الأمثال القرآنية القياسية المضروبة للإيمان بالله

عبد الله بن عبد الرحمن الجربوع

المجلد الأول

المجلد الأول المقدمة ... الأمثال القرآنية القياسية المضروبة للإيمان بالله "مع نماذج من بعض الأمثال" المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} 1. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} 3. أما بعد: فبتوفيق من الله وفضل تم قبولي في الدراسات العليا، المرحلة العالمية

_ 1 سورة آل عمران آية (102) 2 سورة النساء آية (1) 3 سورة الأحزاب آية (70 - 71) .

العالية "الدكتوراه" بقسم العقيدة، بكلية الدعوة وأصول الدين، التابعة للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، بتاريخ 7/7/ 1414 هـ. وكان عليَّ أن أختار موضوعاً ليكون البحث فيه لنيل الدرجة المذكورة. وقد تم بتيسير الله اختيار موضوع هام، بعنوان: "الأمثال القرآنية القياسية المضروبة للركن الأول من أركان الإيمان الستة "الإيمان بالله"". وكان سبب اختيار الموضوع هو: الأهمية العظيمة للأمثال القرآنية عامة، والإيمانية منها خاصة.

أهمية الموضوع: يكتسب الموضوع أهميته من أهمية القرآن الكريم، حيث إنه في أمثاله وهي جزء منه. كما يكتسب أهمية بالغة من جهة أخرى حيث يتعلق بأشرف العلوم، الإيمان بالله. ويكتسب أهمية من جهة ثالثة حيث يبحث في الأمثال التي لها منزلة وأهمية كبيرة بين أساليب البيان. فللأمثال في اللغة مكانة رفيعة لما لها من دور بارز في الإقناع، وسرعة التفهيم، وإزالة الإشكال. وأحسن الأمثال هي أمثال القرآن الكريم لما حوته من المعاني الحسنة، والدلائل العميقة، المتضمنة للحكمة، ودلائل الحق في المطالب العالية. "وغاية المثل القرآني: إصلاح النفوس، وصقل الضمائر، وتهذيب الأخلاق، وتقويم المسالك، وتصحيح العقائد، وتنوير البصائر، والهداية إلى ما فيه خير الفرد، وصلاح الجماعة، والتنبيه إلى المساوئ لتجتنب، وإلى المحاسن لتقبل عليها النفوس الطيبة، والقلوب الزكية"1. والأمثال في القرآن الكريم من تصريف الآيات الَّذِي ورد في القرآن الكريم، كما قَال تعالى:

_ 1 أمثال ونماذج بشرية من القرآن الكريم، أحمد بن محمد طاحون (1/ 104) .

{انظُرْ كَيفَ نُصَرِّفُ الآياتِ ثُمَّ هُم يَصْدِفُون} 1. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} 2. وتصريف الآيات يشمل تنويع الحجج والبراهين على قضية واحدة، فيؤتى للقضية الواحدة بأكثر من دليل وبرهان، فتتابع عليهم الحجج وتُصرَّف لهم الأمثال والعبر.3 ويشمل تصريف الآيات تنويع الأساليب، فيؤتى بالدليل الواحد بأكثر من أسلوب: فتارة بالخبر، وتارة بالاستفهام، وأخرى بالنفي والإثبات، وأحيانا بضرب الأمثال أو القصص، ونحوها. وكل ذلك وارد في القرآن. فالأمثال جزء من البيان الإلهي، تسهم في إبراز الحقائق الإيمانية من خلال أسلوبها المتميز الفعال في تشخيص الحقائق والإقناع، والفصل عند الاشتباه والخلاف. وخاصة قضايا الإيمان التي وقع فيها الخلاف: كالأصول التي ينبني عليها الإيمان بالله، وأسباب الهدى والضلال، وتوحيد

_ 1 سورة الأنعام آية (46) . 2 سورة الإسراء آية (89) . 3 انْظر: جامع البيان، لابن جرير، (5/ 195) .

الألوهية وما يضاده من الشرك، والبعث بعد الموت، وحقيقة الأنبياء والأولياء وأن ليس لهم ولا فيهم من خصائص الألوهية شيء، وحال الدنيا وسرعة زوالها وسوء عاقبة الاغترار بها، ونحو ذلك من القضايا الهامة. والأمثال القرآنية يُفَصِّل الله بها آياته من الحجج والعبر والمواعظ، ونحوها. بين الله ذلك - سبحانه - بعد أن أورد مثلا لبيان حال الدنيا وما تؤول إليه، حيث قَال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1. وقد أشاد الله سبحانه بأمثال القرآن مبينا أنه اشتمل على كل مثل من الحق يحتاجه الناس، وأن السبيل قد استبان بتلك الأمثال. وما بقي على الناس إلا أن يتفكروا بها ويتذكروا. قَال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} 2.

_ 1 سورة يونس آية (24) . 2 سورة الكهف آية (54)

وقال: {وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ} 1. وقال: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ} 2. وبين سبحانه أن الأمثال من حجته البالغة على عباده. وأنه لم يعذب أمة بتكذيبها إلا بعد أن بين لها الأمثال. قَال تعالى: {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} 3. وقال تعالى: {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} 4. وبين تبارك وتعالى أن الأمثال المضروبة في القرآن من أسباب الهداية. وأنه سبحانه يهدي بها كثيرا ممن تدبرها وانتفع بها، ويضل كثيرا ممن أعرض عنها.

_ 1 سورة إبراهيم آية (25) . 2 سورة الحشر آية (21) . 3 سورة إبراهيم آية (44- 45) . 4 سورة الفرقان آية (39) .

قَال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الفَاسِقِينَ} 1. وبين سبحانه أنه ضرب للناس أمثالهم التي يتعرفون بها على الهدى والضلال، والخير والشر، والحق والباطل، وما آل إليه أهلها من العواقب الحميدة، أو النهايات السيئة الوخيمة. قَال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا البَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} 2. وأعظم أمثال القرآن أهمية، وأرفعها شأنا ومنزلة الأمثال الإيمانية، التي تبين أركان الإيمان، وتبين أسس الدين، وتعرف بالله رب العالمين، وبحقه على عباده، وغير ذلك من المطالب الإيمانية. الحاجة إلى دراسة الأمثال القرآنية: إن أكثر أمثال القرآن مضروبة للقضايا الكبار، والمطالب العالية، والمسائل الجليلة المتعلقة بأصول الدين، لذلك اختص أهل العلم

_ 1 سورة البقرة آية (26) . 2 سورة محمد آية (3)

بفهمها وتعلقها.1 قَال تعالى: {وَتَلْك الأمْثَال نَضْرِبُها للنَّاسِ وَما يَعقلهَا إِلا العَالمونَ} 2. وفي هذا توجيه لطلاب العلم إلى تفهم وتعقل الأمثال القرآنية، وتكليف لهم بشرحها وبيانها للناس. ففيه حث على تعلمها وتعليمها، ولأجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الأمثال. قَال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "عقلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل".3 قَال ابن كثير - رحمه الله -: "وهذه منقبة عظيمة لعمرو بن العاص رضي الله عنه حيث يقول الله تعالى: {وَتَلْك الأمْثَال نَضربهَا للنَّاس وَمَا يَعقِلهَا إِلا العَالمونَ} "4. وأولى من يقوم بذلك الأقسام العلمية في الجامعات الإسلامية المتخصصة في قضايا العقيدة، التي تعتني بإبراز ما كان عليه السلف الصالح من الدين في مسائل الإيمان وما يتصل بها، كقسم العقيدة

_ 1 انْظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (6/89 - 90) بتصرف. 2 سورة العنكبوت آية (43) . 3 رواه الإمام أحمد في مسند عمرو بن العاص، (ح17733) ، (13/505) تحقيق / حمزة أحمد الزين، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى،1416 هـ 4 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/414) .

بالجامعة الإسلامية. ولأجل هذه الاعتبارات مجتمعة: - الأهمية العظيمة للأمثال القرآنية الإيمانية. - وما أخذه الله من الميثاق على طلاب العلم من بيان القرآن للناس ومنه الأمثال. - وما يضطلع به قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية من العناية بكل ما يتعلق بالإيمان بالله ومسائل الاعتقاد. لأجل ذلك اخترت هذا الموضوع، وتم قبوله بالقسم والحمد لله، واستقر العنوان على ما أشرت إليه في بداية المقدمة. ولعل من علامات التوفيق استقرار العنوان على بحث الأمثال المتعلقة بالإيمان بالله، الركن الأول من أركان الإيمان الستة، الَّذِي هو أصل الإيمان. وذلك لتأخذ دراسة الأمثال الإيمانية تسلسلها الصحيح حين تبدأ من الركن الأول من أركان الإيمان. وقد اشتمل البحث على دراسة أمثال هي أصول في بيان أصل الإيمان، وأسباب الهداية، والضلال، ونحوها. كما اشتمل على دراسة آيات لها علاقة بالأمثال وهي أصول في التعريف بالله، وبيان تفرده بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال.

شرح العنوان: "الأمثال القرآنية القياسية المضروبة للركن الأول من أركان الإيمان الستة "الإيمان بالله"". الأمثال القرآنية: تخرج به الأمثال غير القرآنية. القياسية: تخرج به الأمثال غير القياسية كالأمثال التي بمعنى الحكم السائرة ونحوها. وينحصر البحث في الأمثال التي وردت بالقياس التمثيلي التشبيهي، أو بالقياس الشمولي، أو بقياس الأولى. ويدخل في ذلك ما تُوهِّم دخوله في أحدهما لبيان المراد به. المضروبة: ضرب المثل إما أن يكون بقرينة لفظية، وهي لفظ "مثل" أو أحد تصاريفه، مقرونا بلفظ "ضرب" أو "اضرب" أو بدونها. أو بقرينة معنوية، وهي ورود المثل بأسلوب التشبيه سواء ذكرت أداة التشبيه أم لم تذكر. وبذلك تخرج الأمثال التي لم يذكر فيها لفظ مثل وليست بأسلوب تشبيه، كالقصص، وسائر الحجج الواردة في القرآن الكريم. الإيمان بالله: المراد الركن الأول من أركان الإيمان القلبي الستة الواردة في حديث جبريل عليه السلام. وبذلك تخرج شعب الإيمان وأركانه الأخرى، وينحصر البحث في الأمثال المتعلقة بالإيمان القلبي الخاص بالركن الأول "الإيمان بالله". ومعلوم أن الإيمان بالله "الركن الأول" أصل لكل شعب الإيمان.

وكمالها داخل في الإيمان الكامل. وعليه فإن الأمثال الداخلة في هذا النوع هي الأمثال الأصول التي تتكلم عن طبيعة أصل الإيمان، وأسباب حصوله التي هي أسباب الهداية. وعن أسباب الضلال، وعن الذات الإلهية وما لها من الكمال ونحوه. أما المطالب الإيمانية التي يدخل أصلها في الركن الأول، وتكون تفاصيلها وكمالها داخلة في مفهوم الإيمان الكامل، فإن الأمثال المضروبة لتفاصيلها أو آثارها أو كمالها غير داخلة في هذا البحث. وهذا ينطبق على الأمثال المضروبة لتوحيد الألوهية. حيث إن أصله يشتمل عليه الإيمان بالله "الركن الأول"، ولكن كماله لا يتحقق إلا بالعمل وإخلاص العبادة لله. فهو داخل في مفهوم الإيمان الشامل.

الصعوبات: لم أواجه صعوبة - والحمد لله - في جمع المادة العلمية فهي تتعلق بأمثال القرآن، وقد تكفلت كتب التفسير والعقيدة بحفظ أقوال أهل العلم في ذلك. إلا أن البحث لم يخل من بعض الصعوبات في جوانب أخرى من أهمها: 1- تحقيق المعنى الراجح في كثير من ألفاظ الأمثال، وما يتعلق بها استناداً إلى الدلائل المعتبرة في المنهج المرسوم للبحث. 2- الكيفية التي ينبغي أن ينظم عليها البحث، وتوزيع المسائل على أبوابه وفصوله ومباحثه ومطالبه، ونحوها. ذلك أنه لم يسبق أن أفردت الأمثال الإيمانية ببحث مستقل، أو وضع لدراستها منهج مميز، ولاشك أن إبداع الشيء أصعب من محاكاته. 3- الإحساس النفسي بصعوبة البحث لتعلقه بتفسير القرآن الكريم، وقضايا الإيمان بالله، وذلك أمر ثقيل يتطلب التثبت والبحث في المراجع الموثوقة قبل إثبات المعاني والأقوال. 4- صعوبة المنهج المرسوم لهذا البحث الَّذِي يتطلب حصر الدلائل المختلفة على المعاني المختارة. وفي ذلك تقييد مفيد للباحث حيث يبعده عن التكلف والمجازفة، إلا أنه متعب يحتاج إلى روية وجهد.

المنهج المتبع في هذه الدراسة: أولا: في مجال دراسة الأمثال: إن المنهج الذي اتبعته في دراسة الأمثال هو المنهج التفصيلي التحليلي، وذلك أن لأهل العلم في دراسة الأمثال القرآنية طريقتين هما: الطريقة المجملة، والطريقة المفصلة. وقد أشار ابن القيم - رحمه الله - إلى هاتين الطريقتين في معرض كلامه على مثل النور في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِه كَمشْكَاةٍ} 1 فقال: "وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان: إحداهما: طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذا، وأسلم من التكلف. وهي تشبيه الجملة برمتها بنور المؤمنين، من غير تعرّض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ومقابلته بجزء من المشبه به وعلى هذا عامة أمثال القرآن2.... والطريقة الثانية: "طريقه التشبيه المفصل"3.

_ 1 سورة النور آية (35) . 2 قوله: "وعلى هذا عامة أمثال القرآن" استدراك منه لقوله في أول الكلام: "وفي هذا التشبيه لأهل المعاني ... "، وذلك لكي لا يظن أن هاتين الطريقتين خاصتان بذلك التشبيه فقط، فبيّن أنهما عامتان لسائر أمثال القرآن. والله أعلم. 3 اجتماع الجيوش الإسلامية، ص (8) .

وكلا هاتين الطريقتين مهمة ومطلوبة، ولها مميزاتها. فالأولى: أسهل وأسلم كما وصفها ابن القيم - رحمه الله - بقوله: "وهي أقرب مأخذاً، وأسلم من التكلف". ويناسب خطاب العامة ومن في حكمهم. والثانية: تبيّن خاصية الأمثال في دقة التصوير وسرعة التفهيم، وإصابة المعاني، وإزالة الإشكال، وإبراز الفوائد، ونحوها. كما تبيّن إعجاز القرآن، وبلاغته. وذلك أن الأمثال تفتح لمن يتأملها آفاقاً بعيدة من العلوم السامية، والفوائد المتعددة، يأخذ كل من يتفكر فيها من ذلك بقدر ما أعطاه الله من العلم والإدراك، وقد يجد غيره فوق ذلك. إلا أن الإحاطة بما أودع الله فيها من العلم أمر تقصر عنه عقول أولي الألباب، وتكلّ عن التعبير عنه بلاغة الفصحاء {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} 1. ومما يؤيد أهمية المنهج التفصيلي في دراسة الأمثال أن الله أخبر أن العلماء هم الذين يعقلونها بقوله: {وَمَا يَعقِلُهَا إِلا العَالمونَ} 2، وبين أن طريق ذلك هو التفكر فيها بقوله: {لَعَلهم يَتَفَكرُونَ} 3. وإنما يكون ذلك بإعمال

_ 1 سورة يوسف آية (76) . 2 سورة العنكبوت آية (43) . 3 سورة الأعراف آية (176) ، وسورة الحشر آية (21) .

أهل العلم عقولهم في صورة الممثَّل به، وفهم أجزائه، وما يقابلها من حال الممثَّل له، فيحصل بذلك فهمها وإدراك المراد بها، واستخلاص العبر والفوائد منها. كما أن المنهج التفصيلي متفق مع ما أخبر الله من أنه يفصّل الآيات بضرب الأمثال. ولا يحصل التفصيل إلا بالدراسة المفصّلة لها، قَال تعالى في سورة يونس بعد أن ذكر مثلا لحال الدنيا: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . أما ما أشار إليه ابن القيم - رحمه الله - من أن المنهج التفصيلي قد يحصل به تكلف في تعيين المراد بالمثل أو أجزائه، فهذا صحيح، وقد راعيت في منهج الدراسة - تلافياً لذلك - تعدد الدلائل على المعاني المختارة. ولاشك أن قيام أكثر من دليل على معنى ما دليل على قوته، وبعده عن التكلف والمجازفة. وحاولت السير على ذلك ما استطعت، وما قد يوجد من خلاف ذلك فهو لا يدل على خلل في المنهج، وإنما يدل على ضعف الباحث وغفلته. والمنهج الَّذِي يسره الله لهذه الدراسة لجانب من أمثال القرآن مهم حيث إنه يرسم طريقة واضحة المعالم متكاملة، تفيد في دراسة الأمثال القرآنية، والآيات الأصول الجامعة، ولم أجد فيما اطلعت عليه من المؤلفات في أمثال القرآن من انتهجه. وقد تم تطبيقه - بتوفيق الله - قدر الإمكان في الأمثال والآيات التي جرى بحثها.

أهم معالم المنهج: يقوم المنهج المتبع في هذه الدراسة على المنهج التفصيلي، حيث يتم دراسة المثل، وبيان ألفاظه، وتحليل أجزائه، وبيان ما يقابلها في الممثَّل له، وتحديد المعنى المراد بالممثَّل له بمقايسته بالمعنى المستخلص من الممثَّل به، وحشد الدلائل والشواهد على ذلك حسب الخطوات الآتية: 1- دراسة السياق الَّذِي ورد فيه المثل أو الآية وتحديد دلالته، والاستفادة منها في تحديد المعاني المرادة، والترجيح بينها. 2- تحديد صورة الممثَّل به، واعتبارها من الأدلة في تعيين الممثَّل له، وفي الترجيح بين الأقوال في ذلك. 3- تحديد أجزاء الممثَّل به، وما يقابلها في الممثَّل له، والمناسبة بين المتقابلات، والدلائل الأخرى التي تدل على تلك المقابلة. 4- اعتبار الدلائل اللغوية، وإيراد ما يحتاج إليه مما له أثر في إبراز المراد، من المعاني، والإعراب، والأساليب البلاغية ونحوها. 5- إيراد شواهد المعاني المختارة من أقوال أهل العلم من المفسرين وغيرهم، والتركيز على التفاسير التي تعتني بالتفسير بالمأثور، وأقوال السلف الصالح، والمعاني المستفادة من أقوالهم، والاستفادة من التفاسير الأخرى بقدر ما تدعو إليه الحاجة، ولا ألتزم بذكر جميع الأقوال الواردة

في ألفاظ المثل، وإنما أكتفي بالمشهور منها، وبعض أقوال أهل العلم الدالة عليها، أو أحيل إلى المراجع التي أوردتها، وبيان الراجح منها، والإجابة عن الأقوال المشهورة المرجوحة. 6- إيراد شواهد المعاني المختارة من نصوص الكتاب والسنة، لتكون دليلا على قوة تلك المعاني، يضاف إلى الدلائل الأخرى المتقدمة. 7- بيان أهمية المثل، والغرض الَّذِي ضُرب من أجله. 8- استنباط أهم الفوائد الإيمانية التي دل عليها المثل، والكلام عليها بالقدر الَّذِي أرى أنه يفي باستخلاص العبرة والحكمة منها. ثانيا: التوثيق: في مجال التوثيق أشير إلى اسم السورة، ورقم الآية. وقد خرجت الأحاديث من كتب السنة، فإن كان في الصحيحين أو أحدهما فإني أكتفي بالإشارة إلى موضعه ذاكرا اسم الكتاب والباب ورقم الحديث، والجزء والصفحة. وإن كان في غيرهما ذكرت بعض كتب السنة التي أخرجته، ثم أتبع ذلك ببعض أقوال أهل العلم التي تبين درجة الحديث وصلاحيته للاحتجاج به. أما الأقوال المقتبسة فإني أجعلها بين علامتي تنصيص، وأذكر في الهامش المرجع المقتبس منه. أما المعاني المقتبسة فإني أكتفي بوضع رقم في آخر المعنى المقتبس، وأشير في الهامش إلى المرجع المقتبس منه، مصدراً بلفظ "انظر".

ثالثا: التراجم. ترجمت للأعلام الذين ورد ذكرهم في المتن باختصار ما عدا المشاهير من الصحابة كالخلفاء الراشدين، والمعروفين منهم بكثرة رواية الحديث، والأئمة الأربعة ونحوهم، كما لم ألتزم بترجمة الأعلام المعاصرين.

الدراسات السابقة: لا توجد دراسة في المؤلفات القديمة أو المعاصرة مخصصة لدراسة الأمثال الإيمانية في القرآن الكريم. والكتب القديمة المؤلفة في أمثال القرآن لا تعتني كثيرا بالمباحث الإيمانية.1 وأوسع كتاب تناول الأمثال القياسية في القرآن هو "أمثال القرآن" للإمام ابن القيم - رحمه الله - وهو في الأصل جزء من كتابه "إعلام الموقعين"، تكلم فيه عن الأمثال للتدليل على أن القرآن أرشد إلى القياس، فهو لم يقصد دراسة الأمثال دراسة علمية، وإنما ساقه لبيان الغرض المذكور أعلاه، وضمنها فوائد أخرى قيمة. وهذا الكتاب هو الَّذِي استوحيت منه فكرة البحث. أما المؤلفات الحديثة في أمثال القرآن فقد تناولتها من جوانب متعددة. فمنها من سار على طريقة المفسرين بذكر معاني الألفاظ، والمعنى الإجمالي، وبيان المثل ونوعه، ككتاب "الأمثال في القرآن الكريم" للدكتور

_ 1 انظر لمعرفتها ومعرفة نبذة عن مناهجها: - الأمثال في القرآن الكريم، د. الشريف منصور بن عون العبدلي، ص (58-68) . - الأمثال العربية، دراسة تاريخية تحليلية، د. عبد المجيد قطامش، ص (149-151) .

الشريف منصور العبدلي. ومنها من درسها دراسة تربوية: مثل كتاب:"ظاهرة الأمثال في الكتاب والسنة وكلام العرب وآثارها في تربية الجيل المسلم" لمصطفى عيد الصياصنه. ومنها كتاب وعظي تربوي شامل، فيه نقول مفيدة، ومعان إيمانية كثيرة بعنوان "أمثال ونماذج بشرية من القرآن العظيم"، لأحمد بن محمد طاحون، إلا أن مؤلفه سار به على المنهج القديم في التأليف ولم يلتزم بالمنهج العلمي، وهو يركز على "التربية وتقويم المسالك وإصلاح النفوس" كما قَال مؤلفه في المقدمة. ومنها مؤلفات تُعنَى بالنواحي الأدبية والبلاغية لأمثال القرآن، مثل: "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع"، للدكتور عبد الرحمن حسن حبنكه. وهكذا فإن أمثال القرآن في البحوث الحديثة - كما وصفها أحد الباحثين1 فيها - "طرقت من ناحية اللغة، والتربية والتفسير، لكنه لا يعلم أن أحدا درسها من النواحي العقدية". وهذا البحث إن شاء الله هو باكورة الدراسات التي تُعنى بدراسة الأمثال الإيمانية، وسنة حسنة بإذن الله لطلاب العلم في ذلك.

_ 1 هو الدكتور الشريف منصور العبدلي، أفادني ذلك مشافهة عندما اتصلت به هاتفياً في بداية عملي في البحث عام 1414 هـ.

خطة البحث: لقد جرى البحث - بعون الله وتوفيقه - على الخطة التالية: المقدمة: وتكلمت فيها عن: سبب اختيار الموضوع وأهميته، وشرح العنوان، وأهم الصعوبات، والمنهج المتبع في هذه الدراسة، وإشارة إلى الدراسات السابقة في أمثال القرآن، وخطة البحث. الباب الأول: مقدمات في الأمثال وتعريف الإيمان. الفصل الأول: مقدمات في الأمثال. وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: المعاني الرئيسة للفظ "مثل". وفيه مطالب: - المطلب الأول: في المعنى الأول للمثَل، وهو: "القول السائر". - المطلب الثاني: في المعنى الثاني للفظ مثَل، وهو: "الوصف". - المطلب الثالث: في المعنى الثالث للفظ مثَل، وهو "الشبيه والنظير". - المطلب الرابع: في المعنى الرابع للفظ مثَل، وهو: "المثال". - المطلب الخامس: تحديد أي أنواع المثَل هو المقصود بهذه الدراسة. - المطلب السادس: المراد بضرب الأمثال. المبحث الثاني: مقومات المثل القياسي.

وفيه مطلبان: - المطلب الأول: اشتماله على القياس. - المطلب الثاني: اشتماله على الحكمة. المبحث الثالث: أهمية الأمثال القرآنية وأغراضها. وفيه مطلبان: - المطلب الأول: في بيان أهمية أمثال القرآن. - المطلب الثاني: أغراض الأمثال القرآنية. الفصل الثاني: مقدمات في تعريف الإيمان. وفيه مبحثان: المبحث الأول: تعريف الإيمان في اللغة. المبحث الثاني: المعاني الشرعية للفظ "الإيمان". وفيه مطالب: - المطلب الأول: أدلة تنوع المراد بلفظ "الإيمان" شرعا. - المطلب الثاني: بيان أصل الإيمان. - المطلب الثالث: تعريف الإيمان القلبي. - المطلب الرابع: تعريف الإيمان الكامل. الباب الثاني: الأمثال المضروبة لاستنارة قلوب المؤمنين، وظلمة قلوب الكافرين في سورة "النور".

وفيه فصلان: الفصل الأول: المثل المضروب لنور الله في قلوب المؤمنين. وفيه عدة مباحث: المبحث الأول: دلالة السياق الَّذِي ورد فيه المثل. المبحث الثاني: دراسة المثل. وفيه عدة مطالب: - المطلب الأول: بيان نوع المثل. - المطلب الثاني: بيان صورة الممثَّل به. - المطلب الثالث: بيان الممثَّل له. - المطلب الرابع: بيان ما يقابل أجزاء الممثَّل به. المبحث الثالث: الغرض من ضرب المثل وأهميته. المبحث الرابع: أهم الفوائد المستفادة من مثل "النور". المبحث الخامس: خلاصة دراسة مثل النور. الفصل الثاني: المثلان المضروبان لأعمال الكفار من سورة النور. وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: دلالة السياق الَّذِي ورد فيه المثلان. المبحث الثاني: الغرض الَّذِي من أجله ضُرب المثلان، وأهميتهما. وفيه مطلبان: - المطلب الأول: الغرض الَّذِي ضرب له المثلان.

- المطلب الثاني: أهمية المثلين. المبحث الثالث: دراسة مثَل السراب من سورة النور. وفيه عدة مطالب: - المطلب الأول: نوع المثَل. - المطلب الثاني: تعيين الممثَّل به. - المطلب الثالث: تعيين الممثَّل له. - المطلب الرابع: الفوائد المستنبطة من مثل السراب. المبحث الرابع: دراسة مثَل الظلمات من سورة النور. وفيه مطالب: - المطلب الأول: نوع المثل. - المطلب الثاني: بيان الممثَّل به. - المطلب الثالث: بيان الممثَّل له. - المطلب الرابع: الفوائد المستفادة من مثَل الظلمات. الباب الثالث: الأمثال المتعلقة بذات الله تعالى. وفيه فصلان: الفصل الأول: في النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى. وفيه مباحث: المبحث الأول: في دلالة السياق الَّذِي ورد فيه النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى.

المبحث الثاني: المراد بالأمثال التي نُهِيَ عن ضربها لله عز وجل. المبحث الثالث: في أهم الفوائد المستفادة من النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى. الفصل الثاني: في ثبوت تفرد الله تعالى بالمثل الأعلى، وما جرى على قاعدة قياس الأولى من الأمثال. المبحث الأول: في دلالة السياق الَّذِي ورد فيه إثبات المثَل الأعلى لله تعالى. المبحث الثاني: في المراد بالمثَل الأعلى، ودراسة الآيات الدالة على ذلك. المبحث الثالث: في دلالة ثبوت المثَل الأعلى لله عز وجل على قاعدة قياس الأولى. المبحث الرابع: نماذج من الأمثال والحجج الجارية على قياس الأولى. المبحث الخامس: بعض الفوائد المستفادة من هذا الفصل. الخاتمة: وبينت فيها أهم نتائج البحث والتوصيات. الفهارس: وتشتمل على ما يلي: فهرس الآيات، وفهرس الأحاديث، وفهرس تراجم الأعلام، وقائمة المصادر والمراجع، وفهرس المحتويات.

هذا وقد بذلت جهدي وطاقتي الضعيفة القاصرة، ولم آلُ جهداً، وأرجو أن أكون قد وفقت للصواب. ألا وإنّ الله متفرد سبحانه بالكمال، وحكَم على البشر بالعجز والقصور وذلك سارٍ على كل إنسان، فلا يسلم أحد من الخطإ إلا مَن عصمه الرحمن. وحسبي أني اجتهدت في تحري الحق ولم أتعمد الخطأ. فما كان فيه من صواب فمن الله وله الحمد، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان واستغفر الله.

شكر....... وتقدير هذا وأحمد الله وأشكره على عظيم منته وكريم فضله، حيث وفقني لسلوك طريق العلم، ويسر لي الالتحاق بالجامعة الإسلامية والتزود من علومها، وأعانني على كتابة هذا البحث الَّذِي أرجو أن يكون على الوجه الَّذِي يرضيه، وأن يكون خالصا صوابا نافعا، وله الحمد على نعمه التي لا تحصى. وأولى من يوجه له الشكر من الناس - بعد شكر الله تعالى - حكومة خادم الحرمين الشريفين - حفظها الله - على ما قدمته للإسلام والمسلمين من خدمات جليلة، منها رعايتها هذه الجامعة العريقة المباركة، الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.. التي تخرج في كلياتها الآلاف من أبناء المسلمين، انطلقوا في الأرض دعاة ومعلمين، مزودين بالعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح. ثم أتوجه بالشكر لكل من كان له فضل علي في إتمام هذا البحث، وعلى رأسهم شيخي المشرف على البحث الأستاذ الدكتور: أحمد بن عطية الغامدي على ما أبداه من الحماس للبحث، والحرص على إتقانه، والذي زودني بنصائحه وتوجيهاته القيمة التي أسهمت في إنجاز هذا البحث وتخطي ما يعرض فيه من إشكال. وكانت أوقات التقائي به فرصة للاستفادة من علمه وتجاربه. فله مني جزيل الشكر والتقدير، وأسأل الله العلي القدير أن يجزل له المثوبة، وأن يرفع منزلته في الدنيا والآخرة. كما أتقدم بالشكر والعرفان للجامعة الإسلامية ممثلة بمديرها معالي

الدكتور/ صالح بن عبد الله العبود، ومديرها السابق معالي الدكتور/ عبد الله بن صالح العبيد، على إتاحة الفرصة لي لمواصلة تعليمي العالي، وما تقدمه لطلاب العلم من خدمات من أهمها: المكتبات القيمة التي يسرت - بفضل الله - عملية البحث، وما يجده طلاب العلم من المسؤولين من حسن الرعاية والتشجيع. وأخص بالشكر - أيضا - قسم العقيدة برئاسة الشيخ الدكتور / صالح بن سعد السحيمي، ومجلس كلية الدعوة وأصول الدين وعلى رأسهم عميد الكلية الدكتور / عبيد السحيمي، وأصحاب الفضيلة أعضاء المجلس العلمي، على ما بذلوه من جهد في رعاية البحث وتوجيهه. كما أشكر كل من ساعدني في إتمام هذا البحث من الأساتذة، والزملاء، بإبداء رأي أو نصيحة، أو إعارة كتاب أو إرشاد إلى مرجع، أو غير ذلك. وأسأل الله للجميع التوفيق والثبات على الحق في الدنيا، وعظيم الأجر في الآخرة. والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كتبه: عبد الله بن عبد الرحمن المنصور الجربوع المدينة المنورة 10/6/1419 هـ

_ .

الباب الأول: مقدمات في الأمثال ... وتعريف الإيمان

الباب الأول: مقدمات في الأمثال ... وتعريف الإيمان الفصل الأول: مقدمات في الأمثال المبحث الأول: المعاني الرئيسة للفظ "مثَل" المطلب الأول: في المعنى الأول للمثل ... المبحث الأول: المعاني الرئيسة للفظ "مثَل". يخصص أهل المعاجم اللغوية والمفردات مساحة كبيرة نسبياً لدراسة معنى "المثَل" وذلك لكثرة معانيه، والأصول التي أخذت منها تلك المعاني، وما تصرف من مادة "مثَل" من المصادر، وذكر الشواهد اللغوية وغير ذلك من المباحث. إلا أن العادة المتبعة في تعريف مادة "مثَل" في أغلب ما اطلعت عليه من الكتب - التي تكلمت عن هذه المادة - كانت بإيراد معنى مختار لتعريف "المثَل" ثم ذكر المعاني الأخرى، وأحياناً تجعل المعاني الأَخرى أَنواعاً مع أنها تغاير في الحقيقة المعنى المختار الذي صدر بذكره، وهذا المنهج يسبب صعوبة في الفهم وتداخلاً في المعاني. ولذلك سأذكر المعانيَ الرئيسة التي تدور عليها معاني "المثل"، وحدَّها اللغوي، واشتقاقها، وبعض شواهدها، وما تدعو إليه الحاجة مما يتصل بها من المباحث، ثم أتبع ذلك بذكر ورود كل نوع في الكتاب والسنة، ذاكراً بعض الشواهد منهما. وسوف أفرد لكل معنى منها مطلباً مستقلاً. ثم أفرد مطلباً خامساً لبيان أيِّ معاني الأمثال هي المقصود بهذه الدراسة، ثم مطلباً سادساً لبيان المراد بضرب الأمثال -واللَّه المستعان-.

المطلب الأول: في المعنى الأول للمثل، وهو: القول السائر: يطلق لفظ "مثل" علماً على كل قول اشتهر، وتناقلته الألسن وكثر تمثل الناس به. والقول السائر هو الذي يشبَّه مضربه1 بمورده2. وهو مأخوذ من التمثل أي: الإنشاد. قال جرير3 الشاعر: [ملف الجداول] والتغلبيّ إذا تنحنح للقرى حكَّ أسته وتمثل الأمثالا4 وحدّه كما قال الراغب5 الأصفهاني:

_ 1 يراد بمضرب المثل: الحالات والمواقف المتجددة التي يمكن أن يستعمل فيها المثل، لما بينها وبين مورد المثل من التشابه. انظر: الأمثال العربية، دراسة تحليلية تاريخية، د. عبد المجيد قطامش، ص (14) ، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 1408هـ. 2 مورد المثل، يراد به: الحالة التي قيل فيها ابتداءً. انظر: نفس المرجع. 3 هو جرير بن عطية الخطفي بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب من يربوع التميمي أبو حزرة، الشاعر، ولد باليمامة، وتوفي بها سنة 110هـ. انظر: وفيات الأعيان، لابن خلكان، (1/127) ، وطبقات الشعراء لابن سلام، ص (86) . 4 لسان العرب لابن منظور، دار صيدا، (47/611) . 5 الحسين بن محمد بن المفضل، المعروف بالراغب الأصفهاني، من أهل أصفهان، سكن بغداد، ومن مؤلفاته: محاضرات الأدباء، والذريعة إلى مكارم الشريعة، والمفردات في غريب القرآن.. وغيرها، توفي سنة 502هـ. انظر سير أعلام النبلاء، (18/120) ، والأعلام، لخير الدين الزركلي، (2/255) .

"والمثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً في شيء آخر، بينهما مشابهة، ليبين أحدهما الآخر ويصوره، نحو قولهم "الصيف ضَيَّعتِ اللبن"1"2. الأقوال السارية والتشبيه: تنقسم الأمثال السارية باعتبار اشتمالها على التشبيه إلى أقسام: 1 - ما شبه مضربه بمورده، وكان أسلوبه تشبيهاً. مثل قولهم: "كمجير أم عامر"3. فإِن الأسلوب تشبيه، ويضرب لتشابه مضربه - أي: الحال التي تمثل به لها - مع الحال التي أطلق فيها أولاً.

_ (ضيعتِ) بكسر التاء وإِن خاطبت به مذكراً، لأن الأمثال تحكى، فلا تغير عن صيغتها التي تمثل بها أول مرة. ويضرب هذا المثل لمن يضيع الأمر ثم يريد استدراكه، انظر: جمهرة الأمثال، لأبي هلال العسكري، (1/575) المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1384هـ. 2 المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، ص (462) ، ت: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، تاريخ: بدون. 3 يضرب لمن يضع المعروف في غيره أهله، ولمن يُكافَأُ بالسوء على إحسانه. انظر: مجمع الأمثال للميداني، (2/144) ، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، الطبعة الثانية، 1379هـ.

2- ما شبه مضربه بمورده، لكن الأسلوب ليس تشبيهاً، كقولهم: "الصيف ضيعتِ اللبن". وتشبيه المضرب بالمورد إنما هو من باب الاستعارة التمثيلية1، حيث تستعار حال من ضُرب له أولاً، لحال من ضُرب له آخراً لوجود التشابه بينهما.2 3 - الحِكَم وجوامع الكلم والأقوال التي ليس لها مورد، وليست أُسلوباً تشبيهياً. كقولهم: "إن القليل بالقليل يكثر"3 وتمثلهم بقول الشاعر: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم4

_ 1 الاستعارة التمثيلية:"تركيب استعمل في غير ما وضع له، لعلاقة المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي". انظر: علم البيان، د. عبد العزيز عتيق، ص (192) ، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ. 2 انظر: زهر الأكم في الأمثال والحكم، للحسن اليوسي، تحقيق: محمد حجي ود. محمد الأخضر، (1/22) ، الدار البيضاء، دار الثقافة، الطبعة الأولى، 1401هـ. 3 انظر: ديوان أبي العتاهية، الأرجوزة ذات الأمثال، ص (493) دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1384هـ. 4 انظر: ديوان المتنبي، أحمد بن الحسين الجعفي، ص (385) دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، التاريخ: بدون.

فالأسلوب ليس تشبيهاً، وليس هناك مورد للمثل تشبه به حال مَن ضُرب له. 4 - ما كان أسلوبه تشبيهاً ولكن ليس له مورد يشبه به مضربه، كتمثلهم بقول: الخنساء1 - رحمها اللَّه -: "كأنه علم في رأسه نار"2. فهذا ليس فيه واقعة أو حال سابقة ضرب لها، وإنما تشبيه بصورة محسوسة يتخيلها السامع. تدوين أمثال العرب السارية: لقد اعتنى الأدباء والعلماء قديماً وحديثاً بتدوين الأمثال السارية ودراستها، واستخلاص الفوائد والعبر منها، وامتد ذلك إلى دراسة الأمثال المعربة، والأمثال العامية. والمؤلفات في هذا الباب تقارب المائة كتاب أو تزيد.3

_ 1 هي تماضر بنت عمرو بن الحارث، والخنساء لقب غلب عليها، من الشاعرات المخضرمات، أسلمت مع قومها بني سليم، وهي من الشاعرات المجيدات توفيت سنة 24هـ. انْظر: أسد الغابة (7/88) ، والأعلام للزركلي (2/86) . 2 يضرب للشيء الظاهر المشتهر، انظر: مجمع الأمثال، (1/155) وديوان الخنساء، دار صادر، ص (49) . 3 انظر لمعرفتها كتاب: الأمثال العربية ومصادرها في التراث، لمحمد أبو صوفة من ص (29-37) ، مكتبة الأقصى، الطبعة الأولى، (1302هـ) . وكتاب: الأمثال العربية، دراسة تاريخية تحليلية، د. عبد المجيد قطامش من ص (39 - 122) .

ورود هذا النوع في القرآن الكريم: إِن القول الموجز الحكيم إذا سار بين الناس، وكثر تمثلهم به يصبح مثلاً. ومن ذلك بعض الآيات الكريمة أو أجزاؤها التي تداولها الناس، ولم تُعدّ من الأمثال عند أول نزولها، ولكنها اعتبرت أمثالاً، بعد أن سارت على الألسن وتمثل بها. وأمثلة ذلك كثيرة منها: تمثلهم بقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} 1. وقوله: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} 2. وقوله: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} 3. وقوله: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} 4.

_ 1 سورة التوبة، الآية رقم (91) . 2 سورة الرحمن، الآية رقم (60) . 3 سورة يوسف، الآية رقم (51) . 4 سورة يونس، الآية رقم (36) .

وقوله: {وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} 1. وقوله: {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} 2 ونحوها كثير. "وقد استطاع بعض الدارسين المعاصرين أن يجمع منها نحو سبعمائة مثل3، وإن كان من الممكن أن يحصيَ الإِنسان أَكثر من هذا العدد"4. ورود هذا النوع في السنة المطهرة: لقد خص اللَّه نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم وبدائع الحِكم. قال صلى الله عليه وسلم "بُعثت بجوامع الكلم"5. قال ابن حجر - رحمه اللَّه - في بيان المراد بجوامع الكلم: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بالقول الموجز، القليل اللفظ، الكثير المعاني"6.

_ 1 سورة فاطر، الآية رقم (43) . 2 سورة الأنفال، الآية رقم (19) . 3 أمثال القرآن وأثرها في الأدب العربي إلى القرن الثالث الهجري، لنور الحق تنوير. (رسالة ماجستير، محفوظة بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة) ص (112-115) نقلاً عن كتاب: الأمثال العربية، د. عبد المجيد قطامش. 4 الأمثال العربية، دراسة تاريخية تحليلية، د. عبد المجيد قطامش، ص (130) . 5 متفق عليه، البخاري: في كتاب الجهاد باب "نصرت بالرعب"، ح (2977) ، الصحيح مع الفتح (6/128) ، ومسلم: في كتاب المساجد ح (523) ، صحيح مسلم ت: محمد عبد الباقي (1/ 371) . 6 فتح الباري (13/247) .

وقد أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم أقوال موجزة، وكلمات جامعة حكيمة سارت وفشت بين المسلمين فأصبحت أمثالاً - فمن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين"1. وقوله: "ليس الخبر كالمعاينة"2. وقوله: "الحرب خُدْعَة"3. وقوله: "هذا حين حمي الوطيس"4 وفي رواية: "الآن حمي الوطيس"5.

_ 1 متفق عليه، البخاري: كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن..، ح (6133) الصحيح مع الفتح (10/529) . ومسلم: كتاب الزهد، باب لا يلدغ المؤمن.. ح (2998) صحيح مسلم (4/ 2295) . 2 رواه الإمام أحمد، المسند، (1/271) ، والحاكم في المستدرك (2/321) ، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. 3 متفق عليه. البخاري: كتاب الجهاد، باب الحرب خدعة، ح (3030) الصحيح مع الفتح (6/158) ، مسلم: كتاب الجهاد، باب جواز الخداع في الحرب، ح (1739) الصحيح تحقيق عبد الباقي (3/ 1361) . 4 رواه مسلم: كتاب الجهاد، باب: غزوة حنين، ح (1775) صحيح مسلم (3/ 1399) . 5 رواه الإمام أحمد وغيره، المسند (1/207) .

وقوله: "رُبَّ مُبلَّغ أوعى من سامع"1. ونحوها كثير.2

_ 1 رواه البخاري، كتاب الحج باب الخطبة أيام منى، ح (1741) الصحيح مع الفتح (3/574) . 2 انظر: أمثال الحديث للقاضي أبي محمد الرامهرمزي تحقيق: عبد العلي عبد الحميد، الدار السلفية، بومباي، وكتاب الأمثال في الحديث النبوي للحافظ أبي الشيخ الأصفهاني، تحقيق: د. عبد العلي عبد الحميد، الدار السلفية بومباي، وهما كتابان محققان، بيّن فيهما المحقق الصحيح والضعيف مما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأمثال.

المطلب الثاني: في المعنى الثاني للفظ "مثل"

المطلب الثاني: في المعنى الثاني للفظ "مثل": يطلق لفظ "مثل" بمعنى وصف الشيء.1 وهذا المعنى لم أقف فيما اطلعت عليه من القواميس، وكتب المفردات على شواهد له من اللغة، وزعم بعض أهل العلم باللغة أنه غير معروف من كلام العرب.2 وهذا الزعم يرده ورود استخدامه في القرآن الكريم كثيراً، حيث فَسَّر لفظ "مَثل" بمعنى "الصفة" بعض العلماء المتقدمين الذين اعتنوا بالتفسير ومعاني مفردات القرآن الكريم، وهم أدرى بمعانيه، كما أن أغلب مصادر المفردات تثبت هذا المعنى. ورود هذا المعنى في القرآن الكريم: قال الراغب الأصفهاني: وهو يبين معنى "مَثَل" و "مِثْل": "وقد يعبر بهما عن وصف الشيء"3. وقال ابن جرير4 - رحمه اللَّه - في تفسير قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ

_ 1 انظر: لسان العرب (47/610) ، دار صادر، بيروت، والمفردات للراغب الأصفهاني ص (462) ، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت. 2 انظر: لسان العرب (47/611) . 3 المفردات في غريب القرآن ص (462) . 4 الإمام الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، صنف التفسير (جامع البيان) والتاريخ، وتهذيب الآثار، توفي سنة 310هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (14/267) ، والبداية والنهاية، (11/ 156) .

الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} 1. "يقول تعالى ذكره: صفة الجنة التي وعدها المتقون"2. وقال الراغب الأصفهاني في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 3: "وقيل المِثل ههنا هو بمعنى الصفة، ومعناه: ليس كصفته صفة"4، وكذلك فسره بمعنى الصفة في قوله تعالى: {لِلّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السّوْءِ وَلِلّهِ المَثَلُ الأعْلَىَ} 5. وقال الإمام الشوكاني6 في قوله تعالى:

_ 1 سورة الرعد، الآية رقم (35) . 2 جامع البيان عن تأويل القرآن، لأبي جعفر ابن جرير الطبري، (26/49) شركة مصطفى البابي، مصر، الطبعة الثالثة، 1388هـ. 3 سورة الشورى، الآية رقم (11) . 4 المفردات في غريب القرآن ص (462) . 5 سورة النحل، الآية رقم (60) . 6 محمد بن علي بن محمد الشوكاني الفقيه المحدث، من أهل اليمن، صنف: نيل الأوطار، وفتح القدير، والسيل الجرار، توفي سنة 1250هـ. انظر: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، (2/ 214) ، والأعلام للزركلي (6/298) .

{مُحَمّدٌ رّسُولُ اللهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى الكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ} 1 الآية. قال: "والإشارة بقوله "ذلك" إلى ما تقدم من الصفات الجليلة..، {مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ} أي وصفهم الذي وصفوا به في التوارة"2. وقد قرر بعض الباحثين3 المعاصرين معنى بديعاً هو: أن لفظ "مَثَل" و "مِثْل" إذا اقترنا بكاف التشبيه، فإِن الأقرب تفسيرهما بمعنى: وصف، حيث قال: "فيمكن أن نقول4 في {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : ليس كوصفه شيء،

_ 1 سورة الفتح، الآية رقم (29) . 2 فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية، من علم التفسير، لمحمد بن علي الشوكاني، (5/56) ، شركة مصطفى البابي، مصر، الطبعة الثانية، 1383هـ. 3 عبد الرحمن بن حسن حبنكه الميداني، أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع، تأملات وتدبر، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية، 1412هـ. 4 قول د. عبد الرحمن حبنكة: "فيمكن أن نقول"، قد يفهم منه أن ما بعده إِنما هو معنى استنتجه وتوصل إليه من تأمله في النصوص التي قدم بها، والحال أنه مسبوق إلى هذا المعنى، وما ذكره من تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إنما اقتبسه من كلام الراغب في المفردات ص (462) . إلا أن الأجدر بالتنبيه حول منهج د. عبد الرحمن حبنكه في كتابه: "أمثال القرآن" هو معالجته مباحث الكتاب بتأمله وتدبره الخاص، بما في ذلك القضايا العقدية، وربما اقتبس بعض المعاني وعرضها دون تفريق بينها وبين ما توصل إليه بتأمله. وهذه الطريقة مع ما فيها من مخالفة منهج البحث العلمي، فهي تُجرِّيء على الخوض في تفسير كتاب اللَّه، وتقرير مسائل الاعتقاد بالنظر العقلي المجرد، والواجب السير على نهج السلف الصالح من تفسير كتاب اللَّه وبيان الدين من خلال ربط الآيات بعضها ببعض، وتفسير القرآن بالمأثور، من الأحاديث الصحاح، وكلام سلف الأمة وأئمة الدين، ثم التعقيب بالشرح والتوضيح، بعد أن يُؤصَّل لذلك الفهم.

أي لا يشبه أوصافه شيء من الأشياء1، وذلك لأَنَّ المِثْل والمَثَل يستعملان

_ 1 قوله في تفسير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : "أي لا يشبه أوصافه شيء من الأشياء"، قول مجمل يحتاج إلى تفصيل. فإذا كان المراد نفي التشابه في حقيقة الصفات التي اختص اللَّه بها فهذا صحيح. وإذا كان المراد نفي مطلق التشابه، فهذا غير مسلّم، وذلك أنه: "ما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء ويفترقان في شيء، فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه" [الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص (33) ] . وكذلك أسماء اللَّه وصفاته، وأسماء المخلوقين، وصفاتهم، بينها اشتباه من وجوه، وافتراق من وجوه. فهي تشترك في الألفاظ، حيث يقال: "اللَّه العزيز" ويقال: "العبد العزيز"، فهذا اشتراك في الألفاظ. وهناك الاشتراك في المعاني العامة لألفاظ الصفات عند التجرد من الإضافة والتخصيص. قال شيخ الإسلام ابن تيمية [الرسالة التدمرية ص (7-8) ] :

_ واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإِضافة والتخصيص والتقييد ولا في غيره". ويفترقان في حقيقة الصفة وكيفيتها، فللَّه صفات تليق به - سبحانه - وللمخلوق صفة تليق به، فيمتنع اشتراكهما فيما يختص به الخالق - سبحانه - ولا يشابهه مخلوق في شيء من خصائصه. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -[الرسالة التدمرية ص (8) ] : "ولهذا سمى اللَّه نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره، وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص. ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماهما واتحاده - عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص - اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص". وهذا التفريق بين ما تشترك وما تفترق فيه الصفات، مهم لإزالة الاشتباه، وذلك أن كثيراً من الضلال والإلحاد في أسماء اللَّه وصفاته إنما هو بسبب الاشتباه في هذا الباب، وعدم التفريق بين ما يحصل فيه الاشتراك وما لا يجوز فيه. فمنهم من حمله ما يلاحظ من التشابه في الألفاظ والمعاني العامة على تعطيل أسماء اللَّه وصفاته، ومنهم من حمله ذلك على المبالغة في التشبيه حتى شبهوا الخالق بالمخلوق، وزعم بعضهم أن وجود المخلوقات عين وجود الخالق. "مع أنه لا شيء أبعد عن ممثالة شيء أو أن يكون إياه، أو متحداً به، أو حالاً فيه، من الخالق مع المخلوق" [نفس المرجع ص (33) ] . أما أهل العلم والذكر المستنيرون بنور الوحي، فإنهم يفرقون بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه، ويعلمون ما بينها من الجمع والفرق والتشابه والاختلاف، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام، لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق. [نفس المرجع (34) ] . والحاصل أن تلك العبارة مجملة موهمة، والأَوْلى لو قال في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : "أي لا يشبه أوصافه شيء من الأشياء في حقائقها" أو أن يستخدم اللفظ الشرعي، وهو نفي التمثيل، فيقول: "أي لا يماثل أوصافه شيء من الأشياء" - واللَّه أعلم-.

بمعنى الوصف. وبهذا ينحل الإشكال الذي ألجأ العلماء إلى تأويل اجتماع كلمتي تشبيه: هما "الكاف" و "مثل" وهل الكاف زائدة، أو للتأكيد، أو أن المراد نفي مثل المثل، فنفي المثل من باب أولى، إلى غير ذلك من كلام طويل حول هذا التعبير. ونظيره {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} 1 و {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} 2 {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} 3 {مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ} 4.

_ 1 سورة الأعراف، الآية رقم (176) . 2 سورة البقرة، الآية رقم (264) . 3 سورة البقرة، الآية رقم (17) . 4 سورة العنكبوت، الآية رقم (41) .

والمعنى: ووصف من أخلد إلى الأرض واتبع هواه.. يشبه وصف الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ... ووصف الذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن باللَّه واليوم الآخر يشبه وصف من يزرع زرعه في تراب رقيق على حجر صلد أملس.... ووصف المنافقين الذين مردوا على النفاق يشبه وصف الذي استوقد ناراً.. ووصف الذين اتخذوا من دون اللَّه أولياء يلجؤون إليهم ويعتمدون عليهم، يشبه وصف العنكبوت التي اتخذت لنفسها بيتاً واهياً.. وعلى هذا الأساس نستطيع أن نفهم نصوصاً قرآنية كثيرة. وبتفسير كلمة "مَثَل" أو "مِثْل" بمعنى الوصف تنحل إشكالات لفظية كثيرة يتعب كثير من المفسرين في تخريجها وتوجيهها، مع أن المفسرين قد ذكروا أن كلمة "مَثَل" قد جاءت بمعنى الوصف في عدة آيات منها {مّثَلُ الجَنّةِ الّتِي وُعِدَ المُتّقُونَ} 1 قالوا: وصف الجنة.."2. وهذا المعنى المستخلص من الكلام المتقدم من تفسير لفظ "مَثَل"

_ 1 سورة الرعد، الآية رقم (35) ، وانظر: لمعرفة من فسرها بهذا التفسير - الأمثلة المتقدمة على هذا المعنى في بداية هذا المبحث. 2 أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع، تأملات وتدبر، د. عبد الرحمن حسن حبنكه الميداني من ص (39-40) .

و"مِثْل" بمعنى "وصف" إذا التقيا مع كاف التشبيه، واضطراد ذلك في كل نظير في القرآن الكريم، لم يتبين لي ما يعكره، وهو لا يتعارض مع المعاني المأثورة عن السلف في تفاسير تلك الآيات، بل يتفق مع كثير منها. ويؤيد هذا وجود تداخل كبير بين معنى "المثَل" ومعنى "الوصف" وذلك أن التمثيل إِنما يورد لبيان أوصاف الممثَّل له بمقايستها بأوصاف الممثَّل به، والذي يسوق المثل أو التشبيه إنما يريد وصف المشبَّه أو الممثَّل له. فمن أراد - مثلاً - وصف شخص بالشجاعة، فهو مخير بين أن يعبر عن ذلك بخبر، فيقول: فلان شجاع. أو بمثال أو تشبيه، فيقول: فلان مثل الأسد. أو: هو كمثل الأسد. فالقصد الأساس من التشبيه أو التمثيل هو الوصف، ولذلك كان من أركان القياس والتشبيه - ومنها الأمثال القياسية - الوصف المشترك الذي هو العلة الجامعة بين الفرع والأصل1، وكان من الاجتهاد تنقيح المناط2 باستخراج الأوصاف غير المؤثرة في الحكم والقياس، وتخريج

_ 1 انظر: روضة الناظر وجنة المناظر، لابن قدامة، مع شرحها: نزهة الخاطر العاطر، لعبد القادر بن أحمد بدران الدومي، (2/228، 229) . 2 تنقيح المناط: "هو أن يضيف الشارع الحكم إلى سببه، فيقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة، فيجب حذفها من الاعتبار". نفس المرجع ص (32) .

المناط1 في التعرف على الوصف المؤثر في تسرية الأحكام. ويظهر هذا التداخل بين معنى الوصف والمثل جلياً في بعض الآيات، نحو قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىَ إِذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مّسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} 2. قال ابن جرير - رحمه اللَّه - في قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ} : "يقول تعالى ذكره: انظر يا محمد بعين قلبك فاعتبر كيف مثلوا لك الأمثال، وشبهوا لك الأشباه بقولهم: هو مسحور، وهو شاعر، وهو مجنون"3.

_ 1 تخريج المناط: هو اجتهاد المجتهد في استخراج مناط الحكم الذي لم يتعرض له الشارع، من محل الحكم المنصوص عليه، فإذا ظفر بوصف مناسب له، واجتهد ولم يجد غيره، غلب على ظنه أن ذلك الوصف هو سبب ذلك الحكم - انظر: نفس المرجع ص (234) المتن والهامش. 2 سورة الإسراء الآيتان رقم (47-48) . 3 جامع البيان، (8/88) .

وإنما سمى اللَّه تعالى تلك الأوصاف التي وصفوا بها النبي صلى الله عليه وسلم أمثالاً باعتبار أنهم مثَّلوه في أنفسهم، ثم وصفه كل منهم بما يوافق ما مثّله به. فالذي وصفه بأنه شاعر، اشتبه عليه حاله وما يأتي به من الوحي المطهر الفصيح المؤثر بحال الشاعر، فتماثل حاله مع حال الشاعر عنده، فوصفه بأنه شاعر، فالدافع إلى الوصف في الأصل هو اشتباه التماثل، وكذلك مَن وصفه بأنه ساحر أو مجنون، اشتبه عنده حاله بحال أولئك فمثَّله بهم، ثم وصفه بتلك الأوصاف. فالتعبير بلفظ "الأمثال" لما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم يُشير إلى أصل الوصف، وهو التمثيل والمشابهة التي قامت في قلوبهم قبل أن يصفوه. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية1 - رحمه اللَّه -: "ولك أن تقول: إخبار بمثل صورة المخُبَر في النفس، فهو ضرب مثل لأن المتكلم جمع مثلاً في نفسه ونفس المستمع بالخبر المطابق للمخبَر، فيكون المثل هو القول، وهو الوصف، كقوله تعالى:

_ 1 الإمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، الدمشقي، ولد سنة 661هـ، كان مجاهداً بيده ولسانه، تصانيفه الكثيرة تدل على قوة فهمه، وسعة علمه، وتمسكه بالكتاب والسنة، ونهج السلف الصالح، ومن أشهرها: منهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل، واقتضاء الصراط المستقيم، وجمعت فتاويه في مجموع ضخم، انظر: البداية والنهاية، (14/141) ، وشذرات الذهب، (8/142) ، وذيل طبقات الحنابلة (2/387) .

{مَثَلُ الجَنّةِ الّتِي وُعِدَ المُتّقُونَ} 1، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} 2 ... "3. وكذلك يلاحظ التداخل بين معنى الوصف والمثل في قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللّؤْلُؤِ المَكْنُونِ} 4. فاللؤلؤ المكنون مثل واحد، وإنما جمعت كلمة "أمثال" لمراعاة أوصاف اللؤلؤ المكنون المتعددة، فيكون المراد تشبيه الحور العين بأوصاف اللؤلؤ المكنون، من صفاء اللون، وجماله، ونعومة ملمسه، ونحوها، وليس المراد تشبيه حال الحور بحال اللؤلؤ في كونه مكنوناً، بل بأوصافه التي تكون أحسن ما تكون حال كونه مكنوناً، واللَّه أعلم. وعلى هذا، فلو قيل: إن تفسير لفظ "مثل" بمعنى الوصف هو الأصل، لم يكن ذلك بعيداً على اعتبار ما تقدم من أن التمثيل إنما يراد به وصف الممثَّل له بمقايسته بأوصاف الممثَّل به.

_ 1 سورة الرعد، الآية رقم (35) ، وسورة محمد، الآية رقم (15) . 2 سورة الحج، الآية رقم (73) . 3 دقائق التفاسير، (4/ 523) . 4 سورة الواقعة الآيتان (22-23) .

ورود هذا المعنى للمثل في السنة المطهرة: لم أقف على من تتبع هذا المعنى في أمثال النبي صلى الله عليه وسلم، وربما كان ذلك لندرتها. ومن الأحاديث التي ورد فيها لفظ "مثل" بمعنى "وصف" قوله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآن وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ"1. قال ابن حجر2 - رحمه اللَّه -: "قوله "مَثَل" بفتحتين أي: صفته، وهو كقوله: {مَثَلُ اْلجنَّةِ} ". 3 أما الأمثال التي يفسر فيها لفظ "مثل" بـ "وصف" عند اقترانه بكاف التشبيه فهي كثيرة في أمثال النبي صلى الله عليه وسلم منها قوله: "مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ

_ 1 رواه البخاري، كتاب التفسير، باب سورة عبس، ح (4937) ، الصحيح مع الفتح، (8/691) . 2 الإمام الحافظ أبو الفضل شهاب الدين، أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، المشهور بابن حجر العسقلاني، ولد سنة 773هـ، وله مؤلفات مشهورة نافعة منها: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ولسان الميزان، وتهذيب التهذيب، وغيرها. توفي سنة 852هـ. انظر: الضوء اللامع للسخاوي، (2/36) . والبدر الطالع للشوكاني، (1/87) . 3 فتح الباري، (8/693) .

ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا. فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ إِلاَّ سَبَغَتْ أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ. وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلاَ يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلاَّ لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلاَ تَتَّسِعُ"1. وخلاصة هذا المطلب: أن كلمة "مَثَل" و "مِثْل" ترد في اللغة بمعنى وصف، وأن الوصف هو الأصل في قصد التمثيل، وقد وردت بهذا المعنى في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وأن الأقرب تفسيرها به إذا اقترنت بكاف التشبيه.

_ 1 رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب مثل المتصدق والبخيل، ح (1443) ، الصحيح مع الفتح، (3/305) .

المطلب الثالث: في المعنى الثالث للفظ (مثل) .

المطلب الثالث: في المعنى الثالث للفظ (مثل) . يطلق لفظ (مَثَل) بمعنى (المِثْل) وهو النظير. ورد في بعض المعاجم وكتب التفسير واللغة: أصل المثل في كلام العرب المِثْل وهو النظير، ويقال: مَثَل، ومِثْل، ومثيل: كَشَبه، وشِبْه، وشبيه.1 وهو مأخوذ من المماثلة، أي: المشابهة. والأصل في هذا النوع من الأمثال قائم على تشبيه شيء بشيء، لوجود عنصر تشابه أو تماثل بينهما، أو لوجود أكثر من عنصر تشابه، وقد يعبر به عن المماثلة التامة. قال الراغب: "والمَثَل يقال على وجهين: أحدهما: بمعنى المِثْل، نحو شِبْه وشَبَه ... والثاني: عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني"2. ومن شواهد هذا النوع في لغة العرب: قول بعضهم:

_ 1 تاج العروس للزبيدي، (8/110) ، دار ليبيا، بنغازي. والمفردات للراغب الأصفهاني، ص (462) وأنوار التنزيل للبيضاوي، (1/27) الناشر البابي الحلبي، الطبعة الثانية، 1388هـ. 2 المفردات للراغب، ص (462) .

أعاقرٌ مِثْلُ ذات رِحْمٍ؟ أو غانمٌ مِثْلُ من يخيب؟ 1 وقول بعضهم: أبقى لها طول السفار مقرمداً سنداً ومثلَ دعائم المتخيم2 وقول الآخر: وثدياً مثل حقِّ العاج رخصاً حصاناً من أَكف اللامسينا3 وأكثر ما تأتي أمثال هذا النوع عن طريق أسلوب التشبيه، دون أن يرد فيها لفظ (مثل) ، لكن بأدوات التشبيه. كقول حسان بن ثابت4 رضي الله عنه:

_ 1 من قصيدة لعبيد بن الأبرص الأسدي، انظر ديوانه، ت: د. حسين نصار ص (12) ، مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الأولى، 1377هـ. ومعنى قوله: "أعاقر مثل ذات رحم؟ ": استفهام إنكاري، أي: هل المرأة العاقر التي لا تلد تشبه المرأة ذات الرحم أي الولود؟ ومراده أنهما لا تستويان. 2 من معلقة عنترة العبسي، انظر: شرح القصائد العشر، لأبي زكريا يحيى الشيباني المعروف بالتبريزي، ص (343) ، مطبعة السعادة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1384هـ. 3 من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي، انظر: شرح القصائد العشر، ص (387) . 4 الصحابي الجليل حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري رضي اللَّه عنه، شاعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم توفي سنة 54 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (2/512) . وتهذيب التهذيب، (2/ 247) .

عرفت ديار زينب بالكثيب كخط الوحي في الورق القشيب1 وقد يكون التمثيل بدون أداة التشبيه، كما في قول القائل: هزجاً يحك ذراعه بذراعه قدح المكب على الزناد الأجذم2 وربما كان التشبيه على سبيل الاستعارة التمثيلية: كما في قولهم: وما ذرفت عينك إلا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتل3 وقول الآخر: [ملفات الجداول] وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع4 وهذا النوع من الأمثال التشبيهية يقوم على القياس، حيث يجرى فيه بيان المشبه بمقايسته بالمشبه به، وسوف يأتي الكلام على التشبيه والقياس في المبحث القادم "مقومات القياس" - إِن شاء اللَّه -.

_ 1 ديوان حسان بن ثابت، ت: د. سيد حنفي، وحسن كامل، ص (134) ، المكتبة العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1394هـ. 2 من معلقة عنترة بن شداد، شرح القصائد العشر، ص (334) . 3 من معلقة امرئ القيس بن حجر الكندي، انظر: شرح القصائد العشر ص (79) . 4 من قصيدة لأبي ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي، انظر: ديوان الهذليين، ص (3) ، الدار القومية للطباعة، والنشر، القاهرة، 1385هـ.

ورود هذا النوع في القرآن الكريم: لقد ورد هذا النوع من الأمثال كثيراً في القرآن الكريم، وقد صرفها اللَّه للناس بمختلف تصاريف القول، فمنها ما يكون بلفظ "مثل" وبدون أداة التشبيه كقوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمّ وَالْبَصِيرِ وَالسّمِيعِ} 1. وأكثر ما يجيء هذا النوع في القرآن بلفظ "مثل" مقروناً بكاف التشبيه، نحو: قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} 2. وقوله: {مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُواْ التّوْرَاةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} 3. وقد ورد التمثيل القياسي التشبيهي بأداة من أدوات التشبيه ودون لفظ "مثل" كقوله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنّمَا خَرّ مِنَ السّمَآءِ} 4. وقوله: {كَأَنّهُمْ حُمُرٌ مّسْتَنفِرَةٌ فَرّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} 5.

_ 1 سورة هود، الآية رقم (24) . 2 سورة البقرة، الآية رقم (17) . 3 سورة الجمعة، الآية رقم (5) . 4 سورة الحج، الآية رقم (31) . 5 سورة المدثر، الآية رقم (50) .

كما ورد بدون لفظ "مثل" وبدون أداة من أدوات التشبيه كقوله تعالى: {أَيَوَدّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ} 1. وهذه الآية مثل ضربه اللَّه لعمل عامل، كما ورد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما.2 والمراد أن هذه الآية تضمنت مثلاً ضرب بدون لفظ "مثل" أو أداة من أدوات التشبيه. ونحوه قول اللَّه عز وجل: {أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رّابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ

_ 1 سورة البقرة، الآية رقم (266) . 2 رواه البخاري، كتاب التفسير، باب: "أيود أحدكم.." الآية. ح (4538) الصحيح مع الفتح، (8/ 202) .

يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ} 1. وأحياناً تأتي أمثال هذا النوع بأسلوب الاستعارة التمثيلية كما في قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 2 وقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ} 3. ورود هذا النوع في السنة المطهرة: هذا النوع من الأمثال - أعني المثل التشبيهي - له تأثير متميز في إيضاح المراد، فيحتاج إليه كل داعية لبيان ما يدعو إليه، والإقناع به، وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم التشبيه عن طريق ضرب المثل ببراعة فائقة، تدل على عظم ما أعطاه اللَّه من الفصاحة، وهيأه به من البلاغة. ومن تلك الأمثال التشبيهية النبوية: قوله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ

_ 1 سورة الرعد، الآية رقم (17) . 2 سورة البقرة، الآية رقم (256) . 3 سورة آل عمران، الآية رقم (103) .

رِيحَهُ. وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً"1. وقوله - عليه الصلاة والسلام: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا. فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا"2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ"3. وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَالْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ تُفَيِّئُهَا4 الرِّيحُ مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا مَرَّةً.

_ 1 رواه البخاري، كتاب البيوع، باب في العطار وبيع المسك، ح (2101) الصحيح مع الفتح، (4/323) . 2 رواه البخاري، كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة، ح (2493) الصحيح مع الفتح، (5/132) . 3 رواه البخاري، كتاب الدعوات، فضل ذكر اللَّه عز وجل، ح (6407) الصحيح مع الفتح، (10/103) . 4 تفيِّئُها: فيأ يفيء إفاءة. من معانيها التحول. انظر: ترتيب القاموس المحيط، الطاهر أحمد الزاوي، (3/540) والمعنى: أن الريح تحول الزرع من استقامته فتميله، ثم تعدله والمراد: أن المؤمن يتناوب عليه المرض والصحة مدة حياته.

وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالأَرْزَةِ لاَ تَزَالُ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا1 مَرَّةً وَاحِدَةً"2. وهذا النوع من الأمثال كثير في السنة المطهرة3. وخلاصة هذا المطلب: أن لفظ "مَثَل" و "مِثْل" بمعنى: شَبَه، وشِبْه أي النظير المشابه يأتي كثيراً في اللغة، وقد ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة بكثرة. كما أن الأمثال التشبيهية قد تأتي بغير لفظ "مثل" فقد تصاغ بأداة من أدوات التشبيه أو بدونها.

_ 1 انجعافها: بمعنى انصراعها. انظر: نفس المصدر، (1/501) . والمعنى: أن الأرزة تبقى على استقامتها لا تطرحها الرياح لغلظ ساقها حتى تحصد مرة واحدة، والمراد: أن المنافق قليل المرض يبدو بصحة جيدة حتى يدهمه الموت. 2 رواه البخاري، كتاب المرض، باب ما جاء في كفارة المرض، ح (5643) الصحيح مع الفتح، (10/ 103) . 3 انظر: كتاب أمثال الحديث للقاضي الرامهرمزي، ت: عبد العلي عبد الحميد، وكتاب الأمثال في الحديث النبوي للحافظ أبي الشيخ الأصفهاني (نفس المحقق) .

المطلب الرابع: في المعنى الرابع للفظ "مثل"

المطلب الرابع: في المعنى الرابع للفظ "مثل": يطلق لفظ "مَثَل" بمعنى المثال. وعبر عنه بعضهم بقوله: "إطلاق كلمة المثل بمعنى النموذج من ذي أفراد متعددة"1. وهو مأخوذ من المثول والانتصاب، ورد في لسان العرب: "ومَثُل الشيء يمثل مثولاً: قام منتصباً، ومَثُل بين يديه مثولاً أي انتصب قائماً، ومنه قيل لمنارة المسرجة ماثلة"2. وقال أَيْضاً: "والمِثْل ما جعل مثالاً أي مقداراً يحذى عليه، والجمع: المُثُل، وثلاثة أمثلة"3. أما حدُّه فقد بينه الراغب الأصفهاني بقوله: "والمثال: بمعنى مقابلة الشيء بشيء هو نظيره، أو وضع شيء ما ليحتذى به فيما يفعل"4. قوله: "مقابلة الشيء بشيء هو نظيره": يقصد المعنى السابق الذي

_ 1 أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع للدكتور عبد الرحمن حبنكه، ص (24) . 2 لسان العرب (47/614) . 3 نفس المصدر ص (612) . 4 المفردات في غريب القرآن، ص (463) .

تم ذكره في المطلب السابق، وهي الأمثال التشبيهية. وقوله: "أو وضع شيء ما ليُحتذى به فيما يُفْعَل": يقصد الأمثال أي النماذج أو الشواهد أو الحجج التي تنصب أمام عقل السامع ليقيس عليها ويعتبر بها. قوله: "ليُحتذَى به فيما يُفعل": ذكر فرداً من نتائج الاعتبار وهو الاقتداء والمحاكاة لمن جُعل مثالاً وأنموذجاً يُقْتدى به. وقد تكون نتيجة الاعتبار هي القبول للحجة أو الشاهد أو النفور من الأنموذج السيئ ونحو ذلك. ولهذا النوع من الأمثال استخدامات واسعة في اللغة، من أهمها: أولاً: الأنموذج الجامع لحقائق الشيء وصفاته، ومن ذلك: أن تجعل سيرة أو قصة شخص ما أو جماعة ترتضي طريقتهم مثلاً يُقتدى به، أو ضدهم ليحذر من طريقتهم وسلوكهم. مثال ذلك لو قيل: "مثلك في الحزم عمر". أو قيل: "أيوب عليه السلام مَثَل في الصبر على الابتلاء". ومن ذلك إذا جعل شيء مثلا لشيء باعتبار أنه استجمع صفاته وحقائقه. كأن يقال: "الإسلام هو المثل في العدل". باعتبار أن الإسلام يحقق العدل في مجالات الحياة. فكل تعاليمه وأحكامه عادلة. فأصبح مثلا للعدل جامعا لكل خصاله وصفاته وحقائقه.

وكقولنا: "فرعون مثل للطغيان والاستكبار". وذلك باعتبار أن فرعون قد جمع كل صفات وأحوال الطغاة، وجرى منه أشمل ما يجري من الطغيان. فأصبح بذلك مثلا للطغيان والطغاة جامعا لصفاتهم وأحوالهم. وبالمقارنة بها يستدل عليهم. ولذلك جعله الله وقومه مثلا - في الطغيان والاستكبار - لمن بعدهم من الناس، وجعل ما حل بهم عبرة، قَال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} 1. ومن ذلك إذا قيل: "النار مثل السوء"، باعتبار أنها جمعت صفات وحقائق السوء. فكل أنواع السوء وأعظمه هو ما يكون فيها. فأصبحت لذلك مثلا له. وهذا الاعتبار يبين - والله أعلم - مراد ابن عباس - رضي الله عنهما - حيث فسر "مثل السوء" في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} 2: بالنار. وقد استشكل بعض المفسرين هذا التفسير، وبعضهم شكك في

_ 1 سورة الزخرف آية (56) . 2 سورة النحل آية (60) .

نسبته إليه.1 والحق أن هذا التفسير له وجه في اللغة كما تقدم من أنه أراد أنها جامعة لحقائق السوء، وأعظمه وأشمله. وإن كان في تفسير الآية به نظر.2 فيطلق لفظ "مثل" على ما كان جامعا لحقائق وصفات وأحوال معينة متجانسة، باعتباره أصبح أنموذجا دالا عليها. فيقال: كذا مثل لكذا بهذا الاعتبار. ومن هذا النوع ذكر القصص التي يراد منها إيصال حكمة أو تجربة أو حيلة لينتفع منها السامع أو القارئ في أمر أو موقف أو حال يكون فيها. وقد كثر هذا النوع من الأمثال القصصية في كتاب: "كليلة ودمنه"3 ونحوه - حيث تكثر الأمثال التعليمية المضروبة

_ 1 انظر: الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، لابن القيم (2/685) وروح المعاني للألوسي، (13/170) . 2 سيأتي - إن شاء الله - بيان ذلك في موضعه من الباب الثالث، الفصل الثاني. 3 "كتاب كليلة ودمنة مما وضعته علماء الهند على لسان الطير والوحش وغير ذلك في الحكم والأمثال"، "ويقال: إن ابن المقفع هو الذي وضع كتاب كليلة ودمنة، وقيل: إِنه لم يضعه وإنما كان فارسياً فنقله إلى العربية، وإن كان الكلام الذي في أول هذا الكتاب من كلامه". قال أبو الريحان البيروني: "وبودي أن كنت أتمكن من ترجمة كتاب (بنج تنترا) وهو المعروف عندنا بكتاب كليلة ودمنة، فإِنه تردد بين الفارسية والهندية ثم العربية والفارسية على ألسنة قوم لا يؤمن تغييرهم إياه، كعبد اللَّه بن المقفع في زيادته باب برزوية فيه، قاصداً تشكيك ضعيفي العقائد في الدين، وكسرهم للدعوة إلى مذهب المنانية [فرقة من فرق المجوس] ، وإذا كان متهماً فيما زاد لم يخل عن مثله فيما نقل". انظر لكل ما تقدم: كتاب كليلة ودمنة، ص (17، 26) الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الأولى، 1393هـ.

بواسطة القصص. ورود هذا النوع من الأمثال في القرآن: لقد كثر ورود هذا النوع من الأمثال في القرآن الكريم1، وذلك أن اللَّه سبحانه يضرب للمؤمنين المطيعين أمثالهم من الأمم السالفة ليقتدوا بهم في استقامتهم على نهج ربهم، وصبرهم وثباتهم عليه، كما يضرب للكافرين والمنافقين وغيرهم من الضلال أمثالهم ليعظهم وينذرهم ويحذر من طريقتهم. قال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أَمْثَالَهُمْ} 2. وقال سبحانه بعد أن ذكر ما كان من فرعون في إضلاله لقومه وصرفهم عن اتباع رسوله موسى عليه السلام وما نزل بفرعون وقومه من الانتقام حيث أغرقهم أجمعين، فقال سبحانه بعد ذلك: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا

_ 1 انظر أمثال ونماذج بشرية من القرآن العظيم، للشيخ احمد بن محمد طاحون. 2 سورة محمد، الآية رقم (3) .

وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} 1. وقال عز من قائل مبيناً أن ما قصه في كتابه من أخبار المؤمنين وأخبار الكافرين إنما هي أمثال ضربت للآخرين ليعتبروا بها. {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مّبَيّنَاتٍ وَمَثَلاً مّنَ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ} 2. وبين سبحانه أن من حجته البالغة على من ظلم بتكذيب الرسل والإفساد في الأرض ومات على ذلك، ضرب الأمثال بما جرى على الأمم الظالمة التي تقدمته فقال سبحانه: {وَأَنذِرِ النّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ رَبّنَآ أَخّرْنَآ إِلَىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ نّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتّبِعِ الرّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوَاْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ} 3. فالقصص في القرآن الكريم كلها أمثال ضربت للناس ليتأملوها ويستخلصوا منها العبر.

_ 1 سورة الزخرف، الآية رقم (56) . 2 سورة النور، الآية رقم (34) . 3 سورة إبراهيم، الآية رقم (44- 45) .

قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "ونظير ذلك ذكر القصص فإنها كلها أمثال هي أصول قياس واعتبار"1. ومن شواهد هذا النوع في القرآن الكريم ما ورد في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لّلّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ} 2. {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنّةِ وَنَجّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} 3. ومن ذلك قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لهُمْ مّثَلاً رّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} 4. ولا يلزم في كون القصة مثلاً أن تصدر بالأمر بضربها مثلاً، وإنما

_ 1 دقائق التفسير، الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، (1/205) . 2 سورة التحريم، الآية رقم (10) . 3 سورة التحريم، الآية رقم (11) . 4 سورة الكهف، الآية رقم (32) .

كل القصص الواردة في القرآن الكريم هي أمثال كما تقدم تقرير ذلك. ورود هذا الاستخدام لهذا النوع في السنة المطهرة: لم يرد استخدام هذا النوع من معاني المثل كثيراً في السنة المطهرة، ومن الأحاديث القليلة التي ورد فيها المثل بمعناه الأنموذجي قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مَطْعَمَ ابْنِ آدَمَ جُعِلَ مَثَلاً لِلدُّنْيَا وَإِنْ قَزَّحَهُ وَمَلَّحَهُ1 فَانْظُرُوا إِلَى مَا يَصِيرُ"2. ففي هذا المثال لا يوجد تشبيه من حيث الأسلوب، وإنما أبرز طعام ابن آدم مثالاً ليقاس عليه حال الدنيا ومتعها وما تنتهي إليه.

_ 1 قوله: "قزحه وملحه"، القزح (بالكسر) : بزر البصل والتابل. انظر: ترتيب القاموس، للطاهر الزاوي، (3/ 613) - ويقال للطبيخ اللذيذ: "قزيح مليح". والمراد: أن طعام ابن آدم وإن اعتنى بطبخه فوضع فيه التوابل والملح، فإِنه يصير في النهاية إلى الخراءة. 2 رواه عبد اللَّه بن الإمام أحمد في زوائده في المسند من حديث أبي بن كعب، "واللفظ له"، (5/136) . وابن حبان، انظر: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (2/476) . وصححه المحقق شعيب الأرناؤوط. وقال الهيثمي: "رواه عبد اللَّه والطبراني (في الكبير531) ورجالهما رجال الصحيح غير عُتي وهو ثقة" مجمع الزوائد، (10 /288) وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/116) .

ثانياً: يستخدم لفظ "مثل" بمعنى "المثال" في ضرب المثل لإيضاح القاعدة أو القضية أو الفكرة والاستشهاد لها. ومن ذلك الشواهد اللغوية1 كقولنا: الكلام هو اللفظ المفيد، مِثْل: محمد رسول اللَّه. أو: مَثَل ذلك: محمد رسول اللَّه. أَو: مِثال ذلك: محمد رسول اللَّه. ومن ذلك الشواهد أو الحجج التي تقام وتضرب لتكون أدلة على صدق الدعوى أو بطلان قول المخالف. كأن يقال: أدلة إثبات ربوبية اللَّه عز وجل كثيرة، مِثْل: اختلاف الليل والنهار، وخلق السموات والأرض. أو أن يقال: حيرة الماديين الملحدين وتناقضهم ظاهر في أقوالهم المنكرة مثل: إنكارهم شهود الحكمة في الخلق والقول بالصدفة. وقد يبرز الدليل والحجة باستخدام لفظ "مثل" بطريقة أخرى كأن يقال: ضُرِب ما يشاهد من الملاءمة الوظيفية في أعضاء المخلوقات والتكامل بينها مَثَلاً على حكمة الخالق عز وجل. والمراد أنه نُصب للعقول وجُعل مثلاً: أي شاهداً وحجة على ثبوت الحكمة في الخلق مما يدل على وجود الصانع الحكيم.

_ 1 قال في لسان العرب: "والمَثَل ما جعل مثالاً أي مقداراً لغيره يحذى عليه.. ومنه: أمثلة الأفعال والأسماء في باب التصريف" (47/612) .

ورود هذا الاستخدام في القرآن العظيم: قال تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} 1. المثل هنا المراد به: الشاهد والحجة التي تورد وتنصب للعقول لتدل على صحة الدعوى، وهي باعتبار مُورِدها شاهد وحجة، أما في واقع الحال وحقيقة الأمر فقد تكون حجة صحيحة وقد تكون شبهة. قال ابن كثير2 - رحمه اللَّه - في قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} قال: "أي بحجة وشبهة {إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أي ولا يقولون قولاً يعارضون به الحق إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم"3. والمراد أنهم كلما جاؤوا بقول يجعلونه شاهداً وحجة على صحة ما يقولون، فإِن اللَّه ينزل على رسوله شواهد الحق الواضحة البينة التي تدفع ما جاؤوا به.

_ 1 سورة الفرقان، الآية رقم (33) . 2 الإمام الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الشافعي، ألف تفسير القرآن العظيم، والبداية والنهاية، وطبقات الشافعية، وغيرها، توفي سنة (774هـ) . انظر: شذرات الذهب (6/237) ، والبدر الطالع: (1/153) 3 تفسير القرآن العظيم (3/318) .

وقال تعالى: {وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ وَقَالُوَاْ أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} 1. الذي ضرب المثل - واللَّه أعلم - هم كفار قريش، بدليل قوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً} أي ذكروه ونصبوه في معرض المجادلة ليكون شاهداً وحجة على صحة ما هم عليه من الباطل من عبادة الأوثان، وليبطلوا به ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم من بطلان عبادتها وأنها مع مَن عبدها في نار جهنم. كما ورد لفظ "مثل" بمعنى الحجة والشاهد على الحق في الآية التي بعدها في قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لّبَنِيَ إِسْرَائِيلَ} ، قال ابن كثير - رحمه اللَّه - في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لّبَنِي إِسْرَائِيلَ} : "أي دلالة وحجة وبرهاناً على قدرتنا على ما نشاء"2. وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرّفْنَا لِلنّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً} 3 وقال: {وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هََذَا الْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ وَكَانَ

_ 1 سورة الزخرف الآيتان رقم (57، 58) . 2 تفسير القرآن العظيم، (4/133) . 3 سورة الإسراء، الآية رقم (89) .

الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} 1. المراد بالمثل في الآيتين: الحجة والشاهد والدليل على الحق. يدل على ذلك أن الآية الأولى وردت بعد أدلة التوحيد والنبوة والتحدي بالقرآن2. وعلق ابن تيمية - رحمه اللَّه - على الآية الثانية بقوله: "ينبه على أنها براهين وحجج تفيد تصوراً أو تصديقاً"3. أي أن قول اللَّه تعالى: {وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هََذَا الْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ} يدل على أن اللَّه تعالى ذكر في كتابه أنواع الحجج والبراهين الشاهدة على الحق المبينة له. وهذا المعنى هو المراد - واللَّه أعلم - بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} 4. أي ذُكِر دليل وحجة وشاهد ونصب وأشخص ليكون ماثلاً أمام عقولكم أيها الناس، فاستعموا له استماع تدبر وتعقل، ليتبين لكم عجز هذه الآلهة التي تُعبد من دون اللَّه وعدم أهليتها للألوهية وما يُصرف إليها

_ 1 سورة الكهف، الآية رقم (54) . 2 دقائق التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية، (1/210) . 3 نفس المصدر. 4 سورة الحج، الآية رقم (73) .

من العبادة. وخلاصة معنى الآية: يا أيها الناس أقيمت حجة وأشخص شاهد فاستمعوا له وتدبروه، ثم ذكر تلك الحجة بقوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ..} الآية. وهذا المعنى للمثل جدير بالعناية والاهتمام لخفائه على كثير من المفسرين والباحثين في الأمثال، والذين يفسرون المثل في كل موضع بالشبه، فيجدون صعوبة في فهم الأمثال الأنموذجية، أو المنصوبة لتكون حجة وشاهداً على أمر معين. هذا ما تبين لي فيما يتعلق بهذا المعنى، والفرق بينه وبين المعاني الأخرى. وأرجو أن أكون قد وفقت في ذلك، فالأمر لا يخلو من إشكال. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "وهذه التي أشكل تسميتها أمثالاً، كما أشكل تسميتها قياساً، حتى اعترض بعضهم قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} 1، فقال: أين المثل المضروب؟ وكذلك إذا سمعوا قوله: {وَلَقَدْ صَرّفْنَا لِلنّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ

_ 1 سورة الحج، الآية رقم (73) .

مَثَلٍ} 1، يبقون حيارى لا يدرون ما هذه الأمثال"2. أما عن ورود هذا المعنى في السنة المطهرة: فلم يتبين لي فيما اطلعت عليه من أمثال النبي صلى الله عليه وسلم أنه استخدم لفظ "مثل" بمعنى الشاهد والحجة. واللَّه أعلم. اشتمال هذا النوع من الأمثال على القياس: إن هذا النوع من الأمثال - الأمثال الأنموذجية أو الشواهد والحجج المنصوبة - لا تتضمن تشبيهاً من حيث الأسلوب لكنها قائمة على القياس وتستلزم التدبر والاعتبار. وذلك أن هذا النوع من الأمثال ينصب فيه المثل - سواء كان شخصاً، أو قصة، أو شاهداً كلامياً، أو حجة أو غيره - أمام عقل السامع ليقيس عليه ما يناسبه ويعتبر به. والقياس هنا يستند إلى مبدإ شمول الأحكام للمتماثلات الذي تقضي به أصول الحقائق، أو تقضي به حكمة الخالق في خلقه، وفي تصاريف عدله، وفي ثبات سنته، فينتج أحكاماً عامة تشمل سائر الأفراد المماثلة لما جاء في المثل.3

_ 1 سورة الروم، الآية رقم (58) . 2 دقائق التفاسير، (1/205) . 3 انظر: أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع ص (24) .

وهذا النوع يسمى قياس الشمول1 وهو يختلف عن قياس التمثيل الذي يمثل فيه الشيء المعين بشيء معين، وهو القياس الذي تقوم عليه الأمثال التشبيهية التي سبق بيانها في المطلب السابق. وخلاصة هذا المطلب: تبين مما تقدم أن من معاني "المثل" معنى الأنموذج والشاهد والحجة. وأن هذه المعاني تستخدم كثيراً، وخاصة في مجال التربية والتعليم والمجادلة والمحاجة، وهذا النوع من الأمثال مع الأمثال التشبيهية هي المقصودة - واللَّه أعلم- بقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هََذَا الْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} 2. وهذا النوع من الأمثال مع أهميته وانتشاره في تصاريف الكلام لم يلْق ما يناسبه من العناية في المؤلفات اللغوية القديمة والحديثة. ولم أقف على من أفرد لما ورد من هذا النوع من الأمثال في اللغة بمؤلف مستقل. أما ما ورد من هذا النوع من الأمثال في القرآن الكريم، فإنه يرد ضمن الكتب التي تبحث في أمثال القرآن عامة، وهناك بعض الكتب

_ 1 سيأتي - إن شاء اللَّه- الكلام على القياس وتعريف هذه الأنواع في الموضع المخصص له من المبحث القادم: مقومات الأمثال. 2 سورة الكهف، الآية رقم (54) .

التي تبحث في الأمثال التي تُعنى بالتربية والقدوة1، أما جانب الأمثال التي تبرز الشواهد والحجج فلم أقف على من أفردها بمؤلف مستقل -واللَّه أعلم-.

_ 1 مثل: كتاب أمثال ونماذج بشرية من القرآن العظيم، للشيخ / أحمد بن محمد طاحون، الناشر: هجر للطباعة والنشر، مصر، الطبعة الأولى، 1411هـ. وكتاب: ظاهرة الأمثال من الكتاب والسنة وكلام العرب وآثارها في تربية الجيل المسلم، لمصطفى عيد الصياصنة، دار المعراج الدولية للنشر، الرياض، الطبعة الأولى، 1412هـ.

المطلب الخامس: أي أنواع المثل هو المقصود بهذه الدراسة

المطلب الخامس: أي أنواع المثل هو المقصود بهذه الدراسة: بعد استعراض أهم المعاني للفظ "مثل" يجدر أن نحدد أي هذه المعاني هو المقصود والذي سيجري الكلام عليه في هذا البحث. إن هذا البحث متخصص في دراسة المثل القياسي، وهو على هذا يشمل نوعين من أنواع المثل المتقدم ذكرها وهما: 1- المثل بمعنى المثال، وهو الأنموذج الذي يُحتذى ويقاس عليه. 2- المثل بمعنى الشَبَه، وهو ما يجري فيه القياس بتشبيه شيء بشيء. فما ضرب من هذين النوعين في القرآن الكريم، وكان يدور حول قضية من قضايا الإِيمان باللَّه - الركن الأول من أركان الإِيمان الستة المذكورة في حديث جبريل عليه السلام، أصل الإيمان القلبي - فهي التي سيجري تناولها في هذا البحث. أسأل اللَّه العون والتوفيق إلى حصرها، وإيضاح المراد منها.

المطلب السادس: المراد بضرب الأمثال

المطلب السادس: المراد بضرب الأمثال: يستخدم لفظ "ضرب" في اللغة كثيراً. وقد جمع أغلب تلك الاستخدامات، مع بيان السبب في اختلاف تفاسيرها الراغب الأصفهاني حيث قال: "الضرب إيقاع شيء على شيء، ولتصور اختلاف الضرب خولف بين تفاسيرها: كضرب الشيء باليد والعصا والسيف، ونحوها، وضرب الأرض بالمطر، وضرب الدراهم.. والضرب في الأرض الذهاب فيها هو ضربها بالأرجل.. وضرب الفحل الناقة تشبيهاً بالضرب بالمطرقة كقولك طرقها تشبيهاً بالطرق بالمطرقة، وضرب الخيمة بضرب أوتادها بالمطرقة.. وضرب اللبن بعضه على بعض بالخلط، وضرب المثل هو من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره"1. وضرب المثل يرجع إلى أربعة معان رئيسية، هي: أولاً: نصب المثال وإظهاره للمخاطبين لتستدل عليه خواطرهم كما تستدل على الشيء المنصوب نواظرهم.2 وهو مأخوذ من ضرب الخيمة، أي: نصبها.

_ 1 المفردات في غريب القرآن (294، 295) . 2 الأمثال العربية، د. عبد المجيد قطامش، ص (12) .

وهذا المعنى هو الألصق بالأمثال الأنموذجية، والشواهد والحجج المنصوبة للاعتبار أو الاستدلال بها. ثانياً: التقدير. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه - "فالأصل فيهما [الذي يقاس عليه] هو المثل. والقياس هو ضرب المثل، وأصله - واللَّه أعلم - تقديره، فضرب المثل للشيء تقديره له، كما أن القياس أصله تقدير الشيء"1. وهذا الأصل لمعنى ضرب المثل الذي ذكره ابن تيمية - رحمه اللَّه - صالح لأن يُرجع إليه ضرب الأمثال بمختلف أنواعها. حيث يكون أصل ضرب المثل: هو تقدير المعنى، أو الحكمة والحجة والعبرة والقدوة بألفاظ المثل. أو بمعنى آخر: ضرب المثل: هو إنشاء ألفاظ المثل التي يتم بها تقدير الحكمة أو الصفة أو الحجة أو نحوها للمخاطب، أو تقدير المشابه أو الأنموذج أو الأصل الذي يتوصل المخاطب بالمقايسة والمقارنة والاعتبار به إلى استخلاص البرهان والعبرة ونحوها. وقد أرجع ابن تيمية - رحمه اللَّه - جميع المعاني التي استخدم فيها

_ 1 دقائق التفسير، لابن تيمية، (1/ 203) .

المثل في اللغة إلى معنى التقدير.1 وهذا المعنى مأخوذ من ضرب الدرهم وهو تقديره، وضرب الجزية والخراج وهو تقديرهما2. ثالثاً: ضرب المثل: بمعنى قوله وإطلاقه والتمثل به في الحالات التي تشبه الحالة الأولى. وهو ألصق بالأمثال السائرة، وهو مأخوذ من المعنى العام للضرب وهو: إيقاع شيء على شيء، حيث يتم إيقاع المثل السائر على الحالة المناسبة للتشابه بينهما. رابعاً: الضرب للمثل بمعنى التلقيح. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "وضرب المثل لما كان جمعاً بين عِلْمين يطلب منهما علم ثالث كان بمنزلة ضراب الفحل الذي يتولد عنه الولد، ولهذا يقسمون الضرب إلى ناتج وعقيم كما ينقسم ضرب الفحل للأنثى إلى ناتج وعقيم"3. وهذا النوع مأخوذ من ضرب الفحل الناقة، وهو ألصق بالأمثال القياسية، التشبيهية والأنموذجية. فالأمثال القياسية - من جهة - تلقح الأفكار وتنبهها على القياس

_ 1 دقائق التفسير، (1/203) . 2 انظر: نفس المصدر. 3 نفس المصدر.

والتفكر والاعتبار. ومن جهة أخرى يتم فيها التلقيح بين الفرع والأصل ليحصل النتيجة الموجبة وهي التي تسمى الناتج حيث يُعْطَى حكم الأصل للفرع، أو تكون نتيجة الاعتبار سالبة وهي العقيم التي لا يلحق بها الفرع بالأصل في الحكم لوجود مانع. خلاصة هذا المطلب: وخلاصة هذا المطلب أن المراد بضرب الأمثال يختلف باختلاف أنواع المثل، فقد يكون المراد بضرب المثل: هو قوله والتمثل به كما في الأمثال السائرة، وقد يكون نصبه وإشخاصه أمام العقول كما في الأمثال القياسية، وقد يكون معنى الضرب يعود إلى تقدير ما فيه من المعاني والحكم والحجج، كما يراعى في معنى الضرب ما ينتج عنه من تلقيح الأفكار والخواطر وإخصابها أو لما يتولد عنه من النتائج.

المبحث الثاني: مقومات المثل القياسي.

المبحث الثاني: مقومات المثل القياسي. المطلب الأول: اشتمال المثل على القياس ... المبحث الثاني: مقومات المثل القياسي. يقوم المثل القياسي على مقومات هامة، بها اكتسبت الأمثال تلك الخاصية المؤثرة في البيان والإقناع. وأهم مقومات الأمثال القياسية: القياس، والحكمة. أما القياس: فيتضمنه المثل من حيثُ وضعه اللغوي وأسلوبه الذي يقوم على التشبيه كما في الأمثال التمثيلية، أو أنه يستلزم القياس حيث لا يتم قصد المتكلم ولا اعتبار المخاطب إلا بإجراء القياس، كما في الأمثال الأنموذجية. وأما الحكمة: فهي المعاني والنتائج والأحكام والعبر والبراهين.. ونحوها التي يتضمنها المثل. وسوف أفرد لكل منهما مطلباً مستقلاً. واللَّه المستعان.

المطلب الأول: اشتمال المثل على القياس القياس هو التقدير: يقال قاس الشيء إذا قدره1. ويستعمل أَيْضاً في التشبيه، أي في تشبيه الشيء بالشيء، يقال هذا قياس ذاك، إذا كان بينهما تشابه. والقياس اللغوي رد الشيء إلى نظيره.2 فالقياس على هذا أوسع مدلولاً من التشبيه، فقد يكون القياس بأسلوب تشبيهي أو بغيره. والقياس في الأمثال يكون بطريقين: أحدهما: التشبيه - كقوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} 3. وهذا النوع يقوم فيه المتكلم بإجراء القياس بتشبيه الفرع بالأصل وبيان وجه المشابهة، وغالباً ما يوجد فيه أداة من أدوات التشبيه. الثاني: إبراز النموذج - الذي يراد أن يُحتذى - والشاهد والحجة، ليقاس عليها ويعمم حكمها لكل من تحقق فيه وصفها، كقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} 4.

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، (14/5) ، والمعجم الفلسفي. د. جميل صليبا، (2/207) . 2 المعجم الفلسفي، (2/207) . 3 سورة الأعراف، الآية رقم (176) . 4 سورة التحريم، الآية رقم (11) .

وهذا النوع من الأمثال يبرز فيه الأنموذج أو الشاهد أو الحجة أو القصة، ويترك للسامع تدبرها وإجراء القياس بإلحاق النظير بالحكم أو الوصف العام المدلول عليه بالمثل. وغالباً ما يرد لفظ "ضرب" في أمثلة هذا النوع، نحو: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ} 1. {وَاضْرِبْ لَهُمْ مّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} 2. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه - إلى هذين النوعين من الأَمثال وأنهما يتضمنان نوعي القياس - قياس التمثيل وقياس الشمول - حيث قال: "وضرْب الأمثال في المعاني نوعان، هما نوعا القياس: أحدهما: الأمثال المعينة التي يقاس فيها الفرع بأصل معين موجود أو مقدر. النوع الثاني: الأمثال الكلية"3. وقال: "والصواب ما عليه السلف من اللغة الموافقة لما في القرآن.. إن

_ 1 سورة الزمر، الآية رقم (29) . 2 سورة يس، الآية رقم (13) . 3 مجموع الفتاوى، (14/56، 58) .

كليهما قياس وتمثيل واعتبار، وهو في قياس التمثيل ظاهر، أما قياس.. الشمول فلأنه يقاس كل واحد من الأفراد بذلك المقياس العام الثابت في العلم والقول وهو الأصل.. فالأصل فيهما هو المثل1 والقياس ضرب المثل2"3. والقياس هو الاعتبار، قال ابن تيمية - رحمه اللَّه-: "والاعتبار هو القياس بعينه، كما قال ابن عباس لما سئل عن دية الأصابع فقال: هي سواء واعتبروا ذلك بالأسنان، أي قيسوها بها، فإن الأسنان مستوية الدية مع اختلاف المنافع فكذلك الأصابع"4 فابن عباس - رضي اللَّه عنه - قاس الأصابع على الأسنان وجعل الأسنان مثلاً لها. ولا شك أن ضرب الأمثال إنما هو ليعتبر بها، وتقاس بها المعاني والأمور المتشابهة.

_ 1 قول شيخ الإسلام -رحمه اللَّه -: "فالأصل فيهما هو المثل": أي أن العلم المدلول عليه بألفاظ المثل المبين لأوصاف الممثَّل به وحكمه أو حاله هو الأصل الذي يلحق به الفرع في الحكم كما قال قبل ذلك: "فلأنه يقاس كل واحد من الأفراد بذلك المقياس العام الثابت في العلم والقول وهو الأصل". 2 قوله: "والقياس ضرب المثل" أي أن ذلك العلم المدلول عليه بألفاظ المثل ينصب ويبرز للعقول - بضربه مثلاً - ليلحق به ما يشابهه أو يندرج تحته من أفراده في الأحكام والأوصاف المعتبرة من المثل، وهذا هو القياس. 3 مجموع الفتاوى، (14/55) . 4 مجموع الفتاوى، (14/58) .

ورد في خطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري1 - رضي اللَّه عنهما - قوله: "ثم الفهْم الفهْم فيما أولى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى اللَّه وأشبهها بالحق"2. قوله: "ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال.." يدل على أن الأمور الغامضة إذا قيست بأمثالها المعروفة تبين بذلك الأمر، وعرف موقعها من محبة اللَّه وأمكن وزنها بميزان الحق. قال ابن قيم الجوزية3 - رحمه اللَّه - في معرض شرحه

_ 1 هو عبد اللَّه بن قيس بن سليم بن حضّار بن حرب أبو موسى الأشعري، صحابي جليل، قارئ للقرآن فقيه، جاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمله على زبيد وعدن، واستعمله عمر - رضي اللَّه عنه - على الكوفة والبصرة، واختاره علي - رضي اللَّه عنه - ليكون أحد الحكمين بعد وقعة صفين، توفي - رضي اللَّه عنه - بالكوفة سنة 44هـ. انظر: أسد الغابة، (3/ 367) ، وسير أعلام النبلاء، (2/380) . 2 إعلام الموقعين، لابن قيم الجوزية، (1/86) . 3 الإمام الحافظ شمس الدين، محمد بن أبي بكر بن أيوب الدمشقي، الحنبلي، المشهور بابن قيم الجوزية، أو ابن القيم، صنف إِعلام الموقعين، والصواعق المرسلة، وإِغاثة اللهفان، وزاد المعاد، وغيرها. وتميز بالتحقيق، والدعوة إلى تصحيح المعتقد، وانتهاج ما كان عليه السلف الصالح، توفي سنة (751هـ) . انظر: طبقات الحنابلة، لابن رجب، (2/447) . وشذرات الذهب، (6/168) .

لحديث عمر: "ومن هذا ما وقع في القرآن من الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون، فإنها تشبيه شيء بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر، واعتبار أحدهما بالآخر"1. وقال في موضع آخر: "وضَرَب الأمثال وصَرَّفها في الأنواع المختلفة، وكلها أقيسة عقلية ينبه بها عباده على أن حكم الشيء حكم مثله، فإِن الأمثال كلها قياسات عقلية يعلم منها حكم الممثَّل من الممثَّل به"2. ومما تقدم يتضح أن الأمثال القياسية - سواء كانت تشبيهية أو أنموذجية هي أصول قياس، تضرب فتنصب للعقول ليعتبر بها باستخلاص الحكم الذي يعدى إلى الفرع، أو استخلاص القاعدة الكلية التي يندرج تحتها كل الأفراد، أو معرفة السنة الجارية واستشعار تحققها عند وجود أسبابها.. ونحو ذلك.

_ 1 إعلام الموقعين، (1/150) . 2 نفس المصدر (1/130) .

أنواع القياس التي وردت بها الأمثال: مما تقدم1 من كلام شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه - تبين أن الأمثال جاءت بنوعين من القياس هما: القياس التمثيلي، والقياس الشمولي، ونقل ذلك عن السلف - رحمهم اللَّه - حيث قال: "والصواب ما عليه السلف من اللغة الموافقة لما في القرآن: ... إن كليهما قياس وتمثيل واعتبار"2. وهناك نوع ثالث من القياس جاءت به بعض أمثال القرآن وهو قياس الأولى. وسأتكلم فيما يلي عن كل نوع من أنواع القياس.

_ 1 تقدم قريباً ص (95) وما بعدها. 2 مجموع الفتاوى (14/55) .

أولاً: قياس التمثيل. وهو الحكم على شيء بما حكم به على غيره بناءً على جامع مشترك بينهما.1 وهذا النوع من القياس وردت به الأمثال التي بمعنى المشابه والنظير، حيث يمثل فيه الشيء المعين بنظيره المعين. ويتم فيه مقايسة معين (هو الفرع) بمعين (هو الأصل) لتحقق اشتراكهما في العلة المؤثرة ثم إلحاق الفرع بحكم الأصل. مثال ذلك إذا قيل: المرأة كالرجل في أصل التكليف بعبادة اللَّه. مثال قياس التمثيل في أمثال القرآن قول اللَّه عز وجل: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} 2 ونحوه. حيث يجري إلحاق معين موصوف أو معلوم بمعين موصوف أو معلوم في الحكم لاشتراكهما في علة جامعة. وهذا القياس يقوم على التشبيه حيث يدل على القياس أسلوب المثل التشبيهي. لذلك من المناسب ذكر طبيعة التشبيه، وأركانه وأنواعه، وبعض

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى، (9/197، 120) . 2 سورة الأعراف، الآية رقم (176) .

مباحثه التي يحتاج إليها لفهم دلالة الأمثال القياسية التمثيلية. التشبيه: تقدمت الإشارة إلى أن الأمثال القياسية تنقسم إلى قسمين: الأمثال التمثيلية التشبيهية، والأمثال الأنموذجية الكلية، وأن القسم الأول منهما يقوم على التشبيه. والتشبيه: قياس بأسلوب متميز. وهو من أقدم صور البيان1، وركن من أركان البلاغة2. تعريف التشبيه: جاء في لسان العرب: "الشبْه والشَبَه والشبيه: المِثْل، والجمع أشباه، وأشبه الشيءُ الشيءَ: ماثله ... والتشبيه: التمثيل"3. أما المعنى الاصطلاحي للتشبيه: فقد تعددت عبارات علماء البلاغة في التعبير عنه، وإن كانت تكاد تكون واحدة، ولا تخرج في جوهرها عن: الدلالة على اشتراك شيئين أو أكثر في صفة من الصفات أو أكثر.4

_ 1 البلاغة العربية، لأحمد مطلوب، ص (173) . 2 خزانة الأدب وغاية الأرب، (1/383) . 3 لسان العرب لابن منظور، (7/23) ، مادة (شبه) . 4 انظر: البلاغة العربية لأحمد مطلوب، ص (173) ، ومعجم البلاغة العربية، د. بدوي طبانه، ص (296) .

ومن التعاريف ما يبرز وظيفة التشبيه القياسية حيث عرف التشبيه: بأن يثبت لهذا معنى من معاني ذاك أو حكماً من أحكامه.1 أركان التشبيه: للتشبيه أربعة أركان هي: المشبَّه، والمشبه به، وأداة التشبيه، ووجه الشبه. ويطلق على المشبه والمشبه به اسم: "طرفي التشبيه"2 وهما طرفا القياس، فالمشبه هو الفرع، والمشبه به هو الأصل. أدوات التشبيه3: أدوات التشبيه ثلاثة أنواع: 1- أسماء: وهي: مثل، وشبه، وشبيه، ونحوها. 2 - أفعال: مثل: يشبه، يماثل. 3 - حروف: وهي الكاف. وتتصل الكاف بأدوات أخرى مثل: كأن، كأنما، كذلك. وجه الشبه: قد يشبه المشبه المشبه به في كل الوجوه، وهذه المماثلة التامة، وقد يكون التشابه في بعض الوجوه أو في معنى أو صفة أو حال يشترك كل

_ 1 معجم البلاغة العربية، ص (296) . 2 البلاغة العربية، ص (174) . 3 نفس المصدر والصفحة (بتصرف) .

من المشبه والمشبه به في الاتصاف بها. وهذا المعنى أو المعاني المشتركة بين المشبه والمشبه به هي التي يعبر عنها بوجه الشبه. وهي التي يعبر عنها بالعلة الجامعة أو الوصف المشترك في قياس التمثيل. وهي التي يعبر عنها بالمعنى المشترك أو الكلي في قياس الشمول. أقسام التشبيه1: وهي في نفس الوقت أقسام الأمثال. يقسم التشبيه باعتبار طرفيه، وباعتبار الأداة، وباعتبار وجه الشبه. أ - أقسامه باعتبار طرفي التشبيه: وهي تعود إلى أربعة أقسام: 1- تشبيه المحسوس بالمحسوس، مثل قول اللَّه تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} 2. 2- تشبيه المعقول بالمعقول، كتشبيه العلم بالحياة، والجهل بالموت.3

_ 1 البلاغة العربية، ص (174-177) . 2 سورة المدثر، الآيتان رقم (50، 51) . 3 انظر: البلاغة الاصطلاحية، د. عبده قلقيله، ص 38، دار الفكر العربي القاهرة / الطبعة الأولى، 1406هـ.

3 - تشبيه المعقول بالمحسوس، مثل قوله تعالى: {مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ} 1. 4 - تشبيه المحسوس بالمعقول أو المتخيل: مثاله: إذا قيل في مدح الأرض السمحة كثيرة البركة: أرض كأخلاق الكريم. ومثال تشبيه المحسوس بالمتخيل، قول الشاعر: [ملفات الجداول] أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونه زرق كأنياب أغوالِ2 فأنياب الغول عند المتكلم والسامع غير معروفة الحقيقة، بل هي أشياء متوهمة متخيلة، استقر في حس المتخاطبين بذلك أنها أبشع وأحد وأقوى ما يكون. ب- أقسام التشبيه باعتبار الأداة: 1- مرسل: وهو الذي ذكرت فيه الأداة. كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} 3.

_ 1 سورة العنكبوت آية رقم (41) 2 ديوان امرئ القيس بن حجر الكندي، ص (142) ، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1385هـ. 3 سورة البقرة، الآية رقم (17) .

2 - مؤكد: وهو ما خفت منه الأداة. كقوله تعالى: {وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحَابِ} 1. جـ- أقسام التشبيه باعتبار وجه الشبه: 1- مفصل: وهو ما ذكر فيه وجه الشبه. كما يقال في وصف الشيء الحلو: "كالعسل في الحلاوة". 2- مجمل: وهو الذي لم يذكر فيه وجه الشبه. كما يقال في التشبيه بالشجاعة: "عليٌّ كالأسد". وفي الجمال: "محمد كالبدر". كما يقسم التشبيه من حيث وجه الشبه إلى مفرد ومركب2: 1- المفرد: هو ما كان وجه الشبه فيه لا يكوِّن هيئة أو صورة مثل: "خالد أسد شجاعة". 2- المركب: هو الذي يكوِّن وجه الشبه فيه صورة وهيئة، ومثاله قول اللَّه عز وجل: {مّثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مِاْئََةُ حَبّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 3.

_ 1 سورة النمل، الآية رقم (88) . 2 البلاغة الاصطلاحية، د. عبده قلقيله، ص (44) . 3 سورة البقرة، الآية رقم (261) .

والتشبيه له أقسام كثيرة، وأساليب متنوعة، اجتهد علماء البلاغة في تحديد ضوابطها والفروق بينها، وليس مقصودنا في هذا البحث الاستقصاء في معرفة هذه الأنواع والتوسع في معرفة الضوابط والفروق بينها، وذلك أن معظم تلك التفريعات والجزئيات ليس لها كبيرُ أَثَرٍ في تجلية المعاني، وليس هناك اتفاق بين المشتغلين في علوم البلاغة على تعريفها، وتحديد الفروق بينها، فلذلك لا أرى ضرورة لإِثقال هذا البحث بأمور لا طائل من ورائها. ويكتفى بمعرفة الأسلوب، والمعنى المستفاد منه، وما يحتاج إليه من خصائصه لتجلية المعنى. وبعد هذه الإطلالة السريعة على أهم معالم أسلوب التشبيه، أعود إلى المقصد من ذكر أنواع القياس.

ثانياً: قياس الشمول: قال ابن تيمية - رحمه اللَّه - في تعريف قياس الشمول: "هو انتقال الذهن من المعيّن إلى المعنى العام المشترك الكلي المتناول له ولغيره، والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلي، بأن ينتقل من ذلك الكلي اللازم إلى الملزوم الأول وهو المعيّن، فهو انتقال من خاص إلى عام، ثم انتقال من ذلك العام إلى الخاص، من جزئي إلى كلي ثم من ذلك الكلي إلى الجزئي الأول فيحكم عليه بذلك الكلي"1. "فإن الكلي هو مثال في الذهن لجزئياته"2. قوله - رحمه اللَّه - "هو انتقال الذهن من المعيّن إلى المعنى العام المشترك الكلي..": الغرض من الانتقال هو تحقق دخول المعين (الفرع) ضمن أفراد المعنى العام المشترك واشتماله على الوصف الجامع. قوله: "والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلي بأن ينتقل من ذلك الكلي اللازم إلى الملزوم وهو المعيّن". المراد: بعد تحقق دخول المعيّن (الفرع) ضمن أفراد المعنى العام المشترك، نرجع على الفرع لنعطيه ذلك الحكم الكلي.

_ 1 مجموع الفتاوى (9/119) . 2 نفس المصدر السابق.

مثال: "إذا قيل في قياس الشمول: كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فكل إنسان جسم"1، فالحد الأوسط وهو: "كل حيوان جسم": يتضمن حكماً عاماً كلياً هو كون كل حيوان جسم، وهذا الحكم مقيد بوصف مشترك بين أفراد متعددة هو المدلول عليه بلفظ "حيوان". والطرف الأول: "كل إنسان حيوان": انتقال بالفرع "الإنسان" إلى الحكم العام لتحقيق الوصف الجامع في الفرع، وهو كونه حيواناً. والطرف الأخير: "فكل إنسان جسم": رجوع على الفرع (الإنسان) - بعد تحقق كونه من أفراد المشترك الكلي لاتصافه بالوصف المناط به الحكم، وهو كونه حيواناً لتحكم عليه بالحكم المشترك الكلي فتحكم عليه بأنه جسم. تطبيق القياس الشمولي على مثل من أمثال القرآن الكريم: المثل في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} 2 الآية. فامرأة فرعون: جعلت أنموذجاً ومعنى كلياً يشترك في حكمها كل من كانت حالها كحالها من المؤمنات.

_ 1 مجموع الفتاوى، (9/202) . 2 سورة التحريم، الآية رقم (11) .

وإجراء القياس يكون كما يلي: (1) - أن نتحقق أن امرأة ما حالها كحال امرأة فرعون بالمقارنة مع ما ذكر من صفتها وحالها في القرآن. (2) - نحكم لهذه المرأة (الفرع) ونثبت لها جنس ما ثبت لامرأة فرعون من الجزاء والمنزلة عند اللَّه. وهذا القياس - القياس الشمولي - وردت به الأمثال الأنموذجية ونحوها التي تشتمل على قضايا كلية وأحكاماً عامة تشمل سائر الأفراد المماثلة لما جاء بالمثل. والقياس هنا يستند إلى مبدإِ شمول الأحكام للمتماثلات الذي تقضي به أصول الحقائق، وتقضي به حكمة الخالق - سبحانه وتعالى - في خلقه، وفي تصاريف عدله، وفي ثبات سننه، فينتج أحكاماً عامة تشمل سائر الأفراد المماثلة لما جاء في المثل.1 وذلك أن الأمثال الأنموذجية ينصب فيها أنموذج بشري أو قصة بأكملها، أو الشواهد والحجج والعبر أمام عقل السامع ليقيس عليه ما يناسبه ويعتبر به، فيسوي بين المتماثلات في الأحكام ويفرق بين المختلفات.

_ 1 أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع، ص (24) .

الفرق بين قياس التمثيل وقياس الشمول: أ- من جهة الأسلوب: تقدم من تعريف قياس التمثيل وقياس الشمول أن الأول يقوم على أسلوب التشبيه، سواء بأداة من أدواته أو بغير أداة. أما القياس الشمولي فلا يكون بأسلوب التشبيه وإنما بنصب وإبراز المعاني الكلية المشتركة المقيدة بأوصاف معلومة لدى المخاطب تشترك فيها الأفراد، ولا يتم مراد المتكلم ولا فهم المخاطب وانتفاعه إلا بمقايسة الفرع على المعاني الكلية ثم إلحاقه بها في الأحكام. ب- من جهة إفادة الظن أو اليقين: قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: " ... بل هما في الحقيقة من جنس واحد، وقياس التمثيل الصحيح أولى بإفادة المطلوب علماً كان أو ظناً من مجرد قياس الشمول، ولهذا كان سائر العقلاء يستدلون بقياس التمثيل أكثر مما يستدلون بقياس الشمول، بل لا يصح قياس الشمول في الأمر العام إلا بتوسط قياس التمثيل"1. وقال أيضاً: "وحينئذ فالقياس التمثيلي أصل للقياس الشمولي، إما أن يكون سبباً في حصوله، وإِما أن يقال لا يوجد بدونه"2.

_ 1 مجموع الفتاوى، (9/203) . 2 نفس المصدر، ص (204) .

وقال أَيْضاً: "والتحقيق أن "قياس التمثيل" أبلغ في إفادة العلم واليقين من "قياس الشمول" وإن كان علم قياس الشمول أكثر، فذاك أكبر، فقياس التمثيل في القياس العقلي كالبصر في العلم الحسي، وقياس الشمول: كالسمع في العلم الحسي، ولا ريب أن البصر أعظم وأكمل، والسمع أوسع وأشمل، فقياس التمثيل: بمنزلة البصر.. وقياس الشمول يشابه السمع من جهة العموم"1. وقال: "وحقيقة الأمر أن القياسين متلازمان، فكل قياس شمول هو متضمن لتمثيل، وكل قياس تمثيل هو متضمن لشمول، فإِن القايس قياس التمثيل لا بد أن يعلق الحكم بالوصف المشترك، فإذا قال: النبيذ المسكر حرام لأنه مسكر، فكان حراماً كخمر العنب، فقد علق التحريم بالسكر، ولا بد له من دليل يدل على تعلق الحكم بذلك الوصف المشترك، إما بنص، أو إجماع أو غير ذلك من الطرق الدالة على أن الحكم معلل بذلك الوصف المشترك بين الأصل والفرع ... . ثم إذا أراد المستدل أن يصوغ هذا قياس شمول، قال: النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، ولا بد له من إثبات هذه القضية الكبرى، وهو قوله: كل مسكر حرام، كما يحتاج الأول إلى إثبات كون السكر هو مناط التحريم، والذي جعله الأول مناط الحكم، جعله الثاني الحد الأوسط ...

_ 1 مجموع الفتاوى، ص (9/19) .

وكل من القياسين يتضمن حكماً عاماً كلياً"1. ومما تقدم من كلام شيخ الاسلام - ابن تيمية رحمه اللَّه - تبين ما يلي: 1- أن القياس التمثيلي أقوى في إفادة المطلوب من قياس الشمول وأكثر استعمالاً عند عامة الناس، لأنه مقايسة معلوم معين بمعلوم معين، مما يجعل إدراك التشابه أو الاختلاف بينهما ميسوراً. أما إفادة القياس للظن أو اليقين فهو لا يتوقف على نوع القياس وإنما على المعطيات والمقدمات التي قد تجعل القياس باطلاً أو محتملاً أو يفيد غلبة الظن أو اليقين. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "فإِن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر، بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين. فإِن كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقيناً حصل به اليقين، وإن لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظناً لم يفد إلا الظن"2. 2- أن قياس التمثيل أصل لقياس الشمول، وذلك أن الأحكام الكلية والقواعد العامة لا تحصل إلا بالنظر في الأفراد ومقايسة بعضها

_ 1 درء تعارض العقل والنقل، (7/319) . 2 مجموع الفتاوى، (9/199) .

ببعض، وهذا هو القياس التمثيلي، فنتحصل على الحكم العام. وكذلك إذا أريد التحقق من صحة معنى كلي فإنه يضرب له مثل بفرد من أفراده، ويبين انتفاء الفارق بينه وبين الكلي الجامع، وهذا حقيقة قياس التمثيل.1 3- أنّ قياس الشمول أعم وأنفع في تسرية الأحكام العامة والقواعد الكلية إلى أفراد متعددة، فلا يمكن تعميم أحكام الأمثال والأساليب التي ترد بالقياس التمثيلي - الذي يشبه منه معين بمعين - إلى طرف ثالث أو أكثر، إلا إذا ثبت أن الحكم أو المعنى كلي ليس خاصاً بطرفي القياس التمثيلي. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "فضرب المثل الذي هو القياس لا بد أن يشتمل على خبر عام وقضية كلية - وذلك هو المثل الثابت في العقل الذي تقاس به الأعيان المقصود حكمها - فلولا عمومه لما أمكن الاعتبار لجواز أن يكون المقصود حكمه خارجاً عن العموم، ولهذا لا قياس عن قضيتين جزئيتين بل لا بد أن تكون إحداهما كلية"2. مثال: إذا قيل: "زيد مثل الأسد".

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى، (9/204) . 2 نفس المصدر، (14/59) .

فهذا تمثيل ومقايسة معين بمعين، لا يجوز تعدية المعنى المستفاد من المشبه به إلى فرد ثالث أو أكثر، لعدم دلالة السياق على ما يفيد عموم الحكم. أما لو قلنا: "فلان الذي تعلم ولم يعمل بعلمه مثل الكلب"، فهذا تمثيل معين هو "فلان" بمعين هو "الكلب"، لكن المثل تضمن وصفاً مؤثراً في الحكم هو المعبر عنه بقولنا: "تعلم ولم يعمل"، وهو وصف يصدق على أفراد كثيرة، جعل الحكم كلياً عاماً يساوي قولنا: "كل من تعلم ولم يعمل فمثله كمثل الكلب". وعلى هذا فالأحكام الكلية العامة هي الأكثر استخداماً في التشريع، وإفادة السنن الجارية، والاعتبار بقصص الأمم الغابرة ونحوها، وهي خاصية الأمثال الشمولية في القرآن الكريم، قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "وقد اتفق العقلاء على أن ضرب المثل مما يعين على معرفة الكليات، وأنه ليس الحال إذا ذكر مع المثال كالحال إذا ذكر مجرداً عنه، ومن تدبر جميع ما يتكلم فيه الناس من الكليات المعلومة بالعقل في الطب والحساب والصناعات والتجارات وغير ذلك وجد الأمر كذلك، والإنسان قد ينكر أمراً حتى يرى واحداً من جنسه فيقر بالنوع، ويستفيد بذلك حكماً كلياً، ولهذا يقول سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} 1

_ 1 سورة الشعراء، الآية رقم (105)

{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} 1 ونحو ذلك، وكل هؤلاء إنما جاءهم رسول واحد، ولكن كانوا مكذبين بجنس الرسل، لم يكن تكذيبهم بالواحد بخصوصه".2

_ 1 سورة الشعراء، الآية رقم (123) . 2 مجموع الفتاوى، (9/238) .

ثالثاً: قياس الأولى: وهذا النوع من القياس هو الذي كان يسلكه السلف اتباعاً للقرآن الكريم وطريقة الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم في الاستدلال على الرب تبارك وتعالى، وأفعاله سبحانه1.2 قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "ولهذا كانت طريقة الأنبياء صلوات اللَّه عليهم وسلامه الاستدلال على الرب تعالى بذكر آياته، وإن استعملوا في ذلك "القياس" استعملوا قياس الأولى، لم يستعملوا قياس شمولٍ تستوي أفراده، ولا قياس تمثيل محض، فإِن الرب تعالى لا مثيل له، ولا يجتمع هو وغيره تحت كلي تستوي أفراده، بل ما ثبت لغيره من كمال لا نقص فيه فثبوته له بطريق الأولى، وما تنزه غيره عنه من النقائص فتنزهه عنه بطريق الأولى"3. وقد ورد هذا النوع من القياس في بعض أمثال القرآن، ومن ذلك قول اللَّه عز وجل:

_ 1 انظر مجموع الفتاوى (9/141، 145) . 2 سيأتي مزيد إيضاح لهذا المعنى عند الكلام على قوله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ} في الباب الثالث من هذا الكتاب. 3 مجموع الفتاوى، (9/141) .

{ضَرَبَ لَكُمْ مّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لّكُمْ مّن مّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "فأما الاستدلال بطريق الأولى فكقوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} ،2 ومثل قوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لّكُمْ مّن مّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} 3 وأمثال ذلك مما يدل على أن كل كمال لا نقص فيه يثبت للمحْدَث والمخلوق الممكن، فهو للقديم الواجب الخالق أَوْلى من جهة أنه أحق بالكمال"4. ومن ذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنّ بِقَادِرٍ عَلَىَ

_ 1 سورة الروم، الآية رقم (28) . 2 سورة النحل، الآية رقم (60) . 3 سورة الروم، الآية رقم (28) . 4 دقائق التفسير، ت / محمد السيد الجليند، (5/217) .

أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىَ بَلَىَ إِنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "ومن المستقر في بدائه العقول أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق الآدميين، فإذا كان فيها من الدلالة على علم خالقها وقدرته وحكمته ما بهر العقل، أفلا يكون ذلك دالاً على أنه قادر على إحياء الموتى لا يعيى بذلك كما لم يَعْيَ بالأول بطريق الأولى والأحرى"2. وهذا النوع من القياس قد يكون شمولياً أو تمثيلياً من حيث الأسلوب. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً"3. وقد أورد ابن تيمية - رحمه اللَّه - أمثلة لقياس الأولى عندما يكون شمولياً أو تمثيلياً. أذكُرُها لتتم الفائدة بمعرفة هذا النوع من القياس الهام. مثال لقياس الأولى الشمولي: "مثل أن يقال: القائم بنفسه لا يفتقر إلى المحل كما يفتقر العرض

_ 1 سورة الأحقاف، الآية رقم (33) . 2 درء تعارض العقل والنقل، (7/381) . 3 نفس المصدر، (1/29) .

مثلاً.. كان سبحانه أحق بمثل هذه الأمور من سائر الموجودات، فهو أحق بالغنى عن المحل من كل قائم بنفسه"1. مثال القياس الأولى التمثيلي: قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "وكذلك إذا قيس قياس تمثيل فكل كمال يستحق موجود من جهة وجوده، فالموجود الواجب أحق به، وكل نقص ينزَّه عنه موجود لكمال وجوده، فالموجود الواجب أحق بتنزيهه عنه. وهو أحق بانتفاء أحكام العدم وأنواعه وأشباهه وملزوماته عنه من كل موجود"2. ثم أجرى قياس الأولى - لتعليل تعذر الرؤية - بهذا الطريق فقال: "وإذا كان تعذر الرؤية أحياناً قد يكون لضعف الأبصار، وكان في الموجودات القائمة بنفسها، ما تتعذر أحياناً رؤيته لضعف أبصارنا في الدنيا، كان ضعفها عن رؤيته أولى وأولى"3. وقد تميز هذا القياس عن الأقيسة الشمولية أو التمثيلية المعتادة بالطريقة التي يتم بها إثبات الحكم للممثل له، والتي تكون بطريق الأولى.

_ 1 درء تعارض العقل والنقل، (7/323) . 2 المصدر السابق، (7/323) . 3 نفس المصدر، (7/324) .

فإذا كان استحقاق الحكم في القياس الشمولي يكون لدخول الفرع ضمن أفراد الحكم العام، وإذا كان استحقاق الحكم في القياس التمثيلي يكون لاشتراك الفرع مع الأصل (النظير) في العلة الجامعة، فإِن استحقاق الحكم في قياس الأولى يكون لكون الممثَّل له أحق من الممثَّل به بالفضل والكمال وأولى، أو تنزهه عن الأذى والنقص، لكونه أسمى منه وأعلى. أركان القياس: المثل القياسي يراد منه توضيح حكم أو وصف لأمر خفي بقياسه على مشابه له جلي. فلا بد في كل مثل قياسي من قضيتين وحكمين: قضية كبرى هي الأصل الذي يراد تعميم حكمه وتعديته إلى القضية الأخرى. ويشترط في هذه القضية أو الأصل أن تكون جلية واضحة للمخاطب. القضية الثانية: هي الفرع الذي يراد إلحاقه بالأصل بعد تحقق مناط الاعتبار فيها من مشابهة الأصل في العلة المؤثرة في الحكم، أو دخوله ضمن أفراد الحكم العام. والحكمان هما: حكم الأصل المعلوم، وحكم الفرع المستفاد من ضرب المثل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "وهذه الأمثال تارة تكون صفات، وتارة تكون أقيسة، فإذا كانت أقيسة فلا بد فيها من خبرين هما قضيتان وحكمان ... فضرب المثل الذي هو القياس لا بد أن يشتمل على خبر عام وقضية كلية، وذلك هو المثل الثابت في العقل الذي تقاس به الأعيان المقصود حكمها، فلولا عمومه لما أمكن الاعتبار"1. وعلى هذا، فعند دراسة الأمثال القياسية فلا بد من معرفة القضية الكلية التي يمكن تعميم حكمها، ومعرفة حكمها الذي يجب أن يكون معلوماً مقرراً عند المخاطَب بالمثل، ومعرفة القضية الأخرى الخفية، وبذلك يسهل تدبر المثل والاعتبار به وتحصيل النتيجة المقصودة. وفي الأمثال التشبيهية القائمة على القياس التمثيلي، فإِن المثل يشتمل على القضيتين الأصل والفرع وحكم الأصل، ويكون حكم الفرع هو النتيجة المقصودة كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاّ دُعَآءً وَنِدَآءً} 2. فالقضية الفرع: هي حال الذين كفروا مع الأنبياء والدعاة. والقضية الأصل: هي حال الأنعام مع رعاتها.

_ 1 مجموع الفتاوى، (14/58، 59) . 2 سورة البقرة، الآية رقم (171) .

وحكم الأصل: هو سماع الصوت وعدم فقه مضمونه أو الاستجابة له، إلا ما يكون من استجابتها لدعائه وندائه حين يزجرها. وحكم الفرع: يستفاد من المثل ويكون بتسرية حكم الأصل إلى الفرع، ووصف الكافرين بحال الأنعام التي لا تفقه ما تخاطَب به ولا تستجيب له. أما في الأمثال الأنموذجية فإِنه قد تحذف إحدى القضيتين للعلم بها ولأن ذكرها لا يتناسب مع البيان الفصيح، كما لا تذكر النتيجة، وإنما تستنج بالتأمل والتفكر في المثل. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "وبعض المواضع يذكر سبحانه الأصل المعتبر به ليستفاد حكم الفرع منه من غير تصريح بذكر الفرع، كقوله تعالى: {أَيَوَدّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} إلى قوله: {كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ} 1، فإِن هذا يحتاج إلى تفكر"2. وقال أَيْضاً: "فلهذا كانت الأمثال المضروبة في القرآن تحذف منها القضية الجلية لأن في ذكرها تطويلاً وعيّاً، وكذلك ذكر النتيجة المقصودة

_ 1 سورة البقرة، الآية رقم (266) . 2 مجموع الفتاوى، (14/57) .

بعد ذكر المقدمتين يعد تطويلاً"1. والأمثال الأنموذجية وخاصة الكلية منها استشكل تسميتها أمثالاً وقياساً، وذلك لخلوها من أسلوب التشبيه وكثرة حذف إحدى القضيتن والنتيجة من تلك الأمثال، ولهذا كان هذا النوع يحتاج إلى تدبر وتفكر أكثر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه -: " (النوع الثاني) : الأمثال الكلية، وهذه التي أشكل تسميتها أمثالاً، كما أشكل تسميتها قياساً، حتى اعترض بعضهم قوله: {يَا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ} 2 فقال: أين المثل المضروب؟ وكذلك إذا سمعوا قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ} 3 يبقون حيارى لا يدرون ما هذه الأمثال"4. خلاصة هذا المطلب: تبين مما تقدم أن أهم مقومات الأمثال القياسية من حيث الأسلوبُ

_ 1 مجموع الفتاوى، (14/61) . 2 سورة الحج، الآية رقم (73) . 3 سورة الروم، الآية رقم (58) . 4 مجموع الفتاوى (14/58) .

هو القياس، وأنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القياس التمثيلي، وقياس الشمول، وقياس الأولى، وتبين طبيعة كل منها وشواهده، وأن الأمثال القرآنية جاءت بكل هذه الأنواع.

المطلب الثاني: الحكمة

المطلب الثاني: الحكمة الغالب في الأمثال أنها تضرب لتقريب التجارب والنتائج، وعواقب الأمور، والبراهين، وغيرها من الحكم إلى الأذهان، وإقناع المخاطب بها عن طريق مقايسة حال بحال. فالأمثال إذاً هي إطارات لفظية تقدم من خلالها الحكم، فهي تتضمن الحكمة، بل قد فسرت الحكمة - في بعض معانيها - بالأمثال. فقد ورد في المعجم الفلسفي في معرض بيان معاني الحكمة قولهم: "والحكمة: هي الكلام الذي يقل لفظه ويجل معناه، والجمع حِكَم كالأمثال وجوامع الكلم"1. المعاني اللغوية للحكمة: تطلق الحكمة في اللغة ويراد بها معان كثيرة، من أهمها: العلم والتفقه، والعدل، والكلام الموافق للحق، وصواب الأمر وسداده، ووضع الشيء في موضعه، وما يمنع من الجهل والقبيح. وتطلق على العلة: يقال: حكمة التشريع، وما الحكمة في ذلك. وتطلق أيضاً على الأمثال وجوامع الكلم.2

_ 1 المعجم الفلسفي، (1/493) . 2 نفس المصدر، (1/ 491، 493) .

وقد تطلق على أمور هي من السفه والباطل: كالفلسفة، وعلم الكلام، والشعبذة1 والسحر ونحوها، قال صاحب كتاب2 "زهر الأكم في الأمثال والحكم": "وإلا فقد يظن ما ليس بحكمة حكمة؛ إذ قد يعد من الحكمة ما دل على إيثار العاجلة على الآجلة، أو اتباع الهوى، أو على العدوان والعلو في الأرض وسفك الدماء، وعلى [زعم] اكتساب النبوة برياضة النفوس وطول المجاهدة، وبلوغ كمال المعرفة وكمال النفس بذلك من غير تقييد بقانون الشرع، وعلى إيثار انقطاع الناس إلى اللَّه تعالى بالإعراض عن نبيهم وعدم الالتفات إليه أصلاً، توهماً أن ذلك هو اللائق بتوحيد الباري والتعبد له ونحو ذلك، فكل ذلك وما أشبهه هوس باطل ليس من الحكمة في ورد ولا صدر، فإِن الحكمة مرجعها الإِصابة ... . ومن هذا النمط ما دونه حكماء3 الفلاسفة في العلم الإلهي من فنون الفلسفة من الهوس والأباطيل، والاعتقادات

_ 1 الشعبذة أو الشعوذة: خفة اليد ومخاريق وأخذ كالسحر، يُرى الشيء بغير ما هو عليه في رأي العين. انظر: معجم متن اللغة، للشيخ أحمد رضا، (3/329) دار القبلة. 2 الحسن البوسي. 3 ما دام أنه حكم على ما عندهم - مما يسمونه بالعلم الإلهي - بالهوس والأباطيل، فوصفهم بالحكماء - والحالة هذه - فيه تَجَوُّز، والأليق بهم وصف السفهاء.

الزائغة والحجج الواهية، وكذا ما لنظرائهم من الطبيعيين وأشباههم من فرق المعتزلة1 وطوائف المبتدعة2 الضالين

_ 1 هم أتباع واصل بن عطاء الذي ابتدع القول بأن مرتكب الكبيرة من المسلمين في منزلة بين المنزلتين، واعتزل على ذلك مجلس الحسن البصري فسُموا المعتزلة لذلك. واستقر أمرهم على أصول خمسة مشهورة هي: العدل، التوحيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوعد والوعيد. وقد ضمنوا كل أصل منها بدعاً وضلالات تخالف ما دل عليه القرآن الكريم، وما جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح. وهم يجمعون بين نفي الصفات ونفي القدر. ولهم ضلالات أخرى، وسُموا بالقدرية لنفيهم القدر. انظر: شرح الأصول الخمسة، والملل والنحل، (1/43، 44) والفرق بين الفرق (117) . 2 ومنهم: "الأشاعرة" و "الماتريدية" فهي فرق مبتدعة لم تكن معروفة في القرون الثلاثة المفضلة، وهي خليط من أفكار الجهمية والمعتزلة، ويوافقون أحياناً ما ذهب إليه السلف، وأحياناً يصوغون عقائدهم المبتدعة بألفاظ ظاهرها يوافق ما عليه السلف ومرادهم به باطل، كقولهم مثلاً: "إِن اللَّه يتكلم حقيقة" ومرادهم المعنى الواحد القائم بالنفس، لا أن اللَّه يتكلم بكلام يبدأ منه متى شاء كيف شاء، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (النحل: 40) . وما هم عليه الآن في توحيد الأسماء والصفات بعيد جداً عما كان عليه السلف الصالح، بل هو أقرب في حقيقته وحاصله في كثير من المطالب إلى مذهب المعتزلة. ومع ذلك فهم مرجئة في باب الإِيمان، جبربة في باب القدر، ولهم بدع أخرى، انظر: الفرق الإسلامية الكلامية، (278) . ومجموع الفتاوى، (12/204، 368) ، (13/131) .

المضلين"1. المعنى الاصطلاحي للحكمة: اختلفت عبارات السلف الصالح في المراد بالحكمة التي علَّمها النبي صلى الله عليه سلم أُمته، والمشار إليها في نحو قوله تعالى: {وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} 2. والحكمة التي يؤتيها اللَّه عباده، والمشار إليها بقوله تعالى: {يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} 3. وأقوال السلف في معنى (الحكمة) تنحصر فيما يأتي4: 1 - القرآن والفقه به. 2 - السنة. 3 - المعرفة بالدين والفقه فيه. 4 - النبوة.

_ 1 زهر الأكم في الأمثال والحكم، (1/39، 40) . 2 سورة الجمعة الآية رقم (2) . 3 سورة البقرة الآية رقم (269) . 4 انظر: جامع البيان، لابن جرير، (1/607) .

1 - الإصابة في القول والفعل. 2 - الخشية. 3 - شيء يجعله اللَّه في القلب ينور له به. وقد رجح ابن جرير - رحمه اللَّه - أن معنى الحكمة هو: الإصابة في القول والفعل لما دل عليه الكتاب والسنة، حيث قال: "والصواب من القول عندنا في (الحكمة) أنها العلم بأحكام اللَّه التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه سلم، وما دل عليه ذلك من نظائره، وهو عندي مأخوذ من (الحكم) الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل.. يقال منه: (إن فلاناً لحكم بَيِّن الحكمة) يعني به: إنه ليبين الإصابة في القول والفعل"1. وذكر في موضع آخر أن ما رجحه في معنى الحكمة - وهو الإصابة في القول والفعل لما دل عليه الكتاب والسنة - ينتظم تلك المعاني حيث قال: "وإذا كان ذلك كذلك معناه، كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك، داخلاً فيما قلنا من ذلك، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة، وإذا كان ذلك كذلك، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره مفهماً خاشياً للَّه فقيهاً

_ 1 جامع البيان، (1/608) .

عالماً، وكانت النبوة من أقسامه، لأن الأنبياء مسددون مُفَهَّمون، وموفقون لإصابة الصواب في الأمور. (والنبوة) بعض معاني (الحكمة") 1. وقال الإمام النووي2 - رحمه اللَّه - مبيناً ذلك: "وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة ... وقد صفا لنا منها أن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالإحكام المشتمل على المعرفة باللَّه تبارك وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق والعمل به، والصد عن اتباع الهوى والباطل. والحكيم مَنْ له ذلك"3. فحقيقة الحكمة وكمالها: هي معرفة الحق والصواب في المعتقدات والأقوال والعبادات والأخلاق والمعاملات، وسائر الأعمال والأحوال، والعمل بموجب ذلك، ومعرفة أضدادها والإِحجام عنها، ويصحب ذلك صدق الفراسة ونفاذ

_ 1 جامع البيان، (3/91) . 2 الإمام العلامة أبو زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي، ولد سنة 631هـ، من مؤلفاته: شرح صحيح مسلم، والأذكار، ورياض الصالحين، والأربعون النووية، وحلية الأبرار، وغيرها كثير، توفي سنة 676هـ، ببلده نوى. انظر: البداية والنهاية، (13/294) ، وشذرات الذهب (5/354) ، وطبقات الشافعية للسبكي، (8/395) . 3 شرح الإمام النووي على صحيح الإمام مسلم، (2/33) .

البصيرة في الأمور وعواقبها. وطريق تحصيلها: هو العلم بالكتاب والسنة، ومعرفة سير الأنبياء وأتباعهم من المؤمنين الصادقين، والاطلاع على تجاربهم ومواقفهم، لتكون مثالاً يُحتذى، والاعتبار بقصص الضالين والظالمين والمفسدين وما آلوا إليه من العواقب السيئة ليكونوا أمثلة سوء تُجتنب. الحكمة في الأمثال القرآنية: الأمثال القرآنية جزء من آيات القرآن الحكيم، واللَّه سبحانه قد وصف كتابه بأنه حكيم في نحو قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} 1. وقوله: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} 2. وحول وصف القرآن بأنه "حكيم" قال الراغب الأصفهاني: "وإذا وصف به القرآن فلتضمنه الحكمة ... وقيل معنى الحكيم المحكم نحو: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} 3، وكلاهما صحيح، فإِنه محكم ومفيد للحكم، ففيه المعنيان جميعاً"4.

_ 1 سورة يونس الآية رقم (1) . 2 سورة يس الآية رقم (1) . 3 جزء من الآية (1) سورة هود. 4 المفردات في غريب القرآن ص (127) .

فالقرآن "حكيم" لأنه محكم متقن، ولأنه مشتمل على الحكمة يدل عليها، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي1 - رحمه اللَّه - في تفسير قول اللَّه تعالى: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} : "من حكم، وهو يأتي بمعنى منع، وأتقن، وكلاهما مراد هنا، لأن القرآن الكريم أحكم بمعنى منع الخلل والفساد أن يأتياه، وهو متقن في أخباره لا يدخلها كذب، وفي أحكامه العادلة لا يعتريها ظلم"2. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي3 - رحمه اللَّه - في تفسير قوله

_ 1 هو العلامة محمد الأمين بن محمد المختار، بن عبد القادر الجكني الشنقيطي، ولد عام 1325هـ، في موريتانيا، كان على علم غزير في التفسير، والعقيدة، والفقه وأصوله، واللغة، وغيرها، ومن مؤلفاته: تفسير القرآن الكريم المسمى: أضواء البيان، وكتاب منع المجاز، وغيرها. سكن المدينة النبوية، ودرس بالجامعة الإسلامية، توفي - رحمه اللَّه - 1393هـ، انظر: ترجمته بقلم تلميذه الشيخ عطية سالم في مقدمة أضواء البيان، وكتاب: علماء ومفكرون عرفتهم، لمحمد المجذوب، ص (171) ، عالم المعرفة، الطبعة الثانية، 1403هـ. 2 معارج الصعود إلى تفسير سورة هود، للشيخ محمد المختار الشنقيطي، ص (34) ، كتبه عنه: عبد اللَّه بن أحمد قادري، دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة، الطبعة الأولى، 1408هـ. 3 الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد اللَّه آل سعدي التميمي، من بلدة عنيزة بالقصيم، عالم مبرز في فنون كثيرة، كالعقيدة والتفسير وأصوله، والفقه وأصوله، والنحو، والتربية، وغيرها. من مؤلفاته: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، والدرة البهية في شرح القصيدة التائية، وتوضيح الكافية الشافية، وغيرها، توفي - رحمه اللَّه - عام 1376هـ. انظر: الأعلام، لخير الدين الزركلي، (3/340) . وعلماء نجد خلال ستة قرون، لعبد اللَّه البسام، (2/422) .

تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} : "هذا قَسَمٌ من اللَّه تعالى بالقرآن الحكيم الذي وصفُه الحكمة، وهي وضع كل شيء موضعه: وضع الأمر والنهي في المحل اللائق بهما، فأحكامه الشرعية والجزائية كلها مشتملة على غاية الحكمة، ومن حكمة هذا القرآن أنه يجمع بين ذكر الحكْم وحكمته، فينبه العقول على المناسبات والأوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها"1. فكلام الشيخ الشنقيطي - رحمه اللَّه - يبين المعنى الأول، وهو: أن القرآن حكيم بمعنى محكم، وكلام الشيخ السعدي - رحمه اللَّه - يبين المعنى الثاني، وهو: أن القرآن حكيم، بمعنى أنه يتضمن الحكمة، ويدل عليها، ويعلمها. فالأمثال القرآنية إذاً يصدق فيها هذان الوصفان حيث إنها جزءٌ من القرآن.

_ 1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (6/333) .

فهي محكمة في ألفاظها ومعانيها، قاطعة في براهينها، متقنة القياس. وهي تهدي إلى الحكمة، حيث تضرب لبيان الحق في العقائد، والأخلاق، والمعاملات والأحوال ونحوها، ومن تفكر في الأمثال القرآنية وتدبرها وفقهها وعمل بما دلت عليه فقد أوتي حظاً عظيماً من الحكمة. وخلاصة القول: أن الأمثال القرآنية أمثال حكيمة تتضمن المعانيَ الحسنة والبراهين الواضحة. والتدبر والتفكر والتذكر والتعقل المندوب إليه في الأمثال القرآنية إنما يكون باستخلاص وفِقْهِ ما تتضمنه من الحكم والعمل بموجبها. وهذا البحث - إن شاء اللَّه- يسهم في هذا الجانب، حيث يقرب فهم ما تتضمنه الأمثال من الحِكَم؛ ليسهل فهمها والعمل بها - واللَّه المستعان -.

المبحث الثالث: أهمية الأمثال القرآنية وأغراضها.

المبحث الثالث: أهمية الأمثال القرآنية وأغراضها. المطلب الأول: في بيان أهمية أمثال القرآن ... المبحث الثالث: أهمية الأمثال القرآنية وأغراضها. إن الكلام على أهمية الأمثال وأغراضها متداخل، وذلك أن أهمية الشيء تتوقف على الأغراض التي يؤديها. وسوف يجري الكلام على هذا المبحث من جانبين: الجانب الأول: ما ورد من الإشادة بالأمثال عامة، وأمثال القرآن خاصة. والجانب الثاني: الأغراض التي ضربت لها أمثال القرآن. وسأُفْرِدُ لكل منهما مطلباً مستقلاً.

المطلب الأول: في بيان أهمية أمثال القرآن: لقد اعتنى العلماء والأدباء والبلاغيون بالأمثال والتشبيه، وأكثروا من الثناء عليها والإِشادة بأثرها في إِيضاح المعاني وتقريبها من ذهن السامع، مما يؤدي إلى سرعة الفهم، ويعين على التفكر والاعتبار، إلا أن الملاحظ أن جُلَّ أقوالهم تدور حول "الأمثال السائرة" ولعل من أجمع ما قيل في الثناء عليها ما رُوي عن إبراهيم النظام1: "يجتمع في الأمثال أربعة لا تجتمع في غيرها من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية"2. وتشترك الأمثال القياسية - التمثيلية، والأنموذجية - في هذه المميزات التي ذكرها النظام إلا في قوله: "إيجاز اللفظ" فلا يلزم في الأمثال التشبيهية أو الأنموذجية أن يكون المثل موجزاً في لفظه وإن كان المثل التشبيهي أقرب إلى الإِيجاز من المثل الأنموذجي الذي قد يكون عبارة عن

_ 1 هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار المعروف بالنظام، أحد شيوخ المعتزلة، وتنسب إليه فرقة النظامية، أخذ بدعة الاعتزال عن خاله أبي هذيل العلاف، توفي ما بين سنة: 221-223هـ. انظر: الفرق بين الفِرق، لعبد القاهر البغدادي، ص (131) . وتاريخ بغداد، (6/97) . 2 الأمثال في الحديث النبوي، للحافظ أبي الشيخ الأصبهاني، ص (18) ، تحقيق د. عبد العلي عبد الحميد حامد، الدار السلفية، بومباي، الطبعة الثانية، 1408هـ.

قصة كاملة كما في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} 1. والذي يعنينا هنا هو بيان أهمية الأمثال القياسية التمثيلية أو الأنموذجية التي وردت كثيراً في القرآن الكريم، ويدور هذا البحث حول طائفة منها. قال الماوردي2- رحمه اللَّه -: "وللأمثال من الكلام موقع في الأسماع، وتأثير في القلوب، لا يكاد الكلام المرسل يبلغ مبلغها، ولا يؤثر تأثيرها لأن المعاني بها لائحة، والشواهد بها واضحة، والنفوس بها وامقة، والقلوب بها واثقة، والعقول لها موافقة، فلذلك ضرب اللَّه الأمثال في كتابه العزيز، وجعلها من دلائل رسله، وأوضح بها الحجة على خلقه، لأنها في العقول معقولة، وفي القلوب مقبولة"3.

_ 1 سورة يس الآية رقم (13) . 2 هو أبو الحسن، علي بن محمد بن حبيب الملقب بالماوردي، الشافعي، القاضي، ولد في البصرة سنة 364هـ، من مؤلفاته: النكت والعيون في التفسير، والأحكام السلطانية، توفي في بغداد سنة 450هـ. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان، (3/282) ، وسير أعلام النبلاء، (18/64) . 3 أدب الدنيا والدين، لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي، ت/ مصطفى السقا، ص (275) شركة مصطفى الحلبي، مصر، الطبعة الرابعة، 1393هـ.

وهذا الوصف للأمثال إنما ينطبق على أمثال القرآن الكريم، وصالح لنوعي المثل فيه، ما كان منها تشبيهياً أو أنموذجياً؛ أما أمثال الناس، فمنها ما يكون كما قال، ومنها ما يعتريه كلل أو علل. ومما ورد في بيان أهمية المثال التشبيهي قول بعضهم: "تشبيه التمثيل أبلغ من غيره، لما في وجهه من التفصيل الذي يحتاج إلى إمعان فكر، وتدقيق نظر، وهو أعظم أثراً في المعاني، يرفع قدرها، ويضاعف قواها في تحريك النفوس لها، فإِن كان مدحاً كان أوقع، أو ذماً كان أوجع، أو برهاناً كان أسطع، ومن ثم يحتاج إلى كد الذهن في فهمه"1. قوله: "يحتاج إلى كد الذهن في فهمه": هذا من خصائص الأمثال القياسية: التشبيهية والأنموذجية، فهي تحتاج إلى نظر واستنباط علمي، قال اللَّه تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} 2. والمراد بقوله تعالى: "وما يعقلها": أي يتدبرها تدبراً يؤدي إلى الفهم عن اللَّه مراده، والانتفاع به في فهم حقائق الأشياء والعمل

_ 1 جواهر البلاغة، أحمد الهاشمي، ص (265) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، تاريخ: بدون. 2 سورة العنكبوت الآية رقم (43) .

بموجب ذلك. فأهل العلم الذين هم أولو الألباب هم الذين يتصفون بهذه الصفة، وهم واسطة التعليم وشهداء اللَّه على خلقه، وغيرهم إذا صفت سرائرهم وسلمت فطرهم، فإنهم بمجرد أن يبين لهم أهل العلم معنى هذه الأمثال، يسطع نورها في قلوبهم وتشرق لهم حجتها، ويسهل عليهم الانتفاع بها؛ أما من انحرفت فطرهم ولم يتجرد للحق قصدهم فَهُمْ وإن فهموها فإنهم لا يعقلونها ولا ينتفعون بها، كما قال سبحانه: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلََكِن تَعْمَىَ الْقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ} 1. وهذه الآية، وهي قوله تعالى: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاّ الْعَالِمُونَ} . ومثلها، قوله - عز وجل -: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ} 2. تدل على أهمية الأمثال من عدة وجوه:

_ 1 سورة الحج الآية رقم (46) . 2 سورة الحشر الآية رقم (21) .

الوجه الأول: الإشارة إليها بـ {تِلْكَ} حيث عدل سبحانه عن الإشارة إلى المفرد الحاضر إلى الإشارة إلى الجمع الغائب لإرادة جنس الأمثال القرآنية، وذلك أن كِلْتا الآيتين جاءت بعد سوق مثل من أمثال الإيمان، فبدل أن يقول: وهذا المثل أو هذه الأمثال قال: {تِلْكَ الأمْثَالُ} وفي ذلك سر بلاغي، وهو: الإشارة إلى علو شأنها وبعدها عن غيرها من الكلام وتميزها وتفردها بالمعاني العظيمة والحكم البالغة، كيف لا وهي جزء من كلام اللَّه عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهذا المعنى هو المعتبر - واللَّه أعلم - في قوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} 1 حيث عبر بـ "ذلك" بدل "هذا". قال الراغب الأصفهاني: "ويقال بإزاء "هذا" في المستبعد بالشخص أو المنزلة: (ذاك) أو (ذلك) قال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} 2.

_ 1 سورة البقرة الآيتان رقم (1، 2) . 2 المفردات في غريب القرآن، ص (183) .

ومثله استخدام "تلك" بدل "هذه" لنفس الغرض. وقال بعض المفسرين مبيناً الحكمة من التعبير بـ "ذلك" بدل "هذا" في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} : "إشارة إلى معنَى عُلُوّ شأنه وبعده عن غيره من الكلام، وتميزه وتفرده بالمعاني العظيمة والحكم البالغة"1. الوجه الثاني: الذي يدل على أهمية الأمثال مستفاد من قوله تعالى: {نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ} . قال الشيخ عبد الرحمن السعدي مبيناً ذلك: "أي لأجلهم ولانتفاعهم وتعليمهم، لكونها من الطرق الموضحة للعلوم، لأنها تقرب الأمور المعقولة، بالأمور المحسوسة، فيتضح المعنى المطلوب بسببها، فهي مصلحة لعموم الناس"2. فاللَّه سبحانه ما ضرب الأمثال للناس في كتابه الحكيم بل في جميع كتبه إلا لما لها من الأثر البالغ في تفهيمهم وتعليمهم، فضربها سبحانه وصرفها رحمة بعباده ليتعلموا من ربهم ويفهموا عنه بمختلف أساليب البيان.

_ 1 تفسير النسفي، (1/11) . 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (6/89) .

قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ} 1. قال الزركشي2 - رحمه اللَّه - مبيناً أهمية المثل: "ومن حكمته تعليم البيان، وهو من خصائص هذه الشريعة، والمثل أعون شيء على البيان ... وفي ضرب الأمثال من تقرير المقصود ما لا يخفى، إذ الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والشاهد بالغائب ... وقد أكثر تعالى في القرآن وفي سائر كتبه من الأمثال"3. الوجه الثالث: في بيان أهمية الأمثال مستفاد من قوله: {وَمَا يَعقِلهَا إِلا العَالمونَ} فتخصيص أهل العلم بتعقلها يدل على علو قدرها، فأهل العلم هم أهلها الطالبون لها المدركون لأهميتها، والمتدبرون لها والمنتفعون بها، ومن جهة

_ 1 سورة الزمر الآية رقم (27) . 2 الإمام بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد اللَّه الزركشي، الشافعي، أحد علماء مصر في القرن الثامن الهجري، ولد سنة 745هـ، من مؤلفاته: البحر المحيط في أصول الفقه، والبرهان في علوم القرآن وغيرها، توفي سنة 794هـ. انظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، (3/397) . وشذرات الذهب، (6/335) . 3 البرهان في علوم القرآن، (1/ 487، 488) ت/ محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، سوريا، الطبعة الأولى، 1376هـ.

