن الأفطس رحمه الله، وبالرغم من أن مملكته صغيرة لكن كانت عنده عزة، لكنه لم يستطع أن يفعل مثل ما فعل عبد الرحمن الناصر أو غيره من المصلحين، لكن كان لا يدفع الجزية للنصارى، والنصارى كانوا يعلمون أن هذا الرجل خارج عن الشرعية التي حكمت هذه البلاد في ذلك الوقت، وخارج عن المألوف، فإن كل الأمراء يدفعون الجزية، فأرسل له ألفونسو السادس رسالة شديدة اللهجة يطلب منه أن يدفع الجزية كما يدفعها إخوانه من المسلمين في الممالك الإسلامية المجاورة، فرد عليهم المتوكل رداً عجيباً، فأرسل رسالة حفظها لنا التاريخ حتى نعلم أن المؤمن في أشد عصور الانحدار والانهيار يكون له عزة إن أراد أن يكون له عزة. يقول المتوكل بن الأفطس في رسالته: وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير وأحكام العزيز القدير يرعد ويبرق، ويجمع تارة ثم يفرق، ويهدد بجنوده المتواترة وأحواله المتظاهرة، ولو علم أن لله جنوداً أعز بهم الإسلام، وأظهر بهم دين نبيه محمد عليه الصلاة والسلام أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون، بالتقوى يعرفون، وبالتوبة يتضرعون، ولئن لمعت من خلف الروم بارقة فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليميز الله الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين. أي: إن كان ظهر الروم في هذه الفترة وعلا شأنهم، فهذا الظهور المفاجئ للنصارى بإذن الله سبحانه وتعالى، ليعلم المؤمنين، وليميز الله الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين. ثم يقول: أما تعييرك للمسلمين فيما وهن من أحوالهم فبذنوب مركوبة، ثم يضيف قائلاً: ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك لعلمت أي مصاب أذقناك كما كانت آباؤك تتجرعه، أي: تذكر يا ألفونسو السادس أيام عبد الرحمن الناصر وأيام الحكم وأيام الحاجب المنصور، الذي أجبر أجدادك على دفع الجزية حتى أهدى جدك إحدى بناته إليه، وهي أم عبد الرحمن المنصور الذي ذكرناه في آخر الدروس السابقة. يقول: فجدك أعطى ابنته هدية للحاجب المنصور حتى يأمن جانبه، أما نحن إن قلت أعدادنا، وعدم من المخلوقين استنجادنا، فما بينا وبينك بحر نخوضه ولا صعب نروضه، ليس بيننا وبينك إلا السيوف؛ تشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في ليلك ونهارك، وبالله تعالى وملائكته المسومين نتقوى عليك ونستعين، ليس لنا سوى الله مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما تتربصون بنا إلى إحدى الحسنيين: نصر عليكم فيا لها من نعمة ومنة، أو شهادة في سبيل الله فيا لها من جنة، وفي الله العوض مما به هددت، وفرج يفرج بما نددت، ويقطع بما أعددت. وختم رسالته وأرسلها إلى ألفونسو السادس، وما استطاع ألفونسو السادس أن يرسل له جيشاً، لأن هؤلاء الرجال لا يستطيع أن يقاومهم أهل الأرض جميعاً، وإن كانوا قليلين، لكن عزة الإسلام ترفع من شأن صاحبها. هذه صورة من الصور المشرقة في داخل أرض الأندلس، لكن عموم الأمراء في أرض الأندلس لم يكونوا على شاكلة المتوكل بن الأفطس، هذا الذي حصل في بطليوس، فأين إحدى وعشرون مملكة؟ أنا لا أستطيع الخوض في تفاصيل هذه الممالك، فالتفاصيل موجودة في الكتب، والدراسة لذلك واجبة، لكن سنعرض بعض الصور، حتى نعطي فكرة كيف كان الوضع في تلك البلاد من التدني للمسلمين؟

اختلاف حكام بني هود في سرقسطة ومأساة بربشتر

اختلاف حكام بني هود في سرقسطة ومأساة بربشتر صورة من مملكة سرقسطة في الشمال الشرقي من الأندلس بالقرب من فرنسا، كان يحكمها بنو هود كما ذكرنا في الدرس السابق، والرجل الحاكم في هذه البلاد لما أتاه مرض الموت يريد يستخلف من بعده، وكان لديه ولدان الولد الكبير يستحق الملك من بعده كما هي العادة في ذلك الزمان في توارث الحكم. والولد الصغير أنجب من الكبير، فأراد هذا الملك ألا يظلم أحد الولدين، فعمل شيئاً غريباً جداً، فقسم البلد والأرض إلى نصفين بما في ذلك الشعب والجيش من أجل ألا يظلم أحد أبنائه، لكنه ظلم الشعب كله. ولما مات اختلف الأخوان على الحدود فبدأ أحدهما يهجم على أخيه ليحرر أرضه، لكن لم يكن له طاقة بالهجوم؛ لأن الجيش والبلد مقسومان بينهما على النصف لكل واحد منهما، والكيان ضعيف جداً، فاستعان هذا الأخ الحاكم بملك نصراني ليحرر له أرضه من أخيه المسلم، ولسان حاله: ليست مشلكة أن أحضر النصراني لكي يساعدني في تحرير الأرض الإسلامية التي أخذها مني أخي، وليست مشكلة أن يأخذ الحاكم النصراني الأرض ويضمها لأملاكه، وهذه دولة صديقة مجاورة، وهي دولة أراجون ستساعدني في أن آخذ حقي من أخي، وأتى النصارى بالفعل ودخلوا البلاد وفي طريقهم عملوا مآسي لا تحصى في المسلمين في مملكة سرقسطة، أذكر منها على سبيل المثال: ما حدث في بربشتر عرفت في التاريخ بمآساة بربشتر، اسمع وافهم وانظر إلى ما يحدث في هذا العصر الآن في بلاد البوسنة والهرسك وفي كشمير وفي كوسوفا وفلسطين وفي غيرها من البلاد، وقارن بينه وبين ما كان يحدث في التاريخ، فقد حاصر النصارى بربشتر أربعين يوماً، والمسلمون في داخل بربشتر يستغيثون بكل أمراء المؤمنين في كل أرض الأندلس ولا يتحرك أحد؛ لما في القلوب من رهبة شديدة من النصارى، وليست لهم بهم طاقة، وأخيراً تفاوض النصارى مع المسلمين وفتحت بربشتر، وكانت النتيجة أن قتل في يوم واحد من المسلمين (40) ألفاً كما في رواية ياقوت الحموي، وفي رواية أخرى (100) ألف، وسبيت سبعة آلاف فتاة بكر منتخبة، أي: أجمل سبعة آلاف فتاة بكر في المدينة، وأعطيت هدية لملك القسطنطينية، وكانوا ينتهكون حرمات البكر أمام أبيها، وحرمات الزوجة أمام زوجها، هكذا فعل في بربشتر، فهذه مأساة ضخمة جداً، واستغاثة من كل بلاد المسلمين ولم يتحرك أحد.

مأساة بلنسية

مأساة بلنسية كذلك انظر وتفكر وتدبر مأساة بلنسية في سنة (456) من الهجرة، فقد قتل (60) ألف مسلم في بلنسية في هجوم للنصارى عليها، ولم يتحرك من المسلمين أحد، وهذا أمر في منتهى الغرابة، وما هو الشعور الذي كان عند القادة الذين كانوا يقودون البلاد في ذلك الوقت؟ وما هو شعور الشعوب وهي ترى هذه المآسي ولا تتحرك؟ فنحن رأينا ما يحدث في البوسنة والهرسك، من تحرك للبوسنة والهرسك؟ من تحرك لخمسين ألف فتاة مغتصبة؟ من تحرك لمائتين وخمسين ألف قتيل في البوسنة، وهذا غير كوسوفا وكشمير وفلسطين؟ من تحرك وأسقط رصاصة على البلاد الصربية أو الهندية أو الروسية أو غيرها؟ فنحن لا نستطيع؛ لأن تلك البلاد قوية جداً، وليست لنا بهم طاقة. إذاً: ما نستطيع أن نقوله هو: لا حول ولا قوة إلا بالله، الله معهم، الله ينصرهم، فليست لنا طاقة في نصرهم، فهذا موقف من المواقف الموجودة في أرض الأندلس، والمواقف على ذلك كثيرة ومتعددة، فالمسلمون ليسوا فقراء، بل إنهم في منتهى الغنى.

يوم الطين

يوم الطين سوف أحكي لكم موقفاً عجيباً حدث في إشبيلية، وهو أن امرأة المعتمد على الله بن عباد شاهدت من شباك قصرها الضخم جداً الجواري يلعبن في الطين خارج القصر، فاشتهت أن تلعب بالطين، وليس معقولاً أن امرأة الأمير تلعب في الطين، فاشترى كميات كبيرة جداً من المسك والعنبر وماء الورد وخلطها حتى جعلها طيناً خاصاً بالملوك، وصرف عليه أموالاً ضخمة من بيت مال المسلمين، وأمرها أن تلعب في هذا الطين الخاص يوماً أو يومين، حتى ضاقت من اللعب في الطين، فرجعت إلى قصرها مرة أخرى. ومرت الأيام -سبحان الله- وضاع ملكه، وفي يوم من الأيام بعدما ضاع هذا الملك الكبير قعد معها فأغضبها فقالت له كعادة النساء لما تغضب من الأزواج: ما رأيت منك خيراً قط، فقال لها: ولا يوم الطين، فسكتت واستحت. انظر إلى السفه في المسلمين، ومع ذلك فقد وصف أحد الشعراء المعتمد على الله بن عباد بكل ما أوتي من صفات العزة والكرامة والمجد والبأس، والإعلام في ذلك الوقت كان يصوره بهذه الصورة، وهذا مخالف ولا شك للواقع. لكن مع كل هذا التفخيم والتعظيم لهؤلاء الأمراء فقد كانت هناك محاولات من المصلحين تحاول أنها تغير، ودعوات إصلاحية لكن كانت مكبوتة، وأحد الشعراء يصف هذا العهد بقوله: مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتضد فيها ومعتمد يعني: الشيء الذي يكرهني ويجعلني أزهد في أرض الأندلس وأتركها هو أن فيها ألقاباً ضخمة جداً، نحو: معتضد بالله، ومعتمد على الله، فـ المعتضد بالله هو أبو المعتمد على الله وهما من حكام إشبيلية. فقال: مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتضد فيها ومعتمد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد أي: أن القطة تنتفخ انتفاخاً فتحكي صولة الأسد، وأين الهر من الأسد؟ هكذا كانوا يتسمون بأسماء ضخمة في بلاد الأندلس، كان هناك قادر بالله ومعتصم بالله ومستكفي بالله ومؤيد بالله، والمعتمد على الله كان يدفع جزية لـ ألفونسو السادس مع أن إشبيلية في الجنوب الغربي من بلاد الأندلس، يعني: أنها بعيدة عن مملكة قشتالة ومع ذلك كان يدفع الجزية لملك قشتالة ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكان يسمي نفسه معتمداً على الله ولكنه كان في الواقع معتمداً على ألفونسو السادس.

سبب رفض أمراء الطوائف للوحدة الإسلامية

سبب رفض أمراء الطوائف للوحدة الإسلامية كان هناك مصلحون في تلك الفترة، أمثال: ابن حزم رحمه الله فقيه الإسلام المشهور وابن عبد البر وابن حيان وأبو الوليد الباجي، وكثير من علماء المسلمين، والحق يقال: إنهم حاولوا قدر استطاعتهم أن يجمعوا الناس، لكن تجميع (22) دويلة في دولة واحدة كان مستحيلاً لاختلافهم من سيكون الرئيس، فهم يرفضون فكرة الانضمام والاجتماع تحت راية واحدة حتى في وجود هؤلاء الأفاضل من علماء المسلمين. قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103]. انظر إلى نعمة الله سبحانه وتعالى كيف فرط فيها المسلمون، كانوا على شفا حفرة من النار، وكادوا يقعون فيها لولا فضل الله. وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] فأنتم يا أمراء المؤمنين! سمعتم عن عبد الرحمن الناصر ودولته الموحدة المجمعة، كيف كانت عزة الإسلام في عصره؟ فلماذا تفرطون في عزة الإسلام في الدنيا وفي ثواب الآخرة؟ أمن أجل أيام معدودات على مدينة من مدن المسلمين تحكمونها؟ أتأبى أن تكون تابعاً لأمير من المؤمنين وترضى أن تكون تابعاً لملك من ملوك النصارى، كـ ألفونسو السادس أو غيره؟ هذا كان واقع المسلمين.

سقوط طليطلة في عهد المقتدر بالله

سقوط طليطلة في عهد المقتدر بالله تتصاعد المأساة في بلاد الأندلس أكثر من ذلك، ففي سنة (478هـ) كان سقوط طليطلة الثغر الإسلامي الأعلى في بلاد الأندلس، المدينة التي كانت عاصمة للقوط قبل دخول المسلمين في عهد موسى بن نصير وطارق بن زياد رحمهما الله، فقد فتحها طارق بن زياد رحمه الله بالرعب، ومعه ستة آلاف مقاتل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، وطليطلة الثغر الذي كان ينطلق منه عبد الرحمن الناصر ومن تبعه من الحكام المحترمين لبلاد المسلمين لفتح بلاد النصارى، ولكي يستقبلوا من بلاد النصارى الجزية، طليطلة المدينة العظيمة الحصينة التي لا تسقط؛ لأن حولها جبالاً من كل النواحي إلا الناحية الجنوبية ففيها حصن كبير ومنيع. وسقوط طليطلة هز العالم الإسلامي في الشرق والغرب، وسقوط طليطلة سبقه استقبال لملك من ملوك النصارى لمدة تسعة أشهر كاملة داخل أرض طليطلة؛ لأنه كان هارباً بسبب خلاف حصل في أرض النصارى فذهب إلى صديقه المقتدر بالله الذي كان حاكم طليطلة في ذلك الوقت، ومكث عنده تلك المدة داخل طليطلة، والقائد المسلم غير المحنك المفرط في حق المسلمين، كان يتجول به في كل الحصون، ومداخل البلد وعلى أبواب الأنهار الداخلة لمدينة طليطلة، حتى عرف الرجل كل شيء في مدينة طليطلة، ثم عاد الملك النصراني إلى بلاده حاكماً. وأول خطوة أخذها بعدما رجع إلى بلاده أنه دخل طليطلة ففتحها وضمها إلى بلاده، قال الله سبحانه وتعالى وكأنه يصف سقوط طليطلة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1]، نعم ضل المقتدر بالله سواء السبيل، فسقطت طليطلة بعد أن أسروا لملك النصارى بأسرارها. لما سقطت طليطلة حدث إحباط شديد في كل بلاد الأندلس، يقول ابن العسال أحد المعاصرين لسقوط طليطلة: شدوا رواحلكم يا أهل أندلس فما المقام فيها إلا من الغلط أي: اتركوا البلد وامشوا منها، واحذروا أن تدافعوا عنها فقد انتهت القضية، اتركوا البلد وهاجروا منها إلى المغرب أو الشام أو أي بلد في العالم. شدوا رواحلكم يا أهل أندلس فما المقام فيها إلا من الغلط الثوب ينسل من أطرافه وأرى ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط أي: البلاد تحتل من الأطراف، لكن الأندلس احتلت من الوسط، فإن طليطلة في وسط بلاد الأندلس كما هو موضح في الخريطة، والحصون الشمالية في طليطلة قد سلمت قبل ذلك في معاهدة للنصارى كما ذكرنا ذلك سابقاً. من جاور الشر لا يأمن بوائقه كيف الحياة مع الحيات في سخط أي: لا نستطيع أن نعيش مع الثعابين والحيات، فنبعد عن أرض الأندلس ونتركها؛ لأن الأندلس ضاعت، وسقوط طليطلة هز المشرق والمغرب.

سبب حصار إشبيلية وموقف المعتمد بن عباد من الفونسو السادس

سبب حصار إشبيلية وموقف المعتمد بن عباد من الفونسو السادس تزامن مع سقوط طليطلة حصار إشبيلية، التي كانت تدفع الجزية كل عام لـ ألفونسو السادس، مع أنها كانت بعيدة عن مملكة قشتالة، فقشتالة في الشمال وإشبيلية في الجنوب الغربي للبلاد، وسبب حصارها هو أن ألفونسو السادس زعيم قشتالة أرسل وفداً إلى إشبيلية لأخذ الجزية كالمعتاد، وكان على رأسه وزير يهودي يجمع الجزية من بلاد المسلمين، فانطلق إلى المعتمد على الله بن عباد فقال الوزير اليهودي: إن زوجة ألفونسو السادس ستلد قريباً، وألفونسو السادس يطلب منك أن تجعل زوجته تلد في مسجد قرطبة، فرفض المعتمد على الله هذا الطلب، فقال له: لماذا هذا الطلب؟ قال الوزير اليهودي في منتهى التحدي: لقد قالت قساوسة قشتالة لـ ألفونسو السادس أنه لو ولد لك ولد في أكبر مساجد المسلمين دانت لك السيطرة عليهم، فأخذت المعتمد على الله الغيرة، وتحرج بعد سنين من دفع الجزية فقال له: أنا أدفع لك الجزية، لكن لا أستطيع أن أدع امرأة ألفونسو السادس تلد في مسجد قرطبة، فأساء الوزير اليهودي الأدب عليه وسبه في حضرة وزرائه، فلم يستطع المعتمد على الله أن يتحمل ذلك، فأمسك بالوزير اليهودي وقطع رأسه واعتقل الوفد، وأرسل رسالة إلى ألفونسو السادس يقول له فيها: لن أدفع الجزية، ولن أدع امرأتك تلد عندنا في مسجد قرطبة. فجن جنون ألفونسو السادس وأتى بحده وحديده وأتى بجيش كبير وأحرق كل القرى حول حصن إشبيلية الكبير وحاصر البلاد، وقال: إن لم تفتح فسأستأصل خضراءكم، لكن المعتمد على الله بن عباد كان خائفاً من أن يفتح فتطاول الحصار فترة من الزمان تقدر بشهر أو شهرين أو أكثر من ذلك، وأراد ألفونسو السادس أن يفت في عضد المسلمين ويلقي بالهزيمة النفسية عندهم فأرسل رسالة قبيحة أخرى إلى المعتمد على الله بن عباد يقول له فيها: إن الذباب قد آذاني حول مدينتك فلو ترسل لي مروحة أروح بها عن نفسي فافعل. ومغزى الرسالة إن أكثر شيء مضايقني في الحصار هو الذباب، وأنت وجيشك وأمتك وحصونك كلها أهون عندي من الذباب، فلو سمحت ابعث لي مروحة من أجل أروح بها عن نفسي، فأخذ المعتمد على الله بن عباد الرسالة وقلبها وكتب على ظهرها رداً وأرسله إلى ألفونسو السادس، هذا الرد هو سطر واحد فقط، قرأه ألفونسو السادس فأخذ جيشه وانصرف ولم يدخل في القتال، ونسي كل الكلام وعاد إلى قشتالة، ترى ما هو هذا الرد الذي كتبه المعتمد على الله بن عباد؟ وكيف القيام بعد هذا الانهيار المروع في بلاد الأندلس؟ وكيف حال الدولة التي ستنشأ من جديد في هذه البلاد الإسلامية بلاد الأندلس؟ هذا ما نتداوله وغيره إن شاء الله في الحلقة القادمة من حلقات الأندلس: من الفتح إلى السقوط. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وجزاكم الله خيراً كثيراً.

دولة المرابطين

سلسلة الأندلس_دولة المرابطين عاش أمراء الطوائف برهة من الزمن في ذل وانكسار وفرقة وخضوع للنصارى المحيطين بهم، فأحس بعضهم بالخزي لما تمادى النصارى في غيهم وظلمهم، فأدى ذلك إلى تداركهم هذا الخطر المحدق بهم، فاستعانوا بدولة المرابطين الذين كان لهم الفضل بعد الله في هزيمة النصارى في موقعة الزلاقة الشهيرة، ومن ثم انضمام الأندلس إلى حكم دولة المرابطين.

رسالة المعتمد بن عباد إلى ألفونسو السادس لما حاصر إشبيلية

رسالة المعتمد بن عباد إلى ألفونسو السادس لما حاصر إشبيلية أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فنفتح اليوم صفحة جديدة من صفحات التاريخ الإسلامي في الأندلس، وذكرنا في الدرس السابق كيف وصل الحال في بلاد الأندلس إلى انهيار مروع وضياع للهيبة وللعزة، وذل وهوان وانكسار وفرقة وتشتت بين المسلمين، وصراع بين الإخوة، وموالاة للنصارى، وكاد الإسلام أن ينتهي من بلاد الأندلس، لكن الإسلام لا ينتهي أبداً. فقد حدثَ حدث غيّر من شأن بلاد الأندلس، وهو حصار إشبيلية، لما حاصرها ألفونسو السادس أياماً وشهوراً، ثم إذا به يرسل رسالة إلى المعتمد على الله بن عباد يحذره ويهينه فيها، ويقول له: لقد آذاني الذباب في بلادك، فإن شئت أن ترسل لي بمروحة أروح بها عن نفسي فافعل، أي: أن جيش ابن عباد وشعبه وحصونه أهون من الذباب عند ألفونسو السادس. فرد عليها المعتمد على الله بن عباد رداً قوياً، لما قرأها ألفونسو السادس انسحب بجيشه، قال له فيها: والله لئن لم ترجع لأروحن لك بمروحة من المرابطين. ودولة المرابطين قامت في المغرب العربي ووسط أفريقيا، وكانت دولة إسلامية قوية جداً. وألفونسو السادس كان يعلم بأس المرابطين؛ لأنه مطلع على أحوال العالم المحيط، ويعلم دولة المرابطين، لذلك انسحب مع جيشه.

موقف أمراء الطوائف من سقوط طليطلة وحصار إشبيلية

موقف أمراء الطوائف من سقوط طليطلة وحصار إشبيلية كانت كل بلاد الأندلس فيها أمراء للمؤمنين كما ذكرنا، فهذه كارثة حلت بالمسلمين، فقد سقطت طليطلة في سنة (478) من الهجرة، ومنذ سقوطها لم تعد للمسلمين حتى الآن، وحوصرت إشبيلية مع أنها في الجنوب الغربي بعيدة عن بلاد قشتالة، والمعتمد على الله كاد أن يهلك لولا أن فتح الله عليه بفكرة التلويح بالاستعانة بالمرابطين، فكان أمراء الأندلس يعلمون أنه آجلاً أو عاجلاً ستسقط بقية المدن، فإذا كانت طليطلة أحصن مدينة في بلاد الأندلس قد سقطت، فإنه عما قريب ستسقط قرطبة وبطليوس وغرناطة وإشبيلية وكل حواضر الإسلام، فعملوا مؤتمر القمة الأندلسي الأول، وهو أول مؤتمر يجتمعون فيه للاتفاق على رأي، وقبل هذا المؤتمر لم يكن هناك مؤتمرات في السنوات السابقة؛ لأنه كان هنالك فرقة، بخلاف ما كانت عليه الأندلس أيام إمارة عبد الرحمن الناصر. فاجتمع ما يقارب من اثنين وعشرين أمير في مؤتمر القمة الأندلسي الأول، وأخذوا ينددون بشدة بالاحتلال القشتالي لطليطلة، مع أن قشتالة دولة صديقة لهم، ولم يفكروا أن يرفعوا شكواهم إلى الله عز وجل، بل لربما أنهم يشتكون للبابا أو لملك فرنسا، أو لملك ليون أو لغيرهم من ملوك النصارى. واجتمع الأمراء ومعهم العلماء، والعلماء يفهمون الموقف، ويفهمون أصل الهزيمة، فأشاروا عليهم بالجهاد؛ لأن في تاريخنا ما يثبت أن المسلمين إذا ارتبطوا بربهم وجاهدوا في سبيله انتصروا، حتى لو كانت قواتهم ضعيفة، لكن الأمراء رفضوا كلام العلماء، وقالوا: إن أهم شيء هو إيقاف نزيف الدماء، ونحن سنحاول أن نحل الموقف بشيء من السلام مع قشتالة، ونتفاوض مع ألفونسو السادس، على أن تترك له طليطلة أو يأخذ جزءاً منها ويترك لنا الباقي، ونعيش معاً بسلام، بهذا أشار الأمراء. أما العلماء فرأوا أن الوضع مزر، ومن المحال أن يتغير الوضع بهذه الطريقة، فالأمراء يدفعون الجزية لمدة (70) أو (80) سنة، وقد ألفوا الهوان والذل، فليس من الممكن أبداً أن يجاهد هؤلاء الأمراء، فأشار عليهم العلماء برأي جديد، فقالوا: لا داعي أن نجاهد ما دام أنكم تخافون من الجهاد، لكن أرسلوا إلى دولة المرابطين لتأتي وتواجه النصارى في موقعة فاصلة، وتبعدهم عن أرضنا، فإنهم رجال أقوياء، فإنهم سيحاربون النصارى ونحن نتفرج على الأحداث! فهذا اقتراح معقول، لكن لم يقبله الأمراء؛ لأن دولة المرابطين قوية جداً، ويخشون منها أنها لو هزمت النصارى أنها ستحتل الأندلس، وما المانع لو أن دولة المرابطين احتلتها فإنها دولة إسلامية وفيها شرع إسلامي، ولم الشمل أفضل من بقاء الأندلس مفرقة ومشتتة أكثر من عشرين جزءاً، لكن رفض الأمراء ذلك الأمر وتجادلوا كثيراً، إلى أن منّ الله سبحانه وتعالى على رجل منهم وفتح عليه، وهو المعتمد على الله بن عباد، فقام وخطب في الحضور، ومما قاله في آخرها: ولا أحب أن ألعن على منابر المسلمين، لأنني لم أستعن بالمرابطين، ولأن أرعى الإبل في صحراء المغرب خير لي من أن أرعى الخنازير في أوروبا. فلما قال ذلك تحركت النخوة في قلوب البعض، فأول من وافق على هذا الأمر هو المتوكل بن الأفطس الذي أرسل رسالة إلى ألفونسو السادس ولم يدفع له الجزية في حياته، ثم قام عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة ووافق أيضاً على هذا، فهذه ثلاث ممالك إسلامية ضخمة: غرناطة وإشبيلية وبطليوس، وافقت على استجلاب دولة المرابطين لمحاربة النصارى ورفض الباقون، فجهزوا وفداً عظيماً مهيباً من العلماء والوزراء يذهب إلى بلاد المغرب ليستعين بملك المرابطين لينقذهم من بأس النصارى في بلاد الأندلس.

نشأة دولة المرابطين

نشأة دولة المرابطين في جنوب موريتانيا صحراء قاحلة يعيش فيها طوائف وقبائل من البربر تسمى: قبائل صنهاجة، وأكبر فرعين فيها: جدالة ولمتونة. فالقبيلة التي كانت تسكن في منطقة جنوب موريتانيا هي جدالة، وكان على رأس هذه القبيلة رجل اسمه يحيى بن إبراهيم الجدالي، كانت فطرته حسنة، نظر في أحوال قبيلته فوجد الناس من حوله قد أدمنوا شرب الخمور، ووجد الزنا قد فشا في الناس، إلى درجة أن الرجل كان يزاني حليلة جاره ولا يعترض عليه جاره، كما وصف ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29]، فقد كانوا يأتون المنكر في ناديهم، والرجل منهم لا يعترض على ذلك؛ لأنه يفعل نفس الأمر؛ وكثر الزواج من أكثر من أربع نسوة ولا ينكر عليهم منكر، وأصبح السلب والنهب هو الأصل، والقبيلة القوية تأكل الضعيفة، والقبائل مشتتة ومفرقة، والوضع شديد الشبه بما يحدث في دويلات الطوائف، بل هو أشد، ولا يخفى علينا جميعاً أن الوضع في سنة (440) سواء في بلاد موريتانيا أو الأندلس هو أشد وطأة مما نحن عليه الآن. فكان هذا الرجل صاحب الفطرة الطيبة يعلم أن كل هذا من المنكر، لكن ليست في يده طاقة للتغيير؛ لأن الشعب كله يعيش في ضلال وبعد عن الدين، وليس عنده من العلم ما يغير به أحوال الناس، ولا يعرف ما هي الأصول الصحيحة، إنما يعلم أن كل ما يحدث من حوله هو خطأ، لكن كيف يغير؟ فهداه ربه إلى أن يحج وعند رجوعه من الحج يمر على أكبر مدن الإسلام في المنطقة وهي مدينة القيروان، التي هي موجودة الآن في تونس، وعلماء القيروان مشهورون بالعلم، فذهب بالفعل إلى الحج، ثم عاد إلى القيروان، وهناك قابل أبا عمران الفاسي شيخ المالكية في مدينة القيروان، والمذهب المالكي هو المنتشر في كل بلاد الشمال الإفريقي، وهو المذهب السائد في بلاد الأندلس؛ فحكى له المنكرات التي تحدث في قومه، والجهل المطبق عليهم، فأرسل معه رجلاً يعلم الناس دينهم، وهو الشيخ عبد الله بن ياسين، فذهب معه حتى وصلا إلى جنوب موريتانيا، فوجدها أرضاً شديدة الجدب، وفقيرة وشديدة الحر، ونظر في الناس فرأى هذه المنكرات تفعل أمام كل الناس، ولا ينكر عليهم منكر، فبدأ في أناة شديدة يعلم الناس، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فثارت عليه جميع الفصائل، وثار عليه أصحاب المصالح، وثار عليه الشعب؛ لأن الناس تريد أن تعيش في شهواتها، وأصحاب المصالح مستفيدون من هذا الذي يحدث في قبائل جدالة في هذه المنطقة، فبدأ الناس يجادلونه ويصدونه عما يأمر به، ولم يستطع يحيى بن إبراهيم الجدالي زعيم القبيلة أن يحميه؛ لأن الشعب ليس متربياً، لذا فهو رافض، ولو أصر يحيى بن إبراهيم الجدالي على هذا الأمر لخلعه الشعب، ولخلعته القبيلة، وبدأ يحاول مرة ثانية وثالثة، فبدأ الناس يهددونه بالضرب إن استمر في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ثم هددوه بالطرد من البلاد أو القتل، لكنه كان يدعو ولا يبالي بفعلهم حتى قاموا فعلاً بطرده من البلاد، فخرج الشيخ عبد الله بن ياسين رحمه الله من البلد ودموعه تنحدر على خده، وهو يقول والحسرة في قلبه: يا ليت قومي يعلمون، يريد أن يغير ولكنه لا يستطيع، فيحدث نفسه: أأرجع مرة أخرى إلى القيروان، إلى طلاب العلم؟ ولمن أترك هؤلاء الناس؟ فحز في نفسه أن يولد الناس في هذه البلاد فلا يجدون من يعلمهم، ففكر أن يدخل إليهم مرة أخرى، لكنه سيموت، وما الفائدة في موته، إذا كان الموت لن يفيد، فتعمق أكثر في الصحراء، في جنوب موريتانيا، حتى وصل إلى شمال السنغال، وهي بلاد إسلامية كبيرة جداً، (90%) أو أكثر من سكان السنغال من المسلمين. فنزل في شمال السنغال على مصب نهر من الأنهار، في غابة من غابات إفريقيا هناك فوضع خيمته على مصب النهر، وبعث برسالة إلى أهل جدالة في جنوب موريتانيا أن من أراد أن يتعلم العلم فليأتني في هذا المكان، وكان في جدالة مجموعة من الشباب تتحرق قلوبها للدين، لكن أصحاب المصالح وأصحاب القوى في هذه البلاد يمنعونهم من الارتباط بالدين، فلما علموا أن الشيخ في شمال السنغال، تاقت قلوبهم إلى لقياه، فاتجهوا من جنوب موريتانيا إلى شمال السنغال، وجلسوا مع الشيخ عبد الله بن ياسين في خيمته، وكانوا اثنين أو ثلاثة أو أربعة فأخذ يعلمهم أن الإسلام دين شامل ومتكامل ينظم كل أمور الحياة، فبدأ يعلمهم العقيدة الصحيحة، وكيفية العبادة والجهاد في سبيل الله، وركوب الخيل، وحمل السيف، وكيف يعتمدون على أنفسهم، فيذهبون إلى الغابات فيصطادون الصيد ويأتون به إلى الخيمة يطبخونه ويأكلونه ولا يسألون أكلهم أو طعامهم من الفرق المحيطة بشمال السنغال؛ فذاق هؤلاء الشباب حلاوة الدين، وشعروا أنه من واجبهم أن يأتوا بأحبابهم وأصحابهم وأقاربهم إلى هذا الذي ذاقوا حلاوته، فذهبوا إلى جدالة، فعاد كل واحد منهم برجل، فبدلاً من خمسة أصبحوا عشرة، فأخذ الشيخ عبد الله بن ياسين يع

سبب تسمية دولة المرابطين

سبب تسمية دولة المرابطين الخيمة في اللغة: الرباط، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله)؛ وهذا لأن المرابطين أو المجاهدين كانوا يتخذون خياماً على الثغور؛ يحمون فيها الثغور ويجاهدون في سبيل الله، فلما كان الشيخ عبد الله بن ياسين ومن معه يجلسون في خيام هناك على نهر السنغال سموا أنفسهم بجماعة المرابطين، فعرفوا في التاريخ بهذا الاسم.

انضمام قبيلتي جدالة ولمتونة إلى جماعة المرابطين

انضمام قبيلتي جدالة ولمتونة إلى جماعة المرابطين في سنة (445هـ) يحدث حدثاً متوقعاً في سنن الله سبحانه وتعالى، وهو أن من سنن الله سبحانه وتعالى أن يتقدم المسلمون ببطء في سلِّم الارتفاع والرقي، ثم يفتح الله عليهم بشيء لم يكن متوقعاً لأنفسهم، فيحدث الفرج للمسلمين، كما حدث في موقف عبد الرحمن الناصر عند دخول سرقسطة وموت عمر بن حفصون، فلقد اقتنع بفكرة الشيخ عبد الله بن ياسين زعيم قبيلة لمتونة يحيى بن عمر، ودخل معه في جماعة المرابطين، وفعل رحمه الله كما فعل سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه لما دخل الإسلام، عاد إلى قومه، فقال لهم: إن كلام رجالكم ونسائكم وأطفالكم علي حرام حتى تشهدوا أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ ففعل يحيى بن عمر اللمتوني نفس الأمر، فذهب إلى قومه وأتى بهم إلى الشيخ عبد الله بن ياسين فدخلوا في جماعته، فأصبح الألف والثلاثمائة سبعة آلاف في يوم وليلة، وبعد أيام قليلة من دخول قبيلة لمتونة مع المرابطين يموت الشيخ يحيى بن عمر اللمتوني الذي أتى بستة آلاف جندي للإسلام، وهذا من أحسن الخواتيم، فتولى من بعده على زعامة لمتونة الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني، فانضم مع الشيخ عبد الله بن ياسين وبدأ الأمر يزداد، والأعداد تكثر، والمرابطون يصلون إلى أماكن أوسع حول المنطقة التي كانوا فيها، فبدءوا يتوسعون حتى وصل حدودهم من شمال السنغال إلى جنوب موريتانيا، وأصبحت جدالة ولمتونة القبيلتان الموجودتان في شمال السنغال وجنوب موريتانيا جماعة واحدة، وبلغ تعداد المرابطين في سنة (451هـ) حوالي (12000) رجل.

استشهاد الشيخ عبد الله بن ياسين وتولية أبي بكر بن عمر زعامة جماعة المرابطين

استشهاد الشيخ عبد الله بن ياسين وتولية أبي بكر بن عمر زعامة جماعة المرابطين شاء الله أن يستشهد الشيخ عبد الله بن ياسين رحمه الله وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في قبيلة من القبائل فحاربوه وقاتلوه، فقاتلهم فاستشهد رحمه الله في سنة (451هـ) أي: أنه ظل (11) سنة يدعو إلى الله من سنة (440هـ) إلى سنة (451هـ)، وخلف من ورائه (12000) رجل يعلمون المنهج الصحيح للإسلام، ويتولى من بعده الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني زعامة جماعة المرابطين، ويظل سنتين في زعامة هذه الجماعة الناشئة، حتى عرفوا في التاريخ بدويلة المرابطين، وهي دويلة صغيرة لا ترى على الخارطة، تمتد من شمال السنغال إلى جنوب موريتانيا. وفي سنة (453هـ) يعلم أبو بكر بن عمر اللمتوني أن هناك خلافاً بين المسلمين في جنوب السنغال في منطقة بعيدة عن دويلة المرابطين، وأن هذا الخلاف شر، وأنه لو استشرى بين الناس فلن يكون هناك مجال للدعوة، فسار بجيشه ليحل الخلاف، مع أن الناس ليسوا في جماعته ولا في قبيلته، وكان عدد الذين ساروا معه سبعة آلاف رجل، أي: نصف عدد أفراد جماعته الذين بلغ عددهم أربعة عشر ألف رجل، وأمّر على دولة المرابطين ابن عمه يوسف بن تاشفين رحمه الله، فاستطاع أبو بكر بن عمر رحمه الله أن يحل الخلاف، لكنه يفاجأ أن في جنوب السنغال بجوار هذه القبائل المتصارعة هناك قبائل وثنية، لا تعبد الله بالكلية، إنما تعبد الأشجار والأصنام وما إلى ذلك، فهذه القبائل لم يصل إليها الدين بالمرة، فحز ذلك في نفسه، فقد تعلم من الشيخ عبد الله بن ياسين أن يغير الأمور بنفسه وأن يحمل هم المسلمين والناس أجمعين، حتى وإن لم يكونوا مسلمين، فصار يعلمهم الإسلام، ويعرفهم الدين، فيتعلمون ويجدون أمراً عجباً، وهو أن هذا الدين المتكامل الشامل فيه كل شيء، وهم يعيشون في أدغال أفريقيا، ويفعلون أشياء عجيبة، فيعبدون أصناماً غريبة، ولا يعرفون رباً ولا إلهاً، فأخذ يعلمهم بصبر شديد، فدخل منهم جمع في الإسلام وقاومه آخرون من أهل الباطل الذين يحافظون على مصالحهم، ويستفيدون من وجود هذه الأصنام، فصارعهم والتقى معهم في حروب طويلة، وظل يتوسع في قبيلة تلو قبيلة، وينزل من مكان إلى مكان، حتى عاد بعد ذلك إلى بلاد المرابطين سنة (468هـ) أي: استمر خمس عشرة سنة يدعو إلى الله في أدغال أفريقيا. أما الشيخ يوسف بن تاشفين فإنه اتجه إلى جنوب المغرب العربي، وشمال موريتانيا، فوجد أموراً عجيبة، فعلى سبيل المثال: قبيلة غمارة من قبائل البربر هناك، قد ظهر فيها رجل اسمه حاميم بن من الله ادعى النبوة، وهو من المسلمين، ولم ينكر نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ يشرع للناس شرعاً والناس يتبعونه في ذلك، ويظنون أن هذا هو الإسلام، ففرض عليهم صلاة في الشروق وصلاة في الغروب فقط، وألف لهم قرآناً بالبربرية، ووضع عنهم الوضوء والطهر من الجنابة وفريضة الحج، وحرم عليهم أكل بيض الطيور، وأحل أكل أنثى الخنزير، وحرم أكل السمك حتى يذبح، لكن اللافت للنظر أن الناس يعتقدون أن هذا هو الإسلام. وقبيلة أخرى من قبائل البربر وهي قبيلة برغواطة كان رئيسها صالح بن طريف بن شمعون، وأصل جده يهودي ثم أسلم، ثم جاء الحفيد صالح وادعى النبوة، وفرض على الناس خمس صلوات في الصباح وخمس صلوات في المساء، وفرض عليهم نفس وضوء المسلمين بالإضافة إلى غسل السرة وغسل الخاصرتين، وفرض عليهم الزواج من غير المسلمات فقط، والزواج بأكثر من أربع نسوة، وفرض عليهم تربية الشعور للرجال وظفرها. وقبيلة أخرى وجدها تعبد الكبش وتتقرب إلى رب العالمين بذلك، وكانت في جنوب المغرب، في البلد التي فتحها عقبة بن نافع ثم موسى بن نصير رضي الله عنه عنهم ورحمهما الله. فشق ذلك على يوسف بن تاشفين رحمه الله، فانطلق إلى الشمال يدعو الناس للإسلام فقاومه وحاربه كل من صالح بن طريف، وحاميم بن من الله وقبائلهما، وكذا قبيلة زناتة السنية التي كانت لا تعرف الإسلام إلا في جانب العبادات والعقيدة، فهم يصلون كما تنبغي أن تكون الصلاة، ويزكون كما تنبغي أن تكون الزكاة، لكنهم يسلبون وينهبون ما حولهم، والقوي فيهم يأكل الضعيف، فقد فصلت الدين تماماً عن قيادة الأمة، فالدين عندهم صلاة وصيام وحج، لكن غير ذلك من المعاملات فقد كانوا يفعلون ما بدا لهم. فأخذ يوسف بن تاشفين يدعو هؤلاء للإسلام، فدخل معه بعضهم، أما المعظم فحاربهم بالسبعة آلاف رجل حتى أخضعهم للإسلام. عاد الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني في سنة (468هـ) فرأى أن يوسف بن تاشفين قد استولى على مساحات شاسعة تمتد من شمال السنغال إلى جنوب موريتانيا؛ وتشمل حالياً: السنغال بأكملها، وموريتانيا بأكملها، والمغرب بأكملها، والجزائر بأكملها، وتونس بأكملها، أي: صار أميراً على دولة واحدة تمتد من تونس إلى السنغال، وو

استشهاد أبي بكر بن عمر اللمتوني وتولية ابن تاشفين أميرا للدولة

استشهاد أبي بكر بن عمر اللمتوني وتولية ابن تاشفين أميراً للدولة استشهد أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله في فتوحاته هناك في سنة (481) من الهجرة، وما رأى عزاً أو ملكاً، فقد كان يغزو في كل عام مرتين، ويفتح البلاد ويعلم الناس الإسلام، ومن حسن الخواتيم أنه استشهد في سبيل الله بعد حياة طويلة متجردة لله سبحانه وتعالى، وتصبح دولة المرابطين في سنة (478) قبل استشهاد الشيخ أبي بكر بن عمر اللمتوني دولة واحدة من تونس الشمال إلى الجابون في وسط أفريقيا، أي: أكثر من عشرين دولة أفريقية الآن في دولة واحدة تمثل أكثر من ثلث أفريقيا، لذلك لما قرأ ألفونسو السادس رسالة المعتمد بن عباد التي قال فيها: لأروحن لك بمروحة من المرابطين، علم أنه سيأتي إليه ثلث أفريقيا، أقوام عاشوا على الجهاد سنوات طويلة، فدولة المرابطين بدأت في سنة (440هـ) برجل واحد فقط وهو الشيخ عبد الله بن ياسين، فدعا الناس إلى الإسلام، ورباهم تربية متأنية صبورة، حتى وصل الناس إلى هذا العدد الهائل، ويصبح يوسف بن تاشفين رحمه الله زعيماً على هذه الدولة العظيمة، ويسمي نفسه أمير المسلمين وناصر الدين، فلما سئل عن عدم تسمية نفسه أمير المؤمنين، فقال: هذا شرف لا أدعيه، هذا شرف يخص العباسيين، وأنا رجلهم في هذا المكان، مع أن العباسيين لا يملكون إلا بغداد فقط، فهو يريد أن يوحد كل المسلمين تحت راية واحدة، ولا يريد شق عصا الخلافة، أو أن ينتقض على خليفة المسلمين، وكان يتمنى أن لو استطاع ضم قوته إلى قوة الخليفة العباسي هناك، ويصبح رجلاً من رجاله في تلك البلاد.

استقبال ابن تاشفين لوفد ملوك الطوائف ثم ارتحاله بجيشه لحرب النصارى

استقبال ابن تاشفين لوفد ملوك الطوائف ثم ارتحاله بجيشه لحرب النصارى استقبل يوسف بن تاشفين سنة (478هـ) الوفد الذي جاء من ملوك الطوائف، يطلبون العون والمساعدة، فتشوق إلى ما يطلبون، فإنه يريد جهاد النصارى، فانطلق معهم رحمه الله، وقد كان تحت إمرته مائة ألف في الشمال الإفريقي، وخمسمائة ألف في أفريقيا، وأخذ معه سبعة آلاف من المجاهدين، لأنه رجل محنك ولا يريد أن يترك كل هذه المساحات الكبيرة بلا حراسة ولا حماية، لا بد أن يكون هناك جيش في تونس والجزائر والمغرب وفي كل بلد من هذه البلاد الإفريقية التي فتحت، ولا يلقي بكل الطاقة هناك، فهو لا يتحرك بعشوائية، فجهز السفن وعبر مضيق جبل طارق. وفي وسط المضيق ترتفع الأمواج ويهيج البحر وتكاد السفن أن تغرق، فيقف ذليلاً خاشعاً يدعو ربه والناس تدعو معه، فكان يقول: اللهم إن كنت تعلم في عبورنا هذا البحر خيراً لنا وللمسلمين فسهل علينا عبوره، وإن كنت تعلم غير ذلك فصعبه علينا حتى لا نعبره، وهذا من الاتصال مع رب العالمين، فتسكن الريح ويعبر الجيش، والوفود منتظرة لاستقبال الفاتحين، وأول شيء عمله عندما وصل البلد سجد لله شكراً أن مكنه من العبور والجهاد، وأن اختاره ليكون جندياً من جنوده سبحانه وتعالى؛ فيدخل يوسف بن تاشفين إلى قرطبة، وإلى إشبيلية ويستقبله الناس استقبال الفاتحين، ثم يتجه إلى مملكة قشتالة النصرانية المرعبة لكل هؤلاء الأمراء من المؤمنين الموجودين في بلاد الأندلس في ذلك الوقت، وهو في رباطة جأش عجيبة، وأهل الأندلس الذين كانوا يدفعون الجزية للنصارى لمدة (70) أو (80) سنة في ذل وهوان وخضوع للنصارى، لكنهم عندما رأوا (7000) رجل يتحركون في سبيل الله يحملون أرواحهم على أكفهم، تغيرت فيهم أشياء كثيرة جداً من رؤية القدوة؛ فخرج معهم رجال من قرطبة وإشبيلية وبطليوس، وهكذا حتى وصلوا إلى الزلاقة في شمال البلاد الإسلامية على حدود قشتالة وعددهم ثلاثون ألف رجل؛ لأنهم عندما وجدوا مجاهدين في سبيل الله تاقت نفوسهم إلى الجهاد، والناس فيهم فطرة طيبة، وإياكم أن تفقدوا الأمل من الناس فإن فطرهم طيبة، وعندما قامت الانتفاضة في فلسطين تحرك الناس، حتى الذين لا يصلون ولا يصومون تحركت عواطفهم لفلسطين. وموقعة الزلاقة من أشهر المواقع الإسلامية في التاريخ، لم يكن يعرف بالزلاقة في ذلك الوقت، ولكن اشتهر بذلك الاسم بعد الموقعة، وسنذكر إن شاء الله لماذا سميت بالزلاقة؟

مراسلة يوسف بن تاشفين للفونسو السادس

مراسلة يوسف بن تاشفين للفونسو السادس وصل يوسف بن تاشفين إلى المنطقة التي دارت فيها الحرب ومعه ثلاثون ألف رجل، وهناك وصله خبر من بلاده المغرب؛ وهو أن ابنه الأكبر قد مات، فلم يفكر في الرجوع إلى بلاد المغرب مع عظم المصيبة وعظم الأمر؛ بل فضل الجهاد في سبيل الله، ولم يرسل أكبر قواده؛ داود بن عائشة إلى مراكش، إنما أرسل وزيره ليحكم البلاد في غيابه هناك، ولم تفت هذه المصيبة أبداً في عضده. أما النصارى فقد استعانوا بستين ألفاً من المقاتلين، وكان على رأسهم ألفونسو السادس، بعد أن استعان بفرنسا وبإيطاليا وبإنجلترا وألمانيا، وبعد أن أخذ من البابا وعوداً بالغفران لكل من شارك في موقعة الزلاقة، جاء ألفونسو السادس وهو يحمل الصلبان فيها صورة المسيح، ويقول: بهذا الجيش أقاتل الجن والإنس، وأقاتل ملائكة السماء، وأقاتل محمداً وصحبه! فكلامه يدل على أن الحرب الصليبية ضد الإسلام، وهنا يفاجئنا يوسف بن تاشفين بأمر عجيب، فيرسل رسالة إلى ألفونسو السادس كعادة الجيوش في ذلك الوقت، يقول له فيها: بلغنا أنك دعوت أن يكون لك سفن تعبر بها إلينا فقد عبرنا إليك، وستعلم عاقبة دعائك، {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14]، وإني يا ألفونسو السادس أعرض عليك الإسلام أو الجزية عن يد وأنت صاغر أو الحرب، ولا أؤجلك إلا ثلاثاً وبعد ذلك سأحارب مباشرة. فتسلم ألفونسو السادس الرسالة فاغتاظ بشدة، فأرسل رسالة يهدد فيها يوسف بن تاشفين فقال له: فإني اخترت الحرب فما ردك على ذلك، فأخذ يوسف بن تاشفين الرسالة وكتب عليها من ورائها: الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأذنك، والسلام على من اتبع الهدى. فهذا رد شديد جداً على ألفونسو السادس أمام جيشه، فما استطاع أن يتكلم فاختار الحرب، فأرسل رسالة فيها شيء من التخاذل، فقال له: غداً الجمعة والجمعة عيد من أعياد المسلمين، ونحن لا نقاتل في أعياد المسلمين، والسبت عيد اليهود وفي جيشنا كثير منهم، والأحد عيدنا، فلو أنك تسمح لنا أن نؤجل الحرب ثلاثة أيام إلى يوم الإثنين كان أحسن وأفضل. فـ يوسف بن تاشفين القائد المحنك لم ير جيشه هذه الرسالة، لأنه يعلم أن هذا الرجل مخادع، ويعلم أنهم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، ويكذبون على الله، وقد قال الله فيهم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100]، فجهز جيشه كامل التجهيز وعبأه على أكمل تعبئة، حتى إذا حدث هجوم مباغت يوم الجمعة يكون جاهزاً للرد على هذا الهجوم، وبالفعل فإنه رتب جيشه رحمه الله في يوم الخميس، وكان من ضمن الجيش ابن رملية من شيوخ المالكية في قرطبة، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام في تلك الليلة، ورؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، فإن الشيطان لا يتمثل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن رملية إنكم منصورون وإنك ملاقينا، فيستيقظ ابن رملية فرحاً مسروراً لا يستطيع أن يملك نفسه من شدة الفرح، فيوقظ يوسف بن تاشفين والمعتمد على الله بن عباد والمتوكل بن الأفطس وعبد الله بن بلقين؛ ويوقظ كل قواد الجيش ويشرح لهم رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بـ يوسف بن تاشفين ومن معه من القواد لا يملكون أنفسهم من الفرحة فصاحوا بكل الجيش في نصف الليل: ابن رملية رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: إنكم منصورون وإنك ملاقينا، وإذا الجيش كله يعيش لحظة من لحظات السعادة العجيبة جداً، لم يذوقوها منذ سنوات في أرض الأندلس، فتتوق النفوس إلى الشهادة، ويأمر يوسف بن تاشفين جيشه بقراءة سورة الأنفال، ويأمر الخطباء بأن يحفزوا الناس على الجهاد، ويمر هو بنفسه رحمه الله على الفصائل ويقول لهم: طوبى لمن أحرز الشهادة، ومن بقي له الأجر والغنيمة.