أخرى فإِن من علمها واعتنى بها كان ذلك دليلاً على علمه وفقهه. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه اللَّه - في قوله تعالى: {وَمَا يَعقِلهَا إِلا العَالمونَ} : "وهذا مدح للأمثال التي يضربها، وحث على تدبرها وتعقلها، ومدح لمن يعقلها، وأنه عنوان على أنه من أهل العلم، فعلم أن من لم يعقلها ليس من العالمين، والسبب في ذلك، أن الأمثال التي يضربها اللَّه في القرآن إنما هي للأمور الكبار، والمطالب العالية، والمسائل الجليلة، فأهل العلم، يعرفون أنها أهم من غيرها، لاعتناء اللَّه بها، وحثه عباده على تعقلها، وتدبرها، فيبذلون جهدهم في معرفتها، وأما من لم يعقلها مع أهميتها، فإِن ذلك، دليل على أنه ليس من أهل العلم، لأنه إذا لم يعرف المسائل المهمة فعدم معرفته غيرها من باب أولى وأحرى، ولهذا، أكثر ما يضرب اللَّه الأمثال في أصول الدين ونحوها"1. وقد عدها الإمام الشافعي - رحمه اللَّه - مما يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن، فقال: "ثم معرفة ما ضرب فيه من الأمثال، الدوال على طاعته، المثبتة لاجتناب معصيته، وترك الغفلة عن الحفظ، والازدياد من نوافل الفضل"2.

_ 1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (6/89) . 2 انظر: البرهان في علوم القرآن، (1/486) .

الوجه الرابع: في الدلالة على أهمية الأمثال المستفاد من قوله: {لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ} وقوله: {لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ} وذلك أنها بينت العلة التي من أجلها ضرب اللَّه الأمثال للناس وصرَّفها لهم في كتابه العزيز، وهي: رجاء تفكرهم، وتعقلهم لها ثم تذكرهم بمعرفة الحق الذي ضربت له والانتفاع به. فالأمثال تسهل للناس التفكر، والتعقل، والتذكر بما تشتمل عليه من مقايسة الأمور وإلحاق النظير بنظيره، والمساواة بين المتشابهات في الأحكام، وتوضح الغامض أو المجهول بالمعلوم المحسوس أو المعقول، وهذا هو الاعتبار المؤدي إلى استخلاص العبر والحكم مما ورد في الكتاب الكريم من الأمثال بمختلف أنواعها. قال صلى الله عليه سلم: "إن هذا القرآن ينزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف، حلال وحرام، وأمر وزجر، وضرب أمثال، ومحكم ومتشابه، فأحلَّ حلال اللَّه وحرّمْ حرامه، وافعلْ ما أمر اللَّه، وانتهِ عما نهى اللَّه عنه، واعتبرْ بأمثاله، واعملْ بمحكمه، وآمنْ بمتشابهه، وقل: {كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} 1"2.

_ 1 سورة آل عمران الآية رقم (7) . 2 رواه ابن الجوزي في فنون الأفنان ص (202) ، تحقيق: د. حسن ضياء الدين عتر، ورواه ابن حبان في صحيحه، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، (3/20، 22) والحاكم في المستدرك (1/553) ، وقال: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وانظر تصحيح هذا الحديث في تعليق د. فاروق حماده على فضائل القرآن للنسائي ص (53) .

قال ابن القيم - رحمه اللَّه -: "وقد أخبر سبحانه أنه ضرب الأمثال لعباده في غير موضع من كتابه، وأمر باستماع أمثاله، ودعا عباده إلى تعقلها، والتفكير فيها والاعتبار بها"1 وقال أيضاً: "فهذه وأمثالها من الأمثال التي ضربها رسول اللَّه صلى الله عليه سلم لتقريب المراد، وتفهيم المعنى، وإيصاله إلى ذهن السامع، وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثل به، فإِنه قد يكون أقرب إلى تعقله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره، فإِن النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأنس التام، وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير، ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره، وكلما ظهرت لها الأمثال ازداد المعنى ظهوراً ووضوحاً، فالأمثال شواهد المعنى المراد، ومزكية له، فهي كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، وهي خاصة العقل ولبه وثمرته"2.

_ 1 إعلام الموقعين عن رب العالمين، (1/ 195) . 2 المصدر السابق، (1/239) .

وهذا الكلام من الإمام ابن القيم - رحمه الله - يصور بجلاء تلك الخاصية الهامة للأمثال وهي كونها تسهل فهم المعنى المراد، وتعين على التفكر والتذكر والاعتبار. الأمثال والميزان العقلي الشرعي: الميزان العقلي الصحيح هو الحكم بالعدل، وهو يقوم على التسوية بين المتماثلات في الحكم والتفريق بين المختلفات. قال اللَّه تعالى: {اللهُ الّذِيَ أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَالْمِيزَانَ} 1. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه اللَّه - في تفسير هذه الآية: "فالكتاب هو هذا القرآن العظيم، نزل بالحق، واشتمل على الحق، والصدق، واليقين، وكله آيات بينات، وأدلة واضحات، على جميع المطالب الإلهية، والعقائد الدينية، فجاء بأحسن المسائل وأوضح الدلائل. وأما الميزان فهو العدل، والاعتبار بالقياس الصحيح، والعقل الرجيح، فكل الدلائل العقلية، من الآيات الأفقية والنفسية، والاعتبارات الشرعية، والمناسبات، والعلل والأحكام، والحكم، داخلة في الميزان، الذي أنزله اللَّه تعالى، ووضعه بين عباده، ليزنوا به ما أثبته، وما نفاه من الأمور، ويعرفوا به صدق ما أخبر به، وأخبرت به رسله"2.

_ 1 سورة الشورى الآية رقم (17) . 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (6/604) .

والأمثال القرآنية جزء من ذلك الميزان الذي أنزله اللَّه لعباده، لينبه بها عقولهم ويعرفوا بها التماثل والاختلاف، فيسووا بين المتماثلات ويفرقوا بين المختلفات. وهذه العلاقة بين الأمثال القرآنية والميزان هي من أعظم مزايا الأمثال القرآنية وأهمها، وهذا معنى دقيق جليل، نبه إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه - ولم أقف على من أشار إلى هذا المعنى ممن كتبوا في الأمثال، لذا سأنقل مقتطفات من كلامه - رحمه اللَّه - لتجلية هذه الفائدة. قال - رحمه اللَّه -: "وقد اتفق العقلاء على أن ضرب المثل مما يعين على معرفة الكليات، وأنه ليس الحال إذا ذكر مع المثال كالحال إذا ذكر مجرداً عنه"1. وقال: "ومن أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف، فإذا رأى الشيئين المتماثلين علم أن هذا مثل هذا، فجعل حكمهما واحداً، كما إذا رأى الماء والماء، والتراب والتراب ... فهذا قياس الطرد، وإذا رأى المختلفين كالماء والتراب فرق بينهما، وهذا قياس العكس.

_ 1 مجموع الفتاوى، (9/238) .

وما أمر اللَّه به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس، فإِنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم، كان من الاعتبار أن يعلم أن من فعل مثل ما فعلوا أصابه مثل ما أصابهم، فيتقي تكذيب الرسل حذراً من العقوبة، وهذا قياس الطرد، ويعلم أن من لم يكذب الرسل لا يصيبه ذلك، وهذا قياس العكس. والاعتبار يكون بهذا وبهذا، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ} 1 وقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} إلى قوله: {إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبْصَارِ} 2"3. وقال: "والميزان فسره السلف بالعدل، وفسره بعضهم بما يوزن به وهما متلازمان، وقد أخبر تعالى أنه أنزل ذلك كما أنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط، فما يعرف به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان، وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات.. فالقياس الصحيح هو من العدل الذي أمر اللَّه به"4.

_ 1 سورة يوسف الآية رقم (111) . 2 سورة آل عمران الآية رقم (13) . 3 مجموع الفتاوى، (9/239) . 4 مجموع الفتاوى (9/240) .

وقال: "والميزان التي أنزلها اللَّه مع الكتاب ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشيء بمثله، وخلافه، فتسوى بين المتماثلين وتفرق بين المختلفين بما جعله اللَّه في فطر عباده وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف. فإذا قيل: إن كان هذا مما يعرف بالعقل، فكيف جعله اللَّه مما أرسل به الرسل؟ قيل: لأن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف، فإِن الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل، ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية، فليست العلوم النبوية مقصورة على الخبر، بل الرسل صلوات اللَّه عليهم بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين اللَّه علماً وعملاً، وضربت الأمثال فكملت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها لما كانت الفطرة معرضة عنه، أو كانت الفطرة قد فسدت بما يحصل لها من الآراء، والأهواء الفاسدة فأزالت ذلك الفساد، والقرآن والحديث مملوءان من هذا، يبين اللَّه الحقائق بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة، ويبين طريق التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله: {أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ} 1 الآية، وكقوله:

_ 1 سورة الجاثية الآية رقم (21) .

{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 1 أي هذا حكم جائر لأن فيه تسوية بين المختلفين. ومن التسوية بين المتماثلين قوله: {أَكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ} 2". إلى أن قال: "والمقصود التنبيه على أن الميزان العقلي حق كما ذكر اللَّه في كتابه، وليست هي مختصة بمنطق اليونان، بل هي الأقيسة الصحيحة المتضمنة للتسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، سواء صيغ ذلك بصيغة قياس الشمول أو بصيغة قياس التمثيل"3. وخلاصة كلامه - رحمه اللَّه -: أن الأمثال القرآنية - ما كان منها أمثالاً تمثيلية تشبيهية تقوم على قياس التمثيل أو كان أمثالاً أنموذجية تقوم على أساس قياس الشمول - هي موازين عقلية ضمنها اللَّه كتابه توزن بها القضايا التي قد يستشكلها بعض الناس، أو الحادثة التي يحصل الخلاف والنزاع والجدال حولها، فتأتي الأمثال القائمة على مقايسة تلك الأمور على ما يشابهها لإيضاح حكمها وإلحاقها بها، أو مقايستها على ما يخالفها لبيان بعدها عنها وإزالة الشُبَه التي أوهمت قربها منها.

_ 1 سورة القلم الآيتان رقم (35، 36) . 2 سورة القمر الآية رقم (43) . 3 مجموع الفتاوى، (9/243) .

والحق أن هذه الخاصية للأمثال هي سر أهميتها في مجال الإِيضاح والإِقناع وبيان الحجة. الأمثال من حجة الله على العباد: إن مما يدل على أهمية الأمثال التي يضربها الله للناس في كتبه وعلى ألسنة رسله - صلوات الله وسلامه عليهم - أن الله جعلها جزءاً من حجته البالغة، التي بلّغها الرسل لأقوامهم. وقد بين الله تعالى هذا المعنى في قوله: {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} 1. وقال جل من قائل بعد أن ذكر تدميره لفرعون وقومه، وإغراقه قوم نوح، وإهلاكه عاداً وثمود وأصحاب الرس، وقرونا بين ذلك كثيرا، قَال: {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} 2. وبين سبحانه أنه ضمن القرآن الكريم أمثالا من الأمم السابقة،

_ 1 سورة إبراهيم الآيتان رقم (44-45) . 2 سورة الفرقان الآية رقم (39) .

وصرف فيه الأمثال للناس، لتكتمل جوانب البشارة والإنذار، وتبلغهم المواعظ والزواجر، وتتضح معالم الدين، وتستبين الطريق، وتتم الحجة. قَال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} 1. وقال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} 2. وثمرة العلم بهذه الأهمية للأمثال تكون بتظافر جهود أهل العلم بالعناية بالأمثال، بدراستها، وتدريسها، ونشرها بين الناس في مختلف الوسائل والمجالات المناسبة، ليستفيد الناس من هدايتها، وتمكينا لحجة الله على عباده. والله أعلم. خلاصة هذا المطلب: تبين مما تقدم - من أقوال أهل العلم واللغة في الإشادة بالأمثال - أهمية ضرب الأمثال بمختلف أنواعها في البيان والإيضاح، وأن الأمثال القياسية التشبيهية، أو الأنموذجية تتميز بدورها في إقامة الحجة، وتفهيم

_ 1 سورة النور الآية رقم (34) . 2 سورة الكهف، الآية رقم (54) .

المراد، وتقديم الموعظة، بأسلوب مقايسة النظير بنظيره، والشيء بمثاله، لذلك كان أكثر أمثال القرآن الكريم من هذين النوعين. كما تبين أن إشادة القرآن الكريم بأمثاله استنبطت من عدة مواضع، منها: الإشارة إليها بـ"تلك" التي تدل على عظم شأنها وبالغ أثرها. ومنها: الإشارة إلى أنها ضربت للناس، مما يدل على حاجتهم إليها وكونها من الطرق الموضحة للعلوم والمبينة للحجج، الهادية إلى الحق. ومنها: وصفها بأنها {وَمَا يَعقِلهَا إِلا العَالمونَ} لكونها تضرب للأمور الكبار والمطالب العالية، والمسائل الجليلة. ومنها: تعليل ضربها برجاء تفكر الناس فيها وتدبرهم لها واعتبارهم بها، مما يدل على خاصيتها في تسهيل ذلك عليهم وتقريبه لهم. وتبين أن السر في هذه الأهمية البالغة هو في كونها من موازين الحق التي أنزلها اللَّه في كتابه ونبه بها عقول عباده إلى الأقيسة الصحيحة المتضمنة للتسوية بين المتماثلات في الأَحكام والأوصاف والتفريق بين المختلفات، وذلك عن طريق الصيغ التي جاءت بها الأمثال القرآنية من صيغ قياس الشمول، أو صيغ قياس التمثيل، أو قياس الأولى. وهي بذلك كله من تمام حجة الله على خلقه، حيث ضرب الله الأمثال لجميع الأمم السابقة، وفصلها في خاتم كتبه القرآن الكريم، وضربها النبي صلى الله عليه سلم لأمته، فكمل بذلك البيان، واستنار الطريق، وتمت حجة الله على عباده. والله أعلم.

المطلب الثاني: أغراض الأمثال القرآنية

المطلب الثاني: أغراض الأمثال القرآنية: إن المتكلم الفصيح الذي يلجأ إلى الأساليب غير المباشرة - ومنها الأمثال - في وصف وبيان ما يريد، إنما يفعل ذلك لحكمة وغرض معين. والأمثال القرآنية ضربت لأغراض سامية، وكل تلك الأغراض تدور حول غرض أساس، هو البيان والإِيضاح لمراد اللَّه عز وجل، والبلاغ لحقيقة دينه، وحقيقة ما يضاده، وكل ما يحتاج إليه البشر للتعرف على حق اللَّه - عز وجل - وما يترتب على القيام به من كرامة اللَّه في الدنيا والآخرة، والتعرف على ضده وما يترتب على من سلكه من سخط اللَّه. قال اللَّه تعالى: {وَلَقَدْ صَرّفْنَا لِلنّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ} 1. وغاية ذلك البيان هو الترغيب في الحق والحث على اعتناقه، والترهيب من الباطل والتنفير منه، والأمثال من رحمة اللَّه عز وجل بعباده حيث يَسَّر بها وبغيرها من ضروب القول كلامه للتذكر والتدبر، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ} 2.

_ 1 سورة الإسراء الآية رقم (89) . 2 سورة القمر الآية رقم (17) .

وقد جمع الأغراض التي تضرب لأجلها أمثال القرآن الكريم الإمام بدر الدين الزركشي بقوله: "وضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير وترتيب المراد للعقل، وتصويره في صورة المحسوس.. وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر أو إبطال أمر، قال تعالى: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ} 1، فامتن علينا بذلك لما تضمنت هذه الفوائد"2. ويمكن حصر الأغراض التي تُضرب لها أمثال القرآن بما يلي: 1 - ضرب المثل لإِيضاح المراد وتقريبه للمخاطب. 2 - إقامة الحجة والبرهان. 3 - الإقناع بالترغيب في الحق وتحسينه، والترهيب من الباطل وبيان قبحه، والمدح والذم. 4 - الدلالة على كثير من الحكم والفوائد العلمية. التربية بإبراز القدوة الحسنة والحث على الاقتداء بها والتنفير

_ 1 سورة إبراهيم الآية رقم (45) . 2 البرهان في علوم القرآن، (1/486) .

1 - من ضدها. 2 - أن أمثال القرآن أصول وقواعد لعلم تعبير الرؤيا. فهذه هي الأغراض الأساسية التي ضربت من أجلها الأمثال القرآنية، وقد يضرب المثل لأكثر من غرض، وسأقدم فيما يلي شرحاً موجزاً لكل غرض من هذه الأغراض: أولاً: ضرب المثل لإيضاح المراد وتقريبه للمخاطب. الممثَّل له قد يكون معنىً أو ذاتاً يجهلها المخاطَب، ويتعذر إحضارها إليه لمشاهدتها، وقد يكون في التعريف بها مباشرة بذكر أوصافها إطالة قد تؤدي إلى تشتيت ذهن المخاطَب، أو التباس الأمر عليه، فيحسن عند ذلك ضرب المثل له لتقريب المعاني الوجدانية، أو الأفكار، أو الذوات المحسوسة الغائبة إلى ذهن المخاطَب بمثال محسوس له إحساساً مادياً أو إحساساً وجدانياً. ومن أمثلة هذا النوع ضرب المثال لما يكون في الجنة من النعيم المادي المحسوس الذي ليس بمقدور المخاطَبين إدراكه بحواسهم فيقربه اللَّه بمثال محسوس لهم. قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} 1 ونحوها، ومن ذلك ضرب

_ 1 سورة الواقعة الآيتان رقم (22، 23) .

المثل لتقريب تصور ما يكون في النار من العذاب كقوله تعالى: {إِنّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} 1 ونحوها. فاللؤلؤ، والقصر والجمالة الصفر هي موجودات مادية يحسها المخاطبون بحواسهم المادية. وقد يشبه لهم ما يراد تقريبه من الأمور الغيبية بأمر محسوس لهم إحساساً وجدانياً، حيث يستقر في أفهامهم وشعورهم قبح ذلك الشيء أو حسنه، ومن ذلك قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنّهُ رُءُوسُ الشّيَاطِينِ} 2. حيث استقر في حس المخاطبين الوجداني قبح الشياطين وخبثها وشناعة منظرها. وقد يكون الممثَّل له سنة من سنن اللَّه الجارية، التي يعامل بها عباده، ليس بمقدور المخاطبين إدراكها بحواسهم، ولكن بمقدورهم إدراكها بعقولهم فيضرب المثل لتصوير تلك الأمور بأبلغ عبارة، وأوجز لفظ. ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَ نّمَا خَرّ مِنَ السّمَآءِ ... } 3 الآية.

_ 1 سورة المرسلات الآيتان رقم (32، 33) . 2 سورة الصافات الآية رقم (65) . 3 سورة الحج الآية رقم (31) .

ومن ذلك مجمل حال المؤمن الموحد، ومجمل حال المشرك، قد لا يمكن المخاطب تصورها بحواسه، والمثل أعون شيء على إدراكها وتصورها بأيسر طريق وأوجزه. قال تعالى في حال المؤمن: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} 1 وقال في حال المشرك وحال الموحد: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} 2. ومما تقدم يتضح أن من الأغراض التي ضُربت لها الأمثال القرآنية بيان الممثَّل له وتقريب صورته إلى ذهن المخاطب، وأكثر ما يضرب لذلك الأمثال التشبيهية. ثانياً: إقامة الحجة والبرهان. يحتاج دعاة الهدى إلى مجادلة المخالفين، لبيان الحق والإقناع به وبيان محاسنه، وكشف الباطل وبيان قبائحه.

_ 1 سورة البقرة الآية رقم (256) . 2 سورة الزمر الآية رقم (29) .

فتارة يقدمون أدلة برهانية وحججاً تفيد اليقين لمن تأملها، وتفكر بها على القضية المطروحة. وتارة يقدمون أدلة تبين محاسن الحق وفضائله، وقبح الباطل ومخازيه، وآثاره السيئة على معتنقيه، مما يقنع المخاطب ويقربه من الحق، أو ينفره من الباطل. والأمثال لها دور بارز في هذين المضمارين. ومن الأمثال التي تُضرب لإقامة الحجة والبرهان على إِمكان البعث بعد الموت، ما ورد في قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الّذِيَ أَنشَأَهَآ أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 1 الآية. وقوله: {وَنَزّلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً مّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنّاتٍ وَحَبّ الْحَصِيدِ وَالنّخْلَ بَاسِقَاتٍ لّهَا طَلْعٌ نّضِيدٌ رّزْقاً لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} 2 ونحوها. ومن الحجج الدالة على بطلان الشرك ما ورد في قوله تعالى:

_ 1 سورة يس الآية رقم (78) وما بعدها. 2 سورة ق الآيات رقم (9-11) .

{يَا أَيّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ..} 1 الآية. ومنها ما ورد في قوله: {إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} 2. ومن الحجج الدالة على بشرية عيسى بن مريم - عليه السلام- ما ورد في قوله تعالى: {إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} 3. ويلاحظ أن أغلب - إن لم يكن كل - الأمثال التي وردت لإقامة الحجة هي في قضايا الاعتقاد، وسوف يأتي تفصيل نماذج منها - إن شاء اللَّه - في هذا البحث. ويتلخص مما تقدم أن من الأغراض التي ضربت لها أمثال القرآن الكريم إقامة الدليل القاطع والبرهان على القضية المرادة.

_ 1 سورة الحج الآية رقم (73) . 2 سورة الأعراف الآية رقم (194) . 3 سورة آل عمران الآية رقم (59) .

ثالثاً: ضرب الأمثال لغرض الإقناع بذكر محاسن الحق والترغيب فيه، وذكر قبائح الباطل والتنفير منه. هذا الغرض قد استأثر بحظ وافر من أمثال القرآن الكريم، فكثير من الناس قد ينخدع بظاهر الأمر دون أن يسبر غوره، ويتعرف على خفاياه، فإذا كشفت له تلك المساوئ المستورة ومثلت له بمثال معقول مطابق، اقتنع به واستدل به على الحكم الصحيح الذي يجب أن يصير إليه من معرفة حقيقة ذلك الأمر، وعدم الانخداع بظواهره الخلابة. ومن الأمثال التي تهدف إلى الإِقناع بالحق عن طريق ذكر محاسنه ومزاياه ما ورد لتصوير حال الموحد من اطمئنان نفسه ووضوح الرؤية لديه، وثباته على الصراط المستقيم، واستمساكه بالعروة الوثقى، كما في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1. وقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ

_ 1 سورة البقرة الآية رقم (256) .

لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ} 1. وقوله: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} 2. وقوله: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىَ وَجْهِهِ أَهْدَىَ أَمّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ} 3. ومنها ما ورد لتصوير حال الكافر، والمشرك، والمنافق، من حيرته وقلق نفسه وتخبطه في الظلمات، وسرعة استجابته للفتن والمهلكات. وقد ورد في هذا المعنى كثير من الأمثال القرآنية منها ما تقدم في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ} 4.

_ 1 سورة إبراهيم الآية رقم (24، 25) . 2 سورة الزمر الآية رقم (29) . 3 سورة الملك الآية رقم (22) . 4 سورة الزمر الآية رقم (29) .

وقوله: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىَ وَجْهِهِ أَهْدَىَ أَمّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ} 1. ومنها قوله: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} 2. ومنها قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاّ يُبْصِرُونَ صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِم مّنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ ... } 3 الآية.

_ 1 سورة الملك الآية رقم (22) . 2 سورة إبراهيم الآية رقم (26) . 3 سورة البقرة الآيات رقم (17-20) .

وقوله: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرّنَا وَنُرَدّ عَلَىَ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ} 1 الآية. وقوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} 2. ومنها ما ورد في بيان قبح حال من آمن بكتب اللَّه ثم أعرض عنها لا يتعلمها ولا يعمل بها مع قدرته على التعلم، وتوفر أسبابه، كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُواْ التّوْرَاةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} 3. ومثله ما ورد في بيان قبح حال من تعلم ولم يعمل بعلمه، كما في قوله تعالى:

_ 1 سورة الأنعام الآية رقم (71) . 2 سورة الأنعام الآية رقم (122) . 3 سورة الجمعة الآية رقم (5) .

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلََكِنّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} 1 الآية. ويدخل في هذا الغرض ما ورد من الأمثال بقصد المدح أو الذم لكن لا يراد به الإقناع وإنما يراد به الإشادة بالممدوح وعيب المذموم، ويصاحب هذا الغرض غرض آخر هو نصب القدوة الصالحة للاقتداء بالممدوح والتنفير من المذموم. ومما ورد في المدح قوله تعالى: {مّحَمّدٌ رّسُولُ اللهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىَ عَلَىَ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ} 2. ومما ورد في الذم قوله تعالى:

_ 1 سورة الأعراف الآيتان رقم (175، 176) . 2 سورة الفتح الآية رقم (29) .

{ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لّلّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ} 1 الآية. ومما تقدم يتضح أن من أغراض الأمثال القرآنية، الإِقناع بحسن الأمر الممثَّل له، بإبراز محاسنه ومزاياه، أو الإقناع بقبحه وفساده، بإبراز مساويه، وخزاياه. كما تأتي الأمثال لغرض مدح الممثَّل له، والإشادة به، ونصبه قدوة أو ذم الممثَّل له وعيبه والتحذير منه ومن طريقه. رابعاً: الدلالة على كثير من الفوائد العلمية والحكم. تشتمل الأمثال على كثير من الفوائد العلمية، في جوانب كثيرة منها العقائد وهي أكثرها، والأحكام الشرعية، قال الزركشي: "فإِن آيات القصص والأمثال وغيرها، يستنبط منها كثير من الأحكام ... "2. والحكم والعبر، وبعض الحقائق العلمية في الأمور الدنيوية، والظواهر الكونية وغير ذلك. وسوف يأتي تفصيل الفوائد المتعلقة بكل مثل بعد دراسته إن شاء اللَّه.

_ 1 سورة التحريم الآية رقم (10) . 2 البرهان في علوم القرآن، (2/4) .

خامساً: التربية بإبراز القدوة الحسنة، والحث على الاقتداء بها، والتنفير من ضدها: "الأمثال من أفضل السبل للتربية، وتقويم المسالك، وإصلاح النفوس، وصقل الضمائر، وتهذيب الأخلاق، وتنمية الفضائل السامية"1. ويكون ذلك بتقديم النماذج البشرية الصالحة والنماذج البشرية الطالحة، بقصد توجيه النفوس المخاطبة إلى الاقتداء بالصالحين وتنفيرها من الطالحين. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ اتّبَعُواْ الْبَاطِلَ وَأَنّ الّذِينَ آمَنُواْ اتّبَعُواْ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أَمْثَالَهُمْ} 2. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه اللَّه - في قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أَمْثَالَهُمْ} : "حيث بيّن لهم تعالى أهل الخير وأهل الشر، وذكر لكل منهم صفة يعرفون بها ويتميزون {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ

_ 1 أمثال ونماذج بشرية من القرآن العظيم، أحمد بن محمد طاحون، ص (5) . 2 سورة محمد الآية رقم (3) .

وَيَحْيَى مَنْ حَيّ عَن بَيّنَةٍ} 1"2. وقال الشيخ أحمد بن محمد طاحون: "وفي ميدان الهداية إلى الخير، والتنفير من الشر يقدم القرآن الكريم نماذج لنفوس بشرية، وإِن في دراستها لعبرة، وفي تدبرها عظة، وكم في القرآن الكريم من نماذج لأولياء اللَّه الصالحين: من النبيين، والحكماء، والصديقين، والربانيين، إنها النماذج الصالحة في معتقداتها، ومسالكها، وأخلاقها. في قلوبهم نور وفي عملهم نور وفي أقوالهم نور؛ كما قدم الكتاب العزيز نماذج لنفوس انطوت على الشر والسوء ونفوس انسلخت مما يدعو إليه العلم النافع، والآيات البينات بعد أن علموها، فلم يشرفهم العلم لأنهم لوثوا أنفسهم بالعُجب والغرور، وطلب الدنيا وإيثارها على الآخرة؛ وقدّم نماذج تتلون كما تتلون الحرباء، ظاهرها يَسُرُّ، وباطنها شر وضر"3. وأمثلة هذا النوع كثيرة في القرآن، منها القصص، فكل قصص القرآن أمثال منصوبة للاعتبار والاقتداء بالصالحين وتحري طريقهم والابتعاد عن طريق الضالين الهالكين، سواء ما نص منها على أنها مثل أم لم ينص.

_ 1 سورة الأنفال الآية رقم (42) . 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (7/63، 64) . 3 أمثال ونماذج بشرية من القرآن العظيم، ص (8) .

ومثال ما نص على ضربها مثلاً ما ورد في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} 1. وقوله: {وَاضْرِبْ لهُمْ مّثَلاً رّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} 2 الآيات. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه - مبيناً أن القصص أمثال منصوبة للاعتبار: "ونظير ذلك ذكر القصص، فإنها كلها أمثال هي أصول قياس واعتبار، ولا يمكن هناك تعديد ما يعتبر بها، لأن كل إنسان له في حالة منها نصيب، فيقال فيها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ} 3. ويقال عقب حكايتها: {فَاعْتَبِرُواْ يَا أُوْلِي الأبْصَارِ} 4 ... "5. ومن أمثلة هذا النوع ما ورد في قوله تعالى:

_ 1 سورة يس الآية رقم (13) . 2 سورة الكهف الآية رقم (32) وما بعدها. 3 سورة يوسف الآية رقم (111) . 4 سورة الحشر الآية رقم (2) . 5 دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، (1/205) .

{ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لّلّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ ... } 1 الآية. وقوله: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ..} 2 الآية. ومما تقدم يتبين أن من أغراض ضرب الأمثال في القرآن الكريم غرضاً تربوياً يتجلى في إبراز النماذج الخيّرة الصالحة وبيان أعمالهم وأحوالهم وما آل إليه مصيرهم في الدنيا والآخرة لتكون قدوة صالحة يُرغَّب ويُحثُّ على الاقتداء بهم، وإبراز النماذج الشريرة الضالة وتجلية صفاتهم وأعمالهم وأحوالهم وكيف كانت عاقبتهم، ليحذر منهم ومن طريقهم؛ ولا شك أن هذا الأسلوب من أهم أساليب التربية وأكثرها تأثيراً. سادساً: أمثال القرآن أصول وقواعد لعلم تعبير الرؤيا: قال ابن القيم - رحمه اللَّه-: "وبالجملة فما تقدم من أمثال القرآن كلها أصول وقواعد لعلم التعبير لمن أحسن الاستدلال بها، وكذلك من فهم القرآن فإِنه يعبر به الرؤيا أحسن تعبير، وأصول التعبير الصحيحة إنما أخذت من مشكاة

_ 1 سورة التحريم الآية رقم (10) . 2 سورة التحريم الآية رقم (11) .

القرآن"1. وقد بين - رحمه اللَّه - هذا المعنى في كتابه "إعلام الموقعين"2 وضرب لذلك أمثلة كثيرة نختار منها ما له علاقة بالأمثال. "فمن ذلك تأويل الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين"3. وهذا مأخوذ من المثل الوارد في قوله تعالى: {كَأَنّهُمْ خُشُبٌ مّسَنّدَةٌ..} 4 الآية. ومن ذلك تعبير النساء بالبيض، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {كَأَنّهُنّ بَيْضٌ مّكْنُونٌ} 5. وتعبير الرماد بالعمل الباطل، مأخوذ من قوله تعالى: {مّثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدّتْ بِهِ الرّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ..} 6 الآية. وتعبير النخلة بالرجل المؤمن، مأخوذ من قوله تعالى:

_ 1 إعلام الموقعين عن رب العالمين، (1/193) . 2 من ص (190-195) ج (1) . 3 نفس المصدر ص (191) . 4 سورة المنافقون الآية رقم (4) . 5 سورة الصافات الآية رقم (49) . 6 سورة إبراهيم الآية رقم (18) .

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ..} 1 الآية. وقال - رحمه اللَّه -: "فالرؤيا أمثال مضروبة يضربها الملك الذي قد وكّله اللَّه بالرؤيا ليستدل الرأي بما ضرب له من المثل على نظيره، ويعبر منه إلى شبهه، ولهذا سمي تأويلها تعبيراً ... ولولا أنّ حُكم الشيء حُكم مثله، وحكم النظير حكم نظيره، لبطل هذا التعبير والاعتبار، ولما وجد إليه سبيل؛ وقد أخبر اللَّه سبحانه أنه ضرب الأمثال لعباده في غير موضع من كتابه، وأمر باستماع أمثاله، ودعا عباده إلى تعقلها، والتفكير فيها، والاعتبار، وهذا هو المقصود بها"2. ومما تقدم يتبين أن أمثال القرآن تعين على تعبير الرؤيا وكل ما كان الإنسان بها أعرف كان على تعبير الرؤيا أقدر. الأمثال معالم للهداية: إن هذه الأغراض المتعددة والهامّة جعلت من الأمثال القرآنية سبباً عظيماً من أسباب الهداية إلى الحق، وخاصة في بيان حقيقة الإِيمان. قال اللَّه تعالى: {إِنّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ

_ 1 سورة إبراهيم الآية رقم (24) . 2 إعلام الموقعين، (1/195) .

فَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللهُ بِهََذَا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ} 1. والضمائر في قوله: {يُضِلّ بِهِ كَثِيراً} وقوله: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} ، وقوله: {وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ} ، تعود على المثل في قوله: {إِنّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا..} ، قال ابن جرير - رحمه اللَّه -: "يعني بقوله جل وعز: {يُضِلّ بِهِ كَثِيراً} ، يضل اللَّه به كثيراً من خلقه، والهاء في {بِهِ} من ذكر المثل، وهذا خبر من اللَّه جل ثناؤه مبتدأ، ومعنى الكلام: أن اللَّه يضل بالمثل الذي يضربه كثيراً من أهل النفاق والكفر"2. والمراد بإِضلال اللَّه، وهدايته بالمثَل: أنه سبحانه يزيد الفاسقين من المنافقين والمشركين من أهل الكتاب وغيرهم- والذين بينت أوصافهم فيما يأتي من السياق - ضلالاً إلى ضلالهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه اللَّه لما ضربه له، وأنه موافق لما ضرب له، فذلك إضلال اللَّه إياهم به. ويهدي به كثيراً من أهل الإِيمان والتصديق،

_ 1 سورة البقرة (26) . 2 جامع البيان، (1/218) .

أي يزيدهم هدى وإِيماناً1 حيث "يفهمونها ويتفكرون فيها، فإِن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، ازداد علمهم وإِيمانهم، وإلا علموا أنها حق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها، لِعِلْمهم أن اللَّه لم يضربها عبثاً، بل لحكمة بالغة، ونعمة سابغة"2. وهذه الصفة التي وُصفت بها الأمثال من أنه يُضَلُّ بها أناس ويُهْدَى بها آخرون، مشتركة بين جميع آيات القرآن الحكيم. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه اللَّه -: "فهذه حال المؤمنين والكافرين، عند نزول الآيات القرآنية. قال تعالى: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مّن يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هََذِهِ إِيمَاناً فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىَ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} 3. فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية. ومع هذا تكون لقوم محنة، وحيرة، وضلالة، وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة، ورحمة، وزيادة خير إلى خيرهم.

_ 1 انظر: جامع البيان، (1/218) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، (1/65) . 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (1/65) . 3 سورة التوبة الآيتان رقم (124، 125) .

فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإِضلال. ثم ذكر حكمته وعدله في إضلال من يضل، فقال تعالى: {وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ} 1، أي الخارجين عن طاعة اللَّه، المعاندين لرسل اللَّه، الذين صار الفسق وصفهم، فلا يبتغون به بدلاً. فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم، لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله، هداية من اتصف بالإِيمان، وتحلى بالأعمال الصالحة"2. والذين هداهم اللَّه بالأمثال هم الذين تفكروا بها تفكراً صحيحاً على نهج وفهم السلف الصالح، ومقتضى مدلولات اللغة، والنظر السليم في صورة الممثَّل به، وسلمت فطرهم، وعقولهم من الانحراف، فهدتهم إلى الحق وبينت لهم مراد اللَّه، واهتدوا بها فزادهم اللَّه هداية وإِيماناً. أما الفاسقون الذين يضلهم اللَّه لعدم انتفاعهم بالأمثال فهم صنفان: صنف أعرض عنها فلا يتعلمها، ولا ينتفع بها، وفي المقابل استمسك بالظنون، وهوى النفوس، وضرب لنفسه أو ضُرب له أمثال من الباطل يسوغ بها ما هو عليه من الضلال والجهل. وصنف آخر أقبل على أمثال القرآن، ومال بمعانيها وحرَّفها لتوافق

_ 1 سورة البقرة الآية رقم (26) . 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (1/66) .

ما عنده من الأهواء والانحراف فضلّ في فهمها وأضلّ، وزاغ وأزاغ، فأزاغ اللَّه قلبه وأرداه. وخلاصة هذا المطلب: أن الأمثال القرآنية ضُربت لأغراض متعددة من أهمها: 1 - بيان الممثَّل له وتقريب صورته إلى ذهن المخاطبين. 2 - إقامة الدليل القاطع والبرهان الساطع على القضية المرادة. 3 - الإقناع بحسن الأمر الممثَّل له، بإبراز محاسنه ومزاياه أو الإقناع بقبحه وفساده، بإبراز مساويه وخزاياه. 4 - الدلالة على كثير من الحكم والفوائد العلمية. 5 - التربية بإبراز النماذج الخيِّرة الصالحة، وبيان أعمالهم وأحوالهم وما آل إليه مصيرهم في الدنيا، وما سيصيرون إليه في الآخرة، لتكون قدوة يُرغَّب ويُحثُّ على الاقتداء بهم، وإبراز النماذج الشريرة الضالة، وتجلية صفاتهم وأعمالهم وكيف كانت عاقبتهم، ليُحذر منهم ومن طريقهم. 6 - أن أمثال القرآن تعين على تعبير الرؤيا، وكل ما كان الإِنسان بها أعرف كان على تعبير الرؤيا أقدر. كما تبين أن الأمثال القرآنية بهذه الأغراض المتعددة أصبحت من الأسباب الهامّة للهداية - واللَّه أعلم -.

_ الأمثال القرآنية القياسية للدكتور عبد الله الجربوع

الفصل الثاني: مقدمات في تعريف الإيمان

الفصل الثاني: مقدمات في تعريف الإيمان المبحث الأول: تعريف الإِيمان في اللغة. ... المبحث الأول: تعريف الإِيمان في اللغة. "الإِيمان مصدر آمن يؤمن إِيماناً، فهو مؤمن"1 وهو مشتق من الأمن. قال الراغب الأصفهاني - رحمه اللَّه -: "وآمن إِنما يقال على وجهين: (أحدهما) : متعدياً بنفسه. يقال: آمَنْتُه أي جعلتُ له الأمن، ومنه قيل للَّه مؤمن. (والثاني) : غير متعدٍ ومعناه صار ذا أمن".2 وقد فسر كثير من العلماء والمفسرين وأهل اللغة الإيمان بالتصديق؛ إلا أن المحققين من العلماء واللغويين بينوا أن التصديق لا يفي في الدلالة على معنى الإِيمان، إذ أن لفظ الإِيمان يشتمل على معنىً زائد عن مجرد التصديق. هذا المعنى الزائد هو الأمن. قال الراغب: "قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} 3، قيل معناه:

_ 1 تهذيب اللغة، لمحمد بن أحمد الأزهري، (5/513) ، دار الكتاب العربي. 2 المفردات في غريب القرآن، ص (26) . 3 سورة يوسف الآية رقم (17) .

بمصدِّق لنا، إلا أن الإِيمان هو التصديق الذي معه أمن"1. وقد استدلوا لذلك بأمرين: الأول: الاشتقاق، وذلك أن الإِيمان مشتق من الأمن. الثاني: الاستعمال، حيث استعمل لفظ الإِيمان فيما هو أبعد من التصديق، مما يكون سببه الأمن والائتمان. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "فإِن الإِيمان مشتق من الأمن، فإِنما يُسْتَعمل في خبر يؤتمن عليه المخْبِر، كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المُخْبِر ... فاللفظ متضمن مع التصديق معنى الائتمان أو الأمانة، كما يدل عليه الاشتقاق والاستعمال، ولهذا قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} ، أي لا تقر بخبرنا، ولا تثق به، ولا تطمئن إليه، ولو كنا صادقين، لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك، فلو صدقوا لم يؤمن لهم"2. ومما ورد من استعمال لفظ "الإِيمان" في لوازم التصديق الذي معه أمن - كالثقة، والطمأنينة والخضوع - ما ذكره بعض أصحاب المعاجم، كصاحب "لسان العرب"، حيث قال:

_ 1 المفردات، ص (26) . 2 مجموع الفتاوى، (7/291، 292) .

"والإِيمان الثقة، وما آمَن أن يجده صاحبه أي ما وثق"1. وقال صاحب "القاموس المحيط": "والإِيمان الثقة وإِظهار الخضوع"2. فالإِيمان إذاً يطلق على فعل المُخبَر الذي يأمن المُخبِر، مما يؤدي إلى تصديق لخبره، يصاحبه ثقة في المُخِبر، واطمئنان له، وخضوع وانقياد لمدلول الخبر إذا كان يستلزم ذلك. وعلى هذا فإِن تفسير لفظ الإِيمان بالإِقرار أكثر مطابقة لمعناه. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "ولفظ إِيمان قيل أصله التصديق، وليس مطابقاً له، بل لا بد أن يكون تصديقاً عن غيب، وإلا فالمخبر عن مشهود ليس تصديقه إِيمانا، لأنه من الأمن الذي هو الطمأنينة ... وقيل: بل هو الإِقرار، لأن التصديق إِنما يطابق الخبر فقط، أما الإِقرار فيطابق الخبر والأمر ... "3. وقال - أيضاً -: "ومعلوم أن الإِيمان هو الإِقرار، لا مجرد التصديق، والإِقرار ضمن

_ 1 جمال الدين محمد بن منظور المصري، (13/26) ، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، (1956م) . 2 محمد بن يعقوب الفيروزأبادي، كتاب ترتيب القاموس المحيط للطاهر أحمد الزاوي، (1/182) عيسى البابي الحلبي، الطبعة الثانية. 3 مجموع الفتاوى، (7/636) .

قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو الانقياد"1. فشيخ الإِسلام - رحمه اللَّه - يرجح تفسير لفظ الإِيمان، بالإقرار القلبي الذي يتضمن مع التصديق عملاً قلبياً مناسباً. وقد ورد التعبير بلفظ الإِقرار على الإِيمان القلبي. قال الراغب الأصفهاني - رحمه اللَّه -: "والإِقرار إثبات الشيء ... وقد يكون ذلك إثباتاً إِما بالقلبِ، وإِما باللسانِ، وإِما بهما. والإِقرار بالتوحيد وما يجري مجراه لا يغني باللسان ما لم يُضامُّه الإِقرار بالقلب، ويضاد الإِقرار الإِنكار"2. ثم ذكر شواهد ذلك في القرآن الكريم، وهي: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} 3. وقوله - سبحانه -: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَآ آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا

_ 1 مجموع الفتاوى، (2/637) . 2 المفردات في غريب القرآن، (398) . 3 سورة البقرة الآية رقم (84) .

أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ} 1. وخلاصة هذا المبحث: أن تفسير لفظ "الإِيمان" في اللغة بالتصديق المجرد لا يفي بمعناه، إذ لا بد أن يشتمل معنى الإِيمان على الأمن الذي اشتق منه. وتبين أن الأقرب تفسير لفظ الإِيمان في اللغة، بالإقرار الذي يدل مع التصديق على عمل قلبي مناسب لما يؤمن به أوْ لَهُ، كالثقة والاطمئنان للمُخبِر، وقبول خبره، والإِذعان له ... ونحوها.

_ 1 سورة آل عمران الآية رقم (81) .

المبحث الثاني: المعاني الشرعية للفظ "الإيمان"

المبحث الثاني: المعاني الشرعية للفظ "الإِيمان". إِن المتتبع لنصوص الكتاب والسنة، وأقوال أهل العلم، يجد أن لفظ الإِيمان، يراد به عدة معانٍ شرعية، تشترك في قدر، ويكون بعضها أوسع دلالة من بعض. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "فإِن الناس كثر نزاعهم في مواضع في مسمى الإِيمان والإِسلام لكثرة ذكرهما، وكثرة كلام الناس فيهما، والاسم كلما كثر التكلم فيه، فتكلم به مطلقاً، ومقيداً بقيد، ومقيداً بقيد آخر في موضع، كثر من يشتبه عليه ذلك. ومن أسباب: ذلك أن يسمع بعض الناس بعض موارده ولا يسمع بعضه، ويكون ما سمعه مقيداً بقيد أوجبه اختصاصه بمعنى، فيظن معناه في سائر موارده كذلك. فمن اتبع علمه حتى عرف مواقع الاستعمال عامة، وعلم مأخذ الشبه، أعطى كل ذي حق حقه، وعلم أن خير الكلام كلام اللَّه، وأنه لا بيان أتم من بيانه"1. والمعاني التي يراد بها لفظ الإِيمان ترجع إلى ثلاثة معان بارزة، هي: الأول: الإِيمان باللَّه الذي هو أصل الإِيمان. الثاني: الإِيمان القلبي أو الإِيمان بالغيب.

_ 1 مجموع الفتاوى، (7/356) .

الثالث: الإِيمان المطلق، الذي يشمل كل ما هو من الدين، المعبر عنه بقول أهل العلم: الإِيمان قول وعمل واعتقاد. وسيجري التعريف بهذه المعاني مع بعض أدلتها في المطالب الآتية: المطلب الأول: أدلة تنوع المراد بلفظ الإِيمان شرعاً. المطلب الثاني: بيان أصل الإِيمان. المطلب الثالث: تعريف الإِيمان القلبي. المطلب الرابع: تعريف الإِيمان الكامل.

المطلب الأول: أدلة تنوع المراد بلفظ الإيمان شرعا

المطلب الأول: أدلة تنوع المراد بلفظ الإِيمان شرعاً. لقد تضمن حديث جبريل - عليه السلام - الدلالة على معنيين وذلك في سؤال جبريل - عليه السلام - للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإِيمان حيث قال: "فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ: صَدَقْتَ"1. فالمعنى الأول: هو الإِيمان المسئول عنه، المعبر عنه بقوله: "فأخبرني عن الإِيمان؟ " والذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالأمور الستة. والمعنى الثاني: الإِيمان باللَّه، الوارد في الجواب، والمعبر عنه بقوله: "أن تؤمن باللَّه"، ولا يخفى أن هذا الإِيمان أصل للإِيمان المسئول عنه، حيث إن هذا الأخير يتضمنه، ويتضمن غيره، إلا أن الأمور الأخرى تابعة للإِيمان باللَّه، الركن الأول. ومن أدلة إِطلاق "الإِيمان" على الإِيمان القلبي - الإِيمان بالغيب - قول اللَّه تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} 2.

_ 1 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب بيان الإِيمان، (8) ، الصحيح (1/37) . 2 سورة البقرة الآيتان رقم (2، 3) .

والإِيمان بالغيب هو: الإِقرار القلبي بكل ما ورد الخبر به عن اللَّه من الأمور المغيبة. ويشمل: ما أخبر به - سبحانه - أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عن اللَّه - سبحانه وتعالى - أو عن الملائكة، وكتب اللَّه، ورسله، أو من أخبار الأمم السابقة، وما سيكون في مستقبل الزمان، وفي اليوم الآخر، وعن قدر اللَّه وسننه. فكل هذه الأمور غيبية مدارها على الخبر الصحيح، ويكون الإِيمان بها بإِقرار القلب، لذلك سُمَّي: الإِيمان القلبي. قال الربيع بن أنس1 - رحمه اللَّه - في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} : "آمنوا باللَّه، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره، ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت، فهذا كله غيب"2. ويدل على الإِيمان القلبي - أيضاً - كل لفظ للإِيمان قرن بالأعمال الصالحة، في نحو قوله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} 3.

_ 1 الربيع بن أنس بن زياد البكري، عالم مرو في زمانه، توفي سنة (239هـ) . انظر: سير أعلام النبلاء (6/169) ، تهذيب التهذيب (3/238) . 2 جامع البيان، لابن جرير، (1/134) . 3 سورة البينة الآية رقم (7) .

قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "وأما إذا قيد الإِيمان، فقرن بالإِسلام أو بالعمل الصالح، فإِنه قد يراد به ما في القلب من الإِيمان باتفاق الناس"1. ومن أدلة المعنى الثاني - الإِيمان باللَّه أو أصل الإِيمان القلبي الوارد في الجواب المعبر عنه في حديث جبريل - عليه السلام - بقوله صلى الله عليه وسلم: "أن تؤمن باللَّه" - كل آية ورد فيها اشتراط الإِيمان لصحة الأعمال وقبولها، نحو قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} 2. وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} 3. قوله: "وهو مؤمن": جملة حالية، أي حال كونه متلبساً بالإِيمان، وهو شرط في قبول الأعمال، وانتفاعه بها عند اللَّه. قال ابن كثير - رحمه اللَّه - في تفسير قوله {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى

_ 1 مجموع الفتاوى، (7/162) . 2 سورة الإِسراء الآية رقم (19) . 3 سورة الأنبياء الآية رقم (94) .

لَهَا ... } الآية: " ... شرع في بيان إِحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده، ذكرانهم وإِناثهم بشرط الإِيمان"1. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه اللَّه - في قوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} : "وهذا شرط لجميع الأعمال، لا تكون صالحة، ولا تقبل، ولا يترتب عليها الثواب، ولا يندفع بها العقاب، إلا بالإِيمان ... فالإِيمان هو الأصل، والأساس، والقاعدة التي يبنى عليها كل شيء؛ وهذا القيد ينبغي التفطن له في كل عمل مطلق، فإِنه مقيد به"2. والقدر المشترط في صحة الأعمال أقله الإِيمان الذي يدخل به العبد في الإِسلام، وهو أصل الإِيمان القلبي، فلا يشترط لصحتها كمال الإِيمان القلبي، بأن يؤمن بكل ما ورد من تفاصيل الأركان الستة، وإِنما أقله أن يؤمن بالركن الأول إِيماناً صحيحاً ولو كان مجملاً، وهو يستلزم الإِيمان بالأركان الأخرى، وبغيرها من شعب الإِيمان الواجبة. وسيأتي بيان طبيعة أصل الإِيمان في المطلب القادم - إِن شاء اللَّه -.

_ 1 تفسير القرآن العظيم، (1/559) . 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (2/177) .

وأصل الإِيمان يطلقه كثير من العلماء على الإِيمان الباطني، وهو إِطلاق صحيح باعتبار أن الإِيمان الباطني أصل للإِيمان العملي ومستلزم له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ"1. قال شيخ الإِسلام ابن تيميه - رحمه اللَّه -: "فأصل الإِيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إِيمان القلب ومقتضاه، وهي تصديق لما في القلب ودليل وشاهد عليه، وهي شعبة من مجموع الإِيمان المطلق، وبعض له، ولكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح"2. ويطلق أصل الإِيمان -أيضاً- على الركن الأول من أركان الإِيمان الستة، باعتباره أصل للإِيمان القلبي، وهو الأصل الذي يعتبر في الدخول في الإِسلام، وقبول الأعمال، وزواله أو بطلانه يُخرج من الإِسلام. قال ابن حجر - رحمه اللَّه - في معرض كلامه على حديث جبريل

_ 1 رواه البخاري، كتاب الإِيمان، (52) ، الصحيح مع الفتح، (1/126) . 2 مجموع الفتاوى، (7/644) .

- عليه السلام -: وقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الإِيمان "أن تؤمن باللَّه وملائكته ... " الحديث. قال: "تنبيه: ظاهر السياق يقتضي أن الإِيمان لا يطلق إلا على من صدق بجميع ما ذكر، وقد اكتفى الفقهاء بإِطلاق الإِيمان على من آمن باللَّه ورسوله، ولا اختلاف، لأَن الإِيمان برسول اللَّه المراد به الإِيمان بوجوده وبما جاء به عن ربه، فيدخل ما ذكر تحت ذلك. واللَّه أعلم"1. قوله - رحمه اللَّه -: "وقد اكتفى الفقهاء.." هذا هو الصواب إذ أنه مقتضى الأدلة الشرعية. وقوله: "فيدخل ما ذكر تحت ذلك": الذي يدخل في الإِيمان باللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم والذي ينعقد به أصل الإِيمان: هو الإِيمان المجمل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما أخبر به، والعزم على طاعة أمره واجتناب نهيه، وتدخل أركان الإِيمان القلبي دخولاً أولياً فيما يستلزمه ذلك الإِقرار، إلا أنه لا يشترط العلم بها وبتفاصيلها لانعقاده. وسيأتي بيان هذا قريباً - إِن شاء اللَّه -. وإذا ورد لفظ أصل الإِيمان في هذا البحث فإِن المراد به الإِيمان باللَّه،

_ 1 فتح الباري شرح صحيح البخاري، (1/118) .

الركن الأول من أركان الإِيمان القلبي الستة، الذي يدخل به العبد في الإِسلام، ويشترط في قبول الأَعمال وصحتها. أما المعنى الثالث الذي يُراد عند إِطلاق لفظ "الإِيمان" فهو الإِيمان الكامل الذي يشمل كل الطاعات القلبية والقولية والفعلية. ويدل عليه كل لفظ للإِيمان مطلق، غير مقترن بلفظ الإِسلام، أو الأعمال الصالحة ونحوها. ومن ذلك: قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّه حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ} 1. قال محمد بن نصر المروزي2 - رحمه اللَّه -: "لما كانت المعاصي بعضها كفر، وبعضها ليس بكفر، فرق بينها فجعلها ثلاثة أنواع: نوع منها كفر، ونوع منها فسوق وليس بكفر، ونوع عصيان وليس بكفر ولا فسوق. وأخبر أنه كرهها كلها إلى المؤمنين؛ ولما كانت الطاعات كلها داخلة في الإِيمان، وليس فيها شيء خارج عنه، لم يفرق بينها فيقول: حبب إليكم الإِيمان والفرائض، وسائر

_ 1 سورة الحجرات الآية رقم (7) . 2 الإِمام الحافظ، أبو عبد اللَّه، محمد بن نصر المروزي، ألف: كتاب الإِيمان، وتعظيم قدر الصلاة، وغيرها. توفي سنة: (294هـ) .انظر: سير أعلام النبلاء (14/35) ، وتقريب التهذيب ص: (510) .

الطاعات، بل أجمل ذلك فقال: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ} ، فدخل في ذلك جميع الطاعات"1. ومن الآيات التي تدل على هذا المعنى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2، ونحوها. ومن الأَحاديث التي ورد فيها لفظ الإِيمان مطلقاً دالاً على كماله، حديث شعب الإِيمان المشهور، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ"3. وسيأتي قريباً - إِن شاء اللَّه - بيان طبيعة هذا الإِيمان وبعض أدلته، وإِنما المراد ذكر نماذج من النصوص التي تدل على اختلاف المعاني التي تراد بلفظ الإِيمان.

_ 1 مجموع الفتاوى لابن تيمية، (7/42) . 2 سورة الشورى الآية رقم (52) . 3 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب بيان عدد شعب الإِيمان، (57) ، صحيح مسلم، (1/63) .

ويتلخص من ذلك أن لفظ الإِيمان الشرعي يراد به ثلاثة معان هي: الأول: أصل الإِيمان، الركن الأول من أركان الإِيمان القلبي، وهو أول الإِيمان وابتداؤه، الذي يدخل به العبد في الإِسلام، ويعصم به دمه وماله، وهو شرط لصحة الأعمال وقبولها. وتقدم من أدلته حديث جبريل - عليه السلام - حيث فرق فيه بين الإِيمان المسئول عنه - والإِيمان باللَّه الوارد في الجواب، ودلت إِجابة النبي صلى الله عليه وسلم على أن الإِيمان المسئول عنه هو كمال الإِيمان القلبي، والإِيمان باللَّه الوارد في الجواب هو أصله. كما يدل عليه كل دليل جُعِل فيه الإِيمان شرطاً لصحة الأعمال. فإِن أقل ما يشترط لذلك هو انعقاد أصل الإِيمان. الثاني: الإِيمان القلبي، أو الإِيمان بالغيب، المتضمن للإقرار بالأركان الستة، والمستلزم للإِيمان المطلق الكامل. وتقدم من أدلته حديث جبريل - عليه السلام - حيث فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالأركان الستة: الإِيمان باللَّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. ومن أدلته - أيضاً - كل دليل اقترن فيه لفظ الإِيمان بلفظ الإِسلام أو الأعمال الصالحة.

الثالث: الإيمان المطلق الكامل، الذي يشمل كل الدين. وأدلة هذا المعنى كل دليل ورد فيه لفظ الإِيمان مطلقاً غير مقترن بلفظ الإِسلام، أو الأعمال الصالحة، أو أي قيد آخر، واللَّه أعلم.

المطلب الثاني: بيان أصل الإيمان.

المطلب الثاني: بيان أصل الإِيمان. أصل الإِيمان في القلبِ، وبصلاح ما في القلب أو فساده يكون صلاح الأَعمال أو فسادها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ"1. وقد وردت أحاديث تبيّن الأمور التي ينعقد بها أصل الإِيمان، ويحصل بها أوَّلُه ومبتداه، ويدخل به العبد في الإِسلام، ويوجب له الجنة، وعصمة دمه وماله، وتجري عليه أحكام المسلمين. من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ"2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي

_ 1 متفق عليه، البخاري: كتاب الإِيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ح (52) (1/126) مع الفتح، ومسلم: كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال، ح (1599) ، (3/1220) . 2 متفق عليه، البخاري: كتاب اللباس، باب الثياب البيض، ح (5827) ، (1/283) . ومسلم: كتاب الإِيمان، باب من مات لا يشرك باللَّه شيئاً، ح (94) (1/95) .

وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ"1. وقال صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ. وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ. وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ"2. وقد استند أهل العلم إلى هذه النصوص ونحوها، في بيان الأمور التي ينعقد بها أصل الإِيمان. قال القاضي عياض3 - رحمه اللَّه -: "ومذهب أهل السنة أن المعرفة مرتبطة بالشهادتين، لا تنفع إِحداهما ولا تنجي من النار دون الأُخرى، إلا لمن لم يقدر على الشهادتين

_ 1 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب الأمر بقتال الناس، ح (34) ، (1/52) . 2 متفق عليه، واللفظ للبخاري: كتاب الإِيمان، باب زيادة الإِيمان ونقصانه، ح (44) ، الصحيح مع الفتح، (1/103) ، ومسلم: كتاب الإِيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، ح (325) ، (1/182) . 3 القاضي، أبو الفضل، عياض بن موسى بن عياض، السبتي، اليحصبي، ولد سنة (476هـ) بمدينة سبتة، له مؤلفات كثيرة منها: مشارق الأنوار على صحاح الآثار، وكمال المعلم بفوائد مسلم، وترتيب المدارك، وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، وغيرها، توفي سنة (544هـ) . انظر: وفيات الأعيان (3/483) . وسير أعلام النبلاء (20/212) .

لآفة بلسانه، أو لم تمهله المدة ليقولها، بل اخترمته المنية"1. وقال النووي - رحمه اللَّه – في شرحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ" 2، قال: "وفيه أن الإِيمان شرطه الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما، واعتقاد جميع ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم"3. وقال شيخ الإِسلام ابن تيميه - رحمه اللَّه -: "فأصل الإِيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إِقرار بالتصديق والحب والانقياد"4. وقال أيضاً: "فلا يكون مسلماً إلا من شهد أن لا إِله إِلاَّ اللَّه، وأن محمداً عبده ورسوله. وهذه الكلمة بها يدخل الإِنسان في الإِسلام … فيكون معه من الإِيمان هذا الإِقرار، وهذا الإِقرار لا يستلزم أن يكون صاحبه معه من اليقين ما لا يقبل الريب.. لكن لا بد من الإِقرار بأنه رسول اللَّه، وأنه صادق في كل ما أخبر به عن اللَّه"5.

_ 1 شرح النووي على صحيح مسلم، (1/219) . 2 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب الأمر بقتال الناس..، ح (34) ، (1/52) . 3 شرح النووي على صحيح مسلم، (1/212) . 4 مجموع الفتاوى، (14/119) . 5 كتاب الإِيمان، ص (231) ، (232) .

وقال الإِمام ابن رجب1 - رحمه اللَّه -: "ومن المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإِسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلماً. فإِن كلمتي الشهادتين بمجردهما تعصم من أتى بهما، ويصير بذلك مسلماً، فإِذا دخل في الإِسلام، فإِن أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وقام بشرائع الإِسلام، فله ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، وإِن أخل بشيء من هذه الأركان، فإِن كانوا جماعة لهم منعة قوتلوا …"2. إلى أن قال: "وقوله: "وحسابهم على اللَّه" يعني: أن الشهادتين مع إِقام الصلاة، وإِيتاء الزكاة، تعصم دم صاحبها وماله في الدنيا، إلا أن يأتي ما يبيح دمه. أما في الآخرة، فحسابهم على اللَّه عز وجل، فإِن كان صادقاً، أدخله اللَّه بذلك الجنة، وإِن كان كاذباً، فإِنه من جملة المنافقين،

_ 1 الإمام الحافظ العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، صنف شرحاً لصحيح البخاري ولم يتمه، والقواعد الفقهية، وجامع العلوم والكلم، وغيرها، توفي سنة (795هـ) . انظر: شذرات الذهب، (6/339) والجوهر المنضد: (46) . 2 جامع العلوم والحكم، شرح خمسين حديثاً من جوامع الحكم، ت: سليم الهلالي، الطبعة الأولى، ص (131) .

في الدرك الأسفل من النار"1. ومما تقدم نستخلص أهم الأمور التي ينعقد بها أصل الدين، وهي: 1- النطق بالشهادتين. 2- العلم بهما. 3- التصديق والاعتقاد لما دلتا عليه من توحيد اللَّه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما أخبر به عن اللَّه والعزم على الانقياد لموجب ذلك. 4- حب اللَّه، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الدين. فإِذا جاء العبد بهذه الأمور فقد جاء بأصل الإِيمان صحيحاً، ويثمر له ذلك: 1- أنه يدخل به في الإِسلام. 2- تبدأ حياة قلبه ويقذف فيه النور. 3- يقبل منه العمل الصالح إذا عمله. 4- يكون من أهل الجنة - إِن مات على ذلك- وإِن أصابه قبل ذلك ما أصابه. ثم هو مطالب، بتكميل إِيمانه وتحقيقه، بالإِتيان بشعب الإِيمان علماً وعملاً، بفعل ما أمر اللَّه به، واجتناب ما نهى عنه، والمسارعة في الخيرات.

_ 1 جامع العلوم والحكم، ص (136) .

اشتمال أصل الإِيمان على التوحيد: إِن أصل الإِيمان يرتكز على الإِتيان بالشهادتين نطقاً واعتقاداً، ولذلك فإِن معرفة ما يتضمنه أصل الإِيمان من التوحيد يتوقف على معرفة الشهادتين. والتوحيد يرتكز على أمرين متلازمين هما: الكفر بالطاغوت، والإِيمان باللَّه بمعرفته، وإِخلاص العبادة له. ولتجلية هذا الأمر لا بد من معرفة معنى الشهادتين وما تدلان عليه من الإِقرار بتوحيد اللَّه، والكفر بالطاغوت، والتصديق بالرسالة، والعزم على اتّباع النبي صلى الله عليه وسلم وعبادة اللَّه بشريعته. معنى الشهادتين: ويكون الكلام على ذلك في فرعين: الفرع الأول: في معنى شهادة أن لا إِله إلا اللَّه. الفرع الثاني: معنى شهادة أن محمداً رسول اللَّه.

الفرع الأول: في معنى شهادة أن لا إِله إلا اللَّه. إِن معنى شهادة أن لا إِله إلا اللَّه، يتم بمعرفة ألفاظها، ودلالة أسلوبها- أسلوب الحصر- المبني على النفي والإثبات. أولاً: معنى ألفاظ شهادة أن لا إِله إلا اللَّه. "أشهد": فعل مشتق من الشهادة. قال الراغب - رحمه اللَّه -: "والشهادة: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر"1. "وشهدت يقال على ضربين: أحدهما: جار مجرى العلم، وبلفظه تقام الشهادة"2. فالشهادة لا بد فيها من علم الشاهد بما يشهد به، وقد ورد في النصوص ما يدل على استلزام لفظ الشهادة العلم. منها قوله تعالى عن إِخوة يوسف - عليه السلام -: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} 3.

_ 1 المفردات في غريب القرآن، ص (268) . 2 نفس المصدر والصفحة. 3 سورة يوسف الآية رقم (81) .

وقوله - سبحانه -: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1. فالمتشهد بشهادة أن لا إِله إلا اللَّه يلزمه أن يكون عالماً بها إذ أن العلم يستلزمه قوله: أشهد. وقد ورد في النصوص ما يدل على وجوب معرفة معناها لكي ينتفع بها العبد. قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه} 2. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه دَخَلَ الْجَنَّةَ"3. وسوف يأتي قريباً - إِن شاء اللَّه - بيان الأمور التي يجب على المتشهد بها معرفتها. معنى إله: الإِله هو المعبود. قال الراغب - رحمه اللَّه -: "وإِله جعلوه اسماً لكل معبود لهم … فالإِله على هذا هو المعبود"4.

_ 1 سورة الزخرف الآية رقم (86) . 2 سورة محمد الآية رقم (19) . 3 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، ح (43) ، (1/55) . 4 المفردات في غريب القرآن، ص (21) .

وقال ابن جرير - رحمه اللَّه - في تفسير قوله تعالى في ذكر وصية نبي اللَّه يعقوب - عليه السلام - لبنيه: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 1. قال: "ويعني بقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} أي شيء تعبدون {مِنْ بَعْدِي} ؟ أي من بعد وفاتي؟ قالوا: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ} ، يعني به: قال بنوه له: نعبد معبودك الذي تعبده، ومعبود آبائك إِبراهيم وإِسماعيل، وإِسحاق، {إِلَهًا وَاحِدًا} أي: نخلص له العبادة، ونوحد له الربوبية، فلا نشرك به شيئاً، ولا نتخذ دونه رباً".2 لفظ الجلالة (اللَّه) : عَلَم على الإِله الحق المستحق وحده للعبادة، خالق كل شيء ومالكه وربه ومدبّره، الذي له المثَل الأعلى، والأسماء الحسنى، المتصف بجميع أوصاف الكمال، وهو اسم خاص به - سبحانه - لا يسمى به غيره.3

_ 1 سورة البقرة الآية رقم (133) . 2 جامع البيان، (1/613) . 3 المفردات، للراغب الأصفهاني، ص (21) .

وهو مشتق من إله، وأصله الإله.1 قال ابن القيم - رحمه اللَّه -: "ولكن الذين قالوا بالاشتقاق … أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، وهي الإِلهية، كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم والقدير، والغفور، والرحيم، والسميع والبصير … لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة عنها تولد الفرع عن اسمه. وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلاً وفرعاً ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر، وإِنما باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة، ولا محذور في اشتقاق أسماء اللَّه بهذا المعنى"2. أما معنى اسمه تعالى (اللَّه) فهو كما فسره ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - ورجحه ابن جرير وغيره: ذو الألوهية والمعْبُوديه على خلقه أجمعين.3

_ 1 انظر جامع البيان لابن جرير، ح (1/82، 83) والمفردات في غريب القرآن (21) . وفتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ت: د. الوليد آل فريان، (1/71، 72) . 2 بدائع الفوائد، لابن القيم الجوزية، ت: بشير محمد عيون، (1/25) ، مكتبة المؤيد، الرياض، الطبعة الأولى، (1415هـ) . 3 جامع البيان، (1/82) ، وفتح المجيد لشرح كتاب التوحيد (1/72) .

ثانياً: دلالة أسلوبها: تقدم أن أسلوب شهادة أن لا إله إلا اللَّه أسلوب حصر قائم على النفي والإِثبات. ومن المناسب قبل الكلام على دلالة ذلك أن أشير إلى إِعرابها. قال صاحب كتاب:"الإعراب المفصل لكتاب اللَّه المنزل" عند إعرابه لقوله تعالى: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} من قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1. "لا: نافية للجنس، تعمل عمل "إِن". إِله: اسمها مبني على الفتح، في محل نصب. إِلاَّ: أداة حصر واستثناء. هو: المستثنى في موضع رفع بدلاً من موضع "لا إله" لأن وضع لا وما عملت فيه الرفع بالابتداء. وخبر لا النافية للجنس: محذوف تقديره موجود"2. قوله في خبر لا النافية للجنس: "تقديره موجود" ليس بصحيح في المعنى، وإِن كان مستقيماً في الإِعراب، وذلك أن تقدير موجود يؤدي إلى

_ 1 سورة البقرة الآية رقم (163) . 2 بهجت عبد الواحد صالح، (1/206) ، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمَّان، الطبعة الأولى، 1414هـ.

أن يكون معنى الشهادة غير مطابق للواقع من وجود آلهة كثيرة عبدت وما زالت تُعبد من دون اللَّه. وقد بين هذا المعنى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز - رحمه اللَّه - بقوله: ".. ما قاله النحاة … من تقدير الخبر بكلمة "في الوجود" ليس بصحيح، لأن الآلهة المعبودة من دون اللَّه كثيرة وموجودة، وتقدير الخبر بلفظ "في الوجود" لا يحصل به المقصود من بيان لحقيقة ألوهية اللَّه سبحانه وبطلان ما سواها، لأن لقائل أن يقول: كيف تقولون "لا إِله في الوجود إلا اللَّه"؟ وقد أخبر اللَّه سبحانه عن وجود آلهة كثيرة للمشركين، كما في قوله - سبحانه -: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّه مِنْ شَيْءٍ} 1، وقوله - سبحانه -: {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّه قُرْبَانًا آلِهَةً} 2 الآية. فلا سبيل إلى التخلص من هذا الاعتراض وبيان عظمة هذه الكلمة وأنها كلمة التوحيد المبطلة لآلهة المشركين وعبادتهم من دون اللَّه، إلا بتقدير الخبر بغير ما ذكره النحاة، وهو كلمة "حق" لأنها هي التي توضح

_ 1 سورة هود الآية رقم (101) . 2 سورة الأحقاف الآية رقم (28) .

بطلان جميع الآلهة وتبين أن الإله الحق والمعبود بالحق هو اللَّه وحده كما نبه على ذلك جمع من أهل العلم منهم أبو العباس ابن تيميه وتلميذه العلامة ابن القيم وآخرون رحمهم اللَّه. ومن أدلة ذلك قوله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّه هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 1 فأوضح سبحانه في هذه الآية أنه هو الحق وأن ما دعاه الناس من دونه هو الباطل، فشمل ذلك جميع الآلهة المعبودة من دون اللَّه من البشر والملائكة والجن وسائر المخلوقات، واتضح بذلك أنه المعبود بالحق وحده، ولهذا أنكر المشركون هذه الكلمة وامتنعوا من الإقرار بها لعلمهم بأنها تبطل آلهتهم لأنهم فهموا أن المراد بها نفي الألوهية بحق عن غير اللَّه سبحانه ولهذا قالوا جواباً لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا اللَّه {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2، وقالوا أيضاً: {أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 3 وما في معنى ذلك من الآيات. وبهذا التقدير يزول جميع الإشكال ويتضح الحق المطلوب واللَّه

_ 1 سورة الحج الآية رقم (62) . 2 سورة ص الآية رقم (5) . 3 سورة الصافات الآية رقم (36) .

الموفق"1. وبعد هذا أعود للمقصود من بيان دلالة أسلوب شهادة أن لا إِله إلا اللَّه. فهذا الأسلوب مكون من النفي بـ (لا) النافية للجنس، والاستثناء بـ (إِلا) ، وكل منهما له دلالة هامة، ويشير أهل العلم إلى الأول بأنه النفي، والثاني بأنه الإِثبات. وحول ما تدل عليه لا النافية للجنس قال صاحب النحو الوافي: "فهي تنفي الحكم عن كل فرد من أفراد جنس الشيء الذي دخلت عليه نفياً صريحاً وعاماً، وهذا مراد النحاة بقولهم في معناها: "إِنها تدل على نفي الحكم عن جنس اسمها نصاً" أو: "إِنها لاستغراق حكم النفي لجنس اسمها كله نصاً"، أي: التي قصد بها التنصيص على استغراق النفي لأفراد الجنس كله من غير ترك لأحد"2. وقال: "ويسميها بعضهم: (لا التي للتبرئة) لأنها تدل على تبرئة جنس اسمها كله من معنى الخبر، وبهذا الاسم ترد في بعض الكتب القديمة، وتختص به، لقوة دلالتها على النفي المؤكد أكثر من أدوات النفي الأخرى.

_ 1 انظر المستدرك الملحق بشرح العقيدة الطحاوية، طبعة دار الفكر، ص (538) . 2 النحو الوافي، لعباس حسن، (1/686) .

والنفي بها قد يكون مطلق الزمن، أي: لا يقع على زمن معين، وإِنما يراد منه مجرد نفي النسبه بين معموليها وسلب المعنى بغير تقيد بزمن خاص، نحو: لا حيوان حجرٌ، ولا وفاء لغادر. وقد يراد بها نفي المعنى في زمن معين حين تقوم قرينة كلامية أو غير كلامية تدل على نوع الزمن ... كقوله تعالى: {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّه إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} 1"2. وبناءً على ما تقدم يتضح في شهادة أن لا إِله إلاَّ الله، أن: الجنس المنفي عنه الحكم: هو المستفاد من اسمها (إله) : ويشمل جميع الآلهة والمعبودات سوى ما استثني بأداة الاستثناء (إلا) ، وهو اللَّه تعالى. والحكم المنفي: هو المستفاد من الخبر المقدر (حق) ، وهو الحكم بأنه حق. ولا يوجد قرينة تدل على تقييد الحكم بزمن معين، فهو مطلق، والمتشهد بها ينفي الحكم عن جنس اسمها في أي وقت وأي مكان. فدلالة النفي في لا إِله إلا اللَّه، هي: نفي المتشهد نفيا قاطعاً وحاسماً أن يكون لأحد ممن صرفت له عبادة، أو اتخذ إلهاً، سوى اللَّه عز وجل، حق في الألوهية، أو العبادة،

_ 1 سورة هود الآية رقم (43) . 2 النحو الوافي، المصدر السابق، هامش ص (686، 687) .

وحكمه على تلك الآلهة والمعبودات من دون اللَّه بأنها باطلة وعلى كل عبادة صُرفت لغير اللَّه بأنها باطلة، وذلك في أي مكان أو زمان كان، وهذا هو أصل الكفر بالطاغوت، وهو براءة من الشرك وأهله. ودلالة الإِثبات: هي استثناء اللَّه - عز وجل - من الحكم الذي دل عليه النفي، وإثبات أنه سبحانه هو الإِله الحق، المستحق وحده للعبادة، وأن كل عبادة صرفت له هي العبادة الحق. وهذا هو أصل الإِيمان باللَّه، المتضمن لأصل التوحيد، بالإقرار بتفرد اللَّه بالألوهية، واستحقاق العبادة، الذي يُسمَّى بتوحيد الألوهية. فيكون معنى "أشهد أن لا إِله إلا الله" هو: أقر إِقراراً جازماً، وأحكم حكماً قاطعاً على كل من زُعم أنه إله، أو صُرفت له عبادة سوى اللَّه عز وجل بأنه باطل، وعبادته باطلة، وأن اللَّه وحده هو الإِله الحق، المستحق وحده للعبادة. وهذا المعنى هو الذي يقصده أهل العلم عندما يفسرونها بقولهم: "لا معبود بحق إلا الله". والمتشهد يعلم بهذا الإِقرار أن صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير اللَّه تعالى ظلم عظيم وشرك به سبحانه، كما يلزم لتحقيقها أن يعرف معنى العبادة، وأنواعها، لكي لا يصرف شيئاً منها لغير اللَّه وهو لا يشعر أن ذلك عبادة له. ومما تقدم يتبين أن الإِقرار بشهادة أن لا إله إلا اللَّه يتضمن أمرين

هامين هما: 1- الكفر بالطاغوت. 2- الإِيمان بأن اللَّه وحده هو الإِله الحق، المستحق للعبادة. قال صاحب كتاب: "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد"1: "فهذا هو معنى لا إِله إلاَّ اللَّه، وهو عبادة اللَّه، وترك عبادة ما سواه، وهو الكفر بالطاغوت، وإِيمان باللَّه. فتضمنت هذه الكلمة العظيمة أن ما سوى اللَّه ليس بإِله، وأن إلهيةَ ما سواه أبطلُ الباطل، وإِثباتَها أظلمُ الظلمِ، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإِلهية لغيره، فتضمنت نفي الإِلهية عما سواه، وإِثباتها له وحده لا شريك له، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه إِلهاً وحده، والنهي عن اتخاذ غيره معه إِلهاً، وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي

_ 1 العلامة الشيخ سليمان بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الوهاب، الحافظ المحدث الفقيه المجتهد، كان آية في العلم والحلم والحفظ والذكاء، وبرع في علوم كثيرة كالتوحيد والحديث والفقه والتفسير والنحو، صنف: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، وأوثق عرى الإِيمان، وغيرها، ولد عام 1200هـ وقتل رحمه اللَّه عام 1233هـ. انظر ترجمته في مقدمة تيسير العزيز الحميد للشيخ إِبراهيم بن محمد بن إِبراهيم آل الشيخ، والأعلام للزركلي (3/191) ، ومشاهير علماء نجد (44) .

والإِثبات"1. وقد جاءت نصوص كثيرة تجمع بين هذين الأصلين - اللَّذيْن دلت عليهما شهادة أن لا إِله إلاَّ اللَّه - وتُبيِّن أنه بهما يكون الإِيمان الشرعي الصحيح، وأن دعوة الرسل جميعاً مرتكزة عليهما، فمن ذلك: قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2. وقوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّه} 3. وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّه فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا} 4. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّه هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّه هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 5.... ونحوها.

_ 1 تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص (73) ، المكتب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، (1397هـ) . 2 سورة النحل الآية رقم (36) . 3 سورة الزمر الآية رقم (17) . 4 سورة البقرة الآية رقم (256) . 5 سورة الحج الآية رقم (62) .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ" وفي رواية: "مَنْ وَحَّدَ اللَّه" ثم ذكر بمثله.1 المراد بالكفر بالطاغوت2: الطاغوت في اللغة مشتق من طغا يطغو: إذا عدا وتجاوز قدره3 ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} 4. وفسر الطاغوت بالشيطان والساحر والكاهن والأصنام5. وهذا تفسير له ببعض أفراده، وإلا فالطاغوت يطلق على كل من طغا وتجاوز حده وادَّعى حقاً من حقوق اللَّه التي تفرد بها.

_ 1 رواهما مسلم في كتاب الإِيمان، باب الأمر بقتال الناس..، ح (23) ، (1/53) . 2 ما يأتي بعده مما يتعلق بالكفر بالطاغوت، منقول مع بعض التصرف من رسالتي لشهادة الماجستير، بعنوان: "أثر الإِيمان في تحصين الأمة الإِسلامية ضد الأفكار الهدامة" المقدمة لقسم العقيدة، بكلية الدعوة بالجامعة الإِسلامية، إِشراف د. أحمد ابن عطية الغامدي. من ص (11-15) . 3 انظر: جامع البيان لابن جرير، (3/19) ، والمفردات للراغب الأصفهاني، ص (304) . 4 سورة الحاقة الآية رقم (11) . 5 انظر جامع البيان لابن جرير (3/18، 19) ، والتفسير الكبير لمحمد بن عمر الرازي (7/16) ، دار الكتب العلمية طهران، الطبعة الثانية، ت: بدون.

قال ابن جرير - رحمه اللَّه -: "والصواب من القول عندي في الطاغوت: أنه كل ذي طغيان على اللَّه فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، إنساناً كان ذلك المعبود أو شيطاناً، أو وثناً، أو صنماً كائناً ما كان من شيء"1. فالضابط إذاً لمعنى الطاغوت: أنه كل مخلوق تجاوز حده وادَّعى لنفسه أو لغيره شيئاً مما تفرد اللَّه به، أو نُسب إليه ورضِيَ، أو كان في حكم الراضي. ويخرج من هذه الأنبياء والملائكة وصالحو الإنس والجن الذين عُبدوا في حياتهم أو بعد موتهم أو أسند إليهم دون رضاهم شيء مما اختص اللَّه به. وذلك أنهم لم يدَّعوا ذلك ولم يقروا مَن ادعاه، وسيتبرّؤون منه إن علموا به في حياتهم أو يوم القيامة كما قال تعالى مبيناً ذلك: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 2. فهم لا يعبدونهم في حقيقة الأمر، إنما يعبدون الشياطين الذين زيَّنوا

_ 1 جامع البيان لابن جرير (3/19) . 2 سورة سبأ الآيتان رقم (40-41) .

لهم ذلك، والذين يتلاعبون بهم بما يُظهرون لهم من خوارق العادات ونحوها. ويدخل في مسمى الطاغوت الجمادات التي عُبدت من دون اللَّه، كالقبور والأحجار والأشجار والعتبات والمشاهد. وذلك أنه نسب إِليها وفعل عندها ما لا يجوز إلا للَّه وحده فهي في حكم الطواغيت، وسوف تُلقى في النار مع مَن عَبدها زيادة في تبكيت المشركين كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 1. وقد استثنى اللَّه عباده الصالحين الذين عُبدوا من دونه من الدخول في جهنم وذلك أنه نُسب إليهم ذلك زوراً وبهتاناً، فلم يَدْعُوا لذلك، ولن يرضوا به، وسيتبرّؤون منهم يوم القيامة فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} 2. والإِيمان بالطاغوت: يكون بتصديقه فيما ادّعاه من حق اللَّه، أو

_ 1 سورة الأنبياء الآية رقم (98) . 2 سورة الأنبياء الآيتان رقم (101-102) .

تصديق ما نُسب إِليه من ذلك حتى لو لم يعمل به. وعبادة الطاغوت: تكون بالعمل بموجب ذلك التصديق، بصرف شيء من العبادة له كالصلاة أو الدعاء أو الرجاء.. ونحو ذلك. والكفر بالطاغوت: يكون باعتقاد بطلان عبادة غير اللَّه، وتكذيب ما يَدَّعون أو ينسب إليهم من حق اللَّه، ويدخل في ذلك بغض الطواغيت وأتباعهم ومللهم وكراهتهم والبراءة منهم ومما يعبدون وعداوتهم.1 وقد بين اللَّه تعالى أهمية الكفر بالطاغوت وكيفيته وممن يكون في سياق واحد في سورة "الممتحنة" فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّه وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّه مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ

_ 1 انظر: مجموعة التوحيد: مجموعة رسائل لنخبة من علماء المسلمين، الرسالة الأولى ص (11) ، الطبعة السلفية، وانظر: تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الوهاب ص (34) .

لِمَنْ كَانَ يَرْجُواْ اللَّه وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 1. فقوله تعالى في أول السياق: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وفي آخر السياق {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} بيان لأهمية الأمر وتأكيد له وأنه من الأسس التي تقوم عليها الحنيفية ملة إِبراهيم عليه السلام، وأن هذا الأمر لازم لمن أراد أن يلقى اللَّه وهو راض عنه فيفوز في اليوم الآخر. وفي قوله: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه} بيان أن البراءة تكون من الشرك وأهله، من الطواغيت وأتباعهم وأعمالهم وكل خصائصهم وأحوالهم الضالة. وفي قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا} بيان لكيفية الكفر بالطاغوت. وفي قوله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّه وَحْدَهُ} بيان لغاية الكفر بالطاغوت وأنها مستمرة ما دام الكافر على كفره، لا حد لها إلا رجوعه عن باطِلِهِ وإِيمانه باللَّه الإِيمان الشرعي القائم على التوحيد. فالكفر بالطاغوت والبراءة من الشرك وأهله أساس هام للإِيمان باللَّه، وخطوة مقدمة لتطهير القلب وتهيئته لاستقبال

_ 1 سورة الممتحنة الآيات (4-6) .

الإِيمان وعقائده المباركة. وبعد هذه الإِطلالة على أهم معالم الكفر بالطاغوت، أحب التأكيد على أن الذي يكفي لانعقاد أصل الإِيمان، هو أصل الكفر بالطاغوت الذي اشتملت عليه شهادة أن لا إِله إلا اللَّه، والذي تقدم في بيان معناها. اشتمال شهادة أن لا إِله إلا اللَّه على أصل التوحيد بأنواعه: تقدم عند الكلام على معنى "أشهد" أنها تستلزم العلم، أي علم المتشهد بما يشهد به. والمتشهد بشهادة أن لا إِله إلا اللَّه يلزمه أن يكون عالماً بأمرين هامين لا تصح منه الشهادة بدونهما: الأمر الأول: علمه بالمشهود له وهو اللَّه تعالى. الأمر الثاني: علمه بمعنى الكلمة، وهي قوله: "لا إِله إلا اللَّه". وقد تقدم الكلام على الأمر الثاني، وتبين أن معنى لا إِله إلا اللَّه يشتمل على الكفر بالطاغوت، والإِقرار بتوحيد الألوهية، ووجوب إِفراد اللَّه بالعبادة. أما الأمر الأول وهو معرفة المشهود له - سبحانه وتعالى - فهي تنقسم إلى قسمين: معرفة مجملة، ومعرفة مفصلة. والمعرفة المجملة الصحيحة باللَّه - سبحانه وتعالى - هي أقل ما يلزم لصحة النطق بالشهادتين، وانعقاد أصل الإِيمان، لذلك فمن المهم ذكر أهم معالمها.. ويكون ذلك في النقاط الآتية:

- أهمية المعرفة المجملة باللَّه - سبحانه وتعالى-: تقدم أنها لازمة لصحة النطق بالشهادتين، وانعقاد أصل الإِيمان، إلا أنها لا توجب لصاحبها الرسوخ في الإِيمان، والتحصن من الشبهات المضلة، والشهوات المحرمة. قال الشيخ سليمان بن عبد اللَّه بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمهم اللَّه -: "ولا ريب أنه لو قالها أحد من المشركين ونطق أيضاً بشهادة أن محمداً رسول اللَّه، ولم يعرف معنى الإِله ولا معنى الرسول وصلى وصام وحج، ولا يدري ما ذلك، إلا أنه رأى الناس يفعلونه فتابعهم، ولم يفعل شيئاً من الشرك، فإِنه لا يشك أحد في عدم إِسلامه"1. 2- حد المعرفة المجملة باللَّه - سبحانه وتعالى -: هو أن يعرف العبد ربه معرفة صحيحة ولو كانت مجملة (ضعيفة) ، تمكنه من التمييز بين ربه الإِله الحق وغيره من الآلهة الباطلة وسائر الموجودات. وذلك أنه لا يكون مسلماً مَن نطق بالشهادتين، وأظهر الإِسلام لكنه لا يعرف ربه معرفة صحيحة، كحال من يقول بوحدة الوجود2،

_ 1 تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص (80) . 2 وحدة الوجود: هو مذهب الذين يوحدون اللَّه والعالم - تعالى اللَّه عن ذلك- ويزعمون أن كل شيء هو اللَّه تعالى، وأن العالم مظهر من مظاهر الذات الإِلهية، وأنه صادر عن اللَّه تعالى بالتجلي، ويزعمون أن وجود العالم هو عين وجود الله. سبحانك هذا إفك عظيم. انظر: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا، (2/569) . ومصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي للبقاعي، ت: عبد الرحمن الوكيل، ص (62) .

أو حلول اللَّه1 - تعالى - وتجليه في بعض خلقه، أو أن الأولياء ونحوهم لهم تصرف في الكون، فكل هؤلاء ينقصهم أقل ما يلزم من المعرفة الصحيحة باللَّه لصحة العقد. فلا بد لصحة النطق بالشهادة من معرفة باللَّه صحيحة - ولو كانت يسيرة - يتمكن بها من التمييز بين اللَّه - سبحانه وتعالى - وغيره من الآلهة الباطلة، وسائر المخلوقات. 3- كيفية حصول هذه المعرفة: تحصل المعرفة الصحيحة باللَّه إذا فهم العبد بعض النصوص الشاملة للتعريف بالله، مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 2.

_ 1 الحلول: فكرة شيطانية مفادها أنه يجوز أن يظهر اللَّه في صورة بعض خلقه، وعلى ذلك أطلقوا الإِلهية على البشر، ومن الحلولية النصارى حيث قالوا: حَلَّ اللَّه في عيسى، والسبئية، وغلاة الشيعة، وغلاة المتصوفة. انظر: كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، ت: لطفي عبد البديع، (2/108) . 2 سورة الشورى الآية رقم (11) .

ووقوفه على المعاني التي دلت عليها سورة الإِخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ اللَّه الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 1. وآية الكرسي: {اللَّه لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 2.. ونحوها. وهذا هو أصل توحيد الأسماء والصفات. كما يعرف أنه سبحانه هو رب العالمين المتفرد بالملك والخلق والتدبير، بأفعاله العظيمة الحكيمة، من دلالة بعض الآيات المبينة لذلك مثل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} 4

_ 1 سورة الإخلاص. 2 سورة البقرة الآية رقم (255) . 3 سورة الفاتحة الآية رقم (1) . 4 سورة الملك الآية رقم (1) .

وقوله: {اللَّه خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1 وقوله: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ..} 2 ... ونحوها. وهذا أصل توحيد الربوبية. وبهذا يتبين أن معرفة المشهود له - اللَّه تبارك وتعالى - في شهادة أن لا إِله إلا اللَّه تتضمن: أصل توحيد الربوبية، وأصل توحيد الأسماء والصفات. ومعنى الكلمة "لا إِله إلاَّ اللَّه": يدل على أصل توحيد الألوهية. وعليه فشهادة أن لا إِله إلا اللَّه تتضمن الإِقرار بأنواع التوحيد الثلاثة. إلا أن هذا الإِقرار لا يكفي، بل عليه أن يعقد العزم على أن يعبد اللَّه وحده ولا يشرك به شيئاً، وبهذا يصبح موحِّداً. أما المعرفة المفصّلة باللَّه - تعالى - فتحصل بالدراسة المفصّلة لأنواع التوحيد، ومعرفة معاني ما ورد في الكتاب والسنة من النصوص المبينة لأسماء اللَّه، وصفاته، وأفعاله، وسننه الجارية على عباده، وأنه الإِله الحق، المستحق وحده للعبادة، وأدلة ذلك وبراهينه، وشواهده.. وكل ما كان الإِنسان بذلك أعرف كان حظه من التوحيد ومعرفة اللَّه أوفر.

_ 1 سورة الزمر الآية رقم (62) . 2 سورة الأعراف الآية رقم (54) .

الفرع الثاني: معنى شهادة أن محمداً رسول اللَّه. تقدم في الكلام على معنى أشهد أن لا إِله إلا اللَّه أن لفظ "أشهد" يتستلزم علم المتشهد بما يشهد به من معرفة المشهود له ومعنى الشهادة. وكذلك الحال في شهادة أن محمداً رسول اللَّه، يلزم المتشهد بها العلم بالمشهود له وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبمدلول الكلمة "محمد رسول اللَّه". والعلم بهذين الأمرين يكون مجملاً ومفصلاً، وأقل ما يلزم لصحة النطق بالشهادة هي المعرفة المجملة الصحيحة بهما، ويتضح ذلك فيما يلي: المعرفة المجملة برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: معرفة النبي صلى الله عليه وسلم المجملة تتم بأمرين: 1- معرفة اسمه: وأقل ما يلزم لصحة النطق بالشهادة أن يعرف اسمه المنصوص عليه بلفظ الشهادة.1 2- معرفة صفاته، وأقل ما يلزم من ذلك لصحة النطق بالشهادة أن يعرف أنه صلى الله عليه وسلم بشر مثل سائر البشر، وإِنما اختصه اللَّه بالوحي والرسالة وما يلزم لها من العصمة والمعجزات ونحوها.

_ 1 قد يوجد فيمن ينتسب إلى الإِسلام وينطق بالشهادتين، مَنْ لا يعرف اسم النبي صلى الله عليه وسلم كحال شخص قابلناه في مدينة أولمجي في تركستان الشرقية الخاضعة للصين الشعبية، اسمه عثمان، ويرغب في الدراسة بالجامعة الإِسلامية، وعندما سألناه عن اسم النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرفه، وقال بعد تفكير "عيسى"!!

وهذا أمر ورد تأكيده في القرآن الكريم: قال اللَّه تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1. وبين - سبحانه - أنه صلى الله عليه وسلم بشر كغيره من الرسل الذين خلوا من قبله واختصهم اللَّه بالوحي والرسالة، في قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} 2. ومثلها قوله - تعالى - في حق عيسى - عليه السلام -: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 3. قال ابن جرير - رحمه اللَّه -: "ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح، ولكنه ابن مريم ولدته ولادة الأمهات أبناءَهن، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق

_ 1 سورة الكهف الآية رقم (110) . 2 سورة آل عمران الآية رقم (144) . 3 سورة المائدة الآيتان (75-76) .

البشر؛ وإِنما هو لله رسول كسائر رسله الذين كانوا قبله فمضوا وخلوا، أجرى على يده ما شاء أن يجري عليها من الآيات والعبر، حجة له على صدقه وعلى أنه للَّه رسول إلى من أرسله إليه من خلقه، كما أجرى على أيدي مَن قبله مِن الرسل من الآيات والعبر، حجة لهم على حقيقة صدقهم أنهم لله رسل"1. وقال أيضاً: "وقوله: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} : خبر من اللَّه تعالى ذكره عن المسيح وأمه: أنهما كانا أهل حاجة إلى ما يغذوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب، كسائر البشر من بني آدم، فإِن من كان كذلك، فغير كائنٍ إِلهاً، لأن المحتاج إلى الغذاء قِوامه بغيره، وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه، دليل واضح على عجزه، والعاجز لا يكون إلا مربوباً لا ربّاً"2. وقال في قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا..} : "يخبرهم تعالى ذكره أن المسيح الذي زعم مَنْ زعم من النصارى أنه إِله، والذي زعم من زعم منهم أنه للَّه ابن، لا يملك لهم ضراً يدفعه عنهم

_ 1 جامع البيان، (4/654) . 2 المصدر السابق، ص (4/654) .

إِن أحله اللَّه بهم، ولا نفعاً يجلبه إِليهم إِن لم يقضه اللَّه لهم، يقول تعالى ذكره: فكيف يكون رباً وإِلهاً من كانت هذه صفته؟ بل الرب المعبود: الذي بيده كل شيء، القادر على كل شيء، فإِياه فاعبدوا وأخلصوا له العبادة، دون غيره من العجزة، الذين لا ينفعونكم ولا يضرون"1. وقال تعالى مبيناً هذه المعاني في حق الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّه أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّه يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّه أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلاَّ بَلاَغًا مِنَ اللَّه وَرِسَالاَتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} 2. وقيل له صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ} 3. وهذه المعرفة لبشرية النبي صلى الله عليه وسلم هامة، إذ لو اعتقد خلافها، ونسب شيئاً من الألوهية أو الربوبية للنبي محمد أو لغيره من الأنبياء - عليهم

_ 1 جامع البيان، (4/655) . 2 سورة الجن الآيات: (18-23) . 3 سورة آل عمران الآية رقم (128) .

صلوات اللَّه وسلامه - فإِنه يكون جاهلاً بالمشهود له في كِلْتا الشهادتين ولا تصحان منه. المعرفة المجملة بمعنى الكلمة: "محمد رسول اللَّه": بعد أن يعرف العبدُ المشهودَ له الذي دل عليه المبتدأُ في قولنا: "محمد رسول اللَّه" أو اسم (أنّ) في شهادة أن محمداً رسول اللَّه، وهو رسول اللَّه محمد صلى الله عليه وسلم، ينبغي أن يعرف ما يدل عليه الخبر "رسول اللَّه". وأقل ما يلزمه من ذلك لصحة النطق بالشهادة ما يلي: 1- معرفته بدلالة قوله: "رسول اللَّه" من أن اللَّه أوحى إليه، وأنه يبلغ عن اللَّه، فهو صادق في كل ما أخبر به عنه - سبحانه - كما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 1. ويعرف أنه مرسل للناس كافة، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين2.

_ 1 سورة النجم الآيتان (3-4) . 2 اعتقاد عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم الأنبياء والرسل، وشريعته ناسخة لجميع الشرائع السابقة، لازم لسلامة شهادة أن محمداً رسول اللَّه، إذ لو شهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، لكن زعم أنه للعرب خاصة لم يقبل منه، كطائفة العيساوية من اليهود. وكذلك لو جَوَّز بعثة رسول بعده كما يعتقده القاديانيون، أو اعتقد أنه يسعه الخروج عن شريعته كما يزعمه الباطنيون وغلاة الصوفية. لكن إِن نطق بالشهادتين، ودخل في دين اللَّه، دون أن يدور في خلده عموم الرسالة أو كونه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ولم يأت بما يناقض ذلك، فعقده صحيح، إلا أنه على نقص خطير، وجهله بتلك الأمور قد يسبب له الوقوع في شيء من تلك الأفكار المنحرفة أو يعتقد صحتها، مما يقدح في عقده أو يبطله.

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} 1. وقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّه وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 2. 2- ما يستلزمه قوله: "رسول اللَّه": من أن اللَّه أرسله برسالة هي دين الإِسلام، وأنه الدين الحق، الخاتم، الناسخ لجميع شرائع الأنبياء قبله: كما دل على ذلك قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّه الإِسْلاَمُ} 3. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} 4.

_ 1 سورة سبأ الآية رقم (28) . 2 سورة الأحزاب الآية رقم (40) . 3 سورة آل عمران الآية رقم (19) . 4 سورة آل عمران الآية رقم (85) .

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - حفظه اللَّه -: "والإِسلام بالمعنى الخاص بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يختص بما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم لأن ما بعث به صلى الله عليه وسلم نسخ جميع الأديان السابقة فصار من اتبعه مسلماً، ومن خالفه ليس بمسلم، لأنه لم يستسلم لله بل استسلم لهواه. فاليهود مسلمون في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، والنصارى مسلمون في زمن عيسى فكفروا به فليسوا بمسلمين؛ ولهذا لا يجوز لأحد أن يعتقد أن دين اليهود والنصارى الذي يدينون به اليوم دين صحيح مقبول عند اللَّه مساوٍ لدين الإِسلام، بل من اعتقد ذلك فهو كافر خارج عن دين الإِسلام، لأن اللَّه عز وجل يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّه الإِسْلاَمُ} ويقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ، وهذا الإِسلام الذي أشار اللَّه إليه هو الإِسلام الذي امتن اللَّه به على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته قال اللَّه - تعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} 1، وهذا نص صريح في أن مَن سوى هذه الأمة بعد أن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا على الإِسلام، وعلى هذا فما يدينون للَّه به لا يُقبل منهم ولا ينفعهم يوم القيامة، ولا يحل لنا أن نعتبره ديناً قائماً قويماً، ولهذا يخطئ خطأً كبيراً من يصف اليهود والنصارى بقوله إِخوة لنا، أو أن أديانهم اليوم قائمة لما

_ 1 سورة المائدة الآية رقم (3) .

أسلفناه آنفاً"1. 3- عزمه على اتّباعه، والانقياد لموجب الرسالة، وأن لا يعبد اللَّه إلا بشريعته. 4 - محبته صلى الله عليه وسلم لمحبة اللَّه له، ولاختياره ليكون واسطة تبليغ دين اللَّه الذي به حياة القلوب، والفوز في الدنيا والآخرة، ومحبة هديه وما جاء به من الدين. قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - حفظه اللَّه - مبيناً أهم الأمور التي تدل عليها شهادة أن محمداً رسول اللَّه: "أما معنى شهادة "أن محمداً رسول اللَّه" فهو الإِقرار باللسان والإِيمان بالقلب بأن محمد بن عبد اللَّه القرشي الهاشمي رسول اللَّه - عز وجل- إلى جميع الخلق من الجن والإِنس كما قال اللَّه تعالى: {قُلْ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 2 وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ

_ 1 مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح عثيمين، (1/47، 48) جمع وترتيب فهد بن ناصر السليمان، دار الوطن للنشر، الرياض، الطبعة الثانية، لعام 1413هـ. 2 سورة الأعراف الآية رقم (158) .

لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 1، ومقتضى هذه الشهادة أن تصدِّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وأن تتمثل أمره فيما أمر، وأن تجتنب ما عنه نهى وزجر، وأن لا تعبد اللَّه إلا بما شرع؛ ومقتضى هذه الشهادة أيضاً أن لا تعتقد أن لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حقاً في الربوبية وتصريف الكون، أو حقاً في العبادة، بل هو صلى الله عليه وسلم عبدٌ لا يُعبد، ورسول لا يكذب، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً من النفع أو الضر إلا ما شاء اللَّه"2. أما المعرفة المفصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم فتكون: بالدراسة المفصلة لمعرفة نسبه، وسيرته، وجهاده، وصفاته وشمائله، ودلائل نبوته، وأدلة عموم رسالته، وأنه خاتم النبيين ... ونحو ذلك. والمعرفة المفصلة بشهادة أن محمداً رسول اللَّه تكون: بتعلم ما جاء به من الدين والدراسة المفصلة لهديه وسننه، وصدق المتابعة له صلى الله عليه وسلم والبعد عن البدع والغلو والعصيان. وكلما كان العلم والعمل بمقتضى ذلك أكثر كان تحقيقه للشهادة أكمل. وخلاصة ما تقدم: أن الأمور التي ينعقد بها أصل الإِيمان، هي:

_ 1 سورة الفرقان الآية رقم (1) . 2 فتاوى الشيخ محمد بن عثيمين، (1/81) .

أولاً: النطق بالشهادتين. ثانياً: معرفة المشهود لهما، ويتضمن: 1 - الإِقرار بأصل توحيد الأسماء والصفات، من أن اللَّه واحد، فرد صمد لم يلد ولم يولد متصف بالكمال، ليس له كُفُؤٌ، وليس كمثله شيء. 2- الإِقرار بأصل توحيد الربوبية، من أن اللَّه هو الرب الحق، المتفرد بالملك والخلق والتدبير للسموات والأرض ومن فيهن، لا شريك له في ذلك. 3- الإِقرار بأن محمد بن عبد الله رسول اللَّه، وأنه بشر ليس له شيء من الألوهية أو الربوبية، وأنه صادق في كل ما أخبر به، وأنه خاتم النبيين. ثالثاً: محبة المشهود لهما، ومحبة الدين. رابعاً: اعتقاد ما دلت عليه الشهادتان، ويتضمن:

_ 1 - أصل توحيد الألوهية، باعتقاد تفرد اللَّه بالألوهية، واستحقاق العبادة. 2 - أصل الكفر بالطاغوت، بالحكم بالبطلان على كل من عُبد من دون الله، وعلى كل عبادة صرفت لغير الله. 3- اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وما يستلزمه ذلك من أن ما أُرسل به هو الدين الحق، الخاتم، الناسخ لما قبله من شرائع الأنبياء، وأنه

وحده الموصل إلى اللَّه المقبول عنده. خامساً: قبول ما دلتا عليه، ويكون بما يلي: 1 - العزم على عبادة اللَّه وحده، والبراءة من الشرك وأهله. 2- العزم على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وعبادة اللَّه بشريعته. فإِذا جاء بهذه الأمور دخل في الإسلام ظاهراً وباطناً1 ثم هو

_ 1 الناطقون بالشهادتين ينقسمون في الجملة باعتبار حالهم مع أصل الإِيمان إلى ثلاثة أقسام: قسم نطقوا بهما مع العلم والاعتقاد والقبول لما دلتا عليه، فهؤلاء مسلمون ظاهراً وباطناً. وقسم نطقوا بهما، وأظهروا الإسلام لكن بدون اعتقاد أو قبول، فهؤلاء هم المنافقون؛ يعاملون في الدنيا معاملة المسلمين. وفي الآخرة في الدرك الأسفل من النار. وقسم نطقوا بهما، وصدقوا بما علموا من معناهما، لكنهم قصروا فيما ينبغي لانعقاد أصل الإِيمان، فهؤلاء يعاملون في الدنيا بما يظهرون، وحكمهم في الآخرة إلى اللَّه العليم بحالهم وأعذارهم. وأحوالهم مختلفة غير منضبطة، إلا أن ما معهم من إيمان سينفعهم يوم القيامة، ولا يساوي اللَّه بين من قال لا إله إلا اللَّه مصدقاً، وبين من لم يقلها، أو قالها مكذباً. قال صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا اللَّه، أنجته يوماً من دهره، أصابه قبل ذلك ما أصابه" رواه أبو نعيم في الحلية، (5/46) ، والبيهقي في شعب الإِيمان (1/56) . وقال الألباني: "وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين غير عمرو بن خالد المصري، وهو ثقة من شيوخ البخاري". انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، (4/566) ح (1932) .

مطالب بالإِيمان القلبي بالإِقرار بالأركان الخمسة الأخرى، ثم تكميل إِيمانه بالالتزام ببقية شعب الإِيمان. وقد جاء المجال للكلام على المعنيين الآخرين للإِيمان، واللَّه المستعان.

المطلب الثالث: في تعريف الإيمان القلبي

المطلب الثالث: في تعريف الإِيمان القلبي بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإِيمان القلبي في حديث جبريل - عليه السلام - في قوله صلى الله عليه وسلم في تعريف الإِيمان: "أَن تُؤْمِنَ بِاللَّه وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"1. والإِيمان بهذه الأصول الستة جميعاً من الإِيمان بالغيب، إذ مدار العلم بها على الخبر من اللَّه تعالى في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال الربيع بن أنس - رحمه اللَّه - في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 2 "آمنوا باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجنته وناره، ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت"3. ويكون الإِيمان بها: بالإِقرار القلبي والتصديق بكل ما أخبر به اللَّه - سبحانه - أو أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن اللَّه تعالى، أو عن ملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر.

_ 1 تقدم تخريجه ص (187) . 2 سورة البقرة الآية رقم (3) . 3 جامع البيان لابن جرير، (1/101) .

وسأتكلم - باختصار - على التعريف بهذه الأركان الستة بما يحصل به المقصود - إِن شاء اللَّه - من بيان أهم معالم الإِيمان القلبي، دون قصد الشرح والتفصيل. الركن الأول: الإِيمان بالله. تقدم أن الإِيمان باللَّه - الركن الأول من الأركان الستة - أصلٌ للإِيمان القلبي، وجرى بيان ما يلزم منه للدخول في الإِسلام في المطلب السابق. إلا أن ما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أن هذا الركن - كغيره من الأَركان الأخرى - يزيد وينقص، ويقوى ويضعف. وخير ما يشبه به الإِيمان القلبي - الذي هو أصل الإِيمان المطلق الكامل - أصل الشجرة، الذي يبدأ ضعيفاً ثم يزداد قوة ومتانة، ويبقى اسم: أصل الشجرة، ملازم له في مبتداه ومنتهاه. إذاً فالكلام على الإِيمان باللَّه - الركن الأول - هنا يشمل أصله وكماله، بخلاف ما تقدم في المعنى السابق، الذي يختص بأصله الذي هو أقله اللازم لانعقاد الإِيمان، وصحة النطق بالشهادتين.. ونحوه. وزيادة هذا الركن - الإِيمان باللَّه - إِنما تكون بالمعرفة المفصلة لما يشتمل عليه من معرفة الله، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما دلت عليه الشهادتان،

وقوة التصديق بما ورد من تفاصيلها، وما تستلزمه من أعمال القلوب.1 وسأذكر بعض كلام أهل العلم في بيان أن التصديق والإِقرار القلبي يزيد وينقص، مما يجعل أصل الإِيمان قابلاً للزيادة والنقصان في قلوب العباد، وأنه يكون عند بعضهم أكمل من بعض، فمن ذلك: قول الإمام النووي - رحمه اللَّه -: "والأظهر - واللَّه اعلم - أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إِيمان الصديقين أقوى من إِيمان غيرهم، بحيث لا تعتريه الشبه، ولا يتزلزل إِيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة، وإِن اختلفت عليهم الأحوال، أما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم، ونحوهم، فليسوا كذلك. فهذا مما لا يمكن إِنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس"2. وبيّن شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه - الوجوه التي يزيد بها الإِيمان وذكر من ذلك: الإِجمال والتفصيل فيما أمروا به، وفيما وقع منهم من الإِيمان والاستجابة.3 ثم قال:

_ 1 تقدمت الإشارة إلى ما يشتمل عليه أصل الإِيمان في المطلب السابق، انظر ص (200) وما بعدها. 2 شرح صحيح الإِمام مسلم، (1/148) . 3 انظر: مجموع الفتاوى، (7/232، 233) .

"فكلما علم القلب ما أخبر به الرسول فصدقه، وما أمر به فالتزمه، كان ذلك زيادة في إِيمانه على من لم يحصل له ذلك، وإِن كان معه التزام عام، وإِقرار عام. وكذلك من عرف أسماء اللَّه ومعانيها، فآمن بها، كان إِيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء، بل آمن بها إِيماناً مجملاً، أو عرف بعضها. وكلما ازداد الإِنسان معرفة بأسماء اللَّه وصفاته وآياته، كان إِيمانه به أكمل"1. ثم قال: "إِن العلم والتصديق نفسه، يكون بعضه أقوى من بعض، وأثبت وأبعد عن الشك والريب، وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه، كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد، مثل رؤية الناس للهلال، وإِن اشتركوا فيها، فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض،.. فكذلك معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعدده. والمعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الرب وكلامه، يتفاضل الناس في معرفتها أعظم من تفاضلهم في معرفة غيرها"2. وعليه فالإِيمان باللَّه - أصل الإِيمان - يزيد بزيادة العلم، والاعتقاد

_ 1 مجموع الفتاوى، (7/233، 234) . 2 نفس المصدر، (7/234) .

بما اشتمل عليه من المباني العظام التي تقدم بيانها في المعنى السابق الذي خصصناه للكلام على أصل الإِيمان. الركن الثاني: الإِيمان بالملائكة. وهو الاعتقاد الجازم بأن اللَّه تعالى خلق عالماً أسماه الملائكة، وهم أرواح قائمة في أجسام نورانية، قادرة على التمثل بأنواع مختلفة الشكل بإذنه تعالى مناسبة للحال التي يأتون بها"1. كما يجب التصديق بصفاتهم وأفعالهم الواردة في نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية، الدالة دلالة قطعية على وجودهم وأنهم يتصفون بصفات حميدة وأفعال رشيدة"2. الركن الثالث: الإِيمان بكتب الله. وهو الاعتقاد الجازم بأن اللَّه تعالى أنزل على رسله كتبا مشتملة على هدى العباد مبينة لهم ما يصلح دينهم ودنياهم، موضحة ما عليهم من واجبات، ومالهم من حقوق بها الأنظمة الشرعية والتوجيهات الخلقية"3.

_ 1 منهج القرآن في الدعوة إلى الإِيمان، د. على ناصر فقيهي، ص (21) ، الطبعة الأولى لعام 1405هـ. 2 انظر: نفس المصدر، ص (22، 27) . 3 نفس المصدر ص (29) .

ويكون الإِيمان إجمالاً بالكتب المنزلة على رسل اللَّه السابقين: كالتوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، وصحف إبراهيم، وكل ما ورد الإشارة إليه في نصوص الوحي. أما القرآن فيزيد على ذلك باعتقاد حفظ اللَّه له، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والإِيمان بعقائده، والتصديق بأخباره، وامتثال أوامره، والانتهاء عن نواهيه، وتنفيذ وصاياه، واعتقاد أنه كلام اللَّه حقاً سمعه منه جبريل - عليه السلام- وسمعه - محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل وسمعه الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - من النبي، وتناقلته الأمة بالنقل الصحيح المتواتر جيلاً بعد جيل وإلى أن يرفعه اللَّه إليه. الركن الرابع: الإِيمان بالرسل. وهو الاعتقاد الجازم بأن اللَّه سبحانه وتعالى بعث في كل أمة رسولاً منهم يدلهم على الخير ويحذرهم من الشر رحمة بهم1، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} 2.

_ 1 انظر: منهج القرآن في الدعوة إلى الإِيمان، ص (30) . 2 سورة فاطر الآية رقم (24) .

ويتضمن الإِيمان بالرسل أربعة أمور1: 1 - الإيمان بأن رسالتهم حق من اللَّه تعالى فمن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر بالجميع. 2 - الإيمان بمن علمنا اسمه منهم مثل محمد وإبراهيم وموسى ونوح - عليهم السلام - وغيرهم مما ذكر اسمه في الكتاب أو السنة على وجه التعيين. أما من لم نعلم اسمه منهم فنؤمن به إجمالا حيث نعتقد أن اللَّه بعث في كل أمة نذيرا. 3 - تصديق ما صح عنهم من أخبارهم. 4 - العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم وهو خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم. الركن الخامس: الإِيمان باليوم الآخر. قال تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} 2. والإِيمان باليوم الآخر: هو الاعتقاد بالبعث بعد الموت، وأن هناك يوما يحاسب فيه الناس على أعمالهم، والتصديق بكل ما أخبر اللَّه به مما

_ 1 انظر: رسائل في العقيدة، الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين الرسالة الأولى ص (25-26) ، دار طيبة الرياض - الطبعة الثانية لعام 1406هـ. 2 سورة البقرة الآية رقم (4) .

يكون في ذلك اليوم. ويشمل الإِيمان باليوم الآخر أموراً أهمها: الإِيمان بالبعث بعد الموت بعد النفخ في الصور، والحساب والجزاء والموازين، ولقاء رب العالمين، والحوض والصراط، وما ورد الخبر به مما يجري على العباد في يوم القيامة. والجنة والنار وما ورد في صفاتهما وصفات أهلهما. ويلحق بالإِيمان باليوم الآخر التصديق بما يكون بعد الموت من فتنة القبر والسؤال فيه وعذاب القبر ونعيمه.1 الركن السادس: الإِيمان بالقدر: وهو الاعتقاد الجازم بأن اللَّه سبق في علمه مقادير الخلائق، ويشمل ذلك ما يعمله العباد من خير وشر، وطاعة ومعصية، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. كما كتب لهم وعليهم ما تقتضيه حكمته من المقادير والأحوال التي يستحقونها على أعمالهم التي علم أنهم سيعملونها، وأراد إرادة كونية أن يقع ما علمه وكتبه لأجله الذي قدر له، وهو الذي يخلقه إذا حان الأجل. فهو الخالق لكل شيء بما في ذلك أفعال العباد من الكفر والإِيمان

_ 1 انظر: رسائل في العقيدة، الرسالة الأولى، ص (29-30) .

والطاعة والعصيان وغيرها.1 ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، قد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة. وخلاصة هذا المطلب: أن الإِيمان القلبي يشتمل على ستة أركان هي: الإِيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإِيمان بالقدر خيره وشره من اللَّه تعالى. وأنه يزيد ويقوى بزيادة العلم بتفاصيل هذه الأمور، وقوة التصديق، وبمقدار حظه مما تستلزمه من أعمال القلوب.

_ 1 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص (24) ، ورسائل في العقيدة للشيخ محمد ابن عثيمين الرسالة الأولى ص (37-40) .

المطلب الرابع: في تعريف الإيمان الكامل.

المطلب الرابع: في تعريف الإِيمان الكامل. إذا جاء العبد بأصل الإِيمان، ودخل في الإِسلام، فإِنه مطالب بالإِيمان القلبي بتعلم الأركان الستة واعتقادها، ثم عبادة اللَّه بفعل ما أمره اللَّه به، واجتناب ما نهى عنه، وبذلك يزداد إِيمانه ويترقى نحو الكمال. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإِسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إِيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإِيمان إلى قلوبهم إِنما يحصل شيئاً فشيئاً، إِن أعطاهم اللَّه ذلك"1. وقال أيضاً: "وقد ختم اللَّه الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم فلا يكون مسلماً إلا من شهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً عبده ورسوله، وهذه الكلمة بها يدخل الإِنسان في الإِسلام ... ثم لا بد من التزام ما أمر به الرسول من الأعمال الظاهرة، كالمباني الخمس، ومن ترك من ذلك شيئاً نقص إِسلامه بقدر ما نقص من ذلك"2. ولا يكمل الإِيمان بدون تحقيق العبودية لله تعالى، التي خلق اللَّه

_ 1 كتاب الإِيمان، ص (232) ، طبعة دار الكتب العلمية. 2 نفس المصدر، (231) .

الناس للقيام بها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1. ففي هذه الآية بيان للحكمة الشرعية التي خلق اللَّه من أجلها الناس، وهي أن يكلفهم بعبادته بالامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه، فالعبادة جزء هام من أجزاء الإِيمان الكامل. وقد حذر اللَّه تعالى وحذر رسوله صلى الله عليه وسلم من التفريط في الطاعة وعدم الالتزام بالتكليف في نصوص كثيرة منها قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه: وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى"3. وهذا التحذير يدل على أن الطاعات جزء من الإِيمان الجالب للأمن،

_ 1 سورة الذاريات الآية رقم (56) . 2 سورة النور الآية رقم (63) . 3 رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء، بسنن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، (ح7280) ، (13/249) .

قال اللَّه تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1. فالذي يخل بالطاعات يتعرض للعقوبة، مما يدل على أنه أخل بذلك الإِيمان. وليس الغرض الكلام على تفاصيل التكاليف، وإِنما بيان أن القيام بمقتضى التكليف، بفعل الطاعات واجتناب المحرمات، أساس مهم في الإِيمان الكامل، الذي كلف اللَّه به الناس، ويتولى من جاء به، ويتحصلون به على الثمرات المباركة التي يكرم بها أهله. وسوف أبين أهم معالم الإِيمان الكامل في الفروع الآتية: الفرع الأول: تعريف السلف للإِيمان الكامل. الفرع الثاني: الأدلة على أن الإِيمان يكون بالقلب والقول والأعمال الظاهرة. الفرع الثالث: أهم الأسس اللازمة لتحقيق هذا النوع من الإِيمان.

_ 1 سورة الأنعام الآية رقم (82) .

الفرع الأول: تعريف السلف للإِيمان الكامل للإِيمان الكامل مفهوم شرعي دلت عليه النصوص الكثيرة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم أجمله السلف في تعريفهم للإِيمان بأنه: اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "والمأثور عن الصحابة وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة: أن الإِيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.."1. وقال ابن حجر - رحمه اللَّه -: " ... وروى اللالكائي2 بسنده الصحيح عن البخاري3 قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء

_ 1 مجموع الفتاوى، (7/505) . 2 الإمام الحافظ أبو القاسم هبة اللَّه بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي الشافعي، صنف شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وأسماء رجال الصحيحين، وكرامات الأولياء توفي سنة 418هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (17/419) . والبداية والنهاية (12/26) . 3 الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري صاحب الجامع الصحيح، والتاريخ الكبير، والأدب المفرد، وغيرها، توفي سنة 256. انظر: سير أعلام النبلاء (12/391) ومقدمة فتح الباري.

بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وأطنب ابن أبي حاتم1 واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين وكل من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين.."2. وقال ابن عبد البر3 - رحمه اللَّه -: "أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإِيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإِيمان عندهم يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والطاعات عندهم كلها إيمان، إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إِيماناً"4.

_ 1 الإمام الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الحنظلي الرازي، صنف الجرح والتعديل، والرد على الجهمية، وتفسير القرآن، توفي سنة (327هـ) . انظر: سير أعلام النبلاء (13/263) ، والبداية والنهاية (11/203) . 2 فتح الباري، (1/74) . 3 الحافظ، أبو عمر، يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر القرطبي، ولد سنة (368هـ) ، وصنف كتباً نافعة منها: التمهيد، والاستذكار، وجامع بيان العلم وفضله، والاستيعاب، وغيرها. توفي عام (463هـ) . انظر: سير أعلام النبلاء (18/153) ، وشذرات الذهب (3/314) . 4 كتاب التمهيد، تحقيق: سعيد عراب، (9/238) ، طبعة وزارة الأوقاف المغربية، لعام 1981م.

وقد عرف الإمام ابن القيم - رحمه اللَّه - الإِيمان تعريفاً وافياً فقال: "وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له محبة وخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان. وكماله في الحب في اللَّه والبغض في الله، والعطاء لله والمنع لله، وأن يكون اللَّه وحده إلهه ومعبوده. والطريق إليه تجريد متابعة رسوله ظاهراً وباطناً، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى اللَّه ورسوله وباللَّه التوفيق"1. فالإِيمان إذاً بمفهومه الشامل الكامل، يتضمن جميع الطاعات القلبية، والقولية، والفعلية، كما تقدم في قول ابن عبد البر - رحمه اللَّه -: "والطاعات كلها عندهم إِيمان". وقد ورد ما يدل على هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث شعب الإِيمان: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ"2.

_ 1 الفوائد لابن القيم، ص (140) ، دار النفائس، بيروت، الطبعة السابعة لعام 1986م. 2 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب بيان عدد شعب الإِيمان، ح (35) (1/63) .

وضابط شعب الإِيمان أن يقال: جميع الطاعات المأمور بها في كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فعلها إِيمان، وهو من شعب الإِيمان. وجميع المعاصي المنهي عنها فتركها إِيمان وهو من شعب الإِيمان. ففعل العبد الموافق للأمر أو النهي هو الذي يكون طاعة ويسمى إِيماناً. شعب الإِيمان على وجه الإِجمال: أركان الإِيمان الستة: الإِيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإِيمان بالقدر، وأركان الإِسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، ثم سائر الفرائض والواجبات، ثم المستحبات. وكذلك: الكفر بالطاغوت واجتناب الشرك، والابتعاد عن كبائر الذنوب، واجتناب سائر المحرمات، وترك المكروهات، كل ذلك من شعب الإِيمان. فلا يكمل الإِيمان إلا باستكمال شعبه علماً وعملاً.

قال عمر بن عبد العزيز1 - رحمه اللَّه -: "إِن للإِيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإِيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإِيمان ... "2.

_ 1 الإمام الراشد، والخليفة الزاهد، عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي، أحد خلفاء بني أمية، كان ثقة مأموناً، له فقه وعلم وورع، وكان إِماماً عادلاً، وقد عد من الخلفاء الراشدين، توفي سنة (101هـ) . انظر: البداية والنهاية، (9/200) ، وسير أعلام النبلاء (5/114) . 2 رواه البخاري تعليقاً، الصحيح مع الفتح، (1/45) .

الفرع الثاني: الأدلة على أن الإِيمان قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص: أولاً: الأدلة على أن الإِيمان يكون بالقلب: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} 1. وقال: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّه مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} 2. وقال: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوآ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 3. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ

_ 1 سورة المائدة الآية رقم (41) . 2 سورة النحل الآية رقم (106) . 3 سورة الحجرات الآية رقم (14) .

الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ"1. وصلاح القلب إنما يكون بعمرانه بالعقائد الحق، فإذا شرب القلب الحقائق الإِيمانية وانبعثت منها أعماله القلبية كان قلباً سليماً. وفي حديث جبريل - عليه السلام -: "قال: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّه، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"2. وهذه الأمور الستة يكون الإِيمان بها بالعلم والتصديق والقبول الذي يكون في القلب، فدلت هذه النصوص على أن الإِيمان يدخل القلب، ويطمئن به، وأن إِيمان القلب هو الأصل وأنه شرط في صحة الإِيمان، ولا عبرة بغيره بدونه، وأن أساس الإِيمان هي الاعتقادات التي تقوم بالقلب. ثانياً: النصوص الدالة على أن الإِيمان يكون باللسان: قال صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ... "3. وقال عليه الصلاة والسلام: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه

_ 1 رواه البخاري، كتاب الإِيمان، ح (52) ، الصحيح مع فتح الباري الطبعة السلفية (1/126) . 2 تقدم تخريجه ص (187) . 3 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه ح (20) (1/51) .

وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنَ الخَيْرِ ذَرَّةً"1. ففي هذين الحديثين دلالة واضحة على اشتراط النطق بالشهادتين لصحة الإِيمان، وأن الإِيمان الذي يُدخِل في الإِسلام والذي يُنجِي من الخلود مكون من قول اللسان مع عقد القلب. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث شعب الإِيمان: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ"2. فيه دليل على أن التلفظ بلا إله إلا اللَّه أفضل شعب الإِيمان سواء قالها عقداً أو ذكراً. وكل الطاعات التي تقال باللسان هي من الإِيمان، وشعبة من شعبه الواجبة أو المستحبة. ثالثاً: النصوص الدالة على أن الإِيمان يكون بالأعمال الظاهرة: كل النصوص المتقدمة في المجموعة الثانية داخلة في هذا النوع، وذلك أن النطق باللسان عمل ظاهر، ويضاف إلى ذلك: قوله تعالى: {وَمَا

_ 1 تقدم تخريجه، ص (198) . 2 تقدم تخريجه ص (251) .

كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيَمَانَكُمْ} 1. أي صلاتكم، فسمى الصلاة إِيماناً. قال البخاري - رحمه اللَّه - في الصحيح: قول اللَّه تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يعني صلاتكم عند البيت" ثم أورد بسنده عَنِ البَرَاءِ2: "أَنَّهُ مَاتَ عَلَى القِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} "3. ومن أقوى الأدلة وأصرحها في القرآن على أن الأعمال من الإِيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 4.

_ 1 سورة البقرة الآية رقم (143) . 2 البراء بن عازب الأنصاري أبو عمارة، صحابي جليل توفي سنة 72هـ وقيل 71هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (3/164) ، والإصابة (1/142) . 3 صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الإِيمان باب الصلاة من الإِيمان، ح (40) (1/95) . 4 سورة الأنفال الآيات (2-4) .

حيث جعل سبحانه إقام الصلاة والإنفاق من صفات المؤمنين حقاً. أما من الأحاديث فقد تقدم في حديث شعب الإِيمان أن إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإِيمان وهو عمل ظاهر. ومن ذلك حديث وفد عبد القيس1، وفيه قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّه؟ قَالُوا: اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسًا مِنَ المَغْنَمِ....."2. فهذا الحديث من أقوى الأدلة وأصرحها على أن الأعمال من الإِيمان وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإِيمان بالنطق بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأداء خمس المغنم، وهذه أعمال ظاهرة. رابعاً: النصوص الدالة على زيادة الإِيمان ونقصانه: قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ

_ 1 بنو عبد القيس: قبيلة تنتسب إلى عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، كانت ديارهم في تهامة ثم خرجوا إلى البحرين، قدم وفدهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا ومقدمهم يؤمئذ المنذر بن عائذ. انظر: جمهرة أنساب العرب لابن حزم (295) . وسبائك الذهب في معرفة قبائل العرب للسويدي: (223) . 2 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب الأمر بالإِيمان باللَّه تعالى، ح (17) (1/48) .

زَادَتْهُمْ إِيمَانَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 1. قال ابن كثير - رحمه اللَّه - في تفسيره لهذه الآية: "وقد استدل البخاري وغيره بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإِيمان وتفاضله في القلوب كما هو مذهب جمهور الأمة، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد2"3. وأشباه هذه الآية التي أشار إليها كثيرة منها: قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} 4. وقول اللَّه تعالى:

_ 1 سورة الأنفال الآية رقم (2) . 2 الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد اللَّه مصنف غريب الحديث وفضائل القرآن والأموال، توفي سنة (224) ، سير أعلام النبلاء (10/490) والبداية والنهاية (10/3910) . 3 تفسير القرآن العظيم - للحافظ ابن كثير - (2/285) . 4 سورة التوبة الآيتان (124-125) .

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّه عَلِيمًا حَكِيمًا} 1. أما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ"2. فدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعب الإِيمان وخصاله3 وأن بعضه أعلى من بعض. وقال صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ"4. فدل هذا الحديث على أن الإِيمان يتفاوت قوة وضعفاً في القلوب، كما دل الحديث الذي قبله على أن شعب الإِيمان بعضها أقوى وأعلى

_ 1 سورة الفتح الآية رقم (4) . 2 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإِيمان، ح (49) (1/69) . 3 جامع العلوم والحكم، عبد الرحمن بن شهاب الدين بن رجب الحنبلي، ص (306) مكتبة الرسالة الحديثة، عمان، طبعه، ت: بدون. 4 تقدم تخريجه ص (198) .

من بعض. ومما تقدم من النصوص يتضح لنا تعريف الإِيمان في الكتاب والسنة وأنه قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأن بعض خصاله أعلى من بعض وأن أهله يتفاوتون فيه قوة وضعفاً.

الفرع الثالث: الأسس اللازمة لتحقيق الإِيمان الكامل. تقدم أن الإِيمان يزيد ويكمل باستكمال شعب الإِيمان علماً وعملاً، ومجاهدة النفس في تحقيق العبودية التي خلق اللَّه الناس من أجلها، بعد أن يأتي بأصل الإِيمان وأركانه القلبية الأخرى. إلا أن ذلك لا يستقيم للعبد إلا إذا أقام أعماله على أسس هامة، هي: أولاً: الإخلاص لله في العبادة. والإخلاص لله في العبادة هو حق اللَّه الذي أمر به عباده، قال اللَّه تعالى: {وَمَا أُمِرُوآ إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} 1. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ2 رضي الله عنه:

_ 1 سورة البينة الآية رقم (5) . 2 أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو الخزرجي الأنصاري، كان من السبعين الذين شهدوا العقبة، وشهد بدرا وغيرها من المشاهد. وكان من أعلم الصحابة بالحلال والحرام، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا ومعلما وداعيا وجابيا للزكاة. سكن الشام، ومات فيها بطاعون عمواس سنة (17هـ) وقيل غير ذلك. انظر: سير أعلام النبلاء (1/443) وأسد الغابة (5/194) .

"يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي ما حَقَّ اللَّه عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّه؟ قُلْتُ: اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّه عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّه أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه أَفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا"1. والإخلاص هو أن يقصد العبد بكل عباداته وجه اللَّه تعالى، فلا يشرك معه في العبادة المعينة أحداً، ولا يصرف جنس العبادة لغيره. قال تعالى مبينا نية عباده الذين رضي عنهم وأشاد بصنيعهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّه لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُورًا} 2. والإخلاص في العبادة أساس الحنيفية ملة إبراهيم وهو الأمر الذي تميز به الحنفاء أتباع الأنبياء عن غيرهم من الأدعياء الذين ينتسبون إلى الأنبياء، وهم منهم براء. فالفارق الأساسي هو التوحيد الخالص عند أتباع النبي صلى الله عليه وسلم والذي لا يوجد عند أهل الكتاب الذين حادوا عن منهج الأنبياء، بيَّن ذلك ربنا بقوله: {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّه وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ

_ 1 متفق عليه، البخاري: كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار، ح (2856) ، الصحيح مع الفتح (6/58) ، ومسلم: كتاب الإِيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، ح (30) (1/58) . 2 سورة الإنسان الآية رقم (9) .

لَهُ مُخْلِصُونَ} 1. فانظر إلى قوله في ختام الآية: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} ولم يقل "وأنتم له مخلصون" مما يدل على أن هذا الأمر تفرد به المسلمون. والإخلاص هو تحقيق معنى شهادة أن لا إله إلا اللَّه في كل العبادات. قال الشيخ سليمان بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم اللَّه -: "النوع الثالث: توحيد الإلهية المبني على إخلاص التأله لله تعالى، من المحبة والخوف، والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، والدعاء لله وحده، ويبنى على ذلك إخلاص العبادات كلها ظاهرها وباطنها لله وحده لا شريك له، لا يجعل فيها شيئا لغيره، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلا عن غيرهما ... وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قوله: لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والإجلال والتعظيم، وجميع أنواع العبادة. ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق

_ 1 سورة البقرة الآية رقم (139) .

الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار"1. وضابط الإخلاص: أن كل ما ثبت أنه عبادة فهو من الدين، وما كان من الدين فيجب أن يكون خالصاً يقصد به وجه اللَّه وحده - فلا يشرك معه فيه أحد ولا يصرف جنسه إلى غير اللَّه. وذلك أن اللَّه تعالى قال: {ألاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ} 2. وقال: {هُوَ الحَيُّ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3. فالدعاء مثلاً من الدين، فيجب أن يكون لله خالصاً، فلا يجوز أن يُدعى اللَّه ويُدعى غيره في آن واحد. ولا يجوز أن يُصرف جنس الدعاء لغير الله، كأن يدعو اللَّه وحده مرة وفي مرة أخرى يدعو غير الله. وهكذا في كل العبادات كالصلاة والتوبة والطواف والاستعانة والسؤال والخوف والرجاء.. ونحوها. فالإخلاص شرط في صحة العبادة، وأساس هام من أسس الإِيمان بدونه لا يدخل العبد في ولاية اللَّه، ولا يقبل منه عمل، ولا يتحصل على

_ 1 تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص (36) . 2 سورة الزمر الآية رقم (3) . 3 سورة غافر الآية رقم (65) .

ثمرات الإِيمان وكراماته التي وعد اللَّه بها عباده المؤمنين. ثانياً: صدق المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم: والمراد أن العبد إذا جاء بأصل الإِيمان، وآمن الإِيمان القلبي وقام بفعل ما أُمر به، وانتهى عما نُهيَ عنه، وتوجه لله وحده بالعبادات، فعليه مع ذلك أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في أداء العبادات وأن يتلقى عنه وحده بيان العبادات وكيفياتها وكل ما يحتاج إليه في القيام بما كلف به. وصدق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم هو حقيقة معنى شهادة أن محمداً رسول اللَّه. قال ابن رجب - رحمه اللَّه -: "وتحقيقه بأن محمداً رسول الله، ألا يعبد اللَّه بغير ما شرعه اللَّه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم"1. قال اللَّه تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّه وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّه كَثِيرًا} 2. قال ابن كثير - رحمه اللَّه -: "هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله3".

_ 1 كلمة الإخلاص وتحقيق معناها، لابن رجب الحنبلي، ص (21) . 2 سورة الأحزاب الآية رقم (21) . 3 تفسير القرآن العظيم (3/474) .

وفي قوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّه وَاليَوْمَ الآخِرَ} دليل على أهمية الاقتداء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنه أساس من أسس العبودية التي ينبغي أن يكون عليها من كان يرجو رضوان اللَّه والحصول على ولايته والفوز يوم القيامة. وهذا الأصل العظيم دلت عليه نصوص كثيرة منها: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1. وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} 2. وقد جمع اللَّه بين هذا الأصل - صدق المتابعة - والذي قبله الإخلاص في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 3. "وهذان ركنا العمل المتقبل لابد أن يكون صواباً خالصاً، فالصواب: أن يكون على السنة، وإليه الإشارة بقوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا} .

_ 1 سورة الحشر الآية رقم (7) . 2 سورة آل عمران الآية رقم (31) . 3 سورة الكهف الآية رقم (110) .

والخالص: أن يخلص من الشرك الجلي والخفي، وإليه الإشارة بقوله: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} "1. واتباعه صلى الله عليه وسلم يكون بتعلم ما جاء به من الوحي والعمل به والاقتداء به. قال صلى الله عليه وسلم آمراً بالاقتداء به وبالخلفاء الراشدين السائرين على نهجه المقتفين لأثره، ومحذراً من البدع والمحدثات: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّه، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بعدي فسيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، فتمسكوا بها وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ"2. وكما نهى عن البدعة والمحدثات نهى عن الغلو فقال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً3. وقال أيضاً: "فمن رغب عن سنتي فليس مني"4.

_ 1 تيسير العزيز الحميد، ص (525) . 2 رواه الإمام أحمد: المسند (4/126) واللفظ له، مسند العرباض بن سارية، وابن ماجة: المقدمة باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، ح (35) (1/10) تحقيق محمد مصطفى الأعظمى، ورواه الترمذي أبواب العلم باب (16) (4/149) وقال: ((حديث حسن صحيح)) ، وصححه الألباني في إرواء الغليل (8/107) . 3 رواه مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، ح (2670) (4/2055) . 4 متفق عليه البخاري كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، ح (5063) - الصحيح مع الفتح (9/104) ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن..، ح (1401) (2/1020) .

بهذا يتبين أن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدق المتابعة له شرط في صحة العبادة، وأساس عظيم يقوم عليه الإِيمان باللَّه وأن ذلك لا يتحقق إلا بالابتعاد عن الغلو والبدع والمعاصي. ثالثاً: العلم. إن الإِيمان الصحيح الراسخ هو الذي يقوم على العلم المستقي مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي. والعلم لازم لجميع المطالب الإِيمانية، فأصل الإِيمان - مثلاً - لا يمكن الإتيان به صحيحاً إلا بمعرفة معنى الشهادتين، وما تستلزمانه. وهكذا بقية الأركان القلبية وغيرها من شعب الإِيمان لا يمكن القيام بها إلا بالعلم بما ورد من تفاصيلها في كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فالعلم أساس هام في الإِيمان باللَّه، وركن بارز في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قال اللَّه تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّه وَمَآ أَنَا مِنْ المُشْرِكِينَ} 1. قال ابن جرير - رحمه اللَّه -:

_ 1 سورة يوسف الآية رقم (108) .

"يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ} يا محمد {هَذِهِ} الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته {سَبِيلِي} وطريقتي ودعوتي {أَدْعُو إِلَى اللَّه} وحده لا شريك له {عَلَى بَصِيرَةٍ} بذلك ويقين علم مني به {أَنَا وَ} يدعو إليه على بصيرة أيضاً {مَنِ اتَّبَعَنِي} وصدقني، وآمن بي {وَسُبْحَانَ اللَّه} يقول تعالى ذكره: وقل تنزيهاً لله وتعظيماً له، من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه {وَمَآ أَنَا مِنْ المُشْرِكِينَ} يقول: وأنا بريء من أهل الشرك به، لست منهم ولا هم مني"1. وقد بين سبحانه أن التعليم من أخص وظائف النبي صلى الله عليه وسلم وأنه به خرج المسلمون من الضلال المبين فقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} 2. فالعلم مقدم على كل قول أو عمل كلف به الإِنسان أو رام القيام به

_ 1 جامع البيان (13/79، 80) . 2 سورة الجمعة الآية رقم (2) .

- وشرط في صحته قال الإِمام البخاري - رحمه اللَّه - في الجامع الصحيح: "باب العلم قبل القول والعمل، لقول اللَّه تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه} فبدأ بالعلم"1. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب2 - رحمه اللَّه -: "اعلم رحمك اللَّه أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل: (الأولى) : العلم، وهو معرفة اللَّه ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإِسلام بالأدلة. (الثانية) : العمل به. (الثالثة) : الدعوة إليه. (الرابعة) : الصبر على الأذى فيه. الدليل قوله تعالى: {وَالعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 3"4.

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح (1/159) . 2 الإمام العلامة مجدد الدعوة السلفية في الجزيرة العربية محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي، ألف كتاب التوحيد، وكشف الشبهات، ومختصر السيرة النبوية، وغيرها، توفي رحمه اللَّه في سنة (1206هـ) . انظر: روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام، لحسين بن غنام، والأعلام (6/257) . 3 سورة العصر. 4 الأصول الثلاثة وأدلتها، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص (5) ، مكتبة الشباب، مكة المكرمة، الطبعة: الأولى، (1387هـ) .

وبهذا يتبين أن العلم والبصيرة في الدين أساس هام لا يتحصل العبد على الإِيمان الكامل بدونه. خلاصة هذا المطلب: أن الإِيمان الكامل، الذي يتولى اللَّه أهله، ويوجب لهم الأمن من عقوباته في الدنيا والآخرة، يشمل جميع الطاعات القلبية، والقولية، والفعلية. وهذا المعنى هو المقصود بتعاريف علماء السلف للإِيمان بأنه: قول وعمل واعتقاد، يزيد وينقص، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة. وهو يشمل جميع شعب الإِيمان ابتداءً من أركان الإِيمان القلبية الستة، وأركان الإِسلام الخمسة، وجميع الواجبات والمستحبات، كما يشمل الكفر بالطاغوت، والبراءة من الشرك وأهله، واجتناب الكبائر، وترك المحرمات والمكروهات. وكلما زاد المسلم في الالتزام بشعب الإِيمان علماً وعملاً، زاد إِيمانه وتقواه، وترقى في كماله، وأن الإِيمان لا يتحقق إلا إذا التزم بأسس هامة تنحصر فيما يلي:

_ 1 - الإِخلاص لله في كل عباداته. 2 - المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم فيها، وترك البدع، والغلو، والمعاصي. 3 - العلم والبصيرة في الدين.

المجلد الثاني

المجلد الثاني الباب الثاني: الأمثال المضروبة لاستنارة قلوب المؤمنين وظلمة قلوب الكافرين في سورة النور الفصل الأول: المثل المضروب لنور الله في قلوب المؤمنين المبحث الأول: دلالة السياق الذي ورد فيه المثل ... المبحث الأول: دلالة السياق الَّذِي ورد فيه المثل. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِة ٍلاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآء بِغَيْرِ حِسَابٍ وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَآءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ... } .

إلى قوله سبحانه: {لَقَدْ أَنْزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 1. لقد ورد هذا المثل العظيم في سياق بدأ بذكر العلم الذي أنزله الله إلىعباده، والذي يتضمن: الآيات البينات، والأمثال المضروبة من أحوال الأمم السابقة، والمواعظ. وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} . وهذا العلم النازل هو الطريق الوحيد لهداية الناس. ثم بين سبحانه أنه هو الهادي لأهل السموات والأرض، فكل خير ونور وبصيرة وهدى فهو منه وحده سبحانه حيث قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} . ثم ضرب - سبحانه - مثلاً لنوره الذي يجعله في قلوب عباده المؤمنين جزاء تصديقهم وقبولهم لما نزل من البينات، وتعلمهم لها، وعملهم بها، مبيناً في المثل حقيقة ذلك النور، ومادته التي تغذيه، وأثره في استنارة القلب وبصيرته، وذلك بقوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا

_ 1سورة النور الآيات (35-46)

مِصْبَاحٌ ... } الآية. ثم ذكر سبحانه شاهداً على أثر ذلك النور في ذكر بعض صفات عباده المؤمنين الذين استنارت قلوبهم بذلك النور، فأكسبها البصيرة، وكشف لهم أحاسن الأعمال فلزموها، وأراذلها فتجافوا عنها. حيث قال سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآء بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1. ثم أتبع ذلك بذكر مثلين يصور فيهما سبب ضلال فريقين من الكفار، المتمثل في إعراضهما عن نور العلم الذي أنزله الله لهداية الناس، وما نتج عن ذلك من حجب الله نوره عنهم فبقوا في الضلال والظلمات يعمهون. قال – سبحانه -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآء حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ

_ 1سورة النور الآيات (36-38)

الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} 1. وفي ختم المثل الأول بقوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآء} . والمثل الثالث بقوله: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} ربط بين هذه الأمثال المصورة لحال من أعطاه الله النور ومن لم يحصل له ذلك النور، وبيان لحقيقة هامة وهي أن الهداية لا تكون إلا بنور الله عز وجل الحاصل من تعلم العلم من الوحي النازل من الله والإيمان والعمل به، وأن من لم يسلك سبيل العلم فلن يُعْطيَهُ الله نوراً، ومن لم يعطه الله نوراً فلن يستنير قلبه أبداً، ولو سلك ما سلك من الطرق. وهذه الحقيقة المستفادة من سياق الأمثال الثلاثة المتمثلة: بوجود نور يهدي إلى الإيمان، هو نور العلم، ووجود نور يجعله الله في قلوب عباده المؤمنين، هو نور الإيمان، دل عليه قوله تعالى في ألفاظ المثل الأول: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} .

_ 1سورة النور الآيتان (39-40) .

وتعلم العلم هو فعل العبد، وقذف النور في القلب هو فعل الله تعالى. فإذا جاء العبد بما عليه من الاستجابة للعلم، أعطاه الله ما يستحقه فهداه. حيث قال سبحانه: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآء} . خلاصة دلالة السياق: إن مثل النور في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ... } الآية، ورد في سياق أشاد الله فيه بالعلم النازل به الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين أنه الطريق والسبب الأوحد لهداية الناس حيث ينير قلوب المؤمنين وأعمالهم. وأن نور الإيمان يقذفه الله في تلك القلوب التي استنارت بالعلم واستجابت له. وصوّر مثل النور هذا المعنى أكمل تصوير. كما دل السياق على أن سبب ضلال الكفار هو إعراضهم عما أنزله الله من العلم. وضُرب لذلك مثلان يبينان حال الكفار الذين حُرموا من النور الإلهي، هما: مثل السراب، ومثل الظلمات. وسوف يأتي مزيد من التأمل في السياق عند دراسة هذين المثلين إن شاء الله تعالى.

المبحث الثاني: دراسة المثل

المبحث الثاني: دراسة المثل المطلب الأول: نوع المثل ... المطلب الأول: نوع المثل. هذا المثل من الأمثال التشبيهية، التي يتم إيضاح المراد بها عن طريق القياس التمثيلي. وبهذا المثل شبه أمر معقول1 هو: نور العلم والإيمان القائم في قلوب المؤمنين، بأمر محسوس هو: نور المصباح الذي في مشكاة، الوارد وصفه في المثل. والمشبه به والمشبه كلاهما عبارة عن هيئة مركبة. كما سيأتي بيان ذلك فيما يلي من المطالب.

_ 1المعقول: هو الأمر الذي له وجود حقيقي، لكنه لا يدرك بالحواس الخمس، ولكن يدرك بالعقل. كالروح مثلاً. ومثله نور القلب وبصيرته.

المطلب الثاني: بيان صورة الممثل به.

المطلب الثاني: بيان صورة الممثّل به. لقد بُيِّنت صورة الممثّل به في قوله تعالى: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِة ٍلاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ} . وهذا المثل مكون من خمسة أجزاء رئيسة هي: 1- مشكاة. 2- مصباح. 3- زجاجة تحيط بالمصباح. 4- زيت يوقد منه المصباح. 5- النور المنبعث من المصباح. وسأبين فيما يلي المراد بهذه الأجزاء. أولاً: المشكاة. ذكر المفسرون وأصحاب كتب المفردات ثلاثة معان للمشكاة هي:

_ 1- الكوة غير النافذة1 التي تكون في الجدار، يوضع فيها المصباح، 1انظر: تهذيب اللغة لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، (10/301) ، تحقيق علي حسن هلالي، الدار المصرية، تفسير القرآن العظيم، (3/290) ، جامع البيان لابن جرير (9/325) .

وهي تجويف صغير في الجدار كالرف الصغير. ورجح الراغب في المفردات هذا المعنى للمشكاة ولم يذكر غيره حيث قال: "والمشكاة كوة غير نافذة، قال: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} وذلك مثل القلب، والمصباح مثل نور الله فيه"1. 2- المشكاة هي: موضع الفتيلة من القنديل. وهي: القصبة أو العمود المجوف الذي توضع فيه الفتيلة.2 وقد رجح هذا المعنى ابن كثير بعد أن ذكر المعاني الأخرى حيث قال: "والقول الأول أولى وهو: أن المشكاة هي موضع الفتيلة من القنديل".3 3- المشكاة هي: الحديدة التي يعلق بها القنديل.4 ولم أجد من رجح تفسير المشكاة في الآية به من المفسرين. والمعنى الجامع من هذه المعاني للفظ "مشكاة" هو: أن المكان أو الشيء الذي يوضع فيه المصباح يسمى مشكاة. فمن قال: أن المصباح هو

_ 1المفردات في غريب القرآن ص 266. 2 تهذيب اللغة (10/301) ، تفسير القرآن العظيم، (3/290) ، جامع البيان، (9/325) . 3تفسير القرآن العظيم، (3/290) . 4 نفس المصدر والصفحة، انظر: تهذيب اللغة (10/301) ، جامع البيان، (9/325) .

الفتيلة المضيئة، قال: المشكاة هي العمود أو القصبة التي توضع فيها لقوله تعالى: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} . ومن قال المصباح هو المجموع المكون من الفتيلة والقصبة ووعاء الزيت، قال: المشكاة هي: الكوة التي يوضع فيها المصباح، وكلا القولين محتملان في تفسير المشكاة.. لكن التفسير الأول وهو: الكوة أنسب من جهة التشبيه ومطابقة المشبه به، حيث نص بعض السلف والمفسرين على أن المشكاة مثل للقلب أو الصدر1، فيكون تجويف القلب مشابه لتجويف المشكاة. والله أعلم. وسوف يأتي مزيد بيان لهذا المعنى عند الكلام على مطابقة الممثّل به للممثل له. وأيضا فإن تفسير المشكاة بالكوة يبين ميزة لهذا النور تتمثل في تنويره لهذه الكوة أكمل ما تكون الإضاءة، لأنه يكون محصوراً فيها فينير كافة جوانبها. أما تفسيره بالقصبة أو غيرها فإنه لا يفيد معنى ذا قيمة في اعتبار المثل. ثانياً: المصباح. المصباح هو: السراج المضيء الذي نوره من توقد وإضاءة.

_ 1انظر: جامع البيان لابن جرير، (9/323) .

قال في تهذيب اللغة: "والمصباح نفس السراج. وهو قُرْطُه الذي تراه في القنديل"1. والقرط: جمعها قِراط: وتطلق على شعلة السراج، ما احترق من طرف الفتيلة.2 قال الراغب: "ويقال للسراج مصباح"3. وقال: "السراج: الزاهر بفتيلة ودهن، ويعبر عن كل مضيء"4. وعلى هذا يسمى الجرم المضيء مصباحاً كالشمس، والنجوم الزاهرة المتوهجة. ولا يقال للضوء والشعاع مصباح. كما لا يقال للجرم المنور بلا إضاءة وتوهج مصباح. وقد فرق الله سبحانه بين الأجرام المتوهجة المتقدة المضيئة، وبين الأجرام المنورة بسبب انعكاس أشعة الضوء عليها في قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآء وَالْقَمَرَ نُورًا} 5.

_ 1تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري، تحقيق علي حسن هلالي (10/582) . 2 الصحاح في اللغة والعلوم، إعداد: ندايم وأسامة مرعشلي، ص (911) دار الحضارة بيروت، ط/ الأولى، 1975. 3المفردات في غريب القرآن ص (373) . 4نفس المصدر ص (229) . 5سورة يونس آية (5) .

وقوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} 1. وقوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} 2. وبهذا يتبين أن الأجسام منها ما هو منور بسبب توهّجه واتقاده كالشمس. ومنها ما هو منور بسبب انعكاس الضوء عليه دون توهجه واتقاده كالقمر. والمصباح الذي شبه به نور الله في قلب المؤمن هو من النوع الأول الذي يتوهج ويتقد لأن هذا هو حقيقة المصباح كما تقدم في التعاريف اللغوية. قال ابن جرير: ".. وصف المصباح بالتوقد، لأن التوقد والاتقاد لاشك أنهما من صفته"3. ثالثاً: الزجاجة. قال تعالى: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} .

_ 1سورة نوح آية (16) . 2سورة الإسراء آية (12) . 3جامع البيان (9/326) .

"الزجاج حجر شفاف، الواحدة زجاجة"1. ويؤخذ من الزجاج معنى: الشفافية والحسن والصفاء. ويؤخذ من تشبيه الزجاجة بالكوكب الدري: معنى الإضاءة والتلألُؤِ. وذلك أنها شبهت بالكوكب المتلألئِ الذي هو من زينة السماء الدنيا. كما قال تعالى: {إنَّا زَيَّنا السَّمآءَ الدنْيَا بِزينَةٍ الكَوَاكِب} 2 ووصف الكوكب بأنه دري: يدل على معنى الإضاءة. كما ورد عن أبي بن كعب3 رضي الله عنه أنه فسر دري: بمضيء. وكذلك روي عن قتادة4 - رحمه الله -.5

_ 1المفردات في غريب القرآن ص (211) . 2سورة الصافات آية (6) . 3أبو منذر أبي بن كعب بن قيس الأنصاري الخزرجي، كاتب النبي صلى الله عليه وسلم وسيد القراء، من أصحاب العقبة الثانية، شهد بدرا وما بعدها من المشاهد، جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان رأسا في العلم والعمل. توفي سنة 22 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (1/389) ، الإصابة (1/31) . 4أبو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسي الضرير، ولد سنة 60هـ. كان من أوعية العلم بالتفسير والحديث. وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ. وكان رأسا في العربية والغريب، وأيام العرب وأنسابها توفي سنة 118 هـ وقيل غير ذلك. انظر: سير أعلام النبلاء (5/269) ، وتقريب التهذيب (2/123) . 5تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/290) .

وعلى هذا فالمراد هو التشبيه بكوكب مضيء ينبعث الضوء من داخله بخلاف الكواكب غير المضيئة التي نورها بسبب الضوء الوارد إليها من غيرها. وهذا التشبيه - تشبيه الزجاجة بالكوكب الدري - يؤكد المعنى المستفاد من حقيقة المصباح وهو الإضاءة الذاتية الناتجة عن توقد وتوهج ونور ينبعث نتيجة لذلك. فالنور الذي يتلألأ ويزهر على الزجاجة يأتيها من الداخل من المصباح. والزجاجة - بطبيعتها المعروفة- تنعكس عليها الأنوار وتنفذ من خلالها كأجمل ما تكون إذا كان المصباح المتوهج حسن الإنارة جيد الزيت. وإذا ضعفت الإنارة أو كان الزيت من النوع الرديء أو خلط به، انبعث من المصباح دخان يتجمع على جدار الزجاجة من الداخل، فيضعف بريقها ونورها، وربما أظلمت إذا كثر الدخان وغطى سائر الزجاجة. ومعرفة هذه الحال من طبيعة الممثّل به مهمة في تدبر المثل والاعتبار به، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله. رابعاً: الزيت الذي يوقد به المصباح. قال الله تعالى: {يوْقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَاركةٍ زَيتونَةٍ لا شَرْقِية وَلا غَرْبيةٍ يَكَاد

زَيْتها يُضئ ولوْ لم تمسسْهُ نار} 1. قوله: {يوْقَدُ} أي المصباح. فالضمير عائد عليه.2 قوله: {مِن شَجَرَةٍ مُبَاركةٍ زَيتونَةٍ} "أي يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة: {زَيتونَةٍ} بدل أو عطف بيان"3. قوله سبحانه: {زَيتونَةٍ لا شَرْقِية وَلا غَرْبيةٍ} . بين المفسرون أن هذا الوصف المعبر عنه بقوله: {لا شَرْقِية وَلا غَرْبيةٍ} المراد منه بيان جودة زيت الشجرة وصفائه واعتداله وإشراقه.4 واختلفوا في المراد بكونها {لا شَرْقِية وَلا غَرْبيةٍ} على قولين مشهورين: الأول: أن المراد أنها ليست شرقية لا تصيبها الشمس إلا إذا أشرقت، وليست غربية لا تصيبها الشمس إلا إذا غربت، ولكنها شرقية

_ 1سورة النور آية (35) . 2 انظر: فتح القدير الجامع بين فني الدراية والرواية من علم التفسير، لمحمد بن علي الشوكاني، (4/33) . 3تفسير القرآن العظيم لابن كثير، (3/290) . 4انظر: جامع البيان، (9/328) ، وتفسير القرآن العظيم، (3/291) .

غربية تصيبها الشمس إذا طلعت وإذا غربت النهار كله. وذلك كأن تكون في أرض فلاة لا يحجبها الشجر أو على رأس جبل. وقالوا ذلك أجود لزيتها.1 الثاني: أن المراد أنها وسط الشجر لا تصيبها الشمس إذا أشرقت ولا إذا غربت، فهي "لا شرقية ولا غربية".2 وقد رجح ابن كثير القول الأول حيث قال: "وأولى هذه الأقوال القول الأول وهو أنها في مستوى من الأرض في مكان فسيح بادٍ ظاهر ضاح للشمس تقرعه من أول النهار إلى آخره ليكون ذلك أصفى لزيتها وألطف".3 وقبله رجح هذا القول ابن جرير - رحمه الله -.4 وقوله سبحانه: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} . قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: يَكَاد زيت هذه الزيتونة يضيء - من صفائه،

_ 1تفسير القرآن العظيم لابن كثير، (3/291) . 2 انظر: جامع البيان لابن جرير، (9/327، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، (3/291) . 3تفسير القرآن العظيم لابن كثير، (3/291) . 4جامع البيان لابن جرير (9/328) .