مواجهة المسلمين للصليبيين في الزلاقة

مواجهة المسلمين للصليبيين في الزلاقة رتب ابن تاشفين جيشه وصلى بهم الفجر، وبعد الفجر يغدر ألفونسو السادس فهجم على الجيش فوجده على تعبئته، فقد قسم يوسف بن تاشفين الجيش إلى نصفين: نصف أمامي ونصف خلفي، أما النصف الأمامي فقد طلب المعتمد على الله بن عباد أن يكون على قيادته، ومن معه من الأندلسيين، فهو يريد أن يكون بين المسلمين والنصارى، وأن يغسل عار السنين، ويمحو الذل الذي أذاقه إياه ألفونسو السادس، وأن يتلقى الضربة الأولى من جيش النصارى، فيقف المعتمد على الله بن عباد في مقدمة الجيش وخلفه داود بن عائشة كبير قواد المرابطين. أما الجيش الخلفي ففيه يوسف بن تاشفين رحمه الله فهو يختفي خلف تل من التلال بعيداً عن أرض الموقعة، وعدد أفراد الجيش الثاني خمسة عشر ألفاً، وقد قسم الجيش الثاني إلى نصفين، يتكون من أحد عشر ألف مقاتل وكانوا مع يوسف بن تاشفين، ثم النصف الثاني يتكون من أربعة آلاف من رجال السودان المهرة؛ كانوا يحملون سيوفاً هندية، ورماحاً طويلة، وكانوا من أعظم المحاربين في جيش المرابطين، وجعلهم في آخر الجيش، وكانت خطة يوسف بن تاشفين نفس خطة خالد بن الوليد في فتوح فارس، في موقعة الولجة، ونفس خطة النعمان بن مقرن رضي الله عنه وأرضاه في موقعة نهاوند أيضاً في فتوح فارس فقد كان ابن تاشفين يقرأ التاريخ ويعتبر بالتاريخ. وتبدأ الموقعة، وإذا بستين ألف نصراني يهجمون على خمسة عشر ألف مسلم وبقية الجيش لا يقاتلون، يريد يوسف بن تاشفين أن تحتدم الموقعة حتى تنهك قوى الطرفين ولا يستطيعان القتال، هنا يدخل يوسف تاشفين بجيشه ليعدل الكفة في صف المسلمين، وهذه سياسة النفس الطويل، كالذي يجري في (الماراثون) في سباق طويل جداً (10كيلو) أو (20كيلو)، فلو جرى في أول السباق بحمية شديدة لن يستطيع أن يكمل السباق، لكنه يبدأ بالتدريج حتى يصل إلى آخر السباق فيسرع ويكمل السباق لصالحه، هكذا فعل يوسف بن تاشفين رحمه الله. فإذا بستين ألفاً من النصارى، وكأنهم أمواج تتلوها أمواج، وأسراب تتبعها أسراب يهجمون على جيش المسلمين والمسلمون صابرون، فقد مات على المعتمد على الله بن عباد ثلاثة خيول وهو صابر حتى كان لا يرى من كثرة الدماء، حتى أتى وقت العصر وهناك يشير يوسف بن تاشفين إلى من معه أن انزلوا وساعدوا إخوانكم، فينزل يوسف بن تاشفين ومن معه وهم مستريحون بعد طول صبر، فيحاصرون الجيش النصراني؛ وقد قسم يوسف بن تاشفين المقاتلين الذين معه إلى قسمين: قسم يساعد المسلمين، وقسم يلتف خلف جيش النصارى، وأول شيء عمله خلف جيش النصارى أن حرق خيام النصارى في خلف الجيش، وقد كانت الخيام فارغة لا يوجد بها أحد، وإنما فعل ذلك حتى يعلم النصارى أن يوسف بن تاشفين ومن معه خلف الجيش، فلما علموا أنهم محاصرون من خلفهم، دبت الهزيمة في قلوبهم، وبدأ يحدث الخلل والانسحاب، والتف الناس حول ألفونسو السادس يحمونه، وبدءوا ينسحبون فحدثت خلخلة عظيمة في جيش النصارى في موقعة الزلاقة، فكانت الضربة الأولى لـ يوسف بن تاشفين أن قتل من النصارى عشرة آلاف رجل، وذلك بعد العصر، حتى قال المؤرخون: إن يوسف بن تاشفين الأمير على ثلث أفريقيا كان في هذه الموقعة يتعرض للشهادة؛ فيلقي بنفسه في المهالك رحمه الله ورضي الله عنه وعن أمثاله، وتزداد الموقعة في الحدة حتى قبيل المغرب، ثم يشير يوسف بن تاشفين رحمه الله إلى الأربعة آلاف فارس، فيأتون من بعيد يستأصلون النصارى، فقد قتل في موقعة الزلاقة من النصارى تسعة وخمسين ألف وخمسمائة وخمسين رجلاً، نجا منهم أربعمائة وخمسون فارساً فقط! فيهم ألفونسو السادس بساق واحدة، فقد بترت ساقه في موقعة الزلاقة، وانسحب في جنح الظلام هو وأربعمائة وخمسين فارساً إلى طليطلة، وهناك دخلوا طليطلة بمائة فارس فقط، فقد مات في الطريق ثلاثمائة وخمسون فارساً من الجراح المثخنة في موقعة الزلاقة. موقعة الزلاقة تقاس بلا مبالغة بموقعتي اليرموك والقادسية.

سبب تسمية الزلاقة

سبب تسمية الزلاقة سميت موقعة الزلاقة بهذا الاسم لكثرة الدماء فيها حتى كان الرجال والخيول ينزلقون، فقد كانت الأرض صخرية، وجمع المسلمون غنائم عديدة، لكن يوسف بن تاشفين يترك كل الغنائم لأهل الأندلس ويعود في زهد عجيب وورع كبير إلى بلاد المغرب، لسان حاله: لا نرجو منكم جزاء ولا شكوراً، وجمع الناس وحضهم على الاجتماع وعلى نبذ الفرقة، وعلى التمسك بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونصحهم باتباع سنة الجهاد في سبيل الله، وكان عمر يوسف بن تاشفين البطل الإسلامي المغوار الذي يكتب بحروف من ذهب وأغلى من الذهب (79) سنة وهو يجاهد في موقعة الزلاقة، مثل موسى بن نصير، فقد كان يوسف بن تاشفين الشيخ الكبير يحارب على فرسه في موقعة الزلاقة في أماكن بعيدة جداً عن دولة المرابطين، وكان من الممكن أن يرسل جيشاً يحارب النصارى في الأندلس، ولكن ذهب بنفسه لعله يموت في سبيل الله هناك، لكنه لم يستشهد هناك، فلا نامت أعين الجبناء.

دخول ابن تاشفين الأندلس للمرة الثانية واستيلائه عليها

دخول ابن تاشفين الأندلس للمرة الثانية واستيلائه عليها يعود يوسف بن تاشفين رحمه الله إلى أرض المغرب من جديد، فتحدث الصراعات بين أمراء المؤمنين الموجودين في بلاد الأندلس على الغنائم، والبلاد المحررة، وهنا يضج العلماء، ويذهبون إلى يوسف بن تاشفين مرة أخرى ويقولون: يا يوسف! خلصنا من أمرائنا، فيتورع يوسف بن تاشفين من مهاجمة بلاد الأندلس، ومحاربة المسلمين، فتأتيه الفتاوى من كل بلاد المسلمين حتى جاءته من الشام من أبي حامد الغزالي صاحب الإحياء، ومن أبي بكر الطرطوشي العالم المصري الكبير، وجاءته الفتاوى من كل علماء المالكية في شمال إفريقية، أن يدخل بلاد الأندلس ويضمها إلى دولة المرابطين، وينجد المسلمين مما هم فيه؛ لأن هذه البلاد ستضيع لا محالة إن تركها يوسف بن تاشفين! فدخلها مرة ثانية سنة (483هـ) أي: بعد موقعة الزلاقة التي تمت في (479هـ) بأربع سنوات، فحاربه أمراء المؤمنين، وممن حاربه المعتمد على الله بن عباد، الذي لم يجد العزة إلا تحت راية يوسف بن تاشفين، لكن أنى له أن يحارب يوسف بن تاشفين، فقد استطاع أن يضم كل بلاد الأندلس ومن ضمنها سرقسطة بعد أن قسمها الملك الذي كان عليها بين ابنيه، وضمها إلى بلاد المسلمين، وأصبح يوسف بن تاشفين أميراً على دولة واحدة تمتد من شمال الأندلس بالقرب من فرنسا إلى وسط أفريقيا، وظل رحمه الله يحكم المسلمين حتى سنة (500هـ) وكان قد بلغ من العمر (100) عام، ومات رحمه الله في سنة (500هـ) ولم يفتن بالدنيا لحظة، فقد ملك أموال الدنيا جميعاً، فالأندلس بلاد غنية جداً، لكنه ما فتن بالدنيا لحظة، فقد ظل الشيخ الكبير والأمير العظيم حتى آخر لحظات حياته، لا يلبس إلا الخشن من الصوف، ولا يأكل إلا الخبز من الشعير، ولا يشرب إلا لبن الإبل، فرحم الله يوسف بن تاشفين، ورحم الله أبا بكر بن عمر اللمتوني ورحم الله الشيخ عبد الله بن ياسين، ورحم الله الشيخ يحيى بن إبراهيم الجدالي الذي أتى بالشيخ عبد الله بن ياسين في سنة (440هـ)، فخلال (60) سنة تصبح دولة المرابطين من أقوى دول العالم في ذلك الزمان. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.

بين المرابطين والموحدين

سلسلة الأندلس_بين المرابطين والموحدين أسس الشيخ عبد الله بن ياسين وأبو بكر بن عمر اللمتوني دولة المرابطين في بلاد المغرب التي استمرت مائة عام وهي تحكم البلاد ابتداء من سنة 440هـ -541هـ، وقد حققت انتصارات عظيمة ضد النصارى، وسيطرت على جزء كبير من بلاد الأندلس، ثم حدث أن ضعفت دولة المرابطين؛ بسبب انفتاح الدنيا والركون إليها، وانتشار الذنوب والمعاصي والتمادي فيها، وانشغال العلماء بالمناظرات والمؤلفات، فكانت نهايتها على يد دولة الموحدين.

معنى كلمة البربر وصلة هذه الكلمة بالتصرفات البربرية

معنى كلمة البربر وصلة هذه الكلمة بالتصرفات البربرية أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فسنفتح اليوم بإذن الله صفحة جديدة من صفحات التاريخ الإسلامي، مع الصفحة العاشرة من صفحات الأندلس: من الفتح إلى السقوط. وقد وقفنا في الحلقة السابقة على موقعة الزلاقة وخاتمتها، وكيف انتصر فيها القائد الرباني المجاهد الورع التقي يوسف بن تاشفين اللمتوني رحمه الله، وكيف قضى في الحكم قرابة (47 عاماً) ثم توفي رحمه الله في سنة (500) من الهجرة، واستخلف على الحكم من بعده علي بن يوسف بن تاشفين رحمه الله. وقبل الخوض في نتائج موقعة الزلاقة وما حدث بعدها من أحداث نجيب على سؤالين بخصوص الحلقة السابقة وهما: السؤال الأول: ما معنى كلمة البربر؟ وما صلة البربر بالتصرفات البربرية عند بعض الناس؟ والحق أن كلمة البربر منفصلة كلية عن كلمة البرابرة أو التصرفات البربرية الهمجية، فالبربر جنس من الناس، مثل: العرب أو الفرس أو الروم، وهم من أولاد حام يعني: هم حاميون، والعرب ساميون، فالبربر حاميون كالأوروبيين في أغلب الظن، وكونهم ليسوا بعرب هذه مسألة لا يجب أن نقف عندها كثيراً، فقد تحدثنا عنها في دروس سابقة، إنما نريد أن نوسع مداركنا ونظرتنا للأمور. فلا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، والعرب وغير العرب نصروا الإسلام كثيراً، وفي هذه السلسلة من الأحداث في تاريخ الأندلس تكلمنا عن طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين وأبي بكر بن عمر اللمتوني وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم، وهم من غير العرب؛ لكنهم نصروا الإسلام، وهناك أيضاً البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي وغيرهم من علماء المسلمين ليسوا بعرب. والحق أن العرب وغير العرب جميعاً يجمعهم لواء واحد وعقيدة واحدة هي عقيدة الإسلام، وكلمة القومية العربية أو الاعتزاز بالعروبة وإلغاء غير المسلمين من العرب تلغي من قوام المسلمين أكثر من مليار مسلم، فعدد المسلمين في العالم مليار وثلاثمائة مليون مسلم، فالعرب يبلغون حوالي (200) مليون مسلم فقط، والباقي من باكستان والهند وإندونيسيا ومن إفريقيا وغيرها من البلاد الواسعة التي تحدثنا عنها في دولة المرابطين، فالكثير من المسلمين غير عرب، فهم جند للإسلام، ولابد أن يندرجوا تحت لواء الإسلام الذي يجمع هؤلاء جميعاً.

الرد على من زعم أن المسلمين لا يستطيعون أن يحققوا النصر على الأعداء في ظل الحروب النووية

الرد على من زعم أن المسلمين لا يستطيعون أن يحققوا النصر على الأعداء في ظل الحروب النووية السؤال الثاني: كان من الممكن للمسلمين أن ينتصروا سابقاً عندما كانت الأسلحة سيوفاً وغيرها لكن انتصارهم في هذا الوقت الذي نعيش فيه من الصعب بمكان، وليس كما سبق في تاريخ المسلمين؟ أقول: إن الذي سأل هذا السؤال لم يفهم أمرين هامين من الأمور التي تحدثنا عنها في هذه السلسلة: الأمر الأول: أن من سنة الله سبحانه وتعالى أن أمة الإسلام لن تموت، وأنه لا بد من قيام بعد السقوط مهما بلغت قوة الباطل وتعاظمت قوة الكافرين، ومهما ضعفت قوة المسلمين، قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196]. الأمر الثاني وهو في الحقيقة أمر هام جداً: أنه لم يفهم طبيعة المعركة بين الحق والباطل، فهي ببساطة معركة بين أولياء الله سبحانه وتعالى وأولياء الشيطان، وأولياء الله سبحانه وتعالى هم الذين ينتصرون على أولياء الشيطان مهما تعاظمت قوة أولياء الشيطان، فهل من الطبيعي بالقياسات القديمة والحديثة أن يحقق المسلمون النصر في معاركهم السابقة، فينتصر اثنان وثلاثون ألف مسلم في القادسية على مائتين وأربعين ألف فارسي في بلدهم وفي عقر دارهم، وينتصر تسعة وثلاثون ألف مسلم في اليرموك على مائتي ألف رومي، وثلاثون ألف مسلم في تستر على مائة وخمسين ألف فارسي، فانتصر المسلمون فيما يقرب من ثمانين موقعة متتالية خلال سنة ونصف؟ وهل من الطبيعي كما درسنا في فتوحات الأندلس أن اثني عشر ألف مسلم ينتصرون على مائة ألف في موقعة وادي برباط؟ فهذه أمور ليست من الطبيعي أن تحدث حتى بقياسات الماضي، وهذا لغز صعب جداً لا تفهمه إلا بطريقة واحدة وهي أنك تفهم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحارب الكافرين، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. ويقول سبحانه وتعالى في سورة محمد عليه الصلاة والسلام: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]. هكذا فإن الله سبحانه وتعالى يختبر المؤمنين بحربهم مع الكافرين؛ ونحن يجب ألا نظن أن ربنا سبحانه وتعالى محتاج لنصرة المؤمنين، لكي ينتصر على اليهود أو الأمريكان أو الروس أو غيرهم من أمم الأرض الذين اجتاحوا دول المسلمين، فمن فضل الله سبحانه وتعالى ومنِّه وجوده وكرمه أن منّ علينا أن نكون جنوداً من جنوده سبحانه وتعالى، أنتم تسترون قدرة الله سبحانه وتعالى في هزيمته للكافرين وتأخذون الأجر على ثباتكم في هذا الموقف أمام الكفار، فالذي يقول: إن الموقف في الماضي مخالف عن الموقف في الحاضر؛ لأن حروب الماضي مختلفة بالكلية عن حروب الحاضر، وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي نصر الصحابة ونصر من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، كأنه يقول -وحاشا لله من هذا-: إن الله كان قادراً على عاد وثمود وفارس والروم، لكنه -ونعوذ بالله من ذلك- ليس بقادر على أمريكا وروسيا وإنجلترا واليهود ومن حالفهم وشايعهم من الأمم الحاضرين المقاتلين لأمة الإسلام. يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15]. ويصف الله حال الكافرين، فيقول سبحانه وتعالى: {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:43 - 44]. لكن المهم في الموضوع الذي يشغل الإنسان المسلم الحريص على دينه هو: أين دوره في قيام أمة المسلمين اليوم؟ وأين دوره في الانتصار الذي يشبه انتصار الزلاقة أو غيرها من مواقع المسلمين الخالدة؟ إن كان قيام أمة المسلمين بك، فأنت مأجور حتى لو لم تر نصراً، وإن كان القيام بدونك، فقد ضاع عليك الأجر حتى لو كنت معاصراً للتمكين، فالشيء الذي لا بد أن يشغل كل مسلم هو كيف يكون له دور في إعادة بنيان الأمة المسلمة، بعد السقوط الذي تحدثنا عنه في درس سابق. أما موقعة الزلاقة فقد كانت في سنة (479) من الهجرة، وكان قائد النصارى في موقعة الزلاقة هو ألفونسو السادس، الذي مات في بيته بعد الموقعة بشهرين أو ثلاثة كمداً وهماً وحزناً بعد الهزيمة الساحقة لجيشه في هذه الموقعة، وقد بترت فيها ساقه، وضاع معظم أو كل الجيش الصليبي في هذه الموقعة، واستخل

استخلاف علي بن يوسف بن تاشفين على دولة المرابطين بعد أبيه

استخلاف علي بن يوسف بن تاشفين على دولة المرابطين بعد أبيه ظل يوسف بن تاشفين رحمه الله في الحكم إلى سنة 500 من الهجرة، مات في نفس السنة وهو يبلغ من العمر (100) عام، واستخلف على الحكم علي بن يوسف بن تاشفين رحمه الله على دولة المرابطين، وحاول المرابطون تحرير معظم الأراضي الأندلسية التي أخذت من المسلمين على مدار السنوات السابقة، فحاربوا في أكثر من جبهة، فحرروا سرقسطة وضموها إلى أملاك المسلمين، وهي في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، واقتربت حدود دولة المرابطين من فرنسا، وحاول المسلمون كثيراً تحرير طليطلة، لكنهم فشلوا في هذا الأمر؛ لأن طليطلة من أشد مدن الأندلس حصانة على الإطلاق، وإن كانوا قد أخذوا معظم القرى والمدن حول طليطلة. وفي سنة (501) من الهجرة، بعد موت يوسف بن تاشفين رحمه الله بعام واحد دارت موقعة ضخمة جداً بين المسلمين والنصارى وهي موقعة أقليش، تولى فيها القيادة على المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، وتولى فيها قيادة النصارى ابن ألفونسو السادس، وانتصر المسلمون فيها انتصاراً ساحقاً، وقتل من الصلبيين في هذه الموقعة ثلاثة وعشرون ألف صليبي، واستمرت الانتصارات للمسلمين. وفي سنة (509) من الهجرة فتح المسلمون من جديد جزر البليار التي كانت قد سقطت في عهد ملوك الطوائف، وأصبح المسلمون يسيطرون على جزء كبير جداً من أراضي الأندلس.

أسباب ضعف دولة المرابطين

أسباب ضعف دولة المرابطين في سنة (512هـ) تحدث ثورة في داخل بلاد المغرب في عقر دار المرابطين، كان لها أثر سلبي على دولة المرابطين أدت بعد ذلك إلى هزيمتين متتاليتين للمسلمين من الصليبيين في بلاد الأندلس؛ الهزيمة الأولى: قتندة، والهزيمة الأخرى هي هزيمة القليعة. قامت دولة المرابطين سنة (440هـ) بقدوم الشيخ عبد الله بن ياسين، وتدرج الأمر ببطء حتى انضم أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله مع الشيخ عبد الله بن ياسين. وحدثت فرجة للمسلمين كانت غير متوقعة في ذلك الوقت، وحصل بعدها انتشار بسيط ثم انتشار سريع ثم فتح عظيم وتمكين، ثم دنيا وسلطان وعز كبير جداً للمسلمين، استمر من سنة (440هـ) إلى سنة (509هـ) يعني: حوالي (70) سنة. والشيء الطبيعي جداً والمتوقع والعادي أن يحدث انكسار جديد للمسلمين، بسبب فتنة الدنيا التي فتحت على المسلمين، وفتنة الأموال التي كثرت في أيدي المسلمين، والناس تتوقع أنه لا يمكن لهذه الدولة أن تتقهقر وتهزم، وتستغرب أن يحدث ذلك بعد وفاة يوسف بن تاشفين ولا تستغربه أن يحدث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بلا شك أعظم تربية وأقوى أثراً من يوسف بن تاشفين ومن أمثال يوسف بن تاشفين، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم البشر وأحسنهم، وأحب الخلق إلى الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فإنه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم حدثت الردة، وحدث انكسار كبير جداً للمسلمين، فهذه دورة طبيعية من دورات التاريخ، فالذي حدث في بلاد الأندلس أمر من الأمور الطبيعية جداً أنه بعد هذا العلو بدأ يحدث الانكسار. فهذه هي الأشياء التي حدثت بعد انتهاء عصر يوسف بن تاشفين وبداية عصر علي بن يوسف بن تاشفين رحمه الله الذي كان أيضاً مجاهداً على نسق أبيه في أول الأمر.

اشغال المرابطين بالجهاد وإهمال تعليم الناس وتفقيههم في الدين

اشغال المرابطين بالجهاد وإهمال تعليم الناس وتفقيههم في الدين استمر الجهاد في عهد علي بن يوسف بن تاشفين ولم يتوقف، فقد كانت له صولات وجولات مع النصارى في أكثر من موقعة، ومع ذلك فتن المرابطون بالدنيا مع استمرار الجهاد وكثرة الذنوب في البلاد، وإن وجد العلماء، وهذه في منتهى الغرابة ألغاز عجيبة في الظاهر، لكن عندما نحلل الموقف نجد الأمر شيئاً طبيعياً وهو افتتان الناس بالدنيا والجهاد مستمر، وكثرة الذنوب في وجود العلماء، وهذا يرجع إلى أمرين: الأمر الأول: الخطأ الكبير الذي ارتكبه المسلمون في دولة المرابطين -وعلى المسلمين أن يحذروا منه دائماً- هو التركيز على جانب من جوانب الإسلام وترك الجوانب الأخرى، فقد انشغل المرابطون في أرض الأندلس وفي بلاد المغرب وما حولها بالجهاد في سبيل الله عن تعليم الناس وتفقيههم في الدين، ومهمة التعليم مهمة شاقة جداً وبالذات في هذا الزمن، والناس بطبيعتها لا تحب من يعطي لها قوانين وبرامج، فهي متفلتة من التعلم ومن الالتزام بالدين، فتريد أن تبذل معها مجهوداً ضخماً حتى تعلمها أمر دينها. فالمرابطون انشغلوا بالجهاد في سبيل الله، وجيوشهم الكثيرة جداً تخرج في كل مكان، والناس ما تعلمت الدين كما ينبغي أن تتعلم، كما كان في عهد عبد الله بن ياسين ويوسف بن تاشفين رحمهما الله. والإسلام دين متوازن لا يغلب جانباً على جانب، فقد انشغل المرابطون عن إدارة الحكم والسياسية في داخل البلد بالأمور الخارجية. ومن عوامل نجاح عبد الرحمن الناصر رحمه الله كما ذكرنا سابقاً أنه أقام الدولة المتوازنة في العلم والجهاد والاقتصاد والقانون والعمران والعبادة وكل شيء، وكون الدولة التي تسد حاجات الروح والجسد فسادت الدولة وتمكنت. وكذلك كان من عوامل نجاح الشيخ عبد الله بن ياسين في نشأة دولة المرابطين: أنه أقام الجماعة المتوازنة التي تهتم بكل جوانب الحياة وتعطي قدراً مناسباً من الجهد والطاقة والوقت والعمل، كما علمهم أن يكونوا مجاهدين علمهم أن يكونوا عابدين لله سبحانه وتعالى، وكما علمهم أن يكونوا سياسيين بارعين علمهم أن يكونوا متعاملين تعاملاً على نهج الإسلام وأصول الإسلام، حتى أنشأ ما يسمى بالجماعة المتوازنة، لكن أن يوجه المسلمون طاقتهم في دولة المرابطين في سنة (500) وما بعدها إلى الجهاد في سبيل الله وإلى أمور العبادة، ويتركوا أمور السياسة الداخلية وتثقيف الناس وتعليمهم أمر الدين، والسيطرة على المعاصي التي بدأت تنتشر في بلاد المغرب والأندلس، فهذا شيء فيه خلل حدثت من جرائه هزة في دولة المرابطين.

كثرة الذنوب والمعاصي في بلاد المرابطين وانشغال العلماء بالمناظرات

كثرة الذنوب والمعاصي في بلاد المرابطين وانشغال العلماء بالمناظرات الأمر الثاني: أن الذنوب كثرت في أرض المرابطين سواء في أرض المغرب أو أرض الأندلس مع وجود العلماء الكثر، فكثرة الذنوب أمر طبيعي في بلاد المرابطين بعد أن كثرت فيها الأموال وانفتحت الدنيا؛ لأن معظم الذنوب تحتاج إلى أموال كثيرة لإيجاد الخمر والمخدرات ودخول الملاهي الليلية وما إلى ذلك من أنواع المعاصي. والنفوس الضعيفة التي كانت في دولة المرابطين، والتي كانت تفكر في الذنوب وكانت لا تقدر عليها، بدأت بعد أن كثرت الأموال عندها ترتكب من المعاصي الكبيرة ألواناً وأشكالاً، والناس جميعاً إلا ما رحم الله يفتنون بالمال ويقعون في الذنوب؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على لسان قوم نوح لنوح عليه الصلاة والسلام: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27]، والأراذل هم: ضعاف الناس وبسطاؤهم وفقراؤهم، وهم الذين اتبعوا نوحاً عليه السلام واتبعوا الرسل من بعده، واتبعوا كل الدعاة من بعدهم إلى يوم القيامة. وسبب ذلك كله هو أن العلماء انشغلوا بفرعيات الأمور وأغفلوا أساسياتها، فانشغلوا بالفروع عن الأصول، فأخذوا يؤلفون المؤلفات ويعقدون المناظرات، ويقسمون التقسيمات في أمور لا ينبني عليها كثير عمل، بينما أغفلوا أموراً لا يصح لهم أبداً أن يتركوها، وتناظروا كثيراً عن كيفية وضع اليد أثناء الصلاة، هل توضع على البطن أو على الصدر، وفي أي مكان في الصدر؟ وعن كيفية وضع السبابة أثناء التشهد، هل ترفع من أول التشهد أو في منتصف التشهد فقط؟ وهل ترفع ساكنة أم متحركة؟ وهل حركتها رأسية أفقية أم دائرية؟ وهذا في منتهى الغرابة أن تجد الناس يتجادلون كثيراً في هذا الأمر، وتناظروا طويلاً في مذهب المرجئة والمعطلة والمشبهة والمجسمة وأمور ما كان الناس يرونها ولا يسمعون عنها أبداً، وفتحوا على الناس أبواباً ما فتحها عليهم رسولهم صلى الله عليه وسلم. ونتج عن هذا التعمق في الفروع أشياء خطيرة منها: أولاً: وجود جدار عظيم جداً بين العلماء والعامة، فلا العامة يفهمون العلماء ولا العلماء يفهمون العامة، ونبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أعلم البشر وأحكم الخلق كان يتكلم بالكلمة فيفهمه كبير الصحابة والأعرابي البسيط والرجل والمرأة والكبير والصغير صلى الله عليه وسلم، لكن في عهد المرابطين الأخير لما اشتغل الناس بالفروع والتهوا بها عن الأصول، حدث أمر آخر نتيجة هذه المناظرات الطويلة وهو عزلة خطيرة للعلماء عن المجتمع، وأخذوا يتحدثون في كل هذه الأمور، وتركوا مصائب عظاماً حلت على المجتمع، فقد كانت الخمور تباع وتشترى، بل وتصنع في البلاد ولا يتكلم أحد. وضرائب باهظة تفرض على الناس غير الزكاة بغير وجه حق، ولا يتكلم أحد من العلماء. وظلم الولاة لأفراد الشعب ولا يتكلم أحد من العلماء. وملاه للرقص تعلن الفساد والسفور ولا يتكلم أحد من العلماء. وخروج النساء حاسرات بلا حجاب ولا يتكلم العلماء عن هذا الأمر. ففي زمن دولة المرابطين في سنة (500هـ) وما بعدها كانت النساء يخرجن من بيوتهن سافرات بلا حجاب، والعلماء لا يتكلمون عن هذه الأمور، بل هم منشغلون بالحديث عن المرجئة والمعطلة وغير ذلك، ويعتقدون أن هذه الأمور التي يجب أن يشغل بها المسلمون عن هذه الأمور الأقل قيمة في نظرهم. فحدث في أواخر عهد المرابطين غياب الشمولية في دولة المرابطين، وفتنة الدنيا والمال، وكثرة الذنوب، وجمود الفكر عند العلماء، وانعزالهم عن المجتمع، وفوق كل هذه الأمور تحدث أزمة اقتصادية حادة جداً في دولة المرابطين، وهي أن ينقطع المطر سنوات، وهذه الأزمة ليست صدفة، بل هي في قرآن الله الكريم: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]. وقال تعالى حاكياً عن قول سيدنا نوح عليه السلام لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:10 - 13]. إذاً: الله سبحانه وتعالى يبتلي المؤمنين دائماً بالقحط وبالأزمات الاقتصادية الحادة عندما يبتعدون عن طريقه، فلو لاحظت في مجتمعك أن الحالة الاقتصادية بدأت تسوء والأموال تقل في أيدي الناس، والناس تشتغل وتعمل ولا تحصل ما يكفي لسد رمقهم أو ما يكفي لعيشهم عيشة كريمة، فاعلم أن هناك خللاً في العلاقة بين العباد وبين الله سبحانه وتعالى، وابتعاداً عن منهج الله سبحانه وتعالى، ولو كانوا يطيعونه سبحانه وتعالى لبارك لهم في أقواتهم. ثم تلا هذا الوضع الذي حدث في بلاد المرابطين هزائم متعددة من قبل النصارى؛ كموقعة قتندة سنة (514هـ)، و

ثورة محمد بن تومرت وقيام دولة الموحدين

ثورة محمد بن تومرت وقيام دولة الموحدين تتجه البلاد إلى كارثة أو هاوية إن لم يقم المصلحون يعدلون المسار من جديد إلى الجادة، وإلى طريق الله سبحانه وتعالى وطريق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا بد في هذا الجو أن يظهر مصلحون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فقام رجل اسمه: محمد بن تومرت من قبائل مصمودة البربرية، وقيل: إن نسبه عربي، بل إن بعض الناس قال: إن نسبه قرشي، لكن غالب الأمر أنه من قبائل البربر في هذه المنطقة. قامت ثورة محمد بن تومرت الإصلاحية في دولة المرابطين سنة (512هـ) وكان منهج محمد بن تومرت في التغيير مختلفاً بالكلية عن منهج الشيخ عبد الله بن ياسين رحمه الله. ولد محمد بن تومرت المصمودي في سنة (473) من الهجرة، ونشأ في بيت متدين في قبيلة مصمودة، وظل في هذا البيت إلى سنة (500)، وكان يبلغ من العمر (27) سنة، وكان متشوقاً جداً إلى العلم، وكان من عادة العلماء في ذلك الزمن أنهم يتجولون ويسيحون في الأرض، يتعلمون من علماء المسلمين في مختلف الأقطار، ففي سنة (500) سافر محمد بن تومرت إلى قرطبة وتلقى العلم هناك، ثم لم يكتف بذلك بل سافر إلى الإسكندرية، ثم إلى مكة فحج وأخذ يتعلم هناك على أيدي علماء مكة فترة، ثم ذهب إلى بغداد وقضى فيها عشر سنوات كاملة، وتعلم العلم على أيدي علماء بغداد جميعاً، وبغداد في ذلك الوقت كانت تموج بتيارات مختلفة، فقد كان فيها علماء للسنة وعلماء للشيعة وعلماء للمعتزلة، فتلقى على أيدي هؤلاء جميعاً، ثم ذهب إلى الشام وتلقى العلم على يد أبي حامد الغزالي رحمه الله صاحب الإحياء، ثم عاد بعد ذلك إلى الإسكندرية، ثم عاد بعد ذلك إلى بلاد المغرب. يقول ابن خلدون: لما عاد محمد بن تومرت سنة (512هـ) إلى بلاد المغرب العربي وعمره تقريباً 39 سنة، أصبح بحراً متفجراً من العلم وشهاباً في الدين، يعني: أنه جمع علوماً كثيرة جداً من تيارات مختلفة، وجمع أفكاراً ضخمة جداً، وأصبح فعلاً من علماء المسلمين الكبار في هذه الآونة، وفي طريق عودته من بلاد العراق وبلاد الشام بقي في الإسكندرية فترة يكمل فيها تعليمه، وهناك في الإسكندرية بدأ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فقد كان عنده علم غزير جداً، وكان شديداً جداً في إنكار المنكر وفي الأمر بالمعروف، وكانت فيه شدة توصل إلى حد التنفير، فكان ينفر كثيراً من الناس عنه عندما يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، حتى إن أهل الإسكندرية طردوه من البلد من فظاظته، وألقوه في سفينة متجهة إلى بلاد المغرب العربي، فركب السفينة فأخذ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أهل السفينة، فكان ينهاهم عن شرب الخمور على السفينة، ويأمرهم بقراءة القرآن، ومن شدته عليهم رموه في وسط البحر الأبيض المتوسط وانطلقوا إلى بلاد المغرب وهو يسبح بجانب السفينة، فأشفق عليه أهل السفينة فأخذوه معهم على أن يصمت حتى يصل إلى بلاد المغرب العربي. ثم وصل إلى بلد المهدية في تونس، فنزل فيها وبدأ كالعادة من جديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بنفس الطريقة، وكرد فعل طبيعي للناس بدأت تنفر من طريقته وتبتعد، وكان محمد بن تومرت يريد تغيير كل شيء من المنكر تغييراً جذرياً مفاجئاً وسريعاً، والحق أن هذا أمر مخالف للسنن؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم لما بدأ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في مكة ما أنكر على المنكرات فجأة، بل إن الأوامر كانت تنزل من عند الله سبحانه وتعالى بصورة متدرجة كالأمر باجتناب الربا والخمور، وكالأمر بالقتال في سبيل الله، يروى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما تولى الخلافة كانت هناك منكرات في دمشق وما حولها من البلاد، فابن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان شديداً جداً في الحق، فأراد أن يغير كل هذه الأمور فجأة، فوجد أن أباه عمر بن عبد العزيز رحمه الله يغير الأمور بصورة متدرجة، فشق ذلك عليه وذهب إلى أبيه وقال: يا أبي! أنت تملك الأمور، ولك هيمنة على بلاد المسلمين فيجب أن تغير كل المنكرات وتقيم الإسلام كما ينبغي أن يقام، فقال له عمر بن عبد العزيز رحمه الله: يا بني! لو حملت الناس على الحق جملة واحدة تركوه جملة واحدة. ومحمد بن تومرت لم يكن يفعل هذا الأمر، بل كان يريد أن يغير كل شيء تغييراً جذرياً وبأسلوب فظ شديد، قال الله سبحانه وتعالى وهو يخاطب نبيه الكريم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، فالرسول صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي أحكم البشر وأعلم البشر جميعاً، لو دعا إلى الله سبحانه وتعالى بفظاظة لانفض الناس من حوله، فما بالكم بعموم الناس؟!

التقاء محمد بن تومرت بعبد المؤمن بن علي وفكرة التغيير

التقاء محمد بن تومرت بعبد المؤمن بن علي وفكرة التغيير قابل محمد بن تومرت في المهدية رجلاً اسمه: عبد المؤمن بن علي وكان له شأن فيما بعد في تاريخ المسلمين في بلاد المغرب والأندلس، وكان في مدينة المهدية في تونس يبغي ما بغاه محمد بن تومرت من قبل، فهو يبحث عن العلم والدين كما فعل محمد بن تومرت برحلته في بلاد المسلمين، فسأله محمد بن تومرت عن سبب تركه لبلاد المغرب العربي وسياحته في البلاد، فقال: أبحث عن العلم والدين فقال: عندي العلم والدين. فالتقيا وأخذ محمد بن تومرت يعلم عبد المؤمن بن علي من علمه، فأعجب به جداً وتآخيا في الله، فتعلم عبد المؤمن بن علي من محمد بن تومرت العلم مع فظاظة الأسلوب في دعوة الناس إلى المعروف وفي نهيهم عن المنكر، وبدأ الاثنان يدعوان إلى الله سبحانه وتعالى في بلاد المغرب العربي، وانظم إليهما خمسة فصاروا سبعة. كان يرى محمد بن تومرت أن المنكرات قد كثرت جداً في بلاد المرابطين، فوجد أن الخمور قد فشت في أماكن كثيرة، حتى في مراكش العاصمة التي أسسها يوسف بن تاشفين رحمه الله من قبل، وكانت ثغراً من ثغور الإسلام، ووجد أن السفور والاختلاط قد انتشر، وأن الولاة يظلمون الناس ويفرضون عليهم الضرائب، ويأكلون أموال اليتامى، حتى إنه شاهد من ضمن المشاهدات أن امرأة سافرة تخرج في فوج كبير جداً وحرس وما إلى ذلك من الأمور، فسأل عن هذه المرأة السافرة فوجدها ابنة علي بن يوسف بن تاشفين ابنة أمير المسلمين في ذلك الزمان. فجلس مع الستة الأفراد الذين معه وعرض عليهم فكرته في التغيير، وقال لهم: إن الأمور قد فشت والمعاصي قد انتشرت في بلاد المرابطين وأرى أن الحل لهذا الأمر هو أن نقصي الحكام عن الحكم، فنبدأ بـ علي بن يوسف بن تاشفين ومن معه من الحكام أو الولاة والجيش، فنخرج عليهم ونقصيهم من الحكم، فنستطيع أن نغير البلاد ونحكمها بشرع الله بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. يعني: هو لا يريد أن يبدأ الطريق الطويل طريق التربية الذي بدأه عبد الله بن ياسين رحمه الله من قبل، والذي سار فيه سنوات حتى تمكن من الأمور، إنما يريد أن يعزل علي بن يوسف بن تاشفين من حكم البلاد عليها، ثم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومن المعلوم أن علي بن يوسف بن تاشفين كان يقيم شرع الله سبحانه وتعالى، وكان يجاهد في سبيل الله، لكن كانت عنده تجاوزات ومخالفات في هذه الفترة ما كان يجوز لـ محمد بن تومرت ومن معه من الرجال -على صدق نواياهم فيما يبدو لنا وعلى تقشفهم وزهدهم وعلمهم الغزير- أن يخرجوا عليه، بل كان عليهم أن يساعدوه على العودة إلى طريق الإسلام الصحيح، وعلى تعليم الناس وتربيتهم. فرسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه الرسالة في أرض مكة ودعا إلى الله سبحانه وتعالى وخالفه المشركون، كان من الممكن أن يفعل الأمر الذي فكر فيه محمد بن تومرت فيأمر سيدنا علي بن أبي طالب، وسيدنا الزبير بن العوام، وسيدنا طلحة بن عبيد الله أن يقتل كل واحد منهم رجلاً من صناديد قريش ليتملك الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم في مكة، ثم بعد ذلك يقيم شرع الله سبحانه وتعالى، لكن هذه ليست سنة الله سبحانه وتعالى في التغيير، ولذلك لم يتبعها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، بل أخذ يربي الناس بالتدريج في مكة لمدة (13) سنة، ثم هاجر إلى المدينة المنورة فبدأ يربي الناس بالتدريج، ثم كانت موقعة بدر مع الكافرين، ثم كانت المواقع التي تتلو ذلك، حتى تمكن رسولنا صلى الله عليه وسلم من السيطرة على الأمور في جزيرة العرب جميعاً. إذاً: هذا هو النهج الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي سلكه الشيخ عبد الله بن ياسين رحمه الله في إقامة دولة المرابطين، لكن الذي فعله محمد بن تومرت كان مخالفاً للنهج في التغيير، وكانت عنده فظاظة وشدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

موقف علي بن يوسف بن تاشفين من محمد بن تومرت

موقف علي بن يوسف بن تاشفين من محمد بن تومرت لما سمع علي بن يوسف بن تاشفين بـ محمد بن تومرت أنه يدعو الناس إلى الخروج عليه فكر في عقد مناظرة بين محمد بن تومرت وبين علماء دولة المرابطين في ذلك الزمن في قصر الإمارة، فأتى بـ محمد بن تومرت وبعلماء المرابطين وبدأ الفريقان في المناظرة، وكان على رأس علماء دولة المرابطين مالك بن وهيب رحمه الله كبير علماء دولة المرابطين، وكان قاضي القضاة في ذلك الوقت. وهذا يبين لنا أن دعوة علي بن يوسف بن تاشفين للمناظرة كان فيه خير كثير، فقد كان يمكنه أن يأخذ محمد بن تومرت ويضعه في السجن أو يقتله أو يعتقله أو يفعل به ما يشاء. وفي تلك المناظرة تفوق محمد بن تومرت عليهم تفوقاً عظيماً؛ لأنه كان بحراً متفجراً من العلم وشهاباً في الدين كما ذكر ابن خلدون، فاستطاع محمد بن تومرت أن يحاجهم جميعاً في كل القضايا التي أثيرت بينه وبينهم، حتى إن علي بن يوسف بن تاشفين بكى في مجلسه لما رأى كثرة المعاصي في البلد وهو لا يدري عنها شيئاً، أو يدري عنها ولا يغيرها، لكن كانت الحدة واضحة جداً في كلام محمد بن تومرت، وكانوا يعلمون أنه يحرض الناس على الخروج على الحاكم، فأسر مالك بن وهيب قاضي القضاة في أذن علي بن يوسف بن تاشفين وقال له: عليك أن تعتقل هذا الرجل وتنفق عليه ديناراً في كل يوم في السجن، وإلا ستمر عليك الأيام فتنفق عليه كل خزائنك دون أن تقدر عليه، لكن الوزير نصحه بعدم اعتقال محمد بن تومرت، فقال له: لو اعتقلته ستكون متناقضاً مع نفسك، لأنك بكيت من خشية الله سبحانه وتعالى لما سمعت كلامه وحججه، وهذا يكون فيه بلبلة عند عموم الناس، وأيضاً هو رجل واحد ومعه ستة من البشر، وأنت حاكم دولة المرابطين، فكيف تخشى من هذا الرجل؟ فأطلق علي بن يوسف بن تاشفين سراح محمد بن تومرت، ولم يحبسه دون وجه حق.

الانحرافات العقدية والسلوكية التي وقع فيها محمد بن تومرت

الانحرافات العقدية والسلوكية التي وقع فيها محمد بن تومرت خرج محمد بن تومرت من مراكش ونزل على صديق له في بلد مجاور، ونصحه أن يذهب معه إلى قرية في عمق الجبل اسمها: قرية تينملل، هذه القرية ستكون عاصمة للدولة التي أسسها محمد بن تومرت بعد ذلك، وكان محمد بن تومرت زاهداً، وكان لا يحمل معه إلا عصا، ولا يأكل إلا البسيط من الطعام، وكان صاحب علم غزير فبدأ الناس في هذه القرية الصغيرة يلتفون حوله ويسمعون كلامه، وبدأ يؤثر فيهم ويخبرهم بكثرة المعاصي في بلاد المرابطين، فكون حوله جماعة صغيرة سماها: جماعة الموحدين، وكانت هذه التسمية خطيرة، فقويت شوكة محمد بن تومرت، وظهرت عليه انحرافات عقائدية خطيرة جداً، والسبب في ذلك أنه تعلم على يد أناس كثيرين وتيارات مختلفة من سنة وشيعة ومعتزلة وغيرها في الشام والعراق ومكة ومصر وغيرها من البلاد، حتى ظهر عليه خليط من العقائد المختلفة، فادعى العصمة، وهذه خاصة بأئمة الشيعة، فقد أخذ منهم هذه الجزئية، فادعى أنه معصوم لا يخطئ، وادعى أمراً خطيراً آخر وهو أن المرابطين من المجسمة؛ وذلك لأنهم يثبتون لله صفاته، فقد أخذ فكر المعتزلة في نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى، ولهذا الادعاء كفر المرابطين، فقال: إن علي بن يوسف بن تاشفين ومن معه من الولاة والعلماء كافرون، ومن يعمل تحت حكمهم ويرضى بحكمهم من الكافرين. ونتيجة لهذا التكفير استحل دماء المرابطين وأمر بقتلهم والخروج عليهم، وأفتى أصحابه أن من قتلهم إن استطاع ليس آثماً، بل هو محرز لثواب عظيم، وكان متساهلاً جداً في الدماء، وقد أخذ ذلك عن الخوارج، فإنهم كانوا متساهلين جداً في الدماء، فقد كان يقتل العشرات من المخالفين له، حتى ولو كانوا من جماعة الموحدين. وادعى لنفسه بعض الخوارق، وأنه هو المهدي المنتظر، وبدأ الناس يصدقون ذلك؛ لأن علماء دولة المرابطين انشغلوا بالأمور الفرعية عن تعليم الناس أصول العقائد وأصول العبادات وأصول الدين، وصنعوا جداراً كبيراً بينهم وبين العامة. فالعامة ما تعرف الحق من الباطل، لما رأت رجلاً مثل محمد بن تومرت عالماً كبيراً يروي عن هذا ويروي عن هذا، ويحفظ كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم سير الصالحين والسابقين، ويعلم فقه كذا وكذا، فما كان للعامة إلا أن تسمع وتطيع لما يقوله محمد بن تومرت فاعتقدوا جميعاً بعصمته وبحل قتل المرابطين، بل والثواب الجزيل على من يقتل المرابطين الذين فتحوا البلاد وأقاموا صرح الإسلام في بلاد المغرب والأندلس سنوات طويلة، فبعد أن انتشرت بعض المنكرات في بلادهم، وبعد أن انشغلوا بالجهاد عن التعليم صاروا يكفرون ويقاتلون من قبل جماعة الموحدين!! وعبارة جماعة الموحدين فيها إشارة واضحة جداً من محمد بن تومرت أن غير الجماعة ليسوا بموحدين، بل هم كفار ليسوا بمسلمين.

بدء المعارك بين المرابطين والموحدين

بدء المعارك بين المرابطين والموحدين بدأ محمد بن تومرت وجماعته يقاتلون المرابطين والتقوا مع المرابطين في تسعة مواقع ضخمة جداً في تاريخ المسلمين، انتصر محمد بن تومرت في سبعة مواقع منها، وهزم في موقعتين، فعلى سبيل المثال: الموقعة الأولى في سنة (518هـ) قتل فيها من المرابطين خمسة عشر ألفاً من المسلمين على يد جماعة الموحدين، أهذا هو نهج الله ونهج رسوله الكريم؟ يقتل خمسة عشر ألف مسلم من المرابطين الذين كانوا شوكة كبيرة في حلوق النصارى سنوات طويلة. وموقعة ثانية: موقعة البحيرة أو البستان في سنة (524هـ) انتصر فيها المرابطون على الموحدين، وقتل فيها من الموحدين أربعون ألفاً، وهكذا فإن عدد القتلى من المسلمين في جميع المواقع بين الموحدين والمرابطين يزيد على ثمانين ألف مسلم، من سنة (512هـ -541هـ) أي: في غضون (28) سنة، إلى أن قامت دولة الموحدين على دماء أكثر من ثمانين ألف مسلم، أهذا هو النهج الصحيح للتغيير الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فالطريق الذي سار فيه محمد بن تومرت ومن معه مخالف للطريق الذي سار فيه الشيخ عبد الله بن ياسين ومن معه من قبل، مع أن كليهما وصل في الأخير للحكم! وأتعجب كثيراً كيف يسير محمد بن تومرت هذا الطريق، وقد رسم له السابقون الطريق الصحيح الذي ليس فيه دماء المسلمين، وليس فيه تشريد وقتل وذبح لأمة كبيرة من المجاهدين مثل أمة المرابطين؟ وفي سنة (524هـ) يموت محمد بن تومرت، وقبل آخر لحظة من حياته كان يأمر الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والزهد في الدنيا واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع نهج الخلفاء الراشدين، وعدم المكوث أبداً عن الجهاد في سبيل الله، لكن على فهمه وطريقته التي ذكرناها، وأمر الناس أن يسمعوا ويطيعوا لـ عبد المؤمن بن علي ما أطاع الله فيهم. ويدل كلام محمد بن تومرت على أنه من أكبر علماء المسلمين ومن أكبر المجاهدين، وكان بحق من العلماء كما ذكرنا، لكن كانت عنده أشياء عجيبة في أسلوب التغيير من العنف الشديد في التغيير، والمخالفات العقائدية، والخروج عن الحكام وتكفير المسلمين وقتلهم، مع أن الحكام قد أقاموا شرع الله سبحانه وتعالى، مع وجود بعض المخالفات في بعض الجزئيات، فكان الواجب عليه أن يقومهم بالتي هي أصلح، وكانت النتيجة أن قامت للمسلمين دولة على دماء ثمانين ألف مسلم، فتولى عبد المؤمن بن علي الأمور في جماعة الموحدين من بعد محمد بن تومرت في سنة (524هـ)، واستمر يقود الجماعة إلى أن سقطت دولة المرابطين السنية المجاهدة في سنة (541هـ) على إثر مجزرة شديدة جداً داخل مراكش، قتل فيها معظم المرابطين الذين كانوا في مدينة مراكش، وتملك الموحدون الحكم في البلاد سنة 541هـ. نحن ندرس التاريخ لكي نتعلم، ولكي لا نكرر أخطاء السابقين، بل نكرر ما فعله الصالحون من المسلمين في سنوات الإسلام السابقة التي فيها الكثير من الصلاح، وعلينا أن نستفيد الاستفادة الكاملة من هذه الخطوات. فماذا حدث مع دولة الموحدين بعد أن قامت على هذه الدماء؟ وماذا فعل عبد المؤمن بن علي في قيادته لدولة الموحدين من سنة (541هـ) إلى ما بعدها من السنوات؟ وهل صلحت الأفكار التي كانت في ذهن الموحدين عن عصمة محمد بن تومرت ومهديته، وعن كونهم يفسقون غيرهم من المسلمين؟ هذا ما سوف نتدارسه في الحلقة القادمة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.