وحسن ضيائه - {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} يقول: فكيف إذا مسته النار".1 وهذا الوصف يدل على أن الزيت من صفائه وحسنه يشرق ويتنور من انعكاس ضوء المصباح أو غيره عليه. فهو إذاً ذا نور، لكنه ليس ناتجاً عن إضاءة وإنما ناتج عن انعكاس الضوء الوارد عليه من غيره. يؤيد هذا المعنى قوله {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} أي يَكَاد من تنوره وإشراقه أن يتقد. خامساً: النور المنبعث من المصباح. نور المصباح في المشبه به هو المعنى المعتبر في التشبيه، وكل ما ورد في أوصاف الممثّل به إنما المراد به إيضاح طبيعة النور المنبعث من هذا المصباح الموصوف. قال - سبحانه - في بداية المثل: {مثَل نُورهِ كَمِشْكَاةٍ فِيها مصْبَاح} . والمراد تشبيه نور الله في قلب المؤمن بنور حاصل في مشكاة فيها مصباح. وقال بعدما أتم أوصاف المصباح: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} : أي نور نار المصباح ونور الزيت.2

_ 1جامع البيان (9/328) . 2انظر: المصدر السابق، نفس الصفحة.

والمعنى أن المشبّه به هو نور كائن على نور. "وارتفاع {نُورٌ} : على أنه خبر لمبتدإٍ محذوف: أي هو نور. و {عَلى نُور} : متعلق بمحذوف هو صفة لنور مؤكدة له. والمعنى: هو نور كائن على نور".1 ويمكن استخلاص أهم صفات النور مما ذكر من هيئة المشبه به، ومما يعرف من طبيعته، فيما يلي: 1- أنه نور ناتج عن إيقاد المصباح، وإيقاده تم من غيره، وهو قابل للانطفاء. 2- أنه نور متأثر بالوقود - الزيت - من جهة صفاء النور وإشراقه لجودة الزيت، ومن جهة زيادة النور أو نقصانه لنقص الزيت. والمصباح المشبه به وقوده من أحسن الوقود، فنوره كأحسن ما يكون إشراقاً وإنارة وصفاءً. 3- أن المصباح محفوظ بزجاجة تحميه من تلاعب الرياح باللهب مما يؤدي إلى اضطراب النور أو انطفائه، فهو نور ثابت متنامٍ. كما أن الزجاجة تسهم في تفرق الضوء وانتشاره خارجها، ويتلألأُ

_ 1 فتح القدير الجامع بين فني الدراية والرواية من علم التفسير، لمحمد بن عليالشوكاني، (4/34) .

ويزهر عليها. وخلاصة القول في الممثّل به: أن الممثّل به في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فيهَا مِصْباح ... } مكون من عدة أجزاء، لها أثر في قوة النور وصفائه وكماله: فهو مصباح بفتيلة جيدة يتقد وينبعث منه الضوء والنور كأحسن ما يكون إشراقاً وصفاء لجودة الزيت الذي يوقد به، وتنعكس أشعة الضوء على الزجاجة التي تحيط به فتتلألأ وتشرق وتنور جميع جوانب تلك الكوة والمشكاة التي وضع فيها المصباح. كما أن الزجاجة تحمي نور المصباح من تلاعب الرياح به، فهو نور ثابت.

المطلب الثالث: بيان الممثل له

المطلب الثالث: بيان الممثّل له. هذا المثل ضرب لبيان النور المضاف إلى الله عز وجل في قوله - سبحانه -: {مثَلُ نورهِ كَمِشْكَاةٍ} . وفي المراد بالضمير (الهاء) في قوله: {نورهِ} ثلاثة أقوال للمفسرين1 هي: 1- أنه عائد إلى الله عز وجل، أي: مثل هداه في قلب المؤمن. 2- أن الضمير عائد إلى المؤمن، أي: مثل نور المؤمن الذي في قلبه كَمِشْكَاةٍ. 3- أنه عائد إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وقد رجح ابن جرير - رحمه الله- عود الضمير إلى الله عز وجل حيث قال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلوب أهل الإيمان به، فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد، الذي أنزله إليهم فآمنوا به، وصدقوا بما فيه، في قلوب المؤمنين، مثل مشكاة".2

_ 1 انظر: جامع البيان لابن جرير، (9/321) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، (3/290) ، واجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية لابن القيمص 7، المكتبة السلفية، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، ت/بدون. 2جامع البيان، (9/325) .

وبين ابن القيم - رحمه الله - أن عود الضمير إلى الله عز وجل يدل عليه السياق، وينتظم تلك الأقوال، حيث قال: "وقد اختلف في مفسر الضمير في {نورهِ} ، فقيل: هو النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أي: مثل نور محمد - صلى الله عليه وآله وسلم-، وقيل: مفسره المؤمن، أي مثل نور المؤمن. والصحيح أنه يعود على الله سبحانه وتعالى. والمعنى: مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده. وأعظم عباده نصيباً من هذا النور رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - فهذا مع ما تضمنه عود الضمير المذكور، وهو وجه الكلام، يتضمن التقادير الثلاثة وهو أتم لفظاً ومعنى"1. وكلا القولين المأثورين عن السلف - من إعادة الضمير على الله عز وجل أو على المؤمن - صحيح باعتبار: فهو من جهة: نور الله الذي جعله لعبده، وهداه به، وأنار به قلبه. فيضاف إلى الله باعتباره الواهب له، الهادي إليه. كما في قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآء} ، وكذلك قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} . وهو من جهة: نور المؤمن الذي أعطاه الله إياه، وجعله في قلبه، وخصه به. كما دل على ذلك قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا

_ 1اجتماع الجيوش الإسلامية. ص (7) .

لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} 1. فاللام في قوله: {لَهُ} لام الاختصاص. قال ابن القيم - رحمه الله -: "وهذا النور يضاف إلى الله تعالى إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه. ويضاف إلى العبد إذ هو محله وقابله، فيضاف إلى الفاعل والقابل"2. ويمكن تحديد طبيعة هذا النور الذي يجعله الله لعباده المؤمنين من المعطيات المستفادة من ألفاظ المثل، وأقوال أهل العلم، بالأمور الآتية: أولاً: أن النور الممثّل له كائن في قلب المؤمن. ثانياً: أن النور يضاف إلى الله تعالى باعتباره الواهب له الهادي إليه. ويضاف إلى المؤمن باعتباره محله المعطى له، الموهوب إياه. ثالثاً: أنه نور واحد. كما دل عليه الإفراد في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} ، والمستفاد من حقيقة الممثّل به. رابعاً: أنه نور مركب كما دل عليه قوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} ، ودل عليه صورة الممثّل به، وامتزج هذان النوران فأصبحا نوراً واحداً مضيئاً.

_ 1سورة الأنعام آية (122) . 2اجتماع الجيوش الإسلامية ص (7) .

المراد بالنورين في قوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} : تكاد تتفق التفاسير المأثورة عن السلف على أن المراد بأحد النورين هو القرآن الكريم وما دل عليه من العلم والعمل1. ثم اختلفوا في تحديد النور الثاني على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن النور الثاني هو نور الإيمان في قلب المؤمن. وهو القول الذي تدور عليه أكثر أقوال السلف.2 ورجحه ابن تيمية3 - رحمه الله - وغيره. القول الثاني: أن النور الثاني هو نور الفطرة. أي ما فطر عليه قلب المؤمن من الهدى. ذكره ابن كثير4 - رحمه الله -. وهذا في حقيقته عائد إلى القول الأول لأن المراد هو ما فطر عليه قلب المؤمن، وليس أي قلب. وقلب المؤمن باق على أصل الفطرة، على الدين الحنيف، وزاد الإيمان هذه الفطرة رسوخا واستحكاما. فهو عائد

_ 1انظر: جامع البيان (9/321، 322، 328) ، وتفسير القرآن العظيم، (3/290، 291) . 2 انظر: جامع البيان لابن جرير (9/325، 328، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، (3/290، 291) ومجموع الفتاوى، (10/475) . 3مجموع الفتاوى، (10 /475) . 4تفسير القرآن العظيم، (9/290) .

إلى نور الإيمان وما يستلزمه من الفطرة السليمة. القول الثالث: أن النور الثاني هو الحجج والبراهين الكونية التي نصبها الله لعباده، ورجح هذا ابن جرير - رحمه الله -، لكنه لم يذكر أن أحدا من السلف قال به.1 وهذا القول فيه نظر وذلك أن تفسير النور الثاني الذي يعطاه المؤمن بالحجج والبراهين الكونية لا يستقيم للاعتبارات الآتية:

_ 1- أن النور كائن في القلب. كما نص على ذلك كثير من علماء السلف ومن بعدهم من العلماء والمفسرين - ومنهم ابن جرير -، والآيات الكونية خارج القلب. 2- أن النور الممثّل له جعله الله للمؤمن. والآيات الكونية منصوبة للمؤمن وغيره. 3- إذا كان المراد هي: الحجج والبراهين والعبر المستخلصة بالنظر، فهذه ثمرة التفكر الذي لا يكون صحيحا مسدداً إلا بالنور، فهي نتيجة النور وليست من ماهيته. 4- إذا قيل أن المراد بالنور هو: تفكر المؤمن ونظره، الذي هو آلة 1جامع البيان (9/328) .

القلب ووظيفته.1 قيل: إنها ليست من ماهية النور، ولكنها مظهر له، متأثرة به، متنورة من النور بعد إيقاد المصباح. فالتعقل الصحيح هو تعقل المؤمن الذي استنار قلبه بنور العلم والإيمان.2 5- أن دلالة الممثّل به تخالف ذلك، ولا تتفق مع جعل النور الثاني هو الحجج والبراهين وذلك أن المثل دل على أن أحد النورين وقود للنور الآخر، متوقف اتقاده عليه. والأدلة والبراهين الكونية ليست مادة للعلم المستقى من الوحي. وإنما هي مؤيدة مساندة له في بعض المطالب إلا أنه لا يتوقف عليها. وأيضاً لا يقال: أنها نور يغذي نور الإيمان وذلك أن الدلائل الكونية غير كافية في التعريف بالله، وبحقه، وبشعائر الدين، والمطالب الغيبية، فلا يستمد منها وحدها الإيمان الشرعي، وإنما يستمد من الوحي الذي أنزله الله على رسله - صلوات الله وسلامه عليهم -.

_ 1انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، (9/307، 309) والتفسير الكبير للرازي، (23/25) . 2سيأتي بيان ما يقابل التعقل عند الكلام على ما يقابل أجزاء الممثّل به في المطلب القادم.

وإنما الصحيح أن يقال أن الإيمان لا يحصل إلا بالعلم المستفاد مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي. فتفسير النورين بالعلم والإيمان هو المطابق لصورة الممثّل به. قال السدي1 - رحمه الله -: "نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا، ولا يضيء واحد بغير صاحبه، كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه"2. 6- أنه لا يوجد في النصوص ما يدل على أن الآيات والحجج الكونية نور، ولم يؤثر عن أحد من السلف أنه قال بذلك. وابن جرير الذي ذكر ذلك لم يذكر أن أحدا من السلف قال به. ولكن وردت النصوص بتسمية العلم نوراً، والإيمان نوراً، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي يعلم العلم ويدعو إلى الإيمان نوراً. وعلى هذا يتبين خطأ من فسر ما يقابل نور الزيت في الممثّل له بنور الأدلة والحجج الكونية.3 إذ إن ذلك يصرف عن دلالة المثل، وسياقه

_ 1أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، أحد موالي قريش، من أئمة التفسير، توفي سنة 127 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، (5/264) ، وتهذيب التهذيب، (1/313) . 2نقلا عن تفسير القرآن العظيم لابن كثير، (3/291) . 3 انظر: التفسير الكبير للرازي، (23/232) ، وصفوة التفاسير، لمحمد بن علي الصابوني، (2/341) ، والأمثال في القرآن الكريم، د. الشريف منصور بن عون العبدلي ص (8) .

- المؤيدة بنصوص الوحي وأقوال السلف الكرام - على نور العلم وأهميته في الهداية وحصول الإيمان وزيادته. ويقوي منهج العقلانيين الزاعمين أن النظر العقلي هو الطريق لمعرفة الإيمان والتوحيد وسائر المطالب الغيبية. وعلى ضوء ما تقدم يتحصل أن المراد بالنورين في قوله تعالى: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} هما: نور العلم الواصل للقلب من هداية الكتاب والسنة. وهو يقابل نور الزيت. ونور الإيمان الذي يقذفه الله في قلب المؤمن. وهو يقابل نور شعلة المصباح. شواهد تفسير النورين بالإيمان والعلم: إن تفسير النورين في قوله تعالى: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} بنور الإيمان ونور العلم يؤيده ما ورد من إطلاق لفظ النور عليهما في نصوص أخرى. وهذا مع ما دل عليه الاعتبار بالمثل يدل على صواب من رجح تفسيرهما بذلك. فمما ورد من إطلاق النور على ما أنزله الله على أنبيائه من الكتاب والحكمة المتضمنة للعلم، قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ

مُبِينٌ} 1. وقوله: {إِنَّآ أَنْزَلْنَآ التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} 2. وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَآ} 3. وقوله تعالى: {يَآ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} 4. ونحوها. ومما ورد في إطلاق النور على ما يجعله الله للعباد من الإيمان القائم على العلم قوله تعالى: {أَفمَن شَرَحَ الله صَدْرَه للإسْلامِ فَهو عَلى نُورٍ مِنْ ربه} 5. وقوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} 6.

_ 1سورة المائدة آية (15) . 2سورة المائدة آية (44) . 3سورة التغابن آية (8) . 4سورة النساء آية (174) . 5سورة الزمر آية (22) . 6سورة الأنعام آية (122) .

وقوله: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 1، ونحوها. وجمع الله بينهما بقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 2. كما دل المثل على أن النور الذي عند المؤمنين من فعل الله وجعله لهم، من جهتين: الجهة الأولى: الاعتبار بصورة الممثّل به وهو المصباح حيث لا يتقد إلا بإشعال النار في الفتيلة التي سرى فيها الزيت. وكذلك نور الإيمان يجعله الله لمن أناب وأذعن قلبه لما نزل من الحق. فيقذف الله في قلبه الإيمان، ويزيده منه كلما تعلم واستجاب. والجهة الثانية: قوله في المثَل: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآء} . وقوله في مثل الظلمات: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3.

_ 1سورة الحديد آية (28) . 2سورة الشورى آية (52) . 3سورة النور آية (40) .

وقد دل على هذا المعنى نصوص أخرى منها ما سبق إيراده، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} . وقوله: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} ، ونحوها. ومن الأحاديث الدالة على هذا المعنى ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} 1 قالوا: وكيف يشرح صدره؟ قال: "يدخل فيه النور فينفسح". قالوا: وهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: "التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل أن ينزل الموت"2. فإذا هدى الله العبد وشرح صدره بالنور الذي يجعل فيه - الذي يقابل إشعال فتيلة المصباح - أصبح في القلب نتيجة لذلك نور قائم فيه، ملازم له مادام مؤمناً، دل على ذلك ما ورد عن حذيفة3 رضي الله عنه:

_ 1سورة الأنعام آية (125) . 2رواه ابن جرير في جامع البيان، (5/336) وذكر ابن كثير طرق الحديث ثم قال: "فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضا والله أعلم". تفسير القرآن العظيم (2/175) . 3أبو عبد الله حذيفة بن اليمان العبسي، حليف الأنصار، من كبار الصحابة رضوان الله عليهم، كان صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم، شهد بدرا. توفي بالمدائن سنة 36 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (2/361) ، والإصابة (1/316) .

"القلوب أربعة: قلب مصفح فذلك قلب المنافق، وقلب أغلف فذاك قلب الكافر، وقلب أجرد كأن فيه سراجاً يزهر، فذاك قلب المؤمن، وقلب فيه نفاق وإيمان، فمثله مثل قرحة يمدها قيح ودم، ومثله مثل شجرة يسقيها ماء خبيث وطيب، فأيما غلب عليها غلب"1. وحياة القلب وبصيرته تكون بهذا النور الذي يجعله الله في قلوب المؤمنين، واستمرارها باستمراره. فحياة القلب مستفادة من الإيمان الذي يكتبه الله في قلب المؤمن، وبصيرته مستفادة من النور القائم فيه. وبالمقابل موت القلب وعماه إنما يكون بخلوه من الإيمان والنور، فالموت سببه خلو القلب من الإيمان، وعمى القلب سببه انطفاء نوره وانعدامه. قال ابن القيم - رحمه الله -: "فالمؤمن حي القلب مستنيره، والكافر والمنافق ميت القلب مظلمه"2.

_ 1 رواه الحافظ أبو بكر محمد بن أبي شيبة في كتاب الإيمان، (ح 54) ، ص (17) . ضمن كتاب من كنوز السنة رسائل أربع تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وقال الألباني عن هذا الحديث: "حديث موقوف صحيح". 2اجتماع الجيوش الإسلامية، ص (23)

العلاقة بين النورين: يصور المثل العلاقة بين العلم والإيمان أتم تصوير، وذلك بالمقارنة بعلاقة الزيت بنار المصباح المتمثلة في الخطوات الآتية: 1- سريان الزيت في فتيلة المصباح. 2- إشعال الفتيلة. 3- استمرار سريان الوقود لازم لاستمرار اشتعال النار، وإذا انقطع احترقت الفتيلة ثم انطفأ النور. 4- زيادة الإضاءة بزيادة الوقود، والعكس. وهذه المعاني معتبرة في الممثّل له، وبالمقارنة بها تبرز العلاقة بين العلم والإيمان، وذلك كما يلي:

_ 1- تشرب القلب العلم المبين في الكتاب والسنة، وإذعانه للحق وإنابته إليه هو سبب الهداية، وهي تقابل سريان الوقود في الفتيلة، وتشربها له. 2- هداية الله العبد الذي اهتدى بالعلم، واستجاب للحق، وقذف النور في قلبه، وهذا يقابل إشعال المصباح. 3- استمرار عقد القلب وقبوله للحق الذي دل عليه الكتاب والسنة من التوحيد والعبودية لله لازم لاستمرار الإيمان، وهذا يقابل لزوم استمرار سريان الزيت في الفتيلة لاستمرار الشعلة. 4- زيادة الإيمان وصفاؤه كلما زاد تعلمه للعلم، واستمساكه

بالكتاب والسنة، وعدم تكديره بغيرهما. وهذا يقابل زيادة ضوء المصباح وصفاءه بزيادة الزيت وجودته. وهذه المعاني المستفادة من الاعتبار بالمثل دلت عليها نصوص كثيرة منها: ما ورد في بيان أن القرآن سبب الهداية، كقوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} 1. وقوله: {قَدْ جَآءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 2، ونحوها. وقوله: {يَهدي به الله مَن اتبَعَ رِضوَانه} ، يدل على أن الهادي هو الله، وأن سبب الهداية هو الاهتداء بالقرآن - الكتاب المبين - واتباع ما دل عليه من رضوان الله. أما زيادة الإيمان بزيادة الاهتداء بتعلم العلم والعمل به، فقد دل

_ 1سورة البقرة آية (1، 2) . 2سورة المائدة آية (15، 16) .

عليها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} 1. فهذا المثل يبين الطريق إلى الإيمان، بالإرشاد إلى سببه الذي من جاء به هداه الله، وهو الاستجابة لما أنزل الله من الوحي على نبيه صلى الله عليه وسلم وأن زيادة الإيمان تكون بزيادة الاهتداء بتعلم الكتاب والسنة والعمل بهما. وخلاصة القول في تحديد الممثّل له: من التأمل في المعطيات المتقدمة، المستفادة من صورة الممثّل به، والنظر في أقوال أهل العلم، وما يؤيدها من النصوص، نخلص إلى أن الممثّل له هو النور المركب من: نور العلم والإيمان الذي يجعله الله في قلب المؤمن.

_ 1سورة محمد آية (17) .

المطلب الرابع: تحديد ما يقابل أجزاء الممثل به

المطلب الرابع: تحديد ما يقابل أجزاء الممثّل به: تبين من دراسة الأصل الممثّل به أنه يتكون من أربعة أجزاء رئيسة هي: 1- المشكاة. 2- المصباح. 3- الزجاجة المحيطة بالمصباح. 4- الزيت الذي يوقد منه المصباح. وقد تقدم بيان ما يقابل النور في المطلب السابق، وفي هذا المطلب يجري التعرف على ما يقابل الأجزاء الأخرى في محل النور القابل له، وذلك من أقوال علماء السلف والمفسرين، والمناسبة المعقولة بين المتقابلات، وذلك يكون في الفقرات الآتية: أولاً: المشكاة: تقدم في الكلام على الممثّل به أن المشكاة هي التجويف الذي يكون في الجدار يوضع فيه المصباح، "ووجه تخصيص المشكاة أنها أجمع للضوء الذي يكون فيه من مصباح أو غيره"1. وتبين من المطلب السابق أن الممثّل له هو: نور العلم والإيمان في

_ 1فتح القدير، لمحمد بن علي الشوكاني، (4/32) .

قلب المؤمن. أما المشكاة فقد فسرها بعض أهل العلم بقلب المؤمن1، وبعضهم فسرها بصدره.2 والأقرب إلى الاعتبار - والله أعلم - مقابلة المشكاة بقلب المؤمن وذلك للاعتبارات الآتية: 1- إنه بدأ بذكر المشكاة في قوله: {كَمِشْكَاةٍ فيها مصباحٌ} لتحديد مكان النور وهو القلب. 2- إن تجويف القلب يناسب تجويف المشكاة، ويكون المراد بيان شدة استنارة القلب بهذا النور بما يستفاد من استجماع الضوء في المشكاة لقربها من المصباح وصغر حجمها، فتكون إنارتها أكمل. 3- إن البصيرة وأعمال القلوب ووظيفة التفكر هي في القلب3،

_ 1 انظر: المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، ص (266) [مادة: شكا] . وقانون التأويل لأبي بكر بن العربي، ت /محمد السليماني، ص (479) ، دار القبلة جدة، ط: الأولى، 1406 هـ. 2انظر: جامع البيان، (9/323) ، واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم، ص (7) . 3تكلمت عن أهم الوظائف القائمة في القلب، وأدلة قيامها به، في بحثي لرسالة الماجستير، بعنوان: أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة، ص (183-222) . ويكفي للاستدلال لقيام البصيرة والتعقل في القلب قول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج آية 46] .

فوجود النور فيه ينعكس على هذه الوظائف فيكشف لها مواطن الرشد والفلاح وضدها من سبل الضلال والهلاك. ولذلك: إذا استنار القلب استنارت وظائفه وما يقوم به من أعمال القلوب وانعكس ذلك على سائر أعماله الظاهرة والباطنة، كما يدل عليه عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"1. أما الصدر خارج القلب فلم يثبت أنه محل لأي وظيفة إيمانية، فلا يكون للنور أثر فيه. ولا يكون في ذكره في المثل فائدة. إذ المراد بيان أثر النور على قلب المؤمن وما فيه من الوظائف والأعمال، والتي ينعكس أثرها على أعماله الظاهرة وجميع أحواله، فوجب مقابلة جميع أجزاء المثل بما يقوم في القلب، بل إن كل نص أو قول أسند شيئاً من الأمور الإيمانية إلى الصدر فإنما المراد ما في القلب. قال الراغب الأصفهاني - رحمه الله -:

_ 1تقدم تخريجه ص (255) .

"قال بعض الحكماء حيثما ذكر الله تعالى القلب فإشارة إلى العقل والعلم نحو: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} 1، وحيثما ذكر الصدر فإشارة إلى ذلك، إلى سائر القوى من الشهوة والهوى والغضب ونحوها"2. ولا شك أن الشهوة والهوى والغضب ونحوها تكون في القلب. والمتتبع للآيات التي ورد فيها إسناد شيء من الوظائف الإنسانية أو الإيمانية إلى الصدر يجد أن المفسرين يرجعونها إلى ما في القلب. ومن أمثلة ذلك: قول الله تعالى {ويشْفِ صدورَ قومٍ مؤْمنينَ} 3. قال ابن جرير - رحمه الله -: "يقول: ويبرئ داء صدور قوم مؤمنين بالله ورسوله، بقتل هؤلاء المشركين بأيديكم، وإذلالكم وقهركم إياهم، وذلك الداء هو ما كان في قلوبهم عليهم من الموجدة بما كانوا ينالونهم من الأذى والمكروه"4.

_ 1سورة ق آية (37) . 2المفردات في غريب القرآن، ص (276) . 3سورة التوبة آية (14) . 4جامع البيان، (6/332) .

وقول الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} 1. أي مجموع مثبت في قلوب أهل العلم، كما قال تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {إنَّ عَلينا جَمْعَه وقُرآنه} 2 حيث فسرها بعض أهل العلم بقولهم: "إن علينا أن نجمعه لك حتى نثبته في قلبك"3. وقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} 4 قال ابن جرير - رحمه الله -: " {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} يا محمد، للهدى والإيمان بالله ومعرفة الحق {صَدْرَكَ} فنلين لك قلبك، ونجعله وعاء للحكمة"5. وليس المقصود الاستقصاء، وإنما إيراد نماذج تبين أن المفسرين يرجعون معنى الصدر في كثير من الآيات إلى ما يقوم في القلب من الوظائف النفسية، والأعمال القلبية. وعلى هذا يكون تفسير المشكاة بالقلب أولى من تفسيرها بالصدر،

_ 1سورة العنكبوت آية (49) . 2سورة القيامة آية (17) . 3انظر: جامع البيان (12/340) ، الأثر رقم (35361) وما بعده. 4سورة الشرح آية (1) . 5جامع البيان، (12 /626) .

وهو شامل لما يراد بلفظ الصدر من الأعمال والوظائف. وخلاصة ما تقدم: إن الأولى مقابلة المشكاة في مثل النور بقلب المؤمن. ثانياً: الزُجاجة: قدمت الكلام على ما يقابل الزجاجة قبل الكلام على ما يقابل المصباح، لمناسبة ما ذكر في الكلام على المشكاة - من العلاقة بين القلب والصدر - لتحديد ما يقابل الزجاجة. وذلك أن من قابل المشكاة بالقلب، قابل الزجاجة بالصدر. قال أبو بكر بن العربي1 - رحمه الله -: "فضرب مثلاً للهدى النور، وللقلب المشكاة، وللإيمان المصباح، وللصدر الزجاجة"2.

_ 1الإمام القاضي، أبو بكر، محمد بن عبد الله بن العربي الأندلسي المالكي، ولد سنة 468 هـ، له تصانيف كثيرة منها: شرح الجامع الصحيح للترمذي، وأحكام القرآن، والعواصم من القواصم، وغيرها كثير، ولي قضاء أشبيلية وعزل وأقبل على نشر العلم وتدوينه، أخذ عليه اعتناقه لبدعة الأشاعرة، وعنايته بعلم الكلام. توفي سنة 543 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، (20/197) ، ومعجم المؤلفين، لعمر كحالة، (10/242) . 2قانون التأويل ص (479) .

وقد تقدم - عند الكلام على ما يقابل المشكاة تقرير أمرين: الأول: أن الصدر خارج القلب غير معتبر في المثل، لأنه لا يقوم به وظائف نفسية أو إيمانية. الثاني: أنه يطلق لفظ الصدر في النصوص الشرعية وكلام أهل العلم ويراد به ما يقوم في القلب من أعماله ووظائفه. وتقدم ما نقله الراغب - رحمه الله - عن بعض الحكماء في هذا المعنى. وبناء على ما تقدم يكون ما يقابل الزجاجة هو صدر المؤمن، وصدر المؤمن يراد به ما يقوم في القلب من الوظائف والأعمال، كالمعتقدات، والنيات، والعواطف، والانفعالات ... ونحوها. ولا يراد بالصدر ما كان خارج القلب من التجويف المحيط به. وقد ورد عن ابن جرير - رحمه الله - ترجيح مقابلة الزجاجة بالصدر، مع تفسير الصدر بالأعمال الإيمانية التي تقوم بالقلب. فمن ذلك قوله: "ثم مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله، والشك فيه، وإستنارته بنور القرآن واستضاءته بآيات ربه المبينات، ومواعظه فيها بالكوكب الدري، فقال: {الزُّجَاجَةُ} - وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه - {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} "1.

_ 1 جامع البيان، (9 /325) .

وقوله: "فتأويل الكلام: {الزُّجَاجَةُ} وهي صدر المؤمن، {كَأَنَّهَا} يعنى كأن الزجاجة ... {كَوْكَبٌ} يقول: في صفائها وضيائها وحسنها. وإنما يصف صدره بالنقاء من كل ريب وشك، في أسباب الإيمان بالله، وبعده من دنس المعاصي، كالكوكب"1. ولا شك أن الخلوص والنقاء من الشك والريب والكفر، والاستنارة بنور القرآن، والانتفاع بالعلم والمواعظ، إنما هي من أعمال القلوب. وخلاصة القول في المراد بالزجاجة: أن الزجاجة تقابل أعمال القلب ووظائفه: كالمعتقدات، والإرادات، والعواطف والانفعالات، وأن النور سطع وتلألأ عليها كما تتلألأ الأنوار على الكوكب الدري، والزجاجة الصافية. فاكتسب القلب لذلك البصيرة في تعقله وأعماله. وظهرت آثار ذلك النور على سمع المؤمن وبصره ولسانه، واستنارت أعماله الظاهرة وأقواله وسائر أحواله. ثالثاً: المصباح ووقوده: المصباح - كما تقدم في بيان الممثّل به - يتكون من: 1- فتيلة قابلة لسريان الزيت واشتعاله عليها.

_ 1 جامع البيان، (9/326) .

- الزيت الذي يوقد منه. 3- شعلة متقدة مضيئة. فهذه ثلاثة أجزاء في المصباح يقابلها ثلاثة أمور في القلب. وقد تقدم في المطلب السابق أن: 1- الزيت الذي هو وقود المصباح يقابله العلم بما نزل من الوحي. وكلاهما نور يَكَاد يضيء قبل أن يُضاء. 2- شعلة المصباح تقابل نور الإيمان الذي يجعله الله في قلب عبده، وكلاهما نور مضيء مزهر. وبقي أن نعرف ما يقابل الجزء الثالث وهو الفتيلة. لم أقف على من نص على تحديد ما يقابل الفتيلة في الممثّل له، إلا أن الأقرب - والله أعلم - أنها تقابل الفطرة. وذلك للاعتبارات الآتية: 1- ورد عن بعض العلماء ما يفيد أن الفطرة معتبرة في المثل، من ذلك قول ابن كثير - رحمه الله -: "فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه"1. ومن ذلك قول ابن القيم - رحمه الله -: "والنور على النور، نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح، ونور

_ 1تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/290) .

2 الوحي والكتاب1، فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نوراً على نور"2. 2- التشابه بين دور الفطرة في القلب، ودور الفتيلة في المصباح. وذلك أن الفتيلة يُراعى فيها عند صنع المصباح أن تكون ملائمة من حيث قابليتها لسريان الزيت فيها، واشتعالها به، ولكونها من جهة قد يطرأ عليها ما يفسدها أو يمنع من اتقادها، وهي بذلك تشبه الفطرة، حيث إن الفطرة في عمومها3 هي: أن القلب بأصل خلقه قابل مهيأ لمعرفة الحق وقبوله وإرادة الخير، وقد يطرأ عليها ما يفسدها ويمنع من قبولها للحق. قال ابن القيم- رحمه الله- مبيناً ذلك: "أنه إذا ثبت أن في الفطرة قوة تقتضي طلب معرفة الحق وإيثاره على ما سواه ... فلقد ركز في فطرته الإقرار بالخالق، وهو التوحيد، ومحبة القصاص وهو العدل، وإذا ثبت ذلك ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته سبحانه ومحبته وإجلاله وتعظيمه والخضوع له من غير تعليم ولا دعاء إلى ذلك، وإن لم تكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج كثير

_ 1تقدم الكلام على المراد بالنورين، ص (302) . 2اجتماع الجيوش الإسلامية ص (8) . 3سيأتي مزيد إيضاح لحقيقة الفطرة عند الكلام على فوائد المثل.

منهم إلى سبب معين للفطرة مقوٍّ لها، وقد بينا أنّ هذا السبب لا يحدث في الفطرة ما لم يكن فيها، بل يعينها ويذكرها ويقويها، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين يدعون العباد إلى موجب هذه الفطرة، فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة عن مقتضاها استجابت لدعوة الرسل ولابد بما فيها من المقتضي لذلك، كمن دعا جائعاً أو ظمآناً إلى شراب أو طعام لذيذ نافع لا تبعة فيه عليه ولا يكلفه ثمنه، فإنه ما لم يحصل هناك مانع فإنه يجيبه ولا بدّ...." إلى أن قال: "ومن المعلوم إن كل نفس قابلة لمعرفة الحق وإرادة الخير، ومجرد التعليم لا يوجب تلك القابلية، فلولا أن في النفس قوة تقبل ذلك لم يحصل لها القبول، فإن لحصوله في المحل شروطاً مقبولة، وذلك القبول هو كونه مستعداً مهيئا له مستعدا لحصوله فيه"1. فالفطرة إذاً هي الاستعداد والقابلية لمعرفة الحق والركون إليه، ومؤهلة - إذا عرض عليها الحق وقبلته - لهداية الله وتوفيقه للإيمان. والفتيلة في المصباح مهيأة صالحة لامتصاص الزيت، وهذا يقابل استعداد الفطرة وقبولها للعلم والهدى الذي جاء به الرسل.

_ 1مختصر شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، للإمام ابن قيم الجوزية، اختصار خالد عبد الرحمن العك، ص (112، 113) دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1416 هـ.

والفتيلة صالحة قابلة للاشتعال، متفاعلة مع الشعلة التي توقدها، وهذا يقابل النور الذي يقذفه الله في قلب عبده الذي شرح صدره للإسلام. العلاقة بين الفطرة على الحق ووظيفة التعقل: إن من الفطرة ما أودعه الله في قلوب الناس من القدرة على التعقل والتفكر التي هي آلة القلب ووظيفته. ومن الفطرة أيضا ما أودع الله في القلوب من القوة على معرفة الحق، والتي عبر عنها ابن القيم بقوله المتقدم: "إن الفطرة قوة تقتضي معرفة الحق وإيثاره على ما سواه". وبين هذين الأمرين وجوه اتفاق ووجوه اختلاف، أما وجوه الاتفاق فهي: 1- أن كلا منهما مُودَع في القلب خلقةً. 2- أن دور كل منهما هو: التعرف على ما يؤديه البصر والسمع والفكر. والفارق بينهما: 1- أن المعارف المودعة في الفطرة أُوجدت فيها بأصل الخلقة، وأما المعارف المستفادة بوظيفة التعقل فهي مكتسبة. 2- أن ما أُودع في الفطرة من المعرفة لا يكون إلا حقاً، وقد تصرف عنه. أما ما يكتسب بالتعقل فقد يكون حقاً أو خلافه حسب نور

القلب وبصيرته. فالقدر المشترك بين ما فطر عليه القلب من معرفة الحق، وبين وظيفة التعقل هو: أن كلا منهما قوة للمعرفة. قال الراغب الأصفهاني: "وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان"1. وتقدم كلام ابن القيم في أن الفطرة: "قوة تقتضي معرفة الحق ... ". وهذا يؤكد وجود علاقة بينهما، هذه العلاقة هي: إن ما ركز في قلوب العباد من القوة على معرفة الحق، هو الأصل لوظيفة التعقل في قلوب المؤمنين المنورة المبصرة. أما قلوب الكفار فهي مظلمة، قد حُرفت فطرهم وبُدلت، وانصرفوا عن إفادتها للحق. وفسد تعقلهم. ومما يؤيد هذه العلاقة بين ما فطر الناس عليه من القوة على معرفة الحق، وبين وظيفة التعقل، التشابه بين دوريهما في القلب، وذلك أن القدر المشترك بين دوريهما هو: أن كلاً منهما واسطة لإدراك الدلائل الخارجية الواصلة من السمع والبصر إلى القلب. وهو دور يشبه دور الفتيلة التي توصل بين الزيت وشعلة المصباح.

_ 1المفردات في غريب القرآن ص (382) .

وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن الفطرة أصل للتعقل والنظر، حيث قال: "البرهان الذي يُنال بالنظر فيه العلمُ، لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية ... "1. وبناء على هذا فإن الأقرب - والله أعلم - مقابلة فتيلة المصباح بتعقل المؤمن القائم على الفطرة السليمة. فوظيفة التعقل عند المؤمن، تتشرب العلم الذي يصل إليها من السمع والبصر اللذين يتلقيان نصوص الوحي المبارك، كما أن الفتيلة تتشرب الزيت الذي يؤخذ من الشجرة المباركة. فباستنارة القلب يستنير تعقله وتلك بصيرته، ويستنير تبعاً لذلك سمعه وبصره وفكره، حيث ينتفع بها، ويصح إدراكه وتعقله لما تؤديانه إليه من المعلومات. وخلاصة القول فيما يقابل أجزاء المصباح: إن الفتيلة في المصباح يقابلها في الممثّل له - قلب المؤمن - تعقل المؤمن القائم على الفطرة السليمة. ويقابل الزيت - الوقود - العلم الواصل إلى القلب المستمد من القرآن والسنة، ويقابل شعلة المصباح: هداية الله لعبده وشرح صدره بنور

_ 1درء تعارض العقل والنقل، (3/309) .

الإيمان الذي يقذف فيه. وخلاصة القول فيما يقابل أجزاء الممثّل به: إن النور المركب المنبعث من المصباح - الحاصل من نور الزيت المشرق الصافي، ونور شعلة المصباح، المتلألئ على الزجاجة، الذي أنار الكوة - يقابل النور المركب من نور العلم والإيمان الذي يجعله الله في قلب المؤمن يهديه به. فالمشكاة وهي الكوة تقابل قلب المؤمن. والفتيلة التي في المصباح تقابل ما فطر عليه من الإدراك والتعقل السليم. والزيت الذي يمدها، يقابل العلم المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإيقاد الفتيلة التي سرى فيها الزيت يقابل هداية الله العبد للإيمان بعد أن استجاب لداعي الفطرة وقبل العلم. والزجاجة التي يزهر عليها النور، وينفذ من خلالها إلى خارج المصباح: تقابل أعمال القلب، ووظائفه التي سطع عليها النور وأكسبها البصيرة، فأثرت على أعمال المؤمن الظاهرة، وأقواله وسائر أحواله.

المبحث الثالث: الغرض من ضرب المثل، وأهميته.

المبحث الثالث: الغرض من ضرب المثل، وأهميته. مما تقدم من دراسة المثل الذي ضربه الله لنوره في قوله عز وجل: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ..} 1 الآية. يتبين أن المثل ضرب لبيان حقيقتين هامتين بهما تحصل هداية العباد وتمام تلك الهداية واستمرارها، وهما: الحقيقة الأولى: إن الهداية والتوفيق للإيمان يكون بفعل الله حيث يشرح صدر عبده الذي اقتضت حكمته أن يهدى فيقذف سبحانه النور في قلبه، وهو نور حقيقي يجعله الله في قلبه هو نور الإيمان. وهو - المشبه في المثل بنور المصباح - وهو النور الأول من النورين اللذين اجتمعا في قلب المؤمن والمشار إليهما بقوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} 2. وهذا النور هو أساس الهداية وبدايتها، ولا سبيل إليه إلا بخلق الله وإيجاده كما قال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3. الحقيقة الثانية: إن سبب الهداية يكون من العبد عندما ينيب لما نزل من الوحي، ويستفيد مما أعطاه الله من الفطرة على الحق، ويستجيب لما

_ 1 سورة النور آية (35) . 2 سورة النور آية (35) . 3 سورة النور آية (40) .

تستدعيه من العلم الموافق لها. فتعلم العلم وقبول القلب له نور، وهو النور الثاني من النورين المشار إليهما بقوله: {نُوُرٌ عَلَى نُور} . ويستخلص من ذلك حقيقة ثالثة هي: أن تعلم العلم الشرعي لازم لتمام الهداية، واستكمالها، وذلك أنه كلما تعلم العلم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأذعن له تصديقاً وعملاً زاد إيمانه ونوره. وخلاصة القول في الغرض من ضرب المثل: أن المثل بين بصورة محسوسة أموراً هامة، هي: 1- بيان أن الهداية من الله، وأنه - سبحانه - يهب للمؤمن نورا حقيقيا، يحيا به قلبه، ويستنير. 2- أن سبب الهداية يكون من العبد إذا تعلم العلم واستجاب لما دل عليه من الحق. 3- أن الله أنزل القرآن وما أوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هداية للناس، فمن اهتدى به هداه، ومن أعرض عنه أضله وأخزاه. 4- أن استمرار الهداية وزيادتها تكون بالاعتصام بالكتاب والسنة وزيادة التعلم منهما والاهتداء بهما. 5- بيان أثر النور المعطى للمؤمنين، القائم على العلم بالوحي المبين في صلاح قلوبهم وأعمالهم وأقوالهم وسائر أحوالهم.

والمثل مع دلالته بصورته الشاخصة على هذه الأمور، فإنه يدل على أضدادها من حال الكافرين المعرضين عما نزل من الوحي بمفهومه. وهذه الأمور التي تستفاد من مفهوم المثل جاء مثلان بعد مثل النور، يوضحانها، ويصورانها بصورة محسوسة. أهمية المثل: إن أهمية المثل تكمن في الأغراض الهامة التي يحققها، حيث يبين المثل العديد من المطالب التي توضح مصدر الهداية، وطريقها، وأسباب زيادتها، وأثرها على من هداهم الله، واصطفاهم لنوره، وهذه مطالب جد هامة. قال أبو بكر بن العربي - رحمه الله -، في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ ... } الآية: "وهذه آية من التوحيد كريمة، وعلى مرتبة في العلم عظيمة، ضربها الله مثلا للعلم والإيمان ... "1. والمثل بصورته المحسوسة يتفق في الدلالة على تلك المطالب الهامة مع كثير من الآيات، فهو من تصريف القول الذي تختلف فيه الأساليب، وتتفق المعاني. وإن المرء ليعجب عندما يرى الآيات الكثيرة، والأمثال المضروبة، المتظافرة على بيان تلك المطالب، ثم يرى - ممن ينتسب إلى الإسلام - من

_ 1 قانون التأويل، لأبي بكر بن العربي، ت: محمد السليماني، ص (475) دار القبلة للثقافة، جدة، الطبعة الأولى /1406 هـ.

يحيد عن مدلولها، ويتطلب الهدى في غير ما أنزل الله، ولا يجد ما يعبر به عن ذلك أصدق من قول الله تعالى: {انظرْ كَيْف نُصَرّف الآياتِ ثُمّ هُم يَصْدِفُون} 1. أهمية دراسة مثل النور: إن الأغراض المباركة التي يحققها مثل النور، والتي أكسبته تلك الأهمية العظيمة، توجب على علماء السنة العناية الفائقة به: بشرحه، وتبسيطه، ونشره بين الناس، وإبراز أقوال علماء السلف، والمفسرين المهتدين بأقوالهم، وشواهده من الكتاب والسنة، لتعم بركاته، ويتحقق نفعه في تشويق القلوب للعلم والإيمان والنور، وإيقافها على الطريق الموصل لذلك من دلالة المثل. ولم أقف على من أفرد هذا المثل بدراسة متكاملة، تعتني بإبراز المعاني الإيمانية، وإيضاح الفوائد العلمية التي ينطوي عليها. وإن كان مجموع كلام المفسرين والعلماء الذين تناولوا المثل على فهم السلف الصالح، فيه خير كثير.2

_ 1 سورة الأنعام آية (46) . 2 من أولئك الإمام ابن القيم- رحمه الله - حيث ذكر فوائد هامة حول المثل في بعض كتبه مثل: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ص (7-12) ، وكتاب الأمثال - المنتزع من كتاب إعلام الموقعين - ت: سعيد محمد نمر الخطيب ص (197-200) . وقد نقلت كلام بعض العلماء والمفسرين في معرض دراسة هذا المثل، وبينت في الهامش مراجعها مما يغني عن إعادة ذكرها هنا.

إلا أن تلك الجهود السُنِّية قوبلت بجهود كبيرة من العلماء والمفسرين الزائغين عن المنهج الحق في دراسة المثل والميل بمدلولاته عن الحق، وأخطر تلك الجهود التي استهدفت الميل بدلالة المثل عن الحق، ذلك الكتاب المنسوب إلى أبي حامد الغزالي1، بعنوان [مشكاة الأنوار] والذي عمد فيه مؤلفه إلى تفسير المثل تفسيراً باطنيا، جعله بذلك أساسا للضلال

_ 1 أبو حامد محمد بن محمد الطوسي الغزالي، ولد سنة 450هـ، كان متذبذب الديانة، بدأ بعلم الكلام، ثم خاض غمار الفلسفة بمختلف فروعها، ثم استقر أمره على الفلسفة الغنوصية الصوفية الاستشراقية، وألف آخر كتبه وأشهرها عليها مثل: إحياء علوم الدين، وميزان العمل، والمنقذ من الضلال، ومشكاة الأنوار، وغيرها ... وقد أنكر عليه جملة من العلماء جسارته على القول على الله بلا علم، واعتماده الأحاديث المكذوبة الواهية، وغير ذلك من المخالفات منهم: ابن الجوزي، وابن الصلاح، وابن شكر، وابن العربي المالكي، وابن تيمية وغيرهم كثير. توفي سنة 505 هـ. انظر: شذرات الذهب، (4/10) والبداية والنهاية، (12/173) ، وكتاب مشكاة الأنوار، تصدير المحقق: د. أبو العلاء عفيفي، وكتاب أبو حامد الغزالي والتصوف، لعبد الرحمن دمشقية، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط: الأولى 1406 هـ.

البعيد، ومستنداً للقائلين بوحدة الوجود. قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن هذا الكتاب: "وهذا الكتاب كالعنصر لمذهب الاتحادية القائلين بوحدة الوجود...."1. وقال محقق كتاب2 [مشكاة الأنوار] : "وهكذا وصل الغزالي في نهاية تفكيره إلى نظرية أشبه ما تكون بنظرية وحدة الوجود، ومن العسير صرفها عن هذا المعنى إلا إذا اعتبرت أقواله من قبيل الشطح الصوفي3، ولم يؤثر عن الغزالي أنه كان من

_ 1 بغية المرتاد، في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد، من القائلين بالحلول والاتحاد، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق /د. موسى بن سليمان الدويش، مكتبة العلوم والحكم، بالمدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1408 هـ. 2 د. أبو العلاء عفيفي. 3 الشطح: من مصطلحات الصوفية، وهو عندهم: "قول كلام أجوف بلا التفات ومبالاة، مثل الكلام الّذي يقوله الصوفية عند غلبة الحال والسكر. فلا قبول لهذا الكلام ولا ردّ، ولا يُؤخذ به، ولا يُؤاخذ صاحبه". [كشاف اصطلاحات الفنون، لمحمد التهانوي 4/94] . وزعمهم أنه لا يُردّ ولا يُؤاخذ صاحبه، باطل. بل كل ما خالف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مردود باطل، ويُؤاخذ صاحبه بما يستحقه من الحدّ أو التعزير، إلا إذا كان مرفوعاً عنه القلم، وليست الحالة التي ذكروها من الحالات التي يُرفع فيها القلم عن المكلف.

أصحاب الشطحات، فهو يقرب قربا عجيبا من أصحاب وحدة الوجود حينما يقول: "إن العالم بأسره مشحون بالأنوار ... ثم ترقى جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول، وأن ذلك هو الله تعالى وحده لا شريك له، وأن سائر الأنوار مستعارة، وإنما الحقيقي نوره فقط، وأن الكل نوره، بل هو الكل، بل لا هوية لغيره إلا بالمجاز ... بل كما أنه لا إله إلا هو، فلا هو إلا هو. لأن "هو " عبارة عما إليه إشارة كيفما كان ولا إشارة إلا إليه1".2 وقال المحقق أيضا: "أما لماذا قصر الغزالي التشبيه الوارد في الآية على النور الإلهي الظاهر في الإنسان دون سائر المخلوقات، مع أنها تنص على أن الله نور السماوات والأرض، أي نور كل ما في الوجود من أعلاه إلى أسفله، فذلك لأن الإنسان في نظره هو الموجود الوحيد الذي يتجلى فيه النور الإلهي في جميع مراتبه، في حين أنه لا يتجلى في غير الإنسان إلا في بعض المراتب ...

_ 1 مشكاة الأنوار، لأبي حامد الغزالي، ص (60) ، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1383. طبعت لحساب: وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر. 2 مشكاة الأنوار، تصدير المحقق، ص (14) .

وهكذا يكشف الغزالي عن الجانب الإلهي في الإنسان، ويصله بصلة مباشرة بالعالم العلوي. ويضع نظرية جديدة في طبيعة النبوة والولاية تستغني في تفسير وصول الوحي إلى الإنسان عن وساطة الوحي، أو أي مدد خارجي آخر خارج عن النفس الإنسانية ذاتها. ولماذا يحتاج النبي أو الولي إلى ملك الوحي وهو يحمل مصباح النور الإلهي في قلبه؟ "1. ولا يسعنا إزاء هذه الضلالات المتلاطمة إلا أن نقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . وضلال هذا القول أظهر عند أهل الإسلام - العارفين بمقاصد الدين، وما دل عليه كتاب الله تعالى، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم - من الشمس في رائعة النهار -. ويكفي أن يعلم أن هذا القول أشد كفراً، وأخبث معتقداً من قول النصارى الذين زعموا أن عيسى - عليه السلام - له طبيعة إلهية، وأخرى بشرية، وذلك أن النصارى خصوا بهذا الزعم عيسى - عليه السلام - وهذا الدجال ومن حذا حذوه عمموه في سائر البشر، بل في سائر المخلوقات. وقد يسر الله لهذا الكتاب جنديا من المرابطين للدفاع عن الدين هو الإمام شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - رحمه الله - فألف

_ 1 مشكاة الأنوار، ص (21، 22) .

في نقض ما أسسه الغزالي فيه من الباطل وزخرف القول، كتابا هو: [بغية المرتاد] 1، بين فيه أصول الغزالي ومنابعه الفلسفية، التي استقى منها تلك الأفكار الضالة، ومنهجه الباطني، ومخالفته لمعالم دين الله وأصوله، وموافقته لأفكار الفلاسفة ونظرياتهم، وشيوخه في ذلك، وتلاميذه. وكر على الجميع كاشفاً عوارهم، ومبيناً شناعة أفكارهم. فتحمل عن الأمة فرض الكفاية، وأنكى في الملحدين أشد النكاية. قال محقق كتاب [بغية المرتاد] : "إن الخطورة الحقيقية والفعلية في هذا الكتاب تكمن في أخذ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وتفسيرها فلسفيا حسب مقصود الفلاسفة وهنا ينخدع القارئ فيظن أن القرآن دال على قول هؤلاء الفلاسفة ولا تعارض بينهما، وهذا أسلوب كل من حاول التوفيق بين الدين والفلسفة، وقد أبان الشيخ رحمه الله هذا الجانب بل هو المقصود من تأليفه لهذا الكتاب. لقد تتبع الشيخ - رحمه الله - جميع ما ورد في كتاب المشكاة فناقشه من جميع جوانبه، وأبطل كل ما اشتمل عليه من الأمور الفاسدة المنافية للشرع، وكشف القناع عن فلسفة الغزالي وصوفيته، وسلوكه

_ 1 بغية المرتاد، في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد، من القائلين بالحلول والاتحاد.

طريق الباطنية، وبعده عن المنهج الصحيح لأهل السنة، باعتناقه تلك الأفكار المنحرفة والتأثير السَّيّئ لها على من جاء بعده، وكشف أيضا عن ضعف الغزالي في علم الحديث، حيث لا يفرق بين الصحيح والضعيف".1 هذا وقد وجد كتاب [مشكاة الأنوار] عناية كبيرة، حيث يوجد له ما لا يقل عن ست وثلاين نسخة مخطوطة، وطبع عدة طبعات، وترجم إلى اللغة اللاتينية والإنجليزية، وكتبت عنه مقالات، وبحوث، وتقارير، نشرت في بعض الصحف العالمية.2 ونقل بعض المفسرين خلاصة كلامه الذي حرف فيه دلالة المثل.3 ويوجد في الأمة الإسلامية اليوم من ينادي إلى العناية بهذا الكتاب، وبتفسير المثل على المنهج الباطني الذي سار عليه مؤلفه ليوغلوا في تضليل الأمة، التي هي بأشد الحاجة إلى معرفة الدين الحق، والعودة إلى نبعه الصافي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وسار عليه السلف الكرام، وتفضل الله بحفظه في الطائفة المنصورة الناجية إلى أن يأتي أمر الله، والذي هو الطريق

_ 1 بغية المرتاد، مقدمة المحقق، ص (117) . 2 انظر: مشكاة الأنوار، تصدير المحقق، ص (4، 7، 8) . 3 انظر: التفسير الكبير، للرازي، (12 /233، 234) . وقد ترحم عليه في بداية النقل، ولم يعقب على كلامه بما يفيد الرد.

إلى ولاية الله، ورفع الذل والمهانة عن المسلمين. من أولئك محقق كتاب [مشكاة الأنوار] حيث قال: "لم تلق رسالة [مشكاة الأنوار] من عناية الباحثين ما لقيه بعض كتب الغزالي الأخرى على الرغم من أهميتها ومنزلتها العالية بين كتب المؤلف، التي كتبها في عصر نضجه، والرسالة جديرة بالدراسة والتحليل العميق لما تلقيه من ضوء على بعض المسائل التي عالجها الغزالي في كتب سابقة عليها، ولأنها تصور الموقف النهائي الذي وقفه من هذه المسائل، وقد جرؤ فيها على ما لم يجرؤ بالتصريح بمثله في أي موقف آخر، فقد أشرف فيها على القول بوحدة الوجود"1. وقد أشار محقق2 كتاب: [الأمثال في القرآن الكريم لابن القيم] إلى شرح الغزالي لمثل النور في كتابه [مشكاة الأنوار] مثنيا عليه، مدعيا أن المثل لازال بحاجة إلى تأمل ونظر باطني لمن كان له ذوق صوفي، وعلم بالأشعة والأنوار، ليدرك منه تصورا لوجود العالم وقيامه بوجود الواحد القهار! 3 فانظر كيف لم يقنع بتلك الضلالات التي حواها كتاب [مشكاة

_ 1 مشكاة الأنوار، تصدير المحقق، د. أبو العلا عفيفي، ص (7) . 2 سعيد محمد نمر الخطيب. 3 انظر: الأمثال في القرآن الكريم لابن قيم الجوزية، ت: سعيد محمد نمر، ص (197) الهامش.

الأنوار] حتى طالب بالمزيد! وأعجب كيف يحيل في هامش ذلك الكتاب المبارك لابن القيم، بفوائده النيرة المشرقة، وعلومه النافعة، إلى بحر الظلمات، ومجمع الجهالات، ليطفئ ما يعلق في ذهن القارئ من البصيرة والمعرفة بالحق، وما أقرب هذا المنهج من حال من قال الله فيهم: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} 1. ولعل فيما ذكر كفاية في بيان مقدار البلية بهذه الأفكار المنحرفة، والأباطيل المزخرفة، وما أحدثته من صرف الناس عن الاهتداء بالقرآن وأمثاله الحسان، وما تعرض له مثل النور من إلحاد وميل به عن المعاني السامية التي دل عليها، وبينها سلف الأمة وعلماء السنة. وإنما المقصود هو التنبيه إلى وجوب العناية بالمعنى الصحيح الشرعي السلفي لأمثال القرآن الكريم، ببيانها ونشرها، وخاصة ما امتدت إليه يد أهل الإجرام بالحرف والتشويه. ومثل النور من أهم تلك الأمثال التي تتأكد العناية بها، ودراستها دراسة مستندة في تفسيرها إلى دلائل القرآن والسنة، وأقوال السلف الصالح، وأهل العلم من المفسرين وغيرهم السائرين على نهجهم، ثم

_ 1 سورة الأعراف آية (202) .

التواصي والتعاون على نشر تلك الدراسات وإتاحتها لطلاب الحق. {ليهلكَ مَنْ هَلك عَن بَينَة وَيَحْيا مَن حَيَّ عَن بَينَةٍ} 1. وعسى أن تحقق هذه الدراسة - التي يسرها الله لهذا المثل - جانباً من هذا الهدف العظيم. والله المستعان.

_ 1 سورة الأنفال آية (42) .

المبحث الرابع: أهم فوائد مثل "النور"

المبحث الرابع: أهم فوائد مثل "النور". لقد تضمن مثل "النور" فوائد وموازين هامة تتعلق بأصل الهداية، وبدايتها، ومادة استمرارها ورسوخها. قال ابن القيم - رحمه الله -: "وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية، فيه من الأسرار والمعاني، وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره، ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم"1. وأهم الفوائد التي سيجري الكلام عليها هي: الفائدة الأولى: إثبات النور اسما من أسماء الله وصفة من صفاته. الفائدة الثانية: دلالة المثل على أن الهداية والإيمان والنور من الله تعالى وأن سببه من الإنسان. الفائدة الثالثة: دل المثل على أن الإيمان يزيد وينقص. الفائدة الرابعة: دل المثل على أن للإيمان والعلم نوراً حقيقيا في قلوب المؤمنين. الفائدة الخامسة: في مناسبة التعقيب على المثل بقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ

_ 1 اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، ص (8) .

َذِن اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ... } الآية. الفائدة السادسة: دلالة المثل على إعداد الله للإنسان بالفطرة السليمة، واستدعائها لنور الإيمان. الفائدة السابعة: أثر نور العلم والإيمان في سلامة القلب ووظائفه. الفائدة الثامنة: أن مثل النور ميزان توزن به المناهج الحادثة في تعيين طريق تحصيل العلوم في المطالب الدينية. وإلى بيان هذه الفوائد. والله المستعان.

الفائدة الأولى: ثبوت النور اسماً من أسماء الله، وصفة من صفاته. جرت عادة المفسرين والعلماء في بحث ثبوت اسم الله "النور" واتصافه به - سبحانه - عند كلامهم على تفسير قول الله عز وجل: {الله نُور السماوات وَالأرْضِ} والمراد بالإخبار عن الله عز وجل بأنه: نور السماوات والأرض. قال ابن القيم - رحمه الله -: "وقد فسر قوله تعالى: {الله نُور السماوات وَالأرْضِ} بكونه منوّر السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعله. وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به ومنه اشتق له اسم "النور" الذي هو أحد الأسماء الحسنى، والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله"1. وحاصل كلام ابن القيم - رحمه الله - أن قول الله عز وجل: {الله ُ نُورُ السماوات وَالأرْضِ} لا تدل قطعا على وصف الله بالنور القائم بذاته، وإنما هي محتملة، لذلك ورد عن السلف تفسيرها بكونه سبحانه منور

_ 1 اجتماع الجيوش الإسلامية، ص (6) .

السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض. أما النور الذي هو من أوصافه سبحانه ومنه اشتق له اسم "النور" فهو ثابت من نصوص أخرى سيأتي بيانها قريبا - إن شاء الله ... وقد رجح ابن جرير - رحمه الله - أن معنى قول الله تعالى: {الله نُور السماوات وَالأرْضِ} هو: "هادي من في السماوات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلال يعتصمون"1. وقد بين - رحمه الله - وجه ترجيح هذا المعنى بقوله: "وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك لأنه عقب قوله: {وَلَقد أَنْزَلْنَآ إليكُمْ آيَاتٍ مُبَيّنَاتٍ ومَثلاً مِن الَّذين خَلَوْا مِنْ قَبلكم ومَوْعِظَةً للمتَّقِين} فكان ذلك بأن يكون خبرا يقع تنزيله من خلقه، ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه، أولى وأشبه، ما لم يأت ما يدل على انقضاء الخبر عنه من غيره، فإذا كان كذلك، فتأويل الكلام: ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس آيات مبينات الحق من الباطل، {ومَثلاً مِن الَّذين خَلَوْا مِنْ قَبلكم ومَوْعِظَةً للمتَّقِين} فهديناكم بها، وبينا لكم معالم دينكم بها، لأني هادي أهل السماوات وأهل الأرض ... ثم ابتدأ في الخبر عن مثل هدايته خلقه بالآيات المبينات التي أنزلها إليهم،

_ 1 جامع البيان، (9/320) .

فقال: {مَثَلُ نُورهِ كَمشْكَاةٍ فِيها مِصْبَاح} يقول: مثل ما أنار من الحق بهذا التنزيل في بيانه: كمشكاة"1. النور المضاف إلى الله عز وجل: قال ابن القيم - رحمه الله -: "إن النص قد ورد بتسمية الرب نوراً، وبأن له نورا مضافا إليه، وبأنه نور السماوات والأرض، وبأن حجابه نور، فهذه أربعة أنواع"2. قوله: وبأن له نورا مضافا إليه: يقصد إضافة صفة إلى موصوفها، وأن النور وصفه القائم به كما تضاف إليه سائر صفاته القائمة به سبحانه. وقوله: وبأنه نور السماوات والأرض: يقصد إضافة مفعول إلى فاعله، فقد فسر بأنه منور السماوات والأرض وبأنه هادي أهل السماوات والأرض كما تقدم قريباً. وقد بين - رحمه الله - هذين النوعين من أنواع النور المضاف إلى

_ 1 جامع البيان، (9/321) . 2 مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم الجوزية، (2/194) اختصار: محمد بن الموصلي، المطبعة السلفية، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1349 هـ. وانظر: دقائق التفسير لابن تيمية (4/477) .

الله عز وجل في موضع آخر حيث قال: "إضافة النور إلى الله تعالى على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله"1. وسأبدأ بذكر أدلة هذين النوعين، ثم أتبع ذلك بذكر أدلة النوعين الآخرين: النوع الأول: أدلة ثبوت النور صفة ذات لله عز وجل. قال الله عز وجل: {وأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنورِ رَبِّها} 2. "فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء"3. قال ابن القيم - رحمه الله -: "فأخبر أن الأرض يوم القيامة تشرق بنوره الذي هو نوره ... "4. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه

_ 1 اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ص (6) . 2 سورة الزمر آية (69) . 3 اجتماع الجيوش الإسلامية، ص (6) ، وانظر: جامع البيان لابن جرير (11/30) . 4 مختصر الصواعق المرسلة، لابن القيم، (2/193) .

بصره من خلقه"1. وهذا الحديث دل على ثبوت نوعين من النور: الأول: نور الحجاب، وهو مستفاد من قوله: (حجابه النور) . والثاني: نور الذات، وهو وصف قائم به سبحانه ومستفاد من قوله: "لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه". والسبحات: جمع سبحة، وهي النور والجلال والبهاء. وقد نقل الإمام النووي اتفاق شراح الحديث من اللغويين والمحدثين على أن معنى "سبحات وجهه": نوره وجلاله وبهاؤه.2 ويؤكد أن المراد بالسبحات النور المضيء استخدام لفظ الإحراق في قوله: "لأحرقت". فيكون معنى الحديث: لو كشف سبحانه الحجاب وتجلى لمخلوقاته لأحرق نوره المتجلى من وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. ودلالة هذا الحديث قاطعة في ثبوت صفة النور لله عز وجل لمن تأمله وسلم من مرض التعطيل والتأويل. وهذه الصفة - صفة النور - كغيرها من الصفات، تثبت لله مع

_ 1 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام"....، (ح 179) ، (1/161) . 2 انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (3/14) .

التنزيه، على حد قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1. فليس النور الثابت له سبحانه كنور الشمس والقمر أو غيرها من الأنوار المخلوقة. بل هو نور يليق به سبحانه لا يماثل المخلوق، فلكل ذات ما يناسبها من الصفات ولله المثل الأعلى والوصف الأكمل الذي ليس كمثله شيء، فيثبت ما أثبت الله وأثبت رسوله صلى الله عليه وسلم من اتصاف الله بالنور، وينفي ما نفى الله من مماثلة المخلوق. النوع الثاني: النور المضاف إلى الله إضافة مفعول إلى فاعله: وذلك كما في قوله تعالى: {اللهُ نُورُ السماوات وَالأرْضِ} . وقد تقدم2 بيان ما ورد عن السلف من تفسيرها بأنه منور السماوات والأرض، أو هادي أهل السماوات والأرض بما يجعل لهم من النور، كما في نحو قوله سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو من الليل: "اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض، لك الحمد أنت قيّم السماوات والأرض ومن فيهن، لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، قولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك

_ 1 سورة الشورى آية (11) . 2 ص (345) وما بعدها.

أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وأسررت، وأعلنت، أنت إلهي لا إله لي غيرك"1. قوله: "لك الحمد أنت نور السماوات والأرض" هو الشاهد لهذا النوع من النور المضاف إلى الله. فالله نور السماوات والأرض: أي منورهما وبه يهتدي من فيهما.2 وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن تفسير النور المضاف إلى السماوات والأرض والمخبر به عن الله: بكونه منور السماوات والأرض أو هادي أهل السماوات والأرض، لا يمنع من إثبات ما ثبت في النصوص الأخرى من اتصافه بالنور وكونه اسما من أسمائه. قال - رحمه الله -: "ثم قول من قال من السلف "هادي أهل السماوات والأرض" لا يمنع أن يكون في نفسه نوراً، فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفَسَّر من الأسماء أو بعض أنواعه، ولا ينافي ذلك

_ 1 رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} الصحيح مع الفتح (13/371) . 2 انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري (3/4) .

ثبوت بقية صفات المسمى، بل قد يكونان متلازمين"1. ثم قال: "وكذلك من قال منور السماوات والأرض، لا ينافي أنه نور وكل منَوِّر نور، فهما متلازمان"2. وهذا الحديث - حديث دعاء النبي صلى الله عليه وسلم من الليل - دل على فائدة هامة في إثبات اسم النور لله عز وجل، وما يتضمنه من اتصافه بالنور. وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن ربه بثلاثة أخبار: بأنه: رب السماوات والأرض. وأنه: قيّم السماوات والأرض ومن فيهن. وأنه: نور السماوات والأرض. والقول في هذه الأوصاف الثلاثة - رب، وقيوم، ونور - من جنس واحد. وذلك أنه اشتق منها أسماء لله عز وجل، فهو سبحانه: الرب، والقيوم، والنور. وهو سبحانه متصف بما دلت عليه من المعاني، فمن أوصافه:

_ 1 دقائق التفسير (4/479) . 2 نفس المصدر ص (480) .

الربوبية، والقيومية، والنور. وهي من أسمائه الدالة على صفة فعلية، فهو الذي يرب خلقه ويصرف شؤونهم، وبه قامت السماوات والأرض ومن فيهن، وهو المنور لهما الهادي لأهلهما. قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "إن الحديث تضمن ثلاثة أمور شاملة عامة للسموات والأرض وهي: ربوبيتهما، وقيوميتهما، ونورهما. فكونه سبحانه رباً لهما، وقيوما لهما، ونورا لهما أوصاف له. فآثار ربوبيته، وقيوميته، ونوره، قائمة بهما. وصفة الربوبية مقتضاها هو المخلوق المنفصل. وهذا كما أن صفة الرحمة والقدرة والإرادة والرضى والغضب قائمة به سبحانه، والرحمة الموجودة في العالم، والإحسان والخير، والنعمة والعقوبة، آثار تلك الصفات، وهي منفصلة عنه. وهكذا علمه القائم به هو صفته. وأما علوم عباده فمن آثار علمه، وقدرتهم من آثار قدرته"1. وعلى هذا فالنور يضاف إلى الله على أنه منور لغيره، وإنارته لغيره فرع عن كونه نوراً في نفسه، وليس في الموجودات ما هو مُنوِّر لغيره وهو

_ 1 مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم (2/191) .

في نفسه ليس بنور.1 وعلى هذا فإضافة النور إلى الله في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} هو من هذا النوع، أي مثل نوره الذي يجعله في قلب المؤمن، ينوره به. النوع الثالث: ثبوت اسم النور لله تعالى. قال ابن القيم - رحمه الله -: "إن النور جاء في أسمائه تعالى، وهذا الاسم مما تلقته الأمة بالقبول وأثبتوه في أسمائه الحسنى.... ولم ينكره أحد من السلف ولا أحد من أئمة أهل السنة، ومحال أن يسمي نفسه نوراً وليس له نور، ولا صفة النور ثابتة له، كما أن من المستحيل أن يكون عليما قديرا سميعا بصيراً، ولا علم له ولا قدرة، بل صحة هذه الأسماء عليه مستلزمة لثبوت معانيها له، وانتفاء حقائقها عنه مستلزمة لنفيها عنه، والثاني باطل قطعاً فتعين الأول"2. ففي هذا الكلام من ابن القيم - رحمه الله - بيان لنوعين من الأدلة على ثبوت اسم النور له - سبحانه - هما: الأول: إن النور جاء في أسماء الله تعالى أي أن الله سمى نفسه نوراً

_ 1 انظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم (2/200) . 2 المصدر السابق، (2/189) .

سبحانه كما في قوله: {الله نُور السماوات وَالأرْضِ} 1. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "أنت نور السماوات والأرض"2. قال ابن تيمية - رحمه الله -: "النص في كتاب الله وسنة رسوله قد سمى الله نور السماوات والأرض، وقد أخبر النص أن الله نور، وأخبر أيضا أنه يحتجب بالنور، فهذه ثلاثة أنوار في النص"3. الثاني: إن الأمة تلقته بالقبول وأثبتوه في أسماء الله الحسنى ولم ينكره أحد من السلف ولا أحد من أئمة أهل السنة. ومراد ابن القيم - رحمه الله - بقوله: "وأثبتوه في أسمائه الحسنى" يقصد بذلك من عني من السلف بتتبع الأسماء الحسنى وحصرها، سواء فيما أدرج في حديث أبي هريرة4 رضي الله عنه: "إن لله تسعة وتسعين اسماً"5

_ 1 سورة النور آية (35) . 2 تقدم تخريج الحديث ص (351) . 3 دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، (4/477) . 4 أبو هريرة الدوسي اليماني، اختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال، أرجحها عبد الرحمن بن صخر، أسلم أبو هريرة عام خيبر في السنة السابعة، وشهد خيبراً، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم حتى وفاته، وكان أحفظ الصحابة للحديث، توفي سنة 59 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 2/578، والبداية والنهاية (8/111) . 5 رواه الترمذي، كتاب الدعوات، (ح 3574) ، سنن الترمذي (5/192) وقال: "هذا حديث غريب ... وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا من هذا الحديث". وقال ابن كثير - رحمه الله -: "والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه". تفسير القرآن العظيم، (2/269) .

أو في اجتهاداتهم لحصرها لعدم ثبوت التعيين من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد عنى ابن حجر العسقلاني1 - رحمه الله - بتتبع الأسماء الواردة في روايات حديث أبي هريرة، وما أضافه العلماء على ذلك أو توقفوا فيه، ثم ختم البحث باجتهاده هو في تعيين أسماء الله التسعة والتسعين المشار إليها في الحديث وذكر من جملتها اسم الله النور، وذكر أنه من الأسماء المضافة حيث قال بعد أن ذكر بعض الأسماء الذي تتبع ورودها في القرآن: "فهذه سبعة وعشرون اسما إذا انضمت إلى الأسماء التي وقعت في رواية الترمذي مما وقعت في القرآن بصيغة الاسم تكمل بها التسعة والتسعون وكلها في القرآن لكن بعضها بإضافة كالشديد من {شَدِيد العِقَابِ} 2 ...

_ 1 الحافظ العلامة أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المصري الشافعي، ولد سنة 773 هـ. له مؤلفات كثيرة من أهمها: فتح الباري شرح صحيح البخاري، والإصابة في معرفة الصحابة، ولسان الميزان، توفي سنة 852 هـ. انظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، للسخاوي (2/36) ، وشذرات الذهب لابن العماد، (7/280) . 2 سورة غافر آية (3) .

والنور من قوله {نُور السماوات وَالأرْضِ} ...."1. كما يفهم من استعراضه لجهود علماء السلف في تعيينها اتفاقهم على عد النور من أسمائه سبحانه. وهذا الذي عليه مدار الاحتجاج بورود اسم النور لله عز وجل وهو الذي عبر عنه ابن القيم - رحمه الله - بكلامه المتقدم بقوله: "إن الأمة تلقته بالقبول وأثبتوه في أسماء الله الحسنى ولم ينكر أحد من السلف ولا أحد من أئمة أهل السنة". وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن جماهير علماء المسلمين يثبتون لله اسم النور ولا يتأولونه2. وبهذا يتبين أن النور من أسماء الله الحسنى، دل على ذلك الكتاب واتفاق علماء السلف. وأنه مشتق3 من وصف النور القائم به سبحانه وتعالى4.

_ 1 فتح الباري شرح صحيح الإمام البخاري (11/218) ، وانظر: البحث كاملاً من ص (214-219) . 2 انظر: دقائق التفسير، (4/472) . 3 تقدم بيان المراد باشتقاق أسماء الله تعالى، ص (218) . 4 اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ص (6) .

النوع الرابع: إثبات أن النور حجابه سبحانه وتعالى. ورد التصريح بذلك في الحديث المتقدم الذي رواه الإمام مسلم: "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"1. وفي رواية: "حجابه النار". قال ابن تيمية - رحمه الله -: "فهذا الحديث فيه ذكر حجابه، فإن تردد الراوي في لفظ النار والنور لا يمنع ذلك، فإن مثل هذه النار الصافية التي كلم بها موسى يقال لها نار ونور كما سمى الله نار المصباح نوراً بخلاف النار المظلمة كنار جهنم، فتلك لا تسمى نورا"2. ومن أدلة الحجاب ما رواه مسلم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنَّى أراه"3. وفي رواية: "رأيت نوراً"4. والمراد بقوله: "نور أنَّى أراه" أن النور الذي هو الحجاب يمنع من

_ 1 تقدم ص (349) . 2 دقائق التفسير (4/478) . 3 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: نور ... (ح178) ، (1/161) . 4 نفس المرجع.

رؤيته، فكيف أراه والنور حجاب بيني وبينه يمنعني من رؤيته. وقوله: "رأيت نوراً" أي أنه رأى الحجاب1. وخلاصة الفائدة الأولى من فوائد هذا المثل: أن الأدلة من الكتاب والسنة دالة على أن النور صفة لله عز وجل صفة ذات وصفة فعل، وأن النور من أسماء الله الحسنى وأن حجابه النور، وأقوال السلف الصالح متظافرة على إثبات ذلك.

_ 1 شرح العقيدة الطحاوية ص (214) ، المكتب الإسلامي، ط /4، 1392 م.

الفائدة الثانية: دلالة المثل على أن النور والهداية للإيمان من الله تعالى، وأن سببها من الإنسان. لقد تقرر عند دراسة المثل أن الغرض من ضربه إنما هو لبيان حقيقتين هامتين. الحقيقة الأولى: مستفادة من قوله: {مثلُ نُورِه} : وهي أن أصل الإيمان يكون من الله عندما يشرح صدر عبده المؤمن للإسلام ويجعل له نوراً فيبدأ به النور والحياة. وهذا هو فعل الله، وخلقه للهداية في قلوب العباد إذا استحقوا ذلك واقتضت الحكمة أن يُهدوا. وسوف يأتي بيان أن الهداية والإضلال من فعل الله تعالى، عند دراسة مثل الظلمات ضمن فوائده. الحقيقة الثانية: مستفادة من تشبيه العلم المستفاد من الوحي الواصل للقلب بالزيت الجيد. والذي يدل على أن قبول العبد وإنابته لما نزل من الحق وتشربه له هو السبب في هداية الله له، وإيقاد النور في قلبه. والسبب الذي جعله الله لابتداء النور والإيمان والهداية، هو نفسه السبب في استمرارها وزيادتها، فاستدامة النور وقوته وسلامته، وتنامي حياة القلب إنما تكون بالعلم بالكتاب والسنة، والعمل به، فهي غذاؤه،

ومادة حياته. قال ابن القيم - رحمه الله -: "إن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة تحمله، وتلك المادة للضياء بمنزلة غذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح يقوم بها ويدوم بدوامها، فإذا ذهبت مادة الإيمان طفئ كما تطفأ النار بفراغ مادتها"1. والاعتبار الصحيح لهذا المثل وما تقدمه من قول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} 2 أن يعلم أن العلم المأخوذ من الوحي النازل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الطريق الوحيد لتزكية القلوب، ومعرفة الحقائق الدينية، وإمداد مصباح الإيمان بمادة نوره، وكلما زاد العلم المستقى من الوحي الواصل للقلب زاد نوره وحياته وصلاحه. ومعرفة الإنسان لهذه الحقيقة التي دل عليها المثل من أسباب سعادته في الدارين. فإذا عرف أن هدايته تكون بالعلم بالكتاب والسنة والعمل بهما،

_ 1 اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ص (20) . 2 سورة النور آية (34) .

وأن ذلك هو الطريق الأوحد لمعرفة العلوم والحقائق في المطالب الإلهية والغيبية، والمطالب الشرعية، فقد وضع قدميه على الطريق المستقيم، وكلما سار فيه ازداد بصيرة وعلما بسبل السلام، واستبانت له الظلمات ومواطن الهلكات، واستقر قدمه على الهدى، وقوي استمساكه بالعروة الوثقى، مما يزيد حظه من ولاية الله، ويمكنه في أسباب السعادة. قال سبحانه مبينا أن الهداية والسلامة إنما تكون بنور العلم المستقى من الكتاب والسنة: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 1. وقال أيضاً: {هُو الَّذي بَعَثَ فِي الأُميينَ رَسُولاً مِنهم يَتْلُو عَليهِم ءاياتِه وَيُزكِيهم ويعلِّمهُم الكِتَابَ وَالحكمةَ وإنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبين} 2. فالخروج من الضلال المبين إلى الهدى المبين إنما يكون بالعلم بالكتاب والحكمة لا بغيره. والناس بأشد الحاجة إلى من يدلهم إلى المصدر الموثوق لتحصيل

_ 1 سورة المائدة الآيتان (15، 16) . 2 سورة الجمعة آية (2) .

العلوم الصحيحة والحقائق في المطالب الإلهية والشرعية. وهذا المثل بما ينطوي عليه من تشبيه بليغ ودلالة قاطعة يؤدي هذا الغرض ويوجب لمن تأمله اليقين بأن لا طريق إلى المعرفة الصحيحة إلا بتعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. لذلك قال سبحانه في ختام المثل: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . فالناس عامة، وأهل الإيمان خاصة، بحاجة إلى تدبر هذا المثل وفقهه ليتبين لهم الطريق الحق الأوحد لمعرفة الحقائق الإيمانية. والله سبحانه بين الطريق للمعرفة في هذا المثل وغيره من الآيات إقامة للحجة على من طلب المعرفة في غير الكتاب والسنة. فضرب - سبحانه - هذا المثل للناس، لشدة حاجتهم إليه، وعظيم نفعه لهم، وإتماماً للحجة على عباده. {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} 1. وقد بين ابن القيم - رحمه الله - أن العلم الذي أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم هو الطريق إلى حياة القلوب واستنارتها، وأن العبرة بصحة العلوم، واستمدادها من مشكاة النبوة، لا بكثرتها مع التخليط، بين ذلك في معرض كلامه حول قول الله تعالى:

_ 1 سورة الأنفال آية (42) .

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَآء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 1. حيث قال: "فسمى وحيه روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح التي هي الحياة في الحقيقة ومَن عُدمها فهو ميت لا حي ... وسماه نوراً لما يحصل به من استنارة القلوب وإضاءتها وكمال الروح بهاتين الصفتين بالحياة والنور، ولا سبيل إليهما إلا على أيدي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والاهتداء بما بعثوا به، وتلقي العلم النافع والعمل الصالح من مشكاتهم، وإلا فالروح ميتة مظلمة، وإن كان العبد مشارا إليه بالزهد والفقه والفضيلة والكلام في البحوث. فإن الحياة والاستنارة بالروح الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وجعله نورا يهدي به من يشاء من عباده ... فليس العلم كثرة النقل والبحث والكلام، ولكن نور يميز به صحيح الأقوال من سقيمها، وحقها من باطلها، وما هو من مشكاة النبوة مما هو من آراء الرجال"2. وهذه الفائدة المستوحاة من هذا المثل - وهي إخلاص التلقي

_ 1 سورة الشورى آية (52) . 2 اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ص (24) .

للأمور الدينية والمطالب الغيبية من الوحي المطهر - هي خطوة هامة ومقدمة في واقع المسلمين اليوم، في مجال النهوض بهم، والعمل على عودتهم إلى الدين القويم، وفي سبيل توحيدهم وضم جهودهم للعمل على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وعزتهم ورفعتهم، فذلك لا يكون إلا إذا سبقه عملية مراجعة لأحوالهم وأوضاعهم وعرضها على الميزان العلمي الذي جاء به الوحي المطهر، وإخضاع تلك الأحوال والأوضاع الدينية والدنيوية لحكمه، والتخلص مما يخالفه. وبذلك يسعى المسلمون أولاً إلى استجلاب ولاية الله، والله وليهم - إذا جاؤوا بشرط الولاية - يحوطهم بعنايته وتوفيقه، ويدافع عنهم، ويكلل أسبابهم بالتوفيق، ويكمل نقصهم ويهيِّئ لهم من أمرهم رشداً.1 وخلاصة هذه الفائدة: أن المثل دل على أن إيمان العبد يوجد بفعل الله عز وجل حيث يشرح صدره فيحيا القلب ويستنير، وأن هذا النور - نور الإيمان - يحتاج

_ 1 تكلمت عن هذا الأمر وهو وجوب إخلاص التلقي عن الوحي المطهر في جميع المطالب في جانب العقيدة والعبادات والأخلاق والآداب، وأهميته للمجتمع المسلم والسبيل إلى تحقيقه - في بحثي لرسالة الماجستير بعنوان: [أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة] المقدمة للجامعة الإسلامية عام 1412هـ. انظر: ص (415-425) .

إلى مادة من نور العلم المستخلص من الوحي يقوم بها ويدوم بدوامها ويزيد ويصفو بزيادتها وصفائها، وإذا ضعف العلم أو استقى من غير الوحي ضعف نور الإيمان وربما انطفأ كما تنطفئ النار بفراغ مادتها.

الفائدة الثالثة: دل المثل على أن الإيمان يزيد وينقص. وذلك مستنبط من تشبيه العلم النازل بالوحي بالزيت الذي يمد المصباح بوقوده. وكلما كان الزيت جيداً في مادته، وزاد في كميته، قوي نور المصباح وازداد إشراقا وصفاء. وكذلك نور الإيمان في قلوب أولياء الرحمن يزيد بزيادة العلم وصفائه من العلوم الدخيلة، والعمل به. كما ينقص بضعف العلم، أو خلطه بعلوم ليست من الوحي، أو عدم العمل بالعلم. وما دل عليه المثل من كون الإيمان يزيد وينقص هو الذي تظافرت على بيانه النصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح. وقد ذكرت طرفا من تلك الأدلة في المقدمات المتعلقة بالإيمان في الباب الأول1. وهذه الفائدة يترتب عليها أن يكون نور الإيمان والعلم في قلوب المؤمنين متفاوتاً قوة وضعفاً بحسب ما عند كل منهم من العلم والإيمان.

_ 1 تقدم ص (258) . وانظر: للاستزادة: كتاب زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه للشيخ د. عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد، دار القلم والكتاب بالرياض، الطبعة الأولى 1416 هـ.

والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو أكمل المؤمنين علما بالله وبدينه وإيماناً وعملاً فهو الذي تحقق فيه كمال نور الإيمان والعلم. وعلى هذا يوجه قول من قال: إن المراد بالنور في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِه} هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن جرير - رحمه الله -: "وقال آخرون بل عنى بالنور: محمداً صلى الله عليه وسلم وقالوا: الهاء التي في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِه} : عائدة على اسم الله"1. فالنبي صلى الله عليه وسلم وصف بأنه نور وسراج منير، كما قال تعالى: {يَآ أيها النَّبي إنَّا أَرْسَلْناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وَدَاعِياً إلى اللهِ بإذْنِه وَسِرَاجاً منيراً} 2. قال ابن جرير -رحمه الله-: "وقوله: {بإذْنِه} يقول: بأمره إياك بذلك. {وَسِرَاجاً منيراً} يقول: وضياء لخلقه يستضيء بالنور الذي أتيتهم به من عند الله عباده {منيراً} يقول ضياء ينير لمن استضاء بضوئه، وعمل بما أمره، وإنما يعني بذلك: أنه يهدي به من اتبعه من أمته"3.

_ 1 جامع البيان (9/322) . 2 سورة الأحزاب من الآية (45 - 48) . 3 جامع البيان (10/307) .

فالنبي صلى الله عليه وسلم وصف بأنه نور باعتبارين: الأول: أنه قد عمر قلبه بنور العلم والإيمان، فهو الأنموذج البشري الذي اكتمل فيه النور لكمال علمه وإيمانه. فاتقد سراجه أتم الاتقاد. قال ابن القيم - رحمه الله -: "وقد اختلف في مفسر الضمير في {نُورِهِ} فقيل هو النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أي مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل مفسره المؤمن أي مثل نور المؤمن. والصحيح أنه يعود على الله سبحانه وتعالى. والمعنى مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده. وأعظم عباده نصيبا من هذا النور رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم"1. الاعتبار الثاني: أنه قد بدا عليه ومنه النور ظاهراً وباطناً. حيث عمل بالعلم والإيمان. فعمله نور، وقوله نور، وفي كل أحواله على نور من ربه. وقد دعا إلى الله وبلغ البلاغ المبين، فهدى الله به من شاء من عباده واستناروا بما بلغهم به من نور الوحي. فهو صلى الله عليه وسلم سراج منير، مستنير في نفسه منير لغيره. "والنور في الحقيقة هو كمال العبد في الظاهر والباطن"2. والاقتباس من نوره صلى الله عليه وسلم يكون بتعلم ما جاء به من العلم المدلول عليه

_ 1 اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ص (7) . 2 مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، (2/203) .

بنصوص الكتاب والسنة. والانتفاع من نوره صلى الله عليه وسلم يكون باتباعه والاهتداء بهديه والاستنان بسنته، وألا يفعل فعلاً يتعبد لله فيه إلا وعنده شاهد عليه مما جاء به صلى الله عليه وسلم من الوحي، أو من سيرته وما كان عليه من الأحوال، لذلك قال سبحانه: {لقَد كَان لَكُم في رَسُولِ الله أسْوَةٌ حَسَنةٌ لمنْ كَانَ يَرْجُو الله واليَوْم الآخِر وَذَكَرَ اللهَ كثيْراً} 1. خلاصة هذه الفائدة: أن المثل دل على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بزيادة العلم الواصل للقلب المستفاد من نور الكتاب والسنة كما ينقص بنقصه. ومأخذ ذلك من المثل هو تشبيه العلم الذي يمد القلب بالمعارف والحقائق الإيمانية بالزيت الذي يمد المصباح بالوقود، وكون المصباح يزيد ضوؤه ويصفو بزيادة الزيت وجودته. والمؤمنون يتفاوتون بقوة النور الكائن في قلوبهم بحسب ما عندهم من العلم والإيمان. وأكمل المؤمنين نوراً هو النبي صلى الله عليه وسلم لكمال علمه وإيمانه.

_ 1 سورة الأحزاب آية (21) .

الفائدة الرابعة: دل المثل على أن للإيمان والعلم نوراً حقيقياً في قلوب المؤمنين. وذلك مستفاد من التشبيه نفسه، حيث لا يفهم من تشبيه نور الإيمان والعلم بالمصباح المتقد الذي وقوده زيت جيد، إلا حقيقة ذلك النور، وإنما ضرب المثل لبيان حقيقته وما يتعلق به من الأوصاف وما ينتج عنه من الآثار. ولا يجوز أن يقال إن الله ضرب مثلاً محسوساً لبيان وإيضاح أمر مجازي لا حقيقة له. فالقلب يحيا بنور الوحي كما تحيا الأرض بالماء، وحياة القلب ونوره أمران وجوديان حقيقيان. وكذلك كل ما نسب إلى القلب من أضداد الحياة والنور: كموت القلب وعماه، والختم والطبع والأقفال ... ونحوها فهي على حقيقتها، "ولا تصغ إلى قول من يقول: إن هذه مجازات واستعارات"1. وليس المراد إذا قيل أن النور في القلب نور حقيقي أنه كالأنوار المحسوسة، ولا أن العمى الذي يصيب القلب كالعمى الذي يصيب العين، ولا أن حياة القلب وموته كحياة البدن وموته.

_ 1 شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن قيم الجوزية، ص (195) .

فهذه الألفاظ وإن كانت حقيقة في كل ما تنسب إليه، إلا أن الحقائق تختلف باختلاف محالّها التي تعلقت بها. قال ابن القيم - رحمه الله -: "فإن هذه الأمور إذا أضيفت إلى محالّها كانت بحسب تلك المحالّ"1. فحياة البدن حقيقة، وحقيقته سريان الروح فيه، وموته حقيقة، وحقيقته مفارقة الروح له. وحياة القلب حقيقة، وحقيقته قذف الله الإيمان فيه. وموته حقيقة، وحقيقته مفارقة الإيمان له وخلوه منه. ونور القلب حقيقة، وحقيقته أن يجعل الله فيه النور. وعماه حقيقة، وحقيقته خلوه من ذلك النور نور العلم والإيمان. وهكذا في كل الألفاظ المنسوبة إلى القلب فهي على الحقيقة المناسبة للقلب، على قاعدة "لكل ذات ما يناسبها من الصفات". وكما دل المثل - كما تقدم - على أن نور القلب حقيقة، إذ لا يضرب المثل لشيء لا حقيقة له، فقد وردت آية واضحة الدلالة قاطعة في إثبات عمى القلوب حقيقة وهي قول الله تعالى: {أفلَمْ يَسِيرُوا في الأرْض

_ 1 شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص (195) .

فَتكون لهم قُلُوب يعقِلُون بهَا أَوْ آذَان يَسْمَعونَ بها، فإنَّها لا تَعْمى الأبصار ولَكن تَعْمى القلُوب الَّتي في الصّدُور} 1. فقوله سبحانه: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . المراد: إن معظم العمى وأصله هو عمى القلب، ولم يرد سبحانه نفي العمى عن الأبصار، وإنما أراد أن عمى القلوب أولى بهذا الوصف وأحق به لشدة خطره وضرره على صاحبه.2 فعمى القلب أمر حقيقي وجودي يقوم بالقلب ويؤثر فيه تأثيرا معينا يترتب عليه فساده وضلاله، وينعكس ذلك على جوارح الإنسان الأخرى، كما قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"3. فأكدت هذه الآية أمرين: الأول: حقيقة عمى القلوب وأنه هو الأصل، وأعظم من عمى الأبصار وأخطر.

_ 1 سورة الحج آية (46) . 2 انظر: شفاء العليل ص (196) بتصرف. 3 تقدم تخريجه ص (191) .

الثاني: إن القلوب التي تعمى هي القلوب المعروفة الكائنة في الصدور. فالقلوب تحيا وتبصر وتموت وتعمى، ونصيبها من ذلك متأثر بما فيها من الإيمان والعلم قوة وضعفا. كما أنها قد تكون عوراء وذلك إذا خلط العلم المستمد من الكتاب والسنة بغيره، فيرى من الحق بما معه من نور الكتاب والسنة، ويقع في ضلالات بسبب تلك الظلمة التي نتجت عن العلوم الدخيلة. ومثله في المصباح: إذا خلط الوقود الجيد بوقود رديء فإنه يضعف نوره، وينبعث منه دخان يلطخ باطن الزجاجة، وكلما زاد الوقود الرديء زاد الدخان حتى يظلمها. وخلاصة هذه الفائدة: أن المثل دل على أن النور الذي يجعله الله في قلوب المؤمنين نور حقيقي، ومأخذ ذلك هو تشبيه ذلك النور - الذي يعلم معناه ولا تعقل كيفيته1 - بنور المصباح المحسوس. ولا يجوز تشبيه شيء

_ 1 حقيقة النور الذي هو فعل الله، ووجوده في القلب من جنس وجود الروح في البدن، ووجود العقل، وهذه يقطع بأن لها وجوداً حقيقياً، لكن لا تعرف كيفيتها. وأثر نور العلم والإيمان على المؤمن له حقيقة أيضا، وهي التي عبر عنها ابن القيم - رحمه الله - بقوله المتقدم: "والنور في الحقيقة هو كمال العبد في الظاهر والباطن". انظر: ص (369) .

مجازي لا حقيقة له بشيء محسوس، بل إن التشبيه بالمحسوس يؤكد وجوده وحقيقته.

الفائدة الخامسة: مناسبة التعقيب على المثل بقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّه أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّه يَرْزُقُ مَنْ يَشَآء بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1. اختلف المفسرون وأهل اللغة في قوله تعالى: {فِى بُيُوتٍ.....} اختلافاً واسعاً، ومرد أقوالهم إلى ما يلي: 1- أنها متعلقه بما قبلها. 2- أنها متعلقه بما بعدها. 3- أنها على تقدير محذوف. 4- أنها مستأنفة لا علاقة لها بما قبلها وما بعدها2. أما القول بأنها متعلقة بما بعدها، والقول بأنها مستأنفة، فهي أقوال لا تخلو من بُعْد أو تكلف3. وتلغي تلك العلاقة العظيمة بين ما دل عليه

_ 1 سورة النور آية (36 - 38) . 2 انظر: الفريد في إعراب القرآن المجيد، لحسين بن أبي العز الهمداني، (3/600) . 3 انظر: نفس المصدر.

مثل النور وبين أولئك الرجال الذين قلوبهم معلقة بالمساجد. وأما كونها متعلقة بما قبلها، فسأذكر مما قيل فيه قولين. أما الأول فلشهرته عند المفسرين. والثاني لكونه أقرب إلى الصواب، وبيان علاقة نور العلم والإيمان بأولئك الذين يعمرون بيوت الله. وعلى القول بتقدير محذوف فسأذكر فيه ما أرى أنه يربط بين ما دلّ عليه مثل النور، وبين الرجال الذين يعبدون الله في بيوته. فهذه ثلاثة أقوال، وتفصيلها فيما يلي: (الأول) : أن المراد المصابيح المشبه بها وهي المصابيح المحسوسة التي توقد بالزيت. ويكون المعنى كما قال ابن جرير - رحمه الله -: "يعنى تعالى ذكره بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِن اللهُ أَنْ تُرْفَعَ} : الله نور السماوات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، في بيوت أذن الله أن ترفع"1. والبيوت هي المساجد2.

_ 1 جامع البيان، (9/329) . 2 نفس المصدر.

وعلى هذا القول أكثر المفسرين1. (الثاني) أن المراد أن المصابيح المشبهة بالمشكاة - مصابيح الإيمان في قلوب عباد الرحمن التي تضاء بالعلم المستقى من الوحي - كائنة في بيوت ... . وقد أشار إلى هذا بعض المفسرين حيث قال: "ولما كان نور الإيمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد، ذكرها منوهاً بها، فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِن اللهُ} "2. ويكون التقدير على هذا القول: مثل نوره في قلوب المؤمنين، حال كونهم {فِي بُيُوتٍ أَذِن اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ... } الآية، كمشكاة فيها مصباح. وهذا القول ليس ببعيد عن القول الأول. وذلك أن كلا القولين يشتركان في تعلق البيوت بالمصابيح. أي: مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ... في بيوت أذن الله أن ترفع.

_ 1 انظر: جامع البيان (9/329) ، وتفسير القرآن العظيم، (3/292) . وفتح التقدير للشوكاني (4/34) ، والتفسير الكبير للرازي (24/2) . 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن السعدي، (5/422) .

والفرق بينهما أن القائلين بالقول الأول أرادوا المصابيح الحسية الممثّل بها. وفي القول الثاني المراد: المصابيح الممثّل لها، القائمة في قلوب المؤمنين. والقول الثاني هو الأنسب للسياق - والله أعلم - وذلك للاعتبارات الآتية: 1- أن تخصيص المشبه به - وهي المصابيح المحسوسة - بالمساجد لا يفيد شيئاً في إيضاح المثل حيث أن نور المصابيح في المساجد وغيرها واحد. أما تخصيص المشبه - وهو نور الإيمان والعلم- بكونه في المساجد فإنه يفيد زيادة معنى، وذلك أن الإيمان يزيد بالطاعة وخاصة الفرائض. فيتجلى النور ويشرق أكثر في بيوت الله عند قيامهم بالطاعات المذكورة. 2- أن المصابيح المحسوسة ليست مختصة بالمساجد بل توضع فيها وفي غيرها. أما مصابيح الإيمان، فإن من قامت بهم من المؤمنين هم أهل المساجد الذين اختصوا بها وبعمارتها فلا يعمرها غيرهم كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 1.

_ 1 سورة التوبة آية (18) .

3- إنه ذكر صفات الذين يعمرون البيوت - التي أذن الله أن ترفع - وذكر قبول أعمالهم مما يدل على أن المراد ذكر أثر نور العلم والإيمان القائم في قلوبهم في صلاح أعمالهم وقبولها. ويكون التقدير: مثل نوره في قلوب المؤمنين الكائنين في بيوت ... كمشكاة. 4- التعقيب بعد ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُم كَسَرَاب..} 1 الآية، يؤكد المعنى السابق من أن المراد ذكر أثر نور العلم والإيمان على صلاح أعمال المؤمنين وقبولها؛ حيث قابل ذلك بذكر أثر ظلمة الجهل على فساد أعمال الكافرين وحبوطها. 5- أن هذا المعنى هو الذي يظهر حكمة التعقيب بذكر البيوت وما يحصل فيها وأن ذلك لبيان أثر نور العلم والإيمان على عُمَّارها، والسياق في معرض بيان هذا النور (المشبه) وبركته وأهميته. أما المصابيح المحسوسة فذكرت مثالاً لإيضاح نور الإيمان والعلم ثم انصرف السياق عنها، واستمر في بيان المقصد الأهم وهو نور الإيمان والعلم وثماره على أهله، فقال {فِي بُيُوتٍ} أي: {مَثَلُ نُورِهِ} في قلوب المؤمنين حال كونهم {فِي بُيُوتٍ} {كَمِشْكَاةٍ} .

_ 1 سورة النور آية (39) .

(الثالث) على القول بوجود محذوف لا بد من تقديرة قبل قوله: {فِي بُيُوتٍ} لإبراز المعنى. واختلف في تقدير المحذوف1. إلا أن الأقرب - والله أعلم - أن يقدر بأحد أمرين: الأول: أن يقال: وذلك النور أكمل ما يكون في قلوب أهله عندما يتعبدون لله {فِي بُيُوتٍ ... } الآية. فيكون المراد بيان أهم أسباب كمال النور بعد العلم، وهو العمل به، وإقام الصلاة وذكر الله. الثاني: أن يقال: أن المقدر متعلق بقوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآء} ، ويكون التقدير: وأولئك الذين هداهم الله لنوره تجدهم {فِي بُيُوتٍ ... } الآية، لأداء الصلوات وذكر الله تعالى مع القيام بمصالحهم. من فوائد التعقيب على المثل بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِن اللهُ أَنْ تُرْفَعَ..} : أولاً: دل ذلك على أن نور العلم والإيمان أكمل ما يكون عند أهله حال كونهم يعبدون الله في المساجد. وذلك عند قيامهم بالأعمال التي تشرع في المساجد من الصلوات

_ 1 الفريد في إعراب القرآن المجيد، لحسين بن أبي العز الهمداني، (3/600) .

وأنواع الذكر وطلب العلم. والصلاة خاصة لها أثر عظيم في قوة نور الإيمان والعلم، وذلك أنها تشتمل على كلا الأمرين المؤثرين في هذا النور، وهما الإيمان والعلم. فالعلم يتجلى بقراءة القرآن الذي أنزله الله بعلمه، والذي هو النور الذي يمد مصباح الإيمان في القلب. والصلاة إيمان لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُم} 1 أي صلاتكم، حيث سمى الصلاة إيمانا.2 ولذلك سمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة نورا، حيث قال: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن (أو تملأ) ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو. فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها"3. ويتحقق ذلك أيضا - كمال النور - في كل عمل يشتمل على هذين الأمرين أن يكون من شعب الإيمان، ويشتمل على العلم، كحلق

_ 1 سورة البقرة آية (143) . 2 انظر: الجامع الصحيح للإمام البخاري، كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، (ح40) ، الصحيح مع الفتح (1/95) . 3 رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، (ح 223) ، (1/203) .

الذكر والعلم. قال صلى الله عليه وسلم: "ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلُون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه"1. ويدل على زيادة الإيمان والنور بهذه الأعمال حديث حنظلة2 رضي الله عنه وفيه قال: قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك"؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي

_ 1 رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء ... ، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، (ح 2699) (4/2074) . 2 أبو ربعي، حنظلة والده الربيع أو ربيعة بن صيفي التميمي، ويقال حنظلة الأسيدي، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، شهد مع خالد حروبه في العراق، نزل قرقيزياء، ومات بها في خلافة معاوية (. انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (1/431) وأسد الغابة (2/5) .

طرقكم. ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات1. وهذا الحديث يدل على أن المؤمنين يكونون أكمل حالاً وإيماناً عندما يكونون مع النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم العلم ويذكرهم بالله. ثمرة العلم بهذا الأمر: أن يدرك المسلمون وخاصة من يتصدى للدعوة والتربية والتعليم أن كمال المسلمين وصلاحهم إنما يكون بالعلم الشرعي من الكتاب والسنة ونهج سلف الأمة، وإقامة الدين وشعب الإيمان، ويركزون جهودهم على ذلك، ويجعلونه الخطوة المقدمة في عملهم، وبذلك تصلح حال المسلمين ويقوى نورهم وبصيرتهم، ويلهمون الرشد والسداد في أعمالهم ويستحقون ولاية الله عز وجل. ثانيا: ومما يستفاد من التعقيب بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِن اللهُ أَنْ تُرْفَعَ..} هي: اهتداء المؤمنين بهذا النور، وأنه كشف لهم مواطن الخير وأسباب السلامة، والربح الحقيقي والأعمال النافعة. دل على ذلك قوله عز وجل: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ

_ 1 رواه مسلم، كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر ... ، (ح 2750) (4/2106) .

فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} فهؤلاء الرجال الذين - أثنى الله عليهم - لقوة بصائرهم لا ينشغلون بالبيع والتجارة- مع أهميتها لحياتهم وحبهم لها - عن مهمات دينهم وفرائض ربهم. رأى عبد الله بن مسعود1 رضي الله عنه قوما من أهل السوق حيث نودي بالصلاة، وتركوا بياعاتهم، ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله: "هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه} "2. فمن آثار نور العلم والإيمان القائم في قلوب المؤمنين أنه يكشف لهم محاسن الأعمال والأقوال والأخلاق ومساوئها، وفاضلها ومفضولها، وما هو من متطلبات الإيمان مما هو من حاجات الأبدان، كما يكشف لهم محاب الله ومكارهه، وما هو من أسباب رضوانه أو سخطه. ويكشف لهم ما يستقبلونه مما يكون عند الموت، وفي البرزخ، ويوم القيامة.

_ 1 أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود الهذلي من السابقين إلى الإسلام، أسلم بمكة وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا، وأحدا، والخندق، وبيعة الرضوان، وغيرها. أحد فقهاء الصحابة وقرائهم المشهورين توفي بالمدينة سنة 32هـ. انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (3/110) ، وأسد الغابة (3/384) . 2 جامع البيان لابن جرير (9/332) .

فأكسبهم ذلك رشداً وسداداً يحكم سيرهم في الحياة وبين الناس، حيث يقدمون الباقي على الفاني، ولا تشغلهم أمور دنياهم وحاجاتهم عن طاعة ربهم وما ينفعهم في أخراهم، وضمَّنوا سعيهم في الدنيا أعمالا يتقون بها ما يستقبلونه في الأخرى، فحالهم كما قال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 1. قال ابن جرير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: "يقول: فهديناه للإسلام، فأنعشناه، فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها، ويعمل في خلاصها من سخط الله وعقابه في معاده، فجعل إبصاره الحق- تعالى ذكره - بعد عماه عنه، ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك، حياة وضياء يستضيء به فيمشي على قصد السبيل، ومنهج الطريق في الناس"2. ومن هذا المعنى قول الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ

_ 1 سورة الأنعام آية (122) . 2 جامع البيان (5/331) .

يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 1. فبين - سبحانه - أن أهل العلم الذين أنار العلم دربهم، وأعملوا عقولهم في مقتضياته تميزوا عن أهل الجهل الذين يتخبطون في الظلمات، إذ إنّ من ثمرات نور العلم على أهله سلامة نظرهم وتفكيرهم الذي أفادهم المسارعة في الخيرات، والباقيات الصالحات، والحذر من الأخطار والموبقات، فما هم بمتساوين مع أهل الجهل والظلمات: لا في القلوب وأعمالها، ولا في الفكرة وأحوالها، ولا في الأخلاق والأقوال، ولا في السلوك والأعمال، ولا في المنزلة عند الله، ولا في المصير يوم القيامة، فهم مفترقون في كل شيء: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} . وقال - سبحانه -: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَآء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَآء مَا يَحْكُمُونَ} 2. ثالثاً: دل التعقيب على مثل النور بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِن اللهُ أَنْ تُرْفَعَ..} الآية، على أن المحافظة على الصلاة مع الجماعة دليل على قوة الإيمان وصلاح القلب، وقوة نور العبد وبصيرته.

_ 1 سورة الزمر آية (9) . 2 سورة الجاثية آية (21) .

وإذا تهاون بصلاة الجماعة كان ذلك دليلاً على ضعف في إيمانه وفي نور قلبه، وإذا وصل التهاون إلى الصلاة نفسها دل على اختلال الإيمان وظلمة القلب، حتى يصل إلى الكفر وموت القلب وعماه إذا تركها. وكذلك الحال في أداء الزكاة وملازمة ذكر الله، وغيرها من شعب الإيمان، فإن العناية بها دليل قوة الإيمان والبصيرة؛ والغفلة عنها والتهاون بها دليل ضعف الإيمان ونور القلب. وخلاصة هذه الفائدة: إن التعقيب على "مثل النور" بقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِن اللهُ أَنْ تُرْفَعَ..} الآية، له دلالة عظيمة في بيان أن النور أكمل ما يكون في قلوب أهله في المساجد حال كونهم يصلون أو يذكرون الله أو يطلبون العلم. وأن هذا النور أكسبهم البصيرة التي جعلتهم يميزون بين أجاود الأعمال وأحسنها عاقبة، فيسارعون إليها ولا يتشاغلون عنها بما دونها. كما كشف لهم ذلك النور عما يكون في اليوم الآخر من الأهوال، فأكسبهم اليقين به، والحذر والخوف منه، والتزود له. وأثر ذلك كله في قلوبهم وأعمالهم وفوزهم وحظوتهم عند ربهم. وإنّ تدبر المثل ومعرفة هذه الفائدة وغيرها من أقوى الدوافع للعناية بالعلم المستمد من الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح والعمل به،

ونشره، والتواصي على تقوية الإيمان بتعلم التوحيد وأركان الإيمان، وإقامة شعب الإيمان عامة، والصلاة والزكاة وذكر الله خاصة، وإعطاء ذلك الأولوية في منهاج الدعوة إلى الله، والتربية والتعليم والإعلام، وجميع نواحي العمل لإعلاء كلمة الله. كما يستفاد من التعقيب أن المحافظة على الصلاة مع الجماعة دليل على صلاح القلب، وقوة نوره، وزيادة الإيمان، وأن التخلف عن الجماعة دليل على ضعف الإيمان والبصيرة والنور. والله أعلم.

الفائدة السادسة: دلالة المثل على إعداد الله الإنسان بالفطرة السليمة واستدعائها لنُور الإيمان. تقدم1 عند الكلام على مطابقة المثل للمثّل له، أن هناك تشابها بين الفطرة والفتيلة، من حيث إن كلاً منهما في أصل خلقه وصنعه مهيأ لاستدعاء وتشرب ما يناسبه، فالفتيلة تتشرب الوقود المناسب وتمتصه، وتتبلل به وتصبح مهيأة به للاشتغال إذا أوقدت. وكذلك الفطرة على الدين الحنيف - التي فطر الله قلوب العباد عليها - مهيأة لاستدعاء ما يناسب ما فُطرت عليه من التوحيد والدين والحق؛ فإذا تشربت ما يرد إليها من ذلك من العلم بالكتاب والسنة، فإنها تكون مهيأة لإيقاد مصباح القلب، وقذف نُور الإيمان به. المراد بالفطرة: يطلق لفظ الفطرة ويراد به معان مختلفة، وهذه المعاني ترجع إلى معنيين: (الأول) : هو إعطاء المخلوق في أصل خلقه ما يستدعي فعل أو قبول شيء أو تركه. وهذا النوع هو الذي عبر عنه الراغب في المفردات بقوله: "وفطر الله الخلق: وهو إيجاد الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من

_ 1 انظر: ص (323) .

الأفعال"1. وهذا المعنى - وهو كون النفوس مترشحة أو مترجحة لفعل من الأفعال أو لتركه - يزيد على كونها قابلة له أو لضده، فهي تتضمن هذا المعنى وزيادة ترجيح قبول ما فطرت على قبوله، أو ترك ما فطرت على تركه. (الثاني) : هو ما ركز في النفوس في أصل خلقها من الوظائف والقوى النفسية، والحاجات الضرورية ونحوها. والفرق بين النوعين: أن الأول هو إعطاء المخلوق الداعي لأمر من الأمور أو الداعي لتركه، والثاني هو إعطاؤه الأمر نفسه ليكون جزءاً من خلقه. ومثال النوع الأول: ما ركز في النفوس ذات الفطر السليمة من حب النظافة والتجمل وكره الأوساخ والشعث، وهذا يستدعي السواك، وقص الأظافر ... ونحوها. ومثال النوع الثاني: الإحساس بالجوع، والحاجة إلى الطعام، والتألم لفقده، والانفعال لطلبه، وصراخ الطفل إذا جاع، أمور فطرية ركزت فيه في أصل الخلقة، لا يكتسبها بتعلم ولا بمحاكاة ولا بتفكير. وعلى هذا فكل ما ذكر في النصوص الشرعية من أمور نسبت

_ 1 المفردات في غريب القرآن، ص (382) .

للفطرة فهي لا تخرج عن هذين المعنيين: فإما أن يكون في النفس الداعي لفعله أو تركه، أو يكون ذلك الأمر مغروساً في النفس من أصل الخلقة. والله - سبحانه - خلق النفوس البشرية وفطرها على أمور: منها ما فطروا عليه وله علاقة بشؤونهم الدنيوية المعيشية. ومنها ما له علاقة بهدايتهم إلى الدين القويم. ومنها أمور ركز في النفوس الداعي إليها فهي فطرية شرعية عقلية. فهذه ثلاثة أنواع تنسب إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها. فالأمور الدنيوية المركوزة في الفطر، مثل: حب التملك، والميل إلى النافع، والفرار من الضار، والشعور بالجوع، ... ونحوها، وهي ما يسميه علماء النفس بالغرائز الفطرية، ويستوي فيها سائر البشر، وقد يشترك في بعضها مع الحيوان، وتدخل في عموم قوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 1. وأما الأمور التي أُعطيَ الناس الداعي إليها: فمنها ما ذكر في الحديث2 من قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، والمضمضة

_ 1 سورة طه آية (50) . 2 انظر: صحيح الإمام مسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة من (ح 257 إلى 261) .

والاستنشاق، وقص الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان ... ونحوها. فهذه الأمور تستحسنها النفوس ذوات الفطر السليمة، وتميل إليها وتنفر من ضدها، وهذا معنى كونها من الفطرة، إذ النفوس مجبولة على حب النافع الجميل، وترك الضار القبيح. وأما كونها عقلية فإن العقل يدرك حسنها وأهميتها لصحة الإنسان وجماله. وأما كونها شرعية فلأن الشارع جعل فعلها عبادة. والنوع الثالث مما فطر عليه الناس هو ما له علاقة بالهداية إلى الإيمان، وقد بينها الله بقوله سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تبديلَ لخلقِ اللهِ} 1. حيث دلت هذه الآية على ثلاثة أمور هامة لها علاقة بالفطرة: (الأمر الأول) : أن الله فطر الناس على الدين الحنيف. وهذا مستفاد من قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّه} . وتدور تفاسير السلف للفطرة التي فطر الله الناس عليها في هذه الآية على معنيين:

_ 1 سورة الروم آية (30) .

(الأول) أن الفطرة هي الإسلام. قال الإمام البخاري - رحمه الله -: "والفطرة: الإسلام"1. وقال به عكرمة2 ومجاهد3 - رحمهما الله - وغيرهما.4 ويستند من قال بذلك إلى ورود لفظ "الدين" في الآية في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} ، والدين هو الإسلام، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} 5.

_ 1 الجامع الصحيح، كتاب التفسير، باب: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} ، الصحيح مع الفتح (8/512) . 2 العلامة الحافظ المفسر، أبو عبد الله عكرمة القرشي مولاهم، المدني، بربري الأصل، مولى عبد الله بن عباس، ورث عنه علما غزيرا في التفسير وغيره. توفي سنة 105 هـ وهو ابن ثمانين سنة. انظر: سير أعلام النبلاء (5/12) ، تهذيب التهذيب (7/263) . 3 الإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي، شيخ القراء والمفسرين، مولى لرجل من بني مخزوم، روى عن ابن عباس فأكثر وأطال، وعنه أخذ القرآن، والتفسير، والفقه، وروى عن جمع من الصحابة. قيل كانت سنة وفاته 104 هـ وقيل غير ذلك، وكان عمره 83 سنة. انظر: سير أعلام النبلاء (4/449) ، وتهذيب التهذيب (10/42) . 4 انظر: جامع البيان، لابن جرير، (10/183) . 5 سورة آل عمران آية (19) .

ومن ذلك ورود الفطرة في مقابلة اليهودية والنصرانية والمجوسية مما يدل على أن المراد بها الإسلام، في حديث: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول: " {فطرَة اللهِ الَّتِي فَطرَ الناسَ عَليها لا تبديلَ لخلقِ اللهِ} ". 1 (والمعنى الثاني) في المراد بالفطرة في الآية أنها:"معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره"2. ومستند هذا المعنى هو ذكر لفظ {حَنِيفاً} في الآية، والحنيف هو الذي استقام على التوحيد والإخلاص، وجانَب الشرك، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3. ومما يستدل به على هذا المعنى ما ورد في الحديث القدسي وفيه:

_ 1 متفق عليه، البخاري، كتاب الجنائز، باب:" إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه"، (ح 1358) الصحيح مع الفتح (3/218) . ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، (ح 2658) الصحيح ت /محمد عبد الباقي (4/2047) . 2 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/432) . 3 سورة النحل آية (123) .

"وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا"1. وأورد ابن جرير - رحمه الله - ما يؤيد هذا المعنى من قول معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه "ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص، وهو الفطرة {فطرَة اللهِ الَّتِي فَطرَ الناسَ عَلَيْهَا} والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة، قال عمر: صدقت"2. والفرق بين المعنيين: أن المعنى الثاني وهو معرفة الله وتوحيده أخص من الإسلام، فهو أصله وأساسه، والكلام في الفطرة التي فُطر الناس عليها من حيث: هل فطروا على معرفة الله وتوحيده؟ أم على الإسلام كله؟ أم عليهما معا ولكن كل منهما باعتبار؟ والاختيار الأخير هو المتعين، ويكون كلا المعنيين صحيحاً، وذلك أنه تقدم أن الفطرة لها معنيان: (أحدهما) : ما ركز في النفوس وأعطيت إياه في أصل الخلق.

_ 1 رواه مسلم، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، (ح 2865) (4/2197) . 2 جامع البيان، لابن جرير، (10/182) .

(والثاني) : ما ركز فيها من الداعي إلى الشيء أو إلى تركه. فالقول بأن الفطرة هي معرفة الله وتوحيده يراد به المعنى الأول، وأنه رُكز في النفوس ذلك وفُطرت عليه. والقول بأن الفطرة هي الإسلام يراد به المعنى الثاني بالنظر إلى ما أوجد الله في النفوس وفطرها عليه من الاستعداد والترجح لقبول الحق ومعرفته إذا عرض عليها، وأنها خلقت سوية تتعرف على الخير وتنشرح له وتقبله، وتنفر من الشر وتشمئز منه، وتستدعي ما يناسب ما أودع فيها من معرفة الله وتوحيده ومحبته - الذي هو أصل الإسلام- فهي بذلك مهيأة لقبول الإسلام إذا عرض عليها بواسطة الرسل أو أتباعهم والذي يوافق ما جبلوا عليه. فالذي قال: الفطرة هي معرفة الله وتوحيده ومحبته، نظر إلى ما ركز في النفوس وجبلت عليه. والذي قال: هي الإسلام أراد أنهم قد جبلوا على أصل الإسلام وهو التوحيد ومعرفة الله ومحبته، وأن ذلك يستدعي ويستلزم تمامه وقبول سائر شعائره. وعلى هذا فأصل الإسلام الذي هو معرفة الله وتوحيده ومحبته والخضوع له من موجب الفطرة، لا يتوقف أصله على غيرها. أما الإسلام الذي هو كمال الاستقامة على التوحيد والعبادة فهو يتوقف على غيرها - مما جاء به الرسل - وهي تستدعيه، ويجب حصوله فيها إذا عرض

عليها ولم يوجد ما يعارضه ويقتضي حصول ضده. قال ابن القيم - رحمه الله -: "فقد تبين دلالة الكتاب والسنة والآثار واتفاق السلف على أن الخلق مفطورون على دين الله الذي هو معرفته والإقرار به ومحبته والخضوع له، وأن ذلك موجب فطرهم ومقتضاها، يجب حصوله فيها إن لم يحصل ما يعارضه ويقتضي حصول ضده ... وحصول الحنيفية والإخلاص ومعرفة الرب والخضوع له لا يتوقف أصله على غير الفطرة، وإن توقف كماله وتفصيله على غيرها. وبالله التوفيق"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مبينا الأمور التي ركزت في النفوس وجبلت عليها في تعقيبه على حديث "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم": "فأخبر أنه خلقهم حنفاء، وذلك يتضمن معرفة الرب، ومحبته، وتوحيده، فهذه الثلاثة تضمنتها الحنيفية، وهي معنى قول "لا إله إلا الله ""2. وهذه الأمور التي تضمنتها الفطرة هي أصل التوحيد الذي هو أصل الإسلام، فالفطرة تتضمن أصل التوحيد وتستلزم مقتضاه وهو الدين

_ 1 شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص (604) ، دار التراث، القاهرة، الطبعة الأولى. 2 مجموع الفتاوى (16/345) .

وأعمال الإسلام. قال ابن تيمية - رحمه الله - في هذا المعنى: " ... فلا بد أن يكون في الفطرة محبة الخالق مع الإقرار به. وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها، وهو فطرة الله التي أمر الله بها ... فعلم أن الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضاياتها، والحب لله والخضوع له والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية"1. وقال أيضاً: "وإذا قيل: إنه ولد على فطرة الإسلام، أو خلق حنيفاً ونحو ذلك، فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده، فإن الله تعالى يقول: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} 2، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام، لمعرفته ومحبته. فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له. وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة، إذا سلمت عن المعارض. وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، كما أن كل

_ 1 درء تعارض العقل والنقل، ت: د. محمد رشاد سالم، (8/451) . 2 سورة النحل آية (78) .

مولود يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه"1. ثم قال: "والنبي صلى الله عليه وسلم شبه اللبن بالفطرة ... والطفل مفطور على أنه يختار شرب اللبن بنفسه، فإذا تمكن من الثدي لزم أن يرتضع لا محالة، فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض، وهو مولود على أن يرتضع، فكذلك هو مولود على أن يعرف ربه، والمعرفة ضرورية لا محالة إذا لم يوجد معارض. ....فتبين أن فيها قوة موجبة لحب الله. والذل له، وإخلاص الدين له، وأنها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض، كما فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه"2. وإذا كان الأمر كذلك فإن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - بعثوا ليذكروا الناس بما فطروا عليه من معرفة الله وتوحيده، ويدعوهم إلى موجبه ومقتضاهُ من الإسلام. قال ابن القيم - رحمه الله -: "والله سبحانه قد أنعم على عباده من جملة إحسانه ونعمه بأمرين

_ 1 درء تعارض العقل والنقل، (8/383، 384) . 2 نفس المرجع ص (448، 449)

هما أصل السعادة: أحدهما: أن خلقهم في أصل النشأة على الفطرة السليمة، فكل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يخرجانه عنها ... فإذا تركت النفس وفطرتها لم تؤثر على محبة باريها وفاطرها وعبادته وحده شيئاً، ولم تشرك به، ولم تجحد كمال ربوبيته، وكان أحب شيء إليها وأطوع شيء عندها.... والأمر الثاني: أنه سبحانه هدى الناس هداية عامة بما أودعه فيهم من المعرفة ومكنهم من أسبابها، وبما أنزل إليهم من الكتب وأرسل إليهم من الرسل وعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه"1. وما رسخ في الفطرة هو الأساس الذي يستند إليه كل نظر صحيح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "البرهان الذي يُنال بالنظر فيه العلم لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية، فإن العلم النظري الكسبي هو ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة بدون النظر، إذ لو كانت تلك المقدمات أيضاً نظرية لتوقفت على غيرها، فيلزم تسلسل العلوم النظرية في الإنسان، والإنسان حادث كائن بعد أن لم يكن، والعلم الحاصل في قلبه حادث، فلو لم يحصل في قلبه علم إلا بعد علم قبله، للزم أن لا يحصل في قلبه علم

_ 1 شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص (353) .

ابتداء، فلا بد من علوم بديهية أولية يبتدئها الله في قلبه، وغاية البرهان أن ينتهي إليها"1. والمتأمل لهذا الكلام من شيخ الإسلام - رحمه الله - يجد أنه دقيق المعنى عظيم الفائدة، إذ بين أن الفطرة أصل لكل نتيجة من الحق يتوصل إليها بنظر العقول. وعلى هذا تكون الفطرة مشابهة للبذرة الصغيرة، التي تحمل في طياتها كل عوامل الوراثة للنبات من شكل الجذع والأغصان والأزهار ولونها، وشكل الثمرة ولونها وطعمها وما إلى ذلك. وكل ما يحدث في الشجرة من خلقها فأصله كائن في بذرتها. فتبارك الله أحسن الخالقين الذي جعل في نفوس الناس بذور الخير والحق والصلاح الذي يتضمن أو يستلزم ما تكتمل به سعادتهم في الدين والدنيا، إذا سُقي بمعين الوحي الصافي، واستخرج بالنظر الصحيح، كما جعل في بذور النبات أسرار خلقها ومقومات اكتمالها وثمرها إذا سقيت بالماء الصالح وهيئت لها الظروف المناسبة. ومما تقدم يتبين أن الله أعان عباده بثلاثة أمور هامة تسهم إذا استجابوا لموجبها في هدايتهم:

_ 1 درء تعارض العقل والنقل، (3/309) .

(الأول) : إعدادهم بالفطرة المتضمنة لأصل الهداية، والمستلزمة لتفاصيلها. (الثاني) : إمدادهم بالرسل والكتب المنزلة التي تذكرهم بالفطرة وتدعوهم إلى مقتضاها، وتبين لهم مراد الله عز وجل. (الثالث) : إمدادهم بالعقل الذي يتفكرون به، والذي يستند في نظره إلى ما أودع في الفطرة من المعطيات الضرورية، وفيما أظهر الله من الآيات الكونية، ويتدبرون به ما أنزل من البينات والهدى. فالفطرة السليمة، والنظر الصحيح، يقبلان ما جاء به الأنبياء ويشهدان له، ويسكنان إليه ويطمئنان به، فهذه الثلاثة متكاملة في قبول الحق والترقي فيه. والله أعلم. الأمر الثاني: الذي دلت عليه الآية {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} هو أن خلق الناس على الفطرة عام لجميعهم، وذلك سنة جارية لا تتخلف عن أحد من المكلفين. وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ويشهد لهذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل إنسان تلده أمه على الفطرة"1.

_ 1 رواه مسلم، كتاب القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة، (ح 2658) ، (4/2048) .

وما ورد في الحديث من قول الله عز وجل: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم"1. فلفظ " كل " و " كلهم " يدلان على العموم. ويؤكد هذا المعنى ما ورد في السياق من قول الله عز وجل: {لا تَبْديلَ لخَلْقِ اللهِ} . على أحد القولين في تفسيرها. ففي هذه الجملة تفسيران مشهوران: الأول: قيل معناه لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، فيكون الأسلوب خبرا أريد به الطلب والنهي كقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَه كَان آمِنا} 2. الثاني: قيل إن معناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة لا يولد أحد إلا على ذلك ولا تفاوت بين الناس في ذلك.3 "أي هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه"4.

_ 1 تقدم الحديث ص (396) . 2 سورة آل عمران آية (97) . 3 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/432) بتصرف. 4 فتح القدير، للشوكاني، (4/224) .

ومن شواهد هذا المعنى أيضا قول الله عز وجل: {وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا} 1 قال ابن كثير - رحمه الله -: "أي خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ... } "2. وهذه الفائدة هي الركيزة الأولى والأساس المهم في أمرين عظيمين: (الأول) : حصول الإيمان في القلب مستلزم للفطرة السليمة والاستجابة لداعيها، فالقلب ذو الفطرة السليمة هو المؤهل لاتقاد نُور الإيمان فيه، كما أن المصباح لا يتقد بدون فتيلة صالحة، فالله سبحانه جعل فرصة جميع المكلفين إزاء الإيمان به متكافئة باعتبار أصل الخلق حيث سوى بينهم في الخلق على الفطرة. (الثاني) أن الإيمان بالقدر وفهمه فهما صحيحا يستلزم معرفة أن كل الناس ولدوا على فطرة سليمة قويمة مرجحة للإيمان داعية إليه، وذلك من عون الله لهم على الإيمان، ومن مقتضى عدله وفضله. فعدله سبحانه: في التسوية بينهم في الخلق على الفطرة، وفضله: في جعل الفطرة متضمنة لمعرفة الباري، وداعية إلى الإيمان مترجحة له.

_ 1 سورة الشمس آية (7) . 2 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (4/515) .

الأمر الثالث: الذي دلت عليه الآية {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا..} هو بيان أن الفطرة قابلة للتغيير والحرف عن الأصل الذي خلقوا عليه بأسباب تكون من الناس. وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى: {لا تَبْديلَ لخَلْقِ اللهِ} على القول بأن المراد بها هو: لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، والنهي يدل على الإمكان. وقد ورد تأكيد هذا المعنى في نصوص أخر. من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"1. فدل على أن للتربية التي تكون غالبا بين الأبوين أثراً في تغيير حال الولد عن الفطرة التي فطر عليها. ودل الحديث من جهة أخرى على هذا المعنى - وهو قابلية الفطرة للتغيير بفعل الناس - في المثل المضروب لبيان ذلك في قوله: "كما تُنْتج البهيمة بهيمة جمعاء2، هل تحسون منها من جدعاء3"، وفي بعض

_ 1 رواه مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، (ح2658) ، (4/2048) . 2 "أي: مجتمعة الأعضاء، سليمة من نقص". شرح النووي على صحيح مسلم، (16/209) . 3 "هي: مقطوعة الأذن أو غيرها من الأعضاء". نفس المرجع.

رواياته: "حتى تكونوا أنتم تجدعونها"1. قَال ابن تيمية - رحمه الله -: "المراد ما خلقهم عليه من الفطرة لا تَبدل، فلا يخلقون على غير الفطرة، لا يقع هذا قط، والمعنى أن الخلق لا يتبدل فيخلقون على غير الفطرة، ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغير بعد الخلق، بل نفس الحديث يبين أنها تتغير، ولهذا شبهها بالبهيمة التي تولد جمعاء ثم تجدع، ولا تولد بهيمة قط مخصية ولا مجدوعة"2. ومن ذلك ما تقدم في الحديث من قول الله تعالى: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً". فدل الحديث على أثر جهود الشياطين من الجن والإنس في تغيير وحرف ما فطر الناس عليه وصرفهم عن التوحيد إلى ضده من الشرك، وتأمرهم بتغيير الدين بتحليل ما حرم الله وتحريم ما أحله، وتزين لهم الشر والفساد. فالشياطين من الإنس والجن أثرهم مضاد لأثر دعوة الأنبياء الذين

_ 1 رواه مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، (ح2658) ، (4/2047) . 2 درء تعارض العقل والنقل، (8/425) .

يدعون الناس إلى مقتضى ما فطرهم الله عليه، ويدعونهم إلى دين الله والخير والفضيلة. العبرة من معرفة هذه الفائدة: إذا أدرك المسلم ما دل عليه المثل من أن الإيمان نُور يؤسس على الفطرة السليمة، وما دلت عليه هذه الآية العظيمة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ، من أن الله فطر الناس جميعا على معرفته سبحانه وما تستلزمه من الإسلام والخير والفضيلة، وأن الفطرة قابلة للتغيير بفعل أسباب تكون من الناس، وأدرك أهمية التربية في تنمية الفطرة وخطر شياطين الإنس في تدسيتها وحرفها إلى الضلال والشرك. فإن العبرة من ذلك كله تكون بأن يعمل المسلمون أفرادا وجماعات وفي كل المجالات المختصة بالتعليم والتربية والتوجيه في المحافظة على الفطرة القويمة التي حباهم الله بها، وخاصة لدى الناشئة، ويكون ذلك بخطوتين هامتين: الخطوة الأولى: التزكية قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} 1.

_ 1 سورة الشمس آية (7 - 10) .

فأخبر سبحانه أنه خلق النفوس سوية على الفطرة كما تقدم1 هذا المعنى في كلام ابن كثير -رحمه الله -. وأخبر أن الفلاح يكون بتزكيتها. وتكون تزكية الفطرة بالتركيز على العلم المستمد من الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح ليكون المصدر الأساس للتربية والتعليم، فتستمد جميع العلوم والمعارف المتعلقة بالدين من العقائد والشرائع والمناهج والآداب والأخلاق والمعاملات مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة. وذلك مستفاد من تشبيه العلم بالزيت الذي يمد المصباح بالزيت الذي هو وقوده ومادة حياته، وكذلك العلم يمد الفطرة وما قام بها من نُور الإيمان بالعلم الذي هو أصل حياة القلب وصلاحه، والإخلال بهذا الأمر يؤدي إلى حرف الفطرة. ويكون الإخلال إما بإهمال العلم فينشأ الناشِئُ جاهلا، فتبقى فطرته معطلة لا تترقى في معارج الخير، ويكون إمعة متأثراً بما حوله بلا بصيرة، أو يكون الإخلال بتعلمه من غير الكتاب والسنة فيتغذى قلبه من مستنقعات الأمم الجاهلية فتتغير فطرته. ومما يتصل بالتزكية العناية بالتعليم العام ووسائل الإعلام وجعل مادتها موافقة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والاهتمام بإيجاد توافق وانسجام في مواد

_ 1 ص (405) .

التربية والتعليم والتوجيه في البيت والمدرسة والمسجد والإعلام، بقصد النهوض بالفطرة إلى كمالها الموافق لهدي الدين القويم، والمحافظة عليها وتجنبها البلبلة والحيرة والشتات. الخطوة الثانية: التطهير وتكون بالابتعاد عن وساوس الشياطين الذين يجتهدون في صد المسلمين عن موجب فطرهم من الدين والخير والفضيلة. أما شياطين الجن فإن العناية بالعلم والتربية عليه وعلى التعلق بالله كفيلة في إحباط مكرهم حيث إن جهدهم منصب على الوسوسة التي تفتك بالجهال وبمن أعرض عن الله فقلَّت حماية الله له. أما شياطين الإنس فيكون الابتعاد عنهم بقطع قنوات الاتصال بهم، كالاختلاط بهم، أو السفر إلى بلادهم ومعاشرتهم. ومن ذلك منع المسلم من الاستماع أو المشاهدة لما ينقل من رجسهم في وسائل الإعلام من تمثيليات أو أفلام أو غناء أو مجون وغير ذلك من آدابهم وفسقهم وباطلهم. فإن للعكوف على هذه المواد أثراً بالغاً في حرف الفطر وتشويهها، وخاصة ما يبث للأطفال مما يسمى بأفلام الكرتون فإن لها أثرا في تشويه ما فطروا عليه، والإيحاء إليهم بخيالات عن الذات الإلهية وغيرها من المطالب الغيبية تجعلهم يعتقدون الشرك أو التشبيه أو غير ذلك من الباطل. كما يحذر من المربيات الكافرات والمشركات والفاسقات، لما لهن

من التأثير على الأطفال بما يقصصن عليهم من القصص الباطلة الخرافية، وبما يشاهدونه من سلوكهن. وعموما فإنه كلما كان الإنسان أقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسير الأنبياء والعلماء والصالحين كان أزكى لفطرته، وانفتح لها المجال للترقي في الهداية والصلاح، وفي المقابل فإن القرب من الجاهليين من الكفرة والمشركين والفاسقين، واستماع أخبارهم وقصصهم وسيرهم وآدابهم ومعاشرتهم له أثر فعال في تغيير الفطرة أو تشويهها، وإضعاف الإيمان. وخلاصة الفائدة السادسة: أنّ المثل دل على اعتبار الفطرة السليمة في قبول الحق والتجاوب معه، وأن ذلك شرط في حصول نُور الإيمان في القلب وانتفاعه بالعلم الواصل إليه والمستمد من الوحي النازل على الرسول صلى الله عليه وسلم. وتبين من أدلة الكتاب والسنة أن الله فطر كل الناس على معرفته وتوحيده ومحبته، وجبل نفوسهم على استدعاء وقبول ما يناسب ذلك من الدين والإسلام والخير. كما تبين أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي الأصل في ثلاثة أمور هامة: (الأول) : حصول الإيمان في القلب مستلزم للفطرة السليمة والإنابة لداعيها.

(الثاني) : أن الإيمان بالقدر وفهمه فهما صحيحا يستلزم الإيمان بأن الناس ولدوا جميعا على فطرة سوية قويمة مرجحة للإيمان داعية إليه. (الثالث) أن العلم الحق الذي ينال بالنظر العقلي لابد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية. كما تبين أهمية العناية بالفطرة والمحافظة عليها بتزكيتها بالعلم المستمد من الكتاب والسنة، وتطهيرها من مكايد شياطين الإنس والجن الذين يجتهدون في إفسادها. والله أعلم.

الفائدة السابعة: أثر نُور العلم والإيمان في سلامة القلب وعلى وظيفة التعقل. تقدم1 عند الكلام على تحديد ما يقابل أجزاء الممثّل به، تقرير أن الزجاجة تقابل ما يقوم بالقلب من أعماله. بمعنى أن نُور الله في قلب المؤمن سرى وسطع على كل أعماله القلبية: من العقائد، والعواطف والإرادات، والانفعالات، وخاصة وظيفة التعقل، فاكتسب القلب لذلك البصيرة في تعقله وأعماله. فالقلب محل لأهم وظيفة أكرم الله بها الإنسان وهي التفكر والتعقل الذي هو طريق العلم والهداية بإذن الله. "ونُور الهداية الذي يقذفه الله في قلب المؤمن يحدث أثرا عظيما على وظائف القلب، أهمها توجيه وظيفة التعقل الوجهة الصحيحة، حيث يركن إلى الوحي وحده يستقي منه العقائد والشرائع، فلا يزال القلب يتعقل المعارف والحكم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فتبنى عقائده على أساس ثابت، وتغذى عواطفه بمعين الخير الصافي، ويخرج ما يضاد ذلك من ظلمات الجاهلية، ويزداد ذلك بازدياد العلم الوارد إلى القلب، فلا يزال الخير إليه واصل، والشر منه نازل حتى يصلح القلب ويستنير،

_ 1 انظر: ص (321) .

فتنبعث الجوارح بالعبودية لله عن علم به وبحقه سبحانه"1. فالله - سبحانه - أعطى الإنسان من الفطرة القويمة، والقدرة على التعقل ما يكفي لإدراك الحق ومصدره إذا عرض عليه عن طريق الأنبياء ومن يبلغ عنهم، فإذا ركن إلى ذلك كان منيباً يستحق هداية الله، كما قَال تعالى: {وَيَهْدِي إليْهِ مَنْ أَنَابَ} 2. ويشرح صدره للإسلام، ويجعل في قلبه نُور الإيمان، وبذلك تبدأ الحياة في القلب والصلاح، وتزيد بزيادة العلم المستقى من الوحي المطهر، ويصبح القلب قادرا على التعقل السوي الصحيح بقدر ما عنده من الإيمان والعلم. وهذا المعنى المستفاد من المثل وهو: أن المؤمنين - الذين أنار الله قلوبهم بنُور الإيمان القائم على العلم بما نزل من الكتاب والسنة- هم أقدر الناس وأحقهم بالتعقل الصحيح وأن ذلك من ثمرات ذلك النُور القائم في قلوبهم، هذا المعنى ورد في كثير من الآيات نحو قوله تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا

_ 1 البحث الذي قدمته لرسالة الماجستير ص 223 بعنوان [أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة] قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية عام 1412 هـ. 2 سورة الرعد آية (27) .

أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ... } 1 الآيات. وقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآئِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 2. وقد اشتركت هاتان الآيتان في بيان أمور هامة منها: 1- المقايسة بين الذين يعلمون ما أنزل الله من الوحي على نبيه صلى الله عليه وسلم وبين الجهال، وبيان عدم استوائهم. 2- بيان أثر العلم على أعمال العالمين، واشتغالهم بالأعمال والصفات التي علموا فضلها وحسن عاقبتها. 3- الإشارة إلى أن هؤلاء - أهل العلم والإيمان - هم أهل العقول الراجحة والنظر السديد والرأي الحصيف. 4- بيان أن السبب المؤثر في كل ما تقدم: من عدم استوائهم مع الجهال، ومسارعتهم في الخيرات، وتميزهم بالعقول الراجحة، إنما هو علمهم بما نزل من الوحي. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوآ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ

_ 1 سورة الرعد آية (19- 22) . 2 سورة الزمر آية (9) .

الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 1. وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَآ أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} 2. وقد دل هذان السياقان على أمور هامة منها: 1- الشهادة لأهل الإيمان - لا لغيرهم - الذين كفروا بالطاغوت، وأنابوا إلى الله بتوحيده، وإخلاص الدين له بأنهم أولو الألباب، ورد ذلك في الآية الأولى في قوله: {أولئكَ الَّذِين هَدَى الله وأولئِكَ هُم أولُوا الألبَاب} . وفي الآية الثانية بقوله: {يَآ أُولي الألبَابَ الَّذِينَ آمَنُوا} . 2- أن العقل قادر - عندما يعمل في تدبر آيات الله وما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي الذي هو أحسن القول والحديث - على المقايسة

_ 1 سورة الزمر الآيتان (17، 18) . 2 سورة الطلاق الآيتان (10، 11) .

والتمييز بين الحق والباطل والحسن والقبيح، وأن هذه الخاصية تميز بها أهل الإيمان والعلم وبها اكتسبوا الوصف بأنهم أولو الألباب. ورد هذا المعنى في قوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي أنهم يعملون عقولهم في تدبر القول الحسن وهو الوحي المطهر فيتبيّن لهم الحسن من القبيح والحق من الباطل فيتبعون الحسن. وفي قوله في الآيات الأخرى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} . وذلك أن خروجهم من الظلمات إلى النُور يكون بعد إعمالهم عقولهم في الآيات المبينات، فيتبين لهم النور من الظلمة فيسيرون في النور ويبتعدون عن الظلمات. فقدرة العقل على التمييز بين الحق والباطل في المطالب الدينية لا تكون بنظره المجرد، وإنما هي خاصية القلب المنور بنُور العلم والإيمان. وبذلك يتبين أثر نُور العلم والإيمان في زكاة القلب وسلامة تعقله وصحة استنتاجه. 3- أن ثمرة تلك العقول الراجحة الناظرة في العلوم النازلة، أنها دلت أهلها على الأعمال الصالحة، والأقوال الخيرة، والأحوال المباركة، فسارعوا إليها فاستحقوا بذلك هداية الله ورضوانه وكرامته في الدنيا

والآخرة، دل على ذلك قوله: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} وقوله: {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وقوله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ..} الآية. وخلاصة هذه الفائدة: أن المثل دل على أثر نُور العلم والإيمان على العقل حيث أكسبه سلامة التعقل، وسداد النظر، وصحة الاستنتاج. وأن الطريق إلى الحق في كل المطالب الدينية إنما يكون بإعمال العقل المستنير في الوحي النازل على الرسول صلى الله عليه وسلم لاستخلاص الحقائق والمعارف اليقينية وغيرها، وأن العقل المجرد عن العلم لا سبيل له إلى تلك الحقائق. كما دل المثل على أن النور سطع وأشرق على كل أعمال القلب ووظائفه الأخرى: من العقائد، والعواطف، والإرادات، والانفعالات فأخصبها بالخير والسلامة والصلاح.

الفائدة الثامنة: أن هذا المثل ميزان توزن به المناهج الحادثة في تعيين طريق تحصيل العلوم في المطالب الدينية. تقدم1 عند الكلام على أهمية ضرب الأمثال: أن الأمثال "موازين عقلية ضمنها الله كتابه، توزن بها القضايا التي قد يستشكلها بعض الناس، أو الحادثة التي يحصل الخلاف والنزاع والجدال حولها، فتأتي الأمثال القائمة على مقايسة تلك الأمور على ما يشابهها لإيضاح حكمها وإلحاقها بها، أو مقايستها على ما يخالفها لبيان بعدها عنها وإزالة الشُّبه التي أوهمت قربها منها". وقد دل المثل عن طريق تشبيه العلم بالزيت على أن العلم المستقى من الكتاب والسنة هو الطريق الأوحد لمعرفة القلب لحقائق الإيمان وأن بيان جميع عقائد الدين وشعائره وكل ما يتصل به ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكذلك في قوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} دل على أن نُور القرآن والسنة والعلم المستفاد منهما يغذي نور الإيمان ويزيده ويقويه. وفي قوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} دليل على أن النوريْن من الله، نُور الإيمان الذي يقذف في القلب، ونُور العلم الذي

_ 1 انظر: ص (150) .

طريقه الوحي، فمن هُدي إلى الأول، واهتدى بالثاني فقد أعطاه الله نُوراً تاماً، ومن أخطأه نُور الله فليس له من نُور بل هو في طريق من طرق الضلال سائر في الظلمات. وهذا المعنى الذي دل عليه المثل - وهو أن العلم المستقى من الوحي هو طريق الهداية ومعرفة الحقائق الدينية الشرعية - أمر معلوم من الدين بالضرورة، لم يختلف فيه أحد من الأئمة المعروفين الذين يُقتدى بقولهم السائرين على نهج السلف الصالح قديماً وحديثاً. فالإيمان إنما يكون بتعلم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم به والاعتصام بالكتاب والسنة والاستمساك بهما ويطلب الحق في جميع المطالب الشرعية منهما، وهذا هو نهج السلف الصالح وهو مفتاح الخير وأساس الهداية. لذلك كان الأصل الأول في منهج أهل السنة والجماعة السائرين على نهج السلف الصالح هو: أنهم يتلقون علومهم ومعارفهم في جميع المطالب الدينية في العقيدة والشريعة والأخلاق والآداب والمعاملات من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح وهدي الخلفاء الراشدين. وهذا المعنى تظافرت على تقريره نصوص الكتاب والسنة، من ذلك قول الله عز وجل: {إن هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي للتِي هِيَ أَقْوَم} 1.

_ 1 سورة الإسراء آية (9) .

وقوله: {قَدْ جَآءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 1. وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَآء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 2. وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 3. وقوله: {وَمَآ أَنْزَلْنَآ عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 4.

_ 1 سورة المائدة آية (16) . 2 سورة الشورى آية (52) . 3 سورة النحل آية (89) . 4 سورة النحل آية (64) .

والآيات الدالة على أن الهدى والنور والبيان إنما هو بكتاب الله عز وجل وتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى. وقد جاءت بمختلف تصاريف القول لتأكيد هذا المعنى وترسيخه لكونه مفتاح العلم والإيمان وأساس الهداية. وأما الأحاديث فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع يوم عرفة: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله"1. ويشهد له الحديث الآخر، وفيه قال: "وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به"2. وفي رواية: "ألا وإني تارك فيكم ثقلين: أحدهما: كتاب الله عز وجل، هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة"3. وقَال صلى الله عليه وسلم: "إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها

_ 1 رواه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، (ح 1218) ، (2/890) . 2 رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (ح240) ، (4/1873) . 3 رواه مسلم نفس المرجع ص (1874) .

بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"1. فحث صلى الله عليه وسلم على تعلم كتاب الله والعمل به، ثم حث على سنته وسنة الخلفاء الراشدين وحث على التمسك بها مبيناً أن ذلك هو أساس الدين وقوامه، والمخرج من الفتن، والمنقذ من الضلالات. وحذر من البدع في الدين والمحدثات مبيناً أنها طريق الضلال. ومن أعظم البدع التي حدثت بعده صلى الله عليه وسلم هي التي صرفت الناس عن تلقي العلوم من الوحي المحفوظ، وأوهمتهم بأن هناك طرقا لتحصيل المعارف اليقينية في المطالب الإلهية وغيرها من غير الكتاب والسنة، بل زعموا - وبئس ما زعموا - أن الاقتصار في تحصيلها على الكتاب والسنة قصور لا يوجب لصاحبه معرفة الحقائق. وأهم هذه الطرق الزائغة طريقان: 1- طريق النظر العقلي الذي اعتمد عليه أهل الكلام، وزعموا أنه هو طريق معرفة الله، بل وأسموه"التوحيد" زورا وبهتانا، وهو قائم على المنطق الفلسفي الأرسطي. وبالغ المتأخرون من أهل الكلام حتى جعلوا جميع العلوم من فروع

_ 1 رواه الإمام أحمد، المسند (4/126) ، والترمذي كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة، (ح2676) (5/44) ، وقال: "حديث حسن صحيح"، والحاكم في المستدرك (1/95) وقال في بعض طرقه: "هذا إسناد صحيح على شرطهما جميعاً ولا أعرف له علة".

علم الكلام، وزعموا أن النظر العقلي وما ينتج عنه، هي الميزان الذي توزن به الحجج والبراهين، ويميز به بين الصدق والكذب في الأقوال، والخير والشر في الأفعال، والحق والباطل في الاعتقادات!! 1. 2- طريق الكشف والفيض الذي اعتمد عليه أهل التصوف الغالي، وزعموا أنه هو الطريق لمعرفة كل الحقائق الدينية، وزعموا أنه نوع من الوحي الذي يحصل للقلوب الزكية. قال ابن تيمية - رحمه الله -: " ... هم إذا أعرضوا عن الأدلة الشرعية لم يبق معهم إلا طريقان: إما طريق النظار: وهي الأدلة القياسية العقلية، وإما طريق الصوفية العبادية الكشفية، وكل من جرب هاتين الطريقين عَلِمَ أن ما لا يوافق الكتاب والسنة منهما فيه من التناقض والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولهذا كان مَنْ سلك إحداهما إنما يؤول به الأمر إلى الحيرة والشك، إن كان له نوع عقل وتمييز، وإن كان جاهلا دخل في الشطح والطامات

_ 1 انظر: التقريب لحد المنطق والمدخل إليه، لمحمد بن حزم الأندلسي ص (6، 7) ، تحقيق د. إحسان عباس، دار مكتبة الحياة. ومقدمة ابن خلدون ص (908) دار الكتاب اللبناني. ومفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم لأحمد مصطفى الشهير بطاش كبرى زادة، ص (597) ، ت /كامل بكري، وعبد الوهاب أبو النور، دار الكتب الحديثة.

التي لا يصدّق بها إلا أجهل الخلق. فغاية هؤلاء الشك، وهو عدم التصديق بالحق، وغاية هؤلاء الشطح، وهو التصديق بالباطل، والأول يشبه حال اليهود، والثاني يشبه حال النصارى"1. ولا شك أن هذين الطريقين من أعظم البدع المضلة، إذ هما صد عن سبيل الله وصرف للناس عن العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أصل الهدى والنور ومنبع المعارف والعلوم المصلحة للقلوب والأعمال الموجبة لزيادة الإيمان وتحصيل رضى الرحمن، قال الله عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَآهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُوآ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} 2. قال ابن تيمية - رحمه الله - بعد أن ذكر الطريقين:

_ 1 درء تعارض العقل والنقل، (5/345) . 2 سورة الأنعام آية (155- 157) .

"وهذان أصلان للإلحاد"1. وذلك أن كل ميل وانحراف وضلال حصل في الأمة فمرده إلى أحد هذين الطريقين فهما أصلان للضلال والإلحاد. ثم قال - رحمه الله -: " وحقيقة الأمر أنه لا بد من الأمرين، فلا بد من العلم والقصد. ولا بد من العلم والعمل به. ومن عمل بما يعلم ورَّثه الله علم ما لم يعلم. والعبد عليه واجبات في هذا وهذا، فلا بدّ من أداء الوجبات. ولا بد أن يكون كل منهما موافقاً لما جاء به الرسول، فمن أقبل على طريقة النظر والعلم، من غير متابعة للسنة، ولا عمل بالعلم، كان ضالاً في علمه، غاويا في عمله. ومن سلك طريق الإرادة والعبادة، والزهد والرياضة، من غير متابعة للسنة، ولا علم ينبني العمل عليه، كان ضالاً غاويا، ... فمن خرج عن موجب الكتاب والسنة من هؤلاء وهؤلاء كان ضالاً، وإذا لم يعمل بعلمه، أو عمل بغير علم، كان ذاك فساداً ثانياً. والذين لم يعتصموا بالكتاب والسنة من أهل الأحوال والعبادات، والرياضات والمجاهدات، ضلالهم أعظم من ضلال من لم يعتصم بالكتاب والسنة من أهل الأقوال والعلم، وإن كان قد يكون في هؤلاء من الغيَّ ما

_ 1 درء تعارض العقل والنقل، (5/348) .

ليس فيهم، فإنهم يدخلون في أنواع من الخيالات الفاسدة، والأحوال الشيطانية المناسبة لطريقهم. كما قال تعالى: {هلْ أُنَبئُكُمْ عَلى مَن تَنَّزلُ الشَّيَاطينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثيمٍ} 1. والإنسان همام حارث، فمن لم يكن همه وعمله ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كان همه وعمله مما لا يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والأحوال نتائج الأعمال، فيكون ما يحصل لهم بحسب ذلك العمل، وكثيرا ما تتخيل له أمور يظنها موجودة في الخارج ولا تكون إلا في نفسه، فيسمع خطابا يكون من الشيطان أو من نفسه، يظنه من الله تعالى، حتى أن أحدهم يظن أنه يرى الله بعينه، وأنه يسمع كلامه بأذنه من خارج، كما سمعه موسى بن عمران. ومنهم من يكون ما يراه شياطين وما يسمعه كلامهم، وهو يظنه من كرامات الأولياء، وهذا باب واسع لبسطه موضع آخر"2. الرازي ومنهج المتكلمين: وقد تولى كبر زخرفة المنهج العقلاني محمد بن عمر الرازي3

_ 1 سورة الشعراء الآيتان (221، 222) . 2 درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، ت: د. محمد رشاد سالم، (5/351) . 3 أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين القرشي الرازي، يلقب بابن الخطيب، ولد سنة 543هـ، كان مضطرب الديانة كثير الحيرة، ينتسب إلى المذهب الشافعي، والعقيدة الأشعرية المبتدعة، إلا أنه أقرب إلى دين الفلاسفة، وقد رمي بالتشيع، كانت أغلب مؤلفاته في الفلسفة، وعلم الكلام، والرياضة، والطب، والسحر والتنجيم والرمل، وألف في أصول الفقه، وله في التفسير كتاب مشهور هو التفسير الكبير، ضمنه كثيرا من باطله، قال عنه بعض العلماء:"فيه كل شيء إلا التفسير"، وقال أبو شامة المقدسي: "كان الرازي يقرر في مسائل كثيرة مذاهب الخصوم وشبههم بأتم عبارة، فإذا جاء الأجوبة اقتنع بالإشارة"، وقَال الشهرزوري:"إن الإمام الرازي شيخ مسكين متحير في مذاهب الجاهلية التي تخبط فيها خبط عشواء"، وقال ابن جبير: "دخلت الري فوجدت ابن خطيبها قد التفت عن السنة وأشغلهم بكتب ابن سينا وأرسطو". وقال الحافظ الذهبي: "الفخر بن الخطيب، صاحب التصانيف، رأس في الذكاء والعقليات، لكنه عري من الآثار، وله تشكيكات في مسائل من دعائم الدين تورث حيرة". وقد تصدى له شيخ الإسلام ابن تيمية ورد على ضلالاته بالتفصيل في كتابه: نقض التأسيس، ودرء تعارض العقل والنقل، وغيرها، توفي الرازي سنة 606 هـ. انظر: ميزان الاعتدال، للذهبي، (3/340) وفخر الدين الرازي وآراؤه الفلسفية والكلامية، د. محمد صالح الزركان، ومقدمة كتاب القضاء والقدر للرازي، (11-26) .

الملقب بفخر الدين1! حيث حشد الشبهات، ولبس الحق بالباطل ليقنع

_ 1 إطلاق مثل هذه الألقاب على أمثال هؤلاء يؤدي إلى اغترار الناس وإحسانهم الظن بهم، مما يساعد على انتشار باطلهم.

من يطلع على أقواله بأن القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم لا يدلان على الحق في المطالب اليقينية المتصلة بالعقائد وخاصة معرفة أسماء الله وصفاته والقدر، وأن الطريق إلى معرفة ذلك إنما يكون بالدلائل العقلية. ويزعم أن التمسك بالدلائل اللفظية - نصوص الكتاب والسنة - في المطالب اليقينية - معرفة أسماء الله وصفاته والقدر ونحوها - باطل قطعاً.1 ويقول في مسألة الإيمان بالقدر: "إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين، وهذه المسألة يقينية، فوجب أن لا يجوز التمسك فيها بالدلائل السمعية"2.3 وعنده أن نصوص الكتاب والسنة لا تفيد اليقين لأن الصحابة الذين بلغوها مطعون فيهم، وقد حشد الشبهات والتلبيسات التي يسميها أدلة لتلفيق القدح والطعن في خيار الصحابة وأمهات المؤمنين الذين بلّغوا الدين، ليتوصل بذلك إلى التشكيك في رواياتهم للقرآن والأحاديث.4

_ 1 انظر: كتاب القضاء والقدر، لمحمد بن عمر الرازي، ص (106) ت /محمد المعتصم بالله، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1410 هـ. 2 "الدلائل السمعية"، "الدلائل اللفظية"، "السمع": تعابير يراد بها نصوص الكتاب والسنة التي مدارها على التعلم والخبر الذي يكون باللفظ والسمع. 3 كتاب القضاء والقدر، للرازي، ص (105) . 4 نفس المصدر ص (174 - 176) .

ويزعم أن القرآن مشتمل على التناقض، وآياته يعارض بعضها بعضا.1 ويزعم أن الميزان الذي يجب الرد إليه عند الاختلاف والنزاع هي الدلائل العقلية، ويقول بعد أن ذكر الآيات التي تمسك بها المعتزلة على مذهبهم في القدر: "والمعتمد لنا في الجواب عن الكل: أن الأخبار التي تمسكنا بها على صحة قولنا معارضة لهذه الأخبار، ولما تعارضت الأخبار وجب الرجوع إلى دلائل العقل"2.3

_ 1 كتاب القضاء والقدر للرازي، ص (115، 299) . 2 نفس المصدر، ص (299) . 3 الحق أن هذه النتيجة العقلية التي توصل بها إلى إسقاط نصوص الكتاب والسنة من أن تكون ميزاناً وفرقاناً يكشف الحق من الباطل في المسائل العقدية، لهي من أصدق وأوضح الأدلة على تخبطه في نظره وقياسه، وذلك أنه زعم أن نصوص القرآن متعارضة لأنها تدل تارة على الجبر وأخرى على قدرة العبد على فعله واختياره، ثم رتب على ذلك أنها لما تعارضت تساقطت فوجب الرجوع إلى الدلائل العقلية، ولو أنه نظر نظرا صحيحا لعكس الدليل ولقال: تبين لنا أن دلائلنا العقلية على هذه المطالب معارضة لدلائلهم العقلية فوجب إسقاطها والرجوع إلى دلائل الكتاب المحفوظ الذي {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية 42] ، ولتوصل إلى نتيجة يشهد لها العقل السليم والوحي المنزل حيث قال سبحانه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية 59] ، ولكن سوء ظنه بالله وبكتابه وبرسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام أورده المهالك وقد قال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النُور آية 40] .

الغزالي وطريق الكشف الصوفي: لقد تولى أبو حامد الغزالي كبر زخرفة طريق الكشف والفيض، القائم على أن السبيل إلى الحقائق إنما يكون برياضة النفوس فتنكشف لها الحقائق انكشافاً. فهو يزعم أن النفوس إذا قطعت علائقها بالدنيا بالزهد والرياضة فإنها تنكشف لها أسرار الملكوت فتعلم الغيب وتنكشف لها الحقائق.1 ويزعم أن معرفة الحق لا تكون بالسمع - نصوص الكتاب والسنة - ولا بالتعليم، وأن من يقتصر في طلبه للحق على الكتاب والسنة دون طريق الكشف فإنه لا يستقر له قدم في معرفة الحق.2 بل ويزعم أن الأنبياء وأئمة الدين لم يتلقوا العلم بالتعليم، وإنما بالرياضة والزهد والتصفية التي هي الوسيلة للكشف والفيض.3

_ 1 انظر: مشكاة الأنوار، ص (80) . 2 انظر: ميزان العمل لأبي حامد الغزالي ص (46-48) والإحياء (1/110) . 3 انظر: إحياء علوم الدين، (3/19) .

ويزعم - وبئس ما زعم - أن ما يقذف في القلوب عن طريق الكشف والفيض في النفوس الخالية من العلم بالكتاب والسنة، هو الميزان الذي توزن به نصوص الكتاب والسنة. فما وافق ما فيها قُبل ويؤمن به على ظاهره، وما خالفها فإن ظاهره باطل يجب تأويله حيث قال: "وحد الاقتصاد ... دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنُور إلهي لا بالسماع1، ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة، فما وافق ما شاهدوه بنُور اليقين قرروه وما خالف أولوه، فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد فلا يستقر له فيها قدم، ولا يتعين له موقف"2. ومع زعمه أن تعلم القرآن الكريم ليس طريقا للمعرفة وتحصيل العلوم فإنه يرى أنه ليس من الأذكار التي تفيد في تزكية النفوس وصقلها. وقد أورد في كتابه: [ميزان العمل] نصيحة مُقَدَّم فيهم مَنَعَه من قراءة القرآن ودله على ملازمة الأذكار المبتدعة. كما يزعم أن القرآن يشغل المريد بذكر الجنة، والمريد الذاهب

_ 1 يقصد بالسماع هنا: نصوص الكتاب والسنة، كما عبر عنها أيضا بلفظ: "السمع"، "الألفاظ الواردة"، ولفظ السماع غالبا ما يطلق في اصطلاحات المتكلمين والمتصوفة ويراد به الغناء بإنشاد الأشعار الملحنة مع الدفوف ونحوها. 2 إحياء علوم الدين، (1/110) .

إلى الله - بزعمه - لا ينبغي أن يلتفت إلى الجنة ورياضها.1 فهو بهذه الأقوال يحاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من عدة جهات: فمن جهة أنكر أن يكون الكتاب والسنة أصلاً لتلقي العلوم ابتداء، ومن جهة أخرى أنكر أن يكونا ميزاناً يرجع إليه عند الاختلاف. ومن جهة ثالثة أنكر أن تكون قراءة القرآن ذكرا نافعا في تزكية النفوس. ومن مزاعمه الشنيعة: أن تزكية النفوس وتصفيتها وصقلها تمهيداً لانطباع الحقائق فيها، وانكشاف سر الملكوت لها - هو نوع من الوحي الذي يحصل للأنبياء. فالوحي عنده مكتسب وليس اصطفاء واختياراً من الله، كما أنه يرى أنه لم ينقطع بل هو متاح لكل من جاهد نفسه وراضها وصفّاها. وقد وصل به التخبط والضلال إلى أن زعم أن سماع الغناء - الأشعار الغزلية الملحنة، التي يناجي فيها الحبيب حبيبه بالأصوات المطربة والدفوف المصلصلة - أنفع لمن يريد وجه الله من قراءة القرآن وتعلمه، وزخرف ذلك بسبعة أوجه ذكرها في كتابه [إحياء علوم

_ 1 انظر: ميزان العمل ص (46-48) ، وكتاب الأربعين في أصول الدين للغزالي ص (65، 66) .

الدين] 1! {بئس للظالمين بدلاً} . بدأ ذلك بقوله: "فاعلم أن الغناء أشد تهييجاً للوجد من القرآن من سبعة أوجه" ثم ذكرها. ومن ذلك قوله في الوجه الأول: "إن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه، وتنزيله على ما هو ملابس له، فمن استولى عليه حزن أو شوق أو ندم فمن أين يناسب حاله قوله تعالى {يُوصِيِكُمُ اللهُ فِي أوْلادِكُم للذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأنثيين} 2، وقوله تعالى: {وَالَّذِين يَرْمونَ المحْصَنات} 3، وكذلك جميع الآيات التي فيها بيان أحكام الميراث والطلاق والحدود وغيرها، وإنما المحرك لما في القلب ما يناسبه، والأبيات إنما يضعها الشعراء إعرابا بها عن أحوال القلب، فلا يحتاج في فهم الحال منها إلى تكلف". "الألحان الطيبة مناسبة للطباع ... فإذا علقت الألحان والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف شاكل بعضها بعضا كان أقرب

_ 1 إحياء علوم الدين (2/298-301) . 2 سورة النساء آية (11) . 3 سورة النُور آية (4) .

إلى الحظوظ، وأخف على القلوب لمشاكلة المخلوق للمخلوق ... فانبساطنا لمشاهدة بقاء هذه الحظوظ إلى القصائد أولى من انبساطنا إلى كلام الله"1. ولم يزل به هذا المنهج الذي تحمس له، وذلك الظن السّيّئ الذي ظنه بالله وبكتابه حتى أوقعه في الطامة الكبرى الشرك. قال أبو بكر بن العربي: قال لي [يعني أبا حامد الغزالي] بلفظه، وكتبه لي بخطه: "إن القلب إذا تطهر من علاقة البدن المحسوس، وتجرد للمعقول، انكشفت له الحقائق ... وقد تقوى النفس، ويصفو القلب حتى يؤثر في العوالم، فإن للنفس قوة تأثير موجدة ... وقد تزيد قوتها بصفائها واستعدادها، فتعتقد إنزال الغيث، وإنبات النبات، ونحو ذلك من معجزات خارقات للعادات، فإذا نطقت به كان على نحوه.."2. ولا يسعنا أمام هذا الكلام إلا أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم!! {كبرَتْ كَلِمَة تخْرُجُ من أَفْوَاهِهم إن يَقُولونَ إلا كَذِبا} 3. سبحان الله ما ظن هذا المفتري برب العالمين حين جعل له شركاء

_ 1 إحياء علوم الدين، (2/298، 301) . 2 آراء أبي بكر بن العربي الكلامية، (العواصم من القواصم) (2/30-33) . 3 سورة الكهف آية (5)

في ملكه وتدبيره! ونسب إلى المخلوقين أمورا من الشرك لم تصل إليها جاهلية العرب الذين حاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يثبتون أن الله هو المتصرف بأحوال العالم وفي إنزال الغيث وإنبات النبات، لا يشركون معه غيره في ذلك، لذلك ألزمهم بتوحيدهم له في ربوبيته بوجوب توحيدهم له في ألوهيته وعبادته، فكما أنه لا شريك له في ملكه وتدبيره فكذلك لا شريك له في العبودية. قال الله تعالى مبينا إقرار كفار العرب بتصرفه في العوالم: {وَلَئن سَألتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّموَات وَالأَرْض وَسَخَّر الشَّمسَ وَالقمَرَ ليَقُولُن الله فَأَنى يُؤْفَكُون} 1. وقال في بيان إقرارهم له في إنزال المطر وإنبات النبات: {وَلَئن سَألتَهُمْ مَنْ نزل مِنَ السَّماء مَاء فَأحيا بِه الأَرضَ من بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولن الله قل الحَمدُ لله بَلْ أكثرُهم لا يَعْقِلُونَ} 2. فإذا كانوا مع شركهم لم يبلغ بهم أن ينسبوا هذه الأمور لغير الله، فما بالك بمن زاد عليهم في ذلك وبلغ ما لم يبلغوه! وأثبت لله شريكا في ربوبيته وتدبيره! تعالى الله عن ذلك.

_ 1 سورة العنكبوت آية (61) 2 سورة العنكبوت آية (63) .

وليس المراد استقصاء أخطائه، ولكن بيان أن كل من أعرض عن الكتاب والسنة وقع في التخبط والضلال. قال ابن تيمية - رحمه الله -: " ... إن هؤلاء مع إلحادهم، وإعراضهم عن الرسول وتلقي الهدى من طريقه، وعزله في المعنى، هم متناقضون في قول مختلف يؤفك عنه من أفك، فكل من أعرض عن الطريقة السلفية النبوية الشرعية الإلهية، فإنه لا بد أن يضل ويتناقض، ويبقى في الجهل المركب أو البسيط"1. وزن هذه المناهج المحدثة بميزان المثَل: والمقصود هنا هو بيان أن هذا المثل {مَثَلُ نُوره كمشْكَاة} يبطل هذه المناهج المحدثة - منهج العقلانيين المتكلمين، ومنهج الصوفيين القائلين بالكشف والفيض - من وجوه عديدة أهمها: أولاً: أن المثل دل على أن نُور المصباح يشعل ويوقد في الفتيلة الصالحة التي يسري فيها الوقود الجيد. وكذلك نُور الإيمان يقذفه الله في القلوب المؤمنة. وغير المؤمنة لا يكون فيها نُور. وهذا يبطل زعم القائلين بالكشف والفيض، فإنهم يزعمون أن النور يتجلى في كل قلب بمجرد التصفية، وأن ذلك سنة جارية ممكنة لكل أحد

_ 1 درء تعارض العقل والنقل، (5/356) .

دون اختيار واصطفاء من الله لمن يُعطى النور أو يحرم. وواضح من المشبه به وهو المصباح أن نُوره طارئ بفعل غيره، لا يتقد ويضيء إلا إذا أوقد وأشعل وقد توفرت الفتيلة الصالحة والوقود الجيد. فالله سبحانه شبه نُوره: بمشكاة فيها مصباح، وهم شبهوه: بانعكاس في مرآة1، وفرق كبير بين التشبيهين. والحق بلا شك هو ما ورد عن رب العالمين خالق الإنسان ومعطي النور، وما خالفه فهو الباطل قطعا. وهذا الاعتبار - والله أعلم - هو الذي جعل أبا حامد الغزالي يلجأ إلى تزييف آخر أقرب بزعمه إلى صورة المثل إلا أنه أبعد في الضلال. "نعوذ بالله من الخذلان". ورد ذلك في كتابه الذي خصصه للكلام على هذا المثل من سورة " النور " {مثلُ نُُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وأسماه: [مشكاة الأنوار] .2 وزعم فيه أن في قلوب الناس نُورا هو جزء من نُور الله.3

_ 1 انظر: مختصر إحياء علوم الدين للغزالي، ص (147) مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ. 2 تقدم التعريف بالكتاب ص (333، 334) المتن والهامش. 3 انظر: مشكاة الأنوار ص (60) ، وانظر: تصدير المحقق، ص (14) .

وأن هذا النور قد يحجب بالغفلة والمعاصي والتعلق بالدنيا، والتصفية - على مذهبه - تصقل القلب فيتجلى هذا النور، وهذا القول هو الذي قربه إلى قول أصحاب وحدة الوجود1، حيث زعم أن النور الذي في قلوب الناس هو جزء إلهي من نُور ذات الله - عز وجل - تعالى عما يقوله المبطلون. وهذا الزعم الأخير باطل بدلالة المثل أيضاً، حيث أن الله شبه نُوره بنُور مصباح يقبل الإيقاد، ويطفأ إذا قطع عنه الزيت أو تعرض لما يوجب انطفاءه، ويوجد عند من اصطفاهم الله للإيمان ولا يوجد عند الكفار. أما على قوله فالنور يستوي فيه البشر وهو لا يتقد أو ينطفئ وإنما يحجب بحجاب كما أن نُور ذات الله محجوب بالحجاب. وهذا التخبط والضلال يصدق عليه قول الله تعالى: {وَلَو كَانَ مِن عِنْد غَيْر الله لَوَجَدوا فِيه اخْتِلافاً كَثِيراً} 2. ثانياً: دل المثل على أن النور مركب من نُور المصباح الموقد في الفتيلة، ونُور الوقود الجيد الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، وهذا يقابل نُور الإيمان الذي يقذفه الله في القلب، ونُور العلم الذي يمده {نُّورٌ

_ 1 انظر ما تقدم ص (221) . بالهامش 2 سورة النساء آية (82) .

عَلَى نُورٍ} . وهذا الاعتبار يرد على كلتا الطائفتين - المتكلمين العقلانيين، والمتصوفة القائلين بالكشف - حيث عطلوا أثر العلم بالكتاب والسنة في تحصيل المطالب اليقينية، فهم بمثابة من قطع الزيت عن المصباح، فأنطفأ وأظلم، وقد يحرق الفتيلة. وكذلك القلب إذا قطع عنه العلم فإنه يظلم ويعمى، وقد تفسد فطرته، وكل ما يقوم به بعد ذلك فهو ضلالات وأوهام. ثالثاً: دل المثل على أن صحة التعقل وسلامته مستفادة من النور الذي أشرق في القلب من الإيمان والعلم، وذلك أن الزجاجة في المصباح تقابل الوظائف القائمة بالقلب كما دل عليه الاعتبار بالمثل المتقدم1. والنور ينبعث من المصباح وينير الزجاجة، ثم ينفذ من خلالها إلى الخارج فيبصر صاحب المصباح بقلبه المستنير مواطن الخير والشر والهدى والضلال. والذي لم يتعلم العلم الشرعي فإن نُور قلبه ضعيف - إن كان مسلماً - أو قلبه مظلم إن لم يكن مسلماً، فالعلم بالوحي مؤثر في العقل ينير له الطريق.

_ 1 تقدم ص (321) .

وقد تقدم1 ذكر النصوص الدالة على أن العقول المؤهلة للتذكر والاعتبار هي عقول أهل الإيمان المستنيرة بنُور العلم المستفاد من الوحي، والعمل به، كما في قوله سبحانه: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} 2. وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَآ أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 3. حيث دلت هاتان الآيتان على أن المؤمنين العالمين بما أنزل الله من الذكر هم أولو الألباب الذين استنارت قلوبهم بنُور الإيمان والعلم فنفعهم ذلك في إعمال عقولهم في تدبر آيات الله المتلوة والتفكر في آيات الله المشاهدة والانتفاع من ذلك.

_ 1 تقدم ص (414) . 2 سورة الرعد آية (16) . 3 سورة الطلاق آية (10)

وهذا الاعتبار يرد قول المتكلمين الذين زعموا أن النظر العقلي المجرد عن نُور العلم والإيمان تعرف به الحقائق والخير والهدى من ضدها، وعلى قولهم يكون العقل ينير القلب، وهذا قلب وعكْس لمدلول المثل والبيان الإلهي فيكون باطلاً قطعا. والحق أن العقل يستنير بالعلم، وذلك أن العلم النازل من الله في نصوص الوحي يبين الحق من الباطل، والهدى من الضلال، بأحكام معلقة بأوصاف ومعالم وأمثال، والعقل يتعرف عليها ويتحقق من وجودها في الأعيان والمعاني ويلحق بها الأحكام. ومثال ذلك: قائد السيارة في الظلماء فإنه يحتاج إلى إنارة المصابيح، والمصابيح مثال نُور العلم، وقائد السيارة مثال العقل، فالمصباح ينير للقائد والقائد يتعرف به على مواقع الطريق ويتقي أخطاره. وقد قلت في ذلك: [ملف الجداول] علمُ الفتى بالله أَصْلُ حَياته وَربيعُ قلبِ العَبد حُبُ الأوحدِ والعلمُ نُور للفتى في دَرْبه والعقلُ يحكم سَيره ويسدد رابعاً: ورد في سياق المثل ما يدل على أن الطريق لحصول نُور الله واحد هو ما دل عليه المثل، وذلك في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .

وفائدة هذا الاعتبار: أن يُعلم أن من زعم أن لديه نُورا من غير هذا الطريق فهو ليس بنُور إلهي بل سراب خادع مُلْهٍ. وكل نتيجة لم يستنر صاحبها بنُور العلم الواصل من طريق الأنبياء فهي أوهام وضلالات وظلمات. وحالهم في حيرتهم وظلمة قلوبهم كما صورها الله بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1. خلاصة هذه الفائدة: أن هذا المثل ميزان توزن به المناهج الحادثة المبتدعة في منهج تلقي الحقائق اليقينية في المطالب الدينية، وقد تبين أنه يبطل ويرد ما أحدث من ذلك من طريقة المتكلمين الزاعمين أن الحق في المطالب اليقينية طريقة الدلائل العقلية المستفادة من النظر العقلي، وطريق القائلين بالكشف والفيض الزاعمين أن اليقين يفيض على القلوب فيضاً دون تعلم أو نظر.

_ 1 سورة النور آية (40) .

كما تبين خلال هذا العرض ما وقع فيه البارزون من هؤلاء من الضلال والاختلاف والتناقض بسبب إعراضهم عن نُور العلم الإلهي وهدي النبي صلى الله عليه وسلم واقتحامهم لتلك المناهج المتخبطة المظلمة.

المبحث الخامس: خلاصة دراسة مثل النور

المبحث الخامس: خلاصة دراسة مثل النور. بعد هذه المسايرة الطويلة لهذا المثل الهام الوارد في سورة " النور " في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الآية، والذي استغرق هذا الفصل كاملا، أخلص إلى النتائج الآتية: أولا: أن هذا المثل بين أصولا هامة تتعلق بحصول الإيمان في القلب وزيادته، وعلاقتها ببعضها، وهي: 1- فعل الله بالتوفيق للإيمان وقذفه في قلوب عباده الذي شاء هدايتهم، وعلاقة ذلك بالفطرة السليمة حيث شبه فعله سبحانه الذي يشرح به صدر من أراد هدايته للإسلام بإيقاد المصباح، والنور الحاصل من ذلك بنُور المصباح، والفتيلة الصالحة تقابلها الفطرة السوية. 2- أثر العلم الواصل للقلب في بناء العقائد الإيمانية في القلب وفي زيادتها، وزيادة نُور القلب وبصيرته، حيث شبه العلم بالزيت الذي يمد المصباح بالوقود، وكيف أن زيادته وجودته تؤثر في قوة الإضاءة وصفائها، وكذلك نُور القلب يزيد بزيادة العلم المستقى من الوحي المطهر ويصفو بخلوصه من العلوم الدخيلة. 3- أثر هذا النور المركب من نُور العلم والإيمان في سلامة القلب وبصيرته وسلامة تعقله، وصلاح جميع أعماله حيث شبهت أعمال القلب واستنارتها بنُوره بالزجاجة التي تنعكس عليها الأشعة من المصباح فتتلألأ

عليها فتنفذ من خلالها إلى الخارج، فتضيء الطريق لصاحب المصباح، فيمشي بالنور في الناس مشيا سديداً رشيداً. 4- أن هذا المثل بين الأصل الأول من أصول أهل السنة والجماعة المتعلق بمنهج التلقي حيث دل على أن العلوم والمعارف المتعلقة بالمطالب الدينية إنما تؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بتشبيه العلم بما نزل من الوحي بالزيت الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار. وقوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} حيث أجمع المفسرون على أن أحد النورين هو نُور القرآن والعلم، وحيث بدأ السياق بقوله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} . وهذا كله يدل على أن نُور الله لا يكمل في القلب إلا إذا غذي بالعلم بالكتاب والسنة. ثانيا: دل المثل على فوائد أخرى هامة: 1- إثبات "النور" اسماً من أسماء الله وصفة من صفاته. 2- دلالة المثل على أن للإيمان والعلم نُورا حقيقيا. 3- دلالة المثل على إعداد الله الإنسان بالفطرة السليمة، واستدعائها لنور الإيمان. 4- دل سياق المثل على أثر النور والبصيرة على أعمال المؤمنين حيث كشف لهم معالي الأمور، وصالح الأعمال ومحاسن الأخلاق

فلازموها ولم يشتغلوا عنها بما هو دونها من أمور الدنيا، وذلك في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ ... } الآيات. ثالثا: أن هذا المثل ميزان توزن به المناهج الحادثة في بيان الطريق لتلقي الحق في المطالب اليقينية الدينية، كطريقة المتكلمين الذين زعموا أن الطريق لمعرفة ذلك إنما هي الدلائل العقلية، وليس أدلة الكتاب والسنة، وطريقة المتصوفة القائلين بأن الطريق لمعرفة الحق في كل المطالب إنما هو الكشف والفيض دون تعلم أو نظر عقلي، واعتبار المثل يبطل هذه المزاعم الضالة. والله أعلم.

الفصل الثاني: المثلان المضروبان لأعمال الكفار من سورة النور

الفصل الثاني: المثلان المضروبان لأعمال الكفار من سورة النور المبحث الأول: دلالة السياق الذي ورد فيه المثلان ... المبحث الأول: دلالة السياق الذي ورد فيه المثلان. ورد هذان المثلان في سورة النور في سياق المثل الذي ضربه اللَّه لنوره في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ....} الآية. حيث بين سبحانه بهذا المثل نوره الذي يجعله في قلب عبده المؤمن وأثر ذلك النور في استنارة القلب وبصيرته في كل وظائفه وخاصة تعقله، مما يجعل المؤمن بسبب ذلك يمشي في الناس على بصيرة من أمره، كما قال عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. ثم أتبع ذلك - سبحانه وتعالى - بذكر أثر النور على أعمالهم حيث رأوا به محاسن الأعمال فلازموها ولم يشتغلوا عنها بما دونها، وكيف أن اللَّه قبل أعمالهم التي دلهم عليها نور العلم ودلهم على أسباب صلاحها وصحتها، وأثابهم عليها أحسن الثواب، حيث قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا

_ 1 سورة الأنعام الآية رقم (122) .

تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّه أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّه يَرْزُقُ مَنْ يَشَآء بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1. وبعد ذلك بين ما يضاد ذلك ويقابله من حال الكفار الذين لم يجعل اللَّه لهم نوراً لأنهم لا يستحقونه لعدم مجيئهم بسببه - وهو الإنابة والاهتداء - وما نتج عن ذلك من ضلال أعمالهم وظلمتها وعدم انتفاعهم بها في الآخرة. وضرب لذلك مثلين: في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّه سَرِيعُ الحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 2. فذكر - سبحانه - في هذين المثلين ما يخص الكافرين في مقابل ما ذكر في المثل الأول مما يخص المؤمنين، "وبضدها تتبين الأشياء". وبعد ذلك بين اللَّه تعالى أنه هو المستحق للحمد والثناء وأن ذلك

_ 1 سورة النور الآيات رقم (36-38) . 2 سورة النور الآيتان رقم (39-40) .

متحقق في خلقه حيث {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 1. إذ هو سبحانه الذي له ملك السموات والأرض وإليه مصير جميع الخلائق، فهو إذاً مستغنٍ عن هؤلاء المعرضين الكافرين المستكبرين، وهم المحتاجون إليه وهو الغني الحميد. ثم ذكر بعض الآيات الكونية الدالة على تفرده بالملك والتدبير، وعلى قدرته الشاملة والتي تستلزم - لمن تأملها وتفكر فيها - الإِيمان باللَّه وعبادته وحده، وهي كافية لهداية أولئك الكافرين الضاربين في الظلمات، وبمقدورهم الانتفاع والاعتبار بها إلا أن حالهم كما بينها ربنا بقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} 2. والواقع يبين أن الذين ينتفعون بهذه الآيات ويعتبرون، هم الذين أعطاهم اللَّه ذلك النور فأبصرت قلوبهم. أشار إلى ذلك بقوله في سياق المثلين: {يُقَلِّبُ اللَّه اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} 3.

_ 1 سورة النور الآية رقم (41) . 2 سورة الأعراف الآية رقم (146) . 3 سورة النور الآية رقم (44) .

ثم ختم السياق بما بدأ به فقال: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. وقد قال في بداية السياق: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} 2. وهذه الطريقة - وهي أن يبدأ السياق الذي يضم جملة من الآيات، ويختم بنفس المعنى مع التقارب في الألفاظ - له دلالة هامة، حيث يدل على أن ما بين الآيتين - المبدوء والمختوم بها - يتكلم عن قضية واحدة، أو أن ما يذكر في ذلك السياق له علاقة بالمعنى المشترك بين آيتي البدء والختام. وهذه الطريقة من روائع البيان القرآني، وقد تكررت في القرآن في مواضع لبيان قضايا هامة، من ذلك مثلاً: قوله اللَّه تعالى: {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً} 3، ثم ذكر جملة من الشرائع والآداب والنهي عن المحرمات وسيئ الأخلاق،

_ 1 سورة النور الآية رقم (46) . 2 سورة النور الآية رقم (34) . 3 سورة الإسراء الآية رقم (22) .

ثم ختم السياق بقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} 1. وذكر بعض المفسرين أن الحكمة من البداية بهذه الآية والختم بها إنما هي ليشعر أن هذه الأعمال المذكورة بين الآيتين لا تكون عبادة مقبولة إلا إذا كانت خالصة لا يقصد بها غير اللَّه.2 ومن ذلك قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَآءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّه وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّه مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} 3. إلى أن قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّه وَاليَوْمَ الآخِرَ ... } 4. ومن ذلك قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ

_ 1 سورة الإسراء الآية رقم (39) . 2 انظر: التفسير الكبير للرازي، (10/214) ، دار أحياء التراث العربي ط3. 3 سورة الممتحنة الآية رقم (4) . 4 سورة الممتحنة الآية رقم (6) .

عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ... } 1 ثم قال بعد عدد من الآيات: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّه يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} 2. وهذا الأسلوب جدير بأن يُراعى في التفسير على أساس أن ما بين الآيتين المبدوء والمختوم بهما، يتكلم عن قضية واحدة، أو له علاقة بالمعنى الذي دلت عليه آيتَا البدء والختام. وعلى هذا يكون السياق - في سورة النور - الذي بُدِئَ بقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} الآية، وختم بقوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، يقرر قضية واحدة وما يتصل بها، هذه القضية هي ما دلت عليه آيتا البدء والختام من نزول الآيات المبينات للعلم والحق في نصوص الكتاب والسنة، وأثر ذلك في الهداية والاتعاظ، وفي حصول النور في قلوب المؤمنين، وصحة أعمالهم وانتفاعهم بها، وما يضاد ذلك من حال الكفار الذين أعرضوا عن العلم وفقدوا نوره، وأثر ذلك في ظلمة قلوبهم

_ 1 سورة الروم الآية رقم (30) . 2 سورة الروم الآية رقم (43) .

وضلال أعمالهم وعدم انتفاعهم بها، وغير ذلك من الأمور التي لها اتصال بالعلم والهداية. وقد جمع اللَّه بين العلم، وما رتب عليه من الهداية، في آية الختام، كالتلخيص لما تقدم، حيث قال: {لَقَدْ أَنْزَلْنَآ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . والذي يتلخص لنا من دلالة السياق الذي وردت فيه الأمثال الثلاثة في سورة "النور" هو: أن اللَّه عز وجل بين في سياق المثل الأول أمرين بارزين وذكر ما يقابلهما في المثلين الآخرين. فالأمران اللذان دل عليهما سياق مثل النور، هما: 1- وجود النور الحقيقي المركب من نور الإِيمان ونور العلم في قلوب المؤمنين، وأنه من اللَّه - عز وجل - توفيقاً وإمداداً، وسببه من المؤمنين إنابة واستجابة لما نزل من العلم بالوحي المطهر، وأثر ذلك النور في استنارة قلوبهم وبصيرتها، وصلاح أعمالها ووظائفها، وصحة إراداتها. 2- أثر نور العلم والإِيمان القائم في قلوب المؤمنين على أعمالهم وسلوكهم من جهتين: - من جهة كشف لهم الأعمال الحسنة العالية المقربة إلى اللَّه فتوجهوا إليها، وحافظوا عليها.

- ومن جهة كشف لهم كيف يؤدونها على الوجه المشروع مما جعلها مقبولة عند اللَّه يجزيهم عليها أحسن الجزاء. وبيّن ما يقابل هذين المعنييْن عند الكفار بمثلين هما: مثل السراب، ومثل الظلمات، حيث إن كل مثل بيّن أعمال فريق من الكفار التي عملوها في ظلمة الكفر، وصور الكيفية التي أعرض بها كل فريق عن العلم الذي تضمنه وحي اللَّه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وأثر ذلك الإِعراض في ضلال أعمالهم. والمعنى الرئيسي المشترك بين المثلين، والذي يقابل المعنى المستفاد من مثل النور، هو: بيان أن سبب كفرهم، وضلال أعمالهم، وظلمة قلوبهم وأحوالهم هو: الإِعراض عن هدي اللَّه الذي هدى به عباده، وأنزله على رسله، والذي لا طريق للنور والهداية سواه. وبهذه الأمثال الثلاثة وما ورد في سياقها، يكتمل البيان لحقيقة هامة، هي: أن اللَّه أنزل وحيه إلى أنبيائه، وجعل ما تضمنه من العلم والحكمة، الطريق إلى الهداية، واستنارة القلوب، وصلاح الأعمال، وأنه لا سبيل إلى الهداية إلا به، وأن المؤمنين الذين هداهم اللَّه، وقذف في قلوبهم الإِيمان هم الذين استجابوا واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم. كما تبين أن طريق الضلال سببه الإِعراض عما نزل من الوحي،

بتلمس الهدى من غيره، أو بالإِعراض والتكذيب والكفران، وأن ذلك يحدث ظلمة في القلوب، وظلمة وضلالاً في الأعمال. وقد جمع اللَّه هذه المعاني في أول سورة "محمد" في قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوآ وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّه أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوآ اتَّبَعُوا البَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّه لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} 1. قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّه لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} بعد أن بين تلك الحقائق الهامة، فيه إشارة إلى الأمثال المضروبة لهم، والتي تم تفصيلها في سورة "النور" وغيرها- واللَّه أعلم -.

_ 1 سورة محمد الآيات رقم (1-3) .

المبحث الثاني: الغرض الذي من أجله ضرب المثلان وأهميتهما

المبحث الثاني: الغرض الذي من أجله ضرب المثلان وأهميتهما المطلب الأول: الغرض الذي ضرب له المثلان ... المطلب الأول: الغرض الذي ضرب له المثلان: يذكر أكثر المفسرين أن كلا المثلين ضربا لأعمال الكفار، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} ثم عطف عليه المثل الثاني بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ..} الآية. إلا أن أعمال الكفار المضروب لها المثلان ينظر إليها من عدة جهات، مرجعها إلى ما يلي: 1- من جهة أنهم عملوها على عمى وضلال، وظلمتها لكونها خالية من نور الإِيمان. 2- من حيث جزاؤهم عليها يوم القيامة، وعدم قبولها وانتفاعهم بها. 3- من حيث كونها ظاهرة أو باطنة، أو كونها من جنس الأعمال الطيبة أو من الشر والإِفساد في الأرض. 4- وهل المقصود هو تحقق دلالة المثلين في أعمال كل كافر، أو أن كل مثل ضرب لبيان أعمال نوع من الكفار. فلأجل تنوع أعمال الكفار، وتنوع طوائفهم، وسعة دلالة المثلين حتى أنه لا يوجد كافر إلا وله منهما نصيب، اختلفت عبارات المفسرين في تحديد المعنى المضروب له المثلان: ويمكن حصر أقوال المفسرين في اتجاهين.

الاتجاه الأول: من يرى أن المثلين ضُربا لعمل كل كافر، وأنه يصْدق عليه كلا المثلين باعتبار، وكل منهما يبين جانباً من أعماله. فمن هؤلاء من يرى أن المثل الأول ضُرب لأعمال الكافر التي هي من جنس الأعمال الطيبة، ومثل لها بالسراب، والمثل الثاني لاعتقاده السيئ ومثل له بالظلمات. وقريب منه من يرى أن المثل الأول لأعماله الظاهرة، والثاني لأعماله الباطنة1. ومنهم من يرى أنه سبحانه شبه أعمال الكفار في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم بالسراب، وشبهها في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الإِيمان بظلمات متراكمة.2 ومنهم من يرى أن مثل السراب ضُرب لبيان مصير أعمالهم يوم القيامة عند الحساب، وأنهم لن ينتفعوا منها بشيء، ومثل الظلمات لبيان حالهم في الدنيا، وأن أعمالهم عملت على خطإ وفساد، وضلالة وحيرة من عمالها فيها وعلى غير هدى.3

_ 1 انظر: التفسير الكبير للرازي، (24/9) ، وصفوة التفاسير لمحمد بن علي الصابوني، (2/343) . 2 انظر: اجتماع الجيوش الإِسلامية، لابن القيم، ص (12) . 3 انظر: جامع البيان، لابن جرير، (9/333) .

الاتجاه الثاني: من يرى أن المثلين ضُربا لبيان أعمال نوعَي الكفار، وأن الكفار في الجملة صنفان: أصحاب الجهل والضلال البسيط، وأصحاب الجهل والضلال المركب1، وكل مثل يصور حال فريق منهما: إلا أن هؤلاء اختلفوا في أمرين: الأول: تعيين أي المثلين لأصحاب الجهل البسيط، وأيهما لأصحاب الجهل المركب.

_ 1 الجهل البسيط: "هو عدم العلم أو الاعتقاد لما من شأنه أن يكون عالماً أو معتقداً، وبهذا المعنى يقابل العلم والاعتقاد مقابلة العدم والملكة" والجهل المركب: "هو اعتقاد الشيء على خلاف ما اعتقد عليه اعتقاداً جازماً سواء كان مستنداً إلى شبهة أو تقليد، وهو بهذا المعنى قسم من الاعتقاد بالمعنى الأعم". انظر: كشاف اصطلاح الفنون، للتهانوي، (1/363) . فالجهل البسيط: هو عدم معرفة الحق، والضلال البسيط: هو عدم اعتقاد الحق والعمل به، والجهل المركب: هو عدم معرفة الحق مع تعلم ضده، والضلال المركب: هو عدم الاعتقاد والعمل بالحق مع الاعتقاد والعمل بالباطل، واعتقاده أنه على الحق. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه - مبيناً الفرق بينهما: "فأهل الجهل والكفر البسيط لا يعرفون الحق ولا ينصرونه، وأهل الجهل والكفر المركب يعتقدون أنهم عرفوا وعملوا، والذي معهم ليس بعلم بل جهل" درء تعارض العقل والنقل، (7/285) .

فمن هؤلاء: شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه - نص في مواضع على أن مثل السراب: للجهل المركب، ومثل الظلمات: للجهل البسيط.1 إلا أنه في موضع آخر أشار إلى أن مثل السراب للجهل البسيط، ومثل الظلمات للجهل المركب2. ومن هؤلاء: ابن القيم - رحمه اللَّه -: وله في ذلك أكثر من قول. ففي قولٍ نصَّ على أن مثل السراب ضرب لأصحاب الجهل المركب، والآخر لأصحاب الجهل البسيط3. وفي موضع آخر ألمح إلى أن مثل السراب للجهل البسيط، ومثل الظلمات للجهل المركب.4 وفي موضع ذكر أن كل واحد من السراب والظلمات مثل لجموع علومهم وأعمالهم فهي سراب لا حاصل لها، وظلمات لا نور فيها.5 وهذا القول يرجع إلى الاتجاه الأول في تفسير المثلين، الذي سبقت

_ 1 انظر: درء تعارض العقل والنقل، (7/285) ، (5/376) ، ومجموع الفتاوى (4/75) . 2 انظر: درء تعارض العقل والنقل، (1/169) . 3 انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية، ص (9، 10) . 4 انظر: الأمثال في القرآن الكريم، لابن القيم، ص (196، 198) . 5 انظر: اجتماع الجيوش الإِسلامية، ص (12) .

الإِشارة إليه. ومن هؤلاء: الحافظ ابن كثير - رحمه اللَّه -: حيث نص على أن مثل السراب لأصحاب الجهل المركب، ومثل الظلمات لأصحاب الجهل البسيط1. والحق أن كلا الاصطلاحين يصدق على كلا المثلين باعتبار، فالمثل الأول - مثل السراب- اتفقت آراء من ذكرنا رأيه على أنه من الجهل المركب، وهو كذلك إلا أن المثل الثاني - مثل الظلمات - أقرب إلى الجهل المركب لدلالة صورته وألفاظه على ذلك، في قوله تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} حيث دل على أن كفرهم مركب من ظلمات ناتجة عن جهالات وضلالات، كما سيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء اللَّه. وأيضاً فالجهل المركب متضمن للجهل البسيط2، فكل من المثلين متضمن له. فهناك تداخل باعتبار انطباق الاصطلاحين على كلا المثلين. ولهذا الاعتبار مع ما تقدم من الاضطراب في أقوال أهل العلم والتحقيق في بيان أيهما الذي للجهل البسيط أو المركب، أرى عدم التركيز على هذين الاصطلاحين في بيان المراد بالمثلين. والأمر الثاني: الذي اختلف فيه هؤلاء: هو تعيين الذي يصدق عليه

_ 1 انظر: تفسير القرآن العظيم، (296) . 2 انظر: درء تعارض العقل والنقل، (5/376) .

كل مثل: فمنهم من يرى أن مثل السراب للدعاة إلى كفرهم الذي يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، ومثل الظلمات للمقلدين لأئمة الكفر الصم البكم الذين لا يعقلون.1 ومنهم من يرى أن مثل السراب لحال المغضوب عليهم، والظلمات لحال الضالين.2 ومنهم من يرى أن مثل السراب لأهل البدع والأهواء الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ومثل الظلمات: لأصحاب العلوم والنظر والأبحاث التي لا تنفع.3 وليس الغرض استقصاء أقوال المفسرين والعلماء في بيان المعنى المضروب له المثلان، وإنما ذكر بعض النماذج التي تبين اختلاف عباراتهم في ذلك، مما يبرز الحاجة إلى تحرير المقصود بالمثلين ليتضح معناهما، وتتم الاستفادة والاعتبار بهما. تحرير الغرض الذي ضرب له المثلان: إن تحديد الغرض الذي ضرب له المثلان يحتاج إلى نظر في المعطيات

_ 1 انظر: تفسير القرآن العظيم، (3/296) . 2 انظر: الأمثال في القرآن الكريم، لابن القيم، ص (196) . 3 انظر: الأمثال لابن القيم، ص (196، 198) .

المستخلصة من السياق، ومن التأمل في ألفاظ كلا المثلين وصورتهما. ويمكن حصر تلك المعطيات المستفادة من ذلك فيما يلي: أولاً: تقدم في المبحث السابق1 أن السياق الذي تضمن هذين المثلين والذي بدأ بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ ... } الآية، وختم بقوله: {لَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ ... } الآية. يقرر قضية واحدة وما يتصل بها، هذه القضية هي نزول الآيات المبينات للعلم والحق في نصوص الكتاب والسنة، وأثر ذلك في الهداية والاتعاظ، وفي حصول النور في قلوب المؤمنين، وصحة أعمالهم وانتفاعهم بها، وما يضاد ذلك من حال الكفار الذين أعرضوا عن العلم وفقدوا نوره، وأثر ذلك في ظلمة قلوبهم وضلال أعمالهم وعدم انتفاعهم بها. كما دل التأمل في السياق على أن هذين المثلين ضُربا في مقابل المثل الذي ضُرب لبيان نور العلم والإِيمان في قلوب المؤمنين وأعمالهم وسائر أحوالهم في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} . وفائدة هذه الدلالة من السياق هي العلم بأن المثلين ضُربا لبيان حال الكفار مع العلم - المستمد من الوحي الإلهي بواسطة الرسل (صلوات اللَّه وسلامه عليهم) - وضلالهم عنه بسعيهم أو بإعراضهم، وأن إعراض

_ 1 ص (480) .

أصحاب مثَل السراب يختلف عن إعراض أصحاب مثل الظلمات. ثانياً: أن التأمل في صورة المثلين يدل على اختلافهما صورة ومعنى مما يدل على اختلاف الذين ضُرب لهما المثلان، وأن كل مثل ضرب لطائفة معينة، بحسب الطريق الذي كان به ضلالها عن نور العلم والإِيمان. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "فيكون التقسيم في المثلين لتنوع الأشخاص ولتنوع أحوالهم، وبكل حال فليس ما ضُرب له هذا المثل هو مماثل لما ضُرب له هذا المثل، لاختلاف المثلين صورة ومعنى، ولهذا لم يُضرب للإِيمان إلا مثل واحد، لأن الحق واحد فضُرب مثله بالنور، وأولئك ضُرب لهم المثل بضوء لا حقيقة له، كالسراب بالقيعة، أو بالظلمات المتراكمة"1. ويمكن بيان اختلاف المثلين فيما يلي: 1- حال الشخصين مع النور: إِن المثل الأول لا يتحقق إلا في رائعة النهار والشمس مشرقة، فاللاهث وراء السراب قد استنار ما حوله، ومع وجود النور حوله فإنه لم يهتد إلى موضع الماء الحقيقي، وإنما سار خلف السراب الخادع. أما في المثل الثاني فنور الشمس محجوب عنه بحجب غليظة، قد حجبها السحاب، وظلمة الأمواج، فالمحيط حوله ظلام دامس.

_ 1 مجموع الفتاوى (7/278) .

والنور الحسي يقابل نور العلم والوحي، وفي المثلين إشارة إلى نورين: الأول: نور المحيط خارج الشخص الممثّل به، وهو يقابل نور الوحي الذي أنزله اللَّه إلى الناس، فبلغه رسله، وحوته كتبه، وآمنت به بلاد فاستنارت به، وكفرت به أخرى فأظلمت. الثاني: قدرة الشخص على الإِبصار بعينه. والمثلان يصوران حال الشخصين مع هذين النورين. ففي المثل الأول دلالة على أن النور حول اللاهث إلى السراب أتم ما يكون، مما يدل على أن المضروب له المثل يعيش في وسط مستبصر يؤمن بالوحي. أما نور قلبه فمعدوم أو ضعيف حيث لم يميز السراب وانخدع به، وهذا يدل على أن المضروب له المثل أعمى القلب أو ضعيف البصيرة، بسبب عدم تعلمه من الوحي، وإعراضه عنه. أما في المثل الآخر - مثل الظلمات - فكلا النورين - نور المحيط حوله، ونور قلبه - معدوم، فالمثل يصور حال من يتقلب في الظلمات ليس بخارج منها. 2- حال الشخصين الممثّل بهما مع البحث والطلب. يصور مثل السراب شخصاً عطشاً لهثاً يبحث عن الماء الذي يعرف أهميته، وهو بأشد الحاجة إليه، ففيه معنى شدة البحث والطلب لشيء ثمين

لكن في غير محله. أما المثل الآخر فهو يصور الشخص الحيران، الذي لا يهتدي إلى طريق، ولا يدري موقع رشده، ولا أين يتجه فهو في عمى تام من أمره. 3- حالهما مع الماء: في مثل السراب تصوير لحال من يعرف قيمة الماء، ويحس بالحاجة إليه ويطلبه ويبحث عنه، لكنه ضل في معرفته واتبع شبهه الخادع. أما الآخر فهو مغمور بالماء، إلا أنه ماء مالح لا يناسبه، لا يروي عطشه بل يزيده، ويقتله. والمطر والماء العذب يُشَّبه بالعلم والإِيمان، وضده الماء المالح المتغير يشبه بالجهل والأوهام والعقائد الباطلة. فالأول إذاً يعرف قيمة العلم والإِيمان ويتعطش له، لكنه يطلبه من غير محله ويتبع الشبه الخادع. والثاني مغمور بالجهل والأوهام والعقائد الضالة لا يستطيع منها خلاصاً. ثالثاً: التعقيب على المثل الأول بقوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} وعلى المثل الثاني بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} مناسب لكل منهما. فالأول عنده أصل التعبد للَّه، ويطلب الحق، ويعمل لما يتوصل إليه

بسعيه، لكن عمله ضال باطل إذ لم يأخذه من مصدره الصحيح من مشكاة النبوة، وإِنما صُرف عنه بشبهات لاحت له ظنَّها علماً ويقيناً، كما حسب الظمآن السراب ماء. وما دام أنه يتعلم ويعمل ويظن أنه يحسن صنعاً، ويرجو ثواباً، فناسب أن يذكر الحساب في ختام المثل. أما الآخر فليس عنده شيء من العلم باللَّه أو التعبد له، فهو في جاهلية وظلمة مطبقة، وهذا حال الكافر الخالص المستكبر عن عبادة اللَّه، المعرض عما جاء به المرسلون. وهذا النوع في جهل تام وظلمة مستحكمة، قد بعد جداً عن نور اللَّه، الذي يشبه - بالنسبة له - الشمس التي حال دونها السحاب وظلمة الأمواج، وقد يكون في تلك الظلمات يتطلع إلى نور يأتيه، إلا أنه لن يجده، إذ أن مصدر النور هو الشمس التي فوق السحاب، وقد حيل بينه وبينها، فلن يجد نوراً من غيره. وكذلك مصدر نور العلم والإِيمان - الذي هو الوحي وهداية اللَّه - قد أعرض وبعد عنه. فناسب أن يختم المثل بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . خلاصة التأمل في السياق وألفاظ المثلين: مما تقدم يتبين أن المثلين يبينان حال فريقين من الكفار مع العلم والإِيمان.

فالمثل الأول: يصور حال من يعرف أهمية العلم والإِيمان، ويبحث عنه، إلا أنه أعرض عن مصدره وهو الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وطلب المعرفة والإِيمان من غير محله، مع أنه في وسط مستبصر لدلالة كون الشمس مشرقة في المثل. ويدخل في ذلك من طلب القربة إلى اللَّه بوسيلة غير مشروعة لم يدل عليها العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو لاهث خلف السراب. وهذا النوع من الكفار الذين يكونون بين المسلمين، وقد يؤمنون باللَّه، وينطقون بالشهادتين، ويصدّقون بالرسول صلى الله عليه وسلم، كفروا بسبب إعراضهم عن تلقي العلم من الوحي، واستمدادهم علومهم من مستنقعات الجاهلية، وممارستهم أعمالاً يظنونها قربة أو وسيلة صحيحة، وهي تؤدي بهم إلى الشرك والكفر. وهذا وصف مجمل يدخل تحته أفراد كثيرون. فمن أفراده من انتسب إلى المسلمين ثم أعرض عن كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وطلب معرفة ربه ومسائل الإِيمان بميراث الفلاسفة، فكذّب بصريح الكتاب والسنة، ولهث خلف الشبهات التي يظنها بينات ودلائل قاطعات، فأوقعه ذلك في الكفر والضلال. ومن أفراده من دخل في الإِسلام إلا أنه طلب العلم واليقين من طريق الكشف والفيض وأعرض عن الوحي، فوقع في الكفر والضلال، ولهث خلف الأوهام والظنون ووحي الشياطين، فهو يشبه من طلب

السراب يحسبه ماء. ومن أفراده من طلب القربة بأسباب كفرية أو شركية، فتقرب إلى اللَّه بما لم يأذن به، بسبب جهله، وطلبه العلم من غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ومثله من لجأ إلى غير اللَّه، وتوكل عليه، وطلب منه جلب النفع أو كشف الضر، وصرف له العبادة، وهو يظن أن ذلك مشروع، وأنه يحسن صنعاً، وهو في الحقيقة لاهث خلف السراب، قد بطل عمله، ووهن سببه. وأفراد هذا النوع كثيرون، يجمعهم كونهم في وسط مستبصر، توفرت لهم أسباب العلم الصحيح، ومعرفة الدين القويم، قد أشرقت الشمس من حولهم، ولديهم نهمة وطلب لما ينفعهم من العلم والعمل، إلا أنهم تنكبوا الصراط، وساروا خلف الأوهام والشبهات والسراب، فكفروا باللَّه بإعراضهم عن دينه الحق، وعملهم على غير هدى، وحبطت أعمالهم فلا ينتفعون منها بشيء، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ويصدق ذلك على كل من وقع في أمور مكفرة ممن ينتسب إلى الإِسلام بسبب إعراضه عن الوحي وتتبعه للشبهات. والمثل الثاني: يصور حال الكافر الخالص الذي أعرض عن الوحي وكذب المرسلين، فحجب تكذيبُه عنه نورَ العلم الإلهي، كما حجب السحاب وظلمة الأمواج ضوء الشمس، فهو في ظلمات مستحكمة، قد بَعُد عن العلم الصحيح بُعْد الممثّل به عن ضوء الشمس، وبَعُد عن الإِيمان

بُعْدَه عن الماء العذب. وأفراد هذا المثل متعددون بتعدد أنواع الكفار المكذبين الجاحدين. فحال الفريق الأول مع العلم والإِيمان أنهم طلبوه في غير محله وضلوا عنه، وعملوا على غير هدى، ولم يجنوا من سعيهم نفعاً. أما الفريق الثاني، فإنهم أعرضوا عن العلم والإِيمان، ولم يرفعوا به رأساً، وردوه من البداية، ولم يروا للَّه حقاً، فهم غارقون فيما هم فيه من الكفر والضلال والظلمات.

المطلب الثاني: أهمية المثلين.

المطلب الثاني: أهمية المثلين. تبرز أهمية المثلين في التعقيب بهما على المثل السابق لهما في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} الآية، حيث إنهما سيقا لزيادة تأكيد المعنى والغرض الذي قرر في سياق المثل، وهو: بيان أن العلم النازل بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو الطريق الوحيد لحصول الإِيمان، ومعرفة الحقائق، وأن المؤمنين إِنما استنارت قلوبهم، وصلحت أعمالهم وأحوالهم به، وأنه لا طريق لحصول ذلك سواه. وهذان المثلان يؤكدان هذا المعنى ببيان حال الضد، حيث يقرران أن من ضل من الكفار أياً كان نوع كفره فمرد كفرهم إلى الإعراض أو مخالفة العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم في الجملة ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: من طلب العلم والإِيمان عارفاً بأهميته، إلا أنه طلبه من غير محله، فضلّ ولم ينتفع من سعيه بشيء. القسم الثاني: من كذّب الرسول صلى الله عليه وسلم وأعرض عما جاء به، ولم ير للَّه حقاً، وبقي غارقاً في كفره وضلاله. فهذه الأمثال متظافرة على تقرير حقيقة هامة، هي: بيان أن سبب الهداية الأهم، وطريقها الأوحد، هو تعلم ما أنزل اللَّه من الهدى والنور في كتابه المبين، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم والعمل به. وأن سبب الضلال الأهم هو والإِعراض عن ذلك والجهل به.

فالمثل الوارد في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} يبين أصول الهداية وأسبابها والمثلان الآخران يبينان أصول الضلال وأسبابه كما سيأتي بيانها عند دراسة المثلين. ولهذا المعنى أهمية عظيمة حيث تضع هذه الأمثال أمام الإِنسان الطريق واضحاً، وذلك أنها تبين فضل من اهتدى، ونعمة اللَّه عليه في ذلك، وأن سبب ذلك من نفسه وهو سلوكه الصراط المستقيم، وتصديقه بما نزل من الوحي والاهتداء به. وتبين حال من ضل، وما ينتظره من عذاب اللَّه، وأن اللَّه أضله بسبب من نفسه حيث انحرف أو أعرض عن مصدر النور والهداية وهو العلم بالوحي. فلهذه الأمثال إسهام هام في بيان مسألة الهداية والضلال، التي تبحث عادة في موضوع القدر. خلاصة هذا المبحث: تبين مما تقدم أن المثلين ضُربا لبيان حال فريقين من الكفار مع العلم والإِيمان، وأن حال الكفار بالجملة تعود إلى أحد هذين الفريقين: الفريق الأول: من يعيش بين المسلمين، وينتسب إلى الإِسلام ويعرف أهمية العلم والإيمان، ويبحث عنه، إلا أنه أعرض عن مصدره وهو الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وطلب العلم من غيره، بشبهة خادعة كاذبة، فأوقعه سعيه الضال في الكفر أو الشرك، وطلب القربة إلى اللَّه

بأسباب لم تشرع من جنس البدع الشركية أو الكفرية. الفريق الثاني: الكفار الخالصون، المستكبرون المعرضون عما جاء به المرسلون، ليس عندهم شيء من العلم باللَّه، أو التعبد له، فهم في جاهلية عمياء وظلمة مطبقة. كما تبين أهمية هذين المثلين، وأنهما يسهمان في تقرير الحقيقة التي تقدم بيانها في المثل الأول: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وهي: أن طريق الهداية وسببها الأوحد هو تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وقبول ما جاء به من العلم والاهتداء به والاستغناء به عن غيره. كما يدلان على أن الهداية والضلال إِنما هما من اللَّه بأسباب تكون من العباد.. واللَّه أعلم.

المبحث الثالث: _25d8_25af_25d8_25b1_25d8_25a7_25d8_25b3_25d8_25a9 _25d8_25a7_25d9_2584_25d9_2585_25d8_25ab_25d9_250518718d45

المبحث الثالث: _25d8_25af_25d8_25b1_25d8_25a7_25d8_25b3_25d8_25a9 _25d8_25a7_25d9_2584_25d9_2585_25d8_25ab_25d9_250518718d45 المطلب الأول: نوع المثَل ... المطلب الأول: نوع المثَل. نوع المثَل من جهة القياس: هو قياس تمثيلي، يقوم على تشبيه حال أعمال الكفار، بحال الساعي نحو السراب، ومقايسة هذا بهذا، وإلحاق أحكام الممثّل به بالممثّل له. ونوعه من جهة الممثّل به: هو تمثيل مركّب حيث شبّه الممثّل له، وهو مصير أعمال الكفار، وما يتصل بها، وحال عمالها، بصورة واقعية مكونة من الهيئة الحاصلة من حال اللاهث وراء السراب وما يلابس هذه الحال، ويحيط بها وما تستلزمه.

المطلب الثاني: تعيين الممثل به

المطلب الثاني: تعيين الممثّل به. إن الصورة التمثيلية المبرزة للتأسي بها والقياس عليها لا تقتصر على الألفاظ الواردة في المثل، بل إنها تشمل المعاني المستنبطة من الحال المصورة لكونها لازمة لها. ولتجلية صورة الممثّل به أستعرض أولاً ألفاظه مع الإِشارة إلى المعاني المستنبطة من كل منها: السراب: " ما تراه نصف النهار كأنه ماء".1 أو: " ما يرى في المفاوز من لمعان الشمس عند اشتداد حر النهار على صورة ماء"2. والتفسير العلمي لظاهرة السراب هو: ما يُرى في الصحراء من لمعان يشبه الماء نتيجة لأشعة الشمس المنعكسة انعكاساً كلياً، عند مرورها وانكسارها في طبقات الهواء المختلفة الكثافة بسبب اختلاف درجات حرارتها وذلك في الصيف عند اشتداد الحرارة.3

_ 1 انظر: ترتيب القاموس المحيط، (2/543) ، عيسى البابي وشركاه، الطبعة الثانية. 2 فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني، (4/38) . 3 انظر: كتاب الفيزياء، المرحلة الثانوية، الصف الثاني، ص (50، 51) الرئاسة العامة لتعليم البنات، بالمملكة العربية السعودية (1415هـ) . والمعجم العلمي المصور، ص (372) ، إصدار قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، بالاتفاق مع دائرة المعارف البريطانية، دار المعارف القاهرة، الطبعة الأولى، (1963م) .

ويستنبط من التشبيه بالسراب: إشراق الشمس، وذلك أن السراب لا يكون إلا والشمس مشرقة قد اشتد حرها، كما دل على ذلك حدّه العلمي واللغوي. فالصورة التمثيلية الممثّل بها تكون في وضح النهار، عند اكتمال بزوغ الشمس، واشتداد حرها. القيعة: "جمع قاع كجار وجيرة، والقاع أيضاً واحد القيعان وهي الأرض المستوية المنبسطة "1. "والقاع أرض واسعة سهلة مطمئنة، قد انفرجت عنها الجبال والآكام"2. ويؤخذ من دلالة هذا اللفظ شدة حاجته إلى الماء، وأن حياته متوقفة عليه، لأنه بأرض هلكة، فإذا لم يجد الماء فهو هالك. يحسبه: أي يظنه. حَسِبَ، يَحْسَبُ (كرغِب، يرْغَب) : أي ظن يظن. "حَسِبْت الشيء: ظننته. أحسِبُه، وأحسَبُه، والكسر أجود

_ 1 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/296) . 2 تهذيب اللغة، (3/33) .

اللغتين"1. وقد يستنبط من هذا أنه اتبع ظنه ولم يتأمل في السراب الذي رآه ويتثبت منه، بل جرى نحوه بمجرد أنه لاح له. الظمآن: العطشان2. وتخصيص الظمآن بحسبان السراب ماءً - مع أن الريان يتراءى له السراب كأنه ماء- فيه إشارة إلى أمرين: الأمر الأول: أن الممثّل به محتاج إلى الماء حاجة شديدة لشدة عطشه، لدلالة لفظ صيغة المبالغة (ظمآن) على ذلك. الثاني: وجود الدافع لطلب السراب عند الظمآن، وهو الحاجة إلى الماء، وذلك أن الريان، لا يوجد لديه دافع لطلبه، والعالم بحقيقة السراب يمنعه اليأس منه وإنما يندفع إليه من هو محتاج إلى الماء وهو جاهل قليل المعرفة والبصيرة. قوله: {حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} . الهاء في قوله: {لَمْ يَجِدْهُ} يعود على السراب. والمعنى: حتى إذا جاء الظمآن الموضع الذي رأى السراب فيه، لم يجد السراب شيئاً.3

_ 1 تهذيب اللغة، (4/331) . 2 جامع البيان لابن جرير، (9/333) . 3 انظر: جامع البيان لابن جرير، (9/333) .

وهذا يدل على خيبة المسعى، وعدم الانتفاع منه بشيء في وقت هو بأشد الحاجة إليه، ووقوعه في الهلكة، وانكشاف الحق بخلاف ما كان يظن ويؤمل. قوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} . هذا البيان يتعلق بالممثّل له، وسوف يأتي بيانه في المطلب القادم. إلا أنه يشير إلى أمر في الممثّل به، وهو هل يتوجه إليه اللوم في ما حصل له كاملاً أو أنه معذور، أو أنه ملوم باعتبار معذور باعتبار، فلأجل اختلاف أحوال اللاهثين خلف السراب جاء بيان المحاسبة بألفاظ تصلح لكل الأحوال، ومؤاخذة كل بما يستحق، فقال: {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} . خلاصة حال الممثّل به: تبين من دراسة ألفاظ الممثّل به أن اللَّه عز وجل ضرب مثلاً لأعمال نوع من الكفار بسراب لاح لشخص في صحراء منبسطة قاحلة، في رائعة النهار، والشمس كأشد ما تكون إضاءة وحرارة، وقد اشتد عطشه وقويت حاجته إلى الماء، فظن ذلك السراب ماء، فجرى نحوه، فلما وصل المكان الذي تراءى له فيه لم يجد ماء ولا شيئاً، ولم يغن عنه سعيه، ولا ظنه في إنقاذه من الهلكة، وباء بالخيبة، ولم يسلم من المؤاخذة. والممثّل به يشتمل على أمرين: الأول: بيان بطلان نتيجة السعي، وأنه لا حقيقة له نافعة، ولا

حاصل منه، لكونه لم يقع في محله. الثاني: بيان السبب الذي أدى إلى هذه النتيجة المؤلمة، وهو جهل هذا المقتحم للصحراء بحالها، وما ينبغي لمن دخلها أن يستعد به من الماء ومعرفة مصادره، وكيفية استخلاصه منها، ومعرفة ما يحصل فيها من المخاطر والأمور الخادعة كالسراب، ونحو ذلك. فجهله وضعف بصيرته هو الذي جعله ينساق بسرعة وراء الشبه الخادع، فلم يغن عنه حسن ظنه، ولا شدة سعيه شيئاً، وأوقعه جهله في المهالك.

المطلب الثالث: تعيين الممثل له

المطلب الثالث: تعيين الممثّل له. لم يرد في ألفاظ المثل مما يتعلق بالممثّل له إلا قوله في بداية المثل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ} وقوله في ختام المثل: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} أما بقية حال الممثّل له فلم تُذكر اكتفاء بدلالة الممثّل به عليها، وترك الأمر للسامع للاستدلال عليها. "وفي هذا المثل الرائع يظهر لنا من خصائص الأمثال القرآنية صدق المماثلة بين المثل والممثّل له، ويظهر لنا أيضاً عنصر البناء على المثل والحكم عليه كأنه عين الممثّل، على اعتبار أن المثل كان وسيلة لإحضار صورة الممثّل له في ذهن المخاطب ونفسه. وإذا حضرت صورة الممثّل له حسن طي المثل، وهذا ما يلاحظه في قوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} بعد قوله: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} . فالنص ينتقل بشكل مفاجئ من المثل إلى الممثّل له، ويأتي ترتيب النتيجة المقصودة على المثل كأنه عين الممثّل له. ويظهر لنا أيضاً من الخصائص حذف مقاطع من الصورة التمثيلية اعتماداً على ذكاء أهل الاستنباط، وكذلك حذف مقاطع من الممثّل له. ففي المثل أبرزت صورة السراب، ثم صورة الظامئ الذي ظنه ماءً

ثم خيبته عند وصوله إليه، وحذف ما عدا ذلك لأن الخيال يتم رسمها. وفي الممثّل له لم يذكر إلا عمل الذين كفروا، وطوى ما عدا ذلك، لأن الفكر قادر على أن يستدعيه، وهذا من بلاغة القرآن"1. وإذا كان الأمر كذلك فيمكننا بالتأمل والقياس على الممثّل به استخلاص حقيقة الممثّل له. وقد تقدم الإِشارة إلى شيء من ذلك عند دراسة الغرض الذي ضرب له المثل في المبحث السابق.2 وسوف أكتفي بإيراد خلاصة ما تم بحثه هناك، واستكمال ما لم يبحث. فأساس الممثّل له هو أعمال صنف من الكفار التي تشبه السراب بتلك الصورة التمثيلية المركبة. وذلك مستفاد من قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} . قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ} : تقدم أن المراد صنف من الكفار، الذين انتسبوا إلى الشرائع السماوية، ويزعمون أنهم أتباع الأنبياء، إلا أنهم طلبوا العلم والإِيمان

_ 1 أمثال القرآن، وصور من أدبه الرفيع، عبد الرحمن حسن حبنكه، ص (132- 133) . 2 انظر ص (492) وما بعدها.

والقربة إلى اللَّه في غير ما جاء به الأنبياء فاتبعوا الشبهات والمتشابهات، وركنوا إلى عقولهم وإلى ميراث الفلاسفة الضالين، ووقعوا في الشرك والبدع المهلكة. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن مثل السراب إنما هو لهذا النوع من الكفار - من كفر ممن ينتسب إلى الشرائع السماوية - وذلك في حديث طويل، قال فيه صلى الله عليه وسلم: " فَيُدْعَى اليَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّه. فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّه مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ. فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ قَالُوا: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا. فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلاَ تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ. ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ: لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ المَسِيحَ ابْنَ اللَّه فَيُقَالُ: لَهُمْ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّه مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ. فَيُقَالُ: لَهُمْ مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَيَقُولُونَ عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا. قَالَ: فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ...."1. والذي يهمنا - لهذه المسألة - من دلالة هذا الحديث فائدتان:

_ 1 متفق عليه، واللفظ لمسلم، البخاري: كتاب التفسير، باب: إن اللَّه لا يظلم مثقال ذرة، ح (4581) ، الصحيح مع الفتح، (8/249) ، ومسلم: كتاب الإِيمان، باب معرفة طريق الرؤية، ح (183) الصحيح ت: محمد عبد الباقي، (1/167) .

الفائدة الأولى: أن اللَّه عامل اليهود والنصارى في الآخرة بجنس ما كانوا عليه في الدنيا، وذلك أنهم قد تعلقوا بالأوهام والباطل وعبدوا غير اللَّه، فعملهم في الدنيا كالسراب الذي لا حقيقة له. وأظهر اللَّه لهم جزاءهم الذي يستحقونه على شركهم مثل السراب، حيث تمثلت لهم النار كالسراب فظنوه ماءً فجروا نحوها ووقعوا فيها. وهذا يدل على أن حال الكفار وسعيهم وعملهم في الدنيا يشبه السراب، وحالهم في الآخرة وجزاءهم هو النار التي تشبه لهم بالسراب، والجزاء من جنس العمل. الفائدة الثانية: أن اليهود والنصارى ممن ينتسب إلى الأديان السماوية، ويدَّعِي الإِيمان باللَّه، ويتقرب إليه، لكن بدون إخلاص واتباع لما نزل من عنده من العلم، وكذبوا بالرسول صلى الله عليه وسلم فكفروا بذلك. وهذا يؤيد أن المراد بالمثل هم الذين كفروا باللَّه - ممن ينتسب إلى الأديان السماوية - بسبب إعراضهم عن العلم بالوحي واتباعهم للشبهات الباطلة، والظنون السيئة، كما قال سبحانه عنهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى} 1. وقد استدل بعض المفسرين2 بهذا الحديث وأشباهه في سياق تفسير

_ 1 سورة النجم الآية رقم (23) . 2 منهم ابن كثير في تفسير القرآن العظيم، (3/296) ، والشوكاني في فتح القدير، (4/43) .

المثل على اعتبار أن هؤلاء ممن يصدق عليهم المثل. والكفر الذي يشبه السراب الذي وقع فيه هذا الصنف من الكفار هو الذي يكون بسبب الإعراض عن تعلم الهدى الرباني والإعراض عنه إلى غيره بسبب الشبهات، فتعلموا علوماً واعتقدوا معتقدات، وعملوا أعمالاً من الجهالات والضلالات وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فيصدق فيهم قول اللَّه عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} 1. أما من كان من أهل الإِيمان الصحيح ووقع في المعاصي والذنوب التي لا يعتقد جوازها ولا القربة بها فإِنه غير داخل في حكم المثل. وذلك أن هذا الصنف لا يرى عمله قربة، ولا يظنه خيراً، والمثل دل على أن طالب السراب يحسبه ماء، بل أهل المعاصي الذين لا يستحلونها يعلمون حرمتها، ويخافون حوبها فلا تصدق عليهم دلالة المثل. وسوف يأتي - إن شاء اللَّه - مزيد بيان لهذا الصنف من الكفار عند دراسة الفوائد المستفادة من المثل. قوله: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} . المراد بأعمال الكفار هي: كل عمل يعملونه بقصد القربة إلى اللَّه،

_ 1 سورة الكهف الآيتان رقم (103-104) .

مع ظنهم أنهم على شيء، وأن عملهم مقبول عند اللَّه ويرجون ثوابه. ويشمل ذلك العلوم التي يتعلمونها من غير الكتاب والسنة وينسبونها إلى دين اللَّه وتوحيده أو شريعته. كما يشمل العبادات التي يتقربون بها إلى اللَّه، وهي خالية من التوحيد، متلبسة بالشرك، أو جارية على خلاف الشريعة. وفي العموم كل الأعمال والأقوال والمعتقدات التي يدينون بها وهي باطلة لم يأذن بها اللَّه فيما أنزل من وحيه على عباده فهي داخلة في حكم هذا المثل، فهي كالسراب لا حقيقة لها، ولن يجدوا لها ثواباً مهما كانت دوافعهم، وسوف يؤاخذون ويحاسبون على ذلك. والسراب كما دل عليه تعريفه هو اللمعان الذي لا حقيقة له، ويقابله في الممثّل له أعمال الكفار فإنها تعجب عامليها في الدنيا ويؤملون عليها الخير والنجاة، إلا أنه لا يحصل لهم شيء من ذلك يوم القيامة عندما تشتد حاجتهم إليها. ويستنبط من التشبيه بالسراب ضرورة كون الشمس مشرقة كما تقدم. وهذا يقابله في الممثّل له أن هذا النوع من الكفار بَلَغَتْهُم الرسالة وهم في وسط يدين أهله بالدين الحق، وقد يكونون ممن أسلم وآمن باللَّه والرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنهم طلبوا الهدى في غير ما جاء به، وتقربوا إلى اللَّه بغير شريعته، فشمس النبوة ساطعة حولهم وعليهم، ومع ذلك تبعوا الشبهات

وجروا خلف السراب. قوله: {بِقِيعَةٍ} . تقدم أن القيعة: جمع قاع، وهي الأرض المنبسطة، في الصحراء والمفاوز. ويستفاد من ذلك أنه في أرض مهلكة، شديد الحاجة إلى الماء الذي به نجاته. ويقابلها في الممثّل له: شدة حاجة الذي شبهت حاله بالسراب إلى العلم والإِيمان في الدنيا، وإلى جزاء أعماله في الآخرة، وسوف لن يجد ثمرة عمله في وقت هو أحوج ما يكون إليه يوم القيامة عند الحساب. قوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً} . {يَحْسَبُه} : أي يظنه، كما تقدم. ويقابله في الممثّل له أن هؤلاء الكفار الذين شبهت أعمالهم بالسراب إنما اتبعوا الظن، وأعرضوا عن مصدر الحق واليقين، وهو العلم الذي جاء به المرسلون. وقد بين اللَّه تعالى أن اتباع الظن من أسباب الضلال والإعراض عن الهدى، وسوف أذكر الآيات الدالة على ذلك عند الكلام على الفوائد المستفادة من المثل - إِن شاء اللَّه -. قوله: {الظَّمْآن} : هو شديد العطش كما تقدم.

ويقابله في الممثّل له: حاجة المضروب لهم المثل للعلم والإِيمان وإدراكهم لأهميته لهم، وأنه لازم لنجاتهم، فعندهم أصل الرغبة في الخير، وحسن القصد، لكن ذلك لا تصح به الأعمال ما لم تكن موافقة لما هدى اللَّه به العباد في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. قوله: {مَآءً} : الماء هو السائل المعروف، الذي يروي من العطش، وجعله اللَّه سبباً في بقاء الحياة، {وَجَعَلْنَا مِنْ المَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 1. ويقابله في الممثّل له: الإِيمان والعلم، فهما اللذان يرويان عطش القلوب، وبهما تكون حياتها، ويستحق بهما العبد الحياة الكريمة في الدنيا والآخرة. ويتحصل من ذلك: أن هذا الصنف من الكفار لديهم نهمة في العبادة، ورغبة في التدين، أو في تحصيل العلوم الإلهية، إلا أنهم ضلوا السبيل في معرفتها، أو أُضِلُّوا عنه، فوقعوا في الكفر بسبب ذلك. وفي هذا دليل على أنه لا تنفع الرغبة في الخير، أو حسن القصد ما لم يسلك الطريق الصحيح. وسوف يأتي مزيد بيان لهذا المعنى عند ذكر فوائد هذا المثل - إِن

_ 1 سورة الأنبياء الآية رقم (30) .

شاء اللَّه -. قوله: {حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} . يدل على أن الممثّل به قصد السراب وطلبه. كما يدل على أنه لم يجد حقيقة لما رآه، وظنه ماء. وأنه لم يزد على أن يكون بريقاً كاذباً خادعاً. وهذا يقابله في الممثّل له أمران: 1- البحث والطلب عند أولئك الكفار الذين ضرب لهم المثل لما ظنوه حقاً في باب العلم والإِيمان، والعمل فيما ظنوه قربة من الأعمال. 2- أنهم لن يجدوا لسعيهم جزاءً عند لقاء اللَّه في موقف الحساب، الذي يعمل له العاملون، وذلك أنه عمل وسعي باطل لا حقيقة له. قوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} . تقدم أن هذه الجملة متعلقة بالممثّل له، حيث ينتقل الكلام من المثل إلى الممثّل له ويرتب الحكم المقصود على المثل وكأنه عين الممثّل له. وهذا من خصائص أمثال القرآن الكريم التي تكررت في أكثر من مثل، وهذه الخاصية هي: "البناء على المثل، والحكم عليه كأنه عين الممثّل له، على اعتبار أن المثل كان وسيلة لإِحضار صورة الممثّل له في ذهن المخاطب ونفسه، وإذا

حضرت صورة الممثّل له ولو تقديراً، فالبيان البليغ يستدعي تجاوز المثل، ومتابعة الكلام عن الممثّل له، وتسقط صورة المثل لتبرز القضايا المقصودة"1. وهذه الجملة من الآية وهي قوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} . والتي قبلها وهي قوله: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} تتضمنان حكم اللَّه في هذا النوع من الكفار وأعمالهم. فحكم اللَّه على أعمالهم في قوله: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} أنها باطلة لا ثواب لها مهما كانت دوافعها ما دامت غير موافقة لما شرع، واستمدت من غير ما أنزل من الوحي على رسل اللَّه. وحكمه سبحانه عليهم بقوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} فيه بيان بأن اللَّه سوف يؤاخذهم على إعراضهم عن الإِيمان والعلم الحق الذي جاء به الكتاب المبين والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. ونظراً لاختلاف هذا الصنف في دوافعهم وأسباب كفرهم، إذ منهم الأئمة الداعون إلى الضلال، ومنهم المقلدون، ونحو ذلك لم يحدد سبحانه عقاباً بعينه يعم هذا الصنف، بل بين ذلك بلفظ عام يوحي بأن كل نوع

_ 1 أمثال القرآن، وصور من أدبه الرفيع، د. عبد الرحمن حسن حبنكه، ص (135) .

سيأخذ ما يستحقه من الحساب والجزاء الموافق لحاله وأسباب ضلاله. خلاصة وصف الممثّل له: من ألفاظ المثل المتعلقة بالممثّل له، ومن مقايسته على الممثّل به، تبين أن هذا المثل ضرب لبيان حكم أعمال صنف من الكفار، وجزائهم عليها. هذا الصنف من الكفار تميزوا بأنهم من المنتسبين إلى الإِسلام، ويدَّعون الإِيمان باللَّه ويطلبونه، دل على ذلك كون السراب لا يكون إلا والشمس مشرقة، فالنور قد غمرهم، وهم قد ضلوا بإعراضهم عن الإِيمان الحق الذي دل عليه كتاب اللَّه المحفوظ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وطلبوا ذلك من مستنقعات الضلال. فهم يتعلمون ويعملون لكن على غير هدى. فدل المثل على حكم أعمالهم وأنها باطلة، كما أن صاحب السراب لم يجده شيئاً، والحكم عليهم بأن كلاً سوف يلاقي جزاءه المناسب لحاله وأعماله.

المطلب الرابع: الفوائد المستنبطة من المثل: تضمن المثل العديد من الفوائد، من أهمها: الفائدة الأولى: دلالة المثل على سبب كفر هذا الصنف من الكفار. الفائدة الثانية: دلالة المثل على أن من أسباب الضلال اتباع الظن. الفائدة الثالثة: دلالة المثل على أن من أسباب الضلال اتباع الشبهات. الفائدة الرابعة: دلالة المثل على أن حسن القصد غير معتبر في تصحيح الأعمال إذا خالفت شروط الصحة. الفائدة الخامسة: دلالة المثل على اختلاف دوافع، وحساب الضالين الذين شبهت أعمالهم بالسراب.

الفائدة الأولى: دلالة المثل على سبب كفر هذا الصنف من الكفار. تقدم1 أن هذا المثل فقرة في مضمار تأكيد أن العلم النازل من اللَّه المدلول عليه بالوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الطريق للهداية. وأن الإعراض عنه بأي شكل من الأشكال، ولأي دافع من الدوافع هو السبب في الضلال. وهذا المثل يدل بوضوح على أن سبب ضلال الممثّل به - صاحب السراب - وخيبة مسعاه هو تطلب الماء من الشبه الكاذب الخادع وضلاله عن مصدره الصحيح. وكذلك الممثّل له - كما يقتضيه الاعتبار والقياس - سبب كفره وضلال عمله هو تطلبه العلم والإِيمان من مصادر ضالة خادعة لاحت له فظنها حقاً، وأعرض عن مصدر الهدى الصحيح وهو العلم بالكتاب والسنة. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "ومن تمام ذلك أن يعرف أن للضلال تشابهاً في شيئين: أحدهما: الإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والثاني: معارضته بما يناقضه، فمن الثاني الاعتقادات المخالفة للكتاب والسنة.

_ 1 انظر ص (282) .

فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيء من أمر الإِيمان باللَّه واليوم الآخر أو غير ذلك فقد ناقضه وعارضه، سواء اعتقد ذلك بقلبه، أو قاله بلسانه. وهذا حال كل بدعة تخالف الكتاب والسنة، وهؤلاء من أهل الجهل المركب، الذين أعمالهم كسراب بقيعة"1. وقال ابن القيم - رحمه اللَّه -: " ... القسم الثاني: أهل الجهل والظلم، الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به والظلم باتباع أهوائهم الذين قال اللَّه تعالى فيهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى} 2. وهؤلاء قسمان: أحدهما: الذين يحسبون أنهم على علم وهدى، وهم أهل الجهل والضلال، فهؤلاء أهل الجهل المركب الذين يجهلون الحق ويعادونه، ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالون أهله وهم يحسبون أنهم على شيء إلا أنهم هم الكاذبون، فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ... . فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله بسراب يراه

_ 1 درء تعارض العقل والنقل، (5/376 -377) . 2 سورة النجم الآية رقم (23) .

المسافر في شدة الحر فيؤمه فيخيب ظنه ويجده ناراً تلظى، فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس واشتد بهم العطش بدت لهم كالسراب.."1. وقال أيضاً - في حال من لم يأخذ علومه من الوحي -: ".. ولصاحبها نصيب وافر من قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاًالَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} 2، وهذا حال أرباب الأعمال التي كانت لغير اللَّه عز وجل، أو على غير سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وحال أرباب العلوم والأنظار التي لم يتلقوها عن مشكاة النبوة، ولكن تلقوها عن زبالة أذهان الرجال، وكناسة أفكارهم، فأتعبوا قواهم وأفكارهم وأذهانهم في تقرير آراء الرجال والانتصار لهم، وفهم ما قالوه وبثه في المجالس والمحاضر، وأعرضوا عم به الرسول - صلى اللَّه عليه وآله وسلم - صفحاً، ومن به رمق منهم، يعيره أدنى التفات طلباً اجاءللفضيلة. وأما تجريد اتباعه وتحكيمه وتفريغ قوى النفس في طلبه وفهمه وعرض آراء الرجال عليه ورد ما يخالفه منها وقبول ما وافقه ... فهذا أمر لا تكاد ترى أحداً منهم يحدث به نفسه

_ 1 اجتماع الجيوش الإِسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ص (9-10) . 2 سورة الكهف الآيتان رقم (103-104) .

فضلاً عن أن يكون (بغيته) ومطلوبه"1. قوله: "ومَنْ به رمق منهم يعيره أدنى التفات طلباً للفضيلة": يدل على أن هؤلاء الذين وصفهم منتسبون للإِسلام معظمون للقرآن والسنة، ويقرؤونها طلباً للأجر والبركة تارة، وتارة يزخرفون بها باطلهم، ويلبسون الحق بالباطل. كما يدل على إن إعراضهم هو إعراض عن تعلمه والاهتداء به، وليس إعراض التكذيب. وهذا الإِعراض سببه الخوض في علوم الأمم الجاهلية المتقدمة، ومسايرتهم في الحيرة وتتبع الشهبات، وهذا من أصول ضلال من ضل من المنتسبين إلى الإِسلام، والتي بينها اللَّه بقوله: {وَعَدَ اللَّه المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّه وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌكَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوآ أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاَقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوآ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الخَاسِرُونَ} 2.

_ 1 اجتماع الجيوش الإِسلامية، ص (25) . 2 سورة التوبة الآيتان رقم (68-69) .

قوله سبحانه: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} الآية، دليل على أنه نتجعن استمتاعهم بخلاقهم وخوضهم كفرهم وحبوط أعمالهم. كما قال سبحانه في الآية الأخرى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} 1. فهذه الآيات تبين أن سبب الكفر والضلال بعد الهدى أمران: أحدهما: الخوض في الشبهات، والثاني: الاسترسال مع الشهوات المحرمة والذي قد يؤدي إلى الكفر كما قيل: المعاصي بريد الكفر. قال الإمام ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق، وبين الخوض، لأن فساد الدين: إمّا أن يقع بالاعتقاد الباطل، والتكلم به، أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق. والأول: هو البدع ونحوها. والثاني: فسق الأعمال ونحوها. والأول: من جهة الشبهات. والثاني: من جهة الشهوات"2. وقال ابن عباس - رضي اللَّه عنهما في هذه الآية -: "ما أشبه الليلة بالبارحة {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، هؤلاء بنو إسرائيل،

_ 1 سورة المنافقين الآية رقم (3) . 2 اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، (1/102-103) .

شبهنا بهم، لا أعلم إلا أنه قال: والذي نفسي بيده، لتتبعنّهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه"1. وكلام ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - يدل على معنى دقيق وهو الربط بين الآية وما ورد من النهي عن التشبه بالأمم السابقة في إعراضهم عما نزل عليهم من ربهم من الهدى واتباعهم للأمم الجاهلية، وخاصة الفلاسفة، وقد نهوا عن ذلك وحذروا أشد التحذير، قال تعالى: {قُلْ يَآ أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوآ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَآءِ السَّبِيلِ} 2. وقد ورد التحذير الشديد لهذه الأمة من التشبه بأهل الكتاب وغيرهم، سواء كان ذلك باتباعهم وتقليدهم في باطلهم، أو كان باتباعهم بالتشبه بالأمم الضالة الأخرى. قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لتأخذن كما أخذ الأمم من قبلكم: ذراعاً بذراع، وشبراً بشبر، وباعاً بباع، حتى لو أن أحداً من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه! ، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم القرآن: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوآ أَشَدَّ مِنْكُمْ

_ 1 رواه ابن جرير بسنده، جامع البيان (6/413) . 2 سورة المائدة الآية رقم (77) .

قُوَّةً ... } الآية، قالوا يا رسول اللَّه، كما صنعت فارس والروم؟ قال: فهل الناس إلا هم؟ "1. ومن هذا يتبين أن الضلال الناتج عن التشبه بالأمم الضالة اليهودية أو النصرانية أو الفارسية أو غيرها نوعان: الأول: ضلال علمي اعتقادي ينتج عن الإِعراض عما دل عليه الكتاب والسنة، وتطلب العلم واليقين بالخوض فيما عند الأمم الجاهلية من قديم وجديد من علوم الديانات، والفلسفة، والآداب، والنظريات الضالة في علم النفس والاجتماع والسياسة ونحوها. ومن هذا النوع تظهر البدع والفرق الضالة والمدارس المنحرفة. وهذا النوع ضُرب له مثَل السراب الذي تجري دراسته في هذا المبحث. الثاني: الضلال العملي الناتج عن الإعراض عن العمل بما يدل عليه العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم والاستمتاع بالخلاق المتمثل بالإخلاد إلى

_ 1 رواه ابن جرير، جامع البيان (6/412) ، وذكره ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (2/368) وقال: "وهذا الحديث له شاهد في الصحيح"، وقد اخترت هذه الرواية لكونها تربط بين الأحاديث الواردة في النهي عن التشبه بالأمم السابقة وبين الآية. وشاهده في البخاري ح (7319) ، كتاب الاعتصام.. باب "لتتبعن سنن من كان قبلكم، الصحيح مع الفتح (13/300) .

الأرض واتباع الهوى والشهوات المحرمة. وهذا النوع ضُربت له أمثال منها مثل الكلب في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الغَاوِينَوَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1. ومما تقدم يتبين لنا أن من الأسباب الرئيسة في ضلال من ضل من المنتسبين للإسلام الإعجاب والجنوح إلى تعلم علوم الجاهلين والضُلاَّل عموماً، من كان منهم منتسباً للأديان السماوية، أو الاتجاهات الفلسفية، أو الأديان الوثنية، أو المدارس الأدبية الفكرية. كذلك من أعرض عن الكتاب المحفوظ وصحيح السنة وزعم أن طريقه إلى العلم هو القياس العقلي أو الكشف والفيض القلبي الصوفي، أو الأئمة المعصومون أو نحو ذلك، فقد فتح لنفسه باباً للضلال. وكل هؤلاء يصدق عليهم حكم المثل، وهو أنهم اتبعوا شبهات حسبوها علماً وإِيماناً، وهي سراب خادع، نتج عنها حبوط أعمالهم وإفلاسهم يوم القيامة. نعوذ باللَّه من الخذلان.

_ 1 سورة الأعراف الآيتان رقم (175-176) .

سبب الضلال من الإِنسان: إِن من المتقرر في القواعد الإِيمانية المستفادة من الكتاب والسنة أن الهداية والضلال يكونان بسبب من الإِنسان وفعل من اللَّه العزيز الحكيم، وقد وردت نصوص كثيرة تبين هذه القاعدة. ففي مجال الهداية، قال اللَّه تعالى: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} 1. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} 2. وفي مجال الضلال، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوآ أَزَاغَ اللَّه قُلُوبَهُمْ} 3. وقال: {بَلْ طَبَعَ اللَّه عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} 4. وقال: {وَيُضِلُّ اللَّه الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّه مَا يَشَآءُ} 5. وهذا المثل - مثل السراب - بيّن فِعل هؤلاء الكفار الذي فعلوه

_ 1 سورة الرعد الآية رقم (27) . 2 سورة محمد الآية رقم (17) . 3 سورة الصف الآية رقم (5) 4 سورة النساء الآية رقم (155) . 5 سورة إبراهيم الآية رقم (27) .

فاستحقوا ما يناسبه من فعل اللَّه عز وجل، حيث زاغوا عن طريق الهداية، فأزاغ اللَّه قلوبهم. واللَّه عليم بما العباد عاملون، واقتضت حكمته أن يعامل كلاً بما يستحق، فقدّر عليهم - سبحانه - من أفعاله ما يناسب أفعالهم التي علم أنهم يعملونها، فمشيئة العباد محكومة بمشيئة اللَّه ومشيئة اللَّه مقيدة بمقتضى أسمائه الحسنى من العلم والحكمة، وعدم الظلم، وأن رحمته سبحانه تسبق غضبه. قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاًوَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَآءَ اللَّه إِنَّ اللَّه كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1. وسيأتي مزيد إيضاح لهذه المسألة - إِن شاء اللَّه - في الفوائد المستفادة من المثل في قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ..} . والمراد هنا هو إبراز أن المثل دل على أن ضلال هؤلاء كان بسبب من أنفسهم حيث أعرضوا عن الكتاب والسنة، وساروا خلف الشبهات، وموارد العلوم الضالة فأضلهم اللَّه. ولعل من تمام الفائدة أن أختم بكلام لشيخ الإِسلام أحمد بن تيمية

_ 1 سورة الإنسان الآيتان رقم (29-30) .

فأمر بطاعة أولي الأمر من العلماء والأمراء إذا لم يتنازعوا، وهو يقتضي أن اتفاقهم حجة، وأمرهم بالرد عند التنازع إلى اللَّه والرسول، فأبطل الرد إلى إمام مقلد أو قياس عقلي فاسد. وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّه النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} 1. فبين أنه بالكتاب يحكم بين أهل الأرض فيما اختلفوا فيه. وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّه ذَلِكُمُ اللَّه رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 2. وقال تعالى: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَاتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 3. ففرض اتباع ما أنزله من الكتاب والحكمة، وحظر اتباع أحد

_ 1 سورة البقرة الآية رقم (213) . 2 سورة الشورى الآية رقم (10) . 3 سورة الأعراف الآيتان رقم (2-3) .

من دونه. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنْزَلْنَآ عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1 فزجر من لم يكتف بالكتاب المنزل. وقال تعالى: {يَآ مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} 2 وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 3. وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوآ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ} 4.

_ 1 سورة العنكبوت الآية رقم (51) . 2 سورة الأنعام الآية رقم (130) . 3 سورة الإسراء الآية رقم (15) . 4 سورة الزمر الآية رقم (71) .

وقال تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلقِْيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌقَالُوا بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّه مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍوَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِفَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1. فدلت هذه الآيات على أن من أتاه الرسول فخالفه فقد وجب عليه العذاب، وإِن لم يأته إمام ولا قياس، وأنه لا يُعذَّب أحد حتى يأتيه الرسول وإِن أتاه إمام أو قياس. وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّه وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ} 2. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّه وَمَنْ يُطِعِ اللَّه وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُوَمَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 3.

_ 1 سورة الملك الآية رقم (8-11) . 2 سورة النساء الآية رقم (69) . 3 سورة النساء الآيتان رقم (13-14) .

وقد ذكر سبحانه هذا المعنى في غير موضع، فبين أن طاعة اللَّه ورسوله موجبة للسعادة، وأن معصية اللَّه موجبة للشقاوة، وهذا يبين أن مع طاعة اللَّه ورسوله لا يحتاج إلى طاعة إمام أو قياس، ومع معصية اللَّه ورسوله لا ينفع طاعة إمام أو قياس. ودليل هذا الأصل كثير في الكتاب والسنة، وهو أصل الإِسلام (شهادة أن لا إِله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه) وهو متفق عليه بين الذين أوتوا العلم والإِيمان قولاً واعتقاداً.."1. وهذا الأصل - الذي بينه شيخ الإِسلام - أصل عظيم من أصول السلامة والسعادة لمن استمسك به، ويضاف إليه معرفة طرق العلوم الضالة ومصادرها ليحذرها ويحذر منها، ومعرفة نواقض الإِسلام2 وخصائص الجاهلية ليكون في مأمن من الانزلاق فيها.3

_ 1 مجموع الفتاوى (19/66-68) . 2 انظر: شرح نواقض التوحيد، لحسن بن علي العواجي. 3 من الكتب النافعة في هذا الموضوع: - اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإِسلام ابن تيمية. - مجموعة كتب ورسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كمسائل الجاهلية، وكشف الشبهات وغيرها. - إغاثة اللَّهفان في مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية.

وخلاصة هذه الفائدة: أن المثل دل على أن السبب الأساس في ضلال من ضل ممن ينتسب إلى الشرائع السماوية هو إعراضهم عما أنزله اللَّه إليهم من الهدى والنور وتطلب العلم والإِيمان من غيره، وهذه الفائدة هي الدلالة الأهم التي يبينها المثل بمجموع ألفاظه وصورته المركبة. وعكس هذا الفائدة هو: أن السبب الرئيسي للهداية هو الاستمساك بكتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونهج السلف الصالح، والحذر الشديد من البدع والمحدثات ومصادر العلوم الضالة، وذلك هو الاعتصام بحبل اللَّه المتين وصراطه المستقيم.

الفائدة الثانية: دلالة المثل على أن من أسباب الضلال اتباع الظن. ومأخذ هذه الفائدة من قوله سبحانه: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً} . فالممثّل به جرى نحو السراب حيث ظن أنه ماءٌ نافعٌ يروي عطشه وينقذ نفسه من الهلكة بسبب شبه السراب الخادع بالماء. وكذلك الممثّل لهم - الذين كفروا - ساروا في تطلب العلوم الضالة والأعمال المبتدعة ظانين أنها علومٌ نافعةٌ وأعمالٌ صالحة، تسد حاجتهم من العلم وتقربهم إلى اللَّه، بسبب الشبهات وزخرف القول، فصدق عليهم قول اللَّه عز وجل: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الخَاسِرِينَ} 1. وهذا الصنف من الكفار داخل فيمن وصفهم اللَّه بقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاًالَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} 2. قال ابن جرير - رحمه اللَّه -:

_ 1 سورة فصلت الآية رقم (23) . 2 سورة الكهف الآيتان رقم (103، 104) .

"والصواب من القول في ذلك عندنا، أن يقال: إن اللَّه عز وجل عنى بقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} كل عامل عملاً يحسبه فيه مصيباً ... وعن طريق أهل الإِيمان به جائر ... وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم باللَّه كفرة، من أهل أي دين كانوا. وقوله: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا} . يقول: هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلالة، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم اللَّه به بل على كفر منهم به، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} يقول: وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك للَّه مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون.."1. وهذا المعنى - وهو بيان أن اتباع الظن من أسباب الضلال - كثير في القرآن الكريم. فمن ذلك قول اللَّه تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} 2.

_ 1 جامع البيان في تأويل القرآن، (8/492، 293) . 2 سورة الأنعام الآية رقم (116) .

قال ابن جرير - رحمه اللَّه -: "فأخبر جل ثناؤه أنهم على ظن عند أنفسهم وحسبان على صحة عزم عليه، وإن كان خطأ في الحقيقة، {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يقول: ما هم إلا متخرصون، يظنون ويوقعون حزراً، لا يقيناً"1. فأخبر - سبحانه - أن أكثر الناس واقعون في الضلال، وأن مستند ضلالهم هو الظن والتخرص، وأن طاعتهم من أسباب ضلال أهل الإِسلام. ففي الآية تحذير من الجنوح إلى ما عندهم من العلوم، ومن الاغترار بزخرف قولهم، كما أن فيها إرشاداً إلى إعمال العقول في معرفة أصول الأشياء ومستنداتها ليتبين من يقيم أمره على نور وبرهان ممن يقيمه على ظن وتخرص. وقال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّه عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} 2 قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الحَقِّ شَيْئاً} أي أنه: "لا يقوم في

_ 1 جامع البيان، (5/315) . 2 سورة يونس الآية رقم (36) .

شيء مقامه، ولا ينتفع به حيث يحتاج إلى اليقين"1. فالظن وإن صدقه أصحابه واعتقدوه فلن ينفع في تصويب أعمالهم التي لم يستندوا فيها إلى الهدى الذي بينه اللَّه بواسطة رسله. ولن ينفعهم تصديقهم بهذه الظنون وعملهم بها عند اللَّه، كما لم ينتفع صاحب السراب منه بشيء، وسوف يجازيهم عليها بما يستحقون. وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الهُدَى} 2. وهذه الآية تضيف معنى آخر إلى ما دلت عليه الآيات السابقة، وهو كون الضالين قبلوا تلك الظنون لموافقتها لهوى نفوسهم دون أن يعرضوها على عقولهم ويُنْعِمُوا فيها النظر ليتبين لهم زيغها. كما دلت الآية على أن الهدى جاءهم من ربهم بواسطة رسله وكتبه، وأنهم أعرضوا عنه إلى الظنون وما تهوى الأنفس، فأوقعهم ذلك في الضلال. وأخطر الظنون السيئة المردية الظن السّيّئ باللَّه تعالى، والذي مردّه إلى الجهل أو الضلال في باب التوحيد. فالخلل في معرفة الخالق تبارك وتعالى، أو حكمته وقدره، أو حقه

_ 1جامع البيان، (6/561) . 2 سورة النجم الآية رقم (23) .

على عباده، يوجد سوء ظن باللَّه يتناسب مع هذا الخلل، سواء كان بجهل أسماء اللَّه وما تدل عليه من الصفات، أو جهل بعض تفاصيل القدر وتوحيد الألوهية، أو كان بفهمها فهماً يخالف الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة. والظن السيئ دافع إلى الضلال، ومولد لإرادات الشر وخواطره في القلب، وهو منفذ للشيطان لإضلال الإِنسان. وقد بيّن اللَّه تعالى أن الظن السّيّئ باللَّه - عند طائفة من الكفار - كان سبباً في ضلالهم وهلاكهم، حيث قال سبحانه: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلآ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّه لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَوذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الخَاسِرِينَ} 1. فانظر إلى هذا الظن السّيّئ - الناتج عن جهلهم بصفات اللَّه وعلمه المحيط، وهو اعتقادهم أن اللَّه لا يعلم كثيراً مما يعملون - وما نتج عنه من الأعمال الضالة الشريرة التي أركستهم في الضلال والخسران. وهذا البيان المتكامل في آيات القرآن يؤكد على أن سبيل

_ 1 سورة فصلت الآيتان رقم (22-23) .

الهدى الأوحد هو اتباع كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتعلم منهما والاكتفاء بهما. وأن طريق الزيغ والضلال هو الإعراض عنهما، واتباع الظنون وما تهوى الأنفس، والأقيسة الفاسدة، والموارد الضالة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ الله إِخْوَانًا"1. ففي هذا الحديث نهي عن العمل بالظن، وإبطال له، حيث قال: "فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ". والمراد الظن الذي لا يستند إلى دليل أو بينة حسية أو شرعية. وهذا الحديث ورد في المعاملات الجارية بين المسلمين، وإفادته للنهى عن العمل بالظن في العقائد والعبادات من باب أولى. وخلاصة هذه الفائدة: أن المثل في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} دل على أن الظن وما تهوى الأنفس من أسباب الضلال والإعراض عن كتاب اللَّه وسنة

_ 1 متفق عليه، البخاري: كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه، ح (5143) الصحيح مع الفتح (9/198) . ومسلم: كتاب البر والصلة، باب تحريم الظن، ح (2563) الصحيح بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي (4/1984) .

رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه السبب في ضلال كثير من الناس، ومن أجل ذلك نهى اللَّه عنه في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة بعباده وتحذيراً لهم من هذا السبيل المردي.

الفائدة الثالثة: دلالة المثل على أن من أسباب الضلال اتباع الشبهات. وهذه الفائدة مستفادة من قوله تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً} . وذلك أن الممثّل به - صاحب السراب - لاح له لمعان يشبه الماء وليس بماء، فجرى نحوه، ولم يجده شيئاً. وكذلك الممثّل لهم - الذين كفروا - لاحت لهم شبهات ظنوها بينات، فانساقوا نحوها، فأوقعتهم في الضلال والخسران. والشبهات اصطلاح، من معانيه: ما يكون بينه وبين الحق تشابه من وجه من الوجوه غير مؤثر في إلحاقه به حكماً. والشبهات أنواع كثيرة، وهي تنقسم في الجملة إلى قسمين. القسم الأول: ما بينه وبين الحق تشابه في أصل الخلقة أو الوضع. وهذا القسم اعتبر من المتشابه في أصل الخلق أو الوضع باعتبار أن اللَّه سبحانه خلقها كذلك، أو جعل المتشابه من آيات كتابه، فتنة واختباراً، "ابتلى اللَّه فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يُصْرفن إلى الباطل ولا يُحْرفن عن الحق"1.

_ 1 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (1/345) .

وهذا القسم أنواع: أ - ما يكون التشابه فيه ظاهرياً مع الاختلاف التام في الحقيقة. ومن هذا النوع التشابه في الشكل والصورة بين الحيوان مثلاً وصورته وتمثاله. ومنه التشابه الحاصل بين صورة الماء وصورة السراب في عين الرائي. ب - التشابه في الألفاظ والمعاني العامة المشتركة دون الحقائق والكيفيات. ومن هذا النوع التشابه في اللفظ والمعنى المشترك بين أسماء اللَّه عز وجل والأسماء التي تطلق على بعض خلقه.1 ومن ذلك: التشابه في المسميات بين ثمرات الدنيا وثمرات الجنة ونحو ذلك.2 جـ - المتشابه من الألفاظ التي يخفى علمها على كثير من الناس، ويعلمها الراسخون في العلم، وكثيراً ما يقع في المراد بها خلاف بين الناس بسبب أنها: "تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد"3. وهذه الأنواع المتشابهة في الألفاظ والمعاني داخلة في مدلول قول

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإِسلام أحمد بن تيمية (الرسالة التدمرية) (3/9، 10، 62-64) . 2 انظر: مجموع الفتاوى (3/28) . 3 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (1/344) .

اللَّه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّه وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلآ أُوْلُوا الألبَابِ} 1. قال ابن كثير - رحمه اللَّه - في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} : "أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} : أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يعرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم، ولهذا قال اللَّه تعالى: {ابْتِغَآءَ الفِتْنَةِ} : أي الإضلال لأتباعهم إيهاماً لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم.. وقوله تعالى: {وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ} : أي تحريفه على ما يريدون"2.

_ 1 سورة آل عمران الآية رقم (7) . 2 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (1/529) .

وطريقة الراسخين في العلم في المتشابهات: رد اللفظ المتشابه إلى المعنى المحكم والعمل بهما جميعاً، "كما قال تعالى مخبراً عن الراسخين في العلم حيث قالوا {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي محكمه ومتشابهه حق، فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا، ولهذا مدح اللَّه الراسخين وذم الزائغين"1. د - التشابه بين شيئين في بعض الصفات. والصفات المشتركة قد تكون مؤثرة فيتشابهان في الحكم، وقد تكون غير مؤثرة فيفترقان، وغالب ما يكون هذا في الأحكام والحلال والحرام. وهذا النوع هو ميدان المجتهدين من العلماء في تحقيق مناط الحكم وتحديد الصفات والعلل المؤثرة، وتقرير الأحكام المناسبة. وفي هذا ورد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّه مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي

_ 1 تفسير القرآن العظيم، (1/529) .

الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ"1. قال ابن رجب - رحمه اللَّه -: "ومع هذا فلا بد في الأمة من عالم يوافق قوله الحق، فيكون هو العالم بهذا الحكم، وغيره يكون الأمر مشتبهاً عليه، ولا يكون عالماً بهذا، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يظهر أهل باطلها على أهل حقها، فلا يكون الحق مهجوراً غير معمول به في جميع الأمصار والأعصار، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في المتشابهات: "لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ" فدل على أن من الناس من يعلمها، وإنما هي مشتبهة على من لم يعلمها، وليست مشتبهة في نفس الأمر، فهذا هو السبب المقتضي لاشتباه بعض الأشياء على كثير من العلماء"2. وقال أيضاً:

_ 1 متفق عليه واللفظ لمسلم، البخاري: كتاب الإِيمان، باب: من استبرأ لدينه، ح (52) الصحيح مع الفتح (1/126) ، مسلم: كتاب المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، ح (1599) الصحيح بتحقيق محمد عبد الباقي (3/1219) . 2 إيقاظ الهمم المنتقى من جامع العلوم والحكم لابن رجب، لسليم الهلالي، ص (111) .

"ودل الكلام على أن غير هؤلاء يعلمها، ومراده أنه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم، وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند اللَّه في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلف فيها واحد عند اللَّه عز وجل، وغيره ليس بعالم بها، بمعنى أنه غير مصيب لحكم اللَّه فيها في نفس الأمر، وإن كان يعتقد فيها اعتقاداً يستند فيه إلى شبهة يظنها دليلاً، ويكون مأجوراً على اجتهاده، ومغفوراً له خطؤه لعدم اعتماده"1. وقد يكون الاشتباه في هذا النوع بسبب القياس الفاسد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "ومن هذا الباب الشبه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشتبه فيها الحق والباطل، حتى تشتبه على بعض الناس، ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل، والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات، لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه. فمن عرف الفصل بين الشيئين: اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد، وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء ويفترقان في شيء، فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه، فلهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه، والقياس الفاسد"2.

_ 1 إيقاظ الهمم المنتقى من جامع العلوم والحكم، ص (115) . 2 مجموع الفتاوى، (3/62) .

قوله صلى الله عليه وسلم: "فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ": فيه دلالة على قاعدة شرعية هامة في التعامل مع المتشابهات، وهي: الابتعاد عنها حتى يتبين له حكمها، وأن ذلك من أسباب سلامة الدين، والبعد عن الفتن. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ": دليل على أن بعض الناس يعلم حكمها وبيانها، وأولى الناس بذلك هم الراسخون في العلم أهل الذكر، ففيه الإشارة إلى تطلب علمها منهم. وهاتان الفائدتان ينبغي أن تكونا نصب عين كل مسلم، ليتعامل بهما مع كل ما يسمعه ويشاهده من بوادر الفتن، من الإشاعات والشبهات، التي قد يكون فيها شبه من الحق من جهة، وتفارقه من جهة، أو يكون فيها جانب مصلحة وجانب مفسدة، فيتوقف ولا يسارع في قبولها حتى يصل إليه حكمها من الراسخين في العلم والإِيمان. وإن كانت من جنس الإشاعات فإِنه لا يصدّق بها إلا إذا تبين له صدقها، ولا يحدّث بها إلا إذا تبين له أيضاً أن في الإخبار بها مصلحة راجحة. القسم الثاني: الشبهات التي من نوع لبس الحق بالباطل. وفارق هذا النوع عن الذي قبله أن تلك مشتبهة في طبيعتها، ويخفى بيانها على كثير من الناس، أما هذا النوع فالأمر غالباً لا يخفى، وبيانها واضح، لو تُرِك الناس وفطرتهم وسليقتهم اللغوية، لكن بفعل المجرمين الذين يلبسون الحق بالباطل، ويزخرفون القول، يلتبس أمرها على من قل

حظه من العلم والبصيرة، فتكون من الحق الذي يراد به باطل. ومن ذلك الإشاعات التي تطلق ضد رجال الإِسلام القائمين بنصره والذب عنه من العلماء والأمراء والدعاة والقادة ونحوهم. وهذه الشبه والإشاعات هي التي يلقيها الشياطين إلى بعضهم ويتواصون بنشرها ليغروا بها الناس ويلبسوا عليهم دينهم ويفسدوا أمرهم. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَوَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} 1. فشياطين الجن يوحون إلى أوليائهم من شياطين الإنس من الضلالات والشبهات والتلبيسات، ما يتعرضون به إلى المؤمنين لإضلالهم وإفساد دينهم. قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّه عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 2.

_ 1 سورة الأنعام الآيتان رقم (112-113) . 2 سورة الأنعام الآية رقم (121) .

وكذلك شياطين الإنس يتلقى بعضهم الشر عن بعض، كما قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوآ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوآ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} 1 وأخطر المروِّجين للشبهات والإِشاعات المنافقون وأهل الأهواء والمناهج المنحرفة، الذين يكونون بين المسلمين، وفي المسلمين من يستمع لهم وينخدع بزخرف قولهم، قال تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} 2. وترويج الشبهات والإشاعات أسلوب ينتهجه كل صاحب فكرة أو مبدإ أو منهج منحرف، وينخدع به من قل حظه من العلم والبصيرة بكتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه سلف الأمة. قال ابن القيم - رحمه اللَّه -: "ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى، فهنالك الفتنة العظمى، والمصيبة

_ 1 سورة البقرة الآية رقم (14) . 2 سورة التوبة الآية رقم (47) .

الكبرى، فقل ما شئت في ضلال سَيّئ القصد، الحاكم عليه الهوى لا الهدى، مع ضعف بصيرته، وقلة علمه بما بعث اللَّه به رسوله، فهو من الذين قال اللَّه تعالى فيهم: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُس} 1 ... وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم، فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال. ولا يُنجي من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول، وتحكيمه في دق الدين وجله، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه، فيتلقى عنه حقائق الإِيمان وشرائع الإِسلام ... وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب، وتارة من حق ثابت خفي على الرجل فلم يظفر به، وتارة من غرض فاسد وهوى متبع، فهي من عمى في البصيرة، وفساد في الإرادة"2. ولذا فإن من أسباب السلامة من الاغترار بالشبهات ملازمة أهل الذكر من العلماء الراسخين المتمسكين بكتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونهج سلف الأمة، أهل العلم والدين والعقل والنصح لله ولعباده. قال اللَّه تعالى:

_ 1 سورة النجم الآية رقم (23) . 2 إغاثة اللَّهفان في مصايد الشيطان، (1/239-240) .

{وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} 1. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه اللَّه -: "هذا تأديب من اللَّه لعباده، ... وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة، ما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم، أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر. بل يردونه إلى الرسول، وإلى أولى الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح، والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها. فإِن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين، وسروراً لهم، وتحرزا من أعدائهم، فعلوا ذلك. وإِن رأوا ما فيه مصلحة، أو فيه مصلحة، ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه. ولهذا قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة، وعلومهم الرشيدة.

_ 1 سورة النساء الآية رقم (83) .

وهذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور، ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإِنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطإ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع، لنشر الأمور، من حين سماعها والأمر بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه، هل هو مصلحة؟ فيقدم عليه الإِنسان، أم لا؟ فيحجم عنه"1. ولعل أشد مكر المفسدين الناشرين للشبهات والإشاعات هو استهداف العلماء والدعاة ورجال الأمة الناصحين بالشبهات والإِشاعات الجائرة، بغرض زعزعة ثقة الناس بهم، وصدهم عن الاستماع إليهم، والاسترشاد بعلمهم وتوجيهاتهم، وبذلك تخلو الساحة لهؤلاء المفسدين. وقريباً من ذلك: إذا وقع هذا الداء بين العاملين للإِسلام من طلبة العلم والدعاة ونحوهم، فيتراشقون بالإِشاعات، ويثيرون حول بعضهم الشبهات، فتلك قاصمة الظهر، وبادرة من بوادر الخذلان، ومنفذ خطير للمفسدين لإِضرام نار الفتنة. وأسوؤهم حالاً، وأعظمهم جرماً وشؤماً من يدعي العمل للإسلام ويتصدى للدعوة وإنكار المنكر، ثم يستهدف أهل العلم والتوحيد،

_ 1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (2/113-114) .

والدعوة إلى السنة، والذب عن الإِسلام والتحذير من البدع والمحدثات، والمناهج المنحرفة، يستهدفهم بنشر الشبهات والإشاعات عنهم، بقصد صرف الناس عنهم واستجلابهم إليه، أو بصدهم عن جهودهم، فيكونون بعيدين عن النور والبصيرة، فيسهل عليه توجيههم لما يريد من البدع المستحدثة والمناهج المنحرفة. وإنما يلجأ إلى هذا الأسلوب من يرى نفسه في موقف ضعيف أمام من هو أرسخ منه، محاولة منه في تقوية جانبه، واستجلاب الناس إليه، ولا يمتطي هذا النهج إلا ضعيف الإِيمان والورع والتقوى. وهذه الفتنة ليس لها إلا الفرار إلى اللَّه، وإحسان الظن به، والتجرد للحق، والبعد عن الهوى والظنون، وملازمة الراسخين في العلم والإِيمان يُستنار بعلومهم وفتاويهم وتوجيهاتهم. ثم اجتهاد أهل العلم والغيرة على دين اللَّه وعباده، في مقاومة كيد المفسدين، ومصابرتهم، وكشف عوارهم، وإبطال زيغهم. وقد قلت في هذا المعنى: [ملف الجداول] وخص منها من بدينه افتتن ونحتمي باللَّه من عصر الفتن فاطلب لها يا صاح أهل الأثر فإن تراءت شبهات أو كدر بنص وحي واضح مسددا تجد لديهم كشفها المؤيدا بعد الكتاب ذاك نهج يقتفى إذ دأبهم في العلم قال المصطفى

أهل التقى والنور والفعال أكرم بهم من عصبة المعالي نصحاً وإرشاداً وقمعاً للفتن في نصرة الدين وإحياء السنن واتبع الحق إذا استبان واللَّه مولى من به استعان وأحسن الظن بما قضاه وأسلم الأمر إلى مولاه أو أمن مكر من شديد الغضب من غير تفريط بفعل السبب الراسخين في التقى والفهم مسترشداً برأي أهل العلم ونهج أهل السنة التليد يقدمون دعوة التوحيد قبل ظهور البدع المستنكرة في عصر أصحاب الرسول البررة السادة الأخيار أصحاب المتون والتابعين دربهم خير القرون ولا يبعد عن هذا ما يحصل من إثارة الشبهات والشكوك من أصحاب الأهواء والمناهج الثورية، حول ولاة أمور المسلمين من الحكام والأمراء الذين يقيمون الصلاة ومعالم الدين. ويصدر منهم أخطاء ومخالفات. فإن ما يحصل من الفساد بسبب إِطلاق الألسن في ولاة الأمر وتناقل الإِشاعات التي تستهدفهم، لا يقل عن الفساد الذي يحصل من التعرض للعلماء حماة الدين. إذ ينتج عن الأول فساد الدنيا، وعن الآخر فساد الدين.

قال سهل1 بن عبد اللَّه التستري - رحمه اللَّه -: "لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإذا عظموا هذين أصلح اللَّه دنياهم وأخراهم، وإذا استخفوا بهذين، أفسد دنياهم وأخراهم"2. وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - حفظه اللَّه - مبيناً هذا المعنى: "فاللَّه اللَّه في منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان، وأن لا يتخذ من أخطاء السلطان سبيلاً لإِثارة الناس، وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمور، فهذا عين المفسدة، وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس، كما أن ملء القلوب على ولاة الأمر يحدث الشر والفتنة والفوضى، وكذا ملء القلوب على العلماء يحدث التقليل من شأن العلماء، وبالتالي التقليل من الشريعة التي يحملونها. فإذا حاول أحد أن يقلل من هيبة العلماء وهيبة ولاة الأمر، ضاع الشرع والأمن، لأن الناس إن تكلم العلماء لم يثقوا بكلامهم، وإن تكلم

_ 1 أبو محمد، سهل بن عبد اللَّه بن يونس التستري، ولد سنة (200هـ) ، له كلمات نافعة، ومواعظ حسنة، توفي سنة (283هـ) . انظر: سير أعلام النبلاء (13/330) ، ووفيات الأعيان لابن خلكان، (1/218) . 2 الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد اللَّه محمد بن أحمد القرطبي، (5/260) ، دار الكتاب العربي للطباعة، القاهرة، الطبعة الأولى، (1387هـ) .

الأمراء تمردوا على كلامهم، وحصل الشر والفساد. فالواجب أن ننظر ماذا سلك السلف تجاه ذوي السلطان، وأن يضبط الإِنسان نفسه، وأن يعرف العواقب. وليعلم أن من يثور إِنما يخدم أعداء الإِسلام، فليست العبرة بالثورة ولا بالانفعال، بل العبرة بالحكمة"1. وخلاصة هذه الفائدة: أن المثل دل على أن اتباع الشبهات من أسباب الضلال، ودلت النصوص والواقع على ضلال كثير من الناس بها، وأنها من أخطر أساليب أهل الزيغ والإِفساد في إضلال الناس وصدهم عن الحق، وينخدع بها ضعاف العلم والإِيمان والبصيرة، وأن المخرج من ذلك يكون بالاعتصام بكتاب اللَّه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والاسترشاد برأي الراسخين في الإِيمان والعلم، أهل السنة، السائرين على نهج سلف الأمة. واللَّه أعلم.

_ 1 نقلاً عن: نبذة مفيدة عن حقوق ولاة الأمر، د. عبد العزيز بن إبراهيم العسكر، ص (15، 16) ، الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الرياض، الطبعة الأولى.

الفائدة الرابعة: دلالة المثل على أن حسن القصد غير معتبر في تصحيح الأعمال إذا خالفت شروط الصحة. وهذه الفائدة مأخوذة من قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} بعد قوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً} ، فإِن طالب السراب لم ينفعه ظنه بأن السراب ماء، ولا اجتهاده في طلبه، ولا شدة حاجته إليه، في تغيير حقيقة السراب. وكذلك أعمال الذين كفروا الممثّل لها التي عملوها وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وربما اجتهدوا في عملها، وأحسنوا القصد بالتوجه بها إلى اللَّه، إلا أن ذلك لا يغير من شريعة اللَّه شيئاً، ولا يعتبر في تصحيح الأعمال المبتدعة، والعقائد المستحدثة، والمناهج الضالة، التي لم يأذن اللَّه بها، ولم ينزل بها سلطاناً، وذلك أن اللَّه لا يقبل من العمل إلا ما كان موافقاً لهديه الذي أنزله على رسله. فقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} يدل على حكم أعمال الذين كفروا - الممثّل لها - وأنها باطلة حابطة. وهذا المعنى مثل قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَنْثُورًا} 1.

_ 1 سورة الفرقان الآية رقم (23) .

قال ابن كثير - رحمه اللَّه - في تفسير هذه الآية: "هذا يوم القيامة حين يحاسب اللَّه العباد على ما عملوه من الخير والشر فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم، شيء، وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع اللَّه، فكل عمل لا يكون خالصاً، وعلى الشريعة المرضية، فهو باطل، فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معاً فتكون أبعد من القبول حينئذ، ولهذا قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَنْثُورًا} ... وذلك أنهم عملوا أعمالاً اعتقدوا أنها على شيء، فلما عرضت على الملك الحكم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحداً إذا بها لا شيء بالكلية، وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية، كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوآ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ البَعِيدُ} 1. وقال تعالى: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّه وَاليَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ

_ 1 سورة إبراهيم الآية رقم (18) .

فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ} 1. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُمَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّه سَرِيعُ الحِسَابِ} "2. كما بين اللَّه تعالى هذا المعنى في قوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاًالَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} 3. قال ابن كثير - رحمه اللَّه - مرجحاً عموم هذه الآية في كل عامل على غير هدى: "وإنما هي عامة في كل من عبد اللَّه على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ وعمله مردود، كما قال

_ 1 سورة البقرة الآية رقم (264) . 2 تفسير القرآن العظيم، (3/314) . 3 سورة الكهف الآيتان رقم (103-104) .

تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌعَامِلَةٌ نَاصِبَةٌتَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} 1، وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَنْثُورًا} 2. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُمَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّه سَرِيعُ الحِسَابِ} 3 وقال في هذه الآية الكريمة: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} أي نخبركم {بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} ثم فسرهم فقال: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي عملوا أعمالاً باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} أي يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون"4. ويلاحظ أن ابن كثير ربط بين هاتين الآيتين، وهما: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَنْثُورًا} الآية، وقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ

_ 1 سورة الغاشية الآيات رقم (2-4) . 2 سورة الفرقان الآية رقم (23) . 3 سورة النور الآية رقم (39) . 4 تفسير القرآن العظيم، (3/107) .

أَعْمَالاً ... } الآية، وبين المثل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ... } . كما نبه - رحمه اللَّه - على أن سبب حبوط أعمال المذكورينفي الآيات الثلاث هو فقدها لشروط الصحة، ويؤيد هذه النتيجة أناللَّه تعالى في سورة الكهف في سياق قوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ... } الآية، ذكر شروط صحة العمل وختم بها السورة في قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 1. وهذا المقام يقودنا إلى التطرق إلى شروط صحة العمل. شروط صحة العمل: إن العمل لا يكون صحيحاً مقبولاً عند اللَّه إلا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط على وجه الإِجمال، دل عليها الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وهذه الشروط هي: الشرط الأول: أن يكون العامل مؤمناً موحّداً.

_ 1 سورة الكهف الآية رقم (110) .

الشرط الثاني: الإخلاص وهو أن يقصد بعمله وجه اللَّه عز وجل. الشرط الثالث: المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو أن يعمل مهتدياً بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم من دون غلو أو ابتداع. وقد جمع اللَّه هذه الشروط الثلاثة في قوله سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًاوَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} 1 بيّن ابن كثير - رحمه اللَّه - أن اللَّه سبحانه في هاتين الآيتين: "شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده، ذكرانهم وإناثهم بشرط الإِيمان ... ثم قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي أخلص العمل لربه عز وجل فعمل إيماناً واحتساباً، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي اتبع في عمله ما شرعه اللَّه، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما أي يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متابعاً للشريعة، فيصح ظاهره بالمتابعة وباطنه

_ 1 سورة النساء الآيتان رقم (124-125) .

بالإخلاص. فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمتى فقد الإخلاص كان منافقاً، وهم الذين يراؤون الناس. ومن فقد المتابعة كان ضالاً جاهلاً. ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم.."1. كما جمع اللَّه بين هذه الشروط الثلاثة في قوله سبحانه: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} 2. قوله: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ} : هذا شرط الإخلاص، إذ المراد أنه أخلص في عبادة اللَّه ليفوز وينال كرامته في الدار الآخرة. ويدل على ذلك مقابلة إرادة الآخرة: بعدم الإخلاص، وإرادة الدنيا. كما قال قبل ذلك: {مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} 3. وهذا المعنى كثير في القرآن، وهو التعبير عن الإخلاص بإرادة

_ 1 تفسير القرآن العظيم، (1/559) . 2 سورة الإسراء الآية رقم (19) . 3 سورة الإسراء الآية رقم (18) .

الآخرة ومقابلته بإرادة الدنيا، كما في قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} 1. وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِمِنْهَا} 2. قوله: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} : فيه تقرير شرط المتابعة، حيث إن سعي الآخرة هو الأعمال الصالحة وتحقيق العبودية كما ورد بيانها في الكتاب والسنة. قال ابن كثير - رحمه اللَّه - في تفسير قوله تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} : "أي طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.."3. قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} : نص على شرط الإِيمان. قوله: {فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} دليل على أن من حقق

_ 1 سورة آل عمران الآية رقم (152) . 2 سورة آل عمران الآية رقم (145) . 3 تفسير القرآن العظيم، (3/33) .

الشروط الثلاثة كان عمله مشكوراً أي مقبولاً.1 الشرط الأول: شرط الإِيمان. قوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} جملة حالية، أي حال كونه متلبساً بالإِيمان، وهو شرط في صحة الأعمال كما تقدم قريباً في كلام ابن كثير - رحمه اللَّه -. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه اللَّه -: "وهذا شرط لجميع الأعمال لا تكون صالحة، ولا تقبل، ولا يترتب عليها الثواب، ولا يندفع بها العقاب، إلا بالإِيمان. فالأعمال بدون الإِيمان، كأغصان شجرة، قطع أصلها وكبناء بنى على موج الماء. فالإِيمان هو الأصل والأساس، والقاعدة، التي يبنى عليها كل شيء. وهذا القيد، ينبغي التفطن له، في كل عمل مطلق، فإِنه مقيد به"2. وقد ورد التنبيه إلى هذا الشرط في آيات أخر منها: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ

_ 1 انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، (4/268) ، وفتح القدير للشوكاني، (3/217) . 2 تيسير الكريم الرحمن، (2/176-177) .

مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وقوله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} 2. وقوله: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} 3. ونحو ذلك من الآيات. تحقق هذا الشرط: هذا الشرط - اللازم لصحة العمل وقبوله وانتفاع العبد به في الدنيا والآخرة - يتحقق بأمرين: الأمر الأول: صحة العقد، وذلك بأن يأتي بأصل الإِيمان صحيحاً. وقد تقدم الكلام عليه في بيان أصل الإِيمان في "مقدمات في تعريف الإِيمان" في الباب الأول4. الأمر الثاني: الذي يتحقق به شرط الإِيمان: هو استدامة صحة الإِيمان، وذلك بأن لا يتلبس بعمل يوجب له الكفر والخروج من الإِسلام.

_ 1 سورة النحل الآية رقم (97) . 2 سورة الأنبياء الآية رقم (94) . 3 سورة غافر الآية رقم (40) . 4 تقدم (197-236) .

وقد جمع بعض أهل العلم أهم نواقض الإِيمان، وحصرها فيما يلي1: 1- الشرك في عبادة اللَّه. 2- من جعل بينه وبين اللَّه وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم كفر إجماعاً. 3- من لم يكفّر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كَفَر. 4- من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر. 5- من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به كفر. 6- من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثواب اللَّه أو عقابه كفَر. 7- السحر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفَر. 8- مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين. 9- من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة النبي محمد

_ 1 انظر: مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قسم العقيدة والآداب، (1/385-387) .

صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر1 الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر. 10- الإعراض عن دين اللَّه تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به.2

_ 1 الخضر قيل: اسمه بليا بن ملكان، ويكنى أبا العباس، ويلقب بالخضر، وأنه من أبناء الملوك، وقيل إنه رسول، وقيل نبي، وقيل ولي ليس بنبي، والنصوص تشهد لنبوته، قال ابن كثير - رحمه اللَّه -: "وقوله تعالى: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف 82] . أي هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة إنما هو من رحمة اللَّه بمن ذكرنا.. وما فعلته عن أمري أي لكني أمرت به، ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر - عليه السلام -، مع ما تقدم من قوله: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} [الكهف 65] . وزعم بعض أهل العلم أنه لا يزال باقياً إلى يوم القيامة، واستدلوا بأحاديث وآثار لا يصح منها شيء، كما قاله ابن كثير - رحمه اللَّه-. والذي عليه جمهور أهل العلم من المحدثين وغيرهم، أنه هلك وأنه لم يكتب لأحد من بني آدم الخلد، واحتجوا لذلك بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34] وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا حضر عنده، ولا قاتل معه، ولو كان حياً لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى جميع الثقلين الجن والإِنس، وأخبر قبل موته بقليل أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف، إلى غير ذلك من الأدلة. انظر كل ما تقدم: تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير، (3/99، 100) . 2 انظر لبيان هذه النواقض وأدلتها: شرح نواقض التوحيد، لحسن بن علي العواجي.

الشرطان الآخران: جمع اللَّه بين شرط الإخلاص في العبادة، وشرط المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم فيها في أكثر من آية، من ذلك الآيات المتقدمة، وهي: {ومن أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} 1. وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 2. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه - في بيان لزوم هذين الشرطين لصحة العبادة وقبولها: "والعبادة والطاعة، والاستقامة، ولزوم الصراط المستقيم، ونحو ذلك من الأسماء، مقصودها واحد ولها أصلان: أحدهما: أن لا يُعبد إلا اللَّه. والثاني: أن يُعبد بما أمر وشرع لا بغير ذلك من الأهواء والبدع، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ

_ 1 سورة النساء الآية رقم (125) . 2 سورة الكهف الآية رقم (110) .

أَحَدًا} ، وقال تعالى: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} 1، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} . فالعمل الصالح هو الإحسان، وهو فعل الحسنات، والحسنات هي ما أحبه اللَّه ورسوله، وهو ما أمر به من إيجاب واستحباب. فما كان من البدع التي في الدين ليست مشروعة، فإِن اللَّه لا يحبها ولا رسوله، فلا تكون من الحسنات ولا من العمل الصالح، كما أن ما يعلم أنه فجور كالفواحش، والظلم، ليس من الحسنات ولا من العمل الصالح. أما قوله: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ، وقوله: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} : فهو إخلاص الدين لله وحده. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "اللَّهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً". وقال الفضيل2 بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ

_ 1 سورة البقرة الآية رقم (112) . 2 الإمام أبو علي الفضيل بن عياض التميمي اليربوعي، ولد بسمرقند، وسكن مكة، له قدم في العلم والصلاح وأثر عنه أقوال نافعة، توفي سنة (187هـ) . انظر: سير أعلام النبلاء (8/421) ، وميزان الاعتدال (3/361) .

عَمَلاً} 1 قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟، قال: العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة".2 وقد وردت نصوص كثيرة تبين أهمية الإخلاص، وأنه أساس قبول العمل من ذلك: قول اللَّه تعالى: {وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} 3. وقوله: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ} 4. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه: "فَإِنَّ حَقَّ اللَّه عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا"5.

_ 1 جزء من الآية رقم (7) من سورة هود، ومن الآية رقم (2) من سورة الملك. 2 كتاب العبودية لابن تيمية، ص (17) ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1401هـ) . 3 سورة البينة الآية رقم (5) . 4 سورة الزمر الآية رقم (3) . 5 متفق عليه، البخاري: كتاب الجهاد، باب اسم الفرس..، ح (2856) الصحيح مع الفتح (6/58) ، ومسلم: كتاب الإِيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، ح (30) (1/58) .

كما حذر - سبحانه - من الشرك والرياء، مبيناً أنها محبطة للعمل كما في قوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الخَاسِرِينَ} 1 وقوله: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّه وَاليَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ} 2. والشرك نوعان أكبر وأصغر، كما أن الإخلاص يطلق ويراد به أمران: الأول: عقد التوحيد في القلب، وهو العزم على أن لا يعبد إلا اللَّه، وهذا النوع داخل في الشرط الأول، وهو شرط الإِيمان، ويضاده الشرك الأكبر المخرج من الإِسلام، والمحبط للعمل جميعاً.

_ 1 سورة الزمر الآية رقم (65) . 2 سورة البقرة الآية رقم (264) .

الثاني: الإخلاص، وهو ابتغاء وجه اللَّه في العبادة المعينة ويضاد ذلك الرياء اليسير أو الطارئ على العبادة. وهو المقصود بهذا الشرط، حيث يقال: إن العبادة لا تقبل إلا إذا توفر فيها شرطا الإِخلاص، والمتابعة. وإذا فقدت العبادة شرط الإخلاص فهي حابطة.1 قال صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ"2. أما شرط المتابعة فقد وردت نصوص كثيرة في بيان أهميته لصلاح الأعمال، وأن التفريط به من أسباب الضلال. فمن ذلك قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3.

_ 1 انظر تفصيل ذلك في كتاب: جامع العلوم والحكم، لابن رجب، شرح حديث "إنما الأعمال بالنيات". 2 رواه الإِمام مسلم، كتاب: الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير اللَّه، ح (2985) ، (4/2289) . 3 سورة الأنعام الآية رقم (153) .

وقال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} 1. وقال سبحانه: {اتَّبِعُوا مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 2. فبين - سبحانه - أن ضلال من ضل إنما كان بسبب إعراضهم عن دينه القويم، وعدم اتباع نبيه الكريم، واتباعهم لأهوائهم، أو أوليائهم، أو لما وجدوا عليه آباءهم، وسلوكهم للسبل المنحرفة المخالفة لصراط اللَّه المستقيم. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّه وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّه كَثِيرًا} 3. قال ابن كثير - رحمه اللَّه -: "هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله"4.

_ 1 سورة طه الآية رقم (123) . 2 سورة الأعراف الآية رقم (3) . 3 سورة الأحزاب الآية رقم (21) . 4 تفسير القرآن العظيم (3/474) .

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الابتداع في الدين، كما في قوله: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّه وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ"1. وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ"2. وفي رواية: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"3. قال ابن رجب - رحمه اللَّه -: "فقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة": من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: "من

_ 1 رواه الإمام أحمد: المسند (4/126) ، واللفظ له، مسند العرباض بن سارية، وابن ماجة: المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، ح (35) (1/10) ت: محمد الأعظمي، ورواه الترمذي: أبواب العلم، باب 16، (4/149) . وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في إرواء الغليل (8/107) . 2 متفق عليه، البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على جور، ح (2697) ، الصحيح مع الفتح (5/301) ، ومسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام، ح (1781) (3/1343) . 3 رواه مسلم، المصدر السابق، (3/1344) .

أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقاد، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة"1. وقال: "والمراد بالبدعة ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعاً، وإن كان بدعة لغة"2. وكما حذر صلى الله عليه وسلم من البدع والمحدثات، حذر من التشدد والتنطع في الدين، حيث قال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً.3 وقال: "فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"4. قوله: "فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي": يشمل الانصراف عن هديه وسنته إلى الغلو والتنطع، كما تدل على ذلك مناسبة الحديث، كما يشمل العمل

_ 1 إيقاظ الهمم المنتقى من جامع العلوم والحكم لابن رجب، لسليم عيد الهلالي. ص (402) ، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى، (1412هـ) . 2 المصدر السابق، ص (401) . 3 رواه مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، ح (2670) ، (4/2055) . 4 متفق عليه. تقدم تخريجه، ص (269) .

بالبدع والمحدثات. وخلاصة هذه الفائدة: أن المثل دل على بطلان أعمال الكفار التي عملوها على غير هدى من اللَّه، والتي فقدت شروط الصحة، وأن ظنهم بأنها حق، أو حسن قصدهم لا يعتبر في تصحيحها. كما جرى الكلام على شروط صحة العمل، وأنها ثلاثة: الأول: كون العامل مؤمناً موحداً، قد جاء بأصل الإِيمان على الوجه الصحيح، ولم يبطل إِيمانه بأي عمل مكفر مخرج من الإِسلام. الثاني: الإخلاص: وهو أن يبتغي بأعماله وجه اللَّه. الثالث: المتابعة، وذلك بأداء العمل وفق شريعة النبي صلى الله عليه وسلم.

الفائدة الخامسة: دلالة المثل على اختلاف دوافع وحساب الضالين الذين شبهت أعمالهم بالسراب. ومأخذ هذه الفائدة من ختام المثل حيث قال سبحانه: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّه سَرِيعُ الحِسَابِ} فلم يقل سبحانه فعذبه، أو أدخله النار، أو نحو ذلك، وإنما جاء بختام يناسب جميع الكفار الذين شبهت أعمالهم بالسراب على اختلاف دوافعهم وأحوالهم، فكل سينال الجزاء الذي يستحقه، وسيجري حسابهم كل كما يتناسب مع حاله. ويمكن تلمس بعض الاحتمالات للدوافع التي تدفع أصحابها إلى تتبع الشبهات والعمل بالضلال، قياساً على ما يحتمل من حال اللاهث وراء السراب، ونستخلص من ذلك عدة صور: منها: أن يكون صاحب السراب معذوراً حيث لم يجد ماء ولا من يرشده إلى الماء، ودفعه شدة العطش، وحب الحياة إلى التمسك بأي شيء، فاندفع نحو السراب بمجرد أن لاح له. ومثل هذا: المتدينون من أهل الفترة الذين لم يجدوا من يدلهم على الطريق الصحيح، ومثلهم: من يكون في مجتمع ينتسب إلى الإِسلام لكن غلب على أهله الجهل، ولا يوجد فيه عالم مستبصر، فيمارس المتدينون أعمالاً من جنس البدع والمحدثات، يظنونها هدى، وهي ضلال ما أنزل اللَّه بها من سلطان، كبعض المجتمعات المنتسبة إلى الإسلام في الدول

الشيوعية كالصين، وجمهوريات الاتحاد السوفيتي - سابقاً - ونحوها. ومنها: أن يكون مخدوعاً، شاهد أناساً كثيرين، بينهم من يحسن الظن به، منساقين نحو السراب، فانساق معهم. ومثل هذا: أتباع الفرق، والطوائف، والطرق الضالة، فإنهم ينساقون خلف أئمتهم وساداتهم ويحسنون الظن بهم، كما قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَرَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ العَذَابِ وَالعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} 1. وقال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُوَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّه أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} 2. ومنها: أن يكون صاحب السراب مغروراً معجباً برأيه وعقله وعلمه، مع احتقاره لمن يصادفهم في الصحراء، فيستكبر عن سؤالهم، ويرى نفسه أعلم وأقدر منهم على التمييز بين الأشياء، ومعرفة الحقائق،

_ 1 سورة الأحزاب الآيتان رقم (67-68) . 2 سورة البقرة الآيتان رقم (166-167) .

فيحمله ذلك على أن ينساق وراء السراب الخادع مع وجود من يهديه إلى موارد الماء، ويعرفه بحقيقة السراب، وربما نصحوه وبينوا له فلم يلتفت إليهم. ومثل هذا النوع: الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام، وكل من اعتمد المنهج العقلي في معرفة حقائق الدين وخاصة في المطالب الإلهية والأمور الغيبية، فأعرض عن هدى الكتاب والسنة وازدرى علماء الشريعة. ومنها: أن يكون طالب السراب خادعاً غروراً، يعلم حقيقة السراب وأنه ليس بشيء، ولكنه يسير إليه ليغرر غيره بذلك لوجود مصلحة له في ذلك، أو عداوة لمن يغرر بهم ليهلكهم. ومثل هذا النوع: إبليس، ومردة الشياطين، وكثير من المفسدين من شياطين الإنس الذين يضلون الناس على علم. وقد وصف اللَّه هذا الصنف بقوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} 1. وكل هؤلاء على اختلاف دوافعهم سيصيرون إلى اللَّه، وسوف

_ 1 سورة الأعراف الآية رقم (146) .

يحاسبهم ويجازيهم بما يستحقون، كما دل على ذلك ختام المثل {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} . وإذا كان المثل جاء بختام صالح لبيان جزاء أولئك الضُلاَّل الذين شبهت حالهم بطالب السراب، على اختلاف دوافعهم وأحوالهم، إلا أنه ورد ببيان حاسم لبطلان تلك الأعمال وعدم انتفاعهم منها البتة، وذلك في قوله: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} وقد تقدم بيان هذا المعنى. هل يحاسب الكفار؟ لقد دل ختام المثل على أن الكفار المشبهة أعمالهم بالسراب يحاسبون عليها يوم القيامة، حيث قال سبحانه {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّه سَرِيعُ الحِسَابِ} . وحساب الكفار دلت عليه نصوص كثيرة منها ما يدل بعمومه على حساب الكفار وغيرهم، كما في قوله تعالى: {وَتَرَى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِسَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُلِيَجْزِيَ اللَّه كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّه سَرِيعُ الحِسَابِ} 1.

_ 1 سورة إبراهيم الآيات رقم (49-51) .

وقوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَلاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} 1. وقوله سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنْتَ مُذَكِّرٌلَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍإِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَفَيُعَذِّبُهُ اللَّه العَذَابَ الأَكْبَرَإِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} 2. كما وردت آيات تدل على حساب الكفار والمشركين كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّه فَإِنَّ اللَّه سَرِيعُ الحِسَابِ} 3. وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} 4. وقوله: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا

_ 1 سورة الأنبياء الآيات (1-3) . 2 سورة الغاشية الآيتان رقم (21-26) . 3 سورة آل عمران الآية رقم (19) . 4 سورة المؤمنون الآية رقم (117) .

فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ} 1. والحساب والجزاء مرتبطان، حيث إن الجزاء هو نتيجة الحساب، والحساب إنما هو لتقدير الجزاء. قال الراغب الأصفهاني - رحمه اللَّه - في تعريف الحساب: "وإنما هو في الحقيقة ما يحاسب عليه فيجازَى بحسبه"2. والحساب يكون يوم القيامة عندما يلقى العباد ربهم، ويوقفهم على أعمالهم التي عملوها، ويكشف لهم حقائقها، ويشمل ذلك: ما يقوله لهم من السؤال أو التقرير أو التوبيخ، وما يجيبونه من الاعتذار أو الإنكار ونحوه، كما يشمل: إقامة الحجج عليهم، وإحضار الشهود، وتقدير الأعمال ووزنها. والناس يختلفون يوم القيامة باعتبار الحساب، وليس حساب الكفار كحساب الظالمين أنفسهم من المسلمين. قال ابن تيمية في بيان طبيعة حساب الكفار: "وفصل الخطاب أن الحساب: يراد به عرض أعمالهم عليهم وتوبيخهم عليها، ويراد بالحساب موازنة الحسنات بالسيئات، فإِن أريد

_ 1 سورة الرعد الآية رقم (18) . 2 المفردات في غريب القرآن ص (116) .

بالحساب المعنى الأول فلا ريب أنهم يحاسبون بهذا الاعتبار. وإن أريد المعنى الثاني: فإن قصد بذلك أن الكفار تبقى لهم حسنات يستحقون بها الجنة فهذا خطأ ظاهر. وإِن أريد أنهم يتفاوتون في العقاب، فعقاب من كثرت سيئاته أعظم من عقاب من قلت سيئاته، ومن كان له حسنات خفف عنه العذاب، كما أن أبا طالب1 أخف عذاباً من أبي لهب2 وقال تعالى:

_ 1 أبو طالب: أبو طالب بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم كفل النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة والده، ونصره ودافع عنه بعد بعثته، إلا أنه مات على غير الإِسلام. انظر: الإِصابة، (4/115) . وقول شيخ الإِسلام - رحمه الله -: "كما أن أبا طالب أخف عذاباً.." يشير إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله العباس رضي الله عنه: يا رسول الله! إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك؟ قال: "نعم، وجدته في غمرات من النار، فأخرجته إلى ضحضاح". رواه مسلم كتاب الإِيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، ح (209) ، (1/195) . 2 أبو لهب: عبد العزى بن عبد المطلب، عم النبي صلى الله عليه وسلم كان كثير الأذى للرسول صلى الله عليه وسلموالصد عن دعوته. انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (4/564) . ويشير شيخ الإسلام إلى أنه من أشد الكفار عذاباً حيث نزلت فيه وفي زوجته أم جميل أروى بنت حرب سورة المسد، وفيها: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍوَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِفِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد:3-5] .

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّه زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ} 1. وقال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ} 2، والنار دركات، فإذا كان بعض الكفار عذابه أشد عذاباً من بعض - لكثره سيئاته وقلة حسناته - كان الحساب لبيان مراتب العذاب، لا لأجل دخولهم الجنة"3. وعلى هذا فالحساب يراد به ثلاثة معان: الأول: العرض، وهو نوعان: عرض تقرير ثم صفح وستر، وهو الحساب اليسير، كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِفَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} 4. وعرض توبيخ وتبكيت، تكشف به مخازي المجرمين، ويوقفون على معاصيهم ويلامون عليها، ويسألون سؤال تقريع. وهذا النوع حاصل للكافرين. الثاني: موازنة السيئات بالحسنات، وهذا يكون للظالمين أنفسهم من

_ 1 سورة النحل الآية رقم (88) . 2 سورة التوبة الآية رقم (37) . 3 مجموع الفتاوى، (4/305-306) . 4 سورة الانشقاق الآيتان رقم (7، 8) .

المسلمين، حيث توزن أعمالهم بميزان له كفتان. الثالث: تقدير الأعمال لبيان مراتب المؤمنين، أو دركات الكافرين، وهذا النوع لا يكون فيه إلا نوع واحد من الأعمال، إما الحسنات فقط بالنسبة للمؤمنين الأبرار، أو السيئات فقط بالنسبة للكافرين ويكون تقديرها بالموازين المناسبة، كما قال اللَّه تعالى: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ} 1. فالجمع: {مَوَازِينَ} قد يكون باعتبار تعددها، وقد يكون باعتبار تنوعها. واللَّه أعلم. وخلاصة هذه الفائدة: أن المثل جاء في ختامه بقوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّه سَرِيعُ الحِسَابِ} ببيان لحساب اللَّه لهذا الصنف من الكفار، وأنهم يختلفون باعتبار دوافعهم وأحوالهم، من حيث شدة الكفر أو ضعفه، أو وجود ما قد يعذرون به من عدمه، وأنه سبحانه سوف يحاسب الجميع، ويوقفهم على أعمالهم، ويجازيهم عليها بما يستحقون، على حد قوله تعالى: {لاَ

_ 1 سورة الأنبياء الآية رقم (47) .

يُكَلِّفُ اللَّه نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} 1 وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَرَسُولاً} 2.واللَّه أعلم.

_ 1 سورة الطلاق الآية رقم (7) . 2 سورة الإسراء الآية رقم (15) .

المطلب الخامس: خلاصة دراسة هذا المثل في قوله تعالى: {والذين كفروآ أعمالهم كسراب بقيعة}

المطلب الخامس: خلاصة دراسة هذا المثل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ... } الآية. تبين من دراسة هذا المثل ما يلي: أولاً: نوع المثل: يقوم هذا المثل على القياس التمثيلي، وهو تمثيل مركب، شبّه فيه الممثّل له وهو: مصير أعمال الكفار، وما يتصل بها، وحال عملها، بمصير وحال اللاهث وراء السراب، وما يلابس هذه الحال، ويحيط بها، وما تستلزمه. ثانياً: الممثّل به: سراب لاح لشخص في صحراء منبسطة، في رائعة النهار، والشمس كأشد ما تكون إضاءة وحرارة، وقد اشتد عطشه وقويت حاجته إلى الماء، فظن ذلك السراب ماء، فجرى نحوه، فلما وصل المكان الذي تراءى له فيه لم يجد ماء ولا شيئاً، ولم يغن عنه سعيه، ولا ظنه في إنقاذه من الهلكة، وباء بالخيبة، ولم يسلم من المؤاخذة. ثالثاً: الممثّل له: بيان حال صنف من الكفار من حيث سبب ضلالهم، وحكم أعمالهم، وجزائهم عليها. هؤلاء الكفار تميزوا بأنهم من المنتسبين إلى الإِسلام، ويدَّعون الإِيمان باللَّه، ويطلبونه ... إلا أنهم ضلوا بإعراضهم عن الإِيمان الحق الذي دل عليه كتاب اللَّه المحفوظ وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وطلبوا ذلك من مستنقعات الضلال فهم يتعلمون ويعملون ولكن على غير هدى.

فدل المثل على حكم أعمالهم وأنها باطلة، والحكم عليهم بأن كلاً سوف يلاقي جزاءه المناسب لحاله وأعماله. رابعاً: دل المثل على جملة فوائد من أهمها: 1- دلالة المثل على سبب كفر هذا الصنف من الكفار. 2- دلالة المثل على أن من أسباب الضلال اتباع الظن. 3- دلالة المثل على أن من أسباب الضلال اتباع الشبهات. 4- دلالة المثل على أن حسن القصد غير معتبر في تصحيح الأعمال إذا خالفت شروط الصحة. 5- دلالة المثل على اختلاف دوافع وحساب الكفار الذين شبهت أعمالهم بالسراب.

المبحث الرابع: دراسة المثل في قولة تعالى: {أو كظلمات في البحر لجي}

المبحث الرابع: دراسة المثل في قولة تعالى: {أو كظلمات في البحر لجي} المطلب الأول: نوع المثَل ... المطلب الأول: نوع المثَل: أولاً: من حيث القياس هو قياس تمثيلي. حيث جعلت الصورة المنتزعة من حال الكائن في ظلمات بحر لجي حجب عنه النور بأكثر من حجاب وما يحيط به من أحوال البحر المضطرب كثير المخاوف، مثالاً تقاس به أعمال فريق من الكفار ويُعطَوْن حكمه، ويعتبر به في معرفة حقيقة حالهم. ثانياً: من حيث التشبيه: هو تشبيه مركب. وذلك أن كلاً من الممثّل به والممثّل له عبارة عن صورة مركبة من جملة أفراد تعطي في مجموعها الوصف المعتبر والحكم المشترك بين المشبه والمشبه به. حيث شبهت أعمال صنف من الكفار في ظلمتها وظلمة قلوب عمالها وحيرتهم، وما ينتابهم من اضطراب وخوف، بالظلمة الحاصلة حول شخص كائن في قاع بحار عميقة، تضطرب حوله الأمواج، وتنتابه المخاوف، بسبب استحكام الظلمة من حوله في ذلك المكان المفزع، حتى إنه إذا أخرج يده لم يقارب رؤيتها، حيث حجب عنه الضوء بحجب ثلاثة.

المطلب الثاني: بيان الممثل به (المثل)

المطلب الثاني: بيان الممثّل به (المثَل) : إِن معظم ألفاظ المثَل واردة لبيان الممثّل به، ولا يختص بالممثّل له إلا ما يستفاد من حرف العطف "أو" والكاف في قوله: {كَظُلُمَاتٍ} في بدايته، وقوله: {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} في ختامه. ولذا فإِن دراسة ألفاظ المثَل، وإِبراز ما تدل عليه باعتبار المعنى اللغوي، واستنتاج ما توحي به من أحوال المشبه به، أمر مهم لفهم صورة الممثّل له. وأبدأ بعون اللَّه في دراسة ألفاظ المثَل المتعلقة بالممثّل به: {أَوْ} : حرف عطف. عطف مثل الظلمات على مثل السراب، الذيِّن شبهت بهما أعمال الكفار. وهي ترد لعدة معان، من أهمها: التخيير، والإِبَاحَة، والشك، والإبهام، والتقسيم.. وغيرها.1 واختلف المفسرون في معنى "أو" المراد في الآية: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ ... } فأكثرهم على أن معناها الإِبَاحَة. منهم من نص على ذلك2 ومنهم من

_ 1 انظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، (3/232) . ت/محمد محي الدين عبد الحميد. 2 انظر: فتح القدير للشوكاني، (4/38) .

فسرها على هذا المعنى دون نص عليه1. ومن المفسرين من فسرها على معنى التقسيم2. ومنهم من جوز تفسيرها بجميع معانيها على توجيه لكل منها3. إلا أن هذا لا يستقيم إلا إذا رجعت المعاني الأخرى إلى معنى: الإِبَاحَة أو التقسيم. "والفرق بين الإِبَاحَة والتخيير: أن الإِبَاحَة لا تمنع الجمع، والتخيير يمنعه"4. وعلى هذا فتفسير "أو" للإباحة معناه: أن كل مثل من المثَلين - مثل السراب، ومثل الظلمات - يصلح لبيان حال وحكم أعمال الكفار باعتبار. "على معنى أن المثالين سواء في استقلال كل واحد منهما بوجه

_ 1 انظر: جامع البيان لابن جرير، (8/335) ، وصفوة التفاسير، محمد علي الصابوني (2/343) . 2 سبق ذكر من قال إن المثَلين ضربا لبيان نوعي الكفار من أصحاب الجهل البسيط، والجهل المركب، وأن كل مثل قصد به طائفة من الكفار. انظر: ص (464) وما بعدها. 3 الفريد في إعراب القرآن المجيد، ابن أبي العز الهمذاني، (1/235) ، (3/604) . 4 شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، لعبد اللَّه بن عقيل العقيلي، (3/232) ت: محمد محيي الدين عبد الحميد.

التمثيل، فبأيهما مثلتهم فأنت مصيب، وإن مثلتهم بهما جميعاً فكذلك"1. أما تفسير "أو" للتخيير فمعناه: أن تكون مخيراً فيهم، مَثِّلْهُمْ بأي المثالين شئت، كما لو قلت: خذ درهماً أو ديناراً.2 والمراد أن تأخذ واحداً، لا أن تجمع بينهما. وهذا التفسير لا يتفق إلا إذا رجع معنى التخيير إلى معنى الإِبَاحَة، وكان كل مثل صالح لتصوير حالهم. ولذلك اختار أغلب المفسرين معنى الإِبَاحَة. إلا أن هناك ما يعكر تفسير "أو" بالإِبَاحَة أو التخيير، ألا وهو اشتراط أكثر النحويين أن تسبق "أو" بطلب. فقد ورد في تعريف هذين المعنيين ما يدل على ذلك. فـ "أو" للتخيير: "هي الواقعة بعد الطلب، وقبل ما يمتنع فيه الجمع"3. و"أو" للإباحة: "هي الواقعة بعد الطلب، وقبل ما يجوز فيه

_ 1 الفريد في إعراب القرآن المجيد، لحسين بن أبي العز الهمذاني، (1/234) . 2 انظر: نفس المصدر، (1/235) . 3 مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لجمال الدين ابن هشام الأنصاري، ص87، 88.

الجمع"1. وبيّن صاحب "النحو الوافي" هذا المعنى، والفرق بين "أو" للتخيير والإِبَاحَة بقوله: "ومما تقدم يتبين أن الإِبَاحَة والتخيير لا يكونان إلا بعد صيغة دالة على الأمر دون غيره. كما يتبين وجه الشبه والتخالف بين الإِباحة والتخيير، فهما يتشابهان في أن كلاً منهما يجيز للمخاطب أن يختار أحد المتعاطفين. ويختلفان في أن التخيير يمنع الجمع بين المتعاطفين، أما الإِبَاحَة فلا تمنع"2. وهذا الشرط وإن كان ليس مجمعاً عليه عند النحاة3، إلا أن أكثرهم يرى ذلك، وهو الأشهر. والمثَل لم يسبق بأمر ولا طلب، بل هو خبر محض. فأقل أحوال هذا الشرط أنه يضعف تفسير "أو" في المثَل بمعنى الإِباحة، خصوصاً عند وجود معنى سالماً من الاعتراض كما سيأتي. ومن معاني "أو" الشك والإبهام، وهما وإن كان يشترط لهما أن يسبقا بجملة خبرية4، إلا أنهما أبعد في كونهما مرادَيْن في المثَل من المعنيين المتقدمين، إذ أن المثَل ورد للإيضاح والبيان وليس للإبهام والشك والحيرة.

_ (1) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لجمال الدين ابن هشام الأنصاري، ص87، 88. 2 النحو الوافي، عباس حسن، (3/605) ، دار المعارف بمصر، ط: الرابعة، 1976م. 3 انظر: روح المعاني، في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للألوسي، (17/182) دار إحياء التراث، بيروت. 4 النحو الوافي، (3/605) .

وكل محاولة لتفسير "أو" في المثَل بهذين المعنيين لا تستقيم إلا إذا أرجعت إلى معنى الإِبَاحَة أو التقسيم. ومن معاني "أو" التقسيم وبيان الأنواع. نحو: الكلمة: اسم، أو فعل، أو حرف.1 وتكون دلالة "أو" في المثَل على هذا المعنى: أن الذين كفروا باعتبار أعمالهم ينقسمون إلى قسمين في الجملة: قسم بُيِّن حالهم وحال أعمالهم بمثل السراب، والآخرون بُيِّن حالهم وحال أعمالهم بمثل الظلمات. وهذا المعنى هو الأقرب لتفسير "أو" في المثَل به، للاعتبارات الآتية: 1- وجود ما يمنع أو يضعف تفسيرها بالمعاني الأخرى، وخاصة معنى الإِبَاحَة الذي عليه أكثر المفسرين، والذي يشترط له أكثر النحاة أن تسبق "أو" بطلب. 2- أن هذا المعنى قد قال به بعض المفسرين والعلماء المحققين، حيث نصوا على أن أحد المثَلين لأصحاب الجهل المركب، والآخر للجهل البسيط، ففسروها على معنى التقسيم.2 وقال ابن تيمية رحمه اللَّه: "فيكون التقسيم في المثَلين لتنوع الأشخاص، ولتنوع أحوالهم،

_ 1 انظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، (3/232) ، والنحو الوافي، (3/606) . 2 تقدم ص: (464) وما بعدها.

وبكل حال فليس ما ضرب له هذا المثَل هو مماثل لما ضرب له هذا المثَل، لاختلاف المثَلين صورة ومعنى، ولهذا لم يضرب للإِيمان إلا مثل واحد، لأن الحق واحد، فضرب مثله بالنور، وأولئك ضرب لهم المثَل بضوء لا حقيقة له، كالسراب بالقيعة، أو بالظلمات المتراكمة"1. 3- أن هذا المعنى يتفق مع ما تقدم2 من دلالة السياق، وألفاظ المثَلين، والنتيجة المستخلصة من ذلك، من أن كل مثل ضرب لبيان أعمال فريق من الكفار. وعلى هذا تتظافر الدلائل المستفادة من: السياق، ومن التأمل في ألفاظ المثَلين، ومن المعطيات اللغوية على إفادة أن كل مثل ضرب لبيان أعمال فريق من الكفار وما يتصل بها من أحوالهم. قوله: {كَظُلُمَاتٍ} . الكاف: أداة تشبيه، ومحلها في الإعراب: الرفع لكونها معطوفة على الكاف في {كَسَرَاب} وهذه الأخيرة خبر المبتدأ الذي هو أعمالهم.3 وتقدير الكلام: والذين كفروا أعمالهم كسراب ... أو هي كظلمات ...

_ 1 مجموع الفتاوى، (7/278) . 2 انظر: ص: (458) . 3 انظر: الفريد في إعراب القرآن المجيد، (3/604) .

الظلمات: المراد الظلمة الحسية الكائنة في هذا المكان الموصوف. والظلمات: هي أساس التمثيل، إلا أن مدى التمثيل يشمل حال الكائن في هذه الظلمة وأثرها عليه. وسيأتي في تدبر ألفاظ المثَل ما يدل على أنها ظلمة حالكة مفزعة. قوله: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} . في: حرف جر، وهي هنا للظرفية المكانية، ومتعلقة بالظلمات. فهي تدل على أن الظلمات كائنة في مكان ما من البحر اللجي. وسيأتي مزيد بيان لطبيعة هذا المكان في تحليل ألفاظ المثَل القادمة. بحر: "أصل البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير"1 وهو يطلق على البحر الصغير والكبير، كما دل عليه قوله سبحانه: {وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} 2، ومعلوم أن الفلك تجري في البحار الصغيرة وفي المحيطات الكبيرة. وقوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِيَ إِسْرَآئِيلَ البَحْرَ} 3 ومعلوم أن البحر الذي فرقه اللَّه لبني إسرائيل من البحار الصغيرة.