دولة الموحدين

سلسلة الأندلس_دولة الموحدين قامت دولة الموحدين بعد سقوط دولة المرابطين، وكان المؤسس الفعلي لها هو محمد بن تومرت، وأول حكامها هو عبد المؤمن بن علي الذي أقام دولة قوية في بلاد المغرب العربي والأندلس، ثم تولى الحكم من بعده يوسف بن عبد المؤمن بن علي، ولم يكن على شاكلة والده، ثم تولى من بعده ابنه أبو يوسف يعقوب الملقب بالمنصور، ويعد عصره العصر الذهبي، ثم تولى من بعده ابنه الناصر لدين الله الذي حدثت في عصره هزيمة المسلمين المنكرة في موقعة العقاب، والتي كانت السبب في سقوط الأندلس، ثم تولى من بعده ابنه المستنصر بالله، فكان عهده عهد سقوط الأندلس.

قيام دولة الموحدين

قيام دولة الموحدين أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فهذه هي الحلقة الحادية عشرة من حلقات الأندلس: من الفتح إلى السقوط. في الحلقة السابقة تحدثنا عن سقوط دولة المرابطين السنية المجاهدة، وقيام دولة الموحدين على أكتافها، وذكرنا عوامل سقوط دولة المرابطين، ومنهج التغيير في دولة الموحدين حتى قامت في سنة (541) من الهجرة، وكان أول حكامها هو عبد المؤمن بن علي صاحب محمد بن تومرت المؤسس الحقيقي الفعلي لجماعة ولدولة الموحدين. كان محمد بن تومرت آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لكن أسلوبه في معاملة الناس كان فظاً شديداً، وقد ربى عبد المؤمن بن علي ومن معه من قادة الموحدين ومن أتباع الموحدين على الزهد والتقشف في الدنيا، وعلى القتال الشديد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنهم تأثروا بأسلوبه في التعامل مع الناس، فكانوا يتعاملون معهم بحدة كبيرة. جاهد عبد المؤمن بن علي جهاداً كبيراً، فقد كانت له صولات وجولات، وأقام دولة قوية جداً في بلاد المغرب والأندلس تعرف بدولة الموحدين، بدأت سنة (541هـ)، وقد وصفه الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه العبر، وابن العماد في شذرات الذهب، وذكروا عنه أنه كان ملكاً عادلاً سائساً عظيم الهيبة عالي الهمة، كثير المحاسن، متين الديانة، قليل المثل، كان يقرأ كل يوم سبعاً من القرآن العظيم، ويجتنب لبس الحرير، فإن عموم الناس في زمانه كانوا يلبسون الحرير، فكان من صفاته الحسنة أنه كان لا يلبس الحرير، وكان يصوم الإثنين والخميس، ويهتم بالجهاد والنظر في الملك كأنما خلق لهما، وكان سفاكاً لدماء من خالفه من أتباعه أو غير أتباعه. ومحمد بن تومرت لما كان يرى أن أتباعه ينظرون إلى غنائم دولة المرابطين في حربهم لهم، كان يحرقها حتى لا تتعلق قلوب الناس بهذه الغنائم، والذي كان يفوته قيام الليل من جماعته كان يعزره بالضرب؛ لأنه لا يقوم الليل. فنشأت جماعة من الطائعين العابدين الزاهدين الورعين، لكن بأسلوب خالف منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن رسول الله عليه الصلاة والسلام يضرب على قيام الليل، ولا يحرق الغنائم، ولا يتبع هذا الأسلوب الشديد جداً والعنيف. وأصبح عبد المؤمن بن علي مثل محمد بن تومرت في طريقته الشديدة العنيفة، لكن يذكر أيضاً لـ عبد المؤمن بن علي أنه لم يكن مقتنعاً بفكرة عصمة محمد بن تومرت؛ لأنه أبداً ما دعا إلى فكرة عصمة محمد بن تومرت ولا إلى مهديته، ولا إلى فكر الخوارج الذي ظهر في بعض كلام محمد بن تومرت، وعلى الجانب الآخر فهو لم ينف هذه الأفكار الضالة صراحة؛ لأن معظم شيوخ وقواد الموحدين على هذا الفكر، فخاف عبد المؤمن بن علي من إعلانه أن أفكار محمد بن تومرت كانت ضالة ومخالفة للشرع أن يحدث انقلاباً في دولة الموحدين في هذه الفترة الحرجة جداً في تاريخ المسلمين. كان في قيام دولة الموحدين وسقوط دولة المرابطين في سنة (541هـ) ومقتل حوالي ثمانين ألف مسلم تداعيات ضخمة لهذا الموقف الخطير في كل بلاد دولة المرابطين، لكن الذي يخصنا في هذا الأمر هو ما حدث في بلاد الأندلس، فكان على النحو التالي: أولاً: في سنة (542هـ) أي: بعد سنة واحدة من قيام دولة الموحدين سقطت ألمرية في يد النصارى، وألمرية مدينة في جنوب الأندلس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكان ذلك بمساعدة فرنسا، واستشهد الآلاف من المسلمين، وسبيت أربع عشرة ألف فتاة مسلمة في سنة (543)، وسقطت طرطوشة ثم لاردة في يد النصارى التي هي مملكة سرقسطة في الشمال الشرقي، التي كان قد حررها المرابطون قبل ذلك، ثم سقطت من جديد في يد النصارى. وفي سنة (543هـ) أيضاً توسعت مملكة البرتغال في الجنوب، وكانت من أشد ممالك النصارى ضراوة على المسلمين، وفي نفس السنة احتلت تونس من قبل النصارى، فقد بدأ النصارى يحتلون بلاد المغرب العربي، كانت هذه التداعيات متوقعة نتيجة الفتنة الكبيرة التي دارت بين المسلمين في بلاد المغرب العربي.

سياسة عبد المؤمن بن علي في تأسيس دولة الموحدين

سياسة عبد المؤمن بن علي في تأسيس دولة الموحدين كان عبد المؤمن بن علي شخصية قوية جداً، وكان عنده فكر سياسي عال جداً، وإدارة في منتهى القوة لبلاد المغرب العربي، فقد بدأ يؤسس دولة قوية هي دولة الموحدين بطريقة مرتبة ومنظمة وشديدة كما ذكرنا، وكانت على النحو التالي: أولاً: أطلق عبد المؤمن بن علي حرية العلوم والمعارف، وأنشأ كثيراً من المدارس، وهذا على خلاف طريقة محمد بن تومرت، فقد كان عنده فكر واحد فقط، أما في عهد عبد المؤمن بن علي فقد أصبح الناس يتعلمون أكثر من نهج، ولا يرتبطون بفقه واحد كما كان في عهد محمد بن تومرت. وكان عبد المؤمن بن علي يتميز بتفرده في الإدارة، فلا يأخذ كثيراً بالشورى، وهذا أيضاً كان فكر محمد بن تومرت الذي كان يعتمد تماماً على اجتهاداته، حتى إنه كان لا يسير على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم لاجتهاده المخالف لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عبد المؤمن بن علي مثل محمد بن تومرت في هذا الأمر، لكنه أطلق حرية العلوم والمعارف، وأنشأ كثيراً من المدارس والمساجد وقرن الخدمة العسكرية دائماً بالعلوم، وأنشأ مدارس كثيرة لتعليم وتخريج رجال السياسة والحكم، وكان يمتحن الطلاب بنفسه، فأخرج جيلاً كبيراً من قواد الحروب ومن السياسيين البارعين في دولة الموحدين، وكان يدربهم على كل فنون الحرب، حتى إنه أنشأ بحيرة صناعية كبيرة جداً في بلاد المغرب؛ لتعليم الناس كيف يتقاتلون في الماء، وكيف تقوم الحروب البحرية، وكان يختبر المقاتلين الموحدين بنفسه أيضاً. وأقام مصانع كثيرة جداً للسلاح، ومخازن ضخمة جداً للسلاح، وأصبحت دولة الموحدين من أقوى الدول الموجودة في المنطقة عسكرياً. فكل هذا الأمر كان في بلاد المغرب العربي، أما بلاد الأندلس فلم تكن في حسابات عبد المؤمن بن علي في ذلك الوقت؛ لأنه كان يحاول أن يستتب له الأمر في بلاد المغرب العربي حيث أنصار المرابطين في كل مكان، والوضع في بلاد الأندلس هو سقوط أكثر من مدينة في يد النصارى، والتدهور أصبح سريعاً هناك. وفي سنة (543هـ) بعد هذا التدهور الكبير في بلاد الأندلس قدم منها إلى بلاد المغرب العربي القاضي ابن العربي من أكبر علماء المسلمين، صاحب كتاب (العواصم من القواصم)، وبايع عبد المؤمن بن علي وطلب النجدة لأهل الأندلس، فمبايعته لـ عبد المؤمن بن علي تعطي إشارة واضحة إلى أن القاضي ابن العربي رحمه الله يعلم أن عبد المؤمن بن علي لا يدعو إلى أفكار ضالة كالمهدية والعصمة وما إلى ذلك، وإلا لم يكن للقاضي ابن العربي أن يأتي من بلاد الأندلس ويبايعه على الطاعة والنصرة. فـ عبد المؤمن بن علي سمع من القاضي ابن العربي، وجهز جيوشه، وانطلق إلى بلاد الأندلس، وبدأ يحارب هناك حتى ضم معظم بلاد الأندلس الإسلامية التي كانت في أملاك المرابطين إلى دولة الموحدين، وممن قاتلهم بعض الأنصار لدولة المرابطين لكنه انتصر عليهم، واستعاد معظم هذه البلاد في سنة (545هـ). وفي سنة (552هـ) استعاد بلدة ألمرية التي كانت على البحر الأبيض المتوسط، وفي سنة (555هـ) استعاد تونس من يد النصارى، وبعدها بقليل ضم ليبيا ولأول مرة إلى حدود الموحدين. إذاً: بلغت في عهده دولة الموحدين كامل مساحة دولة المرابطين بالإضافة إلى ليبيا واقتربت جداً من حدود مصر، وكان عبد المؤمن بن علي يفكر في أن يوحد كل أطراف الدولة الإسلامية تحت راية واحدة تكون لدولة الموحدين.

وفاة عبد المؤمن بن علي وتولية يوسف بن عبد المؤمن

وفاة عبد المؤمن بن علي وتولية يوسف بن عبد المؤمن في سنة (558هـ) توفي عبد المؤمن بن علي وخلفه على الحكم يوسف بن عبد المؤمن بن علي، وكان عمره (22) سنة، وكان مجاهداً شهماً كريماً، لكنه لم يكن في كفاءة أبيه القتالية، واستمر يحكم من سنة (558هـ- 580هـ) يعني: حوالي (22) سنة متصلة، ونظم الأمور بشدة في كل بلاد الأندلس والمغرب العربي، وكانت له أعمال جهادية ضخمة ضد النصارى، لكن كان يعيبه شيء خطير جداً، وهو أنه كان لا يأخذ بالشورى أبداً، وكان منفرداً برأيه تماماً، وهذا شيء متوقع منه، فإنه من تربية عبد المؤمن بن علي الذي هو من تربية محمد بن تومرت، فأدى هذا الانفراد بالرأي في فكر يوسف بن عبد المؤمن بن علي إلى بعض الأخطاء في موقعة من المواقع حول قلعة من قلاع البرتغال، التي كان يقاتل فيها بنفسه، وقتل ستة من النصارى ثم طعن واستشهد رحمه الله في هذه الموقعة في سنة (580هـ) من الهجرة.

تولية يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بعد استشهاد والده

تولية يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بعد استشهاد والده تولى من بعد يوسف بن عبد المؤمن ابنه يعقوب ولقب في التاريخ بـ المنصور، وكان معروفاً باسم أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي، وكانت ولايته من سنة (580) من الهجرة إلى سنة (595) من الهجرة، يعني: تولى (15) سنة، ويعد عصر هذا الرجل في دولة الموحدين بالعصر الذهبي، فهو أعظم شخصية في تاريخ الموحدين، ومن أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين، ونقول في نسبته الموحدي من أجل أن نفرق بينه وبين أبي يوسف يعقوب المنصور المريني الذي سيأتي إن شاء الله ذكره في الحلقة القادمة.

أعظم الأعمال التي قام بها أبو يوسف يعقوب المنصور

أعظم الأعمال التي قام بها أبو يوسف يعقوب المنصور قام أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي بالأمر أحسن قيام، فرفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، ونظر في أمور الدين والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن، وغير كثيراً من أسلوب السابقين، وبدأ يأمر بشيء من الهدوء والسكينة الكبيرة، حتى إنه كان يقف في الطريق ليقضي حاجة المرأة والضعيف، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس، وكان زاهداً جداً يلبس الصوف الخشن من الثياب، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته، فاستقامت الأحوال في البلاد وعظمت الفتوحات. كان حازماً جداً وحليماً جداً، حارب الخمور بشدة، وأحرق كتب الفلاسفة، واهتم بالطب والهندسة، وألغى المناظرات العقيمة التي كانت موجودة في أواخر عهد المرابطين وأوائل عهد الموحدين، وأسقط الديون عن الأفراد، وزاد بشدة في عطايا العلماء، ومال إلى مذهب ابن حزم الظاهري، لكن لم يفرضه على الناس، بل إنه حرق الكثير من كتب الفروع، وأمر بالاعتماد على كتاب الله وكتب السنة الصحيحة. اهتم بالعمران بشدة، فأنشأ مدينة الرباط، وسماها رباط الفتح، وأنشأ المستشفيات، وغرس فيها كثيراً من الأشجار، وخصص الأموال الثابتة لكل مريض لشراء الأدوية، وكان رحمه الله يعود المرضى بنفسه يوم الجمعة، وكان يجمع الزكاة بنفسه، ويفرقها على الناس، وكان كريماً جداً مع الفقراء، فقد وزع في عيد أكثر من سبعين ألف شاة على الفقراء، وهو أول من أعلن صراحة فساد أقوال محمد بن تومرت في قضية العصمة والمهدية، فقال: إن هذا ضلال من الضلالات، وإنه لا عصمة لأحد إلا للأنبياء، وكان مجلسه دائماً عامراً بالعلماء وأهل الخير، ذكر الذهبي رحمه الله في العبر: أنه كان يجيد حفظ القرآن والحديث، ويتكلم في الفقه، ويناظر، وكان فصيحاً مهيباً يرتدي زي الزهاد والعلماء، وكان مع ذلك عليه جلالة الملوك، تولى الحكم وهو يبلغ من العمر (25) سنة فقط. أما بلاد الأندلس فقد وطد الأوضاع فيها بشدة، وقوى الثغور، وكان يقاتل هناك بنفسه، وكانت أشد الممالك عليه ضراوة مملكة البرتغال، ثم من بعدها مملكة قشتاله. وفي سنة (585هـ) حدثت ثورة في بلاد الأندلس في جزر البليار، قادها أتباع المرابطين وهم قبيلة بني غانية، كانت لهم ثورات كثيرة على عبد المؤمن بن علي ومن ثم ابنه، فقاموا بثورتين: الأولى في جزر البليار، والأخرى في تونس، فعاد يعقوب المنصور من بلاد الأندلس إلى جزر البليار فقمع الثورة الأولى ثم إلى تونس فقمع الثورة الثانية، فضعفت لذلك قوة الموحدين في الأندلس؛ لأنه انشغل عن الأندلس بوقف هذه الثورة. استغل ملك البرتغال هذا الأمر، واستعان بجيوش ألمانيا وإنجلترا البرية والبحرية، فحاصر إحدى مدن المسلمين هناك واحتلها وأخرج المسلمين منها، وفعل بعض الموبقات في هذه المنطقة، ووصل في تقدمه إلى غرب مدينة إشبيلية في جنوب الأندلس، وأصبح الوضع في منتهى الخطورة. أما بنو غانية فقد كان مقبولاً منهم أن يقوموا بثورات على السابقين؛ لأنه كانت لهم أفكار ضالة خرجت عن منهج الله سبحانه وتعالى، لكن أن يقوموا على هذا الرجل الذي أعاد للشرع هيبته من جديد، والذي أقام الإسلام كما ينبغي أن يقام، وأعاد القرآن والسنة إلى مكانهما الصحيح، فهذا مما لا يجوز، بل كان من المفروض على بني غانية أن يضعوا أيديهم في يد أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي رحمه الله، ويضموا قوتهم إلى قوته؛ ليحاربوا العدو الرئيسي في هذا المكان وهو العدو الصليبي المتمثل في دول الشمال الأندلسي، سواء كانت قشتالة أو البرتغال أو الممالك الأخرى التي ضعفت شوكتها نسبياً، لكن هذا لم يحدث، فالثورة الداخلية أدت إلى ضعف قوة الموحدين في بلاد الأندلس، وإلى هذا الانهيار المتدرج في هذه المنطقة.

معركة الأرك بين الصليبيين والمسلمين

معركة الأرك بين الصليبيين والمسلمين بعد أن قضى أبو يوسف يعقوب المنصور على ثورة بني غانية فكر ماذا يفعل في بلاد الأندلس حتى يعيد الأمر إلى نصابه؟ فرأى أن أكبر قوتين هما قوة قشتالة والبرتغال، لكن قوة البرتغال كانت أشد وأقوى، فعمل اتفاقية مع قشتالة عاهدهم فيها على عدم الحرب لمدة عشر سنوات، ثم اتجه إلى مملكة البرتغال، فتحارب معها حروباً شديدة وانتصر عليها أكثر من انتصار، وحررها بكاملها فعادت من جديد للمسلمين، لكن قبل أن يكتمل له تحريرها نقض ملك قشتالة العهد، وبدأ يعيث في الأرض فساداً، وينطلق على أراضي المسلمين مخالفاً الهدنة التي عقدها معه أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي، فبعث ألفونسو الثامن -أحد أحفاد ألفونسو السادس - رسالة إلى يعقوب المنصور الموحدي يستفزه فيها بالقتال ويهدده، فمزق المنصور الموحدي خطاب ألفونسو الثامن، وكتب على جزء منه رداً أعاده مع رسوله؛ قال فيه: ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون، وأعلن الجهاد والاستنفار العام في كل ربوع المغرب والصحراء، ونشر للناس ما جاء في كتاب ألفونسو الثامن؛ ليحمسهم، وتسابق الناس للجهاد، وفي ذلك الوقت وقبله بسنوات جاءت أخبار من المشرق جعلت الناس متحمسين أكثر للجهاد، وهو انتصار صلاح الدين الأيوبي المشهور على الصليبيين في موقعة حطين الخالدة في سنة (583) من الهجرة، فحفز أبو يوسف يعقوب المنصور الناس للخروج للجهاد؛ فالناس تريد أن تكرر ما حدث في المشرق، قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. وفي سنة (590هـ) يبدأ هذا الاستنفار، وفي سنة (591هـ) تنطلق الجيوش من المغرب العربي والصحراء وتعبر مضيق جبل طارق متجهة إلى بلاد الأندلس لتلتقي مع جيش الصليبيين في موقعة مشهورة جداً في التاريخ الإسلامي اسمها موقعة الأرك في (9) شعبان سنة (591) من الهجرة. والأرك حصن كبير موجود في جنوب طليطلة ويعتبر الحدود بين قشتالة والمسلمين في الأندلس في ذلك الوقت، أعد ألفونسو الثامن جيشاً استعان فيه بمملكتي ليون ونافار وبجيوش ألمانيا وإنجلترا وهولندا، حتى بلغ جيش الصليبيين في هذه الموقعة (225) ألف صليبي، وكان معهم جماعات كبيرة من اليهود في الجيش، من أجل أن يشتروا من الصليبيين أسارى المسلمين، لأنهم متوقعون نصراً كبيراً جداً وسيكون فيه أسرى كثير من المسلمين، ومعلوم أن اليهود طوال التاريخ معهم أموال ضخمة، حتى في عصر دولة الأندلس كانت معهم أموال كثيرة، فأرادوا أن يشتروا بها المسلمين الأسرى من أجل يبيعوهم بعد ذلك في أوروبا. أعد المنصور الموحدي رحمه الله جيشاً قوامه (200) ألف مسلم، وهذا يبين لنا قدر الحمية التي كانت في قلوب أهل المغرب للقتال في أرض الأندلس، لما سمعوا بأخبار الجهاد وانتصارات المسلمين في حطين. وأول ما دخل أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي منطقة الأرك عمل اجتماعاً كبيراً جداً أو مجلساً استشارياً يأخذ فيه كل آراء الحضور، وهذا نسق جديد من القيادة، فقد كانت من قبل قيادة دولة الموحدين متميزة بالفردية في الآراء، فهذا أول أمير يغير تماماً من سياسة دولة الموحدين، ويصبح رجلاً يعمل على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاستعان بكل الآراء المطروحة من قبل قواد الجيش، وأخذ برأي أبي عبد الله بن صناديد زعيم الأندلسيين ليس من قبائل المغرب البربرية، وكان شيئاً جديداً على دولة الموحدين التي كانت في كل حروبها في دولة الأندلس لا تعتمد إلا على جيوش المغرب فقط، لكن في موقعة الأرك بدأ أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي يضم قوة الأندلسيين إلى قوة المغاربة، وقوة البربر القادمين من الصحراء، فاستعان بآرائهم، ووضع خطة شبيهة جداً بخطة موقعة الزلاقة، قسم فيها الجيش نصفين، جعل نصفه للقتال في المقدمة، وأخفى جزءاً كبيراً جداً من الجيش خلف التلال، وكان هو على رأس هذا الجيش المختفي خلف التلال، واختار أميراً عاماً للجيش هو كبير الوزراء أبو يحيى بن أبي حفص، وولى قيادة الأندلسيين لـ أبي عبد الله بن صناديد وذلك حتى لا يوغر صدور الأندلسيين فلا يتولى عليهم بربري أو مغربي. وقسم المقدمة إلى مقدمة أولى تواجه جيش النصارى جعلها من الجيش النظامي الموحدي ومن الأندلسيين، وهذه تنقسم إلى ميمنة من الأندلسيين والقلب من الموحدين والميسرة من العرب، ثم جعل من خلفهم مجموعة المتطوعين غير النظاميين، والهدف من وضع الجيوش النظامية في المقدمة لأجل تلقي الصدمة الأولى والضربة الأولى للنصارى، فيصدونهم صداً عظيماً يوقع الرهبة في قلوب النصارى، ويرفع من معنويات الجيش الإسلامي، أما المتطوعون غير النظاميين الذين ليست لهم كفاءة عالية جداً في القتال فوضعهم خلف الجيوش، ومكث هو خ

آثار ونتائج موقعة الأرك

آثار ونتائج موقعة الأرك كانت لموقعة الأرك آثار عظيمة ونتائج كثيرة: أولاً: النصر المادي: أقل تقدير لقتلى الصليبيين في اليوم الأول للأرك كان ثلاثين ألف مقاتل، لكن المسلمين بعد موقعة الأرك تبعوا جيش النصارى، ذكر في نفح الطيب للمقري وفي وفيات الأعيان لـ ابن خلكان أن عدد قتلى الصليبيين وصل إلى (146) ألف قتيل من أصل (225) ألف مقاتل، وعدد الأسرى ما بين عشرين إلى ثلاثين ألف أسير، وقد منَّ عليهم المنصور بغير فداء إظهاراً لعظمة الإسلام ورأفته بهم، وعدم اكتراثه بقوة الصليبيين. أما الغنائم فلا تحصى؛ فقد بلغ عدد الخيول كما جاء في نفح الطيب ثمانين ألفاً من الخيول، ومائة ألف من البغال وما لا يحصى من الخيام، وقد وزع المنصور كل هذه الغنائم الضخمة وكل هذه الأموال التي حصدت من جيش الصليبيين على الجيش أربعة أخماس، واستغل الخمس الباقي في بناء مسجد كبير جداً في إشبيلية تخليداً لذكرى الأرك، وأنشأ له مئذنة طويلة يبلغ طولها (200) متر، وكانت من أعظم المآذن في الأندلس في ذلك الوقت، ولما سقطت إشبيلية بعد ذلك في يد النصارى تحول المسجد إلى كنيسة، وهو موجود إلى الآن كنيسة في يد الصليبيين ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثانياً: النصر المعنوي الكبير جداً، وعلو نجم الموحدين، وارتفعت بشدة معنويات الأندلسيين، وهانت عليهم قوة الصليبيين، وارتفعت معنويات المسلمين في كل بلاد العالم الإسلامي، حتى أعتقت الرقاب الكثيرة في المشرق والمغرب فرحاً بهذا الانتصار، وارتفعت معنويات الموحدين حتى فكروا بجدية في عهد المنصور الموحدي في ضم كل بلاد المسلمين تحت راية واحدة، وبالذات أن المعاصر لـ أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي في المشرق هو صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، لكن لم يرد الله سبحانه وتعالى لهذا الأمر أن يتم، فمات المنصور الموحدي قبل أن يكتمل حلمه في توحيد المسلمين جميعاً تحت راية واحدة. ثالثاً: حدثت صراعات شتى بين ليون ونافار من ناحية، وبين قشتالة من ناحية أخرى ألقى عليهم ألفونسو الثامن مسئولية الهزيمة، وحدثت لهم هزيمة نفسية كبيرة جداً، فأتت السفارات من بلاد أوروبا تطلب العهد والاتفاق مع المنصور الموحدي رحمه الله، ومن أشهرها سفارة إنجلترا التي أتت المنصور الموحدي في أواخر أيامه، واستمرت حركة الفتوح وفتح المسلمون بعض الحصون الأخرى، وضموا الشمال الشرقي من جديد للمسلمين كما كان في عهد المرابطين، وحاصروا طليطلة سنوات عديدة، لكن كما ذكرنا من قبل كانت طليطلة من أحصن المدن الأندلسية فلم تفتح. رابعاً: تمت معاهدة جديدة بين قشتالة وبين المسلمين على أن تكون الهدنة بينهما عشر سنوات من سنة (595هـ) إلى سنة (605هـ) فلا اقتتال فيها، فحاول المنصور أن يرتب الأمور من جديد في بلاد الموحدين. إذاً: تأسست دولة الموحدين في سنة (541هـ)، لكن الدعوة إليها بدأت في سنة (512هـ)، واستمر عهد القوة فيها من سنة (541هـ) في ارتفاع متتال إلى أن جاء المنصور الموحدي فكان عصره العصر الذهبي لدولة الموحدين من سنة (580هـ) إلى سنة (595هـ).