_ 1 المفردات في غريب القرآن، (37) . 2 سورة البقرة الآية رقم (164) . 3 سورة يونس الآية رقم (90) .

ويطلق أيضاً على الماء المالح والعذب. لظاهر قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي البَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} 1 ونحوها. وعلى هذا فلفظ "البحر" يطلق على المحيطات العظيمة، والبحار الصغيرة، والأنهار الجارية، والبحيرات الكبيرة، المالحة منها والعذبة. وبهذا يعلم ضعف قول من حصر تعريف البحر في البحار الكبيرة المتصل بعضها ببعض2، أو في البحار مالحة الماء3، فإِن ظاهر نصوص القرآن تعارضه. ولعموم وسعة دلالة لفظ البحر ناسب وصفه بأنه لجي ليكتسب معنى وبعداً هاماً في إبراز الصورة المرسومة في المثَل. لجي: صفة لبحر4. وتدور تفاسير أهل العلم لهذا اللفظ على معنين: الأول: التردد والاضطراب، الناتج عن اختلاط الأمواج وهيجانها.

_ 1 سورة فاطر الآية رقم (12) . 2 انظر: من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، د. حسن أبو العينين، (2/267) . 3 انظر: المفردات في غريب القرآن، ص (38) . 4 الفريد في إعراب القرآن المجيد، (3/604) .

ومنه قولهم: "التجّ البحر: اضطرب وهاج وغمر"1. ويؤيد هذا المعنى ما بعده، من قوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} . قال الراغب مبيناً هذا المعنى: "ومنه لَجة الصوت - بفتح اللام - أي تردده، ولُجة البحر - بالضم - أي تردد أمواجه.. قال: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} منسوب إلى لجة البحر.."2. ويستفاد من هذا المعنى أن المكان المصور للمشبه به مكان مخوف مفزع موحش: "والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه، فإِذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه زاد الخوف"3. الثاني: لجي: "العميق كثير الماء، منسوب إلى اللج، وهو معظم ماء البحر. يقال: لج الماء ولجُته: أي معظمه"4.

_ 1 المنجد في اللغة، لويس معلوف، دار المشرق، الطبعة الثانية عشرة، ص (713) . مادة ((لجّ)) . 2 المفردات في غريب القرآن، ص (448) . 3 فتح القدير للشوكاني، (4/39) . 4 الفريد في إعراب القرآن المجيد، (3/604) ، وانظر: جامع البيان لابن جرير، (9/335) .

"اللجة معظم الماء، ... وهو الذي لا يدرك لعمقه"1. ويؤيد هذا المعنى - وهو دلالة وصف البحر بأنه لجي على عمقه - ما ثبت في علم البحار من أن الأمواج الباطنية - التي تكون تحت سطح الماء المعبر عنها بقوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} - لا تكون إلا في البحار العميقة.2 وسيأتي مزيد إيضاح لهذه الدلالة العلمية. ويستفاد من هذا المعنى أن مكان التشبيه مكان مظلم. إذ هذه طبيعة قاع البحار العميقة وذلك أن الأمواج الباطنية لا تكون إلا في عمق البحار العظيمة، ومكان التشبيه كائن تحتها. ويكون مجموع المستفاد من قوله: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} . أن المشبه به كائن في مكانٍ ما في قاع بحر عظيم عميق مظلم مضطرب الأمواج مخيف مفزع. قوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} . يغشاه: أي يغطيه. قال في المفردات: "غشى: غشيه غشاوة وغشاءً: أتاه إِتيان ما قد

_ 1 فتح القدير للشوكاني، (4/39) . 2 انظر: المعجزة القرآنية، الإعجاز العلمي والغيبي، محمد حسن هيتو، ص (195) ، دار الرسالة بيروت، الطبعة الثانية، 1415هـ.

غشيه، أي ستره. والغشاوه ما يغطي به الشيء"1. والضمير في {يَغْشَاهُ} : " لصاحب الظلمات أو للبحر"2. ويحتمل أن يكون: للمكان الذي فيه المشبه به. المدلول عليه بقوله: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} : أي في مكان ما من البحر اللجي، كما تقدم. والقول أن الضمير يعود على البحر فيه نظر، وذلك أن الموج داخل البحر، وجزء منه، والغشيان هو التغطية، والموج لا يغطي البحر وإنما يتردد فيه. والقول أن الضمير لصاحب الظلمات، جيد إلا أنه لم يتقدم ما يشير إليه في السياق، وإن كان سيأتي بعد في قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} . لذلك فالأقوى أن الضمير يعود على المكان الذي حدد في قاع البحر العميق والذي هو مسرح المثَل. وهو يتضمن صاحب الظلمات إذ هو فيه. فتكون جملة: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} صفة للمكان الواقع فيه المشبه به صاحب الظلمات في قاع البحر. فالسياق يبين المكان الذي يقع فيه المشبه به وما يعتريه من أسفل إلى أعلى.

_ 1 المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، (361) . 2 الفريد في إعراب القرآن المجيد، (3/605) .

فالمكان في قاع البحر المظلم، ويغطيه ويغمره موج من فوقه، وفوق ذلك الموج موج آخر، وفوق البحر سحاب. كما يدل السياق على أن هذه العوامل تسهم في حجب النور عن الكائن في ذلك المكان، وتصور شدة الظلمة المحيطة بالمشبه به. كما سيأتي في قوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} . وهذه الصورة المرسومة للممثل به تدل على وجود موج داخل البحر واقع بين قاعه والموج الذي يكون على سطحه. ففي هذا تقرير لحقيقة علمية. قال محمد حسن هيتو: "فقوله تعالى: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} : فيه إشارة لا لبس فيها ولا غموض إلى هذه الأمواج الداخلية التي تكلم عنها العلم الحديث وأثبتها، كما يشير إلى الأمواج السطحية التي نراها ونعرفها، وهذا المعنى واضح من قوله تعالى: {مّن فَوْقِهِ} ، أي أن الموج الأول من الأسفل، والموج الثاني يأتي من فوقه، ولم نعد بحاجة إلى ارتكاب المجاز في قولنا1: من فوقه: أي من

_ 1 يشير إلى قول بعض المفسرين الذين فسروا "من فوقه بمن بعده" انظر فتح القدير للشوكاني، (4/39) وقوله:"ولم نعد بحاجة إلى المجاز": الحق أن أهل الإسلام ليسوا بحاجة إلى المجاز دائماً، فلا يليق أنه كلما استشكل المفسرون والعلماء أمراً لكونه من الغيب أو لم يأت تأويله بعد، صرفوه عن ظاهره، ومالوا بمعناه بالمجاز والتأويل. وإنما الواجب تفسيره على المعنى الظاهر المعلوم من لغة المخاطبين به، والتوقف في حقيقته حتى يأتي تأويله، وانكشاف حقيقته إما في الدنيا كما في هذه الآية، أو في الآخرة كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} (الأعراف الآية رقم: 53) . انظر لمعرفة بطلان ما اصطلحوا عليه من قواعد المجاز وضوابطه، وما حصل بالتأويل من تحريف نصوص الكتاب والسنة والإلحاد في آيات اللَّه وأسمائه: - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (كتاب الإِيمان) - (7/87) وما بعده. - والصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة للإمام ابن قيم الجوزية.

بعده، وأن تتابع الموج يظهره كأن بعضه يركب بعضه الآخر. إن الآية واضحة كل الوضوح، وصريحة في دلالتها على هذا الذي اكتشفه العلم الحديث من الأمواج الباطنة التي تعلوها الأمواج السطحية، ولا سيما أن الآية قالت: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} أي عميق،..، وهذا إِنما يكون في المحيطات، لا على الشواطئ والخلجان1. ويأتي الكلام - إِن شاء اللَّه - على دلالة هذه الفائدة العلمية، عند الكلام على فوائد المثَل. قوله: {مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} .

_ 1 المعجزة القرآنية، الإعجاز العلمي والغيبي، ص (195-196) .

الضمير في قوله: {مّن فَوْقِهِ} يعود على الموج المتقدم ذكره في قوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} ، فقوله: {مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} صفة للموج المتقدم ذكره.1 وهذا الموج هو الكائن على سطح البحر، المشاهد بالعيان، وذلك إِن هذا المعنى هو المتبادر إلى الذهن إزاء لفظ "الموج" ولم يصرف عن ذلك بصارف. كما أنه هو الموج الذي يكون السحاب من فوقه. قوله: {مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} . الضمير في قوله {مّن فَوْقِهِ} يعود على الموج المذكور في قوله تعالى: {مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} فتكون هذه الجملة {مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} صفة له.2 وهذا الحجاب خارج عن البحر منفصل عنه، وأثره في حجب النور أعظم حيث حجب مصدر النور الحسي الذي هو الشمس في النهار، ومعالم الاهتداء التي هي النجوم في الليل. والسياق لم يذكر هل الزمان ليل أو نهار. ومن ذكر من المفسرين3 أن الزمان ليل اعتبر أنه هو الأنسب

_ 1 الفريد في إعراب القرآن المجيد، للهمذاني، (3/605) . 2 نفس المرجع والصفحة. 3 انظر: فتح القدير للشوكاني، (39/4) والفريد في إعراب القرآن المجيد للهمذاني، (3/605) .

لسياق المثَل المصوِّر لشدة الظلمة. إلا أن اعتبار الزمان نهاراً له وجه معتبر في المثَل، حيث يدل على أن مصدر النور الذي هو الشمس موجود إلا أن صاحب الظلمات أوقع نفسه في مكان محجوب عن النور، وفي حال أوجبت أن يحال بينه وبينه. قوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} هذه الجملة فيها إجمال بعد تفصيل، وقد تضمن أسلوب المثَل إجمالاً ثم تفصيلاً ثم إجمالاً. وذلك أنه قال في أول المثَل: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} ثم فصلها وبين أنها مكونة من ظلمة قاع البحر الناتجة عن موج فوقه، وموج فوق الموج الأول، وسحاب فوق الجميع، ثم أجمل بقوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} . وقد تضمن قوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} فائدة علمية في علم الضوء. وذلك أنه - سبحانه - عَدَّ في الظلمات الموج الأول والموج الثاني. والموج هو حركة ماء البحر، وماء البحر شفاف. فكيف يسمى ظلمة؟ إن تسمية هذه الحجب ظلمة إنما هو باعتبار أنها مسببة لها. والسياق يدل على أن الظلمة لم تحدث من شيء واحد، وإنما ساهمت هذه العوامل مجتمعة في تكوينها واستحكامها.

فالسحاب، والموج الأول، والموج الثاني، كل منها عزل شيئاً من الضوء فأحدث ظلمة فيما تحته. وهذا المعنى تماماً هو ما يقرره قانون انعكاس وانكسار الضوء عند مروره في الأوساط المختلفة وخلاصته: أنه إذا سقطت حزمة من الأشعة الضوئية على سطح فصل بين وسطين شفافين فإنها تنقسم إلى حزمتين، حزمة تنعكس، وأخرى تنفذ إلى الوسط الثاني وتنكسر داخله.1 والأشعة المنعكسة: هي أشعة مرتدة إلى الوسط الأول. والأشعة المنكسرة: هي أشعة تنفذ إلى الوسط الثاني، إلا أنها تنكسر فيه، ونظراً لتعدد الأوساط المائية داخل البحر، بسبب اختلاف كثافتها، فإِن عملية الانعكاس والانكسار تتكرر، وكمية الضوء النافذ تقل. "ذلك لأن المياه في البحار والمحيطات سرعان ما ترتب نفسها رأسياً وأفقياً تبعاً لاختلاف كثافتها، وتتركز طبقات المياه الأثقل وزناً والأعلى كثافة في الأسفل، وتعلوها طبقات المياه الأقل وزناً والأقل كثافة"2. وإِذا تعدد الانكسار - بسبب تعدد الأوساط المائية المختلفة

_ 1 انظر: الفيزياء العامة والتطبيقية، الضوء، (2/83) ، ت/محمد بشير مكي، مديرية المطبوعات، جامعة حلب، 1969م، وانظر: الموسوعة العربية العالمية، (15/328) . 2 من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، (2/264) .

الكثافة - فإِن ذلك "يؤدي.. إلى ازدياد زاوية سقوط الشعاع الضوئي بانتقاله من الطبقات العليا للطبقات السفلي. وإذا زادت زاوية سقوط الشعاع بحيث أصبحت أكبر من الزاوية الحرجة، فإِن الشعاع ينعكس انعكاساً كلياً"1. وهذا يعني أن الضوء في هذا الوضع يرتد إلى أعلى ولا ينفذ منه شيء. ويوجد عوامل في طبيعة المشبه به تساعد على انعكاس الضوء، وزيادة انكساره، وعدم نفوذه إلى أسفل، منها: 1- عدم استقامة الوسط الفاصل على سطح البحر نتيجة للتموج، فيتخذ الماء أشكالاً مختلفة تساعد على زيادة انعكاس الضوء2. 2- سماكة الوسط وكثافته، تزيد من انكسار الأشعة الضوئية وتقلل من نفوذها إلى أسفل. ومعلوم أن ماء البحر كثافته كبيرة لوجود الأملاح الذائبة فيه.

_ 1 الفيزياء المرحلة الثانوية، الصف الثاني، الرئاسة العامة لتعليم البنات بالمملكة العربية السعودية الرياض، 1415هـ. 2 وهو ما يسمى علميا: "الانكسار المضاعف" و "انتثار الضوء" بسبب عدم تماثل المناحي، وتعدد الأوساط، وغير ذلك من العوامل: انظر: الفيزياء العامة والتجريبية، الضوء، بيير فلوري، جان بول، ص (4، 443، 459) مطبوعات جامعة دمشق، الطبعة الأولى، 1394 هـ.

كما أن سماكة الأمواج - في البحار العظيمة - كبيرة، فقد تصل سماكة كل من الموج السطحي، والموج الباطني إلى (30) متراً.1 3- حركة الماء وتموجه وتفاوت درجة حرارته تحدث وضعاً مختلف الأوساط تشبه ألواح الزجاج الموضوعة بعضها على بعض، وينتج عن هذا تكرر عملية الانعكاس والانكسار مما يقلل كمية الضوء الذي ينفذ إلى أسفل2. وعلى هذا فالأشعة الضوئية التي تنفذ من الحجاب الأول - السحاب - ينعكس جزء كبير منها عند سطح البحر عند سقوطه على الموج السطحي - الحجاب الثاني - ويتوالى انعكاس وتكسر الضوء النافذ إلى الماء حتى لا يكاد يصل إلى الموج الباطني - الحجاب الثالث - شيء، وما قد يصل إليه يحصل له ما حصل للضوء عند مروره في الموج الأول، فيتلاشى الضوء تماماً داخل الموج الثاني ولا ينفذ منه شيء إلى أسفل. وإذا علم أن أعماق البحار الكبيرة سحيقة - فالمحيط الهادي مثلاً متوسط عمقه (4282) متراً، وأقصى عمق له هو (11022) متراً3 -

_ 1 الفيزياء العامة والتجريبية، الضوء، بيير فلوري، جان بول، ص (9) . 2 انظر: الموسوعة العربية العالمية، لنخبة من الأساتذة المتخصصين، (22/388، 407) . الناشر: مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1416هـ. 3 انظر: من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، د. حسن أبو العينين، (2/276) .

عُلِم بُعد مكان الممثّل به عن مصدر الضوء، وشدة ظلمته لوجود الحجب الكثيرة بينه وبينه. وهذه الظلمة ملازمة لا تتأثر بإشراق الشمس نهاراً فوق السحاب، أو غيابها ليلاً. فسببها الحجب الكثيفة المانعة للضوء والبعد السحيق. وعلى هذا فالأنسب - واللَّه أعلم - في اعتبار المثَل افتراض أن الشمس مشرقة فوق السحاب، وذلك للاعتبارات الآتية: 1- أن ذلك أبلغ في إفادة شدة الظلمة، إذ إن الظلمة اللازمة التي لا تتأثر بليل ولا بنهار أشد وأعظم من الظلمة الطارئة المتأثرة بالشمس. 2- أن افتراض أن الشمس مشرقة، يفيد في الدلالة على بُعد الواقع في ذلك المكان المظلم عن مصدر النور - الشمس - والذي يقابل في الممثّل له بنور العلم. مما يفيد في بيان أن ضلاله إنما هو بسبب بعده عن مصدر النور، ووجود تلك الحجب، وليس انعدام مصدر النور. 3- أن التفصيل في ذكر الحجب، وتسميتها ظلمات يدل على أن لها أثراً في إحداث الظلمة، وذلك لا يتحقق إلا بافتراض أن الشمس مشرقة، حيث يخترق بعض أشعتها السحاب. أما في الليل فإِن السحاب كاف في إحداث الظلمة، حيث يحجب النجوم، وعندها تستوي الظلمة فوق البحر وداخله، ولا حاجة لذكر الحجب الأخرى. ولكن يناسب ذلك مع وجود بعض الضوء الذي تسرب من السحاب - والشمس مشرقة - إذ يبرز أثر تلك الحجب في

حجب ذلك الضوء النافذ عن قاع البحر. ودلالة هذه الجملة من المثَل {ظلمات بعضها فوق بعض} : هي التأكيد على شدة الظلمة المحيطة بالممثّل به، وبعده عن مصدر النور. قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} . تتضمن فائدتين: الأولى: ما دل عليه فاعل أخرج في قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ} من تقدير وجود شخص كائن في المكان الذي تقدم وصفه في قاع البحر. حيث إن "فاعل أخرج ضمير يعود على مقدر دل عليه المقام: أي إذا أخرج الحاضر في هذه الظلمات أو من ابتُلِيَ بها.."1. الثانية: بيان المراد من وصف الظلمة المتقدم، وهو إِفادة عدم قدرة من كان فيها على الإبصار والاهتداء إلى طريق النجاة. وقد اختلف المفسرون واللغويون في المراد بقوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} ، ومرد أقوالهم إلى ثلاثة أقوال هي2: الأول: لم يرها ولم يكد، أي لم يقرب من رؤيتها. فإِذا لم يقارب

_ 1 فتح القدير، للشوكاني، (4/40) . 2 انظر: جامع البيان لابن جرير، (9/336) ، وفتح القدير للشوكاني، (4/40) ، والفريد في إعراب القرآن المجيد للهمذاني، (3/606) .

رؤيتها فهو من أن يراها أبعد. الثاني: أن يكون يراها ولكن بعد بطء وجهد ومشقة. أي أنه يراها بعد أن يقارب ألا يراها. الثالث: بمعنى: لا يراها. والقول الأول والثاني - مع تضادهما في الدلالة - متفقان مع أصل معنى "كاد"، وذلك أنها تدل على المقاربة، إذ هي من أفعال المقاربة. "فهذه الأفعال جاءت لتفيد قرب زمن وقوع الخبر من الاسم قرباً كبيراً، وقد يقع الخبر أو لا يقع، بل قد يستحيل وقوعه، نحو قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ.} .1. أما القول الثالث فهو غير متفق مع معنى "كاد" لعدم اشتماله على معنى المقاربة. وإِن كان صحيحاً في المعنى، متفقاً مع دلالة السياق. والقول الأول والثاني مع اتفاقهما مع معنى (كاد) ، إلا أن سبب الاختلاف بينهما إنما هو في دلالة الأسلوب في قوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} . هل معناه: وقوع الرؤية مع الصعوبة والمشقة والتردد، ومقاربة عدم الفعل، نظير قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَاوَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} 2 أو المراد: نفي

_ 1 النحو الوافي، عباس حسن، (1/615) الهامش. 2 سورة البقرة الآية رقم (71) .

الرؤية، ونفي مقاربتها. والقائلون بأَن الأصل في الأسلوب يدل على وقوع الرؤية بعد جهد وشدة أكثرهم رجح تفسيره في الآية بعدم الرؤية لدلالة السياق. وعبر عن هذا الاتجاه ابن جرير - رحمه اللَّه - بقوله: "وقد علمت أن قول القائل: لم أكد أرى فلاناً، إنما هو إثبات منه لنفسه رؤيته بعد جهد وشدة". إلى أن قال: "وهذا القول الثالث [أن يكون قد رآها بعد بطء وجهد] أظهر معاني الكلمة من جهة ما تستعمل العرب "كاد" في كلامها. والقول الآخر الذي قلنا إِنه يتوجه إلى أنه بمعنى لم يرها، قول أوضح من جهة التفسير، وهو أخفى معانيه، وإنما حسن ذلك في هذا الموضع، أعني أن يقول: لم يكد يراها، مع شدة الظلمة التي ذكر"1. وفريق آخر يرى أن أسلوب "لم يكد يفعل" يدل على مطلق نفي المقاربة، إِما نفي مقاربة الفعل - مقاربة تركه - مع الفعل، كما في قوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} . أو نفي الفعل مع نفي مقاربته، كما في قوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} . وكل المعنين مستفاد من الأسلوب، جارٍ على أصل معنى "كاد" وهو المقاربة.

_ 1 جامع البيان، (9/336) .

وقد عبر عن هذا المعنى بعضهم بقوله: " {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} لم يقرب من رؤيتها، فإِذا لم يقارب رؤيتها فهو من أن يراها أبعد، فهذا جاء على أصل الكلمة، وإن كانت اللغة قد جاء فيها (لم أكد أفعل) معناه: فعلته بعد جهد أو تقاعد عنه، وعلى هذا قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} فهذا المعنى الذي دخل الكلمة لم يزل عنها الأصل الذي لها".1 وعلى هذا يكون الأصل في نحو قولنا: "لم يكد يفعل" نفي مقاربة الفعل، ونفي الفعل من باب أولى. لكن قد يأتي في السياق ما يدل على المعنى الآخر، وهو: وقوع الفعل بعد جهد أو ممانعة. وهذا المعنى فيه معنى نفي المقاربة، فلم يزل به أصل الوضع تماماً - وهو نفي المقاربة - وإن كان المعنى قد اختلف. ففي قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} رجح معنى: وقوع الفعل مع مقاربة عدم الفعل، قوله في السياق {فَذَبَحُوهَا} وليس مجرد قوله: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} . وفي قوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} ، جاءت على الأصل: نفي مقاربة الرؤية،

_ 1 الفريد في إعراب القرآن الكريم، للهمذاني، (3/606) .

وأنه لم يرها ولم يكد. ورد في "النحو الوافي": " (كاد) كغيرها من الأفعال في أن معناها ومعنى خبرها منفي إذا سبقها نفي، خلافاً لبعض النحاة، فمثل: (كاد الصبي يقع) معناه: قارب الصبي الوقوع، فمقاربة الوقوع ثابتة. ولكن الوقوع نفسه لم يتحقق. وإذا قلنا: (ما كاد الصبي يقع) فمعناه: لم يقارب الصبي الوقوع، فمقاربة الوقوع منتفية، والوقوع نفسه منفي من باب أولى"1. وقال أيضاً: "وقد قالوا في بيت ذي الرمة2: إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى3 من حب مية يبرح إِنه صحيح بليغ - لأن معناه: إذا تغير حب كل محب، لم يقترب

_ 1 النحو الوافي، عباس حسن، (1/618) . 2 ذو الرمة: هو غيلان بن عقبة بن بهيش، ويكنى أبا الحارث، وهو من بني صعب بن ملكان بن عدي بن عبد مناة. عاش بين سنتي 77-117هـ. انظر الشعر والشعراء، لابن سلام، (1/437) . وديوان ذي الرمة، شرح الخطيب التبريزي ص (7) . دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1413هـ. 3 رسيس الهوى: ابتداء الحب وهو أشده. انظر: ترتيب القاموس، للطاهر أحمد الزاوي، (2/336) . عيسى البابي الحلبي وشركاه، الطبعة الثانية.

حبي من التغير، وإذا لم يقاربه فهو بعيد منه. فهذا أبلغ من أن يقول: (لم يبرح) ، لأنه قد يكون غير بارح مع أنه قريب من البراح. بخلاف المخبر عنه بنفي مقاربة البراح. وكذا قوله تعالى: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} هو أبلغ في نفي الرؤية من أن يقال: لم يرها، لأن من لم ير، قد يقارب الرؤية. بخلاف من لم يقارب.."1 وخلاصة القول في المراد بقوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} ، أن الراجح في معناها: أنه لا يراها ولا يقرب من رؤيتها. وإذا لم يقارب رؤيتها فهو من أن يراها أبعد. وأن هذا التفسير متفق مع معنى "كاد" الذي يفيد المقاربة. ومتفق مع دلالة الأسلوب {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} الدال - كما تقدم - على نفي مقاربة الرؤية. فهو مع صحته أبلغ في إِفادة المعنى المراد المتفق مع السياق الذي دل على استحكام الظلمة. ودلت هذه الجملة بجانب تأكيد استحكام الظلمة على نتيجة ذلك، وهو عدم قدرة الكائن في هذا المكان على إِبصار يده، وإِذا عجز عن

_ 1 النحو الوافي، عباس حسن، (1/618) . (الهامش) .

إبصار يده فهو عن إبصار غيرها أعجز، فيكون عاجزاً عجزاً تاماً عن الاهتداء إلى طريق النجاة، والفكاك عن ذلك المكان المظلم الموحش المهلك. قوله تعالى: {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} . هذا الختام خاص بالممثّل له. إلا أنه يدل على فائدة في صورة الممثّل به وهي التأكيد على أن الكائن في ذلك المكان لم يصله نور البتة، وأنه لا طريق له إلى النور مع وجود تلك الحجب، ما دام في هذا الوضع وذلك المكان. خلاصة صورة الممثّل به: لقد دل المثَل على تشبيه أعمال صنف من الكفار في ظلمتها وضلال عمالها وعدم قدرتهم على الانفكاك منها: بشخص كائن في مكان مظلم في قاع بحر عظيم مضطرب الموج، قد حجب الضوء عنه بحجب كثيرة: من السحاب، والموج المتلاطم على سطح البحر، والموج الداخلي، فلا ينفذ من هذه الحجب شيء من الضوء إلى قاع البحر. كما دل المثَل على أن هذه الحجب هي ظلمات تسهم مجتمعة في انعكاس الضوء وتكسره ثم ارتداده، مما يجعله عند حد معين لا ينفذ منه شيء إلى أسفل، ويكون ما تحته مظلماً ظلمة تامة. كما دل المثَل على أن ذلك المكان في قاع البحر مع ظلمته المطبقة مكان مفزع مخوف، بسبب الظلمة وتلاطم الأمواج وترددها من فوقه.

المطلب الثالث: بيان الممثل له

المطلب الثالث: بيان الممثّل له. لم يرد في ألفاظ المثَل مما يتعلق بالممثّل له إلا ما دل عليه حرف العطف "أو" من أن الممثّل له هو أعمال صنف من الكفار، وقوله تعالى في ختام المثَل: {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} . وبقية حال الممثّل له يمكن الاستدلال عليها من الممثّل به. وذلك أن صورة الممثّل به كلها عبارة عن وجه شبه مشترك بين الممثّل به والممثّل له، يمكن من خلال التأمل والقياس عليها استخلاص حقيقة الممثّل له. كما أن لدلالة الأسلوب، وما تقدم بحثه1 في تحديد الغرض الذي ضرب له المثَلان أثر في تجلية حقيقة الممثّل له. وسوف أكتفي بإيراد خلاصة ما تم بحثه هناك واستكمال ما لم يبحث. وصورة الممثّل له إجمالاً تتحدد بمعرفة ما تدل عليه الأمور الآتية: 1- ما يفيده حرف العطف "أو". 2- ما تفيده كلمة "ظلمات" وكلمة "لجي". 3- ما يقابل الحجب الثلاثة. (السحاب، والموج الأول، والموج الثاني) . 4- ما يدل عليه قوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْض} .

_ 1 انظر صفحة رقم (462) وما بعدها.

5- ما يدل عليه ختام المثَل بقوله: {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} . وهذا أوان تفصيل هذه الأمور. قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} . أو: تقدم1 أنها حرف عطف، عطفتْ مثَل الظلمات على مثَل السراب، وأن الراجح في معناها أنها للتقسيم. وأن دلالتها على هذا المعنى هي: أن الكفار باعتبار أعمالهم ينقسمون إلى قسمين: قسم ضرب لهم مثل السراب. وقسم ضرب لهم مثل الظلمات. وتقدير الكلام: والذين كفروا أعمالهم كسراب.... أو هي كظلمات.... ويستفاد من هذا في بيان الممثّل له: أن الممثّل له في الأصل هو أعمال الكفار، مع شموله لبيان حال عُمَّالها، وأثرها عليهم. {كَظُلُمَاتٍ} : تقدم أن هذه الكلمة مجملة، وأتبعت بتفصيلها إلى ثلاث ظلمات. والمراد بالظلمات في الممثّل له الظلمات المعنوية التي تقابل الظلمات الحسية في الممثّل به.

_ 1 انظر صفحة رقم (600) .

وقبل محاولة معرفة المراد بالظلمات الثلاث وما يقابلها في الممثّل له، لا بد من معرفة المراد بلفظ الظلمات المجمل كما وردت في آيات القرآن الكريم. ومن تلك الآيات التي ذكر فيها الظلمات، قوله تعالى: {اللهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ} 1. "أجمع المفسرون على أن المراد ههنا من الظلمات والنور: الكفر والإِيمان"2. "والظلمة عدم النور، وجمعها ظلمات،.. ويعبر بها عن الجهل والشرك والفسق. كما يعبر بالنور عن أضدادها"3. وأضدادها هي: العلم والإِيمان الخالص، والطاعة. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسير قوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ} : "فأخبر تعالى أن الذين آمنوا باللَّه، وصدقوا إِيمانهم، بالقيام بواجبات الإِيمان، وترك كل ما ينافيه، أنه وليهم، يتولاهم بولايته الخاصة، ويتولى

_ 1 سورة البقرة الآية رقم (257) . 2 التفسير الكبير، للرازي، (7/20) ، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، طهران. 3 المفردات للراغب الأصفهاني، ص (315) .

تربيتهم، فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر والمعاصي والغفلة والإعراض، إلى نور العلم واليقين والإِيمان والطاعة والإقبال الكامل على ربهم"1 من هذه النقول يتبين أن الظلمات التي يتلبس بها الكفار، والتي يخرج اللَّه المؤمنين منها تشمل: ظلمة الجهل، وظلمة الكفر وظلمة الشرك والمعاصي. وهي تقابل ما ينعم اللَّه به على المؤمنين من النور الذي يشمل: نور العلم، ونور الإِيمان والطاعة. ويمكن حصر المراد بالظلمات في أمرين: الأول: ظلمة الكفر المتضمن للجحود والضلال العملي. الثاني: ظلمة الجهل المتضمن للضلال العلمي. وما دام المقام في تحديد المراد بالظلمات في قوله: {كَظُلُمَاتٍ} التي أشارت إجمالاً إلى الظلمات، فإِن من المناسب أن أقدم الكلام على الجملة الأخرى التي أجملت - أيضاً - ذكر الظلمات بعد تفصيلها، وهي قوله تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ليتيسر - إِن شاء اللَّه - تحديد ما يقابل الظلمات الحسية الثلاث. قوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} .

_ 1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (1/318) .

هاتان جملتان1 الأولى تقديرها: هي ظلمات أو هذه ظلمات. والضمير أو الإشارة تعود إلى الظلمات الثلاث التي سبق تفصيلها. وهي تفيد تأكيد ما تقدم من أن الحجب ظلمات، أي أنها تسببت في حصول الظلمة وحجب الضوء. وهكذا الحال في الممثّل له - كما يدل عليه الاعتبار والقياس - هو في ظلمة شديدة حالكة، بسبب حُجُب حَجَبت عنه نور الهداية. والجملة الثانية: {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} : صفة لظلمات. أفادت أن الحجب مترتبة متعاقبة، بعضها أقرب إلى الشخص الكائن في ذلك المكان المظلم وبعضها أقرب إلى مصدر النور. وهكذا الحال في الممثّل لهم - هذا القسم من الكفار - قام بهم حجب حجبت قلوبهم عن نور الهداية، وضُربت عليهم حجب منعت أنوار الهداية أن تصل إليهم جزاءً وفاقاً. وقوله: {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} تقابل قوله: {نّورٌ عَلَىَ نُورٍ} في مثل النور المتقدم في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} الآية. وقد تقدم2 بيان أن النورين يراد بهما:

_ 1 انظر: الفريد في إعراب القرآن المجيد، للهمداني، (3/605) . 2 عند دراسة المثَل "مثل نور"، ص (306) .

1- نور الإِيمان الذي يقذِفه اللَّه في قلب عبده المؤمن. 2- نور العلم الواصل للقلب من تعلم الكتاب والسنة. تحرير ما يقابل الظلمات الثلاث: وهي الواردة في قوله سبحانه: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} . قال ابن جرير - رحمه اللَّه - "يقول: عمل بنية قلب قد غمره الجهل، وتغشته الضلالة والحيرة، كما يغشى هذا البحر اللجي موج من فوقه موج، من فوقه سحاب، قال: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر، وهو قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 1 ... "2. ويتحصل من كلام ابن جرير هذا الإشارة إلى ثلاث ظلمات هي: الأولى: ظلمة الجهل، من قوله: "قد غمره الجهل". الثانية: ظلمة الكفر والضلال، من قوله: "وتغشته الضلالة والحيرة". الثالثة: ظلمة الختم على قلبه وسمعه وبصره، من قوله: "يعني بذلك

_ 1 سورة البقرة الآية رقم (7) . 2 جامع البيان، (9/335) .

فَوْقَ بَعْضٍ} في مقابلة قوله: {نّورٌ عَلَىَ نُورٍ} في مثل النور. وأشرت - قريباً - إلى أن النورين هما: نور الإِيمان، ونور العلم المستفاد من الوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم. والقياس والاعتبار يقتضي مقابلة الشيء بضده، فيكون من الظلمات التي بعضها فوق بعض ما يقابل هذين النورين، وهما ظلمة الكفر، وظلمة الجهل والإعراض عما جاء من عند اللَّه من العلم والهدى. ومما يقوي هذا أن ابن جرير - رحمه اللَّه - نص على أن الكفر إنما سُمّي ظلمة لأنه يحجب القلب عن إدراك حقائق الإِيمان، حيث قال: "وإنما جعل الظلمات للكفر مثلاً لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك حقائق الإِيمان، والعلم بصحته، وصحة أسبابه. فأخبر تعالى ذكره أنه ولي المؤمنين ومبصرهم حقيقة الإِيمان، وسبله وشرائعه وحججه وهاديهم فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك بكشفه عنهم دواعي الكفر وظُلَم سواتر أبصار القلوب"1. ويستخلص من هذا النقل - مما يتعلق بهذا المبحث - ثلاث فوائد هامة: الأولى: أنه نص على أن الظلمات جعلت مثلاً للكفر. الثانية: نصه على أن الكفر حجاب، يحجب رؤية القلب.

_ 1 جامع البيان لابن جرير، (3/14، 15) .

الثالثة: بيانه أن هذه الحُجُب والظُّلَم إنما هي سواتر وحجب تحجب أبصار القلوب، كما أن الظُّلَم الحسيه تحجب أبصار العيون. كما أنه يتفق مع دلالة السياق من جهة أخرى، حيث تقدم1 أن هذه الأمثال في سورة النور تشترك في تقرير حقيقة هامة، هي: "بيان أن سبب الهداية الأهم وطريقها الأوحد، هو تعلم ما أنزل اللَّه من الهدى والنور في كتابه المبين وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وأن سبب الضلال الأهم هو الإعراض عن ذلك والجهل به". فتفسير أحد الظلمات الحاجبة لأنوار الهداية بسبب الضلال هذا، يتفق مع هذه النتيجة التي تتظافر هذه الأمثال في بيانها. 3- ومن الاعتبارات المفيدة في تحديد المراد بالظُّلَم ما يستفاد من كون ظلمة الموجين من جنس واحد، وقريبة من الممثّل به، وفي محيطه، وكون الظلمة الثالثة خارجة عن محيطه، وبعيدة عنه وأقرب إلى مصدر الضوء. وكذلك ظلمة الجهل والإعراض عن العلم بالكتاب والسنة، وظلمة الكفر - اللتان يُقابَل بهما الموجان - هما من جنس واحد باعتبار أنهما من فعل العبد، وكل منهما ضلال وعمى. أما ظلمة الختم والطبع والغشاوة - التي تقابل السحاب - فهي من

_ 1 انظر: المبحث الثاني: أهمية المثَلين، ص (476) .

فعل اللَّه المحض، فهي بعيدة عن استطاعة العبد وفعله. وهي مناسبة لمقابلة السحاب من جهة أخرى، حيث إن أثرها في حجب الهداية، ونور العلم عن الكفار عظيم، كما أن أثر السحاب في حجب الضوء عن الممثّل به هو الأقوى والأشد. لذلك قال اللَّه تعالى في ختام المثَل: {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} ، حيث إن هذا الختام يتكلم عن فعل اللَّه سبحانه. ومما تقدم من أقوال أهل العلم، وهذه الاعتبارات يمكننا تحديد المراد بالظُّلَم الثلاث القائمة بهذا الصنف من الكفار، والتي تقابل الظُّلَم الحسية في البحر اللجي، وهي: 1- ظلمة الجهل: المتمثل في الإعراض عن وحي اللَّه المطهر - الكتاب والسنة - والجحود والتكذيب له، وغير ذلك من الضلالات العلمية والعملية الباطنة. وهي تقابل الموج الأول الباطني. 2- ظلمة الكفر: المتضمن للضلالات العلمية والعملية الظاهرة، وهي تقابل الموج السطحي الظاهر على سطح البحر. 3- الحجاب الناتج عن ختم اللَّه على قلوبهم وأسماعهم، وجعله الغشاوة على أبصارهم. وهو يقابل السحاب في الممثّل به. قال ابن جرير - رحمه اللَّه - مبيناً هذا الحجاب في قوله تعالى:

{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1..، قال: "فأخبر2 صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل اللَّه عز وجل والطبع، فلا يكون للإِِيمان إليها مسلك، ولا للكفر منه مخلص، فذلك هو الطبع والختم الذي ذكره اللَّه تبارك وتعالى في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإِيمان إلى قلوب من وصف اللَّه أنه ختم على قلوبهم، إلا بعد فضه خاتمه وحله رباطه عنها"3.

_ 1 سورة البقرة الآية رقم (7) . 2 يشير إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم "إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإِن تاب ونزع واستغفر، صُقِل قلبه، فإِن زاد زادت حتى تغلق قلبه، فذلك الران، الذي قال اللَّه جل ثناؤه: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} " [المطففين:14] ، انظر: جامع البيان (1/45) ، ورواه الإمام أحمد، المسند (2/97) والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" تحفة الأحوذي، (9/254) والحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، المستدرك (2/517) . 3 جامع البيان، (1/145-146) .

وخلاصة الظلمات الثلاث التي حالت بين ذلك الكافر وأنوار الإِيمان والهداية الإلهيه هي: 1 - تكذيبه وإعراضه عما أنزل اللَّه من العلم والهدى وجهله به. 2 - كفره وضلالاته العلمية والعملية. 3 - طبع اللَّه على قلبه وسمعه وبصره. وكل واحد من هذه الظلمات عبارة عن حجاب يسهم في إبعاده عن مصدر النور والهدى، فهو إذاً بعيد جداً، وفي ظلمة وحيرة شديدة. نسأل اللَّه السلامة والعافية. بيان دلالة قوله تعالى: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} ، وقوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} على الممثّل له. لقد أخرت الكلام على قوله تعالى: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} إلى حين الكلام على قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} لكون هاتين الجملتين تسهمان في تحديد مكان الظلمة في الممثّل له، وأثرها عليه. ويستفاد من هاتين الجملتين أمور منها: أولاً: تحديد ما يقابل المكان الممثّل به. ثانياً: ما يقابل الشخص المقدر وجوده في ذلك المكان، في قوله تعالى: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} .

وعليه فالأنسب - واللَّه أعلم - تفسير البحر اللجي بما يتناسب مع ما فسرت به الأمواج، حيث إنها من جنس واحد فالكل ماء. والبحر كلٌ والأمواج أفراده، فيكون تفسير "البحر اللجي": بما يفيد عمق كفر وضلال ذلك الكافر وسعته. وأنه مغمور ببحر من الظلمات تتلاطم فيه أمواج الضلال والفساد والجهالات والشرور. وإن كان المراد أن قلب الكافر يقابل ذلك المكان الكائن في عمق البحر اللجي تحت الموج الباطني - الذي يدور السياق حول بيان شدة ظلمته، والمقدر فيه الذي إذا أخرج يده لم يكد يراها - فهو تفسير مناسب تماماً لتطابق الممثّل به والممثّل له. وذلك أن ذلك المكان في قعر المحيط يغمره الماء - ماء البحر المالح - من داخله ومن خارجه. وكذلك قلب الكافر تغمره الضلالات والكفر والجهالات من داخله وخارجه. فاعتقاده وعمل قلبه كفر وضلال، وعمله الظاهر وأقواله كفر وضلال، وتغشاه أمواج الفتن والفساد، وتيارات الكفر والإِلحاد من كل مكان. الأمر الثاني: تحديد ما يقابل الشخص المقدر وجوده في ذلك المكان في قوله تعالى: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} . مما تقدم تبين أن البحر اللجي يقابله: بحر الكفر والضلال والجهالة التي يتقلب فيها الكافر. وأن المكان الكائن في قعر البحر تحت الأمواج يقابله: قلب الكافر،

المغمور في ظلم الكفر والجهل والضلال. ويكون ما يقابل الشخص المقدر وجود في ذلك المكان هو: بصر القلب وعينه. فالمراد بيان عدم قدرة قلب الكافر على الإِبصار، في مقابل عدم قدرة عين ذلك الشخص على الإِبصار. وقد أشار ابن جرير - رحمه اللَّه - إلى هذه المقابلة بقوله المتقدم، ومنه: "فأخبر تعالى ذكره أنه ولي المؤمنين، ومبصّرهم حقيقة الإِيمان، وسبله، وشرائعه، وحججه، وهاديهم فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك، بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظلم سواتره عن أبصار القلوب"1. فقوله: "بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظُلَم سواتره عن أبصار القلوب": يدل على أن تلك الحجب والظلم إنما هي سواتر وحجب تحجب أبصار القلوب، كما أن الظُلَم الحسية تحجب أبصار العيون". وقال أيضاً: "ويعني بالظلمات: ظلمات الكفر وشكوكه الحائلة دون أبصار القلوب ورؤية ضياء الإِيمان وحقائق أدلته وسبله"2. وهذا التشبيه مداره على أن عدم الإبصار سببه انعدام النور، وليس

_ 1 جامع البيان، (3/23) . 2 نفس المرجع.

علة في الآلة المبصرة. وهذا المعنى ظاهر في الممثّل به، والممثّل له. فالممثّل به - الشخص المقدر وجوده في قعر البحر - لا يبصر يده ولا يبصر غيرها من باب أولى بسبب انعدام الضوء لوجود تلك الحجب المذكورة في المثَل. والممثّل له - قلب الكافر، المقابل للذي إذا أخرج يده لم يكد يراها - لا يبصر سبل الهدى، وأسباب النجاة، لسبب الحجب التي حالت بينه، وبين أنوار الهداية. كما أن هذا المعنى يبين حسن المقابلة بين هذا المثَل - مثل الظلمات - ومثل النور. وذلك أن مثل النور بَيَّن استنارة قلب المؤمن، والعوامل التي ساعدت على اكتمال ذلك النور وتوهجه، وأثره الطيب على صاحبه. وهذا المثَل - مثل الظلمات - بين ظلمة قلب الكافر، والعوامل التي ساعدت على استحكامها، وشدتها، وأثرها السيئ على صاحبها. وقد ورد ما يشير إلى المقابلة بين المثَلين في ألفاظهما، من قوله سبحانه في مثل النور: {نّورٌ عَلَىَ نُورٍ} ، ويقابلها في مثل الظلمات قوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ، وقوله في مثل النور: {يَهْدِي اللَّه لِنُورِهِ مَن يَشَآء} ويقابلها في مثل الظلمات: {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} . الأمر الثالث: ما تدل عليه جملة: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} وجملة: {إِذَآ أَخْرَجَ

يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} ، من الظلمة والخوف، والاضطراب والتردد والحيرة. تقدم عند دراسة الممثّل به1، أن لفظ "لجي" الذي وصف به البحر يدل على أمرين: الأول: التردد والاضطراب الناتج عن هيجان الأمواج. الثاني: العمق، حيث إن البحر اللجي: هو العميق كثير الماء. وتقدم - أيضاً - أن خلاصة المستفاد من هذين المعنيين: أن المشبه به كائن في مكان ما في عمق بحر عظيم مظلم مضطرب الموج، مخيف مفزع. ويقابل هذه المعاني في الممثّل له: أن هذا الصنف من الكفار - المضروب لهم مثل الظلمات - مغمورون في بحار الكفر والضلال والفساد، قد أظلم عليهم طريق الهداية، وأظلمت قلوبهم وأعمالهم، فهم في عمى تام، وضلال بعيد، وأنهم بسبب هذه الظلمة، وما يحيط بهم ويغشاهم من العقائد الباطلة والظنون السيئة، وأمواج الشكوك والريب، وتيارات الشهوات الفاسدة، والإرادات الخبيثة، والأفكار والنظريات المنحرفة، في خوف وفزع وقلق وحيرة. قال ابن جرير - رحمه اللَّه -: "يقول تعالى ذكره: ومثل أعمال هؤلاء الكفار، في أنها عملت على

_ 1 انظر ص (580) وما بعدها.

خطإ وفساد، وضلالة وحيرة من عمالها منها، وعلى غير هدى، مثل ظلمات في بحر لجي"1. قوله تعالى: {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} . هذه الجملة تلخيص وتأكيد للمعنى الذي دل عليه المثَل، والمعنى الذي دل عليه السياق. فالمثَل دل على وجود حجب حجبت هؤلاء الكفار عن أنوار الهداية فهم بعيدون عنها، وأن أهم هذه الحجب هو فعل اللَّه بالختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم، والحيلولة بينها وبين النور والهداية، فليس بمقدورهم - والحالة هذه - الحصول على نور يهتدون به، إذ إن ذلك بيد اللَّه وحده، وقد حال بينهم وبينه. ودل السياق2 على أن طريق الهداية الوحيد هو تعلم ما نزل من الوحي والهدى على الرسول صلى الله عليه وسلم وأن سبب الضلال هو الإعراض عن ذلك ومعارضته بضده. وهؤلاء قد أعرضوا عن مصدر النور والهداية، وكذبوا به، وجازاهم اللَّه على ذلك بأن حرمهم منه، وحال بينهم وبينه، فلن يقعوا في سعيهم على مصدر آخر يهتدون به، ولن يجدوا لهم من

_ 1 جامع البيان، (9/335) . 2 انظر: ص (283) .

الظلمات مخرجاً. فهم كما وصفهم اللَّه بقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. ونجد في هذه الآية مقابلة مجملة بين المؤمن صاحب النور، والكافر صاحب الظلمات، التي ورد تفصيلها في سورة النور بمثَل النور ومثَل الظلمات. قال ابن جرير - رحمه اللَّه -: "فجعل إِبصاره الحق تعالى ذكره، بعد عماه عنه، ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك، حياة وضياءً يستضيء به فيمشي على قصد السبيل، ومنهج الطريق في الناس، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} ، لا يدري كيف يتوجه، وأي طريق يأخذ، لشدة ظلمة الليل، وإِضلالة الطريق. فكذلك هذا الكافر الضال في ظلمات الكفر، لا يبصر رشداً، ولا يعرف حقاً، يعني في ظلمات الكفر، يقول: أفطاعة هذا الذي هديناه للحق، وبصرناه الرشاد، كطاعة من مثله مثل من هو في الظلمات متردد، لا يعرف المخرج منها"2.

_ 1 سورة الأنعام الآية رقم (122) . 2 جامع البيان، (5/331) .

وفي هذه الجملة {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} إثبات لفعل اللَّه سبحانه في إضلالهم، ومنعه النور عنهم، بما ضُرِب عليهم من الختم والطبع والغشاوة. وسيأتي بيان ذلك في فوائد المثَل إِن شاء اللَّه تعالى. خلاصة صورة الممثّل له: دل المثَل على تصوير حال قسم من الكفار، أحاطت بهم الظلمات من كل جانب، فقلوبهم مغمورة في بحر عميق واسع من الجهالة والكفر والضلالة والفساد، مظلمة ظلمة تامة. بعيدة جداً عن مصدر الهدى والنور الإِلهي. بسبب حُجُب حجبتها عنه، من أهمها: ظلمة الجهل الناتج عن التكذيب والإعراض عما أنزل اللَّه من الآيات البينات، وظلمة أعمالهم الكفرية الضالة القولية والفعلية، وظلمة ضربت عليها من اللَّه، حيث ختم على قلوبهم وأسماعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، جزاءً موافقاً لما تلبسوا به من الإعراض والكفر والضلال. وأنهم في ظلمات بعضها فوق بعض، ومتوقف بعضها على بعض. وذلك أن ظلمة القلوب وعماها انعكس على أعمالهم فأظلمها. وظلمة الأعمال حجبت عن قلوبهم أنوار الهداية. والختم والطبع الذي حصل لهم إنما هو بسبب إِعراضهم وتماديهم في الغي والكفر. وأنهم مع ما هم فيه من الظلمات والضلال والغي والعمى، في

خوف وفزع واضطراب وحيرة. وأنهم لن يهتدوا أبداً ما دام حجاب اللَّه مضروباً عليهم، وطبعه وختمه مستمراً على قلوبهم، حيث حجب به عنهم نوره وهداه. وليس عندهم إلا الظلمات والعمى. فأنى لهم الفكاك مما هم فيه؟ ومن أين لهم نور يهتدون به؟ {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} .

المطلب الرابع: الفوائد المستفادة من المثل

المطلب الرابع: الفوائد المستفادة من المثَل: يدل مثل الظلمات في قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ ... } الآية، على فوائد هامة في بيان ضلال الكفار وظلمة قلوبهم وأعمالهم، وفي سبب إضلال اللَّه لهم، وختمه على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم. وعلى فوائد علمية تدل على الإعجاز وعلى نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الفوائد. وأهم الفوائد المستفادة من المثل: 1- دلالة المثل على أن الكفار يتقلبون في الظلمات الحالكة لا ينفكون منها. 2- دلالة المثل على سبب ضلال هذا النوع من الكفار. 3- دلالة المثل على فعل الله في إضلال الكفار وختمه على القلوب والأسماع. 4- دلالة المثل على أن الكفار في حيرة وقلق وخوف دائم. 5- إفادة المثل حقائق علمية، ومعجزة نبوية. وإلى تفاصيل هذه الفوائد. والله المستعان.

الفائدة الأولى: دل المثَل على أن الكفار يتقلبون في الظلمات الحالكة لا ينفكون منها. ومأخذ هذه الفائدة من مجموع ألفاظ المثَل، حيث بدأ بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ} ، ثم بين أنها مركبة وناتجة عن حجب متعددة، بقوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} ، ثم أفاد أنهم لن ينفكوا من ضلالهم وكفرهم وظلماتهم - بسبب عدم قدرتهم على تحصيل نور يهتدون به، لأن اللَّه حجب عنهم نوره، وليس عندهم، ولا بمقدورهم تحصيل نور بديل - حيث قال: {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} . وهذا المعنى - وهو أن الكفار حائرون في ظلماتهم لا ينفكون عنها - ورد في بعض الآيات، نحو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. وقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ

_ 1 سورة الأنعام الآية رقم (39) .

كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وهذه الظلمات ناتجة عن وجود الحجب، ومن أشدها وأعظمها الختم على قلوبهم وأسماعهم، وقد ربط ابن جرير - رحمه اللَّه - بين الظلمات وبين الختم والطبع، بقوله: "فكذلك قلب هذا الكافر الذي مثل عمله مثل هذه الظلمات، يغشاه الجهل باللَّه، بأن اللَّه ختم عليه، فلا يعقل عن اللَّه، وعلى سمعه، فلا يسمع مواعظ اللَّه، وجعل على بصره غشاوة، فلا يبصر به حجج اللَّه، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض"2. واستدل ابن جرير بقول ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - في تفسير قول الله تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ، حيث قال: "يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر، وهو كقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ..} الآية3. وكقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ

_ 1 سورة الأنعام الآية رقم (122) . 2 جامع البيان، (9/335) . 3 سورة البقرة الآية رقم (6-7) .

تَذَكَّرُونَ} 1" 2. وكلام ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - هذا فيه فائدة أخرى ألا وهي الربط بين الكفار المعنيين في مثل الظلمات، والكفار الذين ورد ذكرهم في أوائل سورة "البقرة" في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3. وأن الفريقين من جنس واحد يجمع بينهما وجود الحجب المانعة من الإِيمان والختم والطبع من اللَّه على قلوبهم وأسماعهم، والغشاوة على قلوبهم، وتلبسهم بموجب ذلك. وفي المراد بالكفار في آية سورة "البقرة" المتقدمة أقوال، أهمها قولان مشهوران، رجح كل منهما طائفة من أهل العلم. القول الأول: أن هذه الآية خاصة بصنف من الكفار، الذين كتب اللَّه عليهم الشقاوة، وسبق عليهم الكتاب بأن يموتوا كفاراً، الذين هم أهل النار المخلدون فيها.

_ 1 سورة الجاثية الآية رقم (23) . 2 جامع البيان، (9/335) . 3 سورة البقرة الآيتان رقم (6، 7) .

فيكون قوله: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} نفي لوقوع الإِيمان منهم مستقبلاً. ويكون المراد بتلبسهم في الظلمات في المثَل، وبقوله: {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} ، أن ذلك كائن منهم وعليهم دائماً لا ينفكون منه أبداً. ويكون حال الكفار المعنيين في آية سورة "البقرة"، وفي مثل الظلمات، كحال من ذكرهم اللَّه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} 1 وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} 2. قال ابن جرير - رحمه اللَّه - موجهاً هذا القول:

_ 1 سورة يونس الآيتان رقم (96، 97) . 2 سورة الكهف الآية رقم (57)

"أن اللَّه تعالى ذكره لما أخبر عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون، وأن الإنذار غير نافعهم، ثم كان من الكفار من قد نفعه اللَّه بإِنذار النبي صلى الله عليه وسلم إِياه، لإِيمانه باللَّه وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند اللَّه بعد نزول هذه السورة - لم يجز أن تكون الآية نزلت إلا في خاص من الكفار"1. وقد رجح ابن كثير2 - رحمه اللَّه - هذا المعنى، في تفسير آية سورة "البقرة" وما شاكلها. كما رجحه بعض المفسرين3. وفائدة الإخبار بأن هناك صنفاً من الكفار لا ينفكون عن ظلماتهم وضلالهم، ولن يستجيبوا لدعاة الهدى، ولن يذعنوا لأدلة الحق وآياته البينات، هي تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ومن يقتفي أثره بالدعوة إلى اللَّه. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس، ويتابعوه على الهدى، فأخبره اللَّه تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من اللَّه السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من اللَّه الشقاوة في الذكر الأول. ففي هذه الآيات - الدالة على أن صنفاً من الكفار لا يهتدون ولو جاءتهم كل آية - إرشاد للنبي صلى الله عليه وسلم بأن لا تذهب نفسك عليهم حسرات، وبلغهم الرسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن تولى فلا تحزن

_ 1 جامع البيان، (1/142) . 2 تفسير القرآن العظيم، (1/45) . 3 انظر: مجموع الفتا

عليه ولا يهمنك ذلك1. القول الثاني: أن الآية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} - التي ربط ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - بينها وبين مثل الظلمات - عامة تشمل جميع الكفار. "والمراد بها أن الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إلى الكافر ما دام كافراً، لا ينفعه الإنذار ولا يؤثر فيه"2. وقد رجح هذا المعنى شيخ الإِسلام ابن تيمية3 - رحمه اللَّه - وذكر أنه على هذا القول أكثر تفاسير السلف4. وقال - رحمه اللَّه -: "وآية البقرة مطلقة عامة. فإِنه ذكر في أول السورة أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في المنافقين، فبين حال الكافر المصر على كفره أن الإنذار لا ينفعه للحُجُب التي على قلبه وسمعه وبصره.

_ 1 انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (1/45) ، ومجموع الفتاوى، (16/591، 592) . 2 مجموع الفتاوى، (16/584) . 3 انظر مجموع الفتاوى، (16/584-594) . 4 نفس المصدر، ص (16/589) .

وليس قال: إن اللَّه لا يهدي أحداً من هؤلاء، فيسمع ويقبل ... فالكفار ما داموا كفاراً هم بهذه المثابة. من الإِيمان كما أن للمنافقين موانع تمنعهم ما داموا كذلك، وإن أُنذروا ... فهذا مثل كل كافر ما دام كافراً"1. ويفرق - رحمه اللَّه - بين النصوص التي يذكر فيها الكتاب السابق عليهم بالكفر، وينص فيها على أنهم حقت عليهم كلمة العذاب، وبين النصوص التي ذكر فيها مجرد الختم والطبع. قال - رحمه اللَّه - موضحاً هذا المعنى: "وما ذكر من الموانع هي موجودة في كل من لم يقبل الإنذار.. فيمتنع قبول الإنذار بسبب تلك الموانع، ولكن هذه الموانع قد تزول، فإِنها ليست لازمة لكل كافر. وإذا كان المانع ما سبق من القول الذي حق عليهم فقد لا يزول أبدا، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} 2. وأما إذا اقتصر على ذكر الموانع التي فيهم، ولم يذكر ما سبق من

_ 1 مجموع الفتاوى، ص (16/586) 2 سورة يونس الآية رقم (9697-) .

القول، فهذه الموانع يرجى زوالها ويمكن، ما لم يذكر معها ما يقتضي امتناع تغير حالهم وحصول الهدى.."1. ويؤيد ما ذهب إليه شيخ الإِسلام أن اللَّه سمى هذه الحجُب المانعة للكفار من الإِيمان أقفالاً، في قوله سبحانه: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 2 والأقفال تفتح وتقفل. كما يؤيده في صورة المثَل - مثل الظلمات - أن الذي يقابل حجاب الختم والطبع هو السحاب. والسحاب يتراكم وينقشع بأمر اللَّه تعالى. وفائدة الإخبار بأن الكافر لا ينفك عن كفره، وأنه يتقلب في ظلماته، ما دام كافراً مضروبة عليه الحجب، أمور من أهمها: 1- ما تقدم من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ومن سار على نهجه في الدعوة إلى اللَّه، وإرشادهم إلى عدم الإفراط في الحزن والشفقة على الكفار إذا لم يستجيبوا. 2- أن يعلم الداعي إلى اللَّه أنه ليس بدعائه وإنذاره وبيانه يحصل الهدى، ولو كان أكمل الناس3 - فلا يداخله العجب، حيث يعلم أن

_ 1 مجموع الفتاوى، (16/594) . 2 سورة محمد الآية رقم (24) . 3مجموع الفتاوى، ص (16/594) .

اللَّه هو الذي يسر انتفاع من انتفع بالموعظة، وكشف عنه الحجاب. 3-أن لا ييأس الداعي عندما لا يرى لدعوته وبيانه قبولاً، حيث يعلم أن القلوب بيد اللَّه، فقد لا ييسر اللَّه هداية المدعو فلا يستجيب، لا لنقص في الدعوة والبيان ولكن لفساد المدعو1. إلا أن هناك فائدة هامة دل عليها المثَل من خلال إفادته أن الكفار في ظلمات شديدة، وأنهم لن يجدوا نوراً يهتدون به. وهذه الفائدة معتبرة من المثَل على كلا المعنيين، سواء كان في الكفار الذين حقت عليهم كلمة العذاب، ولازمهم الحجاب، أم كان عاماً في سائر الكفار ما داموا على كفرهم. هذه الفائدة هي: أن الكافر في سعيه النظري العلمي، والتطبيقي العملي، في جهل وضلال، وإلى جهل وضلال - ما دام أن جهده تم في ظلمة الكفر - فيما يتعلق بهداية الإنسان وسعادته ونجاته في الآخرة. وثمرة هذه الفائدة: أن يحذر المسلمون أفراداً وجماعات من الاغترار بزخرف قولهم، وبريق نظرياتهم، وما عندهم من التطبيقات السلوكية، والمعاملات الاجتماعية والمالية، والأطروحات السياسية والاقتصادية، والآداب، وسائر العلوم الإنسانية الضالة. فإِن تلك العلوم والمفاهيم والقناعات تمت في ظلمة الكفر وضلاله،

_ 1 انظر مجموع الفتاوى، (16/587) .

وحيرته وشتاته، لن يصلوا بها إلى خير وهدى، ذلك أنه ليس عندهم شيء من نور الهداية. {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} . قال ابن جرير - رحمه اللَّه -: "فكذلك هذا الكافر الضال في ظلمات الكفر، لا يبصر رشداً، ولا يعرف حقاً، يعني في ظلمات الكفر، يقول: أفطاعة هذا الذي هديناه للحق، وبصرناه الرشاد، كطاعة من مثله من هو في الظلمات متردّ، لا يعرف المخرج منها"1. ومما ورد من الآيات في هذا المعنى، قول اللَّه تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ} 2. قال ابن جرير - رحمه اللَّه -: "يقول: لا يسددهم لإِصابة الحق في نفقاتهم وغيرها، فيوفقهم لها، وهم للباطل عليها مؤثرون، ولكنه يتركهم في ضلالتهم يعمهون"3. وهذه القضية جد هامة.

_ 1 جامع البيان، (5/331) . 2 سورة البقرة الآية رقم (264) . 3 جامع البيان، (3/66) .

ولتمام الاعتبار بها: ينبغي على أهل العلم والدعوة تتبع بعض ما وقع من ضلال الكفار وتخبطهم - وخاصة في عصر تقدمهم المادي في العصر الحديث - في كافة مجالات السلوك الإنساني، في النواحي السياسية والاقتصادية، وكرامة الإنسان ومكانته وحقوقه، وهدفه ومصيره، وسعادته وطمأنينته، والأخلاق، والمجتمع ونُظمه، وغير ذلك من القضايا التي تقوم عليها حضارة الإنسان، وتتوقف عليها سعادته أو شقاؤه، والاستفادة من شهادات مفكري الكفار وغيرهم في نقد تلك الحضارة وبيان نتائجها المدمرة على الإنسان. وهذا المجال واسع جداً، وإنما ميدانه ما يعرف بالثقافة الإِسلامية حيث اجتهد بعض الكتاب والمفكرين في بيان بعض هذه الجوانب1.

_ 1 مثل: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" لأبي الحسن الندوي، و"المستقبل لهذا الدين" و"الإسلام ومشكلات الحضارة" لسيد قطب، و "جاهلية القرن العشرين" لمحمد قطب، و "الإيمان والحياة" ليوسف القرضاوي، و "نقد أصول الشيوعية" لصالح بن سعد اللحيدان.. ونحوها. مع ملاحظة: أنه ليس كل ما في تلك الكتب مسلماً لأصحابها، سالماً من الخطإ، وإنما المراد الاستفادة مما فيها من بحوث جيدة في هذا المجال. ويستفاد مما في الكتاب الأخير:"نقد أصول الشيوعية" من إفادة حول أهمية نقد الكتب المؤلفة في الفكر والثقافة الإِسلامية، وتنقيتها مما فيها من أخطاء ومزالق. وضرورة أن يكتب في هذه المطالب الذين تشبعوا بالعلم الشرعي، ومعرفة ما كان عليه السلف الصالح، لتكون الدراسات والحلول أكثر نضجاً، وأبعد عن الزلل. وقد ذكرت فيما يأتي من المتن مقتطفات من هذا الكتاب لأَهميتها.

ومما يزيد الحاجة إلى العناية بهذا الأمر انخداع كثير من المسلمين بحضارة الكفار المعاصرة، وقبولهم الأعمى لكل ما يمت إليها بصلة، دون تمييز بين الغث والسمين، والنافع والضار. كما يوجد قصور في العلاج والحلول عند بعض من كتب في ذلك من الكُتاب والمفكرين، يستلزم من العلماء وطلبة العلم دخول هذا المضمار برؤية مستبصرة، تستقي حلولها وتصوراتها من كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح - رضوان اللَّه عليهم - وما يقتضيه النظر العقلي السليم المنسجم مع الوحي القويم. وهذه الجهود لازمة لحماية عقائد المسلمين من التذبذب والريب، وسلوكهم من التحلل من شعائر الإِسلام، ونفسياتهم من الانفصام والحيرة، ولأجل سلامة قاعدة الولاء للإسلام وأهله، والبراءة من الطاغوت وأهله، والخلاص من الآفات الأخرى التي تتولد عن الانبهار والإعجاب، والاقتداء بأعداء اللَّه من اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين الضالين. وهذه المباحث مع أهميتها ووجود الداعي إليها في وقتنا الحاضر أشد من غيره، ينبغي عدم الإفراط في تناولها، والتوسع في دراستها، واستقصاء

دقائقها، لأن ذلك يشغل المسلم عن تعلم العلم، والدعوة إليه. لذا فالواجب أن تعطى ما يناسبها من الاهتمام بإزاء ما ينبغي على طالب العلم تحصيله والعناية به، وتعليمه والدعوة إليه.. من معرفة اللَّه، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم، وشرائع الدين. فالنهج القويم في هذه المسألة وما شابهها من قضايا الثقافة - مثل معرفة كيد الأعداء للمسلمين، في صدهم عن دينهم، وبث الفرقة والشقاق بينهم، والتخطيط لإضعافهم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً - وسط بين طرفين: أحدهما: الإِهمال التام، والإعراض عن ذلك، وربما التقليل من شأنه. والآخر: التوسع في ذلك، واتخاذه القضية الأهم، وصرف الجهد الأكبر والوقت الأوفر لها، الذي قد ينتج عنه قلة العناية بتعلم مسائل الإِيمان، وأحكام الشريعة وتعليمها. وقد يُعَظِّم من لهم جهود في ذلك إلى حد تفضيلهم على أهل العلم والذكر، وربما قدح في العلماء وقلل من شأنهم بحجة عدم إسهامهم في ميدان الثقافة. ويعين على العمل بهذا المنهج الوسط: أن تحدد الجوانب التي تقوم عليها حضارة الإنسان، وتتوقف عليها سعادته في الدنيا والآخرة، ثم تحدد أهم الانحرافات، والفساد الحاصل في كل منها في الحضارة الكافرة المعاصرة باعتبارها قمة حضاراتهم، والاستدلال على ذلك بما ظهر من أحوالهم، وما سطروه من شهاداتهم، وربطه بما أخبر اللَّه به من خطوات

الشيطان وكيده لبيان توافق أحوالهم معها. مع التنبيه على ما بينه اللَّه من أحوالهم وضلالهم وظلماتهم، وحيرتهم وتخبطهم وفسادهم، لتكون تلك الدراسات شاهدة على ذلك، لافتة للفطر السوية، والعقول السليمة إلى ضلالهم وظلمة سعيهم؛ مما يوجب النفور منهم، وعدم الاغترار ببريق حضارتهم. وفي المقابل يعتني ببيان محاسن الإِسلام، وسمو نظُمه وتعاليمه، وما حققه لأتباعه من الخير والهدى، بالمقارنة مع تلك الأوضاع الكافرة الضالة المترديه، وبيان توافقها مع مسلّمات العلم الصحيح والطب، والدراسات الجادة الموفقة في تلك الجوانب. وبذلك يظهر سمو الإِسلام وعظمته، وأنواره الهادية إلى الرشاد في مختلف جوانب كدح العباد، مما يبعث على الاعتزاز والاستبشار والاستمساك به. ولعل من المناسب أن أورد بعض المقتطفات الهامة من كتاب "نقد أصول الشيوعية"1، فيما يتعلق بأهمية العناية بقضايا الفكر والثقافة الإسلامية، وأن يتصدى لذلك أهل العلم والبصيرة في الدين، وضرورة النقد المستمر لما صدر ويصدر في هذا الميدان، مع الإِشارة إلى أن بعض مَن كَتَبَ في هذه المواضع ليس من أهلها.

_ 1 للشيخ: صالح بن سعد اللحيدان، مكتبة الحرمين، الطبعة الأولى، 1401هـ.

فمن أقواله في ذلك: "ولعل إِشكال المعرفة في الفكر الإِسلامي1 كله هو أن الذين

_ 1 الفكر يُطلق على الأفكار الحاصلة من وظيفة التفكّر والتعقّل التي أودعها الله في قلوب العباد، فهو وظيفة بشرية، وعلى هذا فالعقيدة الإسلامية، وشُعب الإيمان ليست فكراً، وإنما وحي من عند الله، وهي غذاء الفكر الإسلامي وقاعدته، وقد بيّن الله تعالى أن من صفات المؤمنين التفكّر في الآيات التنزيلية والكونية، وما فيهما من دلائل التوحيد، وما تشتمل عليه من العبر والمواعظ في نحو قوله تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24] ، وقوله: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:167] ، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3] ، وغيرها. والتفكير السديد وظيفة أمر الله بها عباده المسلمين، وهم الجديرون بها، وما ينتج عنه من فكر هو فكر إسلامي، إذا قام به المسلم وِفْقَ الضوابط الشرعية، ومن منطلق العقيدة. فالفكر الإسلامي هو الذي يستند على العقيدة الإسلامية، وينطلق من نصوص الوحي في بحثه واجتهاده في مختلف مجالات الحياة، ويمكن حصر أهم ميادين الفكر الإسلامي فيما يلي: 1- فهم نصوص الكتاب والسنة، واستنباط الأحكام والعبر والمواعظ. 2- استنباط براهين الحق، ودلائل التوحيد، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من العقائد بالتدبر للآيات التنزيلية، والتفكر في آيات الله الكونية. 3- بيان محاسن الإسلام، وسلامة نُظُمه وتشريعاته من النقائص، وأنها هي المصلحة لحياة الناس. 4- الدفاع عن الإسلام وتفنيد الشبهات المثارة حوله، وبيان بطلان الأفكار المنحرفة والأديان الضالة. 5- استكشاف الأسرار التي وضعها الله في خلقه، وسخرها للإنسان، والانتفاع من ذلك في تسهيل حياة الناس، والرقي بها، وفي الإعداد لقوة المسلمين في كافة المجالات، ويدخل في ذلك العلوم المادية، كالفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والطب، والأحياء، والصناعات المختلفة، والزراعة، والعلوم الاقتصادية والتجارية. والفكر الإسلامي معني بتطهير هذه العلوم، مما أُدرج فيها من الضلالات، بالإضافة إلى نقل المفيد منها، واستخدامه وتطويره. 6- البحث والدراسة للنفس البشرية والنشاط الإنساني، وإقامته على مبادئ الإسلام ومسلّماته، ويشمل ذلك علم النفس، وعلم الاجتماع وفروعها، والدراسات التاريخية، ونحوها. 7- التفكر في الأمور الغيبية التي أخبر الله بها، كالموت وأحوال القبر، وما يجري يوم القيامة من أهوال، وصفات الجنة والنار، مما يفيد في إصلاح القلوب واندفاعها للخير، وارتداعها عن الشر، وعدم تماديها في الحرص على الدنيا. انظر لما تقدم: كتاب أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة (ص484) ، وما بعدها، الطبعة الأولى – للمؤلف.

يكتبون عنه أناس ليس لهم معرفة كبيرة بأصول وفروع دين الإسلام.. إِن أكثر مفكري الإِسلام الذين برزوا إلى ساحة الفكر يحتاجون أنفسهم إلى عودة إلى كتب الأولين الأعلام، ومن ثم يهون عليهم المشكل ولا يحتاجون إلى زيادة بيان.. إن الخطر يكمن في أن الفكر الإِسلامي دخل

فيه من لا يحسنه أو يحسنه ولكنه أساء إليه"1. وقال أيضاً: "ولست أنكر ما قدمه بعض المفكرين الإِسلاميين من دراسات طيبة ونقد رفيع، إلا أن هذا لا يغني في الرد على المذاهب المتأخرة.. بيد أني أريد أن نقوم لا بعمل مبتور بل بعمل متكامل، يوحي بقوة المعرفة، وإدراك أسباب انتشار المذاهب، ومن ثم دراسة ما يمكن دراسته للرد والنقد والنقاش، ونعلل بطلان غير ما جاء به الإِسلام في الحياة وبعد الممات"2. ثم بين أهمية النقد لمن يكتب في ميدان الفكر والثقافة الإسلامية، ليتمكن من نقد أحوال الكفار، والأفكار والمذاهب الهدامة، أو حتى نقد ما كتب ويكتب في الثقافة نفسها، فقال: "وتوديع الكلام في هذا هو أنه لا بد من نقد يكون الناقد فيه على جانب كبير من سعة الصدر، وممارسة النقد الجزئي أولاً بأول، ولا بد من معرفة لقواعد النقد في الأدب الإِسلامي والتاريخ، وعليه أن يكون واسع الأفق، لديه حصيلة من الإدراك والذكاء وحسن التصور"3.

_ 1 نقد أصول الشيوعية، ص (107) . 2 نفس المرجع، ص (91) . 3 نفس المرجع، ص (97) .

فقال وهو يبين قواعد النقد: "وأول هذه القواعد التي نراها في هذا السبيل:.. معرفة العقيدة الإِسلامية المعرفة الكافية الحامية، وفهم الكتاب والسنة الفهم الصادق الواعي، والتغذي بكتب السلف من علماء هذا الدين الذين كتبوا في العقيدة، ومعاني القرآن وأسراره، وفهموا الحديث فهماً تاماً، وقصروا أنفسهم على ذلك. وهذه قاعدة مهمة لمن أراد الخوض في مجال النقد والمناقشة والردود"1. وقال مبيناً الطريق إلى نشر ثمرات الدراسات الطيبة المفيدة في هذا المجال: "وخطوة أخرى في هذا الطريق نسجلها لعلها تكون مأخذ التنفيذ من العاملين على التعليم، وهي أن تدرس الأنظمة والمذاهب البشرية الحديثة، ويكون الدارس لها على جانب عظيم من علم بالإسلام أصوله وفروعه، ويكون على درجة علمية رفيعة بالنقد وبيان الموضوع.. ولا يعني هذا إهمال المذاهب والفرق التي ظهرت قديماً بل يجعل كل هذا بجانب أو جوانب وتدرس للطلاب خاصة في المرحلة الثانوية والجامعية والدراسات العليا. ويحسن بجانب أن تدرس حال المسلمين في العالم2،

_ 1 نقد أصول الشيوعية، ص (117) . 2 تدرس في الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة في كلية الدعوة وغيرها - هذه الجوانب، مثل: الأديان والفرق، والغزو الفكري، وحاضر العالم الإِسلامي، والإعلام.. ونحوها.

وهذا فيه ما فيه من النفع والخير العميم.. ونحن بحاجة إلى أن يكون أبناؤنا على علم بما حولهم من شر كبير"1. ويضاف إلى ذلك: أن تبسط وتختار بعض شهادات وشواهد ضلال الكفار في مختلف جوانب الحياة، وتُلقى على العامة في بعض خطب الجمعة، ووسائل الإعلام العامة، ليعم الوعي بذلك. بعد هذه الإشارات إلى أهمية هذا الجانب من الثقافة الإِسلامية والمنهج الأقوم في تناولها، وحاجة ذلك إلى كاتب عالم بالكتاب والسنة ونهج وفهم السلف الصالح، ناقد منصف، بعد هذا، أرى أنه لا بد من تحديد الجوانب الضالة عند الكفار التي لن يصلوا فيها إلى الهدى، كما دل على ذلك هذا المثَل وغيره من الآيات. تحرير جوانب ضلال الكفار وظلماتهم. قد يرى المرء ما فيه كثير من الكفار من التقدم المادي في جوانب كثيرة من الحياة، فتأخذه الحيرة في فهم المراد بضلال الكفار وظلماتهم التي دل عليها مثل الظلمات، وما في معناه من الآيات. ولتجلية هذا الأمر ينبغي التعرف على المجالات التي بمقدورهم

_ 1 المصدر السابق، ص (121) .

تعلمها وإتقانها، والاستفادة منها في نواحي الحياة، والمجالات التي ليس بمقدورهم الاهتداء إلى الصواب فيها، والتي هم في عمى وضلال تام عن معرفتها والعمل بها. فقد أثبت اللَّه للكفار علماً، ونفى عنهم علماً. وبين مجال ما أثبت ومجال ما نفى. حيث قال سبحانه: {وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} 1. فأثبت لهم سبحانه العلم بظاهر من الحياة الدنيا، ونفى عنهم العلم بما ينفعهم يوم القيامة. وقد أورد ابن جرير2 - رحمه اللَّه - أقوال علماء السلف في المراد بظاهر الحياة الدنيا - الذي أثبت لهم علمه -، وخلاصة أقوالهم تدور حول ما يلي:

_ 1- معرفة تدبير معايشهم من الزراعة وما يتصل بها. وقد عبر عن ذلك بعضهم بقوله "يعني معايشهم، متى يحصدون، ومتى يزرعون". 2- معرفة الصناعة وما يتصل بها، عبر عن ذلك بعضهم بقوله: 1 سورة الروم الآيتان رقم (6، 7) . 2 انظر: جامع البيان، (10/168) .

"الخرازون، والسراجون". 3- معرفة أساليب العمران وما يتصل بها، عبر عن ذلك بعضهم بقوله: "يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهال". وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه اللَّه -: "وهؤلاء الذين لا يعملون، أي: لا يعلمون بواطن الأشياء وعواقبها. وإنما {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فينظرون إلى أساليب، ويجزمون بوقوع الأمر، الذي في رأيهم انعقدت أسبابه، ويتيقنون عدم الأمر الذي لم يشاهدوا له من الأسباب المقتضية لوجوده شيئاً. فهم واقفون مع الأسباب، غير ناظرين إلى مسببها، المتصرف فيها. {وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} قد توجهت قلوبهم، وأهواؤهم، وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتها، وحطامها، فعملت لها وسعت، وأقبلت بها وأدبرت، وغفلت عن الآخرة. فلا الجنة تشتاق إليها، ولا النار تخافها وتخشاها، ولا المقام بين يدي اللَّه ولقائه يروعها ويزعجها، وهذا علامة الشقاء وعنوان الغفلة عن الآخرة. ومن العجب أن هذا القسم من الناس، قد بلغت بكثير منهم، الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا، إلى أمر يحير العقول، ويدهش الألباب. وأظهروا من العجائب الذرية، والكهربائية، والمراكب البرية

والبحرية، والهوائية، ما فاقوا به وبرزوا، وأُعجبوا بعقولهم، ورأوا غيرهم عاجزاً عما أقدرهم اللَّه عليه. فنظروا إليهم بعين الاحتقار والازدراء، وهم مع ذلك، أبلد الناس في أمر دينهم، وأشدهم غفلة عن آخرتهم، وأقلهم معرفة بالعواقب. قد رآهم أهل البصائر النافذة في جهلهم يتخبطون، وفي ضلالهم يعمهون، وفي باطلهم يترددون. {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ} 1"2. كما دلت آيات كثيرة على أمور أخرى من جوانب الحياة الدنيا، يعتني بها الناس علماً وتطبيقاً، ويقصر الكافر همه عليها، فمن تلك الآيات، قول اللَّه تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَآءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ} 3. فللكفار علم وعناية وسعي حثيث لهذه الشهوات المزينة للناس، من

_ 1 سورة التوبة الآية رقم (67) . 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (6/111، 112) . 3 سورة آل عمران الآية رقم (14) .

شهوة النساء، وتجاوزها إلى سائر الفواحش، والتكاثر بالبنين، والعناية بالتجارة، وأمور الاقتصاد، وتربية الحيوانات، والزراعة، وما يتصل بها من متاع الحياة الدنيا. وقال تعالى: {اعْلَمُوآ أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} 1. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} 2. ومعلوم أن الإنسان مكون من روح وبدن، وأن عمله قسمان: عمل للدنيا، وعمل للآخرة. فالمسلم مع سعيه في إصلاح بدنه، وعمله لدنياه، فإِنه يعمل في تزكية نفسه بإِقامة الدين للَّه. ويرجو بذلك النجاة يوم القيامة.

_ 1 سورة الحديد الآية رقم (20) . 2 سورة محمد الآية رقم (12) .

أما الكافر فإِن همه هو إِصلاح بدنه، والعمل لدنياه، وهو مُعرض عما فيه زكاة نفسه، من إِقامة الدين لله، وما دل عليه من العلم، غافلاً عن الآخرة. وقد تبين مما تقدم من الآيات، وأقوال أهل العلم أن سعي الكافر في هذين المطلبين - إِصلاح البدن، والعمل للدنيا - يكاد يتلخص في الأمور الآتية: 1- تدبير أمور معيشتهم، وما يتصل بها من الزراعة والصناعة والتجارة. 2- الاهتمام بأبدانهم وما يتصل بذلك من الطب ووسائل التجمل. 3- التمتع بالشهوات والاسترسال معها بدون ضابط. 4- العناية بوسائل الزينة، والتكاثر والتفاخر بالأموال والأولاد، ومتع الحياة، والمساكن، ونحوها. 5- العناية باللعب واللهو، والتفنن في إِيجاد وسائلها، ككثير من أنواع الرياضة والفنون والآداب. 6- تعلم ما يظهر لهم ويدركونه بعقولهم من أحوال المخلوقات، وتجارب الإنسان في سائر العلوم المادية والنظرية. ففي هذه الوسائل وما شابهها مما يظهر للإنسان من أمور الحياة الدنيا، يكون علم الكفار ونجاحهم، وعليها تقوم حضارتهم. أما ما يتصل بتزكية النفوس، وإقامة الدين والعبودية التي خلقوا من

أجلها، والاستعداد لليوم الآخر، فهم في ظلمات وعمى وضلال عنه. مع أن لهم في ذلك كلاماً كثيراً ونظراً في جانب الفلسفة وعلم النفس والاجتماع، ونحوها. إلا أنها تدور في الضلال والظلمات، لا يهتدون من ذلك إلا إلى معرفة أنهم على ضلال. وبعضهم زين له سوء عمله فرآه حسناً. ومعلوم أن ما يعرف بقضايا الفلسفة ومسائلها، هي القضايا التي جاء الدين لبيانها، في جانب العقيدة، والشريعة، والمعاملات والأخلاق، وقاعدة الخير والشر، والحسن والقبيح ونحوها. وقد أعلن رواد الفلسفة في هذا الزمان - الذي بلغت فيه حضارتهم المادية أوجها - إفلاسهم وعجزهم عن الوصول إلى الحق والهدى في تلك القضايا. وسأورد هنا شاهدين من أقوالهم، ليعلم أنهم لم يخرجوا ولن يخرجوا من ظلماتهم، ولن يصلوا إلى هدى في هذه المطالب الهامة. ورد في كتاب "مدخل إلى الفلسفة": "من الطبيعي أن يصبح الباحث حين يواجه هذه الحالة مرتبكاً، مشدوهاً، فاتر الهمة. فبينما كان يرجو أن يجد الحقيقة الواحدة وجد نفسه بدلاً من ذلك مسوقاً إلى أن يسأل: ما هو الحق؟ لقد رجا أن يمسح على شكوكه بيد اليقين، لكنه بدلاً من ذلك وجد أن التفلسف يثير شكوكاً وارتباكاً أكثر مما يطمئن، وإِنه يثير أسئلة هي أعسر بكثير من أن يقدر

على الإِجابة عنها، والحاصل غالباً هو انتفاء الرجاء في الفلسفة.. فما الفائدة؟ إن الفلسفة لا تقدر أن تبرهن على شيء ... والفلاسفة لا يتفقون أبداً. كلها استراق وتحايل على كل حال. وهكذا يقع المتشكك فريسة سائغة لمعتقد يبشر به أهله تبشيراً تعسفياً"1. وورد في "الموسوعة الفلسفية المختصرة" كلمة المحرر ما يلي: "ومن هنا كانت أي مجموعة من الإجابات التي توضع لمشكلات الفلسفة الرئيسية ... إِما أن تمثل وجهة نظر واحدة من بين ما لا يحصى من وجهات النظر، وأن تكون بمثابة بيان حزبي، وإما أن يظل يناقض بعضها بعضاً. ويترتب على هذا أن لا يمكن لأي موسوعة فلسفية أن تضطلع بتقديم إِجابات قاطعة لمشكلات الفلسفة دون أحد أمرين: فإما أن تخدع قراءها بأن تصور لهم ما هو في حقيقة الأمر أحد الآراء المتخاصمة على أنه الإجابة المتفق عليها. وإِما أن تربكهم بسلسلة من الإجابات المتعارضة. ولما كان الأمر كذلك آثرنا ألا نجيب عن هذه الأسئلة إطلاقاً"2.

_ 1 مدخل إلى الفلسفة، تأليف: جون هرمان راندال، وجو ستاس يوخلر، ص (30) ، ترجمة: د. ملحم قربان. دار العلم للملايين، بيروت، 1963م. 2 الموسوعة الفلسفية المختصرة، يشرف على تحريرها بورمسون. تصدر باللغة الإنجليزية، ترجمة نخبة من المترجمين، المقدمة ص 1، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1963م.

وإذا كان الفلاسفة الذين تعتبر جهودهم الركيزة الفكرية التي قامت عليها حضارات الأمم الكافرة المعاصرة - وخاصة الحضارة الغربية - قد وصلوا إلى طريق مسدود، وأعلنوا إفلاسهم - كما تقدم في كلام الذين يشرحون الفلسفة ويبسطونها للقراء - ويئسوا من الاتفاق على نهج واحد يقطعون بأنه الحق، في مختلف المسائل، وأن كل نظر جديد يسهم في زيادة الآراء المتخاصمة المختلفة، ويعقد الطريق، فإِن ذلك أكبر شاهد على أنهم في ضلالهم يعمهون، وفي ظلماتهم سادرون، وأنهم لن يخرجوا من تلك الظلمات إلا برجوعهم إلى نور اللَّه الذي لا طريق للهدى سواه. خلاصة هذه الفائدة: دل المثَل - مثل الظلمات من سورة "النور" - على أن الكفار الجاحدين المكذبين للرسل، المعرضين عن هدى اللَّه ووحيه، في ظلمات شديدة حالكة، لا يهتدون معها إلى طريق نجاتهم في الآخرة، وفلاحهم وسعادتهم وأمنهم وطمأنينتهم في الدنيا. وذلك أن الطريق إلى الهداية، وزكاة النفوس، وصلاح الأعمال، إنما يكون بتعلم ما أنزل اللَّه من الوحي والاستجابة له. وهم قد أعرضوا عن ذلك وكذبوا به، وعاقبهم اللَّه على ذلك بأن حجب قلوبهم عن الهداية وأنوارها، وختم عليها. فبعدوا عن طريق الخير وسبيل الهداية بعداً شديداً. وأن الكافر في سعيه النظري العلمي، والتطبيقي العملي، في جهل وضلال، وإلى جهل وضلال، فيما يتعلق بهداية الإنسان وسعادته ونجاته

في الآخرة. وأن على المسلمين أفراداً وجماعات أن يحذروا من الاغترار بزخرف قولهم، وبريق حضارتهم، وما عندهم من الممارسات السلوكية، والمعاملات الاجتماعية والمالية، والنظريات السياسية والاقتصادية، والتوجهات الأدبية، وسائر العلوم الإنسانية الضالة المخالفة للشرع القويم. كما ينبغي على أهل العلم، والجامعات الإِسلامية، ومراكز البحوث والدعوة، الاهتمام بجانب الثقافة الإِسلامية الذي يكشف جوانب ضلال الكفار، وحيرتهم، ويبين شواهد ذلك من أحوالهم، وشهادات مفكريهم التي تبين مدى الانحدار الذي يسيرون فيه، والأضرار التي أصابت الإنسان في المجتمعات الكافرة. وأن المجالات التي سيبقى سعيهم فيها ضالاً مظلماً، وسيبقون فيها عمياناً حيارى هي: ما يتصل بتزكية النفوس، وإقامة الدين والعبودية للَّه، التي خلقوا لها، والاستعداد لليوم الآخر، وما يتفرع عن ذلك من سلوك النفس البشرية وأحوالها، والنشاط والعلاقات الاجتماعية.

الفائدة الثانية: دلالة المثَل على سبب ضلال هذا النوع من الكفار: تقدم1 أن هذا المثَل - مثل الظلمات، الوارد في سياق مثل النور من سورة "النور" - فقرة في تأكيد ما دل عليه مثل النور من أن العلم النازل من اللَّه، المدلول عليه بنصوص الكتاب والسنة، الموحى بها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو الطريق إلى الهداية. وأن الإعراض عنه بأي شكل من الأشكال، ولأي دافع من الدوافع هو السبب في الضلال. فقد دل مثل النور على أن سبب هداية المؤمنين هو استجابة فطرهم، وتشرب قلوبهم للعلم بالكتاب والسنة - المشبه بالزيت الذي تشربته فتيلة السراج - وجزاهم اللَّه على ذلك بأن شرح صدورهم، وقذف فيها نور الإِيمان، فقام بها {نّورٌ عَلَىَ نُورٍ} . ويزيدهم - سبحانه - من هداه كلما زادوا من العلم والاهتداء. ودل مثل السراب على أن سبب ضلال أولئك الكفار الذين شبهت حالهم وأعمالهم به، هو: تطلبهم العلم والإِيمان من مصادر خادعة لاحت لهم فظنوها حقاً - وأعرضوا بذلك عن المصدر الحق، الكتاب والسنة، فقام ضلالهم على: اتباع الظن، والسير وراء الشبهات، والإعراض عن

_ 1 انظر: ص (282) .

الآيات البينات. وهذا المثَل - مثل الظلمات - دل على أن سبب ضلال هذا النوع من الكفار، هو: الإعراض التام عن هدى اللَّه ووحيه، وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم والتكذيب به، والجحود لألوهية اللَّه واستحقاقه للعبادة، وربما جحدوا ربوبيته، والإنكار التام للبعث واليوم الآخر. فهم أهل الكفر التام الخالص، والضلال والظلمة التامة الحالكة. وقد تبين من دراسة مثل الظلمات أن الذي يقابل الموج الباطني - الحجاب الأول القريب من الكائن في ذلك المكان المظلم - هو: الجهل والإعراض عن وحي اللَّه المطهر - الكتاب والسنة - الناتجة عن التكذيب والجحود1. والمثَل يدل بوضوح على أن ضلال هؤلاء الكفار حاصل بسبب بعدهم وانحجاب قلوبهم عن النور الإلهي - الكتاب والسنة - وأن النور موجود لكن دونه الحجب المانعة عنه. وهذه الحجب منها ما هو من فعلهم، كالحجاب الأول: الذي هو التكذيب والإعراض. والحجاب الثاني: الذي هو ضلالهم وكفرهم العملي والعلمي. ومنها ما هو من فعل اللَّه جازاهم به على فعلهم، وهو الختم على القلوب والأسماع، والغشاوة على الأبصار.

_ 1 انظر: ص (609) .

فهم إذاً تسببوا فيما هم فيه من الكفر والختم على قلوبهم، بقذفهم أنفسهم في بحر عميق من الجهل والكفر والضلال. وحيث أوقعوا أنفسهم في بحر الظلمات، زادهم اللَّه ظلمة وبعداً. وقد كثر التقرير في القرآن الكريم لهذه الحقيقة، وهي: أن كفرهم إنما هو بسبب تكذيبهم وإعراضهم عما نزل من الآيات البينات، وعدم استعمال ما أعطاهم اللَّه من العقول في استكشاف ما فيها من دلائل الحق. ومن ذلك قوله تعالى في بيان مَن حق عليه وصف الكفر، وكلمة العذاب، وأنه إنما استحق ذلك بتكذيبه: {بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الكَافِرِينَ} 1. وقال تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المَصِيرُ} 2، فذكر اتصافهم بالكفر، وعقابهم عليه يوم القيامة. ثم ذكر - على لسانهم - سبب كفرهم، واستحقاقهم ذلك العذاب، وأنه التكذيب، بقوله: {قَالُوا بَلَى قَدْ

_ 1 سورة الزمر الآية رقم (59) . 2 سورة الملك الآية رقم (6) .

جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ} 1. ثم بين أن سبب التكذيب والإعراض، إنما هو عدم استعمالهم لما أعطاهم اللَّه من العقول والأسماع: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 2. والآيات المبينة لهذا المعنى كثيرة جداً.3 وقال صلى الله عليه وسلم: "إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى إلى قومه، فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بعيني. وإني النذير العُريان4 فالنجاء،5 فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا6 فانطلقوا على

_ 1 سورة الملك الآية رقم (9) . 2 سورة الملك الآية رقم (10) . 3 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: مادة "كذب"، "أعرض"، "عقل"، الآيات التي تدل على أن كفرهم بسبب تكذيبهم، وإعراضهم، وعدم تعقلهم. 4 النذير العريان: هو رقيب القوم الذي ينذرهم من عدو قادم ويخلع ثيابه ليكون أبين للناظر وأغرب وأشنع منظراً فهو أبلغ في استحثاثهم في التأهب للعدو. انظر: شرح صحيح مسلم للنووي، (15/48) (بتصرف) . 5 النجاء: أي اطلبوا النجاء، نفس المصدر. والمراد حثهم على الفرار من العدو طلبا للنجاة. 6 فأدلجوا: أي ساروا أول الليل، نفس المصدر.

مهلتهم1 وكذّبت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق".2 فبين صلى الله عليه وسلم أن الناس بإزاء دعوته فريقان. مؤمن وكافر. وبين سبب ذلك وأنه الطاعة والاتباع لما جاء به من الحق من المؤمن. والعصيان والتكذيب لما جاء به من الحق من الكافر. خلاصة هذه الفائدة: دل المثَل - وما في معناه من النصوص - على أن سبب كفر هذا النوع من الكفار - المضروب لهم مثل الظلمات - وما ترتب عليه من استحقاقهم للعذاب، والختم على قلوبهم وأسماعهم والغشاوة على أبصارهم، إنما هو من أنفسهم، وتمثل في إعراضهم عن تعقل ما نزل من الآيات البينات، المتضمنة لدلائل الحق وبراهينه، وتكذيبهم به، ومعارضته بضده من الباطل والضلال.

_ 1 على مُهْلَتهم: أي على مهلهم. نفس المصدر، والمراد أنهم ساروا مطمئنين لأنهم استجابوا للنذير مبكرين. 2 رواه مسلم، الصحيح تحقيق فؤاد عبد الباقي، (4/1788) . ح (2283) ، كتاب الفضائل، باب: شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته.

فهذا فعلهم الذي تسبب في فعل اللَّه الجاري عليهم من الختم والطبع وغيره. وسيأتي مزيد إيضاح - إِن شاء اللَّه - لهذه المسألة المتعلقة بفعل اللَّه في الهداية والإضلال، في الفائدة القادمة.

الفائدة الثالثة: دلالة المثَل على فعل اللَّه في إضلال الكفار وختمه على القلوب والأسماع. ومأخذ هذه الفائدة من المثَل - مثل الظلمات - من وجهين: الأول: تبين من دراسة الممثّل له1 أن الحجاب الثالث - المقابل للسحاب - هو الختم والطبع من اللَّه على قلوب وأسماع الكافرين. وتقدم2 بيان مناسبة المقابلة بينهما - كما تقدم3 من كلام ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - وابن جرير - رحمه اللَّه - في الربط بين هذه الآية وآية سورة "البقرة": {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 4. الثاني: ختام المثَل بقوله سبحانه - {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} ، فيه دلالة على فعل اللَّه عز وجل. وأنه لم يجعل لهم نوراً حيث منع

_ 1 انظر: ص (609) . 2 انظر: ص (609) . 3 انظر: ص (623) . 4 سورة البقرة الآيتان رقم (6، 7) .

عنهم النور بالحجاب الذي ضربه على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم. وهذا المعنى الذي دل عليه المثَل - وهو ختم اللَّه وطبعه على قلوب وأسماع الكافرين - دلت عليه نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُون} َ1. وتقدم أن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - ربط في المعنى بين هذه الآية ومثل الظلمات، كما ربط بينه وبين آية سورة "البقرة"2. وقوله - سبحانه -: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} ، دليل شامل لهذه الفائدة التي بينها المثَل. وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ

_ 1 سورة الجاثية الآية رقم (22) . 2 تقدم ص (623) .

عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الغَافِلُونَ} 1. وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} 2. ونحوها كثير. ومن الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام عن وَدْعِهم3 الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين".4 ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يحلف: "لا. ومقلب

_ 1 سورة النحل الآية رقم (106-108) . 2 سورة الأنعام الآية رقم (25، 26) . 3 وَدْعِهم: أي تركهم. 4 رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة، (865) ، الصحيح بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، (2/59) .

القلوب"1. وقد فسر الإمام البخاري - رحمه اللَّه - بهذا الحديث، قوله اللَّه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} 2. قال الراغب الأصفهاني - رحمه اللَّه - في المراد بقوله: "مقلب القلوب". "وتقليب اللَّه القلوب والبصائر: صرفها من رأي إلى رأي"3. وقال في المراد بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} "إشارة إلى ما قيل في وصفه يقلب القلوب، وهو أن يلقي في قلب الإنسان ما يصرفه عن مراده لحكمة تقتضي ذلك"4. وقال ابن بطال5 - رحمه اللَّه - في مناسبة الحديث للآية:

_ 1 رواه الإمام البخاري، كتاب: "القدر"، باب:"يحول بين المرء وقلبه"، ح (6617) ، الصحيح مع الفتح، (11/513) . 2 سورة الأنفال الآية رقم (24) . 3 المفردات في غريب القرآن، ص (411) . 4 المصدر السابق، ص (137) . 5 أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري القرطبي. كان من أهل العلم، وعنى بالحديث عناية كبيرة. له شرح صحيح البخاري. توفي سنة 449 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (18/47) ، وشذرات الذهب (5/214) .

"أن الآية نص في أن اللَّه خلق الكفر والإِيمان، وأنه يحول بين قلب الكافر وبين الإيمان الذي أمره به، فلا يكسبه إن لم يُقدره عليه، بل أقدره على ضده وهو الكفر، وكذا في المؤمن بعكسه، فتضمنت الآية أنه خالق جميع أفعال العباد خيرها وشرها، وهو معنى قوله: "مقلب القلوب"، لأن معناه: تقليب قلب عبده عن إيثار الإِيمان إلى إيثار الكفر وعكسه، ... وكل فعل اللَّه عدل فيمن أضله وخذله، لأنه لم يمنعهم حقاً وجب لهم عليه"1. أما الإجماع فقد قال القرطبي2 - رحمه اللَّه -: "ولأن الأمة مجمعة على أن اللَّه تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين، مجازاة لكفرهم، كما قال: {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} 3"4.

_ 1 فتح الباري، شرح صحيح البخاري، (11/514) . 2 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الخزرجي الأنصاري القرطبي، من أئمة العلم والتفسير، صنف: الجامع لأحكام القرآن، والتذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. توفي (671?) . انظر: شذرات الذهب (7/584) ، والأعلام للزركلي (5/322) . 3 سورة البقرة الآية رقم (155) . 4 الجامع لأحكام القرآن، لمحمد بن أحمد القرطبي، (1/187) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، ت: بدون.

إِشكال.. وبيانه: كثيراً ما يثار حول هذا المعنى إشكال، فيقال: إذا كان اللَّه قد أَضلهم، وكتب عليهم الضلال، وختم وطبع على قلوبهم، فإِن في ذلك إبطالاً لحجة اللَّه عليهم، بل تكون الحجة لهم على اللَّه - سبحانه -، ويقولون: "كيف يأمرنا بأمر ثم يحول بيننا وبينه، ويعاقبنا عليه وقد منعنا من فعله، وكيف يكلفنا بأمر لا قدرة لنا عليه، وهل هذا إلا بمثابة من أمر عبده بالدخول من باب ثم سد عليه الباب سداً محكماً لا يمكنه الدخول معه البتة، ثم عاقبه أشد العقوبة على عدم الدخول"1. كما رتب بعض الضالين على هذه الشبهة إنكار فعل اللَّه في الهداية والإضلال، والختم والطبع على القلوب والأسماع، وتأولوا النصوص الواردة في ذلك على غير تأويلها2. والإجابة عن هذا الإِشكال تكون في الفقرات الآتية: أولاً: إثبات فعل اللَّه - سبحانه - في هداية المهتدين، وإضلال الضالين، وختمه وطبعه على قلوب وأسماع الكافرين.. ونحو ذلك. كما

_ 1 شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم، ص (182) . 2 كالمعتزلة، الذين تأولوا النصوص الدالة على هداية اللَّه للمؤمنين، وضلاله للضالين بان المراد: "تسمية اللَّه العبد مهتدياً وضالاً" وقد رد العلامة ابن القيم على تأويلاتهم في كتابه المبارك "شفاء العليل" انظر: من ص (174-179) .

دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة. ثانياً: أن الطبع والختم ليس موضوعاً عليهم ابتداءً في أصل الخلقة، وإِنما هو طارئ عليهم، وعقاب لهم من اللَّه بسبب منهم اقتضى ذلك. فاللَّه سبحانه خلق الخلق أسوياء على الفطرة، ولا تتبدل هذه السنة. قال اللَّه تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} 1. وقد تقدم2 أن هذه الآية تدل على ثلاثة أمور تتعلق بالفطرة، هي: 1- أن اللَّه فطر الناس على الدين الحنيف. 2- أن خلق الناس على الفطرة عام لجميعهم، وأنه سنة جارية، لا تتخلف عن أحد من المكلفين. 3- أن الفطرة قابلة للتغيير، والحرف عن الأصل الذي خلقوا عليه، بأسباب تكون من الناس. وقال ابن القيم - رحمه اللَّه - ملخصاً المراد بِفَطْر الناس على الدين الحنيف: "فقد تبين دلالة الكتاب والسنة والآثار، واتفاق السلف على أن

_ 1 سورة الروم الآية رقم (30) . 2 انظر الصفحات: (393، 403، 406) .

الخلق مفطورون على دين اللَّه الذي هو معرفته، والإقرار به، ومحبته، والخضوع له. وأن ذلك موجب فطرهم ومقتضاها، يجب حصوله فيها إن لم يحصل ما يعارضه ويقتضي حصول ضده.. وحصول الحنيفية والإخلاص، ومعرفة الرب والخضوع له لا يتوقف أصله على غير الفطرة، وإِن توقف كماله وتفصيله على غيرها.. وباللَّه التوفيق"1. ومما يؤكد هذا المعنى إبطال اللَّه دعوى اليهود الذين زعموا أنه لا يتوجه إليهم اللوم على كفرهم لأنهم خلقوا وقلوبهم مغلفة. حيث بين - سبحانه - أن الغلاف الذي عليها إنما هو طبع من اللَّه طارئ بسبب كفرهم، وليس من أصل الخلقة. قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} 2. وقال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} 3. قال ابن جرير - رحمه اللَّه -:

_ 1 شفاء العليل، ص (604) . 2 سورة البقرة الآية رقم (88) . 3 سورة النساء الآية رقم (155) .

"في قوله تعالى ذكره {بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} ، تكذيب منه للقائلين من اليهود: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، لأن قوله: {بَلْ} دلالة على جحده جل ذكره وإنكاره ما ادعوا من ذلك.. فبين أن معنى الآية: وقالت اليهود: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه يا محمد. فقال اللَّه تعالى ذكره: ما ذلك كما زعموا، ولكن اللَّه أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته، وطردهم عنها، وأخزاهم بجحودهم له ولرسله، فقليلاً ما يؤمنون.1 وتدور أقوال السلف في تفسير {غُلْفٌ} على معنى: الطبع، والتغطية، وأن قلوبهم في أكنة لا يفقهون.2 وعلى هذا يكون ما ادعوه من وجود الأغلفة، والطبع على قلوبهم، نظير ما أثبته اللَّه لهم في قوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا} . إلا أن ما أبطله اللَّه من دعواهم أمر زائد على ذلك، هو زعمهم أن قلوبهم مغلفة مطبوع عليها في أصل الخلقة، ولذلك فليس باستطاعتها الفقه، والاهتداء، والاستجابة لما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه - مبيناً أنهم إنما أرادوا أنها مغلفة في أصل الخلقة:

_ 1 جامع البيان، (1/453) . 2 انظر: جامع البيان، (1/451) ، وتفسير القرآن العظيم (1/124) .

" (والغُلف) : جمع أَغْلَف، وهو ذو الغلاف، الذي في غلاف ... كأنهم جعلوا المانع خلقة، أي خلقت القلوب وعليها أغطية"1. وهم إنما قالوا ذلك واحتجوا به، ومرادهم أنهم معذورون لا يتوجه إليهم لوم على عدم استجابتهم. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه اللَّه - مبيناً هذا المعنى: "أي: اعتذروا عن الإِيمان لما دعوتهم إليه، يا أيها الرسول، بأن قلوبهم غلف، أي: عليها غلاف وأغطية، فلا تفقه ما تقول، يعني: فيكون لهم - بزعمهم - عذر لعدم العلم، وهذا كذب منهم"2. فأقرهم اللَّه على بعض دعواهم، وأبطل بعضاً. أقرهم على أن قلوبهم مغلفة مطبوع عليها، حيث قال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} . وأبطل زعمهم أنها هكذا بأصل الخلقة، وبين أن هذه الأغلفة والأقفال التي عليها، طارئة، قد جعلها اللَّه عليهم بسبب كفرهم، وقبل أن يكفروا لم تكن عليهم. ويحتمل أن يكون احتجاجهم بفعل اللَّه المطلق. فيكون المعنى إِنهم قالوا: إن قلوبهم مغلفة بأغلفة ضربها اللَّه عليها، وما دام أن ذلك من فعل

_ 1 مجموع الفتاوى، (7/26) . 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (1/110) .

اللَّه - سواءً كان عند خلقهم أم طارئ بعد ذلك - وليس من فعلهم فلا لوم عليهم. فأبطل اللَّه ذلك الزعم، وبين أنهم إنما تسببوا فيما فعله اللَّه بهم، من الطبع على قلوبهم، فهم يلامون على ما جاؤوا به من السبب الذي أوجب الطبع على قلوبهم، لذلك قال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} . وعلى كلا المعنيين فإِن المقصود حاصل، وهو دلالة الآية على أن الطبع والختم على القلوب.. ونحوهما، طارئ عليها، وليس في أصل خلقتها. وأنه فعل الله الذي يجريه على من يستحقه من عباده إذا جاء بسببه. وما دام أن الطبع ونحوه، هو فعل اللَّه سبحانه، وسببه فعل الإنسان من الكفر والنفاق.. ونحوهما، فإِن رفع الطبع وإزالته هو فعل اللَّه أيضاً، وسببه يكون من الإنسان. قال ابن القيم - رحمه اللَّه -: "ومما ينبغي أن يعلم أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإِيمان، بأن يفك الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفل، ذلك الختم والطابع والقفل، ويهديه بعد ضلاله، ويعلّمه بعد جهله، ويرشده بعد غيه، ويفتح قفل قلبه، بمفاتيح توفيقه التي هي بيده.. وقرأ قارئ عند عمر بن الخطاب:

{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 1. وعنده شاب فقال: اللهم عليها أقفالها، ومفاتيحها بيدك، لا يفتحها سواك. فعرفها له عمر، وزادته عنده خيراً"2. وخلاصة هذه الفقرة: إن الختم والطبع وغيرهما من الحجب التي يجعلها اللَّه على قلوب الكافرين، إنما هي طارئة عليها، حيث إنهم يولدون كغيرهم من المكلفين على الفطرة السوية، ثم إذا جاؤوا بسبب يقتضي الختم والطبع، على قلوبهم طبع اللَّه عليها. ثالثاً: أن ذلك هو مقتضى علمه - سبحانه - وحكمته وعدله. والمراد بذلك: أن اللَّه عليم بعباده وما هم فاعلون، فيهدي مَن يعلم أنه أهل للهداية، ويضل ويختم على قلب من يعلم أنه أهل للغواية. وتقتضي الحكمة والعدل: أن يجازي كلاً بما يستحق، فيهدي من اهتدى، ويضل من كذب وغوى، ويختم على قلبه وسمعه جزاءً وفاقاً. قال اللَّه تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ

_ 1 سورة محمد الآية رقم (24) . 2 شفاء العليل، ص (193) .

وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} 1. قال ابن جرير - رحمه اللَّه - مبيناً المراد بقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} : "يقول تعالى ذكره: وخذله عن محجة الطريق، وسبيل الرشاد في سابق علمه، على علم منه بأنه لا يهتدي، ولو جاءته كل آية"2. وهذا المعنى - وهو أن إضلال اللَّه له كان على علم منه (سبحانه) - الذي اختاره ابن جرير ولم يذكر غيره، اكتفى به أيضاً جمهور المفسرين3. وذكر بعض المفسرين مع هذا القول قولاً آخر. قال ابن كثير - رحمه اللَّه -: "وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} ، يحتمل قولين: (أحدهما) : وأضله اللَّه بعلمه أنه يستحق ذلك. (والآخر) : وأضله اللَّه بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجة عليه".4 وقال ابن القيم - رحمه اللَّه - ذاكراً هذين المعنيين، ومبيناً أهمية

_ 1 سورة الجاثية الآية رقم (23) . 2 جامع البيان، (11/262) . 3 انظر: شفاء العليل، لابن القيم، ص (63) . 4 تفسير القرآن العظيم، (4/150) .

المعنى الأول في فهم الحكمة في معاملة اللَّه للمكلفين، وأهميته لفهم القدر: "وعلى الأول: يكون {عَلَى عِلْمٍ} حالاً من الفاعل، فالمعنى: أضله اللَّه عالماً بأنه من أهل الضلال في سابق علمه. وعلى الثاني: حالاً من المفعول. أي أضله اللَّه حال علم الكافر بأنه ضال. قلت1: وعلى الوجه الأول فالمعنى: أضله اللَّه عالماً به وبأقواله وما يناسبه ويليق به، ولا يصلح له غيره، قبل خلقه وبعده، وأنه أهل للضلال، وليس أهلاً للهدى، وأنه لو هدى لكان قد وضع الهدى في غير محله، وعند من لا يستحقه. والرب تعالى حكيم، إِنما يضع الأشياء في محالها اللائقة بها. فانتظمت الآية على هذا القول في إثبات القدر، والحكمة التي لأجلها قدر عليه الضلال، وذكر العلم إذ هو الكاشف المبين لحقائق الأمور، ووضع الشيء في مواضعه، وإعطاء الخير من يستحقه، ومنعه من لا يستحقه. إن هذا لا يحصل بدون العلم. فهو - سبحانه - أضله على علمه بأحواله التي تناسب ضلاله وتقتضيه وتستدعيه"2.

_ 1 القائل ابن القيم - رحمه اللَّه-. 2 شفاء العليل، ص (63) .

وقوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ} ، {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} ، {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ} ، تبين فعل اللَّه عز وجل. وهذه الدلالة - وهي كون الآية في بيان فعل اللَّه - من مرجحات القول الأول، وهو أن قوله تعالى: {عَلَى عِلْمٍ} حال من الفاعل وهو اللَّه عز وجل. فيفيد أن فعله وقع عن علم وحكمة. وهذه الآية دلت على الفوائد التي تقدم تقريرها في هذه الفقرة والفقرتين السابقتين، وهي:

_ 1- إثبات فعل اللَّه في إضلال الضالين، وختمه على قلوبهم وأسماعهم. وذلك في قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ} ، {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} ، {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} . 2- إثبات أن ذلك عن علم اللَّه، وهو الحكيم العدل - سبحانه - وذلك في قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} . 3- إثبات أن إضلاله لهم وختمه على قلوبهم وأسماعهم، إنما هو بسبب منهم، وذلك في قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ، حيث ذكر فعل العبد، وسببه الذي أوجب له فعل الرب المناسب.

رابعاً: علاقة ذلك بالقدر. تبين مما تقدم: ثبوت فعل اللَّه في إضلال الضالين، وختمه على قلوب الكافرين وأسماعهم، ونحوها، وأن ذلك يكون من اللَّه عن علم بحال أولئك. وأنه يجريه عليهم لكونه مقتضى حكمته وعدله، حيث جاؤوا بسبب ذلك من أفعالهم التي استوجبت أن يعاقبهم عليها بتلك العقوبات. كما تبين أن ضلالهم والختم على قلوبهم. ونحوها، طارئ عليهم، ليس مضروباً عليهم في أصل الخلق، وأن أفعال العباد أسباب لها. وإذا كانت أفعال العباد أسباباً لما يجري عليهم من فعل اللَّه، ففعل اللَّه لا يتقدم على فعل العبد، وإنما يجازيه بما يستحق بعد أن يفعل العبد ذلك السبب. قال ابن القيم - رحمه اللَّه -: "وقد جمع سبحانه بين الأمرين [فعل الرب وفعل العبد] ، في قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} .1 فالإزاغة فعله، والزيع فعلهم.. أما الإزاغة المترتبة على زيغهم فهي إزاغة أخرى غير الإزاغة التي زاغوا بها أولاً، عقوبة لهم على زيغهم، والرب تعالى يعاقب على السيئة

_ 1 سورة الصف الآية رقم (5) .

بمثلها، كما يثيب على الحسنة بمثلها. فحدث لهم زيغ آخر غير الزيغ الأول. فهم زاغوا أولاً فجازاهم اللَّه بإزاغة فوق زيغهم.."1. وإذا تقرر ذلك - وهو أن اللَّه يجازي عباده بما يستحقون من الهداية، أو الإضلال والختم على القلوب والأسماع، كما تقتضيه الحكمة، وعلم اللَّه بحالهم، وأن أفعالهم أسباب لفعل اللَّه بهم، وأن المُسَبَّب يأتي بعد السبب لا قبله - فيبقى بيان علاقة ذلك بالقدر السابق، وبيان كيف يستقيم هذا الفهم مع ما ورد من أن اللَّه كتب عليهم ذلك، وقدّره عليهم قبل أن يخلقهم، والقدر حكم لازم لا مخلص منه. وبيان ذلك يكون في المسألتين الآتيتين: المسألة الأولى: في بيان أهم معالم الإِيمان بالقدر.2 إِن الإِيمان بالقدر كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة يشمل: الإيمان بأن اللَّه - تعالى - كتب ما اشتمل عليه علمه الأزلي من مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وأراد وقوعها لآجالها إرادة كونية3، لاقتضاء الحكمة

_ 1 شفاء العليل، ص (279) . 2 "معالم الإِيمان بالقدر" هي التي تسمى: "مراتب الإِيمان بالقدر"، باعتبار فعل العبد. أو: "مراتب القدر" باعتبار صفة الرب تعالى وفعله. 3 الإرادة المنسوبة إلى اللَّه نوعان: الإرادة الكونية: وهي متعلقة بالخلق والإيجاد. وأمر اللَّه المتوجه إلى سائر المخلوقات بما يريد خلقه وإيجاده. كما قال تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس82) وهي نافذة لا يتخلف عنها المراد {فَعَّالٌ لما يُرِيد} (البروج 16) وهذه الإرادة متعلقة بحكمة اللَّه الكونية، أي أنه سبحانه يخلق ويوجد، ويصرف خلقه كما تقتضيه حكمته من تهيئة الكون بما يصلحه والأرض للعيش عليها، وما يحقق حصول الابتلاء والامتحان للعباد، وغير ذلك من الحِكَم التي يُعلم بعضها ويقصر العقل عن معرفة الكثير منها. والإرادة الشرعية: وهي إرادة اللَّه المتعلقة بالشرع والتكليف، وأمره سبحانه المتوجه إلى المكلفين بما يحب أن يفعلوه وما يرضاه لهم من الشرائع والعبادات والأخلاق، كما في قوله تعالى: {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلآَّ إِيَّاهُ} (يوسف 40) وهي إرادة متعلقة بالحكمة الشرعية أي أنه يشرع لعباده ما تقتضيه حكمة التكليف من حصول المصالح لهم كما في المعاملات والأخلاق، ودفع المفاسد كما في الحدود. وحصول محبوبات للَّه كما في العبادات. وقد ورد ذكر الإرادة الشرعية في بعض النصوص نحو: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة:185) أي أن اللَّه شرع لعبادهِ الفطر في رمضان لمن كان مريضاً أو مسافراً لأنه يحب لهم اليسر. ولكن اليسر لا يحصل إلا لمن امتثل هذه الشرائع فأفطر. ويمكن حصر الفروق بين الإرادة الكونية وما يتعلق بها من الأمر والحكمة وبين الإرادة الشرعية وما يتعلق بها من الأمر والحكمة فيما يلي: 1- الإرادة الكونية متعلقة بالخلق والإيجاد، والشرعية بالشرع والتكليف. 2- الكونية لا يلزم منها محبة المراد فيخلق سبحانه ما يحبه وما لا يحبه. فخلق الأنبياء مثلاً وهو يحبهم. وخلق إبليس والكفار وهو لا يحبهم. أما الشرعية فهي متعلقة بالمحبة فلا يشرع لعباده إلا ما يحبه ويرضاه. 3- الكونية نافذة لا محالة لا يتخلف عنها المراد، أما الشرعية فإنها لا تنفذ إلا فيمن جاء بالسبب وامتثل الشرع وانقاد للأمر، وتتخلف عمن أعرض عن الأمر. 4- الكونية متوجهة إلى جميع المخلوقات، أما الشرعية فهي متوجهة إلى المكلفين. انظر: مجموع الفتاوى (8/159-160، 188-189) وشفاء العليل لابن القيم (559-567) وشرح العقيدة الطحاوية (249-254) الطبعة الثامنة.

لها، ويأذن بوقوعها ويخلقها - سبحانه - إذا حان الأجل. ومن النصوص المبينة لهذا المفهوم للقدر، قول اللَّه تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .1 وقوله سبحانه: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 2.

_ 1 سورة الأنعام الآية رقم (59) . 2 سورة سبأ الآيتان رقم (2، 3) .

وقوله سبحانه: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلآ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 1. فهذه الآيات ونحوها تربط بين علم اللَّه السابق بمقادير الخلائق وبين كتابتها في اللوح المحفوظ. فالمكتوب في اللوح المحفوظ هي مقادير الخلائق التي كانت في علم اللَّه لم يزل عالماً بها. ومن تلك المقادير - التي لم يزل اللَّه عالماً بها وكتبها في الكتاب المبين - ما يتعلق بأفعال العباد كما دلت على ذلك الآية الثالثة آية سورة "يونس". فهذه النصوص ونحوها تربط بين مرتبة علم اللَّه بمقادير الخلائق ومرتبة كتابتها. وتدل هذه النصوص على شمول العلم والكتابة لجميع مقادير الخلائق صغيرها وكبيرها، مجملها ومفصلها، وكل ما يتصل بها. وقد دل على شمول كتابة المقادير قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كتب اللَّه مقادير

_ 1 سورة يونس الآية رقم (61) .

الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. قال وعرشه على الماء"1. وهذا الحديث مع دلالته على شمول الكتابة لجميع مقادير الخلائق، دل أَيضا على وقت كتابتها. وأنه قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. مما يدل على أن كتابة المقادير حادثة، لكنه - سبحانه - لم يزل عالماً بها قبل وبعد الكتابة. كما جاءت نصوص أخرى تربط بين القدر السابق ومرتبة الخلق. من ذلك قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} 2. وأمر اللَّه: يراد به كلامه هو صفة من صفاته. ويراد به المأمور وهو الشيء الحاصل بأمر اللَّه. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "فالأمر يراد به نفس مسمَّى المصدر، كقوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}

_ 1 رواه مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، ح (2653) (4/2044) . 2 سورة الأحزاب الآية رقم (38) . 3 سورة طه الآية رقم (93) .

{فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1، {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} 2، ويراد به المأمور به، كقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} ، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} 3. فالأول: هو من كلام اللَّه وصفاته، والثاني: مفعول ذلك وموجبه ومقتضاه"4. وأمر اللَّه الذي هو كلامه الذي يأمر به ينقسم إلى قسمين: الأول: أمره الكوني، وهو كلامه المتوجه إلى المخلوقات بالخلق والإيجاد وهو قوله للشيء "كن". قال تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 5. وقال - سبحانه -: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 6

_ 1 سورة النور الآية رقم (93) . 2 سورة الطلاق الآية رقم (5) . 3 سورة النحل الآية رقم (1) . 4 درء تعارض العقل والنقل، (7/261) . 5 سورة يس الآية رقم (82) . 6 سورة النحل الآية رقم (40) .

الثاني: أمره الشرعي: وهو كلامه ووحيه الموجه للمكلفين بما شرعه لهم من الدين. قال تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} 1. وقال: {يُنَزِّلُ المَلآئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوآ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} 2. وقال - سبحانه -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3. وعلى هذا فإِن "أمر اللَّه" يراد به ثلاثة معان: الأول: كلامه الكوني، الذي يأمر به ويخلق به. كما قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 4.

_ 1 سورة الطلاق الآية رقم (5) . 2 سورة النحل الآية رقم (2) . 3 سورة النور الآية رقم (63) . 4 سورة الأعراف الآية رقم (54) .

الثاني: كلامه الشرعي، الذي يأمر به ويشرع به. وهو وحيه إلى أنبيائه. الثالث: المأمور به، الذي يوجد ويكون بأمر اللَّه. والمراد بقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} : هو النوع الثالث. أي المأمور به المخلوق الكائن بأمر اللَّه الكوني كما تقدم ذلك في كلام ابن تيمية - رحمه اللَّه -. فإذا أمر اللَّه الشيء، وقال له: "كن" فإِنه يوجَد ويكون موافقاً للقدر المقدور أي للقدر السابق. فهذه الآية ونحوها تجمع بين مرتبة الخلق، والقدر السابق، وتبين أن ما يخلقه اللَّه إنما يوجد كما قدر له في كتاب المقادير. وبين ذلك - أَيضا- بقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 1ونحوها. كما وردت نصوص تربط بين مرتبة الخلق وإرادة اللَّه ومشيئته، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2.

_ 1 سورة القمر الآية رقم (49) . 2 سورة يس الآية رقم (82) .

وقوله: {فَعَّالٌ لما يُرِيدُ} 1. ومن ذلك أفعال العباد، كما في قوله سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَآءُونَ إِلآَّ أَنْ يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 2. فهذه الآية ونحوها تبين أنه لا يقع من العباد فعل إلا إذا شاءه اللَّه وأراده. فهي تقرر مشيئة اللَّه لأفعال العباد. كما تقرر أن ذلك يكون بعلم اللَّه وحكمته. من هذه النصوص ونحوها، ينتظم الإِيمان بالقدر الذي يتضمن الإِيمان بصفات اللَّه وأفعاله المتعلقة بمقادير الخلائق عامة، وأفعال المكلفين وما يجري منهم وعليهم خاصة. حيث تبين أن اللَّه خالق لكل شيء بأمره الكوني. وأن ما خلقه فقد أراده وأذن بوقوعه لاقتضاء الحكمة له. وأن كل ما يكون ويوجد فإِنه يخلق موافقاً للقدر السابق. وأن اللَّه قد كتب جميع مقادير الخلائق - ما علم أنه يكون منهم، وما يجري عليهم - في كتابه المبين اللوح المحفوظ، قبل أن يخلق السموات

_ 1 سورة البروج الآية رقم (16) . 2 سورة الإنسان الآيتان رقم (29، 30) .

والأرض بخمسين ألف سنة. وبذلك تتضح أهم معالم الإيمان بالقدر، وإجمالها فيما يلي: 1- إن اللَّه خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد. 2- إن ما خلقه وأوجده فقد أراده إرادة كونية، وأذن بوقوعه. 3- إن ما يخلقه – سبحانه – بأمره الكوني يُخلق موافقاً للقدر السابق. 4-إن القدر هو كتابة علم اللَّه الأزلي بمقادير الخلائق في اللوح المحفوظ. 5-إن كتابة المقادير وإرادة اللَّه لها وخلقه إياها تم بعلم اللَّه وحكمته - سبحانه - القائمة على العدل أو الفضل، وإعطاء كلٍ ما يستحقه ويتناسب مع حاله. وعلى هذا فإضلال اللَّه للضالين، وختمه على قلوبهم وأسماعهم، ونحو ذلك هي من مقاديرهم الجارية عليهم، والتي تتحقق فيها تلك الحقائق المبينة لمعالم الإِيمان بالقدر. وسيأتي زيادة بيان لهذا فيما يلي: المسألة الثانية: في المراد بكتابة أفعال العباد وما يقابلها من فعل اللَّه. إِن المراد بيانه هنا هو جزء من المقادير، التي تتعلق بالمكلفين، وهي قسمان: كتابة أفعالهم الجارية باختيارهم، وكتابة أفعال اللَّه التي يقابل بها

تلك الأفعال ومنها الإضلال والختم على القلوب. القسم الأول: أفعال العباد التي علم اللَّه أنهم سيفعلونها. وتقدير هذا النوع: تم بإثبات علم اللَّه بها وكتابته في اللوح المحفوظ. وإذنه بوقوعها، وخلقه لها بتهيئة الأسباب وإزالة الموانع. علاقة تقدير هذا النوع بعلم اللَّه: تقدم أن تقدير أفعال العباد تم بإثبات علم اللَّه بها وكتابته اللوح المحفوظ، حيث كتب ما علم أنه سيعملونه. وعلم اللَّه بأفعال العباد، وكتابته في اللوح المحفوظ، لا تأثير له في سيرها إيقاعاً أو منعاً. إذ أن مجرد العلم - سواء كان مكنوناً في النفس، أو مكتوباً في كتاب - لا تأثير له على المعلوم. لذلك لم يَعُدَّ أهلُ العلم عِلْمَ اللَّه تعالى في صفات الأفعال. قال الخطابي1 - رحمه اللَّه -: "قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من اللَّه والقضاء منه معنى الإِجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدر.. وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه.

_ 1 أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب الخطابي البستي. كان من العلماء المحدثين الفقهاء المجتهدين. صنف: غريب الحديث، معالم السنن، والعزلة، والغنية عن الكلام وأهله. توفي سنة 388 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (17/23) ، والبداية والنهاية (11/346) .

وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم اللَّه - سبحانه - بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم1 وصدورها عن تقدير منه، وخلق لها خيرها وشرها"2. قال بعض العلماء معقباً على قول الخطابي هذا: "وعلم اللَّه - سبحانه - بما سيقع، ووقوعه حسب هذا العلم لا تأثير له في إرادة العبد، فإِن العلم صفة انكشاف3 لا صفة

_ 1 اكتساب العبد: هو فعله وعمله. كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] ، وقوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11] ، وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] . 2 معالم السنن، لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي، (4/322) الناشر: محمد راغب الطباخ، حلب، الطبعة: الأولى، 1352هـ. 3 قوله: "العلم صفة انكشاف": هذا باعتبار علم العبد. حيث إن "انكشاف" مصدر "انكشف" والأصل في الإنسان الجهل، كما قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] وينكشف له العلم بالتعلم انكشافاً. أما اللَّه (فليس علمه من انكشاف - ولا يستجد له علم كان خافياً عليه. بل هو - سبحانه - لم يزل عالماً بما كان وما يكون وما سيكون، محيط علمه بكل شيء. لكن المعنى العام المطلق لهذه اللفظة، المجرد عن معنى الاكتساب، وهو كون العالم منكشف له حال المعلوم - صحيح في حق اللَّه تعالى. والاعتبار حاصل بهذا القدر العام المشترك. حيث إن علم اللَّه بفعل العبد ليس له تأثير على فعل العبد إقداماً أو إحجاماً. ومثال ذلك: {وَلِلّهِ المثَل الأَعْلَىَ} [النحل:60] : لو أن رجال الأمن علموا بطريق خفي عن سرقة ستحصل، وكتبوا ذلك في محاضرهم، فإِن علمهم هذا وكتابتهم لا أثر لها على فعل السارقين إقداماً أو إِحجاماً. واللَّه أعلم.

تأثير"1. وإذا تبين هذا فإِن أول فعل العبد هي إرادته وعزمه على الفعل. فاللَّه يعلم مشيئة العبد، وهل تقتضي الحكمة تمكينه من الفعل أم لا؟ قال اللَّه تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 2. - فهو يعلم - سبحانه - ما يريدون فعله! وكتب ما علم من إراداتهم. - ثم هل تقتضي الحكمة تمكينهم من الفعل أم لا؟ فكتب من سيؤذن له بالفعل ويمكن منه! ومن لا يمكن!

_ 1 العقائد الإِسلامية، لسيد سابق، ص (96) ، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، ت بدون. 2 سورة الإنسان الآيتان رقم (29، 30) .

- والذي أذن له بالفعل كتب الكيفية التي سيتم بها فعله! - والذي لم يؤذن له بالفعل، كتب عليه ذلك، وكَتَب الأسباب التي سيُحَال بها بينه وبين الفعل. وكل ذلك يجري على مقتضى علم اللَّه بعباده، وحكمته في معاملتهم. أفعال العباد.. وإرادة اللَّه الكونية: إِن مشيئة اللَّه التي يعامل بها عباده معتبر فيها أمور هي من مقتضى صفاته وما أوجبه على نفسه - سبحانه -. ومجمل تلك الاعتبارات فيما يلي: 1- العلم والحكمة. فما شاءه اللَّه لعباده من الإذن لهم بإنفاذ ما شاؤوا من الأعمال، أو عدم الإذن، وما شاءه من أفعاله الجارية عليهم، إنما هو عن علم اللَّه وحكمته، فأرادها وقدرها عليهم لذلك. ومن ذلك فعلهم من الضلال وتعاطي أسباب الهلاك، وموجبات الختم على القلوب والأسماع، وفعل اللَّه المناسب لأفعالهم من الإضلال والختم على القلوب والأسماع ونحوها. قال تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1.

_ 1 سورة الإنسان الآية رقم (30) .

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه اللَّه -: مبيناً أن هداية المهتدي، وإضلال الضال إنما يكون عن علم اللَّه وحكمته: " {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} فله الحكمة في هداية المهتدي، وإضلال الضال"1. وقال ابن جرير - رحمه اللَّه - مبيناً أن ما قدّره اللَّه على عباده مما أراده من أفعالهم الواقعة منهم، وأفعاله الجارية عليهم، إنما تم عن علم اللَّه وحكمته: "وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} : فلن يعدو منكم أحد ما سبق له في علمه بتدبيركم"2. ومن الآيات التي تبين أن مشيئة اللَّه في معاملة عباده إنما هي عن حكمة تتضمن علمه بحالهم وما يستحقونه من الجزاء. قوله تعالى: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَآءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَآءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 3. وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ

_ 1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (7/540) . 2 جامع البيان، (12/376) . 3 سورة إبراهيم الآية رقم (4) .

بِالمُهْتَدِينَ} 1. وقال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} 2. وقال - سبحانه -: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} 3. والحكمة: تشمل ما علمه اللَّه من أعمالهم السابقة التي توجب التوفيق للخير والتمكين منه، أو الخذلان عنه، والتيسير للشر والتمكين منه أو العصمة منه. على حد قوله - سبحانه -: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 4 ونحوها. 2 - العدل وعدم الظلم. والمراد أن اللَّه - سبحانه - قيد إرادته بعدم الظلم، فلا يظلم - سبحانه - أحداً من عبيده، حيث حرّم الظلم على نفسه.

_ 1 سورة الأنعام الآية رقم (117) . 2 سورة النحل الآية رقم (125) وسورة القلم الآية رقم (7) . 3 سورة القصص الآية رقم (56) . 4 سورة الليل الآيات رقم (5-10) .

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} 1. وقال: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} 2. وقال {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} 3. وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن اللَّه - تبارك وتعالى - أنه قال: "يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم مُحرّما فلا تظالموا"4. 3 - الفضل. والمراد أن اللَّه شاء أن يعامل أهل الفضل من عباده بالفضل. وهذا من حكمته - سبحانه - ورحمته وشكره وإحسانه.

_ 1 سورة النساء الآية رقم (40) . 2 سورة الكهف الآية رقم (49) . 3 سورة فصلت الآية رقم (46) . 4 من حديث طويل، رواه مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، ح (2577) ، (4/1994) .

قال تعالى: {هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} 1. فقد شاء اللَّه أن ييسر أهل الفضل من عباده لليسرى، ويوفقهم للخير، ويزيدهم هداية وثباتاً، فضلاً منه ورحمه، موافقاً لأفعالهم الحسنة. قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 2. قال ابن جرير - رحمه اللَّه -: "وقوله: {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} يقول: ولكن اللَّه حبب إليكم الإِيمان، وأنعم عليكم هذه النعمة، التي عدّها فضلاً منه، وإحساناً ونعمة منه أنعمها عليكم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يقول: واللَّه ذو علمٍ بالمحسن منكم من المسيء، ومن هو لنعم اللَّه وفضله أهل، وحكمةٍ في تدبيره خلقه، وصرفه إياهم فيما شاء من قضائه"3.

_ 1 سورة الرحمن الآية رقم (60) . 2 سورة الحجرات الآيتان رقم (7، 8) . 3 جامع البيان، (11/385، 386) .

وهاتان الآيتان من سورة "الحجرات" بينتا أموراً هامة من أهمها: - إثبات فعل اللَّه من تحبيب الإِيمان وتزيينه في قلوب المؤمنين، وتكريههم الكفر والفسوق والعصيان. - بيان أن فعل اللَّه ذلك إنما هو من فضله ونعمته عليهم. - بيان أن ذلك عن علم اللَّه بهم، وحكمته التي تقتضي معاملة المحسن بالإحسان، وأهل الفضل بالفضل. - أن هذه الآية جمعت ثلاثة من الأمور التي تتم بموجبها مشيئة اللَّه في معاملة عباده - والتي يجري تقريرها - وهي: الفضل، والعلم، والحكمة. 4- أن رحمته - سبحانه - تسبق غضبه. والمراد أن مشيئة اللَّه التي يعامل بها عباده، ويأذن بها لما يقع منهم وعليهم، يراعي فيها - سبحانه - تقديم مقتضى رحمته على مقتضى سخطه، إذا قام بالعبد موجب للرحمة وموجب للغضب. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه حين خلق الخلق كتب بيده على نفسه أن رحمتي تغلب غضبي" 1.

_ 1 رواه الترمذي، أبواب الدعوات، باب 109، ح (3611) . وقال: "هذا حديث حسن صحيح" سنن الترمذي (5/209) .

وفي رواية: "رحمتي سبقت غضبي"1. قوله: "رحمتي تغلب غضبي". دليل على علم اللَّه أنه سيكون من عباده المؤمنين ما يوجب الرحمة، وما يوجب الغضب. وستكون المغالبة بإزاء ذلك بين مقتضى رحمة اللَّه، ومقتضى غضبه، الذين استحقهما العبد أو العبيد، وسَيُنفِذ مقتضى رحمته ويقدمه على مقتضى الغضب، وذلك من فضل اللَّه ولطفه بعباده. وهذا يكون إذا فعل العبد أو الجماعة المؤمنة، فعلاً يستحقون عليه الرحمة والثواب، وفعلاً آخر يستحقون عليه الغضب والعقاب، فتتعارض الحكم، فعندها يقدم - سبحانه - مقتضى رحمته. ولعل من أمثلة ذلك: ما حصل من الصحابة من اتخاذ الأسرى يوم بدر، وأخذ الفدية منهم قبل أن تحل لهم. فقد جاؤوا بعمل صالح عظيم وهو شهود بدر. وهو من موجبات الرحمة وجاؤوا بمعصية خطيرة، هي أخذ الفدية من الأسرى قبل أن تُحَل لهم، وهي من موجبات الغضب والعذاب، كما دل عليه قوله تعالى: {لَوْلاَ كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2.

_ 1 رواه ابن ماجة في المقدمة، باب (13) فيما أنكرت الجهمية، ح (189) سنن ابن ماجة (1/67) . 2 سورة الأنفال الآية رقم (68) .

فسبقت رحمته غضبه، فغفر لهم، ورحمهم، وأباح لهم الغنائم كما دل عليه قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. فالذي يُقدَّر على العبد في مثل هذه الحالة مقتضى الرحمة، ويتخلف مقتضى الغضب. والمغالبة بينهما والمسابقة إنما هي في تقدير الحكمة، وليس في المقادير المكتوبة، وإنما المكتوب هو مقتضى الرحمة. ومن أمثلة ذلك: علم اللَّه بقيام عبد من عبيده بعقوق أمه وضربها. وهذا العمل من موجبات الغضب، وحقه في حكمة اللَّه أن تعجل له العقوبة. لكن علم اللَّه - أَيضا - أنه لا يلبث أن يندم ويتوب ويستغفر وينكسر بين يدي اللَّه. أو أن والدته المضروبة تدركها الشفقة عليه لمقتضى علمها باللَّه وسنته، وتشفع له في تلك الحالة وتسأل اللَّه أن يقيله ولا يعاجله بالعقوبة. فيكون قد قام بذلك العبد موجب عذاب وغضب، وقام به أو له موجب رحمة، وكل ذلك في علم اللَّه - سبحانه -. فإِن اللَّه من رحمته يعامله بمقتضى رحمته. حيث إن رحمته تسبق

_ 1 سورة الأنفال الآية رقم (69) .

غضبه، ويكتب عليه ما يناسب ذلك. واللَّه أعلم. وخلاصة ما دلت عليه تلك الأمور المعتبرة في مشيئة اللَّه التي يعامل بها عباده: أن اللَّه قدَّر الهداية والضلال على عباده، وأذن لهم بأفعالهم، وأجرى عليهم من أفعاله، بهذه الاعتبارات المتقدمة من علمه بهم وبأفعالهم وحكمته التي تقتضي أن يجازي كلاً بما يستحق، بأن يهدي من اهتدى، ويضل من زاغ وغوى، وعدم ظلمه، وفضله لأهل الفضل، وأن رحمته تسبق غضبه. فهو - سبحانه - يدبر أمر عباده، وقدر عليهم مقاديرهم، وهو بصير بهم، كما قال تعالى: {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ} 1. قال ابن كثير - رحمه اللَّه -: "واللَّه عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء له الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، ولهذا قال: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ} أي هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة

_ 1 سورة آل عمران الآية رقم (20) .

وهو الذي {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 1 وما ذلك إلا لحكمته ورحمته"2. وبهذه الاعتبارات يقيد كل لفظ للمشيئة مطلق في النصوص فيما يتعلق بمعاملة اللَّه لخلقه المكلفين. نحو قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَآءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 3. فالقدر ليس معناه: أن اللَّه اختار لعباده، بمحض المشيئة المطلقة، ومحض التحكم، أفعالهم وأفعاله الجارية عليهم، وقدرها عليهم وأجبرهم عليها، فهم سائرون على ما اختاره لهم. وإنما معنى القدر: أن اللَّه قدَّر عليهم ما اقتضته حكمته من أعمالهم التي علم أنهم سيعملونها وأذن لهم بها، ومن أفعاله التي تقتضي الحكمة أن يقابل بها تلك الأعمال التي علم أنهم سيعملونها. فالمشيئة التي قدر بها تلك المقادير من أفعال العباد، وتلك التي يخلقها

_ 1 سورة الأنبياء الآية رقم (23) . 2 تفسير القرآن العظيم، (1/354) . 3 سورة النحل الآية رقم (93) .

ويمكن من وقوعها بها، معتبر فيها علمه سبحانه وحكمته وعدله، وأن رحمته تسبق غضبه، وغيرها من مقتضى أسمائه وصفاته، وسننه الجارية التي يعامل بها عباده. أفعال العباد.. وإذن اللَّه الكوني1:

_ 1 الإِذن المنسوب إلى اللَّه نوعان: إذن اللَّه الكوني: وهو التمكين من الفعل الموافق للمشيئة راضياً منه الفعل أم لم يرضَ به. [انظر: المفردات للأصفهاني ص (15) بتصرف] فهو نوع من أنواع أمر اللَّه الكوني، الصادر بالمشيئة. إلا أنه - بدلالة الاستقراء للنصوص القرآنية - يستخدم (إذن اللَّه الكوني) ، وتصرفاته بإزاء أفعال المخلوقات وأسباب الخلق. أما ما ورد من أمره الكوني فإِنه يكون بإزاء أفعال اللَّه تعالى. والمراد دائماً عند الكلام في القدر هو الإِذن والأمر الكوني. ومن أدلة الإذن الكوني، قول اللَّه تعالى: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 102] وقوله: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 249] وقوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] . وإذن اللَّه الشرعي: وهو المتعلق بما شرعه اللَّه لعباده وأعلمهم به، وهو يتضمن الرضى والتكليف بما أذن به، ولا يأذن اللَّه لعباده بشريعة إلا وهو يحبها. ومن أدلة هذا النوع، قول اللَّه تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] وقوله: {قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59] . وهو سبحانه متفرد بالأمر والإذن: فلا مالك لحق التشريع إلا هو، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَآء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] . وهو سبحانه متفرد بالأمر والإذن الكونيين، الذين بهما الخلق والتدبير، وليس له شريك في هذا الملك، ولم يعط شيئاً منه أحداً من خلقه. ومن أدلة تفرده بالأمر ومنه الإذن الكوني قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154] وقوله: {بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد:31] ، وقوله: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ، وقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] ونحوها كثير.

أن إرادة اللَّه لأفعال العباد تستلزم إذنه الكوني بوقوعها إذا حان أجلها. فالإِذن الكوني للعباد بإيقاع أفعالهم يكون عن مشيئة اللَّه، ومشيئة اللَّه مستلزمة لفعله سبحانه، كما قال تعالى: {فَعَّالٌ لما يُرِيدُ} 1. وعليه فإِن الأذن الكوني يستلزم فعلاً للَّه يتحقق به فعل العبد.

_ 1 سورة البروج الآية رقم (16) .

وذلك يكون: بإزالة الموانع، وتهيئة الأسباب، وإقداره على الفعل. وبدون ذلك لا يستطيع العباد أداء أفعالهم. ولذلك سُمّي إذناً كونياً لتضمنه فعل اللَّه تعالى. ونُسِب الفعل إلى اللَّه، لكون العبد لا يستطيع الفعل بدونه، إذ هو الذي أذن بالفعل، وأزال موانعه، وهيأ أسبابه، ويسر الفعل، وأقدره عليه. ولا ينسب الفعل إلى اللَّه مزاولة ومباشرة، وإنما ينسب إليه إرادةً وإذناً وتمكيناً. مثال ذلك: لو أن ولداً طلب الإذن من والده في الزواج من امرأة بعينها، فوافق الوالد وأذن له بالزواج منها. وكان الولد قادراً على نفقات الزواج ولا يحتاج من والده إلا إذنه وموافقته. فهذا إذن مجرد من الفعل، لا يتطلب من الآذن إلا الموافقة، ولا يقال فيه إن الوالد زوج ولده لمجرد إذنه له بالزواج. أما إذا كان الولد لا يستطيع الزواج من تلك المرأة، لغلاء مهرها الذي لا يملك منه شيئاً، أو لممانعة والدها، أو لغير ذلك من الموانع التي لا يستطيع تجاوزها إلا بمساعدة والده، فإِنه إذا قال لوالده زوجني من فلانة، نما يريد منه ما هو أبعد من الموافقة! يريد إذناً يستلزم فعلاً. والوالد قد يقول لا أريد تزويجك منها، فلا يأذن بزواجه منها ولا يُمكنُه. فينتهي الأمر، إذ أن الولد لا يستطيع، والوالد لم يأذن.

أما إذا وافق الوالد على الزواج، فإِنه عند ذلك يسعى في إزالة الموانع والصعوبات، ويُقدم المهر ويُهيِّئ الأسباب، ويقنع والد المرأة حتى يتم الزواج. وعندها يقال الوالد زوج ولده. ولا يعني لك أن الوالد هو الذي تزوج وباشر الفعل! وإنما ينسب الفعل إلى الوالد إذناً يتضمن التمكين بإزالة الموانع وتهيئة الأسباب. قال ابن القيم - رحمه اللَّه -: "ومن هذا قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} 1. فهو سبحانه المزوِّج ورسوله المتزوج. وكذلك قوله: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} 2، فهو المزوِّج وهم المتزوجون. وقد جمع - سبحانه - بين الأمرين في قوله: {فَلَمَّا زَاغُوآأَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 3، فالإزاغة فعله، والزيغ فعلهم"4. فإذن اللَّه الكوني يستلزم تيسير حصول الفعل، كما أن عدم الإذن

_ 1 سورة الأحزاب الآية رقم (37) . 2 سورة الدخان الآية رقم (54) . 3 سورة الصف الآية رقم (5) . 4 شفاء العليل، ص (279) .

كوناً يستلزم منع الفعل. كما قال تعالى: {وَلَوْ شَآء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 1. وقال: {وَلَوْ شَآء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 2. ومعلوم أن قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} ، ليس المراد منه أن اللَّه هو الذي باشر الاقتتال. وإنما أراده وأذن به كوناً وهيأ أسبابه التي لو لم تكن لما حصل اقتتال. وهذا هو فعله الذي تحققت به إرادته لاقتتالهم. فالاقتتال منسوب إلى اللَّه إرادة وإذناً وتمكيناً، ولولا ذلك ما حصل، ومنسوب إليهم مباشرة ومزاولة. قال ابن القيم - رحمه اللَّه -: "إحداث اللَّه - سبحانه - لها بمعنى أنه خلقها منفصلة عنه قائمة بمحلها وهو العبد، فجعل فاعلاً بما أحدث فيه من القدرة والمشيئة. وإحداث العبد لها بمعنى أنها قامت به وحدثت بإراداته وقدرته. وكل من الإحداثين مستلزم للآخر، ولكن جهة الإضافة مختلفة، فما أحدثه الرب - سبحانه - من ذلك فهو مباين له، قائم بالمخلوق، مفعول له لا فعل. وما أحدثه العبد فهو فعل له قائم به، يعود إليه حكمه، ويشتق له منه اسمه..

_ 1 سورة الأنعام الآية رقم (112) . 2 سورة البقرة الآية رقم (253) .

فأضاف هذه الأفعال إلى نفسه إذ هي واقعة بخلقه ومشيئته وقضائه. وأضافها إلى أسبابها إذ هو الذي جعلها أسباباً لحصولها. [ولا تعارض] بين الإضافتين، ولا تناقض بين السببين. وإذا كان كذلك: تبين أن إضافة الفعل الاختياري إلى الحيوان بطريق التسبب، وقيامه به، ووقوعه بإرادته لا ينافي إضافته إلى الرب - سبحانه - خلقاً ومشيئة وقدراً. ونظيره، قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَآ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} 1. وقال لنوح: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} 2. فالرب - سبحانه - هو الذي حملهم فيها بإذنه وأمره ومشيئته، ونوح حملهم بفعله ومباشرته"3 وخلاصة القول في تقدير أفعال العباد: أن اللَّه لم يزل عالماً بأفعال العباد التي سيفعلونها، وأنه كتب علمه بأفعالهم في اللوح المحفوظ، حيث اقتضت الحكمة أن يأذن لهم بفعلها، وتعلقت بها إرادته الكونية. وإذا جاء الأجل هيأ لهم أسباب الفعل، وصرف عنهم الموانع، ومكنهم منه، فباشروه وفعلوه.

_ 1 سورة الحاقة الآية رقم (11) . 2 سورة هود الآية رقم (40) . 3 شفاء العليل، ص (258، 259) .

ومن ذلك إضلاله للكافرين، فإِن اللَّه عالم بأنهم سيقصدون طريق الزيغ والضلال، فكتب عزمهم ذلك، ثم إن الحكمة تقتضي أن يمكنوا من ذلك الضلال، فأراده منهم وأذن لهم به، لعلمه بحالهم وأنهم أهل لذلك. فكتب ذلك الفعل الذي أذن لهم بفعله كوناً. وكتب ما يتعلق بوقوعه من التفاصيل. وكل ذلك عن علم بأفعالهم، وحكمة في إرادتها وتقديرها. فاللَّه - سبحانه - أضلهم بمعنى أنه أراد منهم ذلك كوناً، وأذن لهم به، ومكنهم منه، وقدره عليهم، إذ أن الحكمة تقتضي ذلك. وهم ضلوا حيث قصدوا طريق الضلال، ومارسوه وباشروه بما أعطاهم اللَّه من قدرات، وهيأ لهم من أسباب. وعِلْمُ الله وكتابته لا تأثير لها في مقاصدهم وأعمالهم، وإنما هم قصدوها بطوعهم واختيارهم، وفعلوها بقدراتهم وأسبابهم، واللَّه لم يزل عالماً بتلك الأفعال فكتبها عليهم، وإذا جاء الأجل أذن لهم بفعلها ومكنهم منها. فإذا فعلوها جازاهم عليها بما يستحقون من الختم والطبع والعقوبات التي تقتضيها حكمته. والله أعلم.

القسم الثاني1 من المقادير المتعلقة بأفعال المكلفين: كتابة أفعال اللَّه التي يقابل بها أفعال العباد. إن أفعال اللَّه المقصودة هنا هي: أفعاله التي يقدرها جزاء على أفعال عباده التي علم أنهم سيفعلونها، وأذن لهم بفعلها، ومكنهم منها، وقدرها وكتبها عليهم. وهذا النوع من أفعال اللَّه غير أفعاله التي سبقت الإشارة إليها في القسم الأول. إذ إن المراد في النوع الأول فعل اللَّه المتضمن لإِذنه لعباده بمزاولة أعمالهم، وتمكينهم منها، أو عدم الإذن والحيلولة بينهم وبينها. وقد تقدم في بيان القسم الأول من المقادير المكتوبة على المكلفين - الذي هو عبارة عن أفعالهم التي يمارسونها ويتلبسون بها - ما يلي: 1- أن العباد يقصدون تلك الأفعال بما أعطاهم اللَّه من إرادة واختيار، ويفعلونها بما أعطاهم من قدرة، وهيأ لهم من أسباب. 2- أن اللَّه - سبحانه - لم يزل عالماً بمشيئة عباده لأفعالهم، وتقتضي حكمته أن يأذن لبعضها ويمنع بعضاً. 3- أن اللَّه - سبحانه - كتب من سيأذن له، وكتب ما علم من فعله، وكيف سيكون، وكل ما يتصل به. 4- أن علم اللَّه بأفعال العباد، وكتابته وتقديره لها، لا تأثير له في

_ 1 القسم الأول: ص (682) .

إرادة العبد وفعله. هذا ما يتعلق بأفعال العباد وعلاقتها بالقدر والكتابة. وهذه الأفعال التي سيفعلها العباد لحينها، وعلمها اللَّه وكتبها، يستحقون عليها جزاءً مناسباً من اللَّه - سبحانه -. وهذه الجزاءات من اللَّه للعباد على أفعالهم تجري وفق حكمته وعلمه بأحوالهم، حيث تقتضي الحكمة أن يجازي المحسن بالإحسان، والمسيء بالسوء والحرمان. فكتب - سبحانه - أفعاله التي سيقابل بها أفعالهم التي علم أنهم سيفعلونها. وقد دلت نصوص كثيرة على أن اللَّه يقابل أفعال عباده بأفعاله - سبحانه - المناسبة لها بمقتضى حكمته. فمن ذلك قوله: {هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} 1. وقوله: {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الكَفُورَ} 2.

_ 1 سورة الرحمن الآية رقم (60) . 2 سورة سبأ الآية رقم (17) .

وقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} 1. فقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} فعل العباد. وقوله: {زَادَهُمْ} : فعل الرب الذي يقابل به أفعالهم. وقال: {فَلَمَّا زَاغُوآ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 2. فقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا} : فعل العبيد. وقوله: {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} : فعل اللَّه. وقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} 3. وقال: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 4. قوله: {أَعْطَى وَاتَّقَى} فعل العباد، وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} : فعل الرب تبارك وتعالى.

_ 1 سورة محمد الآية رقم (17) . 2 سورة الصف الآية رقم (5) . 3 سورة الليل الآيات رقم (5-7) . 4 سورة الليل الآيات رقم (8-10) .

وقال تعالى: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} 1. وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 2. قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} هي أفعال اللَّه تعالى التي جازى بها هؤلاء على فعلهم المبين في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . وشواهد هذا المعنى في القرآن كثيرة جداً. أما شواهده من الحديث، فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لينتهينّ أقوام عن وَدْعِهم الجمعات، أو ليختمنّ الله على قلوبهم"3. ففعل اللَّه هو: الختم على القلوب.

_ 1 سورة محمد الآية رقم (7) . 2 سورة الأنعام الآية رقم (110) . 3 رواه مسلم. تقدم: ص (684) .

وسببه من فعل العباد هو: ترك الجمعات. وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه - تبارك وتعالى -: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"1. ففعل العبد: هو معاداة وليٍّ من أولياء اللَّه تعالى. وفعل اللَّه هو: إعلان الحرب على من فعل ذلك. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده أمامك، تَعَرَّفْ إلى اللَّه في الرخاء يعرفك في الشدة".2 قوله: "احفظ اللَّه" و "تعرف إلى اللَّه في الرخاء" هذا فعل العبد. وقوله: "يحفظك" و "تجده أمامك" و "يعرفك في الشدة"، هي أفعال اللَّه، ومظاهر ولايته لعباده المتقين. وشواهد ذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة.

_ 1 رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع ح (6502) (11/340) . 2 رواه الإمام أحمد. المسند (1/307) ، من حديث ابن عباس - رضي اللَّه عنهما- وصححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة، ح (318) ، (1/139) . كما رواه الترمذي بنحوه، وقال: "حديث حسن صحيح". وقال ابن رجب: "وبكل حال فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة" جامع العلوم والحكم ص (174) . وصححه الألباني أيضاً في ظلال الجنة، ح (318) ، (1/138) .

ودلالة هذه الشواهد من الكتاب والسنة، هي: أن اللَّه اقتضت حكمته أن يقابل أفعال عباده بأفعاله المناسبة لها. فيجري عليهم من أفعاله سبحانه ما يستحقونه على أفعالهم التي يعملونها. وأفعالهم أسباب لما يجري عليهم من فعله - سبحانه -. أما كتابة هذا النوع في كتاب المقادير السابق فبيانه فيما يلي: أن اللَّه لم يزل عالماً بما سيفعله العباد. وتقتضي حكمته أن يجازي كلاً بما يستحق على فعله الذي علم أنه سيفعله. فكتب - سبحانه - أفعالهم التي علم أنهم سيفعلونها. وكتب أفعاله التي تقتضي الحكمة أن يقابل بها تلك الأفعال. ثم إذا جاء أجل الفعل أذن اللَّه كوناً بوقوعه ففعله العبد. ثم أجرى عليه سبحانه فعله المناسب. وكل ذلك مكتوب مقدر عن علم اللَّه وحكمته. وعلى هذا فالإضلال والختم والطبع على قلوب الضالين وأسماعهم وجعل الغشاوة على أبصارهم.. ونحوها، هي من هذا القسم. أي: من أفعال اللَّه التي يقابل ويجازي بها عباده على أفعالهم التي تستوجبها. وذلك: أن اللَّه علم أن ذلك الكافر سوف يسلك أسباب الزيغ والضلال، وتقتضي الحكمة أن يؤذن له، لعلم اللَّه بحاله وكونه من الذين

لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون بها، أو لكونه لم يؤمن أول مرة مع تبين الحق له، أو لأي سبب سابق ترتب عليه في حكمة اللَّه أن يؤذن له بالزيغ. وكتب - سبحانه - عليه ذلك الفعل. وكتب عليه فعله - سبحانه - المناسب أن يقابل به زيغ ذلك الزائغ، من إزاغة قلبه، والختم والطبع عليه، أو غير ذلك من أفعاله الحكيمة التي يقابل بها أفعال عباده. وخلاصة هذه الفائدة هي: أن المثَل - مثل الظلمات في سورة "النور" - دل على إضلال اللَّه للكفار، وختمه على قلوبهم وأسماعهم، بحُجُب تحجب عنهم أنوار الهداية. وأن ذلك لم يضرب عليهم في أصل الخلقة، حيث خُلقوا كغيرهم من المكلفين على الفطرة السوية، وإنما هو عقوبة لهم بسبب كفرهم وضلالهم. وأن ذلك هو مقتضى حكمة اللَّه التي يعامل بها عباده حيث يكتب الخير والإحسان للمحسنين، ويقدر العقوبة والحرمان والأغلال على الضالين المكذبين. وأن اللَّه قدر ذلك عليهم في اللوح المحفوظ، إذ كتب علمه بها. وذلك أن اللَّه لم يزل عالماً ما سيفعلونه، فكتب أفعالهم التي علم أنهم سيفعلونها واقتضت الحكمة أن يؤذن لهم بفعلها، ومن ذلك ضلال

واستكبار الكافرين. كما اقتضت الحكمة أن يجازيهم بما يستحقون على أفعالهم، ومن ذلك الطبع والختم ونحوهما على قلوب وأسماع الكافرين. فكتب أفعاله التي تقتضي الحكمة أن يقابل بها أفعالهم التي علم أنهم سيفعلونها. ومن ذلك الختم والطبع والغشاوة لمن يستحقها من عباده، وقدّرها عليهم جزاء وفاقاً. واللَّه أعلم.