وفاة المنصور الموحدي وتولية ابنه الناصر للحكم

وفاة المنصور الموحدي وتولية ابنه الناصر للحكم في سنة (595هـ) يموت المنصور الموحدي فجأة وله من العمر (40) سنة فقط، فقد حكم البلاد (15) سنة من سنة (580هـ - 595هـ)، واستلم زمام الحكم وعمره (25) سنة، فتولى من بعده ابنه الناصر لدين الله أبو محمد عبد الله وكان عمره (18) سنة فقط، وهذا العمر ليس بالسهل فقد يقود البلاد والجيوش وما إلى ذلك من الأمور، وقد وجد قبل هذا قواد للمسلمين كانوا يبلغون من العمر (18) سنة أو أصغر من ذلك، لكن المشكلة أن الناصر لدين الله لم يكن على شاكلة أبيه في القيادة؛ وذلك لأن الناصر لدين الله لم يكن قد اكتسب من الخبرات التي تؤهله أن يكون قائداً فذاً كأبيه في القتال، لكن الموت المفاجئ للمنصور الموحدي وضع على رئاسة البلاد هذا الشاب. وكان المفروض على دولة الموحدين أن ينتخبوا من بينهم من يصلح للقيادة بدلاً من الناصر لدين الله، فقد كان شاباً طموحاً قوياً مجاهداً لكن لم يكن في كفاءة أبيه، والبلد محاطة بالأعداء من كل مكان، والصليبيون هزموا في موقعة الأرك منذ سنوات قليلة، وهم يريدون أن يعيدوا الكرة من جديد على بلاد المسلمين.

موقعة العقاب والأسباب التي أدت إلى هزيمة المسلمين فيها

موقعة العقاب والأسباب التي أدت إلى هزيمة المسلمين فيها بعد وفاة المنصور قامت من جديد ثورات بني غانية المؤيدة لدولة المرابطين السابقة، فحدثت خلخلة في داخل الدولة الإسلامية، فوجه الناصر لدين الله جل طاقته لمحاربتهم في صولات وجولات كثيرة حتى أخمدها تماماً في سنة (604هـ)، أي: أنها استمرت تسع سنوات كاملة من حكمه، وفي هذه الأثناء تجدد الأمل من جديد عند الفونسو الثامن، وحرص على تجهيز العدة لرد الاعتبار، وأقسم ألا يقرب النساء ولا يركب فرساً ولا بغلاً وأن ينكس الصليب حتى يأخذ بثأره من المسلمين، وأخذ يعد العدة ويجهز الجيوش ويعقد الأحلاف، ويعد الحصون تمهيداً لحرب جديدة مع المسلمين ثم خالف العهد والهدنة وهجم على بلاد المسلمين، قبل انتهاء الهدنة والمعاهدة التي عقدها معه المنصور قبل موته، وحرق الزروع ونهب القرى وقتل العزل من المسلمين. وكان هذا بداية حرب جديدة من الصليبيين ضد المسلمين، بينما المسلمون كانوا قد أنهكوا في رد الثورات المتتالية لبني غانية في داخل دولة الموحدين، أضف إلى ذلك أن القيادة ليست بكفاءة السابقين من قادة الموحدين، وكان عند الناصر لدين الله العيب الذي كان في أجداده وكان في أشياخ الموحدين وهو مخالفة الشورى، بخلاف أبيه، فهو الوحيد من قادة الموحدين الذي اهتم بالشورى وجمع من حوله كل الآراء، ولذلك أفلح وساد وتمكن ونصره الله سبحانه وتعالى. أما الناصر لدين الله فكان على عكس أبيه تماماً، فقد كان معتداً برأيه، وأمر آخر خطير جداً عند الناصر لدين الله أنه استعان بوزير ذميم الخلق جداً اسمه أبو سعيد بن جامع، فقد شك كثير من المؤرخين في نواياه، وشك كثير من الأندلسيين والمغاربة المعاصرين له في اقتراحاته، فهو من أصل إسباني، ويقال: إنه كانت له اتصالات مع الصليبيين أدت إلى أمور خطيرة جداً في دولة الموحدين، فهذا هو الرجل الوحيد الذي كان يأمن له الناصر لدين الله ولم يستعن بكل آراء أشياخ الموحدين وقادة الأندلسيين الموجودين في تلك الفترة. ومن الناحية الأخرى فإن جيش النصارى حصل فيه تعبئة روحية كبيرة جداً، قادها البابا بنفسه في روما، وقالوا: إنها حرب صليبية مقدسة، ورفعوا صور المسيح، وقال البابا: إن من يشارك هذه الموقعة سيمنح له الغفران التام، وهذا كما حدث في موقعة الزلاقة، فحصل استنفار عام في كل بلاد أوروبا اشتركت فيه معظم الدول الأوروبية، حتى وصل الاستنفار إلى القسطنطينية في شرق أوروبا التي تبعد كثيراً عن بلاد الأندلس، وتولت فرنسا الإنفاق على الجيوش بالإضافة إلى إمداد الرجال للجيش القشتالي؛ فإن فرنسا يهمها جداً هزيمة المسلمين؛ لأنها البلد التالية لبلاد الأندلس إن قامت لدولة الموحدين دولة قوية كانت الدائرة على بلاد فرنسا في المرحلة التالية. ثم إن مملكة نافار كانت معاهدة للمنصور الموحدي قبل أن يموت، ومع ذلك فقد أرسل إليها البابا رسالة يحضها فيها على نبذ معاهدة الموحدين، وعلى إرجاع العلاقة مع القشتاليين، ومن المعروف أن القشتاليين كما ذكرنا من قبل قد اختلفوا مع مملكة ليون ونافار بعد هزيمة الأرك، فالبابا يريد منهم التوحد في مواجهه الصف المسلم، فسمع له ملك نافار وأطاع، وتوحدت جيوش أوروبا حتى بلغ الجيش الأوروبي في الموقعة التي ستحدث الآن بين الصليبيين وبين المسلمين مائتي ألف صليبي يتقدمهم الملوك والرهبان. وفي المقابل فإن الناصر لدين الله أعلن الجهاد وجمع المجاهدين من بلاد المغرب العربي والأندلس، حتى وصل إلى (500) ألف مقاتل؛ يعني: كان ضعف جيش النصارى أو أكثر، وأقل رواية ذكرت عدد المسلمين أنهم كانوا (260) ألف مقاتل، والنصارى لم يزيدوا على (160) ألف نصراني، يعني: كان جيش المسلمين في كل الروايات ضعف جيش النصارى أو أكثر، وانطلق الناصر لدين الله بجيشه من بلاد المغرب وعبر مضيق جبل طارق وتوجه إلى منطقة عرفت في التاريخ بمنطقة العقاب؛ لوجود قصر قديم فيها اسمه: العقاب دارت حوله الموقعة، لكن سبحان الله فإن اسم الموقعة كان اسماً على مسمى، فقد كانت عقاباً للمسلمين على مخالفتهم، وعقاباً للناصر على اعتداده برأيه، وعقاباً للمجاهدين على انغماسهم في الغنائم والأموال التي فتحت عليهم بعد عهد المنصور الموحدي رحمه الله، وكانت عقاباً للثورات المتكررة التي دارت على دولة الموحدين بعد صلاح حالها، والتي أدت إلى إنهاك قوى الموحدين ضد النصارى، وما جاز لهم أبداً أن يفعلوا هذا الأمر بعد أن صلح حال الموحدين. المهم أن الناصر لدين الله دخل أرض الأندلس بهذا العدد الكثيف من المسلمين، وأول ما دخل حاصر قلعة كبيرة جداً للنصارى اسمها قلعة سلبطرة؛ وكانت هذه القلعة حصينة جداً في جنوب طليطلة، وكان الصليبيون في داخل هذا الحصن قليلين جداً، لكن من حصانة القلعة لم يستطع المسلمون أن يفتحوها، فاجتمع قادة الموحدين وقادة ال

استخلاف المستنصر بالله بعد موت الناصر لدين الله

استخلاف المستنصر بالله بعد موت الناصر لدين الله عاد الناصر لدين الله من إشبيلية منسحباً أكثر وأكثر إلى بلاد المغرب العربي واعتكف في قصره، واستخلف ابنه وهو يبلغ من العمر عشر سنوات؛ استخلفه على الحكم ليكون ولياً للعهد من بعده، والله سبحانه وتعالى لا يرضى عن هذه الأفعال، يموت الناصر لدين الله بعد هذا الاستخلاف بعام واحد سنة (610هـ) وهو يبلغ من العمر (34) سنة فقط، فيتولى حكم البلاد ابنه المستنصر بالله ويبلغ من العمر (11) سنة، ومن جديد يوسد الأمر لغير أهله، وتضيع الأمانة من جديد كما ضاعت في عهد هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر، وكيف قامت الدولة العامرية وكيف حدث ما يسمى بعهد ملوك الطوائف بعد تولية الأمر لغير أهله؟ هكذا يتولى المستنصر بالله وتتوالى الهزائم على المسلمين، كانت موقعة العقاب في سنة (609) من الهجرة، بعد سنوات طويلة جداً من السيادة والتمكين لدولة الموحدين، وسنة الله سبحانه وتعالى في أرضه وفي خلقه أنه كلما ارتفع المسلمون وكثرت الأموال وفتحت عليهم الدنيا وأهمل المسلمون الشرع واعتدوا بآرائهم ونبذوا الشورى وتركوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ظهرت الهزائم والمكائد والانحدارات والانكسارات والانهيارات إلى أجل بعيد. وبعد موقعة العقاب ظهرت بعض الأمراض في الجيوش القشتالية فاضطروا للعودة، وهذا مد في عمر الأندلس بضع سنوات أخرى في سنة (614) أي: بعد موقعة العقاب بخمس سنوات، ونظراً لتردي الأوضاع في بلاد المغرب، وتولي المستنصر السلطة وهو طفل ظهرت حركة جديدة للاستقلال عن الموحدين، وأنشأت دولة سنية جديدة من قبيلة زناته في بلاد المغرب، هذه الدولة سيكون لها شأن كبير في الأندلس بعد ذلك، وهي: دولة بني مرين في سنة (614هـ). وفي سنة (620هـ) سقطت جزر البليار على يد ملك أراجون بمساعدة إيطاليا، وقتل في جزر البليار عشرون ألفاً من المسلمين، واستقل بنو حفص بتونس، وانفصلوا بها عن دولة الموحدين، وفي نفس السنة مات أمير الموحدين المستنصر وهو يبلغ من العمر (21) سنة فقط، ودار صراع شديد على السلطة فهو لم يستخلف ثم كانت ولاية عبد الواحد عم أبيه من بعده ولكنه خلع وقتل وتولى عبد الله العادل. أصبح يتولى الرجل الحكم في دولة الموحدين مدة أربع أو خمس سنوات فقط ثم يقتل ويأتي غيره، وسارت الدولة نحو هاوية سحيقة.

حال الأندلس بعد موت المستنصر بالله

حال الأندلس بعد موت المستنصر بالله في سنة (625هـ) استقل رجل اسمه ابن هود بشرق وجنوب الأندلس، وكان كما يصفه المؤرخون مفرطاً في الجهل ضعيف الرأي لم ينصر له جيش على النصارى، وفي سنة (633هـ) استقل بنو زيان في الجزائر، وفي نفس السنة حدث حادث خطير وهام ومروع وهو سقوط قرطبة، وذلك بعد حصارها عدة شهور، واستغاثت بـ ابن هود الذي استقل كما ذكرنا منذ قليل بشرق وجنوب الأندلس لكنه لم يعر لها اهتماماً، كان ابن هود مشغولاً بحرب ابن الأحمر الذي استقل بجزء آخر من بلاد الأندلس، حتى اضطر أهل قرطبة للتسليم، وكان الرهبان يصرون على قتلهم لكن رفض فرناندو الثالث ملك قشتالة؛ خشية أن يدمر أهل المدينة كنوزها وآثارها الفاخرة، وبالفعل خرج أهلها متجهين جنوباً تاركين المجد العظيم خلفهم. سقطت قرطبة حاضرة الإسلام، ومن أعظم مدن الإسلام في التاريخ، التي أفاضت على العالم أجمع خيراً وبركة وعلماً ونوراً، والتي فيها ثلاثة آلاف مسجد وثلاثة عشر ألف دار، عاصمة الخلافة الأموية أكثر من (500) عام، والتي فيها أكبر مسجد في العالم، صاحبة ثغر من أعظم ثغور الجهاد في الإسلام، سقطت قرطبة في (23) شوال سنة (633هـ) من الهجرة، وتحول مسجدها الجامع الكبير إلى كنيسة، وما زال كنيسة إلى اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله. وفي سنة (635هـ) استقل بنو الأحمر بغرناطة بعد موت ابن هود في نفس السنة، وسيكون لهم شأن كبير في بلاد الأندلس سنعرض له في الحلقة القادمة إن شاء الله. وفي سنة (636هـ) بعد استقلال بني الأحمر بغرناطة بسنة واحدة سقطت بلنسية، بعد حصار خمس سنوات متصلة على يد ملك أراجون بمساعدة فرنسا، وكان حصاراً شديداً كاد الناس أن يهلكوا جوعاً، وكان خلاله عدة مواقع أشهرها موقعة أنيشة في سنة (634هـ) هلك فيها كثير من المسلمين، منهم الكثير من العلماء، حاول بنو حفص في تونس مساعدة بلنسية بالمؤن والسلاح، لكن الحصار كان شديداً، حتى اضطروا لترك البلد تماماً في سنة (636هـ)، وهاجر (50) ألفاً من المسلمين إلى تونس، وتحولت كل مساجد المسلمين إلى كنائس وكانت سياسة مشهورة للنصارى في كل الأراضي التي يسيطرون عليها إما القتل وإما التهجير. وفي سنة (641) سقطت دانية بالقرب من بلنسية، وفي سنة (643) سقطت جيان وهكذا لم يبق في بلاد الأندلس إلا ولايتان فقط، ولاية غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد، وولاية إشبيلية في الجنوب الغربي من البلاد، وهما يمثلان حوالي ربع بلاد الأندلس. هذا مع الأخذ في الاعتبار أن كل ولايات إفريقيا قد استقلت عن دولة الموحدين، وسقطت بذلك دولة الموحدين، الدولة العظيمة المهيبة المترامية الأطراف ولا بد لنا من وقفة.

عوامل انهيار دولة الموحدين

عوامل انهيار دولة الموحدين لماذا يسقط هذا الكيان الكبير هذا السقوط المفاجئ؟ واقع الأمر أنه ليس مفاجئاً، فدولة الموحدين كانت تحمل في طياتها بذور الضعف وعوامل الانهيار وهي كثيرة، أذكر منها ما يلي: أولاً: تعاملها بالظلم مع دولة المرابطين، وقتلها الآلاف ممن لا يستحقون القتل، وطريق الدم لا يمكن أبداً أن يثمر عدلاً، يقول ابن تيمية: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ثانياً: العقائد الفاسدة التي أدخلوها على منهج أهل السنة، باستثناء يعقوب المنصور رحمه الله الذي قاومها بشدة، ولكن حتى آخر لحظات دولة الموحدين فقد ظل أشياخ الموحدين يعتقدون في عصمة محمد بن تومرت وفي صدق ما قاله. ثالثاً: الثورات الداخلية الكثيرة التي قامت داخل دولة الموحدين، وأشهرها ثورة بني غانية والتي كانت في جزر البليار في بلاد الأندلس. رابعاً: الإعداد الجيد من قبل النصارى في مقابل الإعداد غير المدروس من قبل الناصر لدين الله ومن تبعه بعد ذلك. خامساً وهو أمر هام جداً: كثرة الأموال بعد انفتاح الدنيا على دولة الموحدين، فأموال الأندلس التي طالما غرق فيها كثير من رجال المسلمين، والترف الشديد الذي أدى إلى التصارع على الحكم، وإلى دعة الحكام والحركات الانفصالية كما ذكرنا. سادساً: بطانة السوء المتمثلة في أبي سعيد بن جامع وزير الناصر لدين الله ومن كان على شاكلته بعد ذلك. سابعاً: إهمال الشورى من قبل الناصر ومن بعده من الخلفاء، وكثير من العوامل التي اجتمعت مع ما سبق. لا بد أن يدرس المسلمون جيداً كيف سقطت دولة الموحدين؟ هكذا سقط هذا الكيان الكبير، ولم يبق كما ذكرنا في بلاد الأندلس إلا ولايتان فقط: غرناطة وإشبيلية، ومع ذلك بقي الإسلام في بلاد الأندلس أكثر من (250) سنة بعد هذا السقوط المروع لدولة الموحدين. كيف بقي المسلمون هذه المدة الطويلة في بلاد الأندلس؟ وكيف استطاعوا أن يمكثوا على إسلامهم مع حرب النصارى الشديدة؟ هذا ما نتداوله وغيره إن شاء الله في اللقاء القادم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.

سقوط الأندلس

سلسلة الأندلس_سقوط الأندلس تولى بنو الأحمر حكم مملكة غرناطة، وكان أول حكامهم هو محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر الذي عقد معاهدة مع ملك قشتالة فرناندو الثالث وقدم له فيها بعض التنازلات التي تدل على ضعف المسلمين في تلك الحقبة التاريخية، وقد كانت هنالك بعض الأسباب التي أدت إلى عدم غزو ملك قشتالة لغرناطة، وقد استعان محمد بن يوسف الأحمر بيعقوب المنصور المريني الذي استطاع هزيمة النصارى في معركة الدونونية، ثم حصلت بعد ذلك خلافات ونزاعات وأطماع أدت إلى سقوط غرناطة واحتلالها.

حكم بني الأحمر لمملكة غرناطة

حكم بني الأحمر لمملكة غرناطة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فاليوم نفتح الصفحة الأخيرة من صفحات تاريخ الأندلس: من الفتح إلى السقوط. بالأمس القريب وقفنا على تداعيات سقوط دولة الموحدين، وهزيمتهم في موقعة العقاب، وسقوط مدن المسلمين الواحدة تلو الأخرى حتى سقطت قرطبة حاضرة الإسلام وعاصمة الخلافة الأموية، وهكذا لم تبق في بلاد الأندلس إلا ولايتان كبيرتان نسبياً: ولاية غرناطة، وهي تقع في الجنوب الشرقي من بلاد الأندلس، وتمثل حوالي (15%) من أرض الأندلس، وولاية إشبيلية في الجنوب الغربي من بلاد الأندلس، وتمثل حوالي (10%) من بلاد الأندلس، وهاتان الولايتان فقط هما اللتان بقيتا من بلاد الأندلس بعد هذا الانهيار المروع في هذه البلاد العظيمة. وذكرنا أيضاً في الدرس السابق أن المسلمين استمروا في بلاد الأندلس لمدة أكثر من (250) سنة بعد هذا الانهيار الكبير، وهذه علامة استفهام هامة جداً لا بد أن يقف أمامها المسلمون. ففي سنة (643هـ) سقطت جيان آخر المدن التي تحدثنا عن سقوطها في الدرس السابق، وفي تلك السنة يطلب فرناندو الثالث ملك قشتالة من ابن الأحمر الذي يتزعم مملكة غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد أن يعقد معه معاهدة، يضمن له فيها بعض الحقوق، ويأخذ عليه بعض الواجبات، لكن قبل أن نتحدث عن هذه المعاهدة نذكر من هو ابن الأحمر؟ هو محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر وينتهي نسبه إلى سعد بن عبادة الخزرجي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن شتان بين محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر وبين سعد بن عبادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسمي ابن الأحمر؛ لأن لون شعره كان أحمر، ولم يكن هذا اسماً له، بل كان لقباً، وكان هذا اللقب له ولأبنائه من بعده حتى نهاية فترة حكمهم لمنطقة غرناطة.

المعاهدة التي تمت بين محمد بن يوسف بن الأحمر وملك قشتالة

المعاهدة التي تمت بين محمد بن يوسف بن الأحمر وملك قشتالة عقد محمد بن يوسف بن الأحمر أو محمد الأول عقد معاهدة مع ملك قشتالة كان فيها: أولاً: أنه يدفع الجزية لملك قشتالة، وهذا يدل على مدى التهاوي في حال الأمة الإسلامية، فقد كانت دولة الموحدين تسيطر على أطراف كثيرة جداً في بلاد الأندلس، وعلى أماكن كثيرة جداً في إفريقيا، لكن ما حدث بعد السقوط هو أن ملك غرناطة يدفع الجزية لملك قشتالة وهي (150) ألف دينار ذهب كل سنة. ثانياً: أن يحضر بلاطه كأحد ولاته على البلاد. ثالثاً: أن يحكم غرناطة باسم ملك قشتالة علناً. رابعاً: أن يسلّمه ما بقي من حصون جيّان وأرجونة وغرب الجزيرة الخضراء حتى طرف الغار، وتقع كلها في غرب غرناطة، وبذلك يسلم ابن الأحمر مواقع بمنتهى الخطورة لـ فرناندو الثالث ملك قشتالة تحيط بغرناطة. خامساً: أن يساعده في حروبه ضد أعدائه إذا احتاج له، فأول حرب يدخل فيها ملك قشتالة بعد هذه المعاهدة هي الحرب ضد إشبيلية، فطلب من ابن الأحمر أن يساعده في فتح إشبيلية فيسمع ويطيع، فجهز ابن الأحمر فرسان المسلمين، وذهبوا في مقدمة جيوش قشتالة ليحاصروا إشبيلية سنة وخمسة شهور، وهذا أمر في منتهى العجب، وهو أن ابن الأحمر وجيش غرناطة وشعبها يحاصرون مدينة إشبيلية المسلمة المجاورة، التي كانت مجرد محافظة أو مدينة مع مدينة غرناطة في دولة واحدة هي دولة الأندلس، لكن انظر إلى الانهيار الكبير جداً في أخلاق القادة والشعوب، شعب تحرك ولم يتأثر لحصار إخوانه المسلمين الموجودين هناك في مدينة إشبيلية. يستغيث أهل إشبيلية بكل من حولهم، فالمغرب مشغولة بالثورات الداخلية، وبنو مرين يصارعون الموحدين في داخل المغرب، وغرناطة تحاصر إشبيلية، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وفي (27) رمضان في سنة (646هـ) بعد (17) شهر تسقط إشبيلية بأيدي المسلمين ومن عاونهم من النصارى، ويغادر أهل إشبيلية البلاد وعددهم أربعمائة ألف مسلم يهجّرون ويشرّدون من إشبيلية، فتسقط إشبيلية ثاني أكبر مدينة في الأندلس، تلك المدينة ذات التاريخ المجيد والعمران العظيم، أعظم ثغور الجنوب، ومن أقوى حصون الأندلس، لكن واحسرتاه على المسلمين تُفتح حصونهم وتدمّر قوتهم بأيدي المسلمين وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا وأصبح لا يرى في الركب قوم وقد عاشوا أئمته سنينا وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر أين المسلمونا؟ المسلمون يحاصرون المسلمين، والمسلمون يقتلون المسلمين، والمسلمون يشردون المسلمين، هذا كان واقع هذه البلاد في سنة (646هـ) تختفي إشبيلية إلى الأبد من على الخارطة الإسلامية، والذي فيها مسجد إشبيلية الكبير، الذي أسسه يعقوب المنصور الموحدي بعد انتصار الأرك الخالد بغنائم الأرك، والذي صار إلى اليوم كنيسة يعلق فيها الصليب ويُعبد فيها المسيح، بعد أن كانت ثغراً من أعظم ثغور الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهكذا لم تبق في سنة (646هـ) في بلاد الأندلس بلاد مسلمة إلا غرناطة وما حولها من القرى والمدن، فهي تمثل (15%) من أرض الأندلس، وتضم ثلاث ولايات متحدة سوياً: ولاية غرناطة، وولاية ملقة، وولاية ألمرية، وهي جميعاً تحت حكم ابن الأحمر، وإن كان هناك شيء من الاستقلال في داخل كل ولاية.