الفائدة الرابعة: دلالة المثَل على أن الكفار في حيرة وقلق وخوف دائم. وهذه الفائدة مستفادة مما تقدم1 من حال الممثّل به الكائن في مكان ما في عمق بحر عظيم مظلم مضطرب الموج مخيف مفزع، وهو في حيرة من أمر خلاصه لا يستطيع التقدم في أي اتجاه لشدة الظلمة. ومما يقابله من حال الكفار - المضروب لهم مثل الظلمات - المغمورين في بحر الكفر والضلال والفساد، قد أظلم عليهم الطريق، وأظلمت قلوبهم وأعمالهم، فهم في عمى تام، وضلال بعيد، وأنهم بسبب هذه الظلمات، وما يحيط بهم ويغشاهم من: أمواج العقائد الباطلة، والظنون السيئة وما يتولد عنها من الشك والريب، وتيارات الشهوات الفاسدة والإرادات الخبيثة، والنظريات المنحرفة، في خوف وفزع وقلق وحيرة. وقد أشار ابن جرير - رحمة اللَّه - إلى إفادة المثَل حيرة الكفار بقوله: "ومثل أعمال هؤلاء الكفار، في أنها عملت على خطإ وفساد، وضلالة وحيرة من عمالها فيها، وعلى غير هدى، مثل ظلمات في بحر لجي"2. كما أشار بعض المفسرين إلى إفادة حال الممثّل به الخوف الشديد حيث قال:

_ 1 تقدم: ص (612) . وما بعدها. 2 جامع البيان، (9/335) .

"والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه، فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه زاد الخوف"1. فالخوف والوحشة، والقلق والحيرة، مردّها إلى الكفر الذي يبعد النفس عن اللَّه فتستوحش وتخاف، وإلى الغفلة عن ذكر اللَّه الذي به طمأنينة النفس وسكونها، وإلى الجهل بنور الهداية الذي يكشف معالم الطريق. وقد بين الإمام ابن القيم - رحمه اللَّه - أسباب الوحشة والخوف، وأن مردها إلى البعد عن اللَّه بالكفر والمعاصي، وأنه كلما زاد العبد بعداً زاد خوفه ووحشته، وقلقه وحيرته. من ذلك قوله - رحمه اللَّه - في معرض بيانه لعقوبات المعاصي: "ومن عقوباتها ما يلقيه اللَّه - سبحانه - من الرعب والخوف في قلب العاصي فلا تراه إلا خائفاً مرعوباً، فإِن الطاعة حصن اللَّه الأعظم، مَنْ دَخَلَهُ كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة، ومن خرج منه أحاطت به المخاوف من كل جانب"2 وقال أَيضا: "ومن عقوباتها أنها توقع الوحشة العظيمة في القلب، فيجد المذنب نفسه مستوحشاً قد وقعت الوحشة بينه وبين ربه وبينه وبين الخلق، وبينه وبين نفسه، وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة"3.

_ 1 فتح القدير للشوكاني، (4/39) . 2 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص (50-51) . 3 نفس المصدر والصفحة.

وقال كاشفاً عن سر ذلك: "وسر المسألة أن الطاعة توجب القرب من الرب - سبحانه - وكلما اشتد القرب قوي الأنس. والمعصية توجب البعد من الرب وكلما زاد البعد قويت الوحشة"1. والكفر هو أصل المعاصي وأكبرها، وحظ صاحبه من هذه الآفات أوفر. وهم بذلك أبعد ما يكونون عن سبب الأمن والهداية الذي هو الإِيمان باللَّه وحده، كما دل عليه كتابه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم قال اللَّه تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوآ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2. وعلى هذا فقلوب الكفار، مظلمة حائرة، قلقه مضطربة، حتى أصبحت هذه الأمراض هي سمتها المميزة، ومشكلتها المسيطرة. ولا يتأثر ذلك بحضارة الكفار وتقدمهم المادي، إذ إن سببه الكفر، بل إنه يزيد كلما زادوا في كفرهم وإلحادهم، كما هو الحال في العصر الحديث. وهذه شهادة من بعض الباحثين: "يوصف العصر الحديث - بصفة عامة - بأنه عصر القلق والتوتر الفردي والجماعي، لما يبدو على إنسان العصر الحديث - عصر العلم والتكنلوجيا3 - أنه ليس أكثر سعادة اليوم من إِنسان الأمس القديم، لما

_ 1 فتح القدير للشوكاني، (4/39) . 2 سورة الأنعام الآية رقم (82) . 3 التكنولوجيا: "ذلك الفرع من النشاط الإنساني الذي يتناول تطبيق العلم في الأغراض العملية ويسمى أحيانا: العلم التطبيقي" المعجم العلمي المصور، ص (549) ، قسم النشر بالجامعة الأمريكية، القاهرة.

نراه من شواهد كثيرة حوله تدعو إلى الاهتمام بحاله، وتشير إلى أن العلاقات الإنسانية على مختلف مستوياتها مهددة بالاضطراب والخوف، ومتدهورة إلى مراحل الخطر، ومن مؤشرات الخطر إدمانه المخدرات ليسكن بها ما ينتابه من شعور الضياع والغربة، ثم يدع نفسه فريسة لأمراض الوهم التي تحبب إليه الميل إلى العزلة وعدم الاشتراك في العمل الاجتماعي أو الجماعي، أو يغيب بأوهامه عن ضبط سلوكه الفردي، فيفقد تفهم المغزى من معنى وجوده، ثم أخيراً يصبح في تيار العواصف من الشك، فاقداً نفسه وإِيمانه. ثم يتحول سلوكه إلى التخريب وحب الهوس1 الجدلي دون تحديد لهدف الجدل أو الالتزام بإطاره المعياري. وتصبح المذاهب الإلحادية والمادية بما تحويه من العبث العقلي واللاعقلي محل اطمئنان لذهنه المكدود والمشتت"2.

_ 1 الهوس: مرض نفسي "من أهم أعراضه تضخم الأفكار وتهيجها وانتقالها السريع من موضوع إلى آخر دون التمييز بين قيم المعاني، وينتقل المريض من عمل إلى عمل دون راحة ولا هوادة، والاندفاع إلى تحقيق كل فكرة تخطر له". انظر: معجم المصطلحات النفسية والتربوية، د. محمد مصطفى زيدان، ص (180) دار الشروق، جده، الطبعة الثانية، 1404هـ. 2 د. محمد إبراهيم الفيومي، القلق الإنساني، ص (28) دار الفكر، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1405هـ.

وليس اللجوء إلى المسكرات والمخدرات هي الظاهرة الوحيدة لما ينتاب الكفار ومن في حكمهم من الخوف والقلق والوحشة واليأس والحيرة. فهناك مظاهر أخرى كثيرة، كالانتحار الذي يعتبر الخطوة الأخيرة التي يلجؤون إليها بعد المخدرات والمسكرات. ومن مظاهره: شيوع مذاهب القلق، في الفلسفة والآداب والفنون، التي تعبر عن السخط على الحياة، والشعور بسخفها، والإحساس بالغربة والكآبة، وكذلك شيوع الفوضى الأخلاقية الناتجة عن التوتر، وعدم معرفة الهدف والغاية من الحياة، وما تولد عن ذلك من الإحباط وعدم الثقة بالنفس.1 ومن مظاهره: انتشار العيادات النفسية، التي تعالج الأمراض النفسية، ومن أبرزها: الخوف، والقلق، والكآبة، والإحباط.. ونحوها. ومن ذلك: تعالي صيحات الأطباء، والمفكرين المحذرة من خطورة ما يعانيه الإنسان في ظل الحضارة المادية الملحدة المعاصرة من تلك الآفات. ومن مظاهر الخوف والقلق والكآبة، اندفاع الكافر وتوسعه في وسائل اللهو واللعب والترفيه، ليتخلص مما في قلبه من ذلك. عبر عن هذا بعض فلاسفتهم2 بقوله: "إن الناس قد اخترعوا شتى ضروب اللهو أو التسلية حتى يتجنبوا

_ 1 انظر: القلق الإنساني، المصدر السابق، ص (14) (بتصرف) . 2 هو (بسكال) فيلسوف فرنسي ولد عام 1923 وتوفي عام 1963م. انظر: دائرة المعارف، لبطرس البستاني، (5/418) .

الخوف من الوحدة أو العزلة، وكأن الإِنسان هو الموجود الذي يخاف من ظله، فهو لا يملك سوى العمل على الهرب من نفسه، أو الفرار من ذاته، والحق أن حياة الموجود البشري تكاد تمثل سلسلة متصلة الحلقات من المخاوف المستمرة"1. وإذا كان الخوف والقلق والحيرة، هي التحديات الكبرى في حياة الإنسان الكافر، فليس غريباً أن تتوجه كثير من جهود العلماء والمفكرين لهذه القضية. عبر عن ذلك بعضهم بقوله: "وقد لا نخرج عن الصواب إذا قلنا أن جانباً كبيراً من جهود الإنسان المعاصر نفسه قد أصبح يستهدف القضاء على العديد من مصادر الخوف في حياة الموجود البشري"2. أما الحيرة فمردها إلى قناعة الكافر بعدم وجود طريق للحق يهتدي به. وذلك أن الكافر بين طريقين: إِما أن يتمسك بدين باطل مليء بالخرافات، والأباطيل، يتدين به

_ 1 نقلاً عن كتاب: تغلب على الخوف، من سلسلة: في سبيل موسوعة نفسية، لمجموعة من علماء النفس الغربيين، عرض وتقديم: د. مصطفى غالب، ص (13) مكتبة الهلال، بيروت 1985م. 2 تغلب على الخوف. ص (13) .

تقليداً، أو اقتناعاً عارياً عن الفكر والبرهان، ويبقى حائراً يتهرب من تساؤلات العقل أو مما يوجه إليه من نقد. وإما أن يتوجه إلى الفلسفة التي تشبع نهمته في النظر والاستدلال، وتحقق مطلبه في الاستقلال، إلا أنها لا تضعه على يقين في أي مطلب كان. وكل من جرب الفلسفة خرج بهذا الاقتناع من عدم جدوى الفلسفة لطالب الحقيقة. فهي لا تعدو أن تكون مضماراً للفكر، والتساؤل، والنقد الهادم1. يمارسها الفيلسوف كرياضة يزجي بها وقته،

_ 1 النقد الهادم: هو ما دأب عليه الفلاسفة من مجابهة العقائد والنظريات والأفكار بسيل من التساؤلات والمعارضات، مما يؤدي إلى التشكيك، وإضعاف ثقتهم وثقة من يستمع إليهم بها. ثم هم عاجزون عن تقديم الجواب والتصور السالم من المعارضة. فيبقون حيارى. ومما زاد أمرهم سوءاً وحالهم ظلمة أنهم لا يقيمون وزناً لعلماء الدين الإِسلامي، ولا ينتفعون بإجاباتهم وحججهم، لما رسخ في أذهانهم من سذاجة علماء الدين وضعف حجتهم بسبب جهلهم بالفلسفة. وقد أقام اللَّه عليهم الحجة بعلماء فهموا الإسلام فهماً سليماً، ودرسوا الفلسفة وأتقنوها، ثم بينوا تعارض الفلاسفة وتناقضهم وحيرتهم، وأجابوا عن كثير من معارضاتهم التي أثاروها على الحق والدين الخاتم، كما فعل شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - رحمه اللَّه - في كتابة العظيم (درء تعارض العقل والنقل) . حيث خاطبهم بأساليبهم واصطلاحاتهم، وأرى أن الكتاب يحتاج إلى جهد للتوسع في نشره، تمكيناً لحجة اللَّه على الناس، وأهم الخطوات في ذلك ما يلي: 1 - أن تفرد كل مسألة بمجلد مستقل بُجمع فيه ما يتصل بها من سائر المجلدات. 2- أن يتولى ذلك جهة علمية متخصصة. 3 - ترجمة الكتاب إلى اللغات العالمية المشهورة. فإن الحاجة ملحة الآن لمثل هذه العمل، حيث ضعف تعلق المفكرين في العالم بالفلسفة وازدادت حاجتهم وتطلعهم إلى مصدر واضح صحيح يجيب على تساؤلاتهم، ويلبي حاجاتهم العلمية في معرفة الحكمة من الحياة، وما بعدها، وفي المطالب الإلهية والغيبية، وقاعدة الخير والشر والأخلاق.. ونحوها.

ويروي بها نهمته، دون أي طائل يذكر في الوقوف على اليقين. والحقيقة أن تلاشي الأمل في الفلسفة عند مفكري العالم الكافر في العصر الحديث، والذي سبقه فقدان الثقة بالديانة النصرانية واليهودية التي حُرِّفت، وتسريتهم ذلك الحكم على كل دين حتى الدين الخاتم المحفوظ، كل ذلك أوجب لهم حيرة، ويأسا قاتلاً جعلهم يتمسكون بالتافه من القول، كما يفعل الغريق الذي يتمسك بالقشة، طلباً للنجاة. وقد ذكرت1 في الفائدة الأولى بعض شهادات علماء الفلسفة على إِفلاسها، وفقدان الأمل بها. وأذكر هنا زيادة تبين نتيجة ذلك من الحيرة والقلق. فمن ذلك قول بعضهم:"وهكذا بعد ذلك نجد أنفسنا في حيرة ... ولكن الإِنسان الأوربي ما تردد في التضحية في سبيل نظرية مشكوك فيها، خير من أن ينقلب مرة أخرى إلى رجال الدين ويتلقى عقائده منهم. إذن أي مأزق نواجهه حين ينكر بعضنا المادة، وينكر بعضنا الآخر الشعور.

_ 1 انظر ص: (646) . وما بعدها.

وتستطيع أن تتصور الابتسامة الحزينة التي قد ترسم على وجوهنا عند رؤية هذا الجنون الفكري في عصرنا"1. إلى أن قال: "فهل يمكن أن يكون للفلسفة معنى صحيحاً؟ حقيقة أن الفلسفة ما تعلقت بقضية من القضايا لأجل أن تلتمس لها حلاً أو تصطفي لنفسها حلاً من الحلول المطروحة، وإذا وقفنا بها أمام شيء من ذلك فلسوف نجدها في صورة سؤال جديد: لماذا؟ إن الفلسفة تثير في الإنسان دائماً شعوراً بالعجز والنقص عندما تعرض للإنسان جوانب الغموض في الكون والنفس، وشعور الكبرياء والغرور عندما ينكر ويرفض. فالفلسفة دائماً تصوغ حيرة الإنسان وقلقه، وليس لها غير هذا الجانب"2. وهذا فيلسوف آخر يصرخ معلناً يأسه من الفلسفة، وتطلعه إلى مصدر آخر يبين له الأسس المتيقنة التي يبني عليها سعيه، وتبلغه السعادة الأبدية بعد الموت، فيقول: "وإذا أردنا حل المشكلة الفلسفية، وجب الخروج من الفلسفة! ... فهذا هو السؤال الذي على الفلسفة وضعه وحله: - ما أساس يقيننا أو ما أساس العالم؟

_ 1 القلق الإنساني، ص (232) . 2 القلق الإنساني، ص (233) .

السؤال هو بعبارة أخرى: -كيف نحقق غايتنا؟ كيف نستطيع بلوغ الحياة الأبدية؟ "1. وهذا التساؤل من هذا الفيلسوف متعلق بثلاثة مطالب مهمة، يتشوق إلى معرفتها - كما تتشوق إليها كل نفس واعية - ويرى أن السعادة والخروج من الحيرة تكون بالإجابة عليها، وأن الفلسفة لا تملك الجواب عن أي منها. وهذه المطالب هي: معرفة الحكمة والغاية من خلق العالم والإِنسان. ومعرفة الطريق لتحقيق تلك الغاية. ومعرفة المصدر اليقيني الذي يدل عليهما. وحول هذا المعنى يقول صاحب كتاب "الإِيمان والحياة": "فالجاحدون للَّه، أو المرتابون فيه، وفي لقائه يوم الحساب، يحيون حياة لا طعم لها ولا معنى. حياة كلها قلق وحيرة، كلها علامات استفهام. كلها أسئلة لا تجد لها عندهم جواباً. إِنهم لا يوقنون بشيء يطمئنون إليه، ويستريحون له في قضية وجودهم أنفسهم، ووجود الكون كله من حولهم. من أين جاؤوا؟ ومن جاء بهم؟ ولماذا جاء بهم؟ وإلى أين يذهبون بعد هذه المرحلة القصيرة، التي لم يفهموا لها سراً، ولم يعرفوا لها غاية؟ وما هذا الكون؟ وما مبدؤه؟ وما

_ 1 من كلام الفيلسوف (بسكال) ، نقلاً عن: القلق الإنساني، ص (92) .

غايته؟ وما علاقتهم به؟ إن عقولهم المحدودة لا تستطيع أن تجيبهم إِجابة تشفي الصدور،.... وتمحو بنورها ظلمات الشك والحيرة والاضطراب".1 [ملف الجداول] وهذه شهادة شاعر منهم تبين هذه الحقيقة - وهي حيرة الكافر بسبب جهلة بتلك القضايا الهامة - وتصورها أبلغ تصوير حيث قال: جئت لا أعلم من أين - ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت وسأبقى سائراً إِن شئتُ هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف أبصرتُ طريقي؟ لستُ أدري أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود؟ هل أنا حرُّ طليقٌ، أم أسير في قيود؟ هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود؟ أتمنى أنني أدري، ولكن ...

_ 1 د. يوسف القرضاوي، الإِيمان والحياة، ص (110، 111) مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ.

لستُ أدري _ وطريقي، ما طريقي؟ أطويل أم قصير؟ هل أنا أصعد. أم أهبط فيه وأغور؟ أأنا السائر في الدرب، أم الدرب يسير؟ أم كلانا واقف، والدهر يجري؟ لستُ أدري أتُراني قبلما أصبحتُ إِنساناً سوياً كنت محواً ومحالاً، أم تراني كنتُ شيئاً؟ ألهذا اللغز حلّ، أم سيبقى أبدياً؟ لستُ أدري.. ولماذا لستُ أدري؟؟ لستُ أدري _1 إن تصوير هذا الشاعر التائه الحائر لحيرته وجهله المطبق بربه،

_ 1 قصيدة (الطلاسم) لإِيليا أبو ماضي، ديوان ايليا أبو ماضي، نيويورك، 1919م. ص (191) .

والحكمة من خلقه، ومصيرهُ بعد الموت، إذا قورن مع تصوير المثَل لحيرة الكفار، تبين انطباق المثَل ودقة تصويره لذلك. فالمثَل يصور الكائن في أعماق المحيط في ظلمة تامة إذا أخرج يده لم يكد يراها، والظلمة التامة تتضمن الجهل التام، وعدم القدرة على تبين أي معلم من معالم الطريق. فما أقرب هذا التصوير لحال هذا الشاعر الحيران التائه الذي لا يدري ولا يدري لماذا لا يدري في هذه المطالب العزيزة، التي تتوقف عليها طمأنينة القلوب، وسعادتها، والفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة. أما أهل البصائر وأولو الألباب فإنهم يعرفون لماذا لا يدري؟ إِنه لا يدري لأنه أعرض عن وحي اللَّه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وحشد في دواوين شعره معارضته، والتقول على اللَّه، ومعارضة حكمته وقدره - سبحانه -، فأنى له أن يدري؟ وكيف يدري وهو معرض عن نور اللَّه؟ ونور اللَّه محجوب عنه؟ {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} . نسأل اللَّه السلامة من حال أهل الظلمات. ويشترك مع هذا الشاعر غيره من الكفار في هذا الإحساس. إلا أنه استطاع بما أُعطي من موهبة شعرية أن يعبر عن ذلك. ولذلك تجد كثيراً من الكفار يُسَرَّوْن بمثل هذه الأشعار لأنها تصف

ما يختلج في نفوسهم من الحيرة والقلق مما لا يستطيع الكثير منهم التعبير عنه. وسرورهم بذلك جار على طبائع النفوس وانجذابها إلى ما يشاكلها. وهذا الموضوع مضماره الفكر والثقافة الإسلامية، وإِنما أكتفى بما تقدم في بيان دلالة المثَل على هذا الأمر من حال الكفار، وبعض شواهده من أقوالهم وأحوالهم. وأحيل على ما ذكر في الفائدة الأولى1 من أهمية العناية بمواضيع الثقافة الإِسلامية، وأهم ضوابطها، وضرورة النقد لما يكتب فيها، وإبرازها للشباب وغيرهم ليحصل لهم التحصن - بإذن اللَّه - من الانخداع بحضارة الكفار المادية الظاهرة، وبريقها الخادع. وخلاصة هذه الفائدة: أن مثل الظلمات دل على أن الكفار في خوف وقلق، واضطراب وتوتر وحيرة دائمة. وتبين أن سبب ذلك هو بُعدهم عن اللَّه، بكفرهم وعصيانهم. والبعد عن اللَّه يورث الوحشة والخوف. ومن أسبابه جهلهم التام بالحكمة مِنْ خلْقهم، وبطريق هدايتهم، وماذا ينتظرهم بعد الموت.. وغيرها من المطالب الهامة. وأما الحيرة فسببها الرئيس هو يأسهم من الاهتداء إلى طريق علمي

_ 1 تقدم ص: (632) وما بعدها.

يدلهم على اليقين في تلك المطالب. ذلك أنهم استكبروا عن وحي اللَّه إلى رسله، واعتمدوا على الفلسفة التي وصلت إلى طريق مسدود. وأثمر لهم ذلك الحيرة والضياع والشتات في الحياة. فانصرفوا - لأجل ذلك - إلى وسائل اللهو واللعب، واخترعوا شتى صنوف الملهيات، وأطلقوا لأنفسهم العنان في المتع والشهوات، كما وصف اللَّه حالهم بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} 1. وإذ لم يُجْدِ ذلك، جنح الكثير منهم إلى تعاطي المسكرات والمخدرات، للهرب من الخوف والقلق والحيرة، التي تلهب قلوبهم، وتوحش نفوسهم. ومنهم من أصابه الجنون وانتهت حياته في المصحات العقلية. ومنهم من غلبت عليه شِقوته فانتحر، أو نزع إلى الإجرام والفساد.

_ 1 سورة محمد الآية رقم (12) .

الفائدة الخامسة: إفادة المثَل حقائق علمية ومعجزة نبوية. بين يدي هذه الفائدة: المراد بالحقائق العلمية هنا ما يتصل بالعلوم الدنيوية كالطب، والفلك والضوء، وعلم النبات، والحيوان والبحار، وما إلى ذلك من العلوم المادية التطبيقية أو النظرية. ولقد كثرت البحوث في العصر الحديث عن الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وشط بعضها، وتجاوز الحد إلى تحميل آيات القرآن الكريم ما لا تحتمل، وخرج بها إلى التأويل البعيد عن المدلولات اللغوية والشرعية للنصوص، لموافقة النظريات العلمية. وقد حاول صاحب كتاب "المعجزة القرآنية، الإعجاز العلمي والغيبي" 1 أن يحدد مفهوماً للمعجزات العلمية، ومنهجاً وسطاً لتناولها تجنباً للمحْذورات التي وقع فيها بعض من كتب في هذا الموضوع. ولعل من المناسب أن أورد بعض المقتطفات من هذا الكتاب لتكون توطئة لهذه الفائدة: فمن ذلك قوله: "لقد نزلت آيات القرآن الكريم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.. وفي عصر لم يكن الإِنسان يعرف فيه عن الطبيعة

_ 1 د. محمد حسن هيتو.

والكون والحياة إلا القليل النادر، وكان يعتقد الكثير من العقائد الباطلة عن الكون والحياة. فجاء القرآن في خضم تلك المعتقدات… وكان من المفترض أن يتكلم القرآن بنفس الأساليب والمعتقدات التي يعتقدها الناس في ذلك الوقت، فيما لو كان القرآن من صنع البشر وكلامهم، كما هو المتوقَّع والمعروف. إلا أن القرآن لم يخض أبداً في مثل تلك الخرافات، بل جاء على خلافها، فأثبت أن الأرض كوكب سابح في الفضاء، فليست على قرن ثور، وأن الأمطار تنزل من السحاب، وأن السحاب يجتمع بفعل الرياح، وأنه بفعل اجتماعه يخرج البرق. إلى آخر ما هنالك من الآيات التي نزلت مخالفة لما كان سائداً في ذلك العصر، ولعصور طويلة بعده، والتي جاء العلم الحديث، فأثبت بالبراهين اليقينية ما أخبر به القرآن قبل قرون طويلة. فلو كان القرآن من صنع محمد صلى الله عليه وسلم لكان من المستحيل أن يصدر عنه مثل هذا الكلام الذي كان يجهله أهل عصره، بل كانوا يعتقدون خلافه، والذي يعتبر تصحيحاً لمعتقداتهم وعلومهم، مطابقاً للواقع الحقيقي الذي كشف عنه العلم الحديث بالبراهين اليقينية، بعد أن بذل الإِنسان في سبيل الوصول إليه النفس والنفيس، وأمضى في الطريق إليه الأيام والدهور والأعوام.

ولم يقتصر القرآن في العلوم التي تكلم عنها على جانب ما كان يعرفه الناس في ذلك العصر، مصححاً لمعتقدات الناس فيه، أو مفصلاً لما كان مجملاً منه، بل تعدى هذا فتكلم في آيات كثيرة على أنواع أخرى من العلوم التي لم يكن يعرف الإنسان عنها شيئاً البتة، مما أثار دهشته، وجعله يؤمن بها إيماناً غيبياً، دون أن يعرف الحقيقة التي تنبني عليها، كاشتعال الماء1 مثلاً، إلى أن جاء العلم الحديث، فأثبت هذه الحقيقة العلمية على نحو ما أخبر به القرآن، مما لفت نظر الإِنسان ثانية، وجعله يؤمن أنه من المستحيل أن يكون هذا الكلام من كلام البشر، لأنه لم يكن

_ 1 يشير إلى قول اللَّه تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [سورة التكوير:6] وقد بين المؤلف هذا المعنى في موضع آخر بقوله: وجاءت العلوم والمعارف الحديثة، واكتشف أن الماء يتكون من عنصرين، هما: الهيدروجين والأوكسجين، وأن الجُزَيْء المائي الواحد يشتمل على ذرتين من عنصر الهيدروجين، وذرة واحدة من الأوكسجين، وأن الهيدروجين غاز قابل للاحتراق ويشتغل، وأن الأوكسجين غير قابل للاحتراق ولا يشتعل ولكنه يساعد على الاشتعال. ومعنى هذا أن جزيء الماء الواحد لو تحلل لأمكن أن يشتعل، ولأعطانا أشد أنواع الاشتعال والاحتراق، بسبب تكونه من هذين الغازين، المشتعل والمساعد على الاشتعال، كما هو معروف ومسلم في العلوم. انظر: (المعجزة القرآنية) د. محمد حسن هيتو، ص (218) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، (1415هـ) .

يعرف عن هذه الحقيقة العلمية إبان نزول القرآن شيئاً، ولم يكن له سبيل أبداً إلى إدراكها. إذاً فلا بد أن يكون هذا الكلام من قبل عالم السر والعلن، وخالق الإِنسان والمادة، والكون والحياة، ولذلك أخبر بما علم مما خلق"1. وقال أيضاً: "لم ينزل القرآن كتاب علوم يقرر في المدارس والجامعات، يتلقى الناس من خلاله معارفهم الكونية. وإِنما نزل القرآن الكريم كتاب هداية وإِرشاد للبشرية الحائرة، ودستوراً ونظام حياة للإِنسانية. قال تعالى: {ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} 2. وقال: {قَدْ جَآءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3.

_ 1 المعجزة القرآنية، ص (156-158) . 2 سورة البقرة الآية رقم (2) . 3 سورة المائدة الآيتان رقم (15، 16) .

وقال جلّ شأنه: {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. إلا أنه رغم هذا تعرّض لكثير من حقائق الكون والحياة التي كانت مجهولة، إما إِجمالاً، وإِما تفصيلاً عند نزول القرآن، للفت نظر الإِنسان إلى الكون والحياة، والاهتمام بالعلم والمعرفة، وفي نفس الوقت ليكون يوماً ما معجزة دالة على أن هذا الكلام ليس من كلام البشر، وإِنما هو من كلام اللَّه، وذلك عندما يضع الإِنسان يده على كثير من أسرار الكون والحياة والعلم والمعرفة. وبناء على ذلك، يجب علينا حينما نعرض للإِعجاز العلمي في القرآن، أن لا ننسى الوظيفة الأساسية التي جاء من أجلها، ألا وهي هداية البشر، ورسم المنهاج القويم، والسبيل المستقيم، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى. فلا يجوز لنا بعد هذا أن ننحرف عن الوظيفة الأساسية لكتاب اللَّه، ونُحمّلَ الآيات ما لا تطيق من المعاني العلمية التي لم تُسق الآية من أجلها، ولا نزلت لبيانها، وإِنما هي من أوهام القارئ، وربما انقلبت إلى ضرب من التأويل الباطني الباطل.

_ 1 سورة النحل الآية رقم (64) .

كما لا يجوز لنا في نفس الوقت أن نجمد على معارفنا القديمة الضيقة، وتفسيراتنا الجزئية المحدودة، المبنية على تلك المعلومات القديمة، والتي ربما كانت قاصرة، أو خاطئة في تفسير ظواهر بعض أو أكثر الجوانب العلمية التي كشف عنها العلم الحديث، مما يؤدي في النتيجة إلى فهم القرآن فهماً غير سليم في ضوء المعارف الحديثة، وفي الآيات التي لها مساس بالعلوم"1. ثم أشار إلى طرفين خاطئين في تناول هذه القضايا. الأول: المنهج الذي يرفض الانفتاح للعلوم الحديثة المعاصرة، في تفسير القرآن الكريم، حتى تلك التي أصبحت يقينية لا يجوز الإعراض عنها بحال. مما قد يؤدي إلى إِيجاد ثغرات بين التفسير الذي أرادوه وتلك الحقائق الثابتة.2 الثاني: منهج الذين فتنوا بالنهضة العلمية الحديثة، وأرادوا أن يبرزوا سمو الدين والقرآن في عصر المادة، فصاروا يحملون - بمناسبة أو غير مناسبة - آيات القرآن على المكتشفات أو القوانين العلمية الحديثة، مما جعلهم يخرجون بالآيات القرآنية عن معانيها اللغوية، ومدلولاتها الشرعية، وينحرفون بها عن الغاية والهدف الساميين، اللذين جاءت من أجلهما،

_ 1 المعجزة القرآنية، ص (149، 150) . 2 انظر: نفس المرجع، ص (151) . (بتصرف) .

ومما جعلهم - أَيضا - يقعون في كثير من المتناقضات.1 ثم بين ما يرى أنه المنهج الوسط في تناول هذه القضايا. فقال: "وأما الفئة الثالثة، وهي فئة جماهير علماء المسلمين، فهي فئة التوسط بين جانبي الإِفراط والتفريط. فلم تجمد هذه الفئة جمود الفئة الأولى، ولم تتهور تهور الفئة الثانية. ولكنها عمدت إلى الآيات التي لها مساس بالعلوم، وفهمتها بناء على ضوء المعارف الحديثة اليقينية، لا الظنية، وفي نطاق قوانين الشرع العامة، وقواعد اللغة الثابتة، فرأت فيها ما يدل كل ذي عقل على أن هذا القرآن ليس من عند البشر، وإِنما هو من عند اللَّه، وإلا لما كان من الممكن قول مثل تلك الآيات في تلك القرون الخالية، التي لم يكن الإِنسان عارفاً فيها شيئاً عن الحقائق العلمية الحديثة. ولم يضرها أبداً أن تقف عند ظاهر النص القرآني إذا كانت دلالته قطعية، وإِن كان يتعارض مع بعض النظريات العلمية الرائجة، جازمة بأن الخطأ في النظرية العلمية، وأن على أصحابها أن يبحثوا عن وجه الصواب في موضوعها. وإلا فمن المحال أن يتعارض الدين مع العلم، أو القرآن مع القوانين اليقينية الثابتة.

_ 1 المعجزة القرآنية، ص (152) (بتصرف) .

وهذا هو الحق الذي لا يجوز لأحد أن يتعداه، والذي يجب المصير إليه، والتعويل عليه، ولا يوجد بعد الحق إلا الضلال. فنحن ما دام الأمر العلمي لم يصل إلى درجة القانون اليقيني الثابت، وإِنما هو في طور التجربة والبحث والنظر، لا يمكننا أبداً أن نجعل القرآن تبعاً لشهوات البشر وأهوائهم، ولا يمكننا أبداً أن نعبث بآيات القرآن ونتلاعب بها. فإذا ما وصل الأمر العلمي إلى درجة القانون اليقيني، فمن المحال عند ذلك أن يتعارض مع القرآن، بل سنجده عند ذلك راكعاً على أعتاب الدين، كاشفاً لنا عن سر الآية، معترفاً بأن قائلها وصانعه ومبدعه واحد، ألا وهو اللَّه الذي لا إله إلاَّ هو، وداعياً كل عاقل إلى الإِيمان بهذه الحقيقة. وعند ذلك يجب علينا أن نستفيد من هذه المعارف الحديثة اليقينية، وأن نستغلها من أجل إِظهار الحقيقة، وبيان الإِعجاز القرآني الذي يخفى على كثير من الناس، من مسلمين وغيرهم. فالحكمة ضالة المؤمن، وأنَّى وجدها التقطها ... والقرآن أُنزل معجزة لكل زمان وجيل ومكان، ولم يكن إعجازه قاصراً على الجيل الأول، ولذلك كان لا بد لهذا الجيل المعاصر أن يجد في القرآن المعجزة، ولئن فاته الوقوف عليها عن طريق اللغة، فلن يفوته الوقوف عليها عن

طريق العلوم المعاصرة1. وبعد هذه التوطئة أعود إلى المقصود، وهو بيان ما دل عليه المثَل - مثل الظلمات من سورة النور - من الحقائق العلمية الثابتة في العلوم الحديثة المادية الدنيوية. فقد اشتمل المثَل على العديد من تلك الحقائق، يصل بعضها إلى الإِعجاز العلمي، والآخر وردت الإشارة إليه بما يتفق مع الحقائق التي توصل إليها المتخصصون في تلك العلوم. ويمكن تقسيم ما أفاده المثَل من ذلك إلى ثلاثة أقسام:

_ 1 المعجزة القرآنية، ص (153، 154) .

القسم الأول: الإِعجاز العلمي. وذلك يتمثل في دلالة المثَل على وجود موج باطني في داخل مياه البحر اللجي، في قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} . فدل على وجود موج يغشاه من فوقه موج آخر. والموج الفوقي هو الموج السطحي. والموج الكائن تحته هو الموج الباطني. وكلمة "من فوقه" لا تدل بالضرورة على الملاصقة، بل قد يكون بين الشيئين مسافة بعيدة، بدليل قوله: "من فوقه سحاب"، ومعلوم أن المسافة بين الموج الثاني والسحاب بعيدة. وقد يكون كذلك الحال بين الموج الباطني، والموج السطحي. وهذه الحقيقة - التي قررها المثَل بوضوح، من وجود أمواج باطنية في البحار اللجية العميقة - لم تكن معلومة في ذلك الوقت ولم يكن بمقدور البشر معرفتها، لأنها لا تكون إلا في البحار العميقة - المحيطات - وعلى عمق لا يصله إلا الغواصات أو الغواصون المزودون بالأوكسجين. ولذلك لم تكتشف هذه الأمواج الباطنية إلا حديثاً بعد اختراع الغواصات التي تجوب أعماق المحيطات.

قال صاحب كتاب "البحر المحيط"1: "فأضخم أمواج المحيط وأشدها رعباً هي أمواج غير منظورة، تتحرك في خطوط سيرها الغامضة بعيداً في أعماق البحار.. وفي أوائل عام 1900 لفت الأنظار كثير من مساحي البحار الاسكندنافيين إلى وجود أمواج تحت سطح الماء. والآن وبالرغم من أن الغموض لا يزال يكتنف أسباب تكوين هذه الأمواج العظيمة التي ترتفع وتهبط بعيداً أسفل السطح، فإن حدوثها على نطاق واسع في المحيط أصبح أمراً معروفاً جداً، فهي تقذف بالغواصات في المياه العميقة، كما تعمل شقيقتها السطحية على قذف السفن، ويظهر أن هذه الأمواج تتكسر عند التقائها بتيار الخليج وبتيارات أخرى قوية في بحر عميق"2. "فنحن الآن بعد أن وضعنا أيدينا على هذا الاكتشاف العلمي الجديد نستطيع أن نفهم الآية فهماً جديداً، لا يتعارض مع الأول، إلا أن يوضحه ويبينه. فقوله تعالى: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} فيه إشارة واضحة لا لبس فيها ولا غموض إلى هذه الأمواج الداخلية التي تكلم عنها العلم الحديث 1 شارل: ل. كارسون.

_ 2 نقلاً عن كتاب: (المعجزة القرآنية) د. محمد حسن هيتو، ص (195) .

وأثبتها، كما يشير إلى الأمواج السطحية التي نراها ونعرفها، وهذا المعنى واضح من قوله تعالى: {مّن فَوْقِهِ} أي أن الموج الأول في الأسفل، والموج الثاني يأتي من فوقه ... إِن الآية واضحة كل الوضوح، وصريحة في دلالتها على هذا الذي اكتشفه العلم الحديث من الأمواج الباطنية التي تعلوها الأمواج السطحية، ولا سيما أن الآية قالت: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} أي عميق، ... وهذا إنما يكون في المحيطات، لا على الشواطئ والخلجان. إن هذه الصورة لا تشاهد على شواطئ بحارنا الهادئة الوادعة إذا ما قيست بمياه المحيطات، ولو أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان هو الذي ألف القرآن وأملاه لكان من المستحيل عليه أن يأتي بمثل هذه الحقائق العلمية التي كانت خافية إلى أيامنا هذه، ولم تكن البشرية تعرف عنها شيئاً. إذن فهي الحقيقة المصدقة بأن هذا القرآن تنزيل من حكيم عليم"1. وهذه المعجزة العلمية هي من الآيات التي وعد اللَّه بإخراجها للناس وإظهارها لهم حتى يروها، ويدركوا بها أن القرآن حق من عند اللَّه - تبارك وتعالى -، كما قال - سبحانه -: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ

_ 1 المعجزة القرآنية، ص (195، 196) .

بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1. ويمكن تلخيص أوجه الإِعجاز في هذه الفائدة بما يلي: 1- كون النبي صلى الله عليه وسلم ليس من البحَّارة، ولم يكن له ولا لقومه عناية بذلك. 2- أن الأمواج الباطنية الكائنة في أعماق المحيطات لم يكن أحد عالماً بها في ذلك الوقت، لبعد مكانها في قعر البحار العميقة، ولم تكتشف إلا في العصر الحديث. 3- إفادة المثَل أن تلك الصورة المتضمنة للموج الباطني كائنة في بحر لجي أي عميق ضخم. وهذا مطابق لما عرف عن هذه الأمواج من أنها لا توجد إلا في أعماق المحيطات العظيمة. فوصف القرآن لها مطابق لما عرف من طبيعتها. وعلى هذا فإِخبار القرآن عن ذلك معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم دالة على أن هذا القرآن حق من عند اللَّه - وأنه ليس من كلام البشر. إذ إن هذه الحقيقة من علم اللَّه الغيبي - حيث لم يكن الناس يعلمونها عند نزول القرآن - ضمنه كتابه شاهداً به عند من يكتشفه ويتبينه أن هذا القرآن من عند عالم الغيب والشهادة.

_ 1 سورة فصلت الآية رقم (53) .

قال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} 1. قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ} : تدل على أن الشهادة كائنة فيما أنزل وهو القرآن الكريم. ثم ذكر أنه أنزل القرآن مشتملاً على علمه - سبحانه - بقوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} : فدل على أن الشهادة هي بالعلم الكائن في هذا الكتاب العزيز. قال ابن كثير - رحمه اللَّه - في تفسير هذه الآية: "لما تضمن قوله تعالى: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} 2 إلى آخر السياق، إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم والرد على من أنكر نبوته من المشركين وأهل الكتاب، قال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ} أي وإن كفر به من كفر ممن كذبك وخالفك، فاللَّه يشهد لك، بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن العظيم الذي {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ

_ 1 سورة النساء الآية رقم (166) . 2 سورة النساء الآية رقم (163) ، وما بعدها.

حَمِيدٍ} 1، ولهذا قال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي: فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه اللَّه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب، إلا أن يعلمه اللَّه به"2. قوله - رحمه اللَّه -: "وما فيه من العلم بالغيوب في الماضي والمستقبل" يشمل الإخبار بحقائق علمية ليست معروفة في وقت نزوله فهي غيب بالنسبة للمعاصرين لنزوله، فتكون من الآيات التي لم يأت تأويلها، ثم إذا جاء حين تأويلها، وأذن اللَّه للناس باكتشافها ومعرفتها، وهيأ لهم أسباب ذلك، فعرفوها، ثم قارنوا ما عرفوه ببحثهم واجتهادهم مع ما أخبر اللَّه به، فوجدوا التطابق الدقيق، مع جزمهم أنها لم تكن تعرف من قبل من قِبَل بشر، أفادهم ذلك يقيناً أنها من عند الخالق المبدع العليم.

_ 1 سورة فصلت الآية رقم (42) . 2 تفسير القرآن العظيم، (1/589) .

القسم الثاني: الإِخبار عن حقائق في العلوم المادية الدنيوية بما يطابق ما ثبت عند المتخصصين فيها: والمراد ما ورد في المثَل من تقرير أمور من مباحث العلوم المادية، جاء بيان القرآن لها موافقاً لما تقرر عند علماء ذلك الفن. وهي وإن كانت لا تصل إلى حد الإعجاز باعتبار آحادها، لكنها توجب الثقة والاقتناع بأن هذا القرآن من عند خبير عليم بالخلق. كما قال - سبحانه -: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1. وإذا تظافرت الدلائل من هذا النوع أوجبت لمن تأملها وأدرك وجه العبرة منها، القطع أن هذا البيان لا يمكن أن يصدر من ذلك الرسول الأمي الذي لم يعرف عنه ولا عن قومه الاهتمام بمثل هذه المطالب. وهذه المسائل العلمية - التي ورد البيان عنها مطابقاً للحقائق التي اكتشفت وثبتت عند أهلها - لفتت أنظار كثير من الباحثين من المسلمين وغيرهم، وأوجبت لهم تعظيم القرآن، وقادت بعضهم إلى اعتناق الإِسلام. وأكتفي في الاستدلال على ذلك بما ذكره المستشرق الفرنسي: "موريس بوكاي" في كتابة: "دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة" حيث قال:

_ 1 سورة الملك الآية رقم (14) .

"لقد أثارت هذه الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهْشتي العميقة في البداية. فلم أكن أعتقد قط بإِمكان اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحد من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديدة التنوع ومطابقة تماماً للمعارف العلمية الحديثة. وذلك في نص كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً. في البداية لم يكن لي أي إِيمان بالإِسلام. وقد طرقت دراسة هذه النصوص بروح متحررة من كل حكم مسبق وبموضوعية تامة. إِن أول ما يثير الدهشة في روح من يواجه مثل هذا النص لأول مرة هو ثراء الموضوعات المعالجة، فهناك الخلق، وعلم الفلك، وعرض لبعض الموضوعات الخاصة بالأرض، وعالم الحيوان، وعالم النبات، والتناسل الإِنساني. وعلى حين نجد في التوراة أخطاء علمية ضخمة، لا نكتشف في القرآن أي خطإ. وقد دفعني ذلك لأن أتساءل: لو كان كاتب القرآن إنساناً، كيف استطاع في القرن السابع من العصر المسيحي أن يكتب ما اتضح أنه يتفق اليوم مع المعارف العلمية الحديثة؟ ليس هناك أي مجال للشك، فنص القرآن الذي نملك اليوم هو فعلاً نفس النص الأول.. ما التعليل الإِنساني الذي يمكن أن نعطيه لتلك الملاحظة؟.. في رأيي ليس هناك أي تعليل، إذ ليس هناك سبب خاص يدعو للاعتقاد بأن أحد سكان شبه الجزيرة العربية ... استطاع أن يملك ثقافة علمية تسبق بحوالي عشرة قرون ثقافتنا

العلمية فيما يخص بعض الموضوعات"1. والذي يلاحظ من هذا النص أن كاتبه لخص أهم النتائج التي خلص بها من دراسة النصوص القرآنية المتعلقة بالعلوم المادية، وأجملها في نتيجتين، هما: 1- أن القرآن محفوظ، لم يحصل به اختلاف عن النص الأول. عبر عن هذه النتيجة بقوله: "ليس هنا مجال للشك، فنص القرآن الذي نملك اليوم هو فعلاً النص الأول". 2- أن القرآن ليس من عند بشر. عبر عن هذه النتيجة بقوله: "لو كان كاتب القرآن إنساناً، كيف استطاع..". وبعد هذه النبذة في التعريف بهذا القسم، والإشارة إلى أهميته، أخلص إلى المقصود، وهو بيان ما وردت الإشارة إليه من هذا النوع في المثَل. لقد اشتمل مثل الظلمات من سورة "النور" على فائدتين من هذا النوع، وهما: أولاً: إفادة المثَل أن أعماق البحار اللجية مظلمة ظلمة تامة، بحيث لا يرى الكائن فيها شيئاً البتة.

_ 1 دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، موريس بوكاي، دار المعارف، القاهرة الطبعة الرابعة، 1977م.

وإفادته سبب ذلك، وهو: وجود حجب ساهمت مجتمعة في حجب النور عن ذلك المكان، هذه الحجب هي: السحاب، والموج السطحي، والموج الباطني. والسحاب يحجب كمية كبيرة من الضوء. إلا أن ما ينفذ من خلاله من ضوء الشمس يكفي لإِنارة سطح الأرض وسطح البحر، فيبقى أن إحداث الظلمة في قاع البحر المحيط ناتج عن الحجابين الآخرين، وهما الموجان. والموجان وفوقهما الهواء أوساط شفافة. فالمثَل يدل على أن هذه الأوساط هي ظلمات، حيث إن كل وسط أحدث ظلمة فيما دونه. فهذه الدلالة العلمية يمكن تركيزها فيما يلي: - إفادة المثَل ظلمة أعماق البحار اللجية العميقة ظلمة شديدة. - إفادة المثَل سبب ذلك وهو وجود أوساط شفافة متعددة أسهمت مجتمعة في حجب الضوء والتسبب في تلك الظلمة. وقد جاءت البحوث والاكتشافات الحديثة في علم البحار وعلم الضوء لتؤكد هاتين الحقيقتين، وتزيد في بيان علة ذلك. فقد "كشف العلم الحديث أن في قاع البحار العميقة - كثيرة الماء - (البحر اللجي) ظلمات شديدة، حتى أن المخلوقات الحية تعيش في هذه الظلمات بدون آلات بصرية، وإنما تعيش بواسطة السمع، ولا توجد هذه

الظلمات الحالكة في قاع البحر الذي يحيط بالجزيرة العربية"1. وتقدم2 في دراسة الممثّل به أن الثابت في علم الضوء أن الضوء إذا انتقل من وسط شفاف إلى وسط آخر شفاف فإِن جزءاً من الضوء ينعكس، والجزء الآخر ينفذ لكنه ينكسر. وتتكرر العملية بتعدد الأوساط المختلفة الكثافة. فلا يزال الضوء - الذي يخترق مياه البحر - ينعكس جزء منه، وينكسر جزء آخر، إلى أن تصل زاوية الانكسار إلى الزاوية الحرجة (زاوية الانكسار الكلي) ، فيرتد ما بقي من الضوء، ولا ينفذ منه عندئذ شيء إلى أسفل، ويكون ما تحت ذلك مظلماً ظلمة تامة. فعلم البحار يؤكد ظلمة قاع المحيطات ظلمة شديدة، وعلم الضوء الحديث يؤكد ما دل عليه المثَل من أن الظلمة ناتجة بسبب تلك الأوساط المعترضة له، وهي الأمواج المتعددة في تلك المحيطات. ولا يشك كل عالم بهذه العلوم من تطابق ما دل عليه المثَل من ذلك مع ما ورد فيها. ثانياً: دلالة المثَل على أن الإِبصار يكون بوصول الضوء من مصدر مضيء إلى الجسم المرئي (المُبْصَر) ، وأنه إذا انعدم الضوء ولم يصل منه

_ 1 كتاب توحيد الخالق، عبد المجيد عزيز الزنداني، (3/47) دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة، الطبعة الثالثة، 1408هـ. 2 انظر: ص (588) وما بعدها.

شيء إلى الجسم فإِنه يظلم ولا يُرى. وهذه الفائدة واضحة في دلالة المثَل. حيث قال - سبحانه -: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} ، بعد أن ذكر الحجب التي حجبت النور عن ذلك المكان. فدل على أن السبب في عدم الرؤية هو انعدام النور. وقد أشار بعض المفسرين إلى هذه الفائدة، بقوله: "ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن مانع الرؤية شدة الظلمة، وهو كذلك لأن شرط الرؤية بحسب العادة في هذه النشأة الضوء"1. وهذا البيان لكيفية الرؤية واشتراط أن يكون الجسم المُبْصَر مضيئاً أو مضاءً من غيره، هو الصواب الذي قرره المحققون من الباحثين في الضوء قديماً وحديثاً، كما أمكن إثباته بالتجربة القاطعة. قال صاحب "كتاب المناظر"2: "وقد تبين.. أن كل جسم مضيء بأي ضوء كان، فإِن الضوء الذي فيه يصدر منه ضوء إلى كل جهة تقابله فإِذا قابل البصر مُبْصَراً من المبصرات، وكان المُبْصَر مضيئاً بأي ضوء كان، فإِن الضوء الذي في المُبْصَر يرد منه ضوء إلى سطح البصر. وقد تبين - أيضاً - أن من خاصية

_ 1 روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لأبي الفضل شهاب الدين الألوسي، (17/184) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 2 الحسن بن الهيثم، المتوفي سنة (432هـ) .

الضوء أن يؤثر في البصر، وأن من طبيعة البصر أن ينفعل بالضوء. فأخلق بأن يكون إحساس البصر بالضوء الذي في المُبْصَر إِنما هو من الضوء الذي يرد منه إلى البصر"1 وقال - أيضاً -: "وقد تبين.. أن البصر ليس يدرك شيئاً من المُبْصَرات التي تكون معه في هواء واحد، ويكون إدراكه لها لا بالانعكاس إلا إذا اجتمعت له عدة معان هي: أن يكون بينه وبينه بعداً ما. ويكون مقابلاً للبصر ... ويكون فيه ضوء ما إما من ذاته أو من غيره ... "2. أما في العلم الحديث، فإِنه لا يعتمد إلا هذه الحقيقة المتمثلة بأن الرؤية إنما تكون عندما تصل الأشعة الضوئية المرتدة أو المنبعثة من الأجسام المرئية إلى العين. قال بعض الأساتذة3 الجامعيين في علم الفيزياء:

_ 1 كتاب المناظر، للحسن بن الهيثم، ت: عبد الحميد صبره، ص (137) ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الطبعة الأولى، (1983م) . 2 نفس المرجع، ص (189) . 3 الأستاذ الدكتور: محمد عبد المقصود الجمال، أستاذ الفيزياء الهندسية، جامعة الإسكندرية وجامعة بيروت العربية.

"وكيفية رؤية العين للأجسام هي أنه عندما تستقبل هذه الأجسام أشعة ضوئية ساقطة عليها، ترتد هذه الأشعة فتسبب رؤية الأجسام. لا كما كان يفسر قديماً بأن العين يخرج منها الأشعة فتسقط على الأجسام وبالتالي تراها العين. (ودلالة على عدم صحة هذا التفسير أن العين لا ترى في الظلام) . ونلخص هذا بأن تعريف الضوء: هو الإشعاع الذي يؤثر في العين فيسبب الرؤية ... "1. ويستفاد من هذا النص فائدتان هامتان: 1- تقريره للحقيقة العلمية الثابتة من أن الإبصار يتم عندما ترتد الأشعة الساقطة على الأجسام إلى العين.. وأن الضوء المنبعث من الأجسام المرئية إلى العين هو السبب في رؤيتها، مما يدل على اشتراط أن تكون الأجسام مضيئة أو مضاءة لكي ترى. 2- إشارته إلى بطلان التفسير القديم لسبب الرؤية المتمثل: في خروج أشعة من العين تسقط على الأجسام فتراها العين2. وذكر دليل بطلانه بقوله: "ودلالة على عدم صحة هذا التفسير أن

_ 1 مبادئ الفيزياء (2) ، للكليات والمعاهد التربوية والهندسية، الأستاذ الدكتور محمد عبد المقصود الجمال، ص (193) ، دار الراتب الجامعية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ. 2 انظر: أيضاً -: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للألوسي، (17/184) .

العين لا ترى في الظلام". واختياره لهذا الدليل يدل على قوته ووضوحه. وهذا الدليل الذي استدل به على بطلان التفسير القديم للرؤية، يتفق تماماً مع دلالة المثَل، حيث دل المثَل على أن الكائن في ذلك المكان لا يرى شيئاً البتة بسبب شدة الظلام. {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} . وعلى هذا يمكننا القول: أن المثَل مع دلالته بمنطوقه على أن الضوء شرط في رؤية الأجسام - حيث دل على أن انحجاب الضوء عن اليد تسبب في عدم رؤيتها. ومفهوم المخالفة الَّذِي يقتضي أن وصول الضوء إليها يمكن من رؤيتها - فإِنه - أيضاً - دل على بطلان التفسير القديم - الذي يقوم على أن الضوء يخرج من العين ويسقط على الأجسام فتحدث رؤيتها - فالاعتبار بصورة المثَل يرد ذلك، حيث لا يوجد حجاب بين اليد والشعاع المنبعث من العين، فلو كان ذلك التفسير صحيحاً لأمكنت الرؤية. واللَّه أعلم.

القسم الثالث: إفادة المثَل حقائق علمية ثابتة في نفسها، وإِن لم تكن مسلمة عند كل المشتغلين بتلك العلوم. والفرق بين هذا القسم والقسمين السابقين، أن السابقين يتعلقان بالعلوم المادية القائمة على المشاهدة والتجربة المحسوسة ويتفق العلماء المتخصصون بها على حقائقها غالباً. وكل منهم يستطيع التحقق بنفسه إذا هيئت لهم الوسائل. أما هذا القسم فمداره على التفكر والتعقل. فهي أمور عقلية يبحثها الفلاسفة والنظار فيما يسمى بعلم النفس والاجتماع ونحوها. إلا أنه لا يدركها إلا ذوو البصائر المستنيرة، الذين ينظرون نظراً صحيحاً، ويحسنون استخلاص العبر والعواقب والعلل، الذين استنارت عقولهم واستلهموا الهدى من نور اللَّه ووحيه. فهذا القسم لا يدركه إلا أولو الألباب. كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الألبَابِ} 1. وقوله - سبحانه -: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي

_ 1 سورة الزمر الآية رقم (9) .

الألبَابِ} 1. أما الكفار فإنهم لا يدركونها، لظلمة قلوبهم، وعمى بصائرهم، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 2. وقد دل المثَل - مثل الظلمات من سورة "النور" - على حقيقتين من هذا القسم، هما: أولاً: حقيقة أن الكفار يتقلبون في ظلمات حالكة لا ينفكون منها وقد تقدم الكلام على هذه الحقيقة في الفائدة الأولى من فوائد هذا المثَل. ثانياً: حقيقة أن الكفار في خوف وقلق وحيرة دائمة. وقد تقدم الكلام على هذه الحقيقة في الفائدة الرابعة من فوائد هذا المثَل. والمراد هو إثبات هاتين الحقيقتين ضمن الحقائق العلمية التي دل عليها المثَل. ويعتمد الكفار في بحث موضوع هاتين الحقيقتين على علم النفس

_ 1 سورة آل عمران الآية رقم (190) . 2 سورة الحج الآية رقم (46) .

والسلوك والاجتماع. إلا أن هذه العلوم لا يوجد فيها - في الغالب - حقائق متفق عليها عند أهلها. وإِنما شأنها شأن الفلسفة، يوجد فيها لكل قضية سيل من الآراء والنظريات والأقوال المتناقضة. والكفار بإزاء هاتين الحقيقتين ينقسمون إلى أقسام: القسم الأول: من زُين له سوء عمله فرآه حسناً. فهؤلاء معجبون مفتونون بما هم عليه من الباطل، يدعون إليه، وينشرونه، ويدافعون عنه. قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَآءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} 1. وضمن هذا الفريق ذوو الطبائع الفاسدة، والنزعات الشريرة، الذين لا يركنون إلا إلى الشر والغي والفساد، كما وصفهم اللَّه بقوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} 2.

_ 1 سورة فاطر الآية رقم (8) . 2 سورة الأعراف الآية رقم (146) .

القسم الثاني: من يدرك بطلان ما هو عليه، لفساد نتائجه، وآثاره، وغير ذلك. لكنه لا يسلم بعجزه عن الاهتداء إلى الطريق القويم، بل هو مقتنع أنه سيصل ببحثه وجهده إلى ذلك، فيضل يبحث ويكدح دون جدوى. القسم الثالث: من أدرك بطلان ما هو عليه، وأخذه اليأس من الوصول إلى الطريق القويم، لعلمه أن ما قُدِّم على موائد الفلسفة لا يخلو من الفساد والتناقص، وأن فرص التطبيق التي أتيحت للنظريات السلوكية لم يحالف واحدة منها النجاح في الاهتداء إلى النظام والسلوك الأمثل. وأن كلاً منها وإن حقق جانباً من الصلاح إلا أنه أنتج أضعافه من الفساد. ولم يفلح أي منها في تقليل نوازع الشر عند الإنسان، وتحقيق الطمأنينة والسعادة له. ومن هؤلاء من أسلمه اليأس إلى الإِحباط، وعاش في الحياة عيشة منفلتة، بلا هدف ولا غاية، معطلاً لعقله، يائساً من أمره، فحاله كما وصفها اللَّه بقوله: {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 1.

_ 1 سورة الفرقان الآيتان رقم (43، 44) .

ومنهم من دفعه اليأس من الأحوال القائمة، والحلول المطروحة، إلى البحث عن الحق والهدى، حتى توصل إلى الإِسلام، وتعرف عليه، وقرأ القرآن والسنة، فاستنار له الطريق، ووقع على ضالته، وأدرك بُغيته، فأسلم واهتدى. ومصداق ذلك في قصص بعض من أسلم من الكفار في هذا العصر، فلا بد من إبراز هذه الحقائق العلمية من هذا النوع وغيره، لتكون شاخصة أمام طالب الحق. فإِذا وقع عليها، وأدرك تطابقها مع ما توصل إليه في سابق بحثه، أو ما يجده من نفسه، تبين له الحق الذي لا مرية فيه. فكانت من أسباب هدايته. خلاصة هذه الفائدة: أن مثل الظلمات في سورة "النور" دل على حقائق علمية تتصل بالعلوم الدنيوية المادية التطبيقية أو النظرية. وأن هذه الحقائق تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: دلالة المثَل على معجزة عِلمية للنبي صلى الله عليه وسلم تتمثل في الإخبار بوجود أمواج في باطن البحار العميقة اللجية (المحيطات) ، والتي لم تكن معلومة في ذلك الوقت، بل لم يكن بمقدور البشر اكتشافها لكونها على عمق لا يصله إلا الغواصات أو الغواصون المزودون بالأكسجين. القسم الثاني: الإخبار عن حقائق علمية في العلوم المادية الدنيوية بما

يطابق ما ثبت عند المتخصصين فيها. وقد اشتمل المثَل على فائدتين من هذا القسم، هما: أولاً: إفادة المثَل أن أعماق البحار العميقة مظلمة ظلمة شديدة. مع بيان سبب ذلك، وهو وجود حُجُب حجبت الضوء، هي عبارة عن أوساط شفافة متعددة أسهمت مجتمعة في منع الضوء عن تلك الأماكن، وتسببت في ظلمتها. واتفاق ذلك مع ما تقرر في علم البحار، وعلم الضوء. ثانياً: دلالة المثَل على التفسير العلمي للرؤية، وأنه يشترط له وصول الضوء من مصدر مضيء إلى الجسم المرئي، وإذا انعدم الضوء ولم يصل منه شيء إلى الجسم فإِنه يظلم ولا يُرى. واتفاقه مع التفسير الصحيح، المتقرر عند المتخصصين في ذلك الشأن. كما تضمن المثَل - أَيضا - إبطال التفسير القديم القائم على أن سبب الرؤية خروج أشعة من العين تسقط على الأجسام فتحدث رؤيتها. القسم الثالث: إفادة المثَل حقائق علمية ثابتة في نفسها، وإِن لم تكن مسلمة عند كل المشتغلين بتلك العلوم. وذلك في الأمور العقلية التي تبحث عادة فيما يسمى بعلم النفس والسلوك والاجتماع. وقد دل المثَل على حقيقتين من هذا القسم، هما: أولاً: حقيقة أن الكفار يتقلبون في ظلمات حالكة وضلالات لا

ينفكون عنها. ثانياً: حقيقة أن الكفار في خوف وقلق وحيرة دائمة. وبهذا ينتهي الكلام على هذا المثَل العظيم. واللَّه أعلم بالصواب.

المجلد الثالث

المجلد الثالث الباب الثالث: الأمثال المضافة إلى الله تعالى الفصل الأول: في النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى المبحث الأول: في دلالة السياق الذي ورد فيه النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى ... 9- إبطال ما زعمه المشركون من حجج باطلة، وأمثال وقياسات فاسدة ليصححوا بها ما هم عليه من الشرك والكفر، ويعارضوا ما جاءهم من الهدى والبينات.

المبحث الأول: في دلالة السياق الذي ورد فيه النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى. قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. لقد ورد النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى في سورة "النحل" في سياق ركز على قضية هي أهم القضايا، وأصل الدين، وحق الله الذي خلق الناس لأجله ودعا إليه رسله، ألا وهي: تفرد الله بالألوهية، ووجوب إفراده بالعبادة. فبدأت السورة ببيان أن الدعوة إلى التوحيد هي أساس دعوة الرسل

_ 1 سورة النحل آية (73- 76) .

جميعا. قال الله تعالى: {يُنَزِّلُ المَلآئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوآ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلآَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} 1. وأكد ذلك في أثناء السورة بقوله: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 2. وبقوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} 3. وبين - سبحانه - أدلة ذلك، والموجب له، المتمثل بتفرد الله بالربوبية، وجميع خصائصها. ومن أهم تلك الخصائص: تفرده بالخلق. قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِين ٌ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ....} 4 الآيات.

_ 1 سورة النحل آية (2) . 2 سورة النحل آية (22) . 3 سورة النحل آية (36) . 4 سورة النحل آية (3-5) .

إلى أن قال سبحانه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ} 1. ونحو ذلك من الآيات. ومن خصائص الربوبية الهامة: ملك السموات والأرض وما بينهما وما فيهن. أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: {ولهُ مَا في السَّمَوات وَالأرض وَلهُ الدينُ وَاصِباً أفَغيرَ اللهِ تتَّقُون} 2. ومن خصائص الربوبية التي أشارت إليها السورة: تفرده بالأمر الشرعي والكوني. ورد ذكر الأمر الشرعي في أول السورة بقوله: {يُنَزِّلُ المَلآئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوآ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلآَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} 3. وفي قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الفَحْشَآءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 4.

_ 1 سورة النحل آية (17) . 2 سورة النحل آية (52) . 3 سورة النحل آية (2) . 4 سورة النحل آية (90) .

وورد ذكر الأمر الكوني بقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1. ومن خصائص الربوبية: أفعال الله - سبحانه - العظيمة الحكيمة. وقد توسعت السورة في ذكر أفعاله - تبارك وتعالى - وما يحصل بها من أنواع التدبير للكون وما فيه، وآثارها المباركة على الناس. مع لفت أنظارهم إلى عقوباته التي تحل بالمكذبين المعاندين. وهذا البيان لمظاهر ربوبيته - سبحانه - يأتي في مضمار بيان صفات الإله المستحق للعبادة، وأن اتصافه بالربوبية وخصائصها هو البرهان الأكبر على تفرده بالألوهية، ووجوب إفراده بالعبادة. كما أن الإكثار من ذكر دلائل ربوبية الله، وأفعاله العظيمة، يؤدي بمن تأملها وتعقلها إلى استشعار عظمة الله تعالى، والفرق الهائل بينه - سبحانه - وبين سائر خلقه، مما يوجب القطع بتفرده بالألوهية والاشمئزاز من أن يجعل له مثلا أو شريكا في العبادة من الخلق الضعفاء المحتاجين المقهورين. {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا

_ 1 سورة النحل آية (40) .

قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. ويمضي السياق في ذكر دلائل تفرد الله بالألوهية. فبينت الآيات - بجانب دليل الربوبية - تفرد الله بالمثَل الأعلى، واتصافه بصفات الكمال، ولفت أنظار المشركين وغيرهم إلى ما في تلك المعبودات من دونه من النقص والعجز، والفقر والحاجة التي تدل على عدم أهليتها للألوهية، وأن تُصرف لها العبادة. قال تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المثَل الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 2 كما اشتمل السياق على بيان ما أعده الله لعباده الموحدين من العاقبة الحميدة في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة، وما حلَّ بالأمم السابقة التي أشركت بالله، وافترت عليه الكذب، في الدنيا من العقوبات، وما ينتظرهم من العذاب الأليم في الآخرة. إلى غير ذلك من المباحث المتصلة بذلك. السياق ... والتحذير من الشرك: بجانب التركيز على قضية التوحيد، وما يتصل بها من مسائل

_ 1 سورة الزمر الآيتان (66، 67) . 2 سورة النحل آية (60) .

الإيمان، نجد السياق يركز - أيضا - على القضية المضادة للتوحيد، وهي الشرك بالله، بإبطاله، وتنزيه نفسه عنه. ففي أول آية من السورة نزه الله نفسه عن الشركاء بقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وناقشت السورة أهم معالم اعتقاد المشركين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم والتي تتمثل في: اتخاذهم شركاء لله يعبدونهم، ويدعونهم، ويجعلون لهم نصيبا مما رزقهم الله، ونسبتهم الولد إلى الله، حيث زعموا أن الملائكة بنات الله. قال الله تعالى مبينا ذلك من حالهم: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 2. وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَوَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 3.

_ 1 سورة النحل آية (1) . 2 سورة النحل الآيتان (20، 21) . 3 سورة النحل الآيتان (56، 57) .

وقال سبحانه في الآية التي تسبق النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} 1. ثم نهى الله تعالى عن ضرب الأمثال له سبحانه بقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} وبين علة ذلك النهي بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} 2. ثم ضرب أمثالاً من الحق يبيّن لعباده فيها معالم التوحيد، وأنه لا يجوز أن يُسوَّى بينه وبين خلقه، وأن يُجعل المخلوق الضعيف العاجز شريكا له في شيء من ربوبيته أو إلهيته، فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا ... } 3 الآيات. وتضمن السياق بجانب ذلك ذكر جانب من معارضة المشركين لما نزل من الحق، وإيرادهم الشبهات للاستدلال لما هم عليه من الدين القائم على الشرك. فمن ذلك احتجاجهم على شركهم بمشيئة الله وإرادته الكونية

_ 1 سورة النحل آية (73) . 2 سورة النحل آية (74) . 3 سورة النحل الآيتان (75، 76) .

القدرية حيث قالوا ما حكاه الله عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلآ آبَآؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ البَلاَغُ المُبِينُ} 1. ومن ذلك تكذيبهم بالبعث: قال تعالى مبينا ذلك: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} 2. وقد عُلِم من حالهم - كما دلت عليه آيات متفرقة من سور القرآن الكريم - أنهم استعانوا في مجادلتهم الباطلة لإدحاض الحق، والاستدلال على ما هم عليه من الشرك والتكذيب والافتراء على الله، بضرب الأمثال، لإقامة الحجج الباطلة، والشبهات الخادعة. فمن ذلك أنهم ضربوا البنات مثلا له عندما زعموا أن الملائكة بنات الله قال تعالى:

_ 1 سورة النحل آية (35) . 2 سورة النحل آية (38) .

{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} 1. ومعلوم أن الولد صنو أبيه، يماثله في الذات والصفات، ولو كان لله ولد لكان مستحقا للعبادة. تعالى الله عن ذلك، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ} 2. فهُم بهذا الزعم الفاسد جعلوا لله مماثلا في الذات والصفات واستحقاق العبادة. وضربوا مثلا لإنكار البعث. قال الله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} 3. وضربوا عيسى بن مريم - عليه السلام - مثلا ليعارضوا به4 قول الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ

_ 1 سورة الزخرف آية (17) . 2 سورة الزخرف آية (81) . 3 سورة يس آية (78) . 4 انْظر: جامع البيان، لابن جرير، (11/202) .

كَانَ هَؤُلآءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} 1. قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} 2. وغير ذلك كثير، من الحجج والأمثال الباطلة، والمقايسات الخاطئة التي أوردوها مستدلين بها على ما هم عليه من الشرك والتكذيب، ومعارضين ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ... خلاصة دلالة السياق: وبناء على ما تقدم يمكن حصر دلالة السياق الذي ورد فيه النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى في سورة "النحل" فيما يلي: 1- بيان أن التوحيد باعتقاد تفرد الله بالألوهية، وإفراده بالعبادة، والكفر بالطاغوت، هو الغاية التي أنزل الله لأجلها كتبه، وأرسل رسله. وبين السياق أدلة التوحيد، وفضل أهله، وعاقبتهم الحميدة في الدنيا والآخرة.

_ 1 سورة الأنبياء الآيتان (98، 99) . 2 سورة الزخرف آية (57-59) .

2- ذم المشركين، وإبطال الشرك، وبيان سوء عاقبته في الدنيا والآخرة. 3- دلالة السياق على أن المشركين من كفار قريش وغيرهم، جعلوا لله مماثلا في الذات والصفة عندما زعموا أن الملائكة بنات الله. 4- دلالته على أنهم جعلوا لله مماثلا في ألوهيته، عندما اتخذوا من دونه شركاء يدعونهم ويعبدونهم، ويجعلون لهم نصيبا مما رزقهم الله. 5- ما عُلم من حالهم - كما دلت عليه آيات من سور أخرى - من استعانتهم بضرب الأمثال في معارضتهم لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وتسويغ ما هم عليه من الشرك. 6- نهي الله تعالى عن ضرب الأمثال السيئة له - سبحانه - من أي نوع كانت، سواء ما ضرب له من الأمثال في الذات والصفات، أو ما ضرب له من الأمثال في الألوهية واستحقاق العبادة، أو ما يضرب له من الأمثال في الربوبية والأفعال، أو ما يضرب من الأمثال القولية للمحاجّة والجدال، لمعارضة الحق، والتدليل على صحة الشرك. 7- بين السياق العلة من النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى، وأن ذلك لأمرين هامين: الأول: أن المشركين جاهلون بالله سبحانه وما له من الصفات،

وبحقه ودنيه. وكلّ ما ضربوه من الأمثال فهو جهل وضلال صادر عن الظن وهوى النفوس. قال تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} . الثاني: تفرده - سبحانه - بالمثَل الأعلى، والكمال المطلق، فهو سبحانه أحد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، فلا يوجد في حقيقة الحال من يكون مماثلا لله فيضرب مثلا له لا في ذاته وصفاته، ولا في ربوبيته وأفعاله، ولا في ألوهيته وحقه على عباده، ولا في علمه وشرعه وهديه. قال تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المثَل الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1. 8- بيان دلائل الحق على تفرده بالمثَل الأعلى، وأنه إله واحد لا شريك له في ألوهيته أو ربوبيته وصفاته، وذلك بالإكثار من ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله ومظاهر ربوبيته.

_ 1 سورة النحل آية (60) .

المبحث الثاني: المراد بالأمثال التي نهي عن ضربها لله عز وجل

المبحث الثاني: المراد بالأمثال التي نهي عن ضربها لله عز وجل. اختلف المفسرون في المراد بالأمثال التي نُهي عن ضربها لله تعالى، في قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} . وتبعا لذلك اختلفت أقوالهم في المراد بقوله تعالى في ختام الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، التي هي تعليل للنهي. وحاصل أقوالهم يرجع إلى قولين: أولاً: أن المراد بالأمثال جمع مِثْل. وهو المماثل، والمكافئ، والند والشريك، والنهي عن ضرب الأمثال، المراد به: النهي عن الشرك واتخاذ الأنداد. سواء في ذلك: أن يُجعل له أندادٌ مماثلون له في الذات أو الصفات. أو أن يُعتقد أن له أندادا يماثلونه في شيء من الربوبية والأفعال. أو أن يُتخذ معه أندادٌ يماثلونه في الألوهية واستحقاق العبادة. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في الآية: "يعني اتخاذهم الأصنام، يقول: لا تجعلوا معي إلها غيري، فإنه لا إله غيري"1. وقال قتادة - رحمه الله - في الآية:

_ 1 انْظر: جامع البيان، لابن جرير، (7/621) .

"فإنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد"1. وقال ابن جرير - رحمه الله -: "فلا تمثلوا له الأمثال، ولا تشبهوا له الأشباه، فإنه لا مثل له ولا شبه"2. واختار هذا المعنى كثير من المفسرين.3 وتقدم في دلالة السياق ما يدل على هذا المعنى. حيث إن السورة ناقشت قضية الشرك في عبادة الله، واعتقادهم أن الملائكة بنات الله ونحو ذلك. ويؤكد هذه الدلالة الآية التي قبل النهي عن ضرب الأمثال لله، والتي يعيب الله فيها على من يشرك في عبادته، حيث قال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} 4. ويكون معنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، على هذا القول:

_ 1 جامع البيان (7/621) . 2 المرجع السابق. 3 انْظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير، (2/578) ومعالم التنزيل للبغوي، (5/32) ، وأضواء البيان للشنقيطي، (3/296) وغيرهم. 4 سورة النحل الآيتان (73-74) .

إن الله يعلم حقيقة الأمر وأنه لا شريك له ولا ند ولا مثيل، ويعلم بطلان ما هم عليه وأنهم ليسوا على شيء، كما قال سبحانه في موضع آخر: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1. {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} : أي والمشركون لا يعرفون الله حق معرفته، لذلك أشركوا معه غيره وجعلوا له أنداداً وضربوا له أمثالا، وفعلهم هذا عن توهم فاسد، وخاطر باطل، وخيال مختل. كما أنهم لا يعلمون ما في عبادتهم من سوء العاقبة، والتعرض لعذاب الله.2 ثانياً: من قال إن المراد بها الأمثال القولية، التي تورد للتعريف بالله، التي تقوم على المقايسة والاستدلال بحال على حال.3 ويشهد لهذا المعنى ما يلي: 1- ما تقدم في دلالة السياق أنه معلوم من حال المشركين - الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم - أنهم عارضوا الدعوة واستدلوا على صحة الشرك بأمثال اخترعوها.

_ 1 سورة العنكبوت آية (42) . 2 فتح القدير للشوكاني، (3/179) . 3 انْظر: فتح القدير للشوكاني، (3/179) ، وروح المعاني للألوسي (14/195) ، والتفسير الكبير للرازي، (19/83) .

2- أن الله ضرب مثلين بعد النهي عن ضرب الأمثال له سبحانه، فهو - سبحانه - جاء بمثلين من الحق بعد أن نهاهم عن الأمثال الباطلة ففيه دلالة لمن قال: إن المراد من النهي هي الأمثال القولية التي تضرب للبيان أو المحاجة. واختلفوا في المراد بالنهي عن ضربها، وأشهر أقوالهم في ذلك قولان: (الأول) من قال إن الله نهى عن ضرب الأمثال له مطلقاً. وقالوا إن النهي معلل بعدم علم الناس، حيث قال: {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فمن ضرب لله مثلا فإنه يكون عن غير علم. قال الراغب الأصفهاني - رحمه الله -: "وقد منع الله تعالى عن ضرب الأمثال بقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} ثم نبه أنه قد يضرب لنفسه المثَل ولا يجوز أن نقتدي به"1. وقال أبو بكر بن العربي - رحمه الله -: "وقد ضرب الله الأمثال لنفسه على وجه بديع.... ولم يأذن لأحد من الخلق فيه، وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} "2.

_ 1 المفردات في غريب القرآن، (ص 462) . 2 أحكام القرآن، (3/1164) .

وعلل بعضهم النهي عن ضربها بأن ضربها لله يكون بمثابة تعليم الله بما له من الأوصاف أو الشركاء، أو ما ينبغي له من الدين.. وهذا باطل. "فإن ضرب المثَل إنما يستعمل من العالم لغير العالم، ليبين له ما خفي عنه، والله تعالى هو العالم وأنتم لا تعلمون. فتمثيل غير العالم للعالم عكس للحقيقة"1. فتكون على هذا بمعنى قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلآءِ شُفَعَآؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2. "فالعباد يحتاجون إلى ضرب الأمثال لمَّا خفيت عليهم الأشياء ... فأما من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فلا يحتاج إلى الأمثال، تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً"3. (الثاني) من قال: إن المراد النهي عن ضرب الأمثال الفاسدة التي تقتضي المساواة بين الله وخلقه، والتي تكون بغير علم. أما الأمثال التي لا

_ 1 انْظر: روح المعاني للألوسي، (14/194) . 2 سورة يونس آية (18) . 3 الأمثال من الكتاب والسنة، لمحمد بن علي الحكيم الترمذي، ت: مصطفى عبد القادر عطا، ص11.

تقتضي ذلك، وتكون من العلماء العالمين بالله وما يجوز وما لا يجوز له فإنها مشروعة. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -: "ولهذا قال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} المتضمنة للتسوية بينه وبين خلقه. {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فعلينا أن لا نقول عليه بلا علم"1 وهذا القول يدل على أن الأمثال القولية المضروبة لله تعالى منها ما هو ممنوع وما هو مشروع. فالممنوع هي: الأمثال التي يضربها الجاهلون، ويكونون بضربها بمثابة من يُعلم الله، أو لمعارضة دينه، أو لتصحيح الشرك واتخاذ الأنداد والأمثال له - سبحانه - المتضمنة للقياس الإبليسي المعارض للنص. أو القياس الفاسد كالقياس التمثيلي، أو القياس الشمولي في حق الله تعالى التي تقتضي مساواة الله بغيره من خلقه. أما المشروع ضربه من الأمثال القولية لله تعالى فهي: التي تصدر عن العالمين بالله، والتي لا تتضمن شيئا من المحذورات، وتؤدي إلى الاستدلال على إثبات ما أثبت الله لنفسه من الصفات، ونفي ما لا يليق به من النقص، والتي ضرب الله جنسها لنفسه في كتابه معلماً عباده كيف

_ 1 تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (4/221) .

يستدلون عليه. ويكون ذلك بالأمثال الجارية على قياس الأولى، التي لا تتضمن التسوية بين الله وبين خلقه في شيء من خصائصه، فهي جائزة في حق الله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ولهذا كانت طريقة الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - الاستدلال على الرب تعالى بذكر آياته. وإن استعملوا في ذلك (القياس) استعملوا قياس الأولى، لم يستعملوا قياس شمول تستوي أفراده، ولا قياس تمثيل محض، فإن الرب تعالى لا مثيل له، ولا يجتمع هو وغيره تحت كلي تستوي أفراده، بل ما ثبت لغيره من كمال لا نقص فيه، فثبوته له بطريق الأولى، ولهذا كانت الأقيسة العقلية البرهانية المذكورة في القرآن من هذا الباب. كما يذكره في دلائل ربوبيته وإلهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته، وإمكان المعاد إلى غير ذلك من المطالب العالية السنية، والمعالم الإلهية التي هي أشرف العلوم وأعظم ما تكمل به النفوس من المعارف"1. وقد اقتدى بعض أهل العلم الراسخين بالأنبياء في استعمال قياس

_ 1 مجموع الفتاوى، (9/141) .

الأولى في التعريف بالله عز وجل، وتأييد ما دل عليه الكتاب والسنة، منهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل - رحمه الله -. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وأحمد أشهر وأكثر كلاما في أصول الدين بالأدلة القطعية: نقلِها وعقلها من سائر الأئمة، لأنه ابتلي بمخالفي السنة، فاحتاج إلى ذلك. والموجود في كلامه، من الاحتجاج بالأدلة العقلية على ما يوافق السنة، لم يوجد مثله في كلام سائر الأئمة، ولكن قياس التمثيل في حق الله تعالى لم يسلكه أحمد، لم يسلك فيه إلا قياس الأولى، وهو الذي جاء به الكتاب والسنة، فإن الله لا يماثل غيره في شيء من الأشياء حتى يتساويا في حكم القياس، بل هو سبحانه أحق بكل حمد، وأبعد عن كل ذم، فما كان من صفات الكمال المحضة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فهو أحق به من كل ما سواه، وما كان من صفات النقص فهو أحق بتنزيهه عنه من كل ما سواه.... وكذلك أحمد سلك هذا المسلك ... مثل بيانه لإمكان كونه عالماً بجميع المخلوقات، مع كونه بائناً عن العالم فوق العرش، بقياسين عقليين: أحدهما أن الإنسان قد يكون معه قدح صاف فيرى ما فيه مع مباينته له، فالرب سبحانه قدرته على العالم ومباينته له، أعظم من قدرة هذا على ما في يديه، فلا تمتنع رؤيته لما فيه وإحاطته به مع مباينته له.

والقياس الثاني: من بنى داراً وخرج منها فهو يعلم ما فيها، لكونه فعلها، وإن لم يكن فيها. فالرب الذي خلق كل شيء وأبدعه، هو أحق بأن يعلم ما خلق، وهو اللطيف الخبير، وإن لم يكن حالاً في المخلوقات. والمقصود أن أحمد يستدل بالأدلة العقلية على المطالب الإلهية إذا كانت صحيحة، إنما يذم ما خالف الكتاب والسنة، أو الكلام بلا علم والكلام المبتدع في الدين"1. والقول بالتفريق في ضرب الأمثال بين الممنوع والمشروع، هو الصواب، لما تقدم من وجود أمثال مضروبة لله، جارية على قياس الأولى في القرآن الكريم، وأن ضربها من منهج الأنبياء، واستخدمها بعض أهل العلم الراسخين، فهي من الأمثال الصحيحة التي تؤيد ما ورد عن الله في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. تحرير المراد بالنهي عن ضرب الأمثال لله تعالى: مما تقدم تبين أن النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى يشمل أمرين: الأول: النهي عن اتخاذ الشركاء والأنداد، في الذات أو الصفات، أو الألوهية أو الربوبية ونحو ذلك مما تفرد به سبحانه. الثاني: النهي عن ضرب الأمثال القولية الفاسدة له سبحانه.

_ 1 درء تعارض العقل والنقل، ت: د. محمد رشاد سالم، (7/154، 155) .

والأمر الأول - النهي عن الشرك واتخاذ الأنداد واعتقاد مماثلة أحد من الخلق له سبحانه - هو المعنيُّ أصلا بالنهي عن ضرب الأمثال لله تعالى. وذلك أن أساس الرسالة قائم على الدعوة إلى توحيد الله، والتحذير من الشرك ومحاربته ووسائله. أما الأمثال القولية الفاسدة التي يضربها الجاهلون لله، فإنها داخلة في النهي تبعاً، لأنها من وسائل الشرك وأسبابه. فالنهي إذاً يشمل الأمرين. إلا أنه في اتخاذ الأمثال من الشركاء والأنداد أصلا، وفي ضرب الأمثال القولية تبعاً. والله أعلم. وخلاصة هذا المبحث: تبين مما تقدم أن الأمثال المنهي عن ضربها لله تعالى تشمل: اتخاذ الشركاء والأنداد، واعتقاد مماثلة أحد من الخلق لله في ذاته وأسمائه وصفاته، أو ألوهيته واستحقاق العبادة، أو ربوبيته وأفعاله. كما يشمل النهيُ الأمثال القولية الفاسدة التي يضربها لله المشركون الجاهلون بالله ومن في حكمهم في الجهل. وتبين أن الأمثال القولية المضروبة لله، منها ما هو ممنوع ومنها ما هو مشروع. فالممنوعة: هي الأمثال التي يضربها لله المشركون أو غيرهم من الجاهلين لمعارضة دين الله وتوحيده، أو لتصحيح الشرك، أو المتضمنة للتسوية بين الله وبين أحد من الخلق. ويدخل في ذلك الأمثال التمثيلية، والأمثال الشمولية.

والمشروع منها: التي تصدر عن العالمين بالله، ولا تتضمن التسوية بين الله وخلقه، أو معارضة الدين، وإنما تؤيد ما أثبت الله لنفسه من الصفات، وتنفي عنه ما لا يليق به من النقص والعيب. وهي الأمثال الجارية على قياس الأولى. والله أعلم.

المبحث الثالث: في أهم الفوائد المستفادة من النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى

المبحث الثالث: في أهم الفوائد المستفادة من النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى. لقد تضمن النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى في قوله: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ، فوائد هامة، منها: الفائدة الأولى: النهي عن الشرك في عبادة الله. الفائدة الثانية: النهي عن اتخاذ الأمثال لله، واعتقاد أن لله مماثلا في ذاته أو أسمائه وصفاته. الفائدة الثالثة: النهي عن ضرب الأمثال القولية القياسية الفاسدة لله تعالى. وإلى الكلام على هذه الفوائد بشيء من التفصيل. والله المستعان.

الفائدة الأولى: النهي عن الشرك في عبادة الله. إن مَنْ صرف شيئا من العبادة لغير الله، فقد جعل ذلك المعبود مع الله ندا له، مماثلا له في الألوهية واستحقاق العبادة. ويكون بذلك قد ضرب في حُكمِه واعتقاده لله مثلا، حيث جعل له مماثلا في الألوهية يُعبد كما يُعبد الله. فهو داخل في النهي عن ضرب الأمثال لله. وحقيقة العبادة أنها: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة: فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضى بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك، هي من العبادات لله. وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة لله والمرضية له، التي خلق

الخلق لها كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1. وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2، وكذلك قال هود، وصالح، وشعيب وغيرهم لقومهم. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ} 3. وقال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلآَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4") . 5 "فالدين كله داخل في العبادة"6. "وهذه العبادة متعلقة بإلهيته تعالى، ولهذا كان عنوان التوحيد لا إله

_ 1 سورة الذاريات آية (56) . 2 سورة الأعراف آية (59) . 3 سورة النحل آية (36) . 4 سورة الأنبياء آية (25) . 5 كتاب العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية، (ص4) ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1401 هـ. 6 المصدر السابق، (ص 5) .

إلا الله، بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبدهُ، أو يعبد معه إلها آخر. فالإله الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء، ونحو ذلك. وهذه العبادة هي التي يحبها الله ويرضاها، وبها وصف المصطفيْن من عباده، وبها بعث رسله"1. "والعبادة والطاعة والاستقامة، ولزوم الصراط المستقيم، ونحو ذلك من الأسماء، مقصودها واحد، ولها أصلان: أحدهما: أن لا يعبد إلا الله. والثاني: أن يعبده بما أمر وشرع، لا بغير ذلك من الأهواء والبدع"2. وحقيقة الشرك في العبادة: أن يؤمن بالله ويشرك معه غيره في ألوهيته، وذلك بأن يجعل لله ندا يعتقد أن له شيئا من الألوهية، أو يصرف له العبادة أو شيئا منها. قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 3. قال عكرمة - رحمه الله - في الآية:

_ 1 كتاب العبودية، (ص 8، 9) . 2 نفس المصدر، (ص 17) . وقد تقدم الكلام على شروط صحة العبادة، ص (541) وما بعدها. 3 سورة يوسف آية (106) .

"ولئن سألتهم من خلقهم وخلق السماوات والأرض ليقولن الله، فذلك إيمانهم، وهم يعبدون غيره"1. وحق الله تعالى على عباده أن يخلصوا له العبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه: "حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا"2. وصرف حق الله لغيره شرك، وظلم عظيم، كما قال تعالى حاكيا وصية لقمان - عليه السلام - لابنه: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3. فكل عبادة ثبتت لله فهي من حقه، لا يجوز أن تُصرف لغيره، أو أن يُشرَك فيها معه غيره. والشرك أعظم الذنوب وأقبحها. سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك "4.

_ 1 الجامع الصحيح للبخاري، كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} (13/491) . 2 تقدم تخريج الحديث ص (263) 3 سورة لقمان آية (13) . 4 متفق عليه، البخاري كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} ، (ح 4477) ، الصحيح مع الفتح، (8/163) . ومسلم: كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب، (ح 86) ، (1/90) .

وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " - ثلاثا، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين - وجلس وكان متكئا فقال -: ألا وقولُ الزور". قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.1 والشرك محبط للعمل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ} 2. وهو سبب للخلود في النار، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} 3. وضرب الأمثال لله بهذا المعنى - اتخاذ الشركاء لله في العبادة - هو من باب جعل الأنداد له سبحانه.

_ 1 متفق عليه واللفظ للبخاري، البخاري: كتاب الشهادات، باب: ما قيل في شهادة الزور (ح2654) ، الصحيح مع الفتح (5/261) . ومسلم: كتاب الإيمان، باب: بيان الكبائر، (ح 87) ، (1/91) . 2 سورة الزمر الآيتان (65، 66) . 3 سورة المائدة آية (72) .

وقد نهى الله عن ذلك وأنكر على مَنْ فعله أشد الإنكار. فأول أمر في المصحف هو الأمر بعبادة الله، وأول نهي هو النهي عن اتخاذ الأنداد مع الله سبحانه. قال الله تعالى: {يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. فأمر - سبحانه - بعبادته، ثم ذكر بعض آيات ربوبيته التي تستدل بها العقول على استحقاقه وحده للعبادة، ثم نهى عن أن يُجعل له أندادٌ تُصرَف لهم العبادة، ويُشرَكون معه فيها. قال ابن جرير - رحمه الله -: "فنهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئا، وأن يعبدوا معه غيره، أو يتخذوا له نداً وعِدْلاً في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم، ونِعَمِي التي أنعمتها عليكم، فكذلك فأفردوا لي الطاعة، وأخلصوا لي العبادة، ولا تجعلوا لي شريكا ونِدّاً مِن خلقي، فإنكم تعلمون أن كل نعمة عليكم فمني"2.

_ 1 سورة البقرة آية (21، 22) . 2 جامع البيان، (1/199) .

ومثل هذا الأسلوب ورد في موضع آخر من سورة (البقرة) ، في قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1. ثم ذكر أصول الآيات الدالة على ربوبيته الدالة على استحقاقه وحده للعبادة. بقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} 2 الآية. ثم عاب - سبحانه - على من خالف تلك الدلالة، واتخذ أنداداً من دون الله يحبهم كحب الله، ويصرف لهم العبادة. قَال ابن جرير - رحمه الله -: "وأما قوله {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، فإنه خبر منه تعالى ذكره أنه لا رب للعالمين غيره ولا يستوجب على العباد العبادة سواه، وأن كل ما سواه فهم خلقه، والواجب على جميعهم طاعته والانقياد لأمره، وترك عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، وهجر الأوثان والأصنام، لأن جميع ذلك خلقه، وعلى جميعهم الدينونة له بالوحدانية والألوهة، ولا تنبغي الألوهة إلا له، إذ كان ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه، دون ما يعبدونه من الأوثان ويشركون معه من الإشراك، وما يصيرون إليه من نعمة في الآخرة فمنه،

_ 1 سورة البقرة آية (163) . 2 سورة البقرة آية (164) .

وأن ما أشركوا معه من الإشراك لا يضر ولا ينفع في عاجل ولا في آجل، ولا في دنيا ولا في آخرة. وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره أهل الشرك به على ضلالهم، ودعاء منه لهم إلى الأوبة من كفرهم، والإنابة من شركهم. ثم عرفهم تعالى بذكره - بالآية التي تتلوها - موضعَ استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبههم عليه من توحيده وحججه الواضحة القاطعة عُذرَهم، فقال تعالى ذكره أيها المشركون، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر: من أن إلهكم إله واحد، دون ما تدَّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان، فتدبروا حججي وفكروا فيها، فإن من حججي خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها، وما بثثت فيها من كل دابة، والسحاب الذي سخرته بين السماء والأرض. فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به، إذا اجتمع جميعه فتظاهر أو انفرد بعضه دون بعض، يقدر على أن يخلق نظير شيء من خلقي الذي سميت لكم، فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذر، وإلا فلا عذر لكم في اتخاذ إله سواي، ولا إله لكم ولما تعبدون غيري. فليتدبر أولو الألباب إيجاز الله احتجاجه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده، في هذه الآية وفي التي بعدها، بأوجز كلام،

وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على معرفة فضل حكمة الله وبيانه"1. أهم صفات الإله الحق: لقد تضمن السياق الذي ورد فيه النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى من سورة (النحل) بيان أهم الصفات التي من اتصف بها كان مستحقا للعبادة، كما ذُكِرَت بقية الصفات في مواضع أخرى من القرآن. فالله - سبحانه - عندما نهى عن اتخاذ الأنداد، بين أن اتخاذ الإله المعبود ليس خاضعا لهوى النفوس، والظنون والأوهام، وإنما هو أمر عظيم حيث يجب أن يتصف الإله بصفات تؤهله لهذا الأمر؛ مَن توفرت فيه تلك الصفات فهو الإله الحق، ومن كان متجردا منها فإنه أقل وأحقر من أن تُصرف له العبادة، ويقصده الناس برغباتهم ورهباتهم. فبإدراك العبد لهذه الصفات تستشعر نفسه ذلك الفرق العظيم بين الإله الحق، وبين تلك الأنداد الباطلة التي سميت آلهة وهي لا تملك من الألوهية شيئا. {إِنْ هِيَ إِلآَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى} 2.

_ 1 جامع البيان، (2/64، 65) . 2 سورة النجم آية (23) .

وسأذكر أهم الصفات التي دل عليها السياق، متبعا ذلك بالآيات من السور الأخرى الدالة على نفس المعنى. أولاً: أن يكون خالقاً. قال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} 1. وقال - سبحانه -: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 2. "فهذه الآيات تبين أن الذي يستحق أن يُعبد هو من يخلق الخلق ويبرزهم من العدم إلى الوجود، أما غيره فهو مخلوق مربوب، محتاج إلى من يخلقه ويدبر شئونه"3. وذكر - سبحانه - أن عدم القدرة على الخلق دليل ظاهر على بطلان ألوهية تلك الآلهة التي زعمها المشركون، منكراً على مَنْ عبدها مع قيام هذه الحجة عليها، حيث قَال: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 4.

_ 1 سورة النحل آية (17) . 2 سورة النحل الآيتان (20، 21) . 3 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، (3/193) . 4 سورة الأعراف آية (191) .

وقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 1. ثانياً: أن يكون رباً مدبِّراً، قائما بنفسه، مقيما لغيره، مالكا للأمر، والرزق، والنفع والضر. إذ أن هذا هو المعنى الذي يريده العابد من المعبود، فالعابد يعبد رغبا ورهبا، يرغب في ما عند معبوده من الخير، ويرهب ما عنده من الضر. فبيّن سبحانه أن تلك الأمثال التي جعلت له أندادا وشركاء، إنما هي مخلوقة مُدبَّرة لا تملك لنفسها شيئاً فضلاً عن غيرها. بيّن أنهم مُدبَّرون بقوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 2، وقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 3 وقوله: {وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا} 4. وقد عاب الله تعالى على مَنْ يعبد مَنْ أمرُه بيد غيره، ولا يملك له رزقا ولا نفعا ولا ضرا فقال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً

_ 1 سورة الفرقان آية (3) . 2 جزء من عدة آيات منها الآيتان بعده، آية سورة الأعراف (191) ، والفرقان (3) . 3 سورة النحل آية (21) . 4 سورة الفرقان آية (3) .

وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} 1. "ويفهم من الآية الكريمة: أنه لا يصح أن يُعبد إلا من يرزق الخلق، لأن أكلهم رزقه، وعبادتهم غيره كفر ظاهر لكل عاقل"2. ومن الآيات الدالة على هذا المعنى قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} 3. وقد جمع الله هذه المعاني: من كون هذه الآلهة المزعومة لا تخلق شيئاً، وأنها مخلوقة مُدبَّرة، وأنها لا تملك لنفسها ولا لعابدها خيراً، في قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا} 4.

_ 1 سورة النحل الآيتان (73، 74) . 2 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، (3/294) . 3 سورة الأعراف آية (191-194) . 4 سورة الفرقان آية (3) .

والعباد كلهم بما فيهم الملائكة، والأنبياء والأولياء، وكافة الجن والإنس، لا يملكون شيئا من أمر الله الكوني، وهم مُدبَّرون عاجزون عن جلب النفع، ودفع الضر عن أنفسهم، وهم عن فعله لغيرهم أعجز. بين ذلك الله - تبارك وتعالى - في حال أفضل أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم ليدلل على أن غيره ممن هو مثله في الرسالة أو دونه من الأنبياء والأولياء والصالحين، أولى منه بالعجز عن أن يملك لنفسه ضرا ورشدا، فضلا عن أن يملكه لغيره ممن يدعوه. قَال تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلآ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لآ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلاَّ بَلاَغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} 1. وقد بين الله تعالى مظاهر ربوبيته، وأفعاله العظيمة في مواضع كثيرة من القرآن، ليدرك الناس عظم صفاته، والفرق العظيم بينه وبين غيره من الخلق، فيقدروه حق قدره، وتشمئز قلوبهم من أن يجعلوا له أمثالا وأندادا

_ 1 سورة الجن آية (18-23) .

من الخلق الذين لا يفعلون شيئا من ذلك. ثالثاً: من صفات المعبود الحق أنه حي لا يجري عليه الموت: أشار إلى هذه الصفة في السياق قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 1. ويؤيد هذا المعنى قول الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} 2. فدل على أن من يجري عليه الموت لا يصلح للألوهية والعبادة. وقد بين - سبحانه - أن كل حي سيهلك حاشاه سبحانه، قَال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. وهذه الآية جامعة للدلالة على هذه الفائدة: من بيان أن من صفات الإله الحق أن يكون حيا لا يجري عليه الموت. وذلك أن الله - تعالى - نهى عن اتخاذ الأنداد والشركاء في عبادته،

_ 1 سورة النحل آية (21) . 2 سورة الفرقان آية (58) . 3 سورة القصص آية (88) .

فقال: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} وبين علة ذلك النهي، وهي: تفرده بالألوهية: فقال: {لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} . ثم ذكر دليلا على ذلك، وهو كون كل من سواه سيموت ويهلك ولو كان إلها لما هلك، فقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} ، ثم ذكر دليلا آخر وهو تفرده بالحكم المتضمن لتدبير العباد، وتصريف أمورهم، وإماتة من شاء، وإحياء من شاء، وأنه سيرجع إليه العابد والمعبود، والمخلص والمشرك ويحكم بينهم بحكمه، فقال: {لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . رابعاً: أن الإله الحق متصف بالكمال والغنى المطلق. وأن النقص والعجز والحاجة علامات على عدم أهلية من قامت به للألوهية، وأن تُصرف له العبادة. دل على ذلك في السياق قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المثَل الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1. قَال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: "أي الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه"2.

_ 1 سورة النحل آية (60) . 2 تفسير القرآن العظيم، (2/572) .

وهذا المعنى كثير في القرآن الكريم، حيث يلفت الله عقول الناس إلى ما في تلك الآلهة المزعومة من نقص وعيب، وأنها مُدبَّرة، مقهورة عاجزة، مما يوجب للعقول السليمة القطع بعدم أهليتها لما زعم لها من الألوهية. والذين أُلهوا وعُبدوا مِن دون الله إما أن يكونوا من الأحياء كالملائكة والأنبياء والصالحين ونحوهم، وإما أن يكونوا من الجمادات؛ وكلا هذين الصنفين ورد له ما يناسبه من الآيات التي تبين ما فيه من النقص والعيب. فما ورد فيمن عُبِدَ مِن دون الله من الأنبياء، قوله تعالى في حق عيسى بن مريم - عليه السلام -: {مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} 1. قال ابن جرير - رحمه الله -: "خبر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمه أنهما كانا أهل حاجة إلى ما يغذوهما، وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب، كسائر البشر من بني آدم. فإن من كان كذلك غير كائن إلها، لأن المحتاج إلى الغذاء قوامه بغيره، وفي قوامه بغيره، وحاجته إلى ما يقيمه دليل واضح على عجزه،

_ 1 سورة المائدة آية (75) .

والعاجز لا يكون إلا مربوبا لا رباً"1. ومما ورد في حق من عُبِدَ مِن دون الله من الجمادات، قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلاَ تُنظِرُونِ} 2. فبين سبحانه أن في تلك الآلهة التي عبدها المشركون من الأوثان ونحوها نقصا ظاهرا، وهو أنها ليس لها أرجل ولا تستطيع المشي، وليس لها أيد، ولا تسمع ولا تبصر، وهذا يجعلها أنقص في الخلق من الذين يعبدونها، وكل عاقل يعلم أن توجه الإنسان لعبادة من هو أقل منه سفه وضلال. طبيعة جعل هذا الصنف الأنداد لله: هذا النوع من المشركين يقرون بربوبية الله، بأنه الخالق الرازق المدبر، إلا أنهم أشركوا معه في العبادة. قال ابن جرير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3.

_ 1 جامع البيان، (4/654) . 2 سورة الأعراف آية (194، 195) . 3 سورة البقرة آية (22) .

"ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر في كتابه عنها1 أنها كانت تقر بوحدانيته2، غير أنها تشرك في عبادته ما كانت تشرك منها. فقال جل ثناؤه: {وَلَئِنْ سَأَلتَْهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3، وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنْ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنْ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} 4. فالذي هو أولى بتأويل قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، إذ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانية الله، وأنه مبدع الخلق وخالقهم، ورازقهم نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين ... أن يكون تأويله ما قاله ابن عباس وقتادة، من أنه يعني بذلك كل مكلف، عالم بوحدانية الله، وأنه لا شريك له في خلقه، يشرك معه في عبادته غيره، كائنا من كان من الناس عربيا كان أو أعجميا، كاتبا كان أو أميا....."5.

_ 1 عن العرب كما تقدم في كلامه. 2 يعني توحيد الربوبية، كما بينه بعد ذلك بقوله: (عالم بوحدانية الله، وأنه لا شريك له في خلقه ... ) . 3 سورة الزخرف آية (87) . 4 سورة يونس آية (31) . 5 جامع البيان، (1/200) .

فهؤلاء المشركون لا يعبدون من ألَّهوه مع الله لاعتقادهم أنه خالق متصرف، يرزق ويجلب النفع ويدفع الضر، فهم يقرون أن ذلك بيد الله، وإنما عبدوهم ليتوسلوا ويستشفعوا بهم إلى الله تعالى. بين الله هذه الحقيقة من حالهم في سياق بدأه بالأمر بإخلاص العبادة له، حيث قال: {إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ} 1. ثم بيّن - سبحانه - طبيعة شرك هذا الصنف من المشركين من قريش وغيرهم من كفار العرب فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 2. ثم بيّن - سبحانه - أن زعمهم أن تلك الآلهة شفعاء لله ووسائط بينه وبين خلقه كذب وقول على الله بلا علم، وكفر، حيث قَال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 3.

_ 1 سورة الزمر الآيتان (2، 3) . 2 سورة الزمر آية (3) . 3 سورة الزمر آية (3) .

قَال ابن كثير - رحمه الله - في قوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} : "أي إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين- في زعمهم - فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمور الدنيا. فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به ... ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه. وجاءتهم الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - بردها والنهي عنها. والدعوة إلى إفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له. وأن ذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه، ولا رضيه. بل أبغضه ونهى عنه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} 1، {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلآَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2.

_ 1 سورة النحل آية (36) . 2 سورة الأنبياء آية (25) .

وأخبر أن الملائكة التي في السموات - من الملائكة المقربين وغيرهم - كلهم عبيد خاضعون لله. لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى؛ وليسوا كالأمراء عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبَوْه. {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالََ} 1، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً"2. وقال - سبحانه - مبينا هذا المعنى وأنهم إنما عبدوا تلك الآلهة ليستشفعوا بها إلى الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلآءِ شُفَعَآؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3. قَال ابن جرير - رحمه الله -: "يقول تعالى ذكره: ويعبد هؤلاء المشركون الذين وصفْتُ لك، يا محمد صفتهم، من دون الله، الذي لا يضرهم شيئاً ولا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها، {وَيَقُولُونَ

_ 1 سورة النحل آية (74) . 2 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (4/45) . 3 سورة يونس آية (18) .

هَؤُلآءِ شُفَعَآؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، يعني أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله. قَال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ} لهم: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} ، يقول: أتخبرون الله بما لايكون في السموات ولا في الأرض؟ وذلك أن الآلهة لاتشفع لهم عند الله في السموات ولا في الأرض. وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله. فقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: قل لهم: أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السموات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما؟ وذلك باطل ... بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون، وأنها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضر، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، يقول: تنزيها لله وعُلُواً عما يفعله هؤلاء المشركون، من إشراكهم في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، وافترائهم عليه الكذب"1. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: " {وَيَقُولُونَ} قولاً خالياً من البرهان: {هَؤُلآءِ شُفَعَآؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} أي: يعبدونهم، ليقربوهم إلى الله، ويشفعوا لهم عنده. وهذا قول من تلقاء أنفسهم، وكلام ابتكروه هم، ولهذا قَال تعالى

_ 1 جامع البيان، (6/542) .

- مبطلا لهذا القول -: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} أي الله تعالى هو العالم، الذي أحاط علما بجميع ما في السموات والأرض، وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ولا إله معه. أفأنتم - يا معشر المشركين - تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟ أفتخبرونه بأمر خفي عليه، وعلمتموه؟ أأنتم أعلم أم الله؟ فهل يوجد قول أبطل من هذا القول، المتضمن أن هؤلاء الضُّلاّل الجهال السفهاء، أعلم من رب العالمين؟ "1. وهذا التعليم الرباني للنبي صلى الله عليه وسلم المستفاد من قوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْض} ، يُقال لكل مَن زعم وسيلة أو شفيعا يقصده بالدعاء والقربات ليشفع له عند الله، كالذين يقصدون الأنبياء والأولياء ونحوهم من الأحياء أو الأموات، فيقال لهم: هاتوا برهانكم على ذلك من آية محكمة، أو حديث صحيح. فإذا لم يأتوا بذلك، ولن يأتوا به، فإن حالهم كالذي يخبر اللهَ بما له من الشركاء والأنداد، وما يجوز في دينه، وما هو كائن في ملكه مما لا يعلمه. وهذا باطل ومنكر، أنكره الله بقوله:

_ 1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (3/337) .

{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} . وزعمهم بأن لله شفعاء ووسطاء من الافتراء والكذب على الله، لذلك قَال سبحانه في الآية التي قبلها: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المُجْرِمُونَ} 1. وزعمهم هذا تولد من ظنون سيئة قامت في أنفسهم، لا تفيدهم ولا تغني عنهم شيئا، لذلك قال الله تعالى في نفس السورة: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} 2.

_ 1 سورة يونس آية (17) . 2 سورة يونس آية (36) .

وقوع هذا الشرك في المنتسبين للإسلام: على الرغم من أن الله تعالى نهى عن ضرب الأمثال، واتخاذ الشركاء والأنداد له. وبين تفرده بالألوهية، واستحقاقه وحده للعبادة، مع بيان لحقيقة العبادة وأنواعها، وبيان لطبيعة الشرك وخطره، وإيضاح لحال الملائكة والجن، وصالحي الإنس، وأنهم عبيد لا يملكون شيئا من الألوهية، ولا يستحقون شيئا من العبادة، وأن غيرهم من الجمادات أولى بأن لا يكون لهم شيء من ذلك، وبيانه سبحانه للصفات التي من اتصف بها كان إلها حقا، مستحقا للعبادة، ودلائل تفرده بها، ولفته أنظار العقول إلى عجز غير الله، وحاجته وافتقاره، وغير ذلك من صفات النقص التي تدل على عدم صلاحيته للألوهية، وأن يقصد للعبادة، ويتوكل عليه. ومع ورود بيان هذه الأمور بوضوح تام، وتصريف القول في ذلك بمختلف الأساليب، مع ذلك كله، نجح شياطين الإنس والجن في صرف فئام ممن ينتسب إلى الإسلام عن التوحيد أساس الحنيفية، إلى الشرك والوثنية مع تلفظهم بالشهادتين، وإظهارهم الإسلام. وأعظم مظاهر الشرك في عبادة الله، ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية من تعظيم الصالحين، والفتنة بقبورهم الذي أدى إلى تأليههم واتخاذهم أربابا، وصرف أنواع العبادة لهم. وممن كتب عن هذا الداء الخطير الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه المبارك: "إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان" مبيناً المظاهر الشركية

التي نتجت عن الغلو في الأنبياء والصالحين، والفتنة بقبورهم. أنقل منه ما أرى أنه يفي بالغرض من بيان وقوع ما نهى الله عنه من ضرب الأمثال واتخاذ الشركاء والأنداد له في العبادة ممن ينتسب إلى الإسلام. قَال - رحمه الله -: "ومِن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا إلا من لم يرد الله فتنته: ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور حتى آل الأمر فيها إلى أن عُبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم، واتُخذت أوثانا، وبُنيت عليها الهياكل، وصُوِّرت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل، ثم جعلت أصناما، وعُبدت مع الله. وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح، كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه، حيث يقول: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} 1".2 ثم ذكر ما نقله ابن جرير - رحمه الله - عن بعض السلف3 من:

_ 1 سورة نوح آية (21-24) . 2 إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان، لابن القيم، (1/286) المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1407 هـ. 3 أورده بسنده عن محمد بن قيس. انْظر: جامع البيان، (12/254) .

"أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم. وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقَون المطر، فعبدوهم"1. وقال: "فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل. وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته ... "2. ثم ذكر الحديث، ونصه كما في بعض الروايات عند الإمام مسلم - رحمه الله -: "ذكرن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كنيسة بأرض الحبشة يقال لها مارية. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة"3.

_ 1 إغاثة اللهفان (1/286) . وروى البخاري نحوه عن ابن عباس- رضي الله عنهما - انْظر: الجامع الصحيح، كتاب التفسير، (ح4920) ، مع الفتح (8/667) . 2 نفس المصدر، (1/287) . 3 متفق عليه، واللفظ لمسلم. البخاري، كتاب الجنائز، باب بناء المسجد على القبر (ح1341) الصحيح مع الفتح (3/208) ، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور ... ، (ح 528) ، (1/376) .

وقال: "قال شيخنا1: وهذه العلة - التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور - هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك. فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم للكواكب ونحو ذلك. فإن الشرك بقبر الرجل الذي يُعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا نجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السحر. ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد"2. ثم بيّن - رحمه الله - أن مما لَبَس الشيطان به على المشركين ممن ينتسب إلى دين الإسلام، اتخاذ القبور عيدا، مشابهة للمشركين قبل الإسلام.3 ثم بين ما يجري في تلك الأعياد من المفاسد العظيمة، فقال: "ثم إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كلّ مَن في قلبه وقار، وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك ...

_ 1 هو شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - رحمه الله -. 2 إغاثة اللهفان، (1/288) . 3 نفس المرجع، (1/298-300) .

فمن مفاسد اتخاذها أعيادا: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفان، وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عبَّاد الأوثان يسألونها أوثانهم. فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا، وقد نزلوا عن الأكوار1 والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلا من الميت ورضواناً، وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسراناً، فلغير الله، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويُطلب من الميت من الحاجات ويُسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام،

_ 1 جمع كور، وهو الرّحل، وقيل: الرحل بأداته. وهو للناقة كالسرج وآلته للفرس. انظر: لسان العرب (5/154) .

الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ 1 ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله مِن خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين. فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضا ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً وحظا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولو بحجك كل عام"2. هذا ما كان على عهد ابن القيم - رحمه الله - في القرن الثامن الهجري، أما في هذا الزمان، فقد استفحل الأمر واستقر على غير ما يرضي الله، حيث اختارت كل طريقة وليا لها فعلوا عند قبره من جنس ما ذكره ابن القيم، وتميزوا باسم لطريقتهم. وجعلوا لها - مما ابتدعوه - أعمالا وأذكارا تخصهم، ومناسك لحج مشاهدهم. وألفوا الكتب لبيان

_ 1 إذا ورد الاستفهام بهل رأيت؟ ونحوها في أثناء الوصف، فإنما يراد به التمثيل والتشبيه، وتقدير الكلام: هل رأيت كذا وكذا؟ فهم كذلك. 2 إغاثة اللهفان، (1/304، 305) .

طريقتهم، وفضائلها. وقامت لكل طريقة مدارس وعلماء ومراكز، وانتسب إليها خلق كثير من الناس. وأصبح الدين لا يعرف إلا بها عند من ابتلي بها - إلا من رحم الله -. وأكثر تلك الطرق تشترك في الزعم بأن الأولياء أرباب يدبرون، وآلهة يعبدون، واختراع القصص والشبهات لترسيخ ذلك عند الناس، والدعوة إلى قصد قبورهم ومشاهدهم للعكوف عندها، وعبادتهم، ودعائهم والاستغاثة بهم، وذكر الفضائل لذلك. كما تشترك تلك الطرق بالتعبد لله بالبدع والمحرمات، ونحو ذلك من الأعمال الشركية، والأحوال الخرافية. فبعدت الشقة كثيرا بينهم وبين هدي النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح، ومع ذلك فهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ويعادون دعاة التوحيد والسنة، الذين ينصحون الأمة أفرادا وجماعات إلى الرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح. قَال ابن القيم - رحمه الله -: "ومن أعظم كيد الشيطان: أنه ينصب لأهل الشرك قَبْرَ مُعظّم يعظمه الناس، ثم يجعله وثناً يُعبد من دون الله، ثم يُوحي إلى أوليائه: أن من نهى عن عبادته، واتخاذه عيداً، وجعله وثناً فقدْ تَنَقَّصَه، وهضم حقه، فيسعى الجاهلون المشركون في قتله وعقوبته ويكفّرونه. وذنبه عند أهل الشرك: أمره بما أمر الله به ورسوله، ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله: من

جعله وثناً وعيداً، وإيقاد السرج عليه، وبناء المساجد والقباب عليه وتجصيصه، وإشادته وتقبيله، واستلامه، ودعائه، أو الدعاء به، أو السفر إليه، أو الاستعانة به من دون الله، مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله: من تجريد التوحيد به، وأن لا يُعبد إلا الله. فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، وقالوا: قد تنقص أهل الرتب العالية. وزعم أنهم لا حرمة لهم، ولا قدر. وسرى ذلك في نفوس الجهال والطغام، وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين، حتى عادَوْا أهل التوحيد، ورَمَوْهم بالعظائم، ونفّروا الناس عنهم. ووالَوْا أهل الشرك وعظموهم. وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله. ويأبى الله ذلك فما كانوا أولياءه، إنْ أولياؤه إلا المتبعون له الموافقون له، العارفون بما جاء به، الداعون إليه، لا المتشبعون بما لم يعطوا، لابسو ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم، ويبغونها عوجا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"1. أسباب الشرك في عبادة الله: إن ضرب الأمثال لله باتخاذ الشركاء والأنداد له بالعبادة، له أسباب متعددة، من أهمها:

_ 1 إغاثة اللهفان، (1/330) .

ما تقدمت الإشارة إليه في كلام ابن القيم - رحمه الله - من الغلو في الصالحين وتعظيمهم، وجعل الصور لهم، والبناء على قبورهم واتخاذها مساجد، مما أدى إلى عبادتهم، بقصد التقرب بهم إلى الله، ثم نسبوا إليهم التدبير، واتخذوهم أرباباً يستغيثون بهم، ويتوكلون عليهم، وهذا النوع كان به ابتداء الشرك كما حصل من قوم نوح، ولا يزال هو الأخطر في استمالة قلوب الجهال إلى الإشراك بالله. ومن ذلك جهود شياطين الإنس والجن في التلبيس على الجهال بنشر الشبهات، وضرب الأمثال القائمة على المقايسات الفاسدة، لتسويغ الشرك، والاستدلال له. وإدخاله تحت أسماء إسلامية من باب لَبْس الحق بالباطل. وهذا السبب جعل كثيراً من المنتسبين إلى العلم والعبادة من المتصوفة ونحوهم يقبلونه، ويتعبدون لله به، فانخدع بهم العامة، لما يرون عليهم من سيما العلماء والعباد. وسيأتي الكلام على هذا المعنى في الفائدة القادمة. ومن أسباب الشرك ما ذكره ابن القيم - رحمه الله - بعد أن مهد لذلك بسؤال، فقال:"فإن قيل: فما الذي أوقع عبّاد القبور في الافتتان بها، مع العلم بأن ساكنيها أموات، لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟ قيل: أوقعهم في ذلك أمور:

منها: الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل: من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك، فقل نصيبهم جدا من ذلك، ودعاهم الشيطان إلى الفتنة، ولم يكن عندهم من العلم ما يبطل دعوته، واستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا بقدر ما معهم من العلم. ومنها: أحاديث مكذوبة مختلقة، وضعها أشباه عبّاد الأصنام: من المقابرية، على رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض دينه، وما جاء به كحديث "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نَفَعَه"، وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام، وضعَها المشركون، وراجت على أشباههم من الجهال والضلال.... ومنها: حكايات حُكيت لهم عن تلك القبور: أن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلان دعاه أو دعا به في حاجة، فقُضيت له، وفلان نزل به ضُر فاستوحى صاحب ذلك القبر، فكشف ضره. وعند السدنة والمقابرية من ذلك شيء يطول ذكره، وهم من أكذب خلق الله على الأحياء والأموات"1. وخلاصة هذه الفائدة: أن النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى، في قوله تعالى {فَلاَ تَضْرِبُوا

_ 1 إغاثة اللهفان، (1/323، 333) .

لِلَّهِ الأَمْثَالَ} المراد به: النهي عن اتخاذ الشركاء، والأنداد معه - سبحانه - في العبادة، الذين يصرف لهم مثل ما لله من العبادة، فيُدعَوْن ويُعبدون بقصد الاستشفاع والتقرب بهم إلى الله تعالى. وذلك هو أصل الشرك وحقيقته. ويستوي في ذلك الأصنام والأوثان الجامدة، والأحياء من الملائكة والأنبياء والأولياء والجن وغيرهم. ودل السياق - الذي ورد فيه النهي عن ضرب الأمثال لله في سورة النحل على الصفات التي من توفرت فيه كان إلهاً مستحقاً للعبادة، ومن خلا منها فهو غير جدير بها أياً كان نوعه أو قربه من الله. وأهم تلك الصفات، هي: 1- أن يكون قادراً على الخلق. 2- أن يكون رباً مدبراً قائماً بنفسه مقيماً لغيره، مالكاً للأمر، والرزق والنفع والضر. 3- أن يكون حياً لا يجري عليه الموت. 4- أن يكون متصفا بالكمال والغنى المطلق. وأن من اتصف بأضداد تلك الصفات فذلك علامة على عدم صلاحيته للألوهية والعبادة. كما تبين أن هذا النوع من ضرب الأمثال لله باتخاذ الشركاء لله في العبادة، قد وقع عند كثير ممن ينتسب إلى الإسلام قديماً وحديثاً، ونجح

الشيطان في اجتيالهم إليه. وصرفهم عن حق الله تعالى وإفراده بالعبادة. وتمثل ذلك: في عبّاد القبور والأولياء من جهال المتصوفة وغيرهم، ممن يقصدون المشاهد والقبور الطاغوتية في أعيادها وغيرها فيعبدونها، ويتقربون بالمقبور فيها إلى الله زلفى، كما كان مشركو العرب يفعلونه عند أصنامهم. كما تطرق الكلام في هذه الفائدة إلى أهم الأسباب التي أوقعت كثيرا من الناس في هذا النوع من الشرك، وهي: 1- الغلو في الصالحين، وتعظيمهم، واتخاذ الصور والتماثيل لهم، واتخاذ قبورهم مساجد، والبناء عليها، ونحو ذلك. 2- جهود شياطين الإنس والجن في نشر الشبهات، وضرب الأمثال القائمة على الأقيسة الفاسدة، للاستدلال على الشرك، والتغرير بالجهال. 3- الجهل بحقيقة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الدعوة للتوحيد، والكفر بالطاغوت، وقطع أسباب الشرك. 4- الأحاديث المكذوبة التي يضعها دعاة الشرك. 5- الحكايات والقصص التي ينشرها سدنة الطاغوت، من القائمين على القبور وغيرهم التي تنسب كشف الضر وجلب النفع إلى الأولياء الأحياء منهم والأموات، وتعلق قلوب الجهال بهم. وغير ذلك من الأسباب.

الفائدة الثانية: النهي عن اتخاذ الأمثال لله، باعتقاد أن أحداً يماثل الله في ذاته أو أسمائه وصفاته. والفرق بين هذا النوع من اتخاذ الأمثال والنوع الذي تقدم في الفائدة الأولى، أن أهل هذا النوع يزعمون أن لله نداً مماثلاً في الذات أو الصفات والأفعال. أما المشركون في النوع الأول فقد جعلوا له أنداداً في الألوهية دون اعتقاد مماثلة الله في الصفات أو الربوبية والأفعال. وقد بين بعض المفسرين أن النهي عن ضرب الأمثال لله عز وجل يشمل اتخاذ هذا النوع من الأنداد لله تعالى، فقال عند تفسيره لقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} : "نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة خلقه أن يضربوا له الأمثال، أي يجعلوا له أشباها ونظراء من خلقه - سبحانه وتعالى - عن ذلك علوا كبيرا. وبين هذا في غير هذا الموضع، كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 2"3

_ 1 سورة الشورى آية (11) . 2 سورة الإخلاص آية (4) . 3 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، (3/296) .

وتقدم1 في دلالة السياق أنه دل على أن المشركين من كفار قريش وغيرهم جعلوا لله مماثلا في الذات والصفة عندما زعموا أن الملائكة بنات الله. وهذا النوع من الإلحاد والشرك قديم في الناس. ويدخل فيه أنواع كثيرة، منها: كل من نسب لله - سبحانه - ولدا أو صاحبة، فهو جاعل لله ندا مكافئاً بالذات والصفات، كالنصارى الذين قَال الله فيهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوآ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلآَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2 وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوآ إِنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 3. ومثلهم من زعم أن الملائكة بنات الله. قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} 4.

_ 1 انْظر: ص: (766) وما بعدها. 2 سورة المائدة آية (73) . 3 سورة المائدة الآية (17، 72) . 4 سورة مريم آية (88-92) .

وقال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 1. ومن هذا النوع مَنْ زَعَم وجود إلهين، كما تزعم المجوس وجود إله هو النور يخلق الخير، وإله هو الظلمة يخلق الشر. قَال الله تعالى في نفس السورة: {وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوآ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 2. ومن هذا الصنف: المشبهة الذي يشبهون صفات الخالق - تبارك وتعالى - بصفات المخلوق، ويزعمون أن حقيقة صفاته كصفات الإنسان، تعالى الله عن ذلك. ومثلهم الذين يشبهون أحدا من المخلوقين بالخالق - سبحانه - كالقائلين بالحلول، وأن الله تعالى يحل ويتجلى في بعض خلقه، والقائلين بوحدة الوجود الذين يزعمون أن الله هو عين الأشياء - تعالى الله عن قول المبطلين علواً كبيراً. ومن هذا النوع: اعتقاد أن أحدا من الخلق من نبي أو ولي أو جن أو

_ 1 سورة الأنبياء آية (25-27) . 2 سورة النحل آية (51) .

كوكب، أو غيره له شيء من التدبير والتصرف في الكون أو في شيء من المخلوقات، فقد جعل لله ندا مساويا له في أفعاله - سبحانه - التي دلت عليها أسماؤه وصفاته الفعلية. بيان أن هذا الشرك يؤدي إلى الشرك في الألوهية: إن المتقرر في دلالة العقول أن المساواة في الذات والصفات تعني المساواة في الاستحقاق العام والأحكام. فكل من أثبت مشابها ونظيرا لله في ذاته أو شيء من صفاته وأفعاله، فقد جعل له شيئا من الألوهية، وأوجب له العبادة تعالى الله عن ذلك. وعلى هذه القاعدة جاء قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ} 1. ومعنى الآية: "قل يا محمد إن ثبت لله ولد، فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته. ولكنه يستحيل أن يكون له ولد. وفيه نفي للولد على أبلغ وجه، وأتم عبارة، وأحسن أسلوب. وهذا هو الظاهر من النظم القرآني ... ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره: إن ثبت ما تقول بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به"2.

_ 1 سورة الزخرف آية (81) . 2 فتح القدير للشوكاني، (4/566) .

فهذا النوع من الإلحاد - باعتقاد الأنداد لله المماثلين له بالذات أو شيء من الصفات - يؤدي إلى جعلهم أندادا له في الألوهية، وشركاء في العبادة. ولهذا الاعتبار - وهو اقتناع الكثير من الناس أنه لا يعبد إلا من كانت له الربوبية، أو شيء منها، ويملك النفع، ودفع الضر لعابديه- لجأ شياطين الجن والإنس إلى الافتراء على الله، زاعمين أن بعض الخلق لهم تصرف في الكون، وأنهم خلفاء عن الله في تدبير ملكه وعباده، وأن بعض الأولياء هم مظهر صفات الله الأزلية، أو نور من نور ذاته، وأنهم ينفعون من شاؤوا ممن يتقرب إليهم ويعبدهم، ويضرون من شاؤوا، وأنهم يعلمون الغيب. وأن النجوم أرواح فعالة لها تأثير على الأرض ومن فيها؛ وغير ذلك من الأباطيل التي نسجوا لها القصص، وزخرفوها بالشبهات، ليغرروا بها الجهال. قَال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} ... إلى قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ

هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} 1. وهذه المزاعم الباطلة والشبهات المزخرفة هي التي اجتالت كثيرا ممن ينتسب إلى الإسلام وغيرهم إلى الشرك وعبادة غير الله. إبطال الله مزاعم المشركين: وهذه القضية لم يبلغها كفار العرب الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الله يعلم ما سيحدثه المجرمون من شياطين الإنس والجن من ذلك؛ فضمن كتابه إبطال تلك المزاعم من أساسها. فبيّن - سبحانه - أمور أساسية مَن تفرد بها كان متفرداً بالربوبية. فأول هذه الأمور: أن ملك الكون بيده وحده. وثانيها: أنه الخالق وحده. وثالثها: أن الأمر الكوني - قوله للشيء كن فيكون - له وحده. وبالخلق والأمر يتم تدبير الملك وتصريف شئون الكون وما فيه. وإذا كان مالكاً لهذه الأمور وحده، وأن غيره ليس له شيء منها، استقام تبعا لذلك تفرده بالألوهية واستحقاق العبادة. وبيّن - سبحانه - تفرده بهذه الأمور بأساليب مختلفة أذكر بعضها فيما يلي:

_ 1 سورة الأنعام آية (112-116) .

أدلة تفرد الله بالملك: قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. دل على تفرده بالملك تقديم ما حقه التأخير، حيث قدم الجار والمجرور {بِيَدِهِ} ليفيد اختصاصه بالملك. وقال تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 2. دل على اختصاصه بالملك - سبحانه - تقديم ما حقه التأخير {لَهُ} وهذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ} 3. ثم أتبعها سبحانه بإقرارهم بتفرده بالخلق في قوله: {وَلَئِنْ سَألتَْهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 4 فهذه ثلاثة أدلة

_ 1 سورة الملك آية (1) . 2 سورة الزخرف آية (85) . 3 سورة الزخرف آية (81) . 4 سورة الزخرف آية (87) .

على بطلان ألوهية غير الله، وإثبات تفرد الله بها: (الأول) أن الله - تعالى - ليس له ولد. (الثاني) أنه متفرد بالملك. (الثالث) أنه متفرد بالخلق. وقد جمع الله بين هذه الأمور التي تدل على ربوبية من اتصف بها، واستحقاقه وحده للعبادة المستلزمة أن من خلا منها ليس له شيء من الربوبية، فلا يستحق أن يُعبد. فهي قاطعة لمادة الشرك، لذلك عاب الله من يعبد من لا يتصف بهذه الأوصاف وليس له شيء من الربوبية، ورد هذا في قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا} 1. لذلك قال: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2: أي كيف يُصرَفون عن الاعتبار بهذه

_ 1 سورة الفرقان آية (2-3) . 2 سورة الزخرف آية (87) .

الأدلة المانعة للشرك في عبادة الله، الموجبة له العبادة وحده لتفرده بالملك والخلق والربوبية. ومن أدلة تفرده سبحانه بالملك قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. دل على تفرده بالملك تقديم ما حقه التأخير {لِلَّهِ} . ومن ذلك قوله تعالى: {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} 2، دل على تفرده بالملك نفي الشريك. ومن ذلك أنه سبحانه نفى أن يكون لأحد ممن زعم أنه إله أو يستحق أن يعبد شيء من الملك فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ... 3

_ 1 سورة المائدة آية (120) . 2 سورة الإسراء آية (111) . 3 سورة سبأ آية (22-23) .

أما قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَآءُ} 1 وقوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَآءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ} 2 فالمراد ملك الدنيا من الرئاسة والزعامة على بعض البلاد والعباد، وليس المراد ملك التصرف وتدبير الكون، ويدل على ذلك سياق آية سورة البقرة حيث قال سبحانه: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوآ أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ المَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 3. وبهذا تستقر الخطوة الأولى في قطع الطريق على من يزعم أن الله أعطى ملك التصرف في الكون لأحد من الخلق، بإثبات تفرده بالملك بأساليب كثيرة متنوعة قاطعة، وأنه لا يشرك في ملكه أحدا، وأن كل من عُبد من دونه فهو لا يملك من ملك الله شيئا، فليس له شيء من الربوبية، فلا يستحق شيئا من العبادة.

_ 1 سورة البقرة آية (247) . 2 سورة آل عمران آية (26) . 3 سورة البقرة آية (247) .

أدلة تفرد الله بالخلق والأمر: إن هاتين الصفتين لله تعالى هما أهم خصائص الربوبية، فمن كان خالقا، يوجد من العدم، ويبرأ الخلق، ويصرف شؤون الكون، وكان مالكا للأمر الكوني، يقول للشيء كن فيكون كما شاء، فهو الرب الحق، المستحق للعبادة. فالتدبير وتصريف أمور الكون والعباد يجري بأمر الله وخلقه، لذا جمع الله بينهما في نحو قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1. فذكر سبحانه تفرده بالخلق والأمر، وذكر ربوبيته للعالمين، ليدل على أنه يرب العالمين ويدبرهم بأمره وخلقه. كما جمع - تعالى - بين الخلق والأمر والتدبير في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنْ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنْ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 2.

_ 1 سورة الأعراف آية (54) . 2 سورة يونس الآيتان (31-32) .

وفي قوله: {فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الحَقُّ} ، بيان لهذا المعنى، من أن من كان الملك بيده، وهو الخالق الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وتدبير الأمر له وحده، فهو الرب حقا. ومن ليس له ذلك فغير كائن رباً بل مربوباً. وكل أفعال الله تعالى التي يرب بها العالمين، ويصرف بها شؤون الخلق أجمعين راجعة إلى هاتين الصفتين: يأمر بما أراد من ذلك، ويخلقه كما أراد؛ وأمره وخلقه هو تدبيره للأمر. وعلى هذا فليس غريبا أن يأتي بيان تفرد الله بالخلق والأمر كثيرا في القرآن الكريم، وبمختلف الأساليب الدالة عليه، إذ أن مَن مَلَكَ شيئاً منها كان له حظ من الربوبية، واستحق لذلك العبادة. لذا جاء البيان قوياً وحاسماً بشتى صروف القول، التي تختلف في أسلوبها وتتفق في دلالتها على تفرد الله بالخلق والأمر، وبذلك يكون هو الرب وحده، والإله المعبود وحده. أدلة تفرد الله بالخلق: قال الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 1 دل على تفرد الله بالخلق لفظ {كُلِّ} فكل شيء

_ 1 سورة الأنعام آية (102) .

مخلوق فالله خالقه، فما بقي شيء لغير الله يخلقه. وهذه الآية وردت في سياق ذكر الله فيه أن المشركين ضربوا له هذا النوع من الأمثال: حيث جعلوا له شركاء الجن، وزعموا أن له بنين وبنات، وردّ الله هذه المزاعم بتنزيه نفسه عن ذلك، وبيان أن كل من سواه فهو مخلوق وهو خالقه، بما في ذلك من زعموا أنه شريك أو ابن له، فهو متفرد بالخلق، والتدبير، فهو إذاً الرب حقاً. وهو المستحق للعبادة وحده. قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 1. ومن أدلة تفرده بالخلق قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} 2 دل على تفرده بالخلق لفظ "جميع" الذي يعم كل ما في الأرض.

_ 1 سورة الأنعام آية (100-102) 2 سورة البقرة آية (29) .

ومن ذلك قوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} 1. دل على التفرد أسلوب التحدي المتضمن لنفي أن يكون أحد ممن عبد من دون الله خالقاً لشيء، وتعجيز من يعبدهم، أن يثبت خلاف ذلك. ومن الأساليب الدالة على تفرد الله بالخلق ما تقدم في قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} حيث دل على التفرد تقديم ما حقه التأخير {لَهُ} . ومن ذلك قوله تعالى: {يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 2 دل على تفرد الله بالخلق: الاستفهام الإنكاري الذي يفيد نفي وجود خالق غير الله يرزق العباد، وهذه القضية مسلّمة عند المخاطب، فالاستفهام هو بداية الحجة من أمر يسلم به الطرفان. فإقرار المخاطب بتفرد الله بالخلق والرزق يلزمه بإفراده بالألوهية وعبادته وحده، لذلك قَال في ختام الآية: {لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ

_ 1 سورة لقمان آية (11) . 2 سورة فاطر آية (3) .

فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} . ومن أدلة تفرد الله بالخلق ما ورد من نفي القدرة على الخلق عن من أُلِّه أو عبد من دون الله. كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 1. وقوله: {يَآ أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ} 2. وهذا الخبر في قوله {لَنْ يَخْلُقُوا} يتضمن التحدي، لأنه يفيد عدم قدرتهم في وقت مخاطبتهم به، وبعده طالما يوجد من يزعم أو يُزعَم له أنه رب أو إله. وهو معجزة دالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا القرآن من عند الله، وذلك أن تحقق موجب هذا الخبر واتضاح عجزهم شاهد على ذلك. ولذلك سمى الله هذا الخبر مثلاً، حيث نصبه للعقول لتستدل به على

_ 1 سورة النحل آية (20) . 2 سورة الحج آية (73) .

تفرد الله بالخلق، واستحقاقه للعبادة، وعلى ضعف تلك الآلهة المزعومة، وعجزها عن الخلق، وعدم صلاحيتها للألوهية، وتستدل به على صدق الرسالة، وأن القرآن حق من عند الله. وأدلة تفرد الله بالخلق كثيرة، وليس القصد استقصاءها، وإنما بيان أن الله تعالى أولى هذا الأمر أهمية بالغة ليقطع الطريق على دعاة الشرك الذين يزخرفون الشبهات لنسبة التدبير والتصرف لغير الله تعالى، فالمسلم الذي يستقر مدلول هذه الآيات ونحوها في قلبه، يكتسب اعتقادا راسخا بتفرد الله بالخلق فلا يغتر بتلك الشبهات الباطلة. أدلة تفرد الله بالأمر الكوني: أمر الله الكوني1 هو كلامه الذي يأمر به المخلوقات بما أراد خلقه وإيجاده. قَال تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2. فأمره هو قوله الذي يخلق به كما قَال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3.

_ 1 انْظر ما تقدم ص (672) وما بعدها في الهامش. 2 سورة يس آية (82) . 3 سورة النحل آية (40) .

فأمر الله الكوني له علاقة وطيدة بالخلق والربوبية فمن كان مالكا للأمر الكوني، يقول للشيء كن فيكون، فهو المالك للتدبير وهو الرب حقاً. لذلك جاءت أدلة تفرد الله بالأمر كثيرة، وبأساليب متنوعة، فمن ذلك، قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} 1. دل على التفرد لفظ "كل" الدال على استغراق ملك الله لجميع أفراد الأمر، ومثله قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 2 دل على تفرد الله بالأمر أمران: (الأول) تقديم ما حقه التأخير {إِلَيْهِ} الذي يدل على اختصاص الله بملك الأمر الكوني، وما يحدث به. (الثاني) لفظ "كل". وفي قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} دليل على أن من كان مالكا للأمر

_ 1 سورة آل عمران آية (154) . 2 سورة هود آية (123) .

الكوني هو المستحق للعبادة، وأن يتوكل عليه العبد، وذلك أنه هو الرب المدبر. ومن أدلة تفرد الله بالأمر الكوني قوله سبحانه: {بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} 1. فتقديم ما حقه التأخير {لِّلّهِ} ولفظ {جَمِيعًا} يدل على تفرد الله بالأمر الكوني وأن كل ما يحدث في الكون من الحوادث والنوازل والمصائب السارة أو الضارة إنما هو بأمر الله تعالى، كما قَال سبحانه: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2. ومن ذلك ما تقدم في قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 3. ومن ذلك قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ} 4. قال ابن كثير - رحمه الله - مبينا دلالة هذه الآية على تفرد الله بالأمر:"ثم اعترض بجملة دلت على أن الحكمة في الدنيا والآخرة له

_ 1 سورة الرعد آية (31) . 2 سورة البقرة آية (117) . 3 سورة الأعراف آية (54) . 4 سورة آل عمران آية (128) .

وحده لا شريك له، فقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ} ، أي بل الأمر كله إليَّ"1. وهذه الآية مع دلالتها على تفرد الله بالأمر تبطل مزاعم المشركين بأن الله أعطى أولياءه والمقربين إليه شيء من الأمر والتدبير. وذلك: أن الآية دلت على أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وأفضل الخلق وأقربهم من الله منزلة، ليس له شيء من أمر الله الكوني، الذي يدبر به المخلوقات، فدل على أن غيره من الأنبياء والأولياء ونحوهم - الذين هم دونه - ليس لهم شيء من أمر الله من باب أولى. وفيما تقدم من الآيات كفاية في بيان تفرد الله بالأمر، وأهمية معرفة ذلك في رسوخ التوحيد. وهذا البيان لتفرد الله بالملك والخلق والتدبير يُردّ به على كل من يزعم أن الله يعطي ملكه من يشاء، وأنه أعطى بعض أوليائه والمقربين إليه الخلق والتصرف في الكون أو بعضه. كما يرد بأدلة تفرد الله بالأمر على كل من يقول: إن الله هو مالك الملك والخالق المتصرف، ويزعم أن الله يخلق ويوجد بأمر المقرَّب منه من ولي أو نبي أو نحوه، فهو يأمر بما أراد، والله يخلق لأمره.

_ 1 تفسير القرآن العظيم، (1/402) .

خلاصة هذه الفائدة: أن النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى، في قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} يتضمن بالدرجة الأولى النهي عن إثبات المماثل لله عز وجل في ذاته أو شيء من صفاته وأفعاله، وأن اعتقاد شيء من ذلك يؤدي إلى اتخاذ الشركاء مع الله في العبادة. كما تبين أن شياطين الإنس يغرون الناس، حيث يوهمونهم أن لبعض الخلق من الأنبياء أو الأولياء أو غيرهم شيئاً من الربوبية، أو المماثلة لصفات الله تعالى، ليؤلهوهم لأجل ذلك الاعتقاد ويصرفوا لهم العبادة. لذلك كان البيان الواضح المتكرر لاستقلال الله وتفرده بالربوبية، وتفرده بأهم خصائصها من الملك والأمر، والخلق وإبطال أي زعم يسند أي شيء من ذلك لغير الله، كي يستقر اعتقاد تفرد الله بالألوهية، واستحقاقه وحده للعبادة في قلوب العباد، ويقطع الطريق على المجرمين دعاة الشرك.

الفائدة الثالثة: النهي عن ضرب الأمثال القولية الفاسدة لله تعالى. تقدم1 عند دراسة المراد بالنهي عن ضرب الأمثال لله تعالى، في قوله {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} ، أن النهي يشمل ما يضربه المشركون من الأمثال القولية ليستدلوا بها على شركهم، وما هم عليه من الدين الباطل، وليعارضوا بها ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وتلك الأمثال التي يستدل بها المشركون، وعامة الجاهلين التي تقوم على القياس الفاسد، يقتدون فيها بإمام الضلال إبليس - لعنه الله - حيث إنه أول من قاس معارضا أمر الله تعالى. قَال محمد بن سيرين2 - رحمه الله -: "القياس شؤم، وأول من قاس إبليس فهلك، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس"3.

_ 1 ص (767) . 2 أبو بكر محمد بن سيرين الأنصاري البصري، مولى أنس بن مالك، كان من الأئمة الحفاظ الفقهاء. توفي سنة 110 هـ. انْظر: سير أعلام النبلاء (4/606) ، والبداية والنهاية (9/267) . 3 انْظر: إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/254) .

والقياس الإبليسي الفاسد المهلك، هو الذي يكون مع وجود النص. "مثل قياس إبليس نفسه على عنصره الذي هو النار، وقياسه آدم على عنصره الذي هو الطين، واستنتاجه من ذلك أنه خير من آدم ولا ينبغي أن يؤمر بالسجود لمن هو خير منه، مع وجود النص الصريح الذي هو قوله: {اسْجُدُواْ لآدَمَ} ، يسمى في اصطلاح الأصوليين فاسد الاعتبار"1. قَال ابن القيم - رحمه الله -: "إن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مرة [إبليس لعنه الله] ، فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدّمه عليه، فإن الله لما أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياس عقلي"2. وهو "قياس في مقابلة النص، والقياس إذا صادم النص وقابله كان قياساً باطلاً، ويسمى قياساً إبليسياً"3. "ولما علم الشيخ [إبليس أعاذنا الله منه] أنه قد أصيب من معارضة الوحي بالعقل، وعلم أنه لا شيء أبلغ في مناقضة الوحي والشرع وإبطاله من معارضته بالمعقول، أوحى إلى تلامذته، وإخوانه من الشبهات الخيالية

_ 1 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، (1/62) . 2 الصواعق المنزلة، لابن القيم، ت: أ. د. أحمد بن عطية الغامدي، (2/663) . 3 نفس المصدر، ص (663) .

ما يُعارَض به الوحي، وأوهم أصحابه وتلاميذه أنها قواطع عقلية، وقال: إن قدمتم الوحي عليها فسدت عقولكم. قَال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1. ومن المعلوم أن وحيهم إنما هو شُبَه عقلية"2. نماذج من الأمثال الفاسدة المضروبة لله: تقدمت3 الإشارة - عند الكلام على دلالة السياق - إلى بعض الأمثال التي ضربها المشركون الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم مما يغني عن إعادتها. ومن الأمثال الفاسدة التي ضربها الفلاسفة ودعاة الشرك للاستدلال على جواز اتخاذ الآلهة للتوسل والتقرب بها إلى الله: أولاً: قولهم: "إن إله العالم أَجَلّ من أن يعبده الواحد منا، فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك"4.

_ 1 سورة الأنعام آية (121) . 2 الصواعق المنزلة، (2/662) . 3 ص (768) وما بعدها. 4 فتح القدير للشوكاني، (3/179) .

قَال ابن كثير - رحمه الله -: "وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءت الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - بردّها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه، ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه. {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} 1، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلآَّ أَنَا فَاعْبُدُون} 2. وأخبر أن الملائكة التي في السماوات - من الملائكة المقربين وغيرهم - كلهم عبيد خاضعون لله، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم، يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبَوْه، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} 3، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً"4.

_ 1 سورة النحل آية (36) . 2 سورة الأنبياء آية (25) . 3 سورة النحل آية (74) . 4 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (4/4) .

ثانياً: ومن الأقيسة الخبيثة، ذلك المثَل الذي ضربه أبو حامد الغزالي ليستدل به على تأليه البشر، وحلول نور الله في الإنسان، وأنه يكون بذلك النور رباً مدبراً، يعلم الغيب. وذلك أنه ضرب نور القمر- الذي ينتشر على الأرض، وينفذ من كوة في الدار وينعكس على مرآة - مثلا لنور ذات الله الذي ينفذ إلى القلب، فيكون في الإنسان شيء من الألوهية، تنكشف له به المغيبات، ويملك التصرف بما شاء من الكون. قَال محقق كتاب "مشكاة الأنوار" للغزالي: "هذه هي الخطوة الثالثة في تجريد النور، إذ نحن الآن بإزاء نور ليس من أنوار هذا العالم، بل من أنوار عالم الملكوت الذي منه القرآن.... ثم إن أنوار عالم الملكوت التي تقتبس منها الأنوار الأرضية بحسب قربها وبعدها من منبع النور الأول الذي يمثله الغزالي بضوء القمر عندما يدخل في كوة بيت فيقع على مرآة منصوبة على حائط، ثم ينعكس على مرآة على حائط آخر، ثم ينعطف على الأرض فينيرها.... وهذا النور الحق هو الذي بيده الخلق والأمر"1. "وبالنور الإنساني السفلي ظهر نظام عالم السفل، كما بالنور الملكي

_ 1 مشكاة الأنوار لأبي حامد الغزالي، مقدمة المحقق د. أبو العلاء عفيفي ص (13) .

ظهر نظام عالم العلو"1. فهو يزعم أن العالم السفلي - الأرض ومن عليها - يظهر نظامها بنور الإنسان. ويؤيد هذا قوله - المتقدم2- الذي أفضى به إلى الإمام أبي بكر بن العربي حيث قَال له: "فإن للنفس قوة تأثير موجدة ... وقد تزيد بصفائها واستعدادها، فتعتقد إنزال الغيث وإنبات النبات، ونحو ذلك من معجزات خارقات للعادة، فإذا نطقت به كان على نحوه"3. فهو يزعم - وأقبح به من زعم - أن الإنسان يدبر الخلق والأمر بما هو أسفل منه بما معه من نور إلهي، فالخالق إذاً هو الله وحده! إذ إن نوره المتجلي في الإنسان هو الذي تم به الخلق! وهذا كفر لم يصل إليه كفر إبليس الذي أُمر للسجود لآدم فأبى، فهو وإن شابهه في كون كلا القياسين فاسداً معارضاً للأمر الصريح، والبيان الواضح من الله تعالى، إلا أن قياس الغزالي، أشد منه ضلالاً من وجوه، من أهمها:

_ 1 مشكاة الأنوار لأبي حامد الغزالي، ص (59) . 2 انْظر: ص (435) . 3 آراء أبو بكر بن العربي الكلامية، (2/33) ، وانظر التعليق على هذا الكلام ص (435) من هذا البحث.

(الأول) أن الغزالي ضرب مثل "نور القمر" ليستدل به على الشرك، وتأليه البشر، وإبطال دين الله من أساسه بينما الشيطان قاس ليتهرب من التكليف بدافع الاستكبار. (الثاني) أن الغزالي زخرف قوله ولبسه ليكون أقوى في التغرير بالناس، وإخراجهم من النور إلى الظلمات. وهذه النتيجة التي رتبها الغزالي على هذا المثَل وغيره هي أشد كفرا وأبعد في الضلال من كفر النصارى، الذين زعموا أن اللاهوت (الجزء الإلهي) حل في الناسوت (الإنسان) ، وذلك أن النصارى زعموا ذلك في عيسى - عليه السلام -، وهو جعله متاحا لكل إنسان غير محجوب بزعمه. وهذا الزعم الفاسد مردود بالأدلة التي لا تحصى المبينة لتفرد الله بالأمر، والخلق، والملك، والألوهية، وأن غيره مهما كانت منزلته عند الله فهو لا يملك من ذلك من شيء، وقد تقدم بعض تلك الأدلة في المبحث السابق.1 ثالثاً: من الأمثال الفاسدة التي يضربها أهل الضلال لمعارضة دين الله ومخالفة ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، ذلك المثَل الذي ضربه أبو حامد الغزالي - أيضا - ليدلل به على أمور خطيرة، منها:

_ 1 ص (829) وما بعده.

1- أن الحقائق والمعارف الحق التي يستفيدها الأنبياء والأولياء وغيرهم من أهل التصوف لا تكون بتعلم العلم، وإنما بالكشف والفيض. وأن طريق المعرفة الصحيح هو ترك العلم والإقبال على تحصيل ذلك. 2- أن النبوة تحصل بهذا الطريق، وليست خاصة بالأنبياء، بل هي متاحة لكل من سلك الطريق الذي زخرفه. 3- أن الأنبياء والأولياء الذين وصلوا حد المكاشفة يعلمون الغيب، وينكشف لهم كل ما في اللوح المحفوظ. وقد قدم للمثل الذي ضربه لذلك بتمهيدات، منها قوله وهو يتكلم عن طريقة الصوفية: "فلذلك لا يشتغلون بدراسة العلم، بل يشتغلون بتصفية القلب، وقطع العلائق ... ثم تفويض الأمر إليه، فهو أعلم بما يكشف لقلوبهم من الأنوار والألطاف، وهو طريق الأنبياء والأولياء، فإنهم لم يحصلوا العلوم والحقائق بالمدارسة ... "1. وزعم أنهم بهذه الطريقة ينكشف لهم ما في اللوح المحفوظ حيث قَال: "واعلم أن القلب إذا كان كالمرآة الصقيلة المجلوة، وقد علمت قبل ذلك أن حقائق الأشياء منقوشة في اللوح المحفوظ، فمهما ارتفع الحجاب،

_ 1 مختصر إحياء علوم الدين للغزالي، اختصار المؤلف، ص (148) .

وكانت المرآة في محاذاة اللوح المحفوظ انكشف فيه حقائق العلوم ... "1. وهذه المزاعم الخبيثة الباطلة، المعارضة لدين الله، والمؤيدة لدين الشيطان، لم يجد عليها دليلا صحيحا - وأنى له ذلك - فعمد إلى إيراد مثل مزخرف يستدل به لهذه الأباطيل فقال: "ونحن نبين الفرق بين التعلم والتصوف بمثال في حكاية: قد حُكي أن أهل الصين وأهل الروم، تباهوْا بين يدي بعض الملوك بحسن النقش والصور، فاستقر رأي الملك على أن يسلم إليهم صفة، تنقش أهل الصين منها جانبا، وأهل الروم جانبا، ويرخى بينهما حجاب يمنع اطلاع كل فريق منهم على صاحبه، ففعل ذلك، وجمع أهل الروم غرائب الأصباغ، ودخل أهل الصين يصقلون جانبهم، فلما فرغ أهل الروم ادعى أهل الصين أنهم أيضا قد فرغوا، فتعجب الملك منهم! وقال: كيف الفراغ ولم تأتوا بشيء من الأصباغ؟ فقيل: ما عليكم من ذلك، ارفعوا الحجاب وتأملوا. ففعلوا ورفع الحجاب، فإذا عجائب الأصباغ والألوان والنقوش، تزهر وتتلألأ بزيادة بريق وصفاء. إذ كانوا هم يصقلون ما دام غيرهم ينقش. فالصوفية يصقلون، والعلماء ينقشون، فما ينكشف لهم بزيادة، ووراء ما يحصله العلماء، ينكشف لهم أمور لا يتصور إليها بتكلف

_ 1 مختصر إحياء علوم الدين للغزالي، ص (147) .

التعلم"1. وإن الإنسان ليعجب من عالم يريد بيان الدين للناس، يعرض عن كتاب الله وآياته البينات، وأمثاله المفصلات، إلى حكايات وتخرصات، لا تعدو كونها من زخرف القول الذي تلقيه شياطين الجن على من أعرض عن هدي الله. قَال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا} 2. وقد جمع بأمثاله وزخرف قوله بين القول على الله بلا علم، والكذب عليه، ومعارضة دينه، والصد عن سبيله. قَال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 3، وقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} 4.

_ 1 مختصر إحياء علوم الدين للغزالي، ص (148) . 2 سورة الأنعام آية (112) . 3 سورة الأنعام آية (21) . 4 سورة الأنعام آية (157) .

وهذه الأباطيل أفضل ما يُردّ عليها به، ذكر النصوص الثابتة المحكمة التي تدل على خلاف ما قرره بتلك الأمثال الباطلة والدعاوي العارية عن البرهان. وليس المقصود حصر تلك الأدلة، وإنما ذكر بعضها مما يفي بالغرض - إن شاء الله - من بيان بُعد الضاربين لتلك الأمثال عن هدي الكتاب والسنة، ومعارضتهم لما دلا عليه من الحق. ويكون فيما يلي: أ- زعمه أن الحقائق لا تعرف بالتعلم، وأن الأنبياء كذلك. فيرد عليه بالأدلة التي تدل على أن النور والهداية، والعلم، والخروج من الضلال، ومعرفة سبل السلامة إنما هي بتعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن من تمسك بالكتاب والسنة فلن يضل أبدا. وقد تقدم ذكر بعضها عند دراسة مثل النور.1 ومن أشملها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} 2. وقوله: {قَدْ جَآءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ

_ 1 انْظر: ص (420) وما بعدها. 2 سورة الجمعة آية (2) .

سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. ونحوها كثير. ب - أما زعمه أن الأنبياء لم يعرفوا الحقائق بالتعلم فيرده قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} 2. وقوله سبحانه في حق عيسى بن مريم - عليه السلام -: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} 3. وقال تعالى مبينا أن جميع الأنبياء يدعون الناس إلى توحيد الله في ربوبيته، وألوهيته، ويأمرونهم أن يكونوا ربانيين يدرسون كتب الله

_ 1 سورة المائدة الآيتان (15، 16) . 2 سورة النساء آية (113) . 3 سورة المائدة آية (110) .

- تعالى - ويعملون بها، ويخلصون في عبادته: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلآئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1. وقد بين الله تعالى أن ما نزل من العلم في القرآن الكريم بصائر للناس، وأنه يهدي للطريق القويم والصراط المستقيم، حيث قَال: {هَذَا بَصَآئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 2. وقال: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 3. وعلّم الله نبيه القرآن وبينه له، كما قَال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 4. وأمره الله باتباعه والعمل به فقال:

_ 1 سورة آل عمران الآيتان (79، 80) . 2 سورة الجاثية آية (20) . 3 سورة الإسراء آية (9) . 4 سورة القيامة الآيتان (18، 19) .