السبب في عدم غزو ملك قشتالة لغرناطة

السبب في عدم غزو ملك قشتالة لغرناطة السبب في عقد فرناندو الثالث معاهدة مع ابن الأحمر أمير غرناطة، ولم يحتلها كما احتل المدن الأخرى هو ما يلي: الأمر الأول: في الواقع أن غرناطة في ذلك الوقت كان فيها كثافة سكانية عالية جداً، تستعصي على جيوش النصارى أن يدخلوها، فقد كانت تسقط المدينة من بلاد الأندلس على يد النصارى، الذين كانوا ينهجون نهجاً واحداً إما القتل وإما التشريد والطرد من البلاد، فكان كلما طُرد المسلمون من بلادهم اتجهوا إلى الجنوب الشرقي من البلاد، فتجمع كل أهل الأندلس المسلمين في منطقة غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد، فأصبح فيها كثافة ضخمة جداً، لا تستطيع قوات النصارى أن تدخل إلى هذه المناطق الكثيفة. الأمر الثاني: الحصون المنيعة، فقد كان فيها حصون كثيرة جداً كانت تحيط بمنطقة غرناطة وألمرية وملقة. الأمر الثالث: أن مدينة غرناطة في الجنوب الشرقي للأندلس كانت تقع على البحر الأبيض المتوسط بالقرب من بلاد المغرب العربي، وقد قامت في بلاد المغرب العربي نواة دولة إسلامية جديدة هي دولة بني مرين، وكانت دولة سنية تقوم على التقوى، وكانت تساعد من حين إلى آخر بلاد غرناطة، ولذلك استطاعت بلاد غرناطة أن تقف على أقدامها ولو قليلاً في مواجهة فرناندو الثالث ومن معه من النصارى في مملكة قشتالة، لذلك وافق فرناندو الثالث على هذه المعاهدة، لكنها كانت معاهدة مخزية جداً؛ لأن ملك غرناطة كان يدفع فيها الجزية، ويحارب مع ملك قشتالة، ويقضي معه العهود ألا يحاربه يوماً من الأيام، ومع كون هذه المعاهدة تقوم على أساس التعاون والتصالح بين الفريقين، إلا أنه بين كل عام وآخر كان فرناندو الثالث وغيره من ملوك النصارى يخونون العهد دائماً مع ابن الأحمر، ويحتلون بعض المدن منه، فيحاول ابن الأحمر أن يرد تلك البلاد فلا يُفلح؛ فيعاهدهم من جديد على أن يترك لهم حصناً أو حصنين أو مدينة أو مدينتين ويتركوه حاكماً على البلاد يحكم باسمهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. إذاً: غرناطة لم تؤسس على التقوى، بل أسسها ابن الأحمر على شفا جرف هار معتمداً على صليبي لا عهد له ولا أمانة، قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100].

أسباب استعانة ابن الأحمر أمير غرناطة بالمنصور المريني على ملك قشتالة

أسباب استعانة ابن الأحمر أمير غرناطة بالمنصور المريني على ملك قشتالة قضى ابن الأحمر معاهدات مع ملك قشتالة من سنة (643هـ - 671هـ)، لكن في سنة (671هـ) بدأ ملك قشتالة ألفونسو العاشر بالمخالفة الصريحة للمعاهدة، فبدأ في تجهيز جيوش كبيرة ينوي بها دخول غرناطة لإنهاء الوجود الإسلامي تماماً في بلاد الأندلس، فوجد ابن الأحمر نفسه في مأزق؛ لأنه عاهد من لا عهد له، فنظر إلى بني مرين الدولة التي قامت على أنقاض دولة الموحدين، وقد سقطت دولة الموحدين سقوطاً كاملاً في سنة (668هـ)، وقام بحكم المرينيين رجل اسمه يعقوب المنصور المريني، واسمه نفس اسم الرجل الآخر الذي تحدثنا عنه في دولة الموحدين وهو يعقوب المنصور الموحدي لذلك نضيف كلمة المريني لتفريقه عن ذلك الرجل السابق، وكلاهما على شاكلة واحدة، وكلاهما من عظماء المسلمين، ومن أكابر القواد في تاريخ المسلمين، وقد وصف المؤرخون يعقوب المنصور المريني بقولهم: كان صوّاماً قوّاماً، دائم الذكر كثير الفكر، لا يزال في أكثر نهاره ذاكراً، وفي أكثر ليله قائماً يصلي، مكرماً للصلحاء، كثير الرأفة والحنين على المساكين، متواضعاً في ذات الله تعالى لأهل الدين، متوقفاً في سفك الدماء، كريماً جواداً، وكان مظفراً منصور الراية، ميمون النقيبة، لم تُهزم له راية قط، ولم يُكسر له جيش، ولم يغز عدواً إلا قهره، ولا لقي جيشاً إلا هزمه ودمّره، ولا قصد بلداً إلا فتحه، كان رحمه الله خطيباً مفوهاً يؤثر في نفوس جنوده، شجاعاً مقداماً يبدأ الحرب بنفسه. فهذه صفات عظيمة جداً، لا بد أن يقف معها المسلمون كثيراً، والوقت لا يتسع إلى دراسة كل هذه الصفات، ويجب أن يأخذ المسلمون العبرة من هؤلاء الفاتحين المجاهدين العظماء. فيستعين محمد بن الأحمر الأول ببني مرين، وبالفعل يأتي بنو مرين ويصدون هجوم النصارى، فقد تعودت بلاد الأندلس لأكثر من حوالي مائتي سنة أن تستورد النصر من خارجها، فمرة تستورده من المرابطين، ومرة من الموحدين، ومرة من بني مرين، وهكذا لا تقوم للمسلمين قائمة في بلاد الأندلس إلا على أكتاف غيرهم من بلاد المغرب العربي وما حولها من البلاد. إذاً: هذه البلاد التي قامت على أكتاف غيرها لا يستقيم لها الأمر، ولا تستكمل النصر، ولا تستحق الحياة، ولا يستقيم أبداً أن تنفق الأموال الضخمة في غرناطة في بناء قصر الحمراء من أعظم قصور الأندلس، ليكون قصراً لحكم ابن الأحمر وهو محاصر من جيوش النصارى، ولا يستقيم له أبداً أن ينشئ الجنان الكثيرة، والتي هي أكثر من (300) حديقة ضخمة جداً في غرناطة، ويُطلق على كل حديقة جنة من سعة هذه الحديقة وكثرة الثمار والأشجار وما إلى ذلك من نعيم الدنيا، ولا يستقيم له أبداً أن ينفق هذا الإنفاق والبلاد محاصرة من جيوش النصارى، وعندما يأتي وقت الجهاد يذهب ويستعين بالمجاهدين من البلاد المجاورة. لكن على كل حال أتى بنو مرين واستطاعوا أن يردوا الهجوم النصراني، لكن في سنة (671هـ) مات محمد بن الأحمر الأول وقد قارب الثمانين من عمره، واستخلف على الحكم ابنه محمد بن محمد بن يوسف بن الأحمر الملقب بـ الفقيه؛ لأنه كان صاحب علم غزير وفقه عميق، والحمد لله فقد ذهب الرجل الذي عقد معاهدات الخيانة والتسليم، وجاء رجل صاحب علم وفقه ولُقّب بـ محمد الفقيه.

تولية محمد بن محمد بن الأحمر على غرناطة بعد وفاة أبيه واستعانته ببني مرين على النصارى في معركة الدونونية وغيرها

تولية محمد بن محمد بن الأحمر على غرناطة بعد وفاة أبيه واستعانته ببني مرين على النصارى في معركة الدونونية وغيرها معظم أمراء بني الأحمر كان اسمهم محمداً، فـ محمد الملقّب بـ الفقيه لما تولى الأمور ونظر في أمر البلاد، وجد أن قوة المسلمين في بلاد الأندلس لا تستطيع أن تبقى في مواجهة قوة النصارى، فإن ألفونسو العاشر لما مات محمد بن الأحمر الأول ظن أن البلاد قد تهاوت فأسرع بالمخالفة من جديد وبالهجوم على أطراف غرناطة، فاستعان محمد بن الأحمر الثاني الملقّب بـ الفقيه بـ يعقوب المنصور المريني رحمه الله في سنة (673هـ)، فجهز المنصور جيشاً قوامه خمسة آلاف مقاتل، وكان هو قائد الجيش، ووصل مع جيشه إلى بلاد الأندلس وانضم إليه خمسة آلاف مقاتل من غرناطة، فالتقى المسلمون مع الصليبيين، خارج غرناطة بالقرب من قرطبة، وعدد المسلمين عشرة آلاف مقاتل، بينما عدد النصارى تسعون ألفاً من الصليبيين على رأسهم رجل من أكبر قواد مملكة قشتالة يُدعى دون ننيو ديلارا، والموقعة التي دارت بين المسلمين والصليبيين في ذلك المكان عُرفت بموقعة الدونونية نسبة إلى دون ننيو ديلارا الذي كان يقود قوات قشتالة في تلك الموقعة، تمت هذه الموقعة في سنة (674هـ)، وقاد جيوش المسلمين المنصور المريني رحمه الله، وأخذ يحفّز الناس على القتال، وكان مما قاله في خطبته الشهيرة: ألا وإن الجنة قد فتحت لكم أبوابها، وزينت سورها وأترابها، فبادروا إليها وجدوا في طلابها، وابذلوا النفوس في أفنانها، ألا وإن الجنة تحت ظلال السيوف، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] فاغتنموا هذه التجارة الرابحة، وسارعوا إلى الجنة بالأعمال الصالحة، فمن مات منكم مات شهيداً، ومن عاش رجع إلى أهله سالماً غانماً مأجوراً حميداً، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فعانق الناس بعضهم بعضاً للوداع وبكوا جميعاً، وسبحان الله! وإذا بهذا العدد القليل وبهذه القيادة وبهؤلاء الرجال الذين أتوا من بلاد المغرب حقق المسلمون انتصاراً باهراً عظيماً، وقُتل من النصارى ستة آلاف وأُسر ثمانية آلاف، وقُتل دون ننيو قائد قشتالة في تلك الموقعة، وغنم المسلمون غنائم هائلة لا تحصى، فما انتصر المسلمون منذ موقعة الأرك في سنة (591هـ) إلا في موقعة الدونونية سنة (674هـ)، ثم انقسم جيش المسلمين بعد تلك الموقعة إلى نصفين: نصف توجه إلى جيّان وعلى رأسه ابن الأحمر ففتح جيان وانتصر عليهم، ونصف اتجه إلى إشبيلية وعلى رأسه المنصور فإذا به يحاصر إشبيلية ويصالح أهلها على الجزية، سبحان الله! رجل يحاصر إشبيلية بخمسة آلاف فقط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نُصرت بالرعب مسيرة شهر) وهذا يدل على صلاح الرجال والجيوش. وفي سنة (677هـ) -أي: بعد ثلاث سنوات من تلك الموقعة- ينقض أهل إشبيلية العهد، فيذهب إليهم يعقوب المريني رحمه الله ويصالحونه من جديد على الجزية، بعد أن تُحاصر فترة من الزمان، ثم بعد ذلك يتجه إلى قرطبة ويحاصرها فترضخ له من جديد، فيحرر قرطبة وإشبيلية وجيّان، وهذا كله وعدد جيشه لا يزيد عن خمسة آلاف مقاتل، فهذا الأمر يستحق وقفات طويلة، وهذا الأمر ليس بمستغرب في التاريخ الإسلامي، بل المستغرب أن يُهزم جيش الناصر لدين الله من قبل في موقعة العقاب، وكان عدد المقاتلين خمسمائة ألف مسلم؛ لأنهم اعتمدوا على قوتهم ولم يعتمدوا على الله سبحانه وتعالى، فهذه سنن تتكرر في التاريخ ولنا فيها عبرة. ينتصر المريني كل هذه الانتصارات، ويجمع غنائم لا حصر لها، ثم في منتهى الورع والزهد يُعطي كل الغنائم لأهل غرناطة ويعود إلى بلاد المغرب ولا يأخذ معه شيئاً، انظروا إلى التاريخ كيف يكرر نفسه، فقد فعل نفس فعل يوسف بن تاشفين رحمه الله بعد موقعة الزلاقة، فهؤلاء هم الرجال المنصورون.

موقف محمد بن الأحمر الفقيه من المنصور المريني حينما صار حاكما على ألمرية

موقف محمد بن الأحمر الفقيه من المنصور المريني حينما صار حاكماً على ألمرية مات حاكم ولاية ألمرية وتولى من بعده على حكم ألمرية ابنه وقد كان شاباً، ولما رأى أفعال يعقوب المنصور المريني وانتصاراته المتعددة أُعجب به إعجاباً كبيراً، فعرض عليه أن يحكم ألمرية، فوافق يعقوب المنصور المريني على ذلك فخلّف فيها رحمه الله قوة بسيطة من المسلمين تبلغ من العدد (3000) رجل واستجلب (3000) رجل آخرين من بلاد المغرب، ووضعهم في جزيرة طريف حتى يكونوا مدداً قريباً لبلاد الأندلس إذا احتاجوا إليها في حربهم ضد النصارى، ثم عاد إلى بلاد المغرب. نظر محمد بن الأحمر الفقيه إلى ما فعله حاكم ألمرية من إعطاء ولاية ألمرية لـ يعقوب المنصور المريني، فأوجس ابن الأحمر، في نفسه خيفة، ففكر ولسان حاله يقول: إن في التاريخ لعبرة، لقد استعان المعتمد على الله بن عباد ملك الطوائف بـ يوسف بن تاشفين فأخذ البلاد وضمها إلى دولة المرابطين، وها هو الآن يعقوب المريني يأخذ مدينة طريف وألمرية إن في التاريخ لعبرة! لا بد أن أقف موقفاً حتى لا تضم بلاد الأندلس إلى دولة بني مرين، فهذا هو الفكر الذي كان عليه هذا الرجل الذي لقّبوه بـ الفقيه وما هو بفقيه. فلم تكن له طاقة لمحاربة يعقوب المنصور المريني ولا لشعبه ولا لجيشه ولا لحصونه، فاستعان بملك قشتالة لطرد يعقوب المنصور المريني من جزيرة طريف، بعد أن انتصر على النصارى في موقعتين شهيرتين في التاريخ: الدونونية وما تلاها في سنة (677هـ) وفتح إشبيلية وقرطبة وجيّان، فأتى ملك قشتالة بجيشه وأساطيله فحاصر طريف من ناحية، وحاصرها من الناحية الأخرى ابن الأحمر الفقيه، فعلم بذلك يعقوب المنصور المريني رحمه الله فعاد من جديد بسرعة إلى جزيرة طريف، وجهز الجيوش والأساطيل وحارب النصارى في موقعة كبيرة في سنة (677هـ) وانتصر عليهم، ففروا إلى الشمال، فوجد ابن الأحمر نفسه في مواجهة يعقوب المنصور المريني، فأظهر الندم والاعتذار والأسباب غير المقبولة، فعفا عنه يعقوب المنصور المريني رحمه الله وتاب عليه وأعاده إلى حكمه. ومن جديد يأتي يعقوب المنصور المريني في سنة (684هـ) ليساعد ابن الأحمر في حرب جديدة ضد النصارى، هكذا وهب يعقوب المنصور المريني حياته للجهاد في سبيل الله وللدفاع عن دين الله، وفي هذه الموقعة ينتصر المسلمون على النصارى ويعقدون معهم عهداً، واشترط عليهم شروطاً فلم يطلب منهم مالاً ولا قصوراً ولا جاهاً، لكن طلب منهم أن يأتوا له بكتب المسلمين الموجودة في قرطبة وإشبيلية وطليطلة وغيرها من البلاد، وبالفعل أتوا له بكميات ضخمة جداً من كتب المسلمين، وهذا هو الذي حفظ تراث الأندلس إلى الآن، وما زالت في مكتبة فاس في المغرب إلى هذه اللحظة، فهذا يدل على علو المقاصد والهمم عند يعقوب المنصور المريني رحمه الله.

موقف ابن الأحمر الفقيه مع يوسف بن المنصور المريني بعد توليه حكم بني مرين

موقف ابن الأحمر الفقيه مع يوسف بن المنصور المريني بعد توليه حكم بني مرين في سنة (685هـ) بعد هذه الموقعة يموت الحاكم العظيم المنصور رحمه الله ويخلفه يوسف بن المنصور على إمارة بني مرين، ويذهب ابن الأحمر الفقيه بسرعة إلى ابن المنصور يعرض عليه ما شاء من أرض الأندلس، ويعرض عليه الولاء والطاعة، ويقدم له ما يريد، فطلب يوسف بن المنصور رحمه الله أن يأخذ الجزيرة الخضراء وطريف حتى تكون قاعدة له في حرب النصارى، وهدأت الأمور نسبياً هناك في غرناطة، لكن لما أخذ يوسف بن المنصور الجزيرة الخضراء وطريف حرك هذا الأمر الوساوس من جديد في قلب ابن الأحمر الملقّب بـ الفقيه، فذهب مرة أخرى إلى النصارى، واستعان بهم من جديد على حرب يوسف بن المنصور لرد طريف من بني مرين، فأتى بالفعل جيش النصارى، وحاصر طريف، لكن في هذه المرة استطاع الجيش النصراني أن يسقط طريف، وكان الاتفاق بين النصارى وبين الفقيه ابن الأحمر أنهم إذا أخذوا جزيرة طريف من بني مرين أن يعطوها إلى ابن الأحمر، لكن بعد أن أخذها النصارى لم يعيدوها له، وهكذا خانوا العهد معه وحدثت الجريمة الكبرى والخيانة العظمى وسقطت طريف، التي كانت تطل على مضيق جبل طارق، وبذلك انقطعت بلاد المغرب عن بلاد الأندلس لوجود قوة كبيرة للنصارى تقع في طريف على الطريق بين بلاد الأندلس وبلاد المغرب، فانقطع المدد من بلاد المغرب إلى بلاد الأندلس.

تولية محمد الثالث الأحمر الملقب بالأعمش لبلاد غرناطة بعد وفاة والده

تولية محمد الثالث الأحمر الملقب بالأعمش لبلاد غرناطة بعد وفاة والده في سنة (701هـ) يموت ابن الأحمر الفقيه ويتولى من بعده محمد الثالث الذي كان يلقّب بـ الأعمش، وقد كان رجلاً ضعيفاً جداً، وتولى الأمور في عهده الوزير أبو عبد الله بن الحكيم وما هو بحكيم، فقد سيطر على الأمور تماماً في بلاد غرناطة، وكان على شاكلة من سبقه في مراسلة ملك قشتالة والتحالف معه، ثم لم يكتف بذلك، لكنه زاد على السابقين له في هذه المحالفة بأن فعل أفعالاً عجيبة، فجهّز جيشاً وذهب به إلى دولة بني مرين واحتل منها سبتة حتى يقوي شأنه في مضيق جبل طارق، بل وفعل ما هو أشد من ذلك، فراسل رجلاً من بني مرين ليقوم بانقلاب ضد يوسف بن المنصور وأمده بسلاح، فوافق الرجل على ذلك، فهو يريد أن يُزعزع الحكم في بني مرين ويعتمد تماماً على ملك قشتالة في الحكم، وهذا غباء منقطع النظير، وأمر لا يقره عقل ولا دين، لكن هذا ما حدث. كانت النتيجة أنه بعد ذلك بأعوام قليلة سقط جبل طارق على يد الصليبيين، وعُزلت بالكلية بلاد الأندلس عن بلاد المغرب، وهكذا تُركت غرناطة لمصيرها المحتوم، فبلاد غرناطة وحُكام غرناطة وشعبها اعتمدوا منذ سنوات طويلة على استيراد النصر من بلاد المغرب، أما الآن فقد انقطع النصر الذي يأتي من بلاد المغرب، وخيانات كثيرة جداً مع بلاد المغرب لا تُعطي لهم الأمان في مساعدة هؤلاء، وهكذا تُركوا لحالهم ولشأنهم، وكان هذا في سنة (709هـ) لما سقط جبل طارق في يد الصليبيين.

موقف ملوك بني الأحمر مع ملوك قشتالة ما بين سنة 709هـ إلى سنة 897هـ

موقف ملوك بني الأحمر مع ملوك قشتالة ما بين سنة 709هـ إلى سنة 897هـ ما بين سنة (709هـ - 897هـ) أي: قرابة المائتي سنة والحال في بلاد غرناطة معاهدات متتالية من أبناء الأحمر ملوك غرناطة مع ملك قشتالة، وتسليم جزية وخزي وعار سنوات طويلة لكن لم تسقط، والذي حفظ هذه البلاد من السقوط لمدة مائتي سنة من غير وجود مدد من بلاد المغرب، أنه كان خلاف كبير جداً يدور بين مملكتي قشتالة وأراجون المملكتين النصرانيتين في شمال غرناطة، فقد كانتا تتصارعان سوياً، والمعروف أن كل مملكة منهما صارت مملكة ضخمة كبيرة على أنقاض الدولة الإسلامية في بلاد الأندلس، وأصبحت قوة غرناطة قوة هزيلة جداً لا ينظرون إليها، فقد انشغلوا بأنفسهم وتركوا المسلمين. ففي هذه المدة الطويلة كانت غرناطة على عهد واحد من الخمول والدعة والركون والمعاهدات المخزية مع النصارى، وهنالك أسباب غيّرت الأحوال وجعلت بلاد الأندلس تسقط بالكلية، ويلتفت إليها النصارى بعد أن شُغلوا عنها بحروبهم.