{قَدْ جَآءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ المُشْرِكِينَ} 1. فبيّن سبحانه أن القرآن الذي أنزله قد جاء يبصر الناس ببيان الحق وحججه وبراهينه، وأنه تعالى صَرَّف الآيات وبيّن مراده في كتابه ليتعلمه قوم فيعملون به ويتبعونه أسوة بنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي أمر باتباع ما أنزل عليه من الكتاب والحكمة. أما المشركون المعاندون فيزعمون أنه ليس وحياً من الله وإنما تعلمه الرسول ودرسه ودارس به الأمم السابقة من اليهود والنصارى.2 فهم ينكرون الوحي وأن يكون القرآن من عند الله. وليس بعيداً عنهم من ينكر أن العلم يكون بما أنزل على الرسول من الوحي من الكتاب والسنة. فالمقصود من إنزال القرآن وتعليم السنة هو العلم الدال على الصراط المستقيم. وهذا الأمر - وهو أن العلوم والحقائق الدينية إنما تؤخذ من الكتاب والسنة - أمر معلوم من الدين بالضرورة، لا يختلف فيه أحد من أهل

_ 1 سورة الأنعام آية (104، 106) . 2 انْظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (2/162) .

السنة، وإنما دعت الحاجة إلى الاستدلال له لوجود هذه الأباطيل المزخرفة لإبطاله. جـ- زعمه أن النبوة مكتسبة متاحة لكل من سلك الطريق الذي زخرفه. وهذا يرد عليه بالنصوص الدالة على اصطفاء الله من شاء من عباده فآتاهم الكتاب والحكمة والنبوة، ومن أجمع ما دل على ذلك قول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلآءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوآ أَنْتُمْ وَلآ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} 1. ومن فوائد هذه الآيات وما بعدها مما يردّ هذه المزاعم الباطلة ما يلي:

_ 1 سورة الأنعام آية (89 -91) .

1- أن الله بين أن أولئك الذين هداهم واجتباهم للنبوة آتاهم كتباً فيها هدى ونور، وأنهم بتعلمها وتعليمها حصل لهم من العلوم ما لم يكونوا يعرفونه هم ولا آباؤهم. 2- قوله {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} . يدخل فيه من زعم أن النبوة يكتسبها الأنبياء وغيرهم بنور ينفذ إلى قلوبهم دون أن يتعلموا كتابا من الله، فهم يزعمون أن لا حاجة إلى ما أنزله الله، وأن الهداية تحصل بدونه "فما قدروا الله حق قدره". 3- قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} ، وقوله بعد ذلك: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} 1 فيه دلالة على أن الله ينزل على أنبيائه كتباً هي نور وهداية لما فيها من العلم الذي يهتدون به ويهدون، وليس الذي ينزل على الأنبياء نوراً من نور ذات الله، يفيض عليهم كما يفيض نور القمر على ما يقابله، وتكون النبوة بذلك النور كما يزعمه هذا الضال. 4- قوله تعالى بعد ذلك: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ

_ 1 سورة الأنعام آية (92) .

أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} 1. يدخل فيها الضاربون لهذا المثَل ونحوه والقابلون له، من جهتين: (الأولى) أنهم كذبوا على الله حيث قَرَّروا ما يعارض دينه بأمثال فاسدة، وأقوال مزخرفة. (الثانية) أنهم زعموا لأنفسهم أو لغيرهم أنهم يتلقون بالفيض والكشف من جنس ما يتلقى الأنبياء، فيشملهم قوله تعالى: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} . ويرد أيضا على هذا الزعم - أنه يحصل بالكشف لأهله من جنس ما يحصل للأنبياء - ما ورد من أن الله ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 2. قَال ابن كثر - رحمه الله -: "وهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة،

_ 1 سورة الأنعام آية (93) . 2 سورة الأحزاب آية (40) .

فإن كل رسول نبي ولا ينعكس"1. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قَال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"2. قَال ابن حجر - رحمه الله - وهو يذكر ما يستفاد من الحديث: "وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للأفهام، وفضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر النبيين، وأن الله ختم به المرسلين، وأكمل به شرائع الدين"3. د- أما زعمه أن الأنبياء والأولياء يعلمون الغيب المكنون في اللوح المحفوظ، فهذا باطل مردود بنصوص الوحي المحكمة، كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} 4. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا

_ 1 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/493) . 2 متفق عليه. واللفظ للبخاري، البخاري كتاب المناقب، باب خاتم النبيين (ح3535) ، الصحيح مع الفتح (6/558) ومسلم: كتاب الفضائل، باب كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين (ح2286) (4/1791) . 3 فتح الباري، شرح صحيح البخاري، (6/559) . 4 سورة الأنعام آية (59) .

تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1. وقال صلى الله عليه وسلم مبينا أن هذه الأمور المذكورة في الآية من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله: ".... في خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله"، ثم تلا صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... } الآية.2 وقال تعالى: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} 3. وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ} 4. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لآ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلآ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلآ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} 5.

_ 1 سورة لقمان آية (34) . 2 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإسلام والإيمان ... ، (ح 9) ، (1/39) . 3 سورة النمل آية (65) . 4 سورة آل عمران آية (179) . 5 سورة الأنعام آية (50) .

وقال سبحانه مبينا حال رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لآ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. فهذا البيان من الله تعالى عن حال أفضل رسله وأقربهم منه منزلة وأفضل البشر وأصفاهم قلبا وأكملهم تقوى ونوراً، وأنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ولا يعلم الغيب. وذلك المفتري على الله يزعم بأمثاله الإبليسية أن في قلوب الأنبياء والأولياء نوراً يدبرون به الأرض ومن فيها ويعلمون به الغيب، وأن قلوبهم ينطبع فيها ما في اللوح المحفوظ!! فيا لها من جسارة على معارضة كتاب الله، والقول على الله بلا علم. وليس الغرض إيراد هذه الأمثال الفاسدة للرد عليها، وإنما ذكر نماذج تدل على مخالفة بعض من انتسب للإسلام والعلم للنهي الإلهي عن ضرب الأمثال، واختراعهم لتلك الأمثال التي ضل بها كثير من الناس. خطورة الأمثال الفاسدة: إن الأمثال القياسية الفاسدة من أسباب ضلال الناس وانحرافهم عما

_ 1 سورة الأعراف آية (188) .

جاء به الأنبياء من الدين الحق.1 قَال شارح العقيدة الطحاوية2: "وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق. كما قَال عبد الله بن المبارك3- رحمة الله عليه -: رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة، ويعارضونها بها، ويقدمونها على حكم الله ورسوله. وأحبار السوء وهم العلماء الخارجون على الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة، المتضمنة تحليل

_ 1 انظر لمعرفة تفاصيل الأقيسة الفاسدة، وأثرها في الانحراف عن الدين الحق: رسالة دكتوراه، بعنوان القياس الفاسد وأثره في الانحراف في العقيدة، لأحمد بن شاكر الحذيفي، المقدمة لقسم العقيدة، بكلية الدعوة، الجامعة الإسلامية عام 1417 هـ. 2 العلامة: علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي. 3 شيخ الإسلام، أبو عبد الرحمن، عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي المروزي، كان معروفا بالزهد والحفظ والجهاد والصدقة. له مؤلفات نافعة منها: كتاب الزهد، وكتاب البر والصلة، وكتاب الجهاد، وغيرها. توفي سنة 181 هـ. انْظر: سير أعلام النبلاء (8/378) ، وتَهْذِيب التهذِيب (5/382) .

ما حرم الله ورسوله، وتحريم ما أباحه، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده، وتقييد ما أطلقه، ونحو ذلك. والرهبان، وهم جهال المتصوفة، المعترضون على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق، والمواجيد، والخيالات، والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان، وحظوظ النفس"1. وقال ابن تيمية - رحمه الله - مبينا وقوع بعض من يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان في أنواع من الضلال بسبب القياس الفاسد: "والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات، لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه ... والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة، وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات، حتى آل الأمر بمن يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود. فظنوا أنه هو، فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء - أو أن يكون إياه، أو متحدا به، أو حالا

_ 1 شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، ص (222) ، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1391 هـ.

فيه - من الخالق مع المخلوق. فمن اشتبه عليه وجود الخالق بوجود المخلوقات كلها، حتى ظنوا وجودها وجوده، فهم أعظم الناس ضلالا من جهة الاشتباه"1. والأمثال الضالة القائمة على القياس الفاسد - التي أشرت إلى طرف منها - أثرت في التلبيس على كثير من المنتسبين إلى العلم والعبادة والزهد من المتصوفة وغيرهم، فسوغت لهم الشرك، وتأليه البشر، وعبادتهم. وكانت تلك الأمثال وزخرف القول وما أضيف إليها، وما بني عليها بمثابة الأدلة على تلك الأحوال الشركية، والجسور لربطها ونسبتها إلى الإسلام. قَال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وقد أحدث قوم من ملاحدة الفلاسفة الدهرية للشرك شيئا آخر ذكروه في زيارة القبور كما ذكر ذلك ابن سينا2 ومن أخذ عنه

_ 1 الرسالة التدمرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص (33) . 2 أبو علي الحسن بن عبد الله بن سينا البلخي، كان فاسد الديانة على دين الفلاسفة، يسمي أفكارهم وعقائدهم بأسماء إسلامية تلبيسا وتضليلا، قَال عنه الذهبي - رحمه الله -:"فلسفي النحلة ضال لا رضي الله عنه" وكان والده من دعاة الإسماعيلية، ولابن سينا مؤلفات كثيرة أغلبها في الفلسفة والطب. توفي سنة 428 هـ. انْظر: سير أعلام النبلاء (17/531) ، والبداية والنهاية (12/45) .

كصاحب1 الكتب المضنون بها وغيرها، ذكروا معنى الشهادة على أصلهم فإنهم لا يقرون، بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ولا أنه يعلم الجزئيات ويسمع أصوات عباده ويجيب دعاءَهم. فشفاعة الأنبياء والصالحين على أصلهم ليست كما يعرف أهل الإيمان من أنها دعاء يدعو به الرجل الصالح فيستجيب الله دعاءه، كما أن ما يكون من إنزال المطر باستسقائهم ليس سببه عندهم إجابة دعائهم، بل هم يزعمون أن المؤثر في حوادث العالم هو قوى النفس أو الحركات الفلكية أو القوى الطبيعية فيقولون: إن الإنسان إذا أحب رجلا صالحا قد مات لا سيما إن زار قبره، فإنه يحصل لروحه اتصال بروح ذلك الميت فيما يفيض على تلك الروح المفارقة من العقل الفعال عندهم أو النفس الفلكية، يفيض على هذه الروح الزائرة المستشفعة من غير أن يعلم الله بشيء من ذلك - بل وقد لا يعلم الروح المستشفعة بها بذلك. ومثلوا ذلك بالشمس إذا قابلها مرآة فإنه يفيض على المرآة من شعاع الشمس، ثم إذا قابل المرآة مرآة أخرى فاض عليها من تلك المرآة، وإذا قابل تلك المرآة حائط أو ماء فاض عليها من شعاع تلك المرآة، فهكذا الشفاعة عندهم، وعلى هذا الوجه ينتفع الزائر عندهم.

_ 1 أبو حامد الغزالي.

وفي هذا القول من أنواع الكفر ما لا يخفى على من تدبره"1. قوله - رحمه الله -: "كما ذكر ذلك ابن سينا ومن أخذ عنه كصاحب الكتب المضنون بها وغيرها"، يشير إلى أن أبا حامد الغزالي أخذ عن ابن سينا هذه الزخارف الجاهلية، وقد تقدم ذكر مزاعم الغزالي2، وبالمقارنة بينها وبين ما ذكره شيخ الإسلام عن ابن سينا يتبين أن الغزالي اقتبس الفكرة والمثَل، وغَيَّر في ذلك أن جعل النور الفائض هو نور الله - تعالى عن ذلك - على النفوس العلوية المقابلة له، حتى يصل إلى الإنسان، كما غَيَّر في المثَل حيث ضرب مثلاً بنور القمر بينما ابن سينا ضرب مثلا بنور الشمس {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا} 3. ويدل - أيضا - على أن هذه الأفكار والمزاعم مأخوذة عن الفلاسفة الملاحدة4، وهي أبعد ما تكون عن هدي الأنبياء، وذلك يدل

_ 1 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ص (24، 25) ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، الطبعة الأولى، 1404 هـ. 2 انْظر: ص (431) وما بعدها. 3 سورة الأنعام آية (112) . 4 ما قاله ابن تيمية - رحمه الله - من أن الغزالي أخذ نظرية فيض الأنوار من ملاحدة الفلاسفة الدهرية يؤيده ما توصل إليه المستشرق " فنسك" في مقال له نشر عام 1941 م. ذهب فيه إلى أن الغزالي استمد تلك النظرية من "أفلوطين". ويرى د. عبد الرحمن بدوي - المتخصص - بدراسة الفلاسفة - أن الغزالي ربما يكون أخذها من بعض كتب الفارابي التي لخص فيها نظرية " أفلوطين ". انْظر: مشكاة الأنوار للغزالي، تصدير عام للمؤلف الدكتور: أبو العلاء عفيفي، ص (16) . وتتفق هذه الأقوال على أن الغزالي استفاد هذه النظرية من الأفلاطونية الحديثة، وتختلف في الواسطة هل كان ابن سينا، أو الفارابي، أو الاطلاع مباشرة على كتب أفلوطين.

على شناعة ما فعله الغزالي وغيره، من نسبتها إلى الدين، ومحاولة ربطها بمثل النور1 وغيره من الآيات. قوله: "فيقولون: إن الإنسان إذا أحب رجلا صالحا قد مات لاسيما إن زار قبره فإنه يحصل لروحه اتصال بروح ذلك الميت فيما يفيض على تلك الروح المفارقة من العقل الفعال عندهم، أو النفس الفلكية، يفيض على هذه الروح الزائرة المستشفعة ... ". هذه الدعوى المزخرفة المدعومة بمثل انعكاس الضوء في المرآة - العارية من البرهان إلا مجرد الظن، والرجم بالغيب - أضافت مستمسكا آخر لعباد القبور، ودعاة الشرك، الناسبين الربوبية والألوهية إلى البشر من الأولياء وغيرهم، وسهلت عليهم اقتناص كثير من العباد،

_ 1 انْظر: ما تقدم ص (333) وما بعدها.

والمتعلمين الذين تلقوا علومهم من كتب أولئك المعظَّمِين الضُّلال، فانخدعوا بهم وانخدع بهؤلاء المنتسبين إلى العلم والعبادة خلق كثير من جهال العوام، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فقصدت القبور - بهذه الشبهة - لكي تفيض على زائريها من أنوار وبركات المقبور، وتنال حظها مما ينعكس عليها من أنوار النفوس أو العقول العلوية – بزعمهم - ويظنون أن ذلك نوع من أنواع الشفاعة. وما أقرب حال هؤلاء إلى من وصفهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} 1. ولاشك أن هذه الأمثال الباطلة - التي يضربها المجرمون لمعارضة التوحيد الذي هو أساس الدين، ويرسخوا بها الفتنة بالشرك وعبادة الأموات من أعظم المحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهي داخلة في النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى، بقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} . لذلك قَال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وفي هذا القول من أنواع الكفر ما لا يخفى على مَنْ تدبَّره".

_ 1 سورة النور آية (39) .

نفاة الصفات، وضرب الأمثال لله: إن نفاة صفات الله تعالى من سائر طوائف المتكلمين ارتكزوا في نفيها عن الله تعالى على شبهة أن إثباتها يؤدي إلى مشابهة المخلوق، إذ إنهم زعموا أن ظاهر نصوص الصفات حقيقته هي صفة المخلوق. فضلالهم نشأ من قياسهم صفات الله تعالى على صفات المخلوق، وهذا قياس فاسد. وجعلوا صفات المخلوق مماثلة لما تدل عليه ظواهر النصوص المثبتة لصفات الله. فنفوا الصفات عن الله تعالى خوفا من إثبات ما يماثل صفة المخلوق. فهم كما قال عنهم أهل العلم: مثلوا ثم عطلوا. قَال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل: أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات. فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل: مثلوا أولاً، وعطلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى"1.

_ 1 الفتوى الحموية الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص (17) .

فهؤلاء المعطلة لصفات الباري تبارك وتعالى ضربوا لصفات الله أمثالا في عقولهم، هي صفات المخلوقين، وأخذوا يقايسون ما وردت به النصوص من صفات الله على تلك الأمثال، فأدى بهم ذلك إلى رد تلك النصوص بعدم قبول ما دلت عليه، وتأويلها تأويلات باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وكان عليهم من البداية أن يستجيبوا لقول الله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فيقبلوا ما أثبت الله لنفسه على ما يليق به، دون اعتقاد مشابهة الخلق، على حد قوله - سبحانه - {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1. وهذا المنهج - المتمثل في مقايسة صفات الله بصفات المخلوقين مما يؤدي إلى استحالتها ونفيها عن الله - قد حصل جنسه عند المشركين من كفار قريش. وذلك أنهم أحالوا البعث بعد الموت بناء على اعتقادهم أن لا أحد يستطيع إعادة الحياة إلى العظام البالية بالقياس إلى مقدرتهم. قَال الله تعالى مبينا ذلك منهم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا

_ 1 سورة الشورى آية (11) .

الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 1. وقال - سبحانه -: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 2. قَال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مبينا ما يتضمنه هذا المنهج من المفاسد: "وهو أن كثيرا من الناس يتوهم في بعض الصفات - أو كثيرٍ منها أو أكثرها أو كلها - أنها تماثل صفات المخلوقين. ثم يريد أن ينفي ذلك الَّذِي فهمه، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير: (أحدها) : كونه مثَّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل. (الثاني) أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله، بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السّيّئ الذي ظنه بالله ورسوله - حيث ظن أن الذي يفهمه من كلامهما هو التمثيل الباطل - قد عطّل ما أودع الله

_ 1 سورة يس الآيتان (78-79) . 2 سورة الإسراء آية (49-51) .

ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى. (الثالث) أن ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بلا علم، فيكون معطلا لما يستحقه الرب. (الرابع) أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات، من صفات الأموات والجمادات، أو صفات المعدومات. فيكون قد عطّل به صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثّله بالمنقوصات والمعدومات. وعطّل النصوص عما دلت عليه من الصفات. وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع - في كلام الله وفي الله - بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحدا في أسماء الله وآياته"1. طريقة العلماء الراسخين في إثبات الصفات: العلماء الراسخون هم الذين يتبعون ما أنزل الله من البينات والهدى، وينتهجون نهج سلف الأمة في الاستمساك بما دل عليه الكتاب والسنة في أمور الدين، ومن ذلك باب الأسماء والصفات. قَال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مبينا الأصل الذي يسيرون عليه في باب الأسماء والصفات: "فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما

_ 1 الرسالة التدمرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص (25، 26) .

وصفه به رسله نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، ويَنفي عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد، لا في أسمائه ولا في آياته. فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته. كما قَال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ القِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 2. .. الآية. فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات، إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قَال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 3. ففي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ

_ 1 سورة الأعراف آية (180) . 2 سورة فصلت آية (40) . 3 سورة الشورى آية (11)

شَيْءٌ} رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله: {السَّمِيعُ البَصِيرُ} : رد للإلحاد والتعطيل"1. وعلى هذا فالألفاظ المثبتة لصفات الله في نصوص الكتاب والسنة، تدل على ثبوت الصفات على ما يليق بالله، بحقائق لا تماثل صفات المخلوقين. ومن فهم منها ما يماثل صفة المخلوق فهو مخطئ، ومن زعم أنها لا تدل إلا على ذلك فهو ضال. قَال الإمام نعيم بن حماد2 - رحمه الله -: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها"3. فطريقة أهل العلم الراسخين - المقتدين بالسلف الصالح والأئمة المهديين - أنهم يثبتون ما أثبت الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق به، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقات، ولا يضربون له الأمثال

_ 1 الرسالة التدمرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص (4) . 2 الإمام أبو عبد الله نعيم بن حماد بن معاوية المروزي، إمام في السنة. ألف كتاب الفتن، ثبت في محنة القول بخلق القرآن، ومات في السجن سنة 229 هـ. انْظر: سير أعلام النبلاء (10/595) ، والبداية والنهاية (10/315) . 3 نقلا عن: الفتوى الحموية الكبرى، لابن تيمية، ص (64) .

ليعارضوا بها ما دل عليه كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ليقايسوا صفاته بصفات المخلوقين، وإذا أوردوا الأمثال فإنما يوردونها ليؤيدوا ما دل عليه الكتاب والسنة، وما ثبت لله من أوصاف الكمال، ويستخدمون في ذلك قياس الأولى. قَال الإمام ابن تيمية - رحمه الله -: "فإذا أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات - كما دلت على ذلك الآيات البينات - كان ذلك هو الحق الذي يوافق المعقول والمنقول، ويهدم أساس الإلحاد والضلالات. والله سبحانه لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثيل له، بل له المثَل الأعلى، فلا يجوز أن يشرك هو والمخلوقات في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يستعمل في حقه المثَل الأعلى. وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه"1. وخلاصة هذه الفائدة: أن النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى في قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} ، يشمل النهي عن ضرب الأمثال القياسية الفاسدة، التي يضربها

_ 1 الرسالة التدمرية، ص (17) .

المشركون الجاهلون، التي تؤدي إلى جعل أنداد لله من خلقه، في ربوبيته، أو ألوهيته، أو أي شيء من خصائصه، مما يؤدي إلى تأليه البشر أو غيرهم من المخلوقات، واتخاذهم أربابا. ويشمل النهي - أيضا - كل مثل باطل أورده المشركون لتسويغ ما هم عليه من الشرك، أو لمعارضة شيء مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور. كما يشمل النهي: طريقة المتكلمين نفاة الصفات الذين جعلوا صفات المخلوقين أمثالا تقاس عليها صفات الباري عز وجل، فلذلك عطلوا الصفات خوفا من التشبيه. ولا يشمل ذلك الأمثال الصحيحة التي يوردها أهل العلم، الجارية على قاعدة إثبات المثَل الأعلى لله تعالى، وقياس الأولى: من أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالله أولى به، وكل ما تنزه عنه المخلوق من نقص، فالخالق أولى بالتنزيه عنه. كما تبين خطورة الأمثال الفاسدة، وأن أكثر ضلال الناس وتلبسهم بالشرك والكفر، وصدهم عن الحق، إنما كان بسبب الأمثال الضالة، والأقيسة الفاسدة. كما تبين أن بعض المنتسبين للإسلام والعلم قد خالفوا ما نهى الله عنه من ضرب الأمثال له سبحانه، وخاضوا كخوض الضالين ممن قبلهم من الفلاسفة الملحدين، وضربوا أمثالا معارضين بها ما دل عليه كتاب الله

وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومؤسسين للشرك وتأليه البشر بزخرف من القول وزور. وتضمن الكلام على هذه الفائدة ذكر نماذج لتلك الأمثال الضالة التي ضلوا بها وأضلوا، ونتج عنها وعن غيرها من الشبهات انخراط الكثير ممن ينتسب إلى الإسلام من المتصوفة ونحوهم في أوحال الشرك والبدع وصنوف الضلال، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. والله أعلم.

الفصل الثاني: في ثبوت تفرد الله بالمثل الأعلى ونماذج مما جرى على قياس الأولى من الأمثال

الفصل الثاني: في ثبوت تفرد الله بالمثل الأعلى ونماذج مما جرى على قياس الأولى من الأمثال المبحث الأول: في دلالة السياق الذي ورد فيه إثبات المثل الأعلى لله تعالى * ... المبحث الأول: في دلالة السياق الذي ورد فيه إثبات المثل الأعلى لله تعالى لقد ورد إثبات المثل الأعلى لله - تعالى - في موضعين في القرآن الكريم: الأول: في سورة "النحل" في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1. والثاني: في سورة "الروم" في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2. وسأذكر دلالة كل سياق على حدة في المطلبين القادمين.

_ 1 سورة النحل آية (60) . 2 سورة الروم آية (27-28) .

المطلب الأول: في دلالة السياق من سورة "النحل" الذي ورد فيه ثبوت المثل الأعلى لله تعالى

المطلب الأول: في دلالة السياق من سورة "النحل" الذي ورد فيه ثبوت المثل الأعلى لله تعالى. تقدم الكلام على أهم القضايا التي ناقشتها سورة "النحل" في معرض الكلام على قوله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} في المبحث الأول من الفصل السابق.1 وقوله تعالى: {وَللهِ المثَلُ الأعْلَى وَهُو العَزيزُ الحَكِيم} 2، جاءت في أثناء ذلك السياق الذي تميز بقوة البيان لمعالم التوحيد وأدلة تفرد الله بالألوهية، والرد على المشركين، وتفنيد شبهاتهم، فكانت هذه الآية جزءاً من ذلك البيان، عَرَّفت بالله الإله الحق تعريفاً مجملاً، إلا أنه كاف في الدلالة على استحالة جعل الأمثال لله من أي نوع كان، ولذلك نهى فيما تلاها من الآيات عن ضرب الأمثال له سبحانه بقوله: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} 3. ولعل من المفيد أن أعيد خلاصة ما دل عليه السياق من سورة

_ 1 انْظر: ص (761) وما بعدها. 2 سورة النحل آية (60) . 3 نفس السورة آية (74)

"النحل" الذي تقدم عند الكلام على قوله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} ، لأهمية استحضار تلك الدلائل لفهم المراد بقوله تعالى: {وَللهِ المثَلُ الأعْلَى} ، وحاصل ما تقدم هو1: 1- بيان أن التوحيد باعتقاد تفرد الله بالألوهية، وإفراده بالعبادة، والكفر بالطاغوت، هو الغاية التي أنزل الله لأجلها كتبه، وأرسل رسله. وبين السياق أدلة التوحيد، وفضل أهله، وعاقبتهم الحميدة في الدنيا والآخرة. 2- ذم المشركين، وإبطال الشرك، وبيان سوء عاقبته في الدنيا والآخرة. 3- دلالة السياق على أن المشركين من كفار قريش وغيرهم جعلوا لله مماثلا في الذات والصفة عندما زعموا أن الملائكة بنات الله. 4- دلالته على أنهم جعلوا له مماثلا في الألوهية، عندما اتخذوا من دونه شركاء يدعونهم، ويعبدونهم، ويجعلون لهم نصيبا مما رزقهم الله. 5- ما علم من حالهم من استعانتهم بضرب الأمثال في معارضتهم لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم والاستدلال لما هم عليه من الشرك. 6- نهي الله تعالى عن ضرب الأمثال السيئة له - سبحانه - من أي نوع

_ 1 ص (770) وما بعدها.

كانت. سواء ما ضرب له من الأمثال في الذات والصفات، وما ضرب منها في الألوهية واستحقاق العبادة، وما يضرب له في الربوبية والأفعال، والأمثال القولية التي تضرب للمحاجة والجدال لمعارضة الحق، والتدليل على صحة الشرك. 7- بين السياق العلة من النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى، وأن ذلك لأمرين هامين: (الأول) أن المشركين جاهلون بالله - سبحانه - وما له من الصفات، وبحقه ودينه، وكل ما ضربوه من الأمثال في ذلك فهو جهل وضلال صادر عن الظن وهوى النفوس قال تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} . (الثاني) تفرده - سبحانه - بالمثَلِ الأعْلَى، والكمال المطلق، فهو سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 2. فلا يوجد في حقيقة الأمر من يكون مماثلا لله فيضرب مثلا له، لا في ذاته وصفاته، ولا في ربوبيته وأفعاله، ولا في ألوهيته وحقه على عباده، ولا في علمه وشرعه وهديه.

_ 1 سورة الشورى آية (11) 2 سورة الإخلاص آية (4) .

قَال تعالى: {وَللهِ المثَلُ الأعْلَى وَهُو العَزيزُ الحَكِيم} . 8- بيان دلائل الحق على تفرده بالمثَلِ الأعْلَى، وأنه إله واحد لا شريك له في ألوهيته أو ربوبيته وصفاته، وذلك بالإكثار من ذكر أسمائه وصفاته، وأفعاله، ومظاهر ربوبيته. 9- إبطال ما اخترعه المشركون من الحجج الباطلة، والأمثال والقياسات الفاسدة، ليصححوا بها ما هم عليه من الشرك والكفر، ويعارضوا ما جاءهم من الهدى والبينات. ومن هذا الاستعراض لخلاصة ما دل عليه السياق الذي ورد فيه إثبات المثل الأعلى لله تعالى يتضح أن قول الله تعالى: {وَللهِ المثَلُ الأعْلَى وَهُو العَزيزُ الحَكِيم} ذُكرت لتسهم في بيان القضايا التي ناقشها السياق، وهي تقرير التوحيد بإثبات تفرد الله بخصائص الألوهية والربوبية، وإبطال الشرك واتخاذ الأنداد لله تعالى. فقوله تعالى: {وَللهِ المثَلُ الأعْلَى وَهُو العَزيزُ الحَكِيم} لها علاقة في الدلالة على تفرد الله بالألوهية والربوبية وخصائصهما، واستحالة وجود الأمثال، والأنداد له في حقيقة الأمر. ويؤكد هذه النتيجة السياق القريب من قوله تعالى: {وَللهِ المثَلُ الأعْلَى} ، حيث إن الآيات التي سبقتها مباشرة، استعرضت أنواعاً من

الشرك بالله، بدأت بقوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوآ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 1. وقال: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} 2. وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} 3. وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 4. وهذا الاعتبار مع تأكيده لما تقدم يدل على أن المراد بقوله: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} هم جميع من تقدم، إذ أن الجميع اشتركوا في الكفر بالآخرة، والكذب على الله، ونسبوا له ما لا يليق به، من الأمثال والأنداد والشركاء والبنات. وأكتفي بهذا بالنسبة لسياق سورة "النحل" حيث سبق الكلام على دلالته في الفصل السابق كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.

_ 1 سورة النحل آية (51) . 2 سورة النحل آية (54) 3 سورة النحل آية (56) 4 سورة النحل آية (57)

المطلب الثاني: دلالة السياق من سورة "الروم" الذي ورد فيه إثبات المثل الأعلى لله تعالى

المطلب الثاني: دلالة السياق من سورة "الروم" الذي ورد فيه إثبات المثل الأعْلَى لله تعالى. إن النظرة العامة لسورة "الروم" التي ورد فيها قول الله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، تبين أنه يمكن تقسيم السورة إلى قسمين باعتبار القضايا التي تطرقت لها السورة، وأن الحد الفاصل بين القسمين هو الآية التي ورد فيها إثبات المثَلِ الأعْلَى لله تعالى، والتي تقع في منتصف السورة تقريبا. وذلك أن السورة ركزت على قضيتين هامتين وما يتصل بهما، وهما: (الأولى) قضية البعث بعد الموت، وذكر أدلته. (الثانية) قضية التوحيد، والأمر بإقامة الدين الخالص والاجتماع عليه، والتحذير من الشرك، وإبطاله. وركز القسم الأول من السورة على القضية الأولى، والقسم الثاني على القضية الثانية، وإن كان كل قسم لا يخلو من الإشارة إلى كلا القضيتين، وجاءت آية الوسط التي ورد فيها قوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} لتربط بين القضيتين بأسلوب عظيم، ومعان دقيقة تبرز عظمة القرآن وبديع نظمه وإعجازه.

وسأستعرض فيما يلي دلالة الأسلوب في كل من القسمين، وعلاقة الآية التي ورد فيها إثبات المثَلِ الأعْلَى لله بكل منهما. والله المستعان. أولا: دلالة القسم الأول من السورة: سورة "الروم" من السور المكية التي غلب عليها مجادلة مشركي قريش خاصة في أمر توحيد الألوهية، والبعث بعد الموت، ووجوب إخلاص الدين لله ومن الله، ونحوها من قضايا الاعتقاد. وقد بدأ السياق في التعرض لذلك بذكر مجمل للقضيتين المشار إليهما قريبا: قضية البعث بعد الموت وما يتصل بها، وقضية التوحيد والنهي عن الشرك وما يتصل بها، وهما القضيتان اللتان أنكرهما كفار قريش وغيرهم من العرب أشد الإنكار. قَال تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ المُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ} 1. ثم ذكر سبحانه مصير الفريقين من المؤمنين والمشركين يوم القيامة.

_ 1 سورة الروم آية (11-13) .

مبيناً أن الذين وحدوا الله وعبدوه وآمنوا بالبعث بعد الموت جزاؤهم الجنة، وأن الكافرين الذين أشركوا بالله، وكذبوا بالبعث ولقاء الله جزاؤهم النار. ثم أخذت الآيات تناقش القضية الأولى، قضية البعث بعد الموت، حيث ذكر الله دلائل إمكان البعث العقلية. ومضمار الاستدلال هي آيات الربوبية، وما يشاهده الناس من آثار أفعاله سبحانه، وقد كثر ذكر دلائل الربوبية في القسم الأول من السورة بغرض الاستدلال على قدرة الله على البعث. فقد ذكر الله ما يدل على شمول ربوبيته، وأهم خصائصها من الملك، والخلق، والأمر الكوني التي يتم بها تدبير الكون وما فيه.1 أشار سبحانه إلى تفرده بالملك بقوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 2. وإلى الأمر الكوني بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الأَرْضِ إِذَآ أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} 3.

_ 1 انْظر: ص (834) . وما بعدها. 2 سورة الروم آية (26) . 3 سورة الروم آية (25)

وقبل ذلك بقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} 1. أما حديث الآيات عن صفة الخلق، ومظاهرها في الكون، فقد كان واسعا في ذلك السياق لأمرين: الأول: أن البعث بعد الموت - الذي يستدل له بتلك الآيات - من آحاد تلك الصفة. الثاني: ما تقدم من أن جميع صفات الله الفعلية المتعلقة بربوبية الله وتدبيره للخلائق تعود إلى صفة الخلق.2 وقد بدأ - سبحانه - السياق للاستدلال للبعث بعد الموت بما يشاهد من آثار خلقه بقوله: {اللَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. وختمه بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} 4. وقد تقدم بيان ما يدل عليه مثل هذا الأسلوب. وخلاصته:

_ 1 سورة الروم آية (4) . 2 انْظر: ص (835) . 3 سورة الروم آية (11) . 4 سورة الروم آية (27) .

"وهذه الطريقة: وهي أن يبدأ السياق الذي يضم جملة من الآيات: ويختم بنفس المعنى مع التقارب في الألفاظ، له دلالة هامة، حيث يدل على أن ما بين الآيتين - المبدوء والمختوم بها - يتكلم عن قضية واحدة أو أن ما يذكر في ذلك السياق له علاقة بالمعنى المشترك بين آيتي البدء والختام. وهذه الطريقة من روائع البيان القرآني. وقد تكررت في القرآن في مواضع لبيان قضايا هامة"1. "وهذا الأسلوب جدير بأن يراعى في التفسير على أساس أن ما بين الآيتين - المبدوء والمختوم بهما - يتكلم عن قضية واحدة، أو له علاقة بالمعنى الذي دلت عليه آيتا البدء والختام"2. وسوف يتكرر هذا الأسلوب في هذه السورة - سورة الروم - في القسم الثاني من السياق، في بيان قضية هامة أخرى، هي قضية التوحيد، والأمر بالاستمساك بها، وبما تستلزمه من الأعمال الصالحة، والتحذير من الشرك والعصيان، وبيان عاقبة التوحيد الحسنة في الدنيا والآخرة، وعاقبة الشرك والعصيان السيئة في الدنيا والآخرة. وقد تضمنت الآيات المحصورة بين آيتي البدء والختام في القسم الأول من السورة، ذكر الأدلة العقلية على البعث بعد الموت، بما يشاهد

_ 1 تقدم، ص (454) . 2 تقدم، ص (456) .

من آثار ربوبية الله وخلقه. واشتمل هذا المقطع من السياق على ثلاثة أنواع من الأدلة العقلية هي: الأول: القياس التمثيلي، المتمثل بتشبيه بعث الناس بعد موتهم بحياة الأرض بعد موتها. قال الله تعالى: {يُخْرِجُ الحَيَّ مِنْ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنْ الحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} 1. الثاني: قياس الأولى، المتمثل في أن من كان قادرا على خلق الأعظم فقدرته على ما دونه في الخلق تكون من باب أولى. وذلك أن الله ذكر خلق السموات والأرض وما فيهما من المخلوقات العظيمة - التي هي أعظم من إعادة خلق الناس، وبعثهم من قبورهم - وذكر قيامهما بأمره - سبحانه - فتكون إعادة خلق الناس، وقيامهم بأمره واقع من باب أولى. قَال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ... } إلى قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ

_ 1 سورة الروم آية (19) .

تَخْرُجُونَ} 1. الثالث: قياس الأولى. المتمثل فيما استقر في العقول، مِنْ أنّ مَنْ صنع شيئاً، فإنه يكون قادراً على إعادة صنعه من باب أولى وهي أهون عليه. فلو طبقوا هذه القاعدة المستقرة في عقولهم لتوصلوا إلى إثبات إمكان البعث، إذ أن المعيد للخلائق هو الذي خلقهم أول مرة، فعلى ذلك الحكم عندهم يكون أهون عليه، وإن كان الله تعالى كل شيء عنده هين.2 قَال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 3. نوع القضيتين المستدل بها ولها: لقد جرى الاستدلال في الأدلة العقلية القياسية المتقدمة من أجل إثبات قضية مشتركة هي البعث بعد الموت، أو إعادة خلق الناس يوم

_ 1 سورة الروم آية (22-25) . 2 انْظر: جامع البيان، لابن جرير، (10/179، 180) . 3 سورة الروم آية (27) .

القيامة. أما القضايا المستدل بها، فهي مختلفة. ففي الدليل الأول هي: إعادة خلق النبات بعد موته. وفي الثاني: قدرة الله على خلق السموات والأرض ومن فيهن وتدبير أمورهم بأمره الكوني. وفي الثالث: خلق الناس أول مرة. ويلاحظ - وهذا أمر هام - أن كلّ القضايا المستدل لها والمستدل بها هي آحاد لصفتي الخلق والقدرة لله تعالى. وهذا يدل على أن مشركي العرب يثبتون لله صفة الخلق، لكنهم لا يثبتون له كمالها وشمول قدرة الله وخلقه لكل شيء. وهذا المعنى قد بينه الله من حالهم في صفة أخرى، هي صفة العلم، حيث قَال: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلآ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُون َ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الخَاسِرِينَ} 1. وهذا هو السر - والله أعلم - في كثرة الآيات التي تبين إحاطة

_ 1 سورة فصلت الآيتان (22-23) .

علمه بكل شيء، وخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1. وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3. وتكررت بلفظها ومعناها كثيرا جداً. وهذه حالهم في كثير مما أقروا به لله تعالى؛ حيث يقرون بربوبية الله لكن يجادلون في البعث بعد الموت مثلا وهو من آحادها. ويقرّون بألوهية الله، ويصرفون له أنواعاً من العبادة، لكنهم يجعلون له الشركاء في العبادة. ويقرون بصفة العلم، لكنهم يظنون أنه لا يعلم كثيراً مما يعملون. ولذلك ونحوه قَال الله عنهم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 4. وهذا القصور في معرفة الله وحقه، كان من أهم أسباب ضلالهم

_ 1 سورة البقرة آية (282) وغيرها. 2 سورة الزمر آية (62) . 3 سورة البقرة آية (20) وما بعدها. 4 سورة الأنعام آية (91) ، الحج آية (74) ، الزمر آية (67) .

وترديهم. {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الخَاسِرِينَ} 1. ونتيجة هذا الاعتبار هي: دلالة السياق على أن مشركي العرب ونحوهم يصفون الله بصفات موافقة في أصلها لما هو ثابت لله تعالى، إلاّ أنهم لا يبلغون في إثباتها ما يليق بالله تعالى. فهم يثبتون لله من تلك الصفات أدنى مما هو ثابت له سبحانه، والله تعالى يبين لهم أن له المثَلَ الأعْلَى وأن له من تلك الصفات كمالها الذي لا يدانيه فيها غيره سبحانه، ولا يعجزه معه شيء. فقال سبحانه: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم} . كما يستنتج من دلالة السياق: أنه نتج عن جهلهم بالله وما تولد عنه من ظنون سيئة، تكذيبهم بالبعث بعد الموت، بسبب الأقيسة الفاسدة التي قاسوا بها صفات الله تعالى على صفاتهم أو على ما يشاهدونه ويعقلونه، فزعموا بذلك أن لا أحد يقدر على إعادتهم إذا أرموا. والله تعالى يبين لهم في مقابل ذلك، الأقيسة الصحيحة، الدالة على البعث، وتوجب لمن تأملها استشعار عظمة الله وعظمة صفاته. ويلفت

_ 1 سورة فصلت آية (23) .

الانتباه بتلك الأمثال، وبقوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} : إلى أن كل مثل صحيح يوافق ما هو ثابت له سبحانه من الكمال الأعلى في صفاته وأفعاله، مما دل عليها الكتاب والسنة، فهو له سبحانه، منسوب إليه، وهو أولى به. ومما تقدم تبين علاقة قوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} بما تقدمها من بيان صفات الله، وعظمتها، وآثار ربوبيته المستدل بها على البعث بعد الموت، وما ورد من الأقيسة المضروبة لذلك الجارية على قياس الأولى. ويؤكد هذه العلاقة ذكر واحد من أحد تلك الأدلة العقلية في نفس الآية التي أثبت الله فيها لنفسه المثَل الأعْلَى وهي قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} . خلاصة ما دل عليه هذا الجزء من السياق: تبين أن القسم الأول من سياق سورة "الروم" ناقش قضية البعث بعد الموت التي أنكرها مشركو العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتركيز على ذكر الدلائل العقلية على إمكان البعث. وكان محور الاستدلال على ذلك هو مظاهر ربوبية الله، وآثار أفعاله التي يشاهدها الناس، وذكر أهم خصائص الربوبية من تفرد الله بالملك، والأمر الكوني، والخلق والتدبير،

التي توجب لمن تأملها القطع بقدرة الله العظيمة على كل شيء، وأنه لا يعجزه شيء، ومن ذلك البعث بعد الموت. وقد ذكر في هذا السياق ثلاثة أدلة عقلية على إمكان البعث بعد الموت هي: 1- القياس التمثيلي: بقياس إمكان إحياء الناس بعد موتهم على ما يشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها. 2- قياس الأَولى: المتمثل بكون القادر على خلق العظيم وتدبيره كالسموات والأرض وما فيهما، قادر على خلق ما دون ذلك كبعث الناس من باب أولى. 3- قياس الأَولى: المتمثل في أن الذي خلق الناس أول مرة يكون قادراً على إعادة خلقهم مرة أخرى من باب أولى. واستنتج من هذه الأدلة أن القضية المستدل لها، والقضايا المستدل بها جميعها من آثار صفة الخلق. مما يدل على أن المشركين يثبتون لله أصل صفة الخلق، لكن لا يثبتون له كمالها وشمولها، وأن الله قادر على خلق كل شيء يريده سبحانه. وهذه حالهم في كثير مما يثبتونه لله كالألوهية والعلم، ونحوها. فهم يثبتون لله من تلك الصفات أدنى مما هو ثابت له - سبحانه -. والله تعالى يبين لهم أن له المثل الأعْلَى، وأن له من تلك الصفات وغيرها من صفات الكمال كمالها الذي لا يدانيه فيها غيره، ولا يعجزه معها شيء.

كما يستنتج من السياق: أن الله تعالى ضرب لهم تلك الأدلة العقلية المتضمنة للقياس الصحيح ليبطل تلك الأقيسة الفاسدة التي توصلوا بها إلى التكذيب بالبعث حيث قاسوا قدرة الله على الخلق على أنفسهم، وما يشاهدونه من أن من مات لا يعود. ويوجب لهم تأمل تلك الأدلة القطع بأن الله على كل شيء قدير، وأن البعث عليه يسير. كما يلفت الانتباه - سبحانه - بتلك الأمثال المضروبة، والأدلة المعقولة إلى أن كل مثل صحيح يوافق ما هو ثابت له سبحانه من الكمال فهو له، ينسب إليه، ويجوز أن يضرب له وهو أولى به. والله أعلم.

ثانيا: دلالة القسم الثاني من سياق سورة "الروم": تقدم أن سورة "الروم" خصصت للكلام على قضيتين وما يتصل بهما، هما: 1- قضية البعث بعد الموت، وتطرق لها السياق في القسم الأول من السورة، وتقدم الكلام عليه. 2- قضية التوحيد، والأمر بإقامة الدين الخالص والاجتماع عليه، والتحذير من الشرك وإبطاله، وجرى بيان ذلك في القسم الثاني من سياق السورة. وهذا القِسم من السياق يبدأ من الآية التي انتهى بها القِسم الأول من السورة وهي قوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم} . وتقدم في الكلام على القسم الأول أن قوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} لها علاقة بالقضية التي جرى بيانها في أول السورة، قضية البعث بعد الموت، كما لها علاقة بالقضية التي جرى بيانها في القسم الثاني من السورة قضية التوحيد وإبطال الشرك، وتقدم في الكلام على القسم الأول بيان شيء من علاقتها بقضيته. ومن ذلك ما ختمتُ به التأمل في القسم الأول من السياق، فإنه

صالح أن يبدأ به تأمل القسم الثاني منه. وهو ما يستنتج من السياق من: "أن الله تعالى ضرب لهم تلك الأدلة العقلية المتضمنة للقياس الصحيح، ليبطل تلك الأقيسة الفاسدة التي توصلوا بها إلى التكذيب بالبعث، حيث قاسوا قدرة الله على الخلق على أنفسهم أو ما يشاهدونه من أن من مات لا يعود. وتوجب لهم تلك الأدلة القطع بأن الله على كل شيء قدير وأن البعث عليه يسير. كما يلفت الانتباه - سبحانه - بتلك الأمثال المضروبة، والأدلة المعقولة، إلى أن كل مثل صحيح يوافق ما هو ثابت له - سبحانه - من الكمال فهو له، ينسب إليه، ويضرب له، وهو أولى به". وكما ضرب - سبحانه - أمثلة وأدلة عقلية على إمكان البعث - القضية الأولى - قبل قوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} ، ضرب مثالا ودليلا على بطلان الشرك ووجوب التوحيد - القضية الثانية – بعده، مما يؤكد تلك العلاقة المتقدمة بين ضرب الأمثال العليا المثبتة لله الكمال، والمتضمنة للقياس الصحيح، وبين قوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} . قَال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ

هَلْ لَكُمْ مِّنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. وفي قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... } الآية، شرع سبحانه في مناقشة القضية الثانية التي يجادل لها المشركون، وهي تجويزهم الشركاء لله في العبادة، وإنكارهم التوحيد. وهذا المثل يتضمن دليلا عقليا على بطلان الشرك بقياس الأولى. وخلاصة هذا الدليل: إن من المقرر لدى المخاطبين وجميع العقلاء كراهية السيد الغني مشاركة عبده له، ونفوره من ذلك، حيث لا يقبل أن يشارك إلا من كان كفُؤاً له. فإذا تقررت هذه القاعدة فيجب أن يحكم له بها. بل هو أولى بهذا الحكم لكمال سؤدده وغناه، فيعتقد كراهته لأن يكون أحد من عبيده شريكا له في العبادة. واستحالة أن يتخذ أحدا منهم شريكا، ولكونه ليس له كفُؤٌ ولا ند فيبطل بذلك الشرك من أساسه. ولهذا الاعتبار نجد أن الله تعالى ذكر آثار ربوبيته وتدبيره لخلقه، ليبين تفرده بخصائص الربوبية والألوهية، وليقطع بذلك شبهة أن يكون له ند يكافِئُه، وبذلك ينقطع أساس الشرك، ويدل على هذا - وهو نفي

_ 1 سورة الروم آية (27-28) .

المماثل - قول الله تعالى في السورة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَآئِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وبعد أن أدحض الشرك بهذا المثل، بين - سبحانه - أن المشركين ليس لهم مستند على شركهم إلا اتباع الهوى بغير علم. وأن الله أضلهم لضلالهم واتباعهم الهوى وإعراضهم عن الهدى. قَال تعالى: {بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوآ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 2. ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه بإقامة الدين لله وحده، والإخلاص في عبادته، والإعراض عن طريق المشركين الضالين المختلفينَ. قَال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} 3. وفي مجيء قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ... } الآيات، بعد

_ 1 سورة الروم آية (40) . 2 سورة الروم آية (29) . 3 سورة الروم آية (30) .

إثبات المثل الأعْلَى له وحده سبحانه مناسبة هامة هي: بيان أن إقامة الدين، وإخلاص العبادة لله هي ثمرة العلم، وإثبات المثَلِ الأعْلَى لله وحده. فمن أثبت لله المثل الأعْلَى، عمر قلبه بالتوحيد، وعندها يقيم دينه، وحياته، وكل أحواله لله، وعلى منهج الله. والدين القيم هو: الإخلاص في عبادة الله، وعدم صرف أي شيء من العبادة لغيره سبحانه، كما يبين ذلك بقوله: {وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} 1. وبقوله تعالى: {إِنْ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوآ إِلآَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} 2 وقد بيّن الله هذا المعنى فيما تلا ذلك من السياق حيث أمر بجملة من العبادات، واشترط لقبولها والانتفاع بها الإخلاص عائباً في أثناء ذلك على المشركين الذين يعبدون معه غيره، قَال تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ المُشْرِكِينَ} 3.

_ 1 سورة البينة آية (5) . 2 سورة يوسف آية (40) . 3 سورة الروم آية (31) .

ففي قوله: {وَلاَ تَكُونُوا مِنْ المُشْرِكِينَ} أمْرٌ بالإخلاص في تلك العبادات ونهْيٌ عن الشرك. وقال تعالى: {فَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ المُفْلِحُونَ} 1. فقوله: {خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ... } الآية، بيان أن الفلاح والانتفاع بتلك الأعمال موقوف على الإخلاص وإرادة وجه الله بها. وقال تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ المُضْعِفُونَ} 2. قوله: {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} ، فيه بيان أن الإخلاص وإرادة وجه الله بهذه العبادة العظيمة شرط في قبولها وحصول المضاعفة لصاحبها. ثم ذكر سبحانه دليلا على تفرده بالألوهية لتفرده بالربوبية ذاكراً أن كل من جعل إلها من دونه ليس له شيء من الربوبية فعبادته باطلة، ونزه نفسه سبحانه أن يكون له شريك. قَال تعالى:

_ 1 سورة الروم آية (38) . 2 سورة الروم آية (39) .

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَآئِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. ثم بيّن - سبحانه - أن كل ما يحصل من فساد في البر أو البحر إنما هو بسبب التفريط بهذا الأصل، ويكون ذلك: بعدم الإخلاص له في العبادة، أو بعدم إخلاص تلقي العبادات والتشريعات من وحيه، أو بترك عبادته أصلاً، قَال تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2. ثم ختم السياق الذي بدأه بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ... } بمثل ما بدأه به، حيث قَال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} 3. وتقدمت الإشارة إلى هذا النوع من الأسلوب عند الكلام على

_ 1 سورة الروم آية (40) . 2 سورة الروم آية (41) . 3 سورة الروم آية (43) .

القسم الأول من سياق سورة "الروم". والقضية التي يتحدث عنها السياق بين آيتي البدء والختام هي الأمر بملازمة الدين القيم، وبيان أن الدين القيم هو الذي يقوم على عبادة الله والإخلاص له فيها، ومجانبة الشرك، وذكر بعض ما يتصل بذلك. ثم استمر السياق يناقش القضيتين اللتين وقع فيهما مشركو العرب وجادلوا فيهما النبي صلى الله عليه وسلم واللتين ركزت عليهما السورة، وهما: 1- اتخاذهم الأنداد والشركاء لله في العبادة. 2- إنكارهم البعث بعد الموت. وذلك بذكر وعيد شديدٍ لهؤلاء المشركين يوم القيامة، وذكر مزيد من الأدلة على قبح الشرك. فتفرد الله بالربوبية والإنعام، ومقابلة ذلك بعبادة غيره قبيح في العقول السليمة. ثم أعاد أول دليل ذكره في أول السورة على إمكان البعث وهو الجاري على قياس التمثيل حيث إنه أسهل القياس، ويشاهده كل الناس. وقد جمع الله بين دليل البعث والذي قبله في آيات بديعة، حيث قَال- سبحانه -: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا

هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنْتَ بِهَادِي العُمْيِ عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} 1. وختم الله السورة ببيان أنه سبحانه ضرب للناس في القرآن الكريم من كل مثل يحتاجه الناس لبيان ما أراده منهم وشرعه لهم من الدين، ومن ذلك ما ورد في هذه السورة من الأمثال التي فصل فيها البراهين الدالة على البعث بعد الموت، وبطلان الشرك، وتفرد الله بالألوهية. وهذه الأمثال إنما ضربت ليستدلوا بها على عظمة الله وعظمة صفاته، فهي أمثال عالية حسنة لما تدل عليه من إثبات المثل الأعْلَى لله تعالى. وبإثباته لله تنقطع كل شبهة مماثلة بين الله تعالى وغيره ممن عبد من دونه، ويثبت كمال أفعاله وقدرته على كل شيء ومن ذلك بعث الناس بعد الموت.

_ 1 سورة الروم آية (48-53) .

ثم بيّن السياق حال الكفار مع تلك الأمثال، وأنهم يصدون عن تدبرها ويكذبون بها، وفعلهم ذلك من أسباب طبع الله على قلوبهم. قَال الله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوآ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} 1. خلاصة دلالة هذا المقطع من السياق: تبيّن مما تقدم أن القسم الثاني من سورة الروم - الذي بدأ من قوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم} إلى آخر السورة، دل على أمور كثيرة من أهمها: 1- دلالة قوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} على أن لله من صفات الربوبية والألوهية وسائر صفاته، أكملها وأعلاها، بكيفية كائن بها متفرداً لا يشاركه غيره في شيء منها. 2- إيراد مثال يدل على بطلان الشرك، وعبادة غير الله، جار على قياس الأولى في قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ....} الآية. 3- بناء على ما تقدم من قيام الدليل على تفرد الله بالألوهية، وعلى

_ 1 سورة الروم آية (58 - 59) .

بطلان الشرك واتخاذ الآلهة مع الله، تكون ثمرة العلم بذلك إقامة الدين وإخلاص العبادة لله وحده، والإعراض عن المشركين ودعاويهم الباطلة، فهذه حقيقة حال من قام المثل الأعلى في قلوبهم لله تعالى. قَال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ... } الآية. 4- بيان حقيقة دين الله، وأنه الدين القيم، القائم على التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، إذ هي ثمرة اعتقاد تفرد الله بالمثل الأعلى. وذكر بعض الأدلة العقلية على تفرد الله بالربوبية مما يدل على وجوب إفراده بالألوهية والتعبد. 5- قوله تعالى في آخر السورة: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَل ٍ ... } الآية، إشارة إلى ما ورد في هذه السورة من البراهين والحجج على إمكان البعث بعد الموت، وعلى تفرد الله بالربوبية والألوهية، والمثل الأعلى. وفيه أيضا إشارة إلى ما ضرب في السورة من الأمثال الحسنة التي يستدل بها على عظمة الله وعظمة صفاته، وثبوت المثل الأعْلَى له سبحانه.

المبحث الثاني: في المراد بالمثل الأعلى ومعنى الآيات الدالة على ذلك

المبحث الثاني: في المراد بالمثل الأعلى ومعنى الآيات الدالة على ذلك المطلب الأول: في المراد بالمثل الأعلى لله تعالى ... المطلب الأول: في المراد بالمثَلِ الأعْلَى لله تعالى. لقد تعددت عبارات السلف ومن بعدهم من العلماء في تفسير المثل الأعلى، واستشكل بعضهم قول بعض في ذلك1، وذلك يدل على الحاجة لتحرير المراد بالمثَلِ الأعْلَى لله تعالى ... وفق اعتبارات واضحة تستبين من خلالها المعاني الصحيحة لما أثبت الله لنفسه سبحانه من المثل الأعلى، ويزول الإشكال بإذن الله تعالى، وأهم هذه الاعتبارات ما يلي: 1- اتفاق المعنى الذي يفسر به "المثل الأعْلَى" مع الدلالة اللغوية للفظ "مثل" وما يدل عليه وصف الأعلى. 2- اتفاقه مع دلالة السياق. 3- أن يكون قد قال به بعض السلف أو العلماء السائرين على طريقهم، أو تؤول أقوالهم إليه. 4- أن لا يتعارض مع الأصول المقررة المعلومة، والنصوص المحكمة، واتفاقه مع الحقائق الإيمانية وما كان عليه سلف الأمة في باب الأسماء والصفات. وقبل البدء بالكلام على معاني قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، أقدم 1 انْظر: الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، للإمام ابن القيم، تَحْقِيْق / أ. د. أحمد بن

_ عطية الغامدي، (2/685، 686) .

النظر في أي المعاني اللغوية للفظ "مثَل" المناسب لتفسير "المثَل" في الآية به، وذكر ما يدل عليه وصف "الأعلى". أولاً: بيان المعاني اللغوية للفظ "مثل" الصالحة لتفسير "المثل الأعلى" بها: تقدم1 الكلام على المعاني اللغوية للفظ "مثل" وأنها أربعة معان رئيسة، أذكرها وأذكر مدى مناسبة كل منها لتفسير الآية به، فيما يلي: المعنى الأول: المثل السائر. هذا المعنى وإن كان صحيحا باعتبار أن قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، أصبح مثلا يتمثل به من أورد مثلا لبيان صفات الله ونحوها، فيقول مثلا: رؤية الله ثابتة يوم القيامة، ومثال ذلك {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} : الشمس ترى دون أن يحاط بها. فكذلك الله تعالى يرى ولا يحاط به علما. إلا أن المثل في الآية لا يفسر به، فلا يقال: إن مراد الله بقوله: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، هو: أن كل مثل سائر أعلى فهو لله. فلم يقل به أحد من أهل العلم. ولكن بعض أفراده يدخل في المعاني التي يصح تفسيره بها نظراً

_ 1 انْظر: ص (42) وما بعدها.

لمعناها لا لكونها أمثالا سارية. المعنى الثاني: المثل بمعنى الشبيه والنظير. وهذا المعنى لا يجوز تفسير المثل به، في قوله: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، بإجماع أهل الإسلام، إذ إن مؤدى ذلك الشرك الذي أرسل الأنبياء وأنزلت الكتب لإبطاله والتحذير منه. ويدخل في ذلك الأمثال التمثيلية التي يقاس فيها معين بمعين. المعنى الثالث: المثل بمعنى الوصف. وهذا المعنى يصح تفسير المثل به، في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} . إذ إن الله وصف نفسه، وصفاته هي الأعلى والأكمل. فيطلق {المَثَلُ الأَعْلَى} على مجموع الصفات والحقائق القائمة به سبحانه. ولا يوجد ما يعكر على ذلك، وسيأتي إيضاح ذلك في محله إن شاء الله. المعنى الرابع: المثل بمعنى مثال - وهي الأمثال الأنموذجية القياسية - وهذه أيضا لا يصح تفسير المثل الأعلى بها، فلا يوجد لله مثال تقاس عليه أسماؤه وصفاته تعالى الله عن ذلك. ويدخل في ذلك الأمثال القولية الأنموذجية القائمة على قياس الشمول، فلا يجوز أن يشرك الله هو والمخلوق في قياس شمول تستوي فيه

أفراده، ولا يجوز من ذلك إلا ما كان جاريا على قياس الأولى. فإن الله له المثَلُ الأعْلَى. "وهو أنّ كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما يُنزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزه عنه"1. والحاصل من ذلك: أن معاني المثل التي يصح أن يفسر بها "المثل الأعْلَى" لله تعالى هي: 1- المثل بمعنى الوصف، ومن ذلك إطلاق لفظ "مثل" على مجموع حقائق الشيء وصفاته. 2- الأمثال القولية الجارية على قياس الأولى. وكل معنى صحيح فُسِّر به المثل في الآية فهو راجع إلى أحدهما. ثانيا: معنى الأعلى في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} : قَال الراغب الأصفهاني - رحمه الله -: "وأما قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} 2، فمعناه: أعلى من أن يقاس به، أو أن يعتبر بغيره"3. وهذا التفسير يدل على تفرده - سبحانه - بالعلو علو الذات والصفات فلا يدانيه في ذلك أحد.

_ 1 الرسالة التدمرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص (17) . 2 سورة الأعلى آية (1) . 3 المفردات، ص (345)

قَال ابن تيمية - رحمه الله - مبينا هذا المعنى: "وقد تضمن العلو الذي ينعت به نفسه في كتابه أنه متعال عما لا يليق به من الشركاء والأولاد فليس كمثله شيء، وهذا يقتضي ثبوت صفات الكمال له دون سواه، وأنه لا يماثله غيره في شيء من صفات الكمال، بل هو متعال عن أن يماثله شيء"1. وقال - رحمه الله - مبينا دلالة اسم الله "الأعلى" على جميع معاني العلو: " و {الأَعْلَى} يجمع معاني العلو جميعها، وأنه الأعلى بجميع معاني العلو"2. وقد بيّن الشيخ عبد الرحمن السعدي تلك المعاني، بقوله: "العلي الأعلى: وهو الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه، علو الذات، وعلو القدر والصفات، وعلو القهر. فهو الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى. وبجميع صفات العظمة والكبرياء والجلال والجمال وغاية الكمال

_ 1 مجموع الفتاوى، (16/123) . 2 المصدر السابق، ص (119) .

اتصف وإليه فيها المنتهى"1. وبيّن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن صفة العلو لله تعالى تدل على ثلاثة أمور هي: تفرده بالربوبية، وتفرده بصفات الكمال، وتفرده بالألوهية، بين ذلك بقوله: "وإثبات علوه - علوه على ما سواه، وقدرته عليه وقهره - يقتضي ربوبيته له، وخلقه له.... وعلوه عن الأمثال يقتضي أنه لا مثل له في صفات الكمال ... . وتعاليه عن الشركاء يقتضي اختصاصه بالإلهية، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو وحده ... "2. ثم لخص ذلك بقوله: "فقد تبين أن اسمه "الأعلى"، يتضمن اتصافه بجميع صفات الكمال، وتنزيهه عما ينافيها من صفات النقص، وعن أن يكون له مثل، وأنه لا إله إلا هو، ولا رب سواه". وإذا نسب شيء إلى الله، ووصف بأنه الأعلى، فإنه لا يخرج عن هذه المعاني.

_ 1 تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، فصل في شرح أسماء الله الحسنى (5/623) 2 مجموع الفتاوى، (16/123) .

والمثل في قوله: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} منسوب إلى الله بقوله: "له"، وقوله: {َلِلَّهِ} . وهذه النسبة إلى الله فيها ثلاثة احتمالات: الأول: أن تكون نسبة تشريف، ويكون "المثل" غير الله. وهذا باطل، إذ أن مدلول المثل على هذا يقتضي أن يكون مماثلا لله ندا له، والله تعالى منزه عن الأمثال. الثاني: أن يكون "المثل" معنى قائما بالله، وهذا جائز. ولا بدّ في هذه الحالة أن يكون منحصرا في بعض المعاني التي دل عليها وصف "الأعلى" المتقدمة، إذ إنه موصوف بأنه الأعلى في قوله: {المَثَلُ الأَعْلَى} . ومدلول الأعلى محصور في ثلاثة معان: الأول: علو الذات. الثاني: علو الصفات والأفعال، ومنها الألوهية والربوبية. الثالث: علو القهر والسلطان. والمعنى الأول والثالث يعودان إلى الثاني، حيث إن الله متصف بصفة العلو والقهر. فيكون تفسير المثل الأعلى: بالمعاني الحقيقية القائمة بذات الله تعالى،

وهي صفات الكمال، هو الأنسب ويشمل المعاني التي يدل عليها وصف المثل بأنه الأعلى. الثالث: المثل بمعنى الأمثال القولية التي ضربها الله لعباده. وهذا المعنى جائز تفسير المثل به في قوله: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، لأن الأمثال التي ضربها الله لنفسه، والأمثال الصحيحة التي يضربها العالمون بالله، تدل على ما هو ثابت لله حقا من المعاني العليا. ووصف "المثل" - على هذا المعنى - بأنه الأعلى من جهتين: الأولى: أن ضاربه هو الله تعالى. الثانية: لدلالته على الحق، والمعاني العالية، التي يدل عليها وصف الأعلى، والتي تقدم بيانها. والمراد بنسبة المثل إلى الله على هذا المعنى: أي صحة ضربها له. ودلالتها على ما هو ثابت له سبحانه، واختصاصه بها وعدم جواز ضربها لغيره. وخلاصة ما دل عليه وصف "الأعلى": تبين مما تقدم أن وصف الله بأنه "الأعلى" يدل على ثلاثة معان: الأول: علو الذات. الثاني: علو الصفات والأفعال - ومن ذلك صفة الألوهية والربوبية - عن الشريك والمماثل..

الثالث: علو القهر والسلطان. وأن نسبة المثل إلى الله ووصفه بأنه الأعلى يمكن تفسيره بأمرين: الأول: المعاني الحقيقية القائمة بذات الله تعالى وهي صفات الكمال. الثاني: الأمثال القولية الدالة عليها. والله أعلم. تحرير المراد "بالمثَلِ الأعْلَى": إن دلالة السياق الذي ورد فيه قول الله تعالى {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، وقوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} ، وما يستفاد من النظر فيما يمكن تفسير "المثل" به فيهما من المعاني اللغوية، وما يفيده وصف الله أو ما نسب إليه بالأعلى، كل ذلك يدل على أن "المثل الأعلى" يفسر بأكثر من معنى صحيح. وهذه المعاني منها معنى هو الأساس والأصل وهو ثبوت المثل الأعلى لله تعالى وقيامه بذاته كما سيأتي بيانه، والمعاني الأخرى دالة عليه أو نتيجة له، فهي توصف بأنها الأعلى باعتبار موافقتها له ودلالتها عليه. فليست معاني متضادة، وإنما يطلق "المثل الأعْلَى" على كل منها باعتبار صحيح. وقد دل على ذلك - أيضا - أقوال أهل العلم.

وأشمل قول حصر معظم المعاني الصحيحة التي يفسر بها "المثل الأعْلَى" هو ما ذكره الإمام ابن القيم - رحمه الله - بقوله: "المثَلُ الأعْلَى يتضمن الصفة العليا، وعلم العالمين بها، ووجودها العلمي، والخبر عنها وذكرها، وعبادة الرب سبحانه بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه. فها هنا أربعة أمور: ثبوت الصفات العليا لله سبحانه في نفس الأمر، عَلِمها العباد أو جهلوها، وهذا معنى قول مَن فسره بالصفة. الثاني: وجودها في العلم والتصور، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وجلاله وتعظيمه. وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه بل يختص به في قلوبهم كما اختص به في ذاته، وهذا معنى قول من قال من المفسرين: أهل السماء يعظمونه ويحبونه ويعبدونه، وأهل الأرض يعظمونه ويجلونه، وإن أشرك به من أشرك، وعصاه من عصاه، وجحد صفاته من جحدها، فكل أهل الأرض معظمون له مجلون له خاشعون لعظمته مستكينون لعزته وجبروته، قَال تعالى: {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} 1 فلست تجد أحدا من أوليائه وأعدائه إلا والله أكبر في صدره

_ 1 سورة البقرة آية (116) .

وأكمل وأعظم من كل ما سواه. الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والتمثيل. الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده والإخلاص له والتوكل عليه والإنابة إليه، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى. فعبارات السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها"1. وهذا التلخيص من الإمام ابن القيم - رحمه الله - عظيم الفائدة، يدل على عمق فهمه لمدلول المثل الأعلى. وفيما يلي بعض الوقفات التي لا بدّ منها مع هذا النقل الهام: الوقفة الأولى: مع قوله: "المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا ... "، مراده - والله أعلم - أن قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} يتضمن تفسيره أربعة معان، هي التي ذكرها بعد ذلك. ويدل على هذا أنه ذكر قبله طائفة من أقوال المفسرين في تفسير الآية، كما يؤيده قوله في الأمر الأول: "وهذا معنى قول من فسره بالصفة"، وقوله في المعنى الثاني: "وهذا معنى قول من قَال من السلف

_ 1 الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، (2/686، 687) .

والخلف: إنه ما في قلوب عابديه ... "، وقوله بعد إيراد الأمور الأربعة: "فعبارات السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها". الوقفة الثانية: مع ترتيب الأمور الأربعة. حيث إن الأنسب تقديم ما ذكره في الأمر الثالث على الأمر الثاني، وذلك: "أن وجودها العلمي والخبر عنها وذكرها"، الحاصل في نصوص الوحي، مقدم على "علم العالمين بها"، وهو سبب له متقدم عليه. الوقفة الثالثة: مع قوله: "فكل أهل الأرض معظمون له مجلون خاشعون لعظمته مستكينون لعزته وجبروته.... فلست تجد أحدا من أوليائه وأعدائه إلا والله أكبر في صدره وأكمل وأعظم من كل ما سواه". هذا الاستطراد في بيان الأمر الثاني فيه نظر من جهتين: الأولى: أنه لا يقال أن المثل الأعلى هو ما في قلوب أوليائه وأعدائه من كون الله أعظم وأكمل من كل ما سواه. فهذا الحد المشترك ليس هو المثَل الأعْلَى فإن أعداء الله المشركين يجعلون معه الشركاء مع اعتقادهم أنه الإله الأعظم. وإنما الحد المشترك هو الإقرار الفطري، وهو أساس مهم في الاستدلال عليهم بالأمثال والحجج الجارية على قاعدة قياس الأولى. والمثَلُ الأعْلَى - كما دل عليه السياق والدلائل الأخرى - هو اعتقاد تفرد الله بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال. فهو خاص بالمؤمنين الموحدين، وليس بكل أهل الأرض مسلمهم وكافرهم.

الثانية: أنه متعارض مع ما تقدم من قوله: "وهذا معنى قول من قَال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وجلاله وتعظيمه. وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه، بل يخص به في قلوبهم كما اختص به في ذاته". فالأولى لو أضاف التوحيد إلى هذا المعنى - الأمر الثاني - فيكون تفسيره بأنه: ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وتوحيده، ومحبته وذكره وجلاله وتعظيمه ... ونحو ذلك. فيكون هذا المعنى هو: ما يقوم في القلوب من إثبات المثل الأعلى لله تعالى من اعتقاد تفرده بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال، وما ينتج عن هذا من أعمال القلوب من محبة الله وتعظيمه وإجلاله وخشيته ونحو ذلك. الوقفة الرابعة: مع قوله: "الرابع محبة الموصوف بها وتوحيده ... " قوله: "وتوحيده"، تقدم أن الأولى أن يضاف التوحيد إلى الأمر الثاني، الذي هو المثل العلمي الاعتقادي الأعلى القائم في قلوب العباد. أما محبة الله تعالى - المتصف بالمثَلِ الأعْلَى - ونحوها مما يقوم في قلوب المؤمنين العالمين بالله فليست من الأمور التي يفسر بها قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} . ولا يدل السياق والدلائل الأخرى على أن المثل الأعلى يفسر بالمحبة

ونحوها. ولم يقل بتفسيره بذلك أهل العلم. لكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن هناك تلازماً بين قيام المعرفة بأسماء الله وصفاته في قلوب المؤمنين ومحبته. وأن المحب يتمثل صفات محبوبه وأسماءه. هذا التمثل هو علمه بها، وتذكرها أو ذكره بها. قَال - رحمه الله -: "وهو أن المؤمن لا بدّ أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له، ما يوجب أن يكون للمعروف المحبوب في قلبه من الآثار ما يشبه الحلول من بعض الوجوه، لا أنه حلول ذات المعروف المحبوب، لكن هو الإيمان به ومعرفة أسمائه وصفاته ... وهذا قد يسمى المثل والمثال، لأنه قد يقال: إن العلم مثال المعلوم في العالِم، وكذلك الحب فيه تمثيل المحبوب في المحب ... والتحقيق: أنه قد يحصل تمثل وتخيل لبعض العالمين والمحبين، حتى يتخيل صورة المحبوب وقد لا يحصل تخيل حسي ... " إلى أن قَال: "وقد قيل في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1 وقوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 2 أنه هذا"3.

_ 1 سورة الشورى آية (11) . 2 سورة الروم آية (27) . 3 مجموع الفتاوى، (2/383، 384) .

وهذا التمثل الَّذِي يقوم بقلوب المؤمنين المحبين لصفات رب العالمين - الَّذِي هو: بمعنى معرفة الصفات وإثباتها وتذكرها، لا التمثيل الحسي، أو هو: ذكره بها مع استحضار معانيها - راجع إلى العلم بها. بمعنى أنه قد يكون صحيحاً موافقاً لما هو ثابت لله حقاً، وقد يكون غير صحيح. وذلك متوقف على صحة العلم والإدراك وليس على المحبة المجردة. قال ابن تيمية - رحمه الله -: "والعلم قبل العمل. والإدراك قبل الحركة، والتصديق قبل الإسلام والمعرفة قبل المحبة، وإن كانا يتلازمان؛ لكن علم القلب موجب لعمله، ما لم يوجد معارض راجح، وعمله يستلزم تصديقه، إذ لا تكون حركة إرادية ولا محبة إلا عن شعور، لكن قد تكون الحركة والمحبة فيها فساد إذا لم يكن الشعور والإدراك صحيحا"1. وقال: "فإن وجود الفروع الصحيحة مستلزم لوجود الأصول"2. فالمحبة لا تستقل في إثبات المثل الأعلى لله تعالى في قلب المؤمن. وإنما أساس ذلك المعرفة بأسمائه وصفاته وهي فرع عنه، وناتج منه. وقد توجد المحبة لله عن غير علم صحيح، أو مع علم قاصر، وعندها يكون تمثل القلب لأسماء الله وصفاته خاطئاً، وإثباته لها غير موافق للمثل

_ 1 مجموع الفتاوى، (2/382) . 2 نفس المصدر والصفحة.

الأعلى القائم بذات الله تعالى. وعليه فإن هذا الأمر الذي أفرده الإمام ابن القيم - رحمه الله - ناتج وفرع عن الأمر الثاني الذي هو: "وجودها في العلم والتصور ... "، فينبغي إلحاقه به. وهو قد أشار إلى دخول المحبة فيه حيث قال: "الثاني: وجودها في العلم والتصور. وهذا معنى من قال من السلف والخلف: إنها ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وجلاله وتعظيمه". وبناء عليه يكون الأمر الثاني - المثل الأعلى العلمي الاعتقادي - شاملاً لما يقوم في قلب المؤمن من حقائق التوحيد، من معرفة الله باعتقاد تفرده بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال، وما ينتج عن ذلك من أعمال القلوب كالمحبة ونحوها. الوقفة الخامسة: لم يذكر - رحمه الله - من ضمن الأمور الأربعة أمرا يسوغ تفسير المثل الأعلى به، ودل عليه السياق، ومعنى المثل في اللغة، وقال به طائفة من أهل العلم ألا وهو: الأمثال القولية التي ضربها الله تعالى لبيان تفرده سبحانه بالمثل الأعْلَى. إلا أن ابن القيم - رحمه الله - وإن لم يذكره في الأمور الأربعة، فقد أشار إليه بعد ذلك بقوله: "وقد ضرب الله سبحانه مثل السوء للأصنام بأنها لا تخلق شيئا وهي مخلوقة، ولا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ

رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. فهذان مثلان ضربهما لنفسه وللأصنام فللأصنام مثل السوء وله المثَلُ الأعْلَى. وقال تعالى: {يَآ أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2. فهذا المثل الأعْلَى الَّذِي له سبحانه، والأول مثل السوء للصنم وعابديه، وقد ضرب الله سبحانه للمعارضين بين الوحي وعقولهم مثل السوء بالكلب تارة، وبالحمر تارة، وبالأنعام تارة، وبأهل القبور تارة، وبالعُمي الصم تارة، وغير ذلك من الأمثال السوء التي ضربها لهم

_ 1 سورة النحل الآيتان (75- 76) . 2 سورة الحج الآيتان (73-74) .

ولأوثانهم، وأخبر عن مثَله الأعلى بما ذكره من أسمائه وصفاته وأفعاله وضرب لأوليائه وعابديه أحسن الأمثال"1. ولعل ابن القيم - رحمه الله - اكتفى بدخول هذا المعنى - وهو الأمثال القولية التي ضربها الله للدلالة على اتصافه بالمثَلِ الأعْلَى -في الأمر الثالث الَّذِي عبر عنه بقوله: "الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والتمثيل" حيث إنه من ذكرها والخبر عنها. خلاصة ما تقدم: يستخلص مما تقدم أن المعاني الصحيحة التي يفسر بها المثل الأعْلَى أربعة أمور هي: الأول: المثَلُ الأعْلَى الحقيقي القائم بذات الله تعالى. وهو: تفرده سبحانه بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال. ومعنى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} على هذا أي: الوصف الأعلى من كل كمال مطلق ثابت لله تعالى وحده حقيقة على ما يليق به سبحانه. الثاني: المثَلُ الأعْلَى العلمي. وهو: وجود صفات الله تعالى العلمي الَّذِي هو: الخبر عنها وذكرها في نصوص الكتاب والسنة. حيث تضمنت النصوص بيان تفرد الله بالألوهية والربوبية. وفصلت القول في إيضاح

_ 1 الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، (2/688) .

أسماء الله وأفعاله وصفاته. ومعنى "المثل الأعلى" على هذا: أي ولله الوصف الأعلى المذكور في نصوص الكتاب والسنة، لا لغيره. فهو الخبر الصحيح عن الله الذي لا يجوز أن يخبر به عن غيره. الثالث: الأمثال القولية التي تضرب للاستدلال على ما لله من المثل والوصف الأعلى. وهذا المعنى داخل في الَّذِي قبله. والفرق بينهما: أن الأمر الثاني - المثل الأعلى العلمي المتمثل بالخبر عن اتصاف الله بصفات الكمال وذكرها - المراد به ذكر الأوصاف نفسها، أما هذا المعنى فالمراد به ذكر الحجج والبراهين على ثبوت صفات الله تعالى بضرب الأمثال. فكل منهما مثل علمي، لذلك فالأنسب الكلام عليهما كشيء واحد، عند الكلام عليها بالتفصيل - إن شاء الله -. ومعنى {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} على هذا: أي أن كل مثل يورد للاستدلال به يوافق ما هو ثابت لله من الوصف الأكمل، فهو مثل أعلى مضروب لله، أي مخبر به بحق عن الله، ولا يجوز الإخبار به عن غيره. الرابع: المثَلُ الأعْلَى العلمي الاعتقادي القائم في قلب المؤمن. وهو توحيد الله وإثبات المثل الأعلى له سبحانه، باعتقاد تفرده بالألوهية والربوبية وغيرها من صفات الكمال، وما ينتج عن ذلك من

محبة الله، وإجلاله وتعظيمه، وذكره وعبادته. والمراد بالمثَلِ الأعْلَى على هذا المعنى: أي إن الوصف الأكمل ثابت لله وحده في قلوب المؤمنين، حيث يعتقدون تفرد الله بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال، وما نتج عن ذلك من أعمال القلوب، ولا يشركون غيره معه في شيء من ذلك. ملاحظات على هذه الأمور الأربعة: يلاحظ من التأمل في المعاني الأربعة التي يفسر بها المثل الأعْلَى ما يلي: أولاً: إن الأمور الثلاثة الأخيرة ترتكز على المعنى الأول الَّذِي هو: المثَلُ الأعْلَى الحقيقي القائم بذات الله تعالى، وأنه سبحانه متفرد بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال. فهذا المعنى هو الأصل والمعاني الأخرى تابعة له، إما بالخبر عنه وبيانه وذكر براهينه، أو بالعلم به واعتقاد ثبوته لله وتفرده به. ثانياً: يلاحظ أن "المثل الأعلى" الثابت لله في جميع تلك المعاني أساسه تفرد الله تعالى بالألوهية. وكل الصفات الأخرى هي من خصائص الإله الحق تبارك وتعالى. فالربوبية وأفعال الرب تعالى، هي من أخص أوصافه، وآثارها الظاهرة في الكون هي أكبر دليل على تفرده بالألوهية، وذلك مراد أهل

العلم بقولهم: إن الإقرار بتفرد الله بالربوبية يستلزم الإقرار بتفرده بالألوهية. وكذلك سائر صفات الكمال هي من خصائص الإله الحق، ويخبر بها عن اسمه "الله" الدال على اتصافه بالألوهية، وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى الهام في الفوائد إن شاء الله. ثالثاً: إن ثمرة معرفة ثبوت المثل الأعلى لله تعالى هي: توحيد الله وإقامة الدين له. وذلك أن العلم بتفرد الله بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال يستلزم توحيده وإقامة الدين له، وما يتصل بذلك، وقد دل على هذا المعنى سياق سورة " الروم " في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ

وَلاَ تَكُونُوا مِنْ المُشْرِكِينَ} 1. الآيات "والمثَلُ الأعْلَى" - الثابت لله تعالى - يدل على أنواع التوحيد الثلاثة حيث يستلزم الإقرار بتفرد الله بالألوهية والربوبية، وأنه متصف بصفات الكمال متفرد بها. رابعاً: أن تلك المعاني كلها تعود إلى معنى الوصف. فالأول: ثبوت أوصاف الكمال لله. والثاني: ذكرها والخبر عنها في النصوص. والثالث: الأمثال المضروبة للاستدلال عليها. والرابع: معرفة العبد لأوصاف الله تعالى، وإثباتها، والعمل بموجبها. وعلى هذا يكون معنى {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} : أي أن أوصاف الكمال ثابتة لله وحده باعتبارات هي: - باعتبار اتصافه بها في نفس الأمر. - وباعتبار ذكرها والخبر عنها في النصوص. - وباعتبار وجودها في دلالة الأمثال والحجج المبينة لها.

_ 1 سورة الروم آية (27-31) .

- وباعتبار علم المؤمن بها وإثباتها له. ويؤيد تفسير " المثل " بالوصف في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} أمور من أهمها: 1- ما تقدم في المعاني اللغوية للفظ " مثل " من أن المثل يأتي بمعنى الوصف1. وأن الوصف هو الغرض الأساس من إيراد المثل2. وأن المثل يطلق على ما كان جامعا لصفات الشيء وحقائقه3، أو على مجموع صفات الشيء. 2- ما يستفاد من وصفه بالأعلى من أنه لا يستقيم إلا بتفسيره بشيء قائم بذات الله، وهي صفات الكمال. إذ لو فسر بغير ذلك لأدى إلى إثبات ند لله مماثل له تعالى عن ذلك كما تقدم في دلالة الوصف بالأعلى.4 3- دلالة السياق على ذلك حيث إن سياق سورتي "النحل" و"الروم" تدور حول إبطال الصفات السيئة التي وصف المشركون بها رب العالمين، حيث وصفوه بأن له أندادا وشركاء، أو أولادا، أو أنه لا 1 انْظر: ما تقدم ص (50) وما بعدها.

_ 2 انْظر: ص (57) . 3 انْظر: ص (72) . 4 انْظر: ص (920) . وما بعدها.

يقدر على إحياء الموتى، ونحوها. والصفات التي أثبتوها لله، إثباتهم لها أدنى مما لله من الوصف الأعلى. والله تعالى يبين لهم دلائل تفرده بالألوهية والربوبية وسائر صفات الكمال. كما يبيّن أن له من تلك الصفات التي أثبتوها وغيرها من صفات الكمال كمالها الَّذِي لا يدانيه فيها غيره، ولا يعجزه معها شيء.1 4- تفسير كثير من أهل العلم للمثل الأعلى بمعنى الوصف.2 5- إمكان إرجاع تفاسير السلف الصالح للمثل الأعلى إليه. خامساً: أن القرآن الكريم الَّذِي اشتمل على بيان تلك المعاني التي يفسر بها المثل الأعْلَى - من بيان تفرد الله بالألوهية والربوبية وأوصاف الكمال، ودعا إلى توحيد الله وإقام الدين له، وبين الحجج والبراهين على ذلك، وما يتصل بذلك من صفات الموحدين وعواقبهم الحميدة، وصفات المشركين والكافرين والمنافقين وعواقبهم السيئة، ونحو ذلك - هو الدال على المثل الأعْلَى العلمي. لذلك قَال تعالى:

_ 1 انْظر: ص (898) . 2 سيأتي بيان هذا والذي بعده عند تفصيل القول على المعنى الأول قريبا إن شاء الله.

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} 1، ونحوها. وهذا المعنى يبين مراد ابن القيم - رحمه الله - بقوله: "وقد ضرب الله سبحانه للمعارضين بين الوحي وعقولهم مثل السوء بالكلب تارة، وبالعُمي والصم تارة، وغير ذلك من الأمثال السوء التي ضربها لهم ولأوثانهم. وأخبر عن مثله الأعلى بما ذكره من أسمائه وصفاته وأفعاله. وضرب لأوليائه وعابديه أحسن الأمثال. ومن تدبر القرآن فهم المراد بالمثَلِ الأعْلَى ومثل السوء"2. سادساً: تفرد الله تعالى بالمثَلِ الأعْلَى في سائر المعاني التي يفسر بها. وذلك أن: - صفات الكمال من الألوهية والربوبية وغيرها من الصفات

_ 1 سورة الإسراء آية (89) . 2 الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، تحقيق: د. علي بن محمد الدخيل الله، (3/1036) ، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1408 هـ. والصواعق المنزلة، تحقيق: أ. د/أحمد عطية الغامدي، (2/688) . وقد وقع في الكتاب الأخير خطأ مطبعي في قوله:"ومن تدبر القرآن فهو ... " بدل "فهم". وهو يؤدي إلى معنى سيئ مفاده: أن القرآن هو المثل الأعلى، ومثل السوء. ويتعالى كلام الله من أن يكون مثلا للسوء. ويدل على أن الخطأ مطبعي، أن كلا المحققين لم يشر إلى وجود اختلاف بين النسخ في هذا اللفظ.

ثابتة لله وحده. - والخبر عنها كائن على أنها خاصة بالله لا يشاركه فيها غيره سبحانه. - والمؤمنون يثبتونها لله معتقدين تفرده بها. وقد دل على تفرد الله بها في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} وقوله {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} ، أمران: الأول: تقديم ما حقه التأخير. فإن تقديم الخبر - حرف الجر وما اتصل به من لفظ الجلالة أو الضمير الدال عليه - في قوله {لِلَّهِ} ، وقوله: {لَهُ} يفيد الاختصاص. والمعنى: أن المثل الأعلى لله - تعالى شأنه - خاصة 1. الثاني: وصفه بأنه {الأَعْلَى} . وقد تقدم ذكر دلالة وصف {الأَعْلَى} على التفرد 2. قال ابن القيم - رحمه الله -: "المثَلُ الأعْلَى وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني

_ 1 روح المعاني للألوسي (21/37) . 2 تقدم ص (917) . وما بعدها.

الثبوتية التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره، ولما كان الرب تعالى هو الأعلى ووجهه الأعلى وكلامه الأعلى وسمعه الأعلى وبصره الأعلى وسائر صفاته عليا، كان له المثل الأعْلَى وكان أحق به من كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان، لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف بالمثَلِ الأعْلَى أحدهما وحده، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعْلَى مثل أو نظير، وهذا برهان قاطع من إثبات صفات الكمال على استحالة التمثيل والتشبيه، فتأمله فإنه في غاية الظهور والقوة"1. وقال: "وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه، بل يختص به في قلوبهم كما اختص به في ذاته"2. وبعد هذه الوقفات والملاحظات أعود إلى الأمور التي يُفسَّر بها "المثَلُ الأعْلَى" لأبين لكل أمر: دلائله من السياق، والمعاني اللغوية، وأقوال أهل العلم التي فسرت المثل الأعْلَى به، ونحو ذلك. ويكون في الفروع الآتية: الفرع الأول: المثَلُ الأعْلَى الحقيقي القائم بذات الله. الفرع الثاني: المثَلُ الأعْلَى العلمي الخبري.

_ 1 الصواعق المنزله، (2/685) . 2 نفس المصدر ص (2/687) .

الفرع الثالث: المثَلُ الأعْلَى العلمي الاعتقادي القائم في قلوب المؤمنين لله رب العالمين. والفرع الثاني يشتمل على: ذكر صفات الله تعالى والخبر عنها، ويشمل الأمثال القولية والحجج الدالة عليها، إذ إنها من جنس واحد. وإلى الكلام على هذه الفروع بشيء من التفصيل والله المستعان.

الفرع الأول: المثَلُ الأعْلَى الحقيقي القائم بذات الله تعالى. وهو: تفرد الله تعالى بالألوهية، والربوبية وخصائصهما من جميع صفات الكمال. وتقدم أن معناه: أن الوصف الأكمل من كل كمال مطلق ثابت لله تعالى وحده حقيقة على ما يليق به سبحانه.1 تفسير بعض المفردات الواردة في تعريفه: معنى المثل هنا: المعنى الجامع لصفات الشيء وحقائقه. ويراد به قيام جميع أوصاف الكمال بذات الله تعالى. والمراد بالأعلى: أنه لما كان قيام أوصاف الكمال بمن يتصف بها متفاوتا، كان لله أعلى ذلك الكمال وأكمله وأجله الَّذِي لا يتطرق إليه نقص بحال، اختص به - سبحانه - وتفرد، فلا يشاركه فيه أحد. المراد بوصف المثل بأنه " الحقيقي " أو قولنا: "أن الوصف الأكمل ثابت لله تعالى حقيقة": أي أن قيام المثل الأعلى - مجموع صفات الكمال - بذات الله سبحانه قيام حقيقي. وأن لكل منها معنى حقيقيا يتصف الله به. المراد بالكمال المطلق: أي الوصف الأكمل الَّذِي لا يعتريه النقص بحال، بخلاف الكمال النسبي، الَّذِي يكون كمالا في الإنسان مثلا لكن

_ 1 ص: (962)

حقيقته النقص، كالأكل، فالَّذِي يأكل أكمل من الَّذِي لا يأكل، ولكن حقيقته نقص، إذ إن الدافع إليه الحاجة والافتقار. قَال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وأما.... قولنا: الكمال الَّذِي لا يتضمن نقصا ... فاحتراز عما هو لبعض المخلوقات كمال دون بعض، وهو نقص بالإضافة إلى الخالق لاستلزامه نقصاً. كالأكل والشرب مثلا ... يستلزم حاجة الآكل والشارب إلى غيره. وهو ما يدخل فيه من الطعام والشراب. وهو مستلزم لخروج شيء منه كالفضلات ... ولهذا كان من الكمالات ما هو كمال للمخلوق، وهو نقص بالنسبة إلى الخالق، وهو كل ما كان مستلزما لإمكان العدم عليه المنافي لوجوبه وقيوميته، أو مستلزما للحدوث المنافي لقدمه، أو مستلزما لفقره المنافي لغناه"1. المراد بالقيد: "على ما يليق به سبحانه" إفادة أن حقائق الصفات الثابتة لله لا تماثل حقائق صفات المخلوقين، وذلك أن لكل ذات ما يناسبها من الصفات، والله تعالى له الوصف الأكمل والأعلى الَّذِي لا يشاركه فيه غيره. قَال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:

_ 1 مجموع الفتاوى، (6/87) .

"القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فإذا كان له ذات حقيقية لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات"1. دلالة السياق على هذا المعنى: تقدم2 أن السياق من سورة "النحل" الَّذِي ورد فيه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، ركز على تقرير تفرد الله بالألوهية، وإبطال الشرك، ونفي أن يكون لله ند أو مماثل من أي نوع كان، والنهي عن ذلك بقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . فالمشركون وصفوا الله بأوصاف سيئة، حيث نسبوا له الشركاء والأنداد، ووصفوه بالتوالد، ومردّ ذلك إلى أنهم ما قدروا الله حق قدره، وما أثبتوا له المثل الأعلى والوصف الأكمل اللائق به سبحانه. إنهم يقرون بأنه إله، ويعبدونه. وهذا وصف صحيح وكمال. لكنه لا يكفي لصحة الإيمان حتى يأتوا بالوصف الأكمل، وهو التوحيد باعتقاد أنه لا إله غيره، ولا معبود سواه، ويخلصوا له العبادة. فالوصف بالألوهية وصف عال، لكنه لا يكفي ولا ينفع حتى يثبت الوصف الأعلى، وهو أن الله وحده المتصف بالألوهية وجميع خصائصها.

_ 1 الرسالة التدمرية، ص 15. 2 انْظر: ص (770) . وما بعدها.

فهم وجميع البشر بحاجة إلى أن يدركوا أن لله الوصف الأعلى الَّذِي لا يقبل المشاركة في الألوهية وغيرها من صفات الكمال. وهذا أمر هام وفارق بين أولياء الله وأعدائه. وقد ورد هذا المعنى - وهو بيان علو صفات الله تعالى - في سورة "الإسراء"، في قضية تشابه القضية التي ورد في سياقها إثبات المثل الأعلى لله تعالى في سورة "النحل". وذلك أنه في سورة "النحل" ذكر أنواعا من الشرك، وأن المشركين جعلوا له البنات. ثم أبطل ذلك، وقابله ببيان أنه سبحانه له المثل الأعْلَى.1 وفي سورة "الإسراء" ذكر سبحانه اتخاذ المشركين الآلهة معه، وزعمهم أن الملائكة بنات الله. وأبطل ذلك سبحانه، وقابله ببيان علو ذاته وصفاته علوا كبيرا، يستحيل معه أن يكون له شريك أو ولد، حيث قَال سبحانه: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنْ المَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ

_ 1 انْظر: ما تقدم ص (887) وما بعدها.

عُلُوًّا كَبِيرًا} 1. ومن جهة أخرى، وفي نفس الموضوع تضمن السياق النهي عن ضرب الأمثال لله، وهم الشركاء والأنداد - وتلك أوصاف سيئة - وجاء قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ليكون علة حاسمة للنهي. "فلا يوجد في حقيقة الحال من يكون مماثلا لله فيُضرب مثلاً له، لا في ذاته وصفاته، ولا في ربوبيته وأفعاله، ولا في ألوهيته وحقه على عباده، ولا في علمه وشرعه وهديه"2. والسياق في أثناء ذلك يَذكر ويُذَكّر بأوصاف الله التي يدبر بها أمر الخلائق، من تفرده بالملك والأمر والخلق ونحوها من صفات الربوبية، والتي آثارها أكبر دليل على تفرده بالألوهية. فدلالة السياق من سورة "النحل" على هذا المعنى ظاهرة في أن القضية هي في أوصاف الله تعالى. وتدور على وصفهم الله بأن له أولادا وشركاء في الألوهية، مع إثباتهم أنه إله يُعبد. والسورة ترشد إلى أن إثبات ألوهية الله، مع التلبس بما يناقضه من الشرك لا ينفع. بل يجب إثبات المثل الأعلى لله تعالى في ألوهيته إلى الغاية الأعلى والأكمل التي لا يُتصور معها لله شريك. كما تذكر السورة

_ 1 سورة الإسراء آية (40 - 43) . 2 تقدم ص (772) .

براهين ذلك من دلائل الربوبية. أما دلالة السياق من سورة "الروم" على هذا المعنى فقد تقدم1 أن القسم الأول منه في قضية من قضايا الربوبية. حيث إن المشركين يقرون بربوبية الله وخلقه، إلا أنهم ينكرون البعث بعد الموت وهو داخل في ربوبية الله وخلقه. فهم إذاً لا يثبتون لله كمال تلك الصفات. والسورة تبين لهم بالأدلة العقلية وغيرها ثبوتَ المثل الأعلى لله في أوصاف الربوبية. إذ لا يكفي إثبات أنه سبحانه رب خالق مدبر، بل لابد أن يثبتوا له المثل والوصف الأعلى في ذلك، باعتقاد أنه متفرد بالربوبية والخلق، وأنه على كل شيء قدير، فعال لما يريد، لا يعجزه شيء، عندها يعلموا أن البعث عليه يسير. وخلاصة دلالة السياق من سورتي "النحل" و"الروم" على هذا المعنى: أن السورتين تناقشان جانبا من اعتقاد المشركين، المتمثل في إثباتهم لله صفة الألوهية والربوبية وغيرها، إثباتا هو أدنى مما يجب لله تعالى. ذلك الإثبات الَّذِي لم يقطع عنهم الظنون السيئة من إثبات الشركاء لله في العبادة، أو ظنهم أن الله لا يقدر على بعث الناس، أو أن الله لا يعلم كثيرا مما يعملون.

_ 1 انْظر: ما تقدم ص (889) وما بعدها.

والسورتان تبينان بدلائل الربوبية المشاهدة، وذكر صفات الرب تبارك وتعالى، وأمثال الحق، أنه لا يكفي ذلك الإثبات في صحة الإيمان حتى يثبتوا لله المثل والوصف الأعلى في تلك الصفات إلى الغاية الأكمل التي لا يُجعل معها لله شريك في ألوهيته، وأنه متفرد بالربوبية، قادر على كل شيء، فعال لما يريد، وسع سمعه الأصوات وأحاط علمه بكل شيء، وهو العزيز الحكيم. دلالة المعنى اللغوي على هذا المعنى: تقدمت1 الإشارة إلى دلالة المعنى اللغوي على تفسير المثل في قوله تعالى: {وَللهِ المثَلُ الأعْلَى} ونحوها، بمعنى الوصف الأعلى، وذلك في الملاحظات التي قدمت بها الكلام على هذه المعاني، وفي ذلك كفاية عن الإعادة. أقوال العلماء في تفسير " المثل الأعلى " بهذا المعنى: فسر بعض السلف " المثل الأعلى " بأنه بمعنى: لا إله إلا الله ولا رب سواه. روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قَال: "مثل السوء: النار، والمثل الأعلى: شهادة أن لا إله إلا الله".2

_ 1 انظر: ص (916) . 2 انظر: معالم التنزيل للإمام الحسين بن مسعود البغوي، تَحْقِيْق/ محمد النمر وآخرين، (14/25) دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1411 هـ. والصواعق المنزلة، لابن القيم (2/685) .

وقَال قتادة - رحمه الله -: "مثله أنه لا إله إلا هو، ولا رب غيره".1 وقَال محمد بن المنكدر2 - رحمه الله - في قوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} قَال: "لا إله إلا الله".3 واختار هذا ابن جرير - رحمه الله - في تفسير المثل الأعلى، حيث قَال: "وهو أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فذلك المثل الأعلى تعالى ربنا وتقدس".4 وهذا المعنى عظيم، وهو راجع إلى معنى الوصف.

_ 1 انظر: جامع البيان، لابن جرير، (10/181) ، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/431) . 2 أبو عبد الله محمد بن المنكدر بن عبد الله، القرشي، التيمي، المدني، ولد سنة (30) هـ، وكان من القراء المحدثين، أهل الحفظ والإتقان والزهد، توفي سنة (130) هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (8/378) ، وتهذيب التهذيب (5/382) . 3 انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/431) . 4 جامع البيان، لابن جرير، (10/181) .

فالمثل الأعلى - على هذا المعنى - هو: ثبوت وحدانية الله في وصف الألوهية والربوبية. والوصف بالألوهية والربوبية يتضمن اتصافه بخصائصهما من صفات الكمال الأخرى، وقد أشار إلى هذا بعض المفسرين حيث قَال: "وقيل: (المثل الأعلى) أي الصفة العليا وهي: لا إله إلا الله"1. وقَال صاحب روح المعاني: "وعن قتادة ومجاهد أن المثل الأعلى: لا إله إلا الله. ولعلهما أرادا بذلك الوحدانية في ذاته تعالى وصفاته سبحانه"2. وهذا التفسير وإن كان أشار إلى معنى الوصف بقوله: "ولعلهما أرادا بذلك الوحدانية"، إلا أنه لم يشر إلى تفرده بالألوهية التي هي معنى لا إله إلا الله، والتي هي أساس ثبوت المثل الأعلى، وهي شرط صحة الإيمان. إذ لو أقر شخص بتفرد الله بالذات وصفات الكمال، لكنه لم يقر بأن الألوهية خالصة لله، لم يكن بذلك مؤمنا الإيمان الشرعي. ولذلك جمع الله بين تفرده بالذات المقدسة، وبوصف الألوهية

_ 1 معالم التنزيل، للبغوي (14/25) ، والتفسير الكبير للرازي، (25/117) . 2 روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للسيد محمود الألوسي (21/37) ، إحياء التراث العربي، بيروت.

بقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لآ إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1. والحق أن السياق في سورتي "النحل" و"الروم" يشهد لهذا المعنى، حيث إن السورتين في تقرير تفرد الله بالألوهية، واستحقاقه وحده للعبادة، وبيان كمال ربوبيته وقدرته على الخلق ومن ذلك البعث بعد الموت الَّذِي كذب به المشركون. وتقدم في الملاحظات: "أن المثل الأعلى الثابت لله تعالى في جميع تلك المعاني أساسه تفرد الله سبحانه بالألوهية. وكل الصفات الأخرى هي من خصائص الإله الحق تبارك وتعالى"2. وقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} وإن سيقت في الدرجة الأولى لذلك، إلا أن الآية جاءت على شكل قاعدة عامة لكل الصفات والمعاني الثابتة لله تعالى، لتدل على أن لله من كل كمال أعلاه، حيث عبر بلفظ المثل الَّذِي يدل على مجموع الصفات. ومن المعاني التي فسر بها "المثل الأعلى": ما يدل عليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .

_ 1 سورة البقرة آية (163) . 2 تقدم ص (933) .

روي هذا عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.1 وتقدم ذكر تفسير ابن جرير - رحمه الله - للمثل الأعلى، بما يتضمن معنى قَوْله تَعَالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . 2 وهذا التفسير - أيضا - يرجع إلى معنى ثبوت أوصاف الكمال لله تعالى، وتفرده بها، وأنه ليس كأوصافه شيء سبحانه. وقد بيّن الإمام ابن القيم - رحمه الله - ذلك بقوله: "أنه سبحانه وصف نفسه بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وأنه لا سميّ له ولا كفؤ له، وهذا يستلزم وصفه بصفات الكمال التي فات بها شبه المخلوقين، واستحق بقيامها به أن يكون {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وهكذا كونه ليس له سميّ، أي مثيل يساميه في صفاته وأفعاله، ولا من يكافيه فيها"3. وقَال: "فهذا النفي واقع على العدم المحض وعلى من كثرت أوصاف كماله ونعوت جلاله وأسماؤه الحسنى حتى تفرد بذلك الكمال،

_ 1 انظر: جامع البيان، لابن جرير، (10/181) ، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/431) . 2 تقدم ص (949) . 3 الصواعق المنزلة (2/676) .

فلم يكن له شبه في كماله ولا سميّ ولا كفؤ"1. وقَال: "فهذا هو الَّذِي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لكثرة نعوته وأوصافه وأسمائه وأفعاله، وثبوتها له على وجه الكمال الَّذِي لا يماثله فيه شيء، فالمثبت للصفات والعلو والكلام والأفعال وحقائق الأسماء هو الَّذِي يصفه سبحانه بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} " 2. إلى أن قَال: "فتأمل كيف كان قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} من أعظم الأدلة على ثبوت صفات كماله سبحانه"3. وعلى هذا فقَوْله تَعَالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} كلاهما يُثْبِتُ اتصاف الله تعالى بأوصاف الكمال، وتفرده بها، مع اختلافهما في الأسلوب. حيث إن الآية الأولى بأسلوب الإثبات، والأخرى بأسلوب النفي. أما العلماء الَّذِين ذكروا تفسير المثل الأعلى بمعنى الوصف الأكمل فكثيرون، ويكاد أن يكون اتفاق على اعتباره.

_ 1 الصواعق المنزلة (2/677) . 2 نفس المصدر (2/683) . 3 نفس المصدر (2/685) .

قَال الإمام الحسين البغوي1 - رحمه الله -: " {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} : الصفة العليا، وهي التوحيد وأنه لا إله إلا هو، وقيل: جميع صفات الجلال والكمال...."2. وقَال الراغب الأصفهاني - رحمه الله - في قَوْله تَعَالى: " {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} : أي لهم الصفات الذميمة وله الصفات العلى"3. وقَال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " ... الكمال ثابت لله، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى، يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه. فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وأن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية،

_ 1 الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي، الحافظ الفقيه المفسر. ألف: معالم التنزيل في التفسير، ومصابيح السنة، وشرح السنة، والتهذيب في الفقه الشافعي. توفي سنة (516 هـ) . انظر: سير أعلام النبلاء (19/439) ، والبداية والنهاية (12/206) . 2 معالم التنزيل (14/25) . 3 المفردات في غريب القرآن ص (462) .

والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع على ذلك ... ". إلى أن قَال: "وثبوت معنى الكمال قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة، دالة على معانٍ متضمنة لهذا المعنى. فما في القرآن من إثبات الحمد له، وتفصيل محامده، وأن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه، ونحو ذلك، كله دال على هذا المعنى"1. وقَال ابن كثير - رحمه الله -: " {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} أي الكمال المطلق من كل وجه، وهو منسوب إليه"2. وتقدم قريبا ذكر بعض أقوال ابن القيم - رحمه الله - في هذا المعنى. وقَال عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - في تفسير المثل الأعلى: "وهو كل صفة كمال، وكل كمال في الوجود، فالله أحق به من غير أن يستلزم ذلك نقصا بوجه من الوجوه"3. وقَال الزركشي - رحمه الله - في قَوْله تَعَالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} :

_ 1 مجموع الفتاوى (6/71، 72) . 2 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (2/573) . 3 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (4/213) .

"أي الوصف الَّذِي له شأن"1. وقد فسره بمثل هذا التفسير جمع من المفسرين.2 وأكتفي بهذه النماذج من أقوال أهل العلم، الدالة على هذا المعنى. إذ إن ما ورد من ذلك كثير، وحصره ليس باليسير، وما ذكر فيه وفاء بالغرض - إن شاء الله -. شواهد هذا المعنى في النصوص: والمقصود ذكر بعض النصوص التي تبين ثبوت المثل الأعلى لله تعالى متضمنة المعاني التي دل عليها قَوْله تَعَالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} وقوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} ، والتي جرى بيانها في هذا المعنى، وقبل إيراد النصوص أرى أنه من المفيد أن ألخص أهم معالم "المثل الأعلى" القائم بذات الله، ليتبين مدى التوافق بينها وبين ما يتم إيراده من الشواهد، وذلك فيما يلي: 1- قيام جميع صفات الكمال بذات الله تعالى وأن له من كل كمال أكمله وأعلاه. 2- تفرده بها سبحانه. 3- أن المثل الأعلى أساسه تفرد الله بالألوهية، وكل الصفات

_ 1 البرهان في علوم القرآن (1/489) . 2 انظر: تفسير أبي السعود (5/122) وروح المعاني للألوسي (13/170) ، وصفوة التفاسير للصابوني (2/131) وغيرهم.

الأخرى من خصائص الإله الحق سبحانه. 4- أن صفة الربوبية المتضمنة لأفعال الله التي يخلق ويدبر بها، هي من أخص صفات الإله الحق تبارك وتعالى، وآثارها الظاهرة في الكون هي أكبر دليل على تفرده بالألوهية. وبعد هذا التلخيص لأهم معالم "المَثَل الأَعْلَى" أعود إلى ذكر النصوص التي تبين ثبوته لله، وتشهد لهذا المعنى. وذلك أن اتفاق ما فُسر به المثل الأعلى، مع دلالة نصوص أخرى، دليل على مناسبة ذلك التفسير وقوته، يضاف إلى الدلائل الأخرى. وسأذكر النصوص القرآنية مرتبة حسب ورودها في المصحف فيما يلي: أولاً: آية الكرسي. قَال تعالى: {اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} 1.

_ 1 سورة البقرة آية (255) .

فقد دلت هذه الآية العظيمة على ثبوت المثل الأعلى لله تعالى لاشتمالها على المعاني التي دل عليها. فقَوْله تَعَالى: {اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} دل على تفرده سبحانه بالألوهية، وتقديمها يدل على أنها الأساس في التعريف بالله، وإثبات أوصاف الكمال له. قَوْله تَعَالى: {الحَيُّ القَيُّومُ} : هذان الاسمان يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن. قَال شارح العقيدة الطحاوية - رحمه الله - في الكلام على هذين الاسمين: "وهما من أعظم أسماء الله الحسنى، حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم. فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه ... ولهذا كان قوله: {اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.1

_ 1 يشير إلى ما رواه الإمام مسلم - رحمه الله - عن أبي بن كعب رضي الله عنه قَال: قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ " قَال: قلت: الله ورسوله أعلم. قَال: يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قَال: قلت: {اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} قَال: فضرب في صدري وقال: "والله ليهنك العلم أبا المنذر". كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي (ح 810) ، (1/556) .

فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها. وإليهما ترجع معانيها. فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها، استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة. أما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته. فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام"1. وحاصل هذا الكلام القيم أن اسمي (الحي) و (القيوم) قد دلا على جميع أوصاف الكمال. "فانتظمت الصفات الذاتية تحت اسم (الحي) ، والصفات الفعلية تحت (القيوم") 2. ومعلوم أن الصفات الفعلية هي الأوصاف الدالة على ربوبية الله تعالى، التي يرب ويدبر بها الخلائق.

_ 1 شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، ص 124، 125، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1392 هـ. 2 تقريب وترتيب شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، إعداد: خالد فوزي عبد الحميد. (1/437) ، دار التربية والتراث، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1417 هـ.

ومن دلالة آية الكرسي على تفرد الله بأوصاف الكمال ما دل عليه ختام الآية بقوله: {وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} . وقد بيّن الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - المعاني التي يدل عليها هذان الاسمان، فذكر من دلالة اسم الله (العلي) علو القدر فقال: "وله علو القدر وهو علو صفاته وعظمتها فلا يماثله صفة مخلوق".1 وذكر من معاني اسم الله (العظيم) معنى: "أنه موصوف بكل صفة كمال، وله من ذلك الكمال أكمله وأعظمه وأوسعه".2 وهذان المعنيان المستفادان من اسمي (العلي) و (العظيم) - من أن صفاته - سبحانه - عالية إلى الكمال الأعظم الَّذِي لا يدانيه فيه غيره. وأن له من كل كمال أكمله وأعلاه - يلتقيان مع معنى الوصف بالأعلى، حيث تقدم أنه يدل على: تفرد الله بأوصاف الكمال، وأنه له من كل كمال أكمله وأعلاه. فيكون قَوْله تَعَالى: {العَلِيُّ العَظِيمُ} بمعنى (الأعلى) والله أعلم.

_ 1 الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية، ص (26) . 2 نفس المصدر، ص (27) .

ويتبين مما تقدم أن آية الكرسي دلت على المعاني التي دل عليها قَوْله تَعَالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} . حيث دل قَوْله تَعَالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} على تفرد الله بالألوهية. وتقديم ذكرها دليل على أنها الأساس في صفات الله تعالى. ودل قَوْله تَعَالى: {الحَيُّ القَيُّومُ} : على ثبوت جميع صفات الكمال لله تعالى. ودل اسم الله تعالى: (القيوم) على أوصاف الربوبية. وأفعاله تعالى التي يقيم ويدبر بها الخلائق. ودل قَوْله تَعَالى: {العَلِيُّ العَظِيمُ} . على تفرد الله بأوصاف الكمال وأن له من كل كمال أكمله وأعلاه وأعظمه. وأكتفي بهذا القدر من الكلام على آية الكرسي، إذ إن المقصود هو بيان دلالتها على ما دل عليه (المثل الأعلى) من المعاني. ثانياً: الآيات الأُول من سورة "طه": قَال الله تعالى {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ العُلا الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ

يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} 1. فهذه الآيات المباركة شاملة للمعاني التي دل عليها: (المثل الأعلى) وبيان ذلك فيما يلي: في قَوْله تَعَالى: {تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ ... } الآية، وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ....} الآية ذكر للخلق، والملك، وهما من أعظم أوصاف الربوبية. في قَوْله تَعَالى: {اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ذكر لتفرده بالألوهية. في قَوْله تَعَالى: {لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} ذكر لاتصافه بجميع صفات الكمال، تلك المعاني الحسنة التي دلت عليها أسماؤه. قَال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "هذا بيان لعظيم جلاله، وسعة أوصافه، بأن له الأسماء الحسنى أي كل اسم حسن. وضابطه: أنه كل اسم دال على صفة كمال عظيمة. وبذلك كانت حسنى. فإنها لو دلت على غير صفة، بل كانت علما محضا، لم تكن حسنى.

_ 1 سورة طه آية (1- 8) .

وكذلك لو دلت على صفة ليست بصفة كمال، بل إما صفة نقص، أو صفة منقسمة إلى المدح والقدح، لم تكن حسنى. فكل اسم من أسمائه، دال على جميع الصفة التي اشتق منها، مستغرق لجميع معناها"1. أما دلائل تفرده فهي كثيرة في هذه الآيات، من ذلك: دل على تفرده بالربوبية تقديم ما حقه التأخير في قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ... } والمَلِكُ يخلق ويدبر في ملكه كيف يشاء. ودل على تفرده بالألوهية: أسلوب النفي والإثبات في قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} . ودل على تفرده بالأسماء الحسنى، الدالة على صفات الكمال: تقديم ما حقه التأخير، في قوله: {لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} . وظاهر أن هذه المعاني هي المعاني التي دل عليها (المثل الأعلى) . ثالثاً: الآيات من آخر سورة (الحشر) : قَال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ

_ 1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (3/120) .

اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1. هذه الآيات العظيمة من سورة (الحشر) هي أشمل الآيات التي فصلت المعاني التي دل عليها (المثل الأعلى) لله تعالى، حيث بينت الحقائق الآتية: 1- تفرد الله تعالى بالألوهية، واستحقاقه وحده للعبادة في قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ... } . 2- تقديم ما يدل على اتصاف الله بالألوهية، وتفرده بها، في قَوْله تَعَالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، ثم الإخبار عن ذلك بذكر أسمائه سبحانه بقوله: {المَلِكُ القُدُّوسُ ... } الآية، يدل على أن وصف الألوهية هو المعنى الأساس الَّذِي ترجع إليه كل صفات الكمال. وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى في الفوائد إن شاء الله تعالى. 3- ذكر عدد كبير من أسماء الله الحسنى الدالة على صفات الكمال، وهي تدخل في تفصيل ما دل عليه المثل الأعلى من اتصافه تعالى

_ 1 سورة الحشر آية (22-24) .

بصفات الكمال، ومنها تلك الصفات التي دلت عليها الأسماء المذكورة. 4- قوله بعد ذلك: {لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} إجمال بعد التفصيل يدل على أن ما ذكر هي بعض أسمائه، وأنه سبحانه له من كل كمال أكمله وأعلاه. فكل اسم حسن دال على كمال فهو من أسمائه تبارك وتعالى. وهذا الإجمال بعد التفصيل يدل تماما على ما دل عليه المثل الأعلى من أن لله من كل كمال مطلق أكمله وأعلاه. 5- في قوله: {هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ} ذكر لربوبية الله تعالى. حيث إنه سبحانه يَرُب الكون ويدبر أمور الخلائق بما يخلقه فيهم ومنهم. فصفة الخلق ترجع إليها جميع الصفات الفعلية التي يحدث بها أثر في المخلوق. 6- أنه لما كانت هذه الآيات شاملة للمعاني التي دل عليها (المثل الأعلى) ختمها سبحانه بالاسمين اللَّذَيْن ختم بهما الآيات التي ورد فيها إثبات المثل الأعلى لله تعالى، وهما: (العزيز الحكيم) . حيث قَال في سورة "الحشر": {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} . وقال في سورة "النحل": {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} . وقال في سورة "الروم": {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ

بصفات الكمال، ومنها تلك الصفات التي دلت عليها الأسماء المذكورة. 4- قوله بعد ذلك: {لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} إجمال بعد التفصيل يدل على أن ما ذكر هي بعض أسمائه، وأنه سبحانه له من كل كمال أكمله وأعلاه. فكل اسم حسن دال على كمال فهو من أسمائه تبارك وتعالى. وهذا الإجمال بعد التفصيل يدل تماما على ما دل عليه المثل الأعلى من أن لله من كل كمال مطلق أكمله وأعلاه. 5- في قوله: {هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ} ذكر لربوبية الله تعالى. حيث إنه سبحانه يَرُب الكون ويدبر أمور الخلائق بما يخلقه فيهم ومنهم. فصفة الخلق ترجع إليها جميع الصفات الفعلية التي يحدث بها أثر في المخلوق. 6- أنه لما كانت هذه الآيات شاملة للمعاني التي دل عليها (المثل الأعلى) ختمها سبحانه بالاسمين اللَّذَيْن ختم بهما الآيات التي ورد فيها إثبات المثل الأعلى لله تعالى، وهما: (العزيز الحكيم) . حيث قَال في سورة "الحشر": {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} . وقال في سورة "النحل": {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} . وقال في سورة "الروم": {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ

وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله يحبه" 1. وورد في فضلها أنها تعدل ثلث القرآن. دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن".2 وبيان دلالة السورة على المعاني التي دل عليها (المثل الأعلى) فيما يلي: 1- دلالة السورة على تفرد الله بالألوهية، واستحقاقه وحده للعبادة في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . قَال ابن جرير - رحمه الله - في تفسيرها: "قل يا محمد لهؤلاء السائلين عن نسب ربك ... : الرب الَّذِي سألتموني عنه، هو الله الَّذِي له عبادة كل شيء، لا تنبغي العبادة إلا له، ولا تصلح لشيء سواه"3. 2- دلالة السورة على اتصاف الله بجميع أوصاف الكمال، وذلك في دلالة اسم الله (الصمد) . وقد اختلف أهل العلم في معنى اسم الله (الصمد) ، وليس المقصود تحرير معناه، وإنما بيان دلالته على المطلوب، من اتصاف الله بجميع صفات

_ 1 رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تعالى (ح 7375) (13/347) . 2 رواه البخاري كسابقه، ح (7373) . 3 جامع البيان، لابن جرير، (12/741) .

الكمال. وهو المعنى الَّذِي يرجع إليه أغلب تلك الأقوال.1 وممن نص على أن اسم الله (الصمد) ، يدل على اتصاف الله بصفات الكمال وأن له من كل كمال أكمله، ابن عباس - رضي الله عنهما - حيث قَال في تفسيره: "السيد الَّذِي قد كمل في سؤدده، والشريف الَّذِي قد كمل في شرفه، والعظيم الَّذِي قد عظم في عظمته، والحليم الَّذِي قد كمل في حلمه، والغني الَّذِي قد كمل في حكمته، وهو الَّذِي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه هذه صفته، لا تنبغي إلا له"2. فهذا التفسير من ابن عباس - رضي الله عنهما - يدل على أن اسم الله (الصمد) يدل على أن لله من كل كمال أكمله وأعلاه. وضرب أمثلة على ذلك. وقال أحمد بن عمر القرطبي3 - رحمه الله -:

_ 1 انظر: جامع البيان، لابن جرير، (12/741-744) ، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (17/214) وما بعدها. 2 انظر: جامع البيان، لابن جرير، (12/744) ، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (4/570) . 3 أبو العباس، ضياء الدين، أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، ولد سنة (578 هـ) ، في قرطبة بالأندلس، كان فقيها محدثا، له مواقف في الإنكار على الصوفية والمبتدعة. ولم يسلم من بدعة الأشاعرة في العقيدة. له مصنفات عديدة منها: مختصر البخاري، وتلخيص صحيح مسلم، والمفهم في شرح ما أشكل من تلخيص مسلم، وكتاب في أصول الفقه، وغيرها. توفي سنة (656 هـ) . انظر: البداية والنهاية (13/213) . وشذرات الذهب (7/473) .

"و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تشتمل على ذكر أوصاف الحق سبحانه وتعالى، فكانت ثلثا من هذه الجهة".1 وقال عنها: "اشتملت على اسمين من أسمائه تعالى، يتضمنان جميع أوصاف كماله تعالى، لم يوجدا في غيرها من جميع السور، وهما: الأحد، والصمد، فإنهما يدلان: على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع صفات الكمال المعظمة"2. إلى أن قَال: ".. وأما الصمد: فهو المتضمن لجميع أوصاف الكمال، فإن الصمد هو الَّذِي انتهى سؤدده بحيث يُصْمد إليه في الحوائج كلها، أي يقصد، ولا يصح ذلك تحقيقا إلا ممن حاز جميع خصال الكمال حقيقة، وذلك لا

_ 1 المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم، لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، ت: محي الدين ديب وآخرين، (2/441) دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب، بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ. 2 نفس المصدر (2/441) .

يكمل إلا لله تعالى، فهو الأحد، الصمد، الَّذِي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . فقد ظهر أن لهذين الاسمين من شمول الدلالة على الله تعالى وصفاته ما ليس لغيرهما من الأسماء، وأنهما ليسا موجودين في شيء من سور القرآن فظهرت خصوصية هذه السورة: بأنها ثلث القرآن"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وقوله {الصَّمَدُ} يتضمن جميع صفات الكمال، فالنقائص جنسها منفي عن الله تعالى. وكل ما اختص به المخلوق فهو من النقائص التي يجب تنزيه الرب عنها. بخلاف ما يوصف به الرب، ويوصف العبد بما يليق به: مثل العلم، والقدرة، والرحمة، ونحو ذلك فإن هذه ليست نقائص، بل ما ثبت لله من هذه المعاني فإنه يثبت لله على وجه لا يقاربه فيه أحد من المخلوقات، فضلا عن أن يماثله"2. وقال ابن القيم - رحمه الله -: "فإن الصمد: من تصمد نحوه القلوب بالرغبة والرهبة، وذلك لكثرة خصال الخير فيه، وكثرة الأوصاف الحميدة له.... فهو الَّذِي اجتمعت

_ 1 المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم، (2/441) . 2 مجموع الفتاوى (17/325) .

فيه صفات الكمال"1. 3- دلالة السورة على تفرده بالكمال المطلق. وذلك في دلالة قَوْله تَعَالى: {أَحَدٌ} وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . قَال القرطبي - رحمه الله -: "فالأحد في أسمائه تعالى مشعر بوجوده الخاص به الَّذِي لا يشاركه فيه غيره"2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فقوله: {أَحَدٌ} مع قوله: {لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ينفي المماثلة والمشاركة"3. 4- دلالة السورة على تفرده سبحانه بالربوبية، وذلك مستفاد من تفسير من فسر {الصَّمَد} بأنه: "السيد الَّذِي يصمد إليه في الحوائج"4. وإنما صمد إليه الناس في حوائجهم، واتجهت إليه قلوبهم لما استقر فيها من أنه الرب المدبر الخالق الرازق المتصرف وهذا

_ 1 الصواعق المنزلة، تحقيق/د. أحمد عطية الغامدي (2/681) . 2 المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم، لأحمد بن عمر القرطبي، (2/442) . 3 مجموع الفتاوى (17/325) . 4 مجموع الفتاوى (17/214) .

إقرارهم بربوبية الله تعالى. كما أن المعنى المتقدم من كون اسم الله (الصمد) يدل على اتصاف الله تعالى بجميع صفات الكمال، يشمل في عمومه الصفات الفعلية التي يدل عليها وصف الربوبية. ومما تقدم يتضح أن سورة الإخلاص تدل على المعاني العظيمة التي فسر بها المثل الأعلى الثابت لله تعالى من: تفرده سبحانه بالألوهية، والربوبية، وسائر صفات الكمال وأن له من كل كمال أكمله وأعلاه. وأكتفي بهذه النصوص التي تدل على أن لله المثل الأعلى من تفرده بالألوهية، والربوبية، وسائر صفات الكمال، وأن له من كل كمال أكمله وأعلاه. وفي ذلك دلالة على قوة تفسير المثل الأعلى بهذه المعاني. وذلك أن تفسير ألفاظ القرآن بالمعاني المقررة فيه هو الأولى، بل هو المتعين إذا تبين. والله أعلم. وخلاصة هذا الفرع: تبين مما تقدم أن المعنى الأساس الَّذِي يفسر به (المثل الأعلى) هو: المثل الأعلى الحقيقي القائم بذات الله تعالى الَّذِي يدل على: تفرد الله تعالى بالألوهية، والربوبية، وخصائصهما من صفات الكمال. وحقيقته: أن الوصف الأكمل من كل كمال مطلق، ثابت لله تعالى

وحده حقيقة على ما يليق به سبحانه. وتبين دلالة السياق، والمعاني اللغوية على صحة هذا التفسير - كما دل على ذلك كثير من أقوال أهل العلم. وتبين أن هذا المعنى ورد في نصوص كثيرة مهمة. وذلك يشهد لقوة تفسير (المثل الأعلى) بهذه المعاني. والله تعالى أعلم.

الفرع الثاني: المثل الأعلى لله تعالى العلمي الخبري. تقدم1 تعريفه بأنه: وجود صفات الله تعالى العلمي، الَّذِي هو: الخبر عنها وذكرها في نصوص الكتاب والسنة. حيث تضمنت النصوص بيان تفرد الله بالألوهية، والربوبية، وفصلت التعريف بأسماء الله وأفعاله وصفاته. كما تقدم هناك بيان المراد بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} على هذا المعنى، وأنه بمعنى: ولله الوصف الأعلى المذكور في نصوص الكتاب والسنة، لا لغيره. فهو الخبر الصحيح عن الله، الَّذِي لا يجوز أن يخبر به عن غيره. وتقدم2 أن هذا النوع يشتمل على الأمثال القولية التي ضربها الله في كتابه لبيان الحجج والبراهين على تفرده بالألوهية والربوبية وصفات الكمال. دلالة السياق على هذا المعنى: لا يقال إن سياق سورة "النحل" أو سورة "الروم" التي ورد فيها إثبات المثل لله تعالى يدل على هذا المعنى فحسب، بل إن جميع سور

_ 1 ص (962) . 2 ص (962) .

القرآن الكريم توضح ذلك، ويتكامل فيها البيان لما هو ثابت لله تعالى من الأسماء والصفات، والأفعال، والتي تدل بمجموعها على المثل الأعلى لله تعالى. وكذلك السنة المطهرة تدل على كثير من أسماء الله وصفاته وأفعاله. وقد تقدم1 ذكر نماذج من دلالة القرآن الكريم على المثل الأعلى لله تعالى، في المعنى السابق. أما النوع الثاني: وهو الأمثال العلمية القولية التي ضربها الله تعالى لبيان تفرده بالمثل الأعلى، فقد ورد طائفة منها في سورتي "النحل" و "الروم" اللتين ورد فيهما إثبات المثل الأعلى لله تعالى. ومما ورد في سورة "النحل" قوله عز وجل: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2.

_ 1 ص (956) وما بعدها. 2 سورة النحل آية (74-76) .

وقوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 1. ومن سورة الروم قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2. وقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوآ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} 3. وهذا يدل على أن قضية ضرب الأمثال لله تعالى من القضايا الهامة التي تطرقت لها السورتان. وأن الله تعالى نهى الجاهلين عن ضرب الأمثال له. وضرب الأمثال العالية لنفسه سبحانه. وبيّن أن له الأمثال العليا التي تدل على اتصافه بالمثل الأعلى. والله أعلم.

_ 1 سورة النحل آية (112) 2 سورة الروم آية (28) . 3 سورة الروم آية (58) .

دلالة المعنى اللغوي: تقدم1 أن لفظ "مثَل" من معانيه في اللغة: الدلالة على: مجموع صفات الشيء وحقائقه. أو على الأنموذج الجامع لها. والقرآن الكريم والسنة المطهرة جامعان لذكر صفات الله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وحقه على عباده، وأفعاله، وسننه. فهما مشتملان على ذكر المثل الأعلى لله تعالى. فيقال: إن جميع صفات الله تعالى - التي أخبر بها عباده - والمعاني الثابتة له حقيقة، موجود ذكرها في الكتاب والسنة، ففيهما المثل الأعلى العلمي. أما دلالته على الأمثال القولية فهي ظاهرة حيث إنها من المعاني الرئيسة التي يطلق عليها لفظ "مثل". أقوال العلماء الدالة على هذا المعنى: تقدم كلام ابن القيم - رحمه الله - وهو يذكر عبارات السلف في تفسيرهم للمثل الأعلى، حيث قَال: "الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والتمثيل"2.

_ 1 ص (72) . 2 الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، ت: أ. د/أحمد الغامدي، (2/687) .

وقال: "وأخبر عن مثَله الأعلى بما ذكره من أسمائه وصفاته وأفعاله. وضرب لأوليائه وعابديه أحسن الأمثال. ومن تدبر القرآن فهم المراد بالمثل الأعلى"1. وقال عن إطلاق الأمثال القولية التي ضربها الله لعباده:"فهذان مثلان ضربهما الله لنفسه وللأصنام. فللأصنام مثل السوء، وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى"2. وقال الزجاج3 - رحمه الله - في قوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} : "المثل قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، قد ضربه الله تعالى مثلا فيما يسهل ويصعب عندكم، وينقاس على أصولكم، فاللام في المثل للعهد، وهو محمول على ظاهره"4. أهمية المثل الأعلى الخبري: إن وجود ذكر المثل الأعلى - الدال على تفرد الله بالألوهية

_ 1 الصواعق المرسلة، ت: د. علي الدخيل الله، (3/1036) ، وانظر التعليق، ص () . 2 الصواعق المنزلة 2/688. 3 أبو إسحاق، إبراهيم بن السري بن سهل، الزجاج، كان إماما في العربية، من أهل الدين. ألف عددا من الكتب منها: معاني القرآن، والاشتقاق، وخلق الإنسان. توفي سنة 311 هـ. انظر: إشارة التعيين، وتراجم النحاة واللغويين ص (12) ، والأعلام (1/40) . 4 انظر: روح المعاني للألوسي 21/37، وأشار إلى هذا المعنى الرازي صاحب التفسير الكبير (25/117) .

والربوبية، وسائر صفات الكمال - في نصوص الكتاب والسنة مهم جداً، إذ هو الطريق لعلم العالمين، وقيام المعرفة الصحيحة في قلوب العباد بالله رب العالمين ولولاه لما استطاع أحد أن يعرف ربه معرفة صحيحة. فهذا مضمار لا مجال للعقول للوصول إليه، ولذلك ورد بيانه وتفصيله في الكتاب العزيز والسنة المطهرة.

الفرع الثالث: المثل الأعلى العلمي الاعتقادي القائم في قلوب المؤمنين لرب العالمين. تقدم1 أن المراد به هو: توحيد الله باعتقاد تفرده بالألوهية والربوبية، وأن له الأسماء الحسنى وله من كل كمال مطلق أكمله وأعلاه، وما ينتج عن ذلك من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وذكره وعبادته. فالوصف الأكمل من كل كمال ثابت لله وحده في قلوب المؤمنين على الوجه الذي دل عليه المثل الأعلى الخبري، الثابت في نصوص الكتاب والسنة. دلالة السياق على هذا المعنى: لقد تضمن كلا السياقين اللذيْن ورد فيهما إثبات المثل الأعلى لله تعالى، الدعوة إلى التوحيد والاستقامة على الحنيفية ملة إبراهيم - عليه السلام - وذكر أهم صفات الموحدين العارفين بالله. فختمت سورة "النحل" بقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ

_ 1 ص (932) .

الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ المُشْرِكِينَ} 1. فذكر تعالى صفات إبراهيم - عليه السلام - إمام الموحدين، ثم أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم باتباعه في ذلك، بالتزام التوحيد الخالص ومفارقه طريقة المشركين الظانين به ظن السوء، الضاربين له الأمثال. وفي سورة الروم بعد قوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى..} الآية، ورد قوله سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ المُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 2. وتقدم3 في دلالة السياق أن: "في مجيء قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ... } الآيات، بعد إثبات المثل الأعلى له وحده سبحانه،

_ 1 سورة النحل آية (120 - 123) . 2 سورة الروم آية (30 - 32) . 3 ص (905) وما بعدها.

مناسبة هامة هي: بيان أن إقامة الدين وإخلاص العبادة لله هي ثمرة العلم وإثبات المثل الأعلى لله وحده. فمن أثبت لله المثل الأعلى، عمر قلبه بالتوحيد. وعندها يقيم دينه وحياته وكل أحواله لله، وعلى منهج الله". دلالة المعنى اللغوي: تقدم في الفرعين السابقين أن ثبوت المثل الأعلى لله تعالى موافق للمعنى اللغوي للمثل الدال على: مجموع صفات الشيء وحقائقه، أو الجامع لها. والمثل الأعلى القائم في قلوب المؤمنين لرب العالمين مطابق لذلك، حيث إن المراد: وجود العلم وثبوت الاعتقاد بجميع أوصاف الله تعالى، والمعاني التي أخبر بها عن نفسه في قلوب المؤمن. قَال ابن تيمية - رحمه الله -: "لأنه قد يقال: إن العلم مثال المعلوم في العَالِم"1 أقوال العلماء في تفسير "المثل الأعلى" بهذا المعنى: فسر بعض العلماء من السلف وغيرهم "المثل الأعلى" بما يدل على التوحيد، والتوحيد فعل العبيد. ومن أولئك قتادة - رحمه الله - في تفسير {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ،

_ 1 مجموع الفتاوى 2/383.

حيث قَال: "شهادة أن لا إله إلا الله"1. وقصده بذلك ما دلت عليه من التوحيد، كما يدل عليه ما روي عنه من تفسير "المثل الأعلى" بالإخلاص والتوحيد2. وقال ابن جرير - رحمه الله -: "يقول: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} : وهو الأفضل والأطيب، والأحسن، والأجمل، وهو التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره"3. وقال الشوكاني - رحمه الله -: " {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} : وهو أضداد صفة المخلوقين، من الغنى الكامل، والجود الشامل، والعلم الواسع، أو التوحيد وإخلاص العبادة"4. وقد بيّن الإمام ابن تيمية - رحمه الله - هذا المعنى، بقوله: "وأما قرب الرب من قلوب المؤمنين وقرب قلوبهم منه: فهذا أمر معروف لا يجهل، فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة، والذكر والخشية والتوكل. وهذا متفق عليه بين الناس كلهم ... وهذا القرب الَّذِي في القلب - المتفق عليه - هو قرب المثال العلمي

_ 1 جامع البيان، لابن جرير، (7/600) . 2 نفس المصدر، (7/600) . 3 نفس المصدر، (7/600) . 4 فتح القدير، لمحمد بن علي الشوكاني (3/170، 171) .

في الحقيقة، وذلك مستلزم لمحبته، فإن من أحب شخصا تمثل في قلبه ووجده قريبا إلى قلبه، وإذا ذكره حضر في قلبه ... وهذا هو "المثل الأعلى" الَّذِي قَال الله فيه: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} .... وهو "المثل" في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فإنه سبحانه لا يماثله شيء أصلا. فنفسه المقدسة لا يماثلها شيء من الموجودات، وصفاته لا يماثلها شيء من الصفات. وما في القلوب من معرفته لا يماثله شيء من المعارف. ومحبته لا يماثلها شيء. فله {المَثَلُ الأَعْلَى} كما أنه في نفسه الأعلى"1. وتقدم2 أن ابن القيم - رحمه الله - ذكر هذا المعنى في المعاني التي تدور عليها عبارات السلف في تفسير المثل الأعلى، حيث قَال: "الثاني: وجودها في العلم والتصور وهذا معنى قول من قَال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وجلاله وتعظيمه. وهذا الَّذِي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه، بل يختص به في قلوبهم، كما اختص به في ذاته"3.

_ 1 مجموع الفتاوى (5/249، 250) . 2 ص (923) . 3 الصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة (2/687) .

وقال: "الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده، والإخلاص له والتوكل عليه، والإنابة إليه، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى"1. كما تقدم2 أن الأولى دمج هذين الأمرين في أمر واحد يشمل ما يقوم في قلب المؤمن من حقائق التوحيد من معرفة الله باعتقاد تفرد الله بالألوهية والربوبية، وسائر صفات الكمال، وما ينتج عن ذلك من محبة الله، والتوكل عليه ... ونحوها. وقال أيضاً - رحمه الله -: "وخلق الله القلوب، وجعلها محلا لمعرفته ومحبته وإرادته، فهي عرش المثل الأعلى الَّذِي هو معرفته ومحبته وإرادته. قَال تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 3. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 4. وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 5.

_ 1 الصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة (2/687) . 2 ص (926) . 3 سورة النحل آية (60) . 4 سورة الروم آية (27) . 5 سورة الشورى آية (11) .

فهذا من المثل الأعلى وهو مستو على قلب المؤمن فهو عرشه، وإن لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها وأبعدها من كل دنس وخبث لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه معرفة ومحبة وإرادة"1. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "وله المثل الأعلى في قلوب أوليائه، وهو التعظيم والإجلال، والمحبة والإنابة والمعرفة"2. وأكتفي بهذه الأقوال المبينة لهذا المعنى، ففيها الكفاية إن شاء الله. وخلاصة هذا المطلب: أن الدلائل المختلفة - المتحصلة من دلالة السياق، والمعنى اللغوي للفظ مثل، ووصف المثل بالأعلى، وأقوال أهل العلم - تدل على أن المثل الأعلى الثابت لله تعالى يفسر بأكثر من معنى صحيح. وهذه المعاني منها معنى هو الأساس والأصل. وهو ثبوت المثل الأعلى الحقيقي لله تعالى وقيامه بذاته المقدسة كما تقدم بيانه. والمعاني الأخرى دالة عليه، أو نتيجة له. فهي توصف بأنها الأعلى باعتبار موافقتها له، ودلالتها عليه. فليست معان متضادة، وإنما يطلق "المثل الأعلى" على كل منها باعتبار صحيح. وهذه المعاني الصحيحة هي:

_ 1 الفوائد، لابن القيم، ص (41) ، ت: أحمد راتب عرموش، دار النفائس، بيروت، الطبعة السابعة، 1406 هـ. 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (4/213) .

الأول: المثل الأعلى الحقيقي القائم بذات الله تعالى. وهو تفرد الله تعالى بالألوهية والربوبية، وخصائصهما من جميع صفات الكمال. وأن الوصف الأكمل من كل كمال مطلق ثابت لله تعالى وحده حقيقة على ما يليق به سبحانه. الثاني: المثل الأعلى لله تعالى العلمي الخبري. وهو: وجود صفات الله تعالى العلمي، الَّذِي هو الخبر عنها وذكرها في نصوص الكتاب والسنة، حيث تضمنت النصوص بيان تفرد الله تعالى بالألوهية، والربوبية، وفصلت التعريف بأسمائه وأفعاله وصفاته. كما اشتملت على البراهين والأمثال المضروبة للاستدلال على ذلك. الثالث: المثل الأعلى العلمي الاعتقادي القائم في قلوب المؤمنين لله رب العالمين. وهو توحيد الله باعتقاد تفرده بالألوهية والربوبية، وأن له الأسماء الحسنى، وله من كل كمال مطلق أكمله وأعلاه، وما ينتج عن ذلك من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وعبادته وذكره. كما تبين أن الله متفرد بالمثل الأعلى في سائر المعاني التي يفسر بها، والدلائل على ذلك. والله أعلم.

المطلب الثاني: في معنى قوله تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم}

المطلب الثاني: في معنى قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1 قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} ، يشتمل على اللام التي للاختصاص، والاسم الموصول {الَّذِين} وجملة الصلة {لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} . والاسم الموصول {الَّذِين} اسم مبهم لا يظهر معناه إلا بجملة الصلة2. وجملة الصلة {لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} وصف عام يدخل تحته أفراد كثيرون. ومنهم كفار العرب الَّذِين يكذبون بالبعث واليوم الآخر، وينسبون البنات إلى الله تعالى. والَّذِين تقدم ذكرهم قبل هذه الآية، في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 3. {مَثَلُ السَّوْءِ} : اختلفت أقوال أهل العلم في المراد بمثل السوء. وقد حصر أهمها الإمام الشوكاني بقوله:

_ 1 سورة النحل آية (60) . 2 انظر: النحو الوافي، لعباس حسن (1/340) . 3 سورة النحل آية (57) .

"مثل السوء: أي صفة السوء من الجهل والكفر بالله. وقيل هو: وصفهم لله بالصاحبة والولد، وقيل: هو حاجتهم للولد ليقوم مقامهم، ووأد البنات لدفع العار وخشية الإملاق، وقيل هو: العذاب والنار"1. مناقشة هذه الأقوال: القول الأول: أن مثل السوء: هو الجهل والكفر القائم في قلوب الَّذِين لا يؤمنون بالآخرة المتضمن للشرك ووصف الله بخلاف ما يليق به سبحانه، وصرف العبادة لغيره. وهذا التفسير هو الراجح لذلك ذكره الشوكاني رحمه الله أولاً، ودلائل رجحانه ما يلي: أولا: دلالة السياق. إن الآيات التي سبقت قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} الآية. تضمنت النهي عن الشرك في قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2. وبيان أن فريقاً من الناس يقابلون نعمة الله بالشرك بالله حال

_ 1 فتح القدير، للشوكاني (3/170) . 2 سورة النحل آية (51) .

الرخاء، فقال: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} 1. ثم بيّن جانباً من شركهم بقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} 2. وجانباً آخر بقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 3. ثم أبطل الله ذلك بقوله: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 4. فظاهر أن السياق يتكلم عن قضية الشرك، ووصف الله بما لا يليق به، ونسبة الولد والشركاء له سبحانه. وذلك يؤيد تفسير مثل السوء بالكفر والجهل الَّذِي أساسه الشرك القائم في قلوب الَّذِين لا يؤمنون بالآخرة، وأقوالهم. فيكون الشرك هو أساس مثل السوء. كما أن تفرد الله بالألوهية، واعتقاد المؤمنين لذلك هو أساس المثل الأعلى الثابت لله تعالى. ويدل على

_ 1 سورة النحل آية (54) . 2 سورة النحل آية (56) . 3 سورة النحل آية (57) . 4 سورة النحل آية (60) .

أن هذا الصنف من الناس الَّذِين جمعوا بين الكفر باليوم الآخر، والشرك بالله هم مجمع السوء والشر والرذائل، إذ إن المراد بالمثل ما كان جامعا لصفات الشيء وحقائقه وكماله، فهم مثل السوء بهذا الاعتبار الَّذِين اجتمعت فيهم الشرور والضلالات والجهالات إذ ليس لديهم رادع يردعهم عنها، فهم لا يؤمنون بالله إيمانا صحيحا يثمر الخير في قلوبهم وأعمالهم، ولا يؤمنون بالبعث والحساب فيخافون ويرتدعون. ثانياً: رجوع أغلب التفاسير إلى هذا المعنى. فتفسير {مَثَلُ السَّوْءِ} بأنه: وصفهم الله بالصاحبة والولد. أو: بوأدهم البنات. وهو من جهلهم وكفرهم. فهو راجع إلى التفسير الأول. وتفسيره بالعذاب والنار هو نتيجة كفرهم وجهلهم. وتقدم1 أن هذا التفسير منسوب إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - وأنه وإن كان له وجه في اللغة، إلا أن تفسير {مَثَلُ السَّوْءِ} في الآية به بعيد، لأن السياق في ذكر كفرهم وشركهم وإبطاله، وليس في بيان ما أعده الله لهم من العذاب2. ثالثاً: ضعف التفاسير الأخرى التي لا ترجع إلى القول الأول.

_ 1 تقدم ص (73) . 2 انظر: روح المعاني للألوسي (13/170) ، وتفسير أبي السعود (5/122) .

وذلك أن كثيراً من المفسرين فسر {مَثَلُ السَّوْءِ} : بحاجتهم إلى الولد ليقوم مقامهم. وهذا التفسير بعيد جداً، لأن الحاجة إلى الولد غير خاصة بالذين لا يؤمنون بالآخرة. ويستوي فيها الكافر والمؤمن. والله قد خص الَّذِين لا يؤمنون بالآخرة بمثل السوء. المعاني التي يصدق عليها مثل السوء: إذا كان {المَثَلُ الأَعْلَى} الثابت لله تعالى يفسر بأكثر من معنى صحيح باعتبارات صحيحة. فكذلك {مَثَلُ السَّوْءِ} الَّذِي يقابل {المَثَلُ الأَعْلَى} يفسر بمعان تقابل المعاني التي فسر بها المثل الأعلى. والمعنى المشترك بين المعاني التي يفسر بها مثل السوء هو: اجتماع صفات السوء والنقص والفساد وحقائقها في كل منها باعتبار. وهي ثلاثة معان رئيسية: المعنى الأول: مثل السوء الطاغوتي. وهم الشيطان والطواغيت الَّذِين يدعون الناس إلى عبادتهم واتخاذهم أربابا. فكل من ادعى شيئا مما تفرد الله به من الألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات ونحوها، فهو {مَثَلُ السَّوْءِ} الأحقر. كفرعون الَّذِي حشر فنادى:

{فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} 1 وقال: {يَآ أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 2. ومثل السوء الطاغوتي: المراد به اجتماع صفات السوء والشر وحقائقه في هؤلاء من الطغيان، والكبر والشر والفساد. وقيامها في نفوسهم وأعمالهم وسائر أحوالهم، ومنهم الذين يدعون الألوهية، أو الربوبية، ومنهم دعاة الشرك وسدنة الطواغيت. وهذا المعنى هو الأساس للمعاني الأخرى، وهو المادة المغذية لها. المعنى الثاني: مثل السوء الكفري الاعتقادي، المتمثل في عقائد وأعمال المشركين الَّذِين استجابوا للشيطان والطواغيت فعبدوهم من دون الله. واتخذوا مع الله آلهة وأربابا، فشاركوا أولئك في السوء والشر والفساد، وخبث الاعتقاد وضلال الأعمال. المعنى الثالث: مثل السوء العلمي. وهي العلوم الفاسدة التي تستند إليها أديان المشركين، والشبهات التي يحتجون بها، والجهالات التي تضمنتها كتبهم، ومدارسهم. فإن هذه العلوم والجهالات هي المستنقعات التي تمد الكفر والشر والسوء، وينبثق عنها كل ضلال وفساد، وهي وحي الشياطين، قَال

_ 1 سورة النازعات آية (24) . 2 سورة القصص آية (38) .

تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} 1. ومن أمثال السوء ما بثه فرعون في قومه في معارضة رسل الله، قَال الله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} 2. هكذا يوهم أن ما يدعوهم إليه رشاد، وهو عين الفساد {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} 3. تضمن الآية حجة لإبطال الشرك: هذه الحجة متمثلة في مقابلة أحكامهم السيئة، وما نسبوه إلى الله من الشرك والولد، بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} . وذلك: أن من هذه الأمور التي نسبوها إلى الله تعالى - وتقدم ذكرها في الآيات - أموراً هم ينفرون منها، ولا يرضونها لأنفسهم، فكيف ينسبونها إلى الله، وهو أعز وأجل وأعلى منهم.

_ 1 سورة الأنعام آية (112، 113) . 2 سورة غافر آية (29) . 3 سورة الزخرف آية (54) .

وأشار السياق إلى أمرين من هذه الأمور: الأمر الأول: في قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} 1. قَال ابن جرير - رحمه الله - في قوله تعالى: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} : "يعني: تختلقون من الإفك على الله بدعواكم له شريكاً، وتصييركم لأوثانكم فيما رزقكم نصيباً، ثم ليعقابكم عقوبة تكون جزاء لكفرانكم نعمه، وافترائكم عليه"2. وهم مع ذلك لا يرضون ذلك لأنفسهم، فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، يبطل ذلك الادعاء، إذ كيف يرضون له ما لا يرضونه لأنفسهم، وهو سبحانه أعظم وأجل وأعلى وأغنى عن الشركاء منهم. وقد فصّل الله هذه الحجة في سورة "الروم" بعد أن بيّن تفرده بالمثل الأعلى بقوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا

_ 1 سورة النحل آية (56) . 2 جامع البيان، لابن جرير، (7/598) .

رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. وسيأتي بيان هذا المثل - إن شاء الله - في المطلب القادم. الأمر الثاني: في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} 2. قَال ابن جرير - رحمه الله -: "ومن جهل هؤلاء المشركين وخبث فعلهم، وقبح فريتهم على ربهم، أنهم يجعلون لمن خلقهم، ودبَّرهم وأنعم عليهم ... البنات، ولا ينبغي أن يكون لله ولد ذكر أو أنثى سبحانه، ولكنهم أضافوا إليه ما يكرهونه لأنفسهم، ولا يرضونه لها من البنات، ما يقتلونها إذا كانت لهم"3. ومقابلة زعمهم بأن لله بنات، وزعمهم أن له شركاء في ما خلقه من الرزق، بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} ، يدل على قاعدة هامة في الحجة والقياس، تتمثل في: أن كل نقص تنزه عنه المخلوق فالله أولى بالتنزه عنه، لأنه

_ 1 سورة الروم آية (27، 28) . 2 سورة النحل آية (57، 58) . 3 جامع البيان، لابن جرير، (7/599) .

سبحانه أعلى وأجل، وأبعد عن النقص والعيب. وإذا كان متقرراً في حكمهم: قبح الإناث وكراهتهم لهنّ، وقبح إشراك السيد عبده في ملكه، فليحكموا بذلك لله تعالى: وليثبتوا قبح نسبة الإناث إليه، ثم يثبتوا لله المثل الأعلى في ذلك، وهو كمال غناه عن الولد مطلقا ذكرا كان أو أنثى. وليحكموا بقبح جعل الشريك له في الرزق لكونه كامل السؤدد والغنى. وليثبتوا له المثل الأعلى في ذلك، وهو كمال غناه عن الشركاء مطلقاً في الربوبية والألوهية وغيرها من خصائصه. وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - هذه الحجة بقوله: "ولهذا لما كانت طريقة القرآن فيما يثبته للرب تعالى، وينفيه عنه، مبنيّة على برهان الأولى - لا على البرهان الَّذِي تستوي أفراده، أو يماثل فرعه أصله - قَال تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} 1، بعد قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} 2، وقال تعالى في الآية الأخرى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} 3، أي

_ 1 سورة النحل آية (60) . 2 سورة النحل آية (58) 3 سورة الزخرف آية (17)

بما ضربوه للرحمن مثلا. والمثل الَّذِي ضربوه له هو البنات. وهو عندهم مثل سوء مذموم معيب، فقال تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} ، ومن قَال: إنه ولد الملائكة، أو قال: إنه ولد العقول أو النفوس، فإنه لا يؤمن بالآخرة فله مثل السوء. والله تعالى له المثل الأعلى، فلا يضرب له المثل المساوي، إذ لا كفؤ له ولا ند، فضلا عن أن يضرب له المثل الناقص ... ونظير ما ذكره سبحانه في الأولاد، ما ذكره في الشركاء، في قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} 1. يقول تعالى: إذا كان الواحد منكم ليس له من مماليكه شريك في ما رزقه الله، بحيث يخاف ذلك المملوك كما يخاف السادة بعضهم بعضا، فكيف تجعلون لي شريكا هو مملوكي، وتجعلونه شريكا فيما يختص بي من العبادة والمخافة والرجاء، حتى تخافوه كما تخافوني"2. إلى أن قَال: "وإذا كان جعل المملوك شريكا في الملك الناقص - بحيث يرغب إليه كما يرغب إلى المالك، ويرهب منه كما يرهب من

_ 1 سورة الروم آية (28) 2 درء تعارض العقل والنقل، ت: د. محمد رشاد سالم، (7/388، 389) .

المالك - ممتنعا يوجب الفساد، فجعل المملوك المخلوق شريكا لمالكه الخالق أولى بالامتناع ولزوم الفساد"1. دلالة ختام الآية بقوله: {وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} . العزيز: اسم من أسماء الله الحسنى. ويدل على ثبوت صفة العزة له سبحانه. قال تعالى: {إِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} 2 وصفة العزة تدل على ثلاثة معان. قَال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "فمعاني العزة الثلاثة كلها ثابتة لله العظيم: عزة القوة: الدال عليها من أسمائه القوي المتين. وهي وصفه العظيم الَّذِي لا تنسب إليه قوة المخلوقات وإن عظمت. وعزة الامتناع: لأنه هو الغني بذاته، فلا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العباد ضره فيضرونه، ولا نفعه فينفعونه، بل هو الضار النافع المعطي المانع. وعزة القهر: والغلبة لكل الكائنات، فهي كلها مقهورة لله خاضعة لعظمته، منقادة لإرادته، فجميع نواصي المخلوقات بيده، لا يتحرك منها متحرك، ولا يتصرف إلا بحوله وقوته وإذنه، فما شاء الله كان، وما لم

_ 1 درء تعارض العقل والنقل، (7/392) . 2 سورة يونس آية (65) .

يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به"1. فاسم الله العزيز يدل على كمال قوة الله تعالى، وامتناعه بنفسه سبحانه، وخضوع جميع المخلوقات لقهره، وتدبيره، يفعل فيها ما يشاء ويختار لا يعجزه شيء، ولا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه، فهو سبحانه يُدبِّر ولا يُدَبر، يُجري ما شاء على من شاء ولا يمتنع من أمره، ولا يتعقبه في حكمه أحد، فسبحانه لا إله إلا هو العزيز الحكيم. الحكيم: اسم من أسماء الله الحسنى، يدل على اتصاف الله تعالى بالحكمة في شرعه وقدره، والحكم بين المخلوقات. قَال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "أي هو تعالى {الحَكِيمُ} : الموصوف بكمال الحكمة، وبكمال الحكم بين المخلوقات. فالحكيم هو واسع العلم والاطلاع على مبادئ الأمور وعواقبها. واسع الحمد تام القدرة عزيز الرحمة. فهو الَّذِي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها في خلقه وأمره. فلا يتوجه إليه سؤال، ولا يقدح في حكمته مقال. وحكمته نوعان: أحدهما الحكمة في خلقه. فإنه خلق الخلق بالحق ومشتملاً على الحق. وكان غايته والمقصود به الحق. خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام، ورتبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق

_ 1 الحق الواضح المبين، في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين، ص (44) .

به، بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات، وكل عضو من أعضاء الحيوانات خِلقته وهيئته. فلا يرى أحد في خلقه خللا ولا نقصا ولا فطورا، فلو اجتمعت عقول الخلق من أولهم إلى آخرهم ليقترحوا مثل خلق الرحمن، أو يقارب ما أودعه في الكائنات من الحسن والانتظام والإتقان لم يقدروا، وأنى لهم القدرة على شيء من ذلك وحسب العقلاء منهم أن يعرفوا كثيرا من حكمه.... النوع الثاني: الحكمة في شرعه وأمره، فإنه تعالى شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل ليعرفه العباد ويعبدوه، فأي حكمة أجل من هذا؟.... فلو لم يكن في أمره وشرعه إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل الخيرات، وأكمل اللذات، ولأجلها خلقت الخليقة، وحق الجزاء، وخلقت الجنة والنار، لكانت كافية شافية. هذا وقد اشتمل شرعه ودينه على كل خير، فأخباره تملأ القلوب علما ويقيناً وإيماناً وعقائد صحيحة، وتستقيم بها القلوب ويزول انحرافها، وتثمر كل خُلُق جميل، وعمل صالح وهدى ورشد. وأوامره ونواهيه محتوية على غاية الحكمة والصلاح والإصلاح للدين والدنيا. فإنه لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مضرته خالصة أو راجحة.... وبالجملة فالحكيم متعلقاته: المخلوقات والشرائع. وكلها في غاية

الإحكام. فهو الحكيم في أحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية، وأحكامه الجزائية. والفرق بين أحكام القدر وأحكام الشرع، أن القدر متعلق بما أوجده وكونه وقدره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وأحكام الشرع متعلقة بما شرعه"1. ما يدل عليه اجتماع الاسمين "العزيز الحكيم": إن اسم الله (العزيز) من الأسماء التي تبعث في قلب من فقه معناها الخوف والوجل الشديد. إذ إن له سبحانه وتعالى القوة العليا فلا يوجد من يستدرك عليه، أو يسأله عن فعله. وهو المهيمن المتصرف في الكون والعباد بما شاء من أمره. فيُضل من شاء ويهدي من شاء، ويعذب من شاء ويرحم من شاء، ويُجري ما شاء على من شاء، دون خوف من عاقبة أو من متعقب. ومن جرى عليه شيء من ذلك فلن يجد من دون الله ناصراً أو معيناً. وهذا المعنى يصيب القلب بالفَرَق والخوف الشديد. إذ يقول: إذاً قد يعذبني أو يضلني ولا يبالي. وهنا يأتي اسم الله (الحكيم) ، ليذهب ذلك الخوف الَّذِي انبعث في القلب من معرفة اسم الله العزيز، ويوازن القلب ويطمئنه. فالله سبحانه مع عزته وكمال قوته، وتفرده بالملك والتدبير، حكيم

_ 1 الحق الواضح المبين، في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية، ص (50-54) .