الخلافات بين الغالب بالله الأحمر وأخيه الزغل وأثرها في سقوط الأندلس

الخلافات بين الغالب بالله الأحمر وأخيه الزغل وأثرها في سقوط الأندلس في سنة (871هـ) أي: قبل السقوط بحوالي (26) سنة، كان يحكم غرناطة في ذلك الوقت رجل اسمه محمد بن سعد بن إسماعيل بن الأحمر الملقّب بـ الغالب بالله، وكان له أحد الإخوة اسمه أيضاً محمد ويُعرف بـ أبي عبد الله محمد الملقّب بـ الزغل، أي: الشجاع، ولكن الأخوين اختلفا على الحكم، وتصارعا في مملكة غرناطة الهزيلة الضعيفة المحاطة في الشمال بمملكتي قشتالة وأراجون، فاستعان أبو عبد الله محمد الزغل بملك قشتالة لأجل أن يحارب أخاه الغالب بالله، وبالفعل تمت الاستعانة ودارت موقعة بين الأخوين، ثم اصطلحا على تقسيم غرناطة، فصار الجزء الشمالي منها والذي هو ولاية غرناطة الرئيسية تحت حكم الغالب بالله، والجزء الجنوبي والذي هو ولاية ملقة تحت حكم الزغل وهكذا انقسمت غرناطة إلى قسمين. وفي سنة (774هـ)، أي: بعد هذا التقسيم بثلاثة أعوام يحدث حدث خطير جداً في الأندلس، وهو زواج فرناندو الثالث ملك أراغون وهو غير فرديناند الثالث ملك قشتالة أيام محمد بن الأحمر الأول، فيتزوج من إيزابيلا وريثة عرش قشتالة، وبعد هذا الزواج اصطلحت الدولتان: دولة أراجوان مع دولة قشتالة، وبعد خمس سنوات من زواجهما توحدت المملكتان في مملكة واحدة هي مملكة إسبانيا، وكان ذلك في سنة (879هـ) وكانت هذه بداية النهاية لغرناطة، وأقسم الملكان فرديناند الثالث وإيزابيلا على ألا يعقدا عُرساً إلا في قصر الحمراء، قصر الرئاسة الموجود في غرناطة، فهذا يدل على قوة العزم الذي جهّزوه لبلاد المسلمين، أما بلاد غرناطة في ذلك الوقت في سنة (879هـ) فقد كانت منقسمة إلى شطرين أو قسمين: قسم مع الزغل وقسم مع الغالب بالله، أما حال الشعب فقد عم فيهم الترف والدعة والخمول والغناء والخمور في ذلك الوقت، فماذا ننتظر بعد تلك الأمور؟

ظهور الخلاف بين أبي عبد الله الصغير وأبيه الغالب بالله وعمه الزغل وأثر ذلك في سقوط الأندلس

ظهور الخلاف بين أبي عبد الله الصغير وأبيه الغالب بالله وعمه الزغل وأثر ذلك في سقوط الأندلس كان الغالب بالله حاكم غرناطة متزوجاً من امرأة اسمها عائشة عُرفت في التاريخ بـ عائشة الحرة وكانت له جارية نصرانية اسمها الثريا، ففتن بها جداً وغرق في عشقها، وأنجبت له ولداً اسمه يحيى، وأثّرت عليه حتى جعلت يحيى هو وريث عرش غرناطة، والمؤهل للحكم رسمياً هو ابن عائشة الحرة الذي هو محمد أبو عبد الله، الملقب بـ الصغير تفريقاً بينه وبين عمه أبو عبد الله محمد الذي هو الزغل، فقد كان أصغر من عمه في سنه وفي مقامه. والذي حصل في بلاد غرناطة أن الغالب بالله حتى يضمن ولاية العهد لـ يحيى ابنه من ثريا الجارية النصرانية قام بحبس ابنه الآخر أبي عبد الله محمد الصغير وحبس عائشة في قصر كبير، وقيّد حركتهما تماماً، وكثير من الشعب يأبون أن يقوم بالحكم رجل أمه جارية نصرانية، فقد كانوا مؤيدين لـ أبي عبد الله محمد الصغير أن يكون وريثاً لعرش أبيه بعد عمر طويل، فاستطاع الشعب تخليص الأم والابن من السجن، وقام أبو عبد الله محمد الصغير بثورة على أبيه، وتولى الحكم في بلاد غرناطة، وطرد أباه من بلاد غرناطة إلى الجنوب، فذهب الأب إلى أخيه الزغل في ملقة، وهكذا قُسِّمت البلد من جديد إلى قسمين، وكما يقولون: هم يضحّك وهم يبكّي، فانقسمت غرناطة إلى قسمين: قسم عليه الصغير في غرناطة، وقسم عليه الزغل وتحت حمايته أخوه الغالب بالله، فاستغل ملك إسبانيا فرديناند الثالث الموقف، وبدأ يهاجم حصون غرناطة؛ لأن هناك خلافاً وانشقاقاً داخل البلد، وبدأ يحاربه الصغير، وكانت هناك معاهدات بين الغالب بالله وبين ملك إسبانيا، لكن الصغير كان مخالفاً لنهج الغالب بالله، فقامت بينه وبين ملك إسبانيا حرب، فأُسر من قبل ملك إسبانيا، فاستطاع الزغل أن يضم غرناطة إلى أملاكه، فأصبحت غرناطة مملكة واحدة من جديد تحت إمارة الزغل والغالب بالله أبي محمد الصغير، وبعد سنة مات الغالب بالله همّاً وكمداً من الذي حدث في البلاد، لكن هذا ما جنته عليه نفسه. وعرض الزغل على ملك إسبانيا أن يسترد الصغير بأموال كثيرة لكن ملك إسبانيا رفض، فهو يفكّر في لعبة خطيرة جداً، فقد تعاقد مع الصغير وكان عمره (25) سنة، على أن يمكّن له في حكم بلاد غرناطة، بشرط أن يطرد منها الزغل بالكلية، وذلك بأن يشعل ثورة في شمال غرناطة، وملك إسبانيا يحاصر بجيشه ملقة من الجنوب، فبذلك تصبح غرناطة بين فكي كماشة، فإذا أتى الزغل إلى الجنوب لمحاربة ملك إسبانيا في ملقة فإن الصغير يدخل غرناطة ويسيطر عليها، فإذا تمكن النصارى من الاستيلاء على ملقة فإنها ستصير ملكاً لـ محمد الصغير ويصبح حاكماً على غرناطة باسم ملك إسبانيا، فوافق الصغير وسار بجيشه إلى شمال غرناطة، واتجه ملك إسبانيا فرديناند الثالث بجيوشه إلى ملقة، وتوجه الزغل سريعاً إلى ملقة لحرب النصارى هناك، لكنه لم يستطع مقاومتهم واستطاع النصارى أن يأخذوا ملقة منه، فعاد مسرعاً إلى غرناطة فوجدها في يد الصغير، فانطلق إلى شرق غرناطة إلى واد يسمى: وادي آش، واستقل بها وأخذها وأقام فيها جزءاً من مملكته، فصارت غرناطة كل وقت تتقلص وتتقسم نصفين، فهناك جزء في الشرق اسمه وادي آش على رأسه الزغل، وجزء الذي هو غرناطة على رأسه الصغير، وجزء الذي هو ملقة أخذه ملك إسبانيا، ومن المفروض أنه يرجعه للصغير فقد طلب من ملك إسبانيا أن يعيد له ملقة كما اتفقا، فقال له ملك إسبانيا: إن أنا سحبت جيوشي من هذه البلاد أتى الزغل وأخذها، فأنا سوف أُبقي جيوشي لحمايتك ثم أخذ ملقة، ثم مرت شهور واسترق أهل ملقة جميعاً، ولم يرع المعاهدة التي تمت بينه وبين الصغير، لكن هذا ديدنهم وهذه هي طبيعتهم، قال تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]، فـ الصغير معه ولاية غرناطة، وملقة في يد ملك إسبانيا، ثم انطلق ملك إسبانيا من ملقة إلى ألمرية وهي على ساحل البحر المتوسط واحتلها في سنة (895هـ)، ومنها توجه إلى وادي آش الذي هو بيد الزغل فأخذه منه، فهرب الزغل إلى تونس وترك البلاد بما فيها من المسلمين، وهكذا يفعل ملوك ذلك الزمان، وهكذا حوصرت مدينة غرناطة وقرى غرناطة ومز

انتفاضة موسى بن أبي غسان ضد الصليبيين في الأندلس وتسليم أبي عبد الله الصغير غرناطة للنصارى

انتفاضة موسى بن أبي غسان ضد الصليبيين في الأندلس وتسليم أبي عبد الله الصغير غرناطة للنصارى قامت في بلاد غرناطة في ذلك الوقت انتفاضة إسلامية قوية جداً بقيادة موسى بن أبي غسان وحرك الجهاد في قلوب الناس، وبدأ يحمّسهم على الموت في سبيل الله، وعلى الدفاع، فتحرك الشعب ليدافع عن غرناطة، وضلوا في دفاعهم طيلة سبعة أشهر كاملة، والمسلمون يدافعون عن حصون غرناطة ضد الهجمات الصليبية الشرسة، والصغير ينظر إلى تلك الأمور ويتفرج عليها وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً، ويتمنى أن يجد حلاً أو مخرجاً فلا يجد، لكن بعد سبعة أشهر من هذه الأمور يحدث أمر جديد، وهو أن يُرسل فرديناند الثالث وإيزابيلا رسالة إلى الصغير يطلبان منه فيها أن يسلم غرناطة، على أن يعطوه شروطاً كثيرة جداً تضمن له ولقومه ولجيشه الأمان، فقد أعطوه في تلك الرسالة أكثر من سبعين شرطاً يضمن له البقاء، فتترك المساجد ولا تدخل الديار، ويطلق الأسرى، وتؤمّن الأعراض والأموال، ويوضع الصغير كأحد الوزراء المعاونين لملك إسبانيا، لكن موسى بن أبي غسان الذي قاد الانتفاضة هناك في بلاد غرناطة في ذلك الوقت فهم مغزى الرسالة، من أنها محاولة من النصارى لوقف الانتفاضة ووقف الدفاع عن البلاد، ووقف الحمية للجهاد، ووقف حمية الناس للموت في سبيل الله، لكن الصغير وجدها حلاً مناسباً للخروج من المأزق، فهو لا يريد أن يجاهد ولا يريد أن يحارب، بل يريد أن يبقى حياً ولو في ذل، فوافق الصغير على المعاهدة، ولكنه اشترط لنفسه شرطين، لأجل أن يؤمن نفسه من خيانة النصارى، الشرط الأول: أن يقسم على هذه العهود فرديناند وإيزابيلا فأقسما على هذا الأمر. الشرط الثاني: أن يحكّم هيئة معينة تضمن تطبيق هذه المعاهدة، وهو البابا في إيطاليا، فوقع البابا على هذه المعاهدة، فسلم الصغير مفاتيح غرناطة، وأوقف حركة الجهاد في البلد في مقابل أن يعطوه الأمان، بعد أن وقع له بابا روما وأقسم على تلك العهود فردنياند وإيزابيلا. ففهم موسى بن أبي غسان رحمه الله هذا الأمر ووقف في قصر الحمراء، وقال: إن النصارى لا عهد لهم، ثم خطب خطبة مهيبة قال فيها: لا تخدعوا أنفسكم ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم، إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنفاق والمحارق، هذا ما سوف نعاني من مصائب بدلاً من الموت الشريف، أما أنا فوالله لن أرى كل هذا الذل، وسأموت الموت الشريف، وغادر المجلس وذهب إلى بيته ولبس سلاحه وركب جواده وانطلق يقابل سرية من سرايا النصارى، وكان عددهم خمسة عشر رجلاً فقتل معظمهم ثم قتل في سبيل الله، وهذا ما نسميه اليوم بالعملية الاستشهادية، وكان مقتل موسى بن أبي غسان وتسليم الصغير مفاتيح غرناطة إيذاناً بانتهاء عصر الدولة الإسلامية في مملكة غرناطة خاصة والأندلس عامة، فأعطى الصغير الموافقة للملكين فرناندو الثالث وإيزابيلا بدخول غرناطة، وأرسل لهم بعض الهدايا، ودخل الملكان القصر الكبير قصر الحمراء ومعهما الرهبان، وكان أول ما فعل أن علّق صليباً فضياً كبيراً فوق برج القصر الأعلى، وأُعلن من فوق البرج أن غرناطة أصبحت ملكاً لملكي الكاثوليكيين، وأن حكم المسلمين قد انتهى من بلاد الأندلس، وخرج أبو عبد الله محمد الصغير من القصر الملكي، وسار بعيداً في اتجاه المغرب ووصل إلى ربوة عالية تطل على قصر الحمراء يتطلع إلى القصر والمهد القديم، فلم يستطع أن يتمالك نفسه فانفجر بالبكاء حتى بللت دموعه لحيته، فقالت أمه عائشة الحرة: أجل، فلتبك كالنساء ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال. وهذا التل الذي وقف عليه أبو عبد الله محمد الصغير ما زال موجوداً في إسبانيا، وما زال الناس يذهبون إليه يتفرجون على هذا الملك الذي أسسه الأجداد، ويُعرف هذا التل في إسبانيا بزفرة العربي الأخيرة، وكان بكاء أبي عبد الله محمد الصغير لما ترك ملكه في (2) ربيع الأول سنة (897هـ) الموافق (2) يناير سنة (1492م)، ثم هاجر أبو عبد الله محمد الصغير إلى بلاد المغرب، وهناك اعتقله ملك المغرب بتهمة الخيانة لبلاد المسلمين ووضعه في سجنه، وكما يقول المؤرخون: إن أولاد محمد الصغير صاروا بعد سنوات يشحذون في شوارع المغرب، وهذا من نتائج الذل وترك الجهاد، فلقد اندثرت حضارة الدنيا والدين ما عرفت أوروبا مثلها من قبل، وارتفع علم النصرانية فوق سطح الإسلام المغلوب، وطويت صفحة خالدة، وليت شعري أين موسى بن نصير؟ وأين طارق بن زياد؟ وأين يوس

محاكم التفتيش ضد المسلمين في الأندلس

محاكم التفتيش ضد المسلمين في الأندلس قام بعد ذلك ما يسمى في التاريخ بمحاكم التفتيش للبحث عن أي مسلم متخف بالنصرانية، فكانوا إذا وجدوا رجلاً يدّعي النصرانية ويُخفي إسلاماً، كأن يجدوا في بيته مصحفاً أو يجدوه يغتسل من جنابة، أو لا يشرب خمراً أقاموا عليه حدوداً كثيرة، كانوا يعذبونهم في السجون تعذيباً شديداً، ويملئون بطونهم بالماء حتى الاختناق، ويضعون في أجسادهم السياخ المحمية، ويسحقون عظامهم بآلات ضاغطة، ويمزّقون الأرجل ويفتحون الفك! ويضعونهم في توابيت مغلقة بها مسامير حديدية ضخمة تنغرس في جسم المعذب تدريجياً، أو في أحواض يوضع فيها الرجل، ثم يسقط عليه الماء قطرة قطرة حتى يملأ الحوض ويموت، وكانوا يدفنونهم أحياء، ويجلدونهم بسياط من الحديد الشائك، ويقطعون ألسنتهم بآلات خاصة! وقد شاهد كل هذه الآلات جنود نابليون لما فتحوا إسبانيا بعد ذلك، حتى صور ذلك جنود فرنسا في كتاباتهم وقالوا: إن الجنود الفرنسيين كانوا يصابون بالغثيان والقيء والإغماء، من تخيل أن هذه الآلات كان يُعذّب بها بشر! نعم يا إخوة كان يُعذب بها مسلمون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

عوامل سقوط دولة الإسلام في الأندلس

عوامل سقوط دولة الإسلام في الأندلس بعد تاريخ الأندلس الطويل لأكثر من (800) سنة، لا بد للمسلمين أن يقفوا معه وقفات كثيرة يأخذون العبرة ويأخذون الدرس، ويكررون ما حدث من العظماء، ويتجنبون ما حدث من الأقزام الذين أدوا إلى هذا الحال الذي وصلنا إليه في آخر عهود الأندلس. سقطت بلاد الأندلس سقوطاً ليس بالمفاجئ، فقد استمرت أكثر من (200) سنة، وصبرت البلاد كثيراً بمساندة بني مرين وبخلاف النصارى، لكن الذي حدث في النهاية هو ما كان متوقعاً، لا بد أن ننظر ما الذي حصل في بلاد الأندلس حتى أدى إلى هذا الانهيار؟ ولو تكرر في أي وقت من الأوقات أو في أي بلد من البلاد ستكون العاقبة هي نفس العاقبة. عندما نحلل عوامل انحدار الأمم وضياع الأمم وسقوطها نجد أموراً متشابهة جداً في كل فترات الضعف في تاريخ الأندلس، ونجد أن هذه الأمور قد زادت بشدة في فترة غرناطة؛ ولذلك كان السقوط كاملاً وحاسماً، وهذه الأمور ما يلي: الأمر الأول: هو الإغراق بالترف، والركون الشديد إلى الدنيا وإلى الملذات والشهوات والخنوع والدعة والميوعة، فقد ترتبط دائماً فترات الهبوط بكثرة الأموال والانغماس في الملذات وميوعة شديدة جداً في شباب الأمة، وانحطاط كبير جداً في الأهداف، قال سبحانه وتعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء:11 - 13]، ارجعوا إلى قصر الحمراء، وسلموا غرناطة للنصارى، وتذوقوا الذل كما لم تعملوا للعزة وللكرامة. انظر إلى الرجل الذي كان يرثي سقوط غرناطة، والشعر هو الإعلام الذي يحفز الناس على أفكار معينة، يقول هذا الشاعر: غرناطة يا أجمل المدن لن تسري بعد اليوم نغمات العود الناعمة في شوارعك المقمرة ولن تُسمع ألحان العشاق تحت قصورك العالية وستسقط دقات الصنوج المرحة التي كانت تتناغم فوق تلالك الخصبة وستقف الرقصات الجميلة تحت عرائشك الوريفة وا حسرتاه! لن يستمع عربي بعد اليوم إلى البلابل تصدح في مروجك الفسيحة ولن يستروح أريج الريحان وأزهار البرتقال في ربوعك المؤنسة لأن نور الحمراء أُطفئ إلى الأبد تخيل بعد هذا السقوط الشنيع لبلاد غرناطة يقف رجل ويرثي غرناطة بهذه الكلمات، وهذا ما يهمه في تلك البلاد، لا يهمه الثغور التي خرجت منها الجيوش تجاهد في سبيل الله، ولا يهمه المكتبات، ولا يهمه المساجد التي حوّلت إلى كنائس، ولا يهمه المسلمون الذين قُتلوا بأيدي الصليبيين، وهذا من انحطاط أهداف الشباب، حتى أصبح حلم الشاب في حياته أن يكلم فتاة من الفتيات، أو يخرج معها أو يبادلها حباً غير مشروع لا يرضاه لأخته ولا لابنته، ويصور الشعراء هذا الحب على أنه أسمى درجات الحب، فيضحي الرجل من أجله، ويسمو عنده فوق كل حب، فوق حب الله، وحب رسوله، وحب الدين، وحب الجهاد، وحب الوالدين، وحب الوطن، وحب الفضيلة، بل وقد يضحي بحياته انتحاراً إذا فارق محبوبته! أي انحدار هذا؟ وأي انحطاط هذا؟ وأي سفاهة؟ وأي تفاهة؟ قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، تذكروا ما فعله زرياب وأمثال زرياب في تاريخ الأندلس، وكيف قادوا الشباب إلى الميوعة التي أسقطت بلاد الأندلس إلى الأبد؟ الأمر الثاني: ترك الجهاد في سبيل الله، وهو أمر ملازم لمن أُغرق في الترف، الجهاد سنة ماضية إلى يوم القيامة؛ شرعها الله ليعيش المسلمون في عزة، ويموتون في عزة ثم يدخلون بعد ذلك الجنة ويخلدون فيها، أين أولئك الذين كانوا يجاهدون في حياتهم مرة أو مرتين كل سنة بصفة مستمرة ودائمة؟ أين يوسف بن تاشفين وأبو بكر بن عمر اللمتوني والحاجب المنصور الموحدي وعبد الرحمن الناصر؟ أما ملوك غرناطة ومن كان على شاكلتهم فقد تركوا الجهاد في سبيل الله، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:38 - 39]. وال

الأسئلة

الأسئلة

فتح القسطنطينية وتزامنه مع سقوط الأندلس

فتح القسطنطينية وتزامنه مع سقوط الأندلس Q إذا كان الإسلام قد انتهى بالكلية من بلاد الأندلس فأي قيام بعد هذا الانتهاء؟ A حدث قبل سقوط الأندلس التام بأربعين سنة شيء غريب جداً وهو فتح القسطنطينية في سنة (857هـ)، فما غربت شمس الإسلام على أوروبا من ناحية المغرب إلا وتُشرق عليها من ناحية المشرق، فقد استبدل الله هؤلاء الذين باعوا وخانوا من ملوك غرناطة بالأندلس بغيرهم من العثمانيين المجاهدين الفاتحين الأبرار، الذين فتحوا القسطنطينية وما بعدها، وبدأ الإسلام ينتشر في شرق أوروبا انتشاراً أسرع من انتشاره في بلاد الأندلس وفرنسا، فهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى تبعث الأمل في نفوس المسلمين في كل وقت، فأمة الإسلام أمة لا تموت.

سبب ذهاب الإسلام من بلاد الأندلس

سبب ذهاب الإسلام من بلاد الأندلس Q لماذا انتهى الإسلام بالكلية من بلاد الأندلس؟ A المعروف أن بلاد الأندلس سابقاً وإسبانيا والبرتغال حالياً من أقل بلاد العالم تعداداً للمسلمين، حيث أن عدد المسلمين في إسبانيا بعد أن حكمت بالإسلام ثمانية قرون مائة ألف فقط، يعني أقل من المسلمين في مدينة من مدن أمريكا، فإن مدينة دالاس فيها مائة ألف مسلم، وهذا أمر في منتهى الغرابة! فالإسلام انتهى بالكلية من بلاد الأندلس كأفراد وكشعوب، ولن ينتهي من بلاد المسلمين الأخرى التي استعمرت استعماراً صليبياً، وقد طال في بعض الفترات، فمثلاً: احتلت الجزائر لمدة (130) سنة، ومصر (70) سنة، وكذلك احتل غيرها من البلاد، وفلسطين ما يقارب (200) سنة على يد الصليبيين، ومع ذلك لم يتغير المسلمون في البلاد، فقد ظلوا مسلمين وإلى الآن. وللمزيد من الإجابة عن هذا السؤال: أن الاستعمار الأسباني في بلاد الأندلس كان استعماراً استيطانياً إحلالياً، لا يدخلون بلداً إلا قتلوا من فيه من المسلمين جميعاً، فهي حروب إبادة رهيبة، أو يطردونهم إلى خارج البلد ويأتون بالنصارى من أماكن مختلفة إلى بلاد الأندلس، وبذلك لم يبق في بلاد الأندلس مسلمون، وهؤلاء الذين حكموا البلاد وعاشوا فيها بعد ذلك كانوا نصارى أبناء نصارى، وهذا على عكس الاحتلال في البلاد الإسلامية الأخرى كمصر والجزائر وليبيا وسوريا وغيرها، فإن الاحتلال فيها كان بالجيوش لا بالشعوب، واحتلال الجيوش مصيره إلى الخروج، وهذا يذكرنا بشيء في غاية الأهمية، وهو أن الاحتلال الاستيطاني الذي حدث في الأندلس لم يتكرر في بلاد العالم إلا في مكان واحد يخص المسلمين وهو فلسطين، ففلسطين والله ما هي إلا أندلس جديدة، وما يفعله اليهود الآن من تهجير اليهود إلى أرض فلسطين وإبادة الشعب الفلسطيني أو طردهم وتشريدهم، وإصرارهم على عدم عودة اللاجئين، والإكثار من المستعمرات ما هو إلا خطوة من خطوات إحلال الشعب اليهودي مكان الفلسطيني، حتى يضمن البقاء بعد ذلك لفترات متلاحقة وطويلة، والشعب الفلسطيني المشرد مصيره إلى النسيان، وسينساه العالم، بل وقد ينسى الفلسطينيون المشردون القضية، كما نسيها أهل الأندلس الذين هاجروا إلى بلاد المغرب وتونس والجزائر بعد عام أو عامين أو عشرة أعوام أو مائة عام، فقد مر على سقوط الأندلس (500) عام، فمن يفكر في تحريرها؟ فهكذا يريد اليهود بتهجير اليهود إلى بلاد فلسطين لإحلال الشعب اليهودي مكان الشعب الفلسطيني، فقضية فلسطين شديدة الشبه بالأندلس، ولا بد أن يعتبر المسلمون.

سبب عقد اتفاق السلام بين اليهود والفلسطينيين في مدريد

سبب عقد اتفاق السلام بين اليهود والفلسطينيين في مدريد Q لماذا عُقد اتفاق السلام الأخير بين اليهود والفلسطينيين في مدريد؟ A تمت المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين في مدريد سنة (1992م) إحياء لذكرى سقوط الأندلس الذي قد مر على سقوطها (500) عام، وإذا بشوارع مدريد تكتظ بالاحتفالات والمهرجانات لهزيمة المسلمين وانتصار الصليبيين في هذه الموقعة القديمة منذ (500) عام، وكأنهم يقولون لهم: ها هو التاريخ يتكرر، وها هي أحداث الأندلس تتكرر من جديد في فلسطين، وها هي الانتفاضة التي تحدث في فلسطين تُقتل كما قُتلت انتفاضة موسى بن أبي غسان في غرناطة، فلا داعي للحروب، ولا داعي للجدال والمحاورات الكثيرة؛ فإن مصيركم هو مصير الأندلس من قبل. نحن لا نذكر تاريخ الأندلس لنبكي على اللبن المسكوب، ولنعيش في صفحات الماضي كما يقولون، بل نذكره لنأخذ منه العبرة، قال تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] الذي يجب أن يشغلنا الآن هو أن نقف وقفة مع تاريخ الأندلس؛ لنفهم منه أحداث فلسطين والشيشان وكسوفا والبوسنة والهرسك وكشمير وغيرها من البلاد.

دور الشعوب والأفراد تجاه فلسطين لئلا تصبح أندلسا أخرى

دور الشعوب والأفراد تجاه فلسطين لئلا تصبح أندلساً أخرى Q ما هو دور الشعوب والأفراد في قضية فلسطين حتى لا تصبح مثل الأندلس؟ A هذا السؤال يا إخوة في غاية الأهمية، وإجابته موجودة في كل صفحة من صفحات تاريخ الأندلس، وفي كل صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي، وسنسرد إن شاء الله مجموعات خاصة للحديث عن دور المسلمين تجاه قضية فلسطين، لكن يجب على عموم المسلمين أن يرجعوا ويبحثوا ويتدبروا أمرهم، ويكونوا كالمؤمن الذي لا يُلدغ من جحر مرتين. وأختم بقوله سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.

§1/1