يضع الأمور في مواضعها. يتولى المؤمن فيهديه ويكرمه، ويسخط على الكافر فيضله ويعاقبه. ويُجري المقادير على عباده بموجب علمه وحكمته، فضلاً أو عدلاً منه تبارك وتعالى. ولهذا كثر اقتران اسم الله (العزيز) الباعث على الخوف والوجل، بأسماء أخرى باعثه على الرجاء والمحبة والأمل. فقد ورد مقترناً باسم الله (الحكيم) في أكثر من أربعين موضعا في القرآن الكريم1. واقترن كثيراً باسم الله (الرحيم) ، واسم الله (العليم) واسم الله (الغفار) و (الغفور) ونحوها2. وما ذلك إلا لتعرف القلوب ربها معرفة متكاملة، تجعلها بين الخوف والرجاء في حالة تبعث فيها بوادر الخير والإقبال على الله، وتردعها عن نوازع الشر والانحياز إلى حزب الشيطان. مناسبة ختم الآية بهذين الاسمين: إن المعاني العظيمة التي يدل عليها كل اسم من اسم الله (العزيز) واسمه (الحكيم) ، وتعلقهما بأمر الله الكوني، وأمره الشرعي، كل ذلك جعل لاقترانهما مدلولات واسعة، إلا أنني سأقتصر من ذلك على أربعة

_ 1 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص (584، 585) دار المعرفة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1414 هـ. 2 المرجع السابق.

معان يدل عليها ختم الآية بهذين الاسمين، لما لها من علاقة بالقضايا التي وردت في سياق الآية، ومناسبتها لمدلول قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} . المعنى الأول: تقدم أن السياق الَّذِي ورد فيه إثبات المثل الأعلى من سورة "النحل" ركز على قضية التوحيد، ببيان تفرد الله بالألوهية، ووجوب إفراده بالعبادة، وبين أن ذلك هو الغاية التي أنزل من أجلها كتبه، وأرسل رسله، مع بيان جانب من دلائل التوحيد، وفضل أهله، وعاقبتهم الحميدة في الدنيا والآخرة. كما تضمن ذم الشرك وإبطاله، وبيان سوء عاقبته في الدنيا والآخرة. وتقدم - أيضا - أن المثل الأعلى لله تعالى أساسه تفرد الله بالألوهية، وكل الصفات الأخرى فهي من خصائص الإله الحق تبارك وتعالى. وعلى هذا يكون قوله تعالى: {وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} دليل على استحقاقه وحده للألوهية، والمثل الأعلى، ويكون قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} : تتضمن الدعوى ودليلها.

فالذي كملت عزته، وحكمته، هو المستحق للألوهية، ودلائل عزة الله، وحكمته على الوجه الأكمل مشاهدة في الكون قاطعة بكمال قوته، وعظيم حكمته. وهذا المعنى دلت عليه نصوص أخرى، ختم الله بها الحديث عن تفرده بالألوهية واستحقاقه للعبادة، بهذين الاسمين. فمن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1. وقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلآئِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 2. وقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 3. ونحوها.

_ 1 سورة آل عمران آية (6) . 2 نفس السورة آية (18) . 3 نفس السورة آية (62) .

المعنى الثاني: أنه لما كانت ربوبية الله - وما يشاهد من آثار أفعاله تبارك وتعالى - أكبر دليل على تفرد الله بالألوهية والمثل الأعلى، ولما اشتملت عليه السورة من ذكر ذلك في مواضع متعددة منها، ناسب أن يذكر سبحانه ما يدل على كمال قوته وتدبيره، وأن ذلك يجري بموجب حكمته، فختم الآية التي ورد فيها إثبات المثل الأعلى بقوله: {وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} . وأشمل ما دل على هذا المعنى - وهو ختم الآيات التي تتحدث عن ربوبية الله وأفعاله بهذين الاسمين الكريمين - ما ورد في سورة "الجاثية" حيث بدأت السورة بذكر هذين الاسمين في قوله تعالى: {حم تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنْ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} 1، ثم ذكر الله جملة من آيات ربوبيته فقال: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآ يَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَآءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2. ثم ختم السورة بذكر ربوبيته وبهذين الاسمين، حيث قَال تبارك

_ 1 سورة الجاثية آية (1، 2) . 2 سورة الجاثية آية (3- 5) .

وتعالى: {فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ وَلَهُ الكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1. المعنى الثالث: ما يدل عليه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} من وجود فريقين: أهل مثل السوء الَّذِين أشركوا بالله، وكفروا باليوم الآخر، والَّذِين هم مجمع السوء والشر. وأهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الَّذِين يثبتون لله المثل الأعلى، والَّذِين هم مصدر الخير والعدل في الأرض. وهذا يولد سؤالاً مفاده: كيف يُعصى الله في ملكه؟ وكيف يتمرد عليه عبيده، مع كمال ملكه وقوته، وإحاطة علمه؟ فيأتي قوله تعالى: {وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} ليدل على أن ذلك واقع بعلمه، وإذنه، ولا يكون في ملكه ما لا يريده. وأن له في تقدير ذلك والإذن به الحكمة البالغة. فهو العزيز سبحانه لا يراعي أحدا، ولا يعجزه أحد، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب ولا قرابة، إلا الإيمان والتقوى وقد جعل

_ 1 نفس السورة آية (36، 37) .

للهداية أسباباً، مَن سلكها وأتى بها هداه ولو كان حقيراً عند الناس، وجعل للضلال أسباباً، مَن تلبَّس بها وأعرض عن الهدى أضله وأرداه، ولو كان من كان شرفاً وعزاً. فهو {العَزِيزُ الحَكِيمُ} سبحانه يُجري مقتضى حكمته على عباده دون مبالاة أو مراعاة لأحد من الخلق. فهو سبحانه الَّذِي أجرى مقتضى حكمته في إضلال الضالين من أبناء الأنبياء وأقربائهم، كوالد إبراهيم، وابن نوح، وزوج لوط، وعم محمد صلوات الله وسلامه على أنبيائه ورسله. وهو الَّذِي يُجري ما شاء من أمره على العباد، من العذاب أو الرحمة، أو النصر أو الهزيمة أو غير ذلك من الأحوال على مقتضى حكمته الدائرة بين العدل والفضل، وسنة الابتلاء ... واختصاصه برحمته وفضله وهدايته من شاء من عباده. وهذا المعنى - وهو ختام الآيات التي تتحدث عن الهداية، والإضلال وما يجري على العباد من الأحوال - كثير في القرآن الكريم. فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَآءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَآءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1.

_ 1 سورة إبراهيم آية (4) .

وقال: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمْ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوآ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. وقال: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2. وقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} 3. ونحوها كثير. ويدخل في هذا المعنى الحديث عن الوحي إلى الأنبياء، وإنزال القرآن الكريم، لأن ذلك هو الطريق إلى الهداية، والتكذيب به والإعراض عنه هو سبب الضلال. ومما ورد في هذا المعنى، قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 4.

_ 1 سورة البقرة آية (208- 209) . 2 سورة البقرة آية (220) . 3 سورة آل عمران آية (126) . 4 سورة الشورى آية (3) .

وقوله تعالى في أكثر من سورة: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 1. ونحوها. المعنى الرابع: ما يدل عليه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} من استحقاق الله وحده للتسبيح والتنزيه عن الولد والصاحبة والشريك. ففيه إشارة إلى وجوب تنزيه الله عن ذلك وتسبيحه مع ذكر موجبه وهو كونه (العزيز الحميد) ، وشواهد عزته وحكمته قائمة فيما يشاهَد في خلقه، وما يتجدد من أمره سبحانه. وهذا المعنى - وهو ختام الآيات التي تتحدث عن تسبيح الله تعالى بهذين الاسمين - كثير في القرآن الكريم. فمن ذلك قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 2. وقوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} 3.

_ 1 سورة الزمر آية (1) ، وسورة الجاثية آية (2) ، وسورة الأحقاف آية (2) . 2 سورة الحديد آية (1) . 3 سورة الجمعة آية (1) .

وأشمل ما يدل على هذا المعنى ما ورد في سورة "الحشر"، حيث بدأت بقوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1. ثم ذكر في آخرها المعاني التي دل عليها المثل الأعلى لله تعالى، من قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} إلى آخر السورة2. ثم ختم تلك الآيات بقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 3. خلاصة القول في معنى قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} : أن الله تعالى بين أن الكفار الَّذِين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وجمعوا بين الشرك بالله، والكفر باليوم الآخر هم مجمع السوء ومثله.

_ 1 سورة الحشر آية (1) . 2 انظر ما تقدم من ص (638) 3 نفس السورة آية (24) .

فآلهتهم التي يعبدونها آلهة سيئة، فهم عبدوا الطاغوت، والأوثان، التي لا تنفع ولا تضر، ولا تغني عنهم شيئا، واتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، وقلوبهم فاسدة، هي مجمع الشرك والعقائد الباطلة، والظنون السيئة بالله تعالى، وما يتولد عنها من الإرادات الخبيثة. وأعمالهم وأقوالهم وأحوالهم خبيثة سيئة، صائرة إلى الشر والفساد، لا يردعهم عنه رادع. وهم المستحقون لذلك النار التي هي مثل السوء، ومجمع الشر ومنتهاه، أعاذنا الله منها. وأن الله قابل تلك الأحكام السيئة التي وصفوه بها، مِن جَعلهم له الشركاء والبنات ونحوها، ببيان تفرده بالمثل الدال على تفرده بالألوهية والربوبية، وسائر صفات الكمال، وأن له من كل كمال مطلق أكمله وأعلاه، وأنه بين ذلك فيما نزل من الوحي، وقام موجب ذلك في قلوب عباده المؤمنين فأثبتوا له المثل الأعلى. ودلت تلك المقابلة على حجة لفت الله العقول إليها وهي: إذا كان هؤلاء الكفار ينسبون له البنات وهم يكرهونهن لأنفسهم، ويجعلون لبعض خلقه جزءاً وشركاً في حقه، وهم لا يقبلون إشراك عبيدهم فيما يملكون، فينبغي أن يعلموا أن الله أجل وأعلى منهم وأولى بالتنزه عن البنات والشركاء، بل له الكمال الأعلى، فليس له ولد وشريك البتة. ثم ختم - تبارك وتعالى - الآية بذكر اسمين عظيمين من أسمائه هما: (العزيز الحكيم) ، الدالان على كمال قوته، ونفوذ مشيئته في خلقه،

المطلب الثالث: في معنى قوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}

المطلب الثالث: في معنى قوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعِيده وهو أهون عليه وله المثل الأَعلى في السماوات والأرض وهو العزِيز الحكيم} ... قَال ابن جرير - رحمه الله -: "وقد يحتمل هذا الكلام ... أن يكون معناه: وهو الَّذِي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون على الخلق: أي إعادة الشيء أهون على الخلق من ابتدائه"1. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "أي إعادة الخلق بعد موتهم {أَهْوَنُ عَلَيْهِ} من ابتداء خلقهم، وهذا بالنسبة إلى الأذهان والعقول"2. وقد ذكر بعض المفسرين ما يشير إلى أن كثيرا من المفسرين على هذا القول، حيث قَال: "قَال المفسرون: خاطب تعالى العباد بما يعقلون، فإذا كانت الإعادة أسهل من الابتداء في تقديركم وحكمكم، فإن من قدر على الإنشاء كان البعث أهون عليه حسب منطقكم وأصولكم"3. وهذا القول هو الراجح للاعتبارات الآتية:

_ 1- اتفاقه مع أقوال السلف من إجراء "أهون" على بابها للتفضيل. ومع الأصل من إجراء الألفاظ على ظواهرها ما لم يمنع من ذلك مانع، 1 جامع البيان، لابن جرير، (10/180) . 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (6/122) . 3 صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، (2/477) .

وحكمته في ذلك، واللذان تشاهد آثارهما ودلائلهما في خلقه وتدبيره. فيدل على أن من كملت عزته وقوته وحكمته فهو المتفرد بالألوهية المستحق لأن يُفرَد بالعبادة، وهو المستحق للتسبيح والتنزيه عن الشركاء والأولاد وعن كل نقص وسوء. وأن ما يجري في الكون، وعلى العباد ومنهم، بما في ذلك طاعات الطائعين، ومعصية العاصين، إنما هو بإذن الله وتقديره، لا يفعل أحد في ملك العزيز إلا وقد أذن له فيه ومكّنه من فعله، وله في كل ذلك الحِكم البالغة. سبحانه وتعالى له الملك لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

المطلب الثالث: في معنى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1: {هُوَ} : ضمير مبتدأ. يعود على الله تعالى الَّذِي تقدم ذكره في قوله سبحانه: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنْ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنْ الحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} 2 الآيات. {الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ} : الاسم الموصول وجملة الصلة خبر من الله تعالى أنه هو الَّذِي يخلق الإنسان أول مرة، ويوجده بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً. {ثُمَّ يُعِيدُهُ} : جملة معطوفة على جملة الصلة: {يَبْدَأُ الخَلْقَ} ، تفيد خبراً آخر من الله، أنه سيعيد خلقه مرة أخرى.

_ 1 سورة الروم آية (27) . 2 سورة الروم آية (17- 20) .

قَال ابن جرير - رحمه الله - في الآية: "يقول تعالى ذكره: والَّذِي له هذه الصفات تبارك وتعالى، هو الَّذِي يبدأ الخلق من غير أصل فينشئه ويوجده، بعد أن لم يكن شيئا، ثم يفنيه بعد ذلك، ثم يعيده، كما بدأه بعد فنائه، وهو أهون عليه"1. وهاتان الجملتان - جملة الصلة، والمعطوفة عليها - بداية ومقدمة لدليل عقلي، وحجة برهانية. سيأتي بيانها قريبا - إن شاء الله تعالى -. قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . ورد في معناها أقوال أشهرها ثلاثة، ذكرها ابن جرير - رحمه الله - وأغلب أقوال المفسرين ترجع إليها، وهي: القول الأول: أن "أهون" بمعنى هين2. وهذا القول مأثور عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وبعض أهل العلم3. وهو صحيح في اللغة حيث إن أهون يأتي بمعنى هين4.

_ 1 جامع البيان، لابن جرير، (10/179) . 2 المصدر السابق. 3 نفس المرجع والصفحة. 4 ذكر ابن جرير - رحمه الله - شواهد هذا المعنى اللغوية، حيث قَال: "والَّذِي ذكرنا عن ابن عباس ... قول أيضا له وجه. وقد وجه غير واحد من أهل العربية قول ذي الرمة: أخي قفرات دبَّبت في عظامه شفافات أعجاز الكرى فهو أخضع إلى أنه بمعنى خاضع. وقول الآخر: لعمرك إن الزِّبرقان لباذل لمعروفه عند السنين وأفضل إلى أنه بمعنى: وفاضل...." إلى أن قَال: "قَالوا: ومنه قولهم في الأذان: الله أكبر، بمعنى كبير ... " جامع البيان، لابن جرير، (10/181) . القول بأن: "الله أكبر" بمعنى كبير. فيه نظر. وذلك أن الأصل في وصف الله أن يوصف بالوصف الأعلى. فيقال: "الله أكبر"، وأعلى، وأعظم، وأكمل ... ونحوها. لقوله تعالى: "ولله المثل الأعلى" والوصف الجاري على "أفعل" في صفات الباري عز وجل، يفيد معنى هاما، وهو معنى التفرد. وعلى هذا فإن وصف "كبير" إذا وصف به الله تعالى فإنه يفسر بأكبر. وعظيم بأعظم ونحوها، وليس العكس. كما أن قول المؤذن "الله أكبر" يوحي لسامع الأذان في هذا المقام بمعنى لا يؤديه وصف "كبير" إذ إنه ينبه إلى أن الله أكبر، وأمره أكبر، وطاعته أكبر من أي شيء قد يكون المسلم مشتغلا به. فهو تحريض على الاستجابة للصلاة، والمبادرة إليها. والله أعلم.

وهو صحيح من حيث المعنى حيث إن الله تعالى ليس عنده شيء أهون من شيء بل الكل عنده هين. إلا أن هذا القول - وإن كان كذلك - في تفسير الآية به نظر، وذلك للاعتبارات الآتية: 1- أن تفسير "أهون" بمعنى "هين" يجعل من الجملة خبرا محضا لا

_ إلى أنه بمعنى خاضع. وقول الآخر: لعمرك إن الزِّبرقان لباذل لمعروفه عند السنين وأفضل إلى أنه بمعنى: وفاضل...." إلى أن قَال: "قَالوا: ومنه قولهم في الأذان: الله أكبر، بمعنى كبير ... " جامع البيان، لابن جرير، (10/181) . القول بأن: "الله أكبر" بمعنى كبير. فيه نظر. وذلك أن الأصل في وصف الله أن يوصف بالوصف الأعلى. فيقال: "الله أكبر"، وأعلى، وأعظم، وأكمل ... ونحوها. لقوله تعالى: "ولله المثل الأعلى" والوصف الجاري على "أفعل" في صفات الباري عز وجل، يفيد معنى هاما، وهو معنى التفرد. وعلى هذا فإن وصف "كبير" إذا وصف به الله تعالى فإنه يفسر بأكبر. وعظيم بأعظم ونحوها، وليس العكس. كما أن قول المؤذن "الله أكبر" يوحي لسامع الأذان في هذا المقام بمعنى لا يؤديه وصف "كبير" إذ إنه ينبه إلى أن الله أكبر، وأمره أكبر، وطاعته أكبر من أي شيء قد يكون المسلم مشتغلا به. فهو تحريض على الاستجابة للصلاة، والمبادرة إليها. والله أعلم.

يتضمن دليلا. فتكون الجملة، والجملتان قبلها، كلها أخباراً محضة. فالله يخبر أنه: يبدأ الخلق. وهذا الخبر مصدق عند المخبَرين. ويخبر أنه: يعيد الخلق. وهذا الخبر يكذّبون به. ثم يخبرهم أنه: عليه هين. وهذا لا يناسب خطاب المكذب، إذ إن المكذب يناسبه ذكر دليل يحمله على التصديق. ووصف فعل الله بأنه "هين" يناسب خطاب المؤمنين المصدقين بالفعل كما في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الكِبَرِ عِتِيًّا قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُنْ شَيْئاً} 1. وقوله تعالى: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} 2. والدليل لا يستقيم إلا بتفسير "أهون" على بابها بمعنى "أفعل" التي تفيد تفضيلا بين أمرين. وتدل على أن فعلا هو أهون من فعل، كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله.

_ 1 سورة مريم الآيتان (8، 9) . 2 سورة مريم الآيتان (20، 21) .

2- أن الأصل إجراء الألفاظ على ظواهرها، إلا إذا تعذر ذلك، ومعلوم أن الَّذِي دفع العلماء إلى تفسير "أهون" بهيّن، هو خوف توهم أن من الأفعال ما هو أهون على الله من بعض، وظنهم أن لا مخرج من ذلك إلا بتفسيرها بذلك. وحيث يوجد تفسير تجرى عليه "أهون" على بابها، ولا يلزم منه ذلك المحذور، ويكون أبلغ في الحجة فهو الأولى، وسيأتي بيان هذا المعنى فيما يأتي. القول الثاني: أن (أهون) على بابها للتفضيل، ويكون المعنى: "وإعادة الخلق بعد فنائهم أهون عليه من ابتداء خلقهم"1 وورد هذا التفسير عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة2 - رحمهم الله -. ونص بعضهم على أن بداية الخلق، وإعادته كلاهما هين على الله تعالى. لكنهم لم يفصلوا المعنى الَّذِي تُجرى فيه "أهون" على بابها للتفضيل، ولا يترتب عليه التزام أن أحد الفعلين أهون من الآخر على الله تعالى3. وتفسير "أهون" بما يفيد التفضيل، يحتمل أمرين: 1- أن يكون في أفعال الله تعالى ما هو هين، وما هو أهون، وأن

_ 1 جامع البيان، لابن جرير، (10/179) . 2 المصدر السابق، (179، 180) . 3 نفس المصدر والصفحة.

ذلك خبر من الله تعالى عن فعله، أن الإعادة أهون عليه من بداية الخلق. قَال بعض المفسرين: "وقيل هو أهون عليه، أي الإعادة أهون على الخالق من الابتداء، لأن في البدء يكون علقة ثم مضغة ثم لحما ثم عظما ثم يخلق بشرا، ثم يخرج طفلا يترعرع، إلى غير ذلك فيصعب عليه ذلك كله. أما في الإعادة فيخرج بشرا سويا بِكُنْ فيكون أهون عليه"1. وهذا الفهم باطل، تجتثه من أساسه آية محكمة، هي قول الله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 2. قَال مجاهد - رحمه الله - في قوله تعالى: {كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} : "يقول كن فيكون للقليل والكثير"3. وقال ابن جرير - رحمه الله -: "يقول تعالى ذكره: ما خلقكم أيها الناس ولا بعثكم على الله إلا كخلق نفس واحدة وبعثها، وذلك أن الله لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يمتنع منه شيء شاءه {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 4، فسواء

_ 1 التفسير الكبير، للرازي، (25/117) . 2 سورة لقمان آية (28) . 3 جامع البيان، لابن جرير، (10/222) . 4 سورة يس آية (82) .

خلْق واحد وبعْثه، وخلْق الجميع وبعثهم"1. وهذه الآية وردت في سورة "لقمان" لتزيل مثل هذا الوهم الَّذِي قد يفهم من قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} في سورة "الروم" التي تأتي قبلها في ترتيب المصحف. 2- أن المراد أن إعادة الخلق أهون على الله من بدايته في نظر المخاطبين، وما استقر في عقولهم من أن إعادة الفعل أهون على الفاعل من ابتدائه. فتكون جملة "وهو أهون عليه" استدلال وإلزام لهم بحجة عقلية يُقرّون بها. وهذا المعنى الَّذِي يحتمله القول الثاني يعود إلى القول الثالث الَّذِي جاء وقت الكلام عليه. القول الثالث: أن "أهون" على بابها للتفضيل، وأنها تدل على أن إعادة الخلق أهون وأيسر على الخالق من ابتدائه، ولكن ليس باعتبار فعل الله، وإنما باعتبار حكم المخاطبين وما استقر في أفهامهم وما يعقلونه من أفعالهم، حيث يقرون بأن من ابتدأ خلق شيء فإن إعادته مرة أخرى أهون وأيسر عليه، ومعلوم أن الحجة العقلية يجب أن تبدأ من أمر مسلَّم به عند المتحاجّين.

_ 1 جامع البيان، لابن جرير، (10/221) .

قَال ابن جرير - رحمه الله -: "وقد يحتمل هذا الكلام ... أن يكون معناه: وهو الَّذِي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون على الخلق: أي إعادة الشيء أهون على الخلق من ابتدائه"1. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "أي إعادة الخلق بعد موتهم {أَهْوَنُ عَلَيْهِ} من ابتداء خلقهم، وهذا بالنسبة إلى الأذهان والعقول"2. وقد ذكر بعض المفسرين ما يشير إلى أن كثيرا من المفسرين على هذا القول، حيث قَال: "قَال المفسرون: خاطب تعالى العباد بما يعقلون، فإذا كانت الإعادة أسهل من الابتداء في تقديركم وحكمكم، فإن من قدر على الإنشاء كان البعث أهون عليه حسب منطقكم وأصولكم"3. وهذا القول هو الراجح للاعتبارات الآتية: 1- اتفاقه مع أقوال السلف من إجراء "أهون" على بابها للتفضيل. ومع الأصل من إجراء الألفاظ على ظواهرها ما لم يمنع من ذلك مانع،

_ 1 جامع البيان، لابن جرير، (10/180) . 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (6/122) . 3 صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، (2/477) .

كما تقدم. 2- دلالته على معنى صحيح، وحجة عقلية واضحة، وذلك هو الأنسب في خطاب المكذبين، حيث تورد القضية التي لا يقرّون بها مع دليلها. 3- كثرة من قال به من المفسرين. دلالة الآية على حجة عقلية: إن البراهين العقلية لا بدّ أن تبدأ من مقدمات يُقرُّ بها المخالف، يُنقل منها عن طريق الإلزام إلى الإقرار بما ينكره، على مبدإِ المساواة بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات، وتسرية الحكم إلى المماثل الذي تحقق فيه الوصف المؤثر، وكون الأكمل في الوصف هو الأولى بالحكم1. وهذه الحجة - التي دل عليها قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} - تضمنت أمرين يُقرُّ بهما المنكرون للبعث من كفار العرب. كما تضمنت الدعوى التي ينكرونها وهي: أن الله يعيد بعث الناس بعد موتهم. الأمر الأول الَّذِي يقرون به هو الحكم، وهو كون القادر على صنع شيء تكون إعادة صنعه عليه أهون، وهذا مستقِر عند جميع العقلاء.

_ 1 تقدم في الكلام على القياس. انظر: ص (109)

الأمر الثاني: الَّذِي يقرون به - وهو أساس الدليل - هو: كون الله تعالى هو الَّذِي يبدأ الخلق. فهم يُقرّون بأن الله هو الخالق لكل شيء، وهو الَّذِي خلقهم، كما دل عليه قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَالتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1. وقوله: {وَلَئِنْ سَألتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2. وجميع الأدلة العقلية الواردة في القرآن الكريم لإثبات البعث بعد الموت، لا تورد إلا على من يُقرّ بأن الله هو الخالق، أما من ينكر أن الله هو الخالق، فإنه يُسلك معه مسلك آخر، حيث تُورد الأدلة على إثبات ذلك أوّلاً. ومع إقرارهم أن الله هو الَّذِي يبدأ الخلق، يقرّون - أيضاً - أنه تعالى أقدر منهم على الخلق وأعلم. فيكون حاصل الدليل: أن هؤلاء المشركين الَّذِين يقرون بأن الله هو الَّذِي خلق الإنسان، ويقرّون بأن من صنع شيئا فإعادة صنعه عليه أهون، يلزمهم على ذلك أن يحكموا لله بهذا الحكم، ويقولوا إن إعادة خلق الناس وبعثهم أهون وأيسر

_ 1 سورة العنكبوت آية (61) . 2 سورة الزخرف آية (87) .

عليه من خلقهم أول مرة، وهو أولى بذلك لكونه أقدر وأعلم، ولكونه أولى بالكمال {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} . وهذا القْدر كافٍ في إلزامهم بإثبات إمكان البعث، وإن كان يتضمن فهما خاطئا في حق الله تعالى، وهو ما يقتضيه الدليل من حكمهم أنّ بدْءَ الخلق أصعب عليه من إعادته، ولكن المقصود هو إلزامهم بإمكان البعث على أصولهم. ثم إذا عقلوا الدليل واهتدوا به وأقروا بالبعث، وآمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فسينقلون من هذا الفهم القاصر إلى ما يليق بالله من الوصف الأكمل وأن له من القدرة ما لا يعجزه معها شيء، وتستوي في قدرته العظائم والمحقرات، والكثرة والقلة، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} . فهو سبحانه ليس كالمخلوق الَّذِي يعالج الأشياء فيسهل عليه بعضها، ويصعب عليه بعضها، وإنما توجد جميع المخلوقات مهما كانت عظمتها بمجرد أن يأمرها بقوله "كن" كما دل عليه قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ} 1.

_ 1 سورة القمر آية (50) .

وقوله: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1. فهم إذا أثبتوا القدرة على البعث قياسا على ما يعقلونه من حالهم من أن الصانع للشيء أقدر على إعادته وهو أهون عليه، فقد أثبتوا له الكمال على طريق الأولى. ويطالبون بإثبات الكمال الأعلى له سبحانه بقوله تعالى {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} كخطوة أخرى. والله أعلم. وهذا الدليل من أقوى الأدلة على البعث لمن كان يؤمن بأن الله هو الخالق، لذلك ذكر الله عنهم انقطاعهم عند إيراده بقوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} 2. المراد بقوله تعالى: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} : قوله تعالى: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} متعلق بقوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} 3.

_ 1 سورة يس آية (81) . 2 سورة الإسراء آية (51) . 3 انظر: فتح القدير للشوكاني، (4/221) .

ويدل على عدة معان صحيحة تبعا للمعاني التي فسّر بها المثل الأعلى: المعنى الأول: تفرده من بين أهل السماوات وأهل الأرض بالألوهية والربوبية وصفات الكمال القائمة بذاته سبحانه ... بمعنى أنه ليس مثله شيء في السماوات ولا في الأرض. قَال ابن جرير - رحمه الله -: "وقوله: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} ، يقول: وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى في السماوات والأرض، وهو أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ليس كمثله شيء فذلك المثل الأعلى، تعالى ربنا وتقدس"1. المعنى الثاني: شهادة أهل السماوات، والمؤمنين أهل العلم من أهل الأرض له سبحانه بالمثل الأعلى، فتكون بمعنى قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لآ ِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلآئِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَآئِمًا بِالقِسْطِ} 2. "والمعنى: أنه سبحانه عُرف بالمثل الأعلى، ووُصف به في السموات والأرض"3.

_ 1 جامع البيان، لابن جرير، (10/180) . 2 سورة آل عمران آية (18) 3 فتح القدير للشوكاني، (4/221) ، التفسير الكبير للرازي، (25/117) .

المعنى الثالث: أن له كل مثل صحيح يُضرب في السموات أو في الأرض للدلالة على ما هو ثابت له من المثل الأعلى. "فيفيد ذلك أن له المثل الأعلى من أمثلة الناس وهم أهل الأرض ... ومن كل مثل يُضرب في السموات"1. وقد تقدم أن ضرب الأمثال لله تعالى منه ما هو ممنوع وما هو مشروع بما يغني عن إعادة الكلام عليه. قوله تعالى في ختام الآية: {هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} . تقدم بيان أهم المعاني التي يدل عليها هذان الاسمان، ومناسبة ختم آية سورة "النحل" بهما2. وتلك المعاني معتبرة في هذه الآية من سورة "الروم" حيث إن كلتا الآيتين جاءت في سياق الكلام على ربوبيته، وثبوت المثل الأعلى له سبحانه. ومن دلالة ختم هذه الآية بهذين الاسمين، أن الله سبحانه يبين بذكرهما كمال قوته وعزته، مما يجعله يفعل ما يريد - ومن ذلك البعث بعد الموت - دون أي ممانعة من المخلوق أو غيره، وأنه سبحانه يفعل ذلك لحكمة كسائر أفعاله المباركة.

_ 1 التفسير الكبير للرازي، (25/117) . 2 انظر: ص (999) وما بعدها.

خلاصة القول في معنى الآية: أن قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، ورد في سياق مجادلة كفار العرب الجاحدين للبعث بعد الموت، وتضمنت دليلا عقلياً قاطعاً في إمكان البعث على أصولهم التي يتعارفون عليها. وتبيّن أن تفسير "أهون" في الآية بهين ليس هو الأولى وإن كان صحيحاً في اللغة والمعنى، وإنما الأنسب تفسيرها على بابها للتفضيل حيث تدل على حجة عقلية. ويكون قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ} : خبر من الله تعالى يُقرُّ بِهِ المشركون، وهو مقدمة للدليل بعده. وقوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} : هي الدعوى المستدلّ لها والتي ينكرها المشركون. وقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} : تتضمن حكما متفقا عليه، يقر به المخاطبون بالدليل من المشركين، هذا الحكم هو: إعادة الصنع أهون على الصانع من ابتدائه. وحاصل الدليل: إيجاب العقل الحكم لله بهذا الحكم، من كون البعث أهون عليه من خلق الناس أول مرة، وأنه أولى بذلك لكونه أقدر وأعلم منهم.

ودل قوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} مع تأكيد أنه أولى بهذا الحكم منهم، - لكونه أولى بكل كمال ثابت للمخلوق على ما يليق به سبحانه - على أن له من كل كمال أكمله وأعلاه، مما يزيل الاشتباه بأن بعض الخلق أهون على الله من بعض، ويفيد كمال قدرته التي تستوي عندها المخلوقات مهما عظمت أو كثرت أجزاؤها أو مراحل خلقها. ودل قوله تعالى: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} : على تفرده سبحانه بالمثل الأعلى - الدال على اختصاصه وحده بالألوهية والربوبية وأكمل الكمال - في السموات والأرض فليس له مماثل أو مكافئ أو شريك من أهلهما. وختم سبحانه تلك الآية العظيمة باسمين من أسمائه المباركة، هما (العزيز الحكيم) ، ليبين كمال قوته وعزته، وشمول حكمته لكل أفعاله، وأنه يفعل ما يريد - ومن ذلك البعث بعد الموت - دون أن يكون له ممانع أو مدافع أو معقب، وأن له في ذلك الحكمة البالغة، والله أعلم.

المبحث الثالث: في دلالة ثبوت المثل الأعلى لله تعالى على قاعدة قياس الأولي

المبحث الثالث: في دلالة ثبوت المثل الأعلى لله تعالى على قاعدة قياس الأولي المطلب الأول: في بيان المطلبين اللذين يمكن إثباتهما بقاعدة قياس الأولى، ويدل عليهما ثبوت المثل الأعلى لله تعالى. ... المطلب الأول: في بيان المطلبين اللذين يمكن إثباتهما بقاعدة قياس الأولى، ويدل عليهما ثبوت المثل الأعلى لله تعالى. من القاعدة المتقدمة لقياس الأولى يتبين أنه يتحقق بها نوعان من المطالب: النوع الأول: إثبات الكمال لله تعالى بطريق الأولى. وهذا الطريق يستند على أمرين مستقرين في العقول السليمة. الأول: أن كل كمال في المخلوق فهو مستفاد من الخالق. فالذي أعطاه ذلك الكمال أولى به على ما يليق به. الثاني: أن الله أعلى وأعظم وأكمل من المخلوق، فهو أولى بالكمال منه. قال الإمام ابن تيمية - رحمه الله - في بيان هذين المستندين: "فإذا كان الكمال الممكن الوجود ممكناً للمفضول، فلأن يمكن للفاضل بطريق الأولى، لأن ما كان ممكناً لما وجوده ناقص، فلأن يمكن لما وجوده أكمل منه بطريق الأولى، لا سيما وذلك أفضل من كل وجه. فيمتنع اختصاص المفضول من كل وجه بكمال لا يثبت للأفضل من كل وجه. بل ما قد ثبت من ذلك للمفضول فالفاضل أحق به. فلأن يثبت للفاضل بطريق الأولى. ولأن ذلك الكمال إنما استفاده المخلوق من الخالق والذي جعل غيره كاملاً هو أحق بالكمال منه. فالذي جعل غيره قادراً أولى بالقدرة،

والذي علّم غيرَه أولى بالعلم، والذي أحيا غيرَه أولى بالحياة1 ". وهذا النوع دل عليه قول الله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} في سورة الروم. وذلك أن الله تعالى بين لأولئك المشركين الذين يقرون بأن الله هو الذي خلق الإنسان، ويثبتون كمالاً في المخلوق يتمثل في أن من صنع شيئاً فإعادة صنعه أهون عليه، فبين لهم الله أنه يلزمهم أن يحكموا له بهذا الحكم، ويقروا بأن إعادة الخلق أهون عليه سبحانه من خلقهم أول مرة، وهو أولى به لكونه أقدر وأعلم. فهو أولى بذلك الكمال الذي يثبتون جنسه للمخلوق. النوع الثاني: نفي النقص عن الله تعالى بطريق الأولى. وهذا النوع يستند إلى المستند الثاني المذكور فيما قبله، وهو: أن الله أعلى وأعظم وأكمل من المخلوق، فهو أولى بالتنزه عن كل نقص تنزه عنه المخلوق. ودل على هذا النوع قول الله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} من سورة النحل.

_ 1 الرسالة الأكملية، فيما يجب لله من صفات الكمال، لشيخ الإسلام أحمد عبد الحليم ابن تيمية، تقديم أحمد حمدي إمام، ص (12، 13) مطبعة المدني، القاهرة، 1403هـ. وانظر: مجموع الفتاوى (6/76، 77) .

وذلك أن الله قابل أحكامهم السيئة وما نسبوه له من النقص، حيث زعموا أن له شركاء وأولاداً، بقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} ، ليبين لهم أنه أولى بالتنزه عن هذه الأمور التي نسبوها له وهم ينفرون منها، ولا يرضونها لأنفسهم، إذ إنه سبحانه أعز وأعلى وأجل منهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "حيث كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، وهم يكرهون أن يكون لأحدهم بنت، فيعدّون هذا نقصاً وعيباً، والربّ تعالى أحق بتنزيهه عن كل عيب ونقص منكم؛ فإن له المثل الأعلى. فكل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أحق بثبوته منه إذا كان مجرداً عن النقص. وكل ما يُنزَّه عنه المخلوق من نقص وعيب فالخالق أولى بتنزيهه عنه1". وبهذا يتبين أن قاعدة قياس الأولى يتم بها مطلبان هامان هما: الأول: إثبات الكمال لله تعالى. الثاني: نفي النقص عنه سبحانه. وأن ذلك جار وفق نظر العقول السليمة التي تقطع بأن الله الخالق المبدع أعلى وأجل من المخلوق، وأنه أولى بكل كمال، وأبعد عن كل نقص. وأشار القرآن الكريم إلى تحقق المطلبين بهذه القاعدة، حيث دل قوله

_ 1 الرسالة الأكملية، ص (17) ، ومجموع الفتاوى (6/81) .

تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} من سورة الروم على المطلب الأول. وقوله تعالى {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} من سورة النحل على المطلب الثاني. والله أعلم.

المطلب الثاني: بيان المراد بالكمال الذي يثبت لله بهذه القاعدة

المطلب الثاني: بيان المراد بالكمال الذي يثبت لله بهذه القاعدة. ثبوت الكمال لله تعالى مستقر في الفِطَر، تذعن له العقول السليمة. وهو يختلف عن كمال المخلوق. ويعتبر في إثبات الكمال لله تعالى ثلاثة أمور يدل عليها النظر الصحيح، بيّنها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وخلاصتها: أولاً: "أن الكمال ثابت لله، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية. لا يكون وجود كمال لا نقصَ فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى، يستحقه بنفسه المقدسة. وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه. فثبوت الحياة يستلزم نفى الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز. وإن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع على ذلك1". وهذا النقل القيم عن شيخ الإسلام يبين أهم الفروق بين كمال الله تعالى وكمال الإنسان الذي هو الأصل الذي تستنج منه قاعدة قياس الأولى. وهي:

_ 1- أن الثابت لله هو أكمل الكمال وأعلاه، الذي يوجب له التفرد 1 الرسالة الأكملية، ص (7) ، مجموع الفتاوى (6/71) .

به دون غيره. {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} . 2- أنه كمال لا نقص فيه، بخلاف المخلوق الذي يثبت له الكمال لكن يعتريه النقص، كاتصافه بالحياة، مع سريان النوم والضعف والموت عليه. 3- أن الله يستحقه بنفسه المقدسة، لا يستفيده من غيره، بخلاف كمال المخلوق الذي استفاده من خالقه. 4- أنه يستلزم نفي النقيض، كالعلم الذي لا جهل معه، والقدرة التي لا عجز ولا تعب معها. بخلاف كمال المخلوق، الذي يتصف به وبما يناقضه، فيكون عالماً مع جهل، وقادراً مع عجز وضعف، ونحوها. كما دل هذا النقل عن شيخ الإسلام على فائدة هامة في قياس الأولى، هي أنه يستخدم لتأييد وموافقة ما ثبت لله في الكتاب والسنة الصحيحة. حيث قال: "وإن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع على ذلك". ثانياً: أن يكون الكمال المثبت لله ممكن الوجود1. فيخرج بذلك ما توهم أنه كمال وهو ممتنع، مما يتعلق بأفعال الله وقدرته. وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أمثلة على ذلك،

_ 1 الرسالة الأكملية، ص (21) .

حيث قال: "وكذلك إذا قيل: جعل الشيء الواحد متحركاً ساكناً، موجوداً معدوماً، صفة كمال، قيل: ممتنع لذاته. وكذلك إذا قيل: إبداع قديم واجب بنفسه صفة كمال. قيل: هذا ممتنع لنفسه، فإن كونه مُبْدَع يقتضي أن لا يكون واجباً بنفسه بل واجباً بغيره. وكذلك إذا قيل: الأفعال القائمة والمفعولات المنفصلة عنه إذا كان اتصافه بها صفة كمال، فقد فاتته في الأزل، وإن كان صفة نقص فقد لزم اتصافه بالنقائص. قيل: الأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته يمتنع أن يكون كل منها أزلياً. وأيضاً: فلا يلزم أن يكون وجود هذه في الأزل صفة كمال، بل الكمال أن توجد حيث اقتضت الحكمة وجودها. وأيضاً فلو كانت أزلية لم تكن موجودة شيئاً بعد شيء. فقول القائل فيما حقه أن يوجد شيئاً بعد شيء: فينبغي أن يكون في الأزل، جمع بين النقيض. وأمثال هذا كثير. فلهذا قلنا الكمال الممكن الوجود. فما هو ممتنع في نفسه فلا حقيقة له، فضلاً عن أن يقال: هو موجود، أو هو كمال للموجود"1.

_ 1 انظر: الرسالة الأكملية، ص (21، 32، 33) ومجموع الفتاوى (6/85، 86) .

ثالثاً: أن يكون سليماً من النقص. فإن النقص ممتنع على الله1. وبهذا الشرط يخرج الكمال النسبي، الذي يكون كمالاً لبعض المخلوقات دون بعض، أو كمالاً بالنسبة للإنسان لكنه في الحقيقة يستلزم نقصاً، فيكون نقصاً بالنسبة للخالق. وقد بين هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بقوله: "أما الشرط الآخر: وهو قولنا: الكمال الذي لا يتضمن نقصاً، ... فاحتراز عما هو لبعض المخلوقات كمال دون بعض، وهو نقص بالإضافة إلى الخالق، لاستلزامه نقصاً كالأكل والشرب مثلاً. فإن الصحيح الذي يشتهي الأكل والشرب من الحيوان أكمل من المريض الذي لا يشتهي الأكل والشرب، لأن قِوامه بالأكل والشرب. فإذا قدر غير قابل له كان ناقصاً عن القابل لهذا الكمال. لكن هذا يستلزم حاجة الآكل والشارب إلى غيره، وهو ما يدخل فيه من الطعام والشراب، وهو مستلزم لخروج شيء منه كالفضلات، وما لا يحتاج إلى دخول شيء فيه أكمل ممن يحتاج إلى دخول شيء فيه. وما يتوقف كماله على غيره أنقص مما لا يحتاج في كماله إلى غيره، فإن الغني عن شيء أعلى من الغني به. والغني بنفسه أكمل من الغني بغيره. ولهذا كان من الكمالات ما هو كمال للمخلوق وهو نقص بالنسبة

_ 1 انظر: الرسالة الأكملية، ص (21، 32، 33) ومجموع الفتاوى (6/85، 86) .

إلى الخالق"1. ومما تقدم يتبين: أن الكمال الذي يثبت لله تعالى بالطريق العقلي على قاعدة قياس الأولى يعتبر فيه عده أمور من أهمها: 1- أن يثبت لله من كل كمال أكمله وأعلاه. 2- أن ثبوت الكمال لله مختلف عن ثبوته للمخلوق من أوجه، أهمها: أن الله يستحقه بنفسه ولا يستفيده من غيره، بخلاف المخلوق الذي يستفيده من خالقه؛ وأن كمال الله يستلزم نفي النقيض، بخلاف صفة المخلوق التي يوجد معها نقيضها. 3- أن الكمال الثابت لله بالطريق العقلي وقاعدة قياس الأولى يؤيد ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الكمال. 4- أن يكون الكمال المثبت لله ممكن الوجود. ويخرج بذلك ما توهم أنه كمال وهو ممتنع لذاته مما يتعلق بأفعال الله وقدرته. 5- أن يكون سليماً من النقص. ويخرج بذلك الكمال النسبي، الذي يكون كمالاً لبعض المخلوقات دون بعض، أو يكون كمالاً بالنسبة للإنسان لكنه في الحقيقة يستلزم نقصاً، فيكون نقصاً بالنسبة للخالق.

_ 1 الرسالة الأكملية، ص (33) ، ومجموع الفتاوى (6/87) .

المطلب الثالث: كيفية تطبيق قاعدة قياس الأولى على الأمثال القرآنية

المطلب الثالث: كيفية تطبيق قاعدة قياس الأولى على الأمثال القرآنية. الأمثال التي تضرب لله على قاعدة قياس الأولى، لا تتضمن تشبيهاً لله بأحد من خلقه، ولا الجمع بين الله تعالى وأحد من خلقه في حكم كلي يستوي فيه أفراده1. وإنما المراد بها تقرير قاعدة تستنبط من المثل، يقرّ بها من ضُربت له الحجة، تتضمن حكماً ثابتاً لوصف، ومن ثم إلزامهم بالحكم لله بذلك الحكم لكون اتصافه بالوصف أكمل، فهو أحق بذلك الحكم. ويتم ذلك بالخطوات الآتية: 1- ضرب مثل يدل على صفة أو حال قائمة بالمخلوق، مع حكم لهذه الحال. 2- يكون ثبوت الحكم لذلك الوصف أو الحال القائمة بالمخلوق متفقاً عليه من كلا المتحاجين. 3- اتفاق المتحاجين أيضاً على أن ثبوت ذلك الوصف لله أكمل من ثبوته للمخلوق. 4- إلزامهم بأن الله أحق بذلك الحكم لما استقر لديهم من أن ثبوت الوصف - المناط به الحكم - لله أكمل.

_ 1 انظر: الرسالة التدمرية، ص (17) ، وما تقدم ص (120) .

5- الترقي بهم إلى إثبات الكمال الأعلى لله تعالى من ذلك الوصف الذي لا يشاركه فيه أحد. كما في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} . تشابه مسمى الوصف بين الله والمخلوق لا يعني تماثلهما في حقيقته: أساس قاعدة قياس الأولى هو ثبوت الكمال للمخلوق والتوصل به إلى ثبوت ذلك الكمال لله تعالى. وأن له سبحانه أقصى ما يمكن من ذلك الكمال على ما يليق به، على ما تقدم من ضوابط الكمال الذي يثبت لله بهذه القاعدة. وهذا الأمر يقود إلى تساؤل مفاده: هل التشابه في مسمى الكمال بين الله تعالى والمخلوق يعني المماثلة في حقيقته، وأن صفة الخالق تعالى مثل صفة المخلوق؟ ولبيان إجابة هذا التساؤل أورد مقتطفات من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الرسالة التدمرية التي بسط فيها القول في إيضاح هذا الأمر. فمن ذلك قوله: "واتفاقهما [يعني الخالق والمخلوق] في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد، ولا في غيره ... ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره، وسمي بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة

والتخصيص. ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماهما واتحاده - عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص - اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص1". وقال مستدلاً لهذا المعنى: "فإن الله سبحانه وتعالى أخبر عما في الجنة من المخلوقات من إضافة المطاعم والملابس والمناكح والمساكن: فأخبر أن فيها لبناً وعسلاً وخمراً، وماء ولحماً، وحريراً، وذهباً وفضة، وفاكهة وحوراً وقصوراً، وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء"، وإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا، وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق. ومباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا، إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق2". وقال - رحمه الله - في موضع آخر:

_ 1 الرسالة التدمرية، ص (8) . 2 المصدر السابق ص (16) .

"وهذا1يقتضي أن الرب تعالى متصف بكمال لا يصلح للمخلوق، وهذا لا ينافي أن ما كان كمالاً للموجود من حيث هو موجود فالخالق أحق به. ولكن يفيد أن الكمال الذي يوصف به المخلوق بما هو منه، إذا وصف الخالق بما هو منه، فالذي للخالق لا يماثله ما للمخلوق ولا يقاربه. وهذا حق، فالرب تعالى مستحق للكمال مختص به على وجه لا يماثله فيه شيء. فليس له سمي ولا كفؤ، سواء كان الكمال مما لا يثبت منه شيء للمخلوق كربوبية العباد، والغنى المطلق ونحو ذلك، أو كان مما يثبت منه نوع للمخلوق. فالذي يثبت للخالق منه نوع هو أعظم مما يثبت من ذلك للمخلوق، عظمة هي أعظم من فضل أعلى المخلوقات على أدناها2". قاعدة قياس الأولى.. والميزان العقلي: قياس الأولى: كغيره من البراهين العقلية "لا بد أن يبدأ من مقدمات يقرّ بها المخالف، ينقل منها عن طريق الإلزام إلى الإقرار بما ينكره، على مبدإ المساواة بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات، وتسرية الحكم إلى المماثل الذي تحقق فيه الوصف المؤثر، وكون الأكمل في الوصف هو

_ 1 إشارة إلى صفات الكمال التي يستحقها الله دون سواه. انظر: الرسالة الأكملية، ص (71) . 2 الرسالة الأكملية، ص (73) .

الأولى بالحكم1". مثال المساواة بين المتماثلات في قاعدة قياس الأولى: تقدم2 عند بيان الحجة التي يتضمنها قول الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أن في ذلك إلزاماً للمشركين، الذين يقرون بأن الله هو الذي خلق الإنسان، ويقرون بأن من صنع شيئاً فإعادة صنعه عليه أهون، بأن يحكموا لله بهذا الحكم ويُثبتوا أن إعادة خلق الناس وبعثهم أهون وأيسر عليه من خلقهم أول مرة، وأنه أولى بذلك لكونه أقدر وأعلم، ولكونه أولى بالكمال. وهذا من باب التسوية بين المتماثلات. والتساوي هذا بين الله تعالى والمخلوق في المعنى العام للوصف وهو أن كلاً منهما صانع. مع الاختلاف الكبير بين حقيقة صنع الله وصنع المخلوق، كما تقدم قريباً. والواجب التسوية بينهما في أصل الحكم وهو أن كل صانع أقدر على إعادة صنعه وهو أهون عليه.

_ 1 تقدم ص (1022) . 2 ص (1022) .

المبحث الرابع: نماذج من الأمثال الجارية على قياس الأولى.

المبحث الرابع: نماذج من الامثال الجارية على قياس الاولى. إن في الأمثال التي ضربها الله لبيان صحة التوحيد، وقبح الشرك في سورتي "النحل" و"الروم"، اللتين ورد فيهما ذكر المثل الأعلى، كفاية في تحقيق الغرض من هذا المبحث. وهو إيراد نماذج من الأمثال الجارية على قياس الأولى، وتطبيق القاعدة عليها. كما أن هذه الأمثال الواردة في هاتين السورتين ضربت لبيان جانب من جوانب الإيمان بالله الذي هو موضوع هذا البحث. والكلام على هذه الأمثال - في هذا المبحث - سيقتصر على بيان الحجة العقلية التي دل عليها المثل، وفهمها على قاعدة قياس الأولى. وذلك أنه سبق الكلام على دلالة السياق ونحوه عند الكلام على الآيتين اللتين دلتا على ثبوت المثل الأعلى لله رب العالمين في كلتا السورتين. ويكون ذلك في ثلاثة مطالب: المطلب الأول: في بيان الحجة في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} 1.

_ 1 سورة النحل (75) .

المطلب الثاني: في بيان الحجة في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 1. المطلب الثالث: في بيان الحجة في قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2.

_ 1 سورة النحل (76) . 2 سورة الروم (28) .

المطلب الأول: في بيان الحجة في قوله تعالى: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}

المطلب الأول: في بيان الحجة في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} . هذا المثل ورد في سياق من سورة "النحل" نهى الله تعالى فيه عن ضرب الأمثال، معللاً النهي بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} . ثم ضرب سبحانه وتعالى هذا كمثل لتعليمهم أمراً يتعلق بالقضية التي ناقشها السياق، وهي إبطال الشرك، حيث قال سبحانه قبل ذلك: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} 1. نوع المثل: هذا المثل من الأمثال الأنموذيجية، حيث جعلت نتيجة المقارنة بين المثلين - العبد المملوك، ومن رزقه الله رزقاً حسناً - أنموذجاً منصوباً أمام عقل السامع ليقيس عليه ما يناسبه ويعتبر به، فيسوي بين المتماثلات في الأحكام ويفرق بين المختلفات.

_ 1 سورة النحل الآيتان (73-74) .

ونوع القياس: القياس في هذا المثل من قياس الأولى الشمولي. وقد تقدم أن قياس الأولى يكون شمولياً، ويكون تمثيلياً1. وتقدم2 بيان أن القياس الشمولي يشتمل على قضايا وأحكامٍ عامة تشمل سائر الأفراد المماثلة لما جاء في المثل. وأنه يستند إلى مبدإ شمول الأحكام للمتماثلات الذي تقضي به أصول الحقائق، فينتج أحكاماً عامة تشمل سائر الأفراد المماثلة لما جاء في المثل. ويختلف قياس الأولى الشمولي عن سائر أنواع القياس الشمولي في أن تسرية الحكم فيه للمضروب له المثل لا تكون بدخوله كفرد من أفراده، وإنما باستحقاقه ذلك عن طريق الأَوْلى، بالقاعدة التي تقدم إيضاحها قريباً. والقياس في هذا المثل من قياس العكس، وهو القياس القائم على التفريق بين المختلفات. قال ابن القيم - رحمه الله - مبيناً نوع القياس في هذا المثل والمثل الذي ذكره الله بعده: "وهذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس، وهو نفي الحكم

_ 1 ص (118) . 2 ص (109) .

لنفي علته وموجبه. فإن القياس نوعان: قياس طرد1 يقتضي إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه. وقياس عكس يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه2". بيان المضروب له المثل: للمفسرين في المراد بالمضروب له المثل قولان: الأول: أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر. وقال به من السلف: ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة - رحمه الله - وغيرهما3. الثاني: أنه مثل ضربه الله لنفسه - تعالى - والآلهة التي تُعبد من دونه. وقال به مجاهد - رحمه الله - وغيره4. قال ابن القيم - رحمه الله -: "فالمثل الأول: ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان، فإن الله سبحانه هو المالك لكل شيء، ينفق كيف يشاء على عبيده سراً وجهراً،

_ 1 قياس الطرد: يقوم على مبدإ التسوية بين المتماثلات. 2 الأمثال في القرآن الكريم، ص (204) . 3 انظر: جامع البيان، لابن جرير (7/622) ، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير (2/578) ، والأمثال في القرآن الكريم ص (205) 4 المصادر السابقة نفسها.

ليلاً ونهاراً، يمينه ملأى لا تغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار. والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف تجعلونها شركاء لي تعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين. هذا قول مجاهد وغيره. وقال ابن عباس: وهو مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده، ثم رزقه منه رزقاً حسناً فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سراً وجهراً، والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز، لا يقدر على شيء لأنه لا خير عنده، فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟ والقول الأول أشبه بالمراد. فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسباً بقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ".1 تحرير المضروب له المثل: في النقل المتقدم رجح ابن القيم - رحمه الله - أن المثل ضربه الله تعالى لنفسه وللأوثان. وذكر أهم الأدلة على هذا الترجيح، وهي: 1- اتفاقه مع الموضوع الذي يعالجه السياق، وهو بيان تفرد الله بالألوهية، وإبطال الشرك. عبّر عنه بقوله:

_ 1 الأمثال في القرآن الكريم، ص (205) .

"فإنه أظهر في بطلان الشرك". وقد ورد قبل المثل قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا} الآية، فناسب أن يذكر مثلاً يبين فيه عدم صحة مساواة من لا يقدر على شيء بمن بيده ملك كل شيء في الألوهية. 2- أن الله نهى المشركين والجاهلين عن ضرب الأمثال له سبحانه معللاً ذلك بأنه يعلم وهم لا يعلمون، فناسب أن يضرب لهم مثلاً يعلمهم وينبه به عقولهم إلى صحة التوحيد وبطلان الشرك. 3- في قوله: "وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة"، إشارة إلى أن اعتبار المراد بالمثل المؤمن والكافر، خروج من كون المثل حجة على المشركين إلى كونه خبراً لا يسلّم به إلا المؤمنون. وذلك يتبين في وجهين: الأول: أن المثل يصبح المقصود به بيان حال المؤمن بتشبيهه بمن رزقه الله رزقاً حسناً، وبيان حال الكافر بتشبيهه بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء. ولا يكون هناك حجة يلزم بها المشركون. الثاني: أن المشركين لا يقرون بهذا وينكرون أن تكون حالهم - وهم الكفار - مثل الذي لا يقدر على شيء. ويستدلون لإبطال هذا الخبر بحالهم وحال أغلب المسلمين في مكة حيث إن الغالب أن المال والجاه والزعامة بأيدي المشركين، والغالب على المسلمين الرق والضعف والفقر.

لذلك قال ابن القيم - رحمه الله -: "وأوضح عند المخاطب". فلهذه الاعتبارات يكون المراد بالمثل هو: إقامة حجة لإثبات تفرد الله بالألوهية واستحقاقه وحده للعبادة، وبطلان الشرك، وعدم صحة المساواة بينه وبين الأصنام أو غيرها من المخلوقات في الألوهية. بيان الحجة التي دل عليها المثل: تدور أقوال أهل العلم في تفسير هذا المثل على أنه يدل على إلزام المشركين ببطلان التسوية بين الله المتصف بالكمال والغنى والقدرة التامة، وبين الأصنام ونحوها المتصفة بالنقص والعجز، في الألوهية واستحقاق العبادة. ومن أقوالهم في ذلك: قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فبيّن أن كونه مملوكاً عاجزاً صفة نقص، وأن القدرة والملك والإحسان صفة كمال، وأنه ليس هذا مثل هذا. وهذا لله وذاك لما يُعبد من دونه1". قوله: "وهذا لله": يشير إلى صفة الكمال. وقوله: "وذاك لما يُعبد من دونه": يشير إلى صفة النقص. وتقدم كلام ابن القيم - رحمه الله - حول المثل، ومنه قوله: "فإن الله سبحانه هو المالك لكل شيء ... والأوثان مملوكة عاجزة،

_ 1 انظر: الرسالة الأكملية، ص (16) ، ومجموع الفتاوى (6/80)

لا تقدر على شيء، فكيف تجعلونها شركاء لي تعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟ "1. وقال الشوكاني - رحمه الله -: "قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} لما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} : أي بالمعلومات التي من جملتها كيف تُضرب الأمثال، {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} . علّمهم الله سبحانه وتعالى كيف تُضرب الأمثال فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} ، أي: ذكر شيئاً يستدل به على تباين الحال بين جناب الخالق سبحانه وبين ما جعلوه شريكاً له من الأصنام.." إلى أن قال: "أي هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بتلك الصفات مع كون كلا الفريقين مخلوقين لله سبحانه من جملة البشر؟ ومن المعلوم أنهم لا يستوون عندهم. فكيف يجعلون لله سبحانه شركاء لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً، ويجعلونهم مستحقين للعبادة مع الله سبحانه؟ "2. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "يخبر تعالى عن جهل المشركين وظلمهم، أنهم يعبدون من دونه آلهة اتخذوها شركاء لله.

_ 1 الأمثال في القرآن الكريم، ص (205) . 2 فتح القدير (3/181) .

والحال أنهم لا يملكون لهم رزقاً من السموات والأرض ... فهذه صفة آلهتهم كيف جعلوها مع الله، وشبهوها بمالك الأرض والسموات، الذي له الملك كله، والحمد كله، والقوة كلها؟!. ولهذا قال: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} المتضمنة للتسوية بينه وبين خلقه. {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فعلينا أن لا نقول عليه بلا علم، وأن نسمع ما ضربه العليم من الأمثال، فلهذا ضرب تعالى مثلين له ولمن يُعبد من دونه. أحدهما: عبد مملوك، أي رقيق لا يملك نفسه، ولا يملك من المال والدنيا شيئاً. والثاني: حر غني قد رزقه الله منه رزقاً حسناً، من جميع أصناف المال، وهو كريم محب للإحسان، فهو ينفق منه سراً وجهراً. هل يستوي هذا وذاك؟! مع أنهما مخلوقان، وغير محال استواؤهما. فإذا كانا لا يستويان، فكيف يستوي المخلوق والعبد، الذي ليس له ملك ولا قدرة، ولا استطاعه، بل هو فقير من جميع الوجوه، بالرب المالك لجميع الممالك، القادر على كل شيء؟!. ولهذا حمد نفسه، واختص بالحمد بأنواعه، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} . فكأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك، فَلِمَ سوَّى المشركون آلهتهم بالله؟ قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فلو علموا حقيقة العلم، لم يتجرؤوا على

الشرك العظيم"1. وقال صاحب "صفوة التفاسير": "هذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام التي أشركوها مع الله جلّ وعلا. أي مثل هؤلاء في إشراكهم مثل من سوَّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حر مالك يتصرف في أمره كيف يشاء، مع أنهما سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى، فما الظن برب العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات؟ "2. إيضاح الحجة على قاعدة قياس الأولى: تقدم أن قاعدة قياس الأولى تقوم على خطوات يُلزم بها المخاطبون بالقضية التي ضُرب لها المثل. أذكر فيما يلي تلك الخطوات وما يمثل كلَّ خطوة في المثل المذكور في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا ... } الآية. أولاً: تقدم أنه يذكر في المثل صفة أو حال قائمة بالمخلوق متفق على حكمها بين المتحاجين. وهي هنا: المقارنة بين حال رجل عبد مملوك لا يملك أمر نفسه، ولا

_ 1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (4/221، 222) . 2 محمد علي الصابوني، (2/136) ، دار القرآن الكريم، بيروت، الطبعة الثالثة، 1402هـ.

يملك من المال والدنيا شيئاً، وحال رجل حر غني أعطاه الله رزقاً حسناً يتصرف فيه كما يشاء. ونتيجة المقارنة وهي: عدم استوائهم مسلمة عند المخاطبين. ثانياً: الحكم وهو نتيجة المقارنة الذي تقطع به العقول وهو: عدم استوائهما في الحقوق والمنزلة بين الناس، وأن التسوية بينهما جهل وسفه. ثالثاً: إقرار المخاطبين بأن تحقق وصف الكمال الثابت لذلك المخلوق في الله تعالى أتم وأكمل، وأنّ تحقق وصف النقص والعجز الثابت للآخر في الأصنام أتم. رابعاً: إلزامهم بوجوب الحكم لله بهذا الحكم، وهو عدم التسوية بينه وبين الأصنام ونحوها في الحقوق. وأن الله أَوْلَى بأن لا تُجعل تلك الأصنام مساوية له في الألوهية واستحقاق العبادة، وذلك يبطل الشرك الذي هم متلبسون به. خامساً: يُنقَلون بعد هذا - إذا أقروا به - إلى إثبات "المثل الأعلى" وهو أن الله أعلى وأكمل من كل مخلوق، فلا يوجد من يساويه في الكمال، وعليه فلا يوجد من يساويه فيكون نداً له في الألوهية واستحقاق العبادة. والله أعلم.

المطلب الثاني: في بيان الحجة في قوله تعالى: {وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم}

المطلب الثاني: في بيان الحجة في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 1. هذا المثل ورد في سورة "النحل" بعد المثل الذي تم بيان الحجة التي يدل عليها في المطلب السابق. والقول في: دلالة السياق، ونوع المثل والقياس الذي تضمنه، والغرض الذي ضرب من أجله، كالقول في المثل قبله. فهذا المثل هو حجة أخرى بيّنها الله تعالى لإبطال الشرك، وأن التسوية بين الكامل والناقص غير صحيحة في دلالة العقول. بيان الحجة التي دل عليها المثل: تدور تفاسير أهل العلم لهذا المثل على أنه يتضمن الاحتجاج على المشركين بنظر العقول الصحيحة التي تحكم ببطلان التسوية بين الكامل الذي يتكلم ويدل على الخير وهو مستقيم على الحق لا يزول عنه، وبين الناقص الأبكم الذي لا يأتي بخير. وبذلك يبطل ما يزعمه المشركون من

_ 1 سورة النحل (76)

التسوية بين الله تعالى والأصنام حيث جعلوها آلهة مع الله تعالى عن ذلك. قال ابن جرير - رحمه الله -: "وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه، والآلهة التي تُعبد من دونه، فقال تعالى ذكره: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} يعني بذلك الصنم أنه لا يسمع شيئاً، ولا ينطق، لأنه إما خشب منحوت، وإما نحاس مصنوع، لا يقدر على نفع لمن خدمه، ولا دفع ضر عنه ... {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ} يعني: هل يستوي هذا الأبكم الكَلّ على مولاه، الذي لا يأتي بخير حيث توجه، ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحق، ويدعو إليه، وهو الله الواحد القهار، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته؟ يقول: لا يستوي هو تعالى ذكره، والصنم الذي صفته ما وصف"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وهذا مثل آخر. فالأول: مثل العاجز عن الكلام وعن الفعل، الذي لا يقدر على شيء، والآخر المتكلم الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم، فهو عادل في أمره، مستقيم في فعله ... فلا يستوي هذا، والعاجز عن الكلام والفعل"2.

_ 1 جامع البيان، (7/622، 623) . 2 مجموع الفتاوى، (6/80) .

وقال الشوكاني - رحمه الله - ما معناه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} أي مثلاً آخر أوضح مما قبله، وأظهر منه ... لأن حاصل أوصاف الأول عدم استحقاقه لشيء، وحاصل أوصاف الثاني أنه مستحق أكمل استحقاق. والمقصود الاستدلال بعدم تساوي هذين المذكورين على امتناع التساوي بينه سبحانه وما يجعلونه شريكاً له1. وقال محمد بن علي الصابوني: "هذا هو المثل الثاني للتفريق بين الإله الحق والأصنام الباطلة، قال مجاهد: هذا مثل مضروب للوثن والحق تعالى: فالوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير، ولا يقدر على شيء بالكلية، لأنه إما حجر أو شجر. {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ} أي ثقيل عالة على وليه، {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} أي حيثما أرسله سيده لم ينجح في مسعاه لأنه أخرس، بليد ضعيف. {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي هل يستوي هذا الأخرس، وذلك الرجل البليغ المتكلم بأفصح بيان، وهو على طريق الحق والاستقامة، مستنير بنور القرآن؟ وإذا كان العاقل لا يسوِّي بين هذين الرجلين، فكيف تمكن التسوية بين صنم أو حجر، وبين الله سبحانه وهو

_ 1 انظر: فتح التقدير، (3/182) .

القادر العليم، الهادي إلى الصراط المستقيم"1. إيضاح الحجة على قاعدة قياس الأولى: أولاً: تضمن المثل ذكر حال رجلين: أحدهما: أبكم لا يقدر على شيء، ولا يستفاد منه خير. والآخر: متكلم فصيح عادل في أمره، مستقيم في فعله. والمراد لفت عقول المخاطبين إلى المقارنة بينهما. ونتيجة المقارنة مسلمة عندهم. ثانياً: الحكم وهو نتيجة المقارنة، حيث تقطع بعدم استوائهما وأن التسوية بينهما جهل وضلال. ثالثاً: إقرار المخاطبين بالمثل - وهم المشركون من كفار العرب - بأن تحقق الوصف الكامل في الله تعالى أتم، وأنه أعلى وأجل، وتحقق الوصف الناقص في الأصنام أتم، وهي أعجز من ذلك الرجل الأبكم الموصوف في المثل. رابعاً: إلزام المشركين بوجوب الحكم لله بهذا الحكم. وهو عدم التسوية بينه وبين الأصنام في الألوهية واستحقاق العبادة. وأنه أولى بهذا الحكم، لأن الفرق بينه وبين تلك الأصنام أعظم مما بين المخلوق والمخلوق ممن ذكرت أوصافهم. وبذلك يبطل الشرك الذي يتلبسون به.

_ 1 صفوة التفاسير، (2/136) .

خامساً: ينقلون بعد هذا - إذا أقروا به - إلى إثبات "المثل الأعلى" لله تعالى، وهو أن الله أعلى وأكمل من كل مخلوق، فلا يوجد من يساويه في الكمال، وعليه فلا يوجد من يساويه فيكون نداً له في الألوهية واستحقاق العبادة.

مثال التفريق بين المختلفات في قاعدة قياس الأولى: مما ورد في ذلك قول الله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} 1. ففي هذه الآية الكريمة ينكر سبحانه على من ساوى بينه وبين تلك الآلهة المزعومة في الألوهية والعبادة، مبيناً أن مقتضى النظر العقلي هو عدم التسوية. وذلك أن الله تعالى هو الخالق لكل شيء، والذين يدعون من دونه لا يخلقون شيئاً، وهذا بإقرارهم، فيلزمهم التفريق بين الله وهذه الآلهة الباطلة إذ لا يجوز أن يُسوَّى بين الخالق لكل شيء وبين من لا يخلق شيئاً في الألوهية واستحقاق العبادة؛ والتسوية بينهما ظلم وجهل. قال ابن تيمية - رحمه الله -: "وقد بين أن الخلق صفة كمال، وأن الذي يخلق أفضل من الذي لا يخلق، وأن من عدل هذا بهذا فقد ظلم"2. وهذا المعنى - هو جريان الأمثال والحجج العقلية على مبدإ التفريق بين المختلفات - كثير في أمثال القرآن الكريم. وسوف يأتي مزيد تطبيقات على قاعدة قياس الأولى في المبحث القادم إن شاء الله تعالى.

_ 1 سورة النحل (17) 2 الرسالة الأكملية، ص (16) .

المطلب الثالث: في بيان الحجة في قوله تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون}

المطلب الثالث: في بيان الحجة في قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. نوع المثل: نوع المثل والقياس مثل الأمثال المتقدمة. وقد تقدم بيان ذلك في المطلب الأول2. دلالة السياق: تقدم3 بيان أن سورة "الروم" تتحدث عن قضيتين هامتين: الأولى: إثبات البعث بعد الموت. وقد جرى بيانها في النصف الأول من السورة. الثانية: إثبات التوحيد، وإبطال الشرك وعبادة الأصنام الذي كان عليه مشركو العرب. وتولى بيانها النصف الثاني من السورة. وأن الآية التي ورد فيها إثبات المثل الأعلى لله تعالى جاءت في وسط

_ 1 سورة الروم (28) . 2 ص (1049) . 3 ص (889) .

السورة. وهي تشتمل على دليل من أوضح الأدلة العقلية على إثبات البعث بعد الموت. وجاء بعدها مباشرة هذا المثل، الذي هو من أوضح الأدلة العقلية على بطلان الشرك، ووجوب توحيد الله وإفراده بالعبادة. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. الغرض من ضرب المثل: هذا المثل مضروب لإبطال الشرك، ببيان الفرق العظيم بين الله تعالى المتصف بالكمال والغنى، وبين تلك الأصنام وغيرها من المخلوقات الناقصة، وبطلان التسوية بينها وبين الله تعالى في الألوهية، والعبادة. قال ابن القيم - رحمه الله -: "وهذا دليل قياس، احتج الله سبحانه به على المشركين، حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء، فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم، ولا يحتاجون فيها إلى غيرهم. ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ

_ 1 سورة الروم (27، 28) .

الإنسان من نفسه، ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها معلوم لها"1. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "هذا مثل ضربه الله لقبح الشرك وتهجينه، مثلاً من أنفسكم، لا يحتاج إلى حل وترحال، وإعمال الجمال"2. وقال الشوكاني - رحمه الله -: "أي مثلاً منتزعاً ومأخوذاً من أنفسكم، فإنها أقرب شيء منكم، وأبين من غيرها عندكم، فإذا ضرب لكم المثل بها في بطلان الشرك، كان أظهر دلالة وأعظم وضوحاً"3. بيان الحجة التي دل عليها المثل: هذا المثل يتضمن حجة لإبطال الشرك من وجهين: الأول: إبطال التسوية بين السيد والعبد في الاستحقاق في دلالة العقول السليمة، مما يلزمهم بالحكم بعدم التسوية بين الله وتلك الآلهة الباطلة التي هي من جملة عبيده، وأنه أولى بهذا الحكم. الثاني: أنهم إذا كانوا يعدون مشاركة عبيدهم لهم نقصاً يتنزهون منه، فإن الله أولى بالتنزه من هذا النقص، وأولى بأن لا يكون له من عبيده شريكاً إذ هو سبحانه أولى بكل كمال وأبعد من كل نقص.

_ 1 الأمثال في القرآن الكريم، ص (202) . 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (6/123) 3 فتح القدير، (4/223) .

فهذا المثل مع إيجاز لفظه تضمن حجتين عظيمتين في إبطال الشرك. لذلك ذكر الله أنه من الأمثال التي يفصّل بها آياته لهداية الناس، فقال سبحانه معقباً على المثل: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . وأقوال المفسرين لا تخرج عن هاتين الحجتين، وأكثرهم يكتفي بذكر الحجة الثانية - وهي أن الله أولى منهم بالتنزه من مشاركة العبيد - لأنها تتضمن الحجة الأولى - وهي إبطال المساواة بين العبد وسيده في الحقوق. قال ابن جرير - رحمه الله -: "يقول تعالى ذكره: مثَّل لكم أيها القوم ربكم مثلاً من أنفسكم، هل لكم مما ملكت أيمانكم، يقول: من مماليككم، من شركاء فيما رزقناكم من مال، فأنتم فيه سواء وهم. يقول: فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء في عبادتكم إياي، وأنتم وهم عبيدي ومماليكي، وأنا مالك جميعكم"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "يقول تعالى: إذا كنتم أنتم لا ترضون بأن المملوك يشارك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم، فكيف ترضون ذلك لي وأنا أحق بالكمال

_ 1 جامع البيان، (10/181) .

والغنى منكم؟ وهذا يبين أنه تعالى أحق بكل كمال من كل أحد"1. قوله: "لما في ذلك من النقص والظلم" فيه إشارة إلى تضمن المثل للحجتين. فالنقص: إنما يكون من نسبة الشركاء لله وهم عبيده، وذلك ما يعتبره المشركون أنفسهم نقصاً يتنزهون منه. والظلم: يكون في التسوية بين الله، وبين عبيده في الألوهية. وقال ابن القيم - رحمه الله -: "والمعنى: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك ... ؟ فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم لي من خلقي من هو مملوك لي، فإن كان هذا الحكم باطلاً في خاطركم وعقولكم ... فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي؟ مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي. فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول"2. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "أي: هل أحد من عبيدكم وإمائكم الأرقاء، يشارككم في رزقكم، وترون أنكم وهم فيه على حد سواء ... ؟

_ 1 مجموع الفتاوى، (6/80) . 2 الأمثال في القرآن الكريم، ص (203) .

ليس الأمر كذلك، فإنه ليس أحد مما ملكت أيمانكم، شريكاً لكم فيما رزقكم الله تعالى ... فكيف ترضون أن تجعلوا لله شريكاً من خلقه وتجعلونه بمنزلته، وعديلاً له في العبادة، وأنتم لا ترضون مساواة مماليككم لكم؟ "1. وقال الشيخ محمد الشوكاني - رحمه الله -: "والمراد: إقامة الحجة على المشركين. فإنهم لا بد أن يقولوا لا نرضى بذلك. فيقال لهم: فكيف تنزهون أنفسكم عن مشاركة المملوكين لكم وهم أمثالكم في البشرية، وتجعلون عبيد الله شركاء له؟ فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة، بطلت الشركة بين الله وبين أحد من خلقه، والخلق كلهم عبيد الله، ولم يبقَ إلا أنه الرب وحده لا شريك له"2. إيضاح الحجة على قاعدة قياس الأولى: أولاً: تضمن هذا المثل العظيم حجة ترتكز على حال يعرفها المشركون من أنفسهم هي: - عدم تسويتهم بين أنفسهم وعبيدهم في الحقوق. - وعدم قبولهم ورضاهم أن يشاركوا عبيدهم فيما رزقهم الله من

_ 1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (6/124) . 2 فتح القدير، (4/223) .

الأموال والممتلكات. ثانياً: الحكم - وهو النتيجة المستفادة من الاعتبار بالمثل. والحكم المستفاد من هذا المثل له شقان: الأول: حكمهم بعدم استواء السادة مع العبيد في الحقوق. ومن ذلك حق التملك والمشاركة. الثاني: حكمهم بأن مشاركة العبد لسيده فيما يملك نقص، وعدم قبولهم ورضاهم بذلك. ثالثاً: إقرار المحتج عليهم بأن الله هو المالك السيد لكل شيء، وأن كل ما سواه فهم مماليكه وعبيده، ومن ذلك الأصنام التي عبدوها من دون الله تعالى. رابعاً: إلزام المشركين بأن يحكموا لله بتلك الأحكام المستفادة من الاعتبار بصورة المثل. فالحكم الأول: أنه لا يجوز أن يسوى بين الله وبين تلك الأصنام - التي هي من عبيده ومماليكه في حقه سبحانه، فيجعلون شركاء له في الألوهية والعبادة. وذلك أنه - سبحانه - أولى بهذا الحكم لأن ملكه وسيادته أتم، فهو الذي كمل سؤدده، ولأن تحقق العبودية في الأصنام أتم. فالفرق بينها وبين الله تعالى أعظم من الفرق بين السادة وعبيدهم. والحكم الثاني: أن الله تعالى أولى بالتنزه من هذا النقص الذي لا يرضاه المشركون لأنفسهم، وهو مشاركة عبيدهم لهم في أموالهم

وممتلكاتهم، فالله أعلى وأجل منهم وأولى بالتنزه من كل نقص، وأولى بأن لا يكون له شريك من عبيده ومماليكه في الألوهية والعبادة. خامساً: يتعدى مدى المثل هذا - وهو إبطال صحة اتخاذ الأصنام شركاء لله في العبادة - إلى إثبات (المثل الأعلى) لله تعالى بإثبات تفرده بالألوهية. وذلك أن كل ما سوى الله فهو عبد لله مملوك له، سواء في ذلك الملائكة والأنبياء وصالحو المؤمنين وغيرهم. فلا يوجد من يساويه في الألوهية، لعدم جواز مساواة العبد لسيده، ولأن إشراك أحد من خلق الله وعبيده في الألوهية نقص يتعالى ويتنزه الله عنه. وقد تقدم قريباً كلام الشوكاني - رحمه الله - الذي أشار فيه إلى هذا المعنى، حيث قال: "فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة، بطلت الشركة بين الله وبين أحد من خلقه، والخلق كلهم عبيد لله، ولم يبق إلا أنه الرب وحده لا شريك له"1.

_ 1 فتح القدير (4/223) . 2الأمثال القرآنية القياسية للدكتور عبد الله الجربوع

المبحث الخامس: أهم الفوائد التي دل عليها ثبوت المثل الأعلى لله تعالى

المبحث الخامس: أهم الفوائد التي دل عليها ثبوت المثل الأعلى لله تعالى. استغرق الحديث عن المثل الأعلى والآيات التي ورد فيها إثباته لله تعالى في المباحث السابقة، ما يتعلق بالفوائد التي تستفاد من ذلك. وذلك يغني عن التفصيل فيها. لذلك سأكتفي في هذا المبحث بحصر أهم الفوائد، وذكر مأخذ كل فائدة، مع البيان لما أرى أنه يحتاج إلى بيان مما لم يرد فيما تقدم من المباحث. وأهم الفوائد التي دل عليها ثبوت المثل الأعلى لله تعالى هي: الفائدة الأولى: اتصاف الله بصفات الكمال وتفرده بها. ومأخذ الفائدة من دلالة المعنى الأول والأساس الذي يفسر به "المثل الأعلى" وهو: المثل الأعلى الحقيقي القائم بذات الله تعالى، الذي يدل على: تفرد الله تعالى بالألوهية، والربوبية وخصائصهما من جميع صفات الكمال. والقاعدة في ذلك: أن الوصف الأكمل من كل كمال مطلق ثابت لله تعالى وحده حقيقة على ما يليق به سبحانه. وتقدم الحديث عن هذا المعنى، وبعض النصوص الدالة عليه بما يغني عن إعادته1.

_ 1 انظر: ص (956) وما بعدها.

الفائدة الثانية: أن الأصل في معرفة أسماء الله وصفاته وأفعاله، وحقه على عباده، وغيرها من المطالب الدينية، هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومأخذ هذه الفائدة من المعنى الثاني الذي يفسر به المثل الأعلى. وهو: المثل الأعلى العلمي الخبري، الدال على وجود صفات الله تعالى وذكرها في نصوص الكتاب والسنة1. الفائدة الثالثة: أن أصل الإيمان هو ما يقوم في قلوب المؤمنين من إثبات المثل الأعلى لله تعالى باعتقاد تفرده بالربوبية والألوهية وسائر صفات الكمال. ومأخذ هذه الفائدة من المعنى الثالث الذي يفسر به المثل الأعلى لله تعالى، وهو: المثل الأعلى العلمي الاعتقادي القائم في قلوب المؤمنين لرب العالمين. وتقدم2 أن المراد به هو: توحيد الله باعتقاد تفرده بالألوهية والربوبية، وأن له الأسماء الحسنى، وله من كل كمال أكمله وأعلاه على ما يليق به سبحانه، وما ينتج عن ذلك من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وذكره وعبادته. كما تقدم3 أن ثمرة إثبات المثل الأعلى لله تعالى هي: توحيد الله

_ 1 انظر ما تقدم ص (931) وما بعدها. 2 ص (932) . 3 ص (934) .

وإقامة الدين له. وهذه الفائدة تدل على أهمية تعلم التوحيد وتحقيقه لسلامة الإيمان وقوته، مما يوجب العناية بتعلّم ما ورد في الكتاب والسنة مما يتعلق بتوحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات. الفائدة الرابعة: أن تفرد الله بالألوهية، هو الوصف الأساس في ثبوت المثل الأعلى لله تعالى، وكل الصفات الأخرى هي من خصائص الإله الحق تبارك وتعالى، ودالة عليه. وتقدم1 أن الربوبية هي أخص أوصاف الإله الحق، وآثارها في الكون أكبر دليل على تفرده بالألوهية؛ وأن ذلك مراد أهل العلم بقولهم: الإقرار بتفرد الله بالربوبية يستلزم الإقرار بتفرده بالألوهية. كما تقدم أن سائر صفات الكمال من خصائص الإله الحق، ويخبر بها عن اسمه تعالى (الله) الدال على اتصافه بالألوهية. وأجمع الآيات التي تدل على هذا المعنى ما ورد في أواخر سورة الحشر، حيث بدأ بذكر اسمه (الله) الدال على ألوهيته سبحانه، ثم ذكر تفرده بها بقوله (لا إله إلا هو) ثم أخبر عن ذلك بجملة من أسمائه. قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ

_ 1 ص (764) .

الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1. قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: " (الله) عَلَم على الرب تبارك وتعالى ... ويقال: إنه الاسم الأعظم، لأنه يوصف بجميع الصفات، كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ... } إلى آخر السورة. فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له"2. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: " (الله) هو المألوه المعبود، ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية، التي هي صفات الكمال"3.

_ 1 سورة الحشر (22/24) . 2 تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص (28) . وانظر: بدائع الفوائد لابن القيم، (1/27) ، تحقيق بشير محمد عيون، مكتبة المؤيد، الرياض، الطبعة الأولى، 1415 هـ. 3 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، فصل في شرح أسماء الله الحسنى (5/620) .

وثمرة هذه الفائدة هي العناية بتوحيد الألوهية، وإخلاص العبادة له، في جميع المجالات العلمية والدعوية، والتربوية، والإعلامية، وغيرها. الفائدة الخامسة: أن معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة من صفات الله تعالى هي المحرك للمحبة في قلوب المؤمنين. فقيام المثل الأعلى الاعتقادي في قلوبهم لله رب العالمين، وتحقيق التوحيد، هو الذي يجذبها إلى الله. وتهيج المحبة في قلوب المؤمنين كلما ذَكروا أو ذُكِّروا بأسماء الله وصفاته وإنعامه. ومأخذ هذه الفائدة ما تقدم1 من وجود تلازم بين قيام المعرفة بأسماء الله وصفاته وإثباتهم المثل الأعلى له سبحانه وبين محبتهم له. وأن المحب يتمثل صفات محبوبه وأسماءه. وهذا التمثل هو علمه بها، وتذكرها أو ذكره بها. وتقدم2 أن المثل الأعلى العلمي الاعتقادي شامل لما يقوم في قلب المؤمن من حقائق التوحيد: من معرفة الله باعتقاد تفرده بالألوهية والربوبية. وسائر صفات الكمال وما ينتج عن ذلك من أعمال القلوب كالمحبة ونحوها. ولذلك فأهل العلم والإيمان يجدون لقراءة القرآن وسماعه ومدارسته

_ 1 ص (927) . 2 ص (932) .

حلاوة خاصة، حيث يتلذذون بسماع كلام محبوبهم الرحمن الرحيم، وذكر أسمائه وصفاته، وما أعده لعباده وأوليائه، من الكرامة في الدنيا والآخرة، وغير ذلك مما ينير لهم الطريق، ويبين لهم الحكم. فيكسبهم سماع القرآن حالاً عجيباً، بينه الله تعالى بقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَآءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 1. في هذه الآية وصف الله عباده المؤمنين حقاً بصفتين: الأولى: في قوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} . "لما يفهمون منه من الوعد والوعيد والتخويف والتهديد تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف"2. ومن ذلك سماعهم لأسماء الله التي تبعث في القلب الخوف والخشية كالجبار، والقهار، والعزيز، ونحوها. الثانية: في قوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .

_ 1 سورة الزمر (23) . 2 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (4/50) .

أي يذهب انقباض جلودهم وقلوبهم وتسكن وتطمئن عند سماع ما يذكره الله من ثوابه ورحمته وجنته1. ومن ذلك سماعهم لأسماء الله التي تبعث في القلب المحبة والرجاء، كالكريم، والمؤمن، والرحيم.. ونحوها. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - في المراد بقوله {مَثَانِيَ} : "أي: تثنى فيه القصص والحكايات، والوعد والوعيد، وصفات أهل الخير، وصفات أهل الشر، وتثنى فيه أسماء الله وصفاته. وهذه من جلالته، وحسنه، فإنه تعالى، لما علم احتياج الخلق إلى معانيه المزكية للقلوب، المكملة للأخلاق، وأن تلك المعاني للقلوب بمنزلة الماء لسقي الأشجار"2. وقد بيّن الإمام ابن كثير - رحمه الله - الفرق بين سماع عباد الله المتقين والأبرار وبين غيرهم من اللاهين والفجار، فقال: "فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه: (أحدها) : أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات. (الثاني) : أنهم إذا تليتْ عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً

_ 1 انظر: فتح القدير، للشوكاني (4/459) . 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (6/464) .

بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم ... (الثالث) : أنهم يلزمون الأدب عند سماعهم كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله تعالى من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقشعر جلودهم ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله لم يكونوا يتصارخون، ولا يتكلفون بما ليس فيهم، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك، ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والآخرة"1. ومما تقدم تبين الأثر العظيم لكتاب الله تعالى في إثارة الخوف والمحبة والرجاء لله تعالى في قلوب المؤمنين، وإقبال المؤمنين على كتاب الله يستمدون به من الله تلك الآثار المباركة وغيرها من الهدايات. وهذه الفائدة تبين خطأ وضلال من ينتسب إلى الزهد والعبادة والذكر من جهال المتصوفة الذين لبّس عليهم الشيطان فأوهمهم أن أفضل مايحرك محبة الله في القلوب هو سماع وإنشاد القصائد الغزلية، التي يناجي فيها الشاعر محبوبته ويتغنى بجمالها وأوصافها. ولم يزل بهم حتى أضافوا إليها الدفوف والمزامير والأصوات المطربة. وتمادى ببعضهم الغي حتى فضل السماع بهذه الطريقة في إثارة كامن الحب لله تعالى على القرآن الكريم، وحشد الدلائل على ذلك،

_ 1 تفسير القرآن العظيم، (4/51) .

وزخرف الشبهات1. وبذلك نفقت سوق الأشعار والغناء بين مُدّعي العبادة والزهد، وأقبلوا عليها يحفظونها ويتقربون إلى الله بها بزعمهم، وصُرفوا بها عن السبع المثاني والقرآن العظيم، وذلك من جهلهم بالله العظيم. فلو قام المثل الأعلى الاعتقادي في قلوبهم، لما ارتاحت نفوسهم ولا أنست قلوبهم إلا للمثل الأعلى العلمي المبين في الكتاب والسنة. الذي يحدثهم عن ربهم ومعبودهم الحق، وأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وأفعاله العظيمة، وسننه المباركة. ولوجدوا لذلك أعلى مراتب الأنس والبهجة واللذة. لذلك قال الله تعالى في ختام الآية: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَآءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 2. الفائدة السادسة: أن ربوبية الله تعالى، وأفعاله المشاهدة في الكون هي أكبر دليل على تفرد الله بالمثل الأعلى، وأنه الإله الحق المستحق وحده للعبادة. ومأخذ هذه الفائدة من دلالة السياق في السورتين اللتين ورد فيهما ذكر المثل الأعلى. وهما سورة "النحل"، وسورة "الروم". فقد تقدم في تلخيص ما دل عليه سياق سورة "النحل" أنه تضمن

_ 1 انظر: ما تقدم ص (434) وما بعدها. 2 انظر للاستزادة: إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان، (1/344-406) .

"بيان دلائل الحق على تفرد الله بالمثل الأعلى، وأنه إله واحد لا شريك له في ألوهيته أو ربوبيته وصفاته، وذلك بالإكثار من ذكر أسمائه وصفاته، وأفعاله، ومظاهر ربوبيته"1. وورد في تلخيص ما دلّ عليه السياق في القسم الأول من سورة "الروم" أنه ركز "على ذكر الدلائل العقلية على إمكان البعث وكان محور الاستدلال على ذلك هي مظاهر ربوبية الله، وآثار أفعاله التي يشاهدها الناس، وذكر أهم خصائص الربوبية من تفرد الله بالملك، والأمر الكوني، والخلق والتدبير التي توجب لمن تأملها القطع بقدرة الله العظيمة على كل شيء، وأنه لا يعجزه شيء، ومن ذلك البعث بعد الموت".2 وتقدم أن السياق في القسم الثاني من سورة "الروم" ذكر فيه بعض الأدلة العقلية على تفرد الله بالربوبية مما يوجب إفراده بالألوهية والتعبد. والاستدلال بتفرد الله بالربوبية على تفرده بالألوهية، هو ما يعبر عنه أهل العلم بقولهم: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية. بل إن ما يشاهد من آثار ربوبية الله يستلزم إفراده سبحانه بالألوهية وسائر أوصاف الكمال، لما تدل عليه أفعاله وما يشاهد من آثارها من قوة الله وعظمته وجماله وجلاله، وغيرها من مدلولات أسمائه الحسنى

_ 1 تقدم في ص (772) . 2 تقدم ص (899) .

تبارك وتعالى. وهذا معنى عزيز، ورد كثيراً في القرآن الكريم، ومن أجمع ما ورد لعناصر هذا الدليل، تلك الآيات المباركة من سورة "النمل" حيث قال تعالى: {قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} 1. فكل آية من هذه الآيات تتضمن دليلاً عقلياً على تفرد الله تعالى

_ 1 سورة النمل الآيات (59-64)

بالألوهية، وبطلان ألوهية ما سواه. وهذه الأدلة من جنس واحد، وتتشابه في الأمور الآتية: 1- الأسلوب القائم على الاستفهام الإنكاري، الذي يدل على نفي التسوية بين من يملك الربوبية، ومن لا يملك منها شيئاً. 2- استناد الحجة في كل آية إلى مظهر من مظاهر ربوبية الله تعالى، وهو أساس الدليل. 3- تقدير تمام الاستفهام فيها جميعاً بنحو: "كمن لا يقدر على شيء من ذلك؟ ". ويكون تقدير المفهوم من قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} الآية، كمن لا يَقْدِر على شيء من ذلك؟ وهكذا في الآيات بعدها. 4- ختم الآية بما يدل على نتيجة الدليل في قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} وهو استفهام إنكاري آخر مبني على الاستفهام الأول في قوله: {أَمَّنْ} . يدل على عدم صحة التسوية بين الله وغيره في الألوهية، لعدم صحة التسوية بينه سبحانه وبينهم في الربوبية. فاتصاف الإله المعبود بالربوبية هو الوصف المؤثر والأصل في تأله

العبد - حيث إنه يتوجه بالعبودية والدعاء لمن يملك نفعه، ودفع الضر عنه، ونصره، وجلب الرزق له، وتحقيق الخير له في الدنيا والآخرة. فالحكم بتفرد الله بالألوهية مناط بالوصف المؤثر وهو اعتقاده تفرد الله بالربوبية. فإذا أقر العبد بالربوبية لله دون سواه، لزمه أن لا يتخذ له إلهاً يعبده سواه سبحانه. وهذا المعنى هو الذي تتظافر هذه الأدلة لإثباته وإلزام المخاطبين بالقرآن من المشركين به. قال ابن كثير - رحمه الله - في قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} : "استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى، ثم شرع تعالى يبين أنه المتفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره ... وإنما يستحق أن يفرد بالعبادة، من هو المتفرد بالخلق والرزق ولهذا قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي: أإله مع الله يُعبد، وقد تبيّن لكم ولكل ذي لب ... أنه الخالق الرازق؟ ومن المفسرين من يقول: معنى قوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} فَعَل هذا؟ وهو يرجع إلى معنى الأول، لأن تقدير الجواب أنهم يقولون: "ليس ثَمَّ أحد فعَل هذا معه، بل هو المتفرد به. فيقال: فكيف تعبدون معه غيره

وهو المستقل المتفرد بالخلق والرزق والتدبير؟ كما قال تعالى {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ} 1 الآية. وقوله تعالى ههنا: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ، (أمن) : في هذه الآيات كلها تقديره: أمن يفعل هذه الأشياء كمن لا يقدر على شيء منها؟ هذا معنى السياق وإن لم يذكر الآخر، لأن في قوة الكلام ما يرشد إلى ذلك"2. الفائدة السابعة: دلالة ثبوت المثل الأعلى لله تعالى على قاعدة قياس الأولى. وتقدم البيان لمأخذ هذه الفائدة، وبعض ما يتعلق بها في المبحث الثالث من هذا الفصل3. الفائدة الثامنة: إبطال الشرك بالأدلة العقلية المتجلية بالأمثال المضروبة الجارية على قياس الأولى. ومأخذ هذه الفائدة من الأمثال التي وردت في سياق الآيتين اللتين ورد فيهما ذكر المثل الأعلى. وتم بيان ما في تلك الأمثال من الأدلة على

_ 1 سورة النحل (17) . 2 تفسير القرآن العظيم (3/369) . 3 ص (1031) وما بعدها.

إبطال الشرك في المبحث الرابع من هذا الفصل1. الفائدة التاسعة: إثبات البعث بعد الموت بالدلائل العقلية الجارية على قاعدة قياس الأولى. ومأخذ هذه الفائدة القسم الأول من سورة "الروم" الذي ناقش قضية البعث بعد الموت. وقد بيّنتُ أنواع الأدلة على البعث التي وردت في السورة فيما سبق من الحديث عن دلالة ذلك السياق2.

_ 1 ص (1047) وما بعدها. 2 ص (890) وما بعدها.

الخاتمة بعد هذه المسيرة الممتعة المباركة - إن شاء الله تعالى - لما تم بحثه من الأمثال، والآيات المتعلقة بها، والتي جرت دراستها - بحمد الله - في ثلاثة أبواب، أختم هذه الدراسة بذكر أهم النتائج التي أنجزت فيها، وتوصيات تتعلق بالأمثال. أهم النتائج: تحقق بهذا البحث - بفضل الله - نتائج كثيرة، من أهمها: أولاً: رسم منهج واضح متكامل - إن شاء الله - لدراسة الأمثال القرآنية. وقد بينت أهم معالمه في المقدمة. ثانياً: اشتمل البحث على كثير من أقوال شيخ الإسلام الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - رحمه الله - في بيان الأمثال من جهتين: الجهة الأولى: في بيان طبيعة الأمثال باعتبارها أسلوباً متميزاً من أساليب اللغة، وبيان ما تدل عليه من القياس، وأنواعه، وكثير من أحكامه. الجهة الثانية: جهوده في بيان أمثال القرآن، وخاصة منها الأمثال الجارية على قياس الأَوْلى. وهذه الجهود في كلا الاتجاهين متميزة ونادرة، ولها إسهامها الهام في إيضاح الأمثال القرآنية، وبيان عظمتها، ودلائلها العميقة على الحجج

والعبر. ولم تلق أقوال شيخ الإسلام عناية من الباحثين في الأمثال قديماً وحديثاً، إلا ما كان من الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كلامه على الأمثال - الَّذِي أشرت إليه في المقدمة - من ذكر بعض أقواله، وذلك لا يساوي شيئا أمام ما تزخر به كتب الإمام ابن تيمية - رحمه الله - من فوائد حول الأمثال. وهذه ميزة هامة لهذا البحث. ثالثاً: وضع مقدمة للتعريف بالأمثال، وأهم معالمها. وخلصتُ من ذلك إلى النتائج التالية: أ - أن لفظ "مثَل" يدل على أربعة معان رئيسية هي: 1- المثَل بمعنى القول السائر. 2- المثَل بمعنى وصف الشيء، أو الجامع لأوصاف الشيء وحقائقه. 3- المثَل بمعنى المِثل وهو النظير. 4- المثَل بمعنى المِثال أو الأنموذج من ذي أفراد متعددة. وقد أوردت لكل نوع ما تيسر من الشواهد له من اللغة والقرآن الكريم والسنة المطهرة. ب- بيان أهم المقومات التي يشتمل عليها المثل القرآني وهي أمران: 1- اشتماله على القياس: وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القياس التمثيلي، وقياس الشمول، وقياس الأولى.

وتم بيان طبيعة كل قسم، وشواهده من الأمثال القرآنية. 2- اشتماله على الحكمة: وذلك لتضمن الأمثال القرآنية المعاني الحسنة، والبراهين الواضحة، مما يعين على التدبر والتفكر والتذكر الذي يؤدي إلى معرفة الحق وقبوله. جـ- بيان أهمية الأمثال القرآنية: وتجلت أهمية الأمثال في عدة أمور، أهمها: 1- أسلوبها القائم على القياس التمثيلي أو الشمولي المتميز في الإقناع، وسرعة التفهيم، وإزالة الإشكال وإبراز الحجج والمواعظ وتقريبها إلى ذهن السامع. 2- إشادة القرآن بأمثاله. ودل على ذلك عدة أمور. - منها: الإشارة إليها بـ "تلك" التي تدل على عظم شأنها وبالغ أثرها. - ومنها: الإشارة إلى أنها ضُربت للناس، مما يدل على حاجتهم إليها وكونها من الطرق الموضحة للعلوم والمبينة للحجج الهادية إلى الحق. - ومنها: وصفها بأنها {مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} لكونها تُضرب للأمور الكبار والمطالب العالية والمسائل الجليلة. - ومنها: تعليل ضربها برجاء تفكر الناس فيها وتدبرهم لها واعتبارهم بها، مما يدل على خاصيتها في تسهيل ذلك عليهم وتقريبه لهم. 3 - أن السر في تلك الأهمية للأمثال القرآنية هو كونها من

موازين الحق التي أنزلها الله في كتابه ونبه بها عقول عباده إلى الأقيسة الصحيحة المتضمنة للتسوية بين المتماثلات في الأحكام والأوصاف والتفريق بين المختلفات وذلك عن طريق الصيغ التي جاءت بها الأمثال القرآنية من صيغ قياس الشمول، أو صيغ قياس التمثيل، أو قياس الأَوْلى. 4- أن الأمثال التي يضربها الله للناس هي من تمام حجة الله على خلقه، حيث ضرب الله الأمثال لجميع الأمم السابقة، وفصّلها في خاتم كتبه القرآن الكريم، وضربها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فكمل بذلك البيان، واستنار الطريق، وتمت حجة الله على عباده. د- بيان أهم الأغراض التي تُضرب لها أمثال القرآن الكريم وتبين أن الأمثال القرآنية ضُربت لأغراض متعددة من أهمها: 1- بيان الممثل له وتقريب صورته إلى ذهن المخاطبين. 2- إقامة الدليل القاطع والبرهان الساطع على القضية المرادة. 3- الإقناع بحسن الأمر الممثل له بإبراز محاسنه ومزاياه، أو الإقناع بقبحه وفساده، بإبراز مساويه وخزاياه. 4- الدلالة على كثير من الحِكَم والفوائد العلمية. 5- التربية بإبراز النماذج الخيِّرة الصالحة، وبيان أعمالهم وأحوالهم وما آل إليه مصيرهم في الدنيا، وما سيصيرون إليه في

الآخرة، لتكون قدوة يُرغَّب ويُحثُّ على الإقتداء بهم، وإبراز النماذج الشريرة الضالة، وتجلية صفاتهم وأعمالهم وكيف كانت عاقبتهم، ليُحذر منهم ومن طريقهم. 6- أن أمثال القرآن تُعين على تعبير الرؤيا، وكل ما كان الإنسان بها أعرف كان على تعبير الرؤيا أقدر. كما تبين أن الأمثال القرآنية بهذه الأغراض المتعددة والهامة أصبحت من أسباب الهداية الهامة. رابعاً: وضع مقدمة للتعريف بالإيمان. وخلصتُ من ذلك إلى النتائج التالية: أ- تعريف الإيمان في اللغة، وتبين أن تفسير الإيمان في اللغة بالتصديق المجرد لا يفي بمعناه، إذ لا بدّ أن يشتمل معنى الإيمان على الأمن الَّذِي اشتُق منه. وتبين أن الأقرب تفسير الإيمان في اللغة بالإقرار الَّذِي يدل مع التصديق على عمل قلبي مناسب لما يؤمن به أو له، كالثقة والاطمئنان للمخبر، وقبول خبره، والإذعان له.... ونحوه. ب- بيان تنوع المراد بلفظ الإيمان شرعا، وأدلة ذلك. وتلخص من ذلك أن لفظ الإيمان الشرعي يراد به ثلاثة معان، هي: - الأول: أصل الإيمان، الركن الأول من أركان الإيمان القلبي، وهو أول الإيمان وابتداؤه، الَّذِي يدخل به العبد في الإسلام، ويعصم به دمه

وماله، وهو شرط لصحة الأعمال وقبولها. وتقدم من أدلته حديث جبريل - عليه السلام - حيث فرق فيه بين الإيمان المسئول عنه - والإيمان بالله الوارد في الجواب، ودلت إجابة النبي صلى الله عليه وسلم على أن الإيمان المسئول عنه هو كمال الإيمان القلبي، والإيمان بالله الوارد في الجواب هو أصله. كما يدل عليه كل دليل جُعل فيه الإيمان شرطا لصحة الأعمال، فإن أقل ما يشترط لذلك هو انعقاد أصل الإيمان. - الثاني: الإيمان القلبي، أو الإيمان بالغيب، المتضمن للإقرار بالأركان الستة، والمستلزم للإيمان المطلق الكامل. وتقدم من أدلته حديث جبريل - عليه السلام - حيث فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالأركان الستة الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. ومن أدلته - أيضا - كل دليل اقترن فيه لفظ الإيمان بلفظ الإسلام أو الأعمال الصالحة. - الثالث: الإيمان المطلق الكامل، الَّذِي يشمل كل الدين. وأدلة هذا المعنى كل دليل ورد فيه لفظ الإيمان مطلقا غير مقترن بلفظ الإسلام، أو الأعمال الصالحة، أو أي قيد آخر، والله أعلم. جـ - تعريف أصل الإيمان واشتمل على معنى الشهادتين، والمراد بالكفر بالطاغوت. وخلاصة الأمور التي ينعقد بها أصل الإيمان هي:

- الأول: النطق بالشهادتين. - الثاني: معرفة المشهود لهما، ويتضمن: 1- الإقرار بأصل توحيد الأسماء والصفات، من أن الله واحد، فرد صمد لم يلد ولم يولد متصف بالكمال، ليس له كفؤ، وليس كمثله شيء. 2- الإقرار بأصل توحيد الربوبية، من أن الله هو الرب الحق، المتفرد بالملك والخلق والتدبير للسموات والأرض ومن فيهن، لا شريك له في ذلك. 3- الإقرار بأن محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه بشر ليس له شيء من الألوهية أو الربوبية، وأنه صادق في كل ما أخبر به، وأنه خاتم النبيين. - الثالث: محبة المشهود لهما، ومحبة الدين. - الرابع: اعتقاد ما دلتا عليه، ويتضمن: 1- أصل توحيد الألوهية، باعتقاد تفرد الله بالألوهية، واستحقاق العبادة. 2- أصل الكفر بالطاغوت، بالحكم بالبطلان على كل من عُبد من دون الله، وعلى كل عبادة صُرفت لغير الله. 3- اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وما يستلزمه ذلك من أن ما أرسل به هو الدين الحق، الخاتم، الناسخ لما قبله من شرائع الأنبياء، وأنه وحده

الموصل إلى الله المقبول عنده. - الخامس: قبول ما دلتا عليه، ويكون بما يلي: 1- العزم على عبادة الله وحده، والبراءة من الشرك وأهله. 2- العزم على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وعبادة الله بشريعته. فإذا جاء بهذه الأمور دخل في الإسلام ظاهرا وباطنا ثم هو مطالب بالإيمان القلبي بالإقرار بالأركان الخمسة الأخرى، ثم تكميل إيمانه بالالتزام ببقية شعب الإيمان. د ـ تعريف الإيمان القلبي. وتبيين أن الإيمان القلبي يشتمل على ستة أركان هي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى. وأنه يزيد ويقوى بزيادة العلم بتفاصيل هذه الأمور، وقوة التصديق، وبمقدار حظه مما تستلزمه من أعمال القلوب. هـ ـ تعريف الإيمان الكامل. وخلاصته: أن الإيمان الكامل، الَّذِي يتولى الله أهلَه، ويوجب لهم الأمن من عقوباته في الدنيا والآخرة، يشمل جميع الطاعات القلبية، والقولية، والفعلية. وهذا المعنى هو المقصود بتعاريف علماء السلف للإيمان بأنه: قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وقد دل على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة.

وهو يشمل جميع شعب الإيمان ابتداء من أركان الإيمان القلبية الستة، وأركان الإسلام الخمسة، وجميع الواجبات والمستحبات، كما يشمل الكفر بالطاغوت، والبراءة من الشرك وأهله، واجتناب الكبائر، وترك المحرمات والمكروهات. وكلما زاد في الالتزام بشعب الإيمان علما وعملا، زاد إيمانه وتقواه، وترقى في كماله. وأن الإيمان لا يتحقق إلا إذا التزم بأسس هامة تنحصر فيما يلي: 1- الإخلاص لله في كل عباداته. 2- المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم فيها، وترك البدع، والغلو، والمعاصي. 3- العلم والبصيرة في الدين. خامساً: دراسة مثل النور في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ....} الآية. وخلاصة النتائج المستفادة من ذلك هي: أ- أن هذا المثل بين أصولا هامة تتعلق بحصول الإيمان في القلب وزيادته، وعلاقتها ببعضها، وهي: 1- فعل الله بالتوفيق للإيمان وقذفه في قلوب عباده الذين شاء هدايتهم، وعلاقة ذلك بالفطرة السليمة حيث شبه فعله سبحانه الذي يشرح به صدر من أراد هدايته للإسلام بإيقاد المصباح، والنور الحاصل من ذلك بنُور المصباح، والفتيلة الصالحة تقابلها

الفطرة السوية. 2- أثر العلم الواصل للقلب في بناء العقائد الإيمانية في القلب وفي زيادتها، وزيادة نُور القلب وبصيرته، حيث شبه العلم بالزيت الذي يمد المصباح بالوقود، وكيف أن زيادته وجودته تؤثر في قوة الإضاءة وصفائها، وكذلك نُور القلب يزيد بزيادة العلم المستقى من الوحي المطهر، ويصفو بخلوصه من العلوم الدخيلة. 3- أثر هذا النور المركب من نُور العلم والإيمان في سلامة القلب وبصيرته وسلامة تعقله، وصلاح جميع أعماله حيث شبهت أعمال القلب واستنارتها بنُوره بالزجاجة التي تنعكس عليها الأشعة من المصباح فتتلألأ عليها فتنفذ من خلالها إلى الخارج، فتضيء الطريق لصاحب المصباح، فيمشي بذلك النور في الناس مشيا سديداً رشيداً. 4- أن هذا المثل بين الأصل الأول من أصول أهل السنة والجماعة المتعلق بمنهج التلقي حيث دل على أن العلوم والمعارف المتعلقة بالمطالب الدينية إنما تؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بتشبيه العلم بما نزل من الوحي بالزيت الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار. وبقوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} حيث أجمع المفسرون على أن أحد

النورين هو نُور القرآن والعلم، وحيث بدأ السياق بقوله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} . وهذا كله يدل على أن نُور الله لا يكمل في القلب إلا إذا غُذِّي بالعلم بالكتاب والسنة. ب- دل المثل على فوائد أخرى هامة منها: 1- إثبات " النور " اسما من أسماء الله وصفة من صفاته. 2- دلالة المثل على أن للإيمان والعلم نُورا حقيقيا. 3- دلالة المثل على إعداد الله الإنسان بالفطرة السليمة، واستدعائها لنور الإيمان. 4- دل سياق المثل على أثر النور والبصيرة على أعمال المؤمنين حيث كشف لهم معالي الأمور، وصالح الأعمال ومحاسن الأخلاق فلازموها ولم يشتغلوا عنها بما هو دونها من أمور الدنيا، وذلك في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ... } الآيات. 5- أن هذا المثل ميزان توزن به المناهج الحادثة في بيان الطريق لتلقي الحق في المطالب اليقينية الدينية، كطريقة المتكلمين الذين زعموا أن الطريق لمعرفة ذلك إنما هي الدلائل العقلية، وليس أدلة الكتاب والسنة، وطريقة المتصوفة القائلين بأن الطريق لمعرفة الحق في كل المطالب إنما هو الكشف والفيض دون تعلم أو نظر

عقلي، والاعتبار بالمثل يبطل هذه المزاعم الضالة. سادساً: دراسة مثل السراب، في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ....} الآية. وقد تبين من دراسة هذا المثل ما يلي: أ- نوع المثل: يقوم هذا المثل على القياس التمثيلي، وهو تمثيل مركّب، شبه فيه الممثل له وهو: مصير أعمال الكفار، وما يتصل بها، وحال عملها، بمصير وحال اللاهث وراء السراب، وما يلابس هذه الحال، ويحيط بها، وما تستلزمه. ب- الممثل به: سراب لاح لشخص في صحراء منبسطة، في رائعة النهار، والشمس كأشد ما تكون إضاءة وحرارة، وقد اشتد عطشه وقويت حاجته إلى الماء، فظن ذلك السراب ماء، فجرى نحوه، فلما وصل المكان الذي تراءى له فيه لم يجد ماء ولا شيئاً، ولم يُغنِ عنه سعيه، ولا ظنه في انقاذه من الهلكة، وباء بالخيبة، ولم يسلم من المؤاخذة. جـ- الممثل له: بيان حال صنف من الكفار من حيث سبب ضلالهم، وحكم أعمالهم، وجزائهم عليها. هؤلاء الكفار تميزوا بأنهم من المنتسبين إلى الإِسلام، ويدَّعون الإِيمان باللَّه، ويطلبونه ... إلا أنهم ضلوا بإعراضهم عن الإِيمان الحق الذي دل عليه كتاب اللَّه المحفوظ وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وطلبوا ذلك من

مستنقعات الضلال، فهم يتعلمون ويعملون ولكن على غير هدى. فدل المثل على حكم أعمالهم وأنها باطلة، والحكم عليهم بأن كلاً سوف يلاقي جزاءه المناسب لحاله وأعماله. د- دل المثل على جملة فوائد من أهمها: 1- دلالة المثل على سبب كفر هذا الصنف من الكفار. 2- دلالة المثل على أن من أسباب الضلال اتباع الظن. 3- دلالة المثل على أن من أسباب الضلال اتباع الشبهات. 4- دلالة المثل على أن حسن القصد غير معتبر في تصحيح الأعمال إذا خالفت شروط الصحة. 5- دلالة المثل على اختلاف دوافع وحساب الكفار الذين شُبهت أعمالهم بالسراب. سابعا: دراسة مثل الظلمات، في قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} . وخلصتُ من ذلك بالنتائج التالية: أ- أن المثل من النوع القائم على القياس التمثيلي المركّب، وذلك أن كلاً من الممثّل به والممثّل له عبارة عن صورة مركّبة من جملة أفراد

تعطي في مجموعها الوصف المعتبر والحكم المشترك بين المشبه والمشبه به. ب- أن صورة الممثل به هي: حال شخص كائن في مكان مظلم في قاع بحر عظيم مضطرب الموج، قد حُجب الضوء عنه بحجب كثيرة: من السحاب، والموج المتلاطم على سطح البحر، والموج الداخلي، فلا ينفذ من هذه الحجب شيء من الضوء إلى قاع البحر. كما دل المثل على أن هذه الحجب هي ظلمات تسهم مجتمعة في انعكاس الضوء وتكسره ثم ارتداده، مما يجعله عند حد معين لا ينفذ منه شيء إلى أسفل، ويكون ما تحته مظلماً ظلمة تامة. كما دل المثل على أن ذلك المكان في قاع البحر مع ظلمته المطبقة مكان مفزع مخوف، بسبب الظلمة وتلاطم الأمواج وترددها من فوقه. ودل المثل على أن حاصل حال الممثل به هو: عدم قدرة الكائن في ذلك المكان على إِبصار طريق خلاصه وفكاكه، وأن أي فعل يفعله فهو تخبط وضلال وعمى، وأنه بعيد جداً عن مصدر النور، ولا طريق له إليه مع وجود تلك الحجب، وذلك البعد السحيق. جـ- أن الممثل له هو: حال قسم من الكفار، أحاطت بهم الظلمات من كل جانب، فقلوبهم مغمورة في بحر عميق واسع من الجهالة والكفر والضلالة والفساد، مظلمة ظلمة تامة، بعيدة جداً عن مصدر الهدى والنور الإِلهي، بسبب حجب حجبتها عنه، من أهمها: ظلمة الجهل الناتج عن التكذيب والإعراض عما أنزل اللَّه من الآيات البينات، وظلمة

أعمالهم الكفرية الضالة القولية والفعلية، وظلمة ضُربت عليهم من اللَّه، حيث ختم على قلوبهم وأسماعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، جزاءً موافقاً لما تلبسوا به من الإعراض والكفر والضلال. وأنهم في ظلمات بعضها فوق بعض، ومتوقف بعضها على بعض، وذلك أن ظلمة القلوب وعماها انعكس على أعمالهم فأظلمها. وظلمة الأعمال حجبت عن قلوبهم أنوار الهداية. والختم والطبع الذي حصل لهم إنما هو بسبب إِعراضهم وتماديهم في الغي والكفر. وأنهم مع ما هم فيه من الظلمات والضلال والغي والعمى، في خوف وفزع واضطراب وحيرة. وأنهم لن يهتدوا أبداً ما دام حجاب اللَّه مضروباً عليهم، وطبعه وختمه مستمراً على قلوبهم، حيث حجب به عنهم نوره وهداه، وليس عندهم إلا الظلمات والعمى. فأنى لهم الفكاك مما هم فيه؟ ومن أين لهم نور يهتدون به؟ {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} . د- دل المثل على فوائد من أهمها: 1- أن الكفار يتقلبون في الظلمات الحالكة لا ينفكون منها. 2- دلالة المثل على سبب ضلال هذا النوع من الكفار. 3- دلالة المثل على فعل الله في إضلال الكفار، وختمه

على القلوب والأسماع. 4- دلالة المثل على أن الكفار في حيرة وقلق وخوف دائم. 5- إفادة المثل حقائق علمية ومعجزة نبوية. ثامنا: بيان المراد بالنهي عن ضرب الأمثال لله تعالى في قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} . وخلصتُ من ذلك إلى النتائج التالية: أ- أن الأمثال المنهي عن ضربها لله تعالى تشمل: اتخاذ الشركاء والأنداد، واعتقاد مماثلة أحد من الخلق لله في ذاته وأسمائه وصفاته، أو ألوهيته واستحقاق العبادة، أو ربوبيته وأفعاله. كما يشمل النهيُ الأمثال القولية الفاسدة التي يضربها لله المشركون الجاهلون بالله ومَن في حكمهم في الجهل. وتبيّن أن الأمثال القولية المضروبة لله، منها ما هو ممنوع ومنها ما هو مشروع. فالممنوعة: هي الأمثال التي يضربها لله المشركون أو غيرهم من الجاهلين لمعارضة دين الله وتوحيده، أو لتصحيح الشرك، أو المتضمنة للتسوية بين الله وبين أحد من الخلق. ويدخل في ذلك الأمثال التمثيلية، والأمثال الشمولية. والمشروع منها: التي تصدر عن العالِمين بالله، ولا تتضمن التسوية بين الله وخلقه، أو معارضة الدين، وإنما تؤيد ما أثبت الله لنفسه من الصفات، وتنفي عنه ما لا يليق به من النقص والعيب؛ وتكون جارية

على قياس الأولى. ب- دلالة قوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} على فوائد، من أهمها: 1- النهي عن الشرك في عبادة الله. 2- النهي عن اتخاذ الأمثال لله، باعتقاد أن لله مماثلا في ذاته أو أسمائه وصفاته. 3- النهي عن ضرب الأمثال القولية القياسية الفاسدة لله تعالى. تاسعاً: دراسة الآيات الدالة على ثبوت المثل الأعلى لله تعالى. وخلاصة النتائج المستفادة من ذلك هي: أ - أن الدلائل المختلفة - المتحصلة من دلالة السياق، والمعنى اللغوي للفظ "مثل"، ووصف المثل بالأعلى، وأقوال أهل العلم - تدل على أن "المثل الأعلى" الثابت لله تعالى يفسر بأكثر من معنى صحيح. وهذه المعاني منها معنى هو الأساس والأصل، وهو ثبوت المثل الأعلى الحقيقي لله تعالى وقيامه بذاته المقدسة كما تقدم بيانه، والمعاني الأخرى دالة عليه أو نتيجة له، فهي توصف بأنها الأعلى باعتبار موافقتها له ودلالتها عليه. فليست معان متضادة، وإنما يطلق "المثل الأعْلَى" على كل منها باعتبار صحيح. وهذه المعاني الصحيحة هي:

- الأول: المثَلُ الأعْلَى الحقيقي القائم بذات الله تعالى. وهو: تفرد الله تعالى بالألوهية والربوبية، وخصائصهما من جميع صفات الكمال. وأن الوصف الأكمل من كل كمال مطلق ثابت لله تعالى وحده حقيقة على ما يليق به سبحانه. - الثاني: المثَلُ الأعْلَى لله تعالى العلمي الخبري. وهو: وجود صفات الله تعالى العلمي، الَّذِي هو الخبر عنها وذكرها في نصوص الكتاب والسنة، حيث تضمنت النصوص بيان تفرد الله تعالى بالألوهية، والربوبية، وفصلتْ التعريف بأسمائه وأفعاله وصفاته. كما اشتملت على البراهين والأمثال المضروبة للاستدلال على ذلك. الثالث: المثل الأعلى العلمي الاعتقادي القائم في قلوب المؤمنين لله رب العالمين. وهو توحيد الله باعتقاد تفرده بالألوهية والربوبية وأن له الأسماء الحسنى، وله من كل كمال مطلق أكمله وأعلاه، وما ينتج عن ذلك من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وعبادته وذكره. كما تبين أن الله متفرد بالمثل الأعلى في سائر المعاني التي يفسر بها، والدلائل على ذلك. ب- بيان معنى قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} ، وخلاصته:

أن الله تعالى بين أن الكفار الَّذِين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وجمعوا بين الشرك بالله، والكفر باليوم الآخر هم مجمع السوء ومثله. فآلهتهم التي يعبدونها آلهة سيئة، فهم عبدوا الطاغوت، والأوثان، التي لا تنفع ولا تضر، ولا تغني عنهم شيئا، واتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، وقلوبهم فاسدة، هي مجمع الشرك والعقائد الباطلة، والظنون السيئة بالله تعالى، وما يتولد عنها من الإرادات الخبيثة. وأعمالهم وأقوالهم وأحوالهم خبيثة سيئة، صائرة إلى الشر والفساد، لا يردعهم عنه رادع. وهم المستحقون لذلك النار مثل السوء، ومجمع الشر ومنتهاه، أعاذنا الله منها. وأن الله قابل تلك الأحكام السيئة التي وصفوه بها، مِن جَعلهم له الشركاء والبنات ونحوها، ببيان تفرده بالمثل الدال على تفرده بالألوهية والربوبية، وسائر صفات الكمال، وأن له من كل كمال مطلق أكمله وأعلاه، وأنه بين ذلك فيما نزل من الوحي، وقام موجب ذلك في قلوب عباده المؤمنين فأثبتوا له المثل الأعلى. ودلت تلك المقابلة على حجة لفت الله العقول إليها، وهي: إذا كان هؤلاء الكفار ينسبون له البنات وهم يكرهونهن لأنفسهم، ويجعلون لبعض خلقه جزءاً وشركاً في حقه، وهم لا يقبلون إشراك عبيدهم فيما يملكون! فينبغي أن يعلموا أن الله أجل وأعلى منهم وأولى بالتنزه عن البنات والشركاء، بل له الكمال الأعلى فليس له ولدٌ أو شريك البتة.

ثم ختم تبارك وتعالى - الآية بذكر اسمين عظيمين من أسمائه هما: (العزيز الحكيم) ، الدالان على كمال قوته، ونفوذ مشيئته في خلقه، وحكمته في ذلك. واللذان تشاهد آثارهما ودلائلهما في خلقه وتدبيره. فيدل على أن من كملت عزته وقوته وحكمته فهو المتفرد بالألوهية المستحق لأن يُفرد بالعبادة، وهو المستحق للتسبيح والتنزيه عن الشركاء والأولاد، وعن كل نقص وسوء. وأن ما يجري في الكون، وعلى العباد ومنهم، بما في ذلك طاعات الطائعين، ومعصية العاصين، إنما هي بإذن الله وتقديره، لا يفعل أحد في ملك العزيز إلا وقد أذن له فيه ومكّنه من فعله، وله في كل ذلك الحِكَمُ البالغة. جـ- بيان معنى قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} وخلاصة ما دلت عليه: أن قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، ورد في سياق مجادلة كفار العرب الجاحدين للبعث بعد الموت، وتضمنت دليلا عقلياً قاطعاً في إمكان البعث على أصولهم التي يتعارفون عليها. وتبيّن أن تفسير {أَهْوَنُ} في الآية بهيّن ليس هو الأولى وإن كان صحيحا في اللغة والمعنى، وإنما الأنسب تفسيرها على بابها للتفضيل حيث

تدل على حجة عقلية. ويكون قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ} : خبر من الله تعالى يقرُّ به المشركون، وهو مقدمة للدليل بعده. وقوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} : هي الدعوى المستدل لها والتي ينكرها المشركون. وقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} : تتضمن حكماً متفقا عليه، يُقرُّ به المخاطبون بالدليل من المشركين، هذا الحكم هو: إعادة الصنع أهون على الصانع من ابتدائه. وحاصل الدليل: إيجاب العقل الحكم لله بهذا الحكم، من كون البعث أهون عليه من خلق الناس أول مرة، وأنه أولى بذلك لكونه أقدر وأعلم منهم. ودل قوله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} مع تأكيد أنه أولى بهذا الحكم منهم - لكونه أولى بكل كمال ثابت للمخلوق على ما يليق به سبحانه - على أن له من كل كمال أكمله وأعلاه، مما يزيل الاشتباه بأن بعض الخلق أهون على الله من بعض، ويفيد كمال قدرته التي تستوي عندها المخلوقات مهما عظمت أو كثرت أجزاؤها أو مراحل خلقها. ودل قوله تعالى: {فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} : على تفرده سبحانه

بالمثل الأعلى - الدال على اختصاصه وحده بالألوهية والربوبية وأكمل الكمال - في السموات والأرض فليس له مماثل أو مكافئ أو شريك من أهلهما. وختم سبحانه تلك الآية العظيمة باسمين من أسمائه المباركة، هما (العزيز الحكيم) ، ليبين كمال قوته وعزته، وشمول حكمته لكل أفعاله، وأنه يفعل ما يريد - ومن ذلك البعث بعد الموت - دون أن يكون له ممانع أو مدافع أو معقب، وأن له في ذلك الحكمة البالغة. د- دلالة ثبوت المثل الأعلى لله تعالى على قاعدة قياس الأولى. وحاصل هذه القاعدة: أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به على ما يليق به سبحانه، وكل ما ينزَّه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزه عنه. وأن هذه القاعدة تستند على أمرين مستقرين في العقول السليمة هما: الأول: أن كل كمال في المخلوق فهو مستفاد من الخالق، فالذي أعطاه ذلك الكمال أولى به على ما يليق به سبحانه. الثاني: أن الله أعظم وأعلى وأكمل من المخلوق، فهو أولى بالكمال منه. وأنه يستدل بهذه القاعدة على أمرين: الأول: إثبات الكمال لله بطريق الأولى. ودل عليه، قول الله تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} في سورة "الروم".

الثاني: نفي النقص عن الله تعالى بطريق الأولى. ودل عليه قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} من سورة "النحل". وأن الكمال الَّذِي يثبت لله تعالى بالطريق العقلي على قاعدة قياس الأولى يعتبر فيه عدة أمور من أهمها: 1- أن يثبت لله من كل كمال أكمله وأعلاه. 2- أن ثبوت الكمال لله يختلف عن ثبوته للمخلوقين من أوجه أهمها: أن الله يستحق بنفسه ولا يستفيده من غيره، بخلاف المخلوق الَّذِي يستفيده من خالقه. وأن كمال الله يستلزم نفي النقيض، بخلاف صفة المخلوق التي يتصف بها وبنقيضها. 3- أن الكمال الثابت لله بالطريق العقلي وقاعدة قياس الأولى يؤيد ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الكمال. 4- أن يكون الكمال المثبت لله ممكن الوجود. ويخرج بذلك ما توهم أنه كمال وهو ممتنع لذاته مما يتعلق بأفعال الله وقدرته. 5- أن يكون سليما من النقص. ويخرج بذلك الكمال النسبي، الَّذِي يكون كمالا لبعض المخلوقات دون بعض، أو يكون كمالا بالنسبة للإنسان لكنه في الحقيقة يستلزم نقصا، فيكون نقصا بالنسبة للخالق. وأن تطبيق قاعدة قياس الأَوْلى على الأمثال والحجج العقلية الجارية

على هذا القياس يكون بالخطوات الآتية: 1- ضرب مثل يدل على صفة أو حال قائمة بالمخلوق، مع حكم لهذه الحال. 2- يكون ثبوت الحكم لذلك الوصف أو الحال القائمة بالمخلوق متفقاً عليه من كلا المتحاجين. 3- اتفاق المتحاجين - أيضا - على أن ثبوت ذلك الوصف لله أكمل من ثبوته للمخلوق. 4- إلزامهم بأن الله أحق بذلك الحكم لما استقر لديهم من أن ثبوت الوصف - المناط به الحكم - لله أكمل. 5- الترقي بهم إلى إثبات الكمال الأعلى لله تعالى من ذلك الوصف الَّذِي لا يشاركه فيه أحد، كما في قوله: {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} . هـ- بيان الحجة في بعض الأمثال الجارية على قياس الأولى التي أبطل الله بها الشرك. وهي الأمثال التي ضربها الله في الآيات التالية:

_ 1- قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ

الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} 1. 2- قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2. 3- قول الله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِ

_ كُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 3. و دلالة ثبوت المثل الأعلى لله تعالى على فوائد كثيرة من أهمها: 1- اتصاف الله تعالى بصفات الكمال وتفرده بها. 2- أن الأصل في معرفة أسماء الله وصفاته وأفعاله، وحقه على عباده، وغيرها من المطالب الدينية، هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. 3- أن أصل الإيمان ما يقوم في قلوب المؤمنين من إثبات

المثل الأعلى لله تعالى باعتقاد تفرده بالربوبية والألوهية وسائر صفات الكمال. 4- أن تفرد الله بالألوهية، هو الوصف الأساس في ثبوت المثل الأعلى لله تعالى. وكل الصفات الأخرى هي من خصائص الإله الحق تبارك وتعالى، ودالة عليه. 5- أن معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة من صفات الله تعالى، هي المحرك للمحبة في قلوب المؤمنين. فقيام المثل الأعلى في قلوبهم وتحقيق التوحيد يجذبها إلى الله، وتتهيج المحبة كلما ذَكرت أو ذُكرت بأسماء الله وصفاته، وإنعامه. 6- أن آثار ربوبية الله تعالى وأفعاله المشاهدة في الكون هي أكبر دليل على تفرد الله بالمثل الأعلى وأنه الإله الحق المستحق وحده للعبادة. 7- إبطال الشرك بالأدلة العقلية المتجلية بالأمثال المضروبة الجارية على قاعدة قياس الأولى. 8- إثبات البعث بعد الموت بالدلائل العقلية الجارية على قياس الأولى. 9- دلالة ثبوت المثل الأعلى على قاعدة قياس الأولى.

أما التوصيات فأهمها ثنتان: الوصية الأولى: الاستمرار في بحث الأمثال القرآنية المتعلقة بالإيمان، وأطرح بين يدي المهتمين العناوين التالية للبحوث التي تدعو الحاجة إلى بحثها استكمالا لما أنجز في هذا البحث: 1- الأمثال القرآنية المضروبة لتوحيد العبادة، وما يضاده من الشرك، مع مقدمة لبيان حقيقة التوحيد، وحقيقة الشرك، وتتضمن الأمثال المضروبة للمؤمن الكامل. 2- الأمثال المضروبة لكتب الله. ويدخل فيها أمثال العلم. 3- الأمثال المضروبة للرسل. ويدخل فيها ما ضرب لأزواجهم وأممهم ونحوها. 4- الأمثال المضروبة لليوم الآخر. ويدخل فيها الأمثال المضروبة للبعث بعد الموت. 5- الأمثال المضروبة للدنيا وسرعة زوالها، وعدم الاغترار بها. وذلك أن الركون إلى الدنيا صارف عن العلم والإيمان. الوصية الثانية: الاستفادة من أمثال القرآن الكريم، والأمثال النبوية في جميع مجالات التعليم والتوجيه والتربية، ليستفاد من أسلوبها المتميز في إيضاح المراد، وسرعة التفهيم، وما تتضمنه من معالم الهدى. ومن أبرز تلك المجالات:

1- خطبة الجمعة، حيث تخصص بعض الخطب للحديث عن مثل من الأمثال وما يتضمنه من الفوائد. 2- في المحاضرات والدروس العامة. 3- في مراحل التعليم المختلفة، تُضمَّن الكتب الدينية، ومواد اللغة العربية، أمثالا من القرآن والسنة، مع بيان ما دلت عليه من العلم، وتُبسَّط الأمثال للناشئة لكي تنمو فطرهم على الحكمة التي ترشد إليها الأمثال، وغيرها من نصوص الكتاب والسنة. 4- في مجال التأليف، فإذا كتب في موضوع من المواضيع الشرعية، فإنه يُضمَّن ما ورد فيه من أمثال في الكتاب والسنة. 5- في وسائل الأعلام تُخصص برامج للحديث عن الأمثال القرآنية والنبوية، وبيان ما فيها من الهدايات والفوائد. هذا وفي الختام أحمد الله عودا على بدء، فله الحمد أولاً وآخراً، وله الحمد فبنعمته تتم الصالحات. واستغفر الله من الخطإ والزلل، وأسأله القبول لصالح العمل. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... 161- المفردات في غريب القرآن: للراغب الأصفهاني، تحقيق / مُحَمَّد سيد كيلاني، دار المعرفة ـ بيروت ط الأولى، بدون تاريخ. 162- المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، تَحْقِيْق / محي الدين ديب وآخرون، دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، بيروت، ط. الأولى، 1417 هـ. 163- مقدمة ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: الرابعة، 1398هـ. 164- الملل والنحل: لمحمد بن عبد الكريم الشهرستاني، ت / محمد السيد الكيلاني، دار المعرفة، بيروت، 1404 هـ. 165- من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم: د. حسن أبو العينين، مكتبة العبيكان، الرياض، ط الأولى، 1416 هـ. 166- المنجد في اللغة: لويس معلوف، دار المشرق، ط الثانية عشرة. 167- منهج القرآن في الدعوة إلى القرآن، للدكتور علي بن ناصر فقيهي، ط: الأولى، 1405هـ. 168- الموسوعة العربية العالمية: لنخبة من الأساتذة المتخصصين، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض، ط. الأولى، 1416 هـ.

169- الموسوعة الفلسفية المختصرة، يشرف على تحريرها بورسوتن، تصدر باللغة الإنجليزية، ترجمة نخبة من المترجمين، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، 1963 م. 170- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، لمحمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: علي محمد البجاوي، وفتحية علي البجاوي، ط: الأولى، ت: بدون. 171- ميزان العمل لأبي حامد الغزالي، ت: محمد مصطفى أبو العلا، مكتبة الجندي، القاهرة، ت: بدون. 172- نبذة مفيدة عن حقوق ولاة الأمر، د. عبد العزيز بن إبراهيم العسكر، الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الرياض، ط: الأولى. 173- النحو الوافي: لعباس حسن، دار المعارف بمصر، القاهرة، ط / الخامسة، ت: بدون. 174- النحو الوافي: لعباس حسن، دار المعارف بمصر، القاهرة، ط / الرابعة 1976 م. 175- نزهة الخاطر العاطر، لعبد القادر مصطفى بدران، شرح روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة، دار الكمتب العلمية، بيروت، ط: الأولى، ت: بدون. 176- نقد أصول الشيوعية: للشيخ صالح بن سعد اللحيدان، مكتبة الحرمين، ط. الأولى، 1401 هـ.

177- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: لأحمد بن محمد بن خلكان، تَحْقِيْق / د. إحسان عباس، دَار صادر - بيروت، ت بدون.

فهرس المصادر والمراجع 1- القرآن الكريم. 2- أبو حامد الغزالي والتصوف: لعبد الرحمن دمشقية، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط: الأولى، 1406هـ. 3- أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة، لعبد الله بن عبد الرحمن الجربوع، بحث الماجستير، مقدم لقسم العقيدة بكلية الدعوة بالجامعة الإسلامية، إشراف الدكتور أحمد بن عطية الغامدي، عام 1412هـ. 4- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ت: شعيب الأرناؤط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط: الثانية، 1414هـ. 5- إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، الناشر مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط: الأولى، 1358هـ. 6- إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، الناشر: دار القلم، بيروت، ط:3، ت: بدون. 7- أدب الدنيا والدين لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي، ت: مصطفى السقا، شركة مصطفى الحلبي، مصر، ط: الرابعة، 1393هـ. 8- آراء أبي بكر بن العربي الكلامية، لعمار طالبي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط: الأولى، ت: بدون.

9- الأربعين في أصول الدين لأبي حامد الغزالي، ت / محمد مصطفى أبو العلا، مكتبة الجندي، ط: الأولى، 1384 هـ. 10- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل مُحَمَّد بن ناصر الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط الثانية، 1405 هـ. 11- أسد الغاية في معرفة الصحابة، لعز الدين ابن الأثير أبي الحسن بن علي بن محمد الجزري، ت: عمر بن إبراهيم البنا ومحمد أحمد عاشور، ط: الشعب. 12- إشارة التعيين وتراجم النحاة واللغويين، لعبد الباقي اليماني، تحقيق: د. عبد المجيد دياب، شركة الطباعة العربية السعودية، الرياض، ط: الأولى، 1406هـ. 13- الأصول الثلاثة وأدلتها للشيخ محمد بن عبد الوهاب، مكتبة الشباب، مكة المكرمة، ط: الأولى، 1387هـ. 14- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: للشيخ مُحَمَّد الأمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط: الأولى، 1415 هـ. 15- الإعراب المفصل لكتاب الله المنزّل لبهجة عبد الواحد صالح، دار الفكر العربي للنشر والتوزيع، عمان، ط: الأولى، 1414هـ. 16- الأعلام (قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين) لخير الدين الزركلي، ط 6، 1984، دار العلم للملايين - بيروت لبنان.

17- إعلام الموقعين: لابن قيم الجوزية، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ط الأولى، 1388 هـ. 18- إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان، لابن قيم الجوزية، ت: محمد عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط: الأولى، 1407هـ. 19- أمثال الحديث للقاضي أبي محمد الرامهرمزي، ت: عبد الحميد، الدار السلفية، بومباي. 20- الأمثال العربية ومصادرها من التراث،: لمحمد أبو صومة، مكتبة الأقصى، ط الأولى، 1302 هـ. 21- الأمثال العربية، دراسة تحليلية،: د. عبد المجيد قطامش، دار الفكر، دمشق، ط الأولى، 1408 هـ. 22- أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع تأملات وتدبر، لعبد الرحمن ابن حسن حبنكه الميداني، دار القلم، دمشق، ط: الثانية، 1412هـ. 23- الأمثال في الحديث النبوي للحافظ أبي الشيخ الأصبهاني، ت: د. عبد العلي عبد الحميد حامد. الدار السلفية، بومباي، ط: الثانية، 1408هـ. 24- الأمثال في القرآن الكريم د. الشريف منصور بن عون العبدلي، عالم المعرفة، جدة، ط: الأولى، 1406هـ.

25- الأمثال في القرآن الكريم، لابن القيم، ت: سعيد محمد نمر الخطيب، دار المعرفة، بيروت، ط: الثانية، 1403هـ. 26- الأمثال من الكتاب والسنة، لمحمد بن علي الحكيم الترمذي، تَحْقِيْق / مصطفى عبد القادر عطا، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط. الأولى، 1409 هـ. 27- أمثال ونماذج بشرية من القرآن العظيم، للشيخ أحمد بن طاحون، هجر للطباعة والنشر، القاهرة، ط: الأولى، 1411هـ. 28- أنوار التنزيل وأسرار التأويل: لأبي الخير عبد الله بن عمر البيضاوي، مطبعة البابي الحلبي - القاهرة، ط/2 - عام 1388 هـ. 29- إيقاظ الهمم المنتقى من جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، إعداد سليم بن عيد الهلالي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط: الأولى، 1412هـ. 30- الإيمان للحافظ أبي بكر محمد بن أبي شيبة، ت: محمد ناصر الدين الألباني، ضمن رسائل أربع، دار الأرقم، الكويت، ط: الأولى، 1385هـ. 31- الإيمان والحياة، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الثانية، 1403هـ. 32- اجتماع الجيوش الإسلامية لغزو الجهمية والمعطلة: للإمام ابن القيم الجوزية، المكتبة السلفية، المدينة النبوية ط الأولى، بدون تاريخ.

33- اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: د. ناصر عبد الكريم العقل، مطابع العبيكان، ط: الأولى، 1404هـ. 34- بدائع الفوائد: لابن قيم الجوزية، ت / بشير محمد عيون، مكتبة المؤيد، الرياض، ط الأولى، 1415 هـ. 35- البداية والنهاية: لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي، دار الفكر العربي، ط بدون، ت بدون. 36- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع: لمحمد بن علي الشوكاني، الناشر: معروف عبد الله باسندوه، مطبعة السعادة، القاهرة، ط الأولى، 1348 هـ. 37- البرهان في علوم القرآن: ت / محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، سوريا، ط الأولى، 1376 هـ. 38- بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة القرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: د. موسى بن سليمان الدويش، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط: الأولى، 1408هـ. 39- البلاغة الاصطلاحية: د. عبده عبد العزيز قليقلة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط الأولى، 1406 هـ.

40- البلاغة العربية لأحمد مطلوب، وزارة التعليم العالي، بغداد، 1400هـ. 41- تاج العروس للسيد محمد مرتضى الزبيدي، دار ليبيا للنشر والتوزيع، بنغازي، ط: الأولى، 1386هـ. 42- تاريخ بغداد أو مدينة السلام: للحافظ أَحْمد بن علي الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، مصورة عن الطبعة القديمة. 43- ترتيب القاموس المحيط للظاهر أحمد الزاوي، عيسى البابي، ط: الثانية. 44- تغلب على الخوف: من سلسلة في سبيل موسوعة نفسية: لمجموعة من علماء النفس الغربيين، عرض وتقديم: د. مصطفى غالب، مكتبة الهلال، بيروت 1985 م. 45- تفسير القرآن العظيم: لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي، دار التراث، القاهرة، ط الأولى، ط. بدون تاريخ. 46- التفسير الكبير، لمحمد بن عمر الرازي، دار الكتب العلمية، طهران، ط: الثانية، ت: بدون. 47- التقريب لحد المنطق والمدخل إليه، لمحمد بن حزم الأندلسي، ت د / إحسان عباس، دار مكتبة الحياة.

48- تقريب وترتيب شرح العقيدة الطحاوية: لابن أبي العز الحنفي، إعداد: خالد فوزي عبد الحميد، دار التربية والتراث، مكة المكرمة، ط. الأولى، 1417 هـ. 49- التمهيد: لابن عبد البر، ت / سعيد أَحْمد اعراب، طبعة وزارة الأوقاف المغربية، 1981 م 50- تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني، مصور عن طبعة دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد، بالهند، ط: الأولى، ت: بدون. 51- تهذيب اللغة: لمحمد بن أحمد الأزهري، ت / إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، ط الأولى، 1967 م. 52- تهذيب اللغة: لمحمد بن أحمد الأزهري، ت / علي حسن هلالي، الدر المصرية. 53- توحيد الخالق: عبد المجيد عزيز الزنداني، دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة، ط الثانية، 1408 هـ. 54- تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، المكتب الإسلامي، بيروت، ط: الثالثة، 1397هـ. 55- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي،، الرئاسة العامة لإدرات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ـ الرياض، ط الأولى 1404 هـ

56- جامع البيان في تأويل القرآن: لأبي جعفر ابن جرير الطبري، شركة مصطفى البابي، مصر، ط الثالثة 1388 هـ. 57- الجامع لأحكام القرآن: لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط الثانية، ت. بدون. 58- الجامع لأحكام القرآن: لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، دار الكتاب العربي للطباعة، القاهرة، ط الأولى، 1387 هـ. 59- جمهرة أنساب العرب، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، ت/ عبد السلام محمد هارون، دار المعارف، القاهرة، ط الخامسة، ت بدون. 60- جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة، ط: الأولى، 1384هـ. 61- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، للإمام ابن القيم، المطبعة السلفية، ط. الأولى، 1394 هـ. 62- جواهر البلاغة لأحمد الهاشمي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط: الأولى، بدون تاريخ. 63- الجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب أحمد ليوسف بن الحسن بن عبد الهادي، ت: د. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط: الأولى، 1407هـ. 64- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى، 1409

65- خزانة الأدب وغاية الأرب: لتقي الدين أبي بكر علي المعروف بابن حجة الحموي،، دار مكتبة الهلال - بيروت، 1987 م. 66- درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط: الأولى، 1402هـ. 67- دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، موريس بوكاي، دار المعارف، القاهرة، ط. الرابعة، 1977 م. 68- الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة: لأحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق/ محمد سيد جاد الحق، دَار الكتب الحديثة - القاهرة ط/ 2 عام 1385 هـ. 69- دقائق التفاسير لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: محمد السيد الجنيد، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، ط: الثانية، 1404هـ. 70- ديوان أبي العتاهية، دار صادر، بيروت، ط: الأولى، 1384هـ. 71- ديوان إيليا أبو ماضي، نيويورك، 1919 هـ. 72- ديوان الخنساء: تماضر بنت عمرو، دار صادر، بيروت، ت: بدون. 73- ديوان المتنبي: أحمد بن الحسين الجعفي، دار صادر، بيروت، ط: الأولى، بدون تاريخ.

74- ديوان الهذليين، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، عام 1385هـ. 75- ديوان امرئ القيس ابن حجر الكندي، دار صادر، بيروت، ط: الأولى، 1385هـ. 76- ديوان حسان بن ثابت، تحقيق: د. سيد حنفي وحسن كامل، المكتبة العربية، القاهرة، ط: الأولى، 1394هـ. 77- ديوان عبيد بن الأبرص الأسدي، تحقيق: د. حسين نصار، مصطفى الباب الحلبي، مصر، ط: الأولى، 1377هـ. 78- الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد الحنبلي، دار المعرفة، بيروت، ت: بدون. 79- رسائل في العقيدة، للشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، الرسالة الأولى، دار طيبة، الرياض، ط الثانية ـ 1406 هـ. 80- الرسالة الأكملية فيما يجب لله من صفات الكمال: لشيخ الإسلام ابن تيمية، تقديم / أحمد حمدي إمام، مطبعة المدني، القاهرة - 1403 هـ. 81- الرسالة التدمرية: لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط الثالثة، 1400 هـ. 82- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للسيد محمود الألوسي، إحياء التراث العربي، بيروت.

83- روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام، لحسن بن غنام، ت: د. ناصر الدين الأسد، قابله على أصله الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ط: الثالثة، 1403هـ. 84- زهر الكم في الأمثال والحكم للحسن اليوسي، ت: محمد حجبي ود. محمد الأخضر، الدار البيضاء دار الثقافة، ط: الأولى، 1401هـ. 85- زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه، د. عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد، دار القلم والكتاب، الرياض، ط: الأولى، 1416هـ. 86- سبائك الذهب في معرفة فبائل العرب، لأبي الفوز محمد أمين البغدادي، الشهير بالسويدي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1409هـ. 87- سلسلة الأحاديث الصحيحة: للشيخ ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط الخامسة، 1405 هـ 88- سير أعلام النبلاء: لمحمد بن أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الثانية، 1402 هـ. 89- الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب، تعليق محمد منير الدمشقي الأزهري، توزيع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط: 1395هـ.

90- شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لابن العماد عبد الحي بن محمد الحنبلي الدمشقي، ت/ محمود الإرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، ط الأولى، 1406 هـ. 91- شرح ابن عقيل (على ألفية ابن مالك) : لعبد الله بن عقيل العقيلي، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد - دار التراث، القاهرة، ط / 20، 1400 هـ. 92- شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار بن أحمد تعليق أحمد بن الحسين بن أبي هاشم، ت: عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط: الثانية، 1408هـ. 93- شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط: الرابعة، 1391هـ. 94- شرح القصائد العشر لأبي زكريا يحيى الشيباني، مطبعة السعادة، القاهرة، ط: الثانية، 1384هـ. 95- شرح النووي على صحيح مسلم: للإمام يحيى بن شرف النووي، المطبعة المصرية ومكتبتها، بدون تاريخ. 96- شرح نواقض الإسلام: لحسن بن علي العواجي، مكتبة لينة، دمنهور، ط الأولى، 1413 هـ. 97- شعب الإيمان للبيهقي، تأليف أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت / أبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية بيروت، ط الأولى، 1410 هـ

98- الصحاح في اللغة والعلوم، إعداد ندايم وأسامة مرعشلي، دار الحضارة، بيروت، ط: الأولى، 1975م. 99- صحيح الإمام البخاري، مع فتح الباري: للحافظ ابن حجر العسقلاني، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، ط السلفية. 100- صحيح مسلم: ت/ محمد عبد الباقي، رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، 1400 هـ. 101- صفوة التفاسير، لمحمد بن علي الصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت، ط الثالثة، 1402 هـ. 102- الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: لابن قيم الجوزية، تحقيق / د. علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض، ط: الأولى (1408 هـ) . 103- الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة: لابن قيم الجوزية، تحقيق/أ. د. أَحْمد عطية الغامدي، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط، الأولى، 1410 هـ. 104- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع: لشمس الدين محمد عبد الرحمن السخاوي - منشورات دار مكتبة الحياة - بيروت، ط، بدون تاريخ.

105- طبقات الشافعية الكبرى: تأليف عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، ت / عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحي، دار إحياء الكتب العربية. 106- طبقات الشعراء: لابن سلام، مطبعة بريل، ليدن، 1916 م. 107- ظاهرة الأمثال من الكتاب والسنة وكلام العرب وآثارها في تربية الجيل المسلم، لمصطفى عيد الصياصنة، دار المعراج الدولية للنشر، الرياض، ط: الأولى، 1412هـ. 108- العقائد الإسلامية: السيد سابق، دار الكتاب العربي، بيروت، ط. الأولى، ت/ بدون. 109- علم البيان، د. عبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية، بيروت، ط: الأولى، 1405هـ. 110- علماء نجد خلال ستة قرون للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام، مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، ط: الأولى، 1398هـ. 111- علماء ومفكرون عرفتهم، لمحمد المجذوب، عالم المعرفة، ط: الثانية، 1403هـ. 112- فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري، للحافظ ابن حجر العسقلاني، الرئاسة العاملة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، ط: الدار السلفية.

113- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية، من علم التفسير: لمحمد بن علي الشوكاني، شركة مصطفى البابي، مصر، ط الثانية، 1383 هـ. 114- فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ت: د. الوليد بن عبد الرحمن آل فريان، دار الصميعي للنشر، الرياض، ط: الأولى، 1415هـ. 115- الفتوى الحموية الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، دار المعارف، القاهرة، ط الثالثة، 1398 هـ. 116- فخر الدين الرازي وآراؤه الفلسفية والكلامية، د. محمد صالح الزركان، دار الفكر، بيروت، ت، ط بدون. 117- الفرق الكلامية الإسلامية (مدخل ودراسة) د. علي عبد الفتاح المغربي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط: الأولى، 1407هـ. 118- الفرق بين الفرق: لعبد القاهر البغدادي، ت / محمد محي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت، ط الثالثة، بدون تاريخ. 119- الفريد في إعراب القرآن المجيد: لحسين بن أبي العز الهمداني، ت. د / فهمي النمر، وفؤاد مخيمر، دار الثقافة، الدوحة، ط الأولى، 1411هـ. 120- فضائل القرآن: لأحمد بن شعيب النسائي، ت: د / فاروق حمادة، الشركة الجديدة دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، ط الأولى، 1400 هـ.

121- فنون الأفنان في عيون علوم القرآن، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، ت: حسن ضياء الدين العتر، دار البشائر، بيروت، ط: الأولى، 1408هـ. 122- الفيزياء العامة والتجريبية، بير فلوري، جان بول، مطبوعات جامعة دمشق، ط. الأولى، 1394 هـ. 123- الفيزياء العامة والتطبيقية، تَحْقِيْق / محمد بشير مكي، مديرية المطبوعات، جامعة حلب، 1969م. 124- الفيزياء للمرحلة الثانوية، الصف الثاني، الرئاسة العامة لتعليم البنات بالمملكة العربية السعودية، الرياض، 1415 هـ. 125- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ـ الرياض ـ ط: الأولى، 1404هـ 126- قانون التأويل لأبي بكر بن العربي، ت: محمد السليماني، دار القبلة، جدة، ط: الأولى، 1406هـ. 127- القضاء والقدر لمحمد بن عمر الرازي، ت: محمد المعتصم بالله، دار الكتاب العربي، بيروت، ط: الأولى، 1410هـ. 128- القلق الإنساني: د. محمد إبراهيم الفيومي، دار الفكر القاهرة، ط. الثانية، 1405هـ.

129- القياس الفاسد لأحمد بن شاكر الحذيفي: رسالة دكتوراة مقدمة لقسم العقيدة بكلية الدعوة، الجامعة الإسلامية عام 1417 هـ. 130- كتاب العبودية: لشيخ الإسلام ابن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى، 1401هـ. 131- كتاب المناظر: للحسن بن الهيثم، تَحْقِيْق / عبد الحميد صبره، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ط الأولى، 1983م. 132- كلمة الإخلاص وتحقيق معناها، لابن رجب الحنبلي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط: الخامسة، 1399هـ. 133- كليلة ودمنة، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط: الأولى، 1393هـ. 134- لسان العرب: لابن منظور، دار صادر ـ ودار بيروت، بيروت، 1375 هـ. 135- مبادئ الفيزياء للكليات والمعاهد التربوية والهندسية، د. محمد عبد المقصود الجمال، دار الراتب الجامعية، بيروت، ط الأولى 1411 هـ. 136- مجمع الأمثال لأبي الفضل أحمد الميداني، ت: محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى، مصرن ط: الثانية، 1379هـ.

137- مجموع الفتاوى: لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب / عبد الرحمن بن قاسم، الناشر رئاسة الحرمين الشريفين، 1404 هـ. 138- مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، دار الوطن ـ الرياض، ط الثانية، 1413 هـ. 139- مجموعة التوحيد، مجموعة رسائل لنخبة من علماء المسلمين، الرسالة الأولى، المطبعة السلفية، بدون تاريخ. 140- مختصر إحياء علوم الدين للغزالي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط: الأولى، 1406هـ. 141- مختصر الصواعق المرسلة عن الجمهية والمعطلة، لابن قيم الجوزية، اختصار محمد بن الموصلي، المطبعة السلفية، مكة المكرمة، ط: الأولى، 1349هـ. 142- مختصر شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، للإمام ابن قيم الجوزية، اختصار خالد بن عبد الرحمن العك، دار المعرفة، بيروت، ط: الأولى، 1416هـ. 143- مدارك التنزيل وحقائق التأويل، لعبد الله بن أحمد النسفي، المكتبة الأموية، بيروت، ت: بدون. 144- مدخل إلى الفلسفة، تأليف جون هرمان راندال، وجوستاس يوخلر، ترجمة: د. ملحم قربان، دار العلم للملايين، بيروت، 1963 م.

145- مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، ط: الرابعة، 1397هـ. 146- المستدرك على الصحيحين: للحاكم النيسابوري، دار الفكر ـ بيروت، ط بدون، 1398 هـ. 147- مشكاة الأنوار لأبي حامد الغزالي، ت: د. أبو العلاء عفيفي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، ط: الأولى، 1383هـ. 148- مصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى كفر ابن العربي، للبقاعي، ت: د. عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: الأولى، 1400هـ. 149- معارج الصعود إلى تفسير سورة هود، للشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، كتبه عنه عبد الله بن أحمد قادري، دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة، ط: الأولى، 1408هـ. 150- معالم التنزيل للإمام الحسين بن مسعود البغوي، تَحْقِيْق / محمد النمر وآخرون، دار طيبة، الرياض، ط الأولى 1411 هـ. 151- معالم السنن: لأبي سليمان أحمد بن محمد الخطابي البستي، الناشر: محمد راغب الطباخ، حلب، ط. الأولى، 1352 هـ. 152- المعجزة القرآنية، الإعجاز العلمي والغيبي، محمد حسن هيتو، دار الرسالة، بيروت، ط الثانية 1415 هـ.

153- معجم البلاغة العربية: د. بدوي طبانة، دار المنارة، جدة، 1408 هـ. 154- المعجم العلمي المصور، إصدار قسم النشر بالجامعة الأمريكية، بالقاهرة، بالاتفاق مع دائرة المعارف البريطانية، دار المعارف بالقاهرة، ط: الأولى، 1963م. 155- المعجم الفلسفي د. جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط: الأولى، 1979م. 156- معجم المؤلفين - تراجم مصنفي الكتب العربية - لعمر رضا كحالة - مكتبة المثنى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط بدون. 157- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، إعداد: محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة، بيروت، ط: الرابعة، 1414 هـ. 158- معجم متن اللغة، للشيخ أحمد رضا دار مكتبة الحياة، بيروت، 1378هـ. 159- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لجمال الدين بن هشام الأنصاري، تَحْقِيْق / مازن المبارك، ومحمد علي رحمة الله، دار الفكر، بيروت، ط: الخامسة، 1979 م. 160- مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، لأحمد مصطفى الشهير بطاش كبري زادة، ت: كامل بكري، عبد الوهاب أبو النور، دار الكتب الحديثة.

§1/